لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَ فِي الظُّهْرِ بِطِوَال الْمُفَصَّل؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ فِي كُل رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلاَثِينَ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الظُّهْرِ تَكُونُ دُونَ قِرَاءَةِ الْفَجْرِ قَلِيلاً.
قَال الدُّسُوقِيُّ: يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ مِنْ أَطْوَل طِوَال الْمُفَصَّل، وَفِي الظُّهْرِ مِنْ أَقْصَرِ طِوَال الْمُفَصَّل.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ مِنْ أَوْسَاطِ الْمُفَصَّل؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى " أَنِ اقْرَأْ فِي الصُّبْحِ بِطِوَال الْمُفَصَّل، وَاقْرَأْ فِي الظُّهْرِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّل، وَاقْرَأْ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّل.
وَأَمَّا صَلاَةُ الْعَصْرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ فِيهَا بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّل. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَقْرَأُ فِيهَا بِقِصَارِ الْمُفَصَّل.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّل وَفِي الْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِهِ؛ لِمَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَحَدٍ أَشْبَهَ صَلاَةً بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فُلاَنٍ. قَال سُلَيْمَانُ: كَانَ يُطِيل
__________
(1) حديث أبي سعيد الخدري: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر ". أخرجه مسلم (1 / 334 / ط الحلبي) .(27/90)
الرَّكْعَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ فِي الظُّهْرِ، وَيُخَفِّفُ الأُْخْرَيَيْنِ، وَيُخَفِّفُ الْعَصْرَ، وَيَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّل، وَيَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّل، وَيَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِطِوَال الْمُفَصَّل (1) .
وَاخْتُلِفَ فِي بَيَانِ الْمُفَصَّل طِوَالِهِ وَأَوْسَاطِهِ وَقِصَارِهِ (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (سُورَةٌ، وَقِرَاءَةٌ)
مَحَل الْقِرَاءَةِ:
67 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَحَل الْقِرَاءَةِ الْمَسْنُونَةِ هُوَ الرَّكْعَتَانِ الأُْولَيَانِ مِنْ صَلاَةِ الْفَرْضِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَيُسْمِعُنَا الآْيَةَ أَحْيَانًا، وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُْخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (3) .
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَإِنَّمَا تُسَنُّ السُّورَةُ فِي
__________
(1) حديث: أبي هريرة: " ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم. . ". أخرجه النسائي (2 / 167 - ط المكتبة التجارية) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 362، تبيين الحقائق 1 / 129، حاشية الدسوقي 1 / 242، 247، مغني المحتاج 1 / 161، شرح روض الطالب 1 / 154، المجموعة 3 / 382، كشاف القناع 1 / 342، مطالب أولي النهى 1 / 435.
(3) حديث أبي قتادة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين الأوليين. . ". أخرجه مسلم (1 / 333 - ط الحلبي) .(27/90)
الْفَرْضِ الْوَقْتِيِّ الْمُتَّسِعِ وَقْتَهُ، أَمَّا إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ بِحَيْثُ يَخْشَى خُرُوجَهُ بِقِرَاءَتِهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ مُحَافَظَةً عَلَى الْوَقْتِ.
وَانْظُرْ تَفْصِيل مَحَل الْقِرَاءَةِ فِي صَلاَةِ النَّفْل فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ التَّطَوُّعِ) وَقِرَاءَةَ الْمَأْمُومِ فِي (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) .
كَمَا يُسَنُّ تَطْوِيل الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى عَلَى الثَّانِيَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ -
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا تُسَنُّ إِطَالَةُ الرَّكْعَةِ الأُْولَى عَلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ فَقَطْ دُونَ بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، فَلاَ تُسَنُّ إِطَالَتُهَا (1) .
(هـ) التَّأْمِينُ:
68 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّأْمِينَ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ سُنَّةٌ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا قَال الإِْمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} فَقُولُوا آمِينَ. فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْل الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنْ ذَنْبِهِ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 364، تبيين الحقائق 1 / 130، حاشية الدسوقي 1 / 247، مغني المحتاج 1 / 182.
(2) حديث أبي هريرة: " إذا قال الإمام (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) . فقولوا آمين. . . ". أخرجه البخاري، (الفتح2 / 266 - ط السلفية) .(27/91)
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَأْتِي بِالتَّأْمِينِ بَعْدَ سَكْتَةٍ لَطِيفَةٍ لِيَتَمَيَّزَ عَنَ الْقِرَاءَةِ، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا هِيَ طَابَعُ الدُّعَاءِ.
وَقَالُوا: لاَ يَفُوتُ التَّأْمِينُ إِلاَّ بِالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ تَرَكَ الْمُصَلِّي التَّأْمِينَ حَتَّى شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ مَحَلُّهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ بِفَوَاتِهِ بِالرُّكُوعِ.
ثُمَّ إِنَّ التَّأْمِينَ سُنَّةٌ لِلْمُصَلِّي - عُمُومًا - سَوَاءٌ كَانَ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الإِْمَامَ فِي الصَّلاَةِ الْجَهْرِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ لاَ يُنْدَبُ لَهُ التَّأْمِينُ، وَكَذَا الْمَأْمُومُ إِنْ لَمْ يَسْمَعْ إِمَامَهُ يَقُول: {وَلاَ الضَّالِّينَ} وَإِنْ سَمِعَ مَا قَبْلَهُ، وَنَصُّوا عَلَى كَرَاهَتِهِ حِينَئِذٍ وَلاَ يَتَحَرَّى عَلَى الأَْظْهَرِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ تَحَرَّى لِرُبَّمَا أَوْقَعَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلَرُبَّمَا صَادَفَ آيَةَ عَذَابٍ، وَمُقَابِلُهُ يَتَحَرَّى، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبْدُوسٍ.
وَالسُّنَّةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُصَلِّي بِالتَّأْمِينِ سِرًّا سَوَاءٌ كَانَ إِمَامًا أَمْ مَأْمُومًا أَمْ مُنْفَرِدًا؛ فَالإِْتْيَانُ بِالتَّأْمِينِ سُنَّةٌ، وَالإِْسْرَارُ بِهَا سُنَّةٌ أُخْرَى، قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَعَلَى هَذَا فَتَحْصُل سُنِّيَّةُ الإِْتْيَانِ بِهَا وَلَوْ مَعَ الْجَهْرِ بِهَا.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: لأَِنَّهُ دُعَاءٌ، وَالأَْصْل فِيهِ الإِْخْفَاءُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ(27/91)
وَالْمَأْمُومَ وَالْمُنْفَرِدَ يَجْهَرُونَ بِالتَّأْمِينِ فِي الصَّلاَةِ الْجَهْرِيَّةِ وَيُسِرُّونَ بِهِ فِي الصَّلاَةِ السِّرِّيَّةِ.
وَصَرَّحُوا: بِأَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الإِْمَامُ التَّأْمِينَ، أَوْ أَسَرَّهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا أَتَى بِهِ الْمَأْمُومُ لِيُذَكِّرَهُ فَيَأْتِيَ بِهِ (1) .
(و) تَكْبِيرَاتُ الاِنْتِقَال:
69 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - إِلَى أَنَّ تَكْبِيرَاتِ الاِنْتِقَال سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ، لِحَدِيثِ: " الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ " فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِتَكْبِيرَاتِ الاِنْتِقَالاَتِ وَأَمَرَهُ بِتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ. أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ تَكْبِيرَاتِ الاِنْتِقَال مِنَ الْوَاجِبَاتِ.
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَكْبِيرٌ) .
(ز) هَيْئَةُ الرُّكُوعِ الْمَسْنُونَةُ:
70 - أَقَل الْوَاجِبِ فِي الرُّكُوعِ: أَنْ يَنْحَنِيَ قَدْرَ بُلُوغِ رَاحَتَيْهِ رُكْبَتَيْهِ، وَكَمَال السُّنَّةِ فِيهِ: أَنْ يُسَوِّيَ ظَهْرَهُ وَعُنُقَهُ وَعَجُزَهُ، وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ وَفَخِذَيْهِ، وَيَأْخُذَ رُكْبَتَيْهِ بِيَدَيْهِ مُعْتَمِدًا بِالْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ، مُفَرِّقًا أَصَابِعَهُ، وَيُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ.
لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّهُ رَكَعَ فَجَافَى يَدَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَفَرَّجَ بَيْنَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 320، 331، الخرشي على خليل 1 / 282، حاشية الدسوقي 1 / 248، مغني المحتاج 1 / 160، كشاف القناع 1 / 339.(27/92)
أَصَابِعِهِ مِنْ وَرَاءِ رُكْبَتَيْهِ وَقَال: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي (1) .
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلْصَاقَ الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ خَصُّوا هَذِهِ الْهَيْئَةَ بِالرَّجُل، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَنْحَنِي فِي الرُّكُوعِ يَسِيرًا، وَلاَ تُفَرِّجُ، وَلَكِنْ تَضُمُّ وَتَضَعُ يَدَيْهَا عَلَى رُكْبَتَيْهَا وَضْعًا، وَتَحْنِي رُكْبَتَيْهَا، وَلاَ تُجَافِي عَضُدَيْهَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا.
وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (2) ، وَسَبَقَ تَفْصِيل هَيْئَاتِ الرُّكُوعِ وَأَذْكَارِهِ فِي مُصْطَلَحِ: (رُكُوعٌ) .
(ح) التَّسْمِيعُ وَالتَّحْمِيدُ:
71 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - إِلَى سُنِّيَّةِ التَّسْمِيعِ عِنْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَالتَّحْمِيدِ عِنْدَ الاِسْتِوَاءِ قَائِمًا.
وَالسُّنَّةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّسْمِيعُ فَقَطْ، أَمَّا التَّحْمِيدُ فَهُوَ مَنْدُوبٌ عِنْدَهُمْ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ.
ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُصَلِّي الَّذِي يُسَنُّ لَهُ التَّسْمِيعُ وَالتَّحْمِيدُ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) حديث عقبه بن عمرو " أنه ركع فجافى يديه. . . ". أخرجه أحمد (4 / 120 - ط الميمنية) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 332، حاشية الدسوقي 1 / 239، مغني المحتاج 1 / 164، كشاف القناع 1 / 346.(27/92)
وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ يُسَمِّعُ فَقَطْ، وَالْمَأْمُومَ يَحْمَدُ فَقَطْ، وَالْمُنْفَرِدُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَلاَ يَحْمَدُ الإِْمَامُ وَلاَ يُسَمِّعُ الْمَأْمُومُ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا قَال الإِْمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ (1) فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ بَيْنَهُمَا، وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: فَالإِْمَامُ مُخَاطَبٌ بِسُنَّةٍ فَقَطْ، وَالْمَأْمُومُ مُخَاطَبٌ بِمَنْدُوبٍ فَقَطْ، وَالْفَذُّ مُخَاطَبٌ بِسُنَّةٍ وَمَنْدُوبٍ وَخَالَفَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ، فَذَهَبَا إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ يَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا (2) ؛ وَلأَِنَّهُ حَرَّضَ غَيْرَهُ فَلاَ يَنْسَى نَفْسَهُ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُتُونُ عَلَى قَوْل الإِْمَامِ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّ أَفْضَل صِيَغِ التَّحْمِيدِ:
اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: ثُمَّ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده. . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 290 - ط السلفية) ومسلم (1 / 308 - ط الحلبي) .
(2) حديث أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين التسميع والتحميد ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 272 - ط السلفية) ومسلم (1 / 294 - ط. الحلبي) .(27/93)
الْحَمْدُ، ثُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ.
وَصِيغَةُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ هِيَ مَا اخْتَارَهُ الإِْمَامُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَعِنْدَهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَرَابِعَةٌ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيعَ وَالتَّحْمِيدَ سُنَّةٌ لِلْجَمِيعِ: الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ. وَصَرَّحُوا بِأَنَّ أَفْضَل صِيَغِ التَّحْمِيدِ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ؛ لِوُرُودِ السُّنَّةِ بِهِ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: لَكِنْ قَال فِي الأُْمِّ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ أَحَبُّ إِلَيَّ، أَيْ لأَِنَّهُ جَمَعَ مَعْنَيَيْنِ: الدُّعَاءَ وَالاِعْتِرَافَ. أَيْ رَبَّنَا اسْتَجِبْ لَنَا، وَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى هِدَايَتِكَ إِيَّانَا.
قَالُوا: وَلَوْ قَال: مَنْ حَمِدَ اللَّهَ سَمِعَ لَهُ كَفَى فِي تَأْدِيَةِ أَصْل السُّنَّةِ؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، لَكِنَّ التَّرْتِيبَ أَفْضَل.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ التَّسْمِيعَ وَاجِبٌ عَلَى الإِْمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ دُونَ الْمَأْمُومِ، وَالتَّحْمِيدَ وَاجِبٌ عَلَى الْجَمِيعِ - إِمَامٍ وَمَأْمُومٍ وَمُنْفَرِدٍ - وَأَفْضَل صِيَغِ التَّحْمِيدِ عِنْدَهُمْ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ. قَالُوا: وَإِنْ شَاءَ قَال: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَأَفْضَل مِنْهُ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَلَوْ قَال: مَنْ حَمِدَ اللَّهَ(27/93)
سَمِعَ لَهُ لَمْ يُجْزِئْهُ، لِتَغْيِيرِ الْمَعْنَى (1) .
الأَْذْكَارُ الْوَارِدَةُ فِي الاِسْتِوَاءِ بَعْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ:
72 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي بَعْدَ التَّحْمِيدِ أَنْ يَقُول: " مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الأَْرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ " لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَال: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءَ الأَْرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ (2) .
وَلَهُ أَنْ يَزِيدَ: " أَهْل الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَا قَال الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ "؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ. قَال اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْل الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ. أَحَقُّ مَا قَال
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 334، تبيين الحقائق 1 / 115، حاشية الدسوقي 1 / 243، فواكه الدواني 1 / 209، مغني المحتاج 1 / 165، شرح روض الطالب 1 / 158، كشاف القناع 1 / 348، 390، مطالب أولي النهى 1 / 446.
(2) حديث عبد الله بن أبي أوفى: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع ظهره من الركوع. . . ". أخرجه مسلم (1 / 346 - ط الحلبي)(27/94)
الْعَبْدُ - وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ - اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ لَهُ أَنْ يَقُول غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول، وَفِي لَفْظٍ: يَدْعُو إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الأَْرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ. اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ. اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَْبْيَضُ مِنَ الْوَسَخِ (2) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِاسْتِحْبَابِ زِيَادَةِ: حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ (3) . لِحَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَال: كُنَّا نُصَلِّي يَوْمًا وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَال: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَال رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَال: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ قَال: أَنَا، قَال: لَقَدْ رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّل (4) .
__________
(1) حديث أبي سعيد الخدري: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع. . . ". أخرجه مسلم (1 / 347 - ط الحلبي) .
(2) حديث عبد الله ابن أبي أوفى أخرجه مسلم (1 / 346 - 347 - ط. الحلبي) .
(3) مغني المحتاج 1 / 166، كشاف القناع 1 / 348.
(4) حديث رفاعة بن أبي رافع: " كنا نصلي يوما وراء النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 284 - ط السلفية) .(27/94)
ح م) رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَالْقِيَامُ لِلرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ:
73 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَعِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ التَّشَهُّدِ الأَْوَّل لِلرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، فَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَأَنَّهُ مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ فِي الصَّلاَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَكَانَ يَفْعَل ذَلِكَ حِينَ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ وَيَفْعَل ذَلِكَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ (1) . وَعَنِ الْحَسَنِ: " أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ (2) ".
وَكَانَ عُمَرُ " إِذَا رَأَى رَجُلاً لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَصَّبَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْفَعَ.
قَال الْبُخَارِيُّ: رَوَاهُ سَبْعَةَ عَشْرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَدَمُ الرَّفْعِ.
وَقَال السُّيُوطِيُّ: الرَّفْعُ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث ابن عمر: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة رفع يديه ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 219 - ط السلفية) .
(2) قول الحسن: " أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يفعلون ذلك ". أخرجه البخاري في جزء رفع اليدين. ص 80 - ط إدارة العلوم الأثرية - باكستان) .(27/95)
مِنْ رِوَايَةِ خَمْسِينَ صَحَابِيًّا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ التَّشَهُّدِ لِلرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، لِمَا رَوَى نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَخَل فِي الصَّلاَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَال سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ. وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ هِيَ عَدَمُ الرَّفْعِ.
قَال فِي الإِْنْصَافِ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الأَْصْحَابِ وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِلاَّ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، فَلاَ يُشْرَعُ رَفْعُهُمَا عِنْدَ الرُّكُوعِ أَوِ الرَّفْعِ مِنْهُ، أَوِ الْقِيَامِ لِلثَّالِثَةِ. لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ، ثُمَّ لَمْ يَرْفَعْهُمَا حَتَّى انْصَرَفَ (2) وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَال: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال:
__________
(1) حديث: " أن ابن عمر كان إذا دخل الصلاة كبر ورفع يديه ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 222 - ط السلفية) .
(2) حديث البراء: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حين افتتح الصلاة. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 479 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ثم قال: هذا الحديث ليس بصحيح.(27/95)
مَالِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيَكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْل شُمْسٍ، اسْكُنُوا فِي الصَّلاَةِ (1) وَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أَلاَ أُصَلِّي بِكُمْ صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إِلاَّ فِي أَوَّل مَرَّةٍ (2) .
(ط) كَيْفِيَّةُ الْهُوِيِّ لِلسُّجُودِ وَالنُّهُوضِ مِنْهُ:
74 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ عِنْدَ الْهُوِيِّ إِلَى السُّجُودِ أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي رُكْبَتَيْهِ أَوَّلاً، ثُمَّ يَدَيْهِ، ثُمَّ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ؛ لِمَا رَوَى وَائِل بْنُ حُجْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ يَضَعُ رُكْبَتَيْهِ قَبْل يَدَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْل رُكْبَتَيْهِ (3) قَال التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ.
وَلأَِنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ أَرْفَقُ بِالْمُصَلِّي. وَأَحْسَنُ
__________
(1) حديث جابر بن سمرة: " مالي أراكم رافعي أيديكم ". أخرجه مسلم (1 / 122 - ط الحلبي) .
(2) تبيين الحقائق 1 / 120 وحاشية الدسوقي 1 / 247 ومغني المحتاج 1 / 164 والشرقاوي على التحرير 1 / 198، 209 كشاف القناع 1 / 346، 363 وحديث عبد الله بن مسعود: " ألا أصلي بكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 40 - ط الحلبي) وضعفه غير واحد كما في " التلخيص الحبير " لابن حجر (1 / 222 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) حديث وائل بن حجر: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد يضع ركبتيه قبل يديه. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 56 - ط. الحلبي) والدارقطني (1 / 345 - ط شركة الطباعة الفنية) وأشار الدارقطني إلي إعلاله.(27/96)
فِي الشَّكْل وَرَأْيِ الْعَيْنِ. وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَضَعُ جَبْهَتَهُ ثُمَّ أَنْفَهُ، وَقَال بَعْضُهُمْ: أَنْفَهُ ثُمَّ جَبْهَتَهُ. وَعِنْدَ النُّهُوضِ مِنَ السُّجُودِ يُسَنُّ الْعَكْسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَرْفَعَ جَبْهَتَهُ أَوَّلاً ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ رُكْبَتَيْهِ لِحَدِيثِ وَائِل بْنِ حُجْرٍ الْمُتَقَدِّمِ. قَال الْحَنَابِلَةُ: إِلاَّ أَنْ يَشُقَّ عَلَيْهِ الاِعْتِمَادُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ؛ لِكِبَرٍ أَوْ ضَعْفٍ أَوْ مَرَضٍ، أَوْ سِمَنٍ وَنَحْوِهِ، فَيَعْتَمِدُ بِالأَْرْضِ، لِمَا رَوَى الأَْثْرَمُ عَنْ عَلِيٍّ قَال: مِنَ السُّنَّةِ فِي الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ إِذَا نَهَضَ أَنْ لاَ يَعْتَمِدَ بِيَدَيْهِ عَلَى الأَْرْضِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي قِيَامِهِ مِنَ السُّجُودِ عَلَى يَدَيْهِ، مَبْسُوطَتَيْنِ عَلَى الأَْرْضِ؛ لأَِنَّهُ أَبْلَغُ خُشُوعًا وَتَوَاضُعًا، وَأَعْوَنُ لِلْمُصَلِّي، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى نَدْبِ تَقْدِيمِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْهُوِيِّ إِلَى السُّجُودِ، وَتَأْخِيرِهِمَا عِنْدَ الْقِيَامِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَبْرُكُ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْل رُكْبَتَيْهِ (1) .
__________
(1) حديث أبي هريرة: " إذا سجد أحدكم. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 525 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال النووي في المجموعة (3 / 421 - ط. المنيرية) : إسناده جيد.(27/96)
قَالُوا: وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لاَ يُقَدِّمُ رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ هَوِيِّهِ لِلسُّجُودِ كَمَا يُقَدِّمُهُمَا الْبَعِيرُ عِنْدَ بُرُوكِهِ، وَلاَ يُؤَخِّرُهُمَا فِي الْقِيَامِ كَمَا يُؤَخِّرُهُمَا الْبَعِيرُ فِي قِيَامِهِ (1) .
(ى) هَيْئَةُ السُّجُودِ الْمَسْنُونَةُ:
75 - كَيْفِيَّةُ السُّجُودِ الْمَسْنُونَةُ: أَنْ يَسْجُدَ الْمُصَلِّي عَلَى الأَْعْضَاءِ السَّبْعَةِ: الْجَبْهَةِ مَعَ الأَْنْفِ، وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ - مُمَكِّنًا جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ مِنَ الأَْرْضِ، وَيَنْشُرَ أَصَابِع يَدَيْهِ مَضْمُومَةً لِلْقِبْلَةِ، وَيُفَرِّقَ رُكْبَتَيْهِ، وَيَرْفَعَ بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَفَخِذَيْهِ عَنْ سَاقَيْهِ، وَيُجَافِيَ عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَيَسْتَقْبِل بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى الأَْرْكَانِ (2) .
(ك) التَّشَهُّدُ الأَْوَّل وَقُعُودُهُ:
76 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى سُنِّيَّةِ التَّشَهُّدِ الأَْوَّل وَقُعُودِهِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وَلَمْ يَجْلِسْ، فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْل السَّلاَمِ ثُمَّ سَلَّمَ (3)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 335، حاشية الدسوقي 1 / 250، تبيين الحقائق 1 / 116، مغني المحتاج 1 / 170، كشاف القناع 1 / 350.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 339 وحاشية الدسوقي 1 / 249 ومغني المحتاج 1 / 170 وكشاف القناع 1 / 335.
(3) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم " قام من ركعتين من الظهر ولم يجلس ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 92 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 339 - ط. الحلبي) .(27/97)
فَدَل عَدَمُ تَدَارُكِهِمَا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِهِمَا كَمَا سَبَقَ فِي وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ (1) .
(ل) صِيغَةُ التَّشَهُّدِ:
77 - سَبَقَ خِلاَفُ الْفُقَهَاءِ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ؛ فَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ رُكْنٌ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَاجِبٌ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سُنَّةٌ، وَاخْتَلَفُوا - أَيْضًا - فِي صِيغَتِهِ الْمَسْنُونَةِ. (ر: تَشَهُّدٌ) .
(م) الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ (الصَّلاَةُ الإِْبْرَاهِيمِيَّةُ)
78 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ سُنَّةٌ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خِلاَفٌ فِي أَنَّ الْمَشْهُورَ: هَل هِيَ سُنَّةٌ أَوْ فَضِيلَةٌ؟
وَأَفْضَل صِيَغِ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آل إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 312، حاشية الدسوقي 1 / 243، مغني المحتاج 1 / 172، كشاف القناع 1 / 347.(27/97)
إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آل إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وَهِيَ - أَيْضًا - أَفْضَل صِيَغِ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَكِنْ بِحَذْفِ (إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) الأُْولَى.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ رُكْنٌ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
وَقَدْ أَخَذَ الْحَنَابِلَةُ بِصِيغَةِ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ (1) ، وَهِيَ أَفْضَل الصِّيَغِ عِنْدَهُمْ. وَلَكِنْ يَتَحَقَّقُ رُكْنُ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْل: (اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ) .
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِبْدَال آلٍ بِأَهْلٍ؛ لأَِنَّ أَهْل الرَّجُل أَقَارِبُهُ أَوْ زَوْجَتُهُ، وَآلَهُ أَتْبَاعُهُ عَلَى دِينِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: أَقَل الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ، وَالسُّنَّةُ: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى
__________
(1) حديث كعب بن عجرة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري (الفتح 11 / 152 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 305 - ط الحلبي) بلفظ: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلنا: قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. كما صليت على آل إبراهيم: إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد. كم(27/98)
آل إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آل إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وَقَدْ وَرَدَتِ الأَْحَادِيثُ بِكُل هَذِهِ الصِّيَغِ (1) .
وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُ تَسْوِيدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَسْوِيدٌ ف 7 " 11 346 ") .
(ن) الدُّعَاءُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ:
79 - يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي بَعْدَ التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ أَنْ يَدْعُوَ بِمَا شَاءَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَقُل: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ - إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ، أَوْ مَا أَحَبَّ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو بِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ ثُمَّ لِيَتَخَيَّرَ بَعْدُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ (2) وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْدُوبٌ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَدْعُو بِالأَْدْعِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، عَلَى أَنَّهُ لاَ يَنْوِي الْقِرَاءَةَ إِذَا دَعَا بِأَدْعِيَةِ الْقُرْآنِ لِكَرَاهَةِ قِرَاءَةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 344، حاشية الدسوقي 1 / 251، مغني المحتاج 1 / 174، كشاف القناع 1 / 388، مطالب أولي النهى 1 / 459، 499.
(2)) حديث: " إذا قعد أحدكم في الصلاة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 301 - 302 - ط. الحلبي) حديث ابن مسعود، ورواية البخاري في صحيحه (2 / 320 - ط. السلفية) .(27/98)
الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتَّشَهُّدِ. وَلاَ يَدْعُو بِمَا يُشْبِهُ كَلاَمَ النَّاسِ.
وَالأَْفْضَل الدُّعَاءُ بِالْمَأْثُورِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَال لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي فَقَال: قُل: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ. فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (1)
وَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الآْخِرِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ، مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّال (2) .
(س) كَيْفِيَّةُ الْجُلُوسِ:
80 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَيْئَةِ الْجُلُوسِ الْمَسْنُونَةِ فِي الصَّلاَةِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، فَالرَّجُل يُسَنُّ لَهُ الاِفْتِرَاشُ، وَالْمَرْأَةُ يُسَنُّ لَهَا التَّوَرُّكُ.
__________
(1) حديث: قل: " اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا. . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 317 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2078 - ط. الحلبي) .
(2) ابن عابدين 1 / 350 وتبيين الحقائق 1 / 123 وحاشية الدسوقي 1 / 251، 252 ومغني المحتاج 1 / 176 وكشاف القناع 1 / 360 وحديث: " إذا فرغ أحدكم من التشهد ". أخرجه مسلم (1 / 412 - ط. الحلبي) .(27/99)
لاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ التَّشَهُّدِ الأَْوَّل أَوِ الأَْخِيرِ، أَوِ الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَيْئَةَ الْجُلُوسِ الْمَسْنُونَةَ فِي جَمِيعِ جِلْسَاتِ الصَّلاَةِ هِيَ التَّوَرُّكُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ التَّوَرُّكُ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ، وَالاِفْتِرَاشُ فِي بَقِيَّةِ جِلْسَاتِ الصَّلاَةِ، لِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى، وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الآْخِرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الأُْخْرَى، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ وَفِي رِوَايَةٍ فَإِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ أَفْضَى بِوَرِكِهِ الْيُسْرَى إِلَى الأَْرْضِ، وَأَخْرَجَ قَدَمَيْهِ مِنْ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ (1) .
وَالْحِكْمَةُ فِي الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الأَْخِيرِ وَغَيْرِهِ مِنْ بَقِيَّةِ الْجِلْسَاتِ: أَنَّ الْمُصَلِّيَ مُسْتَوْفِزٌ فِيهَا لِلْحَرَكَةِ، بِخِلاَفِهِ فِي الأَْخِيرِ، وَالْحَرَكَةُ عَنْ الاِفْتِرَاشِ أَهْوَنُ.
وَالاِفْتِرَاشُ: أَنْ يَنْصِبَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى قَائِمَةً عَلَى أَطْرَافِ الأَْصَابِعِ بِحَيْثُ تَكُونُ مُتَوَجِّهَةً نَحْوَ الْقِبْلَةِ، وَيَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى
__________
(1) حديث أبي حميد: " كان إذا جلس في الركعتين. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 350 - ط. السلفية) والرواية الثانية أخرجها أبو داود (1 - 590 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .(27/99)
بِحَيْثُ يَلِي ظَهْرُهَا الأَْرْضَ، جَالِسًا عَلَى بَطْنِهَا.
وَالتَّوَرُّكُ: كَالاِفْتِرَاشِ. لَكِنْ يُخْرِجُ يُسْرَاهُ مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ، وَيُلْصِقُ وَرِكَهُ بِالأَْرْضِ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ تَوَرُّك (14 - 148) وَمُصْطَلَحَ: جُلُوس ف 11 - 13 (15 - 267) .
(ع) جِلْسَةُ الاِسْتِرَاحَةِ:
81 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ بَعْدَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ جِلْسَةٌ لِلاِسْتِرَاحَةِ فِي كُل رَكْعَةٍ يَقُومُ مِنْهَا؛ لِمَا رَوَى مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْلِسُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ قَبْل أَنْ يَنْهَضَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى (2) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى كَرَاهَةِ فِعْلِهَا تَنْزِيهًا لِمَنْ لَيْسَ بِهِ عُذْرٌ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل الْكَلاَمِ عَلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ: جُلُوسٌ ف 12 (15 266) .
(ف) كَيْفِيَّةُ وَضْعِ الْيَدَيْنِ أَثْنَاءَ الْجُلُوسِ:
82 - يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَثْنَاءَ الْجُلُوسِ أَنْ يَضَعَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 312، 341، 344، الفتاوى الهندية 1 / 7، حاشية الدسوقي 1 / 249، العدوي على الرسالة 1 / 237، مغني المحتاج 1 / 172، كشاف القناع 1 / 356، 363.
(2) حديث مالك بن الحويرث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس إذا رفع رأسه ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 163 - ط. السلفية) .(27/100)
يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى بِحَيْثُ تُسَاوِي رُءُوسُ أَصَابِعِهِ رُكْبَتَيْهِ، وَتَكُونُ أَصَابِعُهُ مَنْشُورَةً إِلَى الْقِبْلَةِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: مُفَرَّجَةً قَلِيلاً، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَضْمُومَةً (1) .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يُشِيرَ بِسَبَّابَتِهِ أَثْنَاءَ التَّشَهُّدِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ قَبْضِ الْيَدِ وَالإِْشَارَةِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَيْسَ لَنَا سِوَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ بَسْطُ الأَْصَابِعِ بِدُونِ إِشَارَةٍ.
الثَّانِي: بَسْطُ الأَْصَابِعِ إِلَى حِينِ الشَّهَادَةِ فَيَعْقِدُ عِنْدَهَا وَيَرْفَعُ السَّبَّابَةَ عِنْدَ النَّفْيِ وَيَضَعَهَا عِنْدَ الإِْثْبَاتِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَقْبِضَ الْمُصَلِّي أَصَابِع يَدِهِ الْيُمْنَى وَيَضَعَهَا عَلَى طَرَفِ رُكْبَتِهِ إِلاَّ الْمُسَبِّحَةَ فَيُرْسِلَهَا، وَيَقْبِضَ الإِْبْهَامَ بِجَنْبِهَا بِحَيْثُ يَكُونُ تَحْتَهَا عَلَى حَرْفِ رَاحَتِهِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَعَدَ وَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى وَعَقَدَ ثَلاَثَةً وَخَمْسِينَ وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 341، 340، مغني المحتاج 1 / 171، كشاف القناع 1 / 354.
(2) حديث ابن عمر: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قعد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى ". أخرجه مسلم (1 / 408 - ط الحلبي) .(27/100)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يُحَلِّقُ بَيْنَ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ لِمَا رَوَى وَائِل بْنُ حُجْرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ حَدَّ مِرْفَقِهِ الأَْيْمَنِ عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَعَقَدَ ثَلاَثِينَ، وَحَلَّقَ وَاحِدَةً، أَشَارَ بِأُصْبُعِهِ بِالسَّبَّابَةِ (1) .
وَمَحَل الرَّفْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلاَّ اللَّهَ، فَيَرْفَعُ الْمُسَبِّحَةَ عِنْدَ ذَلِكَ لِلاِتِّبَاعِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَيُمِيلُهَا قَلِيلاً كَمَا قَالَهُ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ. وَيُقِيمُهَا وَلاَ يَضَعُهَا.
وَيُسَنُّ - أَيْضًا - أَنْ يَكُونَ رَفْعُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ نَاوِيًا بِذَلِكَ التَّوْحِيدَ وَالإِْخْلاَصَ، وَفِي تَحْرِيكِهَا عِنْدَهُمْ رِوَايَتَانِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُشِيرُ بِسَبَّابَتِهِ مِرَارًا، كُل مَرَّةٍ عِنْدَ ذِكْرِ لَفْظِ (اللَّهِ) تَنْبِيهًا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَلاَ يُحَرِّكُهَا لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: وَلاَ يُشِيرُ بِغَيْرِ سَبَّابَةِ الْيُمْنَى وَلَوْ عُدِمَتْ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: بِكَرَاهَةِ الإِْشَارَةِ بِسَبَّابَةِ الْيُسْرَى وَلَوْ مِنْ مَقْطُوعِ الْيُمْنَى. وَعَدَّ الْمَالِكِيَّةُ الإِْشَارَةَ بِالسَّبَّابَةِ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ.
__________
(1) حديث وائل بن حجر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى. . . . ". أخرجه أحمد (6 / 319 - ط الميمنية) ، وأبو داود (1 / 587 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، واللفظ لأحمد، وإسناده حسن.(27/101)
وَيُنْدَبُ تَحْرِيكُ السَّبَّابَةِ يَمِينًا وَشِمَالاً دَائِمًا - لاَ لأَِعْلَى وَلاَ لأَِسْفَل - فِي جَمِيعِ التَّشَهُّدِ. وَأَمَّا الْيُسْرَى فَيَبْسُطُهَا مَقْرُونَةَ الأَْصَابِعِ عَلَى فَخِذِهِ (1) .
سُنَنُ السَّلاَمِ:
83 - سَبَقَ فِي أَرْكَانِ الصَّلاَةِ أَنَّ السَّلاَمَ رُكْنٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِلسَّلاَمِ سُنَنًا مِنْهَا:
أَنْ يُسَلِّمَ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً عَنْ يَمِينِهِ وَمَرَّةً عَنْ يَسَارِهِ، وَيُسَلِّمَ عَنْ يَمِينِهِ أَوَّلاً، بِحَيْثُ يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الأَْيْمَنِ، وَعَنْ يَسَارِهِ ثَانِيًا، بِحَيْثُ يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الأَْيْسَرِ، يَرَاهُ مَنْ خَلْفَهُ.
وَقَدْ قَال الْحَنَابِلَةُ: بِفَرْضِيَّةِ التَّسْلِيمَتَيْنِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: بِوُجُوبِهِمَا، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَتَأَدَّى الْفَرْضُ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقُول: " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ كُل صِيغَةٍ تُخَالِفُ هَذِهِ الصِّيغَةَ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ لَفْظَ " وَبَرَكَاتُهُ " وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تُسَنُّ زِيَادَةُ " وَبَرَكَاتُهُ ".
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الأَْوْلَى تَرْكُهُ، لِحَدِيثِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 342، حاشية الدسوقي 1 / 251، شرح روض الطالب 1 / 165، مغني المحتاج 1 / 173، كشاف القناع 1 / 361.(27/101)
ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ. السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدَّيْهِ (1) وَلِحَدِيثِ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْهُ - قَال: كُنْتُ أَرَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ، حَتَّى أَرَى بَيَاضَ خَدِّهِ (2) وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَبْتَدِئُ السَّلاَمَ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ وَيُتِمُّ سَلاَمَهُ بِتَمَامِ الْتِفَاتِهِ (3) .
الْقُنُوتُ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ:
84 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْقُنُوتِ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ. انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةُ الْفَجْرِ: قُنُوت) .
مَكْرُوهَاتُ الصَّلاَةِ:
85 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
__________
(1) حديث ابن مسعود: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه وعن يساره. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 606 - 607 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (2 / 89 - ط. الحلبي) وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".
(2) حديث سعد بن أبي وقاص: " كنت أرى النبي صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه. . . . ". أخرجه مسلم (1 / 409 - ط. الحلبي) .
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 352 وما بعدها، حاشية العدوي على الرسالة 1 / 245، مغني المحتاج 1 / 177، كشاف القناع 1 / 361.(27/102)
بِكَرَاهَةِ السَّدْل فِي الصَّلاَةِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّدْل فِي الصَّلاَةِ، وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُل فَاهُ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ السَّدْل. فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: هُوَ إِرْسَال الثَّوْبِ بِلاَ لُبْسٍ مُعْتَادٍ، وَفَسَّرَهُ الْكَرْخِيُّ بِأَنْ يَجْعَل ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ عَلَى كَتِفَيْهِ، وَيُرْسِل أَطْرَافَهُ مِنْ جَانِبِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَرَاوِيل، فَكَرَاهَتُهُ لاِحْتِمَال كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَالْكَرَاهَةُ تَحْرِيمِيَّةٌ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: السَّدْل: هُوَ أَنْ يُرْسِل الثَّوْبَ حَتَّى يُصِيبَ الأَْرْضَ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: السَّدْل: هُوَ أَنْ يَطْرَحَ ثَوْبًا عَلَى كَتِفَيْهِ، وَلاَ يَرُدَّ أَحَدَ طَرَفَيْهِ عَلَى الْكَتِفِ الأُْخْرَى.
وَقِيل: وَضْعُ الرِّدَاءِ عَلَى رَأْسِهِ وَإِرْسَالُهُ مِنْ وَرَائِهِ عَلَى ظَهْرِهِ.
كَمَا يُكْرَهُ اشْتِمَال الصَّمَّاءِ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى عَنِ اشْتِمَال الصَّمَّاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُل فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ (2)
__________
(1) حديث: " نهى عن السدل في الصلاة. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 423 - ط دائرة تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 253 - دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) حديث أبي سعيد: نهى عن اشتمال الصماء. أخرجه البخاري (الفتح 1 / 476 - 477 - ط. السلفية) .(27/102)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مَحَل الْكَرَاهَةِ إِنْ كَانَ مَعَهَا سَتْرٌ كَإِزَارِ تَحْتَهَا وَإِلاَّ مُنِعَتْ لِحُصُول كَشْفِ الْعَوْرَةِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اشْتِمَال الصَّمَّاءِ) .
86 - وَيُكْرَهُ التَّلَثُّمُ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُل فَاهُ فِي الصَّلاَةِ (1) قَال الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ مَا يَصِل لآِخِرِ الشَّفَةِ السُّفْلَى.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ تَغْطِيَةُ الْفَمِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: التَّلَثُّمُ عَلَى الْفَمِ وَالأَْنْفِ، وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُل فِي هَذَا. كَمَا يُكْرَهُ كَفُّ الْكُمِّ وَالثَّوْبِ وَالْعَبَثُ فِيهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، وَلاَ أَكُفَّ ثَوْبًا وَلاَ شَعْرًا (2) .
87 - وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ صَلاَةِ حَاسِرِ رَأْسِهِ تَكَاسُلاً، وَأَجَازُوهُ لِلتَّذَلُّل. قَالُوا: وَإِنْ سَقَطَتْ قَلَنْسُوَتُهُ فَالأَْفْضَل إِعَادَتُهَا إِلاَّ إِذَا احْتَاجَتْ لِتَكْوِيرٍ أَوْ عَمَلٍ كَثِيرٍ.
وَيُكْرَهُ تَنْزِيهًا: الصَّلاَةُ فِي ثِيَابٍ بِذْلَةٍ
__________
(1) حديث: " نهى أن يغطي الرجل فاه في الصلاة ". تقدم في الفقرة السابقة.
(2) حديث: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم. . . ". أخرجه مسلم (1 / 354 ط. الحلبي) من حديث ابن عباس مرفوعًا.(27/103)
وَمِهْنَةٍ، إِنْ كَانَ لَهُ غَيْرُهَا (1) .
كَمَا يُكْرَهُ الاِعْتِجَارُ، وَهُوَ: شَدُّ الرَّأْسِ بِالْمِنْدِيل، أَوْ تَكْوِيرُ عِمَامَتِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَتَرْكُ وَسَطِهَا مَكْشُوفًا؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الاِعْتِجَارِ فِي الصَّلاَةِ (2) . وَقِيل: الاِعْتِجَارُ: أَنْ يَنْتَقِبَ بِعِمَامَتِهِ فَيُغَطِّيَ أَنْفَهُ (3) .
88 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَرَاهَةِ الاِقْتِصَارِ عَلَى الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ تَحْرِيمًا أَنْ يَنْقُصَ شَيْئًا مِنَ الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى كَرَاهَةِ تَنْكِيسِ السُّوَرِ - أَيْ أَنْ يَقْرَأَ فِي الثَّانِيَةِ سُورَةً أَعْلَى مِمَّا قَرَأَ فِي الأُْولَى - لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِل عَمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَنْكُوسًا فَقَال: " ذَلِكَ مَنْكُوسُ الْقَلْبِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ فِي الْقِرَاءَةِ مِنْ وَاجِبَاتِ التِّلاَوَةِ، وَإِنَّمَا جُوِّزَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 429، وما بعدها، حاشية الدسوقي 1 / 218، المجموع 3 / 17، 176، 179، مغني المحتاج 1 / 200، كشاف القناع 1 / 275.
(2) حديث: " نهى عن الاعتجار في الصلاة ". أورده الطحطاوي في مراقي الفلاح (ص 192 - ط. الميمنية) ، ولم يعزه إلى أي مصدر حديثي، ولم نهتد إلى مَن أخرجه.
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح 192.(27/103)
لِلصِّغَارِ تَسْهِيلاً لِضَرُورَةِ التَّعْلِيمِ. وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مَنْ قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى بِسُورَةِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ يَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ أَوَّل سُورَةِ الْبَقَرَةِ. لَكِنِ الْحَنَفِيَّةُ خَصُّوا ذَلِكَ بِمَنْ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي الصَّلاَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ النَّاسِ الْحَال وَالْمُرْتَحِل (1) أَيِ الْخَاتِمُ وَالْمُفْتَتِحُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَنْكِيسَ السُّوَرِ خِلاَفُ الأَْوْلَى، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِحُرْمَةِ تَنْكِيسِ الآْيَاتِ الْمُتَلاَصِقَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهُ يُبْطِل الصَّلاَةَ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: بِحُرْمَةِ تَنْكِيسِ الْكَلِمَاتِ، وَأَنَّهُ يُبْطِل الصَّلاَةَ. أَمَّا تَنْكِيسُ الآْيَاتِ فَقِيل: مَكْرُوهٌ، وَقَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: تَرْتِيبُ الآْيَاتِ وَاجِبٌ؛ لأَِنَّ تَرْتِيبَهَا بِالنَّصِّ إِجْمَاعًا، وَتَرْتِيبُ السُّوَرِ بِالاِجْتِهَادِ لاَ بِالنَّصِّ فِي قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ جَمْعُ سُورَتَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي رَكْعَةٍ، وَلَوْ فِي فَرْضٍ (2) .
رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَْنْصَارِ كَانَ يَؤُمُّهُمْ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَبْل كُل
__________
(1) حديث: " خير الناس الحال والمرتحل. . . ". ورد بلفظ: " أحب العمل إلى الله الحال المرتحل ". أخرجه الترمذي (5 / 198 - ط الحلبي) من حديث زرارة بن أوفى، وقال: إسناده ليس بالقوي.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 367، حاشية الدسوقي 1 / 242، شرح روض الطالب 1 / 155، كشاف القناع 1 / 344.(27/104)
سُورَةٍ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ؟ فَقَال: إِنِّي أُحِبُّهَا. فَقَال: حُبُّكَ إيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةِ وَاحِدَةٍ.
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ الْكَرَاهَةَ بِمَا إِذَا كَانَ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ سُوَرٌ أَوْ سُورَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَمَحَل الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُمَا - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - صَلاَةُ الْفَرْضِ. أَمَّا فِي صَلاَةِ النَّفْل فَجَائِزٌ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ. وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الْمَأْمُومَ إِذَا خَشِيَ مِنْ سُكُوتِهِ تَفَكُّرًا مَكْرُوهًا، فَلاَ كَرَاهَةَ فِي حَقِّهِ إِذَا قَرَأَ سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ.
كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ الْتِزَامُ سُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ. لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُلاَزَمَةِ الأَْنْصَارِيِّ عَلَى {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قَال الْحَنَابِلَةُ: مَعَ اعْتِقَادِهِ جَوَازَ غَيْرِهَا.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ تَعْيِينِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَيَّدَ الطَّحَاوِيُّ الْكَرَاهَةَ بِمَا إِذَا رَأَى ذَلِكَ حَتْمًا لاَ يَجُوزُ غَيْرُهُ، أَمَّا لَوْ قَرَأَهُ لِلتَّيْسِيرِ عَلَيْهِ أَوْ تَبَرُّكًا بِقِرَاءَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلاَ كَرَاهَةَ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَقْرَأَ غَيْرَهَا أَحْيَانًا لِئَلاَّ يَظُنَّ الْجَاهِل أَنَّ غَيْرَهَا لاَ يَجُوزُ، وَمَال إِلَى
__________
(1) حديث أنس: (أن رجلا كان يؤمهم. . .) . أخرجه الترمذي (5 / 169 - 179 ط. الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".(27/104)
هَذَا الْقَيْدِ ابْنُ عَابِدِينَ.
وَلاَ يُكْرَهُ - أَيْضًا - عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَكْرَارُ سُورَةٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالأَْعْرَافِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا (1) .
كَمَا لاَ يُكْرَهُ تَفْرِيقُهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يَقْسِمُ الْبَقَرَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَنْبَغِي تَفْرِيقُ السُّورَةِ، وَلَوْ فَعَل لاَ بَأْسَ بِهِ، وَلاَ يُكْرَهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيل: يُكْرَهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ تَكْرِيرِ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ (3) . (ر: قِرَاءَةٌ)
89 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى كَرَاهَةِ تَغْمِيضِ الْعَيْنَيْنِ فِي الصَّلاَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلاَ يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ (4) .
__________
(1) حديث زيد بن ثابت: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالأعراف ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 246 - ط السلفية) .
(2) حديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم البقرة في الركعتين ". أورده ابن قدامة في المغني (1 / 410 - ط مكتبة القاهرة) وعزاه إلى الخلال.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 365، حاشية الدسوقي 1 / 242، وبلغة السالك 1 / 246، الفتاوى الهندية 1 / 78، كشاف القناع 1 / 374.
(4) حديث: " إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يغمض عينيه ". أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11 / 34 - ط وزارة الأوقاف العراقية) من حديث ابن عباس، وأورده الهيثمي في (مجمع الزوائد 2 / 83 - ط. اقدسي) وقال: فيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس وقد عنعنه.(27/105)
وَاحْتَجَّ لَهُ - أَيْضًا - بِأَنَّهُ فِعْل الْيَهُودِ، وَمَظِنَّةُ النَّوْمِ. وَعَلَّل فِي الْبَدَائِعِ: بِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَرْمِيَ بِبَصَرِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ وَفِي التَّغْمِيضِ تَرْكُهَا. وَالْكَرَاهَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَنْزِيهِيَّةٌ.
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ التَّغْمِيضَ لِكَمَال الْخُشُوعِ، بِأَنْ خَافَ فَوْتَ الْخُشُوعِ بِسَبَبِ رُؤْيَةِ مَا يُفَرِّقُ الْخَاطِرَ فَلاَ يُكْرَهُ حِينَئِذٍ، بَل قَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ الأَْوْلَى. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَمَحَل كَرَاهَةِ التَّغْمِيضِ مَا لَمْ يَخَفِ النَّظَرَ لِمُحَرَّمٍ، أَوْ يَكُونُ فَتْحُ بَصَرِهِ يُشَوِّشُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يُكْرَهُ التَّغْمِيضُ حِينَئِذٍ.
وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ: أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ - أَيْ تَغْمِيضُ الْعَيْنَيْنِ - إِنْ لَمْ يَخَفْ مِنْهُ ضَرَرًا عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ غَيْرِهِ فَإِنْ خَافَ مِنْهُ ضَرَرًا كُرِهَ (1) .
كَمَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ رَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَال أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 434، حاشية الدسوقي 1 / 254، مغني المحتاج 1 / 181، شرح روض الطالب 1 / 169، كشاف القناع 1 / 370.(27/105)
أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ. فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَال: لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ (1) .
قَال الأَْذْرَعِيُّ: وَالْوَجْهُ تَحْرِيمُهُ عَلَى الْعَامِدِ الْعَالِمِ بِالنَّهْيِ الْمُسْتَحْضِرِ لَهُ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا صَلَّى رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ - فَنَزَلَتْ {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ (2) .
قَال الْحَنَابِلَةُ: وَلاَ يُكْرَهُ رَفْعُ بَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ حَال التَّجَشِّي إِذَا كَانَ فِي جَمَاعَةٍ لِئَلاَّ يُؤْذِيَ مَنْ حَوْلَهُ بِالرَّائِحَةِ (3) .
وَيُكْرَهُ - أَيْضًا - النَّظَرُ إِلَى مَا يُلْهِي عَنِ الصَّلاَةِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلاَمٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلاَمِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَال: اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي
__________
(1) حديث: " ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 233 - ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 321 - ط. الحلبي) .
(2) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء. . ". أخرجه الحاكم (2 / 393 - ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة، وصوب الذهبي إرساله.
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح 194، 195، مجمع الأنهر 1 / 124، مغني المحتاج 1 / 201، كشاف القناع 1 / 370.(27/106)
جَهْمٍ وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ؛ فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلاَتِي (1) ؛ وَلأَِنَّهُ يَشْغَلُهُ عَنْ إِكْمَال الصَّلاَةِ (2) .
90 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّخَصُّرِ - وَهُوَ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَاصِرَتِهِ فِي الْقِيَامِ - لِقَوْل أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُل مُتَخَصِّرًا (3) .
قَال الدُّسُوقِيُّ: الْخَصْرُ: هُوَ مَوْضِعُ الْحِزَامِ مِنْ جَنْبِهِ، وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لأَِنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ تُنَافِي هَيْئَةَ الصَّلاَةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَحْرِيمِيَّةٌ فِي الصَّلاَةِ لِلنَّهْيِ الْمَذْكُورِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ (4) .
91 - كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ مَا كَانَ مِنَ الْعَبَثِ وَاللَّهْوِ كَفَرْقَعَةِ الأَْصَابِعِ وَتَشْبِيكِهَا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُفَقِّعْ أَصَابِعَكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي (5) . وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِذَا تَوَضَّأَ
__________
(1) حديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 482 - ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 391 - ط. الحلبي) .
(2) مغني المحتاج 1 / 201، كشاف القناع 1 / 370.
(3) حديث: " نهى أن يصلي الرجل متخصرًا ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 88 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 387 - ط. الحلبي) .
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 432، حاشية الدسوقي 1 / 254، مغني المحتاج 1 / 202، كشاف القناع 1 / 372.
(5) حديث: " لا تُفَقِّع أصابعك وأنت تصلي ". أخرجه ابن ماجه (1 / 310 - ط. الحلبي) ، من حديث علي بن أبي طالب. وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 190 - ط. دار الجنان) : هذا إسناد فيه الحارث بن عبد الله الأعور، وهو ضعيف. وقد اتهمه بعضهم.(27/106)
أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ كَانَ فِي صَلاَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ فَلاَ يَقُل هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ (1) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْكَرَاهَةُ تَحْرِيمِيَّةً لِلنَّهْيِ الْمَذْكُورِ (2) .
92 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - أَيْضًا - عَلَى كَرَاهَةِ الْعَبَثِ بِاللِّحْيَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ جَسَدِهِ؛ لِمَا رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً يَعْبَثُ فِي الصَّلاَةِ، فَقَال: لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ (3) .
وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ لِحَاجَةٍ: كَحَكِّ بَدَنِهِ لِشَيْءٍ أَكَلَهُ وَأَضَرَّهُ، وَسَلْتِ عِرْقٍ يُؤْذِيهِ وَيَشْغَل قَلْبَهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْعَمَل يَسِيرًا.
93 - وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ أَوْ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " إذا توضأ في بيته ثم أتى المسجد ". أخرجه الحاكم (1 / 206 - ط. دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 431، حاشية الدسوقي 1 / 254، مغني المحتاج 1 / 202، كشاف القناع 1 / 372.
(3) حديث: " لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ". عزاه السيوطي في الجامع (فيض القدير 5 / 319 - ط. المكتبة التجارية) إلى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ونقل المناوي عن العراقي أن في إسناده راويًا اتفق على تضعيفه.(27/107)
طَرَفُ عِمَامَتِهِ كُرِهَ لَهُ تَسْوِيَتُهُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ (1) .
94 - وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ تَقْلِيبِ الْحَصَى وَمَسِّهِ، لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ فَلاَ يَمْسَحِ الْحَصَى (2) كَمَا يُكْرَهُ مَسْحُ الْحَصَى وَنَحْوِهِ حَيْثُ يَسْجُدُ؛ لِحَدِيثِ مُعَيْقِيبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي الرَّجُل يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ: إِنْ كُنْتَ فَاعِلاً فَوَاحِدَةً (3) .
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ الْكَرَاهَةَ بِعَدَمِ الْعُذْرِ.
وَرَخَّصَ الْحَنَفِيَّةُ تَسْوِيَةَ الْحَصَى مَرَّةً لِلسُّجُودِ التَّامِّ، بِأَنْ كَانَ لاَ يُمْكِنُهُ تَمْكِينُ جَبْهَتِهِ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ إِلاَّ بِذَلِكَ.
قَالُوا: وَتَرْكُهَا أَوْلَى. وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لاَ يُمْكِنُهُ وَضْعُ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنَ الْجَبْهَةِ إِلاَّ بِهِ تَعَيَّنَ وَلَوْ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ فِي الصَّلاَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ؛ لِثُبُوتِ النَّهْيِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 430، حاشية الدسوقي 1 / 255، مغني المحتاج 1 / 181، كشاف القناع 1 / 372.
(2) حديث: " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه. . . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 328 - ط. الحلبي) ، والحميدي (1 / 71 - ط. عالمي برس) وعند الحميدي ذكر لجهالة الراوي عن أبي ذر.
(3) حديث معيقيب: " إن كنت فاعلا فواحدة ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 79 - ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 387 - ط الحلبي) .(27/107)
عَنْهُ؛ وَلِمُنَافَاتِهِ لِهَيْئَةِ الْخُشُوعِ (1) .
95 - وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ عَدِّ الآْيِ وَالسُّوَرِ، وَالتَّسْبِيحِ بِأَصَابِعِ الْيَدِ أَوْ بِسُبْحَةٍ يُمْسِكُهَا فِي الصَّلاَةِ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَتْ نَفْلاً. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنِ الصَّاحِبَيْنِ فِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ.
وَقِيل: الْخِلاَفُ فِي الْفَرَائِضِ وَلاَ كَرَاهَةَ فِي النَّوَافِل اتِّفَاقًا. وَقِيل: فِي النَّوَافِل وَلاَ خِلاَفَ فِي الْكَرَاهَةِ فِي الْفَرَائِضِ. وَالْكَرَاهَةُ عِنْدَهُمْ تَنْزِيهِيَّةٌ وَعَلَّلُوهَا بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَفْعَال الصَّلاَةِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ عَدِّ الآْيِ وَالتَّسْبِيحِ بِأَصَابِعِهِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْقِدُ الآْيَ بِأَصَابِعِهِ (3) . وَعَدُّ التَّسْبِيحِ فِي مَعْنَى عَدِّ الآْيِ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِي عَدِّ التَّسْبِيحِ لأَِنَّهُ يَتَوَالَى لِقِصَرِهِ، فَيَتَوَالَى حِسَابُهُ فَيَكْثُرُ الْعَمَل بِخِلاَفِ عَدِّ الآْيِ (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 431، مغني المحتاج 1 / 201، كشاف القناع 1 / 372، 373.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 437.
(3) حديث أنس: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقد الآي بأصابعه ". أورده البهوتي في كشاف القناع (1 / 376 - ط. عالم الكتب) وعزاه إلى محمد بن خلف.
(4) كشاف القناع 1 / 376.(27/108)
96 - وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ تَرَوُّحِهِ - جَلْبُ نَسِيمِ الرِّيحِ - بِمِرْوَحَةٍ وَنَحْوِهَا، لأَِنَّهُ مِنَ الْعَبَثِ. قَال الْحَنَابِلَةُ: إِلاَّ لِحَاجَةٍ كَغَمٍّ شَدِيدٍ فَلاَ يُكْرَهُ مَا لَمْ يُكْثِرْ مِنَ التَّرَوُّحِ، فَيُبْطِل الصَّلاَةَ إِنْ تَوَالَى.
وَفِي الْهِنْدِيَّةِ عَنِ التَّتَارْخَانِيَّةِ يُكْرَهُ أَنْ يَذُبَّ بِيَدِهِ الذُّبَابَ أَوِ الْبَعُوضَ إِلاَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِعَمَلٍ قَلِيلٍ (1) .
97 - وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِكَرَاهَةِ الْقِيَامِ عَلَى رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، لأَِنَّهُ تَكَلُّفٌ يُنَافِي الْخُشُوعَ، إِلاَّ إِنْ كَانَ لِعُذْرٍ كَوَجَعِ الأُْخْرَى فَلاَ كَرَاهَةَ.
كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ رَفْعِ الرِّجْل عَنِ الأَْرْضِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ كَطُول الْقِيَامِ، كَمَا يُكْرَهُ عِنْدَهُمْ وَضْعُ قَدَمٍ عَلَى أُخْرَى لأَِنَّهُ مِنَ الْعَبَثِ، وَيُكْرَهُ أَيْضًا إِقْرَانُهُمَا. وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ كَثْرَةِ الْمُرَاوَحَةِ بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلْيُسْكِنْ أَطْرَافَهُ، وَلاَ يَتَمَيَّل كَمَا يَتَمَيَّل الْيَهُودُ (2) . قَال فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى: وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَطُل قِيَامُهُ، أَمَّا قِلَّةُ الْمُرَاوَحَةِ فَتُسْتَحَبُّ عِنْدَهُمْ
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح 194، مغني المحتاج 1 / 202، كشاف القناع 1 / 372.
(2) حديث: " إذا قام أحدكم لصلاته فليسكن أطرافه ". أخرجه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (2 / 620 - ط. دار الفكر) في ترجمته راو وذكر جمعًا من العلماء قد ضعفوه.(27/108)
وَلاَ تُكْرَهُ (1) . لِمَا رَوَى الأَْثْرَمُ عَنْ أَبِي عُبَادَةَ قَال: رَأَى عَبْدُ اللَّهِ رَجُلاً يُصَلِّي صَافًّا بَيْنَ قَدَمَيْهِ فَقَال: لَوْ رَاوَحَ هَذَا بَيْنَ قَدَمَيْهِ كَانَ أَفْضَل، وَفِي رِوَايَةٍ: أَخْطَأَ السُّنَّةَ، وَلَوْ رَاوَحَ بَيْنَهُمَا كَانَ أَعْجَبَ.
98 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الإِْقْعَاءِ فِي جِلْسَاتِ الصَّلاَةِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِقْعَاء) .
99 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَرَاهَةِ الاِلْتِفَاتِ فِي الصَّلاَةِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الاِلْتِفَاتِ فِي الصَّلاَةِ؟ فَقَال: هُوَ اخْتِلاَسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاَةِ الْعَبْدِ (2) . وَالْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ الْحَاجَةِ أَوِ الْعُذْرِ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ هُنَاكَ حَاجَةٌ: كَخَوْفٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ لَمْ يُكْرَهْ؛ لِحَدِيثِ سَهْل بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَال: ثُوِّبَ بِالصَّلاَةِ - يَعْنِي صَلاَةَ الصُّبْحِ - فَجَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ يَلْتَفِتُ إِلَى الشِّعْبِ. قَال: وَكَانَ أَرْسَل فَارِسًا إِلَى الشِّعْبِ يَحْرُسُ (3) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 254، مغني المحتاج 1 / 202، كشاف القناع 1 / 372.
(2) حديث عائشة: " سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 434 - ط. السلفية) .
(3) حديث سهل بن الحنظلية: " ثوب بالصلاة ". أخرجه أبو داود (1 / 563 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (2 / 83 - 84 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(27/109)
وَعَلَيْهِ يُحْمَل مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ يَمِينًا وَشِمَالاً، وَلاَ يَلْوِي عُنُقَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ (1) .
وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: الاِلْتِفَافُ بِالْوَجْهِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، وَبِالْبَصَرِ - أَيْ مِنْ غَيْرِ تَحْوِيل الْوَجْهِ أَصْلاً - مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا. وَعَنِ الزَّيْلَعِيِّ وَالْبَاقَانِيِّ: أَنَّهُ مُبَاحٌ؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُلاَحِظُ أَصْحَابَهُ فِي صَلاَتِهِ بِمُوقِ عَيْنَيْهِ، أَمَّا الاِلْتِفَاتُ بِالصَّدْرِ فَإِنَّهُ مُفْسِدٌ لِلصَّلاَةِ وَسَيَأْتِي.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الاِلْتِفَاتُ مَكْرُوهٌ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ، وَلَوْ بِجَمِيعِ جَسَدِهِ، وَلاَ يُبْطِل الصَّلاَةَ مَا بَقِيَتْ رِجْلاَهُ لِلْقِبْلَةِ، وَبَعْضُهُ أَخَفُّ بِالْكَرَاهَةِ مِنْ بَعْضٍ، فَالاِلْتِفَاتُ بِالْخَدِّ أَخَفُّ مِنْ لَيِّ الْعُنُقِ، وَلَيُّ الْعُنُقِ أَخَفُّ مِنْ لَيِّ الصَّدْرِ، وَالصَّدْرُ أَخَفُّ مِنْ لَيِّ الْبَدَنِ كُلِّهِ،
__________
(1) حديث ابن عباس: " كان صلى الله عليه وسلم يلتفت في صلاة يمينًا وشمالا ". أخرجه النسائي (3 / 9 - ط. المكتبة التجارية) ، والحاكم (1 / 236 - 237 - ط. دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(27/109)
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِعَدَمِ بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ لَوِ الْتَفَتَ بِصَدْرِهِ وَوَجْهِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمْ يَسْتَدِرْ بِجُمْلَتِهِ.
وَقَال الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: بِحُرْمَةِ الاِلْتِفَاتِ بِالْوَجْهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ يَزَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل مُقْبِلاً عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ فِي صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ. فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ (1) .
قَال الأَْذْرَعِيُّ: وَالْمُخْتَارُ: أَنَّهُ إِنْ تَعَمَّدَ مَعَ عِلْمِهِ بِالْخَبَرِ حَرُمَ، بَل تَبْطُل إِنْ فَعَلَهُ لَعِبًا.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ اللَّمْحِ بِالْعَيْنِ دُونَ الاِلْتِفَاتِ فَإِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ؛ لِحَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ قَال: خَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ وَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ. فَلَمَحَ بِمُؤَخَّرِ عَيْنِهِ رَجُلاً لاَ يُقِيمُ صَلاَتَهُ - يَعْنِي صُلْبَهُ - فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ (2) .
__________
(1) حديث: " لا يزال الله مقبلا على العبد. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 560 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي ذر، وأشار المنذري إلى إعلاله بجهالة راو فيه (مختصر السنن 1 / 1 / 429 - نشر دار المعرفة) .
(2) حديث: " يا معشر المسلمين لا صلاة لمن لا يقيم صلبه ". أخرجه ابن ماجه (1 / 282 - ط. الحلبي) ، وقال البوصيري: " مصباح الزجاجة (1 / 178 - ط. دار الجنان) : إسناده صحيح.(27/110)
أَمَّا إِنْ حَوَّل صَدْرَهُ عَنِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ تَبْطُل صَلاَتُهُ (1) .
100 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ مَعَ مُدَافَعَةِ الأَْخْبَثَيْنِ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ صَلاَةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلاَ هُوَ يُدَافِعُ الأَْخْبَثَيْنِ (2) . وَيُسَمَّى مُدَافِعُ الْبَوْل حَاقِنًا، وَمُدَافِعُ الْغَائِطِ حَاقِبًا.
وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِذَلِكَ مَنْ تَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، لأَِنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. قَالُوا: فَيَبْدَأُ بِالْخَلاَءِ لِيُزِيل مَا يُدَافِعُهُ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ رِيحٍ، وَيَبْدَأُ - أَيْضًا - بِمَا تَاقَ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، وَلَوْ فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ، لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ، وَتُقَامُ الصَّلاَةُ، فَلاَ يَأْتِيهَا حَتَّى يَفْرُغَ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإِْمَامِ (3) .
إِلاَّ إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ فَلاَ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ عَلَى هَذِهِ الْحَال، بَل يَجِبُ فِعْلُهَا قَبْل خُرُوجِ وَقْتِهَا فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 432، حاشية الدسوقي 1 / 254، مغني المحتاج 1 / 201، كشاف القناع 1 / 369.
(2) حديث: " لا صلاة بحضرة طعام ". أخرجه مسلم (1 / 393 - ط. الحلبي) .
(3) حديث ابن عمر: " أنه كان يوضع له الطعام ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 159 - ط. السلفية) .(27/110)
بِالاِبْتِدَاءِ، بَل تُكْرَهُ صَلاَةُ الْحَاقِنِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ قَبْل شُرُوعِهِ أَوْ بَعْدَهُ. قَالُوا: فَإِنْ شَغَلَهُ قَطَعَهَا إِنْ لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الْوَقْتِ، وَإِنْ أَتَمَّهَا أَثِمَ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يُصَلِّيَ وَهُوَ حَقْنٌ حَتَّى يَتَخَفَّفَ (1) .
وَيَقْطَعُهَا - أَيْضًا - وَلَوْ خَشِيَ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ، وَلاَ يَجِدُ جَمَاعَةً أُخْرَى؛ لأَِنَّ تَرْكَ سُنَّةِ الْجَمَاعَةِ أَوْلَى مِنَ الإِْتْيَانِ بِالْكَرَاهَةِ. وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهُ إِذَا وَصَل الْحَقْنُ إِلَى حَدٍّ لاَ يَقْدِرُ مَعَهُ الإِْتْيَانُ بِالْفَرْضِ أَصْلاً، أَوْ يَأْتِي بِهِ مَعَهُ لَكِنْ بِمَشَقَّةٍ، فَإِنَّهُ يُبْطِل الصَّلاَةَ.
قَال الْعَدَوِيُّ: أَوْ أَتَى بِهِ عَلَى حَالَةٍ غَيْرِ مَرْضِيَّةٍ، بِأَنْ يَضُمَّ وِرْكَيْهِ أَوْ فَخِذَيْهِ، وَمَحَل الْبُطْلاَنِ إِذَا دَامَ ذَلِكَ الْحَقْنُ، وَأَمَّا إِنْ حَصَل ثُمَّ زَال فَلاَ إِعَادَةَ (2) .
(ر: حَاقِنٌ) .
101 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى كَرَاهَةِ السُّجُودِ عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. وَقَيَّدُوا
__________
(1) حديث: " لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصلي وهو حقن حتى يتخفف ". أخرجه أبو داود (1 / 70 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة، وقال الزيلعي: فيه رجل فيه جهالة كذا في نصب الراية (2 / 102 - ط. المجلس العلمي) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 431، حاشية الدسوقي 1 / 288، الخرشي على خليل 1 / 329، مغني المحتاج 1 / 202، كشاف القناع 1 / 371.(27/111)
الْكَرَاهَةَ بِمَا إِذَا كَانَ السُّجُودُ عَلَى كَوْرِ الْعِمَامَةِ بِدُونِ عُذْرٍ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ مَرَضٍ. قَال الْبُهُوتِيُّ: لِيَخْرُجَ مِنَ الْخِلاَفِ وَيَأْتِي بِالْعَزِيمَةِ. وَدَلِيل ذَلِكَ مَا رَوَى أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنَ الأَْرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ (1) .
وَالْكَرَاهَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَنْزِيهِيَّةٌ، وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِصِحَّةِ السُّجُودِ عَلَى الْمُكَوَّرِ كَوْنَ الْكَوْرِ الَّذِي يَسْجُدُ عَلَيْهِ عَلَى الْجَبْهَةِ أَوْ بَعْضِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى الرَّأْسِ - فَقَطْ - وَسَجَدَ عَلَيْهِ وَلَمْ تُصِبْ جَبْهَتُهُ الأَْرْضَ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ سُجُودُهُ؛ لِعَدَمِ السُّجُودِ عَلَى مَحَلِّهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا كَانَ كَوْرُ الْعِمَامَةِ فَوْقَ الْجَبْهَةِ وَمَنَعَتْ لُصُوقَ الْجَبْهَةِ بِالأَْرْضِ فَبَاطِلَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْكَوْرُ أَكْثَرَ مِنَ الطَّاقَتَيْنِ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ.
وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَوْرِ الْعِمَامَةِ كُل مَا اتَّصَل بِالْمُصَلِّي مِنْ غَيْرِ أَعْضَاءِ السُّجُودِ كَطَرَفِ كُمِّهِ وَمَلْبُوسِهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ السُّجُودُ عَلَى كُمِّهِ وَفَاضِل ثَوْبِهِ لَوْ كَانَ الْمَكَانُ الْمَبْسُوطُ عَلَيْهِ ذَلِكَ
__________
(1) حديث أنس: " كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم في شدة الحر ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 492 - ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 433 - ط. الحلبي) .(27/111)
طَاهِرًا، وَإِلاَّ لاَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ حَال دُونَ الْجَبْهَةِ حَائِلٌ مُتَّصِلٌ بِهِ كَكَوْرِ عِمَامَتِهِ، أَوْ طَرَفِ كُمِّهِ، وَهُمَا يَتَحَرَّكَانِ بِحَرَكَتِهِ فِي الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، أَوْ غَيْرِهِمَا لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ؛ لِمَا رَوَى خَبَّابُ بْنُ الأَْرَتِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: شَكَوْنَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا فَلَمْ يُشْكِنَا، وَفِي رِوَايَةٍ قَال: فَمَا أَشْكَانَا، وَقَال: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَصَلُّوا (1) . وَإِنْ سَجَدَ عَلَى ذَيْلِهِ أَوْ كُمِّهِ أَوْ طَرَفِ عِمَامَتِهِ، وَهُوَ طَوِيلٌ لاَ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ فَوَجْهَانِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ تَصِحُّ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّ هَذَا الطَّرَفَ فِي مَعْنَى الْمُنْفَصِل، وَالثَّانِي: لاَ تَصِحُّ بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى ذَلِكَ الطَّرَفِ نَجَاسَةٌ، فَإِنَّهُ لاَ تَصِحُّ صَلاَتُهُ وَإِنْ كَانَ لاَ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ إِنْ سَجَدَ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ أَوْ كُمِّهِ وَنَحْوِهِمَا مُتَعَمِّدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَمْ تَبْطُل، لَكِنْ يَجِبُ إِعَادَةُ السُّجُودِ (2) .
__________
(1) حديث خباب بن الأرت: " شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء. . . . ". أخرجه مسلم (1 / 433 - ط. الحلبي) ، والبيهقي (1 / 438 - 439 ط. دائرة المعارف العثمانية) ، والرواية الثانية للبيهقي.
(2) حاشية ابن عابدين (1 / 336) ، حاشية الدسوقي 1 / 253، المجموع 3 / 423، كشاف القناع 1 / 352.(27/112)
وَهُنَاكَ مَكْرُوهَاتٌ كَثِيرَةٌ لِلسُّجُودِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (سُجُود) .
102 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يُصَلِّيَ مُسْتَقْبِلاً لِرَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ. قَال الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: كَرِهَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنْ يَسْتَقْبِل الرَّجُل وَهُوَ يُصَلِّي. وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي إِلَى رَجُلٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلاَةَ (1) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَرَاهَةٌ تَحْرِيمِيَّةٌ، وَيَكُونُ الأَْمْرُ بِالإِْعَادَةِ لإِِزَالَةِ الْكَرَاهَةِ، لأَِنَّهُ الْحُكْمُ فِي كُل صَلاَةٍ أُدِّيَتْ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَلَيْسَ لِلْفَسَادِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَال: إِنْ كَانَ جَاهِلاً عَلَّمْتُهُ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا أَدَّبْتُهُ.
كَمَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ الصَّلاَةِ إِلَى مُتَحَدِّثٍ؛ لأَِنَّهُ يَشْغَلُهُ عَنْ حُضُورِ قَلْبِهِ فِي الصَّلاَةِ، لَكِنِ الْحَنَفِيَّةُ قَيَّدُوا الْكَرَاهَةَ بِمَا إِذَا خِيفَ الْغَلَطُ بِحَدِيثِهِ.
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: النَّائِمَ، فَتُكْرَهُ الصَّلاَةُ إِلَيْهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا
__________
(1) حديث علي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي إلى رجل. . . . ". أخرجه البزار (كشف الأستار 1 / 281 - ط. الرسالة) ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 62 - ط. القدسي) وقال: " فيه عبد الأعلى الثعلبي، وهو ضعيف ".(27/112)
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تُصَلُّوا خَلْفَ النَّائِمِ وَلاَ الْمُتَحَدِّثِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ (2) . وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهَا كَانَتْ نَائِمَةً.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ إِلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مِنْ ذَلِكَ الْكَافِرَ.
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً أَوْ كَافِرًا فَالْكَرَاهَةُ، وَإِنْ كَانَ رَجُلاً غَيْرَ كَافِرٍ جَازَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً مَحْرَمًا فَقَوْلاَنِ: وَالرَّاجِحُ الْجَوَازُ (3) .
103 - وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ اسْتِقْبَال شَيْءٍ مِنَ النَّارِ فِي الصَّلاَةِ - وَلَوْ سِرَاجًا أَوْ قِنْدِيلاً أَوْ شَمْعَةً مُوقَدَةً - لأَِنَّ فِيهِ
__________
(1) حديث ابن عباس: " لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث ". أخرجه أبو داود (1 / 445 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وأعل إسناده الخطابي في معالم السنن (بهامش المختصر للمنذري 1 / 342 - نشر دار المعرفة) .
(2) حديث عائشة: " كان يصلي وأنا راقدة معترضة بينه وبين القبلة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 587 - ط. السلفية) .
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 433، 435، 438، حاشية الدسوقي 1 / 246، المجموع 3 / 251، كشاف القناع 1 / 371، 382.(27/113)
تَشْبِيهًا بِعَبَدَةِ النَّارِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ اسْتِقْبَال هَذِهِ الأَْشْيَاءِ، قَالُوا: لأَِنَّ الْمَجُوسَ تَعْبُدُ الْجَمْرَ لاَ النَّارَ الْمُوقَدَةَ، وَلِذَا قَالُوا بِكَرَاهَةِ الصَّلاَةِ إِلَى تَنُّورٍ أَوْ كَانُونٍ فِيهِ جَمْرٌ.
104 - كَمَا يُكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ فِي الْقِبْلَةِ شَيْءٌ، أَوْ يُعَلَّقَ فِيهَا شَيْءٌ، لأَِنَّهُ يَشْغَل الْمُصَلِّيَ.
وَيُكْرَهُ - أَيْضًا - تَزْوِيقُ الْمَسْجِدِ. قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَجْعَلُوا فِي الْقِبْلَةِ شَيْئًا، قَال الْبُهُوتِيُّ: حَتَّى الْمُصْحَفَ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ أَنْ يَتَعَمَّدَ جَعْل الْمُصْحَفِ فِي قِبْلَتِهِ لِيُصَلِّيَ إِلَيْهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ هَذَا مَكَانُهُ الَّذِي يُعَلَّقُ فِيهِ فَإِنَّهُ لاَ يُكْرَهُ (1) .
الأَْمَاكِنُ الَّتِي تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِيهَا:
105 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الأَْمَاكِنِ الَّتِي تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِيهَا، وَإِلَيْكَ تَفْصِيل أَقْوَالِهِمْ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ فِي الطَّرِيقِ، وَالْحَمَّامِ، وَالْمَزْبَلَةِ، وَالْمَجْزَرَةِ، وَالْكَنِيسَةِ، وَعَطَنِ الإِْبِل، وَالْمَقْبَرَةِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ:
فِي الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَالْمَقْبَرَةِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَفِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 438، والطحطاوي على مراقي الفلاح 198، 199، حاشية الدسوقي 1 / 246، 255.(27/113)
الْحَمَّامِ وَفِي مَعَاطِنِ الإِْبِل وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ (1) .
قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: قَارِعَةُ الطَّرِيقِ هِيَ أَعْلاَهُ، وَقِيل: صَدْرُهُ، وَقِيل: مَا بَرَزَ مِنْهُ، وَالْكُل مُتَقَارِبٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا نَفْسُ الطَّرِيقِ، وَالْعِلَّةُ فِي النَّهْيِ عَنِ الصَّلاَةِ فِي قَارِعَةِ الطَّرِيقِ هِيَ لِشَغْلِهِ حَقَّ الْعَامَّةِ، وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْمُرُورِ؛ وَلِشَغْل الْبَال عَنِ الْخُشُوعِ فَيَشْتَغِل بِالْخَلْقِ عَنِ الْحَقِّ.
قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: الْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي الْبُنْيَانِ دُونَ الْبَرِّيَّةِ.
وَتُكْرَهُ الصَّلاَةُ - أَيْضًا - فِي مَعَاطِنِ الإِْبِل وَلَوْ طَاهِرَةً. لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلاَ تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الإِْبِل (2) . وَالْمُرَادُ بِالْمَعَاطِنِ - هُنَا - مَبَارِكُهَا مُطْلَقًا. قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَلاَ تَخْتَصُّ الْكَرَاهَةُ بِالْعَطَنِ، بَل مَأْوَاهَا وَمَقِيلُهَا وَمَبَارِكُهَا، بَل مَوَاضِعُهَا كُلُّهَا كَذَلِكَ. وَلاَ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَسُئِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاَةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، فَقَال: صَلُّوا فِيهَا فَإِنَّهَا
__________
(1) حديث ابن عمر: " نهى أن يصلي في سبعة مواطن ". أخرجه الترمذي (2 / 178 - ط. الحلبي) . وقال: " إسناده ليس بذاك القوي ".
(2) حديث: " صلوا في مرابض الغنم ". أخرجه الترمذي (2 / 181 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن صحيح ".(27/114)
خُلِقَتْ بَرَكَةً (1) . وَأَلْحَقُوا مَرَابِضَ الْبَقَرِ بِمَرَابِضِ الْغَنَمِ فَلاَ تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِيهَا، قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَمَاكِنَ الْمَوَاشِي مُطْلَقًا إِنْ تَنَجَّسَتْ لَمْ تَصِحَّ الصَّلاَةُ فِيهَا بِلاَ حَائِلٍ، وَتَصِحُّ بِالْحَائِل مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَوَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ فِي حُكْمِ الصَّلاَةِ فِي الْكَنِيسَةِ وَمَعْطِنِ الإِْبِل، فَكَرِهُوا الصَّلاَةَ فِيهِمَا. وَأَلْحَقُوا بِالْكَنِيسَةِ كُل مُتَعَبَّدٍ لِلْكُفَّارِ كَالْبِيعَةِ وَبَيْتِ النَّارِ، وَخَصُّوا كَرَاهَةَ الصَّلاَةِ فِي الْكَنِيسَةِ بِمَا إِذَا دَخَلَهَا مُخْتَارًا سَوَاءٌ كَانَتْ عَامِرَةً أَمْ دَارِسَةً، أَمَّا إِنْ دَخَلَهَا مُضْطَرًّا فَلاَ كَرَاهَةَ، عَامِرَةً كَانَتْ أَمْ دَارِسَةً. وَقَالُوا بِإِعَادَةِ الصَّلاَةِ فِي الْوَقْتِ إِذَا نَزَلَهَا بِاخْتِيَارِهِ وَصَلَّى عَلَى أَرْضِهَا أَوْ عَلَى فَرْشِهَا.
وَتُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِي مَعْطِنِ الإِْبِل وَلَوْ مَعَ أَمْنِ النَّجَاسَةِ. وَعِنْدَهُمْ فِي إِعَادَةِ الصَّلاَةِ قَوْلاَنِ: قَوْلٌ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ مُطْلَقًا عَامِدًا كَانَ أَوْ جَاهِلاً أَوْ نَاسِيًا، وَقَوْلٌ يُعِيدُ النَّاسِي فِي الْوَقْتِ، وَالْعَامِدُ وَالْجَاهِل بِالْحُكْمِ أَبَدًا نَدْبًا. وَأَجَازُوا الصَّلاَةَ بِلاَ كَرَاهَةٍ بِمَرْبِضِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ مِنْ غَيْرِ فَرْشٍ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَبِالْمَقْبَرَةِ بِلاَ حَائِلٍ وَلَوْ عَلَى الْقَبْرِ، وَلَوْ
__________
(1) حديث: " أنه سئل عن الصلاة في مرابض الغنم ". أخرجه أبو داود (1 / 331 - 332 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، من حديث البراء بن عازب، وإسناده صحيح.(27/114)
لِمُشْرِكٍ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْمَقْبَرَةُ عَامِرَةً أَمْ دَارِسَةً مَنْبُوشَةً، وَبِالْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَالْحَال أَنَّهُ لَمْ يُصَل عَلَى الزِّبْل أَوِ الدَّمِ، بَل فِي مَحَلٍّ لاَ زِبْل فِيهِ، أَوْ لاَ دَمَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْرِشَ شَيْئًا طَاهِرًا يُصَلِّي عَلَيْهِ. وَبِالْمَحَجَّةِ (وَسَطِ الطَّرِيقِ) وَبِقَارِعَةِ الطَّرِيقِ (جَانِبِهِ) . وَقَيَّدُوا جَوَازَ الصَّلاَةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَالْمَحَجَّةِ بِأَمْنِ النَّجَاسَةِ.
أَمَّا مَرْبِضُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَدَائِمًا مَأْمُونُ النَّجَاسَةِ؛ لأَِنَّ بَوْلَهَا وَرَجِيعَهَا طَاهِرَانِ. ثُمَّ إِنَّهُ مَتَى أُمِنَتْ هَذِهِ الأَْمَاكِنُ مِنَ النَّجَسِ - بِأَنْ جَزَمَ أَوْ ظَنَّ طَهَارَتَهَا - كَانَتِ الصَّلاَةُ جَائِزَةً وَلاَ إِعَادَةَ أَصْلاً وَإِنْ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهَا أَوْ ظُنَّتْ فَلاَ تَجُوزُ الصَّلاَةُ فِيهَا، وَإِذَا صَلَّى أَعَادَ أَبَدًا. وَإِنْ شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا وَطَهَارَتِهَا أَعَادَ فِي الْوَقْتِ عَلَى الرَّاجِحِ، بِنَاءً عَلَى تَرْجِيحِ الأَْصْل عَلَى الْغَالِبِ، وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ. وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: يُعِيدُ أَبَدًا إِنْ كَانَ عَامِدًا أَوْ جَاهِلاً تَرْجِيحًا لِلْغَالِبِ عَلَى الأَْصْل. وَهَذَا فِي غَيْرِ مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ إِذَا صَلَّى فِيهَا لِضِيقِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ الصَّلاَةَ فِيهَا حِينَئِذٍ جَائِزَةٌ. وَلاَ إِعَادَةَ مَعَ الشَّكِّ فِي الطَّهَارَةِ وَعَدَمِهَا.
وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي كُل ذَلِكَ فَقَالُوا بِعَدَمِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ فِي الْمَقْبَرَةِ مُطْلَقًا؛ لِحَدِيثِ جُنْدُبٍ مَرْفُوعًا: لاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ،(27/115)
فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ (1) . وَالْمَقْبَرَةُ ثَلاَثَةُ قُبُورٍ فَصَاعِدًا، فَلاَ يُعْتَبَرُ قَبْرٌ وَلاَ قَبْرَانِ مَقْبَرَةٌ.
وَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ فِي الْحَمَّامِ، دَاخِلِهِ وَخَارِجِهِ وَأَتُونِهِ (مُوقِدِ النَّارِ) وَكُل مَا يُغْلَقُ عَلَيْهِ الْبَابُ وَيَدْخُل فِي الْبِيَعِ، لِشُمُول الاِسْمِ لِذَلِكَ كُلِّهِ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: الأَْرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلاَّ الْحَمَّامَ وَالْمَقْبَرَةَ (2) . وَمِثْلُهُ الْحُشُّ - وَهُوَ مَا أُعِدَّ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ - وَلَوْ مَعَ طَهَارَتِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ.
وَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ عِنْدَهُمْ فِي أَعْطَانِ الإِْبِل - وَهِيَ مَا تُقِيمُ فِيهِ وَتَأْوِي إِلَيْهِ -؛ لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلاَ تُصَلُّوا فِي مَبَارِكِ الإِْبِل وَلاَ تَدْخُل فِي النَّهْيِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي تُنَاخُ فِيهَا الإِْبِل لِعَلَفِهَا، أَوْ وُرُودِهَا الْمَاءَ، وَمَوَاضِعِ نُزُولِهَا فِي سَيْرِهَا، لِعَدَمِ تَنَاوُل اسْمِ الأَْعْطَانِ لَهَا.
وَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ - أَيْضًا - فِي الْمَجْزَرَةِ وَالْمَزْبَلَةِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ سَالِكٌ أَوْ لاَ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ.
__________
(1) حديث: " لا تتخذوا القبور مساجد ". أخرجه مسلم (1 / 378 - ط. الحلبي) من حديث جندب بن جنادة.
(2) حديث أبي سعيد: " الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة ". أخرجه أبو داود (1 / 330 - العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(27/115)
وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ الصَّلاَةِ بِلاَ كَرَاهَةٍ بِطَرِيقِ الْبُيُوتِ الْقَلِيلَةِ، وَبِمَا عَلاَ عَنْ جَادَّةِ الطَّرِيقِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً.
قَال الْبُهُوتِيُّ: فَتَصِحُّ الصَّلاَةُ فِيهِ بِلاَ كَرَاهَةٍ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَحَجَّةٍ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ كُل مَكَان لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ فِيهِ، فَكَذَا لاَ تَصِحُّ عَلَى سَطْحِهِ؛ لأَِنَّ الْهَوَاءَ تَابِعٌ لِلْقَرَارِ، دَلِيلٌ أَنَّ الْجُنُبَ يُمْنَعُ مِنَ اللُّبْثِ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ لاَ يَدْخُل دَارًا يَحْنَثُ بِدُخُول سَطْحِهَا. وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ وُجُودُ عُذْرٍ: كَأَنْ حُبِسَ بِحَمَّامٍ، أَوْ حُشٍّ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي تِلْكَ الأَْمَاكِنِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةٍ، وَانْفَرَدَ الْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ فِي الأَْرْضِ الْمَغْصُوبَةِ. لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ أُتِيَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ فَلَمْ تَصِحَّ، كَصَلاَةِ الْحَائِضِ (1) .
106 - وَصَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِكَرَاهَةِ التَّثَاؤُبِ فِي الصَّلاَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاوُبَ. .، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ.
وَفِي رِوَايَةٍ: فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 196، 197، حاشية الدسوقي 1 / 188، 189، ومغني المحتاج 1 / 203، وكشاف القناع 1 / 293.(27/116)
عَلَى فَمِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُل (1) . وَلأَِنَّهُ مِنَ التَّكَاسُل وَالاِمْتِلاَءِ. قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: فَإِنْ غَلَبَهُ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ وَلَوْ بِأَخْذِ شَفَتِهِ بِسِنِّهِ، وَبِوَضْعِ يَدِهِ أَوْ كُمِّهِ عَلَى فَمِهِ.
وَيُكْرَهُ - أَيْضًا - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَضْعُ شَيْءٍ فِي فَمِهِ لاَ يَمْنَعُهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ؛ لأَِنَّهُ يَشْغَل بَالَهُ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّيْءُ لاَ يَذُوبُ، فَإِنْ كَانَ يَذُوبُ كَالسُّكَّرِ يَكُونُ فِي فِيهِ، فَإِنَّهُ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ إِذَا ابْتَلَعَ ذَوْبَهُ.
وَيُكْرَهُ - كَذَلِكَ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ النَّفْخُ. هَذَا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ بِهِ حَرْفَانِ، فَإِنْ ظَهَرَ بِهِ حَرْفَانِ بَطَلَتِ الصَّلاَةُ (2) . قَالُوا: لأَِنَّهُ عَبَثٌ، كَمَا صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ الْبَصْقِ فِي الصَّلاَةِ قِبَل وَجْهِهِ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ: إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلاَ يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الصَّلاَةِ شَمُّ طِيبٍ قَصْدًا، كَأَنْ يُدَلِّكَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ
__________
(1) حديث: " إن الله يحب العطاس. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 611 - ط. السلفية) والرواية الثانية لمسلم (4 / 2293 - ط. الحلبي) .
(2) مغني المحتاج 1 / 195.
(3) حديث أنس: " إذا كان أحدكم في الصلاة. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 84 - ط. السلفية) .(27/116)
بِطِيبٍ، أَوْ يَضَعُ ذَا رَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ عِنْدَ أَنْفِهِ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ لِيَسْتَنْشِقَهُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْل الصَّلاَةِ، أَمَّا لَوْ دَخَلَتِ الرَّائِحَةُ أَنْفَهُ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَلاَ كَرَاهَةَ. قَال الطَّحْطَاوِيُّ: أَمَّا إِذَا أَمْسَكَهُ بِيَدِهِ وَشَمَّهُ فَالظَّاهِرُ الْفَسَادُ؛ لأَِنَّ مَنْ رَآهُ يَجْزِمُ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ، وَأَفَادَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمُنْيَةِ: أَنَّهَا لاَ تَفْسُدُ بِذَلِكَ أَيْ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَمَل كَثِيرًا (1) .
مُبْطِلاَتُ الصَّلاَةِ:
أ - الْكَلاَمُ:
107 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّلاَةَ تَبْطُل بِالْكَلاَمِ؛ لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاَةِ، يُكَلِّمُ الرَّجُل صَاحِبَهُ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلاَةِ حَتَّى نَزَلَتْ {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلاَمِ (2) وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْل أُمِّيَاهُ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ فَجَعَلُوا
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 194، 195، وحاشية الدسوقي 1 / 255، مغني المحتاج 1 / 201، 202، كشاف القناع 1 / 370، وما بعدها 381.
(2) حديث زيد بن أرقم: " كنا نتكلم في الصلاة ". أخرجه مسلم (1 / 383 - ط. الحلبي) .(27/117)
يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنُ تَعْلِيمًا مِنْهُ. فَوَاَللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي وَلاَ شَتَمَنِي، قَال: إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ (1) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ الْكَلاَمَ الْمُبْطِل لِلصَّلاَةِ مَا انْتَظَمَ مِنْهُ حَرْفَانِ فَصَاعِدًا؛ لأَِنَّ الْحَرْفَيْنِ يَكُونَانِ كَلِمَةً كَأَبٍ وَأَخٍ، وَكَذَلِكَ الأَْفْعَال وَالْحُرُوفُ، وَلاَ تَنْتَظِمُ كَلِمَةٌ فِي أَقَل مِنْ حَرْفَيْنِ، قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: الْحَرْفَانِ مِنْ جِنْسِ الْكَلاَمِ؛ لأَِنَّ أَقَل مَا يُبْنَى عَلَيْهِ الْكَلاَمُ حَرْفَانِ لِلاِبْتِدَاءِ وَالْوَقْفِ، أَوْ حَرْفٌ مُفْهِمٌ نَحْوَ " قِ " مِنَ الْوِقَايَةِ، وَ " عِ " مِنَ الْوَعْيِ وَ " فِ " مِنَ الْوَفَاءِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ مَدَّةً بَعْدَ حَرْفٍ وَإِنْ لَمْ يُفْهِمْ نَحْوَ " آ " لأَِنَّ الْمَمْدُودَ فِي الْحَقِيقَةِ حَرْفَانِ وَهَذَا عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ. وَمُقَابِل الأَْصَحِّ أَنَّهَا لاَ تَبْطُل؛ لأَِنَّ الْمُدَّةَ قَدْ تَتَّفِقُ لإِِشْبَاعِ الْحَرَكَةِ وَلاَ تُعَدُّ حَرْفًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَلاَمَ الْمُبْطِل لِلصَّلاَةِ هُوَ حَرْفٌ أَوْ صَوْتٌ سَاذِجٌ، سَوَاءٌ
__________
(1) حديث معاوية بن الحكم: " بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه مسلم (1 / 381 - 382 ط. الحلبي) .(27/117)
صَدَرَ مِنَ الْمُصَلِّي بِالاِخْتِيَارِ أَمْ بِالإِْكْرَاهِ، وَسَوَاءٌ وَجَبَ عَلَيْهِ هَذَا الصَّوْتُ كَإِنْقَاذِ أَعْمَى أَوْ لَمْ يَجِبْ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْكَلاَمَ لإِِصْلاَحِ الصَّلاَةِ فَلاَ تَبْطُل بِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ كَثِيرًا، وَكَذَا اسْتَثْنَوْا الْكَلاَمَ حَالَةَ السَّهْوِ إِذَا كَانَ كَثِيرًا فَإِنَّهُ تَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ أَيْضًا.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ بِبُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالْكَلاَمِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي نَاسِيًا أَوْ نَائِمًا أَوْ جَاهِلاً، أَوْ مُخْطِئًا أَوْ مُكْرَهًا، فَتَبْطُل الصَّلاَةُ بِكَلاَمِ هَؤُلاَءِ جَمِيعًا. قَالُوا: وَأَمَّا حَدِيثُ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (1) . فَمَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الإِْثْمِ.
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ السَّلاَمَ سَاهِيًا لِلتَّحْلِيل قَبْل إِتْمَامِهَا عَلَى ظَنِّ إِكْمَالِهَا فَلاَ يَفْسِدُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَمْدًا فَإِنَّهُ مُفْسِدٌ. وَكَذَا نَصُّوا عَلَى بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالسَّلاَمِ عَلَى إِنْسَانٍ لِلتَّحِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَقُل: عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كَانَ سَاهِيًا. وَبِرَدِّ السَّلاَمِ بِلِسَانِهِ أَيْضًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِكَلاَمِ النَّاسِي، وَالْجَاهِل بِالتَّحْرِيمِ إِنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالإِْسْلاَمِ أَوْ نَشَأَ بَعِيدًا عَنِ الْعُلَمَاءِ،
__________
(1) حديث: " إن الله وضع عن أمتي. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659 - ط. الحلبي) ، والحاكم (2 / 198 - ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس، واللفظ لابن ماجه، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.(27/118)
وَمَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ، إِنْ كَانَ الْكَلاَمُ يَسِيرًا عُرْفًا، فَيُعْذَرُ بِهِ، وَاسْتَدَلُّوا لِلنَّاسِي بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: صَلَّى بِنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى خَشَبَةَ الْمَسْجِدِ وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ، فَقَال لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتِ الصَّلاَةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُول اللَّهِ؟ فَقَال لأَِصْحَابِهِ: أَحَقٌّ مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ (1) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ: أَنَّهُ تَكَلَّمَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلاَةِ، وَهُمْ تَكَلَّمُوا مُجَوِّزِينَ النَّسْخَ ثُمَّ بَنَى هُوَ وَهُمْ عَلَيْهَا.
وَلاَ يُعْذَرُ فِي كَثِيرِ الْكَلاَمِ؛ لأَِنَّهُ يَقْطَعُ نَظْمَ الصَّلاَةِ وَهَيْئَتَهَا، وَالْقَلِيل يُحْتَمَل لِقِلَّتِهِ وَلأَِنَّ السَّبْقَ وَالنِّسْيَانَ فِي كَثِيرٍ نَادِرٍ.
قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَمَرْجِعُ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ إِلَى الْعُرْفِ عَلَى الأَْصَحِّ.
وَأَمَّا الْمُكْرَهُ عَلَى الْكَلاَمِ فَإِنَّهُ تَبْطُل صَلاَتُهُ عَلَى الأَْظْهَرِ وَلَوْ كَانَ كَلاَمُهُ يَسِيرًا، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ لاَ تَبْطُل كَالنَّاسِي. وَأَمَّا إِنْ كَانَ كَلاَمُهُ كَثِيرًا فَتَبْطُل بِهِ جَزْمًا.
__________
(1) حديث أبي هريرة: " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر فسلم من ركعتين ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 565، 3 / 96 ط. السلفية) .(27/118)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِكَلاَمِ السَّاهِي وَالْمُكْرَهِ، وَبِالْكَلاَمِ لِمَصْلَحَةِ الصَّلاَةِ، وَالْكَلاَمِ لِتَحْذِيرٍ نَحْوَ ضَرِيرٍ.
وَلاَ تَبْطُل عِنْدَهُمْ بِكَلاَمِ النَّائِمِ إِذَا كَانَ النَّوْمُ يَسِيرًا، فَإِذَا نَامَ الْمُصَلِّي قَائِمًا أَوْ جَالِسًا، فَتَكَلَّمَ فَلاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ، وَكَذَا إِذَا سَبَقَ الْكَلاَمُ عَلَى لِسَانِهِ حَال الْقِرَاءَةِ فَلاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ، لأَِنَّهُ مَغْلُوبٌ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَلِطَ فِي الْقِرَاءَةِ فَأَتَى بِكَلِمَةٍ مِنْ غَيْرِهِ (1) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ تَكَلَّمَ ظَانًّا أَنَّ صَلاَتَهُ تَمَّتْ، فَإِنْ كَانَ سَلاَمًا لَمْ تَبْطُل الصَّلاَةُ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ، أَمَّا إِنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِمَّا تَكْمُل بِهِ الصَّلاَةُ أَوْ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِ الصَّلاَةِ مِثْل كَلاَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَا الْيَدَيْنِ لَمْ تَفْسُدْ صَلاَتُهُ (2) .
ب - الْخِطَابُ بِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ:
108 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلاَنِ صَلاَةِ مَنْ خَاطَبَ أَحَدًا بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلِّي، كَقَوْلِهِ لِمَنِ اسْمُهُ يَحْيَى أَوْ مُوسَى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} أَوْ {مَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} ، أَوْ لِمَنْ بِالْبَابِ {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} . فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 413، حاشية الدسوقي 1 / 289، مغني المحتاج 1 / 195، 196، مطالب أولي النهى 1 / 520، 538.
(2) المغني 2 / 46، 47.(27/119)
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - إِلَى بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِكُل مَا قُصِدَ بِهِ الْخِطَابُ مِنَ الْقُرْآنِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَفْسُدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُخَاطَبُ مُسَمًّى بِهَذَا الاِسْمِ إِذَا قَصَدَ خِطَابَهُ. وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ بُطْلاَنَ الصَّلاَةِ بِالْخِطَابِ بِالْقُرْآنِ بِمَا إِنْ قَصَدَ بِهِ التَّفْهِيمَ بِغَيْرِ مَحَلِّهِ. وَذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَاسْتُؤْذِنَ عَلَيْهِ فَقَطَعَهَا إِلَى آيَةِ {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمَنِينَ} ، أَمَّا إِنْ قَصَدَ التَّفْهِيمَ بِهِ بِمَحَلِّهِ فَلاَ تَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ كَأَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَيْهِ شَخْصٌ وَهُوَ يَقْرَأُ {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِقَوْلِهِ: {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمَنِينَ} لِقَصْدِ الإِْذْنِ فِي الدُّخُول، أَوْ يَبْتَدِئُ ذَلِكَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْفَاتِحَةِ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ بُطْلاَنَ الصَّلاَةِ بِالْخِطَابِ بِالْقُرْآنِ بِمَا إِذَا قَصَدَ التَّفْهِيمَ فَقَطْ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا؛ لأَِنَّهُ فِيهِمَا يُشْبِهُ كَلاَمَ الآْدَمِيِّينَ فَلاَ يَكُونُ قُرْآنًا إِلاَّ بِالْقَصْدِ، وَأَمَّا إِنْ قَصَدَ مَعَ التَّفْهِيمِ الْقِرَاءَةَ لَمْ تَبْطُل الصَّلاَةُ؛ لأَِنَّهُ قُرْآنٌ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَصَدَ الْقُرْآنَ وَحْدَهُ؛ وَلأَِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ يُصَلِّي فَدَخَل رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ فَقَال: لاَ حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَتَلاَ عَلِيٌّ {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} .
قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَهَذَا التَّفْصِيل يَجْرِي فِي الْفَتْحِ عَلَى الإِْمَامِ بِالْقُرْآنِ، وَالْجَهْرِ(27/119)
بِالتَّكْبِيرِ أَوِ التَّسْمِيعِ، فَإِنَّهُ إِنْ قَصَدَ الرَّدَّ مَعَ الْقِرَاءَةِ أَوْ الْقِرَاءَةَ - فَقَطْ - أَوْ قَصَدَ التَّكْبِيرَ أَوِ التَّسْمِيعَ - فَقَطْ - مَعَ الإِْعْلاَمِ لَمْ تَبْطُل وَإِلاَّ بَطَلَتْ، وَإِنْ كَانَ فِي كَلاَمِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا يُوهِمُ خِلاَفَ ذَلِكَ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ صَلاَةِ مَنْ خَاطَبَ بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ؛ لِمَا رَوَى الْخَلاَّل عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَال: اسْتَأْذَنَّا عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَهُوَ يُصَلِّي فَقَال {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ} فَقُلْنَا: كَيْفَ صَنَعْتَ؟ قَال: اسْتَأْذَنَّا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَال: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمَنِينَ} ، وَلأَِنَّهُ قُرْآنٌ فَلَمْ تَفْسُدْ بِهِ الصَّلاَةُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدِ التَّنْبِيهَ. وَقَال الْقَاضِي: إِذَا قَصَدَ بِالْحَمْدِ الذِّكْرَ أَوِ الْقُرْآنَ لَمْ تَبْطُل، وَإِنْ قَصَدَ خِطَابَ آدَمِيٍّ بَطَلَتْ، وَإِنْ قَصَدَهُمَا فَوَجْهَانِ، فَأَمَّا إِنْ أَتَى بِمَا لاَ يَتَمَيَّزُ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ لِرَجُلٍ اسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ: يَا إِبْرَاهِيمُ وَنَحْوَهُ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّ هَذَا كَلاَمُ النَّاسِ، وَلَمْ يَتَمَيَّزْ عَنْ كَلاَمِهِمْ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْقُرْآنُ، أَشْبَهَ مَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ كَلِمَاتٍ مُفَرَّقَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَال: يَا إِبْرَاهِيمُ خُذِ الْكِتَابَ الْكَبِيرَ.
كَمَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِكُل مَا قُصِدَ بِهِ الْجَوَابُ مِنَ الذِّكْرِ(27/120)
وَالثَّنَاءِ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ، كَأَنْ قِيل. أَمَعَ اللَّهِ إِلَهٌ؟ فَقَال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. أَوْ مَا مَالُكَ؟ فَقَال: الْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِيرُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْجَوَابُ بِمَا لَيْسَ بِثَنَاءٍ فَإِنَّهَا تَفْسُدُ اتِّفَاقًا، كَأَنْ قِيل: مَا مَالُكَ؟ فَقَال: الإِْبِل وَالْبَقَرُ وَالْعَبِيدُ مَثَلاً؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِثَنَاءٍ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ أُخْبِرَ بِخَبَرِ سُوءٍ فَاسْتَرْجَعَ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّهَا تَفْسُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّ الأَْصْل عِنْدَهُ أَنَّ مَا كَانَ ثَنَاءً أَوْ قُرْآنًا لاَ يَتَغَيَّرُ بِالنِّيَّةِ، وَعِنْدَهُمَا يَتَغَيَّرُ، وَذَكَرَ فِي الْبَحْرِ: أَنَّهُ لَوْ أُخْبِرَ بِخَبَرٍ يَسُرُّهُ فَقَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلاَفِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ فِي الصَّلاَةِ لِغَيْرِهِ يُفْسِدُ الصَّلاَةَ. فَلَوْ عَطَسَ شَخْصٌ فَقَال لَهُ الْمُصَلِّي: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ، لأَِنَّهُ يَجْرِي فِي مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ فَكَانَ مِنْ كَلاَمِهِمْ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا قَال الْعَاطِسُ أَوِ السَّامِعُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَإِنَّهُ لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يُتَعَارَفْ جَوَابًا إِلاَّ إِذَا أَرَادَ التَّعْلِيمَ فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَفْسُدُ، وَأَمَّا إِذَا عَطَسَ فَشَمَّتَ نَفْسَهُ فَقَال: يَرْحَمُكِ اللَّهُ يَا نَفْسِي لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ، لأَِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ خِطَابًا لِغَيْرِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ كَمَا إِذَا قَال: يَرْحَمُنِي اللَّهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَبْطُل(27/120)
الصَّلاَةُ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ إِلاَّ أَنْ يُخَاطِبَ كَقَوْلِهِ لِعَاطِسٍ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْخِطَابُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ تَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ الذِّكْرُ لاَ خِطَابَ فِيهِ فَلاَ تَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ، كَمَا لَوْ عَطَسَ فَقَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَوْ سَمِعَ مَا يَغُمُّهُ فَقَال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أَوْ رَأَى مَا يُعْجِبُهُ فَقَال: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ قِيل لَهُ: وُلِدَ لَكَ غُلاَمٌ فَقَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ ذَلِكَ؛ لِلاِخْتِلاَفِ فِي إِبْطَالِهِ الصَّلاَةَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْحَمْدِ لِلْعَاطِسِ، وَالاِسْتِرْجَاعِ مِنْ مُصِيبَةٍ أُخْبِرَ بِهَا وَنَحْوِهِ إِلاَّ أَنَّهُ يُنْدَبُ تَرْكُهُ كَمَا صَرَّحُوا بِجَوَازِ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيل وَالْحَوْقَلَةِ بِقَصْدِ التَّفْهِيمِ فِي أَيِّ مَحَلٍّ مِنَ الصَّلاَةِ؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ كُلَّهَا مَحَلٌّ لِذَلِكَ (1) .
ج - التَّأَوُّهُ وَالأَْنِينُ وَالتَّأْفِيفُ وَالْبُكَاءُ وَالنَّفْخُ وَالتَّنَحْنُحُ:
109 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْنِينَ (وَهُوَ قَوْل: أُهْ بِالْقَصْرِ) وَالتَّأَوُّهَ (وَهُوَ قَوْل: آهٍ بِالْمَدِّ) وَالْبُكَاءَ وَنَحْوَهُ إِنْ ظَهَرَ بِهِ حَرْفَانِ بَطَلَتِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 416، فتح القدير 1 / 347، حاشية الدسوقي 1 / 283، 285، مغني المحتاج 1 / 196، كشاف القناع 1 / 196، مطالب أولي النهى 1 / 537.(27/121)
الصَّلاَةُ. وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْمَرِيضَ الَّذِي لاَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ فَلاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ بِالأَْنِينِ وَالتَّأَوُّهِ وَالتَّأْفِيفِ وَالْبُكَاءِ، وَإِنْ حَصَل حُرُوفٌ لِلضَّرُورَةِ.
قَال أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ الأَْنِينُ مِنْ وَجَعٍ، مِمَّا يُمْكِنُ الاِمْتِنَاعُ عَنْهُ يَقْطَعُ الصَّلاَةَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ لاَ يَقْطَعُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ إِنْ كَانَ الْمَرَضُ خَفِيفًا يَقْطَعُ، وَإِلاَّ فَلاَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ الْقُعُودُ إِلاَّ بِالأَْنِينِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَكِنْ يَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا إِذَا لَمْ يَتَكَلَّفْ إِخْرَاجَ حُرُوفٍ زَائِدَةٍ، كَمَا اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْبُكَاءَ مِنْ خَوْفِ الآْخِرَةِ وَذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَإِنَّهُ لاَ تَفْسُدُ بِهِ الصَّلاَةُ، لِدَلاَلَتِهِ عَلَى الْخُشُوعِ. فَلَوْ أَعْجَبَتْهُ قِرَاءَةُ الإِْمَامِ فَجَعَل يَبْكِي وَيَقُول: بَلَى أَوْ نَعَمْ لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْكَافِي: لأَِنَّ الأَْنِينَ وَنَحْوَهُ إِذَا كَانَ بِذِكْرِهِمَا صَارَ كَأَنَّهُ قَال: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مُصِيبَةٍ صَارَ كَأَنَّهُ يَقُول: أَنَا مُصَابٌ فَعَزُّونِي وَلَوْ صَرَّحَ بِهِ تَفْسُدُ.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبُكَاءُ مِنْ خَوْفِ الآْخِرَةِ أَمْ لاَ فِي بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الأَْنِينِ لأَِجْل وَجَعٍ غَلَبَهُ، وَالْبُكَاءِ لأَِجْل الْخُشُوعِ، سَوَاءٌ كَانَ(27/121)
قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الأَْنِينُ وَالْبُكَاءُ مِنْ غَلَبَةٍ فَيُفَرَّقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ، قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَالْعَمْدُ مُبْطِلٌ مُطْلَقًا قَل أَوْ كَثُرَ، وَالسَّهْوُ يُبْطِل إِنْ كَانَ كَثِيرًا وَيَسْجُدُ لَهُ إِنْ قَل. قَال الدَّرْدِيرُ: وَهَذَا فِي الْبُكَاءِ الْمَمْدُودِ وَهُوَ مَا كَانَ بِصَوْتٍ، وَأَمَّا الْمَقْصُورُ، وَهُوَ مَا كَانَ بِلاَ صَوْتٍ فَلاَ يَضُرُّ وَلَوِ اخْتِيَارًا مَا لَمْ يَكْثُرْ.
وَمِثْل الْمَالِكِيَّةِ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فَصَرَّحُوا بِعَدَمِ بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالْبُكَاءِ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِكَوْنِهِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي وُسْعِهِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ غَلَبَهُ نَحْوُ سُعَالٍ وَعُطَاسٍ وَتَثَاؤُبٍ وَبُكَاءٍ، وَلَوْ بَانَ مِنْهُ حَرْفَانِ، قَال مُهَنَّا: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَتَثَاءَبَ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَسَمِعْتُ لِتَثَاؤُبِهِ: هَاهْ، هَاهْ. وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لاَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْكَلاَمِ. تَقُول: تَثَاءَبْتُ، عَلَى تَفَاعَلْتُ، وَلاَ تَقُل: تَثَاوَبْتُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِدْعَاءُ بُكَاءٍ وَضَحِكٍ لِئَلاَّ يَظْهَرَ حَرْفَانِ فَتَبْطُل صَلاَتُهُ.
110 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ التَّنَحْنُحَ (هُوَ أَنْ يَقُول أَحْ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ) لِغَيْرِ عُذْرٍ مُبْطِلٌ لِلصَّلاَةِ إِنْ ظَهَرَ حَرْفَانِ، فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ نَشَأَ مِنْ طَبْعِهِ، أَوْ غَلَبَهُ فَلاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ. قَال(27/122)
الْحَنَفِيَّةُ: وَمِثْلُهُ مَا لَوْ فَعَلَهُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، كَتَحْسِينِ الصَّوْتِ؛ لأَِنَّهُ يَفْعَلُهُ لإِِصْلاَحِ الْقِرَاءَةِ، وَمِنَ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ مَا لَوْ فَعَلَهُ لِيَهْتَدِيَ إِمَامُهُ إِلَى الصَّوَابِ، أَوْ لِلإِْعْلاَمِ أَنَّهُ فِي الصَّلاَةِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْقِيَاسُ الْفَسَادُ فِي الْكُل إِلاَّ فِي الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لأَِنَّهُ كَلاَمٌ، وَالْكَلاَمُ مُفْسِدٌ عَلَى كُل حَالٍ، وَكَأَنَّهُمْ عَدَلُوا بِذَلِكَ عَنِ الْقِيَاسِ وَصَحَّحُوا عَدَمَ الْفَسَادِ بِهِ إِذَا كَانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ لِوُجُودِ نَصٍّ، وَلَعَلَّهُ مَا فِي الْحِلْيَةِ مِنْ سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: كَانَ لِي مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدْخَلاَنِ: مَدْخَلٌ بِاللَّيْل وَمَدْخَلٌ بِالنَّهَارِ، فَكُنْتُ إِذَا أَتَيْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي يَتَنَحْنَحُ لِي (1) .
وَبِمِثْل هَذَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ فَأَجَازُوا النَّحْنَحَةَ لِحَاجَةٍ وَلَوْ بَانَ حَرْفَانِ. قَال الْمَرُّوذِيُّ: كُنْتُ آتِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَيَتَنَحْنَحُ فِي صَلاَتِهِ لأَِعْلَمَ أَنَّهُ يُصَلِّي.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يُعْذَرُ مِنَ التَّنَحْنُحِ وَغَيْرِهِ: كَالسُّعَال وَالْعُطَاسِ الْيَسِيرِ عُرْفًا لِلْغَلَبَةِ، وَإِنْ ظَهَرَ بِهِ حَرْفَانِ لِعَدَمِ
__________
(1) حديث علي بن أبي طالب - " كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان ". أخرجه ابن ماجه (2 / 122 - ط. الحلبي) وفي إسناده انقطاع بين علي وبين الراوي عنه، كذا في تحفة الأشراف للمزي (7 / 416 - ط. الدار القيمة) .(27/122)
التَّقْصِيرِ، وَكَذَا التَّنَحْنُحُ لِتَعَذُّرِ الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الأَْرْكَانِ الْقَوْلِيَّةِ لِلضَّرُورَةِ، أَمَّا إِذَا كَثُرَ التَّنَحْنُحُ وَنَحْوُهُ لِلْغَلَبَةِ كَأَنْ ظَهَرَ مِنْهُ حَرْفَانِ مِنْ ذَلِكَ وَكَثُرَ فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَبْطُل، وَصَوَّبَ الإِْسْنَوِيُّ عَدَمَ الْبُطْلاَنِ فِي التَّنَحْنُحِ وَالسُّعَال وَالْعُطَاسِ لِلْغَلَبَةِ وَإِنْ كَثُرَتْ إِذْ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهَا.
قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَل الأَْوَّل مَا إِذَا لَمْ يَصِرِ السُّعَال وَنَحْوُهُ مَرَضًا مُلاَزِمًا لَهُ، أَمَّا إِذَا صَارَ السُّعَال وَنَحْوُهُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ كَمَنْ بِهِ سَلَسُ بَوْلٍ وَنَحْوُهُ بَل أَوْلَى. وَلاَ يُعْذَرُ لَوْ تَنَحْنَحَ لِلْجَهْرِ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا؛ لأَِنَّ الْجَهْرَ سُنَّةٌ، لاَ ضَرُورَةَ إِلَى التَّنَحْنُحِ لَهُ. وَفِي مَعْنَى الْجَهْرِ سَائِرُ السُّنَنِ.
قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: لَوْ جَهِل بُطْلاَنَهَا بِالتَّنَحْنُحِ مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِ الْكَلاَمِ فَمَعْذُورٌ لِخَفَاءِ حُكْمِهِ عَلَى الْعَوَامِّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّنَحْنُحَ لِحَاجَةٍ لاَ يُبْطِل الصَّلاَةَ، وَلاَ سُجُودَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ، وَأَمَّا التَّنَحْنُحُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، بَل عَبَثًا فَفِيهِ خِلاَفٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ تَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ - أَيْضًا - وَلاَ سُجُودَ فِيهِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ مَالِكٍ وَأَخَذَ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ وَاخْتَارَهُ الأَْبْهَرِيُّ وَاللَّخْمِيُّ وَخَلِيلٌ.
وَالْقَوْل الثَّانِي لِمَالِكٍ: أَنَّهُ كَالْكَلاَمِ، فَيُفَرَّقُ(27/123)
بَيْنَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ. وَفَسَّرَ ابْنُ عَاشِرٍ الْحَاجَةَ بِضَرُورَةِ الطَّبْعِ، وَقَيَّدُوا عَدَمَ بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالتَّنَحْنُحِ لِغَيْرِ الْحَاجَةِ بِمَا إِذَا قَل وَإِلاَّ أَبْطَل؛ لأَِنَّهُ فِعْلٌ كَثِيرٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلاَةِ.
111 - وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِبُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِتَعَمُّدِ النَّفْخِ بِالْفَمِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ حَرْفٌ. قَال الدُّسُوقِيُّ: وَسَوَاءٌ كَانَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلاً، ظَهَرَ مَعَهُ حَرْفٌ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّهُ كَالْكَلاَمِ فِي الصَّلاَةِ.
وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ. وَقِيل: إِنَّهُ لاَ يُبْطِل مُطْلَقًا. وَقِيل: إِنْ ظَهَرَ مِنْهُ حَرْفٌ أَبْطَل وَإِلاَّ فَلاَ. أَمَّا النَّفْخُ بِالأَْنْفِ فَلاَ تَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ مَا لَمْ يَكْثُرْ أَوْ يَقْصِدُ عَبَثًا. قَال الدُّسُوقِيُّ: فَإِنْ كَانَ عَبَثًا جَرَى عَلَى الأَْفْعَال الْكَثِيرَةِ؛ لأَِنَّهُ فِعْلٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلاَةِ.
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ بُطْلاَنَ الصَّلاَةِ بِالنَّفْخِ فِيمَا إِذَا بَانَ حَرْفَانِ لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - " مَنْ نَفَخَ فِي صَلاَتِهِ فَقَدْ تَكَلَّمَ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1) -.
د - الضَّحِكُ:
112 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالضَّحِكِ إِنْ كَانَ قَهْقَهَةً، وَلَوْ لَمْ تَبِنْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 415، حاشية الدسوقي 1 / 281، وما بعدها، 284، 289، مغني المحتاج 1 / 196، مطالب أولي النهى 1 / 520، 521.(27/123)
حُرُوفٌ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْقَهْقَهَةُ تَنْقُضُ الصَّلاَةَ وَلاَ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ (1) وَلأَِنَّهُ تَعَمَّدَ فِيهَا مَا يُنَافِيهَا، أَشْبَهَ خِطَابَ الآْدَمِيِّ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَسَوَاءٌ قَلَّتْ أَمْ كَثُرَتْ، وَسَوَاءٌ وَقَعَتْ عَمْدًا أَمْ نِسْيَانًا - لِكَوْنِهِ فِي الصَّلاَةِ - أَوْ غَلَبَةً، كَأَنْ يَتَعَمَّدَ النَّظَرَ فِي صَلاَتِهِ أَوْ الاِسْتِمَاعَ لِمَا يُضْحِكُ فَيَغْلِبُهُ الضَّحِكُ فِيهَا.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَالْقَهْقَهَةُ اصْطِلاَحًا:
مَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لَهُ وَلِجِيرَانِهِ بَدَتْ أَسْنَانُهُ أَوْ لاَ، وَإِنْ عَرِيَ عَنْ ظُهُورِ الْقَافِ وَالْهَاءِ أَوْ أَحَدِهِمَا، كَمَا صَرَّحُوا بِبُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالضَّحِكِ دُونَ قَهْقَهَةٍ، وَهُوَ مَا كَانَ مَسْمُوعًا لَهُ فَقَطْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ بِالضَّحِكِ حَرْفَانِ بَطَلَتِ الصَّلاَةُ وَإِلاَّ فَلاَ (2) ، وَأَمَّا التَّبَسُّمُ فَلاَ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِهِ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَسَّمَ فِيهَا فَلَمَّا سَلَّمَ
__________
(1) حديث جابر: " القهقهة تنقض الصلاة ". أورده الدارقطني (1 / 172 - شركة الطباعة) بلفظ مقارب، وصوب وقفه على جابر بن عبد الله.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 97، حاشية الدسوقي 1 / 286، مغني المحتاج 1 / 195، مطالب أولي النهى 1 / 520، 538.(27/124)
قَال: مَرَّ بِي مِيكَائِيل فَضَحِكَ لِي فَتَبَسَّمْتُ لَهُ (1) .
هـ - الأَْكْل وَالشُّرْبُ:
113 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالأَْكْل وَالشُّرْبِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ سِمْسِمَةً نَاسِيًا. وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ وَكَانَ دُونَ الْحِمَّصَةِ فَإِنَّهُ لاَ تَفْسُدُ بِهِ الصَّلاَةُ إِذَا ابْتَلَعَهُ، وَصَرَّحُوا بِفَسَادِ الصَّلاَةِ بِالْمَضْغِ إِنْ كَثُرَ، وَتَقْدِيرُهُ بِالثَّلاَثِ الْمُتَوَالِيَاتِ. وَكَذَا تَفْسُدُ بِالسُّكَّرِ إِذَا كَانَ فِي فِيهِ يَبْتَلِعُ ذَوْبَهُ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمُفْسِدَ: إِمَّا الْمَضْغُ، أَوْ وُصُول عَيْنِ الْمَأْكُول إِلَى الْجَوْفِ بِخِلاَفِ الطَّعْمِ. قَال فِي الْبَحْرِ عَنِ الْخُلاَصَةِ: وَلَوْ أَكَل شَيْئًا مِنَ الْحَلاَوَةِ وَابْتَلَعَ عَيْنَهَا فَدَخَل فِي الصَّلاَةِ فَوَجَدَ حَلاَوَتَهَا فِي فِيهِ وَابْتَلَعَهَا لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ، وَلَوْ أَدْخَل الْفَايْنَذَ أَوِ السُّكَّرَ فِي فِيهِ، وَلَمْ يَمْضُغْهُ، لَكِنْ يُصَلِّي وَالْحَلاَوَةُ تَصِل إِلَى جَوْفِهِ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ عَمْدِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم تبسم في الصلاة ". أخرجه الدارقطني (1 / 75 شركة الطباعة الفنية) من حديث جابر بن عبد الله بن دياب، وأخرجه كذلك الطبراني في المعجم الكبير مختصرًا (2 / 205 ط. وزارة الأوقاف العراقية) وأورده الهيثمي في المجمع (2 / 82 ط. القدسي) ، وقال: فيه الوازع وهو ضعيف.(27/124)
وَسَهْوِهِ، فَإِنْ أَكَل أَوْ شَرِبَ الْمُصَلِّي عَمْدًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا إِنْ أَكَل أَوْ شَرِبَ سَهْوًا لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ، وَانْجَبَرَ بِسُجُودِ السَّهْوِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالأَْكْل وَلَوْ كَانَ قَلِيلاً، وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَيْهِ؛ لِشِدَّةِ مُنَافَاتِهِ لِلصَّلاَةِ مَعَ نُدْرَتِهِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ: النَّاسِيَ أَنَّهُ فِي الصَّلاَةِ، وَالْجَاهِل بِالتَّحْرِيمِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالإِْسْلاَمِ، أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ فَلاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ بِالأَْكْل إِلاَّ إِذَا كَثُرَ عُرْفًا، وَلاَ تَبْطُل مَا لَوْ جَرَى رِيقُهُ بِبَاقِي طَعَامٍ بَيْنَ أَسْنَانِهِ وَعَجَزَ عَنْ تَمْيِيزِهِ وَمَجِّهِ كَمَا فِي الصَّوْمِ.
وَصَرَّحُوا: بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِفَمِهِ سُكَّرَةٌ فَذَابَتْ فَبَلَعَ ذَوْبَهَا عَمْدًا، مَعَ عِلْمِهِ بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ تَقْصِيرِهِ فِي التَّعَلُّمِ فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَبْطُل. كَمَا صَرَّحُوا بِبُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالْمَضْغِ إِنْ كَثُرَ، وَإِنْ لَمْ يَصِل إِلَى جَوْفِهِ شَيْءٌ.
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ صَلاَةِ الْفَرْضِ وَالنَّفَل، فَصَلاَةُ الْفَرْضِ تَبْطُل بِالأَْكْل وَالشُّرْبِ عَمْدًا، قَل الأَْكْل أَوِ الشُّرْبُ أَوْ كَثُرَ، لأَِنَّهُ يُنَافِي الصَّلاَةَ. وَأَمَّا صَلاَةُ النَّفْل فَلاَ تَبْطُل بِالأَْكْل وَالشَّرَابِ إِلاَّ إِذَا كَثُرَ عُرْفًا لِقَطْعِ الْمُوَالاَةِ بَيْنَ الأَْرْكَانِ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَهَذَا رِوَايَةٌ، وَعَنْهُ أَنَّ(27/125)
النَّفَل كَالْفَرْضِ، قَال فِي الْمُبْدِعِ وَبِهِ قَال أَكْثَرُهُمْ؛ لأَِنَّ مَا أَبْطَل الْفَرْضَ أَبْطَل النَّفَل، كَسَائِرِ الْمُبْطِلاَتِ.
وَكُل مَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا كَانَ الأَْكْل وَالشُّرْبُ عَمْدًا، فَإِنْ كَانَ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً فَإِنَّهُ لاَ يُبْطِل الصَّلاَةَ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلاً إِذَا كَانَ يَسِيرًا؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ وَلأَِنَّ تَرْكَهُمَا عِمَادُ الصَّوْمِ، وَرُكْنُهُ الأَْصْلِيُّ، فَإِذَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي حَالَةِ السَّهْوِ فِي الصِّيَامِ فَالصَّلاَةُ أَوْلَى.
قَالُوا: وَلاَ بَأْسَ بِبَلْعِ مَا بَقِيَ فِي فِيهِ مِنْ بَقَايَا الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ مَضْغٍ، أَوْ بَقِيَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ مِنْ بَقَايَا الطَّعَامِ بِلاَ مَضْغٍ مِمَّا يَجْرِي بِهِ رِيقُهُ وَهُوَ الْيَسِيرُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يُسَمَّى أَكْلاً، وَأَمَّا مَا لاَ يَجْرِي بِهِ رِيقُهُ بَل يَجْرِي بِنَفْسِهِ - وَهُوَ مَا لَهُ جِرْمٌ - فَإِنَّ الصَّلاَةَ تَبْطُل بِبَلْعِهِ لِعَدَمِ مَشَقَّةِ الاِحْتِرَازِ.
قَال الْمَجْدُ: إِذَا اقْتَلَعَ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ مَا لَهُ جِرْمٌ وَابْتَلَعَهُ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ عِنْدَنَا، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ بَلْعَ مَا ذَابَ بِفِيهِ مِنْ سُكَّرٍ وَنَحْوِهِ كَالأَْكْل (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 418، حاشية الدسوقي 1 / 289، مواهب الجليل 2 / 36، الخرشي على خليل 1 / 330، نهاية المحتاج 2 / 52، ومغني المحتاج 1 / 200، شرح روض الطالب 1 / 185، كشاف القناع 1 / 398.(27/125)
و - الْعَمَل الْكَثِيرُ:
114 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالْعَمَل الْكَثِيرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّهِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَمَل الْكَثِيرَ الَّذِي تَبْطُل الصَّلاَةُ بِهِ هُوَ مَا لاَ يَشُكُّ النَّاظِرُ فِي فَاعِلِهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلاَةِ. قَالُوا: فَإِنْ شَكَّ أَنَّهُ فِيهَا أَمْ لاَ فَقَلِيلٌ، وَهَذَا هُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ، وَقَيَّدُوا الْعَمَل الْكَثِيرَ أَلاَّ يَكُونَ لإِِصْلاَحِهَا لِيَخْرُجَ بِهِ الْوُضُوءُ وَالْمَشْيُ لِسَبْقِ الْحَدَثِ فَإِنَّهُمَا لاَ يُفْسِدَانِهَا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ: وَلاَ فِعْل لِعُذْرٍ احْتِرَازًا عَنْ قَتْل الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ بِعَمَلٍ كَثِيرٍ عَلَى قَوْلٍ، إِلاَّ أَنْ يُقَال: إِنَّهُ لإِِصْلاَحِهَا؛ لأَِنَّ تَرْكَهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى إِفْسَادِهَا.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، فَالْعَمَل الْكَثِيرُ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا يُخَيَّل لِلنَّاظِرِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي صَلاَةٍ، وَالسَّهْوُ فِي ذَلِكَ كَالْعَمْدِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي مَعْرِفَةِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ هُوَ الْعُرْفُ، فَمَا يَعُدُّهُ النَّاسُ قَلِيلاً فَقَلِيلٌ، وَمَا يَعُدُّونَهُ كَثِيرًا فَكَثِيرٌ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: فَالْخُطْوَتَانِ المُتَوَّسِّطَتان، وَالضَّرْبَتَانِ، وَنَحْوِهِمَا قَلِيلٌ، وَالثَّلاَثُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ غَيْرُهُ كَثِيرٌ إِنْ تَوَالَتْ. سَوَاءٌ أَكَانَتْ(27/126)
مِنْ جِنْسِ الْخُطُوَاتِ، أَمْ أَجْنَاسٌ: كَخُطْوَةٍ، وَضَرْبَةٍ، وَخَلْعِ نَعْلٍ. وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْخُطُوَاتُ الثَّلاَثُ بِقَدْرِ خُطْوَةٍ وَاحِدَةٍ أَمْ لاَ. وَصَرَّحُوا بِبُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالْفَعْلَةِ الْفَاحِشَةِ؛ كَالْوَثْبَةِ الْفَاحِشَةِ لِمُنَافَاتِهَا لِلصَّلاَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَالأَْفْعَال الْعَمْدِيَّةُ عِنْدَهُمْ تُبْطِل الصَّلاَةَ وَلَوْ كَانَتْ قَلِيلَةً، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ جِنْسِ أَفْعَال الصَّلاَةِ أَمْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا. أَمَّا السَّهْوُ فَإِنْ كَانَتِ الأَْفْعَال مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلاَةِ فَتَبْطُل بِكَثِيرِهَا؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ لاَ تَدْعُو إِلَيْهَا، أَمَّا إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا كَصَلاَةِ شِدَّةِ الْخَوْفِ فَلاَ تَضُرُّ وَلَوْ كَثُرَتْ. أَمَّا إِذَا كَانَتِ الأَْفْعَال مِنْ جِنْسِهَا - كَزِيَادَةِ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ سَهْوًا - فَلاَ تَبْطُل (1) ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَلَمْ يُعِدْهَا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَتَقَدَّرُ الْيَسِيرُ بِثَلاَثٍ وَلاَ لِغَيْرِهَا مِنَ الْعَدَدِ، بَل الْيَسِيرُ مَا عَدَّهُ الْعُرْفُ يَسِيرًا؛ لأَِنَّهُ لاَ تَوْقِيفَ فِيهِ فَيُرْجَعُ لِلْعُرْفِ كَالْقَبْضِ وَالْحِرْزِ. فَإِنْ طَال عُرْفًا مَا فَعَل فِيهَا، وَكَانَ ذَلِكَ الْفِعْل مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا غَيْرَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 419، بلغة السالك 1 / 126 ط. مصطفى الحلبي 1952، مغني المحتاج 1 / 198، كشاف القناع 1 / 377، مطالب أولي النهى 1 / 539.
(2) حديث: " صلى النبي صلى الله عليه وسلم خمسًا وسجد للسهو. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 94 - ط. السلفية) من حديث عبد الله بن مسعود.(27/126)
مُتَفَرِّقٍ أَبْطَلَهَا عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً مَا لَمْ تَكُنْ ضَرُورَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ ضَرُورَةً، كَحَالَةِ خَوْفٍ، وَهَرَبٍ مِنْ عَدُوٍّ وَنَحْوِهِ كَسَيْلٍ لَمْ تَبْطُل، وَعَدَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنَ الضَّرُورَةِ الْحِكَّةَ الَّتِي لاَ يَصْبِرُ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْعَمَل الْمُتَفَرِّقُ فَلاَ يُبْطِل الصَّلاَةَ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَ إِذَا قَامَ حَمَل أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ، وَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا (1) وَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَتَكَرَّرَ صُعُودُهُ وَنُزُولُهُ عَنْهُ (2) .
ز - تَخَلُّفُ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ:
115 - لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مُسْتَوْفِيَةً شُرُوطَهَا. فَإِذَا تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا: كَالطَّهَارَةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ بَطَلَتْ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَرَأَ مَا يُنَافِيهَا كَمَا لَوْ نَزَلَتْ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ وَهُوَ يُصَلِّي، أَوْ تَذَكَّرَ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ. . . وَالتَّفْصِيل كَمَا يَلِي:
أَوَّلاً: تَخَلُّفُ شَرْطِ طَهَارَةِ الْحَدَثِ:
116 - إِذَا أَحْدَثَ الْمُصَلِّي أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ، أَوْ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمامة بنت زينب في الصلاة ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 590 - ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 386 - ط. الحلبي) من حديث أبي قتادة واللفظ لمسلم.
(2) حديث أنه صلى الله عليه وسلم: " صلى على المنبر. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 486 - ط. السلفية) من حديث سهل بن سعد.(27/127)
كَانَ مُحْدِثًا قَبْل الصَّلاَةِ وَتَذَكَّرَ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّ صَلاَتَهُ لاَ تَصِحُّ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
لاَ تُقْبَل صَلاَةٌ بِغَيْرِ طَهُورٍ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (حَدَث) ف 23 (17 124) (وَرُعَاف) ف 5 (22 265) .
ثَانِيًا: تَخَلُّفُ شَرْطِ الطَّهَارَةِ مِنَ النَّجَاسَةِ:
117 - طَهَارَةُ بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ وَمَكَانِهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ.
وَسَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي فِقْرَةِ (10) .
صَلاَةُ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ:
118 - الطَّهُورَانِ هُمَا: الْمَاءُ وَالصَّعِيدُ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ فَاقِدِهِمَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى وُجُوبِ أَدَاءِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ فَقَطْ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الصَّلاَةِ عَلَى فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (فَاقِدُ الطَّهُورَيْنِ) .
صَلاَةُ الْعَاجِزِ عَنْ ثَوْبٍ طَاهِرٍ وَمَكَانٍ طَاهِرٍ:
119 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صَلاَةِ الْعَاجِزِ عَنْ ثَوْبٍ طَاهِرٍ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ
__________
(1) حديث: " لا تقبل صلاة بغير طهور ". أخرجه مسلم (1 / 204 - ط. الحلبي) .(27/127)
يُصَلِّيَ بِالثَّوْبِ النَّجَسِ أَوْ عَارِيًا مِنْ غَيْرِ إِعَادَةٍ، وَالصَّلاَةُ بِالثَّوْبِ النَّجَسِ حِينَئِذٍ أَفْضَل؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ الصَّلاَةِ حَالَةَ الاِخْتِيَارِ. فَيَسْتَوِيَانِ فِي حُكْمِ الصَّلاَةِ. وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لاَ تُجْزِئُهُ الصَّلاَةُ إِلاَّ فِي الثَّوْبِ النَّجَسِ؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ فِيهِ أَقْرَبُ إِلَى الْجَوَازِ مِنَ الصَّلاَةِ عُرْيَانًا، فَإِنَّ الْقَلِيل مِنَ النَّجَاسَةِ لاَ يَمْنَعُ الْجَوَازَ، وَكَذَلِكَ الْكَثِيرُ فِي قَوْل بَعْضِ الْعُلَمَاءِ. قَال عَطَاءٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَنْ صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ سَبْعُونَ قَطْرَةً مِنْ دَمٍ جَازَتْ صَلاَتُهُ. وَلَمْ يَقُل أَحَدٌ بِجَوَازِ الصَّلاَةِ عُرْيَانًا فِي حَال الاِخْتِيَارِ. قَال فِي الأَْسْرَارِ: وَقَوْل مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَفْضَل.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ ثَوْبٍ طَاهِرٍ يُصَلِّي فِي ثَوْبِهِ النَّجَسِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُعِيدُ الصَّلاَةَ إِذَا وَجَدَ غَيْرَهُ أَوْ مَا يُطَهِّرُ بِهِ أَبَدًا. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ فَقَطْ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ (1) .
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَاجِزِ عَنْ مَكَان طَاهِرٍ، كَأَنْ يُحْبَسَ فِي مَكَان نَجَسٍ. فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 377، فتح القدير 1 / 229، حاشية الدسوقي 1 / 217، المجموع 3 / 142، الإنصاف 1 / 460.(27/128)
وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ وُجُودِ النَّجَاسَةِ وَلاَ يَتْرُكَ الصَّلاَةَ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (1) . قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: وَيَجِبُ أَنْ يَتَجَافَى عَنِ النَّجَاسَةِ بِيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَغَيْرِهِمَا الْقَدْرَ الْمُمْكِنَ، وَيَجِبُ أَنْ يَنْحَنِيَ لِلسُّجُودِ إِلَى الْقَدْرِ الَّذِي لَوْ زَادَ عَلَيْهِ لاَقَى النَّجَاسَةَ. زَادَ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَى قَدَمَيْهِ. وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: بِوُجُوبِ الإِْعَادَةِ عَلَيْهِ أَبَدًا. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ وَجَدَ مَكَانًا يَابِسًا سَجَدَ عَلَيْهِ وَإِلاَّ فَيُومِئُ قَائِمًا (2) .
ثَالِثًا: تَخَلُّفُ شَرْطِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ:
120 - سَتْرُ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ إِلاَّ بِسَتْرِهَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بُطْلاَنِ صَلاَةِ مَنْ كَشَفَ عَوْرَتَهُ فِيهَا قَصْدًا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوِ انْكَشَفَتْ بِلاَ قَصْدٍ مَتَى تَبْطُل صَلاَتُهُ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ تَبْطُل لَوِ
__________
(1) حديث: " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ". أخرجه البخاري (الفتح 13 / 251 - ط. السلفية) ، ومسلم (2 / 975 ط. الحلبي) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 168، جواهر الإكليل 1 / 11، المجموع 3 / 154، الإنصاف 1 / 460، 462.(27/128)
انْكَشَفَ رُبُعُ عُضْوٍ قَدْرُ أَدَاءِ رُكْنٍ بِلاَ صُنْعِهِ.
وَيَدْخُل فِي أَدَاءِ الرُّكْنِ سُنَّتُهُ أَيْضًا. وَهَذَا قَوْل أَبِي يُوسُفَ. وَاعْتَبَرَ مُحَمَّدٌ أَدَاءَ الرُّكْنِ حَقِيقَةً.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالأَْوَّل الْمُخْتَارُ لِلاِحْتِيَاطِ. وَعَلَيْهِ لَوِ انْكَشَفَ رُبُعُ عُضْوٍ - أَقَل مِنْ أَدَاءِ رُكْنٍ - فَلاَ يَفْسُدُ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّ الاِنْكِشَافَ الْكَثِيرَ فِي الزَّمَانِ الْقَلِيل عَفْوٌ كَالاِنْكِشَافِ الْقَلِيل فِي الزَّمَنِ الْكَثِيرِ. وَأَمَّا إِذَا أَدَّى مَعَ الاِنْكِشَافِ رُكْنًا فَإِنَّهَا تَفْسُدُ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الاِنْكِشَافِ الْحَادِثِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ. أَمَّا الْمُقَارِنُ لاِبْتِدَائِهَا فَإِنَّهُ يَمْنَعُ انْعِقَادَهَا مُطْلَقًا اتِّفَاقًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَكْشُوفُ رُبُعَ الْعُضْوِ.
وَلَمْ يُقَيِّدِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الْبُطْلاَنَ بِقُيُودٍ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ مُطْلَقَ الاِنْكِشَافِ يُبْطِل الصَّلاَةَ.
قَال النَّوَوِيُّ: فَإِنِ انْكَشَفَ شَيْءٌ مِنْ عَوْرَةِ الْمُصَلِّي لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ سَوَاءٌ أَكَثُرَ الْمُنْكَشِفُ أَمْ قَل، وَلَوْ كَانَ أَدْنَى جُزْءٍ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَسْتُرْهَا فِي الْحَال.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَضُرُّ انْكِشَافُ يَسِيرٍ مِنَ الْعَوْرَةِ بِلاَ قَصْدٍ، وَلَوْ كَانَ زَمَنُ الاِنْكِشَافِ طَوِيلاً لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ(27/129)
الْجَرْمِيِّ قَال: انْطَلَقَ أَبِي وَافِدًا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ فَعَلَّمَهُمُ الصَّلاَةَ، فَقَال: يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ، وَكُنْتُ أَقْرَأَهُمْ لِمَا كُنْتُ أَحْفَظُ، فَقَدَّمُونِي، فَكُنْتُ أَؤُمُّهُمْ وَعَلَيَّ بُرْدَةٌ لِي صَغِيرَةٌ صَفْرَاءُ، فَكُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ انْكَشَفَتْ عَنِّي. فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ النِّسَاءِ: وَارُوا عَنَّا عَوْرَةَ قَارِئِكُمْ. فَاشْتَرُوا لِي قَمِيصًا عُمَانِيًّا فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ بَعْدَ الإِْسْلاَمِ فَرَحِي بِهِ (1) وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَلاَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.
وَالْيَسِيرُ هُوَ الَّذِي لاَ يَفْحُشُ فِي النَّظَرِ عُرْفًا. قَال الْبُهُوتِيُّ: وَيَخْتَلِفُ الْفُحْشُ بِحَسَبِ الْمُنْكَشِفِ، فَيَفْحُشُ مِنَ السَّوْأَةِ مَا لاَ يَفْحُشُ مِنْ غَيْرِهَا. وَكَذَا لاَ تَبْطُل الصَّلاَةُ إِنِ انْكَشَفَ مِنَ الْعَوْرَةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ فِي زَمَنٍ قَصِيرٍ، فَلَوْ أَطَارَتِ الرِّيحُ ثَوْبَهُ عَنْ عَوْرَتِهِ، فَبَدَا مِنْهَا مَا لَمْ يَعْفُ عَنْهُ لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ، وَكَذَا لَوْ بَدَتِ الْعَوْرَةُ كُلُّهَا فَأَعَادَ الثَّوْبَ سَرِيعًا بِلاَ عَمَلٍ كَثِيرٍ فَإِنَّهَا لاَ تَبْطُل، لِقِصَرِ مُدَّتِهِ أَشْبَهَ الْيَسِيرَ فِي الزَّمَنِ الطَّوِيل. وَكَذَا تَبْطُل لَوْ فَحُشَ وَطَال الزَّمَنُ، وَلَوْ بِلاَ قَصْدٍ (2) .
__________
(1) حديث عمرو بن سلمة: " انطلق أبي وافدًا ". أخرجه البخاري (الفتح 8 / 22 - 23 ط. السلفية) ، وأبو داود (1 / 394 - تحقيق عزت عبيد دعاس) واللفظ لأبي داود.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 273، والكافي 1 / 238 - ط. مكتبة الرياض 1978 م، مواهب الجليل 1 / 398، المجموع 3 / 166، ومغني المحتاج 1 / 188، كشاف القناع 1 / 269.(27/129)
صَلاَةُ الْعَاجِزِ عَنْ سَاتِرٍ لِلْعَوْرَةِ:
121 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَسْقُطُ عَمَّنْ عَدِمَ السَّاتِرَ لِلْعَوْرَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ صَلاَتِهِ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا، فَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَالأَْفْضَل أَنْ يُومِئَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: " أَنَّ قَوْمًا انْكَسَرَتْ بِهِمْ مَرْكَبُهُمْ، فَخَرَجُوا عُرَاةً. قَال: يُصَلُّونَ جُلُوسًا، يُومِئُونَ إِيمَاءً بِرُءُوسِهِمْ فَإِنْ رَكَعَ وَسَجَدَ جَازَ لَهُ ذَلِكَ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَكُونُ قُعُودُهُ كَمَا فِي الصَّلاَةِ فَيَفْتَرِشُ الرَّجُل وَتَتَوَرَّكُ الْمَرْأَةُ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَتَضَامُّ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقِيمَ إِحْدَى فَخِذَيْهِ عَلَى الأُْخْرَى؛ لأَِنَّهُ أَقَل كَشْفًا.
وَإِنْ صَلَّى قَائِمًا فَإِنَّهُ يُومِئُ كَذَلِكَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ السَّتْرَ أَهَمُّ مِنْ أَدَاءِ الأَْرْكَانِ، لأَِنَّهُ فَرْضٌ فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجِهَا، وَالأَْرْكَانُ فَرَائِضُ الصَّلاَةِ لاَ غَيْرُ، وَقَدْ أَتَى بِبَدَلِهَا، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا صَلَّى قَائِمًا لَزِمَهُ أَنْ يَرْكَعَ وَيَسْجُدَ بِالأَْرْضِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُصَلِّي قَائِمًا، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ. وَتَجِبُ عَلَيْهِ الإِْعَادَةُ فِي الْوَقْتِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَال(27/130)
الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ عَادِمُ السِّتْرِ إِلاَّ ثَوْبَ حَرِيرٍ، أَوْ ثَوْبًا نَجِسًا وَجَبَ عَلَيْهِ لُبْسُهُ، وَلاَ يُصَلِّي عَارِيًا؛ لأَِنَّ فَرْضَ السَّتْرِ أَقْوَى مِنْ مَنْعِ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالنَّجِسِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَيُعِيدُ فِي الْوَقْتِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ. لاَ يُعِيدُ إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ حَرِيرٍ؛ لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِي لُبْسِهِ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال كَالْحِكَّةِ وَالْبَرْدِ، وَيُعِيدُ إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ.
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الثَّوْبِ الْحَرِيرِ وَالثَّوْبِ النَّجِسِ، فَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُصَلِّي إِلاَّ ثَوْبًا نَجِسًا، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَسْلِهِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَارِيًا وَلاَ يَلْبَسُهُ، وَإِذَا وَجَدَ حَرِيرًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ طَاهِرٌ يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِهِ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ فِي غَيْرِ مَحَل الضَّرُورَةِ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الإِْعَادَةُ إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ التَّطَيُّنِ إِذَا لَمْ يَجِدْ إِلاَّ الطِّينَ، كَمَا أَنَّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاً فِيمَا إِذَا لَمْ يَجِدْ إِلاَّ مَا يَسْتُرُ بِهِ أَحَدَ فَرْجَيْهِ أَيُّهُمَا يَسْتُرُ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عَوْرَة) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 275، حاشية الدسوقي 1 / 216، الكافي 1 / 239، المجموع 3 / 142، 182، كشاف القناع 1 / 270، 272.(27/130)
رَابِعًا: تَخَلُّفُ شَرْطِ الْوَقْتِ:
122 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ صَلَّى قَبْل دُخُول الْوَقْتِ فَإِنَّ صَلاَتَهُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ إِذَا دَخَل الْوَقْتُ. أَمَّا لَوْ خَرَجَ وَقْتُ الصَّلاَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ وَلاَ تَسْقُطُ الصَّلاَةُ بِخُرُوجِ وَقْتِهَا، وَتَكُونُ صَلاَتُهُ حِينَئِذٍ قَضَاءً. مَعَ تَرَتُّبِ الإِْثْمِ عَلَيْهِ لَوْ تَرَكَ الصَّلاَةَ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا عَمْدًا.
وَقَدْ أَجَازَ الشَّارِعُ أَدَاءَ الصَّلاَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا فِي حَالاَتٍ مُعَيَّنَةٍ: كَالْجَمْعِ فِي السَّفَرِ وَالْمَطَرِ وَالْمَرَضِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ الصَّلاَةِ لَوْ وَقَعَ بَعْضُهَا فِي الْوَقْتِ وَبَعْضُهَا خَارِجَهُ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ دَخَل فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ أَوِ الْعَصْرِ أَوْ غَيْرِهَا وَخَرَجَ الْوَقْتُ وَهُوَ فِيهَا هَل تَبْطُل صَلاَتُهُ أَمْ لاَ؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ صَلاَتَهُ صَحِيحَةٌ سَوَاءٌ صَلَّى فِي الْوَقْتِ رَكْعَةً أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ، هَل تَكُونُ أَدَاءً أَمْ قَضَاءً؟ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْل أَنْ(27/131)
تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ (1) وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةُ الْجُمْهُورَ فِيمَا تَقَدَّمَ فِيمَا سِوَى صَلاَةِ الصُّبْحِ وَحْدَهَا فَإِنَّهَا لاَ تُدْرَكُ عِنْدَهُمْ إِلاَّ بِأَدَائِهَا كُلِّهَا قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِطُرُوءِ الْوَقْتِ النَّاقِصِ عَلَى الْوَقْتِ الْكَامِل وَلِذَا عَدُّوا ذَلِكَ مِنْ مُبْطِلاَتِ الصَّلاَةِ (2) .
خَامِسًا: تَخَلُّفُ شَرْطِ الاِسْتِقْبَال:
123 - سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: اسْتِقْبَال ف 10، 11 (4 63) .
ح - تَرْكُ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ:
124 - تَرْكُ الرُّكْنِ فِي الصَّلاَةِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَمْدًا، أَوْ سَهْوًا، أَوْ جَهْلاً، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ كُلٍّ. أَمَّا تَرْكُهُ عَمْدًا: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ عَمْدًا فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَبْطُل وَلاَ تَصِحُّ مِنْهُ. وَأَمَّا تَرْكُهُ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إِنْ أَمْكَنَ تَدَارُكُهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَدَارُكُهُ فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَفْسُدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: تُلْغَى الرَّكْعَةُ الَّتِي تَرَكَ مِنْهَا الرُّكْنَ فَقَطْ وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الرُّكْنُ الْمَتْرُوكُ غَيْرَ
__________
(1) حديث: " من أدرك من الصبح ركعة. . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 56 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 424 - ط. الحلبي) .
(2) الموسوعة مصطلح أداء ف 8، مراقي الفلاح 1 / 180، حاشية الدسوقي 1 / 182، الخرشي على خليل 1 / 219، المجموع 3 / 47، كشاف القناع 1 / 257.(27/131)
النِّيَّةِ وَتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، فَإِنْ كَانَا هُمَا اسْتَأْنَفَ الصَّلاَةَ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُصَلٍّ (1) . (ر: سُجُودُ السَّهْوِ) .
صَلاَةُ الاِسْتِخَارَةِ
انْظُرْ: اسْتِخَارَة
صَلاَةُ الاِسْتِسْقَاءِ
انْظُرْ: اسْتِسْقَاء.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 297، 318، بدائع الصنائع 1 / 113، 167، 168، 170، حاشية الدسوقي 1 / 239، 279، شرح روض الطالب 1 / 187، 188، كشاف القناع 1 / 385، 402.(27/132)
صَلاَةُ الإِْشْرَاقِ
التَّعْرِيفُ:
1 - سَبَقَ تَعْرِيفُ الصَّلاَةِ فِي بَحْثِ صَلاَةٌ.
وَأَمَّا الإِْشْرَاقُ: فَهُوَ مِنْ شَرِقَ، يُقَال:
شَرِقَتِ الشَّمْسُ شُرُوقًا، وَشَرْقًا أَيْضًا: طَلَعَتْ، وَأَشْرَقَتْ - بِالأَْلِفِ - أَضَاءَتْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُمَا بِمَعْنًى (1) .
وَصَلاَةُ الإِْشْرَاقِ - بِهَذَا الاِسْمِ - ذَكَرَهَا بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَا جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِمْ، وَذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلاَمِ عَلَى صَلاَةِ الضُّحَى.
فَفِي مِنْهَاجِ الطَّالِبِينَ وَشَرْحِهِ لِلْمَحَلِّيِّ قَال:
مِنَ النَّوَافِل الَّتِي لاَ يُسَنُّ لَهَا الْجَمَاعَةُ:
الضُّحَى: وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ، وَأَكْثَرُهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَيُسَلِّمُ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ. قَال الْقَلْيُوبِيُّ تَعْلِيقًا عَلَى قَوْلِهِ: (الضُّحَى) هِيَ صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ وَصَلاَةُ الإِْشْرَاقِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ شَيْخِنَا الرَّمْلِيِّ وَشَيْخِنَا الزِّيَادِيِّ، وَقِيل:
كَمَا فِي الإِْحْيَاءِ: إِنَّهَا (أَيْ صَلاَةُ الإِْشْرَاقِ) صَلاَةُ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ.
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحاح.(27/132)
وَفِي عَمِيرَةَ قَال الإِْسْنَوِيُّ: ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. أَنَّ صَلاَةَ الضُّحَى هِيَ صَلاَةُ الإِْشْرَاقِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِْشْرَاقِ} (1) أَيْ يُصَلِّينَ، لَكِنْ فِي الإِْحْيَاءِ أَنَّهَا غَيْرُهَا، وَأَنَّ صَلاَةَ الإِْشْرَاقِ رَكْعَتَانِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عِنْدَ زَوَال وَقْتِ الْكَرَاهَةِ (2) .
__________
(1) سورة ص الآية 18.
(2) القليوبي وعميرة 1 / 214 - 215.(27/133)
صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّلاَةُ، يُنْظَرُ تَعْرِيفُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة) .
وَالأَْوَّابُونَ جَمْعُ أَوَّابٍ، وَفِي اللُّغَةِ: آبَ إِلَى اللَّهِ رَجَعَ عَنْ ذَنْبِهِ وَتَابَ.
وَالأَْوَّابُ: الرَّجَّاعُ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى التَّوْبَةِ وَالطَّاعَةِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلْكَلِمَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
سُمِّيَتْ بِصَلاَةِ الأَْوَّابِينَ لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَم مَرْفُوعًا: صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَال (2)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلاَثٍ لَسْتُ بِتَارِكِهِنَّ: أَنْ لاَ أَنَامَ إِلاَّ عَلَى وِتْرٍ، وَأَنْ لاَ أَدَعَ رَكْعَتَيِ الضُّحَى فَإِنَّهَا صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ،
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط وابن عابدين (1 / 453) .
(2) المجموع شرح المهذب (4 / 36) ، وشرح الآبي على مسلم (2 / 382) ، وحديث: " صلاة الأوابين "، أخرجه مسلم (1 / 516 - ط. الحلبي) .(27/133)
وَصِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُل شَهْرٍ (1) .
وَقْتُ صَلاَةِ الأَْوَّابِينَ وَحُكْمُهَا:
2 - قَال الْجُمْهُورُ: هِيَ صَلاَةُ الضُّحَى، وَالأَْفْضَل فِعْلُهَا بَعْدَ رُبُعِ النَّهَارِ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَال (2) فَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ هُوَ الَّذِي أَعْطَاهَا هَذِهِ التَّسْمِيَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ وَاضِحًا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ وَفِيهِ. . . وَأَنْ لاَ أَدَعَ رَكْعَتَيِ الضُّحَى فَإِنَّهَا صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ.
وَلِذَلِكَ يَقُول الْفُقَهَاءُ: مَنْ أَتَى بِهَا (أَيْ بِصَلاَةِ الضُّحَى) كَانَ مِنَ الأَْوَّابِينَ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل أَحْكَامِ صَلاَةِ الضُّحَى فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ الضُّحَى) .
3 - وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى التَّنَفُّل بَعْدَ الْمَغْرِبِ.
فَقَالُوا: يُسْتَحَبُّ أَدَاءُ سِتِّ رَكَعَاتٍ بَعْدَ
__________
(1) الترغيب والترهيب 1 / 461، وحديث أبي هريرة: " أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لست بتاركهن. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 56 - ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 499 - ط. الحلبي) دون قوله: " صلاة الأوابين " وهي في صحيح ابن خزيمة (2 / 228 - ط. المكتب الإسلامي) .
(2) سبق تخريجه ف 1.
(3) ابن عابدين (1 / 458 - 459) ، والمواق بهامش الحطاب (2 / 67) ، والمجموع شرح المهذب (4 / 36) ، وأسنى المطالب (1 / 205) ، وكشاف القناع (1 / 442) ، والمغني (2 / 131 / 132) .(27/134)
الْمَغْرِبِ لِيُكْتَبَ مِنَ الأَْوَّابِينَ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَفْضَلِيَّةِ هَذِهِ الصَّلاَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيمَا بَيْنَهُنَّ بِسُوءٍ عَدَلْنَ لَهُ عِبَادَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً (1) .
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا وَيَقُول: هَذِهِ صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ (2) .
وَيُؤْخَذُ مِمَّا جَاءَ عَنْ صَلاَةِ الضُّحَى وَالصَّلاَةِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ أَنَّ صَلاَةَ الأَْوَّابِينَ تُطْلَقُ عَلَى صَلاَةِ الضُّحَى، وَالصَّلاَةِ
__________
(1) حديث: " من صلى بعد المغرب ست ركعات. . . . ". أخرجه الترمذي (2 / 299 - ط. الحلبي) وقال: حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث زيد بن الحباب عن عمر بن خثعم، قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: عمر بن عبد الله بن أبي خثعم منكر الحديث، وضعفه جدًا.
(2) ابن عابدين (1 / 453) ، والبدائع (1 / 285) ، حاشية أبي السعود على شرح الكنز (1 / 253) ، والحطاب (2 / 67) ، وأسنى المطالب (1 / 206) ، ومغني المحتاج (1 / 225) ، وكشاف القناع (1 / 424) ، وحديث كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها ويقول: " هذه صلاة الأوابين " هو حديث مركب من حديثين: الأول: صلاته ست ركعات، أخرجه الطبراني في معاجمه الثلاث كما في مجمع الزوائد (2 / 230) ، وقال الهيثمي: قال الطبراني: تفرد به صالح بن قطن البخاري. قلت: لم أج ونقل الشوكاني في نيل الأوطار (3 / 64) عن ابن الجوزي أنه قال: في هذه الطريق مجاهيل. وأما الحديث الاخر فقوله: " هذه صلاة الأوابين ". فأخرجه محمد بن نصر في قيام الليل كما في مختصره (ص 37) ، في حديث محمد بن المنكدر مرسلا.(27/134)
بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. فَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ (1) .
4 - وَانْفَرَدَ الشَّافِعِيَّةُ بِتَسْمِيَةِ التَّطَوُّعِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِصَلاَةِ الأَْوَّابِينَ، وَقَالُوا: تُسَنُّ صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ، وَتُسَمَّى صَلاَةُ الْغَفْلَةِ، لِغَفْلَةِ النَّاسِ عَنْهَا، وَاشْتِغَالِهِمْ بِغَيْرِهَا مِنْ عَشَاءٍ، وَنَوْمٍ، وَغَيْرِهِمَا، وَهِيَ عِشْرُونَ رَكْعَةً بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهَا سِتُّ رَكَعَاتٍ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَفْل) .
__________
(1) أسنى المطالب (1 / 206) ، ومغني المحتاج (1 / 225) .
(2) أسنى المطالب (1 / 206) .(27/135)
صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ
التَّعْرِيفُ:
1 - تَقَدَّمَ تَعْرِيفُ الصَّلاَةِ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة) .
وَالتَّرَاوِيحُ: جَمْعُ تَرْوِيحَةٍ، أَيْ تَرْوِيحَةٌ لِلنَّفْسِ، أَيِ اسْتِرَاحَةٌ، مِنَ الرَّاحَةِ وَهِيَ زَوَال الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ، وَالتَّرْوِيحَةُ فِي الأَْصْل اسْمٌ لِلْجِلْسَةِ مُطْلَقَةً، وَسُمِّيَتِ الْجِلْسَةُ الَّتِي بَعْدَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ بِالتَّرْوِيحَةِ لِلاِسْتِرَاحَةِ، ثُمَّ سُمِّيَتْ كُل أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ تَرْوِيحَةً مَجَازًا، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الصَّلاَةُ بِالتَّرَاوِيحِ؛ لأَِنَّهُمْ كَانُوا يُطِيلُونَ الْقِيَامَ فِيهَا وَيَجْلِسُونَ بَعْدَ كُل أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ لِلاِسْتِرَاحَةِ (1) .
وَصَلاَةُ التَّرَاوِيحِ: هِيَ قِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ، مَثْنَى مَثْنَى، عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِهَا، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِهَا (2) .
__________
(1) المصباح المنير، قواعد الفقه 225، فتح القدير 1 / 333، حاشية العدوي على الكفاية 2 / 321.
(2) قواعد الفقه 352، الدسوقي 1 / 315، المجموع 4 / 30، المغني 2 / 165.(27/135)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - إِحْيَاءُ اللَّيْل:
2 - إِحْيَاءُ اللَّيْل، وَيُطْلِقُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا قِيَامَ اللَّيْل، هُوَ: إِمْضَاءُ اللَّيْل، أَوْ أَكْثَرِهِ فِي الْعِبَادَةِ كَالصَّلاَةِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
(ر: إِحْيَاءُ اللَّيْل) .
وَإِحْيَاءُ اللَّيْل: يَكُونُ فِي كُل لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الْعَامِ، وَيَكُونُ بِأَيٍّ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ نَحْوِهَا وَلَيْسَ بِخُصُوصِ الصَّلاَةِ.
أَمَّا صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ فَتَكُونُ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ خَاصَّةً.
ب - التَّهَجُّدُ:
3 - التَّهَجُّدُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْهُجُودِ، وَيُطْلَقُ الْهُجُودُ عَلَى النَّوْمِ وَعَلَى السَّهَرِ، يُقَال: هَجَدَ إِذَا نَامَ بِاللَّيْل، وَيُقَال أَيْضًا هَجَدَ: إِذَا صَلَّى اللَّيْل، فَهُوَ مِنَ الأَْضْدَادِ، وَيُقَال: تَهَجَّدَ إِذَا أَزَال النَّوْمَ بِالتَّكَلُّفِ (1) .
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: صَلاَةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْل بَعْدَ النَّوْمِ (2) .
وَالتَّهَجُّدُ - عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - صَلاَةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْل بَعْدَ النَّوْمِ، فِي أَيِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الْعَامِ.
__________
(1) المصباح المنير.
(2) مغني المحتاج 1 / 228.(27/136)
أَمَّا صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ فَلاَ يُشْتَرَطُ لَهَا أَنْ تَكُونَ بَعْدَ النَّوْمِ، وَهِيَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ خَاصَّةً.
ج - التَّطَوُّعُ:
4 - التَّطَوُّعُ هُوَ: مَا شُرِعَ زِيَادَةً عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ مِنَ الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَصَلاَةُ التَّطَوُّعِ أَوِ النَّافِلَةِ تَنْقَسِمُ إِلَى نَفْلٍ مُقَيَّدٍ وَمِنْهُ صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ، وَإِلَى نَفْلٍ مُطْلَقٍ أَيْ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَقْتٍ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَطَوُّع) .
د - الْوِتْرُ:
5 - الْوِتْرُ هُوَ: الصَّلاَةُ الْمَخْصُوصَةُ بَعْدَ فَرِيضَةِ الْعِشَاءِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّ عَدَدَ رَكَعَاتِهَا وِتْرٌ لاَ شَفْعٌ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى سُنِّيَّةِ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ، وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهِيَ سُنَّةٌ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ،
__________
(1) المصباح المنير، المفردات في غريب القرآن، التعريفات 84، 314، فتح القدير 1 / 333، والمجموع 4 / 2، نهاية المحتاج 2 / 100 - 101.
(2) قواعد الفقه 540، ورد المحتار 1 / 446، والخرشي 2 / 4، والمحلى على المنهاج 1 / 12، وكشاف القناع 1 / 422، والمغني 2 / 161.(27/136)
وَهِيَ مِنْ أَعْلاَمِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ (1) .
وَقَدْ سَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةَ التَّرَاوِيحِ وَرَغَّبَ فِيهَا، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ صِيَامَ رَمَضَانَ عَلَيْكُمْ، وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ. . . (2) وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ (3) فَيَقُول: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (4) قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ وَغَيْرُهُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صَلاَةَ التَّرَاوِيحِ هِيَ الْمُرَادَةُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.
وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ صَلاَةَ التَّرَاوِيحِ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي، وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهَا، وَبَيَّنَ الْعُذْرَ فِي تَرْكِ الْمُوَاظَبَةِ وَهُوَ خَشْيَةُ أَنْ
__________
(1) الاختيار 1 / 68، رد المحتار 1 / 472، العدوي على كفاية الطالب 1 / 352، 2 / 321، الإقناع للشربيني 1 / 107، المجموع 4 / 31، مطالب أولي النهى 1 / 563.
(2) حديث: " إن الله فرض صيام رمضان عليكم، وسننت لكم قيامه ". أخرجه النسائي (4 / 158 - ط. المكتبة التجارية) من حديث عبد الرحمن بن عوف، وأشار قبلها إلى إعلال هذه الرواية.
(3) المعنى: لا يأمرهم به أمر تحتيم وإلزام وهو العزيمة، بل أمر ندب وترغيب فيه بذكر فضله. المجموع 4 / 31، الإقناع 1 / 107، الترغيب والترهيب 2 / 90.
(4) حديث أبي هريرة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 250 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 523 - ط. الحلبي) .(27/137)
تُكْتَبَ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا، فَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ الثَّالِثَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَال: قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلاَّ أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ زَادَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ: فَتُوُفِّيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالأَْمْرُ عَلَى ذَلِكَ (1) .
وَفِي تَعْيِينِ اللَّيَالِي الَّتِي قَامَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ رَوَى أَبُو ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: صُمْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَضَانَ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْل، فَلَمَّا كَانَتِ السَّادِسَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْخَامِسَةُ قَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْل، فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ لَوْ نَفَلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ؟ قَال: فَقَال: إِنَّ الرَّجُل إِذَا صَلَّى مَعَ الإِْمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ قَال: فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ لَمْ يَقُمْ، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَالنَّاسَ فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلاَحُ قَال: قُلْتُ: وَمَا
__________
(1) حديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد فصلى بصلاته ناس. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 251 - ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 524 ط. الحلبي) .(27/137)
الْفَلاَحُ؟ قَال: السَّحُورُ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ (1) .
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَال: قُمْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْلَةَ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْل الأَْوَّل، ثُمَّ قُمْنَا مَعَهُ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْل، ثُمَّ قُمْنَا مَعَهُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ لاَ نُدْرِكَ الْفَلاَحَ وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ السَّحُورَ (2) .
وَقَدْ وَاظَبَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً، وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هُوَ الَّذِي جَمَعَ النَّاسَ فِيهَا عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيَّ، قَال: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُل
__________
(1) حديث أبي ذر: " صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان. . ". أخرجه أبو داود (2 / 105 - ط. عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (3 / 160 - ط. الحلبي) ، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) فتح القدير 1 / 333، الإقناع للشربيني 1 / 107، نهاية المحتاج 2 / 121، المغني 2 / 166، الترغيب والترهيب 2 / 105، نيل الأوطار 3 / 5، وحديث النعمان بن بشير: " قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ". أخرجه النسائي (3 / 203 - ط. المكتبة التجارية) والحاكم (1 / 440 - ط. دائرة المعارف العثمانية) وحسنه الذهبي.(27/138)
لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُل فَيُصَلِّي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ، فَقَال عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاَءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَل، ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ قَارِئِهِمْ، فَقَال: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَل مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ. يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْل، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ (1) .
وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَال: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ التَّرَاوِيحِ وَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ، فَقَال: التَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَمْ يَتَخَرَّصْ (2) عُمَرُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مُبْتَدِعًا، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ إِلاَّ عَنْ أَصْلٍ لَدَيْهِ وَعَهْدٍ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَقَدْ سَنَّ عُمَرُ هَذَا وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَصَلاَّهَا جَمَاعَةً وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ وَمَا رَدَّ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، بَل سَاعَدُوهُ وَوَافَقُوهُ وَأَمَرُوا بِذَلِكَ (3) .
__________
(1) أثر عمر: " نعمت البدعة هذه ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 250 - ط. السلفية) .
(2) من معاني الخرص: الكذب، وكل قول بالظن، يقال: تخرص عليه إذا افترى، واخترص إذا اختلق. (القاموس المحيط) .
(3) فتح القدير 1 / 333، الاختيار 1 / 68 - 69، المغني 2 / 166، المنتقى 1 / 207.(27/138)
فَضْل صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ:
7 - بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ مَنْزِلَةَ التَّرَاوِيحِ بَيْنَ نَوَافِل الصَّلاَةِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: التَّرَاوِيحُ مِنَ النَّوَافِل الْمُؤَكَّدَةِ، حَيْثُ قَالُوا: وَتَأَكُّدُ تَرَاوِيحَ، وَهُوَ قِيَامُ رَمَضَانَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: التَّطَوُّعُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ وَهُوَ أَفْضَل مِمَّا لاَ تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ لِتَأَكُّدِهِ بِسَنِّهَا لَهُ، وَلَهُ مَرَاتِبُ:
فَأَفْضَلُهُ الْعِيدَانِ ثُمَّ الْكُسُوفُ لِلشَّمْسِ، ثُمَّ الْخُسُوفُ لِلْقَمَرِ، ثُمَّ الاِسْتِسْقَاءُ، ثُمَّ التَّرَاوِيحُ. . . وَقَالُوا: الأَْصَحُّ أَنَّ الرَّوَاتِبَ وَهِيَ التَّابِعَةُ لِلْفَرَائِضِ أَفْضَل مِنَ التَّرَاوِيحِ وَإِنْ سُنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَى الرَّوَاتِبِ دُونَ التَّرَاوِيحِ.
قَال شَمْسُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ: وَالْمُرَادُ تَفْضِيل الْجِنْسِ عَلَى الْجِنْسِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِعَدَدٍ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: أَفْضَل صَلاَةِ تَطَوُّعٍ مَا سُنَّ أَنْ يُصَلَّى جَمَاعَةً؛ لأَِنَّهُ أَشْبَهُ بِالْفَرَائِضِ ثُمَّ الرَّوَاتِبُ، وَآكَدُ مَا يُسَنُّ جَمَاعَةً: كُسُوفٌ فَاسْتِسْقَاءٌ فَتَرَاوِيحُ (3) .
__________
(1) الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 315.
(2) أسنى المطالب 1 / 200، نهاية المحتاج 2 / 120.
(3) مطالب أولي النهى 1 / 545.(27/139)
تَارِيخُ مَشْرُوعِيَّةِ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ وَالْجَمَاعَةِ فِيهَا:
8 - رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْل لَيَالِيَ مِنْ رَمَضَانَ وَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، وَصَلَّى النَّاسُ بِصَلاَتِهِ، وَتَكَاثَرُوا فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فِي الرَّابِعَةِ، وَقَال لَهُمْ: خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا (1) .
قَال الْقَلْيُوبِيُّ: هَذَا يُشْعِرُ أَنَّ صَلاَةَ التَّرَاوِيحِ لَمْ تُشْرَعْ إِلاَّ فِي آخِرِ سِنِي الْهِجْرَةِ لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَنَّهُ صَلاَّهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَلاَ وَقَعَ عَنْهَا سُؤَالٌ (2) .
وَجَمَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - النَّاسَ فِي التَّرَاوِيحِ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، لِنَحْوِ سَنَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ خِلاَفَتِهِ، وَفِي رَمَضَانَ الثَّانِي مِنْ خِلاَفَتِهِ (3) .
النِّدَاءُ لِصَلاَةِ التَّرَاوِيحِ:
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ أَذَانَ وَلاَ إِقَامَةَ لِغَيْرِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذَّنَ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ دُونَ
__________
(1) حديث عائشة - رضي الله عنها - تقدم تخريجه ف 6.
(2) شرح المحلى وحاشية القليوبي 1 / 217.
(3) حاشية العدوي على كفاية الطالب 1 / 352، المصابيح في صلاة التراويح للسيوطي ص 37، نهاية المحتاج 1 / 122.(27/139)
مَا سِوَاهَا مِنَ الْوِتْرِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَالْكُسُوفِ، وَالْخُسُوفِ، وَالاِسْتِسْقَاءِ، وَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ، وَالسُّنَنِ وَالنَّوَافِل.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُنَادَى لِجَمَاعَةِ غَيْرِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ: الصَّلاَةُ جَامِعَةٌ، وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَهُ: لاَ أَذَانَ وَلاَ إِقَامَةَ لِغَيْرِ الْمَكْتُوبَةِ، فَأَمَّا الأَْعْيَادُ وَالْكُسُوفُ وَقِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَأُحِبُّ أَنْ يُقَال: الصَّلاَةَ جَامِعَةً.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى الشَّيْخَانِ أَنَّهُ لَمَّا كُسِفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُودِيَ: إِنَّ الصَّلاَةَ جَامِعَةٌ (1) وَقِيسَ بِالْكُسُوفِ غَيْرُهُ مِمَّا تُشْرَعُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ وَمِنْهَا التَّرَاوِيحُ.
وَكَالصَّلاَةِ جَامِعَةً: الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ، أَوْ هَلُمُّوا إِلَى الصَّلاَةِ، أَوِ الصَّلاَةَ رَحِمَكُمُ اللَّهُ، أَوْ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ خِلاَفًا لِبَعْضِهِمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُنَادَى عَلَى التَّرَاوِيحِ " الصَّلاَةَ جَامِعَةً " لأَِنَّهُ مُحْدَثٌ (2) .
تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ:
10 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ
__________
(1) حديث: " الصلاة جامعة في الكسوف ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 533 - ط. السلفية) ، ومسلم (2 / 627 - ط. الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو.
(2) العناية على الهداية بهامش فتح القدير 1 / 167، مواهب الجليل 1 / 423، نهاية المحتاج 1 / 385 - 386، القليوبي 1 / 125، تحفة المحتاج 1 / 461 - 462، كشاف القناع 1 / 233 - 234.(27/140)
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ فِي التَّرَاوِيحِ، فَلاَ تَصِحُّ التَّرَاوِيحُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ، بَل يَنْوِي صَلاَةَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ قِيَامِ رَمَضَانَ أَوْ مِنَ التَّرَاوِيحِ لِحَدِيثِ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (1) وَلِيَتَمَيَّزَ إِحْرَامُهُ بِهِمَا عَنْ غَيْرِهِ.
وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ قَوْلَهُمْ بِأَنَّ التَّرَاوِيحَ سُنَّةٌ، وَالسُّنَّةُ عِنْدَهُمْ لاَ تَتَأَدَّى بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّلاَةِ أَوْ نِيَّةِ التَّطَوُّعِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ: لاَ تَتَأَدَّى رَكْعَتَا الْفَجْرِ إِلاَّ بِنِيَّةِ السُّنَّةِ.
لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَجْدِيدِ النِّيَّةِ لِكُل رَكْعَتَيْنِ مِنَ التَّرَاوِيحِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي الْخُلاَصَةِ: الصَّحِيحُ نَعَمْ؛ لأَِنَّهُ صَلاَةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَفِي الْخَانِيَّةِ: الأَْصَحُّ لاَ، فَإِنَّ الْكُل بِمَنْزِلَةِ صَلاَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ قَال وَيَظْهَرُ لِي (تَرْجِيحُ) التَّصْحِيحِ الأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ بِالسَّلاَمِ خَرَجَ مِنَ الصَّلاَةِ حَقِيقَةً، فَلاَ بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ فِيهَا بِالنِّيَّةِ، وَلاَ شَكَّ أَنَّهُ الأَْحْوَطُ خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ.
وَقَال عَامَّةُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ التَّرَاوِيحَ وَسَائِرَ السُّنَنِ تَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ؛ لأَِنَّهَا وَإِنْ
__________
(1) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 - ط. السلفية) ، ومسلم (3 / 1515 - الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب، واللفظ للبخاري.(27/140)
كَانَتْ سُنَّةً لاَ تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا نَافِلَةً، وَالنَّوَافِل تَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الاِحْتِيَاطَ أَنْ يَنْوِيَ التَّرَاوِيحَ أَوْ سُنَّةَ الْوَقْتِ أَوْ قِيَامَ رَمَضَانَ احْتِرَازًا عَنْ مَوْضِعِ الْخِلاَفِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ فِي كُل رَكْعَتَيْنِ مِنَ التَّرَاوِيحِ أَنْ يَنْوِيَ فَيَقُول سِرًّا:
أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مِنَ التَّرَاوِيحِ الْمَسْنُونَةِ أَوْ مِنْ قِيَامِ رَمَضَانَ (1) .
عَدَدُ رَكَعَاتِ التَّرَاوِيحِ:
11 - قَال السُّيُوطِيُّ: الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَالْحِسَانُ الأَْمْرُ بِقِيَامِ رَمَضَانَ وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِعَدَدٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى التَّرَاوِيحَ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَإِنَّمَا صَلَّى لَيَالِيَ صَلاَةً لَمْ يُذْكَرْ عَدَدُهَا، ثُمَّ تَأَخَّرَ فِي اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةِ خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا (2) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ: لَمْ يَصِحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى التَّرَاوِيحَ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَمَا وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عِشْرِينَ رَكْعَةً فَهُوَ شَدِيدُ الضَّعْفِ (3) .
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيمَا كَانَ يُصَلَّى بِهِ فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 288، رد المحتار 1 / 473، روض الطالبين 1 / 334، أسنى المطالب 1 / 201، كشاف القناع 1 / 426، مطالب أولي النهى 1 / 563 - 564.
(2) المصابيح في صلاة التراويح ص 14 - 15.
(3) الفتاوى الكبرى 1 / 194.(27/141)
رَمَضَانَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّ التَّرَاوِيحَ عِشْرُونَ رَكْعَةً، لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ مِنْ قِيَامِ النَّاسِ فِي زَمَانِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، وَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ مِنَ الرَّكَعَاتِ جَمْعًا مُسْتَمِرًّا، قَال الْكَاسَانِيُّ: جَمَعَ عُمَرُ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَصَلَّى بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ (1) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ عَلَيْهِ عَمَل الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ (2) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: عَلَيْهِ عَمَل النَّاسِ شَرْقًا وَغَرْبًا (3) .
وَقَال عَلِيٌّ السَّنْهُورِيُّ: هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَل النَّاسِ وَاسْتَمَرَّ إِلَى زَمَانِنَا فِي سَائِرِ الأَْمْصَارِ (4)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَهَذَا فِي مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 288، وأثر عمر تقدم تخريجه ف 6.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 315.
(3) رد المحتار 1 / 474.
(4) شرح الزرقاني 1 / 284.(27/141)
بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا (1) وَالنُّصُوصُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَال: أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، قَال: وَقَدْ كَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ، حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدَ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ طُول الْقِيَامِ، وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلاَّ فِي فُرُوعِ الْفَجْرِ (2) .
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ أَنَّهُ قَال: كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي رَمَضَانَ بِثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً، قَال الْبَيْهَقِيُّ وَالْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَا: أَيْ بِعَشْرَيْنَ رَكْعَةً غَيْرَ الْوِتْرِ ثَلاَثَ رَكَعَاتٍ (3) ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
__________
(1) كشاف القناع 1 / 425.
(2) أثر عمر بن الخطاب أنه أمر أبيَّ بن كعب وتميمًا الداري. . . . أخرجه مالك (1 / 115 - ط. الحلبي) وانظر المنتقى 1 / 208.
(3) أثر يزيد بن رومان أنه قال: كان الناس يقومون في زمان عمر. أخرجه مالك (1 / 115 - ط. الحلبي) وأورده النووي في المجموع (4 / 33) وقال: مرسل، يزيد بن رومان لم يدرك عمر، وانظر المنتقى 1 / 209، وشرح المنهاج للمحلي 1 / 217.(27/142)
فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً (1)
قَال الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ عُمَرُ أَمَرَهُمْ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَأَمَرَهُمْ مَعَ ذَلِكَ بِطُول الْقِرَاءَةِ، يَقْرَأُ الْقَارِئُ بِالْمِئِينَ فِي الرَّكْعَةِ؛ لأَِنَّ التَّطْوِيل فِي الْقِرَاءَةِ أَفْضَل الصَّلاَةِ، فَلَمَّا ضَعُفَ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً عَلَى وَجْهِ التَّخْفِيفِ عَنْهُمْ مِنْ طُول الْقِيَامِ، وَاسْتَدْرَكَ بَعْضُ الْفَضِيلَةِ بِزِيَادَةِ الرَّكَعَاتِ (2) .
وَقَال الْعَدَوِيُّ: الإِْحْدَى عَشْرَةَ كَانَتْ مَبْدَأَ الأَْمْرِ، ثُمَّ انْتَقَل إِلَى الْعِشْرِينَ. وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: رَجَعَ عُمَرُ إِلَى ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً (3)
وَخَالَفَ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ مَشَايِخَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعِشْرِينَ سُنَّةٌ فِي التَّرَاوِيحِ فَقَال: قِيَامُ رَمَضَانَ سُنَّةٌ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً بِالْوِتْرِ فِي جَمَاعَةٍ، فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ، أَفَادَ أَنَّهُ لَوْلاَ خَشْيَةَ فَرْضِهِ عَلَيْهِمْ لَوَاظَبَ بِهِمْ، وَلاَ شَكَّ فِي تَحَقُّقِ الأَْمْنِ مِنْ ذَلِكَ بِوَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ سُنَّةً، وَكَوْنُهَا عِشْرِينَ سُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ (4)
__________
(1) فتح القدير 1 / 334، والمغني 1 / 208، والمجموع 4 / 32 - 33.
(2) المنتقى 2 / 208.
(3) حاشية العدوي على كفاية الطالب 1 / 353.
(4) حديث: " عليكم بسنتي ". أخرجه أبو داود (5 / 14 - ط. عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (5 / 44 - ط. الحلبي) من حديث العرباض بن سارية. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.(27/142)
نَدْبٌ إِلَى سُنَّتِهِمْ، وَلاَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ ذَلِكَ سُنَّتَهُ؛ إِذْ سُنَّتُهُ بِمُوَاظَبَتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ إِلاَّ لِعُذْرٍ، وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ ذَلِكَ الْعُذْرِ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُ، فَتَكُونُ الْعِشْرُونَ مُسْتَحَبًّا، وَذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْهَا هُوَ السُّنَّةُ، كَالأَْرْبَعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ مُسْتَحَبَّةٌ وَرَكْعَتَانِ مِنْهَا هِيَ السُّنَّةُ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْمَشَايِخِ أَنَّ السُّنَّةَ عِشْرُونَ، وَمُقْتَضَى الدَّلِيل مَا قُلْنَا فَيَكُونُ هُوَ الْمَسْنُونَ، أَيْ فَيَكُونُ الْمَسْنُونُ مِنْهَا ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ وَالْبَاقِي مُسْتَحَبًّا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْقِيَامُ فِي رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً أَوْ بِسِتٍّ وَثَلاَثِينَ وَاسِعٌ أَيْ جَائِزٌ، فَقَدْ كَانَ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَقُومُونَ فِي رَمَضَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْمَسَاجِدِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُوتِرُونَ بِثَلاَثٍ، ثُمَّ صَلُّوا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ سِتًّا وَثَلاَثِينَ رَكْعَةً غَيْرَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ، قَال: هُوَ الَّذِي لَمْ يَزَل عَلَيْهِ عَمَل النَّاسِ أَيْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،
__________
(1) فتح القدير 1 / 333 - 334.(27/143)
وَقَالُوا: كَرِهَ مَالِكٌ نَقْصَهَا عَمَّا جُعِلَتْ بِالْمَدِينَةِ.
وَعَنْ مَالِكٍ - أَيْ فِي غَيْرِ الْمُدَوَّنَةِ - قَال: الَّذِي يَأْخُذُ بِنَفْسِي فِي ذَلِكَ الَّذِي جَمَعَ عُمَرُ عَلَيْهِ النَّاسَ، إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا الْوِتْرُ، وَهِيَ صَلاَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْمَذْهَبِ أَقْوَالٌ وَتَرْجِيحَاتٌ أُخْرَى (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلأَِهْل الْمَدِينَةِ فِعْلُهَا سِتًّا وَثَلاَثِينَ؛ لأَِنَّ الْعِشْرِينَ خَمْسُ تَرْوِيحَاتٍ، وَكَانَ أَهْل مَكَّةَ يَطُوفُونَ بَيْنَ كُل تَرْوِيحَتَيْنِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، فَحَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ بَدَل كُل أُسْبُوعٍ تَرْوِيحَةً لِيُسَاوُوهُمْ، قَال الشَّيْخَانِ: وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ. . وَهُوَ الأَْصَحُّ كَمَا قَال الرَّمْلِيُّ لأَِنَّ لأَِهْل الْمَدِينَةِ شَرَفًا بِهِجْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَدْفِنِهِ، وَخَالَفَ الْحَلِيمِيُّ فَقَال: وَمَنَ اقْتَدَى بِأَهْل الْمَدِينَةِ فَقَامَ بِسِتٍّ وَثَلاَثِينَ فَحَسَنٌ أَيْضًا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَنْقُصُ مِنَ الْعِشْرِينَ رَكْعَةً، وَلاَ بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا نَصًّا، قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: رَأَيْتُ أَبِي يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ مَا لاَ أُحْصِي، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَْسْوَدُ يَقُومُ بِأَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بَعْدَهَا بِسَبْعٍ (3) .
__________
(1) كفاية الطالب 1 / 353 شرح الزرقاني 1 / 284.
(2) أسنى المطالب 1 / 201، نهاية المحتاج 2 / 123.
(3) مطالب أولي النهى 1 / 563، كشاف القناع 1 / 425.(27/143)
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَالأَْفْضَل يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ أَحْوَال الْمُصَلِّينَ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمُ احْتِمَالٌ لِطُول الْقِيَامِ، فَالْقِيَامُ بِعَشْرِ رَكَعَاتٍ وَثَلاَثٍ بَعْدَهَا، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ هُوَ الأَْفْضَل. وَإِنْ كَانُوا لاَ يَحْتَمِلُونَهُ فَالْقِيَامُ بِعِشْرِينَ هُوَ الأَْفْضَل. وَهُوَ الَّذِي يَعْمَل بِهِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَ الْعَشْرِ وَبَيْنَ الأَْرْبَعِينَ، وَإِنْ قَامَ بِأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا جَازَ ذَلِكَ وَلاَ يُكْرَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الأَْئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. قَال: وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِيهِ عَدَدٌ مُوَقَّتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُزَادُ فِيهِ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ (1) .
الاِسْتِرَاحَةُ بَيْنَ كُل تَرْوِيحَتَيْنِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الاِسْتِرَاحَةِ بَعْدَ كُل أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ؛ لأَِنَّهُ الْمُتَوَارَثُ عَنِ السَّلَفِ، فَقَدْ كَانُوا يُطِيلُونَ الْقِيَامَ فِي التَّرَاوِيحِ وَيَجْلِسُ الإِْمَامُ وَالْمَأْمُومُونَ بَعْدَ كُل أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ لِلاِسْتِرَاحَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُنْدَبُ الاِنْتِظَارُ بَيْنَ كُل تَرْوِيحَتَيْنِ، وَيَكُونُ قَدْرَ تَرْوِيحَةٍ، وَيَشْغَل هَذَا الاِنْتِظَارَ بِالسُّكُوتِ أَوِ الصَّلاَةِ فُرَادَى أَوِ الْقِرَاءَةِ أَوِ التَّسْبِيحِ.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 22 / 272.(27/144)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ بَأْسَ بِتَرْكِ الاِسْتِرَاحَةِ بَيْنَ كُل تَرْوِيحَتَيْنِ، وَلاَ يُسَنُّ دُعَاءٌ مُعَيَّنٌ إِذَا اسْتَرَاحَ لِعَدَمِ وُرُودِهِ (1) .
التَّسْلِيمُ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ:
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ يُسَلِّمُ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ؛ لأَِنَّ التَّرَاوِيحَ مِنْ صَلاَةِ اللَّيْل فَتَكُونُ مَثْنَى مَثْنَى، لِحَدِيثِ: صَلاَةُ اللَّيْل مَثْنَى مَثْنَى (2) وَلأَِنَّ التَّرَاوِيحَ تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ فَيُرَاعَى فِيهَا التَّيْسِيرُ بِالْقَطْعِ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ لأَِنَّ مَا كَانَ أَدْوَمَ تَحْرِيمَةً كَانَ أَشَقَّ عَلَى النَّاسِ (3) .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ وَلَمْ يُسَلِّمْ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ كُلَّهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَقَعَدَ فِي كُل رَكْعَتَيْنِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَصِحُّ صَلاَتُهُ عَنِ الْكُل؛ لأَِنَّهُ قَدْ أَتَى بِجَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ وَشَرَائِطِهَا؛ لأَِنَّ تَجْدِيدَ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 1 / 474، العدوي على كفاية الطالب 2 / 321، أسنى المطالب 1 / 200، مطالب أولي النهى 1 / 564.
(2) حديث: " صلاة الليل مثنى مثنى ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 477 - ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 516 - ط. الحلبي) من حديث ابن عمر
(3) فتح القدير 1 / 321، بدائع الصنائع 1 / 288، العدوي على كفاية الطالب 1 / 353، أسنى المطالب 1 / 200، كشاف القناع 1 / 426.(27/144)
التَّحْرِيمَةِ لِكُل رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمْ، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ إِنْ تَعَمَّدَ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ؛ لِمُخَالَفَتِهِ الْمُتَوَارَثَ، وَتَصْرِيحُهُمْ بِكَرَاهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى ثَمَانٍ فِي صَلاَةِ مُطْلَقِ التَّطَوُّعِ فَهُنَا أَوْلَى.
وَقَالُوا: إِذَا لَمْ يَقْعُدْ فِي كُل رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَفْسُدُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَلاَ تَفْسُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهَا تَجُوزُ عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لأَِنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَكُونَ الشَّفْعُ الأَْوَّل كَامِلاً، وَكَمَالُهُ بِالْقَعْدَةِ وَلَمْ تُوجَدْ، وَالْكَامِل لاَ يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ لِمَنْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ التَّسْلِيمُ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ التَّسْلِيمِ بَعْدَ كُل أَرْبَعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَل عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فَالأَْفْضَل لَهُ السَّلاَمُ بَعْدَ كُل رَكْعَتَيْنِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ صَلَّى فِي التَّرَاوِيحِ أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَصِحَّ، فَتَبْطُل إِنْ كَانَ عَامِدًا عَالِمًا، وَإِلاَّ صَارَتْ نَفْلاً مُطْلَقًا، وَذَلِكَ لأَِنَّ التَّرَاوِيحَ أَشْبَهَتِ الْفَرَائِضَ فِي طَلَبِ الْجَمَاعَةِ فَلاَ تُغَيَّرُ عَمَّا وَرَدَ (3) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَابِلَةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
__________
(1) رد المحتار 1 / 474، بدائع الصنائع 1 / 289.
(2) حاشية العدوي على كفاية الطالب 1 / 353
(3) نهاية المحتاج 2 / 123، أسنى المطالب 1 / 201، القليوبي 1 / 217(27/145)
الْقُعُودُ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ:
14 - جَاءَ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنْ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ قَاعِدًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ تَنْزِيهًا لأَِنَّهُ خِلاَفُ السُّنَّةِ الْمُتَوَارَثَةِ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: يُكْرَهُ لِلْمُقْتَدِي أَنْ يَقْعُدَ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ، فَإِذَا أَرَادَ الإِْمَامُ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِظْهَارَ التَّكَاسُل فِي الصَّلاَةِ وَالتَّشَبُّهَ بِالْمُنَافِقِينَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى} (2) فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِكَسَلٍ بَل لِكِبَرٍ وَنَحْوِهِ لاَ يُكْرَهُ (3) ، وَلَمْ نَجِدْ مِثْل هَذَا لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقْتُ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ وَقْتَ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ مِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ، وَقَبْل الْوِتْرِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لِنَقْل الْخَلَفِ عَنِ السَّلَفِ، وَلأَِنَّهَا عُرِفَتْ بِفِعْل الصَّحَابَةِ فَكَانَ وَقْتُهَا مَا صَلَّوْا فِيهِ، وَهُمْ صَلَّوْا بَعْدَ الْعِشَاءِ قَبْل الْوِتْرِ؛ وَلأَِنَّهَا سُنَّةٌ تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ فَكَانَ وَقْتُهَا قَبْل الْوِتْرِ.
وَلَوْ صَلاَّهَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَقَبْل الْعِشَاءِ
__________
(1) الاختيار 1 / 69، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 1 / 475، وبدائع الصنائع 1 / 290.
(2) سورة النساء / 142.
(3) رد المحتار 1 / 475.(27/145)
فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهَا لاَ تُجْزِئُ عَنِ التَّرَاوِيحِ، وَتَكُونُ نَافِلَةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا تَصِحُّ؛ لأَِنَّ جَمِيعَ اللَّيْل إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْل الْعِشَاءِ وَبَعْدَهَا وَقْتٌ لِلتَّرَاوِيحِ؛ لأَِنَّهَا سُمِّيَتْ قِيَامَ اللَّيْل فَكَانَ وَقْتُهَا اللَّيْل.
وَعَلَّل الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ الصِّحَّةِ بِأَنَّهَا تُفْعَل بَعْدَ مَكْتُوبَةٍ وَهِيَ الْعِشَاءُ فَلَمْ تَصِحَّ قَبْلَهَا كَسُنَّةِ الْعِشَاءِ، وَقَالُوا: إِنَّ التَّرَاوِيحَ تُصَلَّى بَعْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ وَبَعْدَ سُنَّتِهَا، قَال الْمَجْدُ: لأَِنَّ سُنَّةَ الْعِشَاءِ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِ الْعِشَاءِ الْمُخْتَارِ، فَكَانَ إِتْبَاعُهَا لَهَا أَوْلَى.
وَلَوْ صَلاَّهَا بَعْدَ الْعِشَاءِ وَبَعْدَ الْوِتْرِ فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا تُجْزِئُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ التَّرَاوِيحِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْل أَوْ نِصْفِهِ، وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي أَدَائِهَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْل، فَقِيل يُكْرَهُ؛ لأَِنَّهَا تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ كَسُنَّتِهَا، وَالصَّحِيحُ لاَ يُكْرَهُ لأَِنَّهَا مِنْ صَلاَةِ اللَّيْل وَالأَْفْضَل فِيهَا آخِرُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ صَلاَتَهَا أَوَّل اللَّيْل أَفْضَل؛ لأَِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَوَّلَهُ، وَقَدْ قِيل(27/146)
لأَِحْمَد: يُؤَخَّرُ الْقِيَامُ أَيْ فِي التَّرَاوِيحِ إِلَى آخِرِ اللَّيْل؟ قَال: سُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ (1) .
الْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجَمَاعَةِ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ؛ لِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَبَقَ، وَلِفِعْل الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ - وَمَنْ تَبِعَهُمْ مُنْذُ زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ وَلاِسْتِمْرَارِ الْعَمَل عَلَيْهِ حَتَّى الآْنِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ بِالْجَمَاعَةِ سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فِي الأَْصَحِّ، فَلَوْ تَرَكَهَا الْكُل أَسَاءُوا، أَمَّا لَوْ تَخَلَّفَ عَنْهَا رَجُلٌ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ وَصَلَّى فِي بَيْتِهِ فَقَدْ تَرَكَ الْفَضِيلَةَ، وَإِنْ صَلَّى فِي الْبَيْتِ بِالْجَمَاعَةِ لَمْ يَنَل فَضْل جَمَاعَةِ الْمَسْجِدِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تُنْدَبُ صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ فِي الْبُيُوتِ إِنْ لَمْ تُعَطَّل الْمَسَاجِدُ، وَذَلِكَ لِخَبَرِ: عَلَيْكُمْ بِالصَّلاَةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلاَةِ
__________
(1) رد المحتار 1 / 473، ومواهب الجليل 3 / 70، شرح الزرقاني 1 / 283، أسنى المطالب 1 / 203، فتح القدير 1 / 334، المغني 3 / 170، كشاف القناع 1 / 426.
(2) ابن عابدين 1 / 473 - 476.(27/146)
الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ (1) وَلِخَوْفِ الرِّيَاءِ وَهُوَ حَرَامٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا صَلاَّهَا فِي بَيْتِهِ، هَل يُصَلِّيهَا وَحْدَهُ أَوْ مَعَ أَهْل بَيْتِهِ؟ قَوْلاَنِ، قَال الزَّرْقَانِيُّ: لَعَلَّهُمَا فِي الأَْفْضَلِيَّةِ سَوَاءٌ.
وَنَدْبُ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ - فِي الْبُيُوتِ عِنْدَهُمْ - مَشْرُوطٌ بِثَلاَثَةِ أُمُورٍ: أَنْ لاَ تُعَطَّل الْمَسَاجِدُ، وَأَنْ يَنْشَطَ لِفِعْلِهَا فِي بَيْتِهِ، وَلاَ يَقْعُدَ عَنْهَا، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ آفَاقِيٍّ بِالْحَرَمَيْنِ، فَإِنْ تَخَلَّفَ شَرْطٌ كَانَ فِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَل، وَقَال الزَّرْقَانِيُّ: يُكْرَهُ لِمَنْ فِي الْمَسْجِدِ الاِنْفِرَادُ بِهَا عَنِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي يُصَلُّونَهَا فِيهِ، وَأَوْلَى إِذَا كَانَ انْفِرَادُهُ يُعَطِّل جَمَاعَةَ الْمَسْجِدِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُسَنُّ الْجَمَاعَةُ فِي التَّرَاوِيحِ عَلَى الأَْصَحِّ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ؛ وَلِلأَْثَرِ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَلِعَمَل النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الاِنْفِرَادَ بِصَلاَةِ التَّرَاوِيحِ أَفْضَل كَغَيْرِهَا مِنْ صَلاَةِ اللَّيْل لِبُعْدِهِ
__________
(1) حديث: " عليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ". أخرجه مسلم (1 / 540 - ط. الحلبي) من حديث أبي ذر.
(2) شرح الزرقاني 1 / 283، حاشية الدسوقي 1 / 315.(27/147)
عَنِ الرِّيَاءِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهَا فُرَادَى، قَال أَحْمَدُ: كَانَ عَلِيٌّ وَجَابِرٌ وَعَبْدُ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يُصَلُّونَهَا فِي الْجَمَاعَةِ (2) .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ، وَقَال: إِنَّ الرَّجُل إِذَا صَلَّى مَعَ الإِْمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ (3) .
وَقَالُوا: إِنْ تَعَذَّرَتِ الْجَمَاعَةُ صَلَّى وَحْدَهُ لِعُمُومِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (4)
الْقِرَاءَةُ وَخَتْمُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي التَّرَاوِيحِ:
17 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ لِيَسْمَعَ النَّاسُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ فِي تِلْكَ الصَّلاَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: السُّنَّةُ الْخَتْمُ مَرَّةً، فَلاَ يَتْرُكُ الإِْمَامُ الْخَتْمَ لِكَسَل الْقَوْمِ، بَل يَقْرَأُ فِي كُل رَكْعَةٍ عَشَرَ آيَاتٍ أَوْ نَحْوَهَا، فَيَحْصُل بِذَلِكَ الْخَتْمُ؛ لأَِنَّ عَدَدَ رَكَعَاتِ التَّرَاوِيحِ فِي
__________
(1) شرح المحلى 1 / 217 - 218.
(2) كشاف القناع 1 / 425، المغني 2 / 169.
(3) حديث أبي ذر: " من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام تلك الليلة ". تقدم ف 6.
(4) حديث: " من قام رمضان. . . . ". تقدم تخريجه ف 6.(27/147)
شَهْرِ رَمَضَانَ سِتُّمِائَةِ رَكْعَةٍ، أَوْ خَمْسُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ، وَآيُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ سِتُّ آلاَفٍ وَشَيْءٌ.
وَيُقَابِل قَوْل هَؤُلاَءِ مَا قِيل: الأَْفْضَل أَنْ يَقْرَأَ قَدْرَ قِرَاءَةِ الْمَغْرِبِ لأَِنَّ النَّوَافِل مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ خُصُوصًا بِالْجَمَاعَةِ، وَمَا قِيل: يَقْرَأُ فِي كُل رَكْعَةٍ ثَلاَثِينَ آيَةً لأَِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَمَرَ بِذَلِكَ، فَيَقَعُ الْخَتْمُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي رَمَضَانَ؛ لأَِنَّ لِكُل عَشْرٍ فَضِيلَةً كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ.
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: مَا أَمَرَ بِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هُوَ مِنْ بَابِ الْفَضِيلَةِ، وَهُوَ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَهَذَا فِي زَمَانِهِمْ، وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَالأَْفْضَل أَنْ يَقْرَأَ الإِْمَامُ عَلَى حَسَبِ حَال الْقَوْمِ، فَيَقْرَأُ قَدْرَ مَا لاَ يُنَفِّرُهُمْ عَنِ الْجَمَاعَةِ؛ لأَِنَّ تَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَل مِنْ تَطْوِيل الْقِرَاءَةِ.
وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَنَ اسْتَحَبَّ الْخَتْمَ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ رَجَاءَ أَنْ يَنَالُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَإِذَا خَتَمَ قَبْل آخِرِهِ. . قِيل: لاَ يُكْرَهُ لَهُ التَّرَاوِيحُ فِيمَا بَقِيَ، قِيل: يُصَلِّيهَا وَيَقْرَأُ فِيهَا مَا يَشَاءُ (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ
__________
(1) فتح القدير 1 / 335، بدائع الصنائع 1 / 289.(27/148)
لِلإِْمَامِ الْخَتْمُ لِجَمِيعِ الْقُرْآنِ فِي التَّرَاوِيحِ فِي الشَّهْرِ كُلِّهِ، وَقِرَاءَةُ سُورَةٍ فِي تَرَاوِيحِ جَمِيعِ الشَّهْرِ تُجْزِئُ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ سُورَةٍ فِي كُل رَكْعَةٍ، أَوْ كُل رَكْعَتَيْنِ مِنْ تَرَاوِيحِ كُل لَيْلَةٍ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ تُجْزِئُ وَإِنْ كَانَ خِلاَفَ الأَْوْلَى إِذَا كَانَ يَحْفَظُ غَيْرَهَا أَوْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ غَيْرَهُ، قَال ابْنُ عَرَفَةَ: فِي الْمُدَوَّنَةِ لِمَالِكٍ: وَلَيْسَ الْخَتْمُ بِسُنَّةٍ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْتَدِئَ التَّرَاوِيحَ فِي أَوَّل لَيْلَةٍ بِسُورَةِ الْقَلَمِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} بَعْدَ الْفَاتِحَةِ لأَِنَّهَا أَوَّل مَا نَزَل مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِذَا سَجَدَ لِلتِّلاَوَةِ قَامَ فَقَرَأَ مِنَ الْبَقَرَةِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ، وَعَنْهُ: أَنَّهُ يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْقَلَمِ فِي عِشَاءِ الآْخِرَةِ مِنَ اللَّيْلَةِ الأُْولَى مِنْ رَمَضَانَ.
قَال الشَّيْخُ: وَهُوَ أَحْسَنُ مِمَّا نُقِل عَنْهُ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِهَا التَّرَاوِيحَ وَيَخْتِمُ آخِرَ رَكْعَةٍ مِنَ التَّرَاوِيحِ قَبْل رُكُوعِهِ وَيَدْعُو، نَصَّ عَلَيْهِ (2) .
الْمَسْبُوقُ فِي التَّرَاوِيحِ:
18 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ فَاتَهُ بَعْضُ التَّرَاوِيحِ وَقَامَ الإِْمَامُ إِلَى الْوِتْرِ أَوْتَرَ مَعَهُ ثُمَّ صَلَّى مَا فَاتَهُ (3) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 315، وأسنى المطالب 1 / 201.
(2) كشاف القناع 1 / 426 - 427، المغني 2 / 169، ومطالب أولي النهى 1 / 566.
(3) الدر المختار ورد المحتار 1 / 473.(27/148)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ أَدْرَكَ مَعَ الإِْمَامِ رَكْعَةً فَلاَ يَخْلُو أَنْ تَكُونَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ الأَْخِيرَتَيْنِ مِنَ التَّرْوِيحَةِ أَوْ مِنَ الأُْولَيَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الأَْخِيرَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَقْضِي الرَّكْعَةَ الَّتِي فَاتَتْهُ بَعْدَ سَلاَمِ الإِْمَامِ فِي أَثْنَاءِ فَتْرَةِ الرَّاحَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لاَ يُسَلِّمُ سَلاَمَهُ وَلَكِنْ يَقُومُ فَيَصْحَبُ الإِْمَامَ فَإِذَا قَامَ الإِْمَامُ مِنَ الرَّكْعَةِ الأُْولَى مِنَ الأُْخْرَيَيْنِ تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ ثُمَّ دَخَل مَعَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُْخْرَيَيْنِ فَصَلَّى مِنْهُمَا رَكْعَةً ثُمَّ قَضَى الثَّانِيَةَ مِنْهُمَا حِينَ انْفِرَادِهِ بِالتَّنَفُّل (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: سُئِل أَحْمَدُ عَمَّنْ أَدْرَكَ مِنْ تَرْوِيحَةٍ رَكْعَتَيْنِ يُصَلِّي إِلَيْهَا رَكْعَتَيْنِ؟ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ، وَقَال: هِيَ تَطَوُّعٌ (2) .
قَضَاءُ التَّرَاوِيحِ:
19 - إِذَا فَاتَتْ صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ عَنْ وَقْتِهَا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ كَلاَمِهِمْ إِلَى أَنَّهَا لاَ تُقْضَى؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِآكَدَ مِنْ سُنَّةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَتِلْكَ لاَ تُقْضَى فَكَذَلِكَ هَذِهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ قَضَاهَا كَانَتْ نَفْلاً مُسْتَحَبًّا لاَ تَرَاوِيحَ كَرَوَاتِبِ اللَّيْل؛ لأَِنَّهَا مِنْهَا،
__________
(1) المنتقى 1 / 210.
(2) المغني 2 / 170.(27/149)
وَالْقَضَاءُ عِنْدَهُمْ مِنْ خَوَاصِّ الْفَرْضِ وَسُنَّةُ الْفَجْرِ بِشَرْطِهَا.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤَدِّ التَّرَاوِيحَ فِي وَقْتِهَا فَإِنَّهُ يَقْضِيهَا وَحْدَهُ مَا لَمْ يَدْخُل وَقْتُ تَرَاوِيحَ أُخْرَى، وَقِيل: مَا لَمْ يَمْضِ الشَّهْرُ (1) .
وَلَمْ نَجِدْ تَصْرِيحًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
لَكِنْ قَال النَّوَوِيُّ: لَوْ فَاتَ النَّفَل الْمُؤَقَّتُ نُدِبَ قَضَاؤُهُ فِي الأَْظْهَرِ (2) .
__________
(1) رد المحتار 1 / 473، وكشاف القناع 1 / 426.
(2) مغني المحتاج 1 / 224.(27/149)
صَلاَةُ التَّسْبِيحِ
التَّعْرِيفُ:
1 - صَلاَةُ التَّسْبِيحِ نَوْعٌ مِنْ صَلاَةِ النَّفْل تُفْعَل عَلَى صُورَةٍ خَاصَّةٍ يَأْتِي بَيَانُهَا. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ صَلاَةُ التَّسْبِيحِ لِمَا فِيهَا مِنْ كَثْرَةِ التَّسْبِيحِ، فَفِيهَا فِي كُل رَكْعَةٍ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ تَسْبِيحَةً (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ صَلاَةِ التَّسْبِيحِ، وَسَبَبُ اخْتِلاَفِهِمْ فِيهَا اخْتِلاَفُهُمْ فِي ثُبُوتِ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهَا:
2 - الْقَوْل الأَْوَّل: قَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ:
هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ. وَقَال النَّوَوِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ:
هِيَ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهَا، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّاهُ، أَلاَ أُعْطِيكَ أَلاَ أَمْنَحُكَ، أَلاَ أَحْبُوكَ، أَلاَ أَفْعَل بِكَ - عَشْرَ خِصَالٍ - إِذَا أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ذَنْبَكَ أَوَّلَهُ، وَآخِرَهُ، قَدِيمَهُ، وَحَدِيثَهُ، خَطَأَهُ، وَعَمْدَهُ،
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 119.(27/150)
صَغِيرَهُ، وَكَبِيرَهُ، سِرَّهُ، وَعَلاَنِيَتَهُ، عَشْرُ خِصَالٍ: أَنْ تُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ: تَقْرَأَ فِي كُل رَكْعَةٍ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَسُورَةً، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي أَوَّل رَكْعَةٍ وَأَنْتَ قَائِمٌ قُلْتَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً، ثُمَّ تَرْكَعَ وَتَقُولَهَا وَأَنْتَ رَاكِعٌ عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ فَتَقُولَهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَهْوِي سَاجِدًا فَتَقُولَهَا وَأَنْتَ سَاجِدٌ عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعَ رَأْسَكَ مِنَ السُّجُودِ فَتَقُولَهَا عَشْرًا ثُمَّ تَسْجُدَ فَتَقُولَهَا عَشْرًا، ثُمَّ تَرْفَعَ رَأْسَكَ فَتَقُولَهَا عَشْرًا، فَذَلِكَ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ فِي كُل رَكْعَةٍ تَفْعَل ذَلِكَ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُصَلِّيَهَا فِي كُل يَوْمٍ مَرَّةً فَافْعَل، فَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَفِي كُل جُمُعَةٍ مَرَّةً فَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَفِي كُل شَهْرٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَفِي كُل سَنَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَفِي عُمُرِكَ مَرَّةً (1) .
قَالُوا: وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَقَال النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. وَقَال الزَّرْكَشِيُّ:
الْحَدِيثُ صَحِيحٌ وَلَيْسَ بِضَعِيفٍ وَقَال
__________
(1) حديث صلاة التسبيح: " يا عباس، يا عماه. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 67 - 68 - عزت عبيد دعاس) ، من حديث ابن عباس، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب (1 / 467 - 468 - ط. الحلبي) ونقل عن غير واحد من العلماء أنه صححه.(27/150)
ابْنُ الصَّلاَحِ: حَدِيثُهَا حَسَنٌ وَمِثْلُهُ قَال النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِ الأَْسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ.
وَقَال الْمُنْذِرِيُّ: رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ اهـ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ نَفْسِهِ وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
3 - الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهَا لاَ بَأْسَ بِهَا، وَذَلِكَ يَعْنِي الْجَوَازَ. قَالُوا: لَوْ لَمْ يَثْبُتِ الْحَدِيثُ فِيهَا فَهِيَ مِنْ فَضَائِل الأَْعْمَال فَيَكْفِي فِيهَا الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ. وَلِذَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ فَعَلَهَا إِنْسَانٌ فَلاَ بَأْسَ فَإِنَّ النَّوَافِل وَالْفَضَائِل لاَ يُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْحَدِيثِ فِيهَا (1) .
4 - وَالْقَوْل الثَّالِثُ: أَنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ. قَال النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ: فِي اسْتِحْبَابِهَا نَظَرٌ لأَِنَّ حَدِيثَهَا ضَعِيفٌ وَفِيهَا تَغْيِيرٌ لِنَظْمِ الصَّلاَةِ الْمَعْرُوفِ فَيَنْبَغِي أَلاَّ يُفْعَل بِغَيْرِ حَدِيثٍ وَلَيْسَ حَدِيثُهَا بِثَابِتٍ، وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ أَحْمَدَ لَمْ يُثْبِتِ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِيهَا، وَلَمْ يَرَهَا مُسْتَحَبَّةً. قَال: وَقَال أَحْمَدُ: مَا تُعْجِبُنِي.
قِيل لَهُ: لِمَ؟ قَال: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يَصِحُّ، وَنَفَضَ يَدَهُ كَالْمُنْكِرِ. وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِيهَا جَعَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ. وَقَال ابْنُ حَجَرٍ فِي
__________
(1) المجموع للنووي 4 / 54، نهاية المحتاج 2 / 119، وعون المعبود 4 / 176 - 183 نشر دار الفكر، والمغني لابن قدامة 2 / 132 الطبعة الثالثة، التلخيص الحبير 2 / 7.(27/151)
التَّلْخِيصِ: الْحَقُّ أَنَّ طُرُقَهُ كُلَّهَا ضَعِيفَةٌ، وَإِنْ كَانَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقْرَبُ مِنْ شَرْطِ الْحَسَنِ إِلاَّ أَنَّهُ شَاذٌّ لِشِدَّةِ الْفَرْدِيَّةِ فِيهِ وَعَدَمِ الشَّاهِدِ وَالْمُتَابِعِ مِنْ وَجْهٍ مُعْتَبَرٍ، وَمُخَالَفَةِ هَيْئَتِهَا لِهَيْئَةِ بَاقِي الصَّلَوَاتِ: قَال: وَقَدْ ضَعَّفَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَالْمُزَنِيُّ، وَتَوَقَّفَ الذَّهَبِيُّ، حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي فِي أَحْكَامِهِ. اهـ.
وَلَمْ نَجِدْ لِهَذِهِ الصَّلاَةِ ذِكْرًا فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ مَا نُقِل فِي التَّلْخِيصِ الْحَبِيرِ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ قَال: لَيْسَ فِيهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلاَ حَسَنٌ (1) .
كَيْفِيَّةُ صَلاَةِ التَّسْبِيحِ وَوَقْتُهَا:
5 - الَّذِينَ قَالُوا بِاسْتِحْبَابِ صَلاَةِ التَّسْبِيحِ أَوْ جَوَازِهَا رَاعُوا فِي الْكَيْفِيَّةِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَمَا يُقَال فِيهَا مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيل وَالْحَوْقَلَةِ بِالأَْعْدَادِ الْوَارِدَةِ وَمَوَاضِعِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْكَيْفِيَّةِ. وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهَا تُصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لاَ أَكْثَرَ، وَبِتَسْلِيمٍ وَاحِدٍ إِنْ كَانَتْ فِي النَّهَارِ وَتَسْلِيمَيْنِ إِنْ كَانَتْ فِي اللَّيْل. وَأَنَّ الأَْفْضَل فِعْلُهَا كُل يَوْمٍ مَرَّةً، وَإِلاَّ فَجُمُعَةٍ، وَإِلاَّ فَشَهْرٍ، وَإِلاَّ فَسَنَةٍ، وَإِلاَّ فَفِي الْعُمْرِ مَرَّةً.
__________
(1) المجموع للنووي 5 / 54، ونهاية المحتاج 2 / 119، والمغني 2 / 132، وعون المعبود 4 / 183، وكشاف القناع 1 / 444، والتلخيص الحبير 2 / 7.(27/151)
صَلاَةُ التَّطَوُّعِ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّطَوُّعُ لُغَةً: التَّبَرُّعُ، يُقَال: تَطَوَّعَ بِالشَّيْءِ، تَبَرَّعَ بِهِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي الاِصْطِلاَحِ أَنَّهُ اسْمٌ لِمَا شُرِعَ زِيَادَةً عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ. أَوْ مَا كَانَ مَخْصُوصًا بِطَاعَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ، أَوْ هُوَ الْفِعْل الْمَطْلُوبُ طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ. وَتَفْصِيل الاِصْطِلاَحَاتِ الْفِقْهِيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَطَوُّع) (1) .
وَصَلاَةُ التَّطَوُّعِ هِيَ مَا زَادَتْ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ (2) . لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ السَّائِل عَنِ الإِْسْلاَمِ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَقِيل: هَل عَلَيَّ غَيْرُهَا قَال: لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ (3) .
أَنْوَاعُ صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
2 - الأَْصْل فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ أَنْ تُؤَدَّى عَلَى
__________
(1) الموسوعة 12 / 146.
(2) كشف الأسرار 2 / 302، وكشاف اصطلاحات الفنون مادتي (طوع ونفل) .
(3) حديث: " خمس صلوات في اليوم والليلة ". أخرجه مسلم (1 / 41 - ط. الحلبي) من حديث طلحة بن عبيد الله.(27/152)
انْفِرَادٍ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ:
مِنْهَا: السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ، وَهِيَ السُّنَنُ التَّابِعَةُ لِلْفَرَائِضِ، وَهِيَ عَشْرُ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَانِ قَبْل الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهُ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَانِ قَبْل الْفَجْرِ.
وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: وَأَرْبَعٌ قَبْل الْعَصْرِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْل الْعَصْرِ أَرْبَعًا (1) وَآكَدُ هَذِهِ الرَّكَعَاتِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ (2) ".
حَيْثُ قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِل أَشَدُّ مِنْهُ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (3) .
وَمِنْ هَذِهِ السُّنَنِ مَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْفَرَائِضِ، وَمِنْهَا مَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا، وَفِي ذَلِكَ مَعْنًى لَطِيفٌ مُنَاسِبٌ:
أَمَّا فِي التَّقْدِيمِ فَلأَِنَّ النُّفُوسَ - لاِشْتِغَالِهَا بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا - بَعِيدَةٌ عَنْ حَال الْخُشُوعِ
__________
(1) حديث: " رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا ". أخرجه الترمذي (2 / 296 - ط. الحلبي) . وحسنه.
(2) حاشية رد المحتار 2 / 12 - 15، حاشية الدسوقي 1 / 312 - 313، نهاية المحتاج 2 / 105، المغني لابن قدامة 2 / 129 - 130، منتهى الإرادات 1 / 99 - 100.
(3) حديث عائشة: " لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد منه تعاهدا على ركعتي الفجر ". أخرجه البخارى (الفتح 3 / 45 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 501 - ط. الحلبي) واللفظ للبخاري.(27/152)
وَالْحُضُورِ الَّتِي هِيَ رَوْحُ الْعِبَادَةِ، فَإِذَا قُدِّمَتِ النَّوَافِل عَلَى الْفَرَائِضِ أَنِسَتِ النَّفْسُ بِالْعِبَادَةِ.
وَأَمَّا تَأْخِيرُهَا عَنْهَا فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّوَافِل جَابِرَةٌ لِنَقْصِ الْفَرَائِضِ، فَإِذَا وَقَعَ الْفَرْضُ نَاسَبَ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهُ مَا يُجْبِرُ الْخَلَل الَّذِي قَدْ يَقَعُ فِيهِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ: (رَاتِب، وَسُنَن رَوَاتِب) .
وَمِنْ صَلاَةِ التَّطَوُّعِ صَلَوَاتٌ مُعَيَّنَةٌ غَيْرُ السُّنَنِ مَعَ الْفَرَائِضِ وَالتَّطَوُّعَاتِ الْمُطْلَقَةِ وَمِنْهَا:
3 - صَلاَةُ الضُّحَى: وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَال: أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلاَثٍ لاَ أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُل شَهْرٍ، وَصَلاَةِ الضُّحَى، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ (2) .
انْظُرْ (صَلاَةُ الضُّحَى؛ وَصَلاَةُ الأَْوَّابِينَ) .
4 - صَلاَةُ التَّسْبِيحِ: لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ إِلَى صَلاَتِهَا مَرَّةً كُل يَوْمٍ، أَوْ كُل جُمُعَةٍ، أَوْ كُل شَهْرٍ، أَوْ كُل سَنَةٍ. . .
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 312، الخرشي على مختصر خليل 2 / 3.
(2) حديث أبي هريرة: " أوصاني خليلي بثلاث. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 56 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 499 - ط. الحلبي) واللفظ المذكور للبخاري.(27/153)
أَوْ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً (1) .
وَقَال أَحْمَدُ عَنْهَا: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يَصِحُّ، وَلَمْ يَرَهَا مُسْتَحَبَّةً، وَإِنْ فَعَلَهَا إِنْسَانٌ فَلاَ بَأْسَ، فَإِنَّ النَّوَافِل وَالْفَضَائِل لاَ يُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْحَدِيثِ فِيهَا (2) .
وَأَمْثِلَةُ الصَّلاَةِ الْمُتَطَوَّعِ بِهَا كَثِيرَةٌ كَصَلاَةِ الاِسْتِخَارَةِ، وَصَلاَةِ الْحَاجَةِ، وَصَلاَةِ التَّوْبَةِ، وَصَلاَةِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَرَكْعَتَيِ السَّفَرِ وَغَيْرِهَا فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحَاتِهَا الْخَاصَّةِ (3) .
الْفَرْقُ بَيْنَ أَحْكَامِ صَلاَةِ التَّطَوُّعِ وَأَحْكَامِ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ:
5 - صَلاَةُ التَّطَوُّعِ تُفَارِقُ صَلاَةَ الْفَرْضِ فِي أَشْيَاءَ مِنْهَا:
الصَّلاَةِ جُلُوسًا: يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ؛ لأَِنَّ التَّطَوُّعَ خَيْرٌ دَائِمٌ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْقِيَامَ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ إِدَامَةُ هَذَا الْخَيْرِ.
أَمَّا الْفَرْضُ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الأَْوْقَاتِ، فَلاَ يَكُونُ فِي إِلْزَامِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَرَجٌ.
الْقِرَاءَةِ: الْقِرَاءَةُ فِي التَّطَوُّعِ تَكُونُ فِيمَا سِوَى
__________
(1) حديث: " صلاة التسبيح ". أخرجه أبو داود (2 / 67 - 68 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ابن عباس، ونقل المنذري عن جمع من العلماء أنهم صححوه (كذا في الترغيب 1 / 468 - ط. الحلبي) .
(2) المغني 2 / 131 - 132
(3) انظر المراجع السابقة.(27/153)
الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّلاَثِيَّةِ مِنَ الْمَكْتُوبَاتِ فَهِيَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ فَقَطْ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَاءَة) .
الْجُلُوسِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ: الْجُلُوسُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّلاَثِيَّةِ فِي الْفَرَائِضِ لَيْسَ بِفَرْضٍ بِلاَ خِلاَفٍ، وَلاَ يَفْسُدُ الْفَرْضُ بِتَرْكِهِ، وَفِي التَّطَوُّعِ اخْتِلاَفٌ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (صَلاَة) .
الْجَمَاعَةُ فِي التَّطَوُّعِ: الْجَمَاعَةُ فِي التَّطَوُّعِ لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ إِلاَّ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، وَفِي الْفَرْضِ وَاجِبَةٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ (1) .
انْظُرْ: (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) .
الْوَقْتُ وَالْمِقْدَارُ: التَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِوَقْتٍ خَاصٍّ، وَلاَ مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ، فَيَجُوزُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ عَلَى أَيِّ مِقْدَارٍ كَانَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ وَعَلَى بَعْضِ الْمَقَادِيرِ.
وَالْفَرْضُ مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ، مُوَقَّتٌ بِأَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، فَلاَ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى
__________
(1) حديث: " صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا ". أخرجه أبو داود (1 / 632 - 633 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث زيد بن ثابت، وإسناده صحيح.(27/154)
قَدْرِهِ. انْظُرْ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
النِّيَّةِ: يَتَأَدَّى التَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَلاَ يَتَأَدَّى الْفَرْضُ إِلاَّ بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ، انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (نِيَّة) .
الصَّلاَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا: يَجُوزُ التَّنَفُّل عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُول، أَمَّا أَدَاءُ الْفَرْضِ عَلَى الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ. عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ يُنْظَرُ فِي: (الصَّلاَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ) .
الصَّلاَةُ فِي الْكَعْبَةِ وَعَلَى ظَهْرِهَا: لاَ تَصِحُّ الْفَرِيضَةُ فِي الْكَعْبَةِ وَلاَ عَلَى ظَهْرِهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (1) وَالْمُصَلِّي فِيهَا أَوْ عَلَى ظَهْرِهَا غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لَهَا؛ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَقْبِلٌ لِجُزْءٍ مِنْهَا.
وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ شَرْطٌ لِلصَّلاَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ إِلاَّ فِي النَّفْل لِلْمُسَافِرِ السَّائِرِ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا فَيُصَلِّي حَيْثُ تَوَجَّهَ، وَقِيل لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ إِلاَّ لِلرَّاكِبِ.
وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ. صَلاَةَ الْفَرِيضَةِ فِي الْكَعْبَةِ وَعَلَى ظَهْرِهَا؛ لأَِنَّهُ مَسْجِدٌ؛ وَلأَِنَّهُ مَحَلٌّ لِصَلاَةِ النَّفْل، فَكَانَ مَحَلًّا لِلْفَرْضِ كَخَارِجِهَا. وَلَكِنْ النَّافِلَةُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّخْفِيفِ وَالْمُسَامَحَةِ بِدَلِيل صَلاَتِهَا قَاعِدًا وَإِلَى
__________
(1) سورة البقرة - الآية 144.(27/154)
غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَفِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ (1) .
مَا يُكْرَهُ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
6 - الْمَكْرُوهُ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ نَوْعَانِ (2) :.
النَّوْعُ الأَْوَّل: وَهُوَ مَا يَرْجِعُ إِلَى الْقَدْرِ.
تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي النَّهَارِ، وَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي صَلاَةِ اللَّيْل، فَلِلْمُصَلِّي أَنْ يُصَلِّيَ سِتًّا وَثَمَانِيًا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّوَافِل شُرِعَتْ تَبَعًا لِلْفَرَائِضِ، وَالتَّبَعُ لاَ يُخَالِفُ الأَْصْل فَلَوْ زِيدَتْ عَلَى الأَْرْبَعِ فِي النَّهَارِ لَخَالَفَتِ الْفَرَائِضَ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي اللَّيْل، إِلاَّ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الأَْرْبَعِ إِلَى الثَّمَانِي أَوْ إِلَى السِّتِّ مَعْرُوفٌ بِالنَّصِّ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْل خَمْسَ رَكَعَاتٍ، سَبْعَ رَكَعَاتٍ، تِسْعَ رَكَعَاتٍ، إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً.
وَالثَّلاَثُ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْعْدَادِ الْوِتْرُ وَرَكْعَتَانِ مِنْ ثَلاَثَةَ عَشَرَ سُنَّةُ الْفَجْرِ،
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 73، المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل 1 / 41، منتهى الإرادات 1 / 67. وحديث: " صلى النبي صلى الله عليه وسلم في البيت ركعتين ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 500 - ط السلفية)
(2) انظر: البدائع 2 / 741، المغني 2 / 123 - 125، منتهى الإرادات 1 / 101.(27/155)
فَيَبْقَى رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ وَسِتٌّ وَثَمَانٌ، فَيَجُوزُ إِلَى هَذَا الْقَدْرِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.
7 - وَاخْتَلَفُوا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَانِي بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ:
قَال بَعْضُهُمْ: يُكْرَهُ (1) لأَِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ عَلَى هَذَا لَمْ تُرْوَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ يُكْرَهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ السَّرَخْسِيُّ. قَال: لأَِنَّ فِيهِ وَصْل الْعِبَادَةِ بِالْعِبَادَةِ فَلاَ يُكْرَهُ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ أَنَّ مُنْتَهَى صَلاَةِ الضُّحَى - عِنْدَ أَهْل الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ - ثَمَانٍ، وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ، وَأَوْسَطُهَا سِتٌّ، فَمَا زَادَ عَلَى الأَْكْثَرِ يُكْرَهُ (2) .
النَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَرْجِعُ إِلَى الْوَقْتِ.
8 - فَيُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِي الأَْوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ، بَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ، وَبَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْوَقْتِ: فَأَمَّا الَّذِي يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إِلَى الْوَقْتِ فَهِيَ: مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ تَرْتَفِعَ وَتَبْيَضَّ. عِنْدَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ تَزُول. عِنْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ، وَهُوَ احْمِرَارُهَا وَاصْفِرَارُهَا إِلَى أَنْ تَغْرُبَ.
__________
(1) حاشية رد المحتار على الدر المختار 2 / 15.
(2) الخرشى على مختصر خليل 2 / 4.(27/155)
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
9 - وَمِنَ الأَْوْقَاتِ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا التَّطَوُّعُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْوَقْتِ مَا بَعْدَ الْغُرُوبِ؛ لأَِنَّ فِيهِ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ.
وَمِنْهَا مَا بَعْدَ شُرُوعِ الإِْمَامِ فِي الصَّلاَةِ، وَقَبْل شُرُوعِهِ بَعْدَمَا أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الإِْقَامَةِ؛ قَضَاءً لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ.
وَمِنْهَا وَقْتُ الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ لأَِنَّهَا سَبَبٌ لِتَرْكِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ.
وَمِنْهَا مَا بَعْدَ خُرُوجِ الإِْمَامِ لِلْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْل أَنْ يَشْتَغِل بِهَا وَمَا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا قَبْل أَنْ يَشْرَعَ فِي الصَّلاَةِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ عَلَى خِلاَفٍ فِيهَا انْظُرْ: (تَحِيَّة) .
وَمِنْهَا مَا قَبْل صَلاَةِ الْعِيدِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَطَوَّعْ قَبْل الْعِيدَيْنِ (1) مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى الصَّلاَةِ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ أَنَّهُمَا كَانَا يَنْهَيَانِ النَّاسَ عَنِ الصَّلاَةِ قَبْل الْعِيدِ؛ لأَِنَّ الْمُبَادَرَةَ إِلَى صَلاَةِ الْعِيدِ مَسْنُونَةٌ، وَفِي الاِشْتِغَال بِالتَّطَوُّعِ تَأْخِيرُهَا، وَلَوِ اشْتَغَل بِأَدَاءِ التَّطَوُّعِ فِي بَيْتِهِ يَقَعُ فِي وَقْتِ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتطوع قبل العيدين ". ورد من حديث ابن عباس، أخرجه البخاري (الفتح 2 / 476 - ط. السلفية) ومسلم (2 / 606 - ط. الحلبي) .(27/156)
طُلُوعِ الشَّمْسِ وَكِلاَهُمَا مَكْرُوهٌ، وَقِيل إِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الْمُصَلَّى كَيْ لاَ يَشْتَبِهَ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الْعِيدَ قَبْل صَلاَةِ الْعِيدِ، فَأَمَّا فِي بَيْتِهِ فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَعَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَتَطَوَّعُ قَبْل صَلاَةِ الْعِيدِ، لاَ فِي الْمُصَلَّى وَلاَ فِي بَيْتِهِ، فَأَوَّل الصَّلاَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ صَلاَةُ الْعِيدِ (1) .
الأَْوْقَاتُ الْمُسْتَحَبَّةُ لِلنَّفْل:
10 - النَّوَافِل الْمُطْلَقَةُ تُشْرَعُ فِي اللَّيْل كُلِّهِ وَفِي النَّهَارِ فِيمَا سِوَى أَوْقَاتِ النَّهْيِ، وَتَطَوُّعُ اللَّيْل أَفْضَل مِنْ تَطَوُّعِ النَّهَارِ. قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْضَل الصَّلاَةَ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْل، وَأَفْضَل التَّهَجُّدِ جَوْفُ اللَّيْل الآْخِرِ (2) وَلِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ أَيُّ اللَّيْل أَسْمَعُ؟ قَال: جَوْفُ اللَّيْل الآْخِرِ (3) .
وَيُسْتَحَبُّ الْوِتْرُ قَبْل صَلاَةِ الْفَجْرِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ. وَالأَْفْضَل فِعْل الْوِتْرِ فِي آخِرِ اللَّيْل، فَإِذَا غَلَبَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 557 - 558.
(2) المغني 2 / 135 - 136. وحديث: " أفضل الصلاة بعد الفريضة ". أخرجه مسلم (2 / 821 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " أي الليل أسمع. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 56 - 57 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.(27/156)
عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لاَ يَقُومُ آخِرَ اللَّيْل فَلْيَفْعَلْهُ فِي أَوَّلِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ خَافَ أَنْ لاَ يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْل فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْل، فَإِنَّ صَلاَةَ آخِرِ اللَّيْل مَشْهُودَةٌ وَذَلِكَ أَفْضَل (1) انْظُرْ: (صَلاَةُ الْوِتْرِ) .
الشُّرُوعُ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
11 - يَلْزَمُ النَّفَل بِالشُّرُوعِ فِيهِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (2) وَلأَِنَّ مَا أَدَّاهُ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ صِيَانَتُهُ بِلُزُومِ الْبَاقِي.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يَلْزَمُ؛ لأَِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيمَا لَمْ يَفْعَل بَعْدُ، فَلَهُ إِبْطَال مَا أَدَّاهُ تَبَعًا (3) .
12 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا شَرَعَ الْمُتَطَوِّعُ فِي الصَّلاَةِ فَقَدْ قِيل: لاَ يَلْزَمُ بِالاِفْتِتَاحِ أَكْثَرُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِعَارِضِ الاِقْتِدَاءِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ: الأُْولَى - أَنَّ مَنِ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ يَنْوِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ أَرْبَعًا.
__________
(1) حديث: " من خاف أن لا يقوم من آخر الليل ". أخرجه مسلم (1 / 520 - ط. الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) سورة محمد / 33.
(3) التوضيح على التلويح. 2 / 683، البناني على جمع الجوامع 1 / 80، 90 - 91، والحطاب 2 / 90 وابن عابدين 1 / 452، ودليل الطالب 1 / 79، والمجموع 6 / 393.(27/157)
الثَّانِيَةُ - أَنَّ مَنِ افْتَتَحَ النَّافِلَةَ يَنْوِي عَدَدًا يَلْزَمُهُ بِالاِفْتِتَاحِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ رَكْعَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلُّزُومِ كَالنَّذْرِ، ثُمَّ يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ جَمِيعُ مَا تَنَاوَلَهُ كَذَا بِالشُّرُوعِ.
الثَّالِثَةُ - أَنَّ مَنْ نَوَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَزِمَهُ، وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ. وَكَذَا فِي السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ بِالشُّرُوعِ فِيهَا إِلاَّ رَكْعَتَانِ، حَتَّى لَوْ قَطَعَهَا قَضَى رَكْعَتَيْنِ لأَِنَّهُ نَفْلٌ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ قَضَى أَرْبَعًا.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَكْعَتَانِ بِالشُّرُوعِ فَفَرَغَ مِنْهُمَا وَقَعَدَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَقَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ عَلَى قَصْدِ الأَْدَاءِ يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ وَيَبْنِيهِمَا عَلَى التَّحْرِيمَةِ الأُْولَى؛ لأَِنَّ قَدْرَ الْمُؤَدَّى صَارَ عِبَادَةً فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُ الرَّكْعَتَيْنِ صِيَانَةً لَهُ عَنِ الْبُطْلاَنِ (1) .
الأَْفْضَل فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
13 - أَفْضَل التَّطَوُّعِ فِي النَّهَارِ أَرْبَعٌ أَرْبَعٌ فِي قَوْل الْحَنَفِيَّةِ (2) ، فَقَدْ صَلَّى ابْنُ عُمَرَ صَلاَةَ التَّطَوُّعِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بِالنَّهَارِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَرْبَعٌ قَبْل الظُّهْرِ لَيْسَ فِيهِنَّ تَسْلِيمٌ، تُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 733 - 734.
(2) المرجع السابق 2 / 739.(27/157)
السَّمَاءِ (1) وَلأَِنَّ مَفْهُومَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ اللَّيْل مَثْنَى مَثْنَى (2) أَنَّ صَلاَةَ النَّهَارِ رُبَاعِيَّةٌ جَوَازًا لاَ تَفْضِيلاً.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: النَّوَافِل بِاللَّيْل وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى يُسَلِّمُ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْفْضَل لِلْمُتَنَفِّل لَيْلاً وَنَهَارًا أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ، لِخَبَرِ: صَلاَةُ اللَّيْل وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى (4) .
وَقَدْ قَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي صَلاَةِ اللَّيْل: إِنَّهَا مَثْنَى. . مَثْنَى.
وَصَلاَةُ اللَّيْل - عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - أَرْبَعٌ، احْتِجَاجًا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قِيَامِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ: مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ، وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسْأَل عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلاَ
__________
(1) حديث: " أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم ". أخرجه أبو داود (1 / 53 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي أيوب. ثم ذكر أبو داود تضيف أحد رواته.
(2) حديث: " صلاة الليل مثنى مثنى. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 477 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 516 - ط. الحلبي) من حديث ابن عمر.
(3) القوانين الفقهية ص 62.
(4) نهاية المحتاج 2 / 126 وحديث: " صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ". أخرجه الترمذي (2 / 491 - ط. الحلبي) من حديث ابن عمر، ونقل البيهقي في السنن (2 / 487 - ط. دائرة المعارف العثمانية) عن البخاري أنه صححه.(27/158)
تَسْأَل عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا (1) وَكَلِمَةُ: (كَانَ) عِبَارَةٌ عَنِ الْعَادَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ، وَمَا كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَاظِبُ إِلاَّ عَلَى أَفْضَل الأَْعْمَال، وَأَحَبَّهَا إِلَى اللَّهِ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: صَلاَةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْل لاَ تَجُوزُ إِلاَّ مَثْنَى مَثْنَى، وَالأَْفْضَل فِي تَطَوُّعِ النَّهَارِ كَذَلِكَ مَثْنَى مَثْنَى، وَإِنْ تَطَوَّعَ بِأَرْبَعٍ فِي النَّهَارِ فَلاَ بَأْسَ (3) .
مَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
لَيْسَ هُنَاكَ مَا يُفِيدُ تَوْقِيفًا فِي الْقِرَاءَةِ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ، وَلَكِنْ هُنَاكَ مَا يُفِيدُ نَدْبَ آيَاتٍ أَوْ سُوَرٍ مُعَيَّنَةٍ فِي صَلَوَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، مِنْهَا عَلَى سَبِيل الْمِثَال:
الرَّكْعَتَانِ قَبْل الْفَجْرِ:
14 - يُسْتَحَبُّ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ التَّخْفِيفُ، وَمِنْ صُوَرِ التَّخْفِيفِ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ، وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُخَفِّفُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ عَلَى مَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ قَالَتْ: حَتَّى إِنِّي أَقُول: هَل
__________
(1) حديث عائشة: " أنها سئلت عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 251 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 509 - ط. الحلبي) .
(2) بدائع الصنائع 2 / 739 - 740.
(3) المغني 2 / 123، منتهى الإرادات 1 / 101.(27/158)
قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ؟ (1) .
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ مَعَ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ السُّورَتَيْنِ هُمَا: (الْكَافِرُونَ) وَ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) .
وَقَال ابْنُ عُمَرَ: رَمَقْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا، فَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْل الْفَجْرِ بِ {قُل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) .
وَوَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (4) فِي الأُْولَى مِنْهُمَا: {قُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِل إِلَيْنَا. . .} (5) الآْيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ مِنْهُمَا: {آمَنَّا بِاَللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا
__________
(1) حديث عائشة: " أنه كان يخفف ركعتي الفجر. . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 46 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 501 - ط. الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) حديث أبي هريرة: " أن السورتين هما الكافرون وقل هو الله أحد. . . ". أخرجه مسلم (1 / 502 - ط. الحلبي) .
(3) حديث ابن عمر: " رمقت النبي صلى الله عليه وسلم شهرا ". أخرجه الترمذي (2 / 276 - ط. الحلبي) وقال: حديث حسن.
(4) حديث ابن عباس: (كان يقرأ في ركعتي الفجر. . .) . أخرجه مسلم 1 / 502 - ط. الحلبي) .
(5) سورة البقرة / 136.(27/159)
مُسْلِمُونَ} (1) .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّهُ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُول فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (2) أَوْ {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَل عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} (3) } ، فَسُنَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِيَتَحَقَّقَ الإِْتْيَانُ بِالْوَارِدِ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلاَفِ الرِّوَايَاتِ اخْتِلاَفُ قِرَاءَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الصَّلاَةِ، وَاخْتِلاَفُهُمْ فِي تَعْيِينِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ تَوْقِيفَ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي الْقِرَاءَةِ يُسْتَحَبُّ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا الْمَرْءُ حِزْبَهُ مِنَ اللَّيْل (4) .
الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ:
15 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا {قُل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا أُحْصِي مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُول
__________
(1) سورة آل عمران / 52.
(2) سورة آل عمران / 53 وحديث قرأ في الثانية (ربنا آمنا بما أنزلت) أخرجه أبو داود (2 / 47 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة.
(3) سورة البقرة / 119.
(4) بدائع الصنائع 2 / 735 - 439، 747، بداية المجتهد 1 / 147، 150. نهاية المحتاج 2 / 103، 105، المغني 2 / 126، 128.(27/159)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْل صَلاَةِ الْفَجْرِ بِ {قُل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) .
رَكَعَاتُ الْوِتْرِ الثَّلاَثُ:
16 - عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} ، {قُل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) .
وَعَنْ عَائِشَةَ مِثْلُهُ، وَقَالَتْ: فِي الثَّالِثَةِ بِ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ (3) .
وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَقَال مَالِكٌ فِي الشَّفْعِ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِيهِ شَيْءٌ مَعْلُومٌ (4) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِل: يُقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي الْوِتْرِ؟ قَال: وَلِمَ لاَ يُقْرَأُ؟ ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} وَفِي الثَّانِيَةِ {قُل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَفِي الثَّالِثَةِ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ.
__________
(1) المغني 2 / 126، 128 وحديث ابن مسعود: (ما أحصي ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.) . أخرجه الترمذي (2 / 297 - ط. الحلبي) .
(2) حديث أبي بن كعب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ {سبح اسم ربك الأعلى} . أخرجه النسائي (3 / 244 - المكتبة التجارية) .
(3) حديث عائشة مثل حديث أبي بن كعب. أخرجه أبو داود (2 / 133 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(4) بداية المجتهد 1 / 147 - 150.(27/160)
التَّحَوُّل مِنَ الْمَكَانِ لِلتَّطَوُّعِ بَعْدَ الْفَرْضِ:
17 - مَنْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ وَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ، فَإِنْ كَانَ إِمَامًا اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّل مِنْ مَكَانِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ إِمَامٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ تَحَوَّل، وَإِنْ شَاءَ تَطَوَّعَ فِي مَكَانِهِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّحَوُّل بَعْدَ الْفَرْضِ لِلإِْمَامِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمَا، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَال: الْفَصْل بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ بِالْكَلاَمِ يَقُومُ مَقَامَ التَّحَوُّل (1) .
وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَال: صَلَّيْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ فَلَمَّا سَلَّمَ الإِْمَامُ قُمْتُ فِي مَقَامِي فَصَلَّيْتُ، فَلَمَّا دَخَل أَرْسَل إِلَيَّ فَقَال: لاَ تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ إِذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ فَلاَ تَصِلْهَا بِصَلاَةٍ حَتَّى تَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ، فَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا بِذَلِكَ (2) .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا كَانَ يُعْجِبُهُمَا إِذَا سَلَّمَ الإِْمَامُ أَنْ يَتَقَدَّمَ (3) .
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَإِسْحَاقَ،
__________
(1) البحر الرائق 2 / 35، المجموع 3 / 491، مصنف ابن أبي شيبة 2 / 208.
(2) حديث السائب بن زيد: " صليت مع معاوية. . . ". أخرجه مسلم (2 / 601 - ط. الحلبي) .
(3) المصنف 2 / 209، 210.(27/160)
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، إِلاَّ أَنَّ مَالِكًا كَرِهَ لِلْمَأْمُومِ - أَيْضًا - التَّطَوُّعَ بَعْدَ الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَحَوَّل (1) .
وَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُصَل الإِْمَامُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ حَتَّى يَتَحَوَّل (2) .
الْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
18 - الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ فِي صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِتَطَوُّعٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3) . (ر: صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ سُنَّةٌ فِي الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ، وَكَذَلِكَ فِي صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ إِلاَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ لاَ جَمَاعَةَ فِيهَا عِنْدَهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ صَلاَةَ فِيهَا (4) .
وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ عِنْدَ
__________
(1) المدونة 1 / 99، والمغني 1 / 562.
(2) حديث المغيرة بن شعبة: (لايصل الإمام في الموضع الذي صلى فيه) . أخرجه أبو داود (1 / 409 - 410) - تحقيق عزت عبيد دعاس وقال: " عطاء الخراساني لم يدرك المغيرة بن شعبة ".
(3) البدائع 1 / 275، وابن عابدين 1 / 371، وكشاف القناع 1 / 455، والدسوقي 1 / 320، ومغني المحتاج 1 / 225.
(4) البدائع 1 / 280، 282، 283، والدسوقي 1 / 320 وكشاف القناع 1 / 414، ومغني المحتاج 1 / 225.(27/161)
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ الْوِتْرِ سُنَّةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
أَمَّا مَا عَدَا مَا ذُكِرَ مِمَّا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ فَالأَْصْل فِيهِ أَنْ يُصَلَّى عَلَى انْفِرَادٍ لَكِنْ لَوْ صَلَّى جَمَاعَةً جَازَ (3) لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل الأَْمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا وَكَانَ أَكْثَرُ تَطَوُّعِهِ مُنْفَرِدًا وَصَلَّى بِأَنَسٍ وَأُمِّهِ وَالْيَتِيمِ (4) .
الْجَهْرُ وَالإِْسْرَارُ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
19 - يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِالنَّوَافِل لَيْلاً مَا لَمْ يُشَوِّشْ عَلَى مُصَلٍّ آخَرَ، وَالإِْسْرَارُ نَهَارًا. وَإِنَّمَا جَهَرَ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ لِحُضُورِ أَهْل الْبَوَادِي وَالْقُرَى كَيْ يَسْمَعُوهُ فَيَتَعَلَّمُوهُ وَيَتَّعِظُوا بِهِ. وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (جَهْرٌ ف 18) .
الْوُقُوفُ وَالْقُعُودُ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
20 - يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ؛ لأَِنَّ التَّطَوُّعَ خَيْرٌ دَائِمٌ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ
__________
(1) البدائع 1 / 288، والدسوقي 1 / 320، ومغني المحتاج 1 / 225، وشرح منتهى الإرادات 1 / 224.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 224، ومغني المحتاج 1 / 223، حاشية ابن عابدين 1 / 371.
(3) المغني 2 / 142، ومغني المحتاج 1 / 220، والبدائع 1 / 158 - 159، والدسوقي 1 / 320.
(4) حديث صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم بأنس وأمه واليتيم. أخرجه البخاري 1 / 488 ومسلم (1 / 457) .(27/161)
الْقِيَامَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِدَامَةُ هَذَا الْخَيْرِ (1) .
وَلأَِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَشُقُّ عَلَيْهِ طُول الْقِيَامِ، فَلَوْ وَجَبَ فِي التَّطَوُّعِ لَتُرِكَ أَكْثَرُهُ، فَسَامَحَ الشَّارِعُ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ فِيهِ تَرْغِيبًا فِي تَكْثِيرِهِ كَمَا سَامَحَ فِي فِعْلِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ (2) .
وَالأَْصْل فِي جَوَازِ النَّفْل قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي جَالِسًا، فَيَقْرَأُ وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ قَدْرُ مَا يَكُونُ ثَلاَثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً، قَامَ فَقَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ يَفْعَل فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْل ذَلِكَ (3) .
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ مَا يُفِيدُ التَّخْيِيرَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، حَيْثُ فَعَل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَْمْرَيْنِ، كَمَا زَادَتْ عَائِشَةُ: أَنَّهَا لَمْ تَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلاَةَ اللَّيْل قَاعِدًا قَطُّ حَتَّى أَسَنَّ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلاَثِينَ آيَةً أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً ثُمَّ رَكَعَ (4) .
__________
(1) البدائع 2 / 746.
(2) المغني 2 / 242.
(3) حديث عائشة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى جالسا ". أخرجه مسلم (1 / 505 - ط. الحلبي) .
(4) حديث عائشة: " أنها لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل قاعدا ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 589 - ط. السلفية) .(27/162)
وَعَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي لَيْلاً طَوِيلاً قَائِمًا، وَلَيْلاً طَوِيلاً قَاعِدًا، وَكَانَ إِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَإِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَاعِدٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ (1) .
وَلَوِ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْعُدَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا؛ لأَِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ فِي الاِبْتِدَاءِ فَكَذَا بَعْدَ الشُّرُوعِ؛ لأَِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ أَيْضًا.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لاَ يَجُوزُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لأَِنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا لاَ يَجُوزُ لَهُ الْقُعُودُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَكَذَا إِذَا شَرَعَ قَائِمًا.
وَلَوِ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا فَأَدَّى بَعْضَهَا قَاعِدًا، وَبَعْضَهَا قَائِمًا أَجْزَأَهُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ، فَقَدِ انْتَقَل مِنَ الْقُعُودِ إِلَى الْقِيَامِ، وَمِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ، فَدَل عَلَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ (2) .
وَقَدْ نُقِل عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَمُ جَوَازِ صَلاَةِ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَالتَّرَاوِيحِ قَاعِدًا، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ (3) .
__________
(1) حديث عائشة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى ليلا طويلا قائما ". أخرجه مسلم 1 / 504 - ط. الحلبي) .
(2) البدائع 2 / 747، وكشاف القناع 1 / 441.
(3) ابن عابدين 2 / 14.(27/162)
وَإِذَا لَمْ يُرْوَ خِلاَفٌ فِي إبَاحَةِ التَّطَوُّعِ جَالِسًا، فَقَدْ رُوِيَ تَفْضِيل الْقِيَامِ (1) حَيْثُ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَل، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ (2) . وَفِي رِوَايَةٍ صَلاَةُ الرَّجُل قَاعِدًا نِصْفُ الصَّلاَةِ (3) .
الصَّلاَةُ مُضْطَجِعًا:
21 - وَأَمَّا صَلاَةُ التَّطَوُّعِ مُضْطَجِعًا فَظَاهِرُ قَوْل أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَمُ الْجَوَازِ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ عَلَى افْتِرَاضِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالاِعْتِدَال عَنْهُمَا.
وَقَوْل الْجَوَازِ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ (4) وَقَدْ قَال الْحَسَنُ: إِنْ شَاءَ الرَّجُل صَلَّى صَلاَةَ التَّطَوُّعِ قَائِمًا أَوْ جَالِسًا أَوْ مُضْطَجِعًا.
__________
(1) المغني 2 / 143، منتهى الإرادات 1 / 104.
(2) حديث " من صلى قائما فهو أفضل ". أخرجه البخارى (الفتح 2 / 586 - ط. السلفية) من حديث عمران بن حصين.
(3) حديث: " صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة ". أخرجه مسلم (1 / 507 - ط. الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو.
(4) حديث: " من صلى نائما فله مثل نصف أجر القاعد ". أخرجه البخارى (الفتح 2 / 586 - ط. السلفية) من حديث عمران بن حصين.(27/163)
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: التَّطَوُّعُ مُضْطَجِعًا لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يُجَوِّزْهُ إِلاَّ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ صَلَّى مُضْطَجِعًا بِلاَ عُذْرٍ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَفَعَلُوهُ (1) .
حُكْمُ سُجُودِ السَّهْوِ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ:
22 - قَال جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ السَّهْوَ فِي التَّطَوُّعِ كَالسَّهْوِ فِي الْفَرِيضَةِ يُشْرَعُ لَهُ سُجُودُ السَّهْوِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي عَقِيلٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُول: سَجْدَتَا السَّهْوِ فِي النَّوَافِل كَسَجْدَتَيِ السَّهْوِ فِي الْمَكْتُوبَةِ (2) . وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ (3) . انْظُرْ: (سُجُودُ السَّهْوِ) .
حُكْمُ قَضَاءِ السُّنَنِ:
23 - يُسْتَحَبُّ قَضَاءُ النَّوَافِل بَعْدَ وَقْتِهَا الْمُحَدَّدِ لَهَا عَلَى خِلاَفٍ لِلْفُقَهَاءِ وَتَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ.
وَقَال الْجُوَيْنِيُّ فِي قَضَاءِ النَّوَافِل: إِنَّ مَا لاَ يَجُوزُ التَّقَرُّبُ بِهِ ابْتِدَاءً لاَ يُقْضَى كَالْكُسُوفِ وَالاِسْتِسْقَاءِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ الإِْنْسَانُ
__________
(1) النكت والفوائد السنية على هامش المحرر في الفقه على مذهب ابن حنبل 1 / 87.
(2) مصنف ابن أبي شيبة 2 / 92، المدونة 1 / 137.
(3) الزرقاني 1 / 105، المجموع 4 / 161، والمغني 1 / 698، الهداية 1 / 52.(27/163)
ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ وُجُودِ سَبَبِهِمَا، وَمَا يَجُوزُ التَّطَوُّعُ بِهِ ابْتِدَاءً كَنَافِلَةِ رَكْعَتَيْنِ مَثَلاً، هَل تُقْضَى؟ فِيهِ قَوْلاَنِ (1) وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (قَضَاء) .
صَلاَةُ التَّهَجُّدِ
انْظُرْ: تَهَجُّد:
__________
(1) المنثور 3 / 74، وشرح منتهى الإرادات 1 / 100، والبدائع 2 / 723.(27/164)
صَلاَةُ التَّوْبَةِ
التَّعْرِيفُ
1 - الصَّلاَةُ تَقَدَّمَ تَعْرِيفُهَا (ر: صَلاَة) .
وَالتَّوْبَةُ لُغَةً: مُطْلَقُ الرُّجُوعِ، وَالرُّجُوعُ عَنِ الذَّنْبِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الرُّجُوعُ مِنْ أَفْعَالٍ مَذْمُومَةٍ إِلَى أَفْعَالٍ مَحْمُودَةٍ شَرْعًا (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - صَلاَةُ التَّوْبَةِ مُسْتَحَبَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ (2) .
وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَطَهَّرُ ثُمَّ يُصَلِّي ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلاَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ (3) . . ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآْيَةَ: {وَاَلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} إِلَخْ. . (4) .
__________
(1) لسان العرب، وكفاية الطالب الرباني 2 / 348، والقليوبي 4 / 201.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 462، والدسوقي 1 / 314، وأسنى المطالب 1 / 205، وكشاف القناع 1 / 443.
(3) حديث: " ما من رجل يذنب ذنبا ". أخرجه الترمذي (2 / 258 - ط. الحلبي) وقال: حديث حسن. وكذا جود إسناده ابن حجر في التهذيب (1 / 268 - ط حيدر أباد) .
(4) سورة آل عمران آية 135.(27/164)
صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَقْصُودُ بِصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ: فِعْل الصَّلاَةِ فِي جَمَاعَةٍ (1)
فَضْل صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ:
2 - لِصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ فَضْلٌ كَبِيرٌ، وَقَدْ حَثَّ عَلَيْهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ مِنْهَا:
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُل صَلاَةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (2) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُل صَلاَةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (3) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَْوَّل، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 76.
(2) حديث: " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 131 - ط. السلفية) من حديث أبي سيعد الخدري.
(3) حديث: " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 131 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 450 - ط. الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.(27/165)
يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأََتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا (1) .
وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْل، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْل كُلَّهُ (2) .
وَلأَِهَمِّيَّتِهَا يَقُول الْفُقَهَاءُ: الصَّلاَةُ فِي الْجَمَاعَةِ مَعْنَى الدِّينِ، وَشِعَارُ الإِْسْلاَمِ، وَلَوْ تَرَكَهَا أَهْل مِصْرٍ قُوتِلُوا، وَأَهْل حَارَةٍ جُبِرُوا عَلَيْهَا وَأُكْرِهُوا (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
لِلْفُقَهَاءِ فِي بَيَانِ حُكْمِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَبَيَانُهَا فِيمَا يَلِي: -
أَوَّلاً: الْجَمَاعَةُ فِي الْفَرَائِضِ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ - وَأَكْثَرُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّ صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ فِي الْفَرَائِضِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِلرِّجَال،
__________
(1) حديث: " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 96 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 325 - - ط. الحلبي) .
(2) حديث عثمان: " من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ". أخرجه مسلم (1 / 454 - ط. الحلبي) .
(3) المغني 2 / 176 - 177، والمجموع 4 / 193 - 194. الحطاب وبهامشه المواق 2 / 81، ومغني المحتاج 1 / 229.(27/165)
وَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالْوَاجِبِ فِي الْقُوَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ - حَسَبَ اصْطِلاَحِهِمْ - وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُل عَلَى صَلاَةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (1) وَفِي رِوَايَةٍ: بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَقَدْ جَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَمَاعَةَ لإِِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ، وَذَا آيَةُ السُّنَنِ، وَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي الصَّلَوَاتِ: إِنَّهَا مِنْ سُنَنِ الْهَدْيِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ -، إِلَى أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، كَالْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ، وَهُوَ مَا نَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ (3) . وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ ثَلاَثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلاَ بَدْوٍ لاَ تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاَةُ إِلاَّ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ
__________
(1) حديث: " صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ". تقدم تخريجه ف (2) .
(2) البدائع 1 / 155، وابن عابدين 1 / 371، وفتح القدير 1 / 300 نشر دار إحياء التراث، ومراقى الفلاح وحاشية الطحطاوي (156) والدسوقي 1 / 319، 320، والحطاب 2 / 81، 82، والقوانين الفقهية ص: 69 نشر دار الكتاب العربي، والمهذب 1 / 100، وشرح المحلى على المنهاج 1 / 221.
(3) مغني المحتاج 1 / 229، والمهذب 1 / 100، وفتح القدير 1 / 300، وابن عابدين 1 / 371، والطحطاوي على مراقى الفلاح 156، والدسوقي 1 / 319، 320، والشرح الصغير 1 / 152، ومواهب الجليل 1 / 81.(27/166)
بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّمَا يَأْكُل الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ (1) .
وَقَدْ فَصَّل بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالُوا: إِنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ أَيْ بِالْبَلَدِ؛ فَيُقَاتَل أَهْلُهَا عَلَيْهَا إِذَا تَرَكُوهَا، وَسُنَّةٌ فِي كُل مَسْجِدٍ وَفَضِيلَةٌ لِلرَّجُل فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وُجُوبَ عَيْنٍ وَلَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ، خِلاَفًا لاِبْنِ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، الَّذِي ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ.
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} (3) فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْجَمَاعَةِ حَال الْخَوْفِ، فَفِي غَيْرِهِ أَوْلَى. وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ، فَيُحْطَبَ ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَيُؤَذَّنُ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ (4) .
__________
(1) حديث: " ما من ثلاثة في قرية ولا بدو. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 371 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي الدرداء، وصححه النووي في المجموع (4 / 183 - ط. المنيرية) .
(2) الدسوقى 1 / 319 - 320 والشرح الصغير 1 / 152.
(3) سورة النساء / 102.
(4) حديث: " والذي نفسى بيده لقد هممت أن آمر بحطب يحتطب. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 125 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 152 - ط. الحلبي) .(27/166)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ أَعْمَى، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ، فَسَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ، فَيُصَلِّي فِي بَيْتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَال: هَل تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاَةِ؟ قَال: نَعَمْ قَال: فَأَجِبْ وَإِذَا لَمْ يُرَخِّصْ لِلأَْعْمَى الَّذِي لَمْ يَجِدْ قَائِدًا فَغَيْرُهُ أَوْلَى (1) .
وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ تَارِكَ الْجَمَاعَةِ يُقَاتَل وَإِنْ أَقَامَهَا غَيْرُهُ؛ لأَِنَّ وُجُوبَهَا عَلَى الأَْعْيَانِ (2) .
4 - وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَفْضَل مِنَ الاِنْفِرَادِ لِعُمُومِ الأَْخْبَارِ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ، كَمَا فِي الأَْمْنِ (3) . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (صَلاَةُ الْخَوْفِ) .
5 - أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا، فَلاَ تَصِحُّ بِغَيْرِ جَمَاعَةٍ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (4) . (ر: صَلاَةُ الْجُمُعَةِ) .
__________
(1) حديث: أبي هريرة: " أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى 000 " أخرجه مسلم (452 - ط الحلبي)
(2) البدائع 1 / 155، وابن عابدين 1 / 371، وفتح القدير وكشاف القناع 1 / 454 - 455.
(3) مغني المحتاج 1 / 304.
(4) الاختيار 1 / 83، والدسوقي 1 / 320، والمهذب 1 / 117، وكشاف القناع 1 / 455.(27/167)
6 - وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، بَل سُنَّةٌ، وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ فِيهَا كَالْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ (1) .
حُكْمُ صَلاَةِ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ:
7 - مَا سَبَقَ مِنْ حُكْمِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَال.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلنِّسَاءِ: فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُسَنُّ لَهُنَّ الْجَمَاعَةُ مُنْفَرِدَاتٍ عَنِ الرِّجَال، سَوَاءٌ أَأَمَّهُنَّ رَجُلٌ أَمِ امْرَأَةٌ؛ لِفِعْل عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -
وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ وَرَقَةَ بِأَنْ تَجْعَل لَهَا مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ لَهَا وَأَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْل دَارِهَا (2) وَلأَِنَّهُنَّ مِنْ أَهْل الْفَرْضِ، فَأَشْبَهْنَ الرِّجَال.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ لِلنِّسَاءِ عِنْدَهُمْ مَكْرُوهَةٌ؛ وَلأَِنَّ خُرُوجَهُنَّ إِلَى الْجَمَاعَاتِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى فِتْنَةٍ.
وَمَنَعَ الْمَالِكِيَّةُ جَمَاعَةَ النِّسَاءِ؛ لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ الإِْمَامِ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا فَلاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ الْمَرْأَةِ لِرِجَالٍ، وَلاَ لِنِسَاءٍ مِثْلِهَا، وَإِنَّمَا يَصِحُّ
__________
(1) البدائع 1 / 315، والدسوقي 1 / 320، ومغني المحتاج 1 / 324، وشرح منتهى الإرادات 1 / 337.
(2) حديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم أم ورقة بأن تجعل لها مؤذنا. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 397 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه العيني كما في التعليق على سنن الدارقطني (1 / 404 - شركة الطباعة الفنية) .(27/167)
لِلْمَرْأَةِ حُضُورُ جَمَاعَةِ الرِّجَال إِذَا لَمْ تَكُنْ مَخْشِيَّةَ الْفِتْنَةِ (1) .
الْجَمَاعَةُ فِي غَيْرِ الْفَرَائِضِ:
8 - الْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ شَرْطُ صِحَّةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَسُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ سُنَّةٌ فِي صَلاَةِ الْكُسُوفِ. وَسَوَّى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ فِي سُنِّيَّةِ الْجَمَاعَةِ فِيهِمَا، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَرَوْنَ صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ فِي صَلاَةِ الْخُسُوفِ.
وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُحَمَّدٍ، وَأَبِي يُوسُفَ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ لاَ يَرَى فِيهَا صَلاَةً أَصْلاً (3) .
وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ
__________
(1) البدائع 1 / 155، 157، الاختيار 1 / 59، وابن عابدين 380 - 381، والشرح الصغير 1 / 156، 160، وأسهل المدارك 1 / 241، ومغني المحتاج 1 / 229، وشرح منتهى الإرادات 1 / 245، والمغنى 2 / 202.
(2) البدائع 1 / 275، وابن عابدين 1 / 271، وكشاف القناع 1 / 455، والدسوقي 1 / 320، ومغني المحتاج 1 / 225.
(3) البدائع 1 / 280، 283، والدسوقي 1 / 320، وكشاف القناع 1 / 414، ومغني المحتاج 1 / 225.(27/168)
الْمَالِكِيَّةِ (1) . وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ الْوِتْرِ سُنَّةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَتَجُوزُ الْجَمَاعَةُ فِي غَيْرِ مَا ذُكِرَ مِنْ صَلاَةِ التَّطَوُّعِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَقَالُوا: يَجُوزُ التَّطَوُّعُ جَمَاعَةً وَفُرَادَى؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل الأَْمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا، وَكَانَ أَكْثَرُ تَطَوُّعِهِ مُنْفَرِدًا، وَصَلَّى بِحُذَيْفَةَ مَرَّةً (3) ، وَبِأَنَسٍ وَأُمِّهِ وَالْيَتِيمِ مَرَّةً (4) ، وَأَمَّ أَصْحَابَهُ فِي بَيْتِ عِتْبَانَ مَرَّةً كَذَلِكَ (5) . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ أَمَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (6) .
وَالْمَالِكِيَّةُ قَيَّدُوا الْجَوَازَ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْجَمَاعَةُ قَلِيلَةً، وَكَانَ الْمَكَانُ غَيْرَ مُشْتَهِرٍ، فَإِنْ كَثُرَ الْعَدَدُ كُرِهَتِ الْجَمَاعَةُ، وَكَذَلِكَ تُكْرَهُ لَوْ
__________
(1) البدائع 1 / 288، الدسوقى 1 / 320، ومغني المحتاج 1 / 225، وشرح منتهى الإرادات 1 / 224.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 224، ومغني المحتاج 1 / 223، وحاشية ابن عابدين 1 / 371.
(3) حديث: " صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بحذيفة ". أخرجه مسلم (1 / 536 - ط. الحلبي) .
(4) حديث: " صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأنس وأمه واليتيم ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 345 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 457 - ط. الحلبي) .
(5) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم أم أصحابه في بيت عتبان بن مالك. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 518 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 455 - ط. الحلبي) .
(6) حديث ابن عباس: " أنه أمه النبي صلى الله عليه وسلم ". أخرجه البخارى (الفتح 2 / 190 - ط. السلفية) .(27/168)
كَانَتِ الْجَمَاعَةُ قَلِيلَةً وَالْمَكَانُ مُشْتَهِرًا (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي النَّفْل فِي غَيْرِ رَمَضَانَ مَكْرُوهَةٌ (2) .
مَنْ يُطَالَبُ بِالْجَمَاعَةِ:
9 - يُطَالَبُ بِصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ - سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَبُ عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ، أَوْ عَلَى سَبِيل السُّنِّيَّةِ -: الرِّجَال الأَْحْرَارُ الْعُقَلاَءُ الْقَادِرُونَ عَلَيْهَا دُونَ حَرَجٍ، فَلاَ تَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ وَالْعُبَيْدِ وَالصِّبْيَانِ وَذَوِي الأَْعْذَارِ. وَمَعَ ذَلِكَ تَصِحُّ مِنْهُمْ صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ، وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ، عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدِ اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ جَمَاعَةَ النِّسَاءِ، وَقَرَّرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْحَسْنَاءِ حُضُورُ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرِّجَال، خَشْيَةَ الاِفْتِتَانِ بِهَا، وَيُبَاحُ لِغَيْرِهَا حُضُورُ الْجَمَاعَةِ (3) .
الْعَدَدُ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَقَل عَدَدٍ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ اثْنَانِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الإِْمَامِ وَاحِدٌ، فَيَحْصُل لَهُمَا فَضْل الْجَمَاعَةِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى الأَْشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
__________
(1) المغني 1 / 142، ومغني المحتاج 1 / 220، والبدائع 1 / 158 - 159، والدسوقي 1 / 320.
(2) حاشية الشلبي بهامش تبيين الحقائق 1 / 180.
(3) البدائع 1 / 155 - 156، والدسوقي 1 / 320، ومغني المحتاج 1 / 229 - 230، وشرح منتهى الإرادات 1 / 244 - 245.(27/169)
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ (1) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ: إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا (2) وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ أَمْ فِي غَيْرِهِ كَالْبَيْتِ وَالصَّحْرَاءِ.
وَسَوَاءٌ أَكَانَ الَّذِي يُصَلِّي مَعَ الإِْمَامِ رَجُلاً أَمِ امْرَأَةً. فَمَنْ صَلَّى إِمَامًا لِزَوْجَتِهِ حَصَل لَهُمَا فَضْل الْجَمَاعَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْعِقَادِ الْجَمَاعَةِ فِي صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ لَوْ كَانَ الْوَاحِدُ مَعَ الإِْمَامِ صَبِيًّا مُمَيِّزًا، إِذْ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ لاَ تَنْعَقِدُ بِهِ جَمَاعَةٌ بِالاِتِّفَاقِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - إِلَى انْعِقَادِهَا بِاقْتِدَاءِ الصَّبِيِّ مَعَ حُصُول فَضْل الْجَمَاعَةِ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي الرَّجُل الَّذِي فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ: مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا (3) ، وَلأَِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا، وَهُوَ
__________
(1) حديث: " اثنان فما فوقهما جماعة ". أخرجه ابن ماجه (1 / 312 - ط. الحلبي) وضعف إسناده البوصيرى في مصباح الزجاجة (1 / 191 - ط. دار الجنان) .
(2) حديث: " إذا حضرت الصلاة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 111 - - ط. السلفية) . ومسلم (1 / 466 - ط. الحلبي) .
(3) حديث: " من يتصدق على هذا. . . ". أخرجه أحمد (3 / 45 - ط. الميمنية) والحاكم (1 / 209 - ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي سعيد الخدرى، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(27/169)
مُتَنَفِّلٌ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَأْمُومًا بِالْمُفْتَرِضِ كَالْبَالِغِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ - لاَ يَحْصُل فَضْل الْجَمَاعَةِ بِاقْتِدَاءِ الصَّبِيِّ فِي الْفَرْضِ؛ لأَِنَّ صَلاَةَ الصَّبِيِّ نَفْلٌ، فَكَأَنَّ الإِْمَامَ صَلَّى مُنْفَرِدًا.
وَأَمَّا فِي التَّطَوُّعِ فَيَصِحُّ بِاقْتِدَاءِ الصَّبِيِّ، وَيَحْصُل فَضْل الْجَمَاعَةِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (2) .
لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مَرَّةً وَهُوَ صَبِيٌّ، وَأَمَّ حُذَيْفَةَ مَرَّةً أُخْرَى (3) .
وَيَخْتَلِفُ الْعَدَدُ بِالنِّسْبَةِ لإِِظْهَارِ الشَّعِيرَةِ فِي الْبَلْدَةِ أَوِ الْقَرْيَةِ؛ إِذْ أَنَّ صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ، وَلَوْ تَرَكَهَا أَهْل قَرْيَةٍ قُوتِلُوا عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ قَال الْمَالِكِيَّةُ: قُوتِلُوا عَلَيْهَا لِتَفْرِيطِهِمْ فِي الشَّعِيرَةِ، وَلاَ يَخْرُجُ أَهْل الْبَلَدِ عَنِ الْعُهْدَةِ إِلاَّ بِجَمَاعَةٍ أَقَلُّهَا ثَلاَثَةٌ: إِمَامٌ وَمَأْمُومَانِ، وَمُؤَذِّنٌ يَدْعُو لِلصَّلاَةِ، وَمَوْضِعٌ مُعَدٌّ لَهَا، وَهُوَ الْمَسْجِدُ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنِ امْتَنَعَ أَهْل الْقَرْيَةِ قُوتِلُوا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ ثَلاَثَةٍ فِي
__________
(1) البدائع 1 / 156 وابن عابدين 1 / 372 والمهذب 1 / 100، 104 ومغني المحتاج 1 / 229 و 240 وكشاف القناع 1 / 453 - 454 والمغنى 2 / 178.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 319، 320، وجواهر الإكليل 1 / 76، 78، والمغنى 2 / 178.
(3) حديث ابن عباس وحذيفة تقدم تخريجهما ف 8.
(4) تقريرات الشيخ عليش بهامش حاشية الدسوقي 1 / 319.(27/170)
قَرْيَةٍ وَلاَ بَدْوٍ لاَ تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاَةُ إِلاَّ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يَأْكُل الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ (1) فَتَجِبُ بِحَيْثُ يَظْهَرُ الشِّعَارُ بِإِقَامَتِهَا بِمَحَلٍّ فِي الْقَرْيَةِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ بِمَحَال يَظْهَرُ بِهَا الشِّعَارُ، وَيَسْقُطُ الطَّلَبُ بِطَائِفَةٍ وَإِنْ قَلَّتْ (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّ الإِْمَامَ الرَّاتِبَ بِمَسْجِدٍ أَوْ غَيْرِهِ إِذَا جَاءَ فِي وَقْتِهِ الْمُعْتَادِ لَهُ، فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يُصَلِّي مَعَهُ، فَصَلَّى مُنْفَرِدًا، بَعْدَ أَنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ كَالْجَمَاعَةِ فَضْلاً وَحُكْمًا، وَيَحْصُل لَهُ فَضْل الْجَمَاعَةِ إِنْ نَوَى الإِْمَامَةَ؛ لأَِنَّهُ لاَ تَتَمَيَّزُ صَلاَتُهُ مُنْفَرِدًا عَنْ صَلاَتِهِ إِمَامًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَلِذَلِكَ لاَ يُعِيدُ فِي أُخْرَى، وَلاَ يُصَلِّي بَعْدَهُ جَمَاعَةً، وَيَجْمَعُ لَيْلَةَ الْمَطَرِ (3) .
وَالأَْحْكَامُ الَّتِي سَبَقَتْ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ إِنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ؛ إِذْ فِيهِمَا يَخْتَلِفُ الْعَدَدُ - وَلِكُل مَذْهَبٍ رَأْيُهُ فِي تَحْدِيدِ الْعَدَدِ، حَسْبَمَا يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ مِنْ أَدِلَّةٍ (4) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (صَلاَةُ الْجُمُعَةِ وَصَلاَةُ الْعِيدَيْنِ)
__________
(1) حديث: " ما من ثلاثة في قرية. . . " تقدم ف 3.
(2) مغني المحتاج 1 / 229، ونهاية المحتاج 2 / 131 - 133.
(3) الدسوقى 1 / 323، والشرح الصغير 1 / 154 ط. الحلبي، وجواهر الإكليل 1 / 77.
(4) كشاف القناع 1 / 454، وحاشية ابن عابدين 1 / 372، والدسوقي 1 / 319.(27/170)
أَفْضَل مَكَان لِصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ:
11 - تَجُوزُ إِقَامَةُ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ فِي أَيِّ مَكَان طَاهِرٍ، فِي الْبَيْتِ أَوِ الصَّحْرَاءِ أَوِ الْمَسْجِدِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَل (1) . وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلَيْنِ: إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا، ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ، فَصَلِّيَا مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ (2) إِلاَّ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لِلْفَرَائِضِ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَل مِنْهَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَل صَلاَةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ (3) ؛ وَلأَِنَّ الْمَسْجِدَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الشَّرَفِ وَالطَّهَارَةِ، كَمَا أَنَّ إِقَامَتَهَا فِي الْمَسْجِدِ فِيهِ إِظْهَارُ الشَّعَائِرِ وَكَثْرَةُ الْجَمَاعَةِ. وَالصَّلاَةُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا النَّاسُ أَفْضَل مِنَ الصَّلاَةِ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي يَقِل فِيهَا النَّاسُ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الرَّجُل
__________
(1) حديث: " جعلت لي الأرض مسجدًا. . . ". أخرجه البخارى (الفتح 1 / 436 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 371 - ط. الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " إذا صليتما في رحالكما. . . ". أخرجه الترمذي (1 / 425 - ط. الحلبي) . من حديث يزيد ابن الأسود، وقال: حديث حسن صحيح.
(3) حديث: " صلوا أيها الناس في بيوتكم ". أخرجه البخاري (الفتح 13 / 264 - ط. السلفية) من حديث زيد بن ثابت.(27/171)
مَعَ الرَّجُل أَزْكَى مِنْ صَلاَتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلاَةُ الرَّجُل مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلاَتِهِ مَعَ الرَّجُل، وَمَا كَانُوا أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل (1) وَإِنْ كَانَ فِي جِوَارِهِ أَوْ غَيْرِ جِوَارِهِ مَسْجِدٌ لاَ تَنْعَقِدُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ إِلاَّ بِحُضُورِهِ، فَفِعْلُهَا فِيهِ أَفْضَل وَأَوْلَى مِنْ فِعْلِهَا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يَكْثُرُ فِيهِ النَّاسُ؛ لأَِنَّهُ يُعَمِّرُهُ بِإِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهِ وَبِذَلِكَ تَحْصُل الْجَمَاعَةُ فِي مَسْجِدَيْنِ.
وَإِذَا كَانَتِ الْجَمَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَل مِنْ إِقَامَتِهَا فِي الْبَيْتِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ إِذَا ذَهَبَ الإِْنْسَانُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَتَرَكَ أَهْل بَيْتِهِ لَصَلَّوْا فُرَادَى، أَوْ لَتَهَاوَنُوا أَوْ تَهَاوَنَ بَعْضُهُمْ فِي الصَّلاَةِ، أَوْ لَوْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ لَصَلَّى جَمَاعَةً، وَإِذَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ صَلَّى وَحْدَهُ فَصَلاَتُهُ فِي بَيْتِهِ أَفْضَل.
وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ ثَغْرًا فَالأَْفْضَل اجْتِمَاعُ النَّاسِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ؛ لِيَكُونَ أَعْلَى لِلْكَلِمَةِ، وَأَوْقَعَ لِلْهَيْبَةِ، وَإِذَا جَاءَهُمْ خَبَرٌ عَنْ عَدُوِّهِمْ سَمِعَهُ جَمِيعُهُمْ، وَإِنْ أَرَادُوا التَّشَاوُرَ فِي أَمْرٍ حَضَرَ جَمِيعُهُمْ، وَإِنْ جَاءَ عَيْنُ الْكُفَّارِ رَآهُمْ فَأَخْبَرَ بِكَثْرَتِهِمْ.
__________
(1) حديث: " صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ". أخرجه النسائي (2 / 105 ط. المكتبة التجارية) والحاكم (1 / 248 ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي بن كعب، ونقل الذهبي في تلخيصه عن جمع من العلماء تصحيح هذا الحديث.(27/171)
وَالصَّلاَةُ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ: - الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَالْمَسْجِدِ الأَْقْصَى - وَإِنْ قَلَّتِ الْجَمَاعَةُ فِيهَا أَفْضَل مِنْهَا فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَسَاجِدِ وَإِنْ كَثُرَتِ الْجَمَاعَةُ فِيهَا، بَل قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: الاِنْفِرَادُ فِيهَا أَفْضَل مِنِ الْجَمَاعَةِ فِي غَيْرِهَا.
وَأَمَّا النَّوَافِل فَصَلاَتُهَا فِي الْبَيْتِ أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهَا فِي الْمَسْجِدِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَل صَلاَةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ.
لَكِنْ مَا شُرِعَتْ لَهُ الْجَمَاعَةُ مِنَ السُّنَنِ فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنَ الْحَدِيثِ، وَصَلاَتُهُ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهِ فِي الْبَيْتِ.
وَمَا سَبَقَ مِنْ أَفْضَلِيَّةِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَال، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلنِّسَاءِ فَالْجَمَاعَةُ لَهُنَّ فِي الْبَيْتِ أَفْضَل مِنْهَا فِي الْمَسْجِدِ (1) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلاَتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهَا فِي بَيْتِهَا (2) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 372، 373، 443، 473، والحطاب مع المواق 2 / 82، 117، والفواكه الدواني 1 / 241، 245، ومغني المحتاج 1 / 230، والقوانين الفقهية (55 (نشر دار الكتاب العربي) ، وكشاف القناع (1 / 456 - 457) وشرح منتهى الإرادات 1 / 231، 245، والمغني 2 / 178 - 179، 203.
(2) حديث: " صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها ". أخرجه أبو داود (1 / 383 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 209 - ط. دائرة المعارف العثمانية) . من حديث ابن مسعود، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.(27/172)
مَا تُدْرَكُ بِهِ الْجَمَاعَةُ:
12 - يُفَرِّقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ إِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، وَبَيْنَ ثُبُوتِ حُكْمِ الْجَمَاعَةِ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي الْقَدْرِ الَّذِي تُدْرَكُ بِهِ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ. وَيَخْتَلِفُونَ كَذَلِكَ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: -
أَوَّلاً: مَا تُدْرَكُ بِهِ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ:
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي تُدْرَكُ بِهِ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ يُونُسَ وَابْنُ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ تُدْرَكُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ بِاشْتِرَاكِ الْمَأْمُومِ مَعَ الإِْمَامِ فِي جُزْءٍ مِنْ صَلاَتِهِ، وَلَوْ فِي الْقَعْدَةِ الأَْخِيرَةِ قَبْل السَّلاَمِ؛ لأَِنَّهُ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنَ الصَّلاَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَدْرَكَ رَكْعَةً؛ وَلأَِنَّ مَنْ أَدْرَكَ آخِرَ الشَّيْءِ فَقَدْ أَدْرَكَهُ؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يُدْرِكْ فَضْل الْجَمَاعَةِ بِذَلِكَ لَمُنِعَ مِنَ الاِقْتِدَاءِ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ زِيَادَةٌ بِلاَ فَائِدَةٍ، لَكِنْ ثَوَابُهُ يَكُونُ دُونَ ثَوَابِ مَنْ أَدْرَكَهَا مِنْ أَوَّلِهَا.
وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ قَوْل خَلِيلٍ وَالدَّرْدِيرِ وَابْنِ الْحَاجِبِ مِنَ(27/172)
الْمَالِكِيَّةِ - لاَ تُدْرَكُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ إِلاَّ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ كُلَّهَا رَكْعَةٌ مُكَرَّرَةٌ (1) .
وَيُشْتَرَطُ لِحُصُول فَضْل الْجَمَاعَةِ نِيَّةُ الاِقْتِدَاءِ مِنَ الْمَأْمُومِ؛ لِيَحُوزَ فَضْل الْجَمَاعَةِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، أَمَّا نِيَّةُ الإِْمَامِ الإِْمَامَةَ فَفِيهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِمَامَة وَاقْتِدَاء (2)) .
ثَانِيًا: مَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامٍ:
14 - الْمَقْصُودُ بِحُكْمِ الْجَمَاعَةِ - كَمَا يُفَسِّرُهُ الْمَالِكِيَّةُ - أَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ لاَ يُقْتَدَى بِهِ، وَلاَ يُعِيدُ فِي جَمَاعَةٍ، وَيَصِحُّ اسْتِخْلاَفُهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ سُجُودُ سَهْوِ الإِْمَامِ. وَحُكْمُ الْجَمَاعَةِ هَذَا لاَ يَثْبُتُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا مَعَ الإِْمَامِ (3) .
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: فَلاَ تُدْرَكُ الْجَمَاعَةُ إِلاَّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين والدر المختار 1 / 483، والدسوقي 1 / 320، ونهاية المحتاج 2 / 140، ومغني المحتاج 1 / 231، وكشاف القناع 1 / 460.
(2) ابن عابدين 1 / 369، 370، والبدائع 1 / 128، والدسوقي 1 / 339، ومغني المحتاج 1 / 252 - 253، وكشاف القناع 1 / 318، والمغني 2 / 231.
(3) الدسوقى 1 / 320، والشرح الصغير 1 / 426، وما بعدها ط. دار المعارف.(27/173)
بِإِدْرَاكِ رَكَعَاتِهَا كُلِّهَا فِي الْجُمْلَةِ. يَقُول صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَشَرْحِهِ: لاَ يَكُونُ مُصَلِّيًا جَمَاعَةً اتِّفَاقًا (أَيْ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ) مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ ذَوَاتِ الأَْرْبَعِ، أَوْ مِنَ الصَّلاَةِ الثُّنَائِيَّةِ أَوِ الثُّلاَثِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِبَعْضِهَا، لَكِنَّهُ أَدْرَكَ فَضْلَهَا وَلَوْ بِإِدْرَاكِ التَّشَهُّدِ. وَكَذَا مُدْرِكُ الثَّلاَثِ لاَ يَكُونُ مُصَلِّيًا بِجَمَاعَةٍ عَلَى الأَْظْهَرِ. وَقَال السَّرَخْسِيُّ: لِلأَْكْثَرِ حُكْمُ الْكُل، لَكِنْ صَاحِبُ الْبَحْرِ ضَعَّفَهُ (1) .
إِعَادَةُ الصَّلاَةِ جَمَاعَةً لِمَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ:
15 - مَنْ أَدَّى الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ وَجَدَ جَمَاعَةً اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَدْخُل مَعَ الْجَمَاعَةِ لِتَحْصِيل الْفَضْل؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ، فَرَأَى رَجُلَيْنِ خَلْفَ الصَّفِّ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ، فَقَال: عَلَيَّ بِهِمَا، فَجِيءَ بِهِمَا تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا، فَقَال: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ فَقَالاَ: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّا كُنَّا قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا، قَال: فَلاَ تَفْعَلاَ، إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ، فَصَلِّيَا مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ (2) وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 483.
(2) حديث: " أنه صلى في مسجد الخيف. . ". أخرجه الترمذي (1 / 424 - 425 - ط. الحلبي) من حديث يزيد ابن الأسود وقال: حديث حسن صحيح.(27/173)
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كَيْفَ أَنْتَ إِذَا كَانَتْ عَلَيْكِ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلاَةَ عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلاَةَ عَنْ وَقْتِهَا؟ قَال: قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَال: صَل الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَل، فَإِنَّهَا لَكَ نَافِلَةٌ (1) .
وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، مِنْ حَيْثُ طَلَبُ الإِْعَادَةِ لِتَحْصِيل الْفَضْل - وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ مِنِ اسْتِحْبَابِ الإِْعَادَةِ - فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ تُعَادُ صَلاَةُ الْمَغْرِبِ؛ لأَِنَّ التَّنَفُّل بِالثَّلاَثِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ مَكْرُوهٌ، وَلاَ نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، فَإِذَا أَعَادَهَا شَفَعَ بِجَعْلِهَا أَرْبَعًا أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى اثْنَتَيْنِ، وَتَصِيرُ نَافِلَةً، كَمَنْ دَخَل مَعَ الإِْمَامِ فِي ثَانِيَةِ الْمَغْرِبِ، أَمَّا إِنْ أَتَمَّ مَعَ الإِْمَامِ الثَّلاَثَ سَهْوًا لاَ يُسَلِّمُ مَعَهُ، وَأَتَى بِرَابِعَةٍ وُجُوبًا، وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ. وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَمَ إِعَادَةِ الْعَصْرِ وَالْفَجْرِ؛ لِكَرَاهَةِ النَّفْل بَعْدَهُمَا، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ أَوْتَرَ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَلاَ يُعِيدُ الْعِشَاءَ، لأَِنَّهُ إِنْ أَعَادَ الْوِتْرَ لَزِمَ مُخَالَفَةُ
__________
(1) حديث أبي ذر: " كيف أنت إذا كانت عليك أمراء. . . ". أخرجه مسلم (4 / 448 - ط. الحلبي) .(27/174)
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ (1) ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْهُ لَزِمَ مُخَالَفَةُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ وِتْرًا (2) .
وَالصَّلاَةُ الْمُعَادَةُ تَكُونُ نَافِلَةً، وَهَذَا قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ؛ لأَِنَّ الْفَرْضَ لاَ يَتَكَرَّرُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُفَوِّضُ فِي الثَّانِيَةِ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَبُول أَيٍّ مِنَ الصَّلاَتَيْنِ لِفَرْضِهِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ (3) .
وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ: تَكُونُ الْمُعَادَةُ مَعَ الْجَمَاعَةِ هِيَ الْمَكْتُوبَةَ؛ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ عَامِرٍ بْنِ الأَْسْوَدِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: إِذَا جِئْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَوَجَدْتَ النَّاسَ فَصَل مَعَهُمْ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ تَكُنْ لَكَ نَافِلَةً
__________
(1) ابن عابدين 1 / 479، 480، والبدائع 1 / 287 والهداية مع شروحها فتح القدير والعناية 1 / 412، نشر دار إحياء التراث والدسوقي 1 / 320 - 321، والحطاب 2 / 84 - 85، والمهذب 1 / 102، وأسنى المطالب 1 / 212، والمغنى 2 / 111 - 113، وكشاف القناع 1 / 458. وحديث: " لا وتران في ليلة. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 334 - ط. الحلبي) . وقال حديث حسن من حديث طلق بن علي.
(2) حديث: " اجعلوا آخر صلاتكم وترا ". أخرجه البخارى (الفتح 2 / 488 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 518 - ط. الحلبي) . في حديث ابن عمر.
(3) الهداية مع فتح القدير 1 / 412، والدسوقي 1 / 320 - 321، والمهذب 1 / 102، والمغنى 2 / 113 - 114.(27/174)
وَهَذِهِ مَكْتُوبَةٌ (1) .
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ وَجَدَ جَمَاعَةً أُخْرَى فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ إِعَادَةِ الصَّلاَةِ مَرَّةً أُخْرَى فِي الْجَمَاعَةِ الثَّانِيَةِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الصُّبْحَ، فَرَأَى رَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ فَقَال: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟ قَالاَ: صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا فَقَال: إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ.
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَلَّيْتُمَا " يَصْدُقُ بِالاِنْفِرَادِ وَالْجَمَاعَةِ. وَرَوَى الأَْثْرَمُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ قَال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَمَّنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ دَخَل الْمَسْجِدَ - وَهُمْ يُصَلُّونَ - أَيُصَلِّي مَعَهُمْ؟ قَال: نَعَمْ. وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ قَال: صَلَّى بِنَا أَبُو مُوسَى الْغَدَاةَ فِي الْمِرْبَدِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، فَصَلَّيْنَا مَعَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. وَعَنْ صِلَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ أَعَادَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَكَانَ قَدْ صَلاَّهُنَّ فِي جَمَاعَةٍ.
__________
(1) المغني 2 / 113 - 114 وحديث يزيد: إذا جئت إلى الصلاة فوجدت الناس. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 338) تحقيق عزت عبيد دعاس، ونقل ابن حجر عن النووي أنه ضعفه. كذا في التلخيص الحبير (2 / 30 ط شركة الطباعة الفنية) .(27/175)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ فَلاَ يُعِيدُهَا فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى؛ لأَِنَّهُ حَصَّل فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ فَلاَ مَعْنَى لِلإِْعَادَةِ بِخِلاَفِ الْمُنْفَرِدِ، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَمَسْجِدَ الْمَدِينَةِ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ. قَالُوا: يَجُوزُ لِمَنْ صَلَّى جَمَاعَةً فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ أَنْ يُعِيدَ فِيهَا جَمَاعَةً؛ لِفَضْل تِلْكَ الْبِقَاعِ (1) .
تَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ:
16 - يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ فِي مَسْجِدِ الْحَيِّ الَّذِي لَهُ إِمَامٌ وَجَمَاعَةٌ مَعْلُومُونَ، لِمَا رَوَى أَبُو بَكْرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَل مِنْ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ يُرِيدُ الصَّلاَةَ، فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا فَمَال إِلَى مَنْزِلِهِ فَجَمَعَ أَهْلَهُ فَصَلَّى بِهِمْ (2) وَلَوْ لَمْ يُكْرَهْ تَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ لَمَا تَرَكَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عِلْمِهِ بِفَضْل الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَوَرَدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا إِذَا فَاتَتْهُمُ الْجَمَاعَةُ صَلَّوْا فِي الْمَسْجِدِ فُرَادَى؛ وَلأَِنَّ التَّكْرَارَ يُؤَدِّي إِلَى تَقْلِيل الْجَمَاعَةِ؛ لأَِنَّ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 233، والمغني 2 / 111 - 113، وكشاف القناع 1 / 452، 458، الحطاب 2 / 84، 85، وابن عابدين 1 / 480.
(2) حديث أبي بكرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من نواحي المدينة ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 45 - ط القدسي) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات.(27/175)
النَّاسَ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ تَفُوتُهُمُ الْجَمَاعَةُ يَسْتَعْجِلُونَ، فَتَكْثُرُ الْجَمَاعَةُ، وَإِذَا عَلِمُوا أَنَّهَا لاَ تَفُوتُهُمْ يَتَأَخَّرُونَ؛ فَتَقِل الْجَمَاعَةُ، وَتَقْلِيل الْجَمَاعَةِ مَكْرُوهٌ، وَهَذَا رَأْيُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ هُنَاكَ بَعْضُ الْقُيُودِ مَعَ شَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيل لِكُل مَذْهَبٍ. فَالْحَنَفِيَّةُ يُقَيِّدُونَ كَرَاهَةَ التَّكْرَارِ بِمَا إِذَا صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْحَيِّ أَهْلُهُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، فَإِذَا صَلَّى فِيهِ أَوَّلاً غَيْرُ أَهْلِهِ أَوْ صَلَّى فِيهِ أَهْلُهُ بِدُونِ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ لاَ يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ فِيهِ.
كَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّكْرَارُ إِذَا كَانَتِ الْجَمَاعَةُ الثَّانِيَةُ كَثِيرَةً، فَأَمَّا إِذَا كَانُوا ثَلاَثَةً أَوْ أَرْبَعَةً، فَقَامُوا فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الْمَسْجِدِ وَصَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ فَلاَ يُكْرَهُ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّكْرَارُ إِذَا كَانَتِ الْجَمَاعَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى سَبِيل التَّدَاعِي وَالاِجْتِمَاعِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فَلاَ يُكْرَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْجَمَاعَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى الْهَيْئَةِ الأُْولَى لاَ تُكْرَهُ، وَإِلاَّ تُكْرَهُ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - وَبِالْعُدُول عَنِ الْمِحْرَابِ تَخْتَلِفُ الْهَيْئَةُ.
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلإِْمَامِ الرَّاتِبِ الْجَمْعُ - يَعْنِي أَنْ يُصَلِّيَ جَمَاعَةً - إِنْ جَمَعَ غَيْرُهُ قَبْلَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ إِنْ لَمْ يُؤَخِّرْ عَنْ عَادَتِهِ كَثِيرًا، فَإِنْ أَذِنَ لأَِحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ مَكَانَهُ، أَوْ أَخَّرَ عَنْ(27/176)
عَادَتِهِ تَأْخِيرًا كَثِيرًا يَضُرُّ بِالْمُصَلِّينَ فَجَمَعُوا، كُرِهَ لِلإِْمَامِ الْجَمْعُ حِينَئِذٍ. وَبِنَاءً عَلَى كَرَاهَةِ إِعَادَةِ الصَّلاَةِ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ فَإِنَّهُ إِذَا دَخَل جَمَاعَةٌ الْمَسْجِدَ بَعْدَمَا صَلَّى أَهْلُهُ فِيهِ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُصَلُّونَ وُحْدَانًا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُنْدَبُ خُرُوجُهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ لِيَجْمَعُوا خَارِجَهُ، أَوْ مَعَ إِمَامٍ رَاتِبٍ آخَرَ، وَلاَ يُصَلُّونَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ أَفْذَاذًا؛ لِفَوَاتِ فَضْل الْجَمَاعَةِ، إِلاَّ بِالْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ (مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالأَْقْصَى) ، فَلاَ يَخْرُجُونَ إِذَا وَجَدُوا الإِْمَامَ قَدْ صَلَّى وَيُصَلُّونَ فِيهَا أَفْذَاذًا؛ لِفَضْل فَذِّهَا عَلَى جَمَاعَةِ غَيْرِهَا، وَهَذَا إِنْ دَخَلُوهَا فَوَجَدُوا الرَّاتِبَ قَدْ صَلَّى، وَأَمَّا إِنْ عَلِمُوا بِصَلاَتِهِ قَبْل دُخُولِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَجْمَعُونَ خَارِجَهَا، وَلاَ يَدْخُلُونَهَا لِيُصَلُّوا أَفْذَاذًا.
وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ كَرَاهَةَ إِعَادَةِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ، قَالُوا: وَمَنْ حَضَرَ وَلَمْ يَجِدْ إِلاَّ مَنْ صَلَّى اسْتُحِبَّ لِبَعْضِ مَنْ حَضَرَ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ؛ لِيَحْصُل لَهُ فَضْل الْجَمَاعَةِ، لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلاً جَاءَ، وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَصَلَّى مَعَهُ (1) .
__________
(1) حديث أبي سعيد الخدري تقدم تخريجه ف / 10.(27/176)
وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ الثَّانِيَةَ إنَّمَا تُكْرَهُ إِذَا لَمْ يَأْذَنِ الإِْمَامُ، فَإِنْ أَذِنَ فَلاَ كَرَاهَةَ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِمَسْجِدِ الْحَيِّ الَّذِي لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ.
17 - أَمَّا الْمَسْجِدُ الَّذِي فِي سُوقٍ، أَوْ فِي الطُّرُقِ وَمَمَرِّ النَّاسِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَكْرَارُ الْجَمَاعَةِ فِيهِ، وَلاَ تُكْرَهُ؛ لأَِنَّ النَّاسَ فِيهِ سَوَاءٌ، لاَ اخْتِصَاصَ لَهُ بِفَرِيقٍ دُونَ فَرِيقٍ.
مِثْل ذَلِكَ الْمَسْجِدُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ إِمَامٌ وَلاَ مُؤَذِّنٌ، وَيُصَلِّي النَّاسُ فِيهِ فَوْجًا فَوْجًا، فَإِنَّ الأَْفْضَل أَنْ يُصَلِّيَ كُل فَرِيقٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ إِعَادَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوْ كَانَ مَسْجِدُ الْحَيِّ وَلَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ، بَل قَالُوا: إِذَا صَلَّى إِمَامُ الْحَيِّ، حَضَرَ جَمَاعَةٌ أُخْرَى اسْتَحَبَّ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً، وَهُوَ قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَإِسْحَاقَ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُل صَلاَةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (1) وَفِي رِوَايَةٍ: بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ قَال: جَاءَ رَجُلٌ وَقَدْ صَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا؟ فَقَامَ رَجُلٌ
__________
(1) حديث: " صلاة الجماعة تفضل. . . ". تقدم تخريجه ف 2.(27/177)
فَصَلَّى مَعَهُ، وَرَوَى الأَْثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ وَزَادَ قَال: فَلَمَّا صَلَّيَا قَال: وَهَذَانِ جَمَاعَةٌ (1) . وَلأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ، فَاسْتُحِبَّ لَهُ فِعْلُهَا، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ فِي مَمَرِّ النَّاسِ وَهَذَا فِيمَا عَدَا إِعَادَةَ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلاَثَةِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ كَرَاهَةُ إِعَادَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا، وَفِي رَأْيٍ آخَرَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ تُكْرَهُ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ أَفْتَى بِالْجَوَازِ (2) .
الصَّلاَةُ عِنْدَ قِيَامِ الْجَمَاعَةِ:
18 - مَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ، وَقَدْ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي إِقَامَةِ الصَّلاَةِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الاِنْشِغَال عَنْهَا بِنَافِلَةٍ، سَوَاءٌ أَخَشِيَ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ الأُْولَى أَمْ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَهَا؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ صَلاَةَ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ (3) وَلأَِنَّ مَا يَفُوتُهُ مَعَ الإِْمَامِ أَفْضَل مِمَّا يَأْتِي بِهِ، فَلاَ يَشْتَغِل بِهِ، وَقَدْ رَوَتِ
__________
(1) حديث " من يتصدق على هذا. . . ". تقدم تخريجه ف / 10.
(2) ابن عابدين 1 / 371، وبدائع الصنائع 1 / 153، والدسوقي 1 / 332، المغني 2 / 180 و 181، والمجموع شرح المهذب 4 / 221 - 222.
(3) حديث: " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 493 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.(27/177)
السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حِينَ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، فَرَأَى نَاسًا يُصَلُّونَ، فَقَال: أَصَلاَتَانِ مَعًا (1) ؟ . وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَبِهَذَا قَال أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعُرْوَةُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ سُنَّةِ الْفَجْرِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ: إِذَا خَافَ فَوْتَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ لاِشْتِغَالِهِ بِسُنَّتِهَا تَرَكَهَا؛ لِكَوْنِ الْجَمَاعَةِ أَكْمَل، فَلاَ يَشْرَعُ فِيهَا. وَإِذَا رَجَا إِدْرَاكَ رَكْعَةٍ مَعَ الإِْمَامِ فَلاَ يَتْرُكُ سُنَّةَ الْفَجْرِ، بَل يُصَلِّيهَا، وَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَقِيل: إِذَا رَجَا إِدْرَاكَ التَّشَهُّدِ مَعَ الإِْمَامِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي السُّنَّةَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِهِ إِنْ وَجَدَ مَكَانًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَكَانًا تَرَكَهَا وَلاَ يُصَلِّيهَا دَاخِل الْمَسْجِدِ؛ لأَِنَّ التَّنَفُّل فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ اشْتِغَال الإِْمَامِ بِالْفَرِيضَةِ مَكْرُوهٌ (2) .
__________
(1) حديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين أقيمت الصلاة. . . ". أخرجه ابن عبد البر في التمهيد كما في شرح الزرقاني على الموطأ (1 / 262 ط المكتبة التجارية) .
(2) ابن عابدين 1 / 481، 482، والبدائع 1 / 286، وجواهر الإكليل 1 / 77، والحطاب 2 / 88 - 89، ومغني المحتاج 1 / 252، والمغني 1 / 456.(27/178)
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ دَخَل وَالإِْمَامُ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ فَرَكَعَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ، وَمَكْحُولٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ (1) .
19 - وَمَنْ كَانَ يُصَلِّي النَّافِلَةَ، ثُمَّ أُقِيمَتْ صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ فَقَدْ قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ بِسَلاَمِ الإِْمَامِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ النَّافِلَةَ، وَلاَ يَقْطَعُهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (2) } ثُمَّ يَدْخُل فِي الْجَمَاعَةِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَ رَكْعَةٍ بِإِتْمَامِ النَّافِلَةِ بِأَنْ تَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدْرِكُ الإِْمَامَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى عَقِبَ إِتْمَامِ مَا هُوَ فِيهِ أَتَمَّهَا، ثُمَّ دَخَل مَعَ الْجَمَاعَةِ.
أَمَّا إِنْ خَشِيَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ - كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - أَوْ خَشِيَ فَوَاتَ رَكْعَةٍ - كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ - فَإِنَّهُ يَقْطَعُ النَّافِلَةَ وُجُوبًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَنَدْبًا فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوُجُوبًا فِي الْجُمُعَةِ (أَيْ إِنْ كَانَتِ الَّتِي يُصَلِّيهَا الإِْمَامُ هِيَ الْجُمُعَةَ) ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ قُدَامَةَ، إِحْدَاهُمَا: يُتِمُّ النَّافِلَةَ، وَالثَّانِيَةُ: يَقْطَعُهَا؛ لأَِنَّ مَا يُدْرِكُهُ مِنَ الْجَمَاعَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا وَأَكْثَرُ ثَوَابًا مِمَّا يَفُوتُهُ بِقَطْعِ النَّافِلَةِ؛ لأَِنَّ
__________
(1) المغني 1 / 456.
(2) سورة محمد آية 33.(27/178)
صَلاَةَ الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلاَةِ الرَّجُل وَحْدَهُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَلَمْ يُقَيِّدُوا الْقَطْعَ أَوِ الإِْتْمَامَ بِإِدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ، أَوْ عَدَمِ إِدْرَاكِهَا؛ لأَِنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّافِلَةِ عِنْدَهُمْ يَجْعَلُهَا وَاجِبَةً، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: الشَّارِعُ فِي نَفْلٍ لاَ يَقْطَعُ مُطْلَقًا إِذَا أُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ وَهُوَ فِي صَلاَةِ النَّافِلَةِ، بَل يُتِمُّهُ رَكْعَتَيْنِ، وَإِذَا كَانَ فِي سُنَّةِ الظُّهْرِ، أَوْ سُنَّةِ الْجُمُعَةِ، إِذَا أُقِيمَتِ الظُّهْرُ، أَوْ خَطَبَ الإِْمَامُ، فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا أَرْبَعًا عَلَى الْقَوْل الرَّاجِحِ؛ لأَِنَّهَا صَلاَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْكَمَال فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ مَا نَصُّهُ: وَقِيل: يَقْطَعُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي سُنَّةِ الظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ؛ لأَِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَائِهَا بَعْدَ الْفَرْضِ. وَهَذَا حَيْثُ لَمْ يَقُمْ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ. أَمَّا إِنْ قَامَ إِلَيْهَا وَقَيَّدَهَا بِسَجْدَةٍ فَفِي رِوَايَةِ النَّوَادِرِ يُضِيفُ إِلَيْهَا رَابِعَةً وَيُسَلِّمُ، وَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِسَجْدَةٍ فَقِيل: يُتِمُّهَا أَرْبَعًا، وَيُخَفِّفُ الْقِرَاءَةَ. وَقِيل: يَعُودُ إِلَى الْقَعْدَةِ وَيُسَلِّمُ، وَهَذَا أَشْبَهُ، قَال فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: وَالأَْوْجَهُ أَنْ يُتِمَّهَا (2) .
20 - وَإِنْ أُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ وَالْمُنْفَرِدُ يُصَلِّي
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 77، ومغني المحتاج 1 / 252، والمغني 1 / 456.
(2) ابن عابدين 1 / 479.(27/179)
الصَّلاَةَ الْمَفْرُوضَةَ الَّتِي يُؤَدِّيهَا الإِْمَامُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَيَّدَ الرَّكْعَةَ الأُْولَى بِالسُّجُودِ قَطَعَ صَلاَتَهُ، وَاقْتَدَى، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَقَدَ رَكْعَةً بِالسُّجُودِ، فَإِنْ كَانَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ أَوِ الْمَغْرِبِ قَطَعَ صَلاَتَهُ وَاقْتَدَى بِالإِْمَامِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ قَدْ قَامَ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَقَيَّدَهَا بِالسُّجُودِ فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُتِمُّ صَلاَتَهُ. وَلاَ يَدْخُل مَعَ الإِْمَامِ؛ لِكَرَاهَةِ التَّنَفُّل بَعْدَ الْفَجْرِ وَبِالثَّلاَثِ فِي الْمَغْرِبِ.
وَهَذَا كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ، لَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: يَدْخُل مَعَ الإِْمَامِ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ وَلاَ يَدْخُل مَعَهُ فِي صَلاَةِ الْمَغْرِبِ. وَإِنْ كَانَتِ الصَّلاَةُ رُبَاعِيَّةً، وَكَانَ الْمُنْفَرِدُ قَدْ قَيَّدَ الرَّكْعَةَ الأُْولَى بِالسُّجُودِ، شَفَعَ بِرَكْعَةٍ أُخْرَى، وَسَلَّمَ وَاقْتَدَى بِالإِْمَامِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَقَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ لِلْجُلُوسِ، وَيُعِيدُ التَّشَهُّدَ، وَيُسَلِّمُ وَيَدْخُل مَعَ الإِْمَامِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ صَلاَتَهُ، وَيَقْتَدِي بِالإِْمَامِ مُتَنَفِّلاً، إِلاَّ فِي الْعَصْرِ، كَمَا هُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِكَرَاهَةِ النَّفْل بَعْدَهُ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 477، 148، 179، وجواهر الإكليل 1 / 77، والدسوقي 1 / 324، ومغني المحتاج 1 / 252، وأسنى المطالب 1 / 231، والمجموع شرح المهذب 4 / 208 - 210.(27/179)
21 - مَنْ شَرَعَ فِي صَلاَةٍ فَائِتَةٍ وَأُقِيمَتِ الْحَاضِرَةُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ لاَ يَقْطَعُ صَلاَتَهُ، لَكِنَّهُ لَوْ خَافَ فَوْتَ جَمَاعَةِ الْحَاضِرَةِ قَبْل قَضَاءِ الْفَائِتَةِ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ تَرْتِيبٍ قَضَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقْتَدِي؛ لإِِحْرَازِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، مَعَ جَوَازِ تَأْخِيرِ الْقَضَاءِ وَإِمْكَانِ تَلاَفِيهِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ بَعْدَ أَنْ نَقَل ذَلِكَ عَنِ الْخَيْرِ الرَّمْلِيِّ: وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ؛ لأَِنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا، أَوْ فِي حُكْمِ الْوَاجِبِ.
أَمَّا إِذَا شَرَعَ فِي قَضَاءِ فَرْضٍ، وَأُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ فِي ذَلِكَ الْفَرْضِ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ وَيَقْتَدِي. وَعُزِيَ لِلْخُلاَصَةِ: أَنَّهُ لَوْ شَرَعَ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ، ثُمَّ أُقِيمَتْ لاَ يَقْطَعُ، هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ شَرَعَ فِي فَرِيضَةٍ، وَأُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ فِي غَيْرِهَا، بِأَنْ كَانَ فِي ظُهْرٍ، فَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْعَصْرُ مَثَلاً قَطَعَ صَلاَتَهُ الَّتِي فِيهَا إِنْ خَشِيَ، بِأَنْ تَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ فَوَاتَ رَكْعَةٍ مَعَ الإِْمَامِ، وَإِنْ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَ رَكْعَةٍ مَعَ الإِْمَامِ بِأَنْ تَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ إِدْرَاكَهُ فِي الأُْولَى عَقِبَ إِتْمَامِ مَا هُوَ فِيهِ فَلاَ يَقْطَعُ بَل يُتِمُّ صَلاَتَهُ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 477.
(2) جواهر الإكليل 1 / 77، والحطاب 2 / 90 - 91.(27/180)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ كَانَ يُصَلِّي فَائِتَةً، وَالْجَمَاعَةُ تُصَلِّي الْحَاضِرَةَ فَلاَ يَقْلِبُ صَلاَتَهُ نَفْلاً لِيُصَلِّيَهَا جَمَاعَةً، إِذْ لاَ تُشْرَعُ فِيهَا الْجَمَاعَةُ حِينَئِذٍ، خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجَمَاعَةُ فِي تِلْكَ الْفَائِتَةِ بِعَيْنِهَا جَازَ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لاَ يُنْدَبُ، أَيْ جَازَ قَطْعُ صَلاَتِهِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَيَقْتَدِي بِالإِْمَامِ (1) .
مَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَصَدَ الْجَمَاعَةَ:
22 - يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُل إِذَا أَقْبَل إِلَى الصَّلاَةِ: أَنْ يُقْبِل بِخَوْفٍ وَوَجَلٍ وَخُشُوعٍ وَخُضُوعٍ، وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَإِنْ سَمِعَ الإِْقَامَةَ لَمْ يَسْعَ إِلَيْهَا فِي عَجَلَةٍ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا (2) وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَال: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى قَال: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلاَةِ، قَال: فَلاَ تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 231، ومغني المحتاج 1 / 252، والمجموع 4 / 210 - 211.
(2) حديث أبي هريرة: " إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 390 - ط السلفية) ومسلم (1 / 420 - 421 ط. الحلبي) .(27/180)
فَأَتِمُّوا، وَفِي رِوَايَةٍ: فَاقْضُوا (1) .
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو إِسْحَاقَ: إِنْ خَافَ فَوَاتَ التَّكْبِيرَةِ الأُْولَى فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُسْرِعَ إِذَا طَمِعَ أَنْ يُدْرِكَهَا مَا لَمْ يَكُنْ عَجَلَةً تَقْبُحُ، جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَجِّلُونَ شَيْئًا إِذَا خَافُوا فَوَاتَ التَّكْبِيرَةِ الأُْولَى، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ اشْتَدَّ إِلَى الصَّلاَةِ وَقَال: بَادِرُوا حَدَّ الصَّلاَةِ يَعْنِي التَّكْبِيرَةَ الأُْولَى (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ الإِْسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ لِلصَّلاَةِ فِي جَمَاعَةٍ لإِِدْرَاكِ فَضْلِهَا إِسْرَاعًا يَسِيرًا بِلاَ خَبَبٍ أَيْ بِلاَ جَرْيٍ يُذْهِبُ الْخُشُوعَ، فَيُكْرَهُ، وَلَوْ خَافَ فَوَاتَ إِدْرَاكِهَا وَلَوْ جُمُعَةً؛ لأَِنَّ لَهَا بَدَلاً؛ وَلأَِنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا أَذِنَ فِي السَّعْيِ مَعَ السَّكِينَةِ، فَانْدَرَجَتِ الْجُمُعَةُ وَغَيْرُهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلٍّ لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ فِيهِ وَيَضِيقُ الْوَقْتُ، بِحَيْثُ يَخْشَى فَوَاتَهُ إِنْ لَمْ يُسْرِعْ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ (3) .
كَذَلِكَ قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ ضَاقَ الْوَقْتُ
__________
(1) حديث أبي قتادة: " بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 116 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 422 - ط. الحلبي) .
(2) البدائع 1 / 218، والمهذب 1 / 101، والمغني 1 / 453 - 454.
(3) منح الجليل 1 / 223.(27/181)
وَخَشِيَ فَوَاتَهُ فَلْيُسْرِعْ، كَمَا لَوْ خَشِيَ فَوَاتَ الْجُمُعَةِ وَكَذَلِكَ لَوِ امْتَدَّ الْوَقْتُ، وَكَانَتْ لاَ تَقُومُ إِلاَّ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يُسْرِعْ لَتَعَطَّلَتْ، قَالَهُ الأَْذْرَعِيُّ (1) .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَارِبَ بَيْنَ خَطْوِهِ لِتَكْثُرَ حَسَنَاتُهُ، فَإِنَّ كُل خُطْوَةٍ يُكْتَبُ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَال: أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، فَخَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي وَأَنَا مَعَهُ فَقَارَبَ فِي الْخُطَى ثُمَّ قَال: أَتَدْرِي لِمَ فَعَلْتُ هَذَا؟ لِتَكْثُرَ خُطَانَا فِي طَلَبِ الصَّلاَةِ (2) .
كَيْفِيَّةُ انْتِظَامِ الْمُصَلِّينَ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ:
23 - إِذَا انْعَقَدَتِ الْجَمَاعَةُ بِأَقَل مَا تَنْعَقِدُ بِهِ (وَاحِدٌ مَعَ الإِْمَامِ) فَالسُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ الْمَأْمُومُ عَنْ يَمِينِ الإِْمَامِ إِذَا كَانَ رَجُلاً أَوْ صَبِيًّا يَعْقِل، فَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً أَقَامَهَا خَلْفَهُ، وَلَوْ كَانَ مَعَ الإِْمَامِ اثْنَانِ، فَإِنْ كَانَا رَجُلَيْنِ أَقَامَهُمَا خَلْفَهُ، وَإِنْ كَانَا رَجُلاً وَامْرَأَةً أَقَامَ الرَّجُل عَنْ يَمِينِهِ وَالْمَرْأَةَ خَلْفَ الرَّجُل.
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 231.
(2) المغني 1 / 454، وحديث: زيد بن ثابت: " أقيمت الصلاة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أخرجه عبد بن حميد (ص 112 - ط عالم الكتب) وأخرجه كذلك الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد للهيثمي (2 / 32 ط القدسي) وقال الهيثمي: فيه الضحاك بن نبراس وهو ضعيف.(27/181)
وَلَوْ كَانَتِ الْجَمَاعَةُ كَثِيرَةً وَفِيهِمْ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ قَامَ الرِّجَال فِي الصُّفُوفِ الأُْولَى خَلْفَ الإِْمَامِ، ثُمَّ قَامَ الصِّبْيَانُ مِنْ وَرَاءِ الرِّجَال، ثُمَّ قَامَ النِّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ الصِّبْيَانِ.
وَفِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ تَقِفُ الَّتِي تَؤُمُّ النِّسَاءَ وَسَطَهُنَّ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ الإِْمَامُ عَنِ الْمَأْمُومِينَ فِي الْمَوْقِفِ، وَلاَ يَكُونُ مَوْقِفُ الإِْمَامِ أَعْلَى مِنْ مَوْقِفِ الْمُقْتَدِينَ (1) .
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: مُصْطَلَحِ (إِمَامَةُ الصَّلاَةِ ج 6 ف 20 - 21 - 22) .
أَفْضَلِيَّةُ الصُّفُوفِ وَتَسْوِيَتُهَا:
24 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَقَدَّمَ النَّاسُ فِي الصَّفِّ الأَْوَّل؛ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الأَْحَادِيثِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى التَّقَدُّمِ إِلَى الصَّفِّ الأَْوَّل، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الأَْوَّل لَكَانَتْ قُرْعَةً (2) وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّفُّ الأَْوَّل عَلَى مِثْل صَفِّ الْمَلاَئِكَةِ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ
__________
(1) البدائع 1 / 158 - 159، والدسوقي 1 / 344، والمهذب 1 / 106 - 107، وكشاف القناع 1 / 485 - 486 - 487.
(2) حديث: " لو تعلمون (أو يعلمون) ما في الصف الأول. . . ". أخرجه مسلم (1 / 326 ط الحلبي) .(27/182)
فَضِيلَتَهُ لاَبْتَدَرْتُمُوهُ (1) .
كَمَا يُسْتَحَبُّ إِتْمَامُ الصُّفُوفِ، وَلاَ يَشْرَعُ فِي صَفٍّ حَتَّى يُتِمَّ مَا قَبْلَهُ، فَيَبْدَأُ بِإِتْمَامِ الصَّفِّ الأَْوَّل، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ وَهَكَذَا إِلَى آخِرِ الصُّفُوفِ، فَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ (2) .
وَيُسْتَحَبُّ الاِعْتِدَال فِي الصُّفُوفِ، فَإِذَا وَقَفُوا فِي الصَّفِّ لاَ يَتَقَدَّمُ بَعْضُهُمْ بِصَدْرِهِ أَوْ غَيْرِهِ وَلاَ يَتَأَخَّرُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَيُسَوِّي الإِْمَامُ بَيْنَهُمْ فَفِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ عَنِ الْبَرَاءِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي نَاحِيَةَ الصَّفِّ وَيُسَوِّي بَيْنَ صُدُورِ الْقَوْمِ وَمَنَاكِبِهِمْ، وَيَقُول: لاَ تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصُّفُوفِ الأُْوَل (3) .
__________
(1) حديث أبي بن كعب: " الصف الأول مثل صف الملائكة. . ". أخرجه النسائي (2 / 105 ط المكتبة التجارية) والحاكم (1 / 248 ط. دائرة المعارف العثمانية) ونقل الذهبي في تلخيصه عن جمع من العلماء أنهم صححوا هذا الحديث.
(2) حديث أنس: " أتموا الصف المقدم. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 435 تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسنه النووي في رياض الصالحين (ص 414 - ط المكتب الإسلامي) .
(3) حديث البراء: " لا تختلفوا فتختلف قلوبكم. . . ". أخرجه ابن خزيمة (3 / 26 - ط المكتب الإسلامي) وإسناده صحيح.(27/182)
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَلاَ تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُول اللَّهِ وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَال: يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُْوَل، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ (1) وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَال: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي وَكَانَ أَحَدُنَا يَلْزَقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ (2) .
كَمَا يُسْتَحَبُّ سَدُّ الْفُرَجِ، وَالإِْفْسَاحُ لِمَنْ يُرِيدُ الدُّخُول فِي الصَّفِّ (3) . فَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَسُدُّوا الْخَلَل، وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلاَ تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَل صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ (4) .
__________
(1) حديث " ألا تصفون كما تصف الملائكة ". أخرجه مسلم (1 / 322 - ط الحلبي) .
(2) حديث أنس: " أقيموا صفوفكم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 211 - ط. السلفية) .
(3) فتح القدير 1 / 311، نشر إحياء التراث العربي، والمجموع 4 / 226، 227، 301 نشر المكتبة السلفية، والمغني 2 / 219، وشرح الزرقاني 2 / 17.
(4) حديث ابن عمر: أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب. . ". أخرجه أبو داود (1 / 433، تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه ابن خزيمة والحاكم كما في فتح الباري (2 / 211 - ط. السلفية) .(27/183)
قَال النَّوَوِيُّ: وَاسْتِحْبَابُ الصَّفِّ الأَْوَّل ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ إِلَى آخِرِهَا - هَذَا الْحُكْمُ مُسْتَمِرٌّ فِي صُفُوفِ الرِّجَال بِكُل حَالٍ، وَكَذَا فِي صُفُوفِ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ بِجَمَاعَتِهِنَّ عَنْ جَمَاعَةِ الرِّجَال، أَمَّا إِذَا صَلَّتِ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَال جَمَاعَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ فَأَفْضَل صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا (1) .
لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَال أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا ( x662 ;) .
صَلاَةُ الرَّجُل وَحْدَهُ خَلْفَ الصُّفُوفِ:
25 - الأَْصْل فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُونَ صُفُوفًا مُتَرَاصَّةً كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ - وَلِذَلِكَ يُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَاحِدٌ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصُّفُوفِ دُونَ عُذْرٍ، وَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَتَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ بِوُجُودِ الْعُذْرِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - وَالأَْصْل فِيهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ: أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْل أَنْ يَصِل إِلَى
__________
(1) المجموع 4 / 301.
(2) حديث: " خير صفوف الرجال أولها. . . ". أخرجه مسلم (1 / 326 ط. الحلبي) .(27/183)
الصَّفِّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلاَ تَعُدْ (1) .
قَال الْفُقَهَاءُ: يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ لُزُومِ الإِْعَادَةِ، وَأَنَّ الأَْمْرَ الَّذِي وَرَدَ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلاَةَ (2) . هَذَا الأَْمْرُ بِالإِْعَادَةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيل الاِسْتِحْبَابِ؛ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَبْطُل صَلاَةُ مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ رَكْعَةً كَامِلَةً خَلْفَ الصَّفِّ مُنْفَرِدًا دُونَ عُذْرٍ؛ لِحَدِيثِ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ: أَنَّهُ صَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْصَرَفَ، وَرَجُلٌ فَرْدٌ خَلْفَ الصَّفِّ، قَال: فَوَقَفَ عَلَيْهِ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْصَرَفَ قَال: اسْتَقْبِل صَلاَتَكَ، لاَ صَلاَةَ لِلَّذِي خَلْفَ الصَّفِّ (4) .
__________
(1) حديث أبي بكرة: " أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع. . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 267 - ط السلفية) .
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف. . ". أخرجه الترمذي (1 / 445 - 446 - ط الحلبي) وقال: حديث حسن.
(3) البدائع 1 / 218، وفتح القدير 1 / 309، نشر دار إحياء التراث، ومغني المحتاج 1 / 247، والحطاب مع المواق 2 / 131، وجواهر الإكليل 1 / 80.
(4) حديث علي بن شيبان: " استقبل صلاتك ". أخرجه ابن ماجه (1 / 320 ط - الحلبي) وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 195 - ط دار الجنان) : هذا إسناد صحيح، ورجاله ثقات.(27/184)
فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَاهُ فَقَال: لاَ تُعِدْ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَعُذْرُهُ فِيمَا فَعَلَهُ لِجَهْلِهِ بِتَحْرِيمِهِ، وَلِلْجَهْل تَأْثِيرٌ فِي الْعَفْوِ (1) .
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ كَيْفِيَّةِ تَصَرُّفِ الْمَأْمُومِ لِيَجْتَنِبَ الصَّلاَةَ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ، حَتَّى تَنْتَفِيَ الْكَرَاهَةُ، كَمَا يَقُول جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَتَصِحُّ كَمَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ:
26 - مَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ وَقَدْ أُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ، فَإِنْ وَجَدَ فُرْجَةً فِي الصَّفِّ الأَْخِيرِ وَقَفَ فِيهَا، أَوْ وَجَدَ الصَّفَّ غَيْرَ مَرْصُوصٍ وَقَفَ فِيهِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ (2) .
وَإِنْ وَجَدَ الْفُرْجَةَ فِي صَفٍّ مُتَقَدِّمٍ فَلَهُ أَنْ يَخْتَرِقَ الصُّفُوفَ لِيَصِل إِلَيْهَا لِتَقْصِيرِ الْمُصَلِّينَ فِي تَرْكِهَا، يَدُل عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَظَرَ إِلَى فُرْجَةٍ فِي صَفٍّ فَلْيَسُدَّهَا بِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل، فَمَرَّ مَارٌّ، فَلْيَتَخَطَّ
__________
(1) المغني 2 / 211 - 212.
(2) حديث: " إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف ". أخرجه ابن حبان (الإحسان 5 / 536 - ط الرسالة) من حديث عائشة، وإسناده حسن.(27/184)
عَلَى رَقَبَتِهِ فَإِنَّهُ لاَ حُرْمَةَ لَهُ (1) .
وَلأَِنَّ سَدَّ الْفُرْجَةِ الَّتِي فِي الصُّفُوفِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لَهُ وَلِلْقَوْمِ بِإِتْمَامِ صَلاَتِهِ وَصَلاَتِهِمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ (2) ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَدِّ الْفُرَجِ (3) .
وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ إِذْ إِنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ يُحَدِّدُ الصُّفُوفَ الَّتِي يَجُوزُ اخْتِرَاقُهَا بِصَفَّيْنِ غَيْرِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ وَاَلَّذِي دَخَل فِيهِ، كَذَلِكَ قَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ كَانَتِ الْفُرْجَةُ بِحِذَائِهِ كُرِهَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَيْهَا عَرْضًا بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ (4) .
__________
(1) حديث: " من نظر إلى فرجه ". أخرجه الطبراني في الكبير (11 / 105 ط وزارة الأوقاف العراقية) من حديث ابن عباس، وأورده الهيثمي في المجمع (2 / 95 ط القدسي) وقال: فيه مسلمة بن علي وهو ضعيف.
(2) ففي الحديث عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة. . ". أخرجه مسلم (1 / 324 - ط الحلبي) وأخرجه البخاري كذلك (الفتح2 / 209 - ط - السلفية) بلفظ: " من إقامة الصلاة ".
(3) حديث: " أنه أمر بسد الفرج. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 433 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ابن عمر بلفظ: " أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل ".، وإسناده صحيح.
(4) حديث: " لو يعلم المار بين يدي المصلي. . . ". أخرجه البخاري (الفتح1 / 584 - ط السلفية) ومسلم (1 / 363 - ط. الحلبي) من حديث أبي جهيم.(27/185)
27 - وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فُرْجَةً فِي أَيِّ صَفٍّ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ حِينَئِذٍ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ لَمْ يَجِدْ فُرْجَةً يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَظِرَ مَنْ يَدْخُل الْمَسْجِدَ لِيَصْطَفَّ مَعَهُ خَلْفَ الصَّفِّ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا وَخَافَ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ جَذَبَ مِنَ الصَّفِّ إِلَى نَفْسِهِ مَنْ يَعْرِفُ مِنْهُ عِلْمًا وَخُلُقًا لِكَيْ لاَ يَغْضَبَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ وَقَفَ خَلْفَ الصَّفِّ بِحِذَاءِ الإِْمَامِ، وَلاَ كَرَاهَةَ حِينَئِذٍ، لأَِنَّ الْحَال حَال الْعُذْرِ، هَكَذَا ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ فِي الْبَدَائِعِ، لَكِنْ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ ذَكَرَ فِي الْفَتْحِ: أَنَّ مَنْ جَاءَ وَالصَّفُّ مَلآْنُ يَجْذِبُ وَاحِدًا مِنْهُ، لِيَكُونَ مَعَهُ صَفًّا آخَرَ، ثُمَّ قَال: وَيَنْبَغِي لِذَلِكَ (أَيْ لِمَنْ كَانَ فِي الصَّفِّ) أَنْ لاَ يُجِيبَهُ، فَتَنْتَفِيَ الْكَرَاهَةُ عَنْ هَذَا؛ لأَِنَّهُ فَعَل وُسْعَهُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الدُّخُول فِي الصَّفِّ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي مُنْفَرِدًا عَنِ الْمَأْمُومِينَ، وَلاَ يَجْذِبُ أَحَدًا مِنَ الصَّفِّ، وَإِنْ جَذَبَ أَحَدًا فَلاَ يُطِعْهُ الْمَجْذُوبُ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الْجَذْبِ وَالإِْطَاعَةِ مَكْرُوهٌ (2) .
__________
(1) البدائع 1 / 218، وابن عابدين 1 / 383، وفتح القدير 1 / 309، والخرشي 2 / 33، 47، وجواهر الإكليل 1 / 80، 84، ومغني المحتاج 1 / 247، 248، وكشاف القناع 1 / 490، وشرح منتهى الإرادات 1 / 265.
(2) جواهر الإكليل 1 / 80.(27/185)
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ فُرْجَةً وَلاَ سِعَةً فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجُرَّ إِلَيْهِ شَخْصًا مِنَ الصَّفِّ لِيَصْطَفَّ مَعَهُ، لَكِنْ مَعَ مُرَاعَاةِ أَنَّ الْمَجْرُورَ سَيُوَافِقُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجُرُّ أَحَدًا مَنْعًا لِلْفِتْنَةِ، وَإِذَا جَرَّ أَحَدًا فَيُنْدَبُ لِلْمَجْرُورِ أَنْ يُسَاعِدَهُ لِيَنَال فَضْل الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.
وَمُقَابِل الصَّحِيحِ - وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ - أَنَّهُ يَقِفُ مُنْفَرِدًا، وَلاَ يَجْذِبُ أَحَدًا؛ لِئَلاَّ يُحْرِمَ غَيْرَهُ فَضِيلَةَ الصَّفِّ السَّابِقِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا فِي الصَّفِّ يَقِفُ فِيهِ وَقَفَ عَنْ يَمِينِ الإِْمَامِ إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ مَوْقِفُ الْوَاحِدِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْوُقُوفُ عَنْ يَمِينِ الإِْمَامِ فَلَهُ أَنْ يُنَبِّهَ رَجُلاً مِنَ الصَّفِّ لِيَقِفَ مَعَهُ، وَيُنَبِّهَهُ بِكَلاَمٍ أَوْ بِنَحْنَحَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ وَيَتْبَعُهُ مَنْ يُنَبِّهُهُ. وَظَاهِرُهُ وُجُوبًا لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ. وَيُكْرَهُ تَنْبِيهُهُ بِجَذْبِهِ نَصًّا، وَاسْتَقْبَحَهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: جَوَّزَ أَصْحَابُنَا جَذْبَ رَجُلٍ يَقُومُ مَعَهُ صَفًّا، وَصَحَّحَ ذَلِكَ ابْنُ قُدَامَةَ؛ لأَِنَّ الْحَالَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ، فَجَازَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 248 - 249، والمجموع 4 / 297 - 298.(27/186)
كَالسُّجُودِ عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ قَدَمِهِ حَال الزِّحَامِ،
وَلَيْسَ هَذَا تَصَرُّفًا فِيهِ، إِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهُهُ لِيَخْرُجَ مَعَهُ، فَجَرَى مَجْرَى مَسْأَلَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ، وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ (1) فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ لَمْ يُكْرِهْهُ وَصَلَّى وَحْدَهُ (2) .
الأَْعْذَارُ الَّتِي تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ:
الأَْعْذَارُ الَّتِي تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ: مِنْهَا مَا هُوَ عَامٌّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ. وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: - أَوَّلاً: الأَْعْذَارُ الْعَامَّةُ:
28 - أ - الْمَطَرُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الْخُرُوجُ لِلْجَمَاعَةِ، وَاَلَّذِي يَحْمِل النَّاسَ عَلَى تَغْطِيَةِ رُءُوسِهِمْ.
ب - الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ لَيْلاً لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ.
ج - الْبَرْدُ الشَّدِيدُ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، وَكَذَلِكَ الْحَرُّ الشَّدِيدُ. وَالْمُرَادُ الْبَرْدُ أَوِ الْحَرُّ الَّذِي يَخْرُجُ عَمَّا أَلِفَهُ النَّاسُ أَوْ أَلِفَهُ أَصْحَابُ الْمَنَاطِقِ الْحَارَّةِ أَوِ الْبَارِدَةِ.
د - الْوَحْل الشَّدِيدُ الَّذِي يَتَأَذَّى بِهِ
__________
(1) حديث: " لينوا بأيدي إخوانكم " تقدم ف 24.
(2) كشاف القناع 1 / 490، والمغني 2 / 216 - 217.(27/186)
الإِْنْسَانُ فِي نَفْسِهِ وَثِيَابِهِ، وَلاَ يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَوُّثُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي طِينٍ وَرَدْغَةٍ فَقَال: لاَ أُحِبُّ تَرْكَهَا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي شَرْحِ الزَّاهِدِيِّ عَنْ شَرْحِ التُّمُرْتَاشِيِّ: اخْتُلِفَ فِي كَوْنِ الأَْمْطَارِ وَالثُّلُوجِ وَالأَْوْحَال وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ عُذْرًا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِذَا اشْتَدَّ التَّأَذِّي يُعْذَرُ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ مُقَابِل الصَّحِيحِ - أَنَّ الْوَحْل لَيْسَ بِعُذْرٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عُذْرٌ.
هـ - الظُّلْمَةُ الشَّدِيدَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا كَوْنُ الإِْنْسَانِ لاَ يُبْصِرُ طَرِيقَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ يُكَلَّفُ إِيقَادَ نَحْوِ سِرَاجٍ وَإِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ. وَالدَّلِيل عَلَى كَوْنِ الأَْعْذَارِ السَّابِقَةِ مِنْ مَطَرٍ وَغَيْرِهِ تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ الأَْحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ وَمِنْهَا: -
مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَذَّنَ بِالصَّلاَةِ فِي لَيْلَةِ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ فَقَال: " أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَال، ثُمَّ قَال: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةً ذَاتَ بَرْدٍ وَمَطَرٍ يَقُول: أَلاَ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ يَأْمُرُ مُنَادِيَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُمْطِرَةِ(27/187)
وَاللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ ذَاتِ الرِّيحِ أَنْ يَقُول: أَلاَ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ (1) .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَال لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: إِذَا قُلْتَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ فَلاَ تَقُل: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ. قُل: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ. قَال: فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَاكَ. فَقَال: أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا؟ قَدْ فَعَل ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي. إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ. وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ، فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ (2) .
ثَانِيًا: الأَْعْذَارُ الْخَاصَّةُ:
أ - الْمَرَضُ:
29 - وَهُوَ الْمَرَضُ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الإِْتْيَانُ إِلَى الْمَسْجِدِ لِصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: لاَ أَعْلَمُ خِلاَفًا بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ: أَنَّ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنِ الْجَمَاعَاتِ مِنْ أَجْل الْمَرَضِ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَرِضَ تَخَلَّفَ عَنِ الْمَسْجِدِ
__________
(1) حديث ابن عمر: " أنه أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح. . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 156 - 157 - ط السلفية) ومسلم (1 / 484 - ط. الحلبي) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 373 - 374، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 389 - 390، ومغني المحتاج 1 / 234 - 235، والمهذب 1 / 101، وأسنى المطالب 1 / 213 - 214، والمغني 1 / 632، وكشاف القناع 1 / 497، وحديث عبد الله بن عباس: (إذا قلت أشهد أن محمدا رسول الله) . أخرجه البخاري (الفتح 2 / 157 - ط السلفية) ومسلم (1 / 485 - ط الحلبي) .(27/187)
وَقَال: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَل بِالنَّاسِ (1) ، وَمِنْ ذَلِكَ كِبَرُ السِّنِّ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الإِْتْيَانُ إِلَى الْمَسْجِدِ (2) .
ب - الْخَوْفُ:
30 - وَهُوَ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ -؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ، قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ، لَمْ تُقْبَل مِنْهُ الصَّلاَةُ الَّتِي صَلَّى (3) .
وَالْخَوْفُ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ: خَوْفٌ عَلَى النَّفْسِ، وَخَوْفٌ عَلَى الْمَال، وَخَوْفٌ عَلَى الأَْهْل.
الأَْوَّل: أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ سُلْطَانًا
__________
(1) حديث " مروا أبا بكر فليصل بالناس. . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 204 - ط السلفية) ومسلم (1 / 314 - ط السلفية) من حديث عائشة.
(2) ابن عابدين 1 / 373، والدسوقي 1 / 389، ومغني المحتاج 1 / 235، والمغني 1 / 631، وكشاف القناع 1 / 495.
(3) حديث: " من سمع النداء فلم يمنعه. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 374 تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال المنذري في مختصر السنن (1 / 291 - نشر دار المعرفة) : وفي إسناده أبو جناب يحيى بن أبي حية الكلبي، وهو ضعيف، وأخرجه ابن ماجه بنحوه، وإسناده أمثل، وفيه نظر. وهو في سنن ابن ماجه (1 / 260 ط الحلبي) بلفظ: " من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له، إلا من عذر ". بدون الزيادة فيه، وبهذا اللفظ أخرجه الحاكم (1 / 245 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(27/188)
يَأْخُذُهُ، أَوْ عَدُوًّا أَوْ لِصًّا أَوْ سَبُعًا أَوْ دَابَّةً أَوْ سَيْلاً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْذِيهِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَخَافَ غَرِيمًا لَهُ يُلاَزِمُهُ، وَلاَ شَيْءَ مَعَهُ يُوَفِّيَهُ؛ لأَِنَّ حَبْسَهُ بِدَيْنٍ هُوَ مُعْسِرٌ بِهِ ظُلْمٌ لَهُ. فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ عُذْرًا لَهُ؛ لأَِنَّهُ يَجِبُ إِيفَاؤُهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: الْخَوْفُ مِنْ تَوْقِيعِ عُقُوبَةٍ، كَتَعْزِيرٍ وَقَوَدٍ وَحَدِّ قَذْفٍ مِمَّا يَقْبَل الْعَفْوَ. فَإِنْ كَانَ يَرْجُو الْعَفْوَ عَنِ الْعُقُوبَةِ إِنْ تَغَيَّبَ أَيَّامًا عَنِ الْجَمَاعَةِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا. فَإِنْ لَمْ يَرْجُ الْعَفْوَ أَوْ كَانَ الْحَدُّ، مِمَّا لاَ يَقْبَل الْعَفْوَ كَحَدِّ الزِّنَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا، وَهَذَا كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، فَلَمْ يَعْتَبِرْهُ بَعْضُهُمْ عُذْرًا، وَاعْتَبَرَهُ بَعْضُهُمْ عُذْرًا إِنْ رَجَا الْعَفْوَ مَجَّانًا أَوْ عَلَى مَالٍ، وَقَال الْقَاضِي: إِنْ كَانَ يَرْجُو الصُّلْحَ عَلَى مَالٍ فَلَهُ التَّخَلُّفُ حَتَّى يُصَالِحَ. أَمَّا الْحُدُودُ، فَمَا كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ كَحَدِّ الْقَذْفِ فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ عُذْرًا فِي التَّخَلُّفِ، لَكِنِ ابْنُ مُفْلِحٍ قَال فِي كِتَابِهِ الْفُرُوعِ: وَيَتَوَجَّهُ فِيهِ وَجْهٌ: إِنْ رَجَا الْعَفْوَ، قَال فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: وَجَزَمَ بِهِ فِي الإِْقْنَاعِ.(27/188)
أَمَّا الْحُدُودُ الَّتِي لاَ تَقْبَل الْعَفْوَ فَلاَ تُعْتَبَرُ عُذْرًا (1) .
الثَّانِي: أَنْ يَخَافَ عَلَى مَالِهِ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ لِصٍّ، أَوْ يَخَافَ أَنْ يُسْرَقَ مَنْزِلُهُ أَوْ يُحْرَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ يَكُونَ لَهُ خُبْزٌ فِي تَنُّورٍ أَوْ طَبِيخٌ عَلَى نَارٍ، وَيَخَافُ حَرِيقَهُ بِاشْتِغَالِهِ عَنْهُ، أَوْ يَكُونُ لَهُ غَرِيمٌ إِنْ تَرَكَ مُلاَزَمَتَهُ ذَهَبَ بِمَالِهِ، أَوْ يَكُونَ لَهُ بِضَاعَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ ذَهَبَ، أَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ كَوَدِيعَةٍ أَوْ رَهْنٍ أَوْ عَارِيَّةً مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُهُ، وَيَخَافُ تَلَفَهُ بِتَرْكِهِ. وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ الْخَوْفُ عَلَى مَال الْغَيْرِ (2) .
الثَّالِثُ: الْخَوْفُ عَلَى الأَْهْل: مَنْ وَلَدٍ وَوَالِدٍ وَزَوْجٍ إِنْ كَانَ يَقُومُ بِتَمْرِيضِ أَحَدِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ.
وَمِثْل ذَلِكَ: الْقِيَامُ بِتَمْرِيضِهِ الأَْجْنَبِيَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِتَمْرِيضِهِ، وَكَانَ يَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيَاعَ لَوْ تَرَكَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - اسْتَصْرَخَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ يَتَجَمَّرُ لِلْجُمُعَةِ، فَأَتَاهُ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 214، ومغني المحتاج 1 / 235، وشرح الزرقاني 2 / 67، والمغني 1 / 631، وكشاف القناع 1 / 496، والفروع 2 / 44، وشرح منتهى الإرادات 1 / 270.
(2) شرح الزرقاني 2 / 67، وحاشية ابن عابدين 1 / 347، ومغني المحتاج 1 / 235، والمغني 1 / 632.(27/189)
بِالْعَقِيقِ، وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ (1) .
ج - حُضُورُ طَعَامٍ تَشْتَاقُهُ نَفْسُهُ وَتُنَازِعُهُ إِلَيْهِ:
31 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ فِي وَقْتِ الصَّلاَةِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْعَشَاءِ قَبْل الصَّلاَةِ؛ لِيَكُونَ أَفْرَغَ لِقَلْبِهِ وَأَحْضَرَ لِبَالِهِ، وَلاَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْجَل عَنْ عَشَائِهِ أَوْ غَدَائِهِ، فَإِنَّ أَنَسًا رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا قَرُبَ الْعَشَاءُ وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَابْدَءُوا بِهِ قَبْل أَنْ تُصَلُّوا صَلاَةَ الْمَغْرِبِ، وَلاَ تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ (2) ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخَافَ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ أَوْ لاَ يَخَافَ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أَنَسٍ: إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ (3) وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ وَلاَ يَعْجَلُنَّ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ (4) . وَتَعَشَّى ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 374، وشرح الزرقاني 2 / 66، ومغني المحتاج 1 / 236، ومنتهى الإرادات 1 / 269.
(2) حديث أنس: " إذا قرب العشاء وحضرت الصلاة ". أخرجه مسلم (1 / 392 - ط. الحلبي) .
(3) حديث أنس: " إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة ". أخرجه مسلم (1 / 392 - ط الحلبي) .
(4) حديث ابن عمر: " إذا وضع عشاء أحدكم ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 159 - ط السلفية) ومسلم (1 / 392 - ط. الحلبي) .(27/189)
يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإِْمَامِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: قَال أَصْحَابُنَا: إِنَّمَا يُقَدِّمُ الْعَشَاءَ عَلَى الْجَمَاعَةِ إِذَا كَانَتْ نَفْسُهُ تَتُوقُ إِلَى الطَّعَامِ كَثِيرًا، وَنَحْوَهُ قَال الشَّافِعِيُّ. وَقَال بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ عُمَرُ وَابْنُهُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ نَقُومُ إِلَى الصَّلاَةِ وَفِي أَنْفُسِنَا شَيْءٌ. قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ فَأَكْمَل صَلاَتَهُ أَنَّ صَلاَتَهُ تُجْزِئُهُ (1) .
د - مُدَافَعَةُ أَحَدِ الأَْخْبَثَيْنِ:
32 - وَمِثْلُهُمَا الرِّيحُ، فَإِنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ يُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ، قَالَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: إنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لاَ صَلاَةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلاَ هُوَ يُدَافِعُهُ الأَْخْبَثَانِ (2) ، وَلأَِنَّ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلاَةِ مَعَ مُدَافَعَةِ أَحَدِ الأَْخْبَثَيْنِ يُبْعِدُهُ عَنِ الْخُشُوعِ فِيهَا وَيَكُونُ مَشْغُولاً عَنْهَا (3) .
هـ - أَكْل ذِي رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ:
33 - وَذَلِكَ كَبَصَلٍ وَثُومٍ وَكُرَّاثٍ وَفُجْلٍ إِذَا
__________
(1) ابن عابدين 1 / 374، والقوانين الفقهية لابن جزي 69 نشر دار الكتاب العربي، ومغني المحتاج 1 / 235، والمغني 1 / 629 - 630.
(2) حديث " لا صلاة بحضرة طعام. . . ". أخرجه مسلم (1 / 393 - ط الحلبي) .
(3) ابن عابدين 1 / 374، والمغني 1 / 630 وأسنى المطالب 1 / 214.(27/190)
تَعَذَّرَ زَوَال رَائِحَتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ يُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ، حَتَّى لاَ يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ وَالْمَلاَئِكَةُ؛ لِحَدِيثِ: مَنْ أَكَل مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ: الثُّومِ - وَقَال مَرَّةً: مَنْ أَكَل الْبَصَل وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ - فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ (1) . وَالْمُرَادُ أَكْل هَذِهِ الأَْشْيَاءِ نِيئَةً، وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ مَنْ كَانَتْ حِرْفَتُهُ لَهَا رَائِحَةٌ مُؤْذِيَةٌ، كَالْجَزَّارِ وَالزَّيَّاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِثْل ذَلِكَ مَنْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ، كَجُذَامٍ وَبَرَصٍ، فَفِي كُل ذَلِكَ يُبَاحُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ (2) .
و الْعُرْيُ:
34 - فَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتُرُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ. وَهَذَا إِذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ أَمْثَالِهِ الْخُرُوجُ بِمِثْل ذَلِكَ، قَال الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: الأَْلْيَقُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ: أَنَّهُ إِنْ وَجَدَ مَا يَلِيقُ بِأَمْثَالِهِ خَرَجَ لِلْجَمَاعَةِ، وَإِلاَّ فَلاَ (3) .
__________
(1) حديث: " من أكل من هذه البقلة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 395 - ط. الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) مغني المحتاج 1 / 236، والدسوقي 1 / 389، وكشاف القناع 1 / 497 - 498.
(3) الدسوقي 1 / 390، ومغني المحتاج 1 / 236، وكشاف القناع 1 / 496.(27/190)
ز - الْعَمَى:
35 - اعْتَبَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْعَمَى عُذْرٌ يُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَإِنْ وَجَدَ قَائِدًا. وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عُذْرًا إِلاَّ أَنْ لاَ يَجِدَ قَائِدًا، وَلَمْ يَهْتَدِ لِلطَّرِيقِ بِنَفْسِهِ (1) .
ح - إِرَادَةُ السَّفَرِ:
36 - مَنْ تَأَهَّبَ لِسَفَرٍ مُبَاحٍ مَعَ رُفْقَةٍ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ، وَكَانَ يَخْشَى إِنْ حَضَرَ الْجَمَاعَةَ أَنْ تَفُوتَهُ الْقَافِلَةُ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ (2) .
ط - غَلَبَةُ النُّعَاسِ وَالنَّوْمِ:
37 - فَمَنْ غَلَبَهُ النُّعَاسُ وَالنَّوْمُ إِنِ انْتَظَرَ الْجَمَاعَةَ صَلَّى وَحْدَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ غَلَبَهُ النُّعَاسُ مَعَ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّ رَجُلاً صَلَّى مَعَ مُعَاذٍ، ثُمَّ انْفَرَدَ فَصَلَّى وَحْدَهُ عِنْدَ تَطْوِيل مُعَاذٍ، وَخَوْفِ النُّعَاسِ وَالْمَشَقَّةِ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَخْبَرَهُ (3) ، وَالأَْفْضَل الصَّبْرُ وَالتَّجَلُّدُ عَلَى رَفْعِ النُّعَاسِ وَالصَّلاَةِ جَمَاعَةً (4) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 373، والدسوقي 1 / 391، وكشاف القناع 1 / 497.
(2) ابن عابدين 1 / 374، ومغني المحتاج 1 / 236، وكشاف القناع 1 / 496.
(3) حديث: " أن رجلا صلى مع معاذ ثم انفرد. . . ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 200 - ط السلفية) ومسلم (1 / 339 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(4) كشاف القناع 1 / 496، والمغني 1 / 633، ومغني المحتاج 1 / 236.(27/191)
ي - زِفَافُ الزَّوْجَةِ:
38 - فَزِفَافُ الزَّوْجَةِ عُذْرٌ يُبِيحُ لِلزَّوْجِ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ، وَذَلِكَ كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لَكِنِ الشَّافِعِيَّةُ قَيَّدُوهُ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ اللَّيْلِيَّةِ فَقَطْ، وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا ذَلِكَ عُذْرًا، وَخَفَّفَ مَالِكٌ لِلزَّوْجِ تَرْكَ بَعْضِ الصَّلاَةِ فِي الْجَمَاعَةِ لِلاِشْتِغَال بِزَوْجِهِ وَالسَّعْيِ إِلَى تَأْنِيسِهَا وَاسْتِمَالَتِهَا (1) .
39 - ك - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الأَْعْذَارِ الَّتِي تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ: الاِشْتِغَال بِالْفِقْهِ؛ لاَ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ. كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الأَْعْذَارِ: السِّمَنَ الْمُفْرِطَ (2) .
__________
(1) الدسوقي 1 / 391، والمواق بهامش الحطاب 2 / 184، ومغني المحتاج 1 / 236، وكشاف القناع 1 / 497.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 374، ومغني المحتاج 1 / 236.(27/191)
صَلاَةُ الْجُمُعَةِ
زَمَنَ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
1 - شُرِعَتْ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ فِي أَوَّل الْهِجْرَةِ عِنْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، قَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: الأَْكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَهُوَ مُقْتَضَى أَنَّ فَرْضِيَّتَهَا ثَبَتَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ (1) } وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَقَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: فُرِضَتْ بِمَكَّةَ، وَهُوَ غَرِيبٌ (2) .
وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: أَنَّ أَوَّل جُمُعَةٍ جَمَّعَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ، كَانَتْ فِي قَبِيلَةِ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فِي بَطْنِ وَادٍ لَهُمْ قَدِ اتَّخَذَ الْقَوْمُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَسْجِدًا، وَذَلِكَ عِنْدَمَا قَدِمَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا (3) .
غَيْرَ أَنَّهُ ثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ أَسْعَد بْنَ زُرَارَةَ أَوَّل مَنْ جَمَعَ النَّاسَ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ قَبْل أَنْ يُهَاجِرَ مِنْ مَكَّةَ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ
__________
(1) سورة الجمعة / 9.
(2) فتح الباري 2 / 239.
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18 / 98، ومثله في مختلف كتب السيرة.(27/192)
" كَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ تَرَحَّمَ لأَِسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، وَكَانَ يَقُول: إِنَّهُ أَوَّل مَنْ جَمَّعَ بِنَا فِي هَزْمِ النَّبِيتِ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ فِي نَقِيعٍ يُقَال لَهُ: نَقِيعُ الْخَضِمَاتِ (1) .
فَمَنْ رَجَّحَ أَنَّهَا فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، اسْتَدَل بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقِمْ أَيَّ جُمُعَةٍ فِي مَكَّةَ قَبْل الْهِجْرَةِ، وَمَنْ قَال: إِنَّهَا فُرِضَتْ بِمَكَّةَ قَبْل الْهِجْرَةِ اسْتَدَل بِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ صَلَّوْهَا فِي الْمَدِينَةِ قَبْل هِجْرَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً إِذْ ذَاكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ سَوَاءٌ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي مَكَّةَ وَفِي الْمَدِينَةِ، إِلاَّ أَنَّ الَّذِي مَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا فِي مَكَّةَ عَدَمُ تَوَافُرِ كَثِيرٍ مِنْ شَرَائِطِهَا. قَال الْبَكْرِيُّ: فُرِضَتْ بِمَكَّةَ وَلَمْ تُقَمْ بِهَا؛ لِفَقْدِ الْعَدَدِ، أَوْ لأَِنَّ شِعَارَهَا الإِْظْهَارُ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَخْفِيًا فِيهَا. وَأَوَّل مَنْ أَقَامَهَا بِالْمَدِينَةِ قَبْل الْهِجْرَةِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بِقَرْيَةٍ عَلَى مِيلٍ مِنَ الْمَدِينَةِ (2) .
__________
(1) حديث: " أن أسعد بن زرارة أول من جمع الناس لصلاة الجمعة ". أخرجه أبو داود (1 / 645 - 646 تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 281 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. والهزم، بفتح فسكون: المطمئن من الأرض، والنبيت: هو أبو حي من اليمن اسمه مالك بن عمرو. والحرة: الأرض ذات الحجارة السوداء. وحرة بني بياضة: قرية على ميل من المدينة.
(2) فتح المعين للسيد البكري 2 / 52.(27/192)
الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
2 - قَال الدَّهْلَوِيُّ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَتْ إِشَاعَةُ الصَّلاَةِ فِي الْبَلَدِ بِحَيْثُ يَجْتَمِعُ لَهَا أَهْلُهَا مُتَعَذِّرَةً كُل يَوْمٍ، وَجَبَ أَنْ يُعَيَّنَ لَهَا مِيقَاتٌ لاَ يَتَكَرَّرُ دَوَرَانُهُ بِسُرْعَةٍ حَتَّى لاَ تَعْسُرَ عَلَيْهِمُ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الاِجْتِمَاعِ لَهَا، وَلاَ يَبْطُؤ دَوَرَانُهُ بِأَنْ يَطُول الزَّمَنُ الْفَاصِل بَيْنَ الْمَرَّةِ وَالأُْخْرَى، كَيْ لاَ يَفُوتَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ تَلاَقِي الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعُهُمْ بَيْنَ الْحِينِ وَالآْخَرِ. وَلَمَّا كَانَ الأُْسْبُوعُ قَدْرًا زَمَنِيًّا مُسْتَعْمَلاً لَدَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَأَكْثَرِ الْمِلَل، وَهُوَ قَدْرٌ مُتَوَسِّطُ الدَّوَرَانِ وَالتَّكْرَارِ بَيْنَ السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ - وَجَبَ جَعْل الأُْسْبُوعِ مِيقَاتًا لِهَذَا الْوَاجِبِ (1) .
فَرْضِيَّتُهَا:
دَلِيل الْفَرْضِيَّةِ:
3 - صَلاَةُ الْجُمُعَةِ مِنَ الْفَرَائِضِ الْمَعْلُومِ فَرْضِيَّتُهَا بِالضَّرُورَةِ، وَبِدَلاَلَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَيَكْفُرُ جَاحِدُهَا. قَال الْكَاسَانِيُّ:
الْجُمُعَةُ فَرْضٌ لاَ يَسَعُ تَرْكُهَا، وَيَكْفُرُ جَاحِدُهَا وَالدَّلِيل عَلَى فَرْضِيَّتِهَا: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الأُْمَّةِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا
__________
(1) حجة الله البالغة للشاه ولي الله الدهلوي 2 / 21.(27/193)
إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ (1) } قِيل: " ذِكْرُ اللَّهِ " هُوَ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ، وَقِيل: هُوَ الْخُطْبَةُ، وَكُل ذَلِكَ حُجَّةٌ؛ لأَِنَّ السَّعْيَ إِلَى الْخُطْبَةِ إِنَّمَا يَجِبُ لأَِجْل الصَّلاَةِ، بِدَلِيل أَنَّ مَنْ سَقَطَتْ عَنْهُ الصَّلاَةُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ إِلَى الْخُطْبَةِ، فَكَانَ فَرْضُ السَّعْيِ إِلَى الْخُطْبَةِ فَرْضًا لِلصَّلاَةِ؛ وَلأَِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَتَنَاوَل الصَّلاَةَ وَيَتَنَاوَل الْخُطْبَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى (2) .
وَقَدِ اسْتَدَل الإِْمَامُ السَّرَخْسِيُّ - أَيْضًا - بِالآْيَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْوَجْهِ السَّابِقِ، وَوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَال:
اعْلَمْ أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرِيضَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} وَالأَْمْرُ بِالسَّعْيِ إِلَى الشَّيْءِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ لِوُجُوبِهِ، وَالأَْمْرُ بِتَرْكِ الْبَيْعِ الْمُبَاحِ لأَِجْلِهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ أَيْضًا.
وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ صَلاَةَ الْجُمُعَةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَقَال الْقَرَافِيُّ: هُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيَّةِ (3) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ اللَّهَ
__________
(1) سورة الجمعة / 9.
(2) بدائع الصنائع 1 / 256، نيل الأوطار 3 / 274.
(3) المبسوط للسرخسي 2 / 21.(27/193)
تَعَالَى قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي مَقَامِي هَذَا، فِي يَوْمِي هَذَا، فِي شَهْرِي هَذَا، مِنْ عَامِي هَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي، أَوْ بَعْدِي وَلَهُ إِمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ اسْتِخْفَافًا بِهَا أَوْ جُحُودًا لَهَا بِحَقِّهَا فَلاَ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ وَلاَ بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ، أَلاَ وَلاَ صَلاَةَ لَهُ، وَلاَ زَكَاةَ لَهُ، وَلاَ حَجَّ لَهُ، وَلاَ صَوْمَ لَهُ، وَلاَ بِرَّ لَهُ حَتَّى يَتُوبَ فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ (1) وَحَدِيثُ: الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلاَّ أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ (2) وَحَدِيثُ: رَوَاحُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُل مُحْتَلِمٍ (3) .
فَرْضُ وَقْتِ الْجُمُعَةِ:
4 - ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ - مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي
__________
(1) حديث: " إن الله فرض عليكم الجمعة. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 343 - ط. الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وأورده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 203 - ط. الجنان) وقال: إسناده ضعيف.
(2) النووي في المجموع 4 / 483، وحديث: " الجمعة حق واجب على كل مسلم ". أخرجه أبو داود (1 / 644 تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 288 - ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث طارق بن شهاب وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) النووي في المجموع 4 / 483، وحديث: " رواح الجمعة واجب على كل محتلم ". أخرجه النسائي (3 / 89 - ط. المكتبة التجارية) من حديث حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. وصححه النووي في المجموع (4 / 383 - ط. المنيرية) .(27/194)
مَذْهَبِهِ الْجَدِيدِ وَأَحْمَدُ - إِلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرْضٌ مُسْتَقِلٌّ، فَلَيْسَتْ بَدَلاً مِنَ الظُّهْرِ، وَلَيْسَتْ ظُهْرًا مَقْصُورًا. وَاسْتَدَل الرَّمْلِيُّ لِكَوْنِهَا صَلاَةً مُسْتَقِلَّةً: بِأَنَّهُ لاَ يُغْنِي الظُّهْرُ عَنْهَا (1) وَلِقَوْل عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْجُمُعَةُ رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (2) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إِنَّ فَرْضَ وَقْتِ الْجُمُعَةِ فِي الأَْصْل إِنَّمَا هُوَ الظُّهْرُ، إِلاَّ أَنَّ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الْجُمُعَةِ الآْتِي ذِكْرُهَا فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ وَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي مَكَانِهِ عَلَى سَبِيل الْحَتْمِ، أَمَّا مَنْ لَمْ تَتَكَامَل فِيهِ شَرَائِطُهَا، فَيَبْقَى عَلَى أَصْل الظُّهْرِ إِلاَّ أَنَّهُ يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ فِي مَكَانِهَا عَلَى سَبِيل التَّرْخِيصِ، أَيْ فَإِذَا أَدَّى الْجُمُعَةَ رَغْمَ عَدَمِ تَكَامُل شُرُوطِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ الظُّهْرُ بِذَلِكَ (3) . عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَقْوَالاً
__________
(1) نهاية المحتاج للرملي 2 / 272، وحاشية الصفتي على الجواهر الزكية 118.
(2) أثر عمر: " الجمعة ركعتان ". أخرجه أحمد (1 / 37 ط الميمنية) وأعل بالانقطاع كما في التلخيص لابن حجر (2 / 69 - ط. شركة الطباعة الفنية) إلا أنه ورد متصلا عند البيهقي (3 / 200 - ط. دائرة المعارف العثمانية) ونقل ابن حجر تصحيحه عن ابن السكن.
(3) انظر تحفة الفقهاء 1 / 274 وبدائع الصنائع 1 / 256، والمبسوط 2 / 22.(27/194)
أُخْرَى فِي كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّةِ الْجُمُعَةِ (1) .
5 - وَفَائِدَةُ الْخِلاَفِ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ قَبْل فَوَاتِ الْجُمُعَةِ - وَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَصِحُّ ظُهْرُهُ وَيَقَعُ فَرْضًا؛ لأَِنَّهُ أَدَّى فَرْضَ الْوَقْتِ الأَْصْلِيِّ فَيُجْزِئُهُ.
قَال السَّمَرْقَنْدِيُّ: مَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ - وَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ - فَإِنَّهُ يَقَعُ فَرْضًا فِي قَوْل أَصْحَابِنَا الثَّلاَثَةِ - أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ - خِلاَفًا لِزُفَرَ فَإِنَّ عِنْدَهُ لاَ يَجُوزُ الظُّهْرُ (2) .
وَفِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى لاَ تُجْزِئُهُ صَلاَةُ الظُّهْرِ وَيَلْزَمُهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ، فَإِنْ حَضَرَهَا فَذَاكَ وَإِلاَّ بِأَنْ فَاتَتْهُ لَزِمَهُ قَضَاءُ الظُّهْرِ حِينَئِذٍ. قَال أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي الْمُهَذَّبِ: وَأَمَّا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ قَبْل فَوَاتِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالسَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْل صَلاَةِ الإِْمَامِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: قَال فِي الْقَدِيمِ:
__________
(1) فلمحمد قولان: أحدهما: أن الفرض هو الجمعة فمن لم تتكامل فيه شرائطها يجوز له أن يسقطه بالظهر رخصة. ثانيهما: أن الفرض أحدهما إما الظهر، وإما الجمعة ويتعين ذلك بالفعل فأيهما فعل يتبين أنه هو الفرض، وقال زفر: فرض الوقت الجمعة. والظهر بدل عنها. وانظر في تفصيل الأقوال ما يترتب عليها. تحفة الفقهاء 1 / 274، وبدائع الصنائع 1 / 257.
(2) تحفة الفقهاء 1 / 275.(27/195)
يُجْزِئُهُ؛ لأَِنَّ الْفَرْضَ هُوَ الظُّهْرُ. . . وَقَال فِي الْجَدِيدِ: لاَ تُجْزِئُهُ، وَيَلْزَمُهُ إِعَادَتُهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ (1) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ قَبْل أَنْ يُصَلِّيَ الإِْمَامُ الْجُمُعَةَ لَمْ يَصِحَّ، وَيَلْزَمُهُ السَّعْيُ إِلَى الْجُمُعَةِ إِنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدْرِكُهَا؛ لأَِنَّهَا الْمَفْرُوضَةُ عَلَيْهِ (2) .
شُرُوطُ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ:
6 - لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الشُّرُوطِ.
النَّوْعُ الأَْوَّل: شُرُوطٌ لِلصِّحَّةِ وَالْوُجُوبِ مَعًا، وَالثَّانِي: لِلْوُجُوبِ فَقَطْ، وَالثَّالِثُ: لِلصِّحَّةِ فَقَطْ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ الثَّلاَثَةِ مِنَ الشُّرُوطِ، أَنَّ مَا يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِصِحَّةِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَوُجُوبِهَا مَعًا، يَلْزَمُ مِنْ فَقْدِهِ أَمْرَانِ اثْنَانِ: بُطْلاَنُهَا، وَعَدَمُ تَعَلُّقِ الطَّلَبِ بِهَا.
وَمَا يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِلْوُجُوبِ - فَقَطْ - يَلْزَمُ مِنْ فَقْدِهِ عَدَمُ تَعَلُّقِ الطَّلَبِ وَحْدَهُ، مَعَ ثُبُوتِ صِحَّةِ الْفِعْل، وَمَا يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِلصِّحَّةِ فَقَطْ يَلْزَمُ مِنْ فَقْدِهِ الْبُطْلاَنُ مَعَ اسْتِمْرَارِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ.
النَّوْعُ الأَْوَّل شُرُوطُ الصِّحَّةِ وَالْوُجُوبِ مَعًا وَتَنْحَصِرُ فِي ثَلاَثَةٍ:
__________
(1) المهذب مع المجموع 4 / 496.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 284.(27/195)
7 - الشَّرْطُ الأَْوَّل: اشْتَرَطَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ (مِصْرًا) وَالْمَقْصُودُ بِالْمِصْرِ كُل بَلْدَةٍ نُصِبَ فِيهَا قَاضٍ تُرْفَعُ إِلَيْهِ الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتُ.
قَال فِي الْمَبْسُوطِ: وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ فِي بَيَانِ حَدِّ الْمِصْرِ الْجَامِعِ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ سُلْطَانٌ، أَوْ قَاضٍ لإِِقَامَةِ الْحُدُودِ وَتَنْفِيذِ الأَْحْكَامِ (1) .
وَيَلْحَقُ بِالْمِصْرِ ضَاحِيَتُهُ أَوْ فِنَاؤُهُ، وَضَوَاحِي الْمِصْرِ هِيَ الْقُرَى الْمُنْتَشِرَةُ مِنْ حَوْلِهِ وَالْمُتَّصِلَةُ بِهِ وَالْمَعْدُودَةُ مِنْ مَصَالِحِهِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ مِنَ الْقُرْبِ مَا يُمَكِّنُ أَهْلَهَا مِنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ الرُّجُوعِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ فِي نَفْسِ الْيَوْمِ بِدُونِ تَكَلُّفٍ (2) .
وَعَلَى هَذَا، فَمَنْ كَانُوا يُقِيمُونَ فِي قَرْيَةٍ نَائِيَةٍ، لاَ يُكَلَّفُونَ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ، وَإِذَا أَقَامُوهَا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُمْ. قَال صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: الْمِصْرُ الْجَامِعُ شَرْطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ، وَشَرْطُ صِحَّةِ أَدَائِهَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا، حَتَّى لاَ تَجِبَ الْجُمُعَةُ إِلاَّ عَلَى أَهْل الْمِصْرِ وَمَنْ كَانَ سَاكِنًا فِي تَوَابِعِهِ، وَكَذَا لاَ يَصِحُّ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ إِلاَّ فِي الْمِصْرِ وَتَوَابِعِهِ.
فَلاَ تَجِبُ عَلَى أَهْل الْقُرَى الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ
__________
(1) المبسوط 2 / 23.
(2) راجع بدائع الصنائع 1 / 260، والمبسوط 2 / 24، مجمع الأنهر 1 / 162.(27/196)
تَوَابِعِ الْمِصْرِ، وَلاَ يَصِحُّ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ فِيهَا (1) .
وَلَمْ تَشْتَرِطِ الْمَذَاهِبُ الأُْخْرَى هَذَا الشَّرْطَ.
فَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَاكْتَفَوْا بِاشْتِرَاطِ إِقَامَتِهَا فِي خُطَّةِ أَبْنِيَةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ، قَال صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ: لاَ تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إِلاَّ فِي أَبْنِيَةٍ يَسْتَوْطِنُهَا مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ مِنْ بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ (2) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَلَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ أَيْضًا، وَصَحَّحُوا إِقَامَتَهَا فِي الصَّحَارِي، وَبَيْنَ مَضَارِبِ الْخِيَامِ. قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي:
وَلاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ إِقَامَتُهَا فِي الْبُنْيَانِ وَيَجُوزُ إِقَامَتُهَا فِيمَا قَارَبَهُ مِنَ الصَّحْرَاءِ (3) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنَّمَا شَرَطُوا أَنْ تُقَامَ فِي مَكَان صَالِحٍ لِلاِسْتِيطَانِ. فَتَصِحُّ إِقَامَتُهَا فِي الأَْبْنِيَةِ، أَوِ الأَْخْصَاصِ؛ لِصَلاَحِهَا لِلاِسْتِيطَانِ فِيهَا مُدَّةً طَوِيلَةً. وَلاَ تَصِحُّ فِي الْخِيَمِ لِعَدَمِ صَلاَحِيَّتِهَا لِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ.
قَال فِي الْجَوَاهِرِ الزَّكِيَّةِ فِي تَعْدَادِ شُرُوطِهَا: مَوْضِعُ الاِسْتِيطَانِ، وَلَوْ كَانَ بِأَخْصَاصٍ لاَ خِيَمٍ، فَلاَ تُقَامُ الْجُمُعَةُ إِلاَّ فِي مَوْضِعٍ يُسْتَوْطَنُ فِيهِ بِأَنْ يُقِيمَ فِيهِ صَيْفًا وَشِتَاءً (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 259.
(2) المهذب مع المجموع 4 / 501.
(3) المغني لابن قدامة 2 / 275.
(4) الجواهر الزكية ص 123.(27/196)
8 - وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ: أَنَّ أَصْحَابَ الْقُرَى الَّتِي لاَ تُعْتَبَرُ تَابِعَةً لِمِصْرٍ إِلَى جَانِبِهَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ - عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ - إِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي أَمَاكِنِهِمْ، وَلاَ يُكَلَّفُونَ بِالاِنْتِقَال لَهَا إِلَى أَيِّ بَلْدَةٍ كَبِيرَةٍ أُخْرَى مِنْ حَوْلِهِمْ.
أَمَّا فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ: فَلاَ يُكَلَّفُونَ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَال، وَإِذَا أَقَامُوهَا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُمْ. وَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الاِنْتِقَال إِلَى الْبَلْدَةِ الْمُجَاوِرَةِ إِذَا سُمِعَ مِنْهَا الأَْذَانُ.
9 - الشَّرْطُ الثَّانِي: وَاشْتَرَطَهُ الْحَنَفِيَّةُ، إِذْنُ السُّلْطَانِ بِذَلِكَ، أَوْ حُضُورُهُ، أَوْ حُضُورُ نَائِبٍ رَسْمِيٍّ عَنْهُ، إِذْ هَكَذَا كَانَ شَأْنُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُهُودِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ.
هَذَا إِذَا كَانَ ثَمَّةَ إِمَامٌ أَوْ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْبَلْدَةِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدُهُمَا، لِمَوْتٍ أَوْ فِتْنَةٍ أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ، وَحَضَرَ وَقْتُ الْجُمُعَةِ كَانَ لِلنَّاسِ حِينَئِذٍ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ لِيَتَقَدَّمَهُمْ فَيُصَلِّيَ بِهِمُ الْجُمُعَةَ (1) .
أَمَّا أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى فَلَمْ يَشْتَرِطُوا لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ أَوْ وُجُوبِهَا شَيْئًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالسُّلْطَانِ، إِذْنًا أَوْ حُضُورًا أَوْ إِنَابَةً.
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 261.(27/197)
10 - الشَّرْطُ الثَّالِثُ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْجُمُعَةِ وَوُجُوبِهَا مَعًا: دُخُول الْوَقْتِ، وَوَقْتُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - هُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ، فَلاَ يَثْبُتُ وُجُوبُهَا، وَلاَ يَصِحُّ أَدَاؤُهَا إِلاَّ بِدُخُول وَقْتِ الظُّهْرِ، وَيَسْتَمِرُّ وَقْتُهَا إِلَى دُخُول وَقْتِ الْعَصْرِ، فَإِذَا خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ سَقَطَتِ الْجُمُعَةُ وَاسْتُبْدِل بِهَا الظُّهْرُ؛ لأَِنَّ الْجُمُعَةَ صَلاَةٌ لاَ تُقْضَى بِالتَّفْوِيتِ. وَيُشْتَرَطُ دُخُول وَقْتِ الظُّهْرِ مِنِ ابْتِدَاءِ الْخُطْبَةِ، فَلَوِ ابْتَدَأَ الْخَطِيبُ الْخُطْبَةَ قَبْلَهُ لَمْ تَصِحَّ الْجُمُعَةُ، وَإِنْ وَقَعَتِ الصَّلاَةُ دَاخِل الْوَقْتِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ هُوَ أَوَّل وَقْتِ صَلاَةِ الْعِيدِ (1) لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيدَانٍ: " شَهِدْتُ الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلاَتُهُ قَبْل نِصْفِ النَّهَارِ (2) ، وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ: كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَذْهَبُ إِلَى جِمَالِنَا فَنُرِيحُهَا حِينَ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 269، ومجمع الأنهر 1 / 161، والروض المربع شرح زاد المستقنع للبهوتي، وحاشية ابن قاسم 2 / 433، 425، ومغني المحتاج 1 / 279، وحاشية الدسوقي 1 / 372.
(2) حديث عبد الله بن سيدان: " شهدت الجمعة مع أبي بكر ". أخرجه الدارقطني (2 / 17 - ط. دار المحاسن) وأعله ابن حجر في الفتح (2 / 387 - ط. السلفية) بجهالة عبد الله ابن سيدان.(27/197)
تَزُول الشَّمْسُ (1) وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَسَعْدٍ وَمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ صَلَّوْا قَبْل الزَّوَال وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمْ، وَفِعْلُهَا بَعْدَ الزَّوَال أَفْضَل.
النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الشُّرُوطِ وَهِيَ:
شُرُوطُ الْوُجُوبِ فَقَطْ:
تَتَلَخَّصُ جُمْلَةُ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي خَمْسَةِ أُمُورٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ اعْتِبَارِ الشُّرُوطِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا أَهْلِيَّةُ التَّكْلِيفِ بِصُورَةٍ عَامَّةٍ، مِنْ عَقْلٍ وَبُلُوغٍ:
11 - الأَْوَّل: (الإِْقَامَةُ بِمِصْرٍ) : فَلاَ تَجِبُ عَلَى مُسَافِرٍ. ثُمَّ لاَ فَرْقَ فِي الإِْقَامَةِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَلَى سَبِيل الاِسْتِيطَانِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ، فَمَنْ تَجَاوَزَتْ أَيَّامُ إِقَامَتِهِ فِي بَلْدَةٍ مَا الْفَتْرَةَ الَّتِي يُشْرَعُ لَهُ فِيهَا قَصْرُ الصَّلاَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ وَإِلاَّ فَلاَ عَلَى التَّفْصِيل الْمُبَيَّنِ فِي (صَلاَةُ الْمُسَافِرِ) .
وَدَلِيل ذَلِكَ مَا رَوَاهُ جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إِلاَّ مَرِيضٌ، أَوْ مُسَافِرٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَمْلُوكٌ، فَمَنِ اسْتَغْنَى بِلَهْوٍ أَوْ تِجَارَةٍ اسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) حديث جابر: " كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا ". أخرجه مسلم (1 / 588 - ط. الحلبي) .(27/198)
وَاَللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (1) . قَال السَّرَخْسِيُّ:
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُسَافِرَ تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ بِدُخُول الْمِصْرِ وَحُضُورِ الْجُمُعَةِ، وَرُبَّمَا لاَ يَجِدُ أَحَدًا يَحْفَظُ رَحْلَهُ، وَرُبَّمَا يَنْقَطِعُ عَنْ أَصْحَابِهِ، فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ أَسْقَطَهَا الشَّرْعُ عَنْهُ (2) .
أَمَّا مَنْ كَانَ مُقِيمًا فِي غَيْرِ مِصْرٍ، كَالْقُرَى وَالْبَوَادِي، فَإِنْ كَانَ مَكَانُهُ قَرِيبًا مِنْ بَلْدَةٍ هُنَاكَ وَجَبَ عَلَيْهِ الذَّهَابُ إِلَيْهَا وَإِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِيهَا، وَإِلاَّ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ.
وَالْمُفْتَى بِهِ فِي ضَابِطِ الْقُرْبِ: أَنْ تَصِل أَصْوَاتُ الْمُؤَذِّنِينَ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ عِنْدَمَا يُؤَذِّنُونَ فِي أَمَاكِنَ مُرْتَفِعَةٍ وَبِأَصْوَاتٍ عَالِيَةٍ مَعَ تَوَسُّطِ حَالَةِ الْجَوِّ مِنْ حَيْثُ الْهُدُوءُ وَالضَّجِيجُ (3) .
وَهَذَا عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْفِقْرَةِ (7) مِنِ اشْتِرَاطِ الْحَنَفِيَّةِ الْمِصْرَ خِلاَفًا لِغَيْرِهِمْ.
12 - الشَّرْطُ الثَّانِي (الذُّكُورَةُ) : فَلاَ تَجِبُ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ عَلَى النِّسَاءِ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حِكْمَةَ ذَلِكَ فَقَال: وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلأَِنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِخِدْمَةِ الزَّوْجِ، مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى مَحَافِل الرِّجَال، لِكَوْنِ الْخُرُوجِ سَبَبًا
__________
(1) حديث: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة ". أخرجه الدارقطني (2 / 3 - ط. دار المحاسن) وأورده ابن حجر في التلخيص (2 / 65 - شركة الطباعة الفنية) وذكر في إسناده راويين ضعيفين.
(2) المبسوط 2 / 22، وانظر الهداية 1 / 58، 59.
(3) انظر الدر المختار، وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 570.(27/198)
لِلْفِتْنَةِ وَلِهَذَا لاَ جَمَاعَةَ عَلَيْهِنَّ أَيْضًا (1) .
13 - الشَّرْطُ الثَّالِثُ (الصِّحَّةُ) : وَيُقْصَدُ بِهَا خُلُوُّ الْبَدَنِ عَمَّا يَتَعَسَّرُ مَعَهُ - عُرْفًا - الْخُرُوجُ لِشُهُودِ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، كَمَرَضٍ وَأَلَمٍ شَدِيدٍ؛ فَلاَ تَجِبُ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ عَلَى مَنِ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَأُلْحِقَ بِالْمَرِيضِ مُمَرِّضُهُ الَّذِي يَقُومُ بِأَمْرِ تَمْرِيضِهِ وَخِدْمَتِهِ، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يُوجَدَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ لَوْ تَرَكَهُ (2) .
14 - الشَّرْطُ الرَّابِعُ (الْحُرِّيَّةُ) : فَلاَ تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ، لاِنْشِغَالِهِ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى.
غَيْرَ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَالْمُبَعَّضِ وَتَجِبُ عَلَى الأَْجِيرِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَنْعُهُ مِنْهَا، فَإِذَا تَرَكَ الْعَمَل لِصَلاَتِهَا، وَكَانَ الْمَسْجِدُ بَعِيدًا عَنْ مَكَانِ عَمَلِهِ فِي - الْعُرْفِ - سَقَطَ مِنْ أُجْرَتِهِ مَا يُقَابِل الزَّمَنَ الَّذِي تَرَكَ فِيهِ الْعَمَل مِنْ أَجْلِهَا بِمَا فِي ذَلِكَ مُدَّةُ الصَّلاَةِ نَفْسِهَا، وَإِلاَّ لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ.
وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ - أَيْضًا - مَحَل اتِّفَاقٍ لَدَى مُخْتَلَفِ الْمَذَاهِبِ، ثُمَّ إِنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَذِنَ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 258، وشرح الروض المربع 2 / 426، والدسوقي 1 / 379، ومغني المحتاج 1 / 282.
(2) شرح الدر المختار حاشية ابن عابدين 1 / 571، شرح الروض المربع 2 / 427، والدسوقي 1 / 384.(27/199)
لِعَبْدِهِ فِي الْخُرُوجِ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ (1) .
15 - الشَّرْطُ الْخَامِسُ (السَّلاَمَةُ) : وَالْمَقْصُودُ بِهَا سَلاَمَةُ الْمُصَلِّي مِنَ الْعَاهَاتِ الْمُقْعِدَةِ، أَوِ الْمُتْعِبَةِ لَهُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، كَالشَّيْخُوخَةِ الْمُقْعِدَةِ وَالْعَمَى، فَإِنْ وَجَدَ الأَْعْمَى قَائِدًا مُتَبَرِّعًا أَوْ بِأُجْرَةٍ مُعْتَدِلَةٍ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ - أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ -؛ لأَِنَّ الأَْعْمَى بِوَاسِطَةِ الْقَائِدِ يُعْتَبَرُ قَادِرًا عَلَى السَّعْيِ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ (2) .
وَهُنَاكَ صُورَتَانِ أُخْرَيَانِ تَجِبُ فِيهِمَا عَلَى الأَْعْمَى صَلاَةُ الْجُمُعَةِ:
الصُّورَةُ الأُْولَى: أَنْ تُقَامَ الصَّلاَةُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ مُتَطَهِّرٌ مُتَهَيِّئٌ لِلصَّلاَةِ.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ أُوتُوا مَهَارَةً فِي الْمَشْيِ فِي الأَْسْوَاقِ دُونَ الاِحْتِيَاجِ إِلَى أَيِّ كُلْفَةٍ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 571، والمكاتب: هو العبد الذي التزم سيده إعتاقه إذا اكتسب له مبلغا من المال شريطة أن يكون الدفع على عدة أقساط، أما المبعض: فهو ذلك الذي أعتق سيده بعضه، والبعضية يظهر معناها في الزمن، فمن أعتق نصفه اشتغل لحساب سيده خمسة عشر يوما وا (الدسوقي 1 / 379، ومغني المحتاج 1 / 282) .
(2) انظر شرح ملتقى الأبحر 1 / 164، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 571، والدسوقي 1 / 381، ومغني المحتاج 1 / 282، والمغني 2 / 340، 344.(27/199)
أَوْ قِيَادَةٍ أَوْ سُؤَال أَحَدٍ. إِذْ لاَ حَرَجَ حِينَئِذٍ عَلَيْهِ فِي حُضُورِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ (1) .
وَلاَ تَجِبُ - أَيْضًا - فِي حَالَةِ خَوْفٍ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ أَوْ لِصٍّ، أَوْ سُلْطَانٍ، وَلاَ فِي حَالَةِ مَطَرٍ شَدِيدٍ، أَوْ وَحْلٍ، أَوْ ثَلْجٍ، يَتَعَسَّرُ مَعَهَا الْخُرُوجُ إِلَيْهَا. إِذْ لاَ تُعْتَبَرُ السَّلاَمَةُ مُتَوَفِّرَةً فِي مِثْل هَذِهِ الْحَالاَتِ (2) .
16 - ثُمَّ إِنَّ مَنْ حَضَرَ صَلاَةَ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ لَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ يُنْظَرُ فِي أَمْرِهِ: فَإِنْ كَانَ فَاقِدًا أَهْلِيَّةَ التَّكْلِيفِ نَفْسَهَا، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، صَحَّتْ صَلاَةُ الصَّبِيِّ وَاعْتُبِرَتْ لَهُ تَطَوُّعًا، وَبَطَلَتْ صَلاَةُ الْمَجْنُونِ؛ لِعَدَمِ تَوَفُّرِ الإِْدْرَاكِ الْمُصَحِّحِ لأَِصْل الْعِبَادَةِ.
أَمَّا إِنْ تَكَامَلَتْ لَدَيْهِ أَهْلِيَّةُ التَّكْلِيفِ، كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ، فَمِثْل هَؤُلاَءِ إِنْ حَضَرُوا الْجُمُعَةَ وَصَلَّوْهَا أَجْزَأَتْهُمْ عَنْ فَرْضِ الظُّهْرِ؛ لأَِنَّ امْتِنَاعَ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِمْ إِنَّمَا كَانَ لِلْعُذْرِ، وَقَدْ زَال بِحُضُورِهِمْ لَكِنْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ لَهُمُ الاِنْصِرَافَ؛ إِذِ الْمَانِعُ مِنْ وُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ لاَ يَرْتَفِعُ بِحُضُورِهِمْ إِلاَّ الْمَرِيضَ وَنَحْوَهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 571.
(2) شرح ملتقى الأبحر 1 / 164، والدسوقي 1 / 381، ومغني المحتاج 1 / 282، والمغني 2 / 340.(27/200)
كَالأَْعْمَى فَيَحْرُمُ انْصِرَافُهُمَا إِنْ دَخَل الْوَقْتُ قَبْل انْصِرَافِهِمَا؛ لأَِنَّ الْمَانِعَ فِي حَقِّهِمَا مَشَقَّةُ الْحُضُورِ وَقَدْ زَالَتْ (1) .
17 - وَيَصِحُّ أَنْ يَؤُمَّ الْقَوْمَ مِنْ هَؤُلاَءِ كُل مَنْ صَحَّتْ إِمَامَتُهُ الْمُطْلَقَةُ فِي بَابِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ فَتَصِحُّ إِمَامَةُ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ، دُونَ الْمَرْأَةِ قَال فِي تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ: وَيَصْلُحُ لِلإِْمَامَةِ فِيهَا مَنْ صَلَحَ لِغَيْرِهَا؛ فَجَازَتْ لِمُسَافِرٍ وَعَبْدٍ وَمَرِيضٍ.
وَأَمَّا صِفَةُ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ فَهِيَ: أَنَّ كُل مَنْ يَصْلُحُ إِمَامًا لِلرِّجَال فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ، فَيُشْتَرَطُ صِفَةُ الذُّكُورَةِ وَالْعَقْل وَالْبُلُوغِ لاَ غَيْرُ، فَتَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِعَبِيدٍ وَمُسَافِرِينَ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ، وَلاَ تَصِحُّ إِمَامَتُهُ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَصَحَّحُوا الإِْمَامَةَ مِنْ هَؤُلاَءِ دُونَ الاِنْعِقَادِ بِهِ. فَلَوْ أَمَّ الْمُصَلِّينَ مُسَافِرٌ وَكَانَ عَدَدُهُمْ لاَ يَتَجَاوَزُ مَعَ إِمَامِهِمُ الْمُسَافِرِ أَرْبَعِينَ رَجُلاً، لَمْ تَنْعَقِدْ صَلاَتُهُمْ (2) .
__________
(1) تحفة الفقهاء 1 / 278، وشرح ملتقى الأبحر 1 / 164، والمبسوط 1 / 23، ونهاية المحتاج 2 / 276، والمغني لابن قدامة 2 / 283، / والدسوقي 1 / 383.
(2) تنوير الأبصار بهامش ابن عابدين 1 / 572، والبدائع 1 / 268، وانظر المغني لابن قدامة 2 / 283، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 292، 293، والجواهر الزكية 118.(27/200)
فَمَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ، حُرِّمَ عَلَيْهِ صَلاَةُ الظُّهْرِ قَبْل فَوَاتِ الْجُمُعَةِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ الأَْمْرِ بِإِسْقَاطِ صَلاَةِ الظُّهْرِ وَأَدَاءِ الْجُمُعَةِ فِي مَكَانِهَا. أَمَّا بَعْدَ فَوَاتِهَا عَلَيْهِ فَلاَ مَنَاصَ حِينَئِذٍ مِنْ أَدَاءِ الظُّهْرِ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ آثِمًا بِسَبَبِ تَفْوِيتِ الْجُمُعَةِ بِدُونِ عُذْرٍ.
فَإِنْ سَعَى إِلَيْهَا بَعْدَ أَدَائِهِ الظُّهْرَ وَالإِْمَامُ فِي الصَّلاَةِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ الَّتِي كَانَ قَدْ أَدَّاهَا بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ عَنْ دَارِهِ وَاتِّجَاهِهِ إِلَيْهَا سَوَاءٌ أَدْرَكَهَا أَمْ لاَ. وَذَلِكَ لأَِنَّ السَّعْيَ إِلَى صَلاَةِ الْجُمُعَةِ مَعْدُودٌ مِنْ مُقَدِّمَاتِهَا وَخَصَائِصِهَا الْمَأْمُورِ بِهَا بِنَصِّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالاِشْتِغَال بِفَرَائِضِ الْجُمُعَةِ الْخَاصَّةِ بِهَا يُبْطِل الظُّهْرَ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ فَلاَ يَبْطُل ظُهْرُهُ بِمُجَرَّدِ السَّعْيِ، بَل لاَ بُدَّ لِذَلِكَ مِنْ إِدْرَاكِهِ الْجُمُعَةَ وَشُرُوعِهِ فِيهَا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ قَبْل أَنْ يُصَلِّيَ الإِْمَامُ الْجُمُعَةَ لَمْ يَصِحَّ وَيَلْزَمُهُ السَّعْيُ إِلَى الْجُمُعَةِ إِنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدْرِكُهَا (2) .
__________
(1) الدر المختار بهامش ابن عابدين 1 / 572 ومجمع الأنهر 1 / 165.
(2) الدسوقي 1 / 384، والمغني 2 / 342.(27/201)
النَّوْعُ الثَّالِثُ: شُرُوطُ الصِّحَّةِ فَقَطْ:
وَهِيَ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ:
19 - الأَْوَّل الْخُطْبَةُ: وَيُشْتَرَطُ تَقَدُّمُهَا عَلَى الصَّلاَةِ، وَهِيَ كُل ذِكْرٍ يُسَمَّى فِي عُرْفِ النَّاسِ خُطْبَةً، فَمَتَى جَاءَ الإِْمَامُ بِذَلِكَ بَعْدَ دُخُول الْوَقْتِ، فَقَدْ تَأَدَّى الشَّرْطُ وَصَحَّتِ الْخُطْبَةُ، سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا، أَوْ قَاعِدًا أَتَى بِخُطْبَتَيْنِ أَوْ خُطْبَةٍ وَاحِدَةٍ، تَلاَ فِيهَا قُرْآنًا أَمْ لاَ، عَرَبِيَّةً كَانَتْ أَوْ عَجَمِيَّةً، إِلاَّ أَنَّهَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ قَبْل الصَّلاَةِ، إِذْ هِيَ شَرْطٌ، وَشَرْطُ الشَّيْءِ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَيْهِ وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَاشْتَرَطَ لَهَا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ خُطْبَتَيْنِ مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ لِلْخُطْبَةِ أَرْكَانًا خَمْسَةً لاَ بُدَّ مِنْ تَوَافُرِهَا وَهِيَ: حَمْدُ اللَّهِ، وَالصَّلاَةُ عَلَى رَسُولِهِ، وَالْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى. وَهَذِهِ الثَّلاَثَةُ أَرْكَانٌ فِي كُلٍّ مِنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَالرَّابِعُ: قِرَاءَةُ آيَةٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 262 وحاشية ابن عابدين 1 / 567، ومجمع الأنهر 1 / 163.
(2) انظر الجواهر الزكية 122، والمغني لابن قدامة 2 / 251، والمحلى على المنهاج 1 / 277. وحديث: " مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على خطبتين ". ورد من حديث ابن عمر، أخرجه البخاري (الفتح 2 / 406 - ط. السلفية) ومسلم (2 / 589 - ط. الحلبي) .(27/201)
مِنَ الْقُرْآنِ فِي إِحْدَاهُمَا، وَالْخَامِسُ: مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الدُّعَاءِ لِلْمُؤَمِّنِينَ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ (1) .
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ مِنْ هَذِهِ الأَْرْكَانِ قِرَاءَةَ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ. . . قَال أَصْحَابُنَا: وَلاَ يَكْفِي فِي الْقِرَاءَةِ أَقَل مِنْ آيَةٍ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى أَقَل مِنْ ذَلِكَ وَمَا عَدَا ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (خُطْبَة) .
20 - الثَّانِي: الْجَمَاعَةُ:
قَال فِي الْبَدَائِعِ: وَدَلِيل شَرْطِيَّتِهَا، أَنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ تُسَمَّى جُمُعَةً، فَلاَ بُدَّ مِنْ لُزُومِ مَعْنَى الْجُمُعَةِ فِيهَا، اعْتِبَارًا لِلْمَعْنَى الَّذِي أُخِذَ اللَّفْظُ مِنْهُ. . . وَلِهَذَا لَمْ يُؤَدِّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةَ إِلاَّ جَمَاعَةً، وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ (3) .
وَيَتَعَلَّقُ بِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ هَذَا الشَّرْطِ ثَلاَثَةُ أَبْحَاثٍ:
21 - أَوَّلُهَا: حُضُورُ وَاحِدٍ سِوَى الإِْمَامِ - عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ - وَقِيل: ثَلاَثَةٌ سِوَى الإِْمَامِ، قَال فِي مَجْمَعِ الأَْنْهُرِ: لأَِنَّهَا أَقَل الْجَمْعِ، وَقَدْ وَرَدَ الْخِطَابُ لِلْجَمْعِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ
__________
(1) المحلى على المنهاج 1 / 277، 278.
(2) المغني لابن قدامة 1 / 252.
(3) بدائع الصنائع 1 / 266.(27/202)
اللَّهِ (1) } فَإِنَّهُ يَقْتَضِي ثَلاَثَةً سِوَى الْخَطِيبِ، هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (2) .
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ لاَ يَقِل الْمُجْمِعُونَ عَنْ أَرْبَعِينَ رَجُلاً تَجِبُ فِي حَقِّهِمُ الْجُمُعَةُ. قَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: أَمَّا الأَْرْبَعُونَ فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَصِحَّتِهَا. . وَيُشْتَرَطُ حُضُورُهُمُ الْخُطْبَتَيْنِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ حُضُورُ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ أَهْل الْجُمُعَةِ (4) .
22 - ثَانِيهَا: يَجِبُ حُضُورُ مَا لاَ يَقِل عَنْ هَذَا الْعَدَدِ مِنْ أَوَّل الْخُطْبَةِ. قَال فِي الْبَدَائِعِ:
لَوْ نَفَرُوا قَبْل أَنْ يَخْطُبَ الإِْمَامُ فَخَطَبَ وَحْدَهُ، ثُمَّ حَضَرُوا فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمُعَةَ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْجَمَاعَةَ كَمَا هِيَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ حَال الشُّرُوعِ فِي الصَّلاَةِ، فَهِيَ شَرْطٌ حَال سَمَاعِ الْخُطْبَةِ؛ لأَِنَّ الْخُطْبَةَ بِمَنْزِلَةِ شَفْعٍ مِنَ الصَّلاَةِ، قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إِنَّمَا قُصِرَتِ الْجُمُعَةُ لأَِجْل الْخُطْبَةِ، وَجَاءَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ فَتُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ حَال سَمَاعِ الْخُطْبَةِ، كَمَا
__________
(1) سورة الجمعة / 9.
(2) مجمع الأنهر 1 / 164، وبدائع الصنائع 1 / 266.
(3) المغني لابن قدامة 2 / 272، والروض المربع 2 / 436، وحلية العلماء 2 / 238.
(4) الدسوقي 1 / 378، الشرح الصغير 1 / 499.(27/202)
تُشْتَرَطُ حَال الشُّرُوعِ فِي الصَّلاَةِ (1) .
23 - ثَالِثُهَا: الْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ شَرْطُ أَدَاءٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ الأَْدَاءُ إِلاَّ بِوُجُودِ تَمَامِ الأَْرْكَانِ، وَهِيَ: الْقِيَامُ، وَالْقِرَاءَةُ، وَالرُّكُوعُ، وَالسُّجُودُ. وَعَلَى هَذَا فَلَوْ تَفَرَّقَتِ الْجَمَاعَةُ قَبْل سُجُودِ الإِْمَامِ بَطَلَتِ الْجُمُعَةُ وَيَسْتَأْنِفُ الظُّهْرَ، وَالْجَمَاعَةُ شَرْطُ انْعِقَادٍ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، وَالاِنْعِقَادُ يَتِمُّ بِدُخُولٍ صَحِيحٍ فِي الصَّلاَةِ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ تَفَرَّقَتِ الْجَمَاعَةُ عَنِ الإِْمَامِ قَبْل السُّجُودِ وَبَعْدَ الاِنْعِقَادِ صَحَّتْ جُمُعَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ وَقَدْ صَحَّحَ صَاحِبُ (تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ) مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّهُمْ إِنِ انْفَضُّوا قَبْل كَمَالِهَا لَمْ يَجُزْ إِتْمَامُهَا جُمُعَةً، وَقِيَاسُ قَوْل الْخِرَقِيِّ أَنَّهُمْ إِنِ انْفَضُّوا بَعْدَ رَكْعَةٍ أَتَمُّوهَا جُمُعَةً (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ مَعَ الإِْمَامِ أَقَل مِنْ رَكْعَةٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ وَيُصَلِّيهَا ظُهْرًا. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: صَلاَةُ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 266، والمراجع السابقة.
(2) راجع تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار، وحاشية ابن عابدين 1 / 569، المغني لابن قدامة 2 / 258 - 276، والدسوقي 1 / 383، ونهاية المحتاج 2 / 334، والقليوبي 1 / 290.(27/203)
الْمُقْتَدِي صَحِيحَةٌ عَلَى أَنَّهَا جُمُعَةٌ إِذَا أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْهَا مَعَ الإِْمَامِ، وَإِنْ قَل. قَال فِي الْمَبْسُوطِ: وَمَنْ أَدْرَكَ الإِْمَامَ فِي التَّشَهُّدِ فِي الْجُمُعَةِ أَوْ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ فَاقْتَدَى بِهِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا وَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ (1) .
24 - الثَّالِثُ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ: وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ تُؤَدَّى بِإِذْنٍ عَامٍّ يَسْتَلْزِمُ الاِشْتِهَارَ، وَهُوَ يَحْصُل بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي مَكَان بَارِزٍ مَعْلُومٍ لِمُخْتَلَفِ فِئَاتِ النَّاسِ، مَعَ فَتْحِ الأَْبْوَابِ لِلْقَادِمِينَ إِلَيْهِ، قَال فِي تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ: فَلَوْ دَخَل أَمِيرٌ حِصْنًا أَوْ قَصْرَهُ وَأَغْلَقَ بَابَهُ، وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ لَمْ تَنْعَقِدْ (2) .
وَالْحِكْمَةُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا شَرْطًا؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ النِّدَاءَ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ (3) } .
وَالنِّدَاءُ لِلاِشْتِهَارِ؛ وَلِذَا يُسَمَّى جُمُعَةً، لاِجْتِمَاعِ الْجَمَاعَاتِ فِيهَا فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْجَمَاعَاتُ كُلُّهَا مَأْذُونِينَ بِالْحُضُورِ إِذْنًا عَامًّا تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الاِسْمِ (4) .
25 - الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ لاَ تَتَعَدَّدَ الْجُمُعَةُ فِي
__________
(1) المبسوط للسرخسي 2 / 35، والمراجع السابقة.
(2) تنوير الأبصار بهامش ابن عابدين 1 / 570.
(3) سورة الجمعة / 9.
(4) البدائع 1 / 269.(27/203)
الْمِصْرِ الْوَاحِدِ مُطْلَقًا.
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى مَنْعِ التَّعَدُّدِ فِي أَعَمِّ الأَْحْوَال عَلَى اخْتِلاَفٍ يَسِيرٍ بَيْنَهُمْ فِي ضَابِطِ الْمَكَانِ الَّذِي لاَ يَجُوزُ التَّعَدُّدُ فِيهِ.
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ هُوَ مَنْعُ التَّعَدُّدِ فِي الْبَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً إِلاَّ لِحَاجَةٍ (1) .
وَهَذَا - أَيْضًا - مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَابِدِينَ وَذَكَرَ أَنَّهُ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ وَالتُّمُرْتَاشِيِّ، وَنُقِل عَنْ شَرْحِ الْمُنْيَةِ أَنَّهُ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِْمَامِ، وَنُقِل عَنِ النَّهْرِ وَالتَّكْمِلَةِ: أَنَّ الْفَتْوَى عَلَيْهِ. قَالُوا: لأَِنَّ الْحِكْمَةَ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهَا هِيَ الاِجْتِمَاعُ وَالتَّلاَقِي، وَيُنَافِيهِ التَّفَرُّقُ بِدُونِ حَاجَةٍ فِي عِدَّةِ مَسَاجِدَ، وَلأَِنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ عَنْ صَحَابِيٍّ وَلاَ تَابِعِيٍّ تَجْوِيزُ تَعَدُّدِهَا.
وَمُقَابِلُهُ مَا رَوَاهُ فِي الْبَدَائِعِ عَنِ الْكَرْخِيِّ: أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِأَنْ يُجْمَعُوا فِي مَوْضِعَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: لاَ يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا كَانَ بَيْنَ مَوْضِعَيِ الإِْقَامَةِ نَهْرٌ عَظِيمٌ كَدِجْلَةَ وَنَحْوِهَا فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مِصْرَيْنِ.
__________
(1) انظر المحلى على المنهاج 1 / 272، والمغني لابن قدامة 2 / 277، 278، والدسوقي 1 / 347.(27/204)
وَالثَّانِيَةُ: يَجُوزُ فِي مَوْضِعَيْنِ إِذَا كَانَ الْمِصْرُ عَظِيمًا (1) .
26 - فَهَذِهِ الشُّرُوطُ الأَْرْبَعَةُ إِذَا فُقِدَ وَاحِدٌ مِنْهَا، بَطَلَتِ الصَّلاَةُ، مَعَ اسْتِمْرَارِ تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِهَا، حَتَّى إِنَّهُ يَجِبُ إِعَادَتُهَا إِذَا بَقِيَ وَقْتٌ وَأَمْكَنَ تَدَارُكُ الشَّرْطِ الْفَائِتِ. وَهَذَا مَعْنَى أَنَّهَا شُرُوطٌ لِلصِّحَّةِ فَقَطْ، إِلاَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِفَقْدِ الشَّرْطِ الأَْخِيرِ، فَسَنَذْكُرُ حُكْمَ ذَلِكَ عِنْدَ الْبَحْثِ عَنْ مُفْسِدَاتِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فَسَادِهَا.
الإِْنْصَاتُ لِلْخُطْبَةِ:
27 - إِذَا صَعِدَ الإِْمَامُ الْمِنْبَرَ لِلْخُطْبَةِ، يَجِبُ عَلَى الْحَاضِرِينَ أَنْ لاَ يَشْتَغِلُوا عِنْدَئِذٍ بِصَلاَةٍ وَلاَ كَلاَمٍ إِلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنَ الْخُطْبَةِ. فَإِذَا بَدَأَ الْخَطِيبُ بِالْخُطْبَةِ تَأَكَّدَ وُجُوبُ ذَلِكَ أَكْثَرَ.
قَال فِي تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ: كُل مَا حُرِّمَ فِي الصَّلاَةِ حُرِّمَ فِي الْخُطْبَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْجَالِسُ فِي الْمَسْجِدِ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ أَمْ لاَ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يَشْتَغِل بِقَضَاءِ فَائِتَةٍ لَمْ يَسْقُطِ التَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّلاَةِ الْوَقْتِيَّةِ فَلاَ تُكْرَهُ، بَل يَجِبُ فِعْلُهَا (2) .
__________
(1) مجمع الأنهر 1 / 262، ورد المحتار 1 / 565، وبدائع الصنائع 1 / 260.
(2) انظر حاشية ابن عابدين 1 / 574، المغني 2 / 320، مغني المحتاج 1 / 288، حاشية الدسوقي 1 / 386، 387.(27/204)
فَلَوْ خَرَجَ الْخَطِيبُ، وَقَدْ بَدَأَ الْمُصَلِّي بِصَلاَةٍ نَافِلَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُخَفِّفَهَا وَيُسَلِّمَ عَلَى رَأْسِ رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ (1) .
غَيْرَ أَنَّهُ جَرَى الْخِلاَفُ فِيمَا إِذَا دَخَل الرَّجُل وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ يَجْلِسُ وَلاَ يُصَلِّي، شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ كَالْجَالِسِينَ دُونَ أَيِّ فَرْقٍ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ مَا لَمْ يَجْلِسْ، تَحِيَّةً لِلْمَسْجِدِ (2) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إِنْ صَلاَّهَا فَاتَتْهُ تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ مَعَ الإِْمَامِ لَمْ يُصَلِّهَا.
الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ:
28 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلإِْمَامِ الْجَهْرُ فِي قِرَاءَةِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجِبُ الْجَهْرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، قَال فِي الْبَدَائِعِ:
وَذَلِكَ لِوُرُودِ الأَْثَرِ فِيهَا بِالْجَهْرِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: {
سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى سُورَةَ الْجُمُعَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ (3) وَلَوْ لَمْ يَجْهَرْ لَمَا سَمِعَ وَلأَِنَّ
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين 1 / 574، المغني 2 / 319، حاشية الدسوقي 1 / 386، مغني المحتاج 1 / 88.
(2) المراجع السابقة.
(3) حديث ابن عباس: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة ". أخرجه مسلم (2 / 599 - ط. الحلبي) .(27/205)
النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَرَّغُوا قُلُوبَهُمْ، عَنْ الاِهْتِمَامِ بِأُمُورِ التِّجَارَةِ لِعِظَمِ ذَلِكَ الْجَمْعِ فَيَتَأَمَّلُونَ قِرَاءَةَ الإِْمَامِ فَتَحْصُل لَهُمْ ثَمَرَاتُ الْقِرَاءَةِ، فَيَجْهَرُ بِهَا كَمَا فِي صَلاَةِ اللَّيْل، وَخَالَفَ بَقِيَّةُ الأَْئِمَّةِ فِي وُجُوبِ الْجَهْرِ فَذَهَبُوا إِلَى اسْتِحْبَابِهِ (1)
. السَّعْيُ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ:
29 - مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ: وُجُوبُ السَّعْيِ إِلَيْهَا، وَتَرْكُ مُعَامَلاَتِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عِنْدَ الأَْذَانِ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ (2) } ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ - إِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ عِنْدَ الأَْذَانِ الأَْوَّل (3) ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَأْخِيرِ هَذَا السَّعْيِ الْوَاجِبِ عِنْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ. أَمَّا حُكْمُ الْعَقْدِ الَّذِي يُبَاشِرُهُ مِنْ بَيْعٍ، وَنَحْوِهِ بَدَلاً مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى السَّعْيِ فَفِي بُطْلاَنِهِ، أَوْ كَرَاهَتِهِ اخْتِلاَفُ الْفُقَهَاءِ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 269، الروض المربع شرح زاد المستقنع 2 / 460، الشرح الصغير 1 / 126، المجموع 3 / 389.
(2) سورة الجمعة الآية 9.
(3) مجمع الأنهر 1 / 166.(27/205)
بِالرُّجُوعِ إِلَى أَحْكَامِ الْبَيْعِ (ر: بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ج 9 ف 133)
.
الْمُسْتَحَبَّاتُ مِنْ كَيْفِيَّةِ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ:
30 - (1) الأَْذَانُ بَيْنَ يَدَيِ الْمِنْبَرِ قَبْل الْبَدْءِ بِالْخُطْبَةِ إِذَا جَلَسَ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهَذَا الأَْذَانُ هُوَ الَّذِي كَانَ يُؤَذَّنُ لِكُلٍّ مِنَ الْوَقْتِ وَالْخُطْبَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثُمَّ رَأَى عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُؤَذِّنَ أَذَانًا أَوَّل لِلإِْعْلاَمِ بِدُخُول الْوَقْتِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ النَّاسِ. وَأَبْقَى الأَْذَانَ الثَّانِيَ بَيْنَ يَدَيِ الْمِنْبَرِ الْتِزَامًا لِلسُّنَّةِ (1) .
(2) - أَنْ يَخْطُبَ الْخَطِيبُ خُطْبَتَيْنِ قَائِمًا، يَفْصِل بَيْنَهُمَا بِجِلْسَةٍ خَفِيفَةٍ يَفْتَتِحُهَا بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ الدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ (2) .
31 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ فِي الْخُطْبَةِ، فَذَهَبَ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ سُنَّةٌ فِي الْخُطْبَةِ (3) ، وَذَهَبَتِ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اعْتِبَارِهَا شَرْطًا فِيهَا.
وَدَلِيل الَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا الطَّهَارَةَ فِيهَا: أَنَّ
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين 1 / 576.
(2) انظر البدائع 1 / 263، والدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 567.
(3) انظر المغني لابن قدامة 2 / 253، وشرح الجواهر الزكية 123.(27/206)
الْخُطْبَةَ مِنْ بَابِ الذِّكْرِ، وَالْمُحْدِثُ وَالْجُنُبُ لاَ يُمْنَعَانِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا دَلِيل الآْخَرِينَ: فَهُوَ مُوَاظَبَةُ السَّلَفِ عَلَى الطَّهَارَةِ فِيهَا، وَالْقِيَاسُ عَلَى الصَّلاَةِ (1) .
اسْتِحْبَابُ كَوْنِ الْخَطِيبِ وَالإِْمَامِ وَاحِدًا:
32 - يُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يَؤُمَّ الْقَوْمَ إِلاَّ مَنْ خَطَبَ فِيهِمْ؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ وَالْخُطْبَةَ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ (2) ، قَال فِي تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ: فَإِنْ فَعَل بِأَنْ خَطَبَ صَبِيٌّ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ وَصَلَّى بَالِغٌ جَازَ (3) ، غَيْرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الإِْمَامِ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ. قَال فِي الْبَدَائِعِ: وَلَوْ أَحْدَثَ الإِْمَامُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الصَّلاَةِ فَقَدَّمَ رَجُلاً يُصَلِّي بِالنَّاسِ: إِنْ كَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ أَوْ شَيْئًا مِنْهَا جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ شَيْئًا مِنَ الْخُطْبَةِ لَمْ يَجُزْ، وَيُصَلِّي بِهِمُ الظُّهْرَ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (4) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، فَذَهَبُوا إِلَى وُجُوبِ كَوْنِ الْخَطِيبِ وَالإِْمَامِ وَاحِدًا إِلاَّ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ، وَكَأَنْ لاَ يَقْدِرَ الإِْمَامُ عَلَى الْخُطْبَةِ، أَوْ لاَ يُحْسِنَهَا (5) .
__________
(1) البدائع 1 / 263، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 311.
(2) منية المصلي ص 246، والدر المختار 1 / 576.
(3) الدر المختار على هامش ابن عابدين 1 / 576.
(4) البدائع 1 / 265، المغني 2 / 307، حاشية الجمل 2 / 58، كشاف القناع 2 / 34.
(5) راجع شرح الجواهر الزكية 123.(27/206)
مَا يُقْرَأُ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ:
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ: يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى (سُورَةَ الْجُمُعَةِ) ، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ) . لِمَا رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ قَال: صَلَّى بِنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الْجُمُعَةَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى، وَفِي الرَّكْعَةِ الآْخِرَةِ {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فَلَمَّا قَضَى أَبُو هُرَيْرَةَ الصَّلاَةَ أَدْرَكْتُهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّكَ قَرَأْتَ بِسُورَتَيْنِ، كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَقْرَأُ بِهِمَا بِالْكُوفَةِ فَقَال أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهِمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ (1) .
كَمَا اسْتَحَبَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - أَيْضًا قِرَاءَةَ سُورَةِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى وَ {هَل أَتَاكَ} فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ. لِمَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} وَ {هَل أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} (2) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: لَكِنْ لاَ يُوَاظِبُ عَلَى قِرَاءَتِهَا بَل يَقْرَأُ غَيْرَهَا فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ حَتَّى
__________
(1) حديث أبي هريرة " قرأ سورة الجمعة في الركعة الأولى ". أخرجه مسلم (2 / 597 - 598 - ط. الحلبي) .
(2) حديث النعمان بن بشير: " كان رسول الله صلى الله عليه ولم يقرأ في العيدين. . ". أخرجه مسلم (2 / 598، - ط. الحلبي) .(27/207)
لاَ يُؤَدِّيَ إِلَى هَجْرِ بَعْضِ الْقُرْآنِ، وَلِئَلاَّ تَظُنُّهُ الْعَامَّةُ حَتْمًا.
وَصَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ قِرَاءَةَ (الْجُمُعَةِ، وَالْمُنَافِقِينَ) أَوْلَى.
قَال النَّوَوِيُّ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ، وَهَاتَيْنِ فِي آخَرَ فَهُمَا سُنَّتَانِ،
وَصَرَّحَ الْمَحَلِّيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: بِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ قِرَاءَةَ (سُورَةِ الْجُمُعَةِ) فِي الأُْولَى قَرَأَهَا مَعَ (الْمُنَافِقِينَ) فِي الثَّانِيَةِ، وَلَوْ قَرَأَ (الْمُنَافِقِينَ) فِي الأُْولَى قَرَأَ (الْجُمُعَةَ) فِي الثَّانِيَةِ. كَيْ لاَ تَخْلُوَ صَلاَتُهُ عَنْ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، وَيُنْدَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ - أَيْضًا - بِسُورَةِ {هَل أَتَاكَ} ، أَوْ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} .
قَال الدُّسُوقِيُّ: إِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ الثَّلاَثِ - {هَل أَتَاكَ} أَوْ {سَبِّحْ} أَوِ (الْمُنَافِقُونَ) - وَأَنَّ كُلًّا يَحْصُل بِهِ النَّدْبُ، لَكِنْ {هَل أَتَاكَ} أَقْوَى فِي النَّدْبِ، وَهَذَا مَا اعْتَمَدَهُ مُصْطَفَى الرَّمَاصِيُّ. وَفِي كَلاَمِ بَعْضِهِمْ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ذَاتُ قَوْلَيْنِ، وَأَنَّ الاِقْتِصَارَ عَلَى {هَل أَتَاكَ} مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَأَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الثَّلاَثِ قَوْل الْكَافِي (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 269، وحاشية الدسوقي 1 / 383، نهاية المحتاج 2 / 316، المحلى على المنهاج بهامش القليوبي وعميرة 1 / 283، كشاف القناع 2 / 38، الإنصاف 2 / 399، والمغني لابن قدامة 2 / 311.(27/207)
مُفْسِدَاتُ الْجُمُعَةِ:
تَنْقَسِمُ إِلَى نَوْعَيْنِ:
مُفْسِدَاتٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَمُفْسِدَاتٍ خَاصَّةٍ:
34 - فَأَمَّا الْمُفْسِدَاتُ الْمُشْتَرَكَةُ: فَهِيَ كُل مَا يُفْسِدُ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ (ر. صَلاَة)
35 - وَأَمَّا مُفْسِدَاتُهَا الْخَاصَّةُ بِهَا فَتَنْحَصِرُ فِي الأُْمُورِ التَّالِيَةِ:
أَوَّلِهَا: خُرُوجُ وَقْتِ الظُّهْرِ قَبْل الْفَرَاغِ مِنْهَا فَيُصَلِّيهَا ظُهْرًا، وَيَسْتَوِي فِي الْفَسَادِ خُرُوجُ الْوَقْتِ قَبْل الْمُبَاشَرَةِ بِهَا، وَخُرُوجُهُ بَعْدَ الْمُبَاشَرَةِ بِهَا وَقَبْل الاِنْتِهَاءِ مِنْهَا (1) هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَحْوُهُ لِلشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ ظُهْرًا وَلاَ تَكُونُ جُمُعَةً، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَحْرَمُوا بِهَا فِي الْوَقْتِ فَهِيَ جُمُعَةٌ.
وَهَذَا يَعْنِي: أَنَّ اشْتِرَاطَ وَقْتِ الظُّهْرِ لَهَا مُسْتَمِرٌّ فِي الاِعْتِبَارِ إِلَى لَحْظَةِ الْفَرَاغِ مِنْهَا قَال فِي تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ: لأَِنَّ الْوَقْتَ شَرْطُ الأَْدَاءِ لاَ شَرْطُ الاِفْتِتَاحِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: شَرْطُ الْجُمُعَةِ وُقُوعُ كُلِّهَا بِالْخُطْبَةِ وَقْتَ الظُّهْرِ لِلْغُرُوبِ (2) .
__________
(1) انظر البدائع 1 / 269، والدر المختار 1 / 566، شرح الروض المربع للبهوتي 2 / 435.
(2) تنوير الأبصار بهامش ابن عابدين 1 / 566، حاشية الدسوقي 1 / 372.(27/208)
ثَانِيهَا: انْفِضَاضُ الْجَمَاعَةِ أَثْنَاءَ أَدَائِهَا، قَبْل أَنْ تُقَيَّدَ الرَّكْعَةُ الأُْولَى بِالسَّجْدَةِ فَيُصَلِّيهَا ظُهْرًا. وَذَلِكَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الأَْئِمَّةُ الْقَائِلُونَ: بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ أَدَاءٍ، وَأَمَّا عَلَى مَا رَجَّحَهُ الآْخَرُونَ، فَلاَ أَثَرَ لاِنْفِسَاخِهَا بَعْدَ الاِنْعِقَادِ وَإِنْ لَمْ تُقَيَّدِ الرَّكْعَةُ الأُْولَى جَمَاعَةً.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: الأَْظْهَرُ: يُتِمُّهَا ظُهْرًا، وَالثَّانِي: إِنْ بَقِيَ مَعَهُ اثْنَانِ يُتِمُّهَا جُمُعَةً، وَالثَّالِثُ: إِنْ بَقِيَ مَعَهُ وَاحِدٌ يُتِمُّهَا جُمُعَةً (1) .
وَسَبَبُ هَذَا الْخِلاَفِ: أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ أَدَاءٍ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ بَعْضِ الأَْئِمَّةِ، وَهِيَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَرْطُ انْعِقَادٍ.
قَضَاءُ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ:
36 - صَلاَة الْجُمُعَةُ لاَ تُقْضَى بِالْفَوَاتِ، وَإِنَّمَا تُعَادُ الظُّهْرُ فِي مَكَانِهَا. قَال فِي الْبَدَائِعِ: وَأَمَّا إِذَا فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا، وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ، سَقَطَتْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ؛ لأَِنَّ صَلاَةَ الْجُمُعَةِ لاَ تُقْضَى؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ عَلَى حَسَبِ الأَْدَاءِ، وَالأَْدَاءُ فَاتَ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ يَتَعَذَّرُ تَحْصِيلُهَا عَلَى كُل فَرْدٍ، فَتَسْقُطُ، بِخِلاَفِ سَائِرِ الْمَكْتُوبَاتِ إِذَا فَاتَتْ عَنْ أَوْقَاتِهَا (2) وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ.
__________
(1) حلية العلماء 2 / 230 حاشية الدسوقي 1 / 376، 377.
(2) البدائع 1 / 269.(27/208)
اجْتِمَاعُ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ:
37 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وَافَقَ الْعِيدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلاَ يُبَاحُ لِمَنْ شَهِدَ الْعِيدَ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجُمُعَةِ. قَال الدُّسُوقِيُّ: وَسَوَاءٌ مَنْ شَهِدَ الْعِيدَ بِمَنْزِلِهِ فِي الْبَلَدِ، أَوْ خَارِجَهَا. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَصَلَّوْا الْعِيدَ وَالظُّهْرَ جَازَ وَسَقَطَتِ الْجُمُعَةُ عَمَّنْ حَضَرَ الْعِيدَ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْعِيدَ، وَقَال: مَنْ شَاءَ أَنْ يُجَمِّعَ فَلْيُجَمِّعْ (1) وَصَرَّحُوا بِأَنَّ إِسْقَاطَ الْجُمُعَةِ حِينَئِذٍ إِسْقَاطُ حُضُورٍ لاَ إِسْقَاطُ وُجُوبٍ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَمَرِيضٍ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ أَوْ شُغْلٌ يُبِيحُ تَرْكَ الْجُمُعَةِ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ وُجُوبُهَا فَتَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَيَصِحُّ أَنْ يَؤُمَّ فِيهَا. وَالأَْفْضَل لَهُ حُضُورُهَا خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الإِْمَامُ فَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: قَدِ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ وَإِنَّا
__________
(1) حديث: " من يشاء أن يجمع فليجمع ". أخرجه أحمد (4 / 372 - ط. الميمنية) من حديث زيد بن أرقم ونقل ابن حجر في التلخيص (2 / 88 - ط. شركة الطباعة الفنية) عن ابن المنذر أنه أعله بجهالة راويه عن زيد بن أرقم، ثم ذكر شواهد له منها الحديث الآتي ذكره.(27/209)
مُجَمِّعُونَ (1) .
وَلأَِنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا لاَمْتَنَعَ فِعْلُهَا فِي حَقِّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَنْ يُرِيدُهَا مِمَّنْ سَقَطَتْ عَنْهُ، وَقَالُوا: إِنْ قَدَّمَ الْجُمُعَةَ فَصَلاَّهَا فِي وَقْتِ الْعِيدِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ قَال: تُجْزِئُ الأُْولَى مِنْهُمَا. فَعَلَى هَذَا: تُجْزِيهِ عَنِ الْعِيدِ وَالظُّهْرِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إِلَى الْعَصْرِ عِنْدَ مَنْ جَوَّزَ الْجُمُعَةَ فِي وَقْتِ الْعِيدِ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُوَافِقُ فِيهِ الْعِيدُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لأَِهْل الْقَرْيَةِ الَّذِينَ يَبْلُغُهُمُ النِّدَاءُ لِصَلاَةِ الْعِيدِ: الرُّجُوعُ وَتَرْكُ الْجُمُعَةِ، وَذَلِكَ فِيمَا لَوْ حَضَرُوا لِصَلاَةِ الْعِيدِ وَلَوْ رَجَعُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَاتَتْهُمُ الْجُمُعَةُ؛ فَيُرَخَّصُ لَهُمْ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ. وَمِنْ ثَمَّ لَوْ تَرَكُوا الْمَجِيءَ لِلْعِيدِ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْحُضُورُ لِلْجُمُعَةِ، وَيُشْتَرَطُ - أَيْضًا - لِتَرْكِ الْجُمُعَةِ أَنْ يَنْصَرِفُوا قَبْل دُخُول وَقْتِ الْجُمُعَةِ (2) .
آدَابُ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَيَوْمُهَا:
اخْتَصَّ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَاخْتَصَّتْ صَلاَتُهَا
__________
(1) حديث: " اجتمع في يومكم هذا عيدان من شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون ". أخرجه أبو داود (1 / 647 تحقيق عزت عبيد دعاس) وصحح الدارقطني إرساله، كذا في التلخيص لابن حجر (2 / 88) ولكنه ذكر شواهد تقويه.
(2) تبيين الحقائق 2 / 224، حاشية الدسوقي 1 / 391، البجيرمي على الخطيب (2 / 167 ط. مصطفى الحلبي 1951 م) ، كشاف القناع 2 / 40، والمغني 2 / 358 - 359.(27/209)
بِآدَابٍ تَشْمَل مَجْمُوعَةَ أَفْعَالٍ وَتُرُوكٍ، مُجْمَلُهَا فِيمَا يَلِي: -
أَوَّلاً: مَا يُسَنُّ فِعْلُهُ:
38 - يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَغْتَسِل، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا وَيَتَجَمَّل، وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرْفُوعًا: لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا (1) ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: الْغُسْل لَهَا وَاجِبٌ.
قَال صَاحِبُ الْبَدَائِعِ فِي بَيَانِ عِلَّةِ ذَلِكَ: لأَِنَّ الْجُمُعَةَ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُقِيمُ لَهَا عَلَى أَحْسَنِ وَصْفٍ (2) كَمَا يُسَنُّ التَّبْكِيرُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْجَامِعِ وَالاِشْتِغَال بِالْعِبَادَةِ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ الْخَطِيبُ (3) .
وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا اتَّفَقَتِ الأَْئِمَّةُ عَلَى نَدْبِهِ، وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ - أَيْضًا - فَاشْتَرَطُوا فِي الْغُسْل أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلاً بِوَقْتِ الذَّهَابِ إِلَى الْجَامِعِ، قَال فِي الْجَوَاهِرِ الزَّكِيَّةِ: فَإِنِ اغْتَسَل وَاشْتَغَل بِغِذَاءٍ أَوْ نَوْمٍ أَعَادَ الْغُسْل عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِذَا خَفَّ الأَْكْل، أَوِ النَّوْمُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ (4) .
__________
(1) حديث: " لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 385 - ط. السلفية) ومسلم (2 / 581 - ط. الحلبي) .
(2) بدائع الصنائع 1 / 272، شرح الروض المربع 2 / 470.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 578، والمرجع السابق.
(4) الجواهر الزكية ص 124.(27/210)
ثَانِيًا: مَا يُسَنُّ تَرْكُهُ:
39 - أَوَّلاً: أَكْل كُل ذِي رِيحٍ كَرِيهَةٍ: كَثُومٍ وَبَصَلٍ وَنَحْوِهِمَا.
40 - ثَانِيًا: تَخَطِّي الرِّقَابِ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ إِذَا كَانَ الْخَطِيبُ قَدْ أَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ، إِلاَّ أَنْ لاَ يَجِدَ إِلاَّ فُرْجَةً أَمَامَهُ وَلاَ سَبِيل إِلَيْهَا إِلاَّ بِتَخَطِّي الرِّقَابِ، فَيُرَخَّصُ فِي ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ (1) .
41 - ثَالِثًا: تَجَنُّبُ الاِحْتِبَاءِ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ. وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، حَيْثُ صَرَّحُوا بِكَرَاهَتِهِ. قَال النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ فَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْحَبْوَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ (2)
وَقَال الْخَطَّابِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: نَهَى عَنْهُ لأَِنَّهُ يَجْلُبُ النَّوْمَ، فَيُعَرِّضُ طَهَارَتَهُ لِلنَّقْضِ وَيَمْنَعُهُ مِنَ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ. وَلَمْ يَرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِهِ بَأْسًا حَيْثُ صَرَّحُوا بِجَوَازِهِ (3) (ر: احْتِبَاء) كَمَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِكَرَاهَةِ تَشْبِيكِ الأَْصَابِعِ. قَال النَّوَوِيُّ: يُكْرَهُ أَنْ يُشَبِّكَ بَيْنَ
__________
(1) راجع الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 578، وحاشية الدسوقي 1 / 390.
(2) حديث: " نهى عن الحبوة يوم الجمعة ". أخرجه الترمذي (2 / 390، - ط. الحلبي) من حديث معاذ بن أنس، وقال: حديث حسن.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 148، حاشية الدسوقي 1 / 385، روضة الطالبين 2 / 33، كشاف القناع 2 / 37.(27/210)
أَصَابِعِهِ أَوْ يَعْبَثُ حَال ذَهَابِهِ إِلَى الْجُمُعَةِ وَانْتِظَارِهِ لَهَا (1)
42 - يَحْرُمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِنْشَاءُ سَفَرٍ بَعْدَ الزَّوَال (وَهُوَ أَوَّل وَقْتِ الْجُمُعَةِ) مِنَ الْمِصْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، إِذَا كَانَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَنْ يُدْرِكَ أَدَاءَهَا فِي مِصْرٍ آخَرَ. فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ فَهُوَ آثِمٌ عَلَى الرَّاجِحِ مَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ رُفْقَتِهِ. وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - حَيْثُ صَرَّحُوا بِحُرْمَةِ السَّفَرِ بَعْدَ الزَّوَال. كَمَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ السَّفَرِ بَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ: إِلَى أَنَّ حُرْمَةَ السَّفَرِ تَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ الْفَجْرِ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ، وَدَلِيلُهُ: أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْجُمُعَةِ مُضَافَةٌ إِلَى الْيَوْمِ كُلِّهِ لاَ إِلَى خُصُوصِ وَقْتِ الظُّهْرِ، بِدَلِيل وُجُوبِ السَّعْيِ إِلَيْهَا قَبْل الزَّوَال عَلَى بَعِيدِ الدَّارِ (3) .
صَلاَةُ الْجِنَازَةِ
انْظُرْ: جَنَائِز
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 47.
(2) انظر الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 553، حاشية الدسوقي 1 / 387، كشاف القناع 2 / 25.
(3) القليوبي وعميرة 1 / 270.(27/211)
صَلاَةُ الْحَاجَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّلاَةُ يُنْظَرُ تَعْرِيفُهَا فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَة)
وَالْحَاجَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمَأْرَبَةُ، وَالتَّحَوُّجُ:
طَلَبُ الْحَاجَةِ بَعْدَ الْحَاجَةِ، وَالْحَوْجُ: الطَّلَبُ، وَالْحَوْجُ: الْفَقْرُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ الْحَاجَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَلِلأُْصُولِيَّيْنِ تَعْرِيفٌ خَاصٌّ لِلْحَاجَةِ:
فَقَدْ عَرَّفَهَا الشَّاطِبِيُّ فَقَال: هِيَ مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةُ وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا لَمْ تُرَاعَ دَخَل عَلَى الْمُكَلَّفِينَ - عَلَى الْجُمْلَةِ - الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ
(ر: حَاجَة ف 1 مِنَ الْمَوْسُوعَةِ ج 16) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صَلاَةَ الْحَاجَةِ مُسْتَحَبَّةٌ.
__________
(1) لسان العرب والمعجم الوسيط.
(2) ابن عابدين 2 / 6.(27/211)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فَلْيَتَوَضَّأْ فَلْيُحْسِنِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ لْيُصَل رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ لْيُثْنِ عَلَى اللَّهِ، وَلْيُصَل عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لْيَقُل: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُل بِرٍّ، وَالسَّلاَمَةَ مِنْ كُل إِثْمٍ، لاَ تَدَعْ لِي ذَنْبًا إِلاَّ غَفَرْتَهُ، وَلاَ هَمًّا إِلاَّ فَرَّجْتَهُ، وَلاَ حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إِلاَّ قَضَيْتَهَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ (1) .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ: ثُمَّ يَسْأَل مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ مَا شَاءَ فَإِنَّهُ يُقَدَّرُ (2) .
كَيْفِيَّةُ صَلاَةِ الْحَاجَةِ (عَدَدُ الرَّكَعَاتِ وَصِيَغُ الدُّعَاءِ) :
3 - اخْتُلِفَ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ صَلاَةِ الْحَاجَةِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ
__________
(1) حديث: " من كانت له إلى الله حاجة. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 344 ط الحلبي) وابن ماجه (1 / 441 - ط الحلبي) وقال الترمذي: " حديث غريب، وفي إسناده مقال، فائد بن عبد الرحمن يضعف في الحديث ".
(2) أسنى المطالب 1 / 205، وكشاف القناع 1 / 443، وابن عابدين 1 / 462، والترغيب والترهيب 1 / 476، والدسوقي 1 / 314.(27/212)
الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا رَكْعَتَانِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا: أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ وَهُوَ قَوْل الْغَزَالِيِّ: إِنَّهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً وَذَلِكَ لاِخْتِلاَفِ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، كَمَا تَنَوَّعَتْ صِيَغُ الدُّعَاءِ لِتَعَدُّدِ الرِّوَايَاتِ (1) .
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً: رِوَايَاتُ الرَّكْعَتَيْنِ وَفِيهَا اخْتِلاَفُ الدُّعَاءِ:
4 - رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَفِيهَا أَنَّ صَلاَةَ الْحَاجَةِ رَكْعَتَانِ مَعَ ذِكْرِ الدُّعَاءِ الَّذِي أَرْشَد إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي الْحُكْمِ (ف 2) .
5 - حَدِيثُ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَا عَلِيُّ: أَلاَ أُعَلِّمُكَ دُعَاءً إِذَا أَصَابَكَ غَمٌّ أَوْ هَمٌّ تَدْعُو بِهِ رَبَّكَ فَيُسْتَجَابُ لَكَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيُفْرَجُ عَنْكَ: تَوَضَّأْ وَصَل رَكْعَتَيْنِ، وَاحْمَدِ اللَّهَ وَاثْنِ عَلَيْهِ وَصَل عَلَى نَبِيِّكَ وَاسْتَغْفِرْ لِنَفْسِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ قُل: اللَّهُمَّ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 462، والترغيب والترهيب 1 / 473 - 478، والمراجع السابقة.(27/212)
وَرَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ كَاشِفَ الْغَمِّ، مُفَرِّجَ الْهَمِّ مُجِيبَ دَعْوَةِ الْمُضْطَرِّينَ إِذَا دَعَوْكَ، رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَرَحِيمُهُمَا، فَارْحَمْنِي فِي حَاجَتِي هَذِهِ بِقَضَائِهَا وَنَجَاحِهَا رَحْمَةً تُغْنِينِي بِهَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِوَاكَ (1) .
ثَانِيًا: رِوَايَةُ الأَْرْبَعِ:
6 - وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ التَّجْنِيسِ وَغَيْرِهِ: إِنَّ صَلاَةَ الْحَاجَةِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَأَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: يَقْرَأُ فِي الأُْولَى الْفَاتِحَةَ مَرَّةً وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ ثَلاَثًا، وَفِي كُلٍّ مِنَ الثَّلاَثِ الْبَاقِيَةِ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَالإِْخْلاَصَ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ مَرَّةً مَرَّةً كُنَّ لَهُ مِثْلُهُنَّ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَال مَشَايِخُنَا: صَلَّيْنَا هَذِهِ الصَّلاَةَ فَقُضِيَتْ حَوَائِجُنَا (2) .
ثَالِثًا: رِوَايَةُ الاِثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَالدُّعَاءُ الْوَارِدُ فِيهَا:
7 - رُوِيَ عَنْ وُهَيْبٍ بْنِ الْوَرْدِ أَنَّهُ قَال: إِنَّ مِنَ الدُّعَاءِ الَّذِي لاَ يُرَدُّ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَبْدُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً يَقْرَأُ فِي كُل رَكْعَةٍ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَآيَةِ
__________
(1) أورده المنذري في الترغيب والترهيب 1 / 477، وعزاه إلى الأصفهاني في الترغيب له كذلك.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 462.(27/213)
الْكُرْسِيِّ {وَقُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فَإِنْ فَرَغَ خَرَّ سَاجِدًا، ثُمَّ قَال: سُبْحَانَ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَقَال بِهِ، سُبْحَانَ الَّذِي تَعَطَّفَ بِالْمَجْدِ وَتَكَرَّمَ بِهِ، سُبْحَانَ الَّذِي أَحْصَى كُل شَيْءٍ بِعِلْمِهِ، سُبْحَانَ الَّذِي لاَ يَنْبَغِي التَّسْبِيحُ إِلاَّ لَهُ، سُبْحَانَ ذِي الْمَنِّ وَالْفَضْل، سُبْحَانَ ذِي الْعِزِّ وَالْكَرَمِ، سُبْحَانَ ذِي الطَّوْل، أَسْأَلُكَ بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ، وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِكَ وَبِاسْمِكَ الأَْعْظَمِ وَجَدِّكَ الأَْعْلَى، وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّاتِ الْعَامَّاتِ الَّتِي لاَ يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلاَ فَاجِرٌ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ: ثُمَّ يَسْأَل حَاجَتَهُ الَّتِي لاَ مَعْصِيَةَ فِيهَا، فَيُجَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (1) .
صَلاَةُ الْخُسُوفِ
انْظُرْ: صَلاَةُ الْكُسُوفِ
__________
(1) إحياء علوم الدين 1 / 206 - 207.(27/213)
صَلاَةُ الْخَوْفِ
التَّعْرِيفُ:
1 - تَعْرِيفُ الصَّلاَةِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةٌ) .
أَمَّا الْخَوْفُ: فَهُوَ تَوَقُّعُ مَكْرُوهٍ عَنْ أَمَارَةٍ مَظْنُونَةٍ أَوْ مُتَحَقَّقَةٍ، وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْخَائِفِ، أَوْ بِحَذْفِ مُضَافٍ: الصَّلاَةُ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ (1) وَيُطْلَقُ عَلَى الْقِتَال، وَبِهِ فَسَّرَ اللِّحْيَانِيُّ قَوْله تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} (2) الآْيَةَ كَمَا فَسَّرَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَْمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} (3) .
وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ إِضَافَةِ الصَّلاَةِ إِلَى الْخَوْفِ أَنَّ الْخَوْفَ يَقْتَضِي صَلاَةً مُسْتَقِلَّةً كَقَوْلِنَا: صَلاَةُ الْعِيدِ، وَلاَ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي قَدْرِ الصَّلاَةِ وَوَقْتِهَا كَالسَّفَرِ، فَشُرُوطُ الصَّلاَةِ، وَأَرْكَانُهَا، وَسُنَنُهَا، وَعَدَدُ رَكَعَاتِهَا فِي الْخَوْفِ كَمَا فِي الأَْمْنِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الْخَوْفَ يُؤَثِّرُ فِي كَيْفِيَّةِ إِقَامَةِ الْفَرَائِضِ إِذَا صُلِّيَتْ جَمَاعَةً، وَأَنَّ
__________
(1) البجيرمي على الخطيب 2 / 222، ولسان العرب.
(2) سورة البقرة / 155.
(3) سورة النساء / 83.(27/214)
الصَّلاَةَ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ تَحْتَمِل أُمُورًا لَمْ تَكُنْ تَحْتَمِلْهَا فِي الأَْمْنِ، وَصَلاَةُ الْخَوْفِ هِيَ: الصَّلاَةُ الْمَكْتُوبَةُ يَحْضُرُ وَقْتُهَا وَالْمُسْلِمُونَ فِي مُقَاتَلَةِ الْعَدُوِّ أَوْ فِي حِرَاسَتِهِمْ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَلاَةِ الْخَوْفِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، وَإِلَى أَنَّهَا لاَ تَزَال مَشْرُوعَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ، قَال تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} (2) الآْيَةَ.
وَخِطَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِطَابٌ لأُِمَّتِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ، وَتَخْصِيصُهُ بِالْخِطَابِ لاَ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالْحُكْمِ، كَمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (3) وَهُوَ عَامٌّ.
وَالسُّنَّةِ الْفِعْلِيَّةِ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلاَّهَا، وَبِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ،
__________
(1) البدائع 1 / 243، وكفاية الطالب الرباني وشرحه بحاشية العدوي 1 / 296، روضة الطالبين 2 / 49، المجموع 4 / 404، بجيرمي على الخطيب 2 / 222، المغني 2 / 402، كشاف القناع 2 / 15.
(2) سورة النساء / 102.
(3) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 111 - ط السلفية) من حديث مالك بن الحويرث.(27/214)
فَقَدْ ثَبَتَ بِالآْثَارِ الصَّحِيحَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ صَلَّوْهَا فِي مَوَاطِنَ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجَامِعَ بِحَضْرَةِ كِبَارٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمِمَّنْ صَلاَّهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حُرُوبِهِ بِصِفِّينَ وَغَيْرِهَا، وَحَضَرَهَا مِنَ الصُّحْبَةِ خَلاَئِقُ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ: سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبُو مُوسَى الأَْشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَقَدْ رَوَى أَحَادِيثَهُمُ الْبَيْهَقِيُّ وَبَعْضُهَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد.
وَلَمْ يَقُل أَحَدٌ مِنْ هَؤُلاَءِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ رَأَوْا صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَوْفِ بِتَخْصِيصِهَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحْتَجَّ بِالآْيَةِ السَّابِقَةِ (1)
وَذَهَبَ الْمُزَنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ صَلاَةَ الْخَوْفِ كَانَتْ مَشْرُوعَةً ثُمَّ نُسِخَتْ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَلَوْ كَانَتْ صَلاَةُ الْخَوْفِ جَائِزَةً لَفَعَلَهَا (2) .
مَوَاطِنُ جَوَازِ صَلاَةِ الْخَوْفِ:
3 - تَجُوزُ صَلاَةُ الْخَوْفِ عِنْدَ شِدَّةِ الْخَوْفِ فِي
__________
(1) المجموع 4 / 404، 405، روضة الطالبين 2 / 49، كشاف القناع 2 / 10، المغني 2 / 400، بدائع 1 / 242 - 243، الفروع 2 / 75، بلغة السالك على الشرح الصغير 1 / 185.
(2) المصادر السابقة.(27/215)
قِتَال الْحَرْبِيِّينَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} (1) الآْيَةَ، وَكَذَلِكَ تَجُوزُ فِي كُل قِتَالٍ مُبَاحٍ، كَقِتَال أَهْل الْبَغْيِ، وَقُطَّاعِ الطُّرُقِ، وَقِتَال مَنْ قَصَدَ إِلَى نَفْسِ شَخْصٍ، أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ، قِيَاسًا عَلَى قِتَال الْحَرْبِيِّينَ، وَجَاءَ فِي الأَْثَرِ: مَنْ قُتِل دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَمَنْ قُتِل دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَمَنْ قُتِل دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ (2) .
وَالرُّخْصَةُ فِي هَذَا النَّوْعِ لاَ تَخْتَصُّ بِالْقِتَال، بَل مُتَعَلِّقٌ بِالْخَوْفِ مُطْلَقًا (3) . فَلَوْ هَرَبَ مِنْ سَيْلٍ، أَوْ حَرِيقٍ وَلَمْ يَجِدْ مَعْدِلاً عَنْهُ، أَوْ هَرَبَ مِنْ سَبُعٍ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ صَلاَةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ وَخَافَ فَوْتَ الصَّلاَةِ، وَكَذَا الْمَدْيُونُ الْمُعْسِرُ الْعَاجِزُ عَنْ إِثْبَاتِ إِعْسَارِهِ، وَلاَ يُصَدِّقُهُ الْمُسْتَحِقُّ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ ظَفِرَ بِهِ حَبَسَهُ (4) .
__________
(1) سورة النساء / 102.
(2) حديث: " من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 30 - ط الحلبي) من حديث سعيد بن زيد، وقال: حديث حسن صحيح.
(3) المصادر السابقة، وروضة الطالبين 2 / 62.
(4) روضة الطالبين 2 / 62، المغني 2 / 417 ط الرياض، والشرح الصغير 1 / 223 مطبعة المدني، روض الطالب 1 / 274.(27/215)
وَلاَ تَجُوزُ فِي الْقِتَال الْمُحَرَّمِ كَقِتَال أَهْل الْعَدْل، وَقِتَال أَهْل الأَْمْوَال لأَِخْذِ أَمْوَالِهِمْ، وَقِتَال الْقَبَائِل عَصَبِيَّةً، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهَا رُخْصَةٌ وَتَخْفِيفٌ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِهَا الْعُصَاةُ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِعَانَةً عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَتَجُوزُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَالْفَرْضِ، وَالنَّفَل غَيْرِ الْمُطْلَقِ، وَالأَْدَاءِ، وَالْقَضَاءِ (1) .
كَيْفِيَّةُ صَلاَةِ الْخَوْفِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ صَلاَةِ الْخَوْفِ؛ لِتَعَدُّدِ الرِّوَايَاتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَيْفِيَّتِهَا، وَأَخَذَ كُل صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ. كَمَا اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الأَْنْوَاعِ الْوَارِدَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الأَْنْوَاعَ الَّتِي جَاءَتْ فِي الأَْخْبَارِ سِتَّةَ عَشَرَ نَوْعًا، كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ، وَبَعْضُهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَبَعْضُهَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي ابْنِ حِبَّانَ مِنْهَا تِسْعَةٌ.
وَقَال ابْنُ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَّهَا فِي عَشْرَةِ مَوَاطِنَ، وَقَال أَحْمَدُ: أَنَّهَا وَرَدَتْ فِي سِتَّةِ أَوْجُهٍ أَوْ سَبْعَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْصَل أَنْوَاعَهَا إِلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ نَوْعًا، وَكُلُّهَا جَائِزٌ، فَقَال أَحْمَدُ: كُل حَدِيثٍ يُرْوَى
__________
(1) المصادر السابقة.(27/216)
فِي أَبْوَابِ صَلاَةِ الْخَوْفِ فَالْعَمَل بِهِ جَائِزٌ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلاَّهَا فِي مَرَّاتٍ، وَأَيَّامٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَشْكَالٍ مُتَبَايِنَةٍ، يَتَحَرَّى فِي كُلِّهَا مَا هُوَ أَحْوَطُ لِلصَّلاَةِ، وَأَبْلَغُ فِي الْحِرَاسَةِ، فَهِيَ عَلَى اخْتِلاَفِ صُوَرِهَا مُتَّفِقَةٌ فِي الْمَعْنَى (1) .
عَدَدُ رَكَعَاتِ صَلاَةِ الْخَوْفِ:
5 - لاَ يُنْتَقَصُ عَدَدُ رَكَعَاتِ الصَّلاَةِ بِسَبَبِ الْخَوْفِ، فَيُصَلِّي الإِْمَامُ بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، إِنْ كَانُوا مُسَافِرِينَ وَأَرَادُوا قَصْرَ الصَّلاَةِ، أَوْ كَانَتِ الصَّلاَةُ مِنْ ذَوَاتِ رَكْعَتَيْنِ، كَصَلاَةِ الْفَجْرِ، أَوِ الْجُمُعَةِ، وَيُصَلِّي بِهِمْ ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا إِنْ كَانَتِ الصَّلاَةُ مِنْ ذَوَاتِ الثَّلاَثِ، أَوِ الأَْرْبَعِ وَكَانُوا مُقِيمِينَ، أَوْ مُسَافِرِينَ أَرَادُوا الإِْتْمَامَ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ قَوْل عَامَّةِ الصَّحَابَةِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَقُول: " إِنَّ صَلاَةَ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ (2) .
بَعْضُ الأَْنْوَاعِ الْمَرْوِيَّةِ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ:
6 - الأَْوَّل: صَلاَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِذَاتِ الرِّقَاعِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 242، نيل الأوطار جـ 4 في باب صلاة الخوف، مغني المحتاج 1 / 301، المغني 2 / 412.
(2) نيل الأوطار 4 / 4، روضة الطالبين 2 / 49، بدائع الصنائع 1 / 243، المغني 2 / 401.(27/216)
فَيُفَرِّقُ الإِْمَامُ الْجَيْشَ إِلَى فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٍ تَحْمِل فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَفِرْقَةٍ يَنْحَازُ بِهَا إِلَى حَيْثُ لاَ تَبْلُغُهُمْ سِهَامُ الْعَدُوِّ، فَيَفْتَتِحُ بِهِمُ الصَّلاَةَ، وَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً فِي الثُّنَائِيَّةِ: الصُّبْحِ وَالْمَقْصُورَةِ، وَرَكْعَتَيْنِ فِي الثُّلاَثِيَّةِ وَالرُّبَاعِيَّةِ، هَذَا الْقَدْرُ مِنْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الأَْرْبَعَةُ عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَفْعَل بَعْدَ ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ فِي الثُّنَائِيَّةِ، وَإِلَى الثَّالِثَةِ فِي الثُّلاَثِيَّةِ وَالرُّبَاعِيَّةِ خَرَجَ الْمُقْتَدُونَ عَنْ مُتَابَعَتِهِ، وَأَتَمُّوا الصَّلاَةَ لأَِنْفُسِهِمْ، وَذَهَبُوا إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الطَّائِفَةُ الْحَارِسَةُ. وَيُطِيل الإِْمَامُ إِلَى لُحُوقِهِمْ، فَإِذَا لَحِقُوهُ صَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ فِي الثُّنَائِيَّةِ، وَالثَّالِثَةَ فِي الثُّلاَثِيَّةِ، وَالثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ فِي الرُّبَاعِيَّةِ مِنْ صَلاَتِهِ، فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ قَامُوا وَأَتَمُّوا الصَّلاَةَ، وَالإِْمَامُ يَنْتَظِرُهُمْ، فَإِذَا لَحِقُوهُ سَلَّمَ بِهِمْ.
إِلاَّ أَنَّ مَالِكًا قَال: يُسَلِّمُ الإِْمَامُ وَلاَ يَنْتَظِرُهُمْ، فَإِذَا سَلَّمَ قَضَوْا مَا فَاتَهُمْ مِنَ الصَّلاَةِ مِنْ رَكْعَةٍ، أَوْ رَكْعَتَيْنِ بِفَاتِحَةٍ وَسُورَةٍ جَهْرًا فِي الْجَهْرِيَّةِ.
وَقَدِ اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ هَذِهِ الصِّفَةَ لِسَلاَمَتِهَا مِنْ كَثْرَةِ الْمُخَالَفَةِ وَلأَِنَّهَا أَحْوَطُ لأَِمْرِ(27/217)
الْحَرْبِ، وَأَقَل مُخَالَفَةً لِقَاعِدَةِ الصَّلاَةِ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَامَ إِلَى الثَّانِيَةِ لَمْ يُتِمَّ الْمُقْتَدُونَ بِهِ الصَّلاَةَ بَل يَذْهَبُونَ إِلَى مَكَانِ الْفِرْقَةِ الْحَارِسَةِ وَهُمْ فِي الصَّلاَةِ فَيَقِفُونَ سُكُوتًا، وَتَأْتِي تِلْكَ الطَّائِفَةُ وَتُصَلِّي مَعَ الإِْمَامِ رَكْعَتَهُ الثَّانِيَةَ فَإِذَا سَلَّمَ ذَهَبَتْ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَجَاءَ الأَْوَّلُونَ إِلَى مَكَانِ الصَّلاَةِ وَأَتَمُّوا أَفْذَاذًا، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأُْخْرَى، وَصَلَّوْا مَا بَقِيَ لَهُمْ مِنَ الصَّلاَةِ وَتَشَهَّدُوا وَسَلَّمُوا (2) .
وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
7 - الثَّانِي: أَنْ يَجْعَل الإِْمَامُ الْجَيْشَ فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةً فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَفِرْقَةً يُحْرِمُ بِهَا، وَيُصَلِّي بِهِمْ جَمِيعَ الصَّلاَةِ، رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ، أَمْ ثَلاَثًا، أَمْ أَرْبَعًا، فَإِذَا سَلَّمَ بِهِمْ ذَهَبُوا إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ وَجَاءَتِ الْفِرْقَةُ الأُْخْرَى فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلاَةَ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَتَكُونُ لَهُ نَافِلَةً، وَلَهُمْ فَرِيضَةٌ، وَهَذِهِ صَلاَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَطْنِ نَخْلٍ، وَتُنْدَبُ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَكَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ كَثْرَةٌ وَالْعَدُوُّ قَلِيلٌ وَخِيفَ هُجُومُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ (3) وَلاَ يَقُول بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ مِنَ الأَْئِمَّةِ
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 52، المغني 2 / 402، الشرح الصغير 2 / 2 عيسى البابي الحلبي.
(2) البدائع 1 / 242، الهداية 1 / 85، فتح القدير 2 / 64.
(3) روضة الطالبين 2 / 49، المجموع 4 / 407، المحلى على المنهاج 1 / 297، أسنى المطالب 1 / 270، المغني 2 / 412.(27/217)
مَنْ لاَ يُجِيزُ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُنْتَفِل (1) .
8 - الثَّالِثُ: أَنْ يُرَتِّبَهُمُ الإِْمَامُ صَفَّيْنِ، وَيُحْرِمَ بِالْجَمِيعِ فَيُصَلُّونَ مَعًا، يَقْرَأَ وَيَرْكَعَ، وَيَعْتَدِل بِهِمْ جَمِيعًا، ثُمَّ يَسْجُدَ بِأَحَدِهِمَا، وَتَحْرُسُ الأُْخْرَى حَتَّى يَقُومَ الإِْمَامُ مِنْ سُجُودِهِ، ثُمَّ يَسْجُدُ الآْخَرُونَ، وَيَلْحَقُونَهُ فِي قِيَامِهِ، وَيَفْعَل فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ يَحْرُسُ فِيهَا مَنْ سَجَدَ مَعَهُ أَوَّلاً، وَيَتَشَهَّدَ، وَيُسَلِّمَ بِهِمْ جَمِيعًا، وَهَذِهِ صَلاَتُهُ بِعُسْفَانَ.
وَيُشْتَرَطُ فِي اسْتِحْبَابِ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ: كَثْرَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَوْنُ الْعَدُوِّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ غَيْرَ مُسْتَتِرٍ بِشَيْءٍ يَمْنَعُ رُؤْيَتَهُ.
وَلَهُ أَنْ يُرَتِّبَهُمْ صُفُوفًا، ثُمَّ يَحْرُسَ صَفَّانِ، فَإِنْ حَرَسَ بَعْضٌ كُل صَفٍّ بِالْمُنَاوَبَةِ جَازَ، وَكَذَا لَوْ حَرَسَتْ طَائِفَةٌ فِي الرَّكْعَتَيْنِ؛ لِحُصُول الْغَرَضِ بِكُل ذَلِكَ، وَالْمُنَاوَبَةُ أَفْضَل؛ لأَِنَّهَا الثَّابِتَةُ فِي الْخَبَرِ، وَلَوْ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الثَّانِي الَّذِي حَرَسَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ لِيَسْجُدُوا، وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الأَْوَّل الَّذِي سَجَدَ أَوَّلاً لِيَحْرُسَ وَلَمْ يَمْشُوا أَكْثَرَ مِنْ خُطْوَتَيْنِ كَانَ أَفْضَل؛ لأَِنَّهُ الثَّابِتُ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ (2) .
هَذِهِ الصِّفَةُ رَوَاهَا جَابِرٌ، قَال: شَهِدْتُ
__________
(1) البدائع 1 / 244.
(2) البدائع 1 / 244، روض الطالب، 1 / 270، روضة الطالبين 2 / 50، المغني 2 / 412.(27/218)
مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَةَ الْخَوْفِ، فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ: صَفٌّ خَلْفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعْنَا جَمِيعًا. ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّجُودَ وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ وَقَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُتَقَدِّمُ، ثُمَّ رَكَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ، وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نُحُورِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّجُودَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا (1) .
وَهَذِهِ الأَْنْوَاعُ الثَّلاَثَةُ مُسْتَحَبَّةٌ لاَ وَاجِبَةٌ، فَلَوْ صَلَّوْا فُرَادَى أَوِ انْفَرَدَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الإِْمَامِ، أَوْ صَلَّى الإِْمَامُ بِبَعْضِهِمْ كُل الصَّلاَةِ، وَبِالْبَاقِينَ غَيْرَهُ جَازَ، وَلَكِنْ تَفُوتُ
__________
(1) حديث: جابر بن عبد الله: " شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ". أخرجه مسلم (1 / 574 - 575 - ط الحلبي) .(27/218)
فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْمُنْفَرِدِ (1) .
9 - الرَّابِعُ: صَلاَةُ شِدَّةِ الْخَوْفِ: إِذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ فَمَنَعَهُمْ مِنْ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَمْ يُمْكِنْ قَسْمُ الْجَمَاعَةِ؛ لِكَثْرَةِ الْعَدُوِّ، وَرَجَوْا انْكِشَافَهُ قَبْل خُرُوجِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ، بِحَيْثُ يُدْرِكُونَ الصَّلاَةَ فِيهِ، أَخَّرُوا اسْتِحْبَابًا.
فَإِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ الصَّلاَةَ صَلَّوْا إِيمَاءً، وَإِلاَّ صَلَّوْا فُرَادَى بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ، فَإِنْ قَدَرُوا عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَعَلُوا ذَلِكَ، أَوْ صَلَّوْا مُشَاةً أَوْ رُكْبَانًا، مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا، ثُمَّ لاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِمْ إِذَا أَمِنُوا، لاَ فِي الْوَقْتِ وَلاَ بَعْدَهُ.
وَالأَْصْل فِيمَا ذُكِرَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} (2) . وَقَال ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالاً قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ، أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ، أَوْ غَيْرِ مُسْتَقْبِلِيهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَزَادَ الْبُخَارِيُّ قَال نَافِعٌ: لاَ أَرَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَال ذَلِكَ إِلاَّ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3)
__________
(1) روض الطالب 1 / 272، روضة الطالبين 2 / 50، كشاف القناع 2 / 11 - 12 حاشية الدسوقي 1 / 393.
(2) سورة البقرة / 239.
(3) حديث ابن عمر: " فإن كان خوف أشد من ذلك ". أخرجه البخاري (الفتح 8 / 199 - ط السلفية) ومسلم (1 / 574 - ط الحلبي) .(27/219)
وَإِنْ عَجَزُوا عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوْمَئُوا بِهِمَا، وَأَتَوْا بِالسُّجُودِ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ.
وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) .
10 - وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْقِتَال فِي الصَّلاَةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْقِتَال فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الشَّدِيدَةِ فِي الصَّلاَةِ، وَيُعْفَى عَمَّا فِيهِ مِنَ الْحَرَكَاتِ، مِنَ الضَّرَبَاتِ وَالطَّعَنَاتِ الْمُتَوَالِيَاتِ، وَالإِْمْسَاكِ بِسِلاَحٍ مُلَطَّخٍ بِالدَّمِ؛ لِلْحَاجَةِ؛ وقَوْله تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} (2) وَأَخْذُ السِّلاَحِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ لِلْقِتَال، وَقِيَاسًا عَلَى الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ اللَّذَيْنِ جَاءَا فِي الآْيَةِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الصَّلاَةِ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ: أَلاَّ يُقَاتِل، فَإِنْ قَاتَل فَسَدَتْ صَلاَتُهُ، وَقَالُوا: لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُغِل عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَضَاهُنَّ فِي اللَّيْل (4) وَقَال: شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 60، روض الطالب 2 / 273، كشاف القناع 2 / 18، المغني 2 / 416، بلغة السالك على الشرح الصغير 1 / 186، بدائع الصنائع 1 / 244.
(2) سورة النساء / 102.
(3) القليوبي 1 / 300، روضة الطالبين 2 / 60، المغني 2 / 416، بلغة السالك 1 / 186.
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم شغل عن أربع صلوات يوم الخندق ". أخرجه النسائي (2 / 17 ط المكتبة التجارية) من حديث أبي سعيد الخدري، وإسناده صحيح.(27/219)
الْوُسْطَى حَتَّى آبَتِ الشَّمْسُ مَلأََ اللَّهُ قُبُورَهُمْ نَارًا أَوْ بُيُوتَهُمْ أَوْ بُطُونَهُمْ (1) فَلَوْ جَازَ الْقِتَال فِي الصَّلاَةِ لَمَا أَخَّرَهَا؛ وَلأَِنَّ إِدْخَال عَمَلٍ كَثِيرٍ - لَيْسَ مِنْ أَعْمَال الصَّلاَةِ - فِي الصَّلاَةِ مُفْسِدٌ فِي الأَْصْل، فَلاَ يُتْرَكُ هَذَا الأَْصْل إِلاَّ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ، وَهُوَ الْمَشْيُ لاَ الْقِتَال (2) .
صَلاَةُ الْجُمُعَةِ فِي الْخَوْفِ:
11 - إِذَا حَصَل الْخَوْفُ فِي بَلَدٍ وَحَضَرَتْ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوهَا عَلَى هَيْئَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَعُسْفَانَ، وَيُشْتَرَطُ فِي الصَّلاَةِ عَلَى هَيْئَةِ صَلاَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ:
(1) أَنْ يَخْطُبَ بِجَمِيعِهِمْ، ثُمَّ يُفَرِّقَهُمْ فِرْقَتَيْنِ، أَوْ يَخْطُبَ بِفِرْقَةٍ، وَيَجْعَل مِنْهَا مَعَ كُلٍّ مِنَ الْفِرْقَتَيْنِ أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا، فَلَوْ خَطَبَ بِفِرْقَةٍ وَصَلَّى بِأُخْرَى لَمْ تَصِحَّ.
(2) أَنْ تَكُونَ الْفِرْقَةُ الأُْولَى أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا، فَلَوْ نَقَصَتْ عَنْ أَرْبَعِينَ لَمْ تَنْعَقِدِ الْجُمُعَةُ، وَإِنْ نَقَصَتِ الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ لَمْ يَضُرَّ لِلْحَاجَةِ، وَالْمُسَامَحَةِ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ.
وَلَوْ خَطَبَ بِهِمْ وَصَلَّى بِهِمْ عَلَى هَيْئَةِ صَلاَةِ الْخَوْفِ بِعُسْفَانَ فَهِيَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَلاَ تَجُوزُ
__________
(1) حديث: " شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله قبورهم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 8 / 195 - ط السلفية) ومسلم (1 / 436 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) البدائع 1 / 244.(27/220)
عَلَى هَيْئَةِ صَلاَةِ بَطْنِ نَخْلٍ؛ إِذْ لاَ تُقَامُ جُمُعَةٌ بَعْدَ جُمُعَةٍ (1) .
السَّهْوُ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ:
12 - يَتَحَمَّل الإِْمَامُ سَهْوَ الْمَأْمُومِينَ إِذَا صَلَّى بِهِمْ صَلاَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي ذَهَبَ إِلَيْهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ سَهْوَ الطَّائِفَةِ الأُْولَى فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَلاَ يَتَحَمَّلُهُ؛ لاِنْقِطَاعِ قُدْوَتِهَا بِالْمُفَارَقَةِ، وَسَهْوُ الإِْمَامِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى يَلْحَقُ الْكُل، فَيَسْجُدُونَ لِلسَّهْوِ فِي آخِرِ صَلاَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَسْجُدِ الإِْمَامُ.
وَسَهْوُهُ فِي الثَّانِيَةِ لاَ يَلْحَقُ الأَْوَّلِينَ لِمُفَارَقَتِهِمْ قَبْل السَّهْوِ، وَيَلْحَقُ الآْخَرِينَ (2) .
حَمْل السِّلاَحِ فِي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ:
13 - حَمْل السِّلاَحِ فِي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ مُسْتَحَبٌّ، يُكْرَهُ تَرْكُهُ لِمَنْ لاَ عُذْرَ لَهُ مِنْ مَرَضٍ، أَوْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ غَيْرِهِ احْتِيَاطًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} إِلَى أَنْ قَال جَل شَأْنُهُ: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} (3)
__________
(1) المجموع 4 / 419، أسنى المطالب 1 / 272، روضة الطالبين 2 / 57، المغني لابن قدامة 2 / 405.
(2) روض الطالب 1 / 272، روضة الطالبين 2 / 58، المغني 2 / 406، بلغة السالك على الشرح الصغير 1 / 68.
(3) سورة النساء / 102.(27/220)
وَحَمَلُوا الأَْمْرَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} عَلَى النَّدْبِ، لأَِنَّ تَرْكَهُ لاَ يُفْسِدُ الصَّلاَةَ، فَلاَ يَجِبُ حَمْلُهُ، كَسَائِرِ مَا لاَ يُفْسِدُ تَرْكُهُ، وَقِيَاسًا عَلَى الأَْمْنِ؛ وَلأَِنَّ الْغَالِبَ السَّلاَمَةُ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي يَتَعَرَّضُ لِلْهَلاَكِ بِتَرْكِ السِّلاَحِ وَجَبَ حَمْلُهُ، أَوْ وَضْعُهُ بَيْنَ يَدِهِ بِحَيْثُ يَسْهُل تَنَاوُلُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ (1) .
صَلاَةُ الصُّبْحِ
انْظُرْ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَةُ.
__________
(1) شرح روض الطالب 1 / 273، روضة الطالبين 2 / 60، المغني 2 / 411، كشاف القناع 2 / 17.(27/221)
صَلاَةُ الضُّحَى
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّلاَةُ فِي اللُّغَةِ وَالاِصْطِلاَحِ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْهَا فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَة) .
وَأَمَّا الضُّحَى فِي اللُّغَةِ: فَيُسْتَعْمَل مُفْرَدًا، وَهُوَ فُوَيْقَ الضَّحْوَةِ، وَهُوَ حِينَ تَشْرُقُ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ يَمْتَدَّ النَّهَارُ، أَوْ إِلَى أَنْ يَصْفُوَ ضَوْءُهَا وَبَعْدَهُ الضَّحَاءُ.
وَالضَّحَاءُ - بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ - هُوَ إِذَا عَلَتِ الشَّمْسُ إِلَى رُبُعِ السَّمَاءِ فَمَا بَعْدَهُ (1) .
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ الضُّحَى: مَا بَيْنَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ:
قِيل: هِيَ صَلاَةُ الضُّحَى. وَعَلَى هَذَا فَهُمَا مُتَرَادِفَتَانِ وَقِيل: إِنَّ صَلاَةَ الأَْوَّابِينَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَبِهَذَا تَفْتَرِقَانِ.
صَلاَةُ الإِْشْرَاقِ:
3 - بِتَتَبُّعِ ظَاهِرِ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ
__________
(1) متن اللغة، والمصباح المنير وعمدة القاري شرح صحيح البخاري (7 / 236 ط. المنيرية) .
(2) حاشية ابن عابدين (2 / 23 ط. دار الفكر) .(27/221)
يَتَبَيَّنُ: أَنَّ صَلاَةَ الضُّحَى وَصَلاَةَ الإِْشْرَاقِ وَاحِدَةٌ إِذْ كُلُّهُمْ ذَكَرُوا وَقْتَهَا مِنْ بَعْدِ الطُّلُوعِ إِلَى الزَّوَال وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَهُمَا.
وَقِيل: إِنَّ صَلاَةَ الإِْشْرَاقِ غَيْرُ صَلاَةِ الضُّحَى، وَعَلَيْهِ فَوَقْتُ صَلاَةِ الإِْشْرَاقِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، عِنْدَ زَوَال وَقْتِ الْكَرَاهَةِ (1) . (ر: صَلاَةُ الإِْشْرَاقِ)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - صَلاَةُ الضُّحَى نَافِلَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ (2) . فَقَدْ رَوَى أَبُو ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: يُصْبِحُ عَلَى كُل سُلاَمَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ: فَكُل تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُل تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ: وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ عَنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى (3) وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: أَوْصَانِي حَبِيبِي بِثَلاَثٍ لَنْ أَدَعَهُنَّ مَا عِشْتُ: بِصِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ
__________
(1) تحفة المحتاج 2 / 131 والقليوبي وعميرة 1 / 214، وأوجز المسالك إلى موطأ مالك 3 / 124. ط دار الفكر، إحياء علوم الدين 1 / 203.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 112، والمغني 2 / 131، والمجموع 4 / 36، وروضة الطالبين 1 / 332، وحاشية الدسوقي 1 / 313 وتفسير القرطبي 15 / 160، وصحيح مسلم بشرح النووي 5 / 230 ط المطبعة المصرية.
(3) حديث: " يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ". أخرجه مسلم (1 / 499 - ط. الحلبي) .(27/222)
كُل شَهْرٍ، وَصَلاَةِ الضُّحَى، وَأَنْ لاَ أَنَامَ حَتَّى أُوتِرَ (1) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ: صِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُل شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى وَأَنْ أُوتِرَ قَبْل أَنْ أَرْقُدَ (2)
وَقَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: لاَ تُسْتَحَبُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا؛ كَيْ لاَ تَشْتَبِهَ بِالْفَرَائِضِ، وَنُقِل التَّوَقُّفُ فِيهَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ (3) .
صَلاَةُ الضُّحَى فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
5 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ صَلاَةِ الضُّحَى عَلَى رَسُول اللَّهِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ صَلاَةَ الضُّحَى لَيْسَتْ مَفْرُوضَةً عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ صَلاَةَ الضُّحَى ضِمْنَ مَا اخْتَصَّ بِهِ رَسُول اللَّهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَأَقَل
__________
(1) حديث أبي الدرداء " أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث لن أدعهن. . . ". أخرجه مسلم (1 / 499 ط الحلبي) .
(2) حديث أبي هريرة: " أوصاني خليلي بثلاث. . . ". أخرجه البخاري (الفتح4 / 226 ط السلفية) ومسلم (1 / 449، - ط. الحلبي) .
(3) المغني 2 / 131، والمجموع 4 / 37 وما بعدها، وجواهر الإكليل 1 / 73، وصحيح مسلم بشرح النووي 5 / 230.
(4) شرح الزرقاني 3 / 155، ومطالب أولي النهى 5 / 29.(27/222)
الْوَاجِبِ مِنْهَا عَلَيْهِ رَكْعَتَانِ (1) .
(ر: اخْتِصَاص ف 10 ج 2 ص 9 ص 259) .
الْمُوَاظَبَةُ عَلَى صَلاَةِ الضُّحَى:
6 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَل الأَْفْضَل الْمُوَاظَبَةُ عَلَى صَلاَةِ الضُّحَى، أَوْ فِعْلُهَا فِي وَقْتٍ وَتَرْكُهَا فِي وَقْتٍ؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ تُسْتَحَبُّ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى صَلاَةِ الضُّحَى؛ لِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحَبُّ الْعَمَل إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَل (2) . وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَْوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَال لَهُ الضُّحَى فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُون يُدِيمُونَ صَلاَةَ الضُّحَى؟ هَذَا بَابُكُمْ فَادْخُلُوهُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ (3) .
وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 3، وشرح الزرقاني 3 / 155، ومطالب أولي النهى 5 / 29.
(2) حديث: " أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل. . . ". أخرجه مسلم (2 / 811 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(3) حديث: " إن في الجنة بابا يقال له الضحى. . . ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 239 ط القدسي) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه سليمان بن داود اليمامي أبو أحمد، وهو متروك.(27/223)
{لاَ يُحَافِظُ عَلَى صَلاَةِ الضُّحَى إِلاَّ أَوَّابٌ، قَال: وَهِيَ صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ - وَهُوَ مَا حَكَاهُ صَاحِبُ الإِْكْمَال عَنْ جَمَاعَةٍ: لاَ تُسْتَحَبُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى صَلاَةِ الضُّحَى بَل تُفْعَل غِبًّا؛ لِقَوْل عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ (2) .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى حَتَّى نَقُول: لاَ يَدَعُهَا، وَيَدَعُهَا حَتَّى نَقُول: لاَ يُصَلِّيهَا (3)
وَلأَِنَّ فِي الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا تَشْبِيهًا بِالْفَرَائِضِ.
وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: تُسْتَحَبُّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا (4) ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَوْصَى بِهَا أَصْحَابَهُ
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 216 / وعمدة القاري 7 / 240، ومواهب الجليل 2 / 67، وكشاف القناع 1 / 442، والمغني 2 / 132، وصحيح مسلم بشرح النووي 5 / 230، وروضة الطالبين 1 / 337، وصحيح ابن خزيمة 2 / 228، نشر المكتب الإسلامي، وإحياء علوم الدين 1 / 196 ط مطبعة الاستقامة وحديث: " لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب ". أخرجه الحاكم (1 / 314 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) قول عائشة: " ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم سبح سبحة الضحى قط ". أخرجه البخاري (الفتح3 / 10 - ط السلفية) ومسلم (1 / 497 - ط. الحلبي) واللفظ للبخاري.
(3) حديث أبي سعيد: " كان يصلي الضحى حتى نقول: لا يدعها ". أخرجه الترمذي (2 / 342، - ط الحلبي) وفي إسناده ضعف.
(4) الإنصاف 2 / 191، وكشاف القناع 1 / 442، وعمدة القاري 7 / 240.(27/223)
وَقَال: مَنْ حَافَظَ عَلَى شُفْعَةِ الضُّحَى غُفِرَ لَهُ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْل زَبَدِ الْبَحْرِ (1) (ر: نَفْل)
وَقْتُ صَلاَةِ الضُّحَى:
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الأَْفْضَل فِعْل صَلاَةِ الضُّحَى إِذَا عَلَتِ الشَّمْسُ وَاشْتَدَّ حَرُّهَا؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {صَلاَةُ الأَْوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَال (2) وَمَعْنَاهُ أَنْ تُحْمَى الرَّمْضَاءُ وَهِيَ الرَّمْل فَتَبْرُكُ الْفِصَال مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ.
قَال الطَّحَاوِيُّ: وَوَقْتُهَا الْمُخْتَارُ إِذَا مَضَى رُبُعُ النَّهَارِ (3) . وَجَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل نَقْلاً عَنِ الْجُزُولِيِّ: أَوَّل وَقْتِهَا ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ، وَبَيَاضُهَا وَذَهَابُ الْحُمْرَةِ، وَآخِرُهُ الزَّوَال. قَال الْحَطَّابُ نَقْلاً عَنِ الشَّيْخِ زَرُّوقٌ: وَأَحْسَنُهُ إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْمَشْرِقِ مِثْلَهَا مِنَ الْمَغْرِبِ وَقْتُ الْعَصْرِ (4) .
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَوَقْتُهَا الْمُخْتَارُ إِذَا مَضَى
__________
(1) حديث: " من حافظ على شفعة الضحى ". أخرجه الترمذي (2 / 341، - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده راو ضعيف، وذكر الذهبي هذا الحديث في مناكيره في الميزان (4 / 274 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " صلاة الأوابين حين ترمض الفصال ". أخرجه مسلم (1 / 516 - ط الحلبي) من حديث زيد بن أرقم.
(3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 216.
(4) مواهب الجليل 2 / 68.(27/224)
رُبُعُ النَّهَارِ (1) .
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَالأَْفْضَل فِعْلُهَا إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ (2) . ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ وَقْتِ صَلاَةِ الضُّحَى عَلَى الْجُمْلَةِ. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ صَلاَةِ الضُّحَى مِنَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ إِلَى قُبَيْل زَوَالِهَا مَا لَمْ يَدْخُل وَقْتُ النَّهْيِ (3) .
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: قَال أَصْحَابُنَا (الشَّافِعِيَّةُ) : وَقْتُ الضُّحَى مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا إِلَى ارْتِفَاعِهَا (4) . وَيَدُل لَهُ خَبَرُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي مُرَّةَ الطَّائِفِيِّ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: قَال اللَّهُ: يَا ابْنَ آدَمَ لاَ تُعْجِزُنِي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّل نَهَارِكَ أَكْفِكَ آخِرَهُ (5) لَكِنْ قَال الأَْذْرَعِيُّ: نَقْل ذَلِكَ عَنِ الأَْصْحَابِ فِيهِ نَظَرٌ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ كَلاَمِهِمُ الأَْوَّل (أَيْ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ (6))
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 332، وأسنى المطالب 1 / 204.
(2) كشاف القناع 1 / 442.
(3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 216، وكشاف القناع 1 / 442، والحطاب 2 / 68.
(4) روضة الطالبين 1 / 332.
(5) حديث: " قال الله يا ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 63، تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه النووي في المجموع (4 / 39 ط المنيرية) .
(6) أسنى المطالب 1 / 204.(27/224)
وَقَال الرَّمْلِيُّ الْكَبِيرُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الرَّوْضِ، بَعْدَ أَنْ نَقَل قَوْل النَّوَوِيِّ السَّابِقَ ذِكْرُهُ: لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ فَهُوَ وَجْهٌ غَرِيبٌ أَوْ سَبْقُ قَلَمٍ (1) .
عَدَدُ رَكَعَاتِ صَلاَةِ الضُّحَى:
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ:
بِاسْتِحْبَابِ صَلاَةِ الضُّحَى فِي أَنَّ أَقَلَّهَا رَكْعَتَانِ (2) . فَقَدْ رَوَى أَبُو ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: يُصْبِحُ عَلَى كُل سُلاَمَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ: فَكُل تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُل تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُل تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُل تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى (3) . فَأَقَل صَلاَةِ الضُّحَى رَكْعَتَانِ لِهَذَا الْخَبَرِ (4) .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَقَلِّهَا وَأَكْثَرِهَا:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - عَلَى الْمَذْهَبِ - إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ صَلاَةِ الضُّحَى ثَمَانٍ لِمَا رَوَتْ أُمُّ هَانِئٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، فَلَمْ أَرَ صَلاَةً قَطُّ
__________
(1) حاشية الرملي الكبير بهامش أسنى المطالب 1 / 204.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 112، وحاشية الدسوقي 1 / 313، وروضة الطالبين 1 / 332، والإنصاف (2 / 190 نشر دار إحياء التراث العربي) .
(3) حديث " يصبح على كل سلامى. . . ". سبق تخريجه ف 4.
(4) المغني 2 / 131.(27/225)
أَخَفُّ مِنْهَا غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِكَرَاهَةِ مَا زَادَ عَلَى ثَمَانِي رَكَعَاتٍ، إِنْ صَلاَّهَا بِنِيَّةِ الضُّحَى لاَ بِنِيَّةِ نَفْلٍ مُطْلَقٍ، وَذَكَرُوا أَنَّ أَوْسَط صَلاَةِ الضُّحَى سِتٌّ (2) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الْوَجْهِ الْمَرْجُوحِ (3) - وَأَحْمَدُ - فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - أَنَّ أَكْثَرَ صَلاَةِ الضُّحَى اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً، لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ صَلَّى الضُّحَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا مِنْ ذَهَبٍ فِي الْجَنَّةِ (4) قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ شَرْحِ الْمُنْيَةِ: وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ يَجُوزُ الْعَمَل بِهِ فِي الْفَضَائِل (5) .
وَقَال الْحَصْكَفِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، نَقْلاً عَنِ الذَّخَائِرِ الأَْشْرَفِيَّةِ: وَأَوْسَطُهَا ثَمَانٍ وَهُوَ أَفْضَلُهَا؛ لِثُبُوتِهِ بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
__________
(1) حديث أم هانئ: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 578 - ط السلفية) ومسلم (1 / 497 - ط. الحلبي) .
(2) حاشية الدسوقي 1 / 313، والإنصاف 2 / 190، والمغني 2 / 131.
(3) وهو قول الروياني والرافعي وغيرهما (المجموع4 / 36) .
(4) حديث: " من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة ". أخرجه الترمذي (2 / 337 ط الحلبي) وقال: حديث غريب.
(5) ابن عابدين 1 / 459، شرح المحلى على المنهاج 1 / 214، الإنصاف 2 / 190.(27/225)
وَأَمَّا أَكْثَرُهَا فَبِقَوْلِهِ فَقَطْ. وَهَذَا لَوْ صَلَّى الأَْكْثَرَ بِسَلاَمٍ وَاحِدٍ أَمَّا لَوْ فَصَل فَكُلَّمَا زَادَ أَفْضَل (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي أَكْثَرِ صَلاَةِ الضُّحَى إِذْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ أَنَّ أَكْثَرَهَا اثْنَتَا (2) عَشْرَةَ وَخَالَفَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، فَحَكَى عَنِ الأَْكْثَرِينَ: أَنَّ أَكْثَرَهَا ثَمَانِ رَكَعَاتٍ (3) . وَقَال فِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ: أَفْضَلُهَا ثَمَانٍ وَأَكْثَرُهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ، وَيُسَلِّمُ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ (4) .
السُّوَرُ الَّتِي تُقْرَأُ فِي صَلاَةِ الضُّحَى
9 - قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يَقْرَأُ فِيهَا سُورَتَيِ الضُّحَى أَيْ سُورَةَ {وَالشَّمْسِ} وَسُورَةَ {وَالضُّحَى} ، وَظَاهِرُهُ الاِقْتِصَارُ عَلَيْهِمَا وَلَوْ صَلاَّهَا أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ (5) . فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: أَمَرَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُصَلِّيَ الضُّحَى بِسُوَرٍ مِنْهَا: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَالضُّحَى} (6) .
__________
(1) الدر المختار 1 / 459.
(2) شرح المحلى على منهاج الطالبين 1 / 214.
(3) المجموع 4 / 36.
(4) روضة الطالبين 1 / 332.
(5) حاشية ابن عابدين 1 / 458.
(6) عمدة القاري 7 / 240، وفتح الباري 3 / 55 وحديث عقبة بن عامر: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي الضحى بسور. . . ". أورده ابن حجر في فتح الباري (3 / 55 ط السلفية) وعزاه الحاكم في جزئه في صلاة الضحى.(27/226)
وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: وَيُسَنُّ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا - رَكْعَتَيِ الضُّحَى - (الْكَافِرُونَ، وَالإِْخْلاَصُ) وَهُمَا أَفْضَل فِي ذَلِكَ مِنَ الشَّمْسِ، {وَالضُّحَى} وَإِنْ وَرَدَتَا أَيْضًا؛ إِذْ (الإِْخْلاَصُ) تَعْدِل ثُلُثَ الْقُرْآنِ، (وَالْكَافِرُونَ) تَعْدِل رُبُعَهُ بِلاَ مُضَاعَفَةٍ (1) .
وَقَال الشُّبْرَامَلْسِيِّ: وَيَقْرَؤُهُمَا أَيْ (الْكَافِرُونَ، وَالإِْخْلاَصُ) - أَيْضًا - فِيمَا لَوْ صَلَّى أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَمَحَل ذَلِكَ - أَيْضًا - مَا لَمْ يُصَل أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا بِإِحْرَامٍ فَلاَ يُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ سُورَةٍ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الأَْوَّل، وَمِثْلُهُ كُل سُنَّةٍ تَشَهَّدَ فِيهَا بِتَشَهُّدَيْنِ فَإِنَّهُ لاَ يَقْرَأُ السُّورَةَ فِيمَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ الأَْوَّل (2) (ر: قِرَاءَة، وَنَافِلَة) .
هَذَا وَفِي قَضَاءِ صَلاَةِ الضُّحَى إِذَا فَاتَتْ مِنْ وَقْتِهَا، وَفِي فِعْلِهَا جَمَاعَةً تَفَاصِيل لِلْفُقَهَاءِ (3) تُنْظَرُ فِي: (تَطَوُّع وَصَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) .
صَلاَةُ الطَّوَافِ
انْظُرْ: طَوَاف -
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 112.
(2) حاشية الشبراملسي مع نهاية المحتاج 2 / 112.
(3) روضة الطالبين 1 / 337، 332، والمغني 2 / 142.(27/226)
صَلاَةُ الظُّهْرِ
انْظُرْ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَةُ
صَلاَةُ الْمَرْأَةِ
انْظُرْ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ، صَلاَةٌ
صَلاَةُ الْعِشَاءِ
انْظُرْ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَةُ
صَلاَةُ الْعَصْرِ
انْظُرْ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَةُ(27/227)
الصَّلاَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ
(أَوِ الدَّابَّةِ)
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّلاَةُ يُنْظَرُ تَعْرِيفُهَا فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَة) .
وَالرَّاحِلَةُ مِنَ الإِْبِل: الْبَعِيرُ الْقَوِيُّ عَلَى الأَْسْفَارِ وَالأَْحْمَال، وَهِيَ الَّتِي يَخْتَارُهَا الرَّجُل لِمَرْكَبِهِ وَرَحْلِهِ عَلَى النَّجَابَةِ وَتَمَامِ الْخَلْقِ وَحُسْنِ الْمَنْظَرِ، وَإِذَا كَانَتْ فِي جَمَاعَةِ الإِْبِل تَبَيَّنَتْ وَعُرِفَتْ.
وَالرَّاحِلَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ: كُل بَعِيرٍ نَجِيبٍ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، وَالْجَمْعُ رَوَاحِل، وَدُخُول الْهَاءِ فِي الرَّاحِلَةِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ، وَقِيل: سُمِّيَتْ رَاحِلَةً؛ لأَِنَّهَا ذَاتُ رَحْلٍ (1) .
وَالدَّابَّةُ: كُل مَا يَدِبُّ عَلَى الأَْرْضِ. وَقَدْ غَلَبَ هَذَا الاِسْمُ عَلَى مَا يُرْكَبُ مِنَ الْحَيَوَانِ مِنْ إِبِلٍ وَخَيْلٍ وَبِغَالٍ وَحَمِيرٍ (2) . الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السَّفِينَةُ:
2 - السَّفِينَةُ: الْفُلْكُ، وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
__________
(1) لسان العرب، مادة (رحل) .
(2) لسان العرب مادة: (دبب) ، وابن عابدين 1 / 469، والشرح الصغير 1 / 109، والمغني لابن قدامة 1 / 434.(27/227)
الرَّاحِلَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُرْكَبُ، وَكَمَا أَنَّ لِلصَّلاَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَحْكَامًا خَاصَّةً، فَكَذَلِكَ لِلصَّلاَةِ فِي السَّفِينَةِ أَحْكَامًا خَاصَّةً تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (سَفِينَة) .
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالصَّلاَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ:
أ - صَلاَةُ النَّفْل:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ صَلاَةُ النَّفْل عَلَى الرَّاحِلَةِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (1) قَال ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: نَزَلَتْ فِي التَّطَوُّعِ خَاصَّةً، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهَهُ (2) وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ، فَإِذَا أَرَادَ الْفَرِيضَةَ نَزَل فَاسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ (3) .
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ صَلاَةَ التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ الطَّوِيل الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ جَائِزَةٌ.
__________
(1) سورة البقرة / 115.
(2) حديث ابن عمر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 578 - ط السلفية) .
(3) حديث جابر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 503 - ط السلفية) .(27/228)
وَأَمَّا السَّفَرُ الْقَصِيرُ، وَهُوَ مَا لاَ يُبَاحُ فِيهِ الْقَصْرُ فَإِنَّ الصَّلاَةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل الأَْوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ وَالْحَسَنِ بْنِ حُيَيٍّ.
وَقَال مَالِكٌ: لاَ يُبَاحُ إِلاَّ فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ؛ لأَِنَّهُ رُخْصَةُ سَفَرٍ فَاخْتَصَّ بِالطَّوِيل كَالْقَصْرِ.
وَاسْتَدَل الأَْوَّلُونَ بِالآْيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَوْل ابْنِ عُمَرَ فِيهَا، وَحَدِيثِهِ الَّذِي قَال فِيهِ: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ (1) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ السَّفَرُ وَإِنَّمَا قَيَّدُوا جَوَازَ النَّفْل. عَلَى الرَّاحِلَةِ بِمَا إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي خَارِجَ الْمِصْرِ مَحَل الْقَصْرِ، أَيْ فِي الْمَحَل الَّذِي يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ قَصْرُ الصَّلاَةِ فِيهِ (2) .
وَأَجَازَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ التَّنَفُّل عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي الْمِصْرِ وَقَال: حَدَّثَنِي فُلاَنٌ - وَسَمَّاهُ - عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكِبَ الْحِمَارَ فِي الْمَدِينَةِ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَكَانَ يُصَلِّي وَهُوَ رَاكِبٌ (3) .
__________
(1) حديث ابن عمر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 488 - ط السلفية)
(2) ابن عابدين 1 / 4960، والزيلعي 1 / 177، وفتح القدير 1 / 330، 331، والمغني 1 / 434، 435 ومغني المحتاج 1 / 42 وكشاف القناع 1 / 302.
(3) حديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب الحمار في المدينة يعود سعد ابن عبادة ". ذكرالعيني في البناية (2 / 578 ط دار الفكر) هذا الحديث وأشار إلى شذوذه بعد أن ذكر أن أبا يوسف رواه.(27/228)
وَأَجَازَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ مَخَافَةَ الْغَلَطِ لِمَا فِي الْمِصْرِ مِنْ كَثْرَةِ اللَّغَطِ (1) .
كَمَا أَجَازَ التَّنَفُّل عَلَى الدَّابَّةِ فِي الْمِصْرِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَأَبِي سَعِيدٍ الإِْصْطَخْرِيِّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الإِْصْطَخْرِيُّ مُحْتَسِبَ بَغْدَادَ يَطُوفُ السِّكَكَ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ (2) .
4 - وَالتَّطَوُّعُ الْجَائِزُ عَلَى الرَّاحِلَةِ يَشْمَل النَّوَافِل الْمُطْلَقَةَ وَالسُّنَنَ الرَّوَاتِبَ وَالْمُعَيَّنَةَ وَالْوِتْرَ وَسُجُودَ التِّلاَوَةِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3))
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ، وَكَانَ يُسَبِّحُ عَلَى بَعِيرِهِ إِلاَّ الْفَرَائِضَ (4) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا يُعْتَبَرُ وَاجِبًا عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ الْفَرَائِضِ كَالْوِتْرِ لاَ يَجُوزُ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِدُونِ عُذْرٍ، وَكَذَلِكَ سَجْدَةُ التِّلاَوَةِ (5) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 330 - 331 والزيلعي مع الشلبي 1 / 177.
(2) الشلبي على الزيلعي 1 / 177، والمجموع شرح المهذب 3 / 203 تحقيق المطيعي.
(3) الدسوقي 1 / 255، وأسنى المطالب 1 / 134، والمغني (1 / 437 ط الرياض) .
(4) المغني / 437.
(5) ابن عابدين 1 / 469.(27/229)
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ يَنْزِل عَنْ دَابَّتِهِ لِسُنَّةِ الْفَجْرِ؛ لأَِنَّهَا آكَدُ مِنْ سَائِرِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ (1) .
وَتَجُوزُ الصَّلاَةُ لِلْمُسَافِرِ عَلَى الْبَعِيرِ وَالْفَرَسِ وَالْبَغْل وَالْحِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الْحَيَوَانُ غَيْرَ مَأْكُول اللَّحْمِ، وَلاَ كَرَاهَةَ هُنَا لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَلأَِنَّهُ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عَلَى حِمَارِهِ النَّفَل (2) . غَيْرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَا يُلاَقِي بَدَنَ الْمُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ وَثِيَابِهِ مِنَ السَّرْجِ، وَالْمَتَاعِ، وَاللِّجَامِ طَاهِرًا. وَهَذَا كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَعَامَّةُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا ذُكِرَ فِي الأَْصْل.
وَعَنْ أَبِي حَفْصٍ الْبُخَارِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيَّ: أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ الْجُلُوسِ أَوْ فِي مَوْضِعِ الرِّكَابَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لاَ تَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ عَلَى السَّرْجِ نَجَاسَةٌ فَسَتَرَهَا لَمْ يَضُرَّ (3) .
5 - وَتَجُوزُ الصَّلاَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ تَطَوُّعًا فِي السَّفَرِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ، كَسَفَرِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.
__________
(1) الزيلعي 1 / 177.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على حماره النفل ". تقدم تخريجه ف3.
(3) البدائع 1 / 109 والمجموع شرح المهذب 3 / 203 تحقيق المطيعي، وشرح منتهى الإرادات 1 / 160، 161، والشرح الصغير 1 / 109.(27/229)
وَلاَ يُبَاحُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ: كَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَالتِّجَارَةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمُحَرَّمَاتِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ؛ لأَِنَّ التَّرَخُّصَ شُرِعَ لِلإِْعَانَةِ عَلَى تَحْصِيل الْمُبَاحِ فَلاَ يُنَاطُ بِالْمَعْصِيَةِ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ: لَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ مُسَافِرٌ، فَأُبِيحَ لَهُ التَّرَخُّصُ كَالْمُطِيعِ (1) .
ب - صَلاَةُ الْفَرِيضَةِ:
6 - الأَْصْل أَنَّ صَلاَةَ الْفَرِيضَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ لِعُذْرٍ، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَكْتُوبَةَ نَزَل فَاسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ (2) .
قَال ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.
وَلأَِنَّ أَدَاءَ الْفَرَائِضِ عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُول لاَ يَجُوزُ.
وَلأَِنَّ شَرْطَ الْفَرِيضَةِ الْمَكْتُوبَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ مُسْتَقِرًّا فِي جَمِيعِهَا،
__________
(1) المغني 2 / 261 - 263 بتصرف.
(2) حديث جابر بن عبد الله: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته نحو المشرق ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 575 - ط السلفية) .(27/230)
فَلاَ تَصِحُّ مِنَ الرَّاكِبِ الْمُخِل بِقِيَامٍ أَوِ اسْتِقْبَالٍ (1) .
7 - وَقَدْ عَدَّدَ الْفُقَهَاءُ الأَْعْذَارَ الَّتِي تُبِيحُ الصَّلاَةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْمَال مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ، أَوْ خَوْفِ الاِنْقِطَاعِ عَنِ الرُّفْقَةِ، أَوِ التَّأَذِّي بِالْمَطَرِ وَالْوَحْل؛ فَفِي مِثْل هَذِهِ الأَْحْوَال تَجُوزُ صَلاَةُ الْفَرِيضَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ بِالإِْيمَاءِ مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ؛ لأَِنَّ عِنْدَ اعْتِرَاضِ هَذِهِ الأَْعْذَارِ عَجْزًا عَنْ تَحْصِيل هَذِهِ الأَْرْكَانِ (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ، بِحَيْثُ لاَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الصَّلاَةِ إِلَى الْقِبْلَةِ، أَوْ عَجَزَ عَنْ بَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ: إِمَّا لِهَرَبٍ مُبَاحٍ مِنْ عَدُوٍّ، أَوْ سَيْلٍ، أَوْ سَبُعٍ، أَوْ حَرِيقٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ إِلاَّ بِالْهَرَبِ، أَوِ الْمُسَابَقَةِ، أَوِ الْتِحَامِ الْحَرْبِ وَالْحَاجَةِ إِلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَالْمُطَارَدَةِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ رَاجِلاً وَرَاكِبًا إِلَى الْقِبْلَةِ إِنْ أَمْكَنَ، أَوْ إِلَى غَيْرِهَا إِنْ لَمْ يُمْكِنْ، وَإِذَا عَجَزَ عَنِ
__________
(1) فتح الباري 2 / 575، والبدائع 108، وابن عابدين 1 / 469 - 470، والدسوقي 1 / 339، والحطاب 1 / 509، ومغني المحتاج 1 / 142، والشرح الصغير 1 / 109.
(2) البدائع 1 / 108، والدسوقي 1 / 229 - 230، ونهاية المحتاج 1 / 48 - 409، وشرح منتهى الإرادات 1 / 273.(27/230)
الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوْمَأَ بِهِمَا وَيَنْحَنِي إِلَى السُّجُودِ أَكْثَرَ مِنِ الرُّكُوعِ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنِ الإِْيمَاءِ سَقَطَ، وَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ، أَوِ الْقُعُودِ، أَوْ غَيْرِهِمَا سَقَطَ، وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَالْكَرِّ وَالْفَرِّ فَعَل ذَلِكَ وَلاَ يُؤَخِّرُ الصَّلاَةَ عَنْ وَقْتِهَا (1) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} (2) .
وَحَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى إِلَى مَضِيقٍ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَالسَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَالْبِلَّةُ مِنْ أَسْفَل مِنْهُمْ فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ثُمَّ تَقَدَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَصَلَّى بِهِمْ يُومِئُ إِيمَاءً يَجْعَل السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (صَلاَةُ الْخَوْفِ، وَاسْتِقْبَال ف 38) .
8 - وَإِذَا كَانَتْ صَلاَةُ الْفَرْضِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ لِعُذْرٍ؛ لأَِنَّ شَرْطَ الْفَرِيضَةِ الْمَكْتُوبَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ مُسْتَقِرًّا فِي جَمِيعِهَا وَمُسْتَوْفِيًا شُرُوطَهَا وَأَرْكَانَهَا، فَإِنَّ مَنْ
__________
(1) المغني (1 / 432 ط الرياض) وانظر شرح منتهى الإرادات 1 / 273.
(2) سورة البقرة / 239.
(3) حديث يعلى بن أمية: " أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق ". أخرجه أحمد (4 / 173 - 174 ط الميمنية) والبيهقي (2 / 7 ط دائرة المعارف العثمانية) وقال البيهقي: في إسناده ضعف.(27/231)
أَمْكَنَهُ صَلاَةُ الْفَرِيضَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ مَعَ الإِْتْيَانِ بِكُل شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا، وَلَوْ بِلاَ عُذْرٍ صَحَّتْ صَلاَتُهُ وَذَلِكَ كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ الرَّاجِحُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - قَال الْحَنَابِلَةُ: وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الرَّاحِلَةُ سَائِرَةً أَمْ وَاقِفَةً، لَكِنِ الشَّافِعِيَّةُ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ فِي نَحْوِ هَوْدَجٍ وَهِيَ وَاقِفَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْقُولَةً. أَمَّا لَوْ كَانَتْ سَائِرَةً فَلاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ سَيْرَهَا مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ بِدَلِيل جَوَازِ الطَّوَافِ عَلَيْهَا. وَلَوْ كَانَ لِلدَّابَّةِ مَنْ يَلْزَمُ لِجَامَهَا وَيُسَيِّرُهَا، بِحَيْثُ لاَ تَخْتَلِفُ الْجِهَةُ جَازَ ذَلِكَ، وَقَال سَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يُجْزِئُ إِيقَاعُ الصَّلاَةِ عَلَى الدَّابَّةِ قَائِمًا وَرَاكِعًا وَسَاجِدًا لِدُخُولِهِ عَلَى الْغَرَرِ (1) .
قِبْلَةُ الْمُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ:
9 - مُصَلِّي النَّافِلَةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ لاَ يَلْزَمُهُ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ، بَل يُصَلِّي حَيْثُمَا تَوَجَّهَتِ الدَّابَّةُ أَوْ صَوْبَ سَفَرِهِ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ، وَتَكُونُ هَذِهِ عِوَضًا عَنِ الْقِبْلَةِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، أَيْ جِهَةَ مَقْصِدِهِ، فَإِذَا أَرَادَ الْفَرِيضَةَ نَزَل فَاسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ (2) .
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 109، والدسوقي 1 / 225، وشرح منتهى الإرادات 1 / 273، ومغني المحتاج 1 / 144.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته ". تقدم فقرة 3.(27/231)
وَالْحِكْمَةُ فِي التَّخْفِيفِ عَلَى الْمُسَافِرِ: أَنَّ النَّاسَ مُحْتَاجُونَ إِلَى الأَْسْفَارِ. فَلَوْ شُرِطَ فِيهَا الاِسْتِقْبَال لأََدَّى إِلَى تَرْكِ أَوْرَادِهِمْ أَوْ مَصَالِحِ مَعَايِشِهِمْ.
10 - غَيْرَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا أَمْكَنَهُ افْتِتَاحُ الصَّلاَةِ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الدَّابَّةُ سَهْلَةً غَيْرَ مَقْطُورَةٍ بِأَنْ كَانَتْ وَاقِفَةً أَوْ سَائِرَةً وَزِمَامُهَا بِيَدِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ عِنْدَ الإِْحْرَامِ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَرَأْيُ ابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةُ ابْنِ الْمُبَارَكِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَافَرَ فَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ اسْتَقْبَل بِنَاقَتِهِ الْقِبْلَةَ فَكَبَّرَ ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ وَجَّهَهُ رِكَابُهُ (1) ؛ وَلأَِنَّهُ أَمْكَنَهُ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي ابْتِدَاءِ الصَّلاَةِ فَلَزِمَهُ ذَلِكَ كَالصَّلاَةِ كُلِّهَا.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُشْتَرَطُ الاِسْتِقْبَال فِي السَّلاَمِ - أَيْضًا - لأَِنَّهُ آخِرُ طَرَفَيِ الصَّلاَةِ فَاشْتُرِطَ فِيهِ ذَلِكَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ -: لاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ يَعْنِي فِي السَّلاَمِ لأَِنَّ الاِفْتِتَاحَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلاَةِ
__________
(1) حديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فأراد أن يتطوع ". أخرجه أبو داود (2 / 21 تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسن إسناده المنذري في مختصره لأبي داود (2 / 59 نشر دار المعرفة) .(27/232)
فَأَشْبَهَ سَائِرَ أَجْزَائِهَا؛ وَلأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَخْلُو مِنْ مَشَقَّةٍ فَسَقَطَ شَرْطُ الاِسْتِقْبَال فِي السَّلاَمِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ وَلاَ يَجِبُ، وَإِنْ لَمْ يَسْهُل اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ بِأَنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ سَائِرَةً وَهِيَ مَقْطُورَةٌ، وَلَمْ يَسْهُل انْحِرَافُهُ عَلَيْهَا أَوْ كَانَتْ جَمُوحًا لاَ يَسْهُل تَحْرِيفُهَا فَلاَ يَجِبُ الاِسْتِقْبَال؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَاخْتِلاَل أَمْرِ السَّيْرِ عَلَيْهِ، فَيُحْرِمُ إِلَى جِهَةِ سَيْرِهِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ عَلَيْهِ الاِسْتِقْبَال مُطْلَقًا سَوَاءٌ سَهُل عَلَيْهِ ذَلِكَ أَمْ لاَ، فَإِنْ تَعَذَّرَ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ (1) .
11 - وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي مَكَان وَاسِعٍ كَمَحْمَلٍ وَاسِعٍ وَهَوْدَجٍ وَيَتَمَكَّنُ مِنَ الصَّلاَةِ إِلَى الْقِبْلَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي صَلاَتِهِ وَيَسْجُدُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ كَرَاكِبِ السَّفِينَةِ، وَقَال أَبُو الْحَسَنِ الآْمِدِيُّ: يُحْتَمَل أَنْ لاَ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَغَيْرِهِ لأَِنَّ الرُّخْصَةَ الْعَامَّةَ تَعُمُّ مَا وُجِدَتْ فِيهِ الْمَشَقَّةُ وَغَيْرُهُ (2) . هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّطَوُّعِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْفَرِيضَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُ الاِسْتِقْبَال لِلْعُذْرِ - فَقَطْ - عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 469، والدسوقي 1 / 225، ومغني المحتاج 1 / 143، وأسنى المطالب 1 / 134، والمغني (1 / 436 ط. الرياض) .
(2) المغني (1 / 435 - 436 ومغني المحتاج 1 / 142، والدسوقي 1 / 22) .(27/232)
كَيْفِيَّةُ الصَّلاَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ:
12 - مَنْ جَازَتْ لَهُ الصَّلاَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَإِنَّهُ يُومِئُ فِي صَلاَتِهِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَيَجْعَل سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ، قَال جَابِرٌ: بَعَثَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ فَجِئْتُ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَالسُّجُودُ أَخْفَضُ مِنَ الرُّكُوعِ (1) .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ يُومِئُ إِيمَاءَ صَلاَةِ اللَّيْل إِلاَّ الْفَرَائِضَ (2) .
قَال ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: مَنْ تَنَفَّل فِي مَحْمَلِهِ فَقِيَامُهُ تَرَبُّعٌ، وَيَرْكَعُ كَذَلِكَ وَيَدَاهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَإِذَا رَفَعَ رَفَعَهُمَا، وَيُومِئُ بِالسُّجُودِ وَقَدْ ثَنَى رِجْلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَوْمَأَ مُتَرَبِّعًا (3) .
وَمَنِ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ رَاكِبًا، ثُمَّ نَزَل فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ وَيَبْنِي عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ صَلاَتِهِ وَيُتِمُّهَا بِالأَْرْضِ رَاكِعًا وَسَاجِدًا،
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ عَلَى قَوْل مَنْ يُجَوِّزُ الإِْيمَاءَ فِي النَّافِلَةِ لِلصَّحِيحِ غَيْرِ الْمُسَافِرِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ صَلاَتَهُ
__________
(1) حديث جابر: " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة ". أخرجه أبو داود (2 / 22 تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في السفر على راحلته ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 489 - ط السلفية) من حديث ابن عمر.
(3) الزيلعي 1 / 176، والحطاب مع المواق 1 / 509، ومغني المحتاج 1 / 143، وكشاف القناع 1 / 304، والمغني (1 / 435 ط. الرياض) .(27/233)
عَلَى دَابَّتِهِ بِالإِْيمَاءِ إِذَا دَخَل الْمَدِينَةَ (1) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَسْتَقْبِل صَلاَتَهُ وَلاَ يَبْنِي عَلَى مَا سَبَقَ؛ لأَِنَّ أَوَّل صَلاَتِهِ بِالإِْيمَاءِ وَآخِرَهَا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ؛ فَلاَ يَجُوزُ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ إِذَا نَزَل بَعْدَ مَا صَلَّى رَكْعَةً اسْتَقْبَل؛ لأَِنَّ مَا قَبْل أَدَاءِ الرَّكْعَةِ مُجَرَّدَ تَحْرِيمَةٍ وَهِيَ شَرْطٌ، فَالشَّرْطُ الْمُنْعَقِدُ لِلضَّعِيفِ كَانَ شَرْطًا لِلْقَوِيِّ، وَأَمَّا إِذَا صَلَّى رَكْعَةً فَقَدْ تَأَكَّدَ فِعْل الضَّعِيفِ فَلاَ يُبْنَى عَلَيْهِ الْقَوِيُّ (2) .
13 - وَإِنْ رَكِبَ مَاشٍ وَهُوَ فِي صَلاَةِ نَفْلٍ أَتَمَّهُ رَاكِبًا، كَمَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَبْنِي؛ لأَِنَّ الرُّكُوبَ عَمَلٌ كَثِيرٌ (3) . وَمَنِ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ خَارِجَ الْمِصْرِ، ثُمَّ دَخَل الْمِصْرَ، أَوْ نَوَى النُّزُول بِبَلَدٍ دَخَلَهُ نَزَل عَنْ دَابَّتِهِ لاِنْقِطَاعِ سَفَرِهِ وَأَتَمَّ صَلاَتَهُ مُسْتَقْبِلاً الْقِبْلَةَ. وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الأَْكْثَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 470، والزيلعي 1 / 177 - 178، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 225، والحطاب 1 / 509، ومغني المحتاج 1 / 144، شرح منتهى الإردات 1 / 160.
(2) الزيلعي 1 / 18، وابن عابدين 1 / 470.
(3) ابن عابدين 1 / 470، والزيلعي 1 / 178، وكشاف القناع 1 / 303.(27/233)
وَقِيل: يُتِمُّ عَلَى الدَّابَّةِ بِإِيمَاءٍ (1) .
وَلَوْ رَكِبَ الْمُسَافِرُ النَّازِل وَهُوَ فِي صَلاَةٍ نَافِلَةٍ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّ حَالَتَهُ إِقَامَةٌ فَيَكُونُ رُكُوبُهُ فِيهَا كَالْعَمَل الْكَثِيرِ مِنَ الْمُقِيمِ، وَقَال مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: يَبْنِي عَلَى صَلاَتِهِ (2) .
__________
(1) الزيلعي 1 / 178، وابن عابدين 1 / 470، ومغني المحتاج 1 / 144، وكشاف القناع 1 / 303.
(2) كشاف القناع 1 / 303، ومغني المحتاج 1 / 144، والزيلعي 1 / 178.(27/234)
الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
1 - الْمَقْصُودُ بِالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدُّعَاءُ لَهُ بِصِيغَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَالتَّعْظِيمُ لأَِمْرِهِ. قَال الْقُرْطُبِيُّ: الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ مِنَ اللَّهِ:
رَحْمَتُهُ، وَرِضْوَانُهُ، وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلاَئِكَةِ، وَمِنَ الْمَلاَئِكَةِ: الدُّعَاءُ لَهُ وَالاِسْتِغْفَارُ، وَمِنَ الأُْمَّةِ: الدُّعَاءُ لَهُ، وَالاِسْتِغْفَارُ، وَالتَّعْظِيمُ لأَِمْرِهِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِلأَْمْرِ بِهَا، قَال تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) قَال ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الآْيَةِ (3) : الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الآْيَةِ: أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَخْبَرَ عِبَادَهُ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ عِنْدَهُ فِي الْمَلأَِ الأَْعْلَى؛ بِأَنَّهُ يُثْنِي عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلاَئِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَنَّ
__________
(1) تفسير القرطبي 14 / 232.
(2) سورة الأحزاب / 56.
(3) تفسير ابن كثير (3 / 506) وجلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام لابن القيم ص 93 وما بعدها.(27/234)
الْمَلاَئِكَةَ تُصَلِّي عَلَيْهِ. ثُمَّ أَمَرَ جَل شَأْنُهُ بِالصَّلاَةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ؛ لِيَجْتَمِعَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ مِنْ أَهْل الْعَالَمَيْنِ: السُّفْلِيِّ وَالْعُلْوِيِّ جَمِيعًا
، وَجَاءَتِ الأَْحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَْمْرِ بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِ، وَكَيْفِيَّةِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ.
فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ: قِيل لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُول اللَّهِ، أَمَّا السَّلاَمُ عَلَيْكَ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَال: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاطِنَ، وَاسْتِحْبَابِهَا فِي مَوَاطِنَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَوَاطِنِ الْوُجُوبِ.
__________
(1) حديث البخاري: " قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك؟ قال: " قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آ (فتح الباري8 / 5532 ط. السلفية) من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه.(27/235)
4 - فَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ سُنَّةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَقَالُوا: تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً لِلأَْمْرِ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) وَقَال الطَّحَاوِيُّ: تَجِبُ كُلَّمَا ذُكِرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَعْلِيمِ التَّشَهُّدِ - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَلْفَاظَ التَّشَهُّدِ: إِذَا قُلْتَ هَذَا، أَوْ فَعَلْتَ، فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُكَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ (2) .
وَقَالُوا: وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَهْل الْمَدِينَةِ، وَأَهْل الْكُوفَةِ، وَجُمْلَةٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ.
أَمَّا الصَّلاَةُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ الأَْوَّل فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ عِنْدَهُمْ، وَبِهِ قَال الْحَنَابِلَةُ (3) فَإِنْ أَتَى بِالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) سورة الأحزاب / 56.
(2) حديث تعليم التشهد: إذا قلت هذا أو فعلت هذا، فقد تمت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد ". أخرجه أبو داود (سنن أبي داود 1 / 593 ط. تركيا) من حديث القاسم بن مخيمرة بلفظ " أخذ علقمة بيدي، فحدثني أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وأن رسول
(3) رد المحتار 1 / 343، فتح القدير 1 / 273، مواهب الجليل 1 / 543، الإنصاف 2 / 76، المغني 1 / 537.(27/235)
عَامِدًا فِي التَّشَهُّدِ الأَْوَّل كُرِهَ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الإِْعَادَةُ. أَوْ سَاهِيًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَتَفْسُدُ صَلاَتُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ تَعَمَّدَ بِإِتْيَانِهَا (1) .
5 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهَا تَجِبُ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ مِنْ كُل صَلاَةٍ، وَبَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ، وَفِي خُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَلاَ تَجِبُ خَارِجَ ذَلِكَ. وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الصَّلاَةَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) فَلَمْ يَكُنْ فَرْضُ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ أَوْلَى مِنَ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ فِي الصَّلاَةِ. وَوَجَدْنَا الدَّلاَلَةَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا وَصَفْنَا؛ مِنْ أَنَّ الصَّلاَةَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضٌ فِي الصَّلاَةِ، لاَ فِي خَارِجِهَا. فَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ؛ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ يَعْنِي فِي الصَّلاَةِ.
فَقَال: تَقُولُونَ: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَآل مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ تُسَلِّمُونَ عَلَيَّ (3)
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) سورة الأحزاب / 56.
(3) حديث أبي هريرة أنه قال: " يا رسول الله، كيف نصلي عليك؟ " أخرجه الشافعي كما في جلاء الأفهام لابن القيم (ص41 - ط دار ابن كثير) ثم ذكر ابن القيم ما يقتضي تضعيف أحد رواته.(27/236)
وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ يَقُول فِي الصَّلاَةِ: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آل إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: فَلَمَّا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُهُمُ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلاَةِ، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُمْ كَيْفَ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلاَةِ، لَمْ يَجُزْ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ نَقُول: التَّشَهُّدُ وَاجِبٌ، وَالصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَالْخَبَرُ فِيهِمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَادَةُ فَرْضِ الْقُرْآنِ.
وَقَال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَعَلَى كُل مُسْلِمٍ - وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفَرَائِضُ - أَنْ يَتَعَلَّمَ التَّشَهُّدَ، وَالصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَتَشَهَّدْ فِيهَا، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُحْسِنُ التَّشَهُّدَ - فَعَلَيْهِ إِعَادَتُهَا. وَإِنْ تَشَهَّدَ وَلَمْ يُصَل عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ صَلَّى عَلَيْهِ وَلَمْ
__________
(1) حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: قد علمنا، أو عرفنا، كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محم(27/236)
يَتَشَهَّدْ، فَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ حَتَّى يَجْمَعَهُمَا جَمِيعًا. وَإِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُهُمَا عَلَى وَجْهِهِمَا أَتَى بِمَا أَحْسَنُ مِنْهُمَا، وَلَمْ يُجْزِهِ إِلاَّ بِأَنْ يَأْتِيَ بِاسْمِ تَشَهُّدٍ، وَصَلاَةٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنْ أَحْسَنَهُمَا فَأَغْفَلَهُمَا، أَوْ عَمَدَ بِتَرْكِهِمَا فَسَدَتْ صَلاَتُهُ، وَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ فِيهِمَا جَمِيعًا.
وَقَدْ قَال بِهَذَا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
فَمِنَ الصَّحَابَةِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ: أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُقَاتِل بْنُ حَيَّانَ. وَمِنْ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعِينَ: إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ فِي الْمَذْهَبِ (1) .
أَمَّا الصَّلاَةُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ الأَْوَّل، فِي الصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّلاَثِيَّةِ، فَهِيَ سُنَّةٌ فِي الْقَوْل الْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَالآْجُرِّيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَلاَ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِتَرْكِهِ وَلَوْ عَمْدًا، وَيُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ إِنْ تَرَكَهُ (2) .
__________
(1) الأم للشافعي 1 / 117، المجموع للنووي 3 / 465، روضة الطالبين 1 / 263، الإنصاف 2 / 163، المغني 1 / 541.
(2) المصادر السابقة، والإنصاف 2 / 76 - 77.(27/237)
الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجَ الصَّلاَةِ:
6 - تُسْتَحَبُّ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجَ الصَّلاَةِ فِي كُل الأَْوْقَاتِ، وَتَتَأَكَّدُ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا: يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتُهَا، وَعِنْدَ الصَّبَاحِ، وَعِنْدَ الْمَسَاءِ، وَعِنْدَ دُخُول الْمَسْجِدِ، وَالْخُرُوجِ مِنْهُ، وَعِنْدَ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَ إِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ، وَعِنْدَ الدُّعَاءِ، وَبَعْدَهُ وَعِنْدَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الْقَوْمِ، وَتَفَرُّقِهِمْ، وَعِنْدَ ذِكْرِ اسْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَ الْفَرَاغِ مِنَ التَّلْبِيَةِ، وَعِنْدَ اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ، وَعِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ، وَعَقِبَ خَتْمِ الْقُرْآنِ، وَعِنْدَ الْهَمِّ وَالشَّدَائِدِ، وَطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَعِنْدَ تَبْلِيغِ الْعِلْمِ إِلَى النَّاسِ، وَعِنْدَ الْوَعْظِ، وَإِلْقَاءِ الدَّرْسِ، وَعِنْدَ خِطْبَةِ الرَّجُل الْمَرْأَةَ فِي النِّكَاحِ.
وَفِي كُل مَوْطِنٍ يُجْتَمَعُ فِيهِ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى (1) .
أَلْفَاظُ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
7 - رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلاَةِ عَلَيْهِ - صِيَغٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا. قَال صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ: إِنَّ أَفْضَل صِيَغِ الصَّلاَةِ
__________
(1) جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام ص: 251، وما بعدها، ابن عابدين 1 / 248، تفسير ابن كثير في تفسير آية الأحزاب {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} الأذكار للنووي 108، وما بعدها.(27/237)
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ يَقُول الْمُصَلِّي عَلَيْهِ: (اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آل إِبْرَاهِيمَ. إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) .
وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: قَدْ عَلِمْنَا - أَوْ عَرَفْنَا - كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَال: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ. إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (1) وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى أَزْوَاجِهِ، وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ. وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى أَزْوَاجِهِ، وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ. إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (2) .
__________
(1) حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا:. . . إلخ ". سبق تخريجه ف2.
(2) حديث: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 169، ط السلفية) ومسلم (1 / 306 ط الحلبي) من حديث أبي حميد الساعدي، واللفظ لمسلم.(27/238)
وَهُنَاكَ صِيَغٌ أُخْرَى. وَأَقَل مَا يُجْزِئُ هُوَ: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ (1) .
الصَّلاَةُ عَلَى سَائِرِ الأَْنْبِيَاءِ:
8 - أَمَّا سَائِرُ الأَْنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ فَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَيُسَلَّمُ. قَال تَعَالَى فِي نُوحٍ: {سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} (2) وَفِي إِبْرَاهِيمَ: {سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (3) وَفِي مُوسَى وَهَارُونَ: {سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} (4) .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صَلُّوا عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُمْ كَمَا بَعَثَنِي (5) . وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ
__________
(1) المجموع 3 / 464، والمصادر السابقة.
(2) سورة الصافات / 79.
(3) سورة الصافات 109 / 110.
(4) سورة الصافات / 120.
(5) حديث: " صلوا على أنبياء الله ورسله، فإن الله بعثهم كما بعثني ". أخرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي بإسناده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لابن إسحاق القاضي ص 18. وفي إسناده عمر بن هارون هو متروك (تقريب التهذي وأخرجه البيهقي في (كتاب الدعوات الكبير ص 121 تحقيق بدر البدر) ، وفي إسناده موسى بن عبيدة المذكور. وأخرجه الخطيب في تاريخه (7 / 380) من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعا، وفي إسناده الحسن بن علي الطوابيقي، قال عنه الخطيب: مجهول.(27/238)
الصَّلاَةَ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ مَشْرُوعَةٌ (1) .
الصَّلاَةُ عَلَى غَيْرِ الأَْنْبِيَاءِ:
9 - أَمَّا الصَّلاَةُ عَلَى غَيْرِ الأَْنْبِيَاءِ؛ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى سَبِيل التَّبَعِيَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي الأَْحَادِيثِ السَّابِقَةِ: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ فَهَذَا جَائِزٌ بِالإِْجْمَاعِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا أَفْرَدَ غَيْرَ الأَْنْبِيَاءِ بِالصَّلاَةِ عَلَيْهِمْ. فَقَال قَائِلُونَ: يَجُوزُ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ} (2) وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} (3) وَقَوْلِهِ: {وَصَل عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (4) .
وَبِخَبَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَال: اللَّهُمَّ صَل عَلَيْهِمْ فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَال: اللَّهُمَّ صَل عَلَى آل أَبِي أَوْفَى (5) .
__________
(1) جلاء الأفهام لابن القيم 348، تفسير ابن كثير، والفتوحات الإلهية، والقرطبي في تفسير آية الأحزاب - الأذكار للنووي 108.
(2) سورة الأحزاب / 43.
(3) سورة البقرة / 157.
(4) سورة التوبة.
(5) حديث عبد الله بن أوفى " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم، فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 169 ط. السلفية) ومسلم (صحيح مسلم 2 / 756 - 757 - ط. الحلبي) واللفظ له.(27/239)
وَقَال الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: لاَ يَجُوزُ إِفْرَادُ غَيْرِ الأَْنْبِيَاءِ بِالصَّلاَةِ؛ لأَِنَّ هَذَا شِعَارٌ لِلأَْنْبِيَاءِ إِذَا ذُكِرُوا، فَلاَ يَلْحَقُ بِهِمْ غَيْرُهُمْ، فَلاَ يُقَال: قَال أَبُو بَكْرٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ قَال: عَلِيٌّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا، كَمَا لاَ يُقَال: مُحَمَّدٌ عَزَّ وَجَل، وَإِنْ كَانَ عَزِيزًا جَلِيلاً؛ لأَِنَّ هَذَا مِنْ شِعَارِ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل (1) .
أَمَّا السَّلاَمُ، فَقَدْ نَقَل ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ - مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - أَنَّهُ فِي مَعْنَى الصَّلاَةِ، فَلاَ يُسْتَعْمَل فِي الْغَائِبِ، وَلاَ يُفْرَدُ بِهِ غَيْرُ الأَْنْبِيَاءِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الأَْحْيَاءُ وَالأَْمْوَاتُ. وَأَمَّا الْحَاضِرُ فَيُخَاطَبُ بِهِ، فَيُقَال: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، وَسَلاَمٌ عَلَيْكَ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ يُدْعَى لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ بِالْمَغْفِرَةِ (2) .
__________
(1) تفسير ابن كثير في تفسير آية الأحزاب، الأذكار للنووي ص 108.
(2) تفسير ابن كثير في تفسير آية {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} .(27/239)
صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
1 - الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْعِيدَيْنِ: أَنَّ كُل قَوْمٍ لَهُمْ يَوْمٌ يَتَجَمَّلُونَ فِيهِ وَيَخْرُجُونَ مِنْ بُيُوتِهِمْ بِزِينَتِهِمْ (1) . فَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: كَانَ لأَِهْل الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَانِ فِي كُل سَنَةٍ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ قَال: كَانَ لَكُمْ يَوْمَانِ تَلْعَبُونَ فِيهِمَا وَقَدْ أَبْدَلَكُمُ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الأَْضْحَى (2) .
حُكْمُ صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ:
2 - صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْقَوْل الصَّحِيحِ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَالْمُرَادُ مِنَ الْوَاجِبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ - وَدَلِيل ذَلِكَ: مُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا مِنْ دُونِ تَرْكِهَا وَلَوْ مَرَّةً، وَأَنَّهُ لاَ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ بِجَمَاعَةٍ - مَا خَلاَ قِيَامِ رَمَضَانَ وَكُسُوفِ الشَّمْسِ وَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ فَإِنَّهَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ،
__________
(1) حجة الله البالغة للدهلوي 2 / 23.
(2) حديث: " كان لكم يومان. . . ". أخرجه النسائي (3 / 179 - 180 ط المكتبة التجارية) .(27/240)
فَلَوْ كَانَتْ سُنَّةً وَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لاَسْتَثْنَاهَا الشَّارِعُ كَمَا اسْتَثْنَى التَّرَاوِيحَ وَصَلاَةَ الْخُسُوفِ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى الْقَوْل بِأَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِلأَْعْرَابِيِّ - وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ لَهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَال لَهُ: هَل عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَال لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ (2) .
قَالُوا: وَلأَِنَّهَا صَلاَةٌ ذَاتُ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ لَمْ يُشْرَعْ لَهَا أَذَانٌ فَلَمْ تَجِبْ بِالشَّرْعِ، كَصَلاَةِ الضُّحَى (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى الْقَوْل بِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (4) ، وَلِمُدَاوَمَةِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِعْلِهَا (5) .
شُرُوطُهَا:
شُرُوطُ الْوُجُوبِ:
3 - شُرُوطُ وُجُوبِ صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ
__________
(1) انظر بدائع الصنائع 1 / 274، 275، والهداية 1 / 60 وتحفة الفقهاء 1 / 283.
(2) حديث الأعرابي: " هل علي غيرهن. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 287 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 41 - ط. مسلم) من حديث طلحة بن عبيد الله.
(3) انظر المجموع للنووي 5 / 3، وجواهر الإكليل شرح مختصر خليل 1 / 101.
(4) سورة الكوثر 2.
(5) المغني لابن قدامة 2 / 304.(27/240)
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ بِعَيْنِهَا شُرُوطُ وُجُوبِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ. فَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا. (1) الإِْمَامُ (2) الْمِصْرُ (3) الْجَمَاعَةُ (4) الْوَقْتُ (5) الذُّكُورَةُ (6) الْحُرِّيَّةُ (7) صِحَّةُ الْبَدَنِ (8) الإِْقَامَةُ.
إِلاَّ الْخُطْبَةَ، فَإِنَّهَا سُنَّةٌ بَعْدَ الصَّلاَةِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ - وَهُوَ يُقَرِّرُ أَدِلَّةَ هَذِهِ الشُّرُوطِ -: أَمَّا الإِْمَامُ فَشَرْطٌ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، وَكَذَا الْمِصْرُ لِمَا روَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: لاَ جُمُعَةَ وَلاَ تَشْرِيقَ وَلاَ فِطْرَ وَلاَ أَضْحَى إِلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ. وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ نَفْسَ الْفِطْرِ وَنَفْسَ الأَْضْحَى وَنَفْسَ التَّشْرِيقِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجَدُ فِي كُل مَوْضِعٍ، بَل الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ الْفِطْرِ وَالأَْضْحَى صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ؛ وَلأَِنَّهَا مَا ثَبَتَتْ بِالتَّوَارُثِ مِنَ الصَّدْرِ الأَْوَّل إِلاَّ فِي الأَْمْصَارِ. وَالْجَمَاعَةُ شَرْطٌ لأَِنَّهَا مَا أُدِّيَتْ إِلاَّ بِجَمَاعَةٍ، وَالْوَقْتُ شَرْطٌ فَإِنَّهَا لاَ تُؤَدَّى إِلاَّ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ وَكَذَا الذُّكُورَةُ وَالْعَقْل وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَصِحَّةُ الْبَدَنِ، وَالإِْقَامَةُ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِهَا كَمَا هِيَ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، وَلأَِنَّ تَخَلُّفَ شَرْطٍ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ يُؤَثِّرُ فِي إِسْقَاطِ الْفَرْضِ فَلأََنْ تُؤَثِّرَ فِي إِسْقَاطِ(27/241)
الْوَاجِبِ أَوْلَى (1) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ - وَصَلاَةُ الْعِيدَيْنِ عِنْدَهُمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ - فَإِنَّمَا شَرَطُوا لِفَرْضِيَّتِهَا: الاِسْتِيطَانَ، وَالْعَدَدَ الْمُشْتَرَطَ لِلْجُمُعَةِ (2) .
وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُمْ مِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ صَلاَةَ الْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ - شَرَطُوا لِذَلِكَ، أَيْ لِتَأْكِيدِ سُنِّيَّتِهَا: تَكَامُل شُرُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ الْمُصَلِّي مُتَلَبِّسًا بِحَجٍّ. فَإِذَا فُقِدَ أَحَدُ الشُّرُوطِ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ الْمَفْقُودُ هُوَ عَدَمُ التَّلَبُّسِ بِالْحَجِّ فَصَلاَةُ الْعِيدِ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الطَّلَبِ، وَإِنْ كَانَ الْمَفْقُودُ هُوَ أَحَدُ شُرُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ، كَالْمَرْأَةِ وَالْمُسَافِرِ، فَهِيَ فِي حَقِّهِمْ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ بِسُنَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ. قَال الصَّفْتِيُّ: وَهِيَ سُنَّةٌ فِي حَقِّ مَنْ يُؤْمَرُ بِالْجُمُعَةِ وُجُوبًا إِلاَّ الْحَاجَّ فَلاَ تُسَنُّ لَهُ وَلاَ تُنْدَبُ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ وَالْمُسَافِرُ فَتُسْتَحَبُّ فِي حَقِّهِمْ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فِي حَقِّ كُل مُكَلَّفٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا لِسُنِّيَّتِهَا شَرْطًا آخَرَ غَيْرَ التَّكْلِيفِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 275، المبسوط 2 / 37، وتحفة الفقهاء 1 / 284.
(2) كشاف القناع 1 / 455.
(3) حاشية الصفتي على الجواهر الزكية: 104.(27/241)
وَقَالُوا بِاشْتِرَاطِ عَدَمِ التَّلَبُّسِ بِالْحَجِّ لأَِدَائِهَا جَمَاعَةً، أَيْ فَالْحَاجُّ تُسَنُّ لَهُ صَلاَةُ الْعِيدِ مُنْفَرِدًا لاَ جَمَاعَةً (1) .
شُرُوطُ الصِّحَّةِ:
4 - كُل مَا يُعْتَبَرُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، فَهُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ أَيْضًا، مَا عَدَا الْخُطْبَةَ فَهِيَ هُنَا لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعِيدَيْنِ وَإِنَّمَا هِيَ سُنَّةٌ.
وَيُسْتَثْنَى - أَيْضًا - شَرْطُ عَدَمِ التَّعَدُّدِ (رَاجِعْ صَلاَةَ الْجُمُعَةِ) فَلاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ لِصَلاَةِ الْعِيدِ، قَال الْحَصْكَفِيُّ: وَتُؤَدَّى بِمِصْرٍ وَاحِدٍ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ اتِّفَاقًا، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: مُقَرِّرًا هَذَا الْكَلاَمَ: وَالْخِلاَفُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْجُمُعَةِ، فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا: (1) الإِْمَامُ (2) وَالْمِصْرُ (3) وَالْجَمَاعَةُ (4) وَالْوَقْتُ.
وَقَدْ مَرَّ أَنَّهَا شُرُوطٌ لِلْوُجُوبِ أَيْضًا (2) .
هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدِ اشْتَرَطُوا الْوَقْتَ وَالْجَمَاعَةَ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِصِحَّةِ صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ إِلاَّ الْوَقْتُ (3) .
أَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي هِيَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِي صِحَّةِ
__________
(1) انظر مغني المحتاج: 1 / 301.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 555.
(3) الدسوقي 1 / 396، وما بعدها، وأسنى المطالب 1 / 279، وما بعدها، وكشاف القناع 1 / 455، 2 / 50.(27/242)
الصَّلَوَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ طَهَارَةٍ وَاسْتِقْبَال قِبْلَةٍ. . . إِلَخْ فَلَيْسَ فِيهَا مِنْ خِلاَفٍ.
وَلِمَعْرِفَتِهَا (ر: صَلاَة) .
الْمَرْأَةُ وَصَلاَةُ الْعِيدَيْنِ:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ خُرُوجِ الشَّابَّاتِ وَذَوَاتِ الْجَمَال لِصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ خَوْفِ الْفِتْنَةِ، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا فِي الْمُقَابِل خُرُوجَ غَيْرِ ذَوَاتِ الْهَيْئَاتِ مِنْهُنَّ وَاشْتِرَاكَهُنَّ مَعَ الرِّجَال فِي الصَّلاَةِ.
وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْرِجُ الْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضِ فِي الْعِيدِ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَكُنَّ يَعْتَزِلْنَ الْمُصَلَّى وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجْنَ فِي ثِيَابٍ لاَ تَلْفِتُ النَّظَرَ دُونَ تَطَيُّبٍ وَلاَ تَبَرُّجٍ (2) .
وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي إِبَاحَةِ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ بَيْنَ كَوْنِ الْمَرْأَةِ شَابَّةً أَوْ عَجُوزًا. أَمَّا الشَّابَّاتُ مِنَ النِّسَاءِ وَذَوَاتُ الْجَمَال مِنْهُنَّ، فَلاَ يُرَخَّصُ لَهُنَّ
__________
(1)) العواتق جمع عاتق، وهي الفتاة التي تجاوزت الحلم، وحديث أم عطية أخرجه البخاري (الفتح 3 / 504 - ط. السلفية) ومسلم (2 / 606 ط. الحلبي) .
(2) المجموع للنووي 5 / 6، 8 والمغني لابن قدامة 2 / 310، 311، وحاشية الصفتي: 104.(27/242)
فِي الْخُرُوجِ إِلَى صَلاَةِ الْعِيدِ وَلاَ غَيْرِهَا كَصَلاَةِ الْجُمُعَةِ (1) وَنَقَل الْكَاسَانِيُّ إِجْمَاعَ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (2) .
وَأَمَّا الْعَجَائِزُ فَلاَ خِلاَفَ أَنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ لِلْعِيدِ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّلَوَاتِ
غَيْرَ أَنَّ الأَْفْضَل عَلَى كُل حَالٍ أَنْ تُصَلِّيَ الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: هَل تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ لِلصَّلاَةِ أَمْ لِتَكْثِيرِ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ (3) ؟ .
وَقْتُ أَدَائِهَا:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ وَقْتَ صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ يَبْتَدِئُ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ بِحَسَبِ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ الْمُجَرَّدَةِ - وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي تَحِل فِيهِ النَّافِلَةُ - وَيَمْتَدُّ وَقْتُهَا إِلَى ابْتِدَاءِ الزَّوَال (4) .
__________
(1) المبسوط للسرخسي 2 / 41، والبدائع للكاساني 1 / 275.
(2) سورة الأحزاب / 33.
(3) انظر بدائع الصنائع 1 / 275، 276، ولعل المقصود من خروج المرأة لصلاة العيد تحقيق كلا الأمرين، فمن كانت طاهرة تصلي مع الجماعة، ومن كانت حائضا تعتزل جانبا وتسمع الموعظة وتكثر سواد المسلمين، وهكذا كان الأمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(4) تحفة الفقهاء 1 / 284، والهداية 1 / 60، والدر المختار 1 / 583، والدسوقي 1 / 396، وكشاف القناع 2 / 50.(27/243)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ وَقْتَهَا مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَزَوَالِهَا، وَدَلِيلُهُمْ عَلَى أَنَّ وَقْتَهَا يَبْدَأُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ أَنَّهَا صَلاَةٌ ذَاتُ سَبَبٍ فَلاَ تُرَاعَى فِيهَا الأَْوْقَاتُ الَّتِي لاَ تَجُوزُ فِيهَا الصَّلاَةُ (1) .
أَمَّا الْوَقْتُ الْمُفَضَّل لَهَا، فَهُوَ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ عَدَمُ تَأْخِيرِهَا عَنْ هَذَا الْوَقْتِ بِالنِّسْبَةِ لِعِيدِ الأَْضْحَى، وَذَلِكَ كَيْ يَفْرُغَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهَا لِذَبْحِ أَضَاحِيِّهِمْ، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا قَلِيلاً عَنْ هَذَا الْوَقْتِ بِالنِّسْبَةِ لِعِيدِ الْفِطْرِ، وَذَلِكَ انْتِظَارًا لِمَنِ انْشَغَل فِي صُبْحِهِ بِإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ.
وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ عِنْدَ سَائِرِ الأَْئِمَّةِ (2) ، وَدَلِيلُهُمْ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ صَلاَتَيِ الْفِطْرِ وَالأَْضْحَى: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ: أَنْ يُقَدِّمَ صَلاَةَ الأَْضْحَى وَيُؤَخِّرَ صَلاَةَ الْفِطْرِ (3) .
__________
(1) انظر نهاية المحتاج للرملي 2 / 276.
(2) راجع الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 583، والدسوقي 1 / 396، والمجموع للنووي 5 / 3، والمغني لابن قدامة 2 / 312.
(3) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى بعض أصحابه: أن يقدم صلاة الأضحى ". أخرجه الشافعي في الأم (1 / 232 نشر دار المعرفة) وضعفه ابن حجر في التلخيص (2 / 83 - ط شركة الطباعة الفنية) .(27/243)
حُكْمُهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا:
لِفَوَاتِ صَلاَةِ الْعِيدِ عَنْ وَقْتِهَا ثَلاَثُ صُوَرٍ:
7 - الصُّورَةُ الأُْولَى: أَنْ تُؤَدَّى صَلاَةُ الْعِيدِ جَمَاعَةً فِي وَقْتِهَا مِنَ الْيَوْمِ الأَْوَّل وَلَكِنَّهَا فَاتَتْ بَعْضَ الأَْفْرَادِ، وَحُكْمُهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّهَا فَاتَتْ إِلَى غَيْرِ قَضَاءٍ، فَلاَ تُقْضَى مَهْمَا كَانَ الْعُذْرُ؛ لأَِنَّهَا صَلاَةٌ خَاصَّةٌ لَمْ تُشْرَعْ إِلاَّ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَبِقُيُودٍ خَاصَّةٍ، فَلاَ بُدَّ مِنْ تَكَامُلِهَا جَمِيعًا، وَمِنْهَا الْوَقْتُ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَقَدْ أَطْلَقُوا الْقَوْل بِمَشْرُوعِيَّةِ قَضَائِهَا - عَلَى الْقَوْل الصَّحِيحِ فِي الْمَذْهَبِ - فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ وَكَيْفَمَا كَانَ: مُنْفَرِدًا أَوْ جَمَاعَةً، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمُ الْمُعْتَمَدِ، وَهُوَ أَنَّ نَوَافِل الصَّلاَةِ كُلَّهَا يُشْرَعُ قَضَاؤُهَا (2) . وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَالُوا: لاَ تُقْضَى صَلاَةُ الْعِيدِ، فَإِنْ أَحَبَّ قَضَاءَهَا فَهُوَ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ صَلاَّهَا أَرْبَعًا، إِمَّا بِسَلاَمٍ وَاحِدٍ، وَإِمَّا بِسَلاَمَيْنِ (3) .
8 - الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لاَ تَكُونَ صَلاَةُ الْعِيدِ
__________
(1) البدائع 1 / 276، والدسوقي 1 / 396، 400.
(2) المجموع: 5 / 27 و 28.
(3) المغني لابن قدامة 2 / 324.(27/244)
قَدْ أُدِّيَتْ جَمَاعَةً فِي وَقْتِهَا مِنَ الْيَوْمِ الأَْوَّل، وَذَلِكَ إِمَّا بِسَبَبِ عُذْرٍ: كَأَنْ غُمَّ عَلَيْهِمُ الْهِلاَل وَشَهِدَ شُهُودٌ عِنْدَ الإِْمَامِ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل بَعْدَ الزَّوَال، وَإِمَّا بِدُونِ عُذْرٍ.
فَفِي حَالَةِ الْعُذْرِ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا إِلَى الْيَوْمِ الثَّانِي سَوَاءٌ كَانَ الْعِيدُ عِيدَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى؛ لأَِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ قَوْمًا شَهِدُوا بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ، فَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى مِنَ الْغَدِ (1) .
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَيُشْرَعُ قَضَاءُ صَلاَةِ الْعِيدِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عِنْدَ تَأَخُّرِ الشَّهَادَةِ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَقَدْ أَطْلَقُوا الْقَوْل بِعَدَمِ قَضَائِهَا فِي مِثْل هَذِهِ الْحَال (2) .
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ لاَ يَعْتَبِرُونَ صَلاَتَهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي قَضَاءً إِذَا تَأَخَّرَتِ الشَّهَادَةُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَهُ إِلَى مَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. بَل لاَ تُقْبَل الشَّهَادَةُ حِينَئِذٍ وَيُعْتَبَرُ الْيَوْمُ الثَّانِي أَوَّل أَيَّامِ الْعِيدِ، فَتَكُونُ الصَّلاَةُ قَدْ أُدِّيَتْ فِي وَقْتِهَا (3) .
__________
(1) حديث: " أن قوما شهدوا برؤية الهلال في آخر يوم من أيام رمضان ". أخرجه أبو داود (1 / 586 - 587 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والدارقطني (2 / 170 ط. دار المحاسن) وحسنه الدارقطني.
(2) انظر بداية المجتهد 1 / 212.
(3) انظر المحلى على المنهاج 1 / 309.(27/244)
9 - الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تُؤَخَّرَ صَلاَةُ الْعِيدِ عَنْ وَقْتِهَا بِدُونِ الْعُذْرِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ. فَيُنْظَرُ حِينَئِذٍ: إِنْ كَانَ الْعِيدُ عِيدَ فِطْرٍ سَقَطَتْ أَصْلاً وَلَمْ تُقْضَ. وَإِنْ كَانَ عِيدَ أَضْحَى جَازَ تَأْخِيرُهَا إِلَى ثَالِثِ أَيَّامِ النَّحْرِ، أَيْ يَصِحُّ قَضَاؤُهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَإِلاَّ فَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ فِي السَّمَاءِ إِلَى أَوَّل الزَّوَال، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَلَكِنْ تَلْحَقُهُ الإِْسَاءَةُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ بِذَلِكَ (1) .
مَكَانُ أَدَائِهَا:
10 - كُل مَكَان طَاهِرٍ، يَصْلُحُ أَنْ تُؤَدَّى فِيهِ صَلاَةُ الْعِيدِ، سَوَاءٌ كَانَ مَسْجِدًا أَوْ عَرْصَةً وَسَطَ الْبَلَدِ أَوْ مَفَازَةً خَارِجَهَا. إِلاَّ أَنَّهُ يُسَنُّ الْخُرُوجُ لَهَا إِلَى الصَّحْرَاءِ أَوْ إِلَى مَفَازَةٍ وَاسِعَةٍ خَارِجَ الْبَلَدِ تَأَسِّيًا بِمَا كَانَ يَفْعَلُهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ الإِْمَامُ غَيْرَهُ فِي الْبَلْدَةِ لِيُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ بِالضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لاَ طَاقَةَ لَهُمْ بِالْخُرُوجِ لَهَا إِلَى الصَّحْرَاءِ (2) .
وَلَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ مِنَ الأَْئِمَّةِ فِي ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوا أَفْضَلِيَّةَ الصَّلاَةِ فِي
__________
(1) درر الحكام في شرح غرر الأحكام 1 / 103، 104، ومجمع الأنهر 1 / 169، والبدائع 1 / 276.
(2) انظر الدر المختار 1 / 581، مع حاشية ابن عابدين عليه. وبدائع الصنائع 1 / 275.(27/245)
الصَّحْرَاءِ بِمَا إِذَا كَانَ مَسْجِدُ الْبَلَدِ ضَيِّقًا.
وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ وَاسِعًا لاَ يَتَزَاحَمُ فِيهِ النَّاسُ، فَالصَّلاَةُ فِيهِ أَفْضَل؛ لأَِنَّ الأَْئِمَّةَ لَمْ يَزَالُوا يُصَلُّونَ صَلاَةَ الْعِيدِ بِمَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ؛ وَلأَِنَّ الْمَسْجِدَ أَشْرَفُ وَأَنْظَفُ. وَنَقَل صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَهُ: إِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ وَاسِعًا فَصَلَّى فِي الصَّحْرَاءِ فَلاَ بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَصَلَّى فِيهِ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى الصَّحْرَاءِ كُرِهَتْ؛ لأَِنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْمَسْجِدَ وَصَلَّى فِي الصَّحْرَاءِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ ضَرَرٌ، وَإِذَا تَرَكَ الصَّحْرَاءَ وَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الضَّيِّقِ تَأَذَّوْا بِالزِّحَامِ، وَرُبَّمَا فَاتَ بَعْضَهُمُ الصَّلاَةُ (1) .
كَيْفِيَّةُ أَدَائِهَا:
أَوَّلاً - الْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ:
11 - صَلاَةُ الْعِيدِ، لَهَا حُكْمُ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ الْمَشْرُوعَةِ؛ فَيَجِبُ وَيُفْرَضُ فِيهَا كُل مَا يَجِبُ وَيُفْرَضُ فِي الصَّلَوَاتِ الأُْخْرَى.
وَيَجِبُ فِيهَا - زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ - مَا يَلِي:
أَوَّلاً: - أَنْ تُؤَدَّى فِي جَمَاعَةٍ وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
ثَانِيًا: - الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا، وَذَلِكَ لِلنَّقْل الْمُسْتَفِيضِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثَالِثًا: أَنْ يُكَبِّرَ الْمُصَلِّي ثَلاَثَ تَكْبِيرَاتٍ
__________
(1) المهذب لأبي إسحاق الشيرازي مع شرحه المجموع للنووي 5 / 4.(27/245)
زَوَائِدَ بَيْنَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَالرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى، وَأَنْ يُكَبِّرَ مِثْلَهَا - أَيْضًا - بَيْنَ تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ.
وَسِيَّانِ (بِالنِّسْبَةِ لأَِدَاءِ الْوَاجِبِ) أَنْ تُؤَدَّى هَذِهِ التَّكْبِيرَاتُ قَبْل الْقِرَاءَةِ أَوْ بَعْدَهَا، مَعَ رَفْعِ الْيَدَيْنِ أَوْ بِدُونِهِمَا، وَمَعَ السُّكُوتِ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ أَوْ الاِشْتِغَال بِتَسْبِيحٍ وَنَحْوِهِ (1) .
أَمَّا الأَْفْضَل فَسَنَتَحَدَّثُ عَنْهُ عِنْدَ الْبَحْثِ فِي كَيْفِيَّتِهَا الْمَسْنُونَةِ.
فَمَنْ أَدْرَكَ الإِْمَامَ بَعْدَ أَنْ كَبَّرَ هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ: فَإِنْ كَانَ لاَ يَزَال فِي الْقِيَامِ كَبَّرَ الْمُؤْتَمُّ لِنَفْسِهِ بِمُجَرَّدِ الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ، وَتَابَعَ الإِْمَامَ. أَمَّا إِذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا فَلْيَرْكَعْ مَعَهُ، وَلْيُكَبِّرْ تَكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ أَثْنَاءَ رُكُوعِهِ بَدَلٌ مِنْ تَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ (2) .
وَهَذِهِ التَّكْبِيرَاتُ الزَّائِدَةُ قَدْ خَالَفَ فِي وُجُوبِهَا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ وَمَكَانِهَا.
فَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: هِيَ سَبْعٌ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى بَيْنَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَبَدْءِ الْقِرَاءَةِ، وَخَمْسٌ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ وَبَدْءِ الْقِرَاءَةِ أَيْضًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا سِتُّ
__________
(1) انظر الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 584، 585، والهداية 1 / 60، والبدائع 1 / 277.
(2) الدر المختار 1 / 584، 585.(27/246)
تَكْبِيرَاتٍ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى عَقِبَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، وَخَمْسٌ فِي الثَّانِيَةِ عَقِبَ الْقِيَامِ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَيْ قَبْل الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَالْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَطْ. وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ (1) .
ثَانِيًا: الْمَنْدُوبُ مِنْ ذَلِكَ:
12 - يُنْدَبُ فِي صَلاَةِ الْعِيدَيْنِ كُل مَا يُنْدَبُ فِي الصَّلَوَاتِ الأُْخْرَى: فِعْلاً كَانَ، أَوْ قِرَاءَةً، وَتَخْتَصُّ صَلاَةُ الْعِيدَيْنِ بِمَنْدُوبَاتٍ أُخْرَى نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً - يُسَنُّ أَنْ يَسْكُتَ بَيْنَ كُل تَكْبِيرَتَيْنِ مِنَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ قَدْرَ ثَلاَثِ تَسْبِيحَاتٍ وَلاَ يُسَنُّ أَنْ يَشْتَغِل بَيْنَهُمَا بِذِكْرٍ أَوْ تَسْبِيحٍ.
ثَانِيًا - يُسَنُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ عِنْدَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ، بِخِلاَفِ تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ فَلاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَهَا.
ثَالِثًا - يُسَنُّ أَنْ يُوَالِيَ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُكَبِّرَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى قَبْل الْقِرَاءَةِ، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَهَا، فَتَكُونُ الْقِرَاءَتَانِ مُتَّصِلَتَيْنِ عَلَى ذَلِكَ.
رَابِعًا - يُسَنُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى سُورَةَ
__________
(1) راجع حاشية الصفتي على الجواهر الزكية: 104، والمغني لابن قدامة 2 / 314، 318.(27/246)
الأَْعْلَى وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ سُورَةَ الْغَاشِيَةِ وَلاَ يَلْتَزِمُهُمَا دَائِمًا كَيْ لاَ يَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ هَجْرُ بَقِيَّةِ سُوَرِ الْقُرْآنِ.
خَامِسًا - يُسَنُّ أَنْ يَخْطُبَ بَعْدَهَا خُطْبَتَيْنِ، لاَ يَخْتَلِفُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فِي وَاجِبَاتِهَا وَسُنَنِهَا عَنْ خُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ. إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْتَتِحَ الأُْولَى مِنْهُمَا بِتِسْعِ تَكْبِيرَاتٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَالثَّانِيَةَ بِسَبْعٍ مِثْلَهَا (1) .
هَذَا وَلاَ يُشْرَعُ لِصَلاَةِ الْعِيدِ أَذَانٌ وَلاَ إِقَامَةٌ، بَل يُنَادَى لَهَا: الصَّلاَةَ جَامِعَةً.
13 - وَلَهَا - أَيْضًا - سُنَنٌ تَتَّصِل بِهَا وَهِيَ قَبْل الصَّلاَةِ أَوْ بَعْدَهَا نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: أَنْ يَطْعَمَ شَيْئًا قَبْل غُدُوِّهِ إِلَى الصَّلاَةِ إِذَا كَانَ الْعِيدُ عِيدَ فِطْرٍ، وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ الْمَطْعُومُ حُلْوًا كَتَمْرٍ وَنَحْوِهِ، لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُل تَمَرَاتٍ (2) .
ثَانِيًا: يُسَنُّ أَنْ يَغْتَسِل وَيَتَطَيَّبَ وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ.
ثَالِثًا: يُسَنُّ الْخُرُوجُ إِلَى الْمُصَلَّى مَاشِيًا، فَإِذَا عَادَ نُدِبَ لَهُ أَنْ يَسِيرَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى
__________
(1) انظر البدائع 1 / 277، والدر المختار 1 / 285، ومجمع الأنهر 1 / 169، والمبسوط 2 / 39.
(2) حديث: " كان لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 446 - ط. السلفية) من حديث أنس.(27/247)
غَيْرَ الَّتِي أَتَى مِنْهَا. وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَعُودَ رَاكِبًا.
ثُمَّ إِنْ كَانَ الْعِيدُ فِطْرًا سُنَّ الْخُرُوجُ إِلَى الْمُصَلَّى بِدُونِ جَهْرٍ بِالتَّكْبِيرِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
رَابِعًا: إِنْ كَانَ أَضْحَى فَيُسَنُّ الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ فِي الطَّرِيقِ إِلَيْهِ.
قَال فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: قِيل: وَفِي الْمُصَلَّى أَيْضًا وَعَلَيْهِ عَمَل النَّاسِ الْيَوْمَ (2) .
وَاتَّفَقَتْ بَقِيَّةُ الأَْئِمَّةِ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ فِي اسْتِحْبَابِ الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى مَاشِيًا وَالْعَوْدِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَأَنْ يَطْعَمَ شَيْئًا يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ قَبْل خُرُوجِهِ إِلَى الصَّلاَةِ، وَأَنْ يَغْتَسِل وَيَتَطَيَّبَ وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ.
أَمَّا التَّكْبِيرُ فِي الطَّرِيقِ إِلَى الْمُصَلَّى فَقَدْ خَالَفَ الْحَنَفِيَّةَ فِي ذَلِكَ كُلٌّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ التَّكْبِيرُ عِنْدَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى وَالْجَهْرُ بِهِ فِي كُلٍّ مِنْ عِيدَيِ الْفِطْرِ وَالأَْضْحَى.
وَأَمَّا التَّكْبِيرُ فِي الْمُصَلَّى: فَقَدْ ذَهَبَتِ الشَّافِعِيَّةُ (فِي الأَْصَحِّ مِنْ أَقْوَالٍ ثَلاَثَةٍ) إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلنَّاسِ الاِسْتِمْرَارُ فِي التَّكْبِيرِ إِلَى أَنْ يُحْرِمَ الإِْمَامُ بِصَلاَةِ الْعِيدِ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - أَيْضًا - إِلَى ذَلِكَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 581.
(2) الدر المختار 1 / 586.
(3) انظر المجموع للنووي 5 / 32(27/247)
اسْتِحْسَانًا. قَال الْعَلاَّمَةُ الدُّسُوقِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: وَأَمَّا التَّكْبِيرُ جَمَاعَةً وَهُمْ جَالِسُونَ فِي الْمُصَلَّى فَهَذَا هُوَ الَّذِي اسْتُحْسِنَ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا (1) .
وَأَمَّا التَّكْبِيرَاتُ الزَّوَائِدُ فِي الصَّلاَةِ: فَقَدْ خَالَفَ الْحَنَفِيَّةَ فِي اسْتِحْبَابِ مُوَالاَتِهَا، وَعَدَمِ فَصْل أَيِّ ذِكْرٍ بَيْنَهَا كُلٌّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ ذَهَبَ هَؤُلاَءِ جَمِيعًا إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْصِل بَيْنَهَا بِذِكْرٍ، وَأَفْضَلُهُ أَنْ يَقُول: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. أَوْ يَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً.
كَمَا خَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الأَْفْضَل عَدَمُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ شَيْءٍ مِنْهَا. كَمَا خَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ، فِي عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ افْتِتَاحُ الْخُطْبَةِ بِهَا. وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَهُمْ أَنْ تُفْتَتَحَ الْخُطْبَةُ بِالتَّكْبِيرِ وَلاَ تَحْدِيدَ لِلْعَدَدِ عِنْدَهُمْ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ سُنَّةَ لَهَا قَبْلِيَّةً وَلاَ بَعْدِيَّةً، وَلاَ تُصَلَّى أَيُّ نَافِلَةٍ قَبْلَهَا وَقَبْل الْفَرَاغِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 320، والمغني لابن قدامة 1 / 310.
(2) انظر جواهر الإكليل شرح مختصر الشيخ خليل 1 / 103.(27/248)
مِنْ خُطْبَتِهَا؛ لأَِنَّ الْوَقْتَ وَقْتُ كَرَاهَةٍ، فَلاَ يُصَلَّى فِيهِ غَيْرُ الْعِيدِ. أَمَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْخُطْبَةِ فَلاَ بَأْسَ بِالصَّلاَةِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ التَّنَفُّل قَبْلَهَا وَلاَ بَعْدَهَا لِمَا عَدَا الإِْمَامَ، سَوَاءٌ صُلِّيَتْ فِي الْمَسْجِدِ أَوِ الْمُصَلَّى (2) . وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: يُكْرَهُ التَّنَفُّل قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا إِلَى الزَّوَال، إِنْ أُدِّيَتْ فِي الْمُصَلَّى وَلاَ يُكْرَهُ إِنْ أُدِّيَتْ فِي الْمَسْجِدِ (3) .
وَلِلْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلٌ آخَرُ فَقَدْ قَالُوا: لاَ يَتَنَفَّل قَبْل الصَّلاَةِ وَلاَ بَعْدَهَا كُلٌّ مِنَ الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ، فِي الْمَكَانِ الَّذِي صُلِّيَتْ فِيهِ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا فَلاَ بَأْسَ (4) .
مُفْسِدَاتُ صَلاَةِ الْعِيدِ:
14 - لِصَلاَةِ الْعِيدِ مُفْسِدَاتٌ مُشْتَرَكَةٌ وَمُفْسِدَاتٌ خَاصَّةٌ.
أَمَّا مُفْسِدَاتُهَا الْمُشْتَرَكَةُ: فَهِيَ مُفْسِدَاتُ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. (رَاجِعْ: صَلاَة)
وَأَمَّا مُفْسِدَاتُهَا الْخَاصَّةُ بِهَا، فَتُلَخَّصُ فِي أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَخْرُجَ وَقْتُهَا أَثْنَاءَ أَدَائِهَا بِأَنْ
__________
(1) تحفة الفقهاء 1 / 294، والمبسوط 2 / 41، والبدائع 1 / 280.
(2) المجموع للنووي 5 / 13.
(3) شرح الدردير على متن خليل 1 / 322.
(4) المغني لابن قدامة 2 / 321، 323.(27/248)
يَدْخُل وَقْتُ الزَّوَال، فَتَفْسُدَ بِذَلِكَ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَيْ يَفْسُدُ وَصْفُهَا وَتَنْقَلِبُ نَفْلاً، اتِّفَاقًا إِنْ كَانَ الزَّوَال قَبْل الْقُعُودِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ، وَعَلَى قَوْل الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ كَانَ بَعْدَهُ (1) .
الثَّانِي: انْفِسَاخُ الْجَمَاعَةِ أَثْنَاءَ أَدَائِهَا.
فَذَلِكَ - أَيْضًا - مِنْ مُفْسِدَاتِ صَلاَةِ الْعِيدِ. وَهَل يُشْتَرَطُ لِفَسَادِهَا أَنْ تُفْسَخَ الْجَمَاعَةُ قَبْل أَنْ تُقَيَّدَ الرَّكْعَةُ الأُْولَى بِالسَّجْدَةِ، أَمْ تَفْسُدُ مُطْلَقًا؟ يَرِدُ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلُهُ فِي مُفْسِدَاتِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ (ر: صَلاَةُ الْجُمُعَةِ) . وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لاِنْفِسَاخِ الْجَمَاعَةِ.
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فَسَادِهَا:
15 - قَال صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: إنْ فَسَدَتْ صَلاَةُ الْعِيدِ بِمَا تَفْسُدُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ مِنَ الْحَدَثِ الْعَمْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، يَسْتَقْبِل الصَّلاَةَ عَلَى شَرَائِطِهَا، وَإِنْ فَسَدَتْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، أَوْ فَاتَتْ عَنْ وَقْتِهَا مَعَ الإِْمَامِ سَقَطَتْ وَلاَ يَقْضِيهَا عِنْدَنَا (2) .
وَسَائِرُ الأَْئِمَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ صَلاَةَ الْعِيدِ إِذَا فَسَدَتْ بِمَا تَفْسُدُ بِهِ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ
__________
(1) ابن عابدين على الدر المختار 1 / 583.
(2) بدائع الصنائع 1 / 279.(27/249)
الأُْخْرَى، تُسْتَأْنَفُ مِنْ جَدِيدٍ.
أَمَّا إِنْ فَسَدَتْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ قَضَائِهَا أَوْ إِعَادَتِهَا، وَقَدْ مَرَّ تَفْصِيل الْبَحْثِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى وَقْتِ صَلاَةِ الْعِيدِ ف 7 وَمَا بَعْدَهَا.
شَعَائِرُ وَآدَابُ الْعِيدِ:
16 - أَمَّا شَعَائِرُهُ فَأَبْرَزُهَا: التَّكْبِيرُ.
وَصِيغَتُهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ (1) .
وَخَالَفَتِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، فَذَهَبُوا إِلَى جَعْل التَّكْبِيرَاتِ الأُْولَى فِي الصِّيغَةِ ثَلاَثًا بَدَل ثِنْتَيْنِ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا التَّكْبِيرَ يُعْتَبَرُ شِعَارًا لِكُلٍّ مِنْ عِيدَيِ الْفِطْرِ وَالأَْضْحَى، أَمَّا مَكَانُ التَّكْبِيرِ وَحُكْمُهُ وَكَيْفِيَّتُهُ فِي عِيدِ الْفِطْرِ فَقَدْ مَرَّ الْحَدِيثُ عَنْهُ ف / 12.
وَأَمَّا حُكْمُهُ وَمَكَانُهُ فِي عِيدِ الأَْضْحَى، فَيَجِبُ التَّكْبِيرُ مُرَّةً عَقِبَ كُل فَرْضٍ أُدِّيَ جَمَاعَةً، أَوْ قُضِيَ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مَتْرُوكًا فِيهَا، مِنْ بَعْدِ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى مَا بَعْدِ عَصْرِ يَوْمٍ الْعِيدِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ (وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ بَعْدَ كُل فَرْضٍ مُطْلَقًا،
__________
(1) راجع الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 587(27/249)
وَلَوْ كَانَ الْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا أَوْ مُسَافِرًا أَوِ امْرَأَةً، مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى مَا بَعْدَ عَصْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (1) .
أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ التَّكْبِيرِ: فَسَائِرُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ سُنَّةٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
وَالْمَالِكِيَّةُ يُشْرَعُ التَّكْبِيرُ عِنْدَهُمْ إِثْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ صَلاَةً تَبْدَأُ مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ (2) .
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِنَوْعِ الصَّلاَةِ الَّتِي يُشْرَعُ بَعْدَهَا التَّكْبِيرُ: فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِي ذَلِكَ الْمَذَاهِبُ:
فَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ التَّكْبِيرُ عَقِبَ كُل الصَّلَوَاتِ فَرْضًا كَانَتْ أَمْ نَافِلَةً عَلَى اخْتِلاَفِهَا لأَِنَّ التَّكْبِيرَ شِعَارُ الْوَقْتِ فَلاَ يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنَ الصَّلاَةِ دُونَ آخَرَ (3) .
وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْفُرُوضِ الْمُؤَدَّاةِ جَمَاعَةً مِنْ صَلاَةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَلاَ يُشْرَعُ عَقِبَ مَا أُدِّيَ فُرَادَى مِنَ الصَّلَوَاتِ (4) .
وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ عَقِبَ
__________
(1) الدر المختار 1 / 587، 588، ومجمع الأنهر 1 / 170، 171.
(2) انظر شرح الدردير 1 / 322.
(3) انظر المحلى على المنهاج 1 / 309.
(4) المغني لابن قدامة 2 / 328.(27/250)
الْفَرَائِضِ الَّتِي تُصَلَّى أَدَاءً، فَلاَ يُشْرَعُ عَقِبَ مَا صُلِّيَ مِنْ ذَلِكَ قَضَاءً مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مَتْرُوكَاتِ الْعِيدِ أَمْ لاَ (1) . ر: تَكْبِير ج 13 ف 7، 14، 15. مِنَ الْمَوْسُوعَةِ
17 - وَأَمَّا آدَابُهُ فَمِنْهَا: الاِغْتِسَال وَيَدْخُل وَقْتُهُ بِنِصْفِ اللَّيْل، وَالتَّطَيُّبُ، وَالاِسْتِيَاكُ، وَلُبْسُ أَحْسَنِ الثِّيَابِ. وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْل الصَّلاَةِ، وَأَدَاءُ فِطْرَتِهِ قَبْل الصَّلاَةِ.
وَمِنْ آدَابِ الْعِيدِ: إِظْهَارُ الْبَشَاشَةِ وَالسُّرُورِ فِيهِ أَمَامَ الأَْهْل وَالأَْقَارِبِ وَالأَْصْدِقَاءِ، وَإِكْثَارُ الصَّدَقَاتِ (2) . قَال فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: وَالتَّهْنِئَةُ بِتَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ لاَ تُنْكَرُ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ الْخِلاَفَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ صَحَّحَ الْقَوْل بِأَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ لاَ يُنْكَرُ، وَاسْتَنَدَ فِي تَصْحِيحِهِ هَذَا إِلَى مَا نَقَلَهُ عَنِ الْمُحَقِّقِ ابْنِ أَمِيرِ الْحَاجِّ مِنْ قَوْلِهِ: بِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ فِي الْجُمْلَةِ. وَقَاسَ عَلَى ذَلِكَ مَا اعْتَادَهُ أَهْل الْبِلاَدِ الشَّامِيَّةِ وَالْمِصْرِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِمْ لِبَعْضٍ: عِيدٌ مُبَارَكٌ (3) .
وَذَكَرَ الشِّهَابُ ابْنُ حَجَرٍ - أَيْضًا - أَنَّ هَذِهِ التَّهْنِئَةَ عَلَى اخْتِلاَفِ صِيَغِهَا مَشْرُوعَةٌ،
__________
(1) شرح الدردير على متن خليل 1 / 322.
(2) الدر المختار 1 / 581، والهداية 1 / 60، وتحفة الفقهاء 1 / 295، ومجمع الأنهر 1 / 167.
(3) انظر الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 1 / 581.(27/250)
وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ الْبَيْهَقِيُّ عَقَدَ لَهُ بَابًا فَقَال: بَابُ مَا رُوِيَ فِي قَوْل النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْعِيدِ: تَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَسَاقَ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَخْبَارٍ وَآثَارٍ ضَعِيفَةٍ لَكِنْ مَجْمُوعُهَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي مِثْل ذَلِكَ، ثُمَّ قَال الشِّهَابُ: وَيُحْتَجُّ لِعُمُومِ التَّهْنِئَةِ بِسَبَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ نِعْمَةٍ، أَوْ يَنْدَفِعُ مِنْ نِقْمَةٍ بِمَشْرُوعِيَّةِ سُجُودِ الشُّكْرِ (1) ، وَبِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ تَوْبَتِهِ لَمَّا تَخَلَّفَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: أَنَّهُ لَمَّا بُشِّرَ بِقَبُول تَوْبَتِهِ مَضَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ إِلَيْهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَهَنَّأَهُ (2) .
كَمَا يُكْرَهُ حَمْل السِّلاَحِ فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَخَافَةَ عَدُوٍّ مَثَلاً؛ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
الصَّلاَةُ عَلَى الْغَائِبِ
انْظُرْ: جَنَائِز
__________
(1) انظر مغني المحتاج 1 / 316، وفتح الباري 2 / 304.
(2) حديث كعب بن مالك في قصة توبته " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 116 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2126 - ط. الحلبي) .
(3) فتح الباري 2 / 455، وحديث النهي عن حمل السلاح في العيد أخرجه ابن ماجه (1 / 417 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس، وضعفه ابن حجر في الفتح (2 / 455 - ط السلفية) .(27/251)
صَلاَةُ الْفَجْرِ
انْظُرْ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَةُ
صَلاَةُ الْفَوَائِتِ
انْظُرْ: قَضَاءُ الْفَوَائِتِ
الصَّلاَةُ فِي السَّفِينَةِ
انْظُرْ: سَفِينَة
الصَّلاَةُ فِي الْكَعْبَةِ
انْظُرْ: كَعْبَة
صَلاَةُ قِيَامِ اللَّيْل
انْظُرْ: قِيَامُ اللَّيْل(27/251)
صَلاَةُ الْكُسُوفِ
التَّعْرِيفُ:
1 - هَذَا الْمُصْطَلَحُ مُرَكَّبٌ فِي لَفْظَيْنِ تَرْكِيبَ إِضَافَةٍ: صَلاَةٍ، وَالْكُسُوفِ. فَالصَّلاَةُ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة) .
أَمَّا الْكُسُوفُ: فَهُوَ ذَهَابُ ضَوْءِ أَحَدِ النَّيِّرَيْنِ (الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ) أَوْ بَعْضِهِ، وَتَغَيُّرُهُ إِلَى سَوَادٍ، يُقَال: كَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَكَذَا خَسَفَتْ، كَمَا يُقَال: كَسَفَ الْقَمَرُ، وَكَذَا خَسَفَ، فَالْكُسُوفُ، وَالْخُسُوفُ، مُتَرَادِفَانِ، وَقِيل: الْكُسُوفُ لِلشَّمْسِ، وَالْخُسُوفُ لِلْقَمَرِ، وَهُوَ الأَْشْهَرُ فِي اللُّغَةِ (1) .
وَصَلاَةُ الْكُسُوفِ: صَلاَةٌ تُؤَدَّى بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، عِنْدَ ظُلْمَةِ أَحَدِ النَّيِّرَيْنِ أَوْ بَعْضِهِمَا (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الصَّلاَةُ لِكُسُوفِ الشَّمْسِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ
__________
(1) لسان العرب وكشاف القناع 2 / 60، أسنى المطالب 1 / 385.
(2) الحطاب 2 / 199، ونهاية المحتاج 2 / 394، وكشاف القناع 2 / 60.(27/252)
عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ.
أَمَّا الصَّلاَةُ لِخُسُوفِ الْقَمَرِ فَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهِيَ حَسَنَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنْدُوبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ الأَْخْبَارُ الصَّحِيحَةُ: كَخَبَرِ الشَّيْخَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ، وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ (1) وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَّهَا لِكُسُوفِ الشَّمْسِ (2) كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَلِكُسُوفِ الْقَمَرِ (3) كَمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِهِ الثِّقَاتِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
أَنَّهُ صَلَّى بِأَهْل الْبَصْرَةِ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ رَكْعَتَيْنِ وَقَال: إِنَّمَا صَلَّيْتُ لأَِنِّي رَأَيْتُ رَسُول
__________
(1) حديث: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله. . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 546 - ط السلفية) ومسلم (2 / 630 - ط الحلبي) من حديث المغيرة بن شعبة واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " أنه صلاها لكسوف الشمس. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 529 - ط السلفية) ومسلم (2 / 618 - ط. الحلبي) من حديث عائشة.
(3) حديث: " أنه صلى لكسوف القمر. . . ". أورده ابن حبان في الثقات (1 / 261 - ط دائرة المعارف العثمانية) دون إسناد، أشار ابن حجر في الفتح (2 / 548 - ط. السلفية) إلى التشكيك بصحته.(27/252)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي (1) . وَالصَّارِفُ عَنِ الْوُجُوبِ:
حَدِيثُ الأَْعْرَابِيِّ الْمَعْرُوفُ: " هَل عَلَيَّ غَيْرُهَا (2) " وَلأَِنَّهَا صَلاَةٌ ذَاتُ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ، لاَ أَذَانَ لَهَا وَلاَ إِقَامَةَ، كَصَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ (3) .
وَقْتُ صَلاَةِ الْكُسُوفِ:
3 - وَوَقْتُهَا مِنْ ظُهُورِ الْكُسُوفِ إِلَى حِينِ زَوَالِهِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ (4) فَجَعَل الاِنْجِلاَءَ غَايَةً لِلصَّلاَةِ؛ وَلأَِنَّهَا شُرِعَتْ رَغْبَةً إِلَى اللَّهِ فِي رَدِّ نِعْمَةِ الضَّوْءِ، فَإِذَا حَصَل ذَلِكَ حَصَل الْمَقْصُودُ مِنَ الصَّلاَةِ (5) .
صَلاَةُ الْكُسُوفِ فِي الأَْوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلاَةُ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
__________
(1) حديث ابن عباس: " أنه صلى بأهل البصرة في خسوف القمر. . . ". أخرجه البيهقي في السنن (2 / 238 - ط دائرة المعارف العثمانية) وفي إسناده ضعف.
(2) حديث الأعرابي: " هل علي غيرها. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 287 ط السلفية) ومسلم (1 / 41 - ط. الحلبي) من حديث طلحة بن عبيد الله.
(3) أسنى المطالب 1 / 285، الأم للشافعي 1 / 242، حاشية ابن عابدين 1 / 656 - 566، فتح القدير 2 / 51، والبدائع 1 / 280، وحاشية الطحطاوي على المراقي 358 ط: بولاق، المغني لابن قدامة 2 / 420، كشاف القناع 2 / 61، حاشية الدسوقي 1 / 401 - 402 مواهب الجليل 2 / 202.
(4) حديث: " إذا رأيتموها. . . ". تقدم فـ2.
(5) المغني 2 / 426، كشاف القناع 2 / 61، مواهب الجليل 2 / 203، بدائع الصنائع 1 / 282، المجموع 5 / 44.(27/253)
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ إِلَى أَنَّهَا لاَ تُصَلَّى فِي الأَْوْقَاتِ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلاَةِ فِيهَا، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَإِنْ صَادَفَ الْكُسُوفَ فِي هَذِهِ الأَْوْقَاتِ لَمْ تُصَل، جُعِل فِي مَكَانِهَا تَسْبِيحًا، وَتَهْلِيلاً، وَاسْتِغْفَارًا، وَقَالُوا: لأَِنَّهُ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الصَّلاَةُ نَافِلَةً فَالتَّنَفُّل فِي هَذِهِ الأَْوْقَاتِ مَكْرُوهٌ وَإِنْ كَانَ لَهَا سَبَبٌ. وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً فَأَدَاءُ الصَّلاَةِ الْوَاجِبَةِ فِيهَا مَكْرُوهٌ أَيْضًا (1) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ -: تُصَلَّى فِي كُل الأَْوْقَاتِ، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُتَقَدِّمٌ أَوْ مُقَارِنٌ، كَالْمَقْضِيَّةِ وَصَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ، وَرَكْعَتَيِ الْوُضُوءِ، وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ (2) .
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهَا إِذَا طَلَعَتْ مَكْسُوفَةً يُصَلَّى حَالاً، وَإِذَا دَخَل الْعَصْرُ مَكْسُوفَةً، أَوْ كُسِفَتْ عِنْدَهُمَا لَمْ يُصَل لَهَا (3) .
فَوَاتُ صَلاَةِ الْكُسُوفِ:
5 - تَفُوتُ صَلاَةُ كُسُوفِ الشَّمْسِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
__________
(1) البدائع 1 / 282، المغني 2 / 428.
(2) شرح روض الطالب 1 / 124، المجموع 5 / 243.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 403.(27/253)
الأَْوَّل: انْجِلاَءِ جَمِيعِهَا، فَإِنِ انْجَلَى الْبَعْضُ فَلَهُ الشُّرُوعُ فِي الصَّلاَةِ لِلْبَاقِي، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْكَسِفْ إِلاَّ ذَلِكَ الْقَدْرُ.
الثَّانِي: بِغُرُوبِهَا كَاسِفَةً.
وَيَفُوتُ خُسُوفُ الْقَمَرِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: الاِنْجِلاَءُ الْكَامِل.
الثَّانِي: طُلُوعِ الشَّمْسِ،
وَلَوْ حَال سَحَابٌ، وَشُكَّ فِي الاِنْجِلاَءِ صَلَّى؛ لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ الْكُسُوفِ. وَلَوْ كَانَا تَحْتَ غَمَامٍ، فَظَنَّ الْكُسُوفَ لَمْ يُصَل حَتَّى يُسْتَيْقَنَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ غَابَ الْقَمَرُ وَهُوَ خَاسِفٌ لَمْ يُصَل (2) . وَإِنْ صَل وَلَمْ تَنْجَل لَمْ تُكَرَّرِ الصَّلاَةُ، لأَِنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْ أَحَدٍ، وَإِنِ انْجَلَتْ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ أَتَمَّهَا؛ لأَِنَّهَا صَلاَةُ أَصْلٍ، غَيْرُ بَدَلٍ عَنْ غَيْرِهَا؛ فَلاَ يَخْرُجُ مِنْهَا بِخُرُوجِ وَقْتِهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ (3) .
سُنَنُ صَلاَةِ الْكُسُوفِ:
6 - يُسَنُّ لِمُرِيدِ صَلاَةِ الْكُسُوفِ:
(1) أَنْ يَغْتَسِل لَهَا؛ لأَِنَّهَا صَلاَةٌ شُرِعَ لَهَا الاِجْتِمَاعُ.
(2) وَأَنْ تُصَلَّى حَيْثُ تُصَلَّى الْجُمُعَةُ؛ لأَِنَّ
__________
(1) المغني 2 / 427، روضة الطالبين 2 / 87، ونهاية المحتاج 2 / 398، 399 أسنى المطالب 1 / 287.
(2) مواهب الجليل 2 / 203.
(3) المصادر السابقة.(27/254)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَّهَا فِي الْمَسْجِدِ.
(3) وَأَنْ يُدْعَى لَهَا: " الصَّلاَةَ جَامِعَةً " لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: " قَال: لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُودِيَ: إِنَّ الصَّلاَةَ جَامِعَةٌ (1) وَلَيْسَ لَهَا أَذَانٌ وَلاَ إِقَامَةٌ اتِّفَاقًا.
(4) وَأَنْ يُكْثِرَ ذِكْرَ اللَّهِ، وَالاِسْتِغْفَارَ، وَالتَّكْبِيرَ وَالصَّدَقَةَ، وَالتَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا اسْتَطَاعَ مِنَ الْقُرَبِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا (2) .
(5) وَأَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاَّهَا فِي جَمَاعَةٍ (3) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يُصَلَّى لِخُسُوفِ الْقَمَرِ وُحْدَانًا: رَكْعَتَيْنِ، رَكْعَتَيْنِ، وَلاَ يُصَلُّونَهَا جَمَاعَةً، لأَِنَّ الصَّلاَةَ جَمَاعَةً لِخُسُوفِ الْقَمَرِ لَمْ تُنْقَل عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّ خُسُوفَهُ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ كُسُوفِ الشَّمْسِ؛ وَلأَِنَّ الأَْصْل أَنَّ غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ لاَ تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ إِلاَّ إِذَا ثَبَتَ
__________
(1) حديث عبد الله بن عمرو: " نودي أن الصلاة جامعة ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 53 - ط. السلفية) ومسلم (2 / 627 - ط. الحلبي) .
(2) حديث: " فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 529 - ط. السلفية) ومسلم (2 / 618 - ط. الحلبي) من حديث عائشة.
(3) المصادر السابقة، والمجموع 5 / 44، وكشاف القناع 2 / 61، وحاشية الدسوقي 1 / 402 - 403.(27/254)
ذَلِكَ بِدَلِيلٍ، وَلاَ دَلِيل فِيهَا (1) .
الْخُطْبَةُ فِيهَا:
7 - قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: لاَ خُطْبَةَ لِصَلاَةِ الْكُسُوفِ، وَذَلِكَ لِخَبَرِ: فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا (2) أَمَرَهُمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالصَّلاَةِ، وَالدُّعَاءِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالصَّدَقَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِخُطْبَةٍ، وَلَوْ كَانَتِ الْخُطْبَةُ مَشْرُوعَةً فِيهَا لأََمَرَهُمْ بِهَا؛ وَلأَِنَّهَا صَلاَةٌ يَفْعَلُهَا الْمُنْفَرِدُ فِي بَيْتِهِ؛ فَلَمْ يُشْرَعْ لَهَا خُطْبَةٌ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ أَنْ يُخْطَبَ لَهَا بَعْدَ الصَّلاَةِ خُطْبَتَانِ، كَخُطْبَتَيِ الْعِيدِ (4) . لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ قَامَ وَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَال: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل، لاَ يُخْسَفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا (5) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 402، البدائع 1 / 282.
(2) حديث: " فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله. . . . . ". تقدم تخريجه فـ6.
(3) بدائع الصنائع 1 / 282، مواهب الجليل 2 / 202، حاشية الدسوقي 1 / 402، المغني 2 / 425، تبيين الحقائق 1 / 229.
(4) المجموع 5 / 52، أسنى المطالب 1 / 286.
(5) حديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الصلاة قام وخطب الناس ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 529 - ط. السلفية) ومسلم (2 / 618 - ط. الحلبي) .(27/255)
8 - وَتُشْرَعُ صَلاَةُ الْكُسُوفِ لِلْمُنْفَرِدِ، وَالْمُسَافِرِ وَالنِّسَاءِ؛ لأَِنَّ عَائِشَةَ، وَأَسْمَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - صَلَّتَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) . وَيُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ غَيْرِ ذَوَاتِ الْهَيْئَاتِ أَنْ يُصَلِّينَ مَعَ الإِْمَامِ، وَأَمَّا اللَّوَاتِي تُخْشَى الْفِتْنَةُ مِنْهُنَّ فَيُصَلِّينَ فِي الْبُيُوتِ مُنْفَرِدَاتٍ. فَإِنِ اجْتَمَعْنَ فَلاَ بَأْسَ، إِلاَّ أَنَّهُنَّ لاَ يَخْطُبْنَ (2) .
إِذْنُ الإِْمَامِ بِصَلاَةِ الْكُسُوفِ:
9 - لاَ يُشْتَرَطُ لإِِقَامَتِهَا إِذْنُ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّهَا نَافِلَةٌ وَلَيْسَ إِذْنُهُ شَرْطًا فِي نَافِلَةٍ، فَإِذَا تَرَكَ الإِْمَامُ صَلاَةَ الْكُسُوفِ فَلِلنَّاسِ أَنْ يُصَلُّوهَا عَلاَنِيَةً إِنْ لَمْ يَخَافُوا فِتْنَةً، وَسِرًّا إِنْ خَافُوهَا، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: لاَ يُقِيمُهَا جَمَاعَةً إِلاَّ الإِْمَامُ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ، لأَِنَّ أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلاَةِ جَمَاعَةً عُرِفَ بِإِقَامَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ يُقِيمُهَا إِلاَّ مَنْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ. فَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا الإِْمَامُ صَلَّى النَّاسُ
__________
(1) حديث: " أن عائشة وأسماء صلتا مع النبي صلى الله عليه وسلم ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 543 - ط السلفية) ومسلم (2 / 624 - ط. الحلبي) من حديث أسماء.
(2) المصادر السابقة، روضة الطالبين 2 / 89، كشاف القناع 2 / 61.
(3) الأم للشافعي 1 / 246، كشاف القناع 2 / 61.(27/255)
حِينَئِذٍ فُرَادَى. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ لِكُل إِمَامِ مَسْجِدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فِي مَسْجِدِهِ بِجَمَاعَةٍ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْمِصْرِ، فَلاَ تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِالسُّلْطَانِ كَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ (1) .
كَيْفِيَّةُ صَلاَةِ الْكُسُوفِ:
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ صَلاَةَ الْكُسُوفِ رَكْعَتَانِ (2) . وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الصَّلاَةِ بِهَا.
وَذَهَبَ الأَْئِمَّةُ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: إِلَى أَنَّهَا رَكْعَتَانِ فِي كُل رَكْعَةٍ قِيَامَانِ، وَقِرَاءَتَانِ، وَرُكُوعَانِ، وَسَجْدَتَانِ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا: بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَْوَّل، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَْوَّل (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 281.
(2) المجموع 5 / 45، كشاف القناع 2 / 62، بدائع الصنائع 1 / 280، بلغة السالك 1 / 189.
(3) أسنى المطالب 1 / 285، المجموع 5 / 45، كشاف القناع 2 / 62، بلغة السالك 1 / 189.
(4) حديث ابن عباس: " كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 540 - ط السلفية) ومسلم (2 / 626 - ط الحلبي) .(27/256)
وَقَالُوا: وَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ رِوَايَاتٌ أُخْرَى، إِلاَّ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ هِيَ أَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ فِي الْبَابِ (1)
. وَالْخِلاَفُ بَيْنَ الأَْئِمَّةِ فِي الْكَمَال لاَ فِي الإِْجْزَاءِ وَالصِّحَّةِ فَيُجْزِئُ فِي أَصْل السُّنَّةِ رَكْعَتَانِ كَسَائِرِ النَّوَافِل عِنْدَ الْجَمِيعِ (2) .
وَأَدْنَى الْكَمَال عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ: أَنْ يُحْرِمَ بِنِيَّةِ صَلاَةِ الْكُسُوفِ، وَيَقْرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، ثُمَّ يَرْكَعَ، ثُمَّ يَرْفَعَ رَأْسَهُ وَيَطْمَئِنَّ، ثُمَّ يَرْكَعَ ثَانِيًا، ثُمَّ يَرْفَعَ وَيَطْمَئِنَّ، ثُمَّ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ فَهَذِهِ رَكْعَةٌ.
ثُمَّ يُصَلِّيَ رَكْعَةً أُخْرَى كَذَلِكَ. فَهِيَ رَكْعَتَانِ: فِي كُل رَكْعَةٍ قِيَامَانِ، وَرُكُوعَانِ، وَسَجْدَتَانِ. وَبَاقِي الصَّلاَةِ مِنْ قِرَاءَةٍ، وَتَشَهُّدٍ، وَطُمَأْنِينَةٍ كَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ.
وَأَعْلَى الْكَمَال: أَنْ يُحْرِمَ، وَيَسْتَفْتِحَ، وَيَسْتَعِيذَ، وَيَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ، سُورَةَ الْبَقَرَةِ، أَوْ قَدْرَهَا فِي الطُّول، ثُمَّ يَرْكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً فَيُسَبِّحَ قَدْرَ مِائَةِ آيَةٍ، ثُمَّ يَرْفَعَ مِنْ رُكُوعِهِ، فَيُسَبِّحَ، وَيَحْمَدَ فِي اعْتِدَالِهِ. ثُمَّ يَقْرَأَ
__________
(1) المصادر السابقة، وروضة الطالبين 2 / 83، حاشية الجمل 2 / 109، المغني 2 / 422، مواهب الجليل 2 / 201.
(2) كشاف القناع 2 / 62، أسنى المطالب 1 / 285، وحاشية الجمل 2 / 106.(27/256)
الْفَاتِحَةَ، وَسُورَةً دُونَ الْقِرَاءَةِ الأُْولَى: آل عِمْرَانَ، أَوْ قَدْرَهَا، ثُمَّ يَرْكَعَ فَيُطِيل الرُّكُوعَ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَْوَّل، ثُمَّ يَرْفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ، فَيُسَبِّحَ، وَيَحْمَدَ، وَلاَ يُطِيل الاِعْتِدَال، ثُمَّ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، وَلاَ يُطِيل الْجُلُوسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. ثُمَّ يَقُومَ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَيَفْعَل مِثْل ذَلِكَ الْمَذْكُورِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى مِنَ الرُّكُوعَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، لَكِنْ يَكُونُ دُونَ الأَْوَّل فِي الطُّول فِي كُل مَا يَفْعَل ثُمَّ يَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهَا رَكْعَتَانِ، فِي كُل رَكْعَةٍ قِيَامٌ وَاحِدٌ، وَرُكُوعٌ وَاحِدٌ وَسَجْدَتَانِ كَسَائِرِ النَّوَافِل (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، قَال: خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَسْجِدِ وَثَابَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ. إِلَخْ " وَمُطْلَقُ الصَّلاَةِ تَنْصَرِفُ إِلَى الصَّلاَةِ الْمَعْهُودَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلُّونَ (3) .
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 286، حاشية الجمل 2 / 108، كشاف القناع 2 / 62، المغني 2 / 422، بلغة السالك 1 / 190، مواهب الجليل 2 / 201، بدائع الصنائع 1 / 281.
(2) بدائع الصنائع 1 / 281.
(3) بدائع الصنائع 1 / 281، وتبيين الحقائق 1 / 228 وحديث أبي بكرة: " خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 547 - ط السلفية) والرواية الثانية أخرجها النسائي (3 / 153 - ط المكتبة التجارية) .(27/257)
الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ وَالإِْسْرَارُ بِهَا:
11 - يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ؛ لأَِنَّهَا صَلاَةٌ لَيْلِيَّةٌ وَلِخَبَرِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهَرَ فِي صَلاَةِ الْخُسُوفِ (1)
وَلاَ يَجْهَرُ فِي صَلاَةِ كُسُوفِ الشَّمْسِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلاَةَ الْكُسُوفِ، فَلَمْ نَسْمَعْ لَهُ صَوْتًا (2) .
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ. وَقَال أَحْمَدُ، وَأَبُو يُوسُفَ: يَجْهَرُ بِهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ. وَقَالُوا: قَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَبِحَضْرَتِهِ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَم. وَرَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلَّى صَلاَةَ الْكُسُوفِ، وَجَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ وَلأَِنَّهَا نَافِلَةٌ
__________
(1) حديث عائشة " إن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 549 - ط السلفية) ومسلم (2 / 620 - ط الحلبي) .
(2) حديث ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخسوف. . ". أخرجه أحمد (1 / 293 ط الميمنية) والبيهقي (3 / 335 - ط. دائرة المعارف العثمانية) واللفظ للبيهقي، وأشار ابن حجر إلى تضعيفه في التلخيص (2 / 92 - ط شركة الطباعة الفنية) .(27/257)
شُرِعَتْ لَهَا الْجَمَاعَةُ، فَكَانَ مِنْ سُنَنِهَا الْجَهْرُ كَصَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ، وَالْعِيدَيْنِ (1) .
اجْتِمَاعُ الْكُسُوفِ بِغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ:
12 - إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْكُسُوفِ أَوِ الْخُسُوفِ غَيْرُهُ مِنَ الصَّلاَةِ: كَالْجُمُعَةِ، أَوِ الْعِيدِ، أَوْ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ، أَوِ الْوِتْرِ، وَلَمْ يُؤْمَنْ مِنَ الْفَوَاتِ، قُدِّمَ الأَْخْوَفُ فَوْتًا ثُمَّ الآْكَدُ، فَتُقَدَّمُ الْفَرِيضَةُ، ثُمَّ الْجِنَازَةُ، ثُمَّ الْعِيدُ، ثُمَّ الْكُسُوفُ. وَلَوِ اجْتَمَعَ وِتْرٌ وَخُسُوفٌ قُدِّمَ الْخُسُوفُ؛ لأَِنَّ صَلاَتَهُ آكَدُ حِينَئِذٍ لِخَوْفِ فَوْتِهَا، وَإِنْ أُمِنَ مِنَ الْفَوَاتِ، تُقَدَّمُ الْجِنَازَةُ ثُمَّ الْكُسُوفُ أَوِ الْخُسُوفُ، ثُمَّ الْفَرِيضَةُ (2) .
الصَّلاَةُ لِغَيْرِ الْكُسُوفِ مِنَ الآْيَاتِ:
13 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: تُسْتَحَبُّ الصَّلاَةُ فِي كُل فَزَعٍ: كَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ، وَالزَّلْزَلَةِ، وَالظُّلْمَةِ، وَالْمَطَرِ الدَّائِمِ لِكَوْنِهَا مِنَ الأَْفْزَاعِ، وَالأَْهْوَال. وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - صَلَّى لِزَلْزَلَةٍ بِالْبَصْرَةِ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يُصَلَّى لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ الزَّلْزَلَةُ الدَّائِمَةُ، فَيُصَلَّى لَهَا كَصَلاَةِ الْكُسُوفِ؛ لِفِعْل ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) أسنى المطالب 1 / 287، المغني 2 / 427، مواهب الجليل 2 / 204.
(3) البدائع 1 / 282.(27/258)
- أَمَّا غَيْرُهَا فَلَمْ يُنْقَل عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الصَّلاَةُ لَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يُصَلَّى لِكُل آيَةٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُصَلَّى لِغَيْرِ الْكُسُوفَيْنِ صَلاَةُ جَمَاعَةٍ، بَل يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلَّى فِي بَيْتِهِ، وَأَنْ يَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ عِنْدَ رُؤْيَةِ هَذِهِ الآْيَاتِ، وَقَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لاَ آمُرُ بِصَلاَةِ جَمَاعَةٍ فِي زَلْزَلَةٍ، وَلاَ ظُلْمَةٍ، وَلاَ لِصَوَاعِقَ، وَلاَ رِيحٍ، وَلاَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآْيَاتِ، وَآمُرُ بِالصَّلاَةِ مُنْفَرِدِينَ، كَمَا يُصَلُّونَ مُنْفَرِدِينَ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُصَلَّى لِهَذِهِ الآْيَاتِ مُطْلَقًا (3) .
__________
(1) كشاف القناع 2 / 65 - 66، المغني 2 / 429.
(2) الأم للشافعي 1 / 246، أسنى المطالب 1 / 288.
(3) مواهب الجليل 2 / 200.(27/258)
صَلاَةُ الْمَرِيضِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمَرِيضُ لُغَةً: مِنَ الْمَرَضِ، وَالْمَرْضِ - بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِهَا - فَسَادُ الْمِزَاجِ (1) .
وَالْمَرَضُ اصْطِلاَحًا: مَا يَعْرِضُ لِلْبَدَنِ، فَيُخْرِجُهُ عَنْ الاِعْتِدَال الْخَاصِّ (2) ، وَالْمَرِيضُ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
صَلاَةُ أَهْل الأَْعْذَارِ:
2 - أَهْل الأَْعْذَارِ: هُمُ الْخَائِفُ، وَالْعُرْيَانُ، وَالْغَرِيقُ، وَالسَّجِينُ، وَالْمُسَافِرُ، وَالْمَرِيضُ وَغَيْرُهُمْ، وَبَعْضُ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ أُفْرِدَتْ لَهُ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ، وَبَعْضُهَا تَدْخُل أَحْكَامُهُ فِي صَلاَةِ الْمَرِيضِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ صَلاَةِ التَّطَوُّعِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ (3) ؛ لأَِنَّ
__________
(1) لسان العرب.
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) المهذب للشيرازي في فقه الشافعي 1 / 77 ط. دار المعرفة - بيروت ط. 2 / 1379 هـ، الهداية شرح بداية المبتدئ 1 / 77 - 78، الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك للدردير 1 / 488 - 489، ط. الحلبي، شرح منتهى الإرادات 1 / 270، تصوير دار الفكر بيروت.(27/259)
النَّوَافِل تَكْثُرُ، فَلَوْ وَجَبَ فِيهَا الْقِيَامُ مَثَلاً شَقَّ ذَلِكَ؛ وَانْقَطَعَتِ النَّوَافِل، وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الْقِيَامَ أَفْضَل (1) .
أَمَّا صَلاَةُ الْفَرْضِ فَحُكْمُهَا التَّكْلِيفِيُّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ نَوْعِ الْمَرَضِ وَتَأْثِيرِهِ عَلَى الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال فِيهَا، وَهِيَ تَشْمَل الْفَرْضَ الْعَيْنِيَّ وَالْكِفَائِيَّ، كَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ، وَصَلاَةِ الْعِيدِ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَهَا، وَتَشْمَل الْوَاجِبَ بِالنَّذْرِ عَلَى مَنْ نَذَرَ الْقِيَامَ فِيهِ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ لاَ يُطِيقُ الْقِيَامَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا (2) .
ضَابِطُ الْمَرَضِ الَّذِي يُعْتَبَرُ عُذْرًا فِي الصَّلاَةِ:
4 - إِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمَرِيضِ كُل الْقِيَامِ، أَوْ تَعَسَّرَ الْقِيَامُ كُلُّهُ، بِوُجُودِ أَلَمٍ شَدِيدٍ أَوْ خَوْفِ زِيَادَةِ الْمَرَضِ أَوْ بُطْئِهِ - يُصَلِّي قَاعِدًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ. وَالأَْلَمُ الشَّدِيدُ كَدَوَرَانِ رَأْسٍ، أَوْ وَجَعِ ضِرْسٍ، أَوْ شَقِيقَةٍ أَوْ رَمَدٍ. وَيَخْرُجُ بِهِ
__________
(1) المهذب للشيرازي في فقه الشافعي 1 / 77 ط. دار المعرفة بيروت ط. 2 شرح منتهى الإرادات 1 / 270.
(2) الشرح الصغير 1 / 488 - 489، المغني لابن قدامة 2 / 143 ط. الرياض حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح 234 ط. خالد بن الوليد - دمشق - والمهذب 1 / 77.(27/259)
مَا لَوْ لَحِقَ الْمُصَلِّيَ نَوْعٌ مِنَ الْمَشَقَّةِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الْقِيَامِ.
وَمِثْل الأَْلَمِ الشَّدِيدِ خَوْفُ لُحُوقِ الضَّرَرِ مِنْ عَدُوٍّ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ لَوْ صَلَّى قَائِمًا. وَكَذَلِكَ لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ بِتَجْرِبَةٍ سَابِقَةٍ، أَوْ إِخْبَارِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ أَنَّهُ لَوْ قَامَ زَادَ سَلَسُ بَوْلِهِ، أَوْ سَال جُرْحُهُ، أَوْ أَبْطَأَ بُرْؤُهُ، فَإِنَّهُ يَتْرُكُ الْقِيَامَ وَيُصَلِّي قَاعِدًا.
وَإِذَا تَعَذَّرَ كُل الْقِيَامِ فَهَذَا الْقَدْرُ الْحَقِيقِيُّ، وَمَا سِوَاهُ فَهُوَ حُكْمِيٌّ (1) .
صُوَرُ الْعَجْزِ وَالْمَشَقَّةِ:
عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ:
5 - الْقِيَامُ رُكْنٌ فِي الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ (2) لِمَا وَرَدَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - أَنَّهُ قَال -: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَال: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِكَ (3) . فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ صَلَّى قَاعِدًا؛ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ؛ وَلأَِنَّ الطَّاعَةَ بِحَسَبِ
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 191، والشرح الصغير 1 / 488، 489، وشرح منتهى الإرادات 20 والمهذب 1 / 108، وحاشية الطحطاوي 234.
(2) المهذب 1 / 277، الهداية 1 / 77، شرح منتهى الإرادات 1 / 270 - 271، الشرح الصغير 1 / 488 - 489.
(3) حديث عمران بن حصين: " كانت بي بواسير. . . ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 587 - ط - السلفية) .(27/260)
الطَّاقَةِ. فَإِنْ صَلَّى مَعَ الإِْمَامِ قَائِمًا بَعْضَ الصَّلاَةِ، وَفَتَرَ فِي بَعْضِهَا فَصَلَّى جَالِسًا صَحَّتْ صَلاَتُهُ (1) .
وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ ثُمَّ بَرِئَ بَنَى عَلَى صَلاَتِهِ قَائِمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ (2) ، وَجَازَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (3) أَنْ يَقُومَ بِبَعْضِ الصَّلاَةِ ثُمَّ يُصَلِّيَ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ ثُمَّ يَرْجِعَ فَيَقُومَ بِبَعْضِهَا الآْخَرِ، وَكَذَلِكَ الْجُلُوسُ إِنْ تَقَوَّسَ ظَهْرُهُ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ رَاكِعٌ، رَفَعَ رَأْسَهُ فِي مَوْضِعِ الْقِيَامِ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ (4) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (انْحِنَاءٌ) .
عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ لِوُجُودِ عِلَّةٍ بِالْعَيْنِ:
6 - إِنْ كَانَ بِعَيْنِ الْمَرِيضِ وَجَعٌ، بِحَيْثُ لَوْ قَعَدَ أَوْ سَجَدَ زَادَ أَلَمُ عَيْنِهِ فَأَمَرَهُ الطَّبِيبُ الْمُسْلِمُ الثِّقَةُ بِالاِسْتِلْقَاءِ أَيَّامًا، وَنَهَاهُ عَنِ الْقُعُودِ وَالسُّجُودِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ فَقِيل لَهُ: إِنْ صَلَّيْتَ مُسْتَلْقِيًا أَمْكَنَ مُدَاوَاتُكَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الأَْوَّل: عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الْقِيَامِ؛ لأَِنَّهُ يَخَافُ الضَّرَرَ مِنَ الْقِيَامِ فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ فَيُجْزِئُهُ أَنْ يَسْتَلْقِيَ وَيُصَلِّيَ بِالإِْيمَاءِ
__________
(1) المهذب 1 / 108، الهداية 1 / 69، 78، الشرح الصغير 1 / 489، شرح منتهى الإرادات 1 / 272.
(2) الهداية 1 / 78، وشرح منتهى الإرادات 1 / 272.
(3) الشرح الصغير 1 / 489.
(4) المهذب 1 / 108، المغني 2 / 144.(27/260)
لأَِنَّ حُرْمَةَ الأَْعْضَاءِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ (1) .
الثَّانِي: لاَ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الْقِيَامِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا وَقَعَ فِي عَيْنَيْهِ الْمَاءُ حَمَل إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ الأَْطِبَّاءَ فَقِيل لَهُ: إِنَّكَ تَمْكُثُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لاَ تُصَلِّي إِلاَّ مُسْتَلْقِيًا فَسَأَل عَائِشَةَ، وَأُمَّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَنَهَتَاهُ (2) .
عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي التَّكْبِيرِ عِنْدَ الْقِيَامِ أَوْ غَيْرِهِ:
7 - يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ؛ لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ (3) فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُهُمَا، أَوْ أَمْكَنَهُ رَفْعُ إِحْدَاهُمَا، أَوْ رَفَعَهُمَا إِلَى مَا دُونَ الْمَنْكِبِ رَفَعَ مَا أَمْكَنَهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (4) .
__________
(1) المهذب 1 / 108، الشرح الصغير 1 / 490، حاشية الطحطاوي 235، شرح المنتهى 1 / 272.
(2) المهذب 1 / 108.
(3) حديث ابن عمر: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 219 ط. السلفية) .
(4) حديث: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ". أخرجه البخاري (الفتح 13 / 251 - ط. السلفية) ومسلم (2 / 975 ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(27/261)
فَإِنْ كَانَ بِهِ عِلَّةٌ إِذَا رَفَعَ الْيَدَ جَاوَزَ الْمَنْكِبَ رَفَعَ؛ لأَِنَّهُ يَأْتِي بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَزِيَادَةٍ هُوَ مَغْلُوبٌ عَلَيْهَا (1) .
وَيَجُوزُ لِلْمَرِيضِ غَيْرِ الْقَادِرِ عَلَى أَدَاءِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ الاِتِّكَاءُ عَلَى شَيْءٍ، وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى مُصْطَلَحِ: (اتِّكَاء، اسْتِنَاد) .
عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الرُّكُوعِ:
8 - الرُّكُوعُ فِي الصَّلاَةِ رُكْنٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (2) وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرُّكُوعُ أَوْمَأَ إِلَيْهِ، وَقَرَّبَ وَجْهَهُ إِلَى الأَْرْضِ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، وَيَجْعَل الإِْيمَاءَ لِلسُّجُودِ أَخْفَضَ مِنْ إِيمَاءِ الرُّكُوعِ، لَكِنَ الْخِلاَفُ فِي كَيْفِيَّةِ أَدَاءِ ذَلِكَ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الرُّكُوعِ دُونَ الْقِيَامِ (3) .
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الأَْوَّل: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ (4) أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْقِيَامِ دُونَ الرُّكُوعِ يُومِئُ مِنَ الْقِيَامِ، لأَِنَّ الرَّاكِعَ كَالْقَائِمِ فِي نَصْبِ رِجْلَيْهِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (5) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) المهذب 1 / 78.
(2) سورة الحج / 77.
(3) المهذب 1 / 81، الهداية الشرح الصغير 1 / 493، المنتهى 1 / 272.
(4) المهذب 1 / 81، الهداية 1 / 77، الشرح الصغير 1 / 493، والمنتهى 1 / 272.
(5) سورة البقرة / 238.(27/261)
لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَل قَائِمًا (1) وَلأَِنَّهُ رُكْنٌ قَدَرَ عَلَيْهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ فَرْقٌ وَاضِحٌ بَيْنَ الإِْيمَاءَيْنِ إِذَا عَجَزَ عَنِ السُّجُودِ أَيْضًا.
الثَّانِي: عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْقِيَامَ يَسْقُطُ عَنِ الْمَرِيضِ حَال الرُّكُوعِ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الرُّكُوعِ فَيُصَلِّي قَاعِدًا يُومِئُ إِيمَاءً؛ لأَِنَّ رُكْنِيَّةَ الْقِيَامِ لِلتَّوَصُّل بِهِ إِلَى السَّجْدَةِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ، فَإِذَا كَانَ لاَ يَتَعَقَّبُهُ السُّجُودُ لاَ يَكُونُ رُكْنًا فَيَتَخَيَّرُ، وَالأَْفْضَل عِنْدَهُمْ هُوَ الإِْيمَاءُ قَاعِدًا؛ لأَِنَّهُ أَشْبَهُ بِالسُّجُودِ (2) .
عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى السُّجُودِ:
9 - السُّجُودُ رُكْنٌ فِي الصَّلاَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} ، وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى السُّجُودِ وَالْجُلُوسِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الأَْوَّل: يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْقِيَامِ فَقَطْ دُونَ السُّجُودِ وَالْجُلُوسِ يُومِئُ لَهُمَا مِنَ الْقِيَامِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَضْطَجِعَ وَيُومِئَ لَهُمَا مِنَ اضْطِجَاعِهِ، فَإِنِ اضْطَجَعَ تَبْطُل الصَّلاَةُ عِنْدَهُمْ (3) .
الثَّانِي: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْقَادِرَ
__________
(1) حديث عمران بن حصين تقدم ف 5.
(2) الهداية 1 / 77 الطحطاوي 235.
(3) المهذب 1 / 108، الشرح الصغير 1 / 493.(27/262)
عَلَى الْقِيَامِ فَقَطْ دُونَ السُّجُودِ وَالْجُلُوسِ يُومِئُ لَهُمَا وَهُوَ قَائِمٌ؛ لأَِنَّ السَّاجِدَ عِنْدَهُمْ كَالْجَالِسِ فِي جَمْعِ رِجْلَيْهِ عَلَى أَنْ يَحْصُل فَرْقٌ بَيْنَ الإِْيمَاءَيْنِ (1) .
عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى وَضْعِ الْجَبْهَةِ وَالأَْنْفِ:
10 - السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ وَاجِبٌ (2) ، حَيْثُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ أَمْكَنَ أَنْفَهُ وَجَبْهَتَهُ مِنَ الأَْرْضِ (3) وَإِنْ سَجَدَ عَلَى مِخَدَّةٍ أَجْزَأَهُ؛ لأَِنَّ أُمَّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سَجَدَتْ عَلَى مِخَدَّةٍ لِرَمَدٍ بِهَا بِلاَ رَفْعٍ، وَاحْتُجَّ بِفِعْل ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَغَيْرِهِمَا (4) .
فَإِنْ رَفَعَ شَيْئًا كَالْوِسَادَةِ أَوِ الْخَشَبَةِ أَوِ الْحَجَرِ إِلَى جَبْهَتِهِ فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ؛ لاِنْعِدَامِ السُّجُودِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَسْجُدَ عَلَى الأَْرْضِ وَإِلاَّ فَأَوْمِئْ إِيمَاءً، وَاجْعَل سُجُودَكَ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ
__________
(1) المنتهى 1 / 272، الهداية 1 / 77، الطحطاوي 235، العدة شرح العمدة ص 100.
(2) المهذب 1 / 83، الشرح الصغير 1 / 493، الهداية 1 / 77، شرح المنتهى 1 / 271.
(3) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض ". أخرجه الترمذي (2 / 59 - ط. الحلبي) من حديث أبي حميد الساعدي وفي إسناده راو متكلم فيه، كما في الميزان للذهبي (3 / 365 - ط. الحلبي) .
(4) المهذب 1 / 108، شرح المنتهى 1 / 271، الهداية 1 / 77، الشرح الصغير 1 / 493.(27/262)
بِرَأْسِكَ (1) فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ وَهُوَ يَخْفِضُ رَأْسَهُ أَجْزَأَهُ؛ لِوُجُودِ الإِْيمَاءِ، وَإِنْ وَضَعَ ذَلِكَ عَلَى جَبْهَتِهِ لاَ يُجْزِئُهُ (2) .
وَيُكْرَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ وَيُجْزِئُهُ عِنْدَ آخَرِينَ نَصًّا؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِمَا أَمْكَنَهُ مِنْهُ أَشْبَهَ الإِْيمَاءَ (3) .
وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْمُصَلِّي تَمْكِينَ جَبْهَتِهِ مِنَ الأَْرْضِ لِعِلَّةٍ بِهَا، اقْتَصَرَ عَلَى الأَْنْفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ:
إِنْ كَانَ بِجَبْهَتِهِ جِرَاحَةٌ عَصَبَهَا بِعِصَابَةٍ وَسَجَدَ عَلَيْهَا، وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ عَلَى الْمَذْهَبِ (4) .
عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِقْبَال الْمَرِيضِ لِلْقِبْلَةِ:
11 - الْمَرِيضُ الْعَاجِزُ عَنِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَلاَ يَجِدُ مَنْ يُحَوِّلُهُ إِلَيْهَا - لاَ مُتَبَرِّعًا وَلاَ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ وَهُوَ وَاجِدُهَا - فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَلَى حَسْبِ حَالَتِهِ.
وَلِلتَّفْصِيل رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (اسْتِقْبَالٌ) .
__________
(1) حديث: " إن استطعت أن تسجد على الأرض، وإلا فأومئ ". أخرجه الطبراني في الكبير (12 / 270 - ط. وزارة الأوقاف العراقية) من حديث ابن عمر، وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (1 / 227 - ط. شركة الطباعة الفنية) .
(2) الهداية 1 / 77، مراقي الفلاح 235.
(3) شرح المنتهى 1 / 271.
(4) مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه ص 162 بولاق والشرح الصغير 1 / 493، والمجموع 3 / 424، والفروع 1 / 434، 435 وكشاف القناع 1 / 352، والمغني 1 / 516.(27/263)
صَلاَةُ الْمَرِيضِ جَمَاعَةً:
12 - الْمَرِيضُ إِنْ قَدَرَ عَلَى الصَّلاَةِ وَحْدَهُ قَائِمًا، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الإِْمَامِ لِتَطْوِيلِهِ صَلَّى مُنْفَرِدًا؛ لأَِنَّ الْقِيَامَ آكَدُ؛ لِكَوْنِهِ رُكْنًا فِي الصَّلاَةِ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِهِ. وَالْجَمَاعَةُ تَصِحُّ الصَّلاَةُ بِدُونِهَا؛ وَلأَِنَّ الْعَجْزَ يَتَضَاعَفُ بِالْجَمَاعَةِ أَكْثَرَ مِنْ تَضَاعُفِهِ بِالْقِيَامِ، بِدَلِيل أَنَّ صَلاَةَ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلاَةِ الْقَائِمِ، وَصَلاَةَ الْجَمَاعَةِ تَفْضُل صَلاَةَ الرَّجُل وَحْدَهُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (1) .
الْعَجْزُ عَنِ الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ:
13 - إِنْ تَعَذَّرَ عَلَى الْمَرِيضِ الْقِيَامُ وَالْجُلُوسُ فِي آنٍ وَاحِدٍ صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ دُونَ تَحْدِيدٍ لِلشِّقِّ الأَْيْمَنِ أَوِ الأَْيْسَرِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الأَْفْضَل أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جَنْبِهِ الأَْيْمَنِ ثُمَّ الأَْيْسَرِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ عَلَى جَنْبِهِ يُصَلِّي مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ وَرِجْلاَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ وَأَوْمَأَ بِطَرَفِهِ. وَالدَّلِيل عَلَى مَا سَبَقَ قَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ (2) .
__________
(1) المهذب 1 / 108، الهداية 1 / 55، شرح المنتهى 1 / 272، والشرح الصغير 1 / 578، والمغني 2 / 145.
(2) حديث عمران بن حصين تقدم تخريجه ف5.(27/263)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى ظَهْرِهِ صَلَّى عَلَى بَطْنِهِ وَرَأْسِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَإِنْ قَدَّمَهَا عَلَى الظَّهْرِ بَطَلَتْ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَعَسَّرَ الْقُعُودُ أَوْمَأَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ، أَوْ عَلَى أَحَدِ جَنْبَيْهِ وَالأَْيْمَنُ أَفْضَل مِنَ الأَْيْسَرِ، وَالاِسْتِلْقَاءُ عَلَى قَفَاهُ أَوْلَى مِنَ الْجَنْبِ إِنْ تَيَسَّرَ، وَالْمُسْتَلْقِي يَجْعَل تَحْتَ رَأْسِهِ شَيْئًا كَالْوِسَادَةِ؛ لِيَصِيرَ وَجْهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ لاَ إِلَى السَّمَاءِ، وَلِيَتَمَكَّنَ مِنَ الإِْيمَاءِ (1) .
وَصَلاَةُ الْمَرِيضِ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِيمَا سَبَقَ لاَ يُنْقِصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا؛ لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا: إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْل مَا كَانَ يَعْمَل مُقِيمًا صَحِيحًا (2) .
كَيْفِيَّةُ الإِْيمَاءِ:
14 - إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْمَرِيضُ الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ أَوِ الرُّكُوعَ أَوِ الْجُلُوسَ أَوْ جَمِيعَهَا فَاحْتَاجَ إِلَى الإِْيمَاءِ فَهَل يُومِئُ بِرَأْسِهِ لَهَا أَمْ بِعَيْنِهِ أَمْ بِقَلْبِهِ؟
فَالْجُمْهُورُ أَنَّ الْمَرِيضَ يُومِئُ بِمَا
__________
(1) المهذب 1 / 108، الهداية 1 / 77، بداية المجتهد لابن رشد 1 / 192، 199، العدة ص 99، 100.
(2) حديث: " إذا مرض العبد. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 136 - ط. السلفية) .(27/264)
يَسْتَطِيعُهُ (1) وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2) وَالأَْصْل أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ إِلاَّ الإِْيمَاءَ فَيُومِئُ بِرَأْسِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الإِْيمَاءِ بِرَأْسِهِ أَوْمَأَ بِطَرَفِهِ (عَيْنِهِ) نَاوِيًا مُسْتَحْضِرًا تَيْسِيرًا لَهُ لِلْفِعْل عِنْدَ إِيمَائِهِ، وَنَاوِيًا الْقَوْل إِذَا أَوْمَأَ لَهُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْقَوْل فَبِقَلْبِهِ مُسْتَحْضِرًا لَهُ، كَالأَْسِيرِ، وَالْخَائِفِ مِنْ آخَرِينَ إِنْ عَلِمُوا بِصَلاَتِهِ يُؤْذُونَهُ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ - مَا عَدَا زُفَرَ - فَإِنَّ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الإِْيمَاءَ بِرَأْسِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلاَةَ، وَلاَ يُومِئُ بِعَيْنِهِ وَلاَ بِقَلْبِهِ وَلاَ بِحَاجِبِهِ
وَعِنْدَهُمْ لاَ قِيَاسَ عَلَى الرَّأْسِ؛ لأَِنَّهُ يَتَأَدَّى بِهِ رُكْنُ الصَّلاَةِ دُونَ الْعَيْنِ وَغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ الْعَجْزُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِذَا كَانَ مُفِيقًا؛ لأَِنَّهُ يَفْهَمُ مَضْمُونَ الْخِطَابِ بِخِلاَفِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ (3) .
الْعَجْزُ الْمُؤَقَّتُ:
15 - قَدْ يَعْجِزُ الْمَرِيضُ بَعْضَ الْوَقْتِ عَنْ قِيَامٍ، أَوْ قُعُودٍ، أَوْ رُكُوعٍ، أَوْ سُجُودٍ، ثُمَّ يَسْتَطِيعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ صَلاَتَهُ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ، وَيَرْجِعَ إِلَى
__________
(1) المهذب 1 / 108، شرح منتهى الإرادات 1 / 271، الشرح الصغير 492 - 493، والهداية 1 / 77.
(2) حديث 1 " إذا أمرتكم بأمر. . . ". تقدم ف7.
(3) الهداية 1 / 77، وشرح المنتهى 1 / 271.(27/264)
مَا يَسْتَطِيعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَوِ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ قَائِمًا ثُمَّ عَجَزَ فَقَعَدَ وَأَتَمَّ صَلاَتَهُ جَازَ لَهُ ذَلِكَ. وَإِنِ افْتَتَحَهَا قَاعِدًا ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ قَامَ وَأَتَمَّ صَلاَتَهُ؛ لأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ جَمِيعَ صَلاَتِهِ قَاعِدًا عِنْدَ الْعَجْزِ، وَجَمِيعَهَا قَائِمًا عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَجَازَ أَنْ يُؤَدِّيَ بَعْضَهَا قَاعِدًا عِنْدَ الْعَجْزِ وَبَعْضَهَا قَائِمًا عِنْدَ الْقُدْرَةِ.
وَإِنِ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ قَاعِدًا ثُمَّ عَجَزَ اضْطَجَعَ، وَإِنِ افْتَتَحَهَا مُضْطَجِعًا ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ أَوِ الْقُعُودِ قَامَ أَوْ قَعَدَ (1)
الطُّمَأْنِينَةُ لِلْمَرِيضِ فِي صَلاَتِهِ:
16 - قَال النَّوَوِيُّ (2) : لاَ يَلْزَمُ الْمَرِيضَ الطُّمَأْنِينَةُ عِنْدَ الْقِيَامِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ. وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ (3) هَل هُوَ سُنَّةٌ أَمْ وَاجِبٌ؟ وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (صَلاَة) .
إِمَامَةُ الْمَرِيضِ:
17 - الْمَرِيضُ تَخْتَلِفُ حَالُهُ مِنْ وَاحِدٍ لآِخَرَ فَقَدْ يَكُونُ الْمَرَضُ سَلَسَ بَوْلٍ، أَوِ انْفِلاَتَ رِيحٍ، أَوْ جُرْحًا سَائِلاً أَوْ رُعَافًا، وَلِكُل حَالَةٍ مِنْ هَذِهِ الْحَالاَتِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِالنِّسْبَةِ
__________
(1) نفس المراجع السابقة.
(2) المجموع للنووي 2 / 187.
(3) الهداية 1 / 50.(27/265)
لِلإِْمَامَةِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اقْتِدَاء، إِمَامَة) .
الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ لِلْمَرِيضِ:
18 - لِلْفُقَهَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ لِلْمَرِيضِ رَأْيَانِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ لأَِجْل الْمَرَضِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ جَمَعَ لأَِجْل الْمَرَضِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ لِلْمَرِيضِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ، وَيُخَيَّرُ بَيْنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْمَرَضُ دَوْخَةً أَوْ حُمَّى أَوْ غَيْرَهُمَا (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 255 - 256، والمهذب 1 / 112، والشرح الصغير 1 / 673 - 674.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 280، والشرح الصغير 1 / 673.(27/265)
صَلاَةُ الْمُسَافِرِ
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّفَرُ لُغَةً: قَطْعُ الْمَسَافَةِ، وَخِلاَفُ الْحَضَرِ (أَيِ الإِْقَامَةِ) ، وَالْجَمْعُ: أَسْفَارٌ، وَرَجُلٌ سَفْرٌ، وَقَوْمٌ سَفْرٌ: ذَوُو سَفْرٍ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يَقْصِدُونَ بِالسَّفَرِ: السَّفَرَ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ وَهُوَ: أَنْ يَخْرُجَ الإِْنْسَانُ مِنْ وَطَنِهِ قَاصِدًا مَكَانًا يَسْتَغْرِقُ الْمَسِيرُ إِلَيْهِ مَسَافَةً مُقَدَّرَةً عِنْدَهُمْ، عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهَا.
وَالْمُرَادُ بِالْقَصْدِ: الإِْرَادَةُ الْمُقَارِنَةُ لِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ، فَلَوْ طَافَ الإِْنْسَانُ جَمِيعَ الْعَالَمِ بِلاَ قَصْدِ الْوُصُول إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ فَلاَ يَصِيرُ مُسَافِرًا.
وَلَوْ أَنَّهُ قَصَدَ السَّفَرَ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ قَصْدُهُ بِالْخُرُوجِ فِعْلاً فَلاَ يَصِيرُ مُسَافِرًا كَذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ تَغْيِيرِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ هُوَ السَّفَرُ الَّذِي اجْتَمَعَ فِيهِ الْقَصْدُ وَالْفِعْل (2) .
__________
(1) لسان العرب ومختار الصحاح.
(2) الهداية وشروحها فتح القدير والعناية 1 / 392 ط. المطبعة الكبرى بمصر سنة 1325 هـ، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه (1 / 362. مصطفى محمد) ومغني المحتاج 1 / 264، وكشاف القناع 1 / 326.(27/266)
خَصَائِصُ السَّفَرِ:
2 - يَخْتَصُّ السَّفَرُ بِأَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ، وَتَتَغَيَّرُ بِوُجُودِهِ، وَمِنْ أَهَمِّهَا: قَصْرُ الصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَإِبَاحَةُ الْفِطْرِ لِلصَّائِمِ، وَامْتِدَادُ مُدَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَحُرْمَةُ السَّفَرِ عَلَى الْحُرَّةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَوِلاَيَةُ الأَْبْعَدِ.
وَيَقْتَصِرُ هَذَا الْبَحْثُ عَلَى مَا يَتَّصِل بِالسَّفَرِ مِنْ حَيْثُ قَصْرُ الصَّلاَةِ. أَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِغَيْرِهَا مِنْ أَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (سَفَر، صَوْم، الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ، نِكَاح، وَوِلاَيَة) .
تَقْسِيمُ الْوَطَنِ:
يَنْقَسِمُ الْوَطَنُ إِلَى: وَطَنٍ أَصْلِيٍّ، وَوَطَنِ إِقَامَةٍ، وَوَطَنِ سُكْنَى.
الْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ:
3 - هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَسْتَقِرُّ فِيهِ الإِْنْسَانُ بِأَهْلِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَوْطِنَ وِلاَدَتِهِ أَمْ بَلْدَةً أُخْرَى، اتَّخَذَهَا دَارًا وَتَوَطَّنَ بِهَا مَعَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَلاَ يَقْصِدُ الاِرْتِحَال عَنْهَا، بَل التَّعَيُّشُ بِهَا.(27/266)
وَيَأْخُذُ حُكْمَ الْوَطَنِ: الْمَكَانُ الَّذِي تَأَهَّل بِهِ، أَيْ تَزَوَّجَ بِهِ، وَلاَ يَحْتَاجُ الْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ إِلَى نِيَّةِ الإِْقَامَةِ. لَكِنَ الْمَالِكِيَّةُ يَشْتَرِطُونَ: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مَدْخُولاً بِهَا غَيْرَ نَاشِزٍ.
وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ: أَنَّ الْوَطَنَ الأَْصْلِيَّ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ أَغْلَبِ الْفُقَهَاءِ بِالإِْقَامَةِ الدَّائِمَةِ عَلَى نِيَّةِ التَّأْبِيدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي مَكَانِ وِلاَدَتِهِ أَمْ فِي مَكَانٍ آخَرَ، وَيُلْحَقُ بِذَلِكَ مَكَانُ الزَّوْجَةِ (1) .
4 - وَالْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ، وَذَلِكَ مِثْل أَنْ يَكُونَ لَهُ أَهْلٌ وَدَارٌ فِي بَلْدَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ نِيَّةِ أَهْلِهِ الْخُرُوجُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ يَنْتَقِل مِنْ أَهْلٍ إِلَى أَهْلٍ فِي السَّنَةِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ خَرَجَ مُسَافِرًا مِنْ بَلْدَةٍ فِيهَا أَهْلُهُ، وَدَخَل بَلْدَةً أُخْرَى فِيهَا أَهْلُهُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الإِْقَامَةِ (2) .
مَا يُنْتَقَضُ بِهِ الْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ:
5 - الْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ يُنْتَقَضُ بِمِثْلِهِ لاَ غَيْرُ، وَهُوَ أَنْ يَتَوَطَّنَ الإِْنْسَانُ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى وَيَنْقُل الأَْهْل إِلَيْهَا مِنْ بَلْدَتِهِ مُضْرِبًا عَنِ الْوَطَنِ الأَْوَّل، وَرَافِضًا سُكْنَاهُ، فَإِنَّ الْوَطَنَ الأَْوَّل يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَطَنًا أَصْلِيًّا لَهُ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 555، 556، والبدائع 1 / 102، 104، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي 1 / 362، 364، ومغني المحتاج 1 / 262، وكشاف القناع 1 / 327، 335.
(2) المراجع السابقة.(27/267)
حَتَّى لَوْ دَخَل فِيهِ مُسَافِرًا لاَ تَصِيرُ صَلاَتُهُ أَرْبَعًا.
وَالأَْصْل فِيهِ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا مِنْ أَهْل مَكَّةَ، وَكَانَ لَهُمْ بِهَا أَوْطَانٌ أَصْلِيَّةٌ، ثُمَّ لَمَّا هَاجَرُوا وَتَوَطَّنُوا بِالْمَدِينَةِ، وَجَعَلُوهَا دَارًا لأَِنْفُسِهِمُ انْتَقَضَ وَطَنُهُمُ الأَْصْلِيُّ بِمَكَّةَ، حَتَّى كَانُوا إِذَا أَتَوْا مَكَّةَ يُصَلُّونَ صَلاَةَ الْمُسَافِرِينَ.
وَلِذَلِكَ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَلَّى بِهِمْ: أَتِمُّوا يَا أَهْل مَكَّةَ صَلاَتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ (1) .
وَلاَ يُنْتَقَضُ الْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ بِوَطَنِ الإِْقَامَةِ، وَلاَ بِوَطَنِ السُّكْنَى؛ لأَِنَّهُمَا دُونَهُ، وَالشَّيْءُ لاَ يُنْسَخُ بِمَا هُوَ دُونَهُ، وَكَذَا لاَ يُنْتَقَضُ بِنِيَّةِ السَّفَرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ وَطَنِهِ حَتَّى يَصِيرَ مُقِيمًا بِالْعَوْدَةِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الإِْقَامَةِ.
وَطَنُ الإِْقَامَةِ:
6 - هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَقْصِدُ الإِْنْسَانُ أَنْ يُقِيمَ بِهِ مُدَّةً قَاطِعَةً لِحُكْمِ السَّفَرِ فَأَكْثَرَ عَلَى نِيَّةِ أَنْ يُسَافِرَ بَعْدَ ذَلِكَ،
مَعَ اخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي مِقْدَارِ هَذِهِ الْمُدَّةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهَا.
__________
(1) حديث: " أتموا يا أهل مكة صلاتكم ". أخرجه الطحاوي (شرح معاني الآثار 1 / 417 نشر مطبعة الأنوار المحمدية) من حديث عمران بن حصين بلفظ: " يا أهل مكة قوموا فصلوا ركعتين أخراوين فإنا قوم سفر ". وأخرجه أبو داود (2 / 23 - 24) بهذا المعنى، وصححه الترمذي (2 / 430 ط الحلبي) وتعقبه (مختصر سنن أبي داود 2 / 61) بما يشير إلى تضعيفه.(27/267)
أَمَّا شَرَائِطُهُ: فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَيْنِ:
الرِّوَايَةَ الأُْولَى: إِنَّمَا يَصِيرُ الْوَطَنُ وَطَنَ إِقَامَةٍ بِشَرِيطَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَتَقَدَّمَهُ سَفَرٌ.
وَالثَّانِيَةَ: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ وَطَنِهِ الأَْصْلِيِّ وَبَيْنَ هَذَا الْمَوْضِعِ (الَّذِي تَوَطَّنَ فِيهِ بِنِيَّةِ إِقَامَةِ هَذِهِ الْمُدَّةِ) مَسَافَةُ الْقَصْرِ.
وَبِدُونِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ لاَ يَصِيرُ وَطَنَ إِقَامَةٍ، وَإِنْ نَوَى الإِْقَامَةَ مُدَّةً قَاطِعَةً لِلسَّفَرِ فِي مَكَان صَالِحٍ لِلإِْقَامَةِ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُل الْمُقِيمَ لَوْ خَرَجَ مِنْ مِصْرِهِ إِلَى قَرْيَةٍ لاَ لِقَصْدِ السَّفَرِ، وَنَوَى أَنْ يَتَوَطَّنَ بِهَا الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ فَلاَ تَصِيرُ تِلْكَ الْقَرْيَةُ وَطَنَ إِقَامَةٍ لَهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَسَافَةُ الْقَصْرِ؛ لاِنْعِدَامِ تَقَدُّمِ السَّفَرِ. وَكَذَا إِذَا قَصَدَ مَسِيرَةَ سَفَرٍ، وَخَرَجَ حَتَّى وَصَل إِلَى قَرْيَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَطَنِهِ الأَْصْلِيِّ أَقَل مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَنَوَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ لاَ تَصِيرُ تِلْكَ الْقَرْيَةُ وَطَنَ إِقَامَةٍ لَهُ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ - وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ - أَنَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا مِنْ غَيْرِ هَاتَيْنِ الشَّرِيطَتَيْنِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ يَشْتَرِطُونَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ إِنْ كَانَتْ(27/268)
نِيَّةُ الإِْقَامَةِ فِي ابْتِدَاءِ السَّيْرِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي أَثْنَائِهِ فَلاَ تُشْتَرَطُ الْمَسَافَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ (1) .
مَا يُنْتَقَضُ بِهِ وَطَنُ الإِْقَامَةِ:
7 - وَطَنُ الإِْقَامَةِ يُنْتَقَضُ بِالْوَطَنِ الأَْصْلِيِّ؛ لأَِنَّهُ فَوْقَهُ، وَبِوَطَنِ الإِْقَامَةِ؛ لأَِنَّهُ مِثْلُهُ وَالشَّيْءُ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بِمِثْلِهِ، وَيُنْتَقَضَ بِالسَّفَرِ - أَيْضًا - لأَِنَّ تَوَطُّنَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَيْسَ لِلْقَرَارِ، وَلَكِنْ لِحَاجَةٍ، فَإِذَا سَافَرَ مِنْهُ يُسْتَدَل بِهِ عَلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ، فَصَارَ مُعْرِضًا عَنِ التَّوَطُّنِ بِهِ، فَصَارَ نَاقِضًا لَهُ، وَلاَ يُنْتَقَضُ وَطَنُ الإِْقَامَةِ بِوَطَنِ السُّكْنَى؛ لأَِنَّهُ دُونَهُ فَلاَ يَنْسَخُهُ.
وَطَنُ السُّكْنَى:
8 - هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَقْصِدُ الإِْنْسَانُ الْمَقَامَ بِهِ أَقَل مِنَ الْمُدَّةِ الْقَاطِعَةِ لِلسَّفَرِ.
وَشَرْطُهُ: نِيَّةُ عَدَمِ الإِْقَامَةِ الْمُدَّةِ الْقَاطِعَةِ لِلسَّفَرِ، وَلِذَلِكَ يُعْتَبَرُ مُسَافِرًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ وَإِنْ طَال مَقَامُهُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصَّلاَةَ (2) ،
__________
(1) البدائع 1 / 103، 104، الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 362، 364.
(2) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 72 تحقيق عزت عبيد دعاس) والبيهقي (3 / 152 - ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث جابر بن عبد الله. وأعله أبو داود بكونه روي مرسلا، وأما البيهقي فقال: " لا أراه محفوظا ".(27/268)
وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَقَامَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى نَيْسَابُورَ شَهْرَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ (1) .
إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَيْسَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
مَا يُنْتَقَضُ بِهِ وَطَنُ السُّكْنَى:
9 - وَطَنُ السُّكْنَى يُنْتَقَضُ بِالْوَطَنِ الأَْصْلِيِّ وَبِوَطَنِ الإِْقَامَةِ؛ لأَِنَّهُمَا فَوْقَهُ، وَيُنْتَقَضُ بِوَطَنِ السُّكْنَى؛ لأَِنَّهُ مِثْلُهُ، وَيُنْتَقَضُ بِالسَّفَرِ؛ لأَِنَّ تَوَطُّنَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَيْسَ لِلْقَرَارِ، وَلَكِنْ لِحَاجَةٍ، فَإِذَا سَافَرَ مِنْهُ يُسْتَدَل بِهِ عَلَى انْقِضَاءِ حَاجَتِهِ، فَصَارَ مُعْرِضًا عَنِ التَّوَطُّنِ بِهِ، فَصَارَ نَاقِضًا لَهُ.
هَذَا، وَالْفَقِيهُ الْجَلِيل أَبُو أَحْمَدَ الْعِيَاضِيُّ قَسَّمَ الْوَطَنَ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدِهِمَا: وَطَنِ قَرَارٍ وَالآْخَرِ: مُسْتَعَارٍ.
صَيْرُورَةُ الْمُقِيمِ مُسَافِرًا وَشَرَائِطُهَا:
10 - يَصِيرُ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا إِذَا تَحَقَّقَتِ الشَّرَائِطُ الآْتِيَةُ:
الشَّرِيطَةُ الأُْولَى: الْخُرُوجُ مِنَ الْمَقَامِ، أَيْ مَوْطِنِ إِقَامَتِهِ، وَهُوَ أَنْ يُجَاوِزَ عُمْرَانَ بَلْدَتِهِ وَيُفَارِقَ بُيُوتَهَا، وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ مَا يُعَدُّ مِنْهُ عُرْفًا كَالأَْبْنِيَةِ الْمُتَّصِلَةِ، وَالْبَسَاتِينِ الْمَسْكُونَةِ،
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 1 / 11 طبعة دار الشعب بالقاهرة سنة 1386 هـ البدائع 1 / 103، 104.(27/269)
وَالْمَزَارِعِ، وَالأَْسْوَارِ، وَذَلِكَ عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَلاَ بُدَّ مِنَ اقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِالْفِعْل؛ لأَِنَّ السَّفَرَ الشَّرْعِيَّ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةِ السَّفَرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلاَ تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مُقَارِنَةً لِلْفِعْل، وَهُوَ الْخُرُوجُ؛ لأَِنَّ مُجَرَّدَ قَصْدِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانٍ بِالْفِعْل يُسَمَّى عَزْمًا، وَلاَ يُسَمَّى نِيَّةً، وَفِعْل السَّفَرِ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمِصْرِ، فَمَا لَمْ يَخْرُجْ لاَ يَتَحَقَّقُ قِرَانُ النِّيَّةِ بِالْفِعْل، فَلاَ يَصِيرُ مُسَافِرًا.
الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ: نِيَّةُ مَسَافَةِ السَّفَرِ، فَلِكَيْ يَصِيرَ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا لاَ بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ سَيْرَ مَسَافَةِ السَّفَرِ الشَّرْعِيِّ؛ لأَِنَّ السَّيْرَ قَدْ يَكُونُ سَفَرًا وَقَدْ لاَ يَكُونُ، فَالإِْنْسَانُ قَدْ يَخْرُجُ مِنْ مَوْطِنِ إِقَامَتِهِ إِلَى مَوْضِعٍ لإِِصْلاَحِ ضَيْعَةٍ، ثُمَّ تَبْدُو لَهُ حَاجَةٌ أُخْرَى إِلَى الْمُجَاوَزَةِ عَنْهُ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مُدَّةُ سَفَرٍ، ثُمَّ يَتَجَاوَزُ ذَلِكَ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَقْطَعَ مَسَافَةً بَعِيدَةً أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ، وَلِذَلِكَ لاَ بُدَّ مِنْ نِيَّةِ مُدَّةِ السَّفَرِ لِلتَّمْيِيزِ.
وَعَلَى هَذَا قَالُوا: أَمِيرٌ خَرَجَ مَعَ جَيْشِهِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَيْنَ يُدْرِكُهُمْ فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ صَلاَةَ الْمُقِيمِ فِي الذَّهَابِ، وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَافَ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ(27/269)
قَصْدٍ إِلَى قَطْعِ الْمَسَافَةِ فَلاَ يُعَدُّ مُسَافِرًا، وَلاَ يَتَرَخَّصُ (1) .
تَحْدِيدُ أَقَل مَسَافَةِ السَّفَرِ بِالأَْيَّامِ:
11 - أَقَل هَذِهِ الْمَسَافَةِ مُقَدَّرٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي التَّقْدِيرِ (2) .
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَاللَّيْثُ وَالأَْوْزَاعِيُّ: إِلَى أَنَّ أَقَل مُدَّةِ السَّفَرِ مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ مُعْتَدِلَيْنِ بِلاَ لَيْلَةٍ، أَوْ مَسِيرَةُ لَيْلَتَيْنِ مُعْتَدِلَتَيْنِ بِلاَ يَوْمٍ، أَوْ مَسِيرَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.
وَذَلِكَ؛ لأَِنَّهُمْ قَدَّرُوا السَّفَرَ بِالأَْمْيَال، وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ مِيلاً، وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، وَتُقَدَّرُ بِسَيْرِ يَوْمَيْنِ مُعْتَدِلَيْنِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَا أَهْل مَكَّةَ: لاَ تَقْصُرُوا الصَّلاَةَ فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ (3) وَلأَِنَّ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَقْصُرَانِ وَيُفْطِرَانِ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ فَمَا فَوْقَهَا، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ، وَأَسْنَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، مِثْل هَذَا لاَ يَكُونُ
__________
(1) البدائع 1 / 94، 95، وفتح القدير 1 / 393 والمراجع السابقة.
(2) البدائع 1 / 93، وبداية المجتهد 1 / 162.
(3) حديث: " يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد ". أخرجه الدارقطني (1 / 387 ط دار المحاسن) من حديث ابن عباس، وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (2 / 46 ط شركة الطباعة الفنية) .(27/270)
إِلاَّ عَنْ تَوْقِيفٍ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، وَقَال الأَْثْرَمُ: قِيل لأَِبِي عَبْدِ اللَّهِ: فِي كَمْ تُقْصَرُ الصَّلاَةُ؟ قَال: فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، قِيل لَهُ: مَسِيرَةُ يَوْمٍ تَامٍّ؟ قَال: لاَ، أَرْبَعَةُ بُرُدٍ: سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا: مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ. وَقَدْ قَدَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ عُسْفَانَ إِلَى مَكَّةَ مُسْتَدِلًّا بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَقَل مَسَافَةِ السَّفَرِ مَسِيرَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِل عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَال: جَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ (2) ، فَقَدْ جَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكُل مُسَافِرٍ أَنْ يَمْسَحَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا، وَلَنْ يُتَصَوَّرَ أَنْ يَمْسَحَ الْمُسَافِرُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا، وَمُدَّةُ السَّفَرِ أَقَل مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ. وَكَذَلِكَ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ ثَلاَثِ لَيَالٍ إِلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ (3) ، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْمُدَّةُ مُقَدَّرَةً بِالثَّلاَثِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الثَّلاَثِ مَعْنًى.
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 591، ومغني المحتاج 1 / 264، وكشاف القناع 1 / 325.
(2) حديث: " جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم ". أخرجه مسلم (1 / 232 - ط. الحلبي) .
(3) حديث: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر. . . ". أخرجه مسلم (2 / 975 - ط. الحلبي) من حديث ابن عمر.(27/270)
وَقَدِ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلاَفِ (1) .
وَالْعِبْرَةُ بِالسَّيْرِ هُوَ السَّيْرُ الْوَسَطُ، وَهُوَ سَيْرُ الإِْبِل الْمُثْقَلَةِ بِالأَْحْمَال، وَمَشْيُ الأَْقْدَامِ عَلَى مَا يُعْتَادُ مِنْ ذَلِكَ، مَعَ مَا يَتَخَلَّلُهُ مِنْ نُزُولٍ وَاسْتِرَاحَةٍ وَأَكْلٍ وَصَلاَةٍ.
وَيُحْتَرَزُ بِالسَّيْرِ الْوَسَطِ عَنِ السَّيْرِ الأَْسْرَعِ، كَسَيْرِ الْفَرَسِ وَالْبَرِيدِ، وَعَنِ السَّيْرِ الأَْبْطَأِ، كَسَيْرِ الْبَقَرِ يَجُرُّ الْعَجَلَةَ، فَاعْتُبِرَ الْوَسَطُ؛ لأَِنَّهُ الْغَالِبُ.
وَالسَّيْرُ فِي الْبَحْرِ يُرَاعَى فِيهِ اعْتِدَال الرِّيَاحِ؛ لأَِنَّهُ هُوَ الْوَسَطُ، وَهُوَ أَلاَّ تَكُونَ الرِّيَاحُ غَالِبَةً وَلاَ سَاكِنَةً، وَيُعْتَبَرُ فِي الْجَبَل مَا يَلِيقُ بِهِ، فَيُنْظَرُ كَمْ يَسِيرُ فِي مِثْل هَذَا مَسَافَةُ الْقَصْرِ فَيُجْعَل أَصْلاً، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ فَيُرْجَعُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ (2) .
سُلُوكُ أَحَدِ طَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِغَايَةٍ وَاحِدَةٍ:
12 - إِذَا كَانَ لِمَكَانٍ وَاحِدٍ طَرِيقَانِ مُخْتَلِفَانِ، أَحَدُهُمَا يَقْطَعُهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَالآْخَرُ يُمْكِنُ أَنْ يَصِل إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَقَدْ قَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَقْصُرُ لَوْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الأَْقْرَبَ؛ لأَِنَّهُ يُعْتَبَرُ مُسَافِرًا، هَكَذَا ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ فِي الْبَدَائِعِ، وَجَاءَ فِي الْعِنَايَةِ: إِذَا كَانَ لِمَوْضِعٍ
__________
(1) البدائع 1 / 93، 94، والمهذب 1 / 102.
(2) المراجع السابقة.(27/271)
طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا فِي الْمَاءِ يُقْطَعُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهَا إِذَا كَانَتِ الرِّيحُ مُتَوَسِّطَةً، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي فِي الْبَرِّ يُقْطَعُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ أَحَدُهُمَا بِالآْخَرِ، فَإِنْ ذَهَبَ إِلَى طَرِيقِ الْمَاءِ قَصَرَ، وَإِنْ ذَهَبَ إِلَى طَرِيقِ الْبَرِّ أَتَمَّ، وَلَوِ انْعَكَسَ انْعَكَسَ الْحُكْمُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَقْصُرُ عَادِلٌ عَنْ طَرِيقٍ قَصِيرٍ، وَهُوَ مَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ إِلَى طَرِيقٍ طَوِيلٍ فِيهِ الْمَسَافَةُ بِدُونِ عُذْرٍ، بَل لِمُجَرَّدِ قَصْدِ الْقَصْرِ، أَوْ لاَ قَصْدَ لَهُ، فَإِنْ عَدَل لِعُذْرٍ أَوْ لأَِمْرٍ، وَلَوْ مُبَاحًا فِيمَا يَظْهَرُ قَصَرَ (2) .
وَبِمِثْل ذَلِكَ يَقُول الشَّافِعِيَّةُ (3) .
وَالْحَنَابِلَةُ يُجِيزُونَ الْقَصْرَ لِمَنْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الأَْبْعَدَ مَعَ وُجُودِ الأَْقْرَبِ، وَلَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ (4) .
الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لِوَسَائِل السَّفَرِ الْحَدِيثَةِ:
13 - مَعْلُومٌ مِمَّا سَبَقَ: أَنَّ الْفُقَهَاءَ حَدَّدُوا أَقَل الْمَسَافَةِ الَّتِي تُشْتَرَطُ لِقَصْرِ الصَّلاَةِ، وَأَنَّهُمُ اعْتَبَرُوا السَّيْرَ الْوَسَطَ (مَشْيَ الأَْقْدَامِ وَسَيْرَ الإِْبِل) هُوَ الأَْسَاسُ فِي التَّقْدِيرِ، وَالْمَقْصُودُ - هُنَا - هُوَ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ وَسَائِل السَّفَرِ الْحَدِيثَةِ كَالْقِطَارِ وَالطَّائِرَةِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 94، والعناية شرح الهداية، بهامش فتح القدير 1 / 394.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 362.
(3) مغني المحتاج 1 / 265.
(4) كشاف القناع 1 / 330.(27/271)
حَيْثُ الرَّاحَةُ وَقِصَرُ الْمُدَّةِ.
وَقَدْ تَحَدَّثَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ: فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - كَمَا يَتَّضِحُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ - أَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ قَطَعَ مَسَافَةَ السَّفَرِ الْمُحَدَّدَةَ فِي زَمَنٍ أَقَل؛ لاِسْتِعْمَالِهِ وَسَائِل أَسْرَعَ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ؛ لأَِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَافَرَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ.
فَقَدْ قَال الدُّسُوقِيُّ: مَنْ كَانَ يَقْطَعُ الْمَسَافَةَ بِسَفَرِهِ قَصَرَ، وَلَوْ كَانَ يَقْطَعُهَا فِي لَحْظَةٍ بِطَيَرَانٍ وَنَحْوِهِ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ، وَلَوْ قَطَعَ الْمَسَافَةَ فِي سَاعَةٍ. وَقَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ، لَوْ قَطَعَ الْمَسَافَةَ فِي بَعْضِ يَوْمٍ كَمَا لَوْ قَطَعَهَا عَلَى فَرَسٍ جَوَادٍ.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ الرُّبَاعِيَّةَ إِلَى رَكْعَتَيْنِ إِجْمَاعًا، وَلَوْ قَطَعَ الْمَسَافَةَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لأَِنَّهُ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُسَافِرُ أَرْبَعَةَ بُرُدٍ (مَسَافَةُ الْقَصْرِ) . (1)
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّقْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَنَقَل الْكَاسَانِيُّ فِي بَدَائِعِهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: مِنْ أَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ سَارَ إِلَى مَوْضِعٍ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَأَنَّهُ بِسَيْرِ الإِْبِل، وَالْمَشْيِ الْمُعْتَادِ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 358، ومغني المحتاج 1 / 264، وكشاف القناع 1 / 325.(27/272)
ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ، اعْتِبَارًا لِلسَّيْرِ الْمُعْتَادِ.
وَهَذَا الْقَوْل يُوَافِقُ الْمَذَاهِبَ السَّابِقَةَ؛ لأَِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اعْتَبَرَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ قَطْعُ الْمَسَافَةِ.
لَكِنِ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: اعْتَبَرَ أَنَّ الْعِلَّةَ لِقَصْرِ الصَّلاَةِ فِي السَّفَرِ هِيَ الْمَشَقَّةُ الَّتِي تَلْحَقُ بِالْمُسَافِرِ، وَلِذَلِكَ يُذْكَرُ: أَنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ قَطَعَ الْمَسَافَةَ فِي سَاعَةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ، وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَطَعَ مَسَافَةَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِسَيْرِ الإِْبِل؛ لاِنْتِفَاءِ مَظِنَّةِ الْمَشَقَّةِ، وَهِيَ الْعِلَّةُ (1) .
الْعِبْرَةُ بِنِيَّةِ الأَْصْل دُونَ التَّبَعِ:
14 - الْمُعْتَبَرُ فِي نِيَّةِ السَّفَرِ الشَّرْعِيِّ نِيَّةُ الأَْصْل دُونَ التَّابِعِ، فَمَنْ كَانَ سَفَرُهُ تَابِعًا لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُسَافِرًا بِنِيَّةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ كَالزَّوْجَةِ التَّابِعَةِ لِزَوْجِهَا؛ فَإِنَّهَا تَصِيرُ مُسَافِرَةً بِنِيَّةِ زَوْجِهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ لَزِمَهُ طَاعَةُ غَيْرِهِ كَالسُّلْطَانِ وَأَمِيرِ الْجَيْشِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُسَافِرًا بِنِيَّةِ مَنْ لَزِمَتْهُ طَاعَتُهُ؛ لأَِنَّ حُكْمَ التَّبَعِ حُكْمُ الأَْصْل.
أَمَّا الْغَرِيمُ الَّذِي يُلاَزِمُهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ مَلِيئًا، فَالنِّيَّةُ لَهُ؛ لأَِنَّهُ يُمْكِنُهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ، وَالْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ مُفْلِسًا، فَالنِّيَّةُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 392، وما بعدها وفتح القدير 2 / 5 نشر دار إحياء التراث.(27/272)
لاَ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ، فَكَانَ تَابِعًا لَهُ. هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ تَبِعَتِ الزَّوْجَةُ زَوْجَهَا، أَوِ الْجُنْدِيُّ قَائِدَهُ فِي السَّفَرِ، وَلاَ يَعْرِفُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَقْصِدَهُ فَلاَ قَصْرَ لَهُمْ؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ - وَهُوَ قَصْدُ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ - لَمْ يَتَحَقَّقْ، وَهَذَا قَبْل بُلُوغِهِمْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، فَإِنْ قَطَعُوهَا قَصُرُوا.
فَلَوْ نَوَتِ الزَّوْجَةُ دُونَ زَوْجِهَا، أَوِ الْجُنْدِيُّ دُونَ قَائِدِهِ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، أَوْ جَهِلاَ الْحَال قَصَرَ الْجُنْدِيُّ غَيْرُ الْمُثْبَتِ فِي الدِّيوَانِ، دُونَ الزَّوْجَةِ؛ لأَِنَّ الْجُنْدِيَّ حِينَئِذٍ لَيْسَ تَحْتَ يَدِ الأَْمِيرِ وَقَهْرِهِ، بِخِلاَفِ الزَّوْجَةِ، فَنِيَّتُهَا كَالْعَدَمِ. أَمَّا الْجُنْدِيُّ الْمُثْبَتُ فِي الدِّيوَانِ فَلاَ يَقْصُرُ؛ لأَِنَّهُ تَحْتَ يَدِ الأَْمِيرِ، وَمِثْلُهُ الْجَيْشُ، إِذْ لَوْ قِيل: بِأَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ يَدِ الأَْمِيرِ وَقَهْرِهِ كَالآْحَادِ لَعَظُمَ الْفَسَادُ (2) .
أَحْكَامُ الْقَصْرِ:
مَشْرُوعِيَّةُ الْقَصْرِ:
15 - الْقَصْرُ مَعْنَاهُ: أَنْ تَصِيرَ الصَّلاَةُ الرُّبَاعِيَّةُ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ، سَوَاءٌ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ، أَوْ فِي حَالَةِ الأَْمْنِ.
__________
(1) البدائع 1 / 94، وكشاف القناع 1 / 325.
(2) مغني المحتاج 1 / 265.(27/273)
وَقَدْ شُرِعَ الْقَصْرُ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَمَشْرُوعِيَّةُ الْقَصْرِ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (1) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا وَرَدَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَال: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ. قَال: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَال: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ (2) .
وَقَال ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: صَحِبْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ لاَ يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ (3) .
__________
(1) سورة النساء / 101.
(2) حديث عمر بن الخطاب: " صدقة تصدق الله بها عليكم. . . ". أخرجه مسلم (1 / 478 - ط. الحلبي) .
(3) حديث ابن عمر: " صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 577 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 480 - ط. الحلبي) واللفظ للبخاري.(27/273)
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأَْحَادِيثِ وَالآْثَارِ. فَالآْيَةُ الْكَرِيمَةُ دَلَّتْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقَصْرِ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ، وَدَلَّتِ الأَْحَادِيثُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي حَالَتَيِ الْخَوْفِ وَالأَْمْنِ. وَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقَصْرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْقَصْرِ:
16 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الْقَصْرَ جَائِزٌ تَخْفِيفًا عَلَى الْمُسَافِرِ؛ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ غَالِبًا، وَاسْتَدَلُّوا بِالآْيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (1) فَقَدْ عَلَّقَ الْقَصْرَ عَلَى الْخَوْفِ؛ لأَِنَّ غَالِبَ أَسْفَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَخْل مِنْهُ. وَنَفْيُ الْجُنَاحِ فِي الآْيَةِ يَدُل عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ، لاَ عَلَى وُجُوبِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِحَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ السَّابِقِ: " صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ (2) ".
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ مِنْ ذَوَاتِ الأَْرْبَعِ رَكْعَتَانِ لاَ غَيْرُ، فَلَيْسَ لِلْمُسَافِرِ عِنْدَهُمْ أَنْ يُتِمَّ الصَّلاَةَ أَرْبَعًا؛ لِقَوْل عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " فُرِضَتِ الصَّلاَةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ
__________
(1) سورة النساء / 101، وانظر المهذب 1 / 101 وكشاف القناع 1 / 324.
(2) حديث: " صدقة. . . " تقدم تخريجه ف13.(27/274)
فِي صَلاَةِ الْحَضَرِ (1) . وَلاَ يُعْلَمُ ذَلِكَ إِلاَّ تَوْقِيفًا (2) ، وَقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل فَرَضَ الصَّلاَةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ وَعَلَى الْمُقِيمِ أَرْبَعًا، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً (3) .
وَالرَّاجِحُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْقَصْرَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَمَّ الصَّلاَةَ، بَل الْمَنْقُول عَنْهُ الْقَصْرُ فِي كُل أَسْفَارِهِ، وَمَا كَانَ هَذَا شَأْنُهُ فَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ.
وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى فِي الْمَذْهَبِ فَقِيل: إِنَّهُ فَرْضٌ، وَقِيل: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَقِيل: إِنَّهُ مُبَاحٌ (4) .
هَل الأَْصْل الْقَصْرُ أَوِ الإِْتْمَامُ؟
17 - قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الأَْصْل هُوَ الإِْتْمَامُ وَأَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ: " صَدَقَةٌ
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها: " فرضت. . . . . ". أخرجه البخاري (الفتح1 / 464 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 478 - ط. الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) الاختيار لتعليل المختار 1 / 198 طبع مطابع الشعب بالقاهرة سنة 1386 هـ وفتح القدير 1 / 395.
(3) قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: " إن الله فرض الصلاة على لسان نبيكم. . ". أخرجه مسلم (1 / 479 - ط. الحلبي) .
(4) بداية المجتهد 1 / 161، والشرح الكبير للدردير 1 / 358.(27/274)
تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ ".
إِلاَّ أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْقَصْرَ أَفْضَل مِنَ الإِْتْمَامِ، إِذَا بَلَغَ السَّفَرُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، اقْتِدَاءً بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَخُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ، كَأَبِي حَنِيفَةَ، إِلاَّ الْمَلاَّحَ الَّذِي يُسَافِرُ فِي الْبَحْرِ بِأَهْلِهِ، وَمَنْ لاَ يَزَال مُسَافِرًا بِلاَ وَطَنٍ، فَالإِْتْمَامُ لَهُمَا أَفْضَل خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمَا، كَالإِْمَامِ أَحْمَدَ. وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ: إِنَّ الإِْتْمَامَ أَفْضَل مُطْلَقًا، لأَِنَّهُ الأَْصْل، وَالأَْكْثَرُ عَمَلاً، أَمَّا إِذَا لَمْ يَبْلُغِ السَّفَرُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَالإِْتْمَامُ أَفْضَل لأَِنَّهُ الأَْصْل.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْقَصْرُ أَفْضَل مِنَ الإِْتْمَامِ نَصًّا، لِمُدَاوَمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ عَلَيْهِ. لَكِنْ إِنْ أَتَمَّ مَنْ يُبَاحُ لَهُ الْقَصْرُ لَمْ يُكْرَهْ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْقَصْرُ هُوَ الأَْصْل فِي الصَّلاَةِ؛ إِذِ الصَّلاَةُ فِي الأَْصْل فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فِي حَقِّ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ جَمِيعًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، ثُمَّ زِيدَتْ رَكْعَتَانِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ. وَأُقِرَّتِ الرَّكْعَتَانِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ كَمَا كَانَتَا فِي الأَْصْل، فَالرَّكْعَتَانِ مِنْ ذَوَاتِ الأَْرْبَعِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لَيْسَتَا قَصْرًا
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 161، 162، والشرح الكبير 1 / 358، ومغني المحتاج 1 / 268، وكشاف القناع 1 / 328.(27/275)
حَقِيقَةً، بَل هُوَ تَمَامُ فَرْضِ الْمُسَافِرِ، وَالإِْكْمَال لَيْسَ رُخْصَةً فِي حَقِّهِ، بَل هُوَ إِسَاءَةٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ. وَالْقَصْرُ عَزِيمَةٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: مَا سَافَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ إِلاَّ الْمَغْرِبَ (1) وَلَوْ كَانَ الْقَصْرُ رُخْصَةً وَالإِْكْمَال هُوَ الْعَزِيمَةَ لَمَا تَرَكَ الْعَزِيمَةَ إِلاَّ أَحْيَانًا؛ إِذِ الْعَزِيمَةُ أَفْضَل، وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَخْتَارُ مِنَ الأَْعْمَال إِلاَّ أَفْضَلَهَا، وَكَانَ لاَ يَتْرُكُ الأَْفْضَل إِلاَّ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ تَعْلِيمًا لِلرُّخْصَةِ فِي حَقِّ الأُْمَّةِ، وَلَقَدْ قَصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَال لأَِهْل مَكَّةَ: أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ (2) فَلَوْ جَازَ الأَْرْبَعُ لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ (3) .
شَرَائِطُ الْقَصْرِ:
يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ الصَّلاَةَ الرُّبَاعِيَّةَ إِلَى رَكْعَتَيْنِ إِذَا تَوَفَّرَتِ الشَّرَائِطُ الآْتِيَةُ:
الأُْولَى: نِيَّةُ السَّفَرِ:
18 - وَهِيَ شَرِيطَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَبَقَ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِيهَا: نِيَّةُ الأَْصْل دُونَ التَّابِعِ عَلَى
__________
(1) حديث عمران بن حصين: " ما سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صلى ركعتين إلا المغرب " يأتي مطولا في الفقرة (24) دون قوله: " المغرب ".
(2) حديث: " أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ". تقدم تخريجه ف4.
(3) البدائع 1 / 91.(27/275)
مَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَأَنْ تَكُونَ مِنْ بَالِغٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِذَلِكَ لَوْ خَرَجَ الصَّبِيُّ قَاصِدًا السَّفَرَ وَسَارَ مَسَافَةً حَتَّى بَقِيَ إِلَى مَقْصِدِهِ أَقَل مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ فَبَلَغَ حِينَذَاكَ، فَإِنَّهُ لاَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ، بَل يُصَلِّي أَرْبَعًا؛ لأَِنَّ قَصْدَهُ السَّفَرَ لَمْ يَصِحَّ ابْتِدَاءً، وَحِينَ بَلَغَ لَمْ يَبْقَ إِلَى مَقْصِدِهِ مُدَّةُ السَّفَرِ فَلاَ يَصِيرُ مُسَافِرًا عِنْدَهُمْ (1) .
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي السَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ: أَلاَّ يَكُونَ لِمَعْصِيَةٍ، فَلاَ يَقْصُرُ عَاصٍ بِسَفَرِهِ، كَآبِقٍ وَقَاطِعِ طَرِيقٍ؛ لأَِنَّ الرُّخْصَ لاَ يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْمَعَاصِي؛ وَجَوَازُ الرُّخْصِ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَهَذَا لاَ يَجُوزُ.
فَإِنْ قَصَرَ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يُعِيدُ الصَّلاَةَ عَلَى الأَْصْوَبِ، وَإِنْ أَثِمَ بِعِصْيَانِهِ.
وَمَنْ أَنْشَأَ السَّفَرَ عَاصِيًا بِهِ، ثُمَّ تَابَ فِي أَثْنَائِهِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَقْصُرُ إِنْ كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ سَفَرٍ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، وَلَوْ سَافَرَ سَفَرًا مُبَاحًا ثُمَّ قَصَدَ بِسَفَرِهِ الْمَعْصِيَةَ قَبْل تَمَامِ سَفَرِهِ، انْقَطَعَ التَّرَخُّصُ، فَلاَ يَقْصُرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ لِلشَّافِعِيَّةِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ يَقْصُرُ (2) .
__________
(1) البدائع 1 / 93، 94، 103، وفتح القدير 1 / 302.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 358، والمهذب 1 / 102، ومغني المحتاج 1 / 266، وكشاف القناع 1 / 324، 237.(27/276)
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ مُبَاحًا، بَل أَجَازُوا الْقَصْرَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ - أَيْضًا -، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِي الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ عَلَى الْمُسَافِرِ مِنَ الصَّلاَةِ سَفَرُ الطَّاعَةِ مِنَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ، وَسَفَرُ الْمُبَاحِ كَسَفَرِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهِ، وَسَفَرُ الْمَعْصِيَةِ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْبَغْيِ؛ لأَِنَّ الدَّلاَئِل الَّتِي وَرَدَتْ لاَ تُوجِبُ الْفَصْل بَيْنَ مُسَافِرٍ وَمُسَافِرٍ. وَمِنْ هَذِهِ الدَّلاَئِل قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ. . .} (1) ، وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} (2) وَقَوْل عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: جَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ (3) مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ سَفَرٍ وَسَفَرٍ، فَوَجَبَ الْعَمَل بِعُمُومِ النُّصُوصِ وَإِطْلاَقِهَا (4) .
الثَّانِيَةُ: مَسَافَةُ السَّفَرِ:
19 - وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ الإِْنْسَانُ مَسِيرَةَ مَسَافَةِ السَّفَرِ الْمُقَدَّرَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ طَافَ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مَسِيرَةِ الْمَسَافَةِ
__________
(1) سورة البقرة / 184.
(2) سورة البقرة / 139.
(3) حديث " جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". تقدم تخريجه ف11.
(4) البدائع 1 / 93، والاختيار لتعليل المختار 1 / 111.(27/276)
الْمُحَدَّدَةِ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ مُسَافِرًا، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ.
الثَّالِثَةُ: الْخُرُوجُ مِنْ عِمْرَانِ بَلْدَتِهِ:
20 - فَالْقَصْرُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ أَنْ يُجَاوِزَ الْمُسَافِرُ مَحَل إِقَامَتِهِ، وَمَا يَتْبَعُهُ عَلَى التَّفْصِيل الَّذِي سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
لَكِنْ هَل يُشْتَرَطُ الْخُرُوجُ لِلسَّفَرِ قَبْل مُضِيِّ وَقْتٍ يَسَعُ الإِْتْمَامَ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
يَقُول الْكَاسَانِيُّ الْحَنَفِيُّ: وَسَوَاءٌ خَرَجَ فِي أَوَّل الْوَقْتِ أَوْ فِي وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَتَّسِعُ لأَِدَاءِ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَقْصُرُ فِي ظَاهِرِ قَوْل أَصْحَابِنَا. وَقَال إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثَّلْجِيُّ: إِنَّمَا يَقْصُرُ إِذَا خَرَجَ قَبْل الزَّوَال، فَأَمَّا إِذَا خَرَجَ بَعْدَ الزَّوَال فَإِنَّهُ يُكْمِل الظُّهْرَ وَيَقْصُرُ الْعَصْرَ. وَالْكَلاَمُ فِي ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الصَّلاَةَ هَل تَجِبُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ أَوْ فِي آخِرِهِ؟
فَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ تَجِبُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنَ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ إِلَى الْمُصَلِّي مِنْ حَيْثُ الْفِعْل، حَتَّى إِنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي أَوَّل الْوَقْتِ تَجِبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَلِكَ إِذَا شَرَعَ فِي وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ. وَثَمَّةَ أَصْلٌ(27/277)
آخَرُ، وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، فَقَال الْكَرْخِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ بِمِقْدَارِ التَّحْرِيمَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الأَْدَاءَ يَتَغَيَّرُ وَإِنْ بَقِيَ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ فَقَطْ، وَقَال زُفَرُ وَاخْتَارَهُ الْقُدُورِيُّ: لاَ يَجِبُ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُؤَدِّي فِيهِ الْفَرْضَ. وَعَلَى ذَلِكَ الْقَوْل فَلاَ يَتَغَيَّرُ الْفَرْضُ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الأَْدَاءُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تُقْصَرُ الصَّلاَةُ الَّتِي يُسَافَرُ فِي وَقْتِهَا وَلَوِ الضَّرُورِيِّ، فَيَقْصُرُ الظُّهْرَيْنِ قَبْل الْغُرُوبِ بِثَلاَثِ رَكَعَاتٍ فَأَكْثَرَ وَلَوْ أَخَّرَهُمَا عَمْدًا، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ بِمِقْدَارِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ رَكْعَةٍ صَلَّى الْعَصْرَ فَقَطْ سَفَرِيَّةً (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ سَافَرَ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ أَقَل مِنْ قَدْرِ الصَّلاَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُؤَدٍّ لِجَمِيعِ الصَّلاَةِ جَازَ لَهُ الْقَصْرُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مُؤَدٍّ لِمَا فَعَل فِي الْوَقْتِ قَاضٍ لِمَا فَعَل بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ دَخَل عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلاَةِ فِي الْحَضَرِ، ثُمَّ سَافَرَ، لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ؛ لِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ تَامَّةً بِدُخُول وَقْتِهَا (4) .
__________
(1) البدائع 1 / 95.
(2) الشرح الكبير 1 / 360.
(3) المجموع 4 / 368.
(4) كشاف القناع 1 / 328.(27/277)
الرَّابِعَةُ: اشْتِرَاطُ نِيَّةِ الْقَصْرِ عِنْدَ كُل صَلاَةٍ:
21 - يُشْتَرَطُ لِلْقَصْرِ نِيَّتُهُ فِي التَّحْرِيمَةِ، وَمِثْل نِيَّةِ الْقَصْرِ مَا لَوْ نَوَى الظُّهْرَ مَثَلاً رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يَنْوِ تَرَخُّصًا، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَمِثْل النِّيَّةِ - أَيْضًا - مَا لَوْ قَال: أُؤَدِّي صَلاَةَ السَّفَرِ، كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَوْ لَمْ يَنْوِ مَا ذُكِرَ، بِأَنْ نَوَى الإِْتْمَامَ أَوْ أَطْلَقَ أَتَمَّ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنَّ نِيَّةَ السَّفَرِ تَجْعَل فَرْضَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا يَكْفِي.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تَكْفِي نِيَّةُ الْقَصْرِ فِي أَوَّل صَلاَةٍ يَقْصُرُهَا فِي السَّفَرِ، وَلاَ يَلْزَمُ تَجْدِيدُهَا فِيمَا بَعْدَهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَقِيل: إِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ نِيَّةِ الْقَصْرِ عِنْدَ كُل صَلاَةٍ وَلَوْ حُكْمًا (1) .
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ التَّحَرُّزَ عَمَّا يُنَافِي نِيَّةَ الْقَصْرِ فِي دَوَامِ الصَّلاَةِ، وَذَلِكَ مِثْل نِيَّةِ الإِْتْمَامِ، فَلَوْ نَوَى الإِْتْمَامَ بَعْدَ نِيَّةِ الْقَصْرِ أَتَمَّ، وَلَوْ أَحْرَمَ قَاصِرًا ثُمَّ تَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ يَقْصُرُ أَمْ يُتِمُّ؟ أَتَمَّ. أَوْ شَكَّ فِي أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ أَمْ لاَ؟ أَتَمَّ. وَإِنْ تَذَكَّرَ فِي الْحَال أَنَّهُ نَوَاهُ، لأَِنَّهُ أَدَّى جُزْءًا مِنْ صَلاَتِهِ حَال التَّرَدُّدِ عَلَى التَّمَامِ، وَلَوْ قَامَ الْقَاصِرُ لِثَالِثَةٍ عَمْدًا بِلاَ مُوجِبٍ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 367، والمهذب 1 / 103، وكشاف القناع 1 / 329.(27/278)
لإِِتْمَامٍ، كَنِيَّتِهِ أَوْ نِيَّةِ إِقَامَةٍ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ (1) .
وَنَحْوُهُمُ الْحَنَابِلَةُ: فَعِنْدَهُمْ: إِنْ عَزَمَ الْمُسَافِرُ فِي صَلاَتِهِ عَلَى مَا يَلْزَمُهُ بِهِ الإِْتْمَامُ مِنَ الإِْقَامَةِ وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ تَغْلِيبًا لِكَوْنِهِ الأَْصْل، أَوْ تَابَ مِنْ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ فِي الصَّلاَةِ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا سَفَرِيَّةً لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ، وَلاَ تَنْفَعُهُ نِيَّةُ الْقَصْرِ، وَكَمَنْ نَوَى خَلْفَ مُقِيمٍ عَالِمًا بِأَنَّ إِمَامَهُ مُقِيمٌ، وَأَنَّهُ لاَ يُبَاحُ لَهُ الْقَصْرُ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ (2) .
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ - أَيْضًا -: الْعِلْمَ بِجَوَازِ الْقَصْرِ، فَلَوْ قَصَرَ جَاهِلاً بِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ؛ لِتَلاَعُبِهِ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوِ اخْتَارَ الأَْرْبَعَ لاَ يَقَعُ الْكُل فَرْضًا، بَل الْمَفْرُوضُ رَكْعَتَانِ، وَالشَّطْرُ الثَّانِي: يَقَعُ تَطَوُّعًا، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْعُدْ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّهَا الْقَعْدَةُ الأَْخِيرَةُ فِي حَقِّهِ، وَإِذَا أَتَمَّ سَاهِيًا صَحَّتْ صَلاَتُهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا وَجَلَسَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ صَحَّتْ صَلاَتُهُ وَأَسَاءَ لِتَأْخِيرِهِ السَّلاَمَ عَنْ مَكَانِهِ (4) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ الإِْقَامَةَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 267، 268.
(2) كشاف القناع 1 / 329.
(3) مغني المحتاج 1 / 68.
(4) بدائع الصنائع 1 / 92، 93.(27/278)
الْقَاطِعَةَ لِحُكْمِ السَّفَرِ، وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا سَفَرِيَّةً شَفَعَ بِأُخْرَى نَدْبًا إِنْ عَقَدَ رَكْعَةً وَجَعَلَهَا نَافِلَةً، وَلاَ تُجْزِئُ حَضَرِيَّةٌ إِنْ أَتَمَّهَا أَرْبَعًا؛ لِعَدَمِ دُخُولِهِ عَلَيْهَا وَلاَ تُجْزِئُ سَفَرِيَّةٌ؛ لِتَغَيُّرِ نِيَّتِهِ فِي أَثْنَائِهَا (1) .
الْمَكَانُ الَّذِي يَبْدَأُ مِنْهُ الْقَصْرُ:
22 - قَال الْفُقَهَاءُ: يَبْدَأُ الْمُسَافِرُ الْقَصْرَ إِذَا فَارَقَ بُيُوتَ الْمِصْرِ، فَحِينَئِذٍ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. وَأَصْلُهُ مَا رَوَى أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: صَلَّيْتُ الظُّهْرَ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ (2) ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ يُرِيدُ الْكُوفَةَ صَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ثُمَّ نَظَرَ إِلَى خُصٍّ أَمَامَهُ وَقَال: لَوْ جَاوَزْنَا هَذَا الْخُصَّ صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ.
وَالْمُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْبُيُوتِ مِنَ الْجَانِبِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْجَوَانِبِ بُيُوتٌ. وَيَدْخُل فِي بُيُوتِ الْمِصْرِ الْمَبَانِي الْمُحِيطَةُ بِهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْصُرْ فِي سَفَرِهِ إِلاَّ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ (3) .
__________
(1) الشرح الكبير 1 / 364، 365.
(2) حديث أنس: " صليت الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 569 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 480 - ط. الحلبي) واللفظ لمسلم.
(3) الهداية وشروحها 1 / 396، 397.(27/279)
وَالْقَرْيَتَانِ الْمُتَدَانِيَتَانِ الْمُتَّصِل بِنَاءُ إِحْدَاهُمَا بِالأُْخْرَى، أَوِ الَّتِي يَرْتَفِقُ أَهْل إِحْدَاهُمَا بِالأُْخْرَى فَهُمَا كَالْقَرْيَةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِلاَّ فَلِكُل قَرْيَةٍ حُكْمُ نَفْسِهَا يَقْصُرُ إِذَا جَاوَزَ بُيُوتَهَا وَالأَْبْنِيَةَ الَّتِي فِي طَرَفِهَا.
وَسَاكِنُ الْخِيَامِ يَقْصُرُ إِذَا فَارَقَ خِيَامَ قَوْمِهِ وَمَرَافِقَهَا، كَمَلْعَبِ الصِّبْيَانِ، وَالْبَسَاتِينِ الْمَسْكُونَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْبَلَدِ، وَلَوْ حُكْمًا لاَ يَقْصُرُ إِلاَّ إِذَا فَارَقَهَا إِنْ سَافَرَ مِنْ نَاحِيَتِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ نَاحِيَتِهَا، وَكَانَ مُحَاذِيًا لَهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَيَقْصُرُ سُكَّانُ الْقُصُورِ وَالْبَسَاتِينِ وَأَهْل الْعِزَبِ إِذَا فَارَقُوا مَا نُسِبُوا إِلَيْهِ بِمَا يُعَدُّ مُفَارَقَةً عُرْفًا.
وَالْبَلْدَةُ الَّتِي لَهَا سُوَرٌ، لاَ يَقْصُرُ إِلاَّ إِذَا جَاوَزَهُ وَإِنْ تَعَدَّدَ، كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ.
وَقَالُوا أَيْضًا: يُعْتَبَرُ مُجَاوَزَةُ عَرْضِ الْوَادِي إِنْ سَافَرَ فِي عَرْضِهِ، وَالْهُبُوطُ إِنْ كَانَ فِي رَبْوَةٍ، وَالصُّعُودُ إِنْ كَانَ فِي وَهْدَةٍ. وَهَذَا إِنْ سَافَرَ فِي الْبَرِّ، وَيُعْتَبَرُ فِي سَفَرِ الْبَحْرِ الْمُتَّصِل سَاحِلُهُ بِالْبَلَدِ جَرْيُ السَّفِينَةِ أَوِ الزَّوْرَقِ، فَيَقْصُرُ بِمُجَرَّدِ تَحَرُّكِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْبَحْرُ بَعِيدًا عَنِ الْمَدِينَةِ فَالْعِبْرَةُ بِمُجَاوَزَةِ سُوَرِ الْمَدِينَةِ (1) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 396، 397، ومغني المحتاج 1 / 264.(27/279)
الصَّلَوَاتُ الَّتِي تُقْصَرُ، وَمِقْدَارُ الْقَصْرِ:
23 - الصَّلَوَاتُ الَّتِي تُقْصَرُ هِيَ: الصَّلاَةُ الرُّبَاعِيَّةُ، وَهِيَ: الظُّهْرُ، وَالْعَصْرُ، وَالْعِشَاءُ إِجْمَاعًا، وَلاَ قَصْرَ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: فَرَضَ صَلاَةَ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ. فَلَمَّا أَقَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ زِيدَ فِي صَلاَةِ الْحَضَرِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ وَتُرِكَتْ صَلاَةُ الْفَجْرِ لِطُول الْقِرَاءَةِ وَصَلاَةُ الْمَغْرِبِ لأَِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ (1) وَلأَِنَّ الْقَصْرَ هُوَ: سُقُوطُ شَطْرِ الصَّلاَةِ، وَبَعْدَ سُقُوطِ الشَّطْرِ مِنَ الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ لاَ يَبْقَى نِصْفٌ مَشْرُوعٌ، بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي تُقْصَرُ، وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ.
وَمِقْدَارُ الْقَصْرِ: أَنْ تَصِيرَ الرُّبَاعِيَّةُ رَكْعَتَيْنِ لاَ غَيْرُ.
وَلاَ قَصْرَ فِي السُّنَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَلاَ قَصْرَ فِي الْمَنْذُورَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ، وَعَكْسُهُ:
24 - يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها: " فرض صلاة السفر والحضر ركعتين ركعتين ". أخرجه ابن خزيمة (1 / 157 ط. المكتب الإسلامي) وأشار إلى انقطاع في سنده.
(2) البدائع 1 / 92، 93، والشرح الكبير 1 / 360، ومغني المحتاج 1 / 260، وكشاف القناع 1 / 325.(27/280)
بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ، وَيَنْقَلِبُ فَرْضُ الْمُسَافِرِ أَرْبَعًا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لأَِنَّهُ لَمَّا اقْتَدَى بِهِ صَارَ تَبَعًا لَهُ؛ لأَِنَّ مُتَابَعَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا جُعِل الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ (1) وَأَدَاءُ الصَّلاَةِ فِي الْوَقْتِ مِمَّا يَحْتَمِل التَّغْيِيرَ، وَهُوَ التَّبَعِيَّةُ، فَيَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا، فَصَارَ صَلاَةُ الْمُقْتَدِي مِثْل صَلاَةِ الإِْمَامِ، فَصَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ.
وَلاَ يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ خَارِجَ الْوَقْتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ خَارِجَ الْوَقْتِ مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ خَلَفٌ عَنِ الأَْدَاءِ، وَالأَْدَاءُ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَلاَ يَتَغَيَّرُ الْقَضَاءُ بِالاِقْتِدَاءِ بِالْمُقِيمِ، فَبَقِيَتْ صَلاَتُهُ رَكْعَتَيْنِ وَصَارَتِ الْقَعْدَةُ الأُْولَى لِلتَّشَهُّدِ فَرْضًا فِي حَقِّهِ، وَهِيَ نَفْلٌ فِي حَقِّ الإِْمَامِ فَيَكُونُ هَذَا اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّل فِي حَقِّ الْقَعْدَةِ، وَكَمَا لاَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّل فِي جَمِيعِ الصَّلاَةِ، فَلاَ يَجُوزُ فِي رُكْنٍ مِنْهَا.
وَلَوْ أَنَّ مُقِيمًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ، فَلَمَّا قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ جَاءَ مُسَافِرٌ وَاقْتَدَى بِهِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لاَ يَصِحُّ؛ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ مِنْ أَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ تَقَرَّرَ رَكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَالْقِرَاءَةُ فَرْضٌ عَلَيْهِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَهِيَ نَفْلٌ فِي حَقِّ
__________
(1) حديث: " إنما جعل الإمام ليؤتم به ". أخرجه مسلم (1 / 309، 310 ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.(27/280)
الْمُقِيمِ فِي الأَْخِيرَتَيْنِ، فَيَكُونُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّل فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ.
وَأَمَّا اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ فَيَصِحُّ فِي الْوَقْتِ وَخَارِجَ الْوَقْتِ؛ لأَِنَّ صَلاَةَ الْمُسَافِرِ فِي الْحَالَتَيْنِ وَاحِدَةٌ، وَالْقَعْدَةُ فَرْضٌ فِي حَقِّهِ نَفْلٌ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي، وَاقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّل بِالْمُفْتَرِضِ جَائِزٌ فِي كُل الصَّلاَةِ فَكَذَا فِي بَعْضِهَا، وَإِذَا سَلَّمَ الإِْمَامُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ لاَ يُسَلِّمُ الْمُقِيمُ؛ لأَِنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَطْرُ الصَّلاَةِ، فَلَوْ سَلَّمَ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ، وَلَكِنَّهُ يَقُومُ وَيُتِمُّهَا أَرْبَعًا؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتِمُّوا يَا أَهْل مَكَّةَ صَلاَتَكُمْ، فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ (1) ، وَيَقُول الإِْمَامُ الْمُسَافِرُ ذَلِكَ لِلْمُقِيمِينَ اقْتِدَاءً بِالرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَامُ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَيَلْزَمُهُ الإِْتْمَامُ وَلَوْ نَوَى الْقَصْرَ؛ لِمُتَابَعَةِ الإِْمَامِ، وَهَذَا إِذَا أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً، وَاخْتُلِفَ فِي الإِْعَادَةِ، لِمُخَالَفَةِ سُنَّةِ الْقَصْرِ.
وَيَجُوزُ - أَيْضًا - اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَيُسَلِّمُ الْمُسَافِرُ، وَيُتِمُّ الْمُقِيمُ (3) .
وَيَجُوزُ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
__________
(1) حديث: " أتموا يا أهل مكة. . ". تقدم تخريجه ف4.
(2) بدائع الصنائع 1 / 93، 101.
(3) الشرح الكبير 1 / 365، 366.(27/281)
اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ، وَيَلْزَمُهُ الإِْتْمَامُ. كَمَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ، وَفَرَضَا الإِْتْمَامَ (1) .
وَذَهَبَ طَاوُسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَتَمِيمٌ بْنُ حَذْلَمٍ: إِلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إِنْ أَدْرَكَ مَعَ الإِْمَامِ الْمُقِيمِ رَكْعَتَيْنِ أَجْزَأَتَا عَنْهُ.
وَذَهَبَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةَ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ أَتَمَّ، وَإِنْ أَدْرَكَ مَعَهُ أَقَل مِنْ رَكْعَةٍ قَصَرَ (2) .
قَضَاءُ فَائِتَةِ السَّفَرِ فِي الْحَضَرِ وَعَكْسِهِ:
25 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ: مَنْ فَاتَتْهُ صَلاَةٌ فِي السَّفَرِ قَضَاهَا فِي الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلاَةٌ فِي الْحَضَرِ قَضَاهَا فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ بِحَسَبِ الأَْدَاءِ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ آخِرُ الْوَقْتِ؛ لأَِنَّهُ الْمُعْتَبَرُ فِي السَّبَبِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الأَْدَاءِ فِي الْوَقْتِ.
وَقَال زُفَرُ: إِذَا سَافَرَ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرُ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ صَلاَةَ السَّفَرِ يَقْضِيَ صَلاَةَ السَّفَرِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَهُ صَلَّى صَلاَةَ الْمُقِيمِ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ - وَهُوَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 268، وكشاف القناع 1 / 328.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 284.
(3) فتح القدير 1 / 405، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 360.(27/281)
الأَْصَحُّ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ؛ لأَِنَّهُ تَخْفِيفٌ تَعَلَّقَ بِعُذْرٍ فَزَال بِزَوَال الْعُذْرِ. وَإِنْ فَاتَتْهُ فِي السَّفَرِ فَقَضَاهَا فِي السَّفَرِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا: لاَ يَقْصُرُ؛ لأَِنَّهَا صَلاَةٌ رُدَّتْ مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِهَا الْوَقْتُ. وَالثَّانِي: لَهُ أَنْ يَقْصُرَ - وَهُوَ الأَْصَحُّ - لأَِنَّهُ تَخْفِيفٌ تَعَلَّقَ بِعُذْرٍ، وَالْعُذْرُ بَاقٍ، فَكَانَ التَّخْفِيفُ بَاقِيًا. وَإِنْ فَاتَتْهُ فِي الْحَضَرِ صَلاَةٌ، فَأَرَادَ قَضَاءَهَا فِي السَّفَرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ؛ لأَِنَّهُ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ صَلاَةٌ تَامَّةٌ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ، وَقَال الْمُزَنِيُّ: لَهُ أَنْ يَقْصُرَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا نَسِيَ صَلاَةَ حَضَرٍ فَذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ، أَوْ نَسِيَ صَلاَةَ سَفَرٍ فَذَكَرَهَا فِي الْحَضَرِ صَلَّى فِي الْحَالَتَيْنِ صَلاَةَ حَضَرٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالأَْثْرَمِ؛ لأَِنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ فَيَبْطُل بِزَوَالِهِ.
زَوَال حَالَةِ السَّفَرِ:
26 - الْمُسَافِرُ إِذَا صَحَّ سَفَرُهُ يَظَل عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ، وَلاَ يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ الإِْقَامَةَ، أَوْ يَدْخُل وَطَنَهُ، وَحِينَئِذٍ تَزُول حَالَةُ السَّفَرِ، وَيُصْبِحُ مُقِيمًا تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ
__________
(1) المهذب 1 / 103، 104.(27/282)
أَحْكَامُ الْمُقِيمِ. وَلِلإِْقَامَةِ شَرَائِطُ هِيَ:
الأُْولَى: نِيَّةُ الإِْقَامَةِ وَمُدَّتُهَا الْمُعْتَبَرَةُ:
27 - نِيَّةُ الإِْقَامَةِ أَمْرٌ لاَ بُدَّ مِنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، حَتَّى لَوْ دَخَل مِصْرًا وَمَكَثَ فِيهِ شَهْرًا أَوْ أَكْثَر لاِنْتِظَارِ قَافِلَةٍ، أَوْ لِحَاجَةٍ أُخْرَى يَقُول: أَخْرُجُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا، وَلَمْ يَنْوِ الإِْقَامَةَ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِيرُ مُقِيمًا، وَذَلِكَ لإِِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ: أَقَامَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى نَيْسَابُورَ شَهْرَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهُ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ شَهْرًا وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ.
وَعَنْ عَلْقَمَةَ: أَنَّهُ أَقَامَ بِخَوَارِزْمَ سَنَتَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ.
وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: غَزَوْتُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدْتُ مَعَهُ الْفَتْحَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، لاَ يُصَلِّي إِلاَّ رَكْعَتَيْنِ، وَيَقُول: يَا أَهْل الْبَلَدِ: صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ (1) .
أَمَّا مُدَّةُ الإِْقَامَةِ الْمُعْتَبَرَةِ: فَأَقَلُّهَا خَمْسَةَ عَشْرَةَ يَوْمًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ
__________
(1) حديث عمران بن حصين: " غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 23 - 24 - ط. عزت عبيد دعاس) وأورده المنذري في مختصر السنن (2 / 61، نشر دار المعرفة) وقال: في إسناده علي بن زيد بن جوعان، وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة، وقال بعضهم: هو حديث لا تقوم به حجة، لكثرة اضطرابه.(27/282)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمَا قَالاَ: إِذَا دَخَلْتَ بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ وَفِي عَزْمِكَ أَنْ تُقِيمَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْمِل الصَّلاَةَ، وَإِنْ كُنْتَ لاَ تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فَاقْصُرْ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَهَذَا بَابٌ لاَ يُوصَل إِلَيْهِ بِالاِجْتِهَادِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَادِيرِ، وَلاَ يُظَنُّ بِهِمَا التَّكَلُّمُ جُزَافًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا قَالاَهُ سَمَاعًا مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ، وَأَقَل مُدَّةِ الإِْقَامَةِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ صِحَاحٍ مَعَ وُجُوبِ عِشْرِينَ صَلاَةً فِي مُدَّةِ الإِْقَامَةِ، وَلاَ يُحْتَسَبُ مِنَ الأَْيَّامِ يَوْمُ الدُّخُول إِنْ دَخَل بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلاَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنْ خَرَجَ فِي أَثْنَائِهِ.
وَلاَ بُدَّ مِنَ اجْتِمَاعِ الأَْمْرَيْنِ: الأَْرْبَعَةِ الأَْيَّامِ وَالْعِشْرِينَ صَلاَةً.
وَاعْتَبَرَ سَحْنُونٌ: الْعِشْرِينَ صَلاَةً فَقَطْ، ثُمَّ إِنَّ نِيَّةَ الإِْقَامَةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي ابْتِدَاءِ السَّيْرِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي أَثْنَائِهِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي ابْتِدَاءِ السَّيْرِ، وَكَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَ النِّيَّةِ وَبَيْنَ مَحَل الإِْقَامَةِ مَسَافَةَ قَصْرٍ، قَصَرَ الصَّلاَةَ حَتَّى يَدْخُل مَحَل الإِْقَامَةِ بِالْفِعْل، وَإِلاَّ أَتَمَّ مِنْ حِينِ النِّيَّةِ، أَمَّا إِنْ كَانَتِ النِّيَّةُ فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ حَتَّى يَدْخُل مَحَل الإِْقَامَةِ بِالْفِعْل، وَلَوْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا دُونَ مَسَافَةِ
__________
(1) البدائع 1 / 97، 98.(27/283)
الْقَصْرِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ نِيَّةِ الإِْقَامَةِ نِيَّةُ الْعَسْكَرِ بِمَحَل خَوْفٍ، فَإِنَّهَا لاَ تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ.
وَإِذَا أَقَامَ بِمَحَلٍّ فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ دُونَ أَنْ يَنْوِيَ الإِْقَامَةَ بِهِ، فَإِنَّ إِقَامَتَهُ بِهِ لاَ تَمْنَعُ الْقَصْرَ وَلَوْ أَقَامَ مُدَّةً طَوِيلَةً إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ سَيُقِيمُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فِي مَكَان عَادَةً، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ الإِْقَامَةَ؛ لأَِنَّ الْعِلْمَ بِالإِْقَامَةِ كَالنِّيَّةِ، بِخِلاَفِ الشَّكِّ فَإِنَّهُ لاَ يَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ (1) .
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْمُسْتَقِل، وَلَوْ مُحَارِبًا إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ تَامَّةً بِلَيَالِيِهَا، أَوْ نَوَى الإِْقَامَةَ وَأَطْلَقَ بِمَوْضِعِ عَيْنِهِ، انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِوُصُولِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ سَوَاءٌ أَكَانَ مَقْصِدَهُ أَمْ فِي طَرِيقِهِ، أَوْ نَوَى بِمَوْضِعٍ وَصَل إِلَيْهِ إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِالنِّيَّةِ مَعَ مُكْثِهِ.
وَلَوْ أَقَامَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بِلاَ نِيَّةٍ انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِتَمَامِهَا؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْقَصْرَ بِشَرْطِ الضَّرْبِ فِي الأَْرْضِ، وَالْمُقِيمُ وَالْعَازِمُ عَلَى الإِْقَامَةِ غَيْرُ ضَارِبٍ فِي الأَْرْضِ. وَالسُّنَّةُ بَيَّنَتْ أَنَّ مَا دُونَ الأَْرْبَعِ لاَ يَقْطَعُ السَّفَرَ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بَعْدَ قَضَاءِ
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 364.(27/283)
نُسُكِهِ ثَلاَثًا (1) ، وَكَانَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الإِْقَامَةَ بِمَكَّةَ وَمُسَاكَنَةُ الْكُفَّارِ، فَالتَّرَخُّصُ فِي الثَّلاَثِ يَدُل عَلَى بَقَاءِ حُكْمِ السَّفَرِ، بِخِلاَفِ الأَْرْبَعَةِ، وَأَلْحَقَ بِإِقَامَةِ الأَْرْبَعَةِ: نِيَّةَ إِقَامَتِهَا.
وَلاَ يُحْسَبُ مِنَ الأَْرْبَعَةِ يَوْمَا دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ إِذَا دَخَل نَهَارًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَالثَّانِي يُحْسَبَانِ بِالتَّلْفِيقِ، فَلَوْ دَخَل زَوَال السَّبْتِ لِيَخْرُجَ زَوَال الأَْرْبِعَاءِ أَتَمَّ، وَقَبْلَهُ قَصَرَ، فَإِنْ دَخَل لَيْلاً لَمْ تُحْسَبْ بَقِيَّةُ اللَّيْلَةِ وَيُحْسَبُ الْغَدُ.
وَاخْتَارَ السُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الرُّخْصَةَ لاَ تَتَعَلَّقُ بِعَدَدِ الأَْيَّامِ بَل بِعَدَدِ الصَّلَوَاتِ، فَيَتَرَخَّصُ بِإِقَامَةِ مُدَّةٍ يُصَلِّي فِيهَا إِحْدَى وَعِشْرِينَ صَلاَةً مَكْتُوبَةً؛ لأَِنَّهُ الْمُحَقَّقُ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَل بِالأَْبْطُحِ.
وَلَوْ أَقَامَ بِبَلَدٍ بِنِيَّةِ أَنْ يَرْحَل إِذَا حَصَلَتْ حَاجَةٌ يَتَوَقَّعُهَا كُل وَقْتٍ، أَوْ حَبَسَهُ الرِّيحُ بِمَوْضِعٍ فِي الْبَحْرِ قَصَرَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا غَيْرَ يَوْمَيِ الدُّخُول وَالْخُرُوجِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَهَا بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ لِحَرْبِ هَوَازِنَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري (الفتح 7 / 266 - 267 ط. السلفية) ، ومسلم (2 / 985، ط. الحلبي) من حديث العلاء بن الحضرمي واللفظ لمسلم.
(2) أخرجه الطحاوي (شرح معاني الآثار 1 / 417 نشر مطبعة الأنوار المحمدية) من حديث عمران بن الحصين، وصححه الترمذي (2 / 430 ط. الحلبي) وأشار المنذري إلى تضعيفه.(27/284)
وَقِيل: يَقْصُرُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ غَيْرَ يَوْمَيِ الدُّخُول وَالْخُرُوجِ، وَفِي قَوْلٍ: يَقْصُرُ أَبَدًا؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ زَادَتْ حَاجَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الثَّمَانِيَةِ عَشَرَ لَقَصَرَ فِي الزَّائِدِ.
وَلَوْ عَلِمَ الْمُسَافِرُ بَقَاءَ حَاجَتِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً فَلاَ قَصْرَ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لأَِنَّهُ سَاكِنٌ مُطْمَئِنٌّ بَعِيدٌ عَنْ هَيْئَةِ الْمُسَافِرِينَ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ نَوَى إِقَامَةَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ صَلاَةً أَتَمَّ لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ مَكَّةَ صَبِيحَةَ رَابِعَةِ ذِي الْحِجَّةِ فَأَقَامَ بِهَا الرَّابِعَ وَالْخَامِسَ وَالسَّادِسَ وَالسَّابِعَ، وَصَلَّى الصُّبْحَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مِنًى، وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ فِي هَذِهِ الأَْيَّامِ، وَقَدْ عَزَمَ عَلَى إِقَامَتِهَا (2) . وَلَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ إِقَامَةً مُطْلَقَةً بِأَنْ لَمْ يَحُدَّهَا بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ فِي بَلْدَةٍ أَتَمَّ؛ لِزَوَال السَّفَرِ الْمُبِيحِ لِلْقَصْرِ بِنِيَّةِ الإِْقَامَةِ، وَلَوْ شَكَّ فِي نِيَّتِهِ، هَل نَوَى إِقَامَةَ مَا يَمْنَعُ الْقَصْرَ أَوْ لاَ؟ أَتَمَّ؛ لأَِنَّهُ الأَْصْل.
وَإِنْ أَقَامَ الْمُسَافِرُ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ يَرْجُو نَجَاحَهَا أَوْ جِهَادِ عَدُوٍّ بِلاَ نِيَّةِ إِقَامَةٍ تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ، وَلاَ يَعْلَمُ قَضَاءَ الْحَاجَةِ قَبْل
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 262.
(2) حديث جابر وابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة ". حديث ابن عباس أخرجه البخاري (الفتح2 / 565 - ط. السلفية) وحديث جابر أخرجه مسلم (2 / 883 - ط. الحلبي) وفيها قدوم النبي صلى الله عليه وسلم رابعة ذي الحجة.(27/284)
الْمُدَّةِ وَلَوْ ظَنًّا، أَوْ حُبِسَ ظُلْمًا، أَوْ حَبَسَهُ مَطَرٌ قَصَرَ أَبَدًا؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلاَةَ (1) .
فَإِنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهَا لاَ تَنْقَضِي فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لَزِمَهُ الإِْتْمَامُ، كَمَا لَوْ نَوَى إِقَامَةَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. وَإِنْ نَوَى إِقَامَةً بِشَرْطٍ، كَأَنْ يَقُول: إِنْ لَقِيتُ فُلاَنًا فِي هَذَا الْبَلَدِ أَقَمْتُ فِيهِ وَإِلاَّ فَلاَ، فَإِنْ لَمْ يَلْقَهُ فِي الْبَلَدِ فَلَهُ حُكْمُ السَّفَرِ؛ لِعَدَمِ الشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ الإِْقَامَةَ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ لَقِيَهُ بِهِ صَارَ مُقِيمًا؛ لاِسْتِصْحَابِهِ حُكْمَ نِيَّةِ الإِْقَامَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فَسَخَ نِيَّتَهُ الأُْولَى لِلإِْقَامَةِ قَبْل لِقَائِهِ أَوْ حَال لِقَائِهِ، وَإِنْ فَسَخَ النِّيَّةَ بَعْدَ لِقَائِهِ فَهُوَ كَمُسَافِرٍ نَوَى الإِْقَامَةَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ فِي مَوْضِعِ إِقَامَتِهِ؛ لأَِنَّهُ مَحَلٌّ ثَبَتَ لَهُ فِيهِ حُكْمُ الإِْقَامَةِ، فَأَشْبَهَ وَطَنَهُ (2) .
الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ - اتِّحَادُ مَكَانِ الْمُدَّةِ الْمُشْتَرَطَةِ لِلإِْقَامَةِ:
28 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي يُقِيمُهَا الْمُسَافِرُ وَيَصِيرُ بِهَا مُقِيمًا، يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ
__________
(1) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة ". أخرجه أبو داود (2 / 27 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والبيهقي (3 / 152 - ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث جابر بن عبد الله وأعله أبو داود بكونه روي مرسلا وأما البيهقي فقال: لا أراه محفوظا.
(2) كشاف القناع 1 / 330.(27/285)
تُقْضَى فِي مَكَان وَاحِدٍ أَوْ مَا يُشْبِهُ الْمَكَانَ الْوَاحِدَ؛ لأَِنَّ الإِْقَامَةَ قَرَارٌ وَالاِنْتِقَال يُضَادُّهُ.
فَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الإِْقَامَةَ الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ فِي مَوْضِعَيْنِ، فَإِنْ كَانَا مِصْرًا وَاحِدًا أَوْ قَرْيَةً وَاحِدَةً صَارَ مُقِيمًا؛ لأَِنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَا مِصْرَيْنِ نَحْوَ مَكَّةَ وَمِنًى، أَوِ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ، أَوْ إِنْ كَانَا قَرْيَتَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِصْرًا وَالآْخَرُ قَرْيَةً فَلاَ يَصِيرُ مُقِيمًا، وَلاَ تَزُول حَالَةُ السَّفَرِ؛ لأَِنَّهُمَا مَكَانَانِ مُتَبَايِنَانِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا. فَإِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِاللَّيَالِيِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَيَخْرُجُ بِالنَّهَارِ إِلَى الْمَوْضِعِ الآْخَرِ، فَإِنْ دَخَل أَوَّلاً الْمَوْضِعَ الَّذِي نَوَى الْمَقَامَ فِيهِ بِاللَّيْل يَصِيرُ مُقِيمًا، ثُمَّ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَوْضِعِ الآْخَرِ لاَ يَصِيرُ مُسَافِرًا؛ لأَِنَّ مَوْضِعَ إِقَامَةِ الرَّجُل حَيْثُ يَبِيتُ فِيهِ.
الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ - صَلاَحِيَةُ الْمَكَانِ لِلإِْقَامَةِ:
29 - يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ الَّذِي يُقِيمُ فِيهِ الْمُسَافِرُ صَالِحًا لِلإِْقَامَةِ، وَالْمَكَانُ الصَّالِحُ لِلإِْقَامَةِ: هُوَ مَوْضِعُ اللُّبْثِ وَالْقَرَارِ فِي الْعَادَةِ، نَحْوَ الأَْمْصَارِ وَالْقُرَى، وَأَمَّا الْمَفَازَةُ وَالْجَزِيرَةُ وَالسَّفِينَةُ فَلَيْسَتْ مَوْضِعَ الإِْقَامَةِ، حَتَّى لَوْ نَوَى الإِْقَامَةَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لاَ يَصِيرُ مُقِيمًا، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الأَْعْرَابِ وَالأَْكْرَادِ وَالتُّرْكُمَانِ إِذَا نَزَلُوا(27/285)
بِخِيَامِهِمْ فِي مَوْضِعٍ، وَنَوَوْا الإِْقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا صَارُوا مُقِيمِينَ، وَعَلَى هَذَا: إِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الإِْقَامَةَ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَصِيرُ مُقِيمًا كَمَا فِي الْقَرْيَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُمْ لاَ يَصِيرُونَ بِذَلِكَ مُقِيمِينَ. وَالْحَاصِل أَنَّ هُنَاكَ قَوْلاً وَاحِدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ: لاَ يَصِيرُ مُقِيمًا فِي الْمَفَازَةِ وَلَوْ كَانَ ثَمَّةَ قَوْمٌ وَطَنُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ بِالْخِيَامِ وَالْفَسَاطِيطِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ. وَالصَّحِيحُ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّ مَوْضِعَ الإِْقَامَةِ مَوْضِعُ الْقَرَارِ، وَالْمَفَازَةُ لَيْسَتْ مَوْضِعَ الْقَرَارِ فِي الأَْصْل فَكَانَتِ النِّيَّةُ لَغْوًا.
وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ أَهْل الْحَرْبِ، وَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى إِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَمْ تَصِحَّ نِيَّةُ الإِْقَامَةِ وَيَقْصُرُونَ، وَكَذَا إِذَا نَزَلُوا الْمَدِينَةَ وَحَاصَرُوا أَهْلَهَا فِي الْحِصْنِ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانُوا فِي الأَْخْبِيَةِ وَالْفَسَاطِيطِ خَارِجَ الْبَلْدَةِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا فِي الأَْبْنِيَةِ صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ. وَقَال زُفَرُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا: إِنْ كَانَتِ الشَّوْكَةُ وَالْغَلَبَةُ لِلْمُسْلِمِينَ صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَدُوِّ لَمْ تَصِحَّ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَلاَ يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ صَالِحًا لِلإِْقَامَةِ، فَلَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الإِْقَامَةَ فِي مَكَانٍ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ(27/286)
لِلإِْقَامَةِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَامْتَنَعَ الْقَصْرُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلاَنِ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَكَانِ صَالِحًا لِلإِْقَامَةِ (1) .
حُكْمُ التَّبَعِيَّةِ فِي الإِْقَامَةِ وَالْعِبْرَةُ لِنِيَّةِ الْمَتْبُوعِ فِيهَا:
30 - يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: الْعِبْرَةُ بِنِيَّةِ الأَْصْل فِي الإِْقَامَةِ، وَيَصِيرُ التَّبَعُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ الأَْصْل كَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْجَيْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا يَصِيرُ التَّبَعُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ الأَْصْل، وَتَنْقَلِبُ صَلاَتُهُ أَرْبَعًا إِذَا عَلِمَ التَّبَعُ بِنِيَّةِ إِقَامَةِ الأَْصْل. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلاَ، حَتَّى إِذَا صَلَّى التَّبَعُ صَلاَةَ الْمُسَافِرِينَ قَبْل الْعِلْمِ بِنِيَّةِ إِقَامَةِ الأَْصْل، فَإِنَّ صَلاَتَهُ جَائِزَةٌ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا. وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ حُكْمِ التَّبَعِيَّةِ فِي حَالَةِ السَّفَرِ، وَتَفْصِيل الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ.
وَالإِْقَامَةُ كَالسَّفَرِ فِي التَّبَعِيَّةِ.
دُخُول الْوَطَنِ:
31 - إِذَا دَخَل الْمُسَافِرُ وَطَنَهُ زَال حُكْمُ السَّفَرِ، وَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ بِصَيْرُورَتِهِ مُقِيمًا، وَسَوَاءٌ دَخَل وَطَنَهُ لِلإِْقَامَةِ، أَوْ لِلاِجْتِيَازِ، أَوْ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ، أَوْ أَلْجَأَتْهُ الرِّيحُ إِلَى دُخُولِهِ؛
__________
(1) البدائع 1 / 98، والشرح الكبير 1 / 360، ومغني المحتاج 1 / 362، وهداية الطالب: 174، والإنصاف 2 / 330.(27/286)
لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْرُجُ مُسَافِرًا إِلَى الْغَزَوَاتِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ يُجَدِّدُ نِيَّةَ الإِْقَامَةِ؛ لأَِنَّ وَطَنَهُ مُتَعَيِّنٌ لِلإِْقَامَةِ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ.
وَدُخُول الْوَطَنِ الَّذِي يَنْتَهِي بِهِ حُكْمُ السَّفَرِ هُوَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ الْقَصْرَ، فَإِذَا قَرُبَ مِنْ بَلَدِهِ فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَهُوَ مُسَافِرٌ مَا لَمْ يَدْخُل، وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ قَدِمَ الْكُوفَةَ مِنَ الْبَصْرَةِ صَلَّى صَلاَةَ السَّفَرِ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى أَبْيَاتِ الْكُوفَةِ.
وَرُوِيَ - أَيْضًا - أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال لِمُسَافِرٍ: صَل رَكْعَتَيْنِ مَا لَمْ تَدْخُل مَنْزِلَكَ. وَإِذَا دَخَل وَطَنَهُ فِي الْوَقْتِ وَجَبَ الإِْتْمَامُ.
الْعَزْمُ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْوَطَنِ:
32 - إِذَا عَزَمَ الْمُسَافِرُ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى وَطَنِهِ قَبْل أَنْ يَسِيرَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مُقِيمًا مِنْ حِينِ عَزَمَ عَلَى الْعَوْدَةِ وَيُصَلِّي تَمَامًا؛ لأَِنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْوَطَنِ قَصْدُ تَرْكِ السَّفَرِ بِمَنْزِلَةِ نِيَّةِ الإِْقَامَةِ، وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ مَعَ ذَلِكَ: أَنْ يَنْوِيَ وَهُوَ مُسْتَقِلٌّ مَاكِثٌ، أَمَّا لَوْ نَوَى وَهُوَ سَائِرٌ فَلاَ يَقْصُرُ حَتَّى يَدْخُل وَطَنَهُ (1) .
__________
(1) البدائع 1 / 103، حاشية الدسوقي 1 / 361، والمهذب 1 / 53.، وهداية الراغب: 106، ومغني المحتاج 1 / 262.(27/287)
وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْمَكَانِ الَّذِي عَزَمَ فِيهِ عَلَى الْعَوْدَةِ وَبَيْنَ الْوَطَنِ مُدَّةُ سَفَرِ قَصْرٍ، فَلاَ يَصِيرُ مُقِيمًا؛ لأَِنَّهُ بِالْعَزْمِ عَلَى الْعَوْدِ قَصَدَ تَرْكَ السَّفَرِ إِلَى جِهَةٍ، وَقَصْدُ السَّفَرِ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، فَلَمْ يُكْمِل الْعَزْمَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى السَّفَرِ لِوُقُوعِ التَّعَارُضِ، فَبَقِيَ مُسَافِرًا كَمَا كَانَ إِلَى أَنْ يَدْخُل وَطَنَهُ (1) .
جَمْعُ الصَّلاَةِ:
33 - الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ: هُوَ أَنْ يَجْمَعَ الْمُصَلِّي بَيْنَ فَرِيضَتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، جَمْعُ تَقْدِيمٍ أَوْ جَمْعُ تَأْخِيرٍ. وَالصَّلاَةُ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْجَمْعُ هِيَ: الظُّهْرُ مَعَ الْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبُ مَعَ الْعِشَاءِ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ فَرِيضَتَيْنِ جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ. إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مُسَوِّغَاتِ الْجَمْعِ: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ، فَمُسَوِّغُ الْجَمْعِ عِنْدَهُمْ هُوَ الْحَجُّ فَقَطْ، وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ الْجَمْعُ لأَِيِّ عُذْرٍ آخَرَ، كَالسَّفَرِ وَالْمَطَرِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِلْجَمْعِ سِتَّةُ أَسْبَابٍ:
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 126، 127، والشرح الكبير 1 / 268، ومغني المحتاج 1 / 269، وكشاف القناع 1 / 116.(27/287)
السَّفَرُ، وَالْمَطَرُ، وَالْوَحْل مَعَ الظُّلْمَةِ، وَالْمَرَضُ، وَبِعَرَفَةَ، وَمُزْدَلِفَةَ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ: عَدَمَ إِدْرَاكِ الْعَدُوِّ.
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ كَذَلِكَ: الرِّيحَ الشَّدِيدَةَ.
عَلَى أَنَّ هُنَاكَ بَعْدَ ذَلِكَ شَرَائِطَ بِالنِّسْبَةِ لِهَذِهِ الْمُسَوِّغَاتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمَذَاهِبِ مَعَ تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ، وَذَلِكَ مِثْل مَنِ اشْتَرَطَ فِي السَّفَرِ ضَرْبًا مُعَيَّنًا، كَقَوْل مَالِكٍ: لاَ يَجْمَعُ الْمُسَافِرُ إِلاَّ أَنْ يَجِدَّ بِهِ السَّيْرُ، وَمِنْهُمْ مَنَ اشْتَرَطَ سَفَرَ الْقُرْبَةِ كَالْحَجِّ وَالْغَزْوِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ الْجَمْعَ بِسَبَبِ الْمَطَرِ نَهَارًا وَأَجَازَهُ لَيْلاً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ بِسَبَبِ الْمَطَرِ لَيْلاً وَنَهَارًا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (جَمْعُ الصَّلَوَاتِ) .
صَلاَةُ الْمَغْرِبِ
انْظُرْ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَةُ(27/288)
الصَّلاَةُ عَلَى الْمَيِّتِ
انْظُرْ: جَنَائِز
صَلاَةُ النَّافِلَةِ
انْظُرْ: صَلاَةُ التَّطَوُّعِ
صَلاَةُ النَّفْل
انْظُرْ: صَلاَةُ التَّطَوُّعِ(27/288)
صَلاَةُ الْوِتْرِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْوِتْرُ (بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا) لُغَةً: الْعَدَدُ الْفَرْدِيُّ، كَالْوَاحِدِ وَالثَّلاَثَةِ وَالْخَمْسَةِ (1) ، وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ (2) . وَمِنْ كَلاَمِ الْعَرَبِ: كَانَ الْقَوْمُ شَفْعًا فَوَتَرْتُهُمْ وَأَوْتَرْتُهُمْ، أَيْ جَعَلْتُ شَفْعَهُمْ وِتْرًا. وَفِي الْحَدِيثِ: مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ (3) مَعْنَاهُ: فَلْيَسْتَنْجِ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ خَمْسَةٍ أَوْ سَبْعَةٍ، وَلاَ يَسْتَنْجِ بِالشَّفْعِ.
وَالْوِتْرُ فِي الاِصْطِلاَحِ: صَلاَةُ الْوِتْرِ، وَهِيَ صَلاَةٌ تُفْعَل مَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ، تُخْتَمُ بِهَا صَلاَةُ اللَّيْل، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّهَا تُصَلَّى وِتْرًا، رَكْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ ثَلاَثًا، أَوْ أَكْثَرَ، وَلاَ يَجُوزُ جَعْلُهَا شَفْعًا،
__________
(1) لسان العرب.
(2) حديث: " إن الله وتر يحب الوتر ". أخرجه البخاري (الفتح11 / 214 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2062 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم.
(3) حديث: " من استجمر فليوتر ". أخرجه البخاري (الفتح1 / 262 - ط السلفية) ومسلم (1 / 212 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(27/289)
وَيُقَال: صَلَّيْتُ الْوِتْرَ، وَأَوْتَرْتُ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَصَلاَةُ الْوِتْرِ اخْتُلِفَ فِيهَا، فَفِي قَوْلٍ: هِيَ جُزْءٌ مِنْ صَلاَةِ قِيَامِ اللَّيْل وَالتَّهَجُّدِ، قَال النَّوَوِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الأُْمِّ، وَفِي الْمُخْتَصَرِ. وَفِي وَجْهٍ أَيْ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يُسَمَّى تَهَجُّدًا، بَل الْوِتْرُ غَيْرُ التَّهَجُّدِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَيْسَ وَاجِبًا، وَدَلِيل سُنِّيَّتِهِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، فَأَوْتِرُوا يَا أَهْل الْقُرْآنِ (2) وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَوَاظَبَ عَلَيْهِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِعَدَمِ وُجُوبِهِ بِمَا ثَبَتَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ أَعْرَابِيٌّ: عَمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ فَقَال: خَمْسُ صَلَوَاتٍ، فَقَال: هَل عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَال: لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ (3) .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي كِنَانَةَ
__________
(1) المجموع للنووي 4 / 480.
(2) حديث: " إن الله وتر يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن ". أخرجه الترمذي (2 / 316 - ط الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب، وقال الترمذي: حديث حسن.
(3) حديث: سؤال الأعرابي. أخرجه البخاري (الفتح 5 / 287 - ط السلفية) ومسلم (1 / 41 - ط. الحلبي) من حديث طلحة بن عبيد الله.(27/289)
يُدْعَى الْمُخْدَجِيُّ سَمِعَ رَجُلاً بِالشَّامِ يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ، يَقُول: الْوِتْرُ وَاجِبٌ. قَال الْمُخْدَجِيُّ: فَرُحْتُ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاعْتَرَضْتُ لَهُ وَهُوَ رَائِحٌ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِاَلَّذِي قَال أَبُو مُحَمَّدٍ، فَقَال عُبَادَةُ: كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ، سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُول: خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ، مَنْ جَاءَ بِهِنَّ، لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا، اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ (1) .
وَقَال عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْوِتْرُ لَيْسَ بِحَتْمٍ كَهَيْئَةِ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَلَكِنْ سُنَّةٌ، سَنَّهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: وَلأَِنَّ الْوِتْرَ يَجُوزُ فِعْلُهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ، وَثَبَتَ ذَلِكَ بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَبِّحُ عَلَى الرَّاحِلَةِ قِبَل أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ (2) فَلَوْ
__________
(1) حديث: " خمس صلوات كتبهن الله على العباد " أخرجه النسائي (1 / 230 - ط المكتبة التجارية) وصححه ابن عبد البر كما في التلخيص لابن حجر (2 / 147 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 575 ط السلفية) من حديث ابن عمر.(27/290)
كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا صَلاَّهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ، كَالْفَرَائِضِ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - خِلاَفًا لِصَاحِبَيْهِ - وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ بِفَرْضٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْهُ فَرْضًا؛ لأَِنَّهُ لاَ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ، وَلاَ يُؤَذَّنُ لَهُ كَأَذَانِ الْفَرَائِضِ، وَاسْتَدَل بِوُجُوبِهِ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا كَرَّرَ ثَلاَثًا (2) وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَدَّكُمْ بِصَلاَةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، وَهِيَ صَلاَةُ الْوِتْرِ، فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ إِلَى صَلاَةِ الْفَجْرِ (3) وَهُوَ أَمْرٌ، وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَالأَْحَادِيثُ الآْمِرَةُ بِهِ كَثِيرَةٌ؛ وَلأَِنَّهُ صَلاَةٌ مُؤَقَّتَةٌ تُقْضَى.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: أَنَّهُ فَرْضٌ، لَكِنْ قَال ابْنُ الْهُمَامِ: مُرَادُهُ بِكَوْنِهِ سُنَّةً: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ،
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 210، والمجموع للنووي (ط. المنيرية 4 / 12 - 21) والدسوقي 1 / 312.
(2) حديث: " الوتر حق، فمن لم يوتر. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 129 - 130 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وأورده المنذري في (مختصر السنن 2 / 122 - نشر دار المعرفة) وذكر أن في إسناده راويا متكلما فيه.
(3) حديث: " إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم ". أخرجه الترمذي (2 / 314 - ط. الحلبي) والحاكم (1 / 306 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث خارجة بن حذافة العدوي، واللفظ للحاكم وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(27/290)
فَلاَ يُنَافِي الْوُجُوبَ، وَمُرَادُهُ بِأَنَّهُ فَرْضٌ: أَنَّهُ فَرْضٌ عَمَلِيٌّ، وَهُوَ الْوَاجِبُ (1) .
وُجُوبُ الْوِتْرِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
3 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوبَ الْوِتْرِ عَلَيْهِ، قَالُوا: وَكَوْنُهُ كَانَ يُصَلِّي الْوِتْرَ عَلَى الرَّاحِلَةِ يَحْتَمِل أَنَّهُ لِعُذْرٍ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ دُونَ السَّفَرِ. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ، وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ: الْوِتْرُ، وَالنَّحْرُ، وَصَلاَةُ الضُّحَى (2) .
دَرَجَةُ السُّنِّيَّةِ فِي صَلاَةِ الْوِتْرِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنْزِلَتُهَا بَيْنَ سَائِرِ النَّوَافِل:
4 - صَلاَةُ الْوِتْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ السَّابِقِ، وَالأَْحَادِيثُ الَّتِي تَحُضُّ عَلَيْهَا، وَحَدِيثُ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ قَال: قَال: رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَدَّكُمْ بِصَلاَةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ
__________
(1) الهداية وفتح القدير 1 / 300 - 303 ط. بولاق.
(2) مطالب أولي النهى 1 / 546، وكشاف القناع 1 / 415، والقليوبي 1 / 210، 212. وحديث: " ثلاث هن علي فرائض، وهن لكم تطوع ". أخرجه أحمد (1 / 231، ط الميمنية) من حديث ابن عباس، وأورده ابن حجر في التلخيص (2 / 18 - ط شركة الطباعة الفنية) وذكر تضعيف أحد رواته، كما نقل عن جمع من العلماء أنهم ضعفوا هذا الحديث.(27/291)
مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، وَهِيَ صَلاَةُ الْوِتْرِ، فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ إِلَى صَلاَةِ الْفَجْرِ (1) .
وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ أَسَاءَ، وَكُرِهَ لَهُ ذَلِكَ. قَال أَحْمَدُ: مَنْ تَرَكَ الْوِتْرَ عَمْدًا فَهُوَ رَجُل سُوءٍ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَل لَهُ شَهَادَةٌ. اهـ.
وَالْوِتْرُ مِنَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: آكَدُ الرَّوَاتِبِ وَأَفْضَلُهَا (2) .
وَآكَدُ النَّوَافِل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: صَلاَةُ الْكُسُوفِ؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْهَا عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهَا، ثُمَّ الاِسْتِسْقَاءُ؛ لأَِنَّهُ تُشْرَعُ لَهَا الْجَمَاعَةُ مُطْلَقًا؛ فَأَشْبَهَتِ الْفَرَائِضَ، ثُمَّ التَّرَاوِيحُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهَا خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ، لَكِنَّهَا أَشْبَهَتِ الْفَرَائِضَ مِنْ حَيْثُ مَشْرُوعِيَّةُ الْجَمَاعَةِ لَهَا، ثُمَّ الْوِتْرُ؛ لأَِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ مِنَ الأَْخْبَارِ مَا لَمْ يَأْتِ مِثْلُهُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، ثُمَّ سُنَّةُ الْفَجْرِ، ثُمَّ سُنَّةُ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ بَاقِي الرَّوَاتِبِ سَوَاءٌ (3) .
__________
(1) حديث خارجة بن حذافة تقدم تخريجه ف2.
(2) كفاية الطالب 1 / 256، 257، والمغني 2 / 160، 11، وكشاف القناع 1 / 415، 422.
(3) عميرة على شرح المنهاج 1 / 212، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 317، وكفاية الطالب 1 / 256، لبنان، دار المعرفة، كشاف القناع 1 / 414، 415، والمغني 2 / 161.(27/291)
وَقْتُ الْوِتْرِ:
5 - وَقْتُ الْوِتْرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - يَبْدَأُ مِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ وَذَلِكَ لِحَدِيثِ خَارِجَةَ الْمُتَقَدِّمِ، وَفِيهِ: فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ قَالُوا: وَيُصَلَّى اسْتِحْبَابًا بَعْدَ سُنَّةِ الْعِشَاءِ؛ لِيُوَالِيَ بَيْنَ الْعِشَاءِ وَسُنَّتِهَا. قَالُوا: وَلَوْ جَمَعَ الْمُصَلِّي بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ، أَيْ فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ فَيَبْدَأُ وَقْتُ الْوِتْرِ مِنْ بَعْدِ تَمَامِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ.
وَمَنْ صَلَّى الْوِتْرَ قَبْل أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ لَمْ يَصِحَّ وِتْرُهُ لِعَدَمِ دُخُول وَقْتِهِ، فَإِنْ فَعَلَهُ نِسْيَانًا أَعَادَهُ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: وَقْتُ الْوِتْرِ هُوَ وَقْتُ الْعِشَاءِ، فَلَوْ صَلَّى الْوِتْرَ قَبْل أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ صَحَّ وِتْرُهُ.
وَآخِرُ وَقْتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ طُلُوعُ الْفَجْرِ الثَّانِي لِحَدِيثِ خَارِجَةَ الْمُتَقَدِّمِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِ صَلاَةِ الْوِتْرِ مِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ الصَّحِيحَةِ وَمَغِيبِ الشَّفَقِ، فَمَنْ قَدَّمَ الْعِشَاءَ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ فَإِنَّهُ لاَ يُصَلِّي الْوِتْرَ إِلاَّ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ. وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ الْوِتْرِ عِنْدَهُمْ فَهُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ، إِلاَّ فِي الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ لِمَنْ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ عَنْ وِرْدِهِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَهُ، فَيُوتِرَ مَا(27/292)
بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَبَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ، مَا لَمْ يَخْشَ أَنْ تَفُوتَ صَلاَةُ الصُّبْحِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ. فَلَوْ شَرَعَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ، وَكَانَ مُنْفَرِدًا، قَبْل أَنْ يُصَلِّيَ الْوِتْرَ، نُدِبَ لَهُ قَطْعُهَا لِيُصَلِّيَ الْوِتْرَ. وَلاَ يُنْدَبُ ذَلِكَ لِلْمُؤْتَمِّ، وَفِي الإِْمَامِ رِوَايَتَانِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ وَقْتَ الْوِتْرِ هُوَ وَقْتُ الْعِشَاءِ، أَيْ مِنْ غُرُوبِ الشَّفَقِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلِذَا اكْتُفِيَ بِأَذَانِ الْعِشَاءِ وَإِقَامَتِهِ، فَلاَ يُؤَذَّنُ لِلْوِتْرِ، وَلاَ يُقَامُ لَهَا، مَعَ قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِهَا.
قَالُوا: وَلاَ يَجُوزُ تَقْدِيمُ صَلاَةِ الْوِتْرِ عَلَى صَلاَةِ الْعِشَاءِ، لاَ لِعَدَمِ دُخُول وَقْتِهَا، بَل لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ. فَلَوْ صَلَّى الْوِتْرَ قَبْل الْعِشَاءِ نَاسِيًا، أَوْ صَلاَّهُمَا، فَظَهَرَ فَسَادُ صَلاَةِ الْعِشَاءِ دُونَ الْوِتْرِ يَصِحُّ الْوِتْرُ وَيُعِيدُ الْعِشَاءَ وَحْدَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّ التَّرْتِيبَ يَسْقُطُ بِمِثْل هَذَا الْعُذْرِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ - أَيْضًا -: مَنْ لَمْ يَجِدْ وَقْتَ الْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ، بِأَنْ كَانَ فِي بَلَدٍ يَطْلُعُ فِيهِ الْفَجْرُ مَعَ غُرُوبِ الشَّفَقِ، أَوْ قَبْلَهُ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ
__________
(1) المغني 2 / 161، ومطالب أولي النهى 1 / 551، وكشاف القناع 1 / 415، 416، والقليوبي على شرح المنهاج 1 / 213، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 260، والزرقاني 1 / 288.(27/292)
الْعِشَاءُ وَلاَ الْوِتْرُ (1) .
6 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ: عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ جَعْل الْوِتْرِ آخِرَ النَّوَافِل الَّتِي تُصَلَّى بِاللَّيْل؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْل وِتْرًا (2) .
فَإِنْ أَرَادَ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ أَنْ يَتَنَفَّل يَجْعَل وِتْرَهُ بَعْدَ النَّفْل، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَهَجَّدَ - أَيْ يَقُومُ مِنْ آخِرِ اللَّيْل - فَإِنَّهُ إِذَا وَثِقَ بِاسْتِيقَاظِهِ أَوَاخِرَ اللَّيْل يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ وِتْرَهُ لِيَفْعَلَهُ آخِرَ اللَّيْل، وَإِلاَّ فَيُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُهُ قَبْل النَّوْمِ؛ لِحَدِيثِ: مَنْ خَافَ أَنْ لاَ يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْل فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْل، فَإِنَّ صَلاَةَ آخِرِ اللَّيْل مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَل (3) وَحَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: مِنْ كُل اللَّيْل قَدْ أَوْتَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ أَوَّل اللَّيْل وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ، فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ (4) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 303، والفتاوى الهندية 1 / 51.
(2) حديث: " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 488 - ط السلفية) ومسلم (1 / 518 - ط. الحلبي) من حديث ابن عمر.
(3) حديث: " من خاف ألا يقوم في آخر الليل. . . ". أخرجه مسلم (1 / 520 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(4) شرح المحلى على المنهاج 1 / 213، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 259، وكشاف القناع 1 / 416، وحديث عائشة: " من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 486 - ط السلفية) ومسلم (1 / 512 - ط. الحلبي) واللفظ لمسلم.(27/293)
عَدَدُ رَكَعَاتِ صَلاَةِ الْوِتْرِ:
7 - أَقَل صَلاَةِ الْوِتْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ. قَالُوا: وَيَجُوزُ ذَلِكَ بِلاَ كَرَاهَةٍ لِحَدِيثِ: صَلاَةُ اللَّيْل مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ (1) وَالاِقْتِصَارُ عَلَيْهَا خِلاَفُ الأَْوْلَى، لَكِنْ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: شَرْطُ الإِْيتَارِ بِرَكْعَةٍ سَبْقُ نَفْلٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ مِنْ سُنَّتِهَا، أَوْ غَيْرِهَا لِيُوتِرَ النَّفَل.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - خِلاَفُ الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ -: يُكْرَهُ الإِْيتَارُ بِرَكْعَةٍ حَتَّى فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ، تُسَمَّى الْبُتَيْرَاءُ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الإِْنْصَافِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ الإِْيتَارُ بِرَكْعَةٍ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْبُتَيْرَاءِ (2) قَالُوا: " رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأَى رَجُلاً يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ، فَقَال: مَا هَذِهِ الْبُتَيْرَاءُ؟ لَتَشْفَعَنَّهَا أَوْ لأَُؤَدِّبَنَّكَ (3) .
__________
(1) حديث " صلاة الليل مثنى مثنى. . . ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 476 - ط السلفية) ومسلم (1 / 517 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر، واللفظ لمسلم.
(2) حديث: " نهى عن البتيراء. . . ". عزاه الزيلعي في نصب الراية (2 / 120 ط المجلس العلمي بالهند) إلى التمهيد لابن عبد البر، ونقل عن ابن القطان أنه قال: هذا حديث شاذ لا يعرج على روايته.
(3) الهداية وفتح القدير والعناية 1 / 304.(27/293)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَكْثَرُ الْوِتْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَكْثَرُهُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَيَجُوزُ بِمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الأَْوْتَارِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَل، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلاَثٍ فَلْيَفْعَل، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَل. (1) وَقَوْلُهُ: أَوْتِرُوا بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ تِسْعٍ أَوْ إِحْدَى عَشْرَةَ (2) وَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِثَلاَثِ عَشْرَةَ رَكْعَةً (3) . لَكِنْ قَال الْمَحَلِّيُّ: يُحْمَل هَذَا عَلَى أَنَّهَا حَسِبَتْ فِيهِ سُنَّةَ الْعِشَاءِ.
وَأَدْنَى الْكَمَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ثَلاَثُ رَكَعَاتٍ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى رَكْعَةٍ كَانَ خِلاَفَ الأَْوْلَى. وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ: عَلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ الإِْيتَارُ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ بِلاَ عُذْرٍ.
__________
(1) حديث: " من أحب أن يوتر بخمس فليفعل. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 132 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي أيوب الأنصاري، وذكر ابن حجر في التلخيص (2 / 13 - ط شركة الطباعة الفنية) أن أبا حاتم الرازي والدارقطني وغير واحد صححوا وقفه وقالوا: وهو الصواب.
(2) حديث: " أوتروا بخمس أو سبع أو تسع أو إحدى عشرة ". أخرجه الحاكم (1 / 304 ط. دائرة المعارف العثمانية) وقال ابن حجر في التلخيص (1 / 3014 ط. شركة الطباعة الفنية) : رجاله ثقات.
(3) حديث أم سلمة: " كان يوتر بثلاث عشرة ركعة ". أخرجه أحمد (6 / 322 ط الميمنية) والترمذي (2 / 320 - ط الحلبي) وحسنه الترمذي.(27/294)
وَأَكْمَل مِنَ الثَّلاَثِ خَمْسٌ، ثُمَّ سَبْعٌ، ثُمَّ تِسْعٌ ثُمَّ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَهِيَ أَكْمَلُهُ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَلَمْ يَذْكُرُوا فِي عَدَدِهِ إِلاَّ ثَلاَثَ رَكَعَاتٍ، بِتَشَهُّدَيْنِ وَسَلاَمٍ، كَمَا يُصَلَّى الْمَغْرِبُ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْل عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِثَلاَثٍ لاَ يُسَلِّمُ إِلاَّ فِي آخِرِهِنَّ (2) وَفِي الْهِدَايَةِ: حَكَى الْحَسَنُ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الثَّلاَثِ. قَال ابْنُ الْهُمَامِ: وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ (3) .
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَإِنَّ الْوِتْرَ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ، لَكِنْ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ شَفْعٍ يَسْبِقُهَا. وَاخْتُلِفَ: هَل تَقْدِيمُ الشَّفْعِ شَرْطُ صِحَّةٍ أَوْ كَمَالٍ؟ قَالُوا: وَقَدْ تُسَمَّى الرَّكَعَاتُ الثَّلاَثُ وِتْرًا إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ مَجَازٌ، وَالْوِتْرُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ. وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَاحِدَةً فَقَطْ، بَل بَعْدَ نَافِلَةٍ، وَأَقَل تِلْكَ النَّافِلَةِ رَكْعَتَانِ، وَلاَ حَدَّ لأَِكْثَرِهَا. قَالُوا: وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ: صَلاَةُ اللَّيْل
__________
(1) شرح المحلى على المنهاج، وحاشية القليوبي 1 / 212 2132، وكشاف القناع 1 / 416، والإنصاف 1 / 168، والمغني 2 / 150، 165.
(2) حديث عائشة: (كان يوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهن) . أخرجه الحاكم (1 / 304 - ط دائرة المعارف العثمانية) وأخرجه النسائي (3 / 235 - ط المطبعة التجارية) بلفظ: " كان لا يسلم في ركعتي الوتر "، وصحح الحديث الذهبي في (التلخيص) .
(3) الهداية وفتح القدير والعناية 1 / 303، 304.(27/294)
مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى (1) .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ كَرَاهَةِ الإِْيتَارِ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ مَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ، كَالْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، فَقَدْ قِيل: لاَ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَقِيل: يُكْرَهُ لَهُ أَيْضًا. فَإِنْ أَوْتَرَ دُونَ عُذْرٍ بِوَاحِدَةٍ دُونَ شَفْعٍ قَبْلَهَا، قَال أَشْهَبُ: يُعِيدُ وِتْرَهُ بِأَثَرِ شَفْعٍ مَا لَمْ يُصَل الصُّبْحَ. وَقَال سَحْنُونٌ: إِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ ذَلِكَ أَيْ بِالْقُرْبِ، شَفَعَهَا بِرَكْعَةٍ ثُمَّ أَوْتَرَ، وَإِنْ تَبَاعَدَ أَجْزَأَهُ (2) .
وَقَالُوا: لاَ يُشْتَرَطُ فِي الشَّفْعِ الَّذِي قَبْل رَكْعَةِ الْوِتْرِ نِيَّةٌ تَخُصُّهُ، بَل يَكْتَفِي بِأَيِّ رَكْعَتَيْنِ كَانَتَا (3) .
صِفَةُ صَلاَةِ الْوِتْرِ:
أَوَّلاً: الْفَصْل وَالْوَصْل:
8 - الْمُصَلِّي إِمَّا أَنْ يُوتِرَ بِرَكْعَةٍ، أَوْ بِثَلاَثٍ، أَوْ بِأَكْثَرَ:
أ - فَإِنْ أَوْتَرَ الْمُصَلِّي بِرَكْعَةٍ - عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِهِ - فَالأَْمْرُ وَاضِحٌ.
__________
(1) حديث: " صلاة الليل. . . ". سبق تخريجه في نفس الفقرة.
(2) المنتقى للباجي (1 / 223 القاهرة، مطبعة السعادة، 1331 هـ وكفاية الطالب الرباني مع حاشية العدوي 1 / 257، 258، بيروت دار المعرفة عن طبعة القاهرة، والقوانين الفقهية (ص 61) .
(3) كفاية الطالب وحاشية العدوي 1 / 257.(27/295)
ب - وَإِنْ أَوْتَرَ بِثَلاَثٍ، فَلَهُ ثَلاَثُ صُوَرٍ:
الصُّورَةُ الأُْولَى: أَنْ يَفْصِل الشَّفْعَ بِالسَّلاَمِ، ثُمَّ يُصَلِّيَ الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ بِتَكْبِيرَةِ إِحْرَامٍ مُسْتَقِلَّةٍ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهِيَ الْمُعَيَّنَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَيُكْرَهُ مَا عَدَاهَا، إِلاَّ عِنْدَ الاِقْتِدَاءِ بِمَنْ يُصَل.
وَأَجَازَهَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَالُوا: إِنَّ الْفَصْل أَفْضَل مِنَ الْوَصْل، لِزِيَادَتِهِ عَلَيْهِ السَّلاَم وَغَيْرُهُ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ كَانَ إِمَامًا فَالْوَصْل أَفْضَل، لأَِنَّهُ يَقْتَدِي بِهِ الْمُخَالِفُ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَالْفَصْل أَفْضَل. قَالُوا: وَدَلِيل هَذِهِ الصُّورَةِ مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْصِل بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ بِتَسْلِيمَةٍ (1) وَوَرَدَ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ يُسَلِّمُ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ حَتَّى يَأْمُرَ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ فِعْل الرَّكْعَةِ بَعْدَ الشَّفْعِ بَعْدَ تَأْخِيرٍ لَهَا عَنْهُ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ لِيَفْصِل. وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَنْوِي فِي الرَّكْعَتَيْنِ إِنْ أَرَادَ الْفَصْل: (رَكْعَتَيْنِ مِنَ الْوِتْرِ)
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يفصل بين الشفع والوتر بتسليمة ". أخرجه أحمد (2 / 76 - ط الميمنية) وقواه كما نقله عنه ابن حجر في التلخيص (2 / 16 - ط شركة الطباعة الفنية) .(27/295)
أَوْ (سُنَّةَ الْوِتْرِ) أَوْ (مُقَدَّمَةَ الْوِتْرِ) قَالُوا: وَلاَ يَصِحُّ بِنِيَّةِ (الشَّفْعِ) أَوْ (سُنَّةِ الْعِشَاءِ) أَوْ (صَلاَةِ اللَّيْل) (1) .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُصَلِّيَ الثَّلاَثَ مُتَّصِلَةً سَرْدًا، أَيْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْصِل بَيْنَهُنَّ بِسَلاَمٍ وَلاَ جُلُوسٍ، وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَوْلَى مِنَ الصُّورَةِ التَّالِيَةِ. وَاسْتَدَلُّوا لِهَذِهِ الصُّورَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يُوتِرُ بِخَمْسٍ، لاَ يَجْلِسُ إِلاَّ فِي آخِرِهَا (2) .
وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنْ إِنْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ فَعَل ذَلِكَ فَيُوَاصِل مَعَهُ (3) .
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْوَصْل بَيْنَ الرَّكَعَاتِ الثَّلاَثِ، بِأَنْ يَجْلِسَ بَعْدَ الثَّانِيَةِ فَيَتَشَهَّدَ وَلاَ يُسَلِّمَ، بَل يَقُومَ لِلثَّالِثَةِ وَيُسَلِّمَ بَعْدَهَا، فَتَكُونُ فِي الْهَيْئَةِ كَصَلاَةِ الْمَغْرِبِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الثَّالِثَةِ سُورَةً بَعْدَ الْفَاتِحَةِ خِلاَفًا لِلْمَغْرِبِ.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ الْمُتَعَيِّنَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. قَالُوا: فَلَوْ نَسِيَ فَقَامَ لِلثَّالِثَةِ دُونَ تَشَهُّدٍ فَإِنَّهُ
__________
(1) الدسوقي 1 / 316، المنهاج وشرح حاشية القليوبي 1 / 212، وكشاف القناع 1 / 416، 417.
(2) حديث: " كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرها. . . " أخرجه مسلم (1 / 508 - ط. الحلبي) من حديث عائشة.
(3) الدسوقي والشرح الكبير 1 / 316، وشرح المنهاج 1 / 212، 213، والإنصاف 2 / 170.(27/296)
لاَ يَعُودُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عَامِدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَعُودَ، وَاحْتَجُّوا لِتَعَيُّنِهَا بِقَوْل أَبِي الْعَالِيَةِ: " عَلَّمَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الْوِتْرَ مِثْل صَلاَةِ الْمَغْرِبِ، فَهَذَا وِتْرُ اللَّيْل، وَهَذَا وِتْرُ النَّهَارِ " (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هِيَ جَائِزَةٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ؛ لأَِنَّ تَشْبِيهَ الْوِتْرِ بِالْمَغْرِبِ مَكْرُوهٌ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ كَرَاهَةَ إِلاَّ أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا يَعْلَى مَنَعَ هَذِهِ الصُّورَةَ. وَخَيَّرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بَيْنَ الْفَصْل وَالْوَصْل (2) .
ج - أَنْ يُصَلِّيَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ:
9 - وَهُوَ جَائِزٌ - كَمَا تَقَدَّمَ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: فَالْفَصْل بِسَلاَمٍ بَعْدَ كُل رَكْعَتَيْنِ أَفْضَل، لِحَدِيثِ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلاَةِ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَيُسَلِّمُ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ (3) وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا
__________
(1) قول أبي العالية: علمنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن الوتر مثل صلاة المغرب ". أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1 / 293 ط مطبعة الأنوار المحمدية) .
(2) فتح القدير 1 / 303، حاشية ابن عابدين 1 / 445، والهندية 1 / 113، وشرح المنهاج 1 / 212، والإنصاف 2 / 170.
(3) حديث: " كان يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر. . . ". أخرجه مسلم (1 / 508 ط الحلبي) من حديث عائشة.(27/296)
بِتَسْلِيمَةٍ، وَسِتًّا بِتَسْلِيمَةٍ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً، وَلَهُ الْوَصْل بِتَشَهُّدٍ، أَوْ تَشَهُّدَيْنِ فِي الثَّلاَثِ الأَْخِيرَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ فَالأَْفْضَل أَنْ يَسْرُدَهُنَّ سَرْدًا فَلاَ يَجْلِسُ إِلاَّ فِي آخِرِهِنَّ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْل ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ لاَ يَجْلِسُ إِلاَّ فِي آخِرِهَا (1) . وَلِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِخَمْسٍ، وَسَبْعٍ، لاَ يَفْصِل بَيْنَهُنَّ بِتَسْلِيمٍ (2) .
وَإِنْ أَوْتَرَ بِتِسْعٍ فَالأَْفْضَل أَنْ يَسْرُدَ ثَمَانِيًا، ثُمَّ يَجْلِسَ لِلتَّشَهُّدِ وَلاَ يُسَلِّمَ، ثُمَّ يُصَلِّيَ التَّاسِعَةَ وَيَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ.
وَيَجُوزُ فِي الْخَمْسِ وَالسَّبْعِ وَالتِّسْعِ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ.
وَإِنْ أَوْتَرَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ فَالأَْفْضَل أَنْ يُسَلِّمَ
__________
(1) حديث عائشة: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ". أخرجه مسلم (1 / 508 ط الحلبي) .
(2) حديث أم سلمة: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بخمس وبسبع لا يفصل بينهن بتسليم ". أخرجه النسائي (3 / 339 - ط المكتبة التجارية) ونقل ابن أبي حاتم الرازي عن أبيه أنه قال: هذا حديث منكر. كذا في علل الحديث (1 / 160) .(27/297)
مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْرُدَ عَشْرًا، ثُمَّ يَتَشَهَّدَ، ثُمَّ يَقُومَ فَيَأْتِي بِالرَّكْعَةِ وَيُسَلِّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْرُدَ الإِْحْدَى عَشْرَةَ فَلاَ يَجْلِسُ وَلاَ يَتَشَهَّدُ إِلاَّ فِي آخِرِهَا (1) .
ثَانِيًا: الْقِيَامُ وَالْقُعُودُ فِي صَلاَةِ الْوِتْرِ، وَأَدَاؤُهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ صَلاَةَ الْوِتْرِ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ مِنْ قِيَامٍ، إِلاَّ لِعَاجِزٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهَا قَاعِدًا، وَلاَ تَصِحُّ عَلَى الرَّاحِلَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ (2) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّهُ تَجُوزُ لِلْقَاعِدِ أَنْ يُصَلِّيَهَا وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْقِيَامِ، وَإِلَى جَوَازِ صَلاَتِهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ وَلَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ. وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالُوا: لأَِنَّهَا سُنَّةٌ، فَجَازَ فِيهَا ذَلِكَ كَسَائِرِ السُّنَنِ.
وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى الرَّاحِلَةِ قِبَل أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ (3)
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 108، 109، والإنصاف 2 / 168، 169، وكشاف القناع 1 / 417.
(2) الهندية 1 / 111.
(3) المجموع للنووي 4 / 21، والمغني 2 / 160، 161 وحديث ابن عمر تقدم تخريجه ف2.(27/297)
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَال: كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِطَرِيقِ مَكَّةَ، قَال سَعِيدٌ: فَلَمَّا خَشِيتُ الصُّبْحَ نَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ، ثُمَّ أَدْرَكْتُهُ، فَقَال لِي ابْنُ عُمَرَ: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: خَشِيتُ الْفَجْرَ فَنَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ. فَقَال عَبْدُ اللَّهِ: أَلَيْسَ لَكَ فِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ؟ فَقُلْتُ: بَلَى وَاَللَّهِ. قَال: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ (1) .
ثَالِثًا: الْجَهْرُ وَالإِْسْرَارُ:
11 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجْهَرُ فِي الْوِتْرِ إِنْ كَانَ إِمَامًا فِي رَمَضَانَ لاَ فِي غَيْرِهِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَأَكَّدَ نَدْبُ الْجَهْرِ بِوِتْرٍ، سَوَاءٌ صَلاَّهُ لَيْلاً أَوْ بَعْدَ الْفَجْرِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ لِغَيْرِ الْمَأْمُومِ أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي وِتْرِ رَمَضَانَ، وَيُسِرَّ فِي غَيْرِهِ (4) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُخَيَّرُ الْمُنْفَرِدُ فِي صَلاَةِ الْوِتْرِ فِي الْجَهْرِ وَعَدَمِهِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ جَمَاعَةٍ: أَنَّ الْجَهْرَ يَخْتَصُّ بِالإِْمَامِ فَقَطْ، قَال فِي
__________
(1) حديث سعيد بن يسار مع ابن عمر، أخرجه مسلم (1 / 487 - ط. الحلبي) .
(2) الهندية 1 / 72، ومجمع الأنهر 1 / 100.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 313، وكفاية الطالب 1 / 258، وجواهر الإكليل 1 / 73.
(4) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع للشربيني الخطيب 1 / 132.(27/298)
الْخِلاَفِ: وَهُوَ أَظْهَرُ (1) .
رَابِعًا: مَا يُقْرَأُ فِي صَلاَةِ الْوِتْرِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي كُل رَكْعَةٍ مِنَ الْوِتْرِ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً.
وَالسُّورَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سُنَّةٌ، لاَ يَعُودُ لَهَا إِنْ رَكَعَ وَتَرَكَهَا.
ثُمَّ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُوَقَّتْ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الْوِتْرِ شَيْءٌ غَيْرُ الْفَاتِحَةِ، فَمَا قَرَأَ فِيهِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَرَأَ بِهِ فِي الأُْولَى بِسُورَةِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} ، وَفِي الثَّانِيَةِ (بِ الْكَافِرُونَ) وَفِي الثَّالِثَةِ (بِالإِْخْلاَصِ) ، فَيَقْرَأُ بِهِ أَحْيَانًا، وَيَقْرَأُ بِغَيْرِهِ أَحْيَانًا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ هِجْرَانِ بَاقِي الْقُرْآنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ الْقِرَاءَةُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِالسُّوَرِ الثَّلاَثِ الْمَذْكُورَةِ، لِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ " (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - كَذَلِكَ - إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ فِي الشَّفْعِ (سَبِّحْ، وَالْكَافِرُونَ) ، أَمَّا فِي الثَّالِثَةِ فَيُنْدَبُ أَنْ يَقْرَأَ (بِسُورَةِ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 418.
(2) حديث ابن عباس في قراءة السور المذكورة في الوتر أخرجه الترمذي (2 / 326 - ط الحلبي) وأخرجه الحاكم (1 / 305) من حديث عائشة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(27/298)
الإِْخْلاَصِ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ) ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي ذَلِكَ (1) . لَكِنْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ ذَلِكَ إِلاَّ لِمَنْ لَهُ حِزْبٌ، أَيْ قَدْرٌ مِنَ الْقُرْآنِ يَقْرَؤُهُ لَيْلاً، فَيَقْرَأُ مِنْ حِزْبِهِ فِي الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ (2) .
خَامِسًا: الْقُنُوتُ فِي صَلاَةِ الْوِتْرِ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقُنُوتَ فِي الْوِتْرِ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ، وَفِي أَنَّهُ يَكُونُ فِي جَمِيعِ لَيَالِي السَّنَةِ أَوْ فِي بَعْضِهَا، وَفِي أَنَّهُ هَل يَكُونُ قَبْل الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ، وَفِيمَا يُسَنُّ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِهِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقُنُوتَ فِي الْوِتْرِ مَكْرُوهٌ (3) .
وَيُنْظَرُ بَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قُنُوت) .
الْوِتْرُ فِي السَّفَرِ:
14 - لاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُ صَلاَةِ الْوِتْرِ فِي السَّفَرِ
__________
(1) حديث: عائشة: أخرجه الترمذي (2 / 326 - ط الحلبي) ذكر ابن حجر في التلخيص (2 / 18 - ط شركة الطباعة الفنية) تليين أحد رواته، ولكنه ذكر للحديث طريقا آخر عن عائشة بما يقوي تلك الرواية.
(2) الهندية 1 / 78، والزرقاني 1 / 284، والمجموع 4 / 17، 24، وكشاف القناع 1 / 417.
(3) الهندية 1 / 111، وفتح القدير 1 / 304، وما بعدها، والمجموع للنووي 4 / 14 - 17، وشرح المحلى وحاشية القليوبي 1 / 213، والمغني لابن قدامة 2 / 151، وكشاف القناع 1 / 417.(27/299)
عَنْهُ فِي الْحَضَرِ، فَمَنْ قَال: إِنَّهُ سُنَّةٌ، وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - فَإِنَّهُ يُسَنُّ فِي السَّفَرِ كَالْحَضَرِ.
وَمَنْ قَال إِنَّهُ وَاجِبٌ - وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ - فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي السَّفَرِ كَالْحَضَرِ (1) .
أَدَاءُ صَلاَةِ الْوِتْرِ فِي جَمَاعَةٍ:
15 - يَنُصُّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُسَنُّ أَنْ يُصَلَّى الْوِتْرَ فِي جَمَاعَةٍ، لَكِنْ تُنْدَبُ الْجَمَاعَةُ فِي الْوِتْرِ الَّذِي يَكُونُ عَقِبَ التَّرَاوِيحِ، تَبَعًا لَهَا (2) . وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ فِعْلُهُ حِينَئِذٍ فِي الْمَسْجِدِ تَبَعًا لِلتَّرَاوِيحِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: بَل يُسَنُّ أَنْ يَكُونَ الْوِتْرُ فِي الْمَنْزِل. قَال فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ فِعْلُهَا فِي الْبُيُوتِ وَلَوْ جَمَاعَةً إِنْ لَمْ تُعَطَّل الْمَسَاجِدُ عَنْ صَلاَتِهَا بِهَا جَمَاعَةً. وَعَلَّلُوا أَفْضَلِيَّةَ الاِنْفِرَادِ بِالسَّلاَمَةِ مِنَ
__________
(1) فتح القدير 1 / 402، 403، والزيلعي 1 / 177، والدسوقي 1 / 316، ومغني المحتاج 1 / 224،، والمجموع 4 / 21، وكشاف القناع 1 / 422، ومطالب أولي النهى 1 / 548.
(2) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 1 / 212، 214، ومطالب أولي النهى 1 / 459، 564، وكشاف القناع 1 / 422، 427، والفتاوى الهندية 1 / 116.(27/299)
الرِّيَاءِ، وَلاَ يَسْلَمُ مِنْهُ إِلاَّ إِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فِي بَيْتِهِ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ فِعْل الْوِتْرِ فِي الْبَيْتِ أَفْضَل، كَسَائِرِ السُّنَنِ إِلاَّ لِعَارِضٍ، فَالْمُعْتَكِفُ يُصَلِّيهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنْ صَلَّى مَعَ الإِْمَامِ التَّرَاوِيحَ يُصَلِّي مَعَهُ الْوِتْرَ لِيَنَال فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ، لَكِنْ إِنْ كَانَ لَهُ تَهَجُّدٌ فَإِنَّهُ يُتَابِعُ الإِْمَامَ فِي الْوِتْرِ فَإِذَا سَلَّمَ الإِْمَامُ لَمْ يُسَلِّمْ مَعَهُ بَل يَقُومُ فَيَشْفَعُ وِتْرَهُ، وَذَلِكَ لِيَنَال فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ الْمَسْبُوقُ بِالْوِتْرِ مَعَ الإِْمَامِ رَكْعَةً فَإِنْ كَانَ الإِْمَامُ سَلَّمَ مِنَ اثْنَتَيْنِ أَجْزَأَتِ الْمَسْبُوقَ الرَّكْعَةُ عَنْ وِتْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الإِْمَامُ لَمْ يُسَلِّمْ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ فَعَلَى الْمَسْبُوقِ أَنْ يَقْضِيَهُمَا (2) لِحَدِيثِ: مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا (3) .
نَقْضُ الْوِتْرِ:
16 - مَنْ صَلَّى الْوِتْرَ ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّيَ نَفْلاً، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِلاَ كَرَاهَةٍ عِنْدَ
__________
(1) شرح الزرقاني 1 / 283.
(2) كشاف القناع 1 / 418، 422، ومطالب أولي النهى 1 / 548، 500.
(3) حديث: " ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا ". أخرجه عبد الرزاق في المصنف (2 / 287 - ط المجلس العلمي بالهند) وعنه أحمد (2 / 270 - ط الميمنية) من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح.(27/300)
الشَّافِعِيَّةِ كَمَا قَال النَّوَوِيُّ. وَلَوْ صَلَّى مَعَ الإِْمَامِ التَّرَاوِيحَ، ثُمَّ أَوْتَرَ مَعَهُ وَهُوَ يَنْوِي الْقِيَامَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يُوتِرَ مَعَهُ إِنْ طَرَأَتْ لَهُ النِّيَّةُ بَعْدَهُ أَوْ فِيهِ. أَمَّا إِنْ طَرَأَتْ لَهُ قَبْل ذَلِكَ فَيُكْرَهُ لَهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ.
وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوِتْرِ فَلَهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ طَرِيقَتَانِ:
الطَّرِيقَةُ الأُْولَى: أَنْ يُصَلِّيَ شَفْعًا مَا شَاءَ، ثُمَّ لاَ يُوتِرُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَدْ أَخَذَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْل النَّخَعِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَعَلْقَمَةَ. وَقَالُوا: لاَ يَنْقُضُ وِتْرَهُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَسَعْدٍ وَعَمَّارٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اسْتَدَلُّوا بِقَوْل عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَقَدْ سُئِلَتْ عَنِ الَّذِي يَنْقُضُ وِتْرَهُ فَقَالَتْ: " ذَاكَ الَّذِي يَلْعَبُ بِوِتْرِهِ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ إِيتَارِهِ مَرَّةً أُخْرَى بِحَدِيثِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: لاَ وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ (1) وَلِمَا صَحَّ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ رَكْعَتَيْنِ (2) .
__________
(1) حديث: " لا وتران في ليلة ". أخرجه الترمذي (2 / 334 - ط الحلبي) وقال: حديث حسن.
(2) حديث: " كان يصلي بعد الوتر ركعتين ". ورد من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان يوتر بواحدة ثم يركع ركعتين يقرأ فيهما وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع ". أخرجه ابن ماجه (1 / 378 - ط الحلبي) وأورده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 222 - ط دار الجنان) وقال: (هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات) .(27/300)
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: وَعَلَيْهَا الْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنْ يَبْدَأَ نَفْلَهُ بِرَكْعَةٍ يَشْفَعُ بِهَا وِتْرَهُ، ثُمَّ يُصَلِّيَ شَفْعًا مَا شَاءَ ثُمَّ يُوتِرَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَأُسَامَةَ، وَسَعْدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ وَابْنُ قُدَامَةَ. ثُمَّ قَال: وَلَعَلَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْل وِتْرًا (1) .
قَضَاءُ صَلاَةِ الْوِتْرِ:
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ وَلَمْ يُصَل الْوِتْرَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، سَوَاءٌ أَتَرَكَهُ عَمْدًا أَمْ نِسْيَانًا وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ، وَمَتَى قَضَاهُ يَقْضِيهِ بِالْقُنُوتِ. فَلَوْ صَلَّى الصُّبْحَ وَهُوَ ذَاكِرٌ أَنَّهُ لَمْ يُصَل الْوِتْرَ فَصَلاَةُ الصُّبْحِ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْوِتْرِ وَالْفَرِيضَةِ (2) . وَلاَ يَقْضِي الْوِتْرَ عِنْدَ
__________
(1) فتح القدير على الهداية 1 / 312، والزرقاني 1 / 285، والباجي على الموطأ 1 / 224، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 1 / 213، والمجموع 4 / 16، 24، وكشاف القناع 1 / 427، ومطالب أولي النهى 1 / 564. وحديث اجعلوا آخر صلاتكم. . . ". تقدم تخريجه ف 6.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 111، 121.(27/301)
الْمَالِكِيَّةِ إِذَا تَذَكَّرَهُ بَعْدَ أَنْ صَلَّى الصُّبْحَ. فَإِنْ تَذَكَّرَهُ فِيهَا نُدِبَ لَهُ إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَنْ يَقْطَعَهَا لِيُصَلِّيَ الْوِتْرَ مَا لَمْ يَخَفْ خُرُوجَ الْوَقْتِ، وَإِنْ تَذَكَّرَهُ فِي أَثْنَاءِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فَقِيل: يَقْطَعُهَا كَالصُّبْحِ، وَقِيل: يُتِمُّهَا ثُمَّ يُوتِرُ.
وَذَهَبَ طَاوُسٍ إِلَى أَنَّ الْوِتْرَ يُقْضَى مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَقْضِي الْوِتْرَ إِذَا فَاتَ وَقْتُهُ، أَيْ عَلَى سَبِيل النَّدْبِ (2) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَامَ عَنِ الْوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إِذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَهُ قَالُوا: وَيَقْضِيهِ مَعَ شَفْعِهِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ قَضَاءُ الْوِتْرِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْجَدِيدِ وَيُسْتَحَبُّ الْقَضَاءُ أَبَدًا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لاَ تُقْضَى وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ (3) .
__________
(1) العدوي على شرح الرسالة 1 / 261، والدسوقي 1 / 317.
(2) كشاف القناع 1 / 416، ومطالب أولي النهى 1 / 548.
(3) المجموع 4 / 41 - 42، وحديث: " من نام عن الوتر أو نسيه فليصله ". أخرجه أبو داود 2 / 137، تحقيق عزت عبيد دعاس، والحاكم (1 / 302 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(27/301)
التَّسْبِيحُ بَعْدَ الْوِتْرِ:
18 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول بَعْدَ الْوِتْرِ: " سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ " ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَيَمُدَّ صَوْتَهُ بِهَا فِي الثَّالِثَةِ (1) ، لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} ، وَ {قُل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنَ الْوِتْرِ قَال: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ. ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهَا فِي الثَّالِثَةِ (2) .
__________
(1) المغني 2 / 165، ومطالب أولي النهى 1 / 549.
(2) حديث عبد الرحمن بن أبزى، كان يوتر بسبح اسم ربك الأعلى. . . ". أخرجه النسائي (3 / 245 - ط المكتبة التجارية) وحسن إسناده ابن حجر في التلخيص (2 / 19) .(27/302)
الصَّلاَةُ الْوُسْطَى
التَّعْرِيفُ:
1 - تَعْرِيفُ الصَّلاَةِ: انْظُرْ: صَلاَة.
وَالْوُسْطَى مُؤَنَّثُ الأَْوْسَطِ، وَأَوْسَطُ الشَّيْءِ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ، وَهُوَ مِنْ أَوْسَطِ قَوْمِهِ: مِنْ خِيَارِهِمْ، وَفِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ مِنْ أَوْسَطِ قَوْمِهِ، أَيْ خِيَارِهِمْ، وَالْوَسَطُ: وَسَطُ الشَّيْءِ، مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ، وَالْمُعْتَدِل مِنْ كُل شَيْءٍ، وَالْعَدْل، وَالْخَيْرُ، يُوصَفُ بِهِ الْمُفْرَدُ وَغَيْرُهُ، وَفِي التَّنْزِيل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (1) ، أَيْ خِيَارًا عُدُولاً (2) .
تَحْدِيدُ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى الْوَارِدِ ذِكْرُهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (3) وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
2 - قِيل: إِنَّهَا صَلاَةُ الصُّبْحِ، وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِهِ، وَهُوَ قَوْل
__________
(1) سورة البقرة / 143.
(2) المعجم الوسيط، وتفسير الجلالين في الآية.
(3) سورة البقرة / 238.(27/302)
الشَّافِعِيِّ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الأُْمِّ وَغَيْرِهِ، وَنَقَل الْوَاحِدِيُّ هَذَا الْقَوْل عَنْ عُمَرَ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ قَوْل عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ. وَمُسْتَنَدُ هَؤُلاَءِ: أَنَّ صَلاَةَ الصُّبْحِ قَبْلَهَا صَلاَتَا لَيْلٍ يُجْهَرُ فِيهِمَا، وَبَعْدَهَا صَلاَتَا نَهَارٍ يُسَرُّ فِيهِمَا؛ وَلأَِنَّ وَقْتَهَا يَدْخُل وَالنَّاسُ نِيَامٌ، وَالْقِيَامُ إِلَيْهَا شَاقٌّ فِي زَمَنِ الْبَرْدِ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ، وَفِي زَمَنِ الصَّيْفِ لِقِصَرِ اللَّيْل، فَخُصَّتْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، حَتَّى لاَ يُتَغَافَل عَنْهَا بِالنَّوْمِ.
وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فَقَرَنَهَا بِالْقُنُوتِ، وَلاَ قُنُوتَ إِلاَّ فِي الصُّبْحِ، قَال أَبُو رَجَاءٍ: صَلَّى بِنَا ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - صَلاَةَ الْغَدَاةِ بِالْبَصْرَةِ فَقَنَتَ فِيهَا قَبْل الرُّكُوعِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَال: هَذِهِ الصَّلاَةُ الْوُسْطَى الَّتِي أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَقُومَ فِيهَا قَانِتِينَ.
وَالْقُنُوتُ لُغَةً: يُطْلَقُ عَلَى طُول الْقِيَامِ وَعَلَى الدُّعَاءِ، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَفْضَل الصَّلاَةِ طُول الْقُنُوتِ (1) .
وَقَال أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ وَالاِسْتِعْمَال أَنَّ الْقُنُوتَ: الْعِبَادَةُ
__________
(1) حديث جابر: " أفصل الصلاة طول القنوت ". أخرجه مسلم (1 / 520 ط الحلبي) .(27/303)
وَالدُّعَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي حَال الْقِيَامِ
، قَال الْوَاحِدِيُّ: فَتَظْهَرُ الدَّلاَلَةُ لِلشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْوُسْطَى الصُّبْحُ؛ لأَِنَّهُ لاَ فَرْضَ يَكُونُ فِيهِ الدُّعَاءُ قَائِمًا غَيْرَهَا (1) .
3 - وَقِيل: إِنَّهَا الْعَصْرُ لأَِنَّهَا بَيْنَ صَلاَتَيْنِ مِنْ صَلاَةِ اللَّيْل، وَصَلاَتَيْنِ مِنْ صَلاَةِ النَّهَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْل ابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَبَسِهِ، وَابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَال: وَعَلَى هَذَا الْقَوْل الْجُمْهُورُ مِنَ النَّاسِ وَبِهِ أَقُول، وَنَقَلَهُ الْوَاحِدِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَنَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهَا صَلاَةُ الْعَصْرِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الأَْحْزَابِ: شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ
__________
(1) الحطاب 1 / 400، والقرطبي (3 / 210 - 211 ط. دار الكتب المصرية) ، والمجموع 3 / 60 - 62، والمغني 1 / 379.(27/303)
الْوُسْطَى صَلاَةِ الْعَصْرِ، مَلأََ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا (1) .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الْوُسْطَى صَلاَةُ الْعَصْرِ (2) . وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاَةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وَتَرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ (3) . وَقَال: مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبَطَ عَمَلُهُ (4) وَقَال: إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ صَلاَةَ بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ، يَعْنِي النَّجْمَ (5) .
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ: الَّذِي تَقْتَضِيهِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ: إِنَّ الصَّلاَةَ الْوُسْطَى
__________
(1) حديث علي: " شغلونا عن الصلاة الوسطى. . . ". أخرجه مسلم (1 / 437 ط الحلبي) .
(2) حديث عبد الله بن مسعود: " صلاة الوسطى صلاة العصر. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 218 - ط. الحلبي) وقال: حديث صحيح.
(3) حديث: " الذي تفوته صلاة العصر. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 30 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 435 - ط. الحلبي) من حديث ابن عمر.
(4) حديث: " من ترك صلاة العصر. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 31 - ط. السلفية) من حديث بريدة.
(5) حديث: " إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم. . . ". أخرجه مسلم (1 / 568 - ط الحلبي) من حديث أبي بصرة الغفاري.(27/304)
هِيَ الْعَصْرُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. ثُمَّ قَال: قَال صَاحِبُ الْحَاوِي: نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا الصُّبْحُ، وَصَحَّتِ الأَْحَادِيثُ أَنَّهَا الْعَصْرُ، وَمَذْهَبُهُ اتِّبَاعُ الْحَدِيثِ، فَصَارَ مَذْهَبُهُ أَنَّهَا الْعَصْرُ، قَال: وَلاَ يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلاَنِ، كَمَا وَهَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا (1) .
4 - وَقِيل: إِنَّهَا الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ مَعًا، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الأَْبْهَرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْل الْغُرُوبِ} (2) يَعْنِي صَلاَةَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ.
وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَال: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَال: أَمَّا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لاَ تُضَامُونَ (3) . فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْل غُرُوبِهَا، يَعْنِي الْعَصْرَ وَالْفَجْرَ فَافْعَلُوا (4) ، ثُمَّ قَرَأَ جَرِيرٌ:
__________
(1) ابن عابدين 1 / 241، والحطاب 1 / 400، والقرطبي 3 / 210، 213، والمجموع 3 / 61، والمغني 1 / 378 - 380، وكشاف القناع 1 / 252.
(2) سورة ق / 39.
(3) قال النووي: (تضامون) بتشديد الميم وتخفيفها، فمن شددها فتح التاء، ومن خففها ضم التاء ومعنى المشدد: أنكم لا تتضامون، وتتلطفون في التوصل إلى رؤيته، ومعنى المخفف: أنه لا يلحقكم مشقة وتعب، وانظر القرطبي 3 / 211 - 212 والمغني 1 / 379، والحطاب 1 / 400، والمجموع 3 / 61.
(4) حديث جرير: " إنكم سترون ربكم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 52 - ط السلفية) ومسلم (1 / 439 - ط. الحلبي) .(27/304)
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْل غُرُوبِهَا} (1)
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْل وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ وَصَلاَةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ - كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ (2) .
وَرَوَى عُمَارَةُ بْنُ رُؤَيْبَةَ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْل غُرُوبِهَا، يَعْنِي الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ (3) وَعَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَل الْجَنَّةَ (4) وَسُمِّيَتَا الْبَرْدَيْنِ لأَِنَّهُمَا يُفْعَلاَنِ فِي وَقْتِ الْبَرْدِ (5) .
__________
(1) سورة طه / 130.
(2) حديث: " يتعاقبون فيكم ملائكة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 33 - ط السلفية) ومسلم (1 / 439 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث عمارة بن رؤيبة: " لن يلج النار أحد صلى. . . ". أخرجه مسلم (1 / 440 ط الحلبي) .
(4) حديث: " من صلى البردين دخل الجنة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 52 - ط السلفية) ومسلم (1 / 440 - ط. الحلبي) .
(5) القرطبي 3 / 211، 212، والمغني 1 / 379، والحطاب 1 / 400، والمجموع 3 / 61.(27/305)
5 - وَقِيل: إِنَّ الصَّلاَةَ الْوُسْطَى صَلاَةُ الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ، قَال الدِّمْيَاطِيُّ: ذَكَرَهُ ابْنُ مِقْسَمٍ فِي تَفْسِيرِهِ (1) . وَقَال أَبُو الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: اسْمَعُوا وَبَلِّغُوا مَنْ خَلْفَكُمْ: حَافِظُوا عَلَى هَاتَيْنِ الصَّلاَتَيْنِ - يَعْنِي فِي جَمَاعَةٍ - الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأََتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى مَرَافِقِكُمْ وَرُكَبِكُمْ.
وَقَالَهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَوَرَدَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لَيْسَ صَلاَةً أَثْقَل عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهَا لأََتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا (2) .
وَجَعَل لِمُصَلِّي الصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ قِيَامَ لَيْلَةٍ، وَالْعَتَمَةِ نِصْفَ لَيْلَةٍ، حَيْثُ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْل، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْل كُلَّهُ (3) .
6 - وَقِيل: هِيَ الظُّهْرُ؛ لأَِنَّهَا وَسَطُ
__________
(1) الحطاب 1 / 400،، القرطبي 3 / 312.
(2) حديث: " ليس صلاة أثقل. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 141 ط السلفية) ومسلم (1 / 451 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري.
(3) حديث: " من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله ". أخرجه مسلم (1 / 454 ط الحلبي) من حديث عثمان بن عفان.(27/305)
النَّهَارِ، وَالنَّهَارُ أَوَّلُهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمِمَّنْ قَال إِنَّ الظُّهْرَ هِيَ الصَّلاَةُ الْوُسْطَى: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِر عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ.
وَمِمَّا يَدُل عَلَى أَنَّهَا وُسْطَى: مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ حِينَ أَمْلَتَا: " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَصَلاَةِ الْعَصْرِ " بِالْوَاوِ، وَرُوِيَ: أَنَّهَا كَانَتْ أَشَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لأَِنَّهَا كَانَتْ تَجِيءُ فِي الْهَاجِرَةِ وَهُمْ قَدْ نَفْهَتُهُمْ (1) أَعْمَالُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ (2) ، وَوَرَدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَلَمْ تَكُنْ صَلاَةٌ أَشَدُّ عَلَى أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا (3) ، فَنَزَلَتْ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى} (4) .
7 - وَقِيل: إِنَّهَا الْمَغْرِبُ قَال بِذَلِكَ قَبِيصَةُ
__________
(1) نفهه: أتبعه حتى انقطع.
(2) المغني 1 / 378، 379، والقرطبي 3 / 209، والمجموع 3 / 61، والحطاب 1 / 400.
(3) حديث زيد بن ثابت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ". أخرجه أبو داود (1 / 288، تحقيق عزت عبيد دعاس) وصحح إسناده ابن حزم في المحلى (4 / 250 ط المنيرية) .
(4) سورة البقرة / 238.(27/306)
بْنُ ذُؤَيْبٍ فِي جَمَاعَةٍ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَقَتَادَةَ؛ لأَِنَّ الأُْولَى هِيَ الظُّهْرُ، فَتَكُونُ الْمَغْرِبُ الثَّالِثَةُ، وَالثَّالِثَةُ مِنْ كُل خَمْسٍ هِيَ الْوُسْطَى؛ وَلأَِنَّهَا وُسْطَى فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَوُسْطَى فِي الأَْوْقَاتِ، فَعَدَدُ رَكَعَاتِهَا ثَلاَثٌ فَهِيَ وُسْطَى بَيْنَ الأَْرْبَعِ وَالاِثْنَيْنِ وَوَقْتُهَا فِي آخِرِ النَّهَارِ وَأَوَّل اللَّيْل، خُصَّتْ مِنْ بَيْنِ الصَّلاَةِ بِأَنَّهَا الْوِتْرُ، وَاَللَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، وَبِأَنَّهَا تُصَلَّى فِي أَوَّل وَقْتِهَا فِي جَمِيعِ الأَْمْصَارِ وَالأَْعْصَارِ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا عَنْهُ (1) ، وَكَذَلِكَ صَلاَّهَا جِبْرِيل بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمَيْنِ لِوَقْتٍ وَاحِدٍ (2) ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ بَعْضُ الأَْئِمَّةِ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا إِلاَّ وَقْتٌ وَاحِدٌ، وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَزَال أُمَّتِي بِخَيْرٍ - أَوْ قَال: عَلَى الْفِطْرَةِ - مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى أَنْ تَشْتَبِكَ النُّجُومُ (3) وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ أَفْضَل الصَّلَوَاتِ عِنْدَ اللَّهِ صَلاَةُ الْمَغْرِبِ لَمْ يَحُطَّهَا عَنْ مُسَافِرٍ وَلاَ مُقِيمٍ، فَتَحَ اللَّهُ بِهَا صَلاَةَ اللَّيْل وَخَتَمَ بِهَا صَلاَةَ النَّهَارِ
__________
(1) المغني 1 / 379 - 380، والقرطبي 3 / 210، والحطاب 1 / 400، والمجموع 3 / 61.
(2) حديث: " أن جبريل صلى المغرب بالنبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه الترمذي (1 / 279 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس وقال: حديث حسن صحيح.
(3) حديث: " لا تزال أمتي بخير. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 291 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي أيوب، وإسناده حسن.(27/306)
فَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ وَمَنْ صَلَّى بَعْدَهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذَنْبَ عِشْرِينَ سَنَةً - أَوْ قَال - أَرْبَعِينَ سَنَةً (1) .
8 - وَقِيل: إِنَّ الصَّلاَةَ الْوُسْطَى هِيَ صَلاَةُ الْعِشَاءِ؛ لأَِنَّهَا بَيْنَ صَلاَتَيْنِ لاَ تُقْصَرَانِ، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا، وَذَلِكَ شَاقٌّ، فَوَقَعَ التَّأْكِيدُ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا - وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّ الصَّلاَةَ الْوُسْطَى هِيَ الْعِشَاءُ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ.
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ قَال: مَكَثْنَا لَيْلَةً نَنْتَظِرُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلاَةِ الْعِشَاءِ الآْخِرَةِ فَخَرَجَ إِلَيْنَا حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْل أَوْ بَعْدَهُ. فَقَال: إِنَّكُمْ لَتَنْتَظِرُونَ صَلاَةً مَا يَنْتَظِرُهَا أَهْل دِينٍ غَيْرَكُمْ، وَلَوْلاَ أَنْ يَثْقُل عَلَى أُمَّتِي لَصَلَّيْتُ بِهِمْ هَذِهِ السَّاعَةَ (2)
وَقَال: لَيْسَ صَلاَةٌ أَثْقَل عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأََتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا (3) .
__________
(1) حديث عائشة: " إن أفضل الصلوات عند الله صلاة المغرب ". أورده الغزالي في إحياء علوم الدين (1 / 363 - ط الحلبي) وقال العراقي في تخريجه: " رواه أبو الوليد يونس بن عبيد الله الصفار في كتاب الصلاة، ورواه الطبراني في الأوسط مختصرا، وإسناده ضعيف ".
(2) حديث ابن عمر: " مكثنا ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه مسلم (1 / 442 ط الحلبي) .
(3) انظر المغني 1 / 380، والحطاب 1 / 400، والقرطبي 3 / 310، والمجموع 3 / 61، وحديث: " ليس صلاة أثقل على المنافين. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 141 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.(27/307)
9 - وَقِيل: إِنَّ الصَّلاَةَ الْوُسْطَى غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، فَهِيَ مُبْهَمَةٌ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لِيَجْتَهِدَ فِي الْجَمِيعِ كَمَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَالسَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقَالَهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَخَبَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى. كَمَا خَبَّأَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَسَاعَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَسَاعَاتِ اللَّيْل الْمُسْتَجَابِ فِيهَا الدُّعَاءُ لِيَقُومُوا بِاللَّيْل فِي الظُّلُمَاتِ لِمُنَاجَاةِ عَالِمِ الْخَفِيَّاتِ وَمِمَّا يَدُل عَلَى صِحَّةِ أَنَّهَا مُبْهَمَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ مَا وَرَدَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَال: " نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصَلاَةِ الْعَصْرِ) ، فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ فَنَزَلَتْ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى} ، فَقَال رَجُلٌ: هِيَ إِذَنْ صَلاَةُ الْعَصْرِ؟ فَقَال الْبَرَاءُ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ كَيْفَ نَزَلَتْ وَكَيْفَ نَسَخَهَا اللَّهُ " (1) فَلَزِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهَا بَعْدَ أَنْ عُيِّنَتْ نُسِخَ تَعْيِينُهَا وَأُبْهِمَتْ فَارْتَفَعَ التَّعْيِينُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ مُسْلِمٍ. وَقَال بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، قَال
__________
(1) حديث البراء: " نزلت هذه الآية: {حافظوا على الصلوات وصلاة العصر} . . . ". أخرجه مسلم (1 / 438 - ط الحلبي) .(27/307)
الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ - أَيْ إِبْهَامُهَا وَعَدَمُ تَعْيِينِهَا - الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِتَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ الْمُحَافَظَةُ عَلَى جَمِيعِهَا، وَأَدَاؤُهَا فِي أَوْقَاتِهَا (1) .
10 - وَقِيل: إِنَّهَا صَلاَةُ الْجُمُعَةِ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ؛ لأَِنَّ الْجُمُعَةَ خُصَّتْ بِالْجَمْعِ لَهَا وَالْخُطْبَةِ فِيهَا، جُعِلَتْ عِيدًا ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَمَكِّيٌّ، وَوَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلاً يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ثُمَّ أُحَرِّقَ عَلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ (2) .
11 - وَقِيل: إِنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِجُمْلَتِهَا، ذَكَرَهُ النَّقَّاشُ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَالَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ لأَِنَّ قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} ، يَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفَل، ثُمَّ خُصَّ الْفَرْضُ بِالذِّكْرِ (3) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَطَّابُ أَقْوَالاً أُخْرَى سِوَى مَا تَقَدَّمَ. يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِيهَا.
__________
(1) القرطبي 3 / 212 - 213، والحطاب 1 / 400، والمجموع 3 / 61.
(2) القرطبي 3 / 211، والحطاب 1 / 400، والمجموع 3 / 61. وحديث: " لقد هممت أن آمر رجلا. . . ". أخرجه مسلم (1 / 452 ط الحلبي) .
(3) القرطبي 3 / 212، والحطاب 1 / 400، والمجموع 3 / 61.(27/308)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ وَسَبَبُ إِفْرَادِهَا بِالذِّكْرِ:
12 - مِنَ الأَْقْوَال السَّابِقَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الصَّلاَةَ الْوُسْطَى هِيَ إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْجُمْلَةِ. وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فَرْضٌ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ - كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ - وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} (1) . ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى} .
يَقُول الْقُرْطُبِيُّ: وَأَفْرَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الصَّلاَةَ الْوُسْطَى بِالذِّكْرِ، وَقَدْ دَخَلَتْ قَبْل فِي عُمُومِ الصَّلَوَاتِ؛ تَشْرِيفًا لَهَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} (2) وَقَوْلِهِ: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (3) . وَإِفْرَادُهَا بِالذِّكْرِ يَدُل كَذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا آكَدُ الصَّلَوَاتِ. يَقُول النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّلاَةَ الْوُسْطَى آكَدُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِهَا (4) .
صَلْبٌ
انْظُرْ: تَصْلِيب
__________
(1) سورة البقرة / 238.
(2) سورة الأحزاب / 7.
(3) سورة الرحمن / 68.
(4) القرطبي 3 / 209، والمجموع 3 / 60.(27/308)
الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَةُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّلَوَاتُ مُفْرَدُهَا صَلاَةٌ، وَلِتَعْرِيفِهَا: يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (صَلاَةٌ) .
وَالْمُرَادُ بِالْمَفْرُوضَةِ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الَّتِي تُؤَدَّى كُل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَهِيَ: الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، يَكْفُرُ جَاحِدُهَا (1) .
وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ: هِيَ آكَدُ الْفُرُوضِ وَأَفْضَلُهَا بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَهِيَ الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ الْخَمْسِ. (ر: صَلاَةٌ) .
وَقَدْ ثَبَتَ عَدَدُ رَكَعَاتِ كُل صَلاَةٍ مِنْ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ بِسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلاً وَفِعْلاً وَبِالإِْجْمَاعِ. قَال الْكَاسَانِيُّ: عَرَفْنَا ذَلِكَ بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (2) ، وَهَذَا لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
__________
(1) البدائع 1 / 91، والفواكه الدواني 1 / 192، ومغني المحتاج 1 / 121،، المغني لابن قدامة 1 / 370، والعناية على الهداية 1 / 191.
(2) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 111 - ط السلفية) من حديث مالك بن الحويرث.(27/309)
عَدَدُ رَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ فَكَانَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مُجْمَلَةً فِي الْمِقْدَارِ، ثُمَّ زَال الإِْجْمَال بِبَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلاً وَفِعْلاً (1) .
وَأَدَاؤُهَا بِالْجَمَاعَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا بِوُجُوبِهَا. (ر: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) .
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ حَسْب التَّرْتِيبِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ، حَيْثُ بَدَءُوا بِصَلاَةِ الصُّبْحِ (2) .
أَوَّلاً - صَلاَةُ الظُّهْرِ:
2 - الظُّهْرُ: سَاعَةُ الزَّوَال وَوَقْتُهُ، وَلِهَذَا يَجُوزُ فِيهِ التَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ، فَيُقَال: حَانَ الظُّهْرُ أَيْ وَقْتُ الزَّوَال، وَحَانَتِ الظُّهْرُ أَيْ سَاعَتُهُ (3) .
وَالْمُرَادُ بِالزَّوَال: مَيْل الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ إِلَى الْمَغْرِبِ (4)
فَصَلاَةُ الظُّهْرِ هِيَ الَّتِي تَجِبُ بِدُخُول وَقْتِ الظُّهْرِ، وَتُفْعَل فِي وَقْتِ الظَّهِيرَةِ. وَتُسَمَّى صَلاَةُ الظُّهْرِ - أَيْضًا - بِالأُْولَى؛
__________
(1) البدائع 1 / 91، والفواكه الدواني 1 / 191، والحطاب 1 / 397، وكشاف القناع 1 / 297.
(2) المراجع السابقة، وكشاف القناع 1 / 249.
(3) المصباح المنير في المادة.
(4) المجموع للنووي 3 / 24، والمغني 1 / 372.(27/309)
لأَِنَّهَا أَوَّل صَلاَةٍ صَلاَّهَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَمَّنِي جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ فِي الأُْولَى مِنْهُمَا حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْل الشِّرَاكِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ كُل شَيْءٍ مِثْل ظِلِّهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ وَأَفْطَرَ الصَّائِمُ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ وَحَرُمَ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ، وَصَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ، لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالأَْمْسِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ لِوَقْتِهِ الأَْوَّل، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الآْخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْل، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَتِ الأَْرْضُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ جِبْرِيل فَقَال: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا وَقْتُ الأَْنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ (1) .
وَهِيَ أَوَّل صَلاَةٍ ظَهَرَتْ فِي الإِْسْلاَمِ.
كَمَا تُسَمَّى بِالْهَجِيرَةِ (2) قَال أَبُو بَرْزَةَ:
__________
(1) حديث: ابن عباس - رضي الله عنهما -: " أن صلاة الظهر أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم ". أخرجه الترمذي (1 / 279 - 280 - ط الحلبي) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) الحطاب 1 / 383، ومغني المحتاج 1 / 121، والمغني لابن قدامة 1 / 371.(27/310)
{كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْهَجِيرَةَ الَّتِي يَدْعُونَهَا الأُْولَى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، أَوْ تَزُول (1) .
أَوَّل وَقْتِ الظُّهْرِ وَآخِرُهُ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ أَوَّل وَقْتِ صَلاَةِ الظُّهْرِ هُوَ زَوَال الشَّمْسِ، أَيْ مَيْلُهَا عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَنَا؛ لأَِنَّ التَّكْلِيفَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي الْوَاقِعِ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ آخِرَهُ هُوَ بُلُوغُ الظِّل مِثْلَهُ غَيْرَ فَيْءِ (2) الزَّوَال (3) .
وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ إِذَا صَارَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ سِوَى فَيْءِ الزَّوَال (4) . وَلِمَعْرِفَةِ الزَّوَال وَتَفْصِيل الْخِلاَفِ
__________
(1) حديث أبي برزة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الهجيرة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح2 / 26 - ط السلفية) .
(2) الفيء بوزن شيء هو الظل بعد الزوال، سمي به، لأنه فاء أي رجع من جهة المغرب إلى المشرق، أما الظل فيشمل ما قبل الزوال وما بعده. (ابن عابدين 1 / 240 ومغني المحتاج 1 / 122) .
(3) ابن عابدين 1 / 240، وفتح القدير مع الهداية 1 / 192 وما بعدها، وجواهر الإكليل 1 / 32، ومواهب الجليل للحطاب 1 / 382، ومغني المحتاج 1 / 121، 122، والمغني لابن قدامة 1 / 371، 375، وكشاف القناع 1 / 250، 251.
(4) فتح القدير والعناية على الهداية 1 / 193، والبدائع 1 / 123.(27/310)
فِي آخِرِ الظُّهْرِ، وَأَدِلَّةِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ ف 8) .
الإِْبْرَادُ بِصَلاَةِ الظُّهْرِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْحَرُّ شَدِيدًا يُسَنُّ تَأْخِيرُ صَلاَةِ الظُّهْرِ إِلَى الإِْبْرَادِ. قَال النَّوَوِيُّ: حَقِيقَةُ الإِْبْرَادِ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلاَةَ مِنْ أَوَّل وَقْتِهَا بِقَدْرِ مَا يَحْصُل لِلْحِيطَانِ فَيْءٌ يَمْشِي فِيهِ طَالِبُ الْجَمَاعَةِ، وَلاَ يُؤَخَّرُ عَنْ نِصْفِ الْقَامَةِ (1) .
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيُسْتَحَبُّ عِنْدَهُمْ تَأْخِيرُ الظُّهْرِ فِي الصَّيْفِ مُطْلَقًا أَيْ بِلاَ اشْتِرَاطِ شِدَّةِ الْحَرِّ وَحَرَارَةِ الْبَلَدِ (3) .
وَلِتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ ف 16) .
قَصْرُ الظُّهْرِ وَجَمْعُهَا مَعَ الْعَصْرِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قَصْرِ صَلاَةِ الظُّهْرِ فِي السَّفَرِ (4) (ر: صَلاَةُ الْمُسَافِرِ) .
__________
(1) المجموع 3 / 51، 60.
(2) الدسوقي 1 / 180، 181، والمغني لابن قدامة 1 / 390.
(3) ابن عابدين 1 / 245، وفتح القدير مع الهداية 1 / 199.
(4) البدائع 1 / 91، والحطاب 1 / 379، والإقناع 2 / 169، وكشاف القناع 1 / 249.(27/311)
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ صَلاَتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي عَرَفَةَ جَمْعَ تَقْدِيمٍ، بِأَنْ يُصَلِّيَهُمَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا يَوْمَ عَرَفَةَ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِعُذْرِ السَّفَرِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ، بِأَنْ تُصَلَّى الْعَصْرُ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ أَوْ بِالْعَكْسِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (جَمْعُ الصَّلَوَاتِ) .
مَا يُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهُ فِي الظُّهْرِ:
6 - يُسْتَحَبُّ فِي الظُّهْرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: أَنْ يَقْرَأَ الإِْمَامُ أَوِ الْمُنْفَرِدُ إِذَا كَانَ مُقِيمًا طِوَال الْمُفَصَّل (2) كَصَلاَةِ الْفَجْرِ (3) ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الظُّهْرَ كَالْعَصْرِ، فَيُسَنُّ فِيهِ أَوْسَاطُ الْمُفَصَّل (4) . وَوَرَدَ فِي عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الظُّهْرَ كَالصُّبْحِ فِي الْقِرَاءَةِ مِنَ الطِّوَال أَوْ دُونَ ذَلِكَ قَلِيلاً (5) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 256، والبدائع 1 / 127، وجواهر الإكليل 1 / 92، والمغني لابن قدامة 1 / 409.
(2) طوال المفصل من سورة الحجرات إلى آخر البروج (ابن عابدين 1 / 362، 363) .
(3) ابن عابدين 1 / 362، 363 والفواكه الدواني 1 / 227، ومغني المحتاج 1 / 163، والمغني لابن قدامة 1 / 570، 571.
(4) أوساط المفصل من البروج إلى لم يكن (فتح القدير1 / 192) وانظر ابن عابدين 1 / 363
(5) الفواكه الدواني 1 / 227.(27/311)
وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّهُ يُسِرُّ بِالْقِرَاءَةِ فِي جَمِيعِ رَكَعَاتِ الظُّهْرِ، سَوَاءٌ أَصَلاَّهَا جَمَاعَةً أَمِ انْفِرَادًا، وَتَفْصِيل الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِسْرَار، صَلاَة، قِرَاءَة) .
ثَانِيًا - صَلاَةُ الْعَصْرِ:
7 - الْعَصْرُ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا: الْعَشِيُّ إِلَى احْمِرَارِ الشَّمْسِ، وَهُوَ آخِرُ سَاعَاتِ النَّهَارِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الصَّلاَةِ الَّتِي تُؤَدَّى فِي آخِرِ النَّهَارِ، قَال الْفَيُّومِيُّ: الْعَصْرُ اسْمُ الصَّلاَةِ " مُؤَنَّثَةٌ " مَعَ الصَّلاَةِ، وَبِدُونِهَا تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ (1) .
وَيُقَال: أُذِّنَ لِلْعَصْرِ. أَيْ لِصَلاَةِ الْعَصْرِ (2) . وَتُسَمَّى صَلاَةُ الْعَصْرِ بِ (الْعَشِيِّ) لأَِنَّهَا تُصَلَّى عَشِيَّةً (3) .
أَوَّل وَقْتِ الْعَصْرِ وَآخِرُهُ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِ الْعَصْرِ إِذَا صَارَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ غَيْرَ فَيْءِ الزَّوَال، وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا (4) . وَيَسْتَدِلُّونَ بِحَدِيثِ
__________
(1) القرطبي 2 / 178، كشاف القناع 1 / 221، ومواهب الجليل 1 / 377.
(2) القرطبي 20 / 178، وما بعدها، ومتن اللغة والمصباح المنير.
(3) الحطاب 1 / 389.
(4) جواهر الإكليل 1 / 32، والحطاب مع التاج والإكليل 1 / 382، ومغني المحتاج 1 / 121، 122، وكشاف القناع 1 / 252، المغني 1 / 375.(27/312)
إِمَامَةِ جِبْرِيل - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَفِيهِ: ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ كُل شَيْءٍ مِثْل ظِلِّهِ (1) .
وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ أَوَّل وَقْتِ الْعَصْرِ إِذَا صَارَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ غَيْرَ فَيْءِ الزَّوَال (2) (ر: أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
9 - وَهَل يُوجَدُ وَقْتٌ مُهْمَلٌ بَيْنَ آخِرِ الظُّهْرِ وَأَوَّل الْعَصْرِ؟ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الْفُقَهَاءِ:
فَيَشْتَرِطُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِدُخُول أَوَّل الْعَصْرِ أَنْ يَصِيرَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَزَادَ أَدْنَى زِيَادَةً. قَال الْخِرَقِيُّ: وَإِذَا زَادَ شَيْئًا وَجَبَتِ الْعَصْرُ (3) وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ الشِّرْبِينِيُّ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ (4) وَجُمْلَتُهُ: أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ مِنْ حِينِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِثْل أَدْنَى زِيَادَةً مُتَّصِلٌ بِوَقْتِ الظُّهْرِ لاَ نُصَلِّي بَيْنَهُمَا. كَمَا حَرَّرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي (5) .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - أَيْضًا - قَوْلُهُ: إِذَا بَلَغَ الظِّل طُولَهُ سِوَى فَيْءِ الزَّوَال خَرَجَ وَقْتُ
__________
(1) حديث إمامة جبريل: تقدم تخريجه ف2.
(2) فتح القدير 1 / 195.
(3) المغني لابن قدامة 1 / 375.
(4) مغني المحتاج 1 / 122.
(5) المغني 1 / 375.(27/312)
الظُّهْرِ، وَلاَ يَدْخُل وَقْتُ الْعَصْرِ إِلَى الطُّولَيْنِ (1) .
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتٌ مُهْمَلٌ، كَمَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ،
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ حُدُوثُ زِيَادَةٍ فَاصِلَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَقْتِ الظُّهْرِ، كَمَا قَال الشِّرْبِينِيُّ (2) ، وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الْحَنَابِلَةِ عَدَا الْخِرَقِيَّ (3) . قَال الْبُهُوتِيُّ: مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَهُمَا، وَلاَ اشْتِرَاكٍ (4) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ أَوَّل الْعَصْرِ وَآخِرَ الظُّهْرِ يَشْتَرِكَانِ بِقَدْرِ إِحْدَاهُمَا، أَيْ: بِقَدْرِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ، وَرَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ، فَآخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ: أَنْ يَصِيرَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ بَعْدَ طَرْحِ ظِل الزَّوَال، وَهُوَ بِعَيْنِهِ أَوَّل وَقْتِ الْعَصْرِ فَيَكُونُ وَقْتًا لَهُمَا مُمْتَزِجًا بَيْنَهُمَا (5) .
وَيُؤَيِّدُهُ ظَاهِرُ حَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيل حَيْثُ جَاءَ فِيهِ: صَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالأَْمْسِ.
10 - أَمَّا آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ فَهُوَ مَا لَمْ تَغْرُبِ
__________
(1) فتح القدير والعناية على الهداية 1 / 193.
(2) مغني المحتاج 1 / 122.
(3) المغني لابن قدامة 1 / 375.
(4) كشاف القناع 1 / 252.
(5) التاج والإكليل مع الحطاب 1 / 390، والدسوقي 1 / 177.(27/313)
الشَّمْسُ. أَيْ قُبَيْل غُرُوبِ الشَّمْسِ (1) .
(ر: أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
مَا يُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهُ فِي الْعَصْرِ:
11 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلاَةِ الْعَصْرِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّل (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَقْرَأُ فِيهَا بِالْقِصَارِ مِنَ السُّوَرِ مِثْل: {وَالضُّحَى} وَ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} ، وَنَحْوِهِمَا (3) . وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي الْعَصْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الظُّهْرِ (4) .
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الإِْسْرَارَ فِي الْقِرَاءَةِ سُنَّةٌ فِي الْعَصْرِ وَالظُّهْرِ، بَيْنَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّهُ وَاجِبٌ (5) . وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِسْرَار، وَقِرَاءَة) .
التَّنَفُّل بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّنَفُّل بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 241، والفواكه الدواني 1 / 196، والحطاب مع المواق 1 / 390، ومغني المحتاج 1 / 122، والمغني 1 / 376، 377، وكشاف القناع 1 / 252.
(2) ابن عابدين 1 / 363، ومغني المحتاج 1 / 163، وأوساط المفصل هي من سورة البروج إلى آخر سورة (البينة) ابن عابدين 1 / 363.
(3) الفواكه الدواني 1 / 229.
(4) المغني لابن قدامة 1 / 572، 573.
(5) فتح القدير 1 / 383، والفواكه الدواني 1 / 227، والمجموع 1 / 390، والمغني 1 / 569.(27/313)
الشَّمْسُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ (1) .
وَتَشْمَل ذَلِكَ مَا لَوْ صُلِّيَتِ الْعَصْرُ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ كَذَلِكَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ (2) لِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (صَلاَةُ التَّطَوُّعِ) .
ثَالِثًا - صَلاَةُ الْمَغْرِبِ:
13 - الْمَغْرِبُ فِي الأَْصْل: مِنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ إِذَا غَابَتْ وَتَوَارَتْ. وَيُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى وَقْتِ الْغُرُوبِ وَمَكَانِهِ، وَعَلَى الصَّلاَةِ الَّتِي تُؤَدَّى فِي هَذَا الْوَقْتِ (3) .
أَوَّل وَقْتِ الْمَغْرِبِ وَآخِرُهُ:
14 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ يَدْخُل إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ وَتَكَامَل غُرُوبُهَا. وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الصَّحَارِي. وَيُعْرَفُ فِي الْعُمْرَانِ بِزَوَال الشُّعَاعِ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَال، وَإِقْبَال الظَّلاَمِ مِنَ الْمَشْرِقِ (4) وَآخِرُ
__________
(1) حديث: " لا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 61 ط السلفية) ومسلم (1 / 567 ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا.
(2) نفس المراجع.
(3) المصباح المنير وكشاف القناع 1 / 253، وحاشية الباجوري 1 / 123.
(4) البدائع 1 / 123، والحطاب 1 / 391، وجواهر الإكليل 1 / 32، 33، ومغني المحتاج 1 / 122، والمغني لابن قدامة 1 / 381.(27/314)
وَقْتِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ الْجَدِيدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - أَنَّ لِلْمَغْرِبِ وَقْتًا وَاحِدًا وَهُوَ بِقَدْرِ مَا يَتَطَهَّرُ الْمُصَلِّي وَيَسْتُرُ عَوْرَتَهُ وَيُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ لِلصَّلاَةِ (1) . لِلتَّفْصِيل (ر: أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
تَسْمِيَةُ الْمَغْرِبِ بِالْعِشَاءِ:
15 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ تَسْمِيَةِ الْمَغْرِبِ عِشَاءً لِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَغْلِبَنَّكُمُ الأَْعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاَتِكُمُ الْمَغْرِبِ. قَال: وَتَقُول الأَْعْرَابُ هِيَ الْعِشَاءُ (2) وَلاَ يُكْرَهُ تَسْمِيَتُهَا بِالْعِشَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلَكِنْ تَسْمِيَتُهَا بِالْمَغْرِبِ أَوْلَى (3) .
رَابِعًا - صَلاَةُ الْعِشَاءِ:
16 - الْعِشَاءُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَالْمَدِّ: اسْمٌ لأَِوَّل الظَّلاَمِ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعَتَمَةِ، وَسُمِّيَتِ الصَّلاَةُ بِذَلِكَ لأَِنَّهَا تُفْعَل فِي هَذَا الْوَقْتِ.
__________
(1) الحطاب 1 / 393، 394، وجواهر الإكليل 1 / 32، 33، ومغني المحتاج 1 / 123، والمجموع 3 / 28.
(2) حديث: " لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 43 ط السلفية) وجامع الأصول 6 / 262، من حديث عبد الله المزني - رضي الله عنه -.
(3) الحطاب 1 / 392، وما بعدها، والمجموع 3 / 28، وكشاف القناع 1 / 253، ومغني المحتاج 1 / 123.(27/314)
وَالْعَشَاءُ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ: طَعَامُ هَذَا الْوَقْتِ (1) وَيَجُوزُ أَنْ يُقَال لَهَا: الْعِشَاءُ الآْخِرَةُ، وَالْعِشَاءُ - فَقَطْ - مِنْ غَيْرِ وَصْفٍ بِالآْخِرَةِ (2) قَال تَعَالَى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ} (3) . وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلاَ تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الآْخِرَةَ (4) .
تَسْمِيَةُ صَلاَةِ الْعِشَاءِ بِالْعَتَمَةِ:
17 - أَجَازَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ تَسْمِيَةَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ بِالْعَتَمَةِ لِوُرُودِهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْحَادِيثِ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأََتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا (5) وَمِنْهَا قَوْل عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كَانُوا يُصَلُّونَ الْعَتَمَةَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ
__________
(1) المصباح المنير مادة (عشى) والحطاب 1 / 396، وكشاف القناع 1 / 254، والمجموع 3 / 36.
(2) المجموع 3 / 42، وكشاف القناع 1 / 254، والحطاب 1 / 397.
(3) سورة النور / 58.
(4) حديث: " أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة ". أخرجه مسلم (1 / 328 ط الحلبي) وأبو داود (4 / 401 - 402 ط عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا.
(5) حديث: " لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 139 ط. السلفية) ومسلم (صحيح مسلم 1 / 325 ط. الحلبي) ومالك (الموطأ 1 / 131 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا.(27/315)
يَغِيبَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْل الأَْوَّل (1) وَالْعَتَمَةُ هِيَ شِدَّةُ الظُّلْمَةِ كَمَا يَقُول الْبُهُوتِيُّ (2) .
18 - وَكَرِهَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ تَسْمِيَتَهَا بِالْعَتَمَةِ لِمَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَغْلِبَنَّكُمُ الأَْعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلاَتِكُمْ، أَلاَ إِنَّهَا الْعِشَاءُ وَهُمْ يُعْتِمُونَ بِالإِْبِل (3) مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يُسَمُّونَهَا الْعَتَمَةَ لِكَوْنِهِمْ يُعْتِمُونَ بِحِلاَبِ الإِْبِل أَيْ يُؤَخِّرُونَهُ إِلَى شِدَّةِ الظَّلاَّمِ (4) وَصَرَّحَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ (5) .
قَال النَّوَوِيُّ: إِنَّ هَذَا الاِسْتِعْمَال وَرَدَ فِي نَادِرِ الأَْحْوَال لِبَيَانِ الْجَوَازِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، أَوْ أَنَّهُ خُوطِبَ بِهِ مَنْ قَدْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الْعِشَاءُ
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها: " كانوا يصلون العتمة فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 347 ط السلفية) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
(2) مواهب الجليل للحطاب 1 / 396، ومغني المحتاج 1 / 124، 125، المجموع للنووي 3 / 36، وكشاف القناع 1 / 254.
(3) حديث: " لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل ". أخرجه مسلم (1 / 445 ط الحلبي) وأبو داود (سنن أبي داود 5 / 261 - 262 ط عزت عبيد دعاس) من حديث - عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما مرفوعا.
(4) الحطاب 1 / 396، ومغني المحتاج 1 / 124، 125، والمجموع للنووي 3 / 36.
(5) مغني المحتاج 1 / 125.(27/315)
بِالْمَغْرِبِ، فَلَوْ قِيل: الْعِشَاءُ لَتَوَهَّمَ إِرَادَةَ الْمَغْرِبِ؛ لأَِنَّهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ بِالْعِشَاءِ، وَأَمَّا الْعَتَمَةُ فَصَرِيحَةٌ فِي الْعِشَاءِ الآْخِرَةِ (1) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي تَسْمِيَتِهَا قَوْلاَنِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَثَانِيهِمَا: الْحُرْمَةُ (2)
أَوَّل وَقْتِ الْعِشَاءِ وَآخِرُهُ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ أَوَّل وَقْتِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ يَدْخُل مِنْ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ (3) ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الشَّفَقِ. فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ: الْحُمْرَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ يَقُولاَنِ: هُوَ الْبَيَاضُ بَعْدَ الْحُمْرَةِ.
وَآخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ الصَّادِقِ (4) ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ (5) .
__________
(1) المجموع للنووي 3 / 41، 42.
(2) الحطاب 1 / 397.
(3) ابن عابدين 1 / 241، ومواهب الجليل للحطاب 1 / 397، ومغني المحتاج 1 / 123، 124، والمغني لابن قدامة 1 / 382، 383.
(4) الفجر الصادق هو المنتشر ضوؤه معترضا بالأفق من قبل المشرق (مغني المحتاج 1 / 123، 124، والمغني 1 / 384) .
(5) حديث: " آخر وقت العشاء ما لم يطلع الفجر ". أورده الزيلعي في نصب الراية (1 / 234) وقال: " غريب " يعني لا أصل له، ثم قال: تكلم الطحاوي في شرح الآثار ههنا كلاما حسنا ملخصه أنه قال: يظهر من مجموع الأحاديث أن وقت العشاء حين يطلع الفجر وذلك أن ابن عباس وأ(27/316)
هَذَا، وَقَدْ قَسَّمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْوَقْتَ إِلَى اخْتِيَارِيٍّ، وَضَرُورِيٍّ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
صَلاَةُ فَاقِدِ الْعِشَاءِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ هُوَ الْوَقْتُ، وَذَكَرُوا حُكْمَ مَنْ لاَ يَأْتِيَ عَلَيْهِمُ الْعِشَاءُ فِي بَعْضِ أَيَّامِ السَّنَةِ أَوْ كُلِّهَا، هَل تَجِبُ عَلَيْهِمْ صَلاَةُ الْعِشَاءِ أَمْ لاَ؟ وَإِذَا وَجَبَتْ فَكَيْفَ يُؤَدُّونَهَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِمْ صَلاَةُ الْعِشَاءِ وَيُقَدِّرُونَ وَقْتَهَا قَدْرَ مَا يَغِيبُ الشَّفَقُ بِأَقْرَبِ الْبِلاَدِ إِلَيْهِمْ. وَفِي رَأْيٍ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ مَنْ لاَ يَأْتِي عَلَيْهِ الْعِشَاءُ لاَ يُكَلَّفُ بِصَلاَتِهَا لِعَدَمِ سَبَبِ وُجُوبِهَا (1) . وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحَ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
تَأْخِيرُ صَلاَةِ الْعِشَاءِ:
21 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 241، والاختيار 1 / 39، ومغني المحتاج 1 / 124، والفواكه الدواني 1 / 198، والمغني لابن قدامة 1 / 384.(27/316)
وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ مُسْتَحَبٌّ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْل (1) ، قَال الزَّيْلَعِيُّ: قَدْ وَرَدَ فِي تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ صِحَاحٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ (2) ، وَمِنَ الأَْحَادِيثِ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأََمَرْتُهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْل أَوْ نِصْفِهِ (3) .
وَقَيَّدَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِحْبَابَ تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ بِالشِّتَاءِ، أَمَّا الصَّيْفُ فَيُنْدَبُ تَعْجِيلُهَا عِنْدَهُمْ (4) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْفْضَل لِلْفَذِّ وَالْجَمَاعَةِ الَّتِي لاَ تُنْتَظَرُ غَيْرُهَا تَقْدِيمُ الصَّلَوَاتِ، وَلَوْ عِشَاءً فِي أَوَّل وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 246 والبدائع 1 / 124، ومغني المحتاج 1 / 126، والمجموع 3 / 40، والمغني لابن قدامة 1 / 393.
(2) الزيلعي 1 / 84.
(3) حديث: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أونصفه ". أخرجه الترمذي (سنن الترمذي 1 / 310 - 312 ط دار الكتب العلمية) وابن ماجه (سنن ابن ماجه 1 / 226 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح، وأخرجه أحمد بن حنبل (2 / 250، ط الميمنية) بلفظ مقارب ورواه الحاكم في المستدرك (1 / 146 ط دار الكتاب العربي) وفيه (إلى نصف الليل) بغير شك وصححه وأقره الذهبي.
(4) ابن عابدين 1 / 246.(27/317)
بَعْدَ تَحَقُّقِ دُخُولِهِ (1) ، وَلاَ يَنْبَغِي تَأْخِيرُ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْل إِلاَّ لِمَنْ يُرِيدُ تَأْخِيرَهَا لِشُغْلٍ مُهِمٍّ، كَعَمَلِهِ فِي حِرْفَتِهِ، أَوْ لأَِجْل عُذْرٍ، كَمَرَضٍ وَنَحْوِهِ. لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَهَا أَهْل الْمَسَاجِدِ قَلِيلاً لاِجْتِمَاعِ النَّاسِ (2) ، وَأَفْضَلِيَّةُ تَقْدِيمِ الصَّلَوَاتِ لأَِوَّل وَقْتِهَا وَلَوْ عِشَاءً هُوَ - أَيْضًا - قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ. قَال النَّوَوِيُّ: وَالأَْصَحُّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ تَقْدِيمَهَا أَفْضَل، ثُمَّ قَال: وَتَفْضِيل التَّأْخِيرِ أَقْوَى دَلِيلاً (3) .
كَرَاهَةُ النَّوْمِ قَبْل صَلاَةِ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثِ بَعْدَهَا:
22 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْل صَلاَةِ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثُ بَعْدَهَا (4) لِمَا رَوَاهُ أَبُو بَرْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا (5) قَال
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 180.
(2) الفواكه الدواني 1 / 197.
(3) مغني المحتاج 1 / 125، 126، والمجموع للنووي 3 / 57.
(4) تبيين الحقائق للزيلعي 1 / 84، والفواكه الدواني للنفراوي 1 / 197، والمجموع للنووي 3 / 42، وما بعدها.
(5) حديث أبي برزة الأسلمي: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبلها والحديث بعدها ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 73 ط السلفية) ومسلم (1 / 447 ط. الحلبي) والترمذي (سنن الترمذي 1 / 312 - 313 ط دار الكتب العلمية) .(27/317)
النَّفْرَاوِيُّ: الْحَدِيثُ بَعْدَهَا أَشَدُّ كَرَاهَةً مِنَ النَّوْمِ قَبْلَهَا (1) .
وَالدَّلِيل عَلَى كَرَاهَةِ النَّوْمِ قَبْلَهَا: هُوَ خَشْيَةُ فَوْتِ وَقْتِهَا، أَوْ فَوْتِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا (2) .
لَكِنِ الْحَنَفِيَّةُ قَالُوا: إِذَا وَكَّل لِنَفْسِهِ مَنْ يُوقِظُهُ فِي وَقْتِهَا فَمُبَاحٌ لَهُ النَّوْمُ، كَمَا نَقَلَهُ الزَّيْلَعِيُّ عَنِ الطَّحَاوِيِّ (3) .
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ النَّوْمَ قَبْل صَلاَةِ الْعِشَاءِ وَلَوْ وَكَّل مَنْ يُوقِظُهُ؛ لاِحْتِمَال نَوْمِ الْوَكِيل أَوْ نِسْيَانِهِ فَيَفُوتُ وَقْتُ الاِخْتِيَارِ (4) . أَمَّا كَرَاهَةُ الْحَدِيثِ بَعْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ:
فَلأَِنَّهُ رُبَّمَا يُؤَدِّي إِلَى سَهَرٍ يَفُوتُ بِهِ الصُّبْحُ، أَوْ لِئَلاَّ يَقَعَ فِي كَلاَمِهِ لَغْوٌ، فَلاَ يَنْبَغِي خَتْمُ الْيَقَظَةِ بِهِ، أَوْ لأَِنَّهُ يَفُوتُ بِهِ قِيَامُ اللَّيْل لِمَنْ لَهُ بِهِ عَادَةٌ؛ وَلِتَقَعَ الصَّلاَةُ الَّتِي هِيَ أَفْضَل الأَْعْمَال خَاتِمَةُ عَمَلِهِ وَالنَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَرُبَّمَا مَاتَ فِي نَوْمِهِ (5) .
وَهَذَا إِذَا كَانَ الْحَدِيثُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ لِحَاجَةٍ مُهِمَّةٍ فَلاَ بَأْسَ. وَكَذَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَحَدِيثِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُذَاكَرَةُ الْفِقْهِ وَحِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ، وَالْحَدِيثُ مَعَ
__________
(1) الفواكه الدواني 1 / 197.
(2) الزيلعي 1 / 84، والفواكه الدواني 1 / 197.
(3) تبيين الحقائق 1 / 84.
(4) الفواكه الدواني للنفراوي 1 / 197.
(5) الزيلعي 1 / 84، والفواكه الدواني 1 / 197، والمجموع 3 / 42، ومغني المحتاج 1 / 125.(27/318)
الضَّيْفِ، أَوِ الْقَادِمِ مِنَ السَّفَرِ وَنَحْوِهَا فَلاَ كَرَاهَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ خَيْرٌ نَاجِزٌ فَلاَ يُتْرَكُ لِمَفْسَدَةٍ مُتَوَهَّمَةٍ، كَمَا قَال النَّوَوِيُّ (1) وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمُرُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَا مَعَهُمَا (2) .
خَامِسًا - صَلاَةُ الْفَجْرِ:
23 - الْفَجْرُ فِي الأَْصْل هُوَ الشَّفَقُ، وَالْمُرَادُ بِهِ ضَوْءُ الصَّبَاحِ، سُمِّيَ بِهِ لاِنْفِجَارِ الظُّلْمَةِ بِهِ بِسَبَبِ حُمْرَةِ الشَّمْسِ فِي سَوَادِ اللَّيْل. وَالْفَجْرُ فِي آخِرِ اللَّيْل كَالشَّفَقِ فِي أَوَّلِهِ (3) .
وَالْفَجْرُ اثْنَانِ:
1 - الْفَجْرُ الأَْوَّل: وَهُوَ الْفَجْرُ الْكَاذِبُ، وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُسْتَطِيل يَبْدُو فِي نَاحِيَةٍ مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْعَرَبِ بِذَنَبِ السِّرْحَانِ (الذِّئْبِ) ، ثُمَّ يَنْكَتِمُ. وَلِهَذَا يُسَمَّى فَجْرًا كَاذِبًا، لأَِنَّهُ يَبْدُو نُورُهُ، ثُمَّ يَعْقُبُهُ الظَّلاَمُ
__________
(1) المجموع 3 / 42.
(2) الزيلعي 1 / 84، وانظر المراجع السابقة وحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمر مع أبي بكر في أمر من أمور المسلمين وأنا معهما ". أخرجه الترمذي (سنن الترمذي 1 / 315. ط دار الكتب العلمية) وحسنه ورواه أحمد في المسند (1 / 25 - 26 ط الميمنية) مطولا.
(3) القرطبي 2 / 28، والمصباح المنير ولسان العرب ومتن اللغة وكشاف القناع 1 / 255.(27/318)
2 - الْفَجْرُ الثَّانِي أَوِ الْفَجْرُ الصَّادِقُ: وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُسْتَطِيرُ الْمُعْتَرِضُ فِي الأُْفُقِ، لاَ يَزَال يَزْدَادُ نُورُهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيُسَمَّى هَذَا فَجْرًا صَادِقًا؛ لأَِنَّهُ إِذَا بَدَا نُورُهُ يَنْتَشِرُ فِي الأُْفُقِ (1) وَفِي الْحَدِيثِ: لاَ يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلاَلٍ وَلاَ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيل، وَلَكِنِ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الأُْفُقِ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَالأَْحْكَامُ كُلُّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفَجْرِ الثَّانِي، فَبِهِ يَدْخُل وَقْتُ صَلاَةِ الصُّبْحِ، وَيَخْرُجُ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَيُحَرَّمُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ، وَبِهِ يَنْقَضِي اللَّيْل وَيَدْخُل النَّهَارُ (3) .
وَيُطْلَقُ الْفَجْرُ عَلَى صَلاَةِ الْفَجْرِ؛ لأَِنَّهَا تُؤَدَّى فِي هَذَا الْوَقْتِ (4) ، وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (5) ، كَمَا وَرَدَتْ تَسْمِيَتُهَا بِالصُّبْحِ
__________
(1) المصباح المنير ومتن اللغة، والهداية مع فتح القدير 1 / 192، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني 1 / 122، ومغني المحتاج 1 / 124، والفواكه الدواني 1 / 192، وكشاف القناع 1 / 255
(2) حديث: " لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق " أخرجه مسلم (2 / 769 ط الحلبي) والترمذي واللفظ له (سنن الترمذي 3 / 86 ط دار الكتب العلمية) وأبو داود (سنن أبي داود 2 / 759 ط عزت عبيد الدعاس)
(3) المجموع للنووي 3 / 44
(4) الكفاية مع الهداية وفتح القدير 1 / 192
(5) سورة الإسراء الآية 78(27/319)
وَالْفَجْرِ فِي الأَْحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ (1) .
تَسْمِيَةُ صَلاَةِ الْفَجْرِ بِالْغَدَاةِ:
24 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لاَ تُكْرَهُ تَسْمِيَةُ صَلاَةِ الْفَجْرِ بِالْغَدَاةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَقِّقُو الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَهُ فِي الأُْمِّ:
أُحِبُّ أَنْ لاَ تُسَمَّى إِلاَّ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الاِسْمَيْنِ (أَيِ الْفَجْرِ وَالصُّبْحِ) ، وَلاَ أُحِبُّ أَنْ تُسَمَّى الْغَدَاةَ. قَال النَّوَوِيُّ: وَهَذَا لاَ يَدُل عَلَى الْكَرَاهَةِ، فَإِنَّ الْمَكْرُوهَ مَا ثَبَتَ فِيهِ نَهْيٌ غَيْرُ جَازِمٍ، وَلَمْ يَرِدْ بَل اشْتُهِرَ اسْتِعْمَال لَفْظِ الْغَدَاةِ فِيهَا فِي الْحَدِيثِ وَكَلاَمِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَكِنِ الأَْفْضَل الْفَجْرُ وَالصُّبْحُ (3) .
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ كَالْمُهَذَّبِ وَغَيْرِهِ كَرَاهَةُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ (4) .
__________
(1) حديث: " من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح " أخرجه البخاري (فتح الباري27 / 56. ط السلفية) واللفظ له، ومسلم (صحيح مسلم 1 / 424 ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا
(2) الفواكه الدواني 1 / 192، ومغني المحتاج 1 / 124، والمجموع 3 / 46، وكشاف القناع 1 / 256
(3) المجموع 3 / 46
(4) المهذب للشيرازي 1 / 60(27/319)
تَسْمِيَتُهَا بِالصَّلاَةِ الْوُسْطَى:
25 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلاَةِ الْوُسْطَى فِي قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى} (1) صَلاَةُ الْعَصْرِ كَمَا وَرَدَتْ فِي الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الأُْمِّ - أَنَّ الصَّلاَةَ الْوُسْطَى هِيَ الْفَجْرُ، حَتَّى إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُسَمُّونَهَا الْوُسْطَى، قَال النَّفْرَاوِيُّ: لَهَا أَرْبَعَةُ أَسْمَاءٍ: الصُّبْحُ، وَالْفَجْرُ، وَالْوُسْطَى، وَالْغَدَاةُ (2) . وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (الصَّلاَةُ الْوُسْطَى) .
أَوَّل وَقْتِ الْفَجْرِ وَآخِرُهُ:
26 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ أَوَّل وَقْتِ صَلاَةِ الْفَجْرِ هُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ الثَّانِي أَيِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ، وَآخِرُ وَقْتِهَا إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ (3) ، لِقَوْلِهِ: إِنَّ لِلصَّلاَةِ أَوَّلاً وَآخِرًا، وَإِنَّ أَوَّل وَقْتِ الْفَجْرِ حِينَ يَطْلُعُ
__________
(1) سورة البقرة - الآية 238
(2) ابن عابدين 1 / 241، والحطاب 1 / 398، 400، والفواكه الدواني 1 / 192، والمجمع 3 / 60، ومغني المحتاج 1 / 124، وكشاف القناع 1 / 256
(3) فتح القدير مع الهداية 1 / 192، والفواكه الدواني 1 / 194، ومغني المحتاج 1 / 124، والمغني لابن قدامة 1 / 385(27/320)
الْفَجْرُ، وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ (1) .
وَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَقْتَ الْفَجْرِ إِلَى: وَقْتِ اخْتِيَارٍ، وَضَرُورَةٍ، وَغَيْرِهِمَا (2) ، يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
الْقِرَاءَةُ فِي الْفَجْرِ:
27 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ تَطْوِيل قِرَاءَتِهَا، بِأَنْ يَقْرَأَ فِيهَا طِوَال الْمُفَصَّل (3) قَال أَبُو بَرْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ آيَةً (4) قَال الشِّرْبِينِيُّ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ وَقْتَ الصُّبْحِ طَوِيلٌ وَالصَّلاَةُ
__________
(1) حديث: " إن للصلاة أولا وآخرا وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر، وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس " أخرجه الترمذي (سنن الترمذي 1 / 283، 284، ط دار الكتب العلمية) وحسنه الأرناؤوط (جامع الأصول 5 / 214 - 215 نشر مكتبة الحلواني)
(2) المراجع السابقة، والدسوقي 1 / 189، وحاشية الجمل 1 / 273
(3) طوال المفصل من سورة الحجرات إلى آخر البروج، والمفصل هو السبع السابع من القرآن الكريم سمي بذلك لكثرة فصله بالبسملة (ابن عابدين 1 / 362، 363)
(4) حديث أبي هريرة: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى المائة آية " أخرجه البخاري (فتح الباري2 / 251 ط السلفية) ومسلم (صحيح مسلم 1 / 338 - ط الحلبي) واللفظ له(27/320)
رَكْعَتَانِ فَحَسُنَ تَطْوِيلُهُمَا (1) .
وَهَذَا فِي الْحَضَرِ. أَمَّا فِي السَّفَرِ فَيَقْرَأُ مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَيَّ سُورَةٍ شَاءَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ فِي سَفَرِهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ (2) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَاءَة) .
مَنْعُ النَّافِلَةِ بَعْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَقَبْلَهَا:
28 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ جَوَازِ صَلاَةِ النَّافِلَةِ بَعْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ إِلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، كَمَا أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ لاَ يُجِيزُونَ التَّنَفُّل قَبْل صَلاَةِ الْفَجْرِ - أَيْضًا - إِلاَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (3) ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَلاَ صَلاَةَ إِلاَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 163، وابن عابدين 1 / 263، والفواكه الدواني 1 / 225 والمغني لابن قدامة 1 / 570
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة الصبح في سفره بالمعوذتين " أخرجه أبو داود (1 / 152 ط عزت عبيد الدعاس) مطولا، والنسائي (2 / 158 نشر مكتبة المطبوعات الإسلامية) والحاكم في (المستدرك1 / 240 ط دار الكتاب العربي) وصححه ووافقه الذهبي
(3) الزيلعي 1 / 87، والحطاب 1 / 416، والمجموع 4 / 164، والمغني 2 / 113، و114
(4) حديث: " إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر " أخرجه الطبراني في الأوسط قال الهيثمي: وفيه إسماعيل بن قيس وهو ضعيف (مجمع الزوائد 2 / 218 نشر مكتبة القدسي) وقال المناوي نقلا عن الميزان: له شواهد من حديث ابن عمر أخرجه الترمذي واستغربه وحسنه. فمن أطلق ضعفه كالهيثمي أراد أنه ضعيف لذاته، ومن أطلق حسنه كالمؤلف السيوطي أراد أنه حسن لغيره (فيض القدير1 / 398)(27/321)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَطَوُّع، وَأَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
التَّغْلِيسُ أَوِ الإِْسْفَارُ بِالْفَجْرِ:
29 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّغْلِيسَ: أَيْ أَدَاءُ صَلاَةِ الْفَجْرِ بِغَلَسٍ (1) أَفْضَل مِنَ الإِْسْفَارِ بِهَا (2) ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْضَل الأَْعْمَال الصَّلاَةُ فِي أَوَّل وَقْتِهَا (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: نُدِبَ تَأْخِيرُ الْفَجْرِ إِلَى الإِْسْفَارِ (4) ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَْجْرِ (5) قَال
__________
(1) الغلس: هو اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل (الفواكه الدواني 1 / 193، 194)
(2) الفواكه الدواني 1 / 193، ومغني المحتاج 1 / 125، 126، وكشاف القناع 1 / 256، والمغني لابن قدامة 1 / 394، 395
(3) حديث: " أفضل الأعمال الصلاة في وقتها " أخرجه أبو داود (سنن أبي داود 1 / 296 320 ط عزت عبيد الدعاس) والترمذي (سنن الترمذي 1 / 319 - 320 ط دار الكتب العلمية) من حديث أم فروة - رضي الله عنها - بلفظ " سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: " الصلاة لأول وقتها ". وقال الترمذي: هذا حديث غريب حسن
(4) تبيين الحقائق للزيلعي 1 / 82
(5) حديث: " أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر " أخرجه أبو داود (سنن أبي داود 1 / 294، ط عزت عبيد الدعاس) والنسائي (سنن النسائي 1 / 272، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية) والترمذي (سنن الترمذي 1 / 289 - 290 ط. دار الكتب العلمية) واللفظ له من حديث رافع بن خديج مرفوعا. قال: حديث رافع بن خديج حديث حسن صحيح(27/321)
الزَّيْلَعِيُّ: وَلاَ يُؤَخِّرُهَا بِحَيْثُ يَقَعُ الشَّكُّ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ، بَل يُسْفِرُ بِهَا بِحَيْثُ لَوْ ظَهَرَ فَسَادُ صَلاَتِهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعِيدَهَا فِي الْوَقْتِ بِقِرَاءَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ (1) . وَيُسْتَثْنَى مِنَ الإِْسْفَارِ صَلاَةُ الْفَجْرِ بِمُزْدَلِفَةَ يَوْمَ النَّحْرِ، حَيْثُ يُسْتَحَبُّ فِيهَا التَّغْلِيسُ عِنْدَ الْجَمِيعِ (2) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ ف 15) .
الْقُنُوتُ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ:
30 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ. قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَنُدِبَ قُنُوتٌ سِرًّا بِصُبْحٍ فَقَطْ دُونَ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ قَبْل الرُّكُوعِ، عَقِبَ الْقِرَاءَةِ بِلاَ تَكْبِيرٍ قَبْلَهُ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ الْقُنُوتُ فِي اعْتِدَال ثَانِيَةِ الصُّبْحِ، يَعْنِي بَعْدَ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِالنَّازِلَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ قُنُوتَ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ إِلاَّ فِي النَّوَازِل (4) وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 82
(2) جواهر الإكليل 1 / 51، وحاشية الدسوقي 1 / 248
(3) مغني المحتاج 1 / 166، والقليوبي 1 / 157
(4) الهداية مع فتح القدير 1 / 378، 379، والمغني لابن قدامة 2 / 154، 155، وحاشية ابن عابدين 1 / 451(27/322)
ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ثُمَّ تَرَكَهُ (1) ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَقْنُتُ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ إِلاَّ أَنْ يَدْعُو لِقَوْمٍ أَوْ عَلَى قَوْمٍ (2) وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ مَنْسُوخَةٌ فِي غَيْرِ النَّازِلَةِ. هَذَا وَفِي أَلْفَاظِ الْقُنُوتِ وَكَيْفِيَّتِهِ خِلاَفٌ
وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قُنُوت) .
__________
(1) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرا يدعو على أحياء من أحياء العرب ثم تركه " أخرجه مسلم (1 / 469، ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وابن حبان (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 3 / 220 ط. دار الكتب العلمية)
(2) حديث أبي هريرة رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت في صلاة الصبح إلا أن يدعو لقوم أو على قوم " أخرجه ابن حبان كما في نصب الراية (2 / 130 نشر المجلس العلمي) ورواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحد أو يدعو على أحد " (صحيح ابن خزيمة 1 / 313 - 314 نشر المكتب الإسلامي)(27/322)
صُلْحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصُّلْحُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ بِمَعْنَى الْمُصَالَحَةِ وَالتَّصَالُحِ، خِلاَفُ الْمُخَاصَمَةِ وَالتَّخَاصُمِ (1) .
قَال الرَّاغِبُ: وَالصُّلْحُ يَخْتَصُّ بِإِزَالَةِ النِّفَارِ بَيْنَ النَّاسِ. يُقَال: اصْطَلَحُوا وَتَصَالَحُوا (2) وَعَلَى ذَلِكَ يُقَال: وَقَعَ بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ، وَصَالَحَهُ عَلَى كَذَا، وَتَصَالَحَا عَلَيْهِ وَاصْطَلَحَا، وَهُمْ لَنَا صُلْحٌ، أَيْ مُصَالِحُونَ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مُعَاقَدَةٌ يَرْتَفِعُ بِهَا النِّزَاعُ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَيُتَوَصَّل بِهَا إِلَى الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ (4) .
__________
(1) المغرب للمطرزي (ط. حلب) 1 / 479، وانظر طلبة الطلبة للنسفي ص 292
(2) المفردات في غريب القرآن (ط. الأنجلو المصرية) ص 420
(3) أساس البلاغة للزمخشري مادة صلح ص 257
(4) تبيين الحقائق 5 / 29، البحر الرائق 7 / 255، الدر المنتقى صرح الملتقى 2 / 307، تكملة فتح القدير مع العناية والكفاية (الميمنية) 7 / 375، روضة الطالبين 4 / 193، نهاية المحتاج 4 / 371، والفتاوى الهندية 4 / 228، أسنى المطالب 2 / 214، كفاية الأخيار 1 / 167، شرح منتهى الإرادات 2 / 260، كشاف القناع 3 / 378، المغني (ط. مكتبة الرياض الحديثة) 4 / 527(27/323)
فَهُوَ عَقْدٌ وُضِعَ لِرَفْعِ الْمُنَازَعَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا بِالتَّرَاضِي (1) ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى هَذَا الْمَدْلُول: الْعَقْدُ عَلَى رَفْعِهَا قَبْل وُقُوعِهَا - أَيْضًا - وِقَايَةٌ، فَجَاءَ فِي تَعْرِيفِ ابْنِ عَرَفَةَ لِلصُّلْحِ: أَنَّهُ انْتِقَالٌ عَنْ حَقٍّ أَوْ دَعْوَى بِعِوَضٍ لِرَفْعِ نِزَاعٍ، أَوْ خَوْفِ وُقُوعِهِ (2)
فَفِي التَّعْبِيرِ بِ (خَوْفِ وُقُوعِهِ) إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ الصُّلْحِ لِتَوَقِّي مُنَازَعَةً غَيْرَ قَائِمَةٍ بِالْفِعْل، وَلَكِنَّهَا مُحْتَمَلَةُ الْوُقُوعِ.
وَالْمُصَالِحُ: هُوَ الْمُبَاشِرُ لِعَقْدِ الصُّلْحِ (3) وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ: هُوَ الشَّيْءُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ إِذَا قُطِعَ النِّزَاعُ فِيهِ بِالصُّلْحِ (4) وَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ، أَوِ الْمُصَالَحُ بِهِ: هُوَ بَدَل الصُّلْحِ (5) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّحْكِيمُ:
2 - التَّحْكِيمُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: تَوْلِيَةُ حُكْمٍ
__________
(1) انظر م 1531 من مجلة الأحكام العدلية وم 1026 من مرشد الحيران
(2) مواهب الجليل 5 / 79، الخرشي على خليل 6 / 2، والبهجة شرح التحفة 1 / 219، وانظر للشافعية أسنى المطالب 2 / 215، نهاية المحتاج 4 / 372، روضة الطالبين 4 / 194
(3) م 1532 من المجلة العدلية
(4) م 1534 من المجلة العدلية
(5) م 1533 من المجلة العدلية(27/323)
لِفَصْل خُصُومَةٍ بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ. وَهَذِهِ التَّوْلِيَةُ قَدْ تَكُونُ مِنَ الْقَاضِي، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ قِبَل الْخَصْمَيْنِ. وَيَخْتَلِفُ التَّحْكِيمُ عَنِ الصُّلْحِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّ التَّحْكِيمَ يُنْتَجُ عَنْهُ حُكْمٌ قَضَائِيٌّ، بِخِلاَفِ الصُّلْحِ فَإِنَّهُ يُنْتَجُ عَنْهُ عَقْدٌ يَتَرَاضَى عَلَيْهِ الطَّرَفَانِ الْمُتَنَازِعَانِ. وَفَرْقٌ بَيْنَ الْحُكْمِ الْقَضَائِيِّ وَالْعَقْدِ الرِّضَائِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الصُّلْحَ يَتَنَزَّل فِيهِ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ أَوْ كِلاَهُمَا عَنْ حَقٍّ، بِخِلاَفِ التَّحْكِيمِ فَلَيْسَ فِيهِ نُزُولٌ عَنْ حَقٍّ. (ر: تَحْكِيم) .
الإِْبْرَاءُ:
3 - الإِْبْرَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ: إِسْقَاطِ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ. أَمَّا عَنِ الْعَلاَقَةِ بَيْنَ الصُّلْحِ وَالإِْبْرَاءِ، فَلَهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصُّلْحَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ النِّزَاعِ عَادَةً، وَالإِْبْرَاءَ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الصُّلْحَ قَدْ يَتَضَمَّنُ إِبْرَاءً، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِيهِ إِسْقَاطٌ لِجُزْءٍ مِنَ الْحَقِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَقَدْ لاَ يَتَضَمَّنُ الإِْبْرَاءَ، بِأَنْ يَكُونَ مُقَابِل الْتِزَامٍ مِنَ الطَّرَفِ الآْخَرِ دُونَ إِسْقَاطٍ.
وَمِنْ هُنَا: كَانَ بَيْنَ الصُّلْحِ وَالإِْبْرَاءِ عُمُومٌ(27/324)
وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، فَيَجْتَمِعَانِ فِي الإِْبْرَاءِ بِمُقَابِلٍ فِي حَالَةِ النِّزَاعِ، وَيَنْفَرِدُ الإِْبْرَاءُ فِي الإِْسْقَاطِ مَجَّانًا، أَوْ فِي غَيْرِ حَالَةِ النِّزَاعِ، كَمَا يَنْفَرِدُ الصُّلْحُ فِيمَا إِذَا كَانَ بَدَل الصُّلْحِ عِوَضًا لاَ إِسْقَاطَ فِيهِ. (ر. إِبْرَاء) .
الْعَفْوُ:
4 - الْعَفْوُ: هُوَ التَّرْكُ وَالْمَحْوُ، وَمِنْهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. أَيْ مَحَا ذُنُوبَكَ، وَتَرَكَ عُقُوبَتَكَ عَلَى اقْتِرَافِهَا. عَفَوْتَ عَنِ الْحَقِّ: أَسْقَطْتَهُ. كَأَنَّكَ مَحَوْتَهُ عَنِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ (1) .
هَذَا وَيَخْتَلِفُ الْعَفْوُ عَنِ الصُّلْحِ فِي كَوْنِ الأَْوَّل إِنَّمَا يَقَعُ وَيَصْدُرُ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ، بَيْنَمَا الصُّلْحُ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: فَالْعَفْوُ وَالصُّلْحُ قَدْ يَجْتَمِعَانِ كَمَا فِي حَالَةِ الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى مَالٍ. (ر. عَفْو) .
مَشْرُوعِيَّةُ الصُّلْحِ:
5 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الصُّلْحِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول (2) .
__________
(1) انظر المصباح المنير مادة " عفو "
(2) انظر تحفة الفقهاء للسمرقندي 3 / 417، نهاية المحتاج 4 / 371، كفاية الأخيار 1 / 167، المغني لابن قدامة (ط. مكتبة الرياض الحديثة) 4 / 527، بداية المجتهد (مطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث البداية للغماري) 8 / 90(27/324)
أَمَّا الْكِتَابُ:
أ - فَفِي قَوْله تَعَالَى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (1) .
قَال الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا عَامٌّ فِي الدِّمَاءِ وَالأَْمْوَال وَالأَْعْرَاضِ، وَفِي كُل شَيْءٍ يَقَعُ التَّدَاعِي وَالاِخْتِلاَفُ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ (2) .
ب - وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (3) فَقَدْ أَفَادَتِ الآْيَةُ مَشْرُوعِيَّةَ الصُّلْحِ، حَيْثُ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ الصُّلْحَ بِأَنَّهُ خَيْرٌ، وَلاَ يُوصَفُ بِالْخَيْرِيَّةِ إِلاَّ مَا كَانَ مَشْرُوعًا مَأْذُونًا فِيهِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ:
أ - فَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي رِوَايَةٍ: إِلاَّ صُلْحًا أَحَل حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً (4) . وَالْحَدِيثُ وَاضِحُ
__________
(1) النساء آية / 114
(2) المقدمات الممهدات 2 / 515، (ط. دار الغرب الإسلامي)
(3) النساء آية / 128
(4) حديث: " الصلح جائز بين المسلمين " أخرجه أبو داود (4 / 20 تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في التغليق (3 / 282 - ط. المكتب الإسلامي)(27/325)
الدَّلاَلَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصُّلْحِ (1) .
ب - وَمَا رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا تَنَازَعَ مَعَ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ فِي دَيْنٍ عَلَى ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا: بِأَنِ اسْتَوْضَعَ مِنْ دَيْنِ كَعْبٍ الشَّطْرَ، وَأَمَرَ غَرِيمَهُ بِأَدَاءِ الشَّطْرِ (2) .
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ:
فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصُّلْحِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمُ اخْتِلاَفٌ فِي جَوَازِ بَعْضِ صُوَرِهِ (3) .
وَأَمَّا الْمَعْقُول:
فَهُوَ أَنَّ الصُّلْحَ رَافِعٌ لِفَسَادٍ وَاقِعٍ، أَوْ مُتَوَقَّعٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ الصُّلْحُ عِنْدَ النِّزَاعِ. وَالنِّزَاعُ سَبَبُ الْفَسَادِ،
__________
(1) كفاية الأخيار 1 / 167، بداية المجتهد 8 / 90، تحفة الفقهاء 3 / 417، نهاية المحتاج 4 / 371، شرح منتهى الإرادات 2 / 260، المبدع 4 / 278
(2) حديث عبد الله بن كعب لما تنازع مع أبي حدرد رواه البخاري (صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5 / 311 ط. السلفية) وانظر أعلام الموقعين 1 / 107
(3) المغني لابن قدامة 4 / 527 شرح منتهى الإرادات 2 / 260، نهاية المحتاج 4 / 371، بداية المجتهد (مطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث البداية) 8 / 90، عارضة الأحوذي 6 / 103، تحفة الفقهاء للسمرقندي 3 / 417، أسنى المطالب 2 / 214، المبدع 4 / 278(27/325)
وَالصُّلْحُ يَهْدِمُهُ وَيَرْفَعُهُ، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَجَل الْمَحَاسِنِ (1) .
أَنْوَاعُ الصُّلْحِ:
6 - الصُّلْحُ يَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا خَمْسَةً (2) :
أَحَدُهُمَا: الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ. (ر. جِهَاد، جِزْيَة، عَهْد، هُدْنَة) .
وَالثَّانِي: الصُّلْحُ بَيْنَ أَهْل الْعَدْل وَأَهْل الْبَغْيِ. (ر. بُغَاة) .
وَالثَّالِثُ: الصُّلْحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا خِيفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا، أَوْ خَافَتِ الزَّوْجَةُ إِعْرَاضَ الزَّوْجِ عَنْهَا. (ر. شِقَاق، عِشْرَةُ النِّسَاءِ، نُشُوز) .
وَالرَّابِعُ: الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي غَيْرِ مَالٍ. كَمَا فِي جِنَايَاتِ الْعَمْدِ. (ر. قِصَاص، عَفْو، دِيَات) .
وَالْخَامِسُ: الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي الأَْمْوَال. وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمُبَوَّبُ لَهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَهُوَ مَوْضُوعُ هَذَا الْبَحْثِ.
__________
(1) محاسن الإسلام للزاهد البخاري الحنفي (ط. القدسي) ص86
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 260، المغني لابن قدامة 4 / 527، نهاية المحتاج 4 / 371، فتح الباري (المطبعة السلفية) 5 / 298، كشاف القناع 3 / 378، أسنى المطالب 2 / 214، المبدع 4 / 278(27/326)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلصُّلْحِ:
7 - قَال ابْنُ عَرَفَةَ: وَهُوَ - أَيِ الصُّلْحُ - مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَعْرِضُ وُجُوبُهُ عِنْدَ تَعَيُّنِ مَصْلَحَةٍ، وَحُرْمَتُهُ وَكَرَاهَتُهُ لاِسْتِلْزَامِهِ مَفْسَدَةً وَاجِبَةَ الدَّرْءِ أَوْ رَاجِحَتَهُ (1) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الصُّلْحُ نَوْعَانِ:
أ - صُلْحٌ عَادِلٌ جَائِزٌ. وَهُوَ مَا كَانَ مَبْنَاهُ رِضَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرِضَا الْخَصْمَيْنِ، وَأَسَاسُهُ الْعِلْمُ وَالْعَدْل، فَيَكُونُ الْمُصَالِحُ عَالِمًا بِالْوَقَائِعِ، عَارِفًا بِالْوَاجِبِ، قَاصِدًا لِلْعَدْل كَمَا قَال سُبْحَانَهُ: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْل} (2) .
ب - وَصُلْحٌ جَائِرٌ مَرْدُودٌ: وَهُوَ الَّذِي يُحِل الْحَرَامَ أَوْ يُحَرِّمُ الْحَلاَل، كَالصُّلْحِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ أَكْل الرِّبَا، أَوْ إِسْقَاطَ الْوَاجِبِ، أَوْ ظُلْمَ ثَالِثٍ، وَكَمَا فِي الإِْصْلاَحِ بَيْنَ الْقَوِيِّ الظَّالِمِ وَالْخَصْمِ الضَّعِيفِ الْمَظْلُومِ بِمَا يُرْضِي الْمُقْتَدِرَ صَاحِبَ الْجَاهِ، وَيَكُونُ لَهُ فِيهِ الْحَظُّ، بَيْنَمَا يَقَعُ الإِْغْمَاضُ وَالْحَيْفُ فِيهِ عَلَى
__________
(1) مواهب الجليل 5 / 80، البهجة 1 / 220، حاشية العدوي على الخرشي 6 / 2
(2) الحجرات آية / 9(27/326)
الضَّعِيفِ، أَوْ لاَ يُمَكِّنُ ذَلِكَ الْمَظْلُومَ مِنْ أَخْذِ حَقِّهِ (1) .
رَدُّ الْقَاضِي الْخُصُومَ إِلَى الصُّلْحِ:
8 - جَاءَ فِي " الْبَدَائِعِ ": وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَرُدَّ الْقَاضِي الْخُصُومَ إِلَى الصُّلْحِ إِنْ طَمِعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (2) فَكَانَ الرَّدُّ لِلصُّلْحِ رَدًّا لِلْخَيْرِ. وَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " رُدُّوا الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّ فَصْل الْقَضَاءِ يُورِثُ بَيْنَهُمُ الضَّغَائِنَ ". فَنَدَبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْقُضَاةَ إِلَى الصُّلْحِ وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ حُصُول الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ ضَغِينَةٍ. وَلاَ يَزِيدُ عَلَى مَرَّةٍ أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنِ اصْطَلَحَا، وَإِلاَّ قَضَى بَيْنَهُمَا بِمَا يُوجِبُ الشَّرْعُ. وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ مِنْهُمْ فَلاَ يَرُدُّهُمْ إِلَيْهِ، بَل يُنَفِّذُ الْقَضَاءَ فِيهِمْ؛ لأَِنَّهُ لاَ فَائِدَةَ فِي الرَّدِّ (3) .
حَقِيقَةُ الصُّلْحِ:
9 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ عَقْدَ الصُّلْحِ لَيْسَ عَقْدًا مُسْتَقِلًّا قَائِمًا بِذَاتِهِ فِي شُرُوطِهِ وَأَحْكَامِهِ، بَل هُوَ مُتَفَرِّعٌ عَنْ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ تَسْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ أَقْرَبِ الْعُقُودِ
__________
(1) أعلام الموقعين تحقيق (محمد محيي الدين عبد الحميد) 1 / 108، 109
(2) النساء آية / 128
(3) بدائع الصنائع 7 / 13(27/327)
إِلَيْهِ شَبَهًا بِحَسَبِ مَضْمُونِهِ. فَالصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ يُعْتَبَرُ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ، وَالصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ يُعَدُّ فِي حُكْمِ الإِْجَارَةِ، وَالصُّلْحُ عَلَى بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ هِبَةُ بَعْضِ الْمُدَّعَى لِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، وَالصُّلْحُ عَنْ نَقْدٍ بِنَقْدٍ لَهُ حُكْمُ الصَّرْفِ، وَالصُّلْحُ عَنْ مَال مُعَيَّنٍ بِمَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ فِي حُكْمِ السَّلَمِ، وَالصُّلْحُ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمُدَّعِي أَقَل مِنَ الْمَطْلُوبِ لِيَتْرُكَ دَعْوَاهُ يُعْتَبَرُ أَخْذًا لِبَعْضِ الْحَقِّ، وَإِبْرَاءً عَنَ الْبَاقِي. . . إِلَخْ.
وَثَمَرَةُ ذَلِكَ: أَنْ تَجْرِيَ عَلَى الصُّلْحِ أَحْكَامُ الْعَقْدِ الَّذِي اعْتُبِرَ بِهِ وَتُرَاعَى فِيهِ شُرُوطُهُ وَمُتَطَلَّبَاتُهُ (1) . قَال الزَّيْلَعِيُّ: وَهَذَا لأَِنَّ الأَْصْل فِي الصُّلْحِ أَنْ يُحْمَل عَلَى أَشْبَهِ الْعُقُودِ بِهِ، فَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ؛ لأَِنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّورَةِ (2) .
أَقْسَامُ الصُّلْحِ:
10 - الصُّلْحُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالأَْجْنَبِيِّ الْمُتَوَسِّطِ، وَيَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاَثَةِ
__________
(1) انظر شرح الخرشي 6 / 2 - 4، كشاف القناع 3 / 379، 385، تبيين الحقائق 5 / 31 - 33، روضة الطالبين 4 / 193، 196
(2) تبيين الحقائق 5 / 31(27/327)
أَقْسَامٍ، صُلْحٍ عَنِ الإِْقْرَارِ، وَصُلْحٍ عَنِ الإِْنْكَارِ، وَصُلْحٍ عَنِ السُّكُوتِ (1) .
الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: الصُّلْحُ مَعَ إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
11 - وَهُوَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (2) . وَهُوَ ضَرْبَانِ: صُلْحٌ عَنِ الأَْعْيَانِ، صُلْحٌ عَنِ الدُّيُونِ.
(أ) - الصُّلْحُ عَنِ الأَْعْيَانِ.
وَهُوَ نَوْعَانِ: صُلْحُ الْحَطِيطَةِ، وَصُلْحُ الْمُعَاوَضَةِ.
أَوَّلاً: صُلْحُ الْحَطِيطَةِ:
12 - وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، كَمَنْ صَالَحَ مِنَ الدَّارِ الْمُدَّعَاةِ عَلَى نِصْفِهَا أَوْ ثُلُثِهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ.
__________
(1) الكفاية على الهداية (المطبعة الميمنية) 7 / 477
(2) تحفة الفقهاء 3 / 418، مجمع الأنهر 2 / 308، شرح منتهى الإرادات 2 / 260، كفاية الأخبار 1 / 167، بداية المجتهد (مطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث البداية) 8 / 90، القوانين الفقهية (ط. الدار العربية للكتاب) ص 343، كفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي عليه 2 / 324. إرشاد السالك لابن عسكر البغدادي المالكي ص 132، التفريع لابن الجلاب 2 / 289(27/328)
أَحَدِهَا: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: وَهُوَ أَنَّهُ يُعَدُّ مِنْ قَبِيل هِبَةِ بَعْضِ الْمُدَّعَى لِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، فَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ الْهِبَةِ، سَوَاءٌ وَقَعَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ أَوْ بِلَفْظِ الصُّلْحِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: لأَِنَّ الْخَاصِّيَّةَ الَّتِي يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا لَفْظُ الصُّلْحِ، وَهِيَ سَبْقُ الْخُصُومَةِ قَدْ حَصَلَتْ (1) .
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ فِي يَدِهِ عَيْنٌ، فَقَال الْمُقَرُّ لَهُ: وَهَبْتُكَ نِصْفَهَا، فَأَعْطِنِي بَقِيَّتَهَا، فَيَصِحُّ وَيُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ الْهِبَةِ؛ لأَِنَّ جَائِزَ التَّصَرُّفِ لاَ يُمْنَعُ مِنْ هِبَةِ بَعْضِ حَقِّهِ، كَمَا لاَ يُمْنَعُ مِنَ اسْتِيفَائِهِ، مَا لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ قَدْ صَالَحَ عَنْ بَعْضِ مَالِهِ بِبَعْضِهِ، فَهُوَ هَضْمٌ لِلْحَقِّ، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ يُعْطِيَهُ الْبَاقِيَ، كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي كَذَا مِنْهُ أَوْ تُعَوِّضَنِي مِنْهُ بِكَذَا؛ لأَِنَّهُ يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ، فَكَأَنَّهُ عَاوَضَ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ بِبَعْضِهِ، وَالْمُعَاوَضَةُ عَنِ الشَّيْءِ بِبَعْضِهِ مَحْظُورَةٌ، أَوْ يَمْنَعُهُ حَقَّهُ بِدُونِ
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 193، كفاية الأخبار 1 / 168، نهاية المحتاج 4 / 372، أسنى المطالب 2 / 215، المهذب 1 / 340، الخرشي على خليل 6 / 3، شرح الزرقاني على خليل 6 / 3(27/328)
الصُّلْحِ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ كَذَلِكَ (1) .
وَالثَّالِثُ: لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ دَارًا، حَصَل الصُّلْحُ عَلَى قِسْمٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا، فَهُنَاكَ قَوْلاَنِ فِي الْمَذْهَبِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَصِحُّ هَذَا الصُّلْحُ، وَلِلْمُدَّعِي الاِدِّعَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ بِبَاقِي الدَّارِ؛ لأَِنَّ الصُّلْحَ إِذَا وَقَعَ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعَى بِهِ يَكُونُ الْمُدَّعِي قَدِ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ، وَأَسْقَطَ الْبَعْضَ الآْخَرَ، إِلاَّ أَنَّ الإِْسْقَاطَ عَنِ الأَْعْيَانِ بَاطِلٌ، فَصَارَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْمُدَّعَى بِهِ لاَ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ كُلِّهِ، حَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ أَنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ نَفْسِهِ، إِذِ الْبَعْضُ دَاخِلٌ ضِمْنَ الْكُل.
وَالثَّانِي: يَصِحُّ هَذَا الصُّلْحُ، وَلاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِي بَاقِيهَا بَعْدَهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ؛ لأَِنَّ الإِْبْرَاءَ عَنْ بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَى بِهَا إِبْرَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ عَنْ دَعْوَى ذَلِكَ الْبَعْضِ، فَالصُّلْحُ صَحِيحٌ وَلاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى بَعْدَهُ (2) .
أَمَّا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، بِأَنْ صَالَحَهُ عَنْ بَيْتٍ ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ وَأَقَرَّ لَهُ بِهِ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 260، كشاف القناع 3 / 379، المغني 4 / 536، المبدع 4 / 279
(2) شرح المجلة للأتاسي 4 / 558 - 561، درر الحكام لعلي حيدر 4 / 39(27/329)
عَلَى سُكْنَاهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ الصُّلْحِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: الْجَوَازُ وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ: وَيُعْتَبَرُ إِجَارَةً. وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ، وَيُعْتَبَرُ إِعَارَةً؛ فَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهَا. فَإِنْ عَيَّنَ مُدَّةً فَإِعَارَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، وَإِلاَّ فَمُطْلَقَةٌ (1) .
وَالثَّانِي: عَدَمُ الْجَوَازِ، وَهُوَ لِلْحَنَابِلَةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ صَالَحَهُ عَنْ مِلْكِهِ عَلَى مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ، فَكَأَنَّهُ ابْتَاعَ دَارَهُ بِمَنْفَعَتِهَا، وَهُوَ لاَ يَجُوزُ (2) .
ثَانِيًا: صُلْحُ الْمُعَاوَضَةِ:
13 - وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى غَيْرِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، كَأَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ دَارًا، فَأَقَرَّ لَهُ بِهَا ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَارٍ أُخْرَى.
وَهُوَ جَائِزٌ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَيُعَدُّ بَيْعًا، وَإِنْ عُقِدَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ؛ لأَِنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ جَمِيعُ شُرُوطِ الْبَيْعِ: كَمَعْلُومِيَّةِ الْبَدَل، وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَالتَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ إِنْ جَرَى بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ رِبَا النَّسِيئَةِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 372، أسنى المطالب 2 / 216، روضة الطالبين 4 / 197، البدائع (6 / 47، الطبعة الأولى)
(2) المهذب 1 / 340، شرح منتهى الإرادات 2 / 261، المبدع 4 / 281، كشاف القناع 3 / 380، المغني 4 / 537، (ط. مكتبة الرياض الحديثة)(27/329)
كَذَلِكَ تَتَعَلَّقُ بِهِ جَمِيعُ أَحْكَامِ الْبَيْعِ: كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَحَقِّ الشُّفْعَةِ، وَالْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ قَبْل الْقَبْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا يَفْسُدُ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ وَالشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ لِلْبَيْعِ. (1)
وَلَوْ صَالَحَهُ مِنَ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ عَلَى مَنْفَعَةِ عَيْنٍ أُخْرَى، كَمَا إِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ شَيْئًا، فَأَقَرَّ بِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارِهِ، أَوْ رُكُوبِ دَابَّتِهِ، أَوْ لُبْسِ ثَوْبِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ هَذَا الصُّلْحِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ إِجَارَةً، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ سَائِرُ أَحْكَامِهَا؛ لأَِنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمَعَانِي، فَوَجَبَ حَمْل الصُّلْحِ عَلَيْهَا، لِوُجُودِ مَعْنَاهَا فِيهَا، وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ (2) .
__________
(1) الأم 3 / 221، بداية المجتهد (مطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث البداية) 8 / 19، تحفة الفقهاء 3 / 419، مجمع الأنهر والدر المنتقى 2 / 308، تبيين الحقائق 5 / 31، البحر الرائق 7 / 256، والزرقاني على خليل 6 / 2، شرح الخرشي 6 / 3، مواهب الجليل 5 / 80، شرح منتهى الإرادات 2 / 262، المبدع 4 / 282، المغني 4 / 537، كشاف القناع 3 / 382، روضة الطالبين 4 / 193، كفاية الأخيار 1 / 168، نهاية المحتاج 4 / 371، وما بعدها، أسنى المطالب 2 / 215، المهذب 1 / 340، حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 324 وانظر م 1030، من مرشد الحيران وم 1548 من مجلة الأحكام العدلية وم 1626 من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد
(2) تبيين الحقائق 5 / 32، مجمع الأنهر والدر المنتقى 2 / 309، العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 324، نهاية المحتاج 4 / 371، وما بعدها، أسنى المطالب 2 / 215، المهذب 1 / 340، كفاية الأخيار 1 / 168، روضة الطالبين 4 / 193، كشاف القناع 3 / 382، المغني 4 / 537، المبدع 4 / 282، شرح منتهى الإرادات 2 / 262، مواهب الجليل 5 / 81، الخرشي 6 / 2 وانظر م 1031، من مرشد الحيران وم 1549 من مجلة الأحكام العدلية وم 1626، من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد القاري(27/330)
ب - الصُّلْحُ عَنِ الدَّيْنِ:
وَذَلِكَ مِثْل أَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ عَلَى آخَرَ دَيْنًا، فَيُقِرُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَهُ بِهِ، ثُمَّ يُصَالِحُهُ عَلَى بَعْضِهِ، أَوْ عَلَى مَالٍ غَيْرِهِ. وَهُوَ جَائِزٌ - فِي الْجُمْلَةِ - بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ اخْتِلاَفٌ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ وَحَالاَتِهِ. وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ نَوْعَانِ: صُلْحُ إِسْقَاطٍ وَإِبْرَاءٍ، وَصُلْحُ مُعَاوَضَةٍ.
أَوَّلاً: صُلْحُ الإِْسْقَاطِ وَالإِْبْرَاءِ:
وَيُسَمَّى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صُلْحُ الْحَطِيطَةِ.
14 - وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى، وَصُورَتُهُ بِلَفْظِ الصُّلْحِ، أَنْ يَقُول الْمُقَرُّ لَهُ: صَالَحْتُكَ عَلَى الأَْلْفِ الْحَال الَّذِي لِي عَلَيْكَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، هُوَ أَنَّ هَذَا الصُّلْحَ جَائِزٌ؛ إِذْ هُوَ أَخْذٌ لِبَعْضِ حَقِّهِ وَإِسْقَاطٌ لِبَاقِيهِ، لاَ مُعَاوَضَةٌ،(27/330)
وَيُعْتَبَرُ إِبْرَاءً لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ بَعْضِ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّهُ مَعْنَاهُ، فَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهُ (1) .
وَقَدْ جَاءَ فِي (م 1044) مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ: لِرَبِّ الدَّيْنِ أَنْ يُصَالِحَ مَدْيُونَهُ عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ، وَيَكُونُ أَخْذًا لِبَعْضِ حَقِّهِ وَإِبْرَاءً عَنْ بَاقِيهِ.
ثُمَّ قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَيَصِحُّ بِلَفْظِ الإِْبْرَاءِ وَالْحَطِّ وَنَحْوِهِمَا، كَالإِْسْقَاطِ وَالْهِبَةِ وَالتَّرْكِ وَالإِْحْلاَل وَالتَّحْلِيل وَالْعَفْوِ وَالْوَضْعِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ حِينَئِذٍ الْقَبُول عَلَى الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّ الإِْبْرَاءَ تَمْلِيكٌ أَمْ إِسْقَاطٌ. كَمَا يَصِحُّ بِلَفْظِ الصُّلْحِ فِي الأَْصَحِّ. وَفِي اشْتِرَاطِ الْقَبُول إِذَا وَقَعَ بِهِ وَجْهَانِ - كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ قَال لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ: وَهَبْتُهُ لَكَ - وَالأَْصَحُّ الاِشْتِرَاطُ؛ لأَِنَّ اللَّفْظَ بِوَضْعِهِ يَقْتَضِيهِ (2) .
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ، فَوَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ حَقِّهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْبَاقِيَ، كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُمَا إِذَا كَانَ بِلَفْظِ الإِْبْرَاءِ، وَكَانَتِ الْبَرَاءَةُ
__________
(1) مواهب الجليل 5 / 82، المواق على خليل 5 / 82، العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 324، نهاية المحتاج 4 / 374، أسنى المطالب 2 / 215، مجمع الأنهر 2 / 315، البحر الرائق 7 / 259، البدائع 6 / 43، تحفة الفقهاء 3 / 422، شرح المجلة للأتاسي 4 / 562، وما بعدها وانظر م 1552 من مجلة الأحكام العدلية، وتبيين الحقائق 5 / 41
(2) كفاية الأخيار 1 / 168، روضة الطالبين 4 / 196، نهاية المحتاج 4 / 374، أسنى المطالب 2 / 215(27/331)
مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطِ إِعْطَاءِ الْبَاقِي، كَقَوْل الدَّائِنِ: عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي كَذَا مِنْهُ، وَلَمْ يَمْتَنِعُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ إِعْطَاءِ بَعْضِ حَقِّهِ إِلاَّ بِإِسْقَاطِ بَعْضِهِ الآْخَرِ (1) . فَإِنْ تَطَوَّعَ الْمُقَرُّ لَهُ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ بِطِيبِ نَفْسِهِ جَازَ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصُلْحٍ وَلاَ مِنْ بَابِ الصُّلْحِ بِسَبِيلٍ (2) .
أَمَّا إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ فَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الأَْصَحُّ فِي الْمَذْهَبِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّهُ صَالَحَ عَنْ بَعْضِ مَالِهِ بِبَعْضِهِ، فَكَانَ هَضْمًا لِلْحَقِّ. وَالثَّانِيَةِ: وَهِيَ ظَاهِرُ " الْمُوجَزِ " " وَالتَّبْصِرَةِ " أَنَّهُ يَصِحُّ (3) .
أَمَّا لَوْ صَالَحَهُ عَنْ أَلْفٍ مُؤَجَّلٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُعَجَّلَةٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ. (4) وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 260، كشاف القناع 3 / 379، المبدع 4 / 279، وانظر م 1620 من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد
(2) المغني 4 / 534
(3) المبدع 4 / 279، المغني 535
(4) البحر الرائق 7 / 259، والبدائع 6 / 45، وتبيين الحقائق 5 / 43، وروضة الطالبين 4 / 196، نهاية المحتاج 4 / 374، أسنى المطالب 2 / 216، شرح الخرشي 6 / 3، البهجة شرح التحفة 1 / 221، الزرقاني على خليل 6 / 3، شرح التاودي على التحفة 1 / 221، وشرح منتهى الإرادات 2 / 260، المبدع 4 / 79، وكشاف القناع 3 / 380.(27/331)
وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ ذَلِكَ دَيْنَ الْكِتَابَةِ؛ لأَِنَّ الرِّبَا لاَ يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ. وَعَلَّل الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ الصِّحَّةِ: بِأَنَّهُ تَرَكَ بَعْضَ الْمِقْدَارِ لِيَحْصُل الْحُلُول فِي الْبَاقِي، وَالصِّفَةُ بِانْفِرَادِهَا لاَ تُقَابَل بِعِوَضٍ؛ وَلأَِنَّ صِفَةَ الْحُلُول لاَ يَصِحُّ إِلْحَاقُهَا بِالْمُؤَجَّل، وَإِذَا لَمْ يَحْصُل مَا تَرَكَ مِنَ الْقَدْرِ لأَِجْلِهِ لَمْ يَصِحَّ التَّرْكُ. (1) وَوَجْهُ الْمَنْعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ مَنْ عَجَّل مَا أُجِّل يُعَدُّ مُسَلِّفًا، فَقَدْ أَسْلَفَ الآْنَ خَمْسَمِائَةٍ لِيَقْتَضِيَ عِنْدَ الأَْجَل أَلْفًا مِنْ نَفْسِهِ.
(2) وَقَدْ عَلَّل الْحَنَفِيَّةُ الْمَنْعَ فِي غَيْرِ دَيْنِ الْكِتَابَةِ: بِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل لاَ يَسْتَحِقُّ الْمُعَجَّل، فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَل اسْتِيفَاءً، فَصَارَ عِوَضًا، وَبَيْعُ خَمْسِمِائَةٍ بِأَلْفٍ لاَ يَجُوزُ. (3)
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُعَجَّل لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ حَتَّى يَكُونَ اسْتِيفَاؤُهُ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ حَقِّهِ، وَالتَّعْجِيل خَيْرٌ مِنَ النَّسِيئَةِ لاَ مَحَالَةَ، فَيَكُونُ خَمْسَمِائَةٍ بِمُقَابَلَةِ خَمْسِمِائَةٍ مِثْلُهُ مِنَ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 216.
(2) البهجة للتسولي 1 / 221.
(3) تحفة الفقهاء 3 / 423.(27/332)
الدَّيْنِ، وَالتَّعْجِيل فِي مُقَابَلَةِ الْبَاقِي، وَذَلِكَ اعْتِيَاضٌ عَنِ الأَْجَل، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ أَلاَ تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلاَّ مُقَابَلَةُ الْمَال بِالأَْجَل شُبْهَةً، فَلأََنْ تَكُونَ مُقَابَلَةُ الْمَال بِالأَْجَل حَقِيقَةً حَرَامًا أَوْلَى. (1)
الثَّانِي: جَوَازُ ذَلِكَ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، حَكَاهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ، (2) وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ قَيِّمٍ الْجَوْزِيَّةُ. (3)
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: لأَِنَّ هَذَا عَكْسُ الرِّبَا، فَإِنَّ الرِّبَا يَتَضَمَّنُ الزِّيَادَةَ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ الأَْجَل، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ مِنْ بَعْضِ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ سُقُوطِ الأَْجَل، فَسَقَطَ بَعْضُ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ سُقُوطِ بَعْضِ الأَْجَل، فَانْتَفَعَ بِهِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَا رِبًا لاَ حَقِيقَةً وَلاَ لُغَةً وَلاَ عُرْفًا، فَإِنَّ الرِّبَا الزِّيَادَةُ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ هَاهُنَا، وَاَلَّذِينَ حَرَّمُوا ذَلِكَ إِنَّمَا قَاسُوهُ عَلَى الرِّبَا، وَلاَ يَخْفَى الْفَرْقُ
__________
(1) العناية على الهداية (ط. الميمنية) 7 / 396، تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 5 / 42، شرح المجلة للأتاسي 4 / 564.
(2) المبدع 3 / 280.
(3) الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية للبعلي ص 134، أعلام الموقعين 3 / 371، أحكام القرآن للجصاص (ط. مصر بعناية محمد الصادق قمحاوي) 2 / 186.(27/332)
الْوَاضِحُ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِمَّا أَنْ تُرْبِيَ، وَإِمَّا أَنْ تَقْضِيَ. وَبَيْنَ قَوْلِهِ: عَجِّل لِي وَأَهَبُ لَكَ مِائَةً. فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنَ الآْخَرِ؛ فَلاَ نَصَّ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَلاَ إِجْمَاعَ، وَلاَ قِيَاسَ صَحِيحٌ. (1)
وَلَوْ صَالَحَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَالٍّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ التَّأْجِيل لاَ يَصِحُّ، وَيُعْتَبَرُ لاَغِيًا؛ إِذْ هُوَ مِنَ الدَّائِنِ وَعْدٌ بِإِلْحَاقِ الأَْجَل، وَصِفَةُ الْحُلُول لاَ يَصِحُّ إِلْحَاقُهَا، وَالْوَعْدُ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ. (2)
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ صِحَّةُ التَّأْجِيل، وَذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِوَصْفِ الْحُلُول فَقَطْ، وَهُوَ حَقٌّ لَهُ، فَيَصِحُّ، وَيَكُونُ مِنْ قَبِيل الإِْحْسَانِ. (3) قَالُوا: لأَِنَّ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ، فَلَوْ حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ فَيَلْزَمُ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ نَسَاءً، وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ؛ لأَِنَّ الدَّرَاهِمَ الْحَالَّةَ وَالدَّرَاهِمَ
__________
(1) أعلام الموقعين عن رب العالمين (ط. السعادة بمصر) 3 / 371.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 261، أسنى المطالب 2 / 215، نهاية المحتاج 4 / 374.
(3) مجمع الأنهر 2 / 315، تحفة الفقهاء 3 / 423، البحر الرائق 7 / 259، شرح المجلة للأتاسي 4 / 564، وانظر م 1553، من مجلة الأحكام العدلية، البدائع 6 / 44.(27/333)
الْمُؤَجَّلَةَ ثَابِتَةٌ فِي الذِّمَّةِ، وَالدَّيْنُ بِالدَّيْنِ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ (1) ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ حَمْلُهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ حَمَلْنَاهُ عَلَى التَّأْخِيرِ تَصْحِيحًا لِلتَّصَرُّفِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ كَوْنُهُ تَصَرُّفًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، لاَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ. (2)
وَلَوِ اصْطَلَحَا عَنِ الدَّيْنِ الْحَال عَلَى وَضْعِ بَعْضِهِ وَتَأْجِيل الْبَاقِي، كَمَا لَوْ صَالَحَ الدَّائِنُ مَدِينَهُ عَنْ أَلْفٍ حَالَّةٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ. وَهُوَ صِحَّةُ الإِْسْقَاطِ وَالتَّأْجِيل. (3) وَقَدِ اخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ. قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهُوَ الصَّوَابُ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ تَأْجِيل الْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ. (4)
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكالئ بالكالئ ". أخرجه الدارقطني والبيهقي والطحاوي والحاكم والبزار وابن أبي شيبة عن ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعا (التلخيص الحبير 2 / 26، نصب الراية 4 / 39، شرح معاني الآثار 4 / 21، سنن الدارقطني 3 / 71، سنن البيهقي 5 / 290، المستدرك 2 / 57، نيل الأوطار 5 / 254) .
(2) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 5 / 41.
(3) البحر الرائق 7 / 259، التاج والإكليل للمواق 5 / 82، أعلام الموقعين 3 / 370.
(4) أعلام الموقعين (ط. السعادة بمصر) 3 / 370.(27/333)
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي الأَْصَحِّ وَالشَّافِعِيَّةِ:
وَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ الإِْسْقَاطُ دُونَ التَّأْجِيل. وَعِلَّةُ صِحَّةِ الْوَضْعِ وَالإِْسْقَاطِ: أَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ، فَلاَ مَانِعَ مِنْ صِحَّتِهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ تَأْجِيلٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ أَسْقَطَهُ كُلَّهُ؛ إِذْ هُوَ مُسَامَحَةٌ وَلَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ. (1)
وَالثَّالِثُ: لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الإِْسْقَاطُ وَلاَ التَّأْجِيل؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ لاَ يَصِحُّ مَعَ الإِْقْرَارِ، وَعَلَى أَنَّ الْحَال لاَ يَتَأَجَّل. (2)
ثَانِيًا: صُلْحُ الْمُعَاوَضَةِ:
15 - وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى غَيْرِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى، بِأَنْ يُقِرَّ لَهُ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يَتَّفِقَانِ عَلَى تَعْوِيضِهِ عَنْهُ. وَحُكْمُهُ حُكْمُ بَيْعِ الدَّيْنِ، (3) وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ. وَهُوَ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 380، شرح منتهى الإرادات 2 / 261، المبدع 4 / 280، روضة الطالبين 4 / 196، أسنى المطالب 2 / 216، نهاية المحتاج 4 / 374.
(2) أعلام الموقعين 3 / 370، (ط. السعادة بمصر) ، وانظر المبدع 4 / 280.
(3) التاج والإكليل 5 / 81. * ومن أجل ذلك نص الشافعية على التفريق بين ما إذا صالحه عن دين لا يجوز الاعتياض عنه كدين السلم، وبين ما إذا صالحه على دين يجوز الاعتياض عنه وقالوا: فإن صالحه عن ما لا يصح الاعتياض عنه فإنه لا يصح، أما إذا صالحه عن دين يجوز الاعتياض(27/334)
عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:. (1)
الأَْوَّل: أَنْ يُقِرَّ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ، فَيُصَالِحَهُ بِالآْخَرِ، نَحْوَ: أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَيُصَالِحَهُ مِنْهَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، أَوْ يُقِرَّ لَهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، فَيُصَالِحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ. وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لَهُ حُكْمَ الصَّرْفِ؛ لأَِنَّهُ بَيْعُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالآْخَرِ، وَيُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ فِي الصَّرْفِ مِنَ الْحُلُول وَالتَّقَابُضِ قَبْل التَّفَرُّقِ.
(2) وَالثَّانِي: أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِعَرَضٍ، كَفَرَسٍ وَثَوْبٍ، فَيُصَالِحَهُ عَنِ الْعَرَضِ بِنَقْدٍ، أَوْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِنَقْدٍ، كَدِينَارٍ، فَيُصَالِحَهُ عَنْهُ عَلَى عَرَضٍ. وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لَهُ حُكْمَ
__________
(1) جاء في م 1626 من مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد: " الصلح عن الحق المقر به على غير جنسه معاوضة، يصح بلفظ الصلح. فالصلح عن نقد بنقد صرف، وعن نقد بعرض أو عن عرض بنقد أو عن عرض بعرض بيع، أو عن عرض أو نقد بمنفعة إجارة، فيشترط لصحته ما يشترط لصحة هذه
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 262، المبدع 4 / 283، 284، والمغني 4 / 534، كشاف القناع 3 / 382، روضة الطالبين 4 / 195، نهاية المحتاج 4 / 373، المهذب 1 / 340، أسنى المطالب 2 / 215، حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 324، مواهب الجليل 5 / 81، 82، الخرشي 6 / 3، البهجة للتسولي 1 / 221، القوانين الفقهية ص 343، التفريع لابن الجلاب 2 / 289، وما بعدها، تحفة الفقهاء 3 / 424، مجمع الأنهر والدر المنتقى 2 / 315، الأم 3 / 227.(27/334)
الْبَيْعِ؛ إِذْ هُوَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ. (1)
وَالثَّالِثِ: أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِدَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ - مِنْ نَحْوِ بَدَل قَرْضٍ أَوْ قِيمَةِ مُتْلَفٍ - فَيُصَالِحَ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، بِأَنْ صَالَحَهُ عَنْ دِينَارٍ فِي ذِمَّتِهِ، بِإِرْدَبِّ قَمْحٍ، وَنَحْوِهِ فِي الذِّمَّةِ. وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الصُّلْحِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّفَرُّقُ فِيهِ مِنَ الْمَجْلِسِ قَبْل الْقَبْضِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا حَصَل التَّفَرُّقُ قَبْل الْقَبْضِ كَانَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْعِوَضَيْنِ دَيْنًا - لأَِنَّ مَحَلَّهُ الذِّمَّةُ - فَصَارَ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ بَدَل الصُّلْحِ فِي الْمَجْلِسِ لِيَخْرُجَ عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. وَفِي اشْتِرَاطِ قَبْضِهِ فِي الْمَجْلِسِ وَجْهَانِ:
__________
(1) تحفة الفقهاء 3 / 421، البدائع 6 / 43، روضة الطالبين 4 / 195، نهاية المحتاج 4 / 373، المهذب 1 / 340، أسنى المطالب 2 / 215، البهجة 1 / 221، المغني 4 / 534، كشاف القناع 3 / 382، شرح منتهى الإرادات 2 / 262.
(2) المغني 4 / 534، كشاف القناع 383، شرح منتهى الإرادات 2 / 262، المبدع 4 / 284، التاج والإكليل للمواق 5 / 81، بدائع الصنائع 6 / 46، تبيين الحقائق 5 / 42، وانظر م (1029) ، من مرشد الحيران.(27/335)
أَصَحُّهُمَا: عَدَمُ الاِشْتِرَاطِ إِلاَّ إِذَا كَانَا رِبَوِيَّيْنِ. (1)
وَالرَّابِعِ: أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ نَقْدٍ، بِأَنْ كَانَ عَلَى رَجُلٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَصَالَحَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَنْفَعَةٍ: كَسُكْنَى دَارٍ، أَوْ رُكُوبِ دَابَّةٍ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ عَلَى أَنْ يَعْمَل لَهُ عَمَلاً مَعْلُومًا. وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الصُّلْحِ حُكْمَ الإِْجَارَةِ، وَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهَا (2)
الْقِسْمُ الثَّانِي:
الصُّلْحُ مَعَ إِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
16 - وَذَلِكَ كَمَا إِذَا ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ شَيْئًا، فَأَنْكَرَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ صَالَحَ عَنْهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدِهِمَا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ -: وَهُوَ جَوَازُ الصُّلْحِ عَلَى الإِْنْكَارِ. (3) بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُعْتَقِدًا
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 195، نهاية المحتاج 4 / 373، المهذب 1 / 340، أسنى المطالب 2 / 215.
(2) تحفة الفقهاء 3 / 424، بدائع الصنائع 6 / 47، المهذب 1 / 340، المبدع 4 / 283، 284، كشاف القناع 3 / 382، شرح منتهى الإرادات 2 / 262.
(3) تحفة الفقهاء 3 / 418، مجمع الأنهر 2 / 308، البدائع 6 / 40، الإفصاح لابن هبيرة 1 / 378، كشاف القناع 3 / 385، شرح منتهى الإرادات 2 / 263، المغني 4 / 527، المبدع 4 / 285، بداية المجتهد (مطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث البداية) 8 / 90، إرشاد السالك لابن عسكر البغدادي المالكي ص 132، الإشراف للقاضي عبد الوهاب 2 / 17، عارضة الأحوذي 6 / 104، القوانين الفقهية (ط. الدار العربية للكتاب) ص 343، الهداية مع تكملة فتح القدير والعناية والكفاية الميمنية 7 / 377 وما بعدها، درر الحكام لعلي حيدر 4 / 35، شرح الخرشي 6 / 4، البحر الرائق 7 / 256، تبيين الحقائق 5 / 31، التفريع لابن الجلاب 2 / 289، أعلام الموقعين (مطبعة السعادة) 3 / 370.(27/335)
أَنَّ مَا ادَّعَاهُ حَقٌّ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَعْتَقِدُ أَنْ لاَ حَقَّ عَلَيْهِ. فَيَتَصَالَحَانِ قَطْعًا لِلْخُصُومَةِ وَالنِّزَاعِ. أَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَالِمًا بِكَذِبِ نَفْسِهِ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ فِي حَقِّهِ، وَمَا أَخَذَهُ الْعَالِمُ بِكَذِبِ نَفْسِهِ حَرَامٌ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ أَكْل الْمَال بِالْبَاطِل.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:
أ - بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} . (1) حَيْثُ وَصَفَ الْمَوْلَى عَزَّ وَجَل جِنْسَ الصُّلْحِ بِالْخَيْرِيَّةِ. مَعْلُومٌ أَنَّ الْبَاطِل لاَ يُوصَفُ بِالْخَيْرِيَّةِ، فَكَانَ كُل صُلْحٍ مَشْرُوعًا بِظَاهِرِ هَذَا النَّصِّ إِلاَّ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ.
(2) ب - بِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. (3) فَيَدْخُل ذَلِكَ فِي عُمُومِهِ.
(4)
__________
(1) النساء آية / 128.
(2) البدائع 6 / 40، وانظر تكملة فتح القدير مع العناية والكفاية (الميمنية) 7 / 377.
(3) حديث: " الصلح جائز بين المسلمين ". سبق تخريجه (ف5) .
(4) الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب 2 / 17، المبدع 4 / 285، شرح منتهى الإرادات 2 / 263.(27/336)
ج - وَبِأَنَّ الصُّلْحَ إِنَّمَا شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إِلَى قَطْعِ الْخُصُومَةِ وَالْمُنَازَعَةِ، وَالْحَاجَةِ إِلَى قَطْعِهَا فِي التَّحْقِيقِ عِنْدَ الإِْنْكَارِ - إِذِ الإِْقْرَارُ مُسَالَمَةٌ وَمُسَاعَدَةٌ - فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ. (1) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَكَذَلِكَ إِذَا حَل مَعَ اعْتِرَافِ الْغَرِيمِ، فَلأََنْ يَحِل مَعَ جَحْدِهِ وَعَجْزِهِ عَنِ الْوُصُول إِلَى حَقِّهِ إِلاَّ بِذَلِكَ أَوْلَى. (2)
د - وَلأَِنَّهُ صَالَحَ بَعْدَ دَعْوَى صَحِيحَةٍ، فَيُقْضَى بِجَوَازِهِ؛ لأَِنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ الثَّابِتِ لَهُ فِي اعْتِقَادِهِ، وَهَذَا مَشْرُوعٌ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُؤَدِّيهِ دَفْعًا لِلشَّرِّ وَقَطْعًا لِلْخُصُومَةِ عَنْهُ، وَهَذَا مَشْرُوعٌ أَيْضًا، إِذِ الْمَال وِقَايَةُ الأَْنْفُسِ، وَلَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ. (3)
هـ - وَلأَِنَّ افْتِدَاءَ الْيَمِينِ جَائِزٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُمَا بَذَلاَ مَالاً فِي دَفْعِ الْيَمِينِ عَنْهُمَا. فَالْيَمِينُ الثَّابِتَةُ لِلْمُدَّعِي حَقٌّ ثَابِتٌ لِسُقُوطِهِ تَأْثِيرٌ فِي إِسْقَاطِ الْمَال،
__________
(1) البدائع 6 / 40.
(2) المغني 4 / 528.
(3) الهداية مع العناية والكفاية (الميمنية) 7 / 379، قال ابن القيم: إنه افتداء لنفسه من الدعوى واليمين وتكليف إقامة البينة، كما تفتدي المرأة نفسها من الزوج بما تبذله له، وليس هذا بمخالف لقواعد الشرع، بل حكمة الشرع وأصوله وقواعده ومصالح المكلفين تقتضي ذلك (أعلام الموقعين3 / 370) .(27/336)
فَجَازَ أَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُ الْمَال عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ، أَصْلُهُ الْقَوَدُ فِي دَمِ الْعَمْدِ. (1)
وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: وَهُوَ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الإِْنْكَارِ بَاطِلٌ.
(2) وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:
أ - بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا لَوْ أَنْكَرَ الزَّوْجُ الْخُلْعَ، ثُمَّ تَصَالَحَ مَعَ زَوْجَتِهِ عَلَى شَيْءٍ، فَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ.
ب - وَبِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إِنْ كَانَ كَاذِبًا فَقَدِ اسْتَحَل مَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَقَدْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَالَهُ الْحَلاَل؛ لأَِنَّهُ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ مَا يَدَّعِيهِ، فَدَخَل فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلاَّ صُلْحًا أَحَل حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً. (3)
ج - وَبِأَنَّ الْمُدَّعِيَ اعْتَاضَ عَمَّا لاَ يَمْلِكُهُ، فَصَارَ كَمَنْ بَاعَ مَال غَيْرِهِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَاوَضَ عَلَى مِلْكِهِ، فَصَارَ كَمَنِ ابْتَاعَ مَال نَفْسِهِ مِنْ وَكِيلِهِ. فَالصُّلْحُ عَلَى الإِْنْكَارِ
__________
(1) الإشراف للقاضي عبد الوهاب 2 / 17، وانظر محاسن الإسلام للزاهد البخاري ص 87.
(2) الأم (بعناية محمد زهرى النجار) 3 / 221، المهذب 1 / 340، أسنى المطالب وحاشية الرملي عليه 2 / 215، 216، نهاية المحتاج 4 / 375، مختصر المزني ص 106، روضة الطالبين 4 / 198، المغني (ط. مكتبة الرياض الحديثة) 4 / 527، بدائع الصنائع 6 / 40، كفاية الأخيار 1 / 167.
(3) بداية المجتهد (مطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث البداية للغماري) 8 / 92، 94.(27/337)
يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَمْلِكَ الْمُدَّعِي مَا لاَ يَمْلِكُ، وَأَنْ يَمْلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا يَمْلِكُ، وَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْمُدَّعِي كَاذِبًا. فَإِنْ كَانَ صَادِقًا انْعَكَسَ الْحَال.
د - وَلأَِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ خَلاَ عَنِ الْعِوَضِ فِي أَحَدِ جَانِبَيْهِ؛ فَبَطَل كَالصُّلْحِ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ.
التَّكْيِيفُ الْفِقْهِيُّ لِلصُّلْحِ عَلَى الإِْنْكَارِ:
17 - قَال ابْنُ رُشْدٍ فِي (بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ) :
وَأَمَّا الصُّلْحُ عَلَى الإِْنْكَارِ، فَالْمَشْهُورُ فِيهِ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ مِنَ الصِّحَّةِ مَا يُرَاعَى فِي الْبُيُوعِ. ثُمَّ قَال: فَالصُّلْحُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ مَا لاَ يَجُوزُ فِي الْبُيُوعِ هُوَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: صُلْحٍ يُفْسَخُ بِاتِّفَاقٍ، وَصُلْحٍ يُفْسَخُ بِاخْتِلاَفٍ، وَصُلْحٍ لاَ يُفْسَخُ بِاتِّفَاقٍ إِنْ طَال، وَإِنْ لَمْ يَطُل فَفِيهِ اخْتِلاَفٌ. (1)
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ تَكْيِيفِهِ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي وَبَيْنَهُ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَقَالُوا:
يَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى مَال الْمُصَالَحِ بِهِ مُعَاوَضَةً فِي حَقِّ الْمُدَّعِي؛ لأَِنَّهُ يَعْتَقِدُهُ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ؛ فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ اعْتِقَادِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ مَا أَخَذَهُ الْمُدَّعِي عِوَضًا عَنْ
__________
(1) بداية المجتهد (مطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث البداية للغماري) 8 / 92 - 94.(27/337)
دَعْوَاهُ شِقْصًا مَشْفُوعًا، فَإِنَّهَا تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ لِشَرِيكِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ أَخَذَهُ عِوَضًا، كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ. (1)
وَيَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى الإِْنْكَارِ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَلاَصًا مِنَ الْيَمِينِ وَقَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ؛ لأَِنَّ الْمُدَّعِيَ فِي زَعْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُنْكِرِ غَيْرُ مُحِقٍّ وَمُبْطِلٌ فِي دَعْوَاهُ، وَأَنَّ إِعْطَاءَهُ الْعِوَضَ لَهُ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ بَل لِلْخَلاَصِ مِنَ الْيَمِينِ، إِذْ لَوْ لَمْ يُصَالِحْهُ وَيُعْطِ الْعِوَضَ لَبَقِيَ النِّزَاعُ وَلَزِمَهُ الْيَمِينُ. وَقَدْ عَبَّرَ الْحَنَابِلَةُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِمْ: يَكُونُ صُلْحُ الإِْنْكَارِ إِبْرَاءً فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ؛ لأَِنَّهُ دَفَعَ إِلَيْهِ الْمَال افْتِدَاءً لِيَمِينِهِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ لاَ عِوَضًا عَنْ حَقٍّ يَعْتَقِدُهُ عَلَيْهِ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: لَوْ كَانَ مَا صَالَحَ بِهِ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 264، كشاف القناع 3 / 385، والمبدع 4 / 286، المغني 4 / 529، 530، مجمع الأنهر والدر المنتقى 2 / 308، 309، والبحر الرائق 7 / 256، تبيين الحقائق 5 / 31 - 33 درر الحكام لعلي حيدر 4 / 25 وما بعدها. * وقد جاء م (1550) من مجلة الأحكام العدلية: الصلح على الإنكار أو السكوت هو في حق المدعي معاوضة، وفي حق المدعى عليه خلاص من اليمين وقطع للمنازعة، فتجري الشفعة في العقار المصالح عنه، ولو استحق كل المصالح عنه أو بعضه يرد المدعي للمدعى عليه هذا المقدار م وانظر م 1037، من مرشد الحيران.(27/338)
الْمُنْكِرُ شِقْصًا لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ؛ لأَِنَّ الْمُدَّعِيَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَخَذَ مَالَهُ أَوْ بَعْضَهُ مُسْتَرْجِعًا لَهُ مِمَّنْ هُوَ عِنْدَهُ، فَلَمْ يَكُنْ مُعَاوَضَةً، بَل هُوَ كَاسْتِرْجَاعِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ. (1)
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
الصُّلْحُ مَعَ سُكُوتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
18 - وَذَلِكَ كَمَا إِذَا ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ شَيْئًا، فَسَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، ثُمَّ صَالَحَ عَنْهُ.
وَقَدِ اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ - مَا عَدَا ابْنَ أَبِي لَيْلَى - هَذَا الصُّلْحَ فِي حُكْمِ الصُّلْحِ عَنِ الإِْنْكَارِ؛ لأَِنَّ السَّاكِتَ مُنْكِرٌ حُكْمًا. صَحِيحٌ أَنَّ السُّكُوتَ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَل عَلَى الإِْقْرَارِ، وَعَلَى الإِْنْكَارِ، إِلاَّ أَنَّهُ نَظَرًا لِكَوْنِ الأَْصْل بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ وَفَرَاغَهَا، فَقَدْ تَرَجَّحَتْ جِهَةُ الإِْنْكَارِ. وَمِنْ هُنَا كَانَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي جَوَازِهِ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي جَوَازِ الصُّلْحِ عَنِ الإِْنْكَارِ.
وَعَلَى هَذَا، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي الصُّلْحِ عَنِ السُّكُوتِ قَوْلاَنِ: (2)
__________
(1) انظر المراجع السابقة.
(2) مجمع الأنهر والدر المنتقى 2 / 308، 309، تكملة فتح القدير مع العناية والكفاية 7 / 379 وما بعدها، تحفة الفقهاء 3 / 418، والبدائع 6 / 40، أسنى المطالب 2 / 215، نهاية المحتاج 4 / 375، المبدع 4 / 285، والإفصاح لابن هبيرة 1 / 378، كفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي عليه 2 / 324، شرح منتهى الإرادات 2 / 263، كشاف القناع 3 / 385، والخرشي 6 / 4، شرح المجلة للأتاسي 4 / 555 وما بعدها، درر الحكام لعلي حيدر 4 / 35، وانظر م (1535، 1550) من مجلة الأحكام العدلية وم (1037) من مرشد الحيران. .(27/338)
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ:
وَهُوَ جَوَازُ الصُّلْحِ عَلَى السُّكُوتِ، وَحُجَّتُهُمْ نَفْسُ الأَْدِلَّةِ الَّتِي سَاقُوهَا عَلَى جَوَازِهِ عَنِ الإِْنْكَارِ. وَقَدِ اشْتَرَطُوا فِيهِ نَفْسَ الشُّرُوطِ وَرَتَّبُوا ذَاتَ الأَْحْكَامِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا فِي حَالَةِ الإِْنْكَارِ.
هَذَا وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى جَوَازِهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - مَعَ إِبْطَالِهِ الصُّلْحَ عَنِ الإِْنْكَارِ - حَيْثُ اعْتَبَرَهُ فِي حُكْمِ الصُّلْحِ عَلَى الإِْقْرَارِ. (1)
وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى السُّكُوتِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَذَلِكَ لأَِنَّ جَوَازَ الصُّلْحِ يَسْتَدْعِي حَقًّا ثَابِتًا، وَلَمْ يُوجَدْ فِي مَوْضِعِ السُّكُوتِ؛ إِذِ السَّاكِتُ يُعَدُّ مُنْكِرًا حُكْمًا حَتَّى تُسْمَعَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، فَكَانَ إِنْكَارُهُ مُعَارِضًا لِدَعْوَى الْمُدَّعِي. وَلَوْ بَذَل الْمَال لَبَذَلَهُ لِدَفْعِ خُصُومَةٍ بَاطِلَةٍ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ. (2)
الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالأَْجْنَبِيِّ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ
__________
(1) الدر المنتقى شرح الملتقى 2 / 308، وبدائع الصنائع 6 / 40.
(2) نهاية المحتاج 4 / 375، وأسنى المطالب 2 / 215.(27/339)
بِالصُّلْحِ الْكَائِنِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالأَْجْنَبِيِّ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أَوَّلاً: مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
19 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالأَْجْنَبِيِّ، فَلاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
أ - فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الصُّلْحُ، وَيَكُونُ الأَْجْنَبِيُّ وَكِيلاً عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الصُّلْحِ، وَيَجِبُ الْمَال الْمُصَالَحُ بِهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْوَكِيل، سَوَاءٌ أَكَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ أَمْ إِنْكَارٍ؛ لأَِنَّ الْوَكِيل فِي الصُّلْحِ لاَ تَرْجِعُ إِلَيْهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ. وَهَذَا إِذَا لَمْ يَضْمَنِ الأَْجْنَبِيُّ بَدَل الصُّلْحِ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِذَا ضَمِنَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ لاَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ. (1)
ب - وَأَمَّا إِذَا كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَهَذَا صُلْحُ الْفُضُولِيِّ، وَلَهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُضِيفَ الْفُضُولِيُّ الصُّلْحَ إِلَى نَفْسِهِ، كَأَنْ يَقُول لِلْمُدَّعِي: صَالِحْنِي عَنْ دَعْوَاكَ مَعَ فُلاَنٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَيُصَالِحَهُ ذَلِكَ الشَّخْصُ. فَهَذَا الصُّلْحُ صَحِيحٌ، وَيَلْزَمُ بَدَل الصُّلْحِ الْفُضُولِيُّ، وَلَوْ لَمْ يَضْمَنْ أَوْ يُضِفِ الصُّلْحَ إِلَى مَالِهِ أَوْ ذِمَّتِهِ؛ لأَِنَّ إِضَافَةَ الْفُضُولِيِّ الصُّلْحَ إِلَى نَفْسِهِ تَنْفُذُ فِي
__________
(1) تحفة الفقهاء 3 / 432، البحر الرائق 7 / 259.(27/339)
حَقِّهِ، وَيَكُونُ قَدِ الْتَزَمَ بَدَل الصُّلْحِ مُقَابِل إِسْقَاطِ الْيَمِينِ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْفُضُولِيِّ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِبَدَل الصُّلْحِ الَّذِي أَدَّاهُ، طَالَمَا أَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. قَال السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي (التُّحْفَةِ) : وَإِنَّمَا كَانَ هَكَذَا، لأَِنَّ التَّبَرُّعَ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ، بِأَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ صَحِيحٌ، وَالتَّبَرُّعُ بِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ عَنْ غَيْرِهِ صَحِيحٌ، وَالصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ إِسْقَاطٌ لِلدَّيْنِ، وَالصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ إِسْقَاطٌ لِلْخُصُومَةِ، فَيَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ. (1)
وَالثَّانِي: أَنْ يُضِيفَ الْفُضُولِيُّ الصُّلْحَ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بِأَنْ يَقُول لِلْمُدَّعِي: تَصَالَحْ مَعَ فُلاَنٍ عَنْ دَعْوَاكَ. وَلِهَذَا الْوَجْهِ خَمْسُ صُوَرٍ: فِي أَرْبَعٍ مِنْهَا يَكُونُ الصُّلْحُ لاَزِمًا، وَفِي الْخَامِسَةِ مِنْهَا يَكُونُ مَوْقُوفًا.
وَوَجْهُ الْحَصْرِ فِي هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ الْفُضُولِيَّ إِمَّا أَنْ يَضْمَنَ بَدَل الصُّلْحِ أَوْ لاَ يَضْمَنَ، وَإِذَا لَمْ يَضْمَنْ، فَإِمَّا أَنْ يُضِيفَ الصُّلْحَ إِلَى مَالِهِ أَوْ لاَ يُضِيفَهُ. وَإِذَا لَمْ يُضِفْهُ، فَإِمَّا أَنْ يُشِيرَ إِلَى نَقْدٍ أَوْ عَرَضٍ أَوْ لاَ يُشِيرَ. وَإِذَا لَمْ يُشِرْ، فَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ الْعِوَضَ أَوْ لاَ يُسَلِّمَ. فَالصُّوَرُ خَمْسٌ هِيَ:
الصُّورَةُ الأُْولَى: أَنْ يَضْمَنَ الْفُضُولِيُّ
__________
(1) تحفة الفقهاء 3 / 433.(27/340)
بَدَل الصُّلْحِ، كَمَا إِذَا قَال الْفُضُولِيُّ لِلْمُدَّعِي: صَالِحْ فُلاَنًا عَنْ دَعْوَاكَ مَعَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنَا ضَامِنٌ لَكَ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ وَقَبِل الْمُدَّعِي تَمَّ الصُّلْحُ وَصَحَّ؛ لأَِنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَحْصُل لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ سِوَى الْبَرَاءَةِ، فَكَمَا أَنَّ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْصُل عَلَى بَرَاءَتِهِ بِنَفْسِهِ، فَلِلأَْجْنَبِيِّ - أَيْضًا - أَنْ يَحْصُل عَلَى بَرَاءَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمِ الْفُضُولِيَّ بَدَل الصُّلْحِ بِسَبَبِ عَقْدِهِ الصُّلْحَ - مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ سَفِيرًا - إِلاَّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ بِسَبَبِ ضَمَانِهِ.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لاَ يَضْمَنَ الْفُضُولِيُّ بَدَل الصُّلْحِ إِلاَّ أَنَّهُ يُضِيفُهُ إِلَى مَالِهِ، كَأَنْ يَقُول الْفُضُولِيُّ: قَدْ صَالَحْتُ عَلَى مَالِي الْفُلاَنِيِّ، أَوْ عَلَى فَرَسِي هَذِهِ، أَوْ عَلَى دَرَاهِمِي هَذِهِ الأَْلْفِ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لأَِنَّ الْمُصَالِحَ الْفُضُولِيَّ بِإِضَافَةِ الصُّلْحِ إِلَى مَالِهِ يَكُونُ قَدِ الْتَزَمَ تَسْلِيمَهُ، وَلَمَّا كَانَ مُقْتَدِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَل صَحَّ الصُّلْحُ وَلَزِمَ الْفُضُولِيَّ تَسْلِيمُ الْبَدَل.
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُشِيرَ إِلَى الْعُرُوضِ أَوِ النُّقُودِ الْمَوْجُودَةِ بِقَوْلِهِ: عَلَيَّ هَذَا الْمَبْلَغُ، أَوْ هَذِهِ السَّاعَةُ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لأَِنَّ بَدَل الصُّلْحِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَدْ تَعَيَّنَ تَسْلِيمُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِهِ وَبِذَلِكَ تَمَّ الصُّلْحُ.(27/340)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ: هُوَ أَنَّ الْفُضُولِيَّ فِي الثَّانِيَةِ قَدْ أَضَافَ الصُّلْحَ إِلَى مَالِهِ الَّذِي نَسَبَهُ إِلَى نَفْسِهِ، أَمَّا فِي الثَّالِثَةِ فَبَدَل الصُّلْحِ مَعَ كَوْنِهِ مَالَهُ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ.
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا أَطْلَقَ بِقَوْلِهِ: صَالَحْتُ عَلَى كَذَا، وَلَمْ يَكُنْ ضَامِنًا وَلاَ مُضِيفًا إِلَى مَالِهِ وَلاَ مُشِيرًا إِلَى شَيْءٍ، وَسَلَّمَ الْمَبْلَغَ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لأَِنَّ تَسْلِيمَ بَدَل الصُّلْحِ يُوجِبُ بَقَاءَ الْبَدَل الْمَذْكُورِ سَالِمًا لِلْمُدَّعِي، وَيَسْتَلْزِمُ حُصُول الْمَقْصُودِ بِتَمَامِ الْعَقْدِ، فَصَارَ فَوْقَ الضَّمَانِ وَالإِْضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ: إِذَا حَصَل لِلْمُدَّعِي عِوَضٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَتَمَّ رِضَاؤُهُ بِهِ بَرِئَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلاَ شَيْءَ لِلْفُضُولِيِّ الْمُصَالِحِ مِنَ الْمُصَالَحِ عَنْهُ.
وَيُسْتَفَادُ مِنْ حَصْرِ لُزُومِ التَّسْلِيمِ فِي الصُّورَةِ الرَّابِعَةِ أَنَّ تَسْلِيمَ بَدَل الصُّلْحِ فِي الصُّورَتَيْنِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصُّلْحِ، فَيَصِحُّ فِيهِمَا وَلَوْ لَمْ يَحْصُل التَّسْلِيمُ، وَيُجْبَرُ الْفُضُولِيُّ عَلَى التَّسْلِيمِ.
هَذَا وَحَيْثُ صَحَّ الصُّلْحُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الأَْرْبَعِ، فَإِنَّ الْفُضُولِيَّ الْمُصَالِحَ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِالْبَدَل؛ لأَِنَّهُ أَجْرَى هَذَا الْعَقْدَ بِلاَ أَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.(27/341)
الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يُطْلِقَ الْفُضُولِيُّ بِقَوْلِهِ لِلْمُدَّعِي: أُصَالِحُكَ عَنْ دَعْوَاكَ هَذِهِ مَعَ فُلاَنٍ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلاَ يَكُونُ ضَامِنًا، وَلاَ مُضِيفًا إِلَى مَالِهِ وَلاَ مُشِيرًا إِلَى شَيْءٍ، ثُمَّ لاَ يُسَلِّمُ بَدَل الصُّلْحِ، فَصُلْحُهُ هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمُصَالِحَ هَاهُنَا - وَهُوَ الْفُضُولِيُّ - لاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَتِهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنْ أَجَازَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صُلْحَهُ صَحَّ؛ لأَِنَّ إِجَازَتَهُ اللاَّحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ التَّوْكِيل، وَيَلْزَمُ بَدَل الصُّلْحِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْمُصَالِحِ؛ لأَِنَّهُ الْتَزَمَ هَذَا الْبَدَل بِاخْتِيَارِهِ، وَيَخْرُجُ الأَْجْنَبِيُّ الْفُضُولِيُّ مِنْ بَيْنَهُمَا، وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَإِنْ لَمْ يُجِزِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الصُّلْحَ فَإِنَّهُ يَبْطُل؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجِبُ الْمَال عَلَيْهِ وَالْمُدَّعَى بِهِ لاَ يَسْقُطُ.
وَلاَ فَرْقَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُقِرًّا أَوْ مُنْكِرًا، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَدَل الصُّلْحِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا؛ لأَِنَّ الْمُصَالِحَ الْفُضُولِيَّ لَمْ يُضِفْ بَدَل الصُّلْحِ لِنَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ فَلاَ يَلْزَمُهُ الْبَدَل الْمَذْكُورُ (1)
__________
(1) انظر تحفة الفقهاء 3 / 434، البحر الرائق 7 / 259 مجمع الأنهر 2 / 314، تبيين الحقائق 5 / 40، رد المحتار (بولاق 1272 هـ) 4 / 477، الفتاوى الخانية 3 / 83، وما بعدها، وانظر م (1544) من مجلة الأحكام العدلية، ودرر الحكام لعلي حيدر 4 / 19 - 22، شرح المجلة للأتاسي 4 / 543، بدائع الصنائع 6 / 52، الفتاوى البزازية 6 / 30.(27/341)
ثَانِيًا: مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
20 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يُصَالِحَ عَنْ غَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَكَالَةٍ، وَذَلِكَ مِثْل أَنْ يُصَالِحَ رَجُلٌ عَلَى دَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ، وَيَلْزَمُ الْمُصَالِحَ مَا صَالَحَ بِهِ. جَاءَ فِي (الْمُدَوَّنَةِ) فِي بَابِ الصُّلْحِ: وَمَنْ قَال لِرَجُلٍ: هَلُمَّ أُصَالِحُكَ مِنْ دَيْنِكَ الَّذِي عَلَى فُلاَنٍ بِكَذَا، فَفَعَل، أَوْ أَتَى رَجُلٌ رَجُلاً فَصَالَحَهُ عَنِ امْرَأَتِهِ بِشَيْءٍ مُسَمًّى لَزِمَ الزَّوْجَ الصُّلْحُ، وَلَزِمَ الْمُصَالِحَ مَا صَالَحَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُل: أَنَا ضَامِنٌ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا قَضَى عَنِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مِمَّا يَحِقُّ عَلَيْهِ. (1)
ثَالِثًا: مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ:
21 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلصُّلْحِ الْجَارِي بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالأَْجْنَبِيِّ حَالَتَيْنِ:
(2) الأُْولَى: مَعَ إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
وَفِي هَذِهِ الْحَال فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا أَوْ دَيْنًا.
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب 5 / 81، المدونة 4 / 380.
(2) نهاية المحتاج 4 / 377، 378، أسنى المطالب 2 / 217، روضة الطالبين 4 / 199، 200، المهذب 1 / 340.(27/342)
أ - فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا، وَقَال الأَْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: إِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَكَّلَنِي فِي مُصَالَحَتِكَ لَهُ عَنْ بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، أَوْ عَنْ كُلِّهَا بِعَيْنٍ مِنْ مَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ بِعَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَتَصَالَحَا عَلَيْهِ، صَحَّ الصُّلْحُ؛ لأَِنَّ دَعْوَى الإِْنْسَانِ الْوَكَالَةَ فِي الْمُعَامَلاَتِ مَقْبُولَةٌ. ثُمَّ يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ الأَْجْنَبِيُّ صَادِقًا فِي الْوَكَالَةِ، صَارَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ مِلْكًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَإِلاَّ كَانَ فُضُولِيًّا وَلَمْ يَصِحَّ صُلْحُهُ، لِعَدَمِ الإِْذْنِ فِيهِ، كَشِرَاءِ الْفُضُولِيِّ.
وَلَوْ صَالَحَهُ الْوَكِيل عَلَى عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْوَكِيل، أَوْ عَلَى دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ صَحَّ الْعَقْدُ، وَيَكُونُ كَشِرَائِهِ لِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ بِمَال نَفْسِهِ، وَيَقَعُ لِلآْذِنِ، فَيَرْجِعُ الْمَأْذُونُ عَلَيْهِ بِالْمِثْل إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَبِالْقِيمَةِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا؛ لأَِنَّ الْمَدْفُوعَ قَرْضٌ لاَ هِبَةٌ.
أَمَّا لَوْ صَالَحَ عَنِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ لِنَفْسِهِ بِعَيْنٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ لِلأَْجْنَبِيِّ، وَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِلَفْظِ الشِّرَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَجْرِ مَعَ الأَْجْنَبِيِّ خُصُومُهُ؛ لأَِنَّ الصُّلْحَ تَرَتَّبَ عَلَى دَعْوَى وَجَوَابٍ.
ب - وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا، فَيُنْظَرُ: فَإِنْ صَالَحَهُ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَال الأَْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: صَالِحْنِي عَلَى الأَْلْفِ(27/342)
الَّذِي لَكَ عَلَى فُلاَنٍ بِخَمْسِمِائَةٍ صَحَّ الصُّلْحُ؛ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ وَكَّلَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَقَدْ قَضَى دَيْنَهُ بِإِذْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوَكِّلْهُ فَقَدْ قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ. وَمِثْل ذَلِكَ مَا لَوْ قَال لَهُ الأَْجْنَبِيُّ: وَكَّلَنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُصَالَحَتِكَ عَلَى نِصْفِهِ، أَوْ عَلَى ثَوْبِهِ هَذَا، فَصَالَحَهُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَقَال: صَالِحْنِي عَنْ هَذَا الدَّيْنِ لِيَكُونَ لِي فِي ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ - بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ.
أَحَدُهُمَا: لاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِ مَا فِي ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: يَصِحُّ كَمَا لَوِ اشْتَرَى وَدِيعَةً فِي يَدِ غَيْرِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: مَعَ إِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
وَفِي هَذِهِ الْحَال - أَيْضًا - فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا أَوْ دَيْنًا.
أ - فَإِنْ كَانَ عَيْنًا، وَصَالَحَهُ الأَْجْنَبِيُّ عَنِ الْمُنْكِرِ ظَاهِرًا بِقَوْلِهِ: أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدِي وَوَكَّلَنِي فِي مُصَالَحَتِكَ لَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُظْهِرُ إِقْرَارَهُ لِئَلاَّ تَنْتَزِعَهُ مِنْهُ، فَصَالَحَهُ صَحَّ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ دَعْوَى الإِْنْسَانِ الْوَكَالَةَ فِي الْمُعَامَلاَتِ مَقْبُولَةٌ. (1) قَال الشِّيرَازِيُّ: لأَِنَّ الاِعْتِبَارَ
__________
(1) ومحله - كما قال الإمام الغزالي - إذا لم يعد المدعى عليه الإنكار بعد دعوى الوكالة، فلو أعاده كان عزلا، فلا يصح الصلح عنه. (أسنى المطالب 2 / 217 ونهاية المحتاج 4 / 377) .(27/343)
بِالْمُتَعَاقِدِينَ، وَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى مَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ فَجَازَ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ مَلَكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْعَيْنَ؛ لأَِنَّهُ ابْتَاعَهُ لَهُ وَكِيلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ لَمْ يَمْلِكِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْعَيْنَ؛ لأَِنَّهُ ابْتَاعَ لَهُ عَيْنًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ. (1)
وَلَوْ قَال الأَْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: هُوَ مُنْكِرٌ، غَيْرَ أَنَّهُ مُبْطِلٌ، فَصَالِحْنِي لَهُ عَلَى دَارِي هَذِهِ لِتَنْقَطِعَ الْخُصُومَةُ بَيْنَكُمَا فَلاَ يَصِحُّ عَلَى الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّهُ صُلْحُ إِنْكَارٍ. (2)
وَإِنْ صَالَحَ لِنَفْسِهِ فَقَال: هُوَ مُبْطِلٌ فِي إِنْكَارِهِ؛ لأَِنَّكَ صَادِقٌ عِنْدِي، فَصَالِحْنِي لِنَفْسِي بِدَارِي هَذِهِ أَوْ بِعَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِي فَهُوَ كَشِرَاءِ الْمَغْصُوبِ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى انْتِزَاعِهِ فَيَصِحُّ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ انْتِزَاعِهِ فَلاَ يَصِحُّ.
(3) ب - وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا: وَقَال الأَْجْنَبِيُّ: أَنْكَرَ الْخَصْمُ وَهُوَ مُبْطِلٌ، فَصَالِحْنِي لَهُ بِدَابَّتِي هَذِهِ لِتَنْقَطِعَ الْخُصُومَةُ بَيْنَكُمَا، فَقَبِل صَحَّ الصُّلْحُ، إِذْ لاَ يَتَعَذَّرُ قَضَاءُ دَيْنِ الْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ، بِخِلاَفِ تَمْلِيكِ
__________
(1) المهذب 1 / 340.
(2) والوجه الثاني: يصح؛ لأن الاعتبار في شروط العقد بمن يباشر، وهما متفقان. (روضة الطالبين 4 / 201) .
(3) نهاية المحتاج 4 / 378.(27/343)
الْغَيْرِ عَيْنَ مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ.
وَإِنْ صَالَحَهُ عَنِ الدَّيْنِ لِنَفْسِهِ فَقَال: هُوَ مُنْكِرٌ، وَلَكِنَّهُ مُبْطِلٌ، فَصَالِحْنِي لِنَفْسِي بِدَابَّتِي هَذِهِ أَوْ بِعَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِي لآِخُذَهُ مِنْهُ فَلاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ ابْتِيَاعُ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ. (1)
رَابِعًا: مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ:
22 - تَكَلَّمَ الْحَنَابِلَةُ عَنْ صُلْحِ الأَْجْنَبِيِّ مَعَ الْمُدَّعِي فِي حَالَةِ الإِْنْكَارِ فَقَطْ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِصُلْحِهِ فِي حَالَةِ الإِْقْرَارِ، وَقَالُوا:
أ - إِنَّ صُلْحَ الأَْجْنَبِيِّ عَنِ الْمُنْكِرِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ:
فَإِنْ صَالَحَ عَنْ مُنْكِرٍ لِعَيْنٍ بِإِذْنِهِ، أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ صَحَّ الصُّلْحُ، سَوَاءٌ اعْتَرَفَ الأَْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ عَلَى الْمُنْكِرِ، أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ بِصِحَّتِهَا، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرِ الأَْجْنَبِيُّ أَنَّ الْمُنْكِرَ وَكَّلَهُ فِي الصُّلْحِ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ افْتِدَاءٌ لِلْمُنْكِرِ مِنَ الْخُصُومَةِ وَإِبْرَاءٌ لَهُ مِنَ الدَّعْوَى، وَلاَ يَرْجِعُ الأَْجْنَبِيُّ بِشَيْءٍ مِمَّا صَالَحَ بِهِ عَلَى الْمُنْكِرِ إِنْ دَفَعَ بِدُونِ إِذْنِهِ؛ لأَِنَّهُ أَدَّى عَنْهُ مَا لاَ يَلْزَمُهُ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا، كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ. أَمَّا إِذَا صَالَحَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ فَهُوَ وَكِيلُهُ، وَالتَّوْكِيل فِي ذَلِكَ جَائِزٌ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا دَفَعَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ إِنْ نَوَى الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِمَا دَفَعَ عَنْهُ.
__________
(1) الروضة 4 / 201، أسنى المطالب 2 / 217.(27/344)
وَإِنْ صَالَحَ عَنْ مُنْكِرٍ لِدَيْنٍ بِإِذْنِهِ أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ، صَحَّ الصُّلْحُ، سَوَاءٌ اعْتَرَفَ الأَْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ؛ لأَِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَنْ غَيْرِهِ جَائِزٌ بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنَّ عَلِيًّا وَأَبَا قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَضَيَا الدَّيْنَ عَنِ الْمَيِّتِ، وَأَقَرَّهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ، وَلَوْ لَمْ يَقُل الأَْجْنَبِيُّ إِنَّ الْمُنْكِرَ وَكَّلَهُ فِي الصُّلْحِ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ افْتِدَاءٌ لِلْمُنْكِرِ مِنَ الْخُصُومَةِ، وَإِبْرَاءٌ لَهُ مِنَ الدَّعْوَى، وَلاَ يَرْجِعُ الأَْجْنَبِيُّ عَلَى الْمُنْكِرِ بِشَيْءٍ مِمَّا صَالَحَ بِهِ إِنْ دَفَعَ بِدُونِ إِذْنِهِ؛ لأَِنَّهُ أَدَّى عَنْهُ مَا لاَ يَلْزَمُهُ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا، كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ. فَإِنْ أَذِنَ الْمُنْكِرُ لِلأَْجْنَبِيِّ فِي الصُّلْحِ، أَوِ الأَْدَاءِ عَنْهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا ادَّعَى عَنْهُ إِنْ نَوَى الرُّجُوعَ بِمَا دَفَعَ عَنْهُ.
(2) ب - وَإِنْ صَالَحَ الأَْجْنَبِيُّ الْمُدَّعِيَ لِنَفْسِهِ، لِتَكُونَ الْمُطَالَبَةُ لَهُ فَلاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ لِلْمُدَّعِي بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ، أَوْ لاَ يَعْتَرِفَ لَهُ:
__________
(1) حديث: " أن عليا وأبا قتادة قضيا الدين عن الميت ". - الذي ورد عن أبي قتادة - أخرجه البخاري من حديث سلمة بن الأكوع (الفتح 4 / 467 - ط. دار المحاسن) .
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 264، كشاف القناع 3 / 386، المغني لابن قدامة (ط. مكتبة الرياض الحديثة) 4 / 531، المبدع 4 / 287.(27/344)
فَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلاً؛ لأَِنَّهُ اشْتَرَى مِنَ الْمُدَّعِي مَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ، وَلَمْ تَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ خُصُومَةٌ يَفْتَدِي مِنْهَا، أَشْبَهَ مَا لَوِ اشْتَرَى مِنْهُ مِلْكَ غَيْرِهِ.
وَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ وَصَالَحَ الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى بِهِ دَيْنٌ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ اشْتَرَى مَا لاَ يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِهِ؛ وَلأَِنَّهُ بَيْعٌ لِلدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ. وَإِذَا كَانَ بَيْعُ الدَّيْنِ الْمُقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ لاَ يَصِحُّ؛ فَبَيْعُ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ مُنْكِرٍ مَعْجُوزٍ عَنْ قَبْضِهِ مِنْهُ أَوْلَى.
وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ عَيْنًا، وَعَلِمَ الأَْجْنَبِيُّ عَجْزَهُ عَنِ اسْتِنْقَاذِهَا مِنْ مُدَّعًى عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ؛ لأَِنَّهُ اشْتَرَى مَا لاَ يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَشِرَاءِ الشَّارِدِ. وَإِنْ ظَنَّ الأَْجْنَبِيُّ الْقُدْرَةَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهَا صَحَّ؛ لأَِنَّهُ اشْتَرَى مِنْ مَالِكٍ مِلْكَهُ الْقَادِرَ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُ فِي اعْتِقَادِهِ، أَوْ ظَنَّ عَدَمَ الْمَقْدِرَةِ ثُمَّ تَبَيَّنَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى اسْتِنْقَاذِهَا صَحَّ الصُّلْحُ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ تَنَاوَل مَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ فَلَمْ يُؤَثِّرْ ظَنُّ عَدَمِهِ.
ثُمَّ إِنْ عَجَزَ الأَْجْنَبِيُّ بَعْدَ الصُّلْحِ ظَانًّا الْقُدْرَةَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهَا خُيِّرَ الأَْجْنَبِيُّ بَيْنَ فَسْخِ الصُّلْحِ - وَلأَِنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ؛ فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَى بَدَلِهِ - وَبَيْنَ إِمْضَاءِ الصُّلْحِ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ. وَإِنْ قَدَرَ عَلَى(27/345)
انْتِزَاعِهِ اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ. (1)
ج - وَإِنْ قَال الأَْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: أَنَا وَكِيل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مُصَالَحَتِكَ عَنِ الْعَيْنِ، وَهُوَ مُقِرٌّ لَكَ بِهَا فِي الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا يَجْحَدُكَ فِي الظَّاهِرِ فَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ: لاَ يَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لأَِنَّهُ يَجْحَدُهَا فِي الظَّاهِرِ لِيَنْتَقِصَ الْمُدَّعِي بَعْضَ حَقِّهِ، أَوْ يَشْتَرِيَهُ بِأَقَل مِنْ ثَمَنِهِ؛ فَهُوَ هَاضِمٌ لِلْحَقِّ يَتَوَصَّل إِلَى أَخْذِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ بِالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَافَهَهُ بِذَلِكَ فَقَال: أَنَا أَعْلَمُ صِحَّةَ دَعْوَاكَ، وَأَنَّ هَذَا لَكَ، وَلَكِنْ لاَ أُسَلِّمُهُ إِلَيْكَ وَلاَ أُقِرُّ لَكَ بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ حَتَّى تُصَالِحَنِي مِنْهُ عَلَى بَعْضِهِ أَوْ عِوَضٍ عَنْهُ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَقَال الْقَاضِي: يَصِحُّ. ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ مَلَكَ الْعَيْنَ، وَلَزِمَهُ مَا أَدَّى عَنْهُ وَرَجَعَ الأَْجْنَبِيُّ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ إِنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي الدَّفْعِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الإِْذْنَ فِي الدَّفْعِ فَالْقَوْل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ كَمَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ دَيْنًا بِلاَ إِذْنِهِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَكَالَةَ فَالْقَوْل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَلاَ رُجُوعَ لِلأَْجْنَبِيِّ عَلَيْهِ وَلاَ يَحْكُمُ لَهُ بِمِلْكِهَا؛ ثُمَّ إِنْ كَانَ الأَْجْنَبِيُّ قَدْ وَكَّل فِي الشِّرَاءِ، فَقَدْ مَلَكَهَا
__________
(1) المبدع 4 / 287، وما بعدها، كشاف القناع 3 / 386، شرح منتهى الإرادات 2 / 265، المغني 4 / 532.(27/345)
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَاطِنًا؛ لأَِنَّهُ اشْتَرَاهَا بِإِذْنِهِ فَلاَ يَقْدَحُ إِنْكَارُهُ فِي مِلْكِهَا؛ لأَِنَّ مِلْكَهُ ثَبَتَ قَبْل إِنْكَارِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ ظَالِمٌ بِالإِْنْكَارِ لِلأَْجْنَبِيِّ، وَإِنْ لَمْ يُوَكِّلْهُ لَمْ يَمْلِكْهَا؛ لأَِنَّهُ اشْتَرَى لَهُ عَيْنًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
وَلَوْ قَال الأَْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: قَدْ عَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صِحَّةَ دَعْوَاكَ، وَيَسْأَلُكَ الصُّلْحَ عَنْهُ، وَكَّلَنِي فِيهِ فَصَالَحَهُ صَحَّ؛ لأَِنَّهُ هَاهُنَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ أَدَائِهِ، بَل اعْتَرَفَ بِهِ وَصَالَحَهُ عَلَيْهِ مَعَ بَذْلِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَجْحَدْهُ. (1)
أَرْكَانُ الصُّلْحِ:
23 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلصُّلْحِ رُكْنًا وَاحِدًا: وَهُوَ الصِّيغَةُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول الدَّالَّةُ عَلَى التَّرَاضِي. وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - حَيْثُ عَدُّوا أَرْكَانَ الصُّلْحِ ثَلاَثَةً:
1 - الصِّيغَةُ.
2 - وَالْعَاقِدَانِ.
3 - وَالْمَحَل. (وَهُوَ الْمُصَالَحُ بِهِ وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ) . انْظُرْ مُصْطَلَحَ (عَقْد) .
شُرُوطُ الصُّلْحِ:
24 - لِلصُّلْحِ شُرُوطٌ يَلْزَمُ تَحَقُّقُهَا لِوُجُودِهِ،
__________
(1) المغني 4 / 532، وما بعدها، المبدع 4 / 288، شرح منتهى الإرادات 2 / 265، كشاف القناع 3 / 387.(27/346)
وَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ مَاهِيَّتِهِ، مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الصِّيغَةِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْعَاقِدَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُصَالَحِ عَنْهُ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَدَل الصُّلْحِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصِّيغَةِ:
25 - الْمُرَادُ بِالصِّيغَةِ: الإِْيجَابُ وَالْقَبُول الدَّالَّيْنِ عَلَى التَّرَاضِي. مِثْل أَنْ يَقُول الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالَحْتُكَ مِنْ كَذَا عَلَى كَذَا، أَوْ مِنْ دَعْوَاكَ كَذَا عَلَى كَذَا، وَيَقُول الآْخَرُ: قَبِلْتُ، أَوْ رَضِيتُ أَوْ مَا يَدُل عَلَى قَبُولِهِ وَرِضَاهُ. فَإِذَا وُجِدَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول فَقَدْ تَمَّ الصُّلْحُ. (1)
هَذَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي بَابِ الصُّلْحِ لِبَيَانِ الشُّرُوطِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِصِيغَتِهِ؛ نَظَرًا لاِعْتِبَارِهِمْ عَقْدَ الصُّلْحِ غَيْرَ قَائِمٍ بِذَاتِهِ، بَل تَابِعًا لأَِقْرَبِ الْعُقُودِ بِهِ فِي الشَّرَائِطِ وَالأَْحْكَامِ، بِحَيْثُ يُعَدُّ بَيْعًا إِذَا كَانَ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ، وَهِبَةً إِذَا كَانَ عَلَى بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، وَإِبْرَاءً إِذَا كَانَ عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى، اكْتِفَاءً مِنْهُمْ بِذِكْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّيغَةِ مِنْ شُرُوطٍ وَأَحْكَامٍ فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 40.(27/346)
تِلْكَ الْعُقُودِ الَّتِي يَلْحَقُ بِهَا الصُّلْحُ، بِحَسَبِ مَحَلِّهِ وَمَا تَصَالَحَا عَلَيْهِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ تَكَلَّمُوا عَلَى صِيغَةِ الصُّلْحِ بِصُورَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ فِي بَابِهِ، وَأَتَوْا عَلَى ذِكْرِ بَعْضِ شُرُوطِهَا وَأَحْكَامِهَا، وَسَكَتُوا عَنِ الْبَعْضِ الآْخَرِ، اكْتِفَاءً بِمَا أَوْرَدُوهُ مِنْ تَفْصِيلاَتٍ تَتَعَلَّقُ بِالصِّيغَةِ فِي أَبْوَابِ الْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالإِْبْرَاءِ، الَّتِي يَأْخُذُ الصُّلْحُ أَحْكَامَهَا بِحَسَبِ أَحْوَالِهِ وَصُوَرِهِ.
أَمَّا كَلاَمُهُمْ فِي بَابِ الصُّلْحِ عَنْ صِيغَتِهِ وَشُرُوطِهَا: فَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الصُّلْحِ حُصُول الإِْيجَابِ مِنَ الْمُدَّعِي عَلَى كُل حَالٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَلِذَلِكَ لاَ يَصِحُّ الصُّلْحُ بِدُونِ إِيجَابٍ مُطْلَقًا. أَمَّا الْقَبُول، فَيُشْتَرَطُ فِي كُل صُلْحٍ يَتَضَمَّنُ الْمُبَادَلَةَ بَعْدَ الإِْيجَابِ.
ثُمَّ قَالُوا: تُسْتَعْمَل صِيغَةُ الْمَاضِي فِي الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَلاَ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِصِيغَةِ الأَْمْرِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ قَال الْمُدَّعِي لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالِحْنِي عَلَى الدَّارِ الَّتِي تَدَّعِيهَا بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَلاَ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِقَوْل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالَحْتُ؛ لأَِنَّ طَرَفَ الإِْيجَابِ كَانَ عِبَارَةً عَنْ طَلَبِ الصُّلْحِ، وَهُوَ غَيْرُ صَالِحٍ لِلإِْيجَابِ، فَقَوْل الطَّرَفِ الآْخَرِ: قَبِلْتُ، لاَ يَقُومُ مَقَامَ الإِْيجَابِ. أَمَّا إِذَا قَال(27/347)
الْمُدَّعِي ثَانِيًا: قَبِلْتُ. فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ.
وَبِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ:
إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ:
كَالْعَقَارَاتِ، وَالأَْرَاضِي، وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَنَحْوِهَا فَيُشْتَرَطُ الْقَبُول بَعْدَ الإِْيجَابِ لِصِحَّةِ الصُّلْحِ؛ لأَِنَّ الصُّلْحَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَكُونُ إِسْقَاطًا حَتَّى يَتِمَّ بِإِرَادَةِ الْمُسْقِطِ وَحْدَهَا، وَسَبَبُ عَدَمِ كَوْنِهِ إِسْقَاطًا مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ جَرَيَانِ الإِْسْقَاطِ فِي الأَْعْيَانِ.
وَإِذَا كَانَ الصُّلْحُ وَاقِعًا عَلَى جِنْسٍ آخَرَ، فَيُشْتَرَطُ الْقَبُول - أَيْضًا - سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَوْ كَانَ مِمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ: كَالنَّقْدَيْنِ، وَمَا فِي حُكْمِهِمَا.
وَسَبَبُ اشْتِرَاطِ الْقَبُول فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ: أَنَّ الصُّلْحَ فِيهِمَا مُبَادَلَةٌ، وَفِي الْمُبَادَلَةِ يَجِبُ الْقَبُول، وَلاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِدُونِهِ.
أَمَّا الصُّلْحُ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِالإِْيجَابِ وَحْدَهُ، فَهُوَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ إِسْقَاطَ بَعْضِ الْحُقُوقِ، فَيُكْتَفَى فِيهِ بِالإِْيجَابِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الْقَبُول.
وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ، بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْمُصَالَحِ عَنْهُ وَالْمُصَالَحِ بِهِ مِنَ النَّقْدَيْنِ، وَهُمَا لاَ يَتَعَيَّنَانِ بِالتَّعْيِينِ، فَهَاهُنَا يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ(27/347)
بِمُجَرَّدِ إِيجَابِ الدَّائِنِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ قَبُول الْمَدِينِ؛ لأَِنَّ هَذَا الصُّلْحَ عِبَارَةٌ عَنْ إِسْقَاطِ بَعْضِ الْحَقِّ، وَالإِْسْقَاطُ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُول، بَل يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ إِيجَابِ الْمُسْقِطِ.
فَمَثَلاً: لَوْ قَال الدَّائِنُ لِلْمَدِينِ: صَالَحْتُكَ عَلَى مَا فِي ذِمَّتِكَ لِي مِنَ الْخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ عَلَى مِائَتَيْ دِينَارٍ فَيَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِمُجَرَّدِ الإِْيجَابِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ قَبُول الْمَدِينِ، وَيَلْزَمُ الصُّلْحُ مَا لَمْ يَرُدَّهُ الدَّيْنُ. إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ الْمُدَّعِيَ؛ لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُوجِبَ، فَيُشْتَرَطُ قَبُول الْمُدَّعِي؛ سَوَاءٌ أَكَانَ الصُّلْحُ عَمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، أَمْ عَمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ هَذَا الصُّلْحَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِسْقَاطًا، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْقِطُ الْمُدَّعِيَ أَوِ الدَّائِنَ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ سُقُوطُ حَقِّهِ بِدُونِ قَبُولِهِ وَرِضَاهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَاوَضَةً، وَفِي الْمُعَاوَضَةِ يُشْتَرَطُ وُجُودُ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول مَعًا. أَمَّا فِي الصُّلْحِ عَمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ الَّذِي يَقَعُ عَلَى عَيْنِ الْجِنْسِ، فَيَقُومُ طَلَبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الصُّلْحَ مَقَامَ الْقَبُول. (1)
__________
(1) انظر البحر الرائق 7 / 255، مجمع الأنهر 2 / 308، درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر 4 / 3 - 5، قرة عيون الأخيار تكملة رد المحتار (المطبعة الميمنية 1321 هـ) 2 / 153، 156، الفتاوى الهندية 4 / 228، 229.(27/348)
الصُّلْحُ بِالتَّعَاطِي:
26 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى انْعِقَادِ الصُّلْحِ بِالتَّعَاطِي إِذَا كَانَتْ قَرَائِنُ الْحَال دَالَّةً عَلَى تَرَاضِيهِمَا بِهِ، كَمَا لَوْ أَعْطَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَالاً لِلْمُدَّعِي لاَ يَحِقُّ لَهُ أَخْذُهُ وَقَبَضَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ الْمَال. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّيْنَ، وَأَعْطَى الْمُدَّعِي شَاةً وَقَبَضَهَا الْمُدَّعِي مِنْهُ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِالتَّعَاطِي، وَلَيْسَ لِلْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ الاِدِّعَاءُ بِالأَْلْفِ دِرْهَمٍ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ اسْتِرْدَادُ تِلْكَ الشَّاةِ.
أَمَّا إِذَا أَعْطَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي بَعْضَ الْمَال الَّذِي كَانَ لِلْمُدَّعِي حَقُّ أَخْذِهِ وَقَبَضَهُ الْمُدَّعِي، وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا كَلاَمٌ يَدُل عَلَى الصُّلْحِ فَلاَ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِالتَّعَاطِي، وَلِلْمُدَّعِي طَلَبُ بَاقِي الدَّيْنِ؛ لأَِنَّ أَخْذَ الْمُدَّعِي بَعْضًا مِنَ الْمَال الَّذِي لَهُ حَقُّ أَخْذِهِ، يُحْتَمَل أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ اسْتِيفَاءَ بَعْضِ حَقِّهِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْبَعْضَ الْبَاقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ يُحْتَمَل أَنَّهُ اكْتَفَى بِالْمِقْدَارِ الَّذِي أَخَذَهُ وَعَدَل عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَاقِي، وَالْحَقُّ لاَ يَسْقُطُ بِالشَّكِّ (1) .
الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَاقِدَيْنِ:
27 - وَهِيَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهَا مَا يَرْجِعُ
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية 4 / 4 - 5.(27/348)
إِلَى الأَْهْلِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْوِلاَيَةِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ لِلتَّرَاضِي. انْظُرْ مُصْطَلَحَاتِ: (أَهْلِيَّة، تَرَاضِي، عَقْد، وِلاَيَة) .
الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُصَالَحِ عَنْهُ:
الْمُصَالَحُ عَنْهُ: هُوَ الشَّيْءُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: حَقُّ اللَّهِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ.
28 - أَمَّا حَقُّ اللَّهِ: فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ صِحَّةِ الصُّلْحِ عَنْهُ. وَعَلَى ذَلِكَ، فَلاَ يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْ حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، بِأَنْ صَالَحَ زَانِيًا أَوْ سَارِقًا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ شَارِبَ خَمْرٍ عَلَى مَالٍ عَلَى أَنْ لاَ يَرْفَعَهُ إِلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ؛ لأَِنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَجُوزُ، وَيَقَعُ بَاطِلاً؛ لأَِنَّ الْمُصَالِحَ بِالصُّلْحِ مُتَصَرِّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، إِمَّا بِاسْتِيفَاءِ كُل حَقِّهِ، أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْبَعْضِ وَإِسْقَاطِ الْبَاقِي، أَوْ بِالْمُعَاوَضَةِ، وَكُل ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ.
وَكَذَا إِذَا صَالَحَ مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ، بِأَنْ قَذَفَ رَجُلاً، فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ عَلَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَقٌّ، فَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَغْلُوبُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ شَرْعًا، فَكَانَ فِي حُكْمِ الْحُقُوقِ الْمُتَمَحِّضَةِ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَل، وَهِيَ لاَ تَحْتَمِل الصُّلْحَ، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي حُكْمِهَا. (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: قَذْف) .
وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ شَاهِدًا يُرِيدُ أَنْ يَشْهَدَ(27/349)
عَلَيْهِ عَلَى مَالٍ لِيَكْتُمَ شَهَادَتَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّ الشَّاهِدَ فِي إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ مُحْتَسِبٌ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَل لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} (1) وَالصُّلْحُ عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ بَاطِلٌ. (2)
وَإِذَا بَطَل الصُّلْحُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ؛ لأَِنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلاَ يَحِل لأَِحَدٍ أَخْذُ مَال أَحَدٍ إِلاَّ بِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ. (3)
29 - وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ: فَهُوَ الَّذِي يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْهُ عِنْدَ تَحَقُّقِ شُرُوطِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَشُرُوطُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ ثَلاَثَةٌ: (4) .
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ حَقًّا ثَابِتًا لِلْمُصَالِحِ فِي الْمَحَل:
30 - وَعَلَى ذَلِكَ: فَمَا لاَ يَكُونُ حَقًّا لَهُ، أَوْ لاَ يَكُونُ حَقًّا ثَابِتًا لَهُ فِي الْمَحَل لاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ادَّعَتْ
__________
(1) سورة الطلاق آية / 2.
(2) بدائع الصنائع 6 / 48، المبدع 4 / 290، المغني لابن قدامة 4 / 550، شرح منتهى الإرادات 2 / 266، قرة عيون الأخيار 2 / 155، كشاف القناع 3 / 388، وما بعدها.
(3) أعلام الموقعين (مطبعة السعادة 1 / 108) .
(4) جاء في م (1028) ، من مرشد الحيران: يشترط أن يكون المصالح عنه حقا للمصالح ثابتا في المحل يجوز أخذ البدل في مقابلته، سواء كان مالا: كالعين والدين أو غير مال: كالمنفعة وحق القصاص والتعزير، ويشترط أن يكون معلوما إن كان مما يحتاج إلى التسليم، وانظر قرة عيون الأخيار 2 / 155.(27/349)
عَلَيْهِ صَبِيًّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا، وَجَحَدَ الرَّجُل، فَصَالَحَتْ عَنِ النَّسَبِ عَلَى شَيْءٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّ النَّسَبَ حَقُّ الصَّبِيِّ لاَ حَقُّهَا، فَلاَ تَمْلِكُ الاِعْتِيَاضَ عَنْ حَقِّ غَيْرِهَا؛ وَلأَِنَّ الصُّلْحَ إِمَّا إِسْقَاطٌ أَوْ مُعَاوَضَةٌ، وَالنَّسَبُ لاَ يَحْتَمِلُهُمَا.
وَكَذَا لَوْ صَالَحَ الشَّفِيعُ مِنَ الشُّفْعَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ عَلَى شَيْءٍ، عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ الدَّارَ لِلْمُشْتَرِي فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لِلشَّفِيعِ فِي الْمَحَل، إِنَّمَا الثَّابِتُ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ، وَهُوَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي الْمَحَل، بَل هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوِلاَيَةِ، وَأَنَّهَا صِفَةُ الْوَالِي فَلاَ يَحْتَمِل الصُّلْحَ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ - خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ - فَيَجُوزُ عِنْدَهُمُ الصُّلْحُ عَنِ الشُّفْعَةِ. (ر: شُفْعَة - إِسْقَاط.) وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ الْكَفِيل بِالنَّفْسِ الْمَكْفُول لَهُ عَلَى مَالٍ، عَلَى أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنَ الْكَفَالَةِ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّ الثَّابِتَ لِلطَّالِبِ قِبَل الْكَفِيل بِالنَّفْسِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِ الْمَكْفُول بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ وِلاَيَةِ الْمُطَالَبَةِ، وَأَنَّهَا صِفَةُ الْوَالِي فَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهَا كَالشُّفْعَةِ. (1)
أَمَّا لَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالاً وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلاَ بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي، فَطَلَبَ مِنْهُ الْيَمِينَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 49، تحفة الفقهاء 3 / 427.(27/350)
فَصَالَحَ عَنِ الْيَمِينِ عَلَى أَنْ لاَ يَسْتَحْلِفَهُ جَازَ الصُّلْحُ وَبَرِئَ مِنَ الْيَمِينِ، بِحَيْثُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَعُودَ إِلَى اسْتِحْلاَفِهِ. وَكَذَا لَوْ قَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالَحْتُكَ مِنَ الْيَمِينِ الَّتِي وَجَبَتْ لَكَ عَلَيَّ. أَوْ قَال: افْتَدَيْتُ مِنْكَ يَمِينَكَ بِكَذَا وَكَذَا صَحَّ الصُّلْحُ؛ لأَِنَّ هَذَا صُلْحٌ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ لِلْمُدَّعِي؛ لأَِنَّ الْيَمِينَ حَقٌّ لِلْمُدَّعِي قِبَل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْمَحَل - وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الْمُدَّعِي فِي زَعْمِهِ - فَكَانَ الصُّلْحُ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي الْمَحَل، وَهُوَ الْمُدَّعِي، وَفِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَذْل الْمَال لإِِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ وَالاِفْتِدَاءِ عَنِ الْيَمِينِ. (1) قَالَهُ الْكَاسَانِيُّ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَلَى أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْمَرْأَةِ نِكَاحًا فَحَجَّتْهُ، وَصَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ بَذَلَتْهُ حَتَّى يَتْرُكَ الدَّعْوَى جَازَ هَذَا الصُّلْحُ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي حَسَبَ زَعْمِهِ، فَكَانَ الصُّلْحُ عَلَى حَقٍّ ثَابِتٍ لَهُ، وَالدَّافِعُ يَقْطَعُ بِهِ الْخُصُومَةَ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْخُلْعِ. (2)
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَصِحُّ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ:
31 - أَيْ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ
__________
(1) البدائع 6 / 50.
(2) كشاف القناع 3 / 381، شرح منتهى الإرادات 2 / 261، المغني 4 / 449، بدائع الصنائع 6 / 50، المبدع 4 / 281.(27/350)
عَنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ أَوْ لاَ يَجُوزُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَالاً أَوْ غَيْرَ مَالٍ.
وَعَلَى ذَلِكَ: فَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْ قَوَدِ نَفْسٍ وَدُونِهَا، وَعَنْ سُكْنَى دَارٍ وَنَحْوِهَا، وَعَنْ عَيْبٍ فِي عِوَضٍ أَوْ مُعَوَّضٍ؛ قَطْعًا لِلْخُصُومَةِ وَالْمُنَازَعَةِ. (1)
وَمَتَى صَالَحَ عَمَّا يُوجِبُ الْقِصَاصَ بِأَكْثَرَ مِنْ دِيَتِهِ أَوْ أَقَل جَازَ. (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (3) فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} أَيْ: أُعْطَى لَهُ.
كَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أَيْ: فَلْيَتْبَعْ " مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الأَْمْرِ " فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْوَلِيَّ بِالاِتِّبَاعِ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا أُعْطِيَ لَهُ شَيْءٌ، وَاسْمُ الشَّيْءِ يَتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكَثِيرَ، فَدَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ. (4) وَقَال الزَّيْلَعِيُّ: وَلأَِنَّ الْقِصَاصَ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 265، 266، المغني 4 / 545، المبدع 4 / 289، قرة عيون الأخبار 2 / 155، وم (1028) من مرشد الحيران.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 265، المغني 4 / 545، بدائع الصنائع 6 / 49، تبيين الحقائق 6 / 113، مواهب الجليل للحطاب 5 / 85، التاج والإكليل للمواق 5 / 85، تحفة الفقهاء 3 / 425.
(3) سورة البقرة آية: 178.
(4) بدائع الصنائع 6 / 49.(27/351)
حَقٌّ ثَابِتٌ فِي الْمَحَل، وَيَجْرِي فِيهِ الْعَفْوُ مَجَّانًا، فَكَذَا تَعْوِيضًا لاِشْتِمَالِهِ عَلَى الأَْوْصَافِ الْجَمِيلَةِ مِنْ إِحْسَانِ الْوَلِيِّ، وَإِحْيَاءِ الْقَاتِل. . . وَالْكَثِيرُ وَالْقَلِيل سَوَاءٌ فِي الصُّلْحِ عَنِ الْقِصَاصِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ، فَيُفَوَّضُ إِلَى اصْطِلاَحِهِمَا، كَالْخُلْعِ عَلَى مَالٍ. (1)
أَمَّا إِذَا صَالَحَ عَنْ قَتْل الْخَطَأِ بِأَكْثَرَ مِنْ دِيَتِهِ مِنْ جِنْسِهَا لَمْ يَجُزْ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا غَيْرَ مِثْلِيٍّ لِغَيْرِهِ، فَصَالَحَ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ مِنْ جِنْسِهَا لَمْ يَجُزْ أَيْضًا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الدِّيَةَ وَالْقِيمَةَ ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ مُقَدَّرَةً، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهَا بِأَكْثَرَ مِنْ جِنْسِهَا الثَّابِتَةِ عَنْ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ؛ وَلأَِنَّهُ إِذَا أَخَذَ أَكْثَرَ مِنْهَا فَقَدْ أَخَذَ حَقَّهُ وَزِيَادَةً لاَ مُقَابِل لَهَا، فَيَكُونُ أَكْل مَالٍ بِالْبَاطِل. (2)
فَأَمَّا إِذَا صَالَحَهُ عَلَى غَيْرِ جِنْسِهَا بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا، فَيَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ بَيْعٌ، وَيَجُوزُ لِلْمَرْءِ أَنْ يَشْتَرِيَ الشَّيْءَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَقَل؛ وَلأَِنَّهُ لاَ رِبَا بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ عَنْهُ فَصَحَّ. (3)
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 113.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 261، المغني 4 / 545، بدائع الصنائع 6 / 49، تبيين الحقائق 6 / 113، كشاف القناع 3 / 380، وانظر قرة عيون الأخيار 2 / 168.
(3) المغني 4 / 545، شرح منتهى الإرادات 2 / 261، كشاف القناع 3 / 380، وانظر قرة عيون الأخيار 2 / 168.(27/351)
وَبِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ: لاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى مَا لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، مِثْل أَنْ يُصَالِحَ امْرَأَةً عَلَى مَالٍ لِتُقِرَّ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ صُلْحٌ يُحِل حَرَامًا؛ وَلأَِنَّهَا لَوْ أَرَادَتْ بَذْل نَفْسِهَا بِعِوَضٍ لَمْ يَجُزْ. (1)
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا:
32 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِهِ أَوْ فِي مَدَاهُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدِهَا لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ عَدَمُ صِحَّةِ الصُّلْحِ عَنِ الْمَجْهُول. (2)
قَال الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي " الأُْمِّ " (3) :
أَصْل الصُّلْحِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ، فَمَا جَازَ فِي الْبَيْعِ جَازَ فِي الصُّلْحِ، وَمَا لَمْ يَجُزْ فِي الْبَيْعِ لَمْ يَجُزْ فِي الصُّلْحِ، ثُمَّ يَتَشَعَّبُ. . . وَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عِنْدِي إِلاَّ عَلَى أَمْرٍ مَعْرُوفٍ، كَمَا لاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ إِلاَّ عَلَى أَمْرٍ مَعْرُوفٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ صُلْحًا أَحَل حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً. (4) وَمِنَ الْحَرَامِ الَّذِي يَقَعُ فِي الصُّلْحِ أَنْ يَقَعَ عِنْدِي عَلَى الْمَجْهُول الَّذِي لَوْ كَانَ بَيْعًا كَانَ حَرَامًا.
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 261، والمغني 4 / 550، المبدع 4 / 281.
(2) روضة الطالبين 4 / 203.
(3) الأم (بعناية محمد زهرى النجار) 3 / 221.
(4) حديث: " الصلح جائز. . ". سبق تخريجه (ف5) .(27/352)
هَذَا، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى صِحَّةِ الصُّلْحِ عَنِ الْمُجْمَل عِنْدَهُمْ، فَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ شَيْئًا مُجْمَلاً فَأَقَرَّ لَهُ بِهِ وَصَالَحَهُ عَنْهُ عَلَى عِوَضٍ، صَحَّ الصُّلْحُ.
قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ: هَذَا إِذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا لَهُمَا فَيَصِحُّ الصُّلْحُ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَاهُ، كَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ الشَّيْءَ الَّذِي نَعْرِفُهُ أَنَا وَأَنْتَ بِكَذَا فَقَال: اشْتَرَيْتُ صَحَّ. (1)
وَالثَّانِي لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُصَالَحِ عَنْهُ مَعْلُومًا إِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى التَّسْلِيمِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَطْلُوبَ التَّسْلِيمِ اشْتَرَطَ كَوْنَهُ مَعْلُومًا لِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى الْمُنَازَعَةِ.
جَاءَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: إِذَا ادَّعَى حَقًّا فِي دَارِ رَجُلٍ وَلَمْ يُسَمِّ، فَاصْطَلَحَا عَلَى مَالٍ مَعْلُومٍ يُعْطِيهِ الْمُدَّعِي لِيُسَلِّمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي لاَ يَصِحُّ هَذَا الصُّلْحُ؛ لأَِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَحْتَاجُ إِلَى تَسْلِيمِ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ مِقْدَارَ ذَلِكَ لاَ يَدْرِي مَاذَا يُسَلِّمُ إِلَيْهِ، فَلاَ يَجُوزُ. (2)
أَمَّا إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يَحْتَاجُ التَّسْلِيمَ - كَتَرْكِ الدَّعْوَى مَثَلاً - فَلاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَعْلُومًا؛ لأَِنَّ جَهَالَةَ السَّاقِطِ لاَ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ،
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 218، وروضة الطالبين 4 / 203.
(2) فتاوى قاضيخان (بهامش الفتاوى الهندية) 3 / 104.(27/352)
وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ هَاهُنَا سَاقِطٌ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الإِْبْرَاءِ عَنِ الْمَجْهُول، وَهُوَ جَائِزٌ. (1) قَال الإِْسْبِيجَابِيُّ: لأَِنَّ الْجَهَالَةَ لاَ تُبْطِل الْعُقُودَ لِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا تُبْطِل الْعُقُودَ لِمَعْنًى فِيهَا، وَهُوَ وُقُوعُ الْمُنَازَعَةِ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُسْتَغْنَى عَنْ قَبْضِهِ وَلاَ تَقَعُ الْمُنَازَعَةُ فِي ثَانِي الْحَال فِيهِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى قَبْضِهِ، وَتَقَعُ الْمُنَازَعَةُ فِي ثَانِي الْحَال عِنْدَ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ لَمْ يَجُزْ. (2)
وَالثَّالِثِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ مِمَّا يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ. (3) وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يَتَعَذَّرُ.
فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ، فَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى صِحَّةِ الصُّلْحِ عَنْهُ.
(4)
__________
(1) رد المحتار 4 / 473، قرة عيون الأخيار 2 / 155، بدائع الصنائع 6 / 49، الفتاوى الخانية 3 / 88، 104، وانظر م (1028) من مرشد الحيران وم (1547) من مجلة الأحكام العدلية، وشرح المجلة للأتاسي 4 / 547، درر الحكام لعلي حيدر 4 / 24، وما بعدها.
(2) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 5 / 32.
(3) أي: لا سبيل إلى معرفته، ومثل ذلك في الأعيان: كقفيز حنطة وقفيز شعير اختلطا وطحنا فلا يمكن التمييز بينهما. ومثله في الديون، كمن بينهما معاملة أو حساب مضى عليه زمن طويل ولا علم لكل منهما بما عليه لصاحبه (شرح منتهى الإرادات 2 / 263، كشاف القناع 3 / 384) .
(4) مواهب الجليل 5 / 80، حاشية البناني على الزرقاني على خليل 6 / 3، المغني 4 / 543، كشاف القناع 3 / 384، شرح منتهى الإرادات 2 / 263، وقد اختار ابن قدامة في هذه الحالة صحة الصلح إذا كان مما لا يحتاج إلى تسليمه. أما إذا كان مما يحتاج إلى تسليمه، فلا يجوز مع الجهالة، لأن تسليمه واجب، والجهالة تمنع التسليم، وتفضي إلى التنازع، فلا يحصل مقصود الصلح. (المغني 4 / 544) .(27/353)
قَال الْحَنَابِلَةُ: سَوَاءٌ أَكَانَ عَيْنًا أَمْ دَيْنًا، وَسَوَاءٌ جَهِلاَهُ أَوْ جَهِلَهُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُصَالَحُ بِهِ حَالًّا أَوْ نَسِيئَةً، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ.
أ - بِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: جَاءَ رَجُلاَنِ مِنَ الأَْنْصَارِ يَخْتَصِمَانِ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَارِيثَ بَيْنَهُمَا قَدْ دُرِسَتْ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَل بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ أَوْ قَدْ قَال: لِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَإِنِّي أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى نَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذُهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، يَأْتِي بِهَا إِسْطَامًا فِي عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَبَكَى الرَّجُلاَنِ، وَقَال كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقِّي لأَِخِي. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا إِذْ قُلْتُمَا، فَاذْهَبَا، فَاقْتَسِمَا ثُمَّ تَوَخَّيَا الْحَقَّ، ثُمَّ اسْتَهِمَا، ثُمَّ لِيُحْلِل كُل وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ (1) .
__________
(1) نيل الأوطار 5 / 253 - الإسطام بالكسر المسعار: وهو حديدة مفطوحة تقلب بها النار - القاموس (سطم) النهاية في غريب الحديث والأثر مادة (سطم) ، والحديث لأم سلمة: " جاء رجلان من الأنصار يختصمان. . ". أخرجه أحمد (6 / 320 - ط. الميمنية) وإسناده صحيح.(27/353)
ب - وَلأَِنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ، فَصَحَّ فِي الْمَجْهُول كَالطَّلاَقِ لِلْحَاجَةِ.
ح - وَلأَِنَّهُ إِذَا صَحَّ الصُّلْحُ مَعَ الْعِلْمِ وَإِمْكَانِ أَدَاءِ الْحَقِّ بِعَيْنِهِ فَلأََنْ يَصِحَّ مَعَ الْجَهْل أَوْلَى. وَذَلِكَ لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا فَلَهُمَا طَرِيقٌ إِلَى التَّخَلُّصِ وَبَرَاءَةِ أَحَدِهِمَا مِنْ صَاحِبِهِ بِدُونِهِ، وَمَعَ الْجَهْل لاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَجُزِ الصُّلْحُ لأََفْضَى ذَلِكَ إِلَى ضَيَاعِ الْحَقِّ، أَوْ بَقَاءِ شَغْل الذِّمَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مَالٌ لاَ يَعْرِفُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يَتَعَذَّرُ عِلْمَهُ، كَتَرِكَةٍ بَاقِيَةٍ، صَالَحَ الْوَرَثَةُ الزَّوْجَةَ عَنْ حِصَّتِهَا مِنْهَا مَعَ الْجَهْل بِهَا. فَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَأَحْمَدُ فِي قَوْلٍ لَهُ: لاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ إِلاَّ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ. (1) وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ: يَصِحُّ لِقَطْعِ النِّزَاعِ. (2)
__________
(1) مواهب الجليل 5 / 80، حاشية البناني على الزرقاني على خليل 6 / 3، وهذا القول للإمام أحمد هو ظاهر نصوصه، وهو ظاهر ما جزم به في الإرشاد، وقطع به الشيخان والشرح، لعدم الحاجة إليه، ولأن الأعيان لا تقبل الإبراء. (المبدع 4 / 285، شرح منتهى الإرادات 2 / 263، وكشاف القناع 3 / 384، المغني 4 / 544) .
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 263، كشاف القناع 3 / 385.(27/354)
الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُصَالَحِ بِهِ:
33 - الْمُصَالَحُ بِهِ، أَوِ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ: هُوَ بَدَل الصُّلْحِ. وَشُرُوطُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ اثْنَانِ. (1)
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَالاً مُتَقَوِّمًا:
وَعَلَى ذَلِكَ، فَلاَ يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى الْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَصَيْدِ الإِْحْرَامِ وَالْحَرَمِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ فِي الصُّلْحِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، فَمَا لاَ يَصِحُّ عِوَضًا فِي الْبِيَاعَاتِ لاَ يَصِحُّ جَعْلُهُ بَدَل صُلْحٍ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَال دَيْنًا أَوْ عَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً.
فَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى مِقْدَارٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ، أَوْ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أَوْ رُكُوبِ دَابَّةٍ وَقْتًا مَعْلُومًا صَحَّ ذَلِكَ. (2) قَال الْكَاسَانِيُّ: الأَْصْل أَنَّ كُل مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ، وَمَا لاَ فَلاَ. (3)
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا:
وَعَلَى ذَلِكَ قَال الْحَنَابِلَةُ: فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ بِمَجْهُولٍ لَمْ يَصِحَّ؛ تَسْلِيمُهُ وَاجِبٌ
__________
(1) انظر م (1029) من مرشد الحيران.
(2) بدائع الصنائع 6 / 42، 48، قرة عيون الأخيار 2 / 154، وانظر شرح منتهى الإرادات 2 / 266، وجاء في م 1545 من مجلة الأحكام العدلية: إن كان المصالح عليه عينا فهو في حكم المبيع، وإن كان دينا فهو في حكم الثمن، فالشيء الذي يصلح أن يكون مبيعا أو ثمنا في البيع يصلح لأن يكون بدلا في الصلح أيضا.
(3) البدائع 6 / 48.(27/354)
وَالْجَهْل يَمْنَعُهُ. (1)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْمَسْأَلَةِ وَقَالُوا: يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُصَالَحِ بِهِ مَعْلُومًا إِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ؛ لأَِنَّ جَهَالَةَ الْبَدَل تُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَتُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ، أَمَّا إِذَا كَانَ شَيْئًا لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ فَلاَ يُشْتَرَطُ مَعْلُومِيَّتُهُ، مِثْل أَنْ يَدَّعِيَ حَقًّا فِي دَارِ رَجُلٍ، وَادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقًّا فِي أَرْضٍ بِيَدِ الْمُدَّعِي فَاصْطَلَحَا عَلَى تَرْكِ الدَّعْوَى جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ كُلٌّ مِنْهُمَا مِقْدَارَ حَقِّهِ؛ لأَِنَّ جَهَالَةَ السَّاقِطِ لاَ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ. (2) قَال الْكَاسَانِيُّ: لأَِنَّ جَهَالَةَ الْبَدَل لاَ تَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ لِعَيْنِهَا، بَل لإِِفْضَائِهَا إِلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، فَإِذَا كَانَ مَالاً يُسْتَغْنَى عَنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فِيهِ، لاَ يُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ فَلاَ يَمْنَعُ الْجَوَازَ (3)
آثَارُ الصُّلْحِ:
34 - قَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الآْثَارَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى انْعِقَادِ الصُّلْحِ هُوَ حُصُول الْبَرَاءَةِ عَنِ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 263، المبدع 4 / 284، كشاف القناع 3 / 384.
(2) قرة عيون الأخيار 2 / 154، البدائع 6 / 48، وانظر م (1029) من مرشد الحيران وم (1547) من المجلة العدلية.
(3) البدائع 6 / 48.(27/355)
الدَّعْوَى وَوُقُوعُ الْمِلْكِ فِي بَدَل الصُّلْحِ لِلْمُدَّعِي، وَفِي الْمُصَالَحِ بِهِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَمِل التَّمْلِيكَ، وَأَنَّ الصُّلْحَ يُعْتَبَرُ بِأَقْرَبِ الْعُقُودِ إِلَيْهِ - إِذِ الْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي لاَ لِلأَْلْفَاظِ وَالْمَبَانِي - فَمَا كَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ أَوِ الإِْجَارَةِ أَوِ الإِْسْقَاطِ أَخَذَ حُكْمَهُ.
وَعَلَى ذَلِكَ قَالُوا: إِذَا تَمَّ الصُّلْحُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ دَخَل بَدَل الصُّلْحِ فِي مِلْكِ الْمُدَّعِي، وَسَقَطَتْ دَعْوَاهُ الْمُصَالَحُ عَنْهَا، فَلاَ يُقْبَل مِنْهُ الاِدِّعَاءُ بِهَا ثَانِيًا، وَلاَ يَمْلِكُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اسْتِرْدَادَ بَدَل الصُّلْحِ الَّذِي دَفَعَهُ لِلْمُدَّعِي. (1)
وَجَاءَ فِي م (1556) مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: إِذَا تَمَّ الصُّلْحُ فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ - فَقَطْ - الرُّجُوعُ، وَيَمْلِكُ الْمُدَّعِي بِالصُّلْحِ بَدَلَهُ، وَلاَ يَبْقَى لَهُ حَقٌّ فِي الدَّعْوَى، وَلَيْسَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ - أَيْضًا - اسْتِرْدَادُ بَدَل الصُّلْحِ.
وَأَصْل ذَلِكَ: أَنَّ الصُّلْحَ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ، فَلِذَلِكَ لاَ يَمْلِكُ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخَهُ، أَوِ الرُّجُوعَ عَنْهُ بَعْدَ تَمَامِهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَتِمَّ فَلاَ حُكْمَ لَهُ وَلاَ أَثَرَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ.
فَلَوِ
__________
(1) قرة عيون الأخيار 2 / 157، وم (1045) من مرشد الحيران، بدائع الصنائع 6 / 53.(27/355)
ادَّعَى أَحَدٌ عَلَى آخَرَ حَقًّا وَتَصَالَحَ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى شَيْءٍ، ثُمَّ ظَهَرَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ أَوِ الْمَال لاَ يَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلاَ يَتِمُّ وَلاَ حُكْمَ لَهُ، وَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ اسْتِرْدَادُ بَدَل الصُّلْحِ،
وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَالَحَ الْبَائِعُ مَعَ الْمُشْتَرِي عَنِ خِيَارِ الْعَيْبِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَدَمُ وُجُودِ الْعَيْبِ، أَوْ زَال الْعَيْبُ مِنْ نَفْسِهِ وَبِدُونِ مُعَالَجَةٍ أَوْ كُلْفَةٍ بَطَل الصُّلْحُ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ بَدَل الصُّلْحِ الَّذِي أَخَذَهُ لِلْبَائِعِ. وَكَذَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعِي مُبْطِلاً وَغَيْرَ مُحِقٍّ فِي دَعْوَاهُ، فَلاَ يَحِل لَهُ دِيَانَةً بَدَل الصُّلْحِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصُّلْحِ، وَلاَ يَطِيبُ لَهُ، مَا لَمْ يُسَلِّمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي بَدَل الصُّلْحِ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ يُصْبِحُ التَّمْلِيكُ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ.
(1) وَعَلَى أَسَاسِ مَا تَقَدَّمَ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَصَالِحَيْنِ بَعْدَ تَمَامِ الصُّلْحِ، فَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ فَسْخُهُ. (2)
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر 4 / 47، وانظر شرح المجلة للأتاسي 4 / 570 وما بعدها، مجمع الأنهر 2 / 312 شرح منتهى الإرادات 2 / 263.
(2) درر الحكام 4 / 49، وانظر م (1046) من مرشد الحيران. وقد استثنى الحنفية من ذلك ما لو كان الصلح في معنى الإجارة، ومات أحدهما قبل مضي المدة، وقالوا ببطلانه فيما بقي. (انظر الفتاوى الهندية 4 / 280) قرة عيون الأخيار 2 / 159. وخالفهم في ذلك الإمام الشافعي فقال: " وإن ادعى رجل حقا في دار أو أرض، فأقر له المدعى عليه، وصالحه من دعواه على خدمة عبد أو ركوب دابة أو زراعة أرض أو سكنى دار أو شيء مما تكون فيه الإجارات، ثم مات المدعي والمدعى عليه أو أحدهما، فالصلح جائز ولورثة المد(27/356)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنِ ادَّعَى عَلَى آخَرَ حَقًّا، فَأَنْكَرَهُ، فَصَالَحَهُ، ثُمَّ ثَبَتَ الْحَقُّ بَعْدَ الصُّلْحِ بِاعْتِرَافٍ أَوْ بَيِّنَةٍ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي الصُّلْحِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْبَيِّنَةِ وَهِيَ حَاضِرَةٌ وَلَمْ يَقُمْ بِهَا، فَالصُّلْحُ لَهُ لاَزِمٌ. أَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُتَصَالِحَيْنِ قَدْ أَشْهَدَ قَبْل الصُّلْحِ إِشْهَادَ تَقِيَّةٍ: أَنَّ صُلْحَهُ إِنَّمَا هُوَ لِمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ إِنْكَارِ صَاحِبِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الصُّلْحَ لاَ يَلْزَمُهُ إِذَا ثَبَتَ أَصْل حَقِّهِ. (1)
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى انْحِلاَل الصُّلْحِ:
35 - إِذَا بَطَل الصُّلْحُ بَعْدَ صِحَّتِهِ، أَوْ لَمْ يَصِحَّ أَصْلاً فَيَرْجِعُ الْمُدَّعِي إِلَى أَصْل دَعْوَاهُ إِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ. وَإِنْ كَانَ عَنْ إِقْرَارٍ فَيَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْمُدَّعَى لاَ غَيْرِهِ، إِلاَّ فِي الصُّلْحِ عَنِ الْقِصَاصِ إِذَا لَمْ يَصِحَّ فَإِنَّ لِوَلِيِّ الدَّمِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَاتِل بِالدِّيَةِ دُونَ الْقِصَاصِ، إِلاَّ أَنْ يَصِيرَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْغُرُورِ أَيْضًا. (2)
__________
(1) القوانين الفقهية (ط. الدار العربية للكتاب) ص 343.
(2) بدائع الصنائع 6 / 55، 56.(27/356)
صِلَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصِّلَةُ فِي اللُّغَةِ: الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، يُقَال: وَصَل الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ وَصْلاً وَوَصْلَةً وَصِلَةً: ضَمَّهُ بِهِ وَجَمَعَهُ وَلأََمَهُ. وَعَنِ ابْنِ سِيدَهْ: الْوَصْل خِلاَفُ الْفَصْل.
كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الْعَطِيَّةِ وَالْجَائِزَةِ، وَعَلَى الاِنْتِهَاءِ وَالْبُلُوغِ، وَعَلَى ضِدِّ الْهِجْرَانِ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تُطْلَقُ عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ، وَصِلَةِ السُّلْطَانِ.
قَال الْعَيْنِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: الصِّلَةُ هِيَ صِلَةُ الأَْرْحَامِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الإِْحْسَانِ إِلَى الأَْقْرَبِينَ مِنْ ذَوِي النَّسَبِ وَالأَْصْهَارِ، وَالتَّعَطُّفِ عَلَيْهِمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ وَالرِّعَايَةِ لأَِحْوَالِهِمْ، وَكَذَلِكَ إِنْ بَعُدُوا وَأَسَاءُوا، وَقَطْعُ الرَّحِمِ قَطْعُ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَال الْعُلَمَاءُ: وَحَقِيقَةُ الصِّلَةِ الْعَطْفُ وَالرَّحْمَةُ.
فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) لسان العرب ومتن اللغة والنهاية في غريب الحديث. مادة (وصل) .(27/357)
قَال: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ. قَال: نَعَمْ. أَمَّا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِل مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ، قَالَتْ: بَلَى. قَال: فَذَاكَ لَكِ.
(1) وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ: أَنَّ صِلَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِعِبَادِهِ عِبَارَةٌ عَنْ لُطْفِهِ بِهِمْ وَرَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ وَعَطْفِهِ بِإِحْسَانِهِ وَنِعَمِهِ. وَيَعْتَبِرُ الْفُقَهَاءُ الصِّلَةَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْهِبَاتِ وَالْعَطَايَا وَالصَّدَقَاتِ. كَمَا يُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَطَايَا السَّلاَطِينِ: صِلاَتِ السَّلاَطِينِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - قَطِيعَةٌ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْقَطِيعَةِ فِي اللُّغَةِ: الْهِجْرَانُ، يُقَال: قَطَعْتُ الصَّدِيقَ قَطِيعَةً: هَجَرْتُهُ.
__________
(1) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: " إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 465 - 466 - ط. السلفية) ومسلم (صحيح مسلم 4 / 1980 - 1981 ط. عيسى الحلبي) .
(2) عمدة القاري شرح البخاري (22 / 81 ط. المنيرية) صحيح مسلم بشرح النووي (16 / 113 ط. المطبعة المصرية بالأزهر. 1930) فتح العلي المالك (2 / 270 ط. مصطفى الحلبي 1958) تحرير الكلام في مسائل الالتزام (166 ط. دار الغرب الإسلامي 1984 م) .(27/357)
وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ ضِدُّ صِلَةِ الرَّحِمِ. وَهِيَ: قَطْعُ مَا أَلِفَ الْقَرِيبُ مِنْهُ مِنْ سَابِقِ الْوَصْلَةِ وَالإِْحْسَانِ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ. (1)
ب - عَطِيَّةٌ:
3 - الْعَطِيَّةُ وَالْعَطَاءُ: اسْمٌ لِمَا يُعْطَى، وَالْجَمْعُ عَطَايَا وَأَعْطِيَةٌ، وَجَمْعُ الْجَمْعِ: أُعْطِيَاتٌ. وَالْعَطِيَّةُ اصْطِلاَحًا: هِيَ مَا تُفْرَضُ لِلْمُقَاتِلَةِ. وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الْعَطِيَّةَ - أَيْضًا - بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ. (2)
ج - هِبَةٌ:
4 - الْهِبَةُ لُغَةً: الْعَطِيَّةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الأَْعْوَاضِ وَالأَْغْرَاضِ.
وَفِي الْكُلِّيَّاتِ: الْهِبَةُ مَعْنَاهَا: إِيصَال الشَّيْءِ إِلَى الْغَيْرِ بِمَا يَنْفَعُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَالاً أَوْ غَيْرَ مَالٍ، وَيُقَال: وَهَبَ لَهُ مَالاً وَهْبًا وَهِبَةً، وَوَهَبَ اللَّهُ فُلاَنًا وَلَدًا صَالِحًا. وَالْهِبَةُ اصْطِلاَحًا: هِيَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِلاَ شَرْطِ الْعِوَضِ. (3)
__________
(1) المصباح المنير مادة (قطع) ، الزواجر عن اقتراف الكبائر (2 / 65 ط. المطبعة الأزهرية المصرية 1325 هـ) .
(2) لسان العرب مادة (عطا) ، والكليات 3 / 279، والفتاوى الكبرى لابن حجر الهيثمي 3 / 371.
(3) لسان العرب مادة (وهب) ، والكليات 5 / 79، 80، وحاشية ابن عابدين 4 / 508.(27/358)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً: فِي صِلَةِ الرَّحِمِ:
5 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ وَاجِبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَطْعِيَّتَهَا مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَْرْحَامَ} . (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلْيَصِل رَحِمَهُ. (2)
وَالصِّلَةُ دَرَجَاتٌ بَعْضُهَا أَرْفَعُ مِنْ بَعْضٍ، وَأَدْنَاهُ تَرْكُ الْمُهَاجَرَةِ، وَصِلَتُهَا بِالْكَلاَمِ وَلَوْ بِالسَّلاَمِ. وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الْقُدْرَةِ وَالْحَاجَةِ: فَمِنْهَا وَاجِبٌ، وَمِنْهَا مُسْتَحَبٌّ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الرَّحِمِ الَّتِي تَجِبُ صِلَتُهَا فَقِيل: هِيَ كُل رَحِمٍ مَحْرَمٍ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالآْخَرُ أُنْثَى حُرِّمَتْ مُنَاكَحَتُهُمَا، وَعَلَى هَذَا لاَ يَدْخُل أَوْلاَدُ الأَْعْمَامِ وَلاَ أَوْلاَدُ الأَْخْوَال. وَقِيل: الرَّحِمُ عَامٌّ فِي كُلٍّ مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ فِي الْمِيرَاثِ يَسْتَوِي الْمَحْرَمُ وَغَيْرُهُ. (3)
قَال النَّوَوِيُّ: وَالْقَوْل الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ، وَمِمَّا يَدُل عَلَيْهِ حَدِيثُ: إِنَّ أَبَرَّ
__________
(1) سورة النساء / 1.
(2) حديث: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 532 ط. السلفية) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 264، عمدة القاري 22 / 90، شرح النووي على صحيح مسلم 16 / 113.(27/358)
الْبِرِّ صِلَةُ الرَّجُل أَهْل وُدِّ أَبِيهِ. (1)
وَتَفْصِيل مَسَائِل صِلَةِ الرَّحِمِ فِي مُصْطَلَحِ (أَرْحَام 3 81) .
الْهِبَةُ لِذِي الرَّحِمِ:
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ إِذَا كَانَتْ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا (2) أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ. وَصِلَةُ الرَّحِمِ عِوَضٌ مَعْنًى؛ لأَِنَّ التَّوَاصُل سَبَبُ التَّنَاصُرِ وَالتَّعَاوُنِ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى اسْتِيفَاءِ النُّصْرَةِ، وَسَبَبَ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الآْخِرَةِ، فَكَانَ أَقْوَى مِنَ الْمَال. (3)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (هِبَة) .
ثَانِيًا: صِلاَتُ السُّلْطَانِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ عَطَايَا
__________
(1) حديث: " إن أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه ". أخرجه مسلم (4 / 1979) في حديث ابن عمر.
(2) حديث: " الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها ". أخرجه ابن ماجه (2 / 798، ط. الحلبي) والدارقطني (سنن الدارقطني 3 / 44 ط. دار المحاسن) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، وهو ضعيف. ورواه الدارقطني (سنن الدارقطني 3 / 44 ط. دار المحاسن) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - بلفط " من وهب هبة فارتجع بها فهو أحق بها ما لم يثب منها، ولكنه كالكلب يعود في قيئه ". وقال المناوي نقلا عن ابن حجر: إسناده صحيح (فيض القدير 6 / 371 ط. المكتبة التجارية) .
(3) بدائع الصنائع 6 / 132.(27/359)
السُّلْطَانِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهَا حَرَامٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ قَبُول عَطَايَا السُّلْطَانِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا حَرَامٌ، قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: الْخُلَفَاءُ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِمْ فَعَطَايَاهُمْ يَجُوزُ قَبُولُهَا عِنْدَ جَمِيعِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: وَمَعَ الْجَوَازِ يَكُونُ الأَْخْذُ تَحْتَ خَطَرِ احْتِمَال الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ، فَيَتَأَثَّرُ قَلْبُهُ بِهِ، بَل وَيُطَالَبُ بِهِ فِي الآْخِرَةِ إِنْ كَانَ الْمُعْطِي غَيْرَ مُسْتَقِيمِ الْحَال.
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ أُمَرَاءِ الْجَوْرِ وَغَيْرِهِمْ، فَلاَ يَجُوزُ قَبُول عَطَايَا أُمَرَاءِ الْجَوْرِ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ فِي مَالِهِمُ الْحُرْمَةُ، إِلاَّ إِذَا عَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ مَالِهِ حَلاَلٌ، وَأَمَّا أُمَرَاءُ غَيْرِ الْجَوْرِ فَيَجُوزُ الأَْخْذُ مِنْهُمْ.
وَذَهَبَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ إِلَى كَرَاهَةِ الأَْخْذِ. أَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّهَا حَرَامٌ فَلاَ يَجُوزُ أَخْذُهَا. (1)
وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيل ذَلِكَ إِلَى مُصْطَلَحِ (جَائِزَة) ف 7 (15 / 278)
صِلَةُ الرَّحِمِ
انْظُرْ: أَرْحَام، صِلَةٌ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 342، فتح العلي المالك 2 / 269، الفتاوى الكبرى لابن حجر 3 / 373، المغني لابن قدامة 6 / 443.(27/359)
صَلِيبٌ
انْظُرْ: تَصْلِيب
صَمْتٌ
انْظُرْ: سُكُوت
صَمْعَاءُ
انْظُرْ: أُضْحِيَّة
صَمَّاءُ
انْظُرْ: أُضْحِيَّة(27/360)
صِنَاعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصِّنَاعَةُ: اسْمٌ لِحِرْفَةِ الصَّانِعِ، وَعَمَلُهُ الصَّنْعَةُ، يُقَال: صَنَعَهُ يَصْنَعُهُ صُنْعًا وَصِنَاعَةً: عَمِلَهُ.
وَالصُّنْعُ إِجَادَةُ الْفِعْل، وَكُل صُنْعٍ فِعْلٌ، وَلَيْسَ كُل فِعْلٍ صُنْعًا. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
حِرْفَةٌ:
2 - الْحِرْفَةُ مَصْدَرُ: حَرَّفَ يُحَرِّفُ لِعِيَالِهِ: كَسَبَ، وَاكْتَسَبَ لَهُمْ. وَالْحِرْفَةُ أَعَمُّ مِنَ الصِّنَاعَةِ عُرْفًا؛ لأَِنَّهَا تَشْمَل مَا يَسْتَدْعِي عَمَلاً، وَغَيْرَهُ، وَالصَّنْعَةُ تَخْتَصُّ بِمَا يَسْتَدْعِي عَمَلاً. (2)
كَسْبٌ:
3 - الْكَسْبُ مَصْدَرُ: كَسَبَ مَالاً يَكْسِبُ كَسْبًا: رَبِحَهُ، وَكَسَبَ لأَِهْلِهِ وَاكْتَسَبَ:
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، ومفردات الراغب الأصفهاني مادة: (صنع) .
(2) نهاية المحتاج 8 / 50، والمصباح المنير.(27/360)
طَلَبَ الْمَعِيشَةَ، وَاكْتَسَبَ الإِْثْمَ: تَحَمَّلَهُ. (1)
مَهْنَةٌ:
4 - الْمَهْنَةُ: الْحِذْقُ بِالْخِدْمَةِ وَالْعَمَل، قَال الأَْصْمَعِيُّ: الْمَهْنَةُ - بِفَتْحِ الْمِيمِ - هِيَ الْخِدْمَةُ، وَيُقَال: إِنَّهُ فِي مَهْنَةِ أَهْلِهِ: أَيْ فِي خِدْمَتِهِمْ. (2)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الصِّنَاعَةُ - فِي الْجُمْلَةِ - مِنَ الأُْمُورِ الضَّرُورِيَّةِ لِلْحَيَاةِ الَّتِي لاَ يَسْتَغْنِي عَنْهَا النَّاسُ فِي حَيَاتِهِمْ، كَسَائِرِ مَا لاَ تَتِمُّ الْمَعَائِشُ إِلاَّ بِهِ، كَالتِّجَارَةِ، وَالزِّرَاعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ تَسْتَقِيمُ أُمُورُ حَيَاةِ النَّاسِ بِدُونِهَا، فَهِيَ لِهَذَا فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْجَمَاعَةِ، إِنْ قَامَ بِهَا الْبَعْضُ يَسْقُطُ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِلاَّ أَثِمُوا جَمِيعًا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ (حِرْفَة، احْتِرَاف، كَسْب، اكْتِسَاب) .
وَقَدْ تُحَرَّمُ: كَصُنْعِ التَّصَاوِيرِ، وَآلاَتِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةِ، وَالصُّلْبَانِ. لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَال لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ (3) .
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب.
(2) المصباح المنير ولسان العرب.
(3) حديث: " إن الذين يصنعون هذه الصور. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 382 - 383 ط. السلفية) واللفظ له، ومسلم 3 / 1669 - 1670 ط. الحلبي) .(27/361)
وَعَنِ الأَْعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ: كُنَّا مَعَ مَسْرُوقٍ فِي دَارِ يَسَارِ بْنِ نُمَيْرٍ فَرَأَى فِي صُفَّتِهِ تَمَاثِيل فَقَال: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ (1) وَفِي حُرْمَةِ الاِنْتِفَاعِ بِآلاَتِ اللَّهْوِ، وَالصُّلْبَانِ، تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَصْوِير، وَصَلِيب)
الصِّنَاعَةُ فِي الْمَسْجِدِ:
6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الصِّنَاعَةُ فِي الْمَسَاجِدِ لِمُنَافَاةِ ذَلِكَ حُرْمَةَ الْمَسَاجِدِ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الْمُعْتَكِفَ، وَقَالُوا: لاَ يُكْرَهُ لَهُ الصَّنَائِعُ فِي الْمَسْجِدِ: كَالْخِيَاطَةِ وَالْكِتَابَةِ مَا لَمْ يُكْثِرْ مِنْهَا.
وَإِنْ أَكْثَرَ مِنْهَا كُرِهَ، كَمَا اسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ مَنْعِ الصِّنَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ: مَا كَانَ نَفْعُهُ يَعُودُ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا فِي دِينِهِمْ، كَإِصْلاَحِ آلاَتِ الْجِهَادِ، فَلاَ بَأْسَ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ أَنْ يَعْمَل الصَّنَائِعَ فِي الْمَسَاجِدِ؛ لأَِنَّ الْمَسْجِدَ مُخَلَّصٌ لِلَّهِ، فَلاَ يَكُونُ لِغَيْرِ الْعِبَادَةِ، غَيْرَ
__________
(1) حديث الأعمش: " إن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة المصورون ". أخرجه البخاري (فتح الباري10 / 12 ط. السلفية) ومسلم 3 / 1670 ط. الحلبي) والنسائي (8 / 216، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية) .(27/361)
أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا جَلَسَ الْخَيَّاطُ فِي الْمَسْجِدِ لِصِيَانَتِهِ وَدَفْعِ الصِّبْيَانِ عَنِ الْعَبَثِ فِيهِ فَلاَ بَأْسَ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجُوزُ التَّكَسُّبُ فِي الْمَسْجِدِ بِالصَّنْعَةِ، كَخِيَاطَةٍ وَغَيْرِهَا، قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيرًا؛ لِحَاجَةٍ أَوْ لِغَيْرِهَا؛ لأَِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (حِرْفَة) .
اعْتِبَارُ الصَّنْعَةِ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ:
7 - يَقُول جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الصِّنَاعَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْكَفَاءَةِ: فَصَاحِبُ صِنَاعَةٍ دَنِيئَةٍ لَيْسَ كُفْئًا لِبِنْتِ مَنْ هُوَ أَرْفَعُ مِنْهُ صِنَاعَةً.
قَالُوا: الْمُعْتَبَرُ فِي الدَّنَاءَةِ وَالرِّفْعَةِ عُرْفُ كُل بَلَدٍ. وَقِيل: يُعَوَّل عَلَى قَوْل الْفُقَهَاءِ، فِيمَا نَصُّوا عَلَيْهِ، وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى عُرْفِ الْبَلَدِ. وَالتَّفْصِيل فِي: (كَفَاءَة، نِكَاح حِرْفَة) .
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 433، فتح القدير 1 / 300، مواهب الجليل 6 / 13.
(2) كشاف القناع 2 / 366، المغني 3 / 303.(27/362)
صَنْجَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّنْجُ لُغَةً: شَيْءٌ يُتَّخَذُ مِنْ صُفْرٍ يُضْرَبُ أَحَدُهُمَا عَلَى الآْخَرِ، وَآلَةٌ بِأَوْتَارٍ يُضْرَبُ بِهَا، وَيُقَال لِمَا يُجْعَل فِي إِطَارِ الدُّفِّ مِنَ النُّحَاسِ الْمُدَوَّرِ صِغَارًا صُنُوجٌ - أَيْضًا (1) -.
وَيُؤْخَذُ مِنِ اسْتِعْمَالاَتِ الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ الصَّنْجَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا عِنْدَهُمْ: قِطَعٌ مَعْدِنِيَّةٌ ذَاتُ أَثْقَالٍ مَحْدُودَةٍ مُخْتَلِفَةِ الْمَقَادِيرِ يُوزَنُ بِهَا (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَنْبَغِي لِلْبَائِعِ أَنْ يَتَّخِذَ مَا يَزِنُ بِهِ مِنْ قِطَعٍ مِنَ الْحَدِيدِ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا لاَ يَتَآكَل، وَتُعَيَّرُ عَلَى الصِّنَجِ الطَّيَّارَةِ (3) ، وَلاَ يَتَّخِذُهَا مِنَ
__________
(1) القاموس المحيط ومتن اللغة.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 254 والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 299 ونهاية المرتبة في طلب الحسبة ص 19.
(3) قال في هامش نهاية الرتبة في طلب الحسبة في تعليقه على " الصنج الطيارة " لم يتيسر معرفة معنى " الصنج الطيارة " في المراجع المختلفة وربما قصد المؤلف أنها الصنح المحفوظة عند المحتسب لتعير عليها الصنج الأخرى. انظر (المقريزي. الخطط 1 / 464) .(28/5)
الْحِجَارَةِ، لأَِنَّهَا تَنْتَحِتُ إِذَا قَرَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا فَتَنْقُصُ، فَإِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى اتِّخَاذِهَا مِنَ الْحِجَارَةِ لِقُصُورِ يَدِهِ عَنِ اتِّخَاذِهَا مِنَ الْحَدِيدِ أَوْ نَحْوِهِ أَمَرَهُ الْمُحْتَسِبُ بِتَجْلِيدِهَا، ثُمَّ يَخْتِمُهَا الْمُحْتَسِبُ بَعْدَ الْعِيَارِ، وَيُجَدِّدُ الْمُحْتَسِبُ النَّظَرَ فِيهَا بَعْدَ كُل حِينٍ، لِئَلاَّ يَتَّخِذَ الْبَائِعُ مِثْلَهَا مِنَ الْخَشَبِ (1) .
قَال أَبُو يَعْلَى: وَمِمَّا يَتَأَكَّدُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ الْمَنْعُ مِنَ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ فِي الْمَكَايِيل وَالْمَوَازِينِ وَالصَّنَجَاتِ، وَلْيَكُنِ الأَْدَبُ عَلَيْهِ أَظْهَرَ وَأَكْثَرَ، وَيَجُوزُ لَهُ إِذَا اسْتَرَابَ بِمَوَازِينِ السُّوقَةِ وَمَكَايِيلِهِمْ أَنْ يَخْتَبِرَهَا وَيُعَايِرَهَا.
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى مَا عَايَرَهُ مِنْهَا طَابَعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعَامَّةِ لاَ يَتَعَامَلُونَ إِلاَّ بِهِ كَانَ أَحْوَط وَأَسْلَمَ، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ وَتَعَامَل قَوْمٌ بِغَيْرِ مَا طُبِعَ بِطَابَعِهِ تَوَجَّهَ الإِْنْكَارُ عَلَيْهِمْ إِنْ كَانَ مَبْخُوسًا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مُخَالَفَتُهُ فِي الْعُدُول عَنْ مَطْبُوعِهِ، وَإِنْكَارُهُ مِنَ الْحُقُوقِ السُّلْطَانِيَّةِ.
وَالثَّانِي: الْبَخْسُ وَالتَّطْفِيفُ فِي الْحُقُوقِ، وَإِنْكَارُهُ مِنَ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَ مَا تَعَامَلُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَطْبُوعِ
__________
(1) نهاية الرتبة في طلب الحسبة ص 19 ومعالم القرية في أحكام الحسبة ص 85.(28/5)
سَلِيمًا مِنْ بَخْسٍ وَنَقْصٍ تَوَجَّهَ الإِْنْكَارُ بِحَقِّ السَّلْطَنَةِ وَحْدَهَا لأَِجْل الْمُخَالَفَةِ (1) .
(وَلِلتَّفْصِيل ر: مَقَادِير) .
هَذَا عَنِ الصَّنْجَةِ بِمَعْنَى مَا يُوزَنُ بِهِ.
أَمَّا الصَّنْجُ بِمَعْنَى مَا يُتَّخَذُ مِنْ صُفْرٍ يُضْرَبُ أَحَدُهُمَا عَلَى الآْخَرِ، أَوِ الآْلَةُ بِأَوْتَارٍ يُضْرَبُ بِهَا أَوْ مَا يُجْعَل فِي إِطَارِ الدُّفِّ مِنَ النُّحَاسِ الْمُدَوَّرِ فَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَعَازِف) .
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 299 وانظر الأحكام السلطانية للماوردي ص 254.(28/6)
صَوْتٌ
انْظُرْ: كَلاَم
صُورَةٌ
انْظُرْ: تَصْوِير
صُوفٌ
انْظُرْ: شَعْرٌ وَصُوفٌ وَوَبَر(28/6)
صَوْمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّوْمُ فِي اللُّغَةِ: الإِْمْسَاكُ مُطْلَقًا عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكَلاَمِ وَالنِّكَاحِ وَالسَّيْرِ. قَال تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ -: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} (1) .
وَالصَّوْمُ: مَصْدَرُ صَامَ يَصُومُ صَوْمًا وَصِيَامًا (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الإِْمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْمْسَاكُ:
2 - الإِْمْسَاكُ لُغَةً: هُوَ حَبْسُ الشَّيْءِ وَالاِعْتِصَامُ بِهِ، وَأَخْذُهُ وَقَبْضُهُ، وَالإِْمْسَاكُ عَنِ الْكَلاَمِ هُوَ: السُّكُوتُ، وَالإِْمْسَاكُ: الْبُخْل. وقَوْله تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} (4)
__________
(1) سورة مريم / 26.
(2) القاموس المحيط، والمصباح المنير، ومختار الصحاح مادة (صوم) .
(3) مغني المحتاج 1 / 420.
(4) سورة النساء / 15.(28/7)
أَمْرٌ بِحَبْسِهِنَّ وَهُوَ بِذَلِكَ أَعَمُّ مِنَ الصَّوْمِ.
ب - الْكَفُّ:
3 - الْكَفُّ عَنِ الشَّيْءِ لُغَةً: تَرْكُهُ، وَإِذَا ذُكِرَ الْمُتَعَلِّقُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَانَ مُسَاوِيًا لِلصَّوْمِ.
ج - الصَّمْتُ:
4 - الصَّمْتُ وَكَذَا السُّكُوتُ لُغَةً: الإِْمْسَاكُ عَنِ النُّطْقِ
، وَهُمَا أَخَصُّ مِنَ الصَّوْمِ لُغَةً، لاَ شَرْعًا، لأَِنَّ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ تَبَايُنًا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَرْضٌ. وَالدَّلِيل عَلَى الْفَرْضِيَّةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ.
أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) وَقَوْلُهُ {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} : أَيْ فُرِضَ.
وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (2) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُنِيَ الإِْسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
__________
(1) سورة البقرة / 183، وانظر التفسير المذكور في أحكام القرآن لابن العربي (1 / 61 ط: دار المعرفة بيروت) .
(2) سورة البقرة 185.(28/7)
اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ (1) .
كَمَا انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى فَرْضِيَّةِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، لاَ يَجْحَدُهَا إِلاَّ كَافِرٌ (2) .
فَضْل الصَّوْمِ:
6 - وَرَدَتْ فِي فَضْل الصَّوْمِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:
أ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (3) .
ب - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ بِقُدُومِ رَمَضَانَ، يَقُول: قَدْ جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَل فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (4) .
__________
(1) حديث: " بني الإسلام على خمس. . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 49 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 45 ط. الحلبي) .
(2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني 2 / 75 ط: دار الكتاب العربي بيروت: 1402 هـ. وانظر الهداية وشروحها (2 / 233 ط: دار إحياء التراث العربي، بيروت) .
(3) حديث: " من صام رمضان إيمانا واحتسابا. . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 255 ط السلفية) .
(4) حديث أبي هريرة " كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان. . . ". أخرجه أحمد (2 / 385 ط الميمنية) والنسائي (4 / 129 - ط المكتبة التجارية) ، وفي إسناده انقطاع، ولكن له طرقا أخرى تقويه.(28/8)
ج - وَعَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا، يُقَال لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُل مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لاَ يَدْخُل مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَال: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لاَ يَدْخُل مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ، فَلَمْ يَدْخُل مِنْهُ أَحَدٌ (1) .
د - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَل عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْل أَنْ يُغْفَرَ لَهُ (2) .
حِكْمَةُ الصَّوْمِ:
7 - تَتَجَلَّى حِكْمَةُ الصَّوْمِ فِيمَا يَلِي:
أ - أَنَّ الصَّوْمَ وَسِيلَةٌ إِلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ، إِذْ هُوَ كَفُّ النَّفْسِ عَنِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، وَإِنَّهَا مِنْ أَجَل النِّعَمِ وَأَعْلاَهَا، وَالاِمْتِنَاعُ عَنْهَا زَمَانًا مُعْتَبَرًا يُعَرِّفُ قَدْرَهَا، إِذِ النِّعَمُ مَجْهُولَةٌ، فَإِذَا فُقِدَتْ عُرِفَتْ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى قَضَاءِ حَقِّهَا بِالشُّكْرِ، وَشُكْرُ النِّعَمِ فَرْضٌ عَقْلاً وَشَرْعًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
__________
(1) حديث سهل بن سعد: " إن في الجنة بابا يقال له الريان. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 111 ط السلفية) ومسلم (2 / 808 ط الحلبي) .
(2) حديث: " رغم أنف رجل دخل عليه رمضان. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 550 - ط الحلبي) وقال: حديث حسن.(28/8)
بِقَوْلِهِ فِي آيَةِ الصِّيَامِ: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1)
ب - أَنَّ الصَّوْمَ وَسِيلَةٌ إِلَى التَّقْوَى، لأَِنَّهُ إِذَا انْقَادَتْ نَفْسٌ لِلاِمْتِنَاعِ عَنِ الْحَلاَل طَمَعًا فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَوْفًا مِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ، فَأَوْلَى أَنْ تَنْقَادَ لِلاِمْتِنَاعِ عَنِ الْحَرَامِ، فَكَانَ الصَّوْمُ سَبَبًا لاِتِّقَاءِ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّهُ فَرْضٌ، وَإِلَيْهِ وَقَعَتِ الإِْشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ آيَةِ الصَّوْمِ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2)
ج - أَنَّ فِي الصَّوْمِ قَهْرَ الطَّبْعِ وَكَسْرَ الشَّهْوَةِ، لأَِنَّ النَّفْسَ إِذَا شَبِعَتْ تَمَنَّتِ الشَّهَوَاتِ، وَإِذَا جَاعَتِ امْتَنَعَتْ عَمَّا تَهْوَى، وَلِذَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ (3) فَكَانَ الصَّوْمُ ذَرِيعَةً إِلَى الاِمْتِنَاعِ عَنِ الْمَعَاصِي (4)
د - أَنَّ الصَّوْمَ مُوجِبٌ لِلرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَإِنَّ الصَّائِمَ إِذَا ذَاقَ أَلَمَ الْجُوعِ فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ، ذَكَرَ مَنْ هَذَا حَالُهُ فِي جَمِيعِ
__________
(1) سورة البقرة / 185.
(2) سورة البقرة / 183.
(3) حديث: " يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 112 ط السلفية، ومسلم) (2 / 1018 - 1019 ط الحلبي) من حديث ابن مسعود.
(4) بدائع الصنائع 2 / 75 و 76.(28/9)
الأَْوْقَاتِ، فَتُسَارِعُ إِلَيْهِ الرِّقَّةُ عَلَيْهِ، وَالرَّحْمَةُ بِهِ، بِالإِْحْسَانِ إِلَيْهِ، فَيَنَال بِذَلِكَ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حُسْنِ الْجَزَاءِ
هـ - فِي الصَّوْمِ مُوَافَقَةُ الْفُقَرَاءِ، بِتَحَمُّل مَا يَتَحَمَّلُونَ أَحْيَانًا، وَفِي ذَلِكَ رَفْعُ حَالِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (1) .
و فِي الصَّوْمِ قَهْرٌ لِلشَّيْطَانِ، فَإِنَّ وَسِيلَتَهُ إِلَى الإِْضْلاَل وَالإِْغْوَاءِ - الشَّهَوَاتُ، وَإِنَّمَا تَقْوَى الشَّهَوَاتُ بِالأَْكْل وَالشُّرْبِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي حَدِيثِ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَجْرِيَ مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، فَضَيِّقُوا مَجَارِيَهُ بِالْجُوعِ (2) .
أَنْوَاعُ الصَّوْمِ:
8 - يَنْقَسِمُ الصَّوْمُ إِلَى صَوْمِ عَيْنٍ، وَصَوْمِ دَيْنٍ.
وَصَوْمُ الْعَيْنِ: مَا لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ:
أ - إِمَّا بِتَعْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى، كَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَصَوْمِ التَّطَوُّعِ خَارِجَ رَمَضَانَ، لأَِنَّ خَارِجَ رَمَضَانَ مُتَعَيَّنٌ لِلنَّفْل شَرْعًا.
__________
(1) فتح القدير، من شروح الهداية 2 / 233 ط: دار إحياء التراث العربي. بيروت.
(2) حديث: " إن الشيطان ليجري من ابن آدم. . . ". أخرجه البخاري (4 / 282) ومسلم (4 / 1712) دون قوله " فضيقوا مجاريه بالجوع "، وأشار السبكي في طبقات الشافعية (4 / 149) إلى أن الزيادة لا تعرف.(28/9)
ب - وَإِمَّا بِتَعْيِينِ الْعَبْدِ، كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ (1) .
وَأَمَّا صَوْمُ الدَّيْنِ، فَمَا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، كَصَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَصَوْمِ كَفَّارَةِ الْقَتْل وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ وَالإِْفْطَارِ فِي رَمَضَانَ، وَصَوْمِ مُتْعَةِ الْحَجِّ، وَصَوْمِ فِدْيَةِ الْحَلْقِ، وَصَوْمِ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَصَوْمِ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ عَنِ الْوَقْتِ، وَصَوْمِ الْيَمِينِ، بِأَنْ قَال: وَاللَّهِ لأََصُومَنَّ شَهْرًا (2) .
الصَّوْمُ الْمَفْرُوضُ:
يَنْقَسِمُ الصَّوْمُ الْمَفْرُوضُ مِنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، إِلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهُ مَا هُوَ مُتَتَابِعٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ غَيْرُ مُتَتَابِعٍ، بَل صَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ.
أَوَّلاً: مَا يَجِبُ فِيهِ التَّتَابُعُ، وَيَشْمَل مَا يَلِي:
9 - أ - صَوْمَ رَمَضَانَ، فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِصَوْمِ الشَّهْرِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (3) وَالشَّهْرُ مُتَتَابِعٌ، لِتَتَابُعِ أَيَّامِهِ، فَيَكُونُ صَوْمُهُ مُتَتَابِعًا ضَرُورَةً.
ب - صَوْمَ كَفَّارَةِ الْقَتْل الْخَطَأِ، وَصَوْمَ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالصَّوْمَ الْمَنْذُورَ بِهِ فِي وَقْتٍ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 75.
(2) نفس المرجع 2 / 76.
(3) سورة البقرة / 185.(28/10)
بِعَيْنِهِ، وَصَوْمَ كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَتَابُع) (1) .
ثَانِيًا: مَا لاَ يَجِبُ فِيهِ التَّتَابُعُ، وَيَشْمَل مَا يَلِي:
10 - أ - قَضَاءَ رَمَضَانَ، فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ التَّتَابُعِ فِيهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (2) فَإِنَّهُ ذَكَرَ الصَّوْمَ مُطْلَقًا عَنِ التَّتَابُعِ.
وَيُرْوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ: عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَعَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: " إِنْ شَاءَ تَابَعَ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ وَلَوْ كَانَ التَّتَابُعُ شَرْطًا، لَمَا احْتَمَل الْخَفَاءَ عَلَى هَؤُلاَءِ الصَّحَابَةِ، وَلَمَا احْتَمَل مُخَالَفَتَهُمْ إِيَّاهُ (3) .
وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ هُوَ: نَدْبُ التَّتَابُعِ أَوِ اسْتِحْبَابُهُ لِلْمُسَارَعَةِ إِلَى إِسْقَاطِ الْفَرْضِ (4)
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ تَتَابُعَهُ لأَِنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الأَْدَاءِ، وَالأَْدَاءُ وَجَبَ مُتَتَابِعًا، فَكَذَا الْقَضَاءُ.
ب - الصَّوْمَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَفِي تَتَابُعِهِ خِلاَفٌ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَتَابُع) .
__________
(1) انظر الموسوعة الفقهية (جـ 10 / ف 3، 4) .
(2) سورة البقرة / 184، وانظر أحكام القرآن للجصاص جـ 1 ص 208.
(3) البدائع 2 / 76، وانظر القوانين الفقهية: 82.
(4) جواهر الإكليل 1 / 146، وحاشية القليوبي على شرح المحلي على المنهاج (2 / 64 ط: دار إحياء الكتب العربية، لعيسى البابي الحلبي) والروض المربع (1 / 144 ط: دار الكتب العلمية، بيروت) . وتبيين الحقائق 1 / 336.(28/10)
ج - صَوْمَ الْمُتْعَةِ فِي الْحَجِّ، وَصَوْمَ كَفَّارَةِ الْحَلْقِ، وَصَوْمَ جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَصَوْمَ النَّذْرِ الْمُطْلَقِ، وَصَوْمَ الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ. قَال اللَّهُ - عَزَّ وَجَل - فِي صَوْمِ الْمُتْعَةِ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (1) . . .
وَقَال فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (2) . . . .
وَقَال فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: {أَوْ عَدْل ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَال أَمْرِهِ} (3) فَذَكَرَ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الآْيَاتِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّتَابُعِ (4) .
وَكَذَا: النَّاذِرُ، وَالْحَالِفُ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ، وَالْيَمِينُ الْمُطْلَقَةُ، ذَكَرَ الصَّوْمَ فِيهَا مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ التَّتَابُعِ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَذْر، وَأَيْمَان) .
الصَّوْمُ الْمُخْتَلَفُ فِي وُجُوبِهِ، وَيَشْمَل مَا يَلِي:
الأَْوَّل وَهُوَ: قَضَاءُ مَا أَفْسَدَهُ مِنْ صَوْمِ النَّفْل
__________
(1) سورة البقرة / 196.
(2) سورة البقرة / 196.
(3) سورة المائدة / 95.
(4) البدائع 2 / 76، وانظر حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح / 350، وجواهر الإكليل 1 / 146.(28/11)
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ قَضَاءَ نَفْل الصَّوْمِ إِذَا أَفْسَدَهُ وَاجِبٌ، وَاسْتَدَل لَهُ الْحَنَفِيَّةُ: بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ صَائِمَتَيْنِ، فَعُرِضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ. فَجَاءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَدَرَتْنِي إِلَيْهِ حَفْصَةُ - وَكَانَتِ ابْنَةَ أَبِيهَا - فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا صَائِمَتَيْنِ فَعُرِضَ لَنَا طَعَامٌ اشْتَهَيْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ، قَال: اقْضِيَا يَوْمًا آخَرَ مَكَانَهُ (1) .
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ خَرَجَ يَوْمًا عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَال: " إِنِّي أَصْبَحْتُ صَائِمًا، فَمَرَّتْ بِي جَارِيَةٌ لِي، فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا، فَمَا تَرَوْنَ؟ فَقَال عَلِيٌّ: أَصَبْتَ حَلاَلاً، وَتَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ، كَمَا قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَال عُمَرُ: أَنْتَ أَحْسَنُهُمْ فُتْيَا (2) .
وَلأَِنَّ مَا أَتَى بِهِ قُرْبَةً، فَيَجِبُ صِيَانَتُهُ وَحِفْظُهُ عَنِ الْبُطْلاَنِ، وَقَضَاؤُهُ عِنْدَ الإِْفْسَادِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (3) وَلاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِتْيَانِ الْبَاقِي، فَيَجِبُ إِتْمَامُهُ وَقَضَاؤُهُ عِنْدَ الإِْفْسَادِ ضَرُورَةً، فَصَارَ كَالْحَجِّ
__________
(1) حديث عائشة: " كنت أنا وحفصة صائمتين. . . ". أخرجه الترمذي 3 / 103، وصوب إرساله.
(2) تبيين الحقائق 1 / 338.
(3) سورة محمد / 33.(28/11)
وَالْعُمْرَةِ الْمُتَطَوَّعَيْنِ (1) .
وَالْحَنَفِيَّةُ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ إِذَا فَسَدَ صَوْمُ النَّافِلَةِ عَنْ قَصْدٍ، أَوْ غَيْرِ قَصْدٍ بِأَنْ عَرَضَ الْحَيْضُ لِلصَّائِمَةِ الْمُتَطَوِّعَةِ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الإِْفْسَادِ نَفْسِهِ، هَل يُبَاحُ أَوْ لاَ؟ فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، أَنَّهُ لاَ يُبَاحُ إِلاَّ بِعُذْرٍ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، هِيَ رِوَايَةُ الْمُنْتَقَى: يُبَاحُ بِلاَ عُذْرٍ، وَاسْتَوْجَهَهَا الْكَمَال إِذْ قَال: وَاعْتِقَادِي أَنَّ رِوَايَةَ الْمُنْتَقَى أَوْجَهُ (2) لَكِنْ قُيِّدَتْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مِنْ نِيَّتِهِ الْقَضَاءُ (3) .
وَاخْتَلَفُوا - عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - هَل الضِّيَافَةُ عُذْرٌ أَوْ لاَ؟ .
قَال فِي الدُّرِّ: وَالضِّيَافَةُ عُذْرٌ، إِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مِمَّنْ لاَ يَرْضَى بِمُجَرَّدِ حُضُورِهِ، وَيَتَأَذَّى بِتَرْكِ الإِْفْطَارِ، فَيُفْطِرُ، وَإِلاَّ لاَ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ، حَتَّى لَوْ حَلَفَ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِالطَّلاَقِ الثَّلاَثِ، أَفْطَرَ وَلَوْ كَانَ صَوْمُهُ قَضَاءً، وَلاَ يُحَنِّثُهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ.
وَقِيل: إِنْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ يَرْضَى بِمُجَرَّدِ حُضُورِهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُل، لاَ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ. وَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى بِذَلِكَ يُفْطِرُ.
وَهَذَا إِذَا كَانَ قَبْل الزَّوَال، أَمَّا بَعْدَهُ فَلاَ،
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 338، والهداية وشروحها 2 / 280، وانظر الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي 1 / 527.
(2) فتح القدير شرح الهداية 2 / 280.
(3) الدر المختار 2 / 121.(28/12)
إِلاَّ لأَِحَدِ أَبَوَيْهِ إِلَى الْعَصْرِ، لاَ بَعْدَهُ (1) . - وَالْمَالِكِيَّةُ أَوْجَبُوا الْقَضَاءَ بِالْفِطْرِ الْعَمْدِ الْحَرَامِ، احْتِرَازًا عَنِ الْفِطْرِ نِسْيَانًا أَوْ إِكْرَاهًا، أَوْ بِسَبَبِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، أَوْ خَوْفِ مَرَضٍ أَوْ زِيَادَتِهِ، أَوْ شِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ، حَتَّى لَوْ أَفْطَرَ لِحَلِفِ شَخْصٍ عَلَيْهِ بِطَلاَقٍ بَاتٍّ، فَلاَ يَجُوزُ الْفِطْرُ، وَإِنْ أَفْطَرَ قَضَى.
وَاسْتَثْنَوْا مَا إِذَا كَانَ لِفِطْرِهِ وَجْهٌ: - كَأَنْ حَلَفَ بِطَلاَقِهَا، وَيَخْشَى أَنْ لاَ يَتْرُكَهَا إِنْ حَنِثَ، فَيَجُوزُ الْفِطْرُ وَلاَ قَضَاءَ.
- أَوْ أَنْ يَأْمُرَهُ أَبُوهُ أَوْ أُمُّهُ بِالْفِطْرِ، حَنَانًا وَإِشْفَاقًا عَلَيْهِ مِنْ إِدَامَةِ الصَّوْمِ، فَيَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ.
- أَوْ يَأْمُرُهُ أُسْتَاذُهُ أَوْ مُرَبِّيهِ بِالإِْفْطَارِ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْوَالِدَانِ أَوِ الشَّيْخُ (2) .
12 - وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لاَ يُوجِبُونَ إِتْمَامَ نَافِلَةِ الصَّوْمِ، وَلاَ يُوجِبُونَ قَضَاءَهَا إِنْ فَسَدَتْ، وَذَلِكَ: - لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا يَا رَسُول اللَّهِ، أُهْدِيَ إِلَيْنَا حَيْسٌ (3) فَقَال: أَرِنِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا. فَأَكَل وَزَادَ النَّسَائِيُّ: إِنَّمَا مِثْل صَوْمِ الْمُتَطَوِّعِ مِثْل الرَّجُل
__________
(1) نفس المرجع 2 / 121 و 122.
(2) انظر الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي 1 / 527.
(3) جواهر الإكليل شرح مختصر سيدي خليل، للأبي (1 / 150 ط: دار المعرفة بيروت) . الحيس: تمر مخلوط بسمن وأقط.(28/12)
يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ الصَّدَقَةَ، فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهَا (1) .
وَلِحَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَيْهَا، فَدَعَا بِشَرَابٍ فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَهَا فَشَرِبَتْ، فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ، أَمَا إِنِّي كُنْتُ صَائِمَةً، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِينُ نَفْسِهِ، إِنْ شَاءَ صَامَ، وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَفِي رِوَايَةٍ: أَمِيرُ نَفْسِهِ (2) .
وَلِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: صَنَعْتُ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا، فَأَتَانِي هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمَّا وُضِعَ الطَّعَامُ قَال رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ، وَتَكَلَّفَ لَكُمْ. ثُمَّ قَال لَهُ: أَفْطِرْ، وَصُمْ مَكَانَهُ يَوْمًا إِنْ شِئْتَ (3) .
وَلأَِنَّ الْقَضَاءَ يَتْبَعُ الْمَقْضِيَّ عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ
__________
(1) حديث عائشة: " يا رسول الله! أهدي لنا حيس ". أخرجه مسلم (2 / 809 ط الحلبي) وزيادة النسائي في سننه (4 / 193، 194) .
(2) حديث أم هانئ: " الصائم المتطوع أمين نفسه. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 100) والبيهقي (4 / 276) وقال ابن التركماني في هامش السنن للبيهقي (4 / 278) : هذا الحديث مضطرب إسنادا ومتنا.
(3) حديث أبي سعيد: " صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما. . . ". أخرجه البيهقي (4 / 279 - ط دائرة المعارف العثمانية) وحسن ابن حجر إسناده في الفتح (4 / 210 ط السلفية) .(28/13)
وَاجِبًا، لَمْ يَكُنِ الْقَضَاءُ وَاجِبًا، بَل يُسْتَحَبُّ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي نَافِلَةِ صَوْمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الإِْتْمَامُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ، وَلاَ كَرَاهَةَ وَلاَ قَضَاءَ فِي قَطْعِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ مَعَ الْعُذْرِ (2) .
أَمَّا مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ فَيُكْرَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (3) وَمِنَ الْعُذْرِ أَنْ يَعِزَّ عَلَى مَنْ ضَيَّفَهُ امْتِنَاعُهُ مِنَ الأَْكْل.
وَإِذَا أَفْطَرَ فَإِنَّهُ لاَ يُثَابُ عَلَى مَا مَضَى إِنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَإِلاَّ أُثِيبَ (4) .
الثَّانِي: صَوْمُ الاِعْتِكَافِ، وَفِيهِ خِلاَفٌ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (اعْتِكَاف ج 5 ف 17) .
صَوْمُ التَّطَوُّعِ:
13 - وَهُوَ:
1 - صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ.
2 - صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ.
__________
(1) كشاف القناع عن متن الإقناع، للبهوتي (2 / 343 ط: مكتبة النصر. الرياض) .
(2) شرح المحلي وحاشية القليوبي عليه (2 / 74، والروض المربع 1 / 146) .
(3) سورة محمد / 33.
(4) شرح المنهج وحاشية الجمل عليه (2 / 353، وروضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي 2 / 386 ط: المكتب الإسلامي. بيروت) .(28/13)
3 - صَوْمُ يَوْمِ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ مِنْ كُل أُسْبُوعٍ.
4 - صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُل شَهْرٍ، وَهِيَ الأَْيَّامُ الْبِيضُ.
5 - صِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ.
6 - صَوْمُ شَهْرِ شَعْبَانَ.
7 - صَوْمُ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ.
8 - صَوْمُ شَهْرِ رَجَبٍ.
9 - صِيَامُ مَا ثَبَتَ طَلَبُهُ وَالْوَعْدُ عَلَيْهِ فِي السُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ.
وَتَفْصِيل أَحْكَامِ هَذَا الصَّوْمِ فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْمُ التَّطَوُّعِ)
الصَّوْمُ الْمَكْرُوهُ، وَيَشْمَل مَا يَلِي:
أ - إِفْرَادَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصَّوْمِ:
14 - نَصَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ الْجُمْهُورُ (1) ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لاَ تَصُومُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِلاَّ وَقَبْلَهُ يَوْمٌ، أَوْ بَعْدَهُ يَوْمٌ (2) ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمُ
__________
(1) مراقي الفلاح / 351، والقوانين الفقهية (78) وروضة الطالبين 2 / 387، والروض المربع 1 / 145، وكشاف القناع 2 / 340.
(2) حديث أبي هريرة: " لا تصوموا يوم الجمعة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 232 ط السلفية) ومسلم (2 / 801 ط الحلبي) وأحمد (2 / 495) ، واللفظ لأحمد.(28/14)
عِيدٍ، فَلاَ تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ، إِلاَّ أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ (1) .
وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَصُومُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ (2) .
وَذُكِرَ فِي الْخَانِيَّةِ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِصَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهُ وَلاَ يُفْطِرُ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِـ (لاَ بَأْسَ) الاِسْتِحْبَابُ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَصْكَفِيُّ بِنَدْبِ صَوْمِهِ، وَلَوْ مُنْفَرِدًا (3) . وَكَذَا الدَّرْدِيرُ صَرَّحَ بِنَدْبِ صَوْمِهِ وَحْدَهُ فَقَطْ، لاَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَال: فَإِنْ ضَمَّ إِلَيْهِ آخَرَ فَلاَ خِلاَفَ فِي نَدْبِهِ (4) .
وَقَال الطَّحْطَاوِيُّ: ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ طَلَبُ صَوْمِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ، وَالأَْخِيرُ مِنْهُمَا: النَّهْيُ (5) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: جَاءَ حَدِيثٌ فِي كَرَاهَةِ
__________
(1) حديث: " إن يوم الجمعة يوم عيد. . . ". أخرجه أحمد (2 / 303) والحاكم (1 / 437) واللفظ لأحمد، وأعله الذهبي بجهالة راو فيه.
(2) حديث ابن عباس: " لا تصوموا يوم الجمعة وحده. . . ". أخرجه أحمد (1 / 199) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 199 - ط. القدسي) وقال: فيه الحسين بن عبد الله بن عبيد الله وثقه ابن معين وضعفه الأئمة
(3) الدر المختار 2 / 83.
(4) الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي 1 / 534.
(5) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح (351) ورد المحتار 2 / 83.(28/14)
صَوْمِهِ، إِلاَّ أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، فَكَانَ الاِحْتِيَاطُ فِي أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ يَوْمًا آخَرَ (1) .
قَال الشَّوْكَانِيُّ: فَمُطْلَقُ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِهِ مُقَيَّدٌ بِالإِْفْرَادِ (2) .
وَتَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ بِضَمِّ يَوْمٍ آخَرَ إِلَيْهِ، لِحَدِيثِ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهِيَ صَائِمَةٌ، فَقَال: أَصُمْتِ أَمْسِ؟ قَالَتْ: لاَ. قَال: تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟ قَالَتْ: لاَ. قَال: فَأَفْطِرِي (3) .
ب - صَوْمُ يَوْمِ السَّبْتِ وَحْدَهُ خُصُوصًا:
15 - وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى كَرَاهَتِهِ (4) ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، عَنْ أُخْتِهِ، وَاسْمُهَا الصَّمَّاءُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلاَّ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلاَّ لِحَاءَ عِنَبَةٍ أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ (5) .
وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ، فَفِي إِفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ تَشَبُّهٌ بِهِمْ، إِلاَّ أَنْ يُوَافِقَ صَوْمُهُ
__________
(1) المصدران السابقات في الموضع نفسه.
(2) نيل الأوطار 4 / 250، 251.
(3) حديث جويرية: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 232 ط. السلفية) .
(4) مراقي الفلاح 351 والقوانين الفقهية 78، وروضة الطالبين 2 / 387، وكشاف القناع 2 / 341.
(5) حديث أخت عبد الله بن بسر: " لا تصوموا يوم السبت. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 111) وحسنه.(28/15)
بِخُصُوصِهِ يَوْمًا اعْتَادَ صَوْمَهُ، كَيَوْمِ عَرَفَةَ أَوْ عَاشُورَاءَ (1) .
ج - صَوْمُ يَوْمِ الأَْحَدِ بِخُصُوصِهِ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَعَمُّدَ صَوْمِ يَوْمِ الأَْحَدِ بِخُصُوصِهِ مَكْرُوهٌ، إِلاَّ إِذَا وَافَقَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ صَوْمَ السَّبْتِ وَالأَْحَدِ مَعًا لَيْسَ فِيهِ تَشَبُّهٌ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لأَِنَّهُ لَمْ تَتَّفِقْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ عَلَى تَعْظِيمِهِمَا، كَمَا لَوْ صَامَ الأَْحَدَ مَعَ الاِثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ تَزُول الْكَرَاهَةُ (2) ، وَيُسْتَظْهَرُ مِنْ نَصِّ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ صِيَامُ كُل عِيدٍ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْ يَوْمٍ يُفْرِدُونَهُ بِالتَّعْظِيمِ إِلاَّ أَنْ يُوَافِقَ عَادَةً لِلصَّائِمِ.
د - إِفْرَادُ يَوْمِ النَّيْرُوزِ بِالصَّوْمِ:
17 - يُكْرَهُ إِفْرَادُ يَوْمِ النَّيْرُوزِ، وَيَوْمِ الْمِهْرَجَانِ بِالصَّوْمِ (3) ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُمَا يَوْمَانِ يُعَظِّمُهُمَا الْكُفَّارُ، وَهُمَا عِيدَانِ لِلْفُرْسِ، فَيَكُونُ تَخْصِيصُهُمَا بِالصَّوْمِ - دُونَ غَيْرِهِمَا - مُوَافَقَةً لَهُمْ فِي تَعْظِيمِهِمَا، فَكُرِهَ، كَيَوْمِ السَّبْتِ.
وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا كُل عِيدٍ لِلْكُفَّارِ، أَوْ يَوْمٍ
__________
(1) انظر كشاف القناع 2 / 341، والمغني 2 / 99.
(2) رد المحتار 2 / 84، وانظر الإقناع وحاشية البجيرمي عليه 2 / 352، وكشاف القناع 2 / 341.
(3) النيروز يوم في طرف الربيع، والمهرجان يوم في طرف الخريف انظر (مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه 351) .(28/15)
يُفْرِدُونَهُ بِالتَّعْظِيمِ (1) وَنَصَّ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى أَنَّ الصَّائِمَ إِذَا قَصَدَ بِصَوْمِهِ التَّشَبُّهَ، كَانَتِ الْكَرَاهَةُ تَحْرِيمِيَّةً (2) .
هـ - صَوْمُ الْوِصَال:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ) إِلَى كَرَاهَةِ صَوْمِ الْوِصَال، وَهُوَ: أَنْ لاَ يُفْطِرَ بَعْدَ الْغُرُوبِ أَصْلاً، حَتَّى يَتَّصِل صَوْمُ الْغَدِ بِالأَْمْسِ، فَلاَ يُفْطِرُ بَيْنَ يَوْمَيْنِ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنْ يَصُومَ السَّنَةَ وَلاَ يُفْطِرَ فِي الأَْيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ (3) .
وَإِنَّمَا كُرِهَ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَال: وَاصَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ، فَوَاصَل النَّاسُ. . فَنَهَاهُمْ، قِيل لَهُ: إِنَّكَ تُوَاصِل، قَال: إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى (4) .
وَالنَّهْيُ وَقَعَ رِفْقًا وَرَحْمَةً، وَلِهَذَا وَاصَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَزُول الْكَرَاهَةُ بِأَكْل تَمْرَةٍ وَنَحْوِهَا، وَكَذَا بِمُجَرَّدِ الشُّرْبِ لاِنْتِفَاءِ الْوِصَال.
وَلاَ يُكْرَهُ الْوِصَال إِلَى السَّحَرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) المغني 2 / 99، والروض المربع 1 / 146.
(2) رد المحتار 2 / 84.
(3) نفس المرجع.
(4) حديث ابن عمر: " واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 202 ط. السلفية) ومسلم (2 / 774) واللفظ لمسلم.(28/16)
- مَرْفُوعًا: فَأَيُّكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوَاصِل، فَلْيُوَاصِل حَتَّى السَّحَرِ (1) وَلَكِنَّهُ تَرَكَ سُنَّةً، وَهِيَ تَعْجِيل الْفِطْرِ، فَتَرْكُ ذَلِكَ أَوْلَى مُحَافَظَةً عَلَى السُّنَّةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ: الأَْوَّل وَهُوَ الصَّحِيحُ: بِأَنَّ الْوِصَال مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالثَّانِي: يُكْرَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ (2) .
و صَوْمُ الدَّهْرِ (صَوْمُ الْعُمُرِ) :
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ) عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ إِلَى كَرَاهَةِ صَوْمِ الدَّهْرِ، وَعُلِّلَتِ الْكَرَاهَةُ بِأَنَّهُ يُضْعِفُ الصَّائِمَ عَنِ الْفَرَائِصِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالْكَسْبِ الَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ، أَوْ بِأَنَّهُ يَصِيرُ الصَّوْمُ طَبْعًا لَهُ، وَمَبْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْعَادَةِ (3) .
وَاسْتَدَل لِلْكَرَاهَةِ، بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَامَ مَنْ صَامَ الأَْبَدَ (4) .
__________
(1) حديث أبي سعيد الخدري: " فأيكم إذا أراد أن يواصل. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 202 ط. السلفية) .
(2) مراقي الفلاح ص 351، وشرح الخرشي 2 / 243، وكشاف القناع 2 / 342، وروضة الطالبين 2 / 368.
(3) مراقي الفلاح ص (351) والدر المختار ورد المحتار 2 / 84، والقوانين الفقهية ص 78، وكشاف القناع 2 / 338.
(4) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: " لا صام من صام الأبد ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 221 ط. السلفية) ومسلم (2 / 815 ط. الحلبي) .(28/16)
وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال عُمَرُ: يَا رَسُول اللَّهِ، كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟ قَال: لاَ صَامَ وَلاَ أَفْطَرَ، أَوْ لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ (1) أَيْ: لَمْ يُحَصِّل أَجْرَ الصَّوْمِ لِمُخَالَفَتِهِ، وَلَمْ يُفْطِرْ لأَِنَّهُ أَمْسَكَ.
وَقَال الْغَزَالِيُّ: هُوَ مَسْنُونٌ (2) .
وَقَال الأَْكْثَرُونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ خَافَ مِنْهُ ضَرَرًا، أَوْ فَوَّتَ بِهِ حَقًّا كُرِهَ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَالْمُرَادُ بِصَوْمِ الدَّهْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: سَرْدُ الصَّوْمِ فِي جَمِيعِ الأَْيَّامِ إِلاَّ الأَْيَّامَ الَّتِي لاَ يَصِحُّ صَوْمُهَا، وَهِيَ الْعِيدَانِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ (3) .
الصَّوْمُ الْمُحَرَّمُ:
20 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى تَحْرِيمِ صَوْمِ الأَْيَّامِ التَّالِيَةِ:
أ - صَوْمِ يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ عِيدِ الأَْضْحَى، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ (4) .
__________
(1) حديث أبي قتادة: " قال عمر: يا رسول الله، كيف بمن يصوم الدهر كله؟ . . . ". أخرجه مسلم (2 / 819 ط. الحلبي) .
(2) نيل الأوطار 4 / 255، والوجيز ص 105، وانظر شرح المنهج 2 / 351.
(3) المجموع 6 / 388.
(4) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 351، والبدائع 2 / 78، والقوانين الفقهية ص 78، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 60 و 4 / 290، وكشاف القناع 2 / 342.(28/17)
وَذَلِكَ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْيَّامَ مُنِعَ صَوْمُهَا لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ (1) وَحَدِيثِ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَل - (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الصَّوْمِ فِيهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ، لِمَا فِي صَوْمِهَا مِنَ الإِْعْرَاضِ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْكَرَاهَةُ لَيْسَتْ لِذَاتِ الْيَوْمِ، بَل لِمَعْنًى خَارِجٍ مُجَاوِرٍ، كَالْبَيْعِ عِنْدَ الأَْذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، حَتَّى لَوْ نَذَرَ صَوْمَهَا صَحَّ، وَيُفْطِرُ وُجُوبًا تَحَامِيًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَيَقْضِيهَا إِسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ، وَلَوْ صَامَهَا خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، مَعَ الْحُرْمَةِ (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ صَوْمَهَا لاَ يَصِحُّ فَرْضًا وَلاَ نَفْلاً، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصُومُهَا عَنِ الْفَرْضِ.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: صَوْمَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَنْ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ، وَنَقَل الْمِرْدَاوِيُّ أَنَّهَا الْمَذْهَبُ، لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ
__________
(1) حديث أبي سعيد: " نهى عن صيام يومين. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 239 ط. السلفية) ومسلم (2 / 800 ط. الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) حديث نبيشة الهذلي: " أيام التشريق. . . ". أخرجه مسلم (2 / 800 ط. الحلبي) .
(3) الدر المختار ورد المحتار 2 / 124.(28/17)
وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - لَمْ يُرَخِّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إِلاَّ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ.
وَهَذَا هُوَ الْقَدِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالأَْصَحُّ الَّذِي اخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ مَا فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ عَدَمُ صِحَّةِ الصَّوْمِ فِيهَا مُطْلَقًا (1) .
قَال الْغَزَالِيُّ: وَأَمَّا صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ، فَقَطَعَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِبُطْلاَنِهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَظْهَرِ انْصِرَافُ النَّهْيِ عَنْ عَيْنِهِ وَوَصْفِهِ، وَلَمْ يَرْتَضِ قَوْلَهُمْ: إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ بِالأَْكْل (2) .
ب - وَيَحْرُمُ صِيَامُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَصِيَامُ مَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلاَكَ بِصَوْمِهِ (3) .
ثُبُوتُ هِلاَل شَهْرِ رَمَضَانَ:
21 - يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِإِكْمَال شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا اتِّفَاقًا، أَوْ رُؤْيَةِ الْهِلاَل لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ، وَفِي ثُبُوتِ الرُّؤْيَةِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رُؤْيَة) ف 2 (وَرَمَضَان) ف 2
صَوْمُ مَنْ رَأَى الْهِلاَل وَحْدَهُ:
22 - مَنْ رَأَى هِلاَل رَمَضَانَ وَحْدَهُ، وَرُدَّتْ
__________
(1) انظر القوانين الفقهية ص (78) ، والمجموع شرح المهذب للنووي 6 / 444، 445 ط دار الفكر، وكشاف القناع 2 / 342، والمغني 2 / 97، والإنصاف 2 / 351 و 352.
(2) المستصفى 1 / 81 ط دار الكتب العلمية. بيروت.
(3) القوانين الفقهية ص 78.(28/18)
شَهَادَتُهُ، لَزِمَهُ الصَّوْمُ وُجُوبًا، عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ لِلآْيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (1) . وَلِحَدِيثِ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ (2) . . . وَحَدِيثِ: الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ (3) .
وَلأَِنَّهُ تَيَقَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَلَزِمَهُ صَوْمُهُ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ يَصُومُ إِلاَّ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ.
وَقِيل: يَصُومُ نَدْبًا احْتِيَاطًا، كَمَا ذَكَرَهُ الْكَاسَانِيُّ (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَإِذَا اعْتَقَدَ عَدَمَ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ كَغَيْرِهِ لِجَهْلِهِ فَقَوْلاَنِ عِنْدَهُمْ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْعِيَانِ بَيَانٌ، أَوْ عَدَمَ وُجُوبِ
__________
(1) سورة البقرة / 185.
(2) حديث: " صوموا لرؤيته ". أخرجه البخاري (4 / 119) ومسلم (2 / 762) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " الصوم يوم تصومون. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 71) من حديث أبي هريرة وقال: حديث حسن غريب.
(4) انظر البدائع 2 / 81، والدر المختار ورد المحتار 2 / 90 والمغني 3 / 10 و 11.(28/18)
الْكَفَّارَةِ، بِسَبَبِ عَدَمِ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى غَيْرِهِ (1) .
23 - وَإِنْ رَأَى هِلاَل شَوَّالٍ وَحْدَهُ، لَمْ يُفْطِرْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خَوْفَ التُّهْمَةِ وَسَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَقِيل: يُفْطِرُ إِنْ خَفِيَ لَهُ ذَلِكَ، وَقَال أَشْهَبُ: يَنْوِي الْفِطْرَ بِقَلْبِهِ. وَعَلَى الْمَذْهَبِ، وَقَوْل الْجُمْهُورِ الَّذِينَ مِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ - إِنْ أَفْطَرَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ عُثِرَ عَلَيْهِ عُوقِبَ إِنِ اتُّهِمَ، وَلاَ كَفَّارَةَ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، لِشُبْهَةِ الرَّدِّ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، لأَِنَّهُ تَيَقَّنَ مِنْ شَوَّالٍ، فَجَازَ لَهُ الأَْكْل كَمَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ، لَكِنْ يُفْطِرُ سِرًّا، بِحَيْثُ لاَ يَرَاهُ أَحَدٌ، لأَِنَّهُ إِذَا أَظْهَرَ الْفِطْرَ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ، وَعُقُوبَةِ السُّلْطَانِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَفْطَرَ مَنْ رَأَى الْهِلاَل وَحْدَهُ فِي الْوَقْتَيْنِ: رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ قَضَى وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ فِي رَمَضَانَ، صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا، وَلَوْ كَانَ فِطْرُهُ قَبْلَمَا رَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ الرَّاجِحِ، لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ، لأَِنَّ مَا رَآهُ يَحْتَمِل أَنْ
__________
(1) القوانين الفقهية ص 79، وجواهر الإكليل 1 / 144 و 145.
(2) مراقي الفلاح ص 357، والدر المختار 2 / 90، والمغني 3 / 11، والقوانين الفقهية ص 79.
(3) المجموع 6 / 276، والمغني والشرح الكبير 3 / 11.(28/19)
يَكُونَ خَيَالاً، لاَ هِلاَلاً - كَمَا يَقُول الْحَصْكَفِيُّ -
وَقِيل: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِيهِمَا - أَيْ فِي الْفِطْرِ وَفِي رَمَضَانَ - وَذَلِكَ لِلظَّاهِرِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْفِطْرِ، وَلِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهُ فِي رَمَضَانَ (1) .
رُكْنُ الصَّوْمِ:
24 - رُكْنُ الصَّوْمِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: الإِْمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ (2) ، وَذَلِكَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ، حَتَّى غُرُوبِ الشَّمْسِ.
وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَْسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} (3) .
وَالْمُرَادُ مِنَ النَّصِّ: بَيَاضُ النَّهَارِ وَظُلْمَةُ اللَّيْل، لاَ حَقِيقَةُ الْخَيْطَيْنِ، فَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْجُمْلَةَ مِنَ الْمُفْطِرَاتِ لَيَالِيَ الصِّيَامِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالإِْمْسَاكِ عَنْهُنَّ فِي النَّهَارِ، فَدَل عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الصَّوْمِ وَقِوَامَهُ هُوَ ذَلِكَ الإِْمْسَاكُ (4) .
شُرُوطُ وُجُوبِ الصَّوْمِ:
25 - شُرُوطُ وُجُوبِ الصَّوْمِ، أَيِ: اشْتِغَال
__________
(1) مراقي الفلاح ص 357، والدر المختار ورد المحتار 2 / 90.
(2) مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح ص 349، والبدائع 2 / 90، والشرح الكبير للدردير 1 / 509، والقوانين الفقهية ص 78، وشرح المنهج بحاشية الجمل 2 / 310، وشرح المحلي وحاشية القليوبي عليه 2 / 52، والمغني والشرح الكبير 3 / 3.
(3) سورة البقرة / 187.
(4) تحفة الفقهاء للسمرقندي 1 / 537 و 538، والبدائع 2 / 90.(28/19)
الذِّمَّةِ بِالْوَاجِبِ - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ - هِيَ شُرُوطُ افْتِرَاضِهِ وَالْخِطَابِ بِهِ (1) . وَهِيَ:
أ - الإِْسْلاَمُ، وَهُوَ شَرْطٌ عَامٌّ لِلْخِطَابِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.
ب - الْعَقْل، إِذْ لاَ فَائِدَةَ مِنْ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ بِدُونِهِ، فَلاَ يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى مَجْنُونٍ إِلاَّ إِذَا أَثِمَ بِزَوَال عَقْلِهِ، فِي شَرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ بَعْدَ الإِْفَاقَةِ (2) .
وَعَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ بِالإِْفَاقَةِ بَدَلاً مِنَ الْعَقْل، أَيِ الإِْفَاقَةِ مِنَ الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ أَوِ النَّوْمِ، وَهِيَ الْيَقَظَةُ (3) .
ج - الْبُلُوغُ، وَلاَ تَكْلِيفَ إِلاَّ بِهِ، لأَِنَّ الْغَرَضَ مِنَ التَّكْلِيفِ هُوَ الاِمْتِثَال، وَذَلِكَ بِالإِْدْرَاكِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْل - كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الأُْصُول - وَالصِّبَا وَالطُّفُولَةُ عَجْزٌ.
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ الصَّبِيُّ لِسَبْعٍ - كَالصَّلاَةِ - إِنْ أَطَاقَهُ، وَيُضْرَبُ عَلَى تَرْكِهِ لِعَشْرٍ (4) .
وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ أَمْرُهُ بِالصَّوْمِ إِذَا أَطَاقَهُ، وَضَرْبُهُ حِينَئِذٍ إِذَا تَرَكَهُ لِيَعْتَادَهُ، كَالصَّلاَةِ، إِلاَّ أَنَّ الصَّوْمَ أَشَقُّ، فَاعْتُبِرَتْ لَهُ
__________
(1) مراقي الفلاح ص 348.
(2) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع للشربيني 2 / 325.
(3) رد المحتار 2 / 81، والبدائع 2 / 88.
(4) انظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2 / 325.(28/20)
الطَّاقَةُ، لأَِنَّهُ قَدْ يُطِيقُ الصَّلاَةَ مَنْ لاَ يُطِيقُ الصَّوْمَ (1) .
د - الْعِلْمُ بِالْوُجُوبِ، فَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، يَحْصُل لَهُ الْعِلْمُ الْمُوجِبُ، بِإِخْبَارِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ مَسْتُورٍ وَامْرَأَتَيْنِ مَسْتُورَتَيْنِ، أَوْ وَاحِدٍ عَدْلٍ، وَمَنْ كَانَ مُقِيمًا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، يَحْصُل لَهُ الْعِلْمُ بِنَشْأَتِهِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ عُذْرَ لَهُ بِالْجَهْل (2) .
شُرُوطُ وُجُوبِ أَدَائِهِ:
26 - شُرُوطُ وُجُوبِ الأَْدَاءِ الَّذِي هُوَ تَفْرِيغُ ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ عَنِ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ (3) هِيَ:
أ - الصِّحَّةُ وَالسَّلاَمَةُ مِنَ الْمَرَضِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (4) .
ب - الإِْقَامَةُ، لِلآْيَةِ نَفْسِهَا. قَال ابْنُ جُزَيٍّ: وَأَمَّا الصِّحَّةُ وَالإِْقَامَةُ، فَشَرْطَانِ فِي وُجُوبِ الصِّيَامِ، لاَ فِي صِحَّتِهِ، وَلاَ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ يَسْقُطُ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 308، وانظر المغني 3 / 14.
(2) مراقي الفلاح ص 348، والدر المختار ورد المحتار 2 / 80 و 81، وفتح القدير 2 / 234، وانظر القوانين الفقهية ص 77، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2 / 325، وكشاف القناع 2 / 308.
(3) مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه 348، وانظر البدائع 2 / 88.
(4) سورة البقرة 185.(28/20)
عَنِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَيَجِب عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ، إِنْ أَفْطَرَا إِجْمَاعًا، وَيَصِحُّ صَوْمُهُمَا إِنْ صَامَا (1) .
ج - خُلُوُّ الْمَرْأَةِ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، لأَِنَّ الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ لَيْسَتَا أَهْلاً لِلصَّوْمِ، وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا لَمَّا سَأَلَتْهَا مُعَاذَةُ: مَا بَال الْحَائِضِ، تَقْضِي الصَّوْمَ وَلاَ تَقْضِي الصَّلاَةَ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَل، قَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلاَ نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاَةِ (2) .
فَالأَْمْرُ بِالْقَضَاءِ فَرْعُ وُجُوبِ الأَْدَاءِ.
وَالإِْجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى مَنْعِهِمَا مِنَ الصَّوْمِ، وَعَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا (3) .
شُرُوطُ صِحَّةِ الصَّوْمِ:
27 - شَرْطُ صِحَّةِ الصَّوْمِ هِيَ:
أ - الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَقَدْ عَدَّهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ، كَالْكَمَال مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَابْنِ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (4) . وَعَدَّهَا بَعْضُهُمْ مِنْ شُرُوطِ
__________
(1) القوانين الفقهية ص 78.
(2) حديث عائشة لما سألتها معاذة. أخرجه البخاري (الفتح 1 / 421 ط. السلفية) ومسلم (1 / 265 ط. الحلبي) واللفظ لمسلم.
(3) القوانين الفقهية ص 77، ومغني المحتاج 1 / 432.
(4) فتح القدير 2 / 234، والقوانين الفقهية ص 77.(28/21)
وُجُوبِ الأَْدَاءِ، وَشُرُوطِ الصِّحَّةِ مَعًا (1) .
ب - خُلُوُّهُ عَمَّا يُفْسِدُ الصَّوْمَ بِطُرُوِّهِ عَلَيْهِ كَالْجِمَاعِ (2) .
ج - النِّيَّةُ. وَذَلِكَ لأَِنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ عِبَادَةٌ، فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ (3) . وَلِحَدِيثِ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (4) .
وَالإِْمْسَاكُ قَدْ يَكُونُ لِلْعَادَةِ، أَوْ لِعَدَمِ الاِشْتِهَاءِ، أَوْ لِلْمَرَضِ، أَوْ لِلرِّيَاضَةِ، فَلاَ يَتَعَيَّنُ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، كَالْقِيَامِ إِلَى الصَّلاَةِ وَالْحَجِّ.
قَال النَّوَوِيُّ: لاَ يَصِحُّ الصَّوْمُ إِلاَّ بِنِيَّةٍ، وَمَحَلُّهَا الْقَلْبُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ النُّطْقُ بِهَا، بِلاَ خِلاَفٍ (5) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: التَّلَفُّظُ بِهَا سُنَّةٌ (6) .
صِفَةُ النِّيَّةِ:
صِفَةُ النِّيَّةِ أَنْ تَكُونَ جَازِمَةً، مُعَيَّنَةً، مُبَيَّتَةً، مُجَدَّدَةً، عَلَى مَا يَلِي:
28 - أَوَّلاً: الْجَزْمُ، فَقَدِ اشْتُرِطَ فِي نِيَّةِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 509.
(2) مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي 348 و 349.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 520.
(4) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 ط. السلفية) ومسلم (3 / 1515 - 1516 ط. الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب. وانظر الاختيار (1 / 126 ط: دار المعرفة، بيروت) ، وكشاف القناع 2 / 314.
(5) روضة الطالبين 2 / 350.
(6) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 352.(28/21)
الصَّوْمِ؛ قَطْعًا لِلتَّرَدُّدِ، حَتَّى لَوْ نَوَى لَيْلَةَ الشَّكِّ صِيَامَ غَدٍ إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ - لَمْ يُجْزِهِ، وَلاَ يَصِيرُ صَائِمًا لِعَدَمِ الْجَزْمِ، فَصَارَ كَمَا إِذَا نَوَى أَنَّهُ إِنْ وَجَدَ غَدَاءً غَدًا يُفْطِرُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ يَصُومُ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ قَال: إِنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ فَرْضِي، وَإِلاَّ فَهُوَ نَفْلٌ، أَوْ فَأَنَا مُفْطِرٌ، لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ، إِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، لِعَدَمِ جَزْمِهِ بِالنِّيَّةِ.
وَإِنْ قَال ذَلِكَ لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ مِنْ رَمَضَانَ، صَحَّ صَوْمُهُ إِنْ بَانَ مِنْهُ، لأَِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ لَمْ يَثْبُتْ زَوَالُهُ، وَلاَ يَقْدَحُ تَرَدُّدُهُ، لأَِنَّهُ حُكْمُ صَوْمِهِ مَعَ الْجَزْمِ. بِخِلاَفِ مَا إِذَا قَالَهُ لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ مِنْ شَعْبَانَ، لأَِنَّهُ لاَ أَصْل مَعَهُ يَبْنِي عَلَيْهِ، بَل الأَْصْل بَقَاءُ شَعْبَانَ (2) .
29 - ثَانِيًا: التَّعْيِينُ، وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَصَوْمِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، وَلاَ يَكْفِي تَعْيِينُ مُطْلَقِ الصَّوْمِ، وَلاَ تَعْيِينُ صَوْمٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ رَمَضَانَ.
وَكَمَال النِّيَّةِ - كَمَا قَال النَّوَوِيُّ -: أَنْ يَنْوِيَ
__________
(1) الهداية وشروحها 2 / 248، والقوانين الفقهية ص 80 روضة الطالبين 2 / 353، وكشاف القناع 2 / 315.
(2) انظر شرح المحلي على المنهاج 2 / 53 و 54، وكشاف القناع 2 / 315 و 316.(28/22)
صَوْمَ غَدٍ، عَنْ أَدَاءِ فَرْضِ رَمَضَانَ هَذِهِ السَّنَةَ لِلَّهِ تَعَالَى (1) .
وَإِنَّمَا اشْتُرِطَ التَّعْيِينُ فِي ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ مُضَافَةٌ إِلَى وَقْتٍ، فَيَجِبُ التَّعْيِينُ فِي نِيَّتِهَا، كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلأَِنَّ التَّعْيِينَ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ، فَيُجْزِئُ التَّعْيِينُ عَنْ نِيَّةِ الْفَرِيضَةِ فِي الْفَرْضِ، وَالْوُجُوبِ فِي الْوَاجِبِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي التَّعْيِينِ إِلَى تَقْسِيمِ الصِّيَامِ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْقِسْمُ الأَْوَّل: لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ، وَهُوَ: أَدَاءُ رَمَضَانَ، وَالنَّذْرُ الْمُعَيَّنُ زَمَانُهُ، وَكَذَا النَّفَل، فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِمُطْلَقِ نِيَّةِ الصَّوْمِ، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ.
وَذَلِكَ لأَِنَّ رَمَضَانَ مِعْيَارٌ - كَمَا يَقُول الأُْصُولِيُّونَ - وَهُوَ مُضَيَّقٌ، لاَ يَسَعُ غَيْرَهُ مِنْ جِنْسِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ، فَلَمْ يُشْرَعْ فِيهِ صَوْمٌ آخَرُ، فَكَانَ مُتَعَيِّنًا لِلْفَرْضِ، وَالْمُتَعَيِّنُ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينٍ، وَالنَّذْرُ الْمُعَيَّنُ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيُصَابُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَبِأَصْلِهَا، وَبِنِيَّةِ نَفْلٍ، لِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ كَمَا يَقُول الْحَصْكَفِيُّ (3) .
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 350.
(2) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2 / 327، وانظر بداية المجتهد 1 / 342، والقوانين الفقهية ص 79 و 80، وروضة الطالبين 2 / 350، والمغني 3 / 22 وما بعدها.
(3) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2 / 85.(28/22)
وَكُل يَوْمٍ مُعَيَّنٍ لِلنَّفْل - كَمَا سَيَأْتِي - مَا عَدَا رَمَضَانَ، وَالأَْيَّامَ الْمُحَرَّمَ صَوْمُهَا، وَمَا يُعَيِّنُهُ الْمُكَلَّفُ بِنَفْسِهِ، فَكُل ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْيِينِ (1) .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ، وَهُوَ: قَضَاءُ رَمَضَانَ، وَقَضَاءُ مَا أَفْسَدَهُ مِنَ النَّفْل، وَصَوْمُ الْكَفَّارَاتِ بِأَنْوَاعِهَا، وَالنَّذْرُ الْمُطْلَقُ عَنِ التَّقْيِيدِ بِزَمَانٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ، أَمْ كَانَ مُطْلَقًا، لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، فَلَمْ يَتَأَدَّ إِلاَّ بِنِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، قَطْعًا لِلْمُزَاحَمَةِ (2) .
30 - ثَالِثًا - التَّبْيِيتُ: وَهُوَ شَرْطٌ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالتَّبْيِيتُ: إِيقَاعُ النِّيَّةِ فِي اللَّيْل، مَا بَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَلَوْ قَارَنَ الْغُرُوبَ أَوِ الْفَجْرَ أَوْ شَكَّ، لَمْ يَصِحَّ، كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ التَّبْيِيتِ (3) .
وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ، يَصِحُّ لَوْ قَارَنَتِ الْفَجْرَ، كَمَا فِي تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي النِّيَّةِ الْمُقَارَنَةُ لِلْمَنْوِيِّ (4) .
وَيَجُوزُ أَنْ تُقَدَّمَ مِنْ أَوَّل اللَّيْل، وَلاَ تَجُوزُ
__________
(1) مراقي الفلاح ص 352، والهداية بشروحها 2 / 239، والفتاوى الهندية 1 / 195، والدر المختار ورد المحتار 2 / 85.
(2) مراقي الفلاح ص 353، و 354، والاختيار 1 / 127، وتحفة الفقهاء 1 / 534، والفتاوى الهندية 1 / 196.
(3) شرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 52، وحاشية البجيرمي على شرح الإقناع 2 / 326.
(4) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 520 و 521، والقوانين الفقهية ص 80.(28/23)
قَبْل اللَّيْل (1) .
وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْل الْفَجْرِ، فَلاَ صِيَامَ لَهُ (2) .
وَلأَِنَّ صَوْمَ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ، لاَ بُدَّ لَهَا مِنْ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ، فَكَذَا كُل صَوْمِ فَرْضٍ مُعَيَّنٍ.
وَلاَ تُجْزِئُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَيُجْزِئُ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِنِ اتَّفَقَ ذَلِكَ، وَإِنْ رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّهَا لاَ تُجْزِئُ مَعَ الْفَجْرِ، وَكَلاَمُ الْقَرَافِيِّ وَآخَرِينَ يُفِيدُ أَنَّ الأَْصْل كَوْنُهَا مُقَارِنَةً لِلْفَجْرِ، وَرُخِّصَ تَقَدُّمُهَا عَلَيْهِ لِلْمَشَقَّةِ فِي مُقَارَنَتِهَا لَهُ (3) .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي التَّبْيِيتِ النِّصْفُ الآْخَرُ مِنَ اللَّيْل، لإِِطْلاَقِهِ فِي الْحَدِيثِ، وَلأَِنَّ تَخْصِيصَ النِّيَّةِ بِالنِّصْفِ الأَْخِيرِ يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِ الصَّوْمِ، لأَِنَّهُ وَقْتُ النَّوْمِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لاَ يَنْتَبِهُ فِيهِ، وَلاَ يَذْكُرُ الصَّوْمَ، وَالشَّارِعُ إِنَّمَا رَخَّصَ فِي تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى ابْتِدَائِهِ، لِحَرَجِ
__________
(1) القوانين الفقهية ص 80، وانظر شرح الخرشي 2 / 246.
(2) حديث: " من لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له ". أخرجه أبو داود (2 / 823 - 824) ، وأورده ابن حجر في التلخيص (2 / 188) ونقل عن غير واحد من العلماء أنهم أعلوه بالوقف.
(3) جواهر الإكليل 1 / 148، وانظر المغني 3 / 22، 23.(28/23)
اعْتِبَارِهَا عِنْدَهُ، فَلاَ يَخُصُّهَا بِمَحَلٍّ لاَ تَنْدَفِعُ الْمَشَقَّةُ بِتَخْصِيصِهَا بِهِ، وَلأَِنَّ تَخْصِيصَهَا بِالنِّصْفِ الأَْخِيرِ تَحَكُّمٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، بَل تُقَرَّبُ النِّيَّةُ مِنَ الْعِبَادَةِ، لَمَّا تَعَذَّرَ اقْتِرَانُهَا بِهَا.
وَالصَّحِيحُ أَيْضًا: أَنَّهُ لاَ يَضُرُّ الأَْكْل وَالْجِمَاعُ بَعْدَ النِّيَّةِ مَا دَامَ فِي اللَّيْل، لأَِنَّهُ لَمْ يَلْتَبِسْ بِالْعِبَادَةِ، وَقِيل: يَضُرُّ فَتَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِهَا، تَحَرُّزًا عَنْ تَخَلُّل الْمُنَاقِضِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِبَادَةِ، لَمَّا تَعَذَّرَ اقْتِرَانُهَا بِهَا.
وَالصَّحِيحُ أَيْضًا: أَنَّهُ لاَ يَجِبُ التَّجْدِيدُ لَهَا إِذَا نَامَ بَعْدَهَا، ثُمَّ تَنَبَّهَ قَبْل الْفَجْرِ، وَقِيل: يَجِبُ، تَقْرِيبًا لِلنِّيَّةِ مِنَ الْعِبَادَةِ بِقَدْرِ الْوُسْعِ (1) .
وَالْحَنَفِيَّةُ لَمْ يَشْتَرِطُوا التَّبْيِيتَ فِي رَمَضَانَ (2) . وَلَمَّا لَمْ يَشْتَرِطُوا تَبْيِيتَ النِّيَّةِ فِي لَيْل رَمَضَانَ، أَجَازُوا النِّيَّةَ بَعْدَ الْفَجْرِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ أَيْضًا، حَتَّى الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى، فَيَنْوِي قَبْلَهَا لِيَكُونَ الأَْكْثَرُ مَنْوِيًّا، فَيَكُونَ لَهُ حُكْمُ الْكُل، حَتَّى لَوْ نَوَى بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ، لِخُلُوِّ الأَْكْثَرِ عَنِ النِّيَّةِ، تَغْلِيبًا لِلأَْكْثَرِ.
وَالضَّحْوَةُ الْكُبْرَى: نِصْفُ النَّهَارِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى
__________
(1) انظر شرح المحلي على المنهاج مع حاشيتي القليوبي وعميرة 2 / 52، والإقناع بحاشية البجيرمي 2 / 326، والمغني 3 / 24، و 25، وكشاف القناع 2 / 315
(2) الاختيار شرح المختار 1 / 127، والهداية بشروحها 2 / 240 و 241.(28/24)
غُرُوبِ الشَّمْسِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، مِنْهُمْ الْمَوْصِلِيُّ: وَالأَْفْضَل الصَّوْمُ بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مُبَيَّتَةٍ لِلْخُرُوجِ عَنِ الْخِلاَفِ (1) .
وَدَلِيل الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، مِنْ صِحَّةِ النِّيَّةِ حَتَّى الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى، وَعَدَمِ شَرْطِيَّةِ التَّبْيِيتِ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّاسَ أَصْبَحُوا يَوْمَ الشَّكِّ، فَقَدِمَ أَعْرَابِيٌّ، وَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُول اللَّهِ؟ فَقَال: نَعَمْ، فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، يَكْفِي الْمُسْلِمِينَ أَحَدُهُمْ، فَصَامَ وَأَمَرَ بِالصِّيَامِ، وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: أَلاَ مَنْ أَكَل فَلاَ يَأْكُل بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُل فَلْيَصُمْ (2) .
فَقَدْ أَمَرَ بِالصَّوْمِ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي الْقُدْرَةَ عَلَى الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ، وَلَوْ شُرِطَتِ النِّيَّةُ مِنَ اللَّيْل لَمَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَدَل عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهَا (3) .
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا، بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَل غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى
__________
(1) الاختيار 1 / 127، ورد المحتار 2 / 85، وقارن بالمجموع 6 / 301.
(2) حديث ابن عباس: " أن الناس أصبحوا يوم الشك. . . ". الحديث ذكره الموصلي من الحنفية (1 / 126 و 127) ولم يعزه إلى أي مصدر حديثي، ولم نهتد كذلك إلى من أخرجه بهذا اللفظ.
(3) الاختيار 1 / 127.(28/24)
الأَْنْصَارِ: مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيَصُمْ (1) . وَكَانَ صَوْمُ عَاشُورَاءَ وَاجِبًا، ثُمَّ نُسِخَ بِفَرْضِ رَمَضَانَ (2) .
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ تَبْيِيتَ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ وَقَضَاءِ رَمَضَانَ.
31 - أَمَّا النَّفَل فَيَجُوزُ صَوْمُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ - خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ - بِنِيَّةٍ قَبْل الزَّوَال، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: دَخَل عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَال: هَل عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ ، فَقُلْنَا: لاَ، فَقَال: فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ (3) .
وَلأَِنَّ النَّفَل أَخَفُّ مِنَ الْفَرْضِ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُ الْقِيَامِ فِي النَّفْل مَعَ الْقُدْرَةِ، وَلاَ يَجُوزُ فِي الْفَرْضِ.
وَعِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَال، وَالْمَذْهَبُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ: لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّ النِّيَّةَ لَمْ تَصْحَبَ مُعْظَمَ الْعِبَادَةِ (4) .
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 200 ط. السلفية) ومسلم (2 / 798 ط. الحلبي) من حديث الربيع بنت معوذ.
(2) تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 1 / 314، ونظيره في شرح معاني الآثار للطحاوي (2 / 73، 75 ط. دار الكتب العلمية. بيروت) .
(3) حديث عائشة: " دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم. . . ". أخرجه مسلم (2 / 809 ط. الحلبي) .
(4) الهداية وشروحها 2 / 241، والبدائع 2 / 85، والمجموع 6 / 292.(28/25)
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ مُطْلَقًا، فَرْضًا أَوْ نَفْلاً - نِيَّةٌ مُبَيَّتَةٌ (1) ، وَذَلِكَ لإِِطْلاَقِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْل، فَلاَ صِيَامَ لَهُ (2) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ جَوَازُ النِّيَّةِ فِي النَّفْل، قَبْل الزَّوَال وَبَعْدَهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ، وَحَدِيثِ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَأَنَّهُ قَوْل مُعَاذٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا يُخَالِفُهُ صَرِيحًا، وَالنِّيَّةُ وُجِدَتْ فِي جُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ، فَأَشْبَهَ وُجُودَهَا قَبْل الزَّوَال بِلَحْظِهِ (3) .
وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ نِيَّةِ النَّفْل فِي النَّهَارِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنْ لاَ يَكُونَ فَعَل مَا يُفْطِرُهُ قَبْل النِّيَّةِ، فَإِنْ فَعَل فَلاَ يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ، قَال الْبُهُوتِيُّ: بِغَيْرِ خِلاَفٍ نَعْلَمُهُ، قَالَهُ فِي الشَّرْحِ، لَكِنْ خَالَفَ فِيهِ أَبُو زَيْدٍ الشَّافِعِيُّ (4) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ فِي اعْتِبَارِ الثَّوَابِ: مِنْ أَوَّل النَّهَارِ، أَمْ مِنْ وَقْتِ النِّيَّةِ؟ أَصَحُّهُمَا
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 148، وشرح الخرشي 2 / 246، وانظر الهداية وشرح العناية 2 / 241.
(2) حديث: " من لم يجمع الصيام من الليل، فلا صيام له ". تقدم ف / 30.
(3) كشاف القناع 2 / 317.
(4) شرح المحلي 2 / 52 و 53، والإقناع بحاشية البجيرمي 2 / 326، 327، وكشاف القناع 2 / 317.(28/25)
عِنْدَ الأَْكْثَرِينَ: أَنَّهُ صَائِمٌ مِنْ أَوَّل النَّهَارِ، كَمَا إِذَا أَدْرَكَ الإِْمَامَ فِي الرُّكُوعِ، يَكُونُ مُدْرِكًا لِثَوَابِ جَمِيعِ الرَّكْعَةِ، فَعَلَى هَذَا يُشْتَرَطُ جَمِيعُ شُرُوطِ الصَّوْمِ مِنْ أَوَّل النَّهَارِ.
32 - رَابِعًا: تَجْدِيدُ النِّيَّةِ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ فِي كُل يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، مِنَ اللَّيْل أَوْ قَبْل الزَّوَال - عَلَى الْخِلاَفِ السَّابِقِ - وَذَلِكَ لِكَيْ يَتَمَيَّزَ الإِْمْسَاكُ عِبَادَةً عَنِ الإِْمْسَاكِ عَادَةً أَوْ حِمْيَةً (1) .
وَلأَِنَّ كُل يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، لاَ يَرْتَبِطُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَلاَ يَفْسُدُ بِفَسَادِ بَعْضٍ، وَيَتَخَلَّلُهَا مَا يُنَافِيهَا، وَهُوَ اللَّيَالِي الَّتِي يَحِل فِيهَا مَا يُحَرَّمُ فِي النَّهَارِ، فَأَشْبَهَتِ الْقَضَاءَ، بِخِلاَفِ الْحَجِّ وَرَكَعَاتِ الصَّلاَةِ (2) .
وَذَهَبَ زُفَرُ وَمَالِكٌ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - أَنَّهُ تَكْفِي نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ عَنِ الشَّهْرِ كُلِّهِ فِي أَوَّلِهِ، كَالصَّلاَةِ. وَكَذَلِكَ فِي كُل صَوْمٍ مُتَتَابِعٍ، كَكَفَّارَةِ الصَّوْمِ وَالظِّهَارِ، مَا لَمْ يَقْطَعْهُ أَوْ يَكُنْ عَلَى حَالِةِ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ فِيهَا، فَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ النِّيَّةِ، وَذَلِكَ لاِرْتِبَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَعَدَمِ جَوَازِ التَّفْرِيقِ، فَكَفَتْ نِيَّةٌ
__________
(1) انظر الدر المختار ورد المحتار عليه 2 / 87، والمجموع 6 / 302، والإقناع بحاشية البجيرمي عليه 2 / 326، وكشاف القناع 2 / 315.
(2) المصادر السابقة نفسها.(28/26)
وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَبْطُل بِبُطْلاَنِ بَعْضِهَا، كَالصَّلاَةِ (1) .
فَعَلَى ذَلِكَ لَوْ أَفْطَرَ يَوْمًا لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَصِحَّ صِيَامُ الْبَاقِي بِتِلْكَ النِّيَّةِ، كَمَا جَزَمَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَقِيل: يَصِحُّ، وَقَدَّمَهُ بَعْضُهُمْ.
وَيُقَاسُ عَلَى ذَلِكَ النَّذْرُ الْمُعَيَّنُ (2) . وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ قَال ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ -: لاَ بُدَّ فِي الصَّوْمِ الْوَاجِبِ الْمُتَتَابِعِ مِنَ النِّيَّةِ كُل يَوْمٍ، نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ كَالْعِبَادَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ، مِنْ حَيْثُ عَدَمُ فَسَادِ مَا مَضَى مِنْهُ بِفَسَادِ مَا بَعْدَهُ (3) .
بَل رُوِيَ عَنْ زُفَرَ أَنَّ الْمُقِيمَ الصَّحِيحَ، لاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، لأَِنَّ الإِْمْسَاكَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْعَادَةِ وَالْعِبَادَةِ، فَكَانَ مُتَرَدِّدًا بِأَصْلِهِ مُتَعَيِّنًا بِوَصْفِهِ، فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَتَى بِهِ وَقَعَ عَنْهُ (4) .
اسْتِمْرَارُ النِّيَّةِ:
33 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ الدَّوَامَ عَلَى النِّيَّةِ، فَلَوْ نَوَى الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْل ثُمَّ رَجَعَ عَنْ نِيَّتِهِ قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ لاَ يَصِيرُ صَائِمًا.
قَال الطَّحْطَاوِيُّ: وَيُشْتَرَطُ الدَّوَامُ عَلَيْهَا. فَلَوْ نَوَى مِنَ اللَّيْل، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ نِيَّتِهِ قَبْل
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 2 / 87، والقوانين الفقهية ص 80، والشرح الكبير للدردير 1 / 521.
(2) كشاف القناع 2 / 315، والإنصاف 3 / 295.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 1 / 521.
(4) رد المحتار 2 / 87، والتبيين للزيلعي 1 / 315.(28/26)
طُلُوعِ الْفَجْرِ
- صَحَّ رُجُوعُهُ وَلاَ يَصِيرُ صَائِمًا، وَلَوْ أَفْطَرَ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إِلاَّ الْقَضَاءُ، بِانْقِطَاعِ النِّيَّةِ بِالرُّجُوعِ، فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ، لِشُبْهَةِ خِلاَفِ مَنِ اشْتَرَطَ التَّبْيِيتَ، إِلاَّ إِذَا جَدَّدَ النِّيَّةَ، بِأَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ، تَحْصِيلاً لَهَا، لأَِنَّ الأُْولَى غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، بِسَبَبِ الرُّجُوعِ عَنْهَا (1) .
وَلاَ تَبْطُل النِّيَّةُ بِقَوْلِهِ: أَصُومُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لأَِنَّهُ بِمَعْنَى الاِسْتِعَانَةِ، وَطَلَبِ التَّوْفِيقِ وَالتَّيْسِيرِ. وَالْمَشِيئَةُ إِنَّمَا تُبْطِل اللَّفْظَ، وَالنِّيَّةُ فِعْل الْقَلْبِ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَكَذَا سَائِرُ الْعِبَادَاتِ لاَ تَبْطُل بِذِكْرِ الْمَشِيئَةِ فِي نِيَّتِهَا (2) .
وَلاَ تَبْطُل النِّيَّةُ بِأَكْلِهِ أَوْ شُرْبِهِ أَوْ جِمَاعِهِ بَعْدَهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، حُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بُطْلاَنُهَا، وَلَوْ رَجَعَ عَنْ نِيَّتِهِ قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ صَحَّ رُجُوعُهُ (3) .
وَلَوْ نَوَى الإِْفْطَارَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُفْطِرُ، كَمَا لَوْ نَوَى التَّكَلُّمَ فِي صَلاَتِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ، قَال
__________
(1) مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه ص 354، حاشية الدسوقي 1 / 528، الزرقاني 2 / 207، المجموع 6 / 299، كشاف القناع 2 / 316.
(2) مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه ص 354، وكشاف القناع 2 / 316، وانظر المجموع 6 / 398.
(3) راجع الفتاوى الهندية 1 / 195، وروضة الطالبين 2 / 352.(28/27)
الْبَيْجُورِيُّ: وَيَضُرُّ رَفْضُ النِّيَّةِ لَيْلاً، وَلاَ يَضُرُّ نَهَارًا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُفْطِرُ، لأَِنَّهُ قَطَعَ نِيَّةَ الصَّوْمِ بِنِيَّةِ الإِْفْطَارِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهَا ابْتِدَاءً (2) .
الإِْغْمَاءُ وَالْجُنُونُ وَالسُّكْرُ بَعْدَ النِّيَّةِ:
34 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا نَوَى الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْل، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ إِغْمَاءٌ أَوْ جُنُونٌ أَوْ سُكْرٌ:
فَإِنْ لَمْ يُفِقْ إِلاَّ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ صَوْمِهِ، لأَِنَّ الصَّوْمَ هُوَ الإِْمْسَاكُ مَعَ النِّيَّةِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَال اللَّهُ: كُل عَمَل ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي (3) فَأَضَافَ تَرْكَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ مُغْمًى عَلَيْهِ فَلاَ يُضَافُ الإِْمْسَاكُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ صَوْمِهِ، لأَِنَّ نِيَّتَهُ قَدْ صَحَّتْ، وَزَوَال الاِسْتِشْعَارِ بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ، كَالنَّوْمِ.
__________
(1) الدر المختار 2 / 123، ومراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه ص 361، وحاشية البيجوري 1 / 300.
(2) القوانين الفقهية ص 80، وانظر كشاف القناع 2 / 316.
(3) حديث: " قال الله: كل عمل ابن آدم له. . . ". أخرجه البخاري (الفتح / 118 ط. السلفية) ومسلم (2 / 807 ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.(28/27)
أَمَّا إِذَا أَفَاقَ أَثْنَاءَ النَّهَارِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ إِذَا أَفَاقَ قَبْل الزَّوَال، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ صَوْمِهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَفَاقَ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ صَحَّ صَوْمُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي أَوَّلِهِ أَمْ فِي آخِرِهِ.
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ، فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَوْ جُنَّ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ بَطَل صَوْمُهُ، وَقِيل: هُوَ كَالإِْغْمَاءِ.
وَأَمَّا الرِّدَّةُ بَعْدَ نِيَّةِ الصَّوْمِ فَتُبْطِل الصَّوْمَ بِلاَ خِلاَفٍ (1) .
سُنَنُ الصَّوْمِ وَمُسْتَحَبَّاتُهُ:
35 - سُنَنُ الصَّوْمِ وَمُسْتَحَبَّاتُهُ كَثِيرَةٌ، أَهَمُّهَا:
أ - السَّحُورُ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَال: تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً (2) .
ب - تَأْخِيرُ السَّحُورِ، وَتَعْجِيل الْفِطْرِ، وَمِمَّا وَرَدَ فِيهِ حَدِيثُ سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَزَال النَّاسُ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 148، والشرح الكبير للدردير 1 / 520، المغني 3 / 98، والإنصاف 3 / 292 - 293، وحاشية البيجوري على شرح ابن قاسم 1 / 300، والبحر الرائق 2 / 277، الفتاوى الهندية 1 / 196
(2) حديث: " تسحروا، فإن في السحور بركة ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 139) ومسلم (2 / 770) .(28/28)
بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ (1) . وَحَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ. قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الأَْذَانِ وَالسَّحُورِ؟ قَال: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً (2) .
ج - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الإِْفْطَارُ عَلَى رُطَبَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَعَلَى تَمَرَاتٍ، وَفِي هَذَا وَرَدَ حَدِيثُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ قَبْل أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رُطَبَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتُمَيْرَاتٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تُمَيْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ (3) .
وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ، فَإِنَّهُ بَرَكَةٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ، فَإِنَّهُ طَهُورٌ (4) .
__________
(1) حديث: " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 198 ط. السلفية) ومسلم (2 / 771) .
(2) حديث زيد بن ثابت: " تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم. . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 138 ط. السلفية) ومسلم (2 / 771 ط. الحلبي) .
(3) حديث أنس: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 70) وقال: حديث حسن.
(4) حديث سلمان بن عامر: " إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 70) وقال: " حديث حسن صحيح. . ".(28/28)
د - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ عِنْدَ الإِْفْطَارِ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مَرْفُوعًا: إِنَّ لِلصَّائِمِ دَعْوَةً لاَ تُرَدُّ (1) .
وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَفْطَرَ قَال: ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الأَْجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (2) .
وَهُنَاكَ فَضَائِل مِنْ خَصَائِصِ شَهْرِ رَمَضَانَ كَالتَّرَاوِيحِ، وَالإِْكْثَارِ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَالاِعْتِكَافِ، وَغَيْرِهَا تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
36 - وَمِنْ أَهَمِّ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَرَفَّعَ عَنْهُ الصَّائِمُ وَيَحْذَرَهُ: مَا يُحْبِطُ صَوْمَهُ مِنَ الْمَعَاصِي الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَيَصُونَ لِسَانَهُ عَنِ اللَّغْوِ وَالْهَذَيَانِ وَالْكَذِبِ، وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَالْفُحْشِ وَالْجَفَاءِ، وَالْخُصُومَةِ وَالْمِرَاءِ، وَيَكُفَّ جَوَارِحَهُ عَنْ جَمِيعِ الشَّهَوَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ، وَيَشْتَغِل بِالْعِبَادَةِ، وَذِكْرِ اللَّهِ، وَتِلاَوَةِ الْقُرْآنِ وَهَذَا - كَمَا يَقُول الْغَزَالِيُّ: هُوَ سِرُّ الصَّوْمِ (3) وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
__________
(1) حديث: " إن للصائم دعوة لا ترد ". أخرجه ابن ماجه (1 / 557) وفيه راو ذكر الذهبي في الميزان (1 / 194) أن فيه جهالة.
(2) حديث: " كان إذا أفطر قال: ذهب الظمأ. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 765) والدارقطني (2 / 185) وحسن الدراقطني إسناده.
(3) الوجيز 1 / 103.(28/29)
قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَال اللَّهُ تَعَالَى: كُل عَمَل ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يَرْفُثُ وَلاَ يَصْخَبُ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُل: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ (1) ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الصِّيَامُ جُنَّةٌ، مَا لَمْ يَخْرِقْهَا بِكَذِبٍ أَوْ غِيبَةٍ (2) . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْل الزُّورِ، وَالْعَمَل بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ (3) .
مُفْسِدَاتُ الصَّوْمِ:
37 - يَفْسُدُ الصَّوْمُ - بِوَجْهٍ عَامٍّ - كُلَّمَا انْتَفَى شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِهِ، أَوِ اخْتَل أَحَدُ أَرْكَانِهِ، كَالرِّدَّةِ، وَكَطُرُوءِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَكُل مَا يُنَافِيهِ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَنَحْوِهِمَا، وَدُخُول شَيْءٍ مِنْ خَارِجِ الْبَدَنِ إِلَى جَوْفِ الصَّائِمِ.
38 - وَيُشْتَرَطُ فِي فَسَادِ الصَّوْمِ بِمَا يَدْخُل إِلَى
__________
(1) حديث أبي هريرة: " قال الله: كل عمل ابن آدم له. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 118 ط. السلفية) ومسلم (2 / 807 ط. الحلبي) .
(2) حديث: " الصيام جنة ما لم يخرقها ". أورده الهيثمي في المجمع (3 / 171) وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه الربيع بن بدر وهو ضعيف.
(3) حديث أبي هريرة: " من لم يدع قول الزور والعمل به. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 116) .(28/29)
الْجَوْفِ مَا يَلِي: -
أ - أَنْ يَكُونَ الدَّاخِل إِلَى الْجَوْفِ، مِنَ الْمَنَافِذِ الْوَاسِعَةِ - كَمَا قَيَّدَهُ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ (1) - وَالْمَفْتُوحَةِ - كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ (2) - أَيِ: الْمَخَارِقِ الطَّبِيعِيَّةِ الأَْصْلِيَّةِ فِي الْجِسْمِ، وَالَّتِي تُعْتَبَرُ مُوَصِّلَةً لِلْمَادَّةِ مِنَ الْخَارِجِ إِلَى الدَّاخِل، كَالْفَمِ وَالأَْنْفِ وَالأُْذُنِ.
وَقَدِ اسْتُدِل لِذَلِكَ، بِالاِتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مَنِ اغْتَسَل فِي مَاءٍ، فَوَجَدَ بَرْدَهُ فِي بَاطِنِهِ لاَ يُفْطِرُ، وَمَنْ طَلَى بَطْنَهُ بِدُهْنٍ لاَ يَضُرُّ، لأَِنَّ وُصُولَهُ إِلَى الْجَوْفِ بِتَشَرُّبٍ (3) .
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ، بَل اكْتَفَوْا بِتَحَقُّقِ وُصُولِهِ إِلَى الْحَلْقِ وَالْجَوْفِ، وَالدِّمَاغُ جَوْفٌ (4) .
ب - أَنْ يَكُونَ الدَّاخِل إِلَى الْجَوْفِ مِمَّا يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، كَدُخُول الْمَطَرِ وَالثَّلْجِ بِنَفْسِهِ حَلْقَ الصَّائِمِ إِذَا لَمْ يَبْتَلِعْهُ بِصُنْعِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ - كَالذُّبَابِ يَطِيرُ إِلَى الْحَلْقِ، وَغُبَارِ الطَّرِيقِ - لَمْ يُفْطِرْ إِجْمَاعًا (5) .
وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ الْفَسَادُ،
__________
(1) القوانين الفقهية ص 80.
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 56، والإقناع 2 / 328.
(3) رد المحتار على الدر المختار 2 / 98، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 59، والإقناع 2 / 329.
(4) كشاف القناع 2 / 318.
(5) القوانين الفقهية ص 80.(28/30)
لِوُصُول الْمُفْطِرِ إِلَى جَوْفِهِ.
وَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ، أَنَّهُ لاَ يُسْتَطَاعُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ الدُّخَانَ (1) .
وَالْجَوْفُ: هُوَ الْبَاطِنُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُحِيل الْغِذَاءَ وَالدَّوَاءَ، أَيْ يُغَيِّرُهُمَا كَالْبَطْنِ وَالأَْمْعَاءِ، أَمْ كَانَ مِمَّا يُحِيل الدَّوَاءَ فَقَطْ كَبَاطِنِ الرَّأْسِ أَوِ الأُْذُنِ، أَمْ كَانَ مِمَّا لاَ يُحِيل شَيْئًا كَبَاطِنِ الْحَلْقِ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ: جَعَلُوا الْحَلْقَ كَالْجَوْفِ، فِي بُطْلاَنِ الصَّوْمِ بِوُصُول الْوَاصِل إِلَيْهِ، وَقَال الإِْمَامُ: إِذَا جَاوَزَ الشَّيْءُ الْحُلْقُومَ أَفْطَرَ.
قَال: وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا - بَاطِنُ الدِّمَاغِ وَالأَْمْعَاءُ وَالْمَثَانَةُ مِمَّا يُفْطِرُ الْوُصُول إِلَيْهِ (3) .
ج - وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الدَّاخِل إِلَى الْجَوْفِ مُغَذِّيًا، فَيَفْسُدُ الصَّوْمُ بِالدَّاخِل إِلَى الْجَوْفِ، مِمَّا يُغَذِّي أَوْ لاَ يُغَذِّي، كَابْتِلاَعِ التُّرَابِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَتَحْصِيل مَذْهَبِ مَالِكٍ، أَنَّهُ يَجِبُ الإِْمْسَاكُ عَمَّا يَصِل إِلَى الْحَلْقِ، مِنْ أَيِّ الْمَنَافِذِ وَصَل،
__________
(1) الهداية بشروحها 2 / 258، والدر المختار 2 / 97، والمغني 3 / 50.
(2) الإقناع وحاشية البجيرمي عليه 2 / 328.
(3) روضة الطالبين 2 / 356.(28/30)
مُغَذِّيًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُغَذٍّ (1) .
د - وَشُرِطَ كَوْنُ الصَّائِمِ قَاصِدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ، أَمَّا لَوْ كَانَ نَاسِيًا أَنَّهُ صَائِمٌ، فَلاَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَل أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ (2) .
وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْفَرْضُ وَالنَّفَل لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ (3) .
وَخَالَفَ مَالِكٌ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ فِي رَمَضَانَ، فَأَكَل أَوْ شَرِبَ، عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، أَمَّا لَوْ نَسِيَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، فَأَكَل أَوْ شَرِبَ، فَإِنَّهُ يُتِمُّ صَوْمَهُ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ (4) .
هـ - وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ اسْتِقْرَارَ الْمَادَّةِ فِي الْجَوْفِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ الْحَصَاةَ - مَثَلاً - تَشْغَل الْمَعِدَةَ شُغْلاً مَا وَتُنْقِصُ الْجُوعَ (5) .
__________
(1) الاختيار 1 / 132، والإقناع بحاشية البجيرمي 2 / 328، وكشاف القناع 2 / 317، وبداية المجتهد 1 / 339، وانظر القوانين الفقهية ص 80، وجواهر الإكليل 1 / 149.
(2) حديث أبي هريرة: " من نسي وهو صائم فأكل وشرب فليتم صومه. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 155 ط. السلفية) ومسلم (2 / 809 ط. الحلبي) واللفظ لمسلم
(3) الهداية وشروحها 2 / 254، والوجيز 1 / 102، وروضة الطالبين 2 / 356، والمغني 3 / 50 و 51، وكشاف القناع 2 / 320.
(4) القوانين الفقهية ص 83.
(5) جواهر الإكليل 1 / 149، ابن عابدين 2 / 98 - 99.(28/31)
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ اسْتِقْرَارَ الْمَادَّةِ فِي الْجَوْفِ إِذَا كَانَ بِاخْتِيَارِهِ.
وَعَلَى قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: لَوْ لَمْ تَسْتَقِرَّ الْمَادَّةُ، بِأَنْ خَرَجَتْ مِنَ الْجَوْفِ لِسَاعَتِهَا لاَ يَفْسُدُ الصَّوْمُ، كَمَا لَوْ أَصَابَتْهُ سِهَامٌ فَاخْتَرَقَتْ بَطْنَهُ وَنَفَذَتْ مِنْ ظَهْرِهِ، وَلَوْ بَقِيَ النَّصْل فِي جَوْفِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ يَفْسُدُ صَوْمُهُ، قَال الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ كَانَ بَعْضُ السِّكِّينِ خَارِجًا (1) .
و وَشَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الصَّائِمُ مُخْتَارًا فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ، مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ دَوَاءٍ، فَلَوْ أُوجِرَ الْمَاءُ، أَوْ صُبَّ الدَّوَاءُ فِي حَلْقِهِ مُكْرَهًا، لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ عِنْدَهُمْ، لأَِنَّهُ لَمْ يَفْعَل وَلَمْ يَقْصِدْ.
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الإِْفْطَارِ، فَأَكَل أَوْ شَرِبَ، فَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ مَشْهُورَانِ فِي الْفِطْرِ وَعَدَمِهِ.
أَصَحُّهُمَا: عَدَمُ الْفِطْرِ، وَعَلَّلُوا عَدَمَ الإِْفْطَارِ بِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى اخْتِيَارِهِ سَاقِطٌ، لِعَدَمِ وُجُودِ الاِخْتِيَارِ (2) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ قَوْلاً وَاحِدًا، وَهُوَ كَالإِْيجَارِ (3) ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ إِنَّ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 325 و 326، والبدائع 2 / 99 بتصرف، والدر المختار ورد المحتار 2 / 98 و 99، والوجيز 1 / 101.
(2) شرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي عليه 2 / 57 و 58، والإقناع 1 / 329.
(3) الإيجار هو: صب الماء في حلق المريض.(28/31)
اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (1) . فَإِنَّهُ عَامٌّ (2) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الإِْكْرَاهَ عَلَى الإِْفْطَارِ يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَيَسْتَوْجِبُ الْقَضَاءَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُرَادَ مِنْ حَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ رَفْعُ الْحُكْمِ، لِتَصْحِيحِ الْكَلاَمِ اقْتِضَاءً، وَالْمُقْتَضِي لاَ عُمُومَ لَهُ، وَالإِْثْمُ مُرَادٌ إِجْمَاعًا، فَلاَ تَصِحُّ إِرَادَةُ الْحُكْمِ الآْخَرِ - وَهُوَ الدُّنْيَوِيُّ - بِالْفَسَادِ (3) .
مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَيُوجِبُ الْقَضَاءَ:
39 - وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الإِْخْلاَل بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ، وَيُمْكِنُ حَصْرُهُ فِيمَا يَلِي: -
1 - تَنَاوُل مَا لاَ يُؤْكَل فِي الْعَادَةِ.
2 - قَضَاءُ الْوَطَرِ قَاصِرًا.
3 - شُئُونُ الْمُعَالَجَةِ وَالْمُدَاوَاةِ.
4 - التَّقْصِيرُ فِي حِفْظِ الصَّوْمِ وَالْجَهْل بِأَحْكَامِهِ.
5 - الإِْفْطَارُ بِسَبَبِ الْعَوَارِضِ. أَوَّلاً: تَنَاوُل مَا لاَ يُؤْكَل عَادَةً:
__________
(1) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659) والحاكم (2 / 198) من حديث ابن عباس، واللفظ لابن ماجه وصحح الحاكم إسناده ووافقه الذهبي.
(2) كشاف القناع 2 / 320، والروض المربع 1 / 141.
(3) رد المحتار 2 / 102، وانظر البدائع 2 / 96.(28/32)
40 - تَنَاوُل مَا لاَ يُؤْكَل عَادَةً كَالتُّرَابِ وَالْحَصَى، وَالدَّقِيقِ غَيْرِ الْمَخْلُوطِ - عَلَى الصَّحِيحِ - وَالْحُبُوبِ النِّيئَةِ، كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَالْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ، وَالثِّمَارِ الْفِجَّةِ الَّتِي لاَ تُؤْكَل قَبْل النُّضْجِ، كَالسَّفَرْجَل وَالْجَوْزِ، وَكَذَا تَنَاوُل مِلْحٍ كَثِيرٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً يُوجِبُ الْقَضَاءَ دُونَ الْكَفَّارَةِ، أَمَّا إِذَا أَكَلَهُ عَلَى دَفَعَاتٍ، بِتَنَاوُل دَفْعَةٍ قَلِيلَةٍ، فِي كُل مَرَّةٍ، فَيَجِبُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَمَّا فِي أَكْل نَوَاةٍ أَوْ قُطْنٍ أَوْ وَرَقٍ، أَوِ ابْتِلاَعِ حَصَاةٍ، أَوْ حَدِيدٍ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَكَذَا شُرْبُ مَا لاَ يُشْرَبُ مِنَ السَّوَائِل كَالْبِتْرُول فَالْقَضَاءُ دُونَ كَفَّارَةٍ لِقُصُورِ الْجِنَايَةِ بِسَبَبِ الاِسْتِقْذَارِ وَالْعِيَافَةِ وَمُنَافَاةِ الطَّبْعِ، فَانْعَدَمَ مَعْنَى الْفِطْرِ، وَهُوَ بِإِيصَال مَا فِيهِ نَفْعُ الْبَدَنِ إِلَى الْجَوْفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهِ أَمْ يُتَدَاوَى بِهِ. وَلأَِنَّ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لَيْسَتْ غِذَائِيَّةً، وَلاَ فِي مَعْنَى الْغِذَاءِ - كَمَا يَقُول الطَّحَاوِيُّ - وَلِتَحَقُّقِ الإِْفْطَارِ فِي الصُّورَةِ، وَهُوَ الاِبْتِلاَعُ (1) .
قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْفِطْرُ مِمَّا دَخَل.
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 367، وانظر تبيين الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 367، وانظر تبيين الحقائق 1 / 326، وانظر مراقي الفلاح 367، والشرح الكبير للدردير 1 / 523، وكشاف القناع 2 / 317 وما بعدها، والإقناع وحاشية البجيرمي 2 / 328.(28/32)
وَقَال الزَّيْلَعِيُّ: كُل مَا لاَ يُتَغَذَّى بِهِ، وَلاَ يُتَدَاوَى بِهِ عَادَةً، لاَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ (1) .
ثَانِيًا: قَضَاءُ الْوَطَرِ أَوِ الشَّهْوَةِ عَلَى وَجْهِ الْقُصُورِ: وَذَلِكَ فِي الصُّوَرِ الآْتِيَةِ:
41 - أ - تَعَمُّدُ إِنْزَال الْمَنِيِّ بِلاَ جِمَاعٍ، وَذَلِكَ كَالاِسْتِمْنَاءِ بِالْكَفِّ أَوْ بِالتَّبْطِينِ وَالتَّفْخِيذِ، أَوْ بِاللَّمْسِ وَالتَّقْبِيل وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْقَضَاءَ دُونَ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ مَعًا (2) .
ب - الإِْنْزَال بِوَطْءِ مَيِّتَةٍ أَوْ بَهِيمَةٍ، أَوْ صَغِيرَةٍ لاَ تُشْتَهَى:
42 - وَهُوَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ، لأَِنَّ فِيهِ قَضَاءَ إِحْدَى الشَّهْوَتَيْنِ، وَأَنَّهُ يُنَافِي الصَّوْمَ، وَلاَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، لِتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ فِي قَضَاءِ الشَّهْوَةِ، فَلَيْسَ بِجِمَاعٍ (3) خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّهُ لاَ فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ كَوْنِ الْمَوْطُوءَةِ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً، وَلاَ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ، وَلاَ بَيْنَ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 326.
(2) شرح ابن القاسم على متن الغزي، مع حاشية البيجوري عليه 1 / 303، والمغني بالشرح الكبير 3 / 48، والدر المختار 2 / 104، وروضة الطالبين 2 / 361، وكشاف القناع 2 / 325، 326، والقوانين الفقهية (81) ، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي عليه 1 / 529، ومراقي الفلاح 369 و 370، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 58.
(3) الاختيار 1 / 131 و 132، وحاشية القليوبي 2 / 58.(28/33)
الْجَهْل وَالْخَطَأِ، وَفِي كُل ذَلِكَ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، لإِِطْلاَقِ حَدِيثِ الأَْعْرَابِيِّ (1) ، وَالْمَالِكِيَّةُ يُوجِبُونَ فِي ذَلِكَ الْكَفَّارَةَ، لِتَعَمُّدِ إِخْرَاجِ الْمَنِيِّ (2) .
ج - الْمُسَاحَقَةُ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ إِذَا أَنْزَلَتْ:
43 - عَمَل الْمَرْأَتَيْنِ، كَعَمَل الرِّجَال، جِمَاعٌ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، إِلاَّ إِذَا أَنْزَلَتْ، وَلاَ كَفَّارَةَ مَعَ الإِْنْزَال، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ نَصَّ فِي الْكَفَّارَةِ، وَلاَ يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْجِمَاعِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُمَا لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا، لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلاَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَيَبْقَى عَلَى الأَْصْل (3) .
د - الإِْنْزَال بِالْفِكْرِ وَالنَّظَرِ:
44 - إِنْزَال الْمَنِيِّ بِالنَّظَرِ أَوِ الْفِكْرِ، فِيهِ التَّفْصِيل الآْتِي: - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ أَنَّ الإِْنْزَال بِالْفِكْرِ - وَإِنْ طَال - وَبِالنَّظَرِ بِشَهْوَةٍ، وَلَوْ إِلَى فَرْجِ الْمَرْأَةِ مِرَارًا،
__________
(1) المغني 3 / 57، وكشاف القناع 2 / 324.
(2) جواهر الإكليل 1 / 150.
(3) مراقي الفلاح ص 364، ورد المحتار 2 / 100، وكشاف القناع 2 / 326، والمغني 3 / 59.(28/33)
لاَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُنْزِل بِهِ، لأَِنَّهُ إِنْزَالٌ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ، فَأَشْبَهَ الاِحْتِلاَمَ. قَال الْقَلْيُوبِيُّ: النَّظَرُ وَالْفِكْرُ الْمُحَرِّكُ لِلشَّهْوَةِ، كَالْقُبْلَةِ، فَيَحْرُمُ وَإِنْ لَمْ يُفْطِرْ بِهِ (1) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ أَمْنَى بِمُجَرَّدِ الْفِكْرِ أَوِ النَّظَرِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِدَامَةٍ لَهُمَا، يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَيَجِبُ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ.
وَإِنِ اسْتَدَامَهُمَا حَتَّى أَنْزَل فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهُ الإِْنْزَال بِهِمَا عِنْدَ الاِسْتِدَامَةِ، فَالْكَفَّارَةُ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهُ عَدَمَ الإِْنْزَال بِهِمَا عِنْدَ الاِسْتِدَامَةِ، فَخَالَفَ عَادَتَهُ وَأَمْنَى، فَقَوْلاَنِ فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ، وَاخْتَارَ اللَّخْمِيُّ عَدَمَ اللُّزُومِ.
وَلَوْ أَمْنَى فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ بِتَعَمُّدِ نَظْرَةٍ وَاحِدَةٍ يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَيَجِبُ الْقَضَاءُ، وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَعَدَمِهِ تَأْوِيلاَنِ، مَحَلُّهُمَا إِذَا كَانَتْ عَادَتُهُ الإِْنْزَال بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ، وَإِلاَّ فَلاَ كَفَّارَةَ اتِّفَاقًا (2) .
وَقَال الأَْذْرَعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَتَبِعَهُ شَيْخُ الْقَلْيُوبِيِّ، وَالرَّمْلِيُّ: يُفْطِرُ إِذَا عَلِمَ الإِْنْزَال
__________
(1) حاشية القليوبي 2 / 59، وانظر الدر المختار 2 / 98، والإقناع للشربيني الخطيب 2 / 331.
(2) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 529، وجواهر الإكليل 1 / 150، والقوانين الفقهية ص 81، وانظر منح الجليل 1 / 402، 403.(28/34)
بِالْفِكْرِ وَالنَّظَرِ، وَإِنْ لَمْ يُكَرِّرْهُ (1) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ النَّظَرِ وَبَيْنَ الْفِكْرِ، فَفِي النَّظَرِ إِذَا أَمْنَى يَفْسُدُ الصَّوْمُ، لأَِنَّهُ أَنْزَل بِفِعْلٍ يَتَلَذَّذُ بِهِ، وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَأَفْسَدَ الصَّوْمَ، كَالإِْنْزَال بِاللَّمْسِ، وَالْفِكْرُ لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، بِخِلاَفِ النَّظَرِ.
وَلَوْ أَمْذَى بِتَكْرَارِ النَّظَرِ، فَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ لاَ يُفْطِرُ بِهِ، لأَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِي الْفِطْرِ بِهِ، وَلاَ يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَى إِنْزَال الْمَنِيِّ، لِمُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُ فِي الأَْحْكَامِ، فَيَبْقَى عَلَى الأَْصْل (2) .
وَإِذَا لَمْ يُكَرِّرِ النَّظَرَ لاَ يُفْطِرُ، سَوَاءٌ أَمْنَى أَوْ أَمْذَى، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، لِعَدَمِ إِمْكَانِ التَّحَرُّزِ، وَنَصَّ أَحْمَدُ: يُفْطِرُ بِالْمَنِيِّ لاَ بِالْمَذْيِ (3) .
أَمَّا الْفِكْرُ، فَإِنَّ الإِْنْزَال بِهِ لاَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ: الإِْفْسَادَ بِهِ، لأَِنَّ الْفِكْرَ يَدْخُل تَحْتَ الاِخْتِيَارِ، لَكِنَّ جُمْهُورَهُمُ اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُِمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَل بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ (4) وَلأَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِي الْفِطْرِ بِهِ وَلاَ
__________
(1) حاشية القليوبي على شرح المحلي على المنهاج 2 / 59.
(2) المغني 3 / 49، وانظر أيضا: الروض المربع 1 / 140.
(3) الإنصاف 3 / 302.
(4) حديث أبي هريرة " إن الله تجاوز لأمتي. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 549) ومسلم (1 / 117) واللفظ للبخاري.(28/34)
إِجْمَاعَ، وَلاَ يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ وَلاَ تَكْرَارِ النَّظَرِ، لأَِنَّهُ دُونَهُمَا فِي اسْتِدْعَاءِ الشَّهْوَةِ، وَإِفْضَائِهِ إِلَى الإِْنْزَال (1) .
ثَالِثًا: الْمُعَالَجَاتُ وَنَحْوُهَا، وَهِيَ أَنْوَاعٌ، أَهَمُّهَا:
أ - الاِسْتِعَاطُ:
45 - الاِسْتِعَاطُ، افْتِعَالٌ مِنَ السَّعُوطِ، مِثَال رَسُولٍ: دَوَاءٌ يُصَبُّ فِي الأَْنْفِ (2) ، وَالاِسْتِعَاطُ وَالإِْسْعَاطُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: إِيصَال الشَّيْءِ إِلَى الدِّمَاغِ مِنَ الأَْنْفِ (3) .
وَإِنَّمَا يُفْسِدُ الاِسْتِعَاطُ الصَّوْمَ، بِشَرْطِ أَنْ يَصِل الدَّوَاءُ إِلَى الدِّمَاغِ، وَالأَْنْفُ مَنْفَذٌ إِلَى الْجَوْفِ، فَلَوْ لَمْ يَصِل إِلَى الدِّمَاغِ لَمْ يَضُرَّ، بِأَنْ لَمْ يُجَاوِزِ الْخَيْشُومَ، فَلَوْ وَضَعَ دَوَاءً فِي أَنْفِهِ لَيْلاً، وَهَبَطَ نَهَارًا، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ (4) .
وَلَوْ وَضَعَهُ فِي النَّهَارِ، وَوَصَل إِلَى دِمَاغِهِ أَفْطَرَ؛ لأَِنَّهُ وَاصِلٌ إِلَى جَوْفِ الصَّائِمِ بِاخْتِيَارِهِ فَيُفَطِّرُهُ كَالْوَاصِل إِلَى الْحَلْقِ، وَالدِّمَاغُ جَوْفٌ - كَمَا قَرَّرُوا - وَالْوَاصِل إِلَيْهِ يُغَذِّيهِ، فَيُفَطِّرُهُ،
__________
(1) المغني 3 / 49.
(2) المصباح المنير، مادة (سعط) رد المحتار على الدر المختار 2 / 102.
(3) حاشية القليوبي على شرح المحلي على المنهاج 2 / 56.
(4) جواهر الإكليل 1 / 149.(28/35)
كَجَوْفِ الْبَدَنِ (1) .
وَالْوَاجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ لاَ الْكَفَّارَةُ، هَذَا هُوَ الأَْصَحُّ، لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ مُوجِبُ الإِْفْطَارِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَالصُّورَةُ هِيَ الاِبْتِلاَعُ، وَهِيَ مُنْعَدِمَةٌ، وَالنَّفْعُ الْمُجَرَّدُ عَنْهَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ فَقَطْ (2) .
وَهَذَا الْحُكْمُ لاَ يَخُصُّ صَبَّ الدَّوَاءِ، بَل لَوِ اسْتَنْشَقَ الْمَاءَ، فَوَصَل إِلَى دِمَاغِهِ أَفْطَرَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
ب - اسْتِعْمَال الْبَخُورِ:
46 - وَيَكُونُ بِإِيصَال الدُّخَانِ إِلَى الْحَلْقِ، فَيُفْطِرُ، أَمَّا شَمُّ رَائِحَةِ الْبَخُورِ وَنَحْوِهِ بِلاَ وُصُول دُخَانِهِ إِلَى الْحَلْقِ فَلاَ يُفْطِرُ وَلَوْ جَاءَتْهُ الرَّائِحَةُ وَاسْتَنْشَقَهَا، لأَِنَّ الرَّائِحَةَ لاَ جِسْمَ لَهَا (4) .
فَمَنْ أَدْخَل بِصُنْعِهِ دُخَانًا حَلْقَهُ، بِأَيَّةِ صُورَةٍ كَانَ الإِْدْخَال - فَسَدَ صَوْمُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ دُخَانَ عَنْبَرٍ أَمْ عُودٍ أَمْ غَيْرِهِمَا، حَتَّى مَنْ تَبَخَّرَ بِعُودٍ، فَآوَاهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَاشْتَمَّ دُخَانَهُ، ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ، أَفْطَرَ، لإِِمْكَانِ
__________
(1) المغني 3 / 37 و 38.
(2) رد المحتار على الدر المختار 2 / 102.
(3) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 367، وانظر الشرح الكبير للدردير 1 / 525.
(4) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 525، وجواهر الإكليل 1 / 149.(28/35)
التَّحَرُّزِ مِنْ إِدْخَال الْمُفْطِرِ جَوْفَهُ وَدِمَاغَهُ.
قَال الشَّرَنْبَلاَلِيُّ: هَذَا مِمَّا يَغْفُل عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَلْيُنَبَّهْ لَهُ، وَلاَ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ كَشَمِّ الْوَرْدِ وَالْمِسْكِ، لِوُضُوحِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَوَاءٍ تَطَيَّبَ بِرِيحِ الْمِسْكِ وَشَبَهِهِ، وَبَيْنَ جَوْهَرِ دُخَانٍ وَصَل إِلَى جَوْفِهِ بِفِعْلِهِ (1)
ج - بُخَارُ الْقِدْرِ:
47 - بُخَارُ الْقِدْرِ، مَتَى وَصَل لِلْحَلْقِ بِاسْتِنْشَاقٍ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ، لأَِنَّ دُخَانَ الْبَخُورِ وَبُخَارَ الْقِدْرِ كُلٌّ مِنْهُمَا جِسْمٌ يَتَكَيَّفُ بِهِ الدِّمَاغُ، وَيَتَقَوَّى بِهِ، أَيْ تَحْصُل لَهُ قُوَّةٌ كَالَّتِي تَحْصُل مِنَ الأَْكْل، أَمَّا لَوْ وَصَل وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِلْحَلْقِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ.
هَذَا بِخِلاَفِ دُخَانِ الْحَطَبِ، فَإِنَّهُ لاَ قَضَاءَ فِي وُصُولِهِ لِلْحَلْقِ، وَلَوْ تَعَمَّدَ اسْتِنْشَاقَهُ، لأَِنَّهُ لاَ يَحْصُل لِلدِّمَاغِ بِهِ قُوَّةٌ كَالَّتِي تَحْصُل لَهُ مِنَ الأَْكْل (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ فَتَحَ فَاهُ عَمْدًا حَتَّى دَخَل الْغُبَارُ فِي جَوْفِهِ، لَمْ يُفْطِرْ عَلَى الأَْصَحِّ (3) .
__________
(1) مراقي الفلاح ص 361 و 362، والدر المختار ورد المحتار 2 / 97.
(2) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 525.
(3) حواشي تحفة المحتاج 3 / 401، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 56، 57، وانظر حاشية البجيرمي على شرح الشربيني الخطيب المسمى بالإقناع 2 / 329. والمغني 3 / 40، 41، وكشاف القناع 2 / 320 و 321.(28/36)
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ الإِْفْطَارُ بِابْتِلاَعِ غَرْبَلَةِ الدَّقِيقِ وَغُبَارِ الطَّرِيقِ، إِنْ تَعَمَّدَهُ.
د - التَّدْخِينُ:
48 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ شُرْبَ الدُّخَانِ الْمَعْرُوفِ أَثْنَاءَ الصَّوْمِ يُفْسِدُ الصِّيَامَ، لأَِنَّهُ مِنَ الْمُفْطِرَاتِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَبَغ) الْمَوْسُوعَة الْفِقْهِيَّة 10 فِقْرَة 30.
هـ - التَّقْطِيرُ فِي الأُْذُنِ:
49 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى فَسَادِ الصَّوْمِ بِتَقْطِيرِ الدَّوَاءِ أَوِ الدُّهْنِ أَوِ الْمَاءِ فِي الأُْذُنِ.
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ الإِْمْسَاكُ عَمَّا يَصِل إِلَى الْحَلْقِ، مِمَّا يَنْمَاعُ أَوْ لاَ يَنْمَاعُ.
وَالْمَذْهَبُ: أَنَّ الْوَاصِل إِلَى الْحَلْقِ مُفَطِّرٌ وَلَوْ لَمْ يُجَاوِزْهُ، إِنْ وَصَل إِلَيْهِ، وَلَوْ مِنْ أَنْفٍ أَوْ أُذُنٍ أَوْ عَيْنٍ نَهَارًا (1) .
وَتَوْجِيهُهُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ وَاصِلٌ مِنْ أَحَدِ الْمَنَافِذِ الْوَاسِعَةِ فِي الْبَدَنِ، وَهِيَ: الْفَمُ وَالأَْنْفُ وَالأُْذُنُ، وَأَنَّ كُل مَا وَصَل إِلَى الْمَعِدَةِ مِنْ مَنْفَذٍ عَالٍ - مُوجِبٌ لِلْقَضَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الْمَنْفَذُ وَاسِعًا أَمْ ضَيِّقًا. وَأَنَّهُ لاَ تَفْرِقَةَ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 149.(28/36)
عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْمَائِعِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الْوَاصِل إِلَى الْمَعِدَةِ مِنَ الْحَلْقِ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: لَوْ صَبَّ الْمَاءَ أَوْ غَيْرَهُ فِي أُذُنَيْهِ، فَوَصَل دِمَاغَهُ أَفْطَرَ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَنَا، وَلَمْ يَرَ الْغَزَالِيُّ الإِْفْطَارَ بِالتَّقْطِيرِ فِي الأُْذُنَيْنِ (2) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: إِذَا قَطَّرَ فِي أُذُنِهِ فَوَصَل إِلَى دِمَاغِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ، لأَِنَّ الدِّمَاغَ أَحَدُ الْجَوْفَيْنِ، فَالْوَاصِل إِلَيْهِ يُغَذِّيهِ، فَأَفْسَدَ الصَّوْمَ (3) .
وَالْحَنَفِيَّةُ قَالُوا بِفَسَادِ الصَّوْمِ بِتَقْطِيرِ الدَّوَاءِ وَالدُّهْنِ فِي الأُْذُنِ، لأَِنَّ فِيهِ صَلاَحًا لِجُزْءٍ مِنَ الْبَدَنِ، فَوُجِدَ إِفْسَادُ الصَّوْمِ مَعْنًى.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَقْطِيرِ الْمَاءِ فِي الأُْذُنِ، فَاخْتَارَ الْمَرْغِينَانِيُّ فِي الْهِدَايَةِ - وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ غَيْرُهُ - عَدَمَ الإِْفْطَارِ بِهِ مُطْلَقًا، دَخَل بِنَفْسِهِ أَوْ أَدْخَلَهُ.
وَفَرَّقَ قَاضِي خَانْ، بَيْنَ الإِْدْخَال قَصْدًا فَأَفْسَدَ بِهِ الصَّوْمَ، وَبَيْنَ الدُّخُول فَلَمْ يُفْسِدْهُ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي صَحَّحُوهُ، لأَِنَّ الْمَاءَ يَضُرُّ الدِّمَاغَ، فَانْعَدَمَ الإِْفْسَادُ صُورَةً وَمَعْنًى (4) .
__________
(1) انظر القوانين الفقهية ص 80، والشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي عليه 1 / 524.
(2) المجموع 6 / 320، وانظر شرح المحلي على المنهاج 2 / 56 والوجيز 1 / 101.
(3) انظر كشاف القناع 2 / 318.
(4) انظر مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه ص 368، والدر المختار ورد المحتار عليه 2 / 98، وتبيين الحقائق 1 / 329، والهداية وشروحها 2 / 266 و 267.(28/37)
فَالاِتِّفَاقُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى الْفِطْرِ بِصَبِّ الدُّهْنِ، وَعَلَى عَدَمِهِ بِدُخُول الْمَاءِ، وَالاِخْتِلاَفُ فِي التَّصْحِيحِ فِي إِدْخَالِهِ (1) .
و مُدَاوَاةُ الآْمَّةِ وَالْجَائِفَةِ وَالْجِرَاحِ:
50 - الآْمَّةُ: جِرَاحَةٌ فِي الرَّأْسِ، وَالْجَائِفَةُ: جِرَاحَةٌ فِي الْبَطْنِ.
وَالْمُرَادُ بِهَذَا - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ - مَا يَصِل إِلَى الْجَوْفِ مِنْ غَيْرِ الْمَخَارِقِ الأَْصْلِيَّةِ (2) .
فَإِذَا دَاوَى الصَّائِمُ الآْمَّةَ أَوَ الْجِرَاحَ، فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ - بِوَجْهِ عَامٍّ - فَسَادُ الصَّوْمِ، إِذَا وَصَل الدَّوَاءُ إِلَى الْجَوْفِ.
قَال النَّوَوِيُّ: لَوْ دَاوَى جُرْحَهُ فَوَصَل الدَّوَاءُ إِلَى جَوْفِهِ أَوْ دِمَاغِهِ أَفْطَرَ عِنْدَنَا سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّوَاءُ رَطْبًا أَمْ يَابِسًا (3) وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ أَوْصَل إِلَى جَوْفِهِ شَيْئًا بِاخْتِيَارِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَكَل (4) . قَال الْمِرْدَاوِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ (5) .
وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ - مَعَ نَصِّهِمْ عَلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الدَّوَاءِ الرَّطْبِ وَبَيْنَ الدَّوَاءِ
__________
(1) رد المحتار 2 / 98.
(2) مراقي الفلاح ص 368، وفتح القدير 2 / 267، والبدائع 2 / 93.
(3) المجموع 6 / 320، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 56.
(4) كشاف القناع 2 / 318، وانظر الروض المربع 1 / 140.
(5) الإنصاف 2 / 299 و 300.(28/37)
الْيَابِسِ - بِأَنَّ بَيْنَ جَوْفِ الرَّأْسِ وَجَوْفِ الْمَعِدَةِ مَنْفَذًا أَصْلِيًّا، فَمَتَى وَصَل إِلَى جَوْفِ الرَّأْسِ، يَصِل إِلَى جَوْفِ الْبَطْنِ (1) .
أَمَّا إِذَا شَكَّ فِي وُصُول الدَّوَاءِ إِلَى الْجَوْفِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بَعْضُ التَّفْصِيل وَالْخِلاَفِ، فَإِنْ كَانَ الدَّوَاءُ رَطْبًا، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الظَّاهِرُ هُوَ الْوُصُول، لِوُجُودِ الْمَنْفَذِ إِلَى الْجَوْفِ، وَهُوَ السَّبَبُ، فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْوُصُول عَادَةً، وَقَال الصَّاحِبَانِ: لاَ يُفْطِرُ، لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ، فَلاَ يُفْطِرُ بِالشَّكِّ، فَهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْمَخَارِقَ الأَْصْلِيَّةَ؛ لأَِنَّ الْوُصُول إِلَى الْجَوْفِ مِنَ الْمَخَارِقِ الأَْصْلِيَّةِ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَمِنْ غَيْرِهَا مَشْكُوكٌ بِهِ، فَلاَ نَحْكُمُ بِالْفَسَادِ مَعَ الشَّكِّ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الدَّوَاءُ يَابِسًا، فَلاَ فِطْرَ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَصِل إِلَى الْجَوْفِ وَلاَ إِلَى الدِّمَاغِ.
لَكِنْ قَال الْبَابَرْتِيُّ: وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْوُصُول، حَتَّى إِذَا عَلِمَ أَنَّ الدَّوَاءَ الْيَابِسَ وَصَل إِلَى جَوْفِهِ، فَسَدَ صَوْمُهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الرَّطْبَ لَمْ يَصِل إِلَى جَوْفِهِ، لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ عِنْدَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ ذَكَرَ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ.
__________
(1) مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه ص 368، والدر المختار 2 / 103(28/38)
وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ يَقِينًا فَسَدَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، نَظَرًا إِلَى الْعَادَةِ، لاَ عِنْدَهُمَا (1) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ عَدَمُ الإِْفْطَارِ بِمُدَاوَاةِ الْجِرَاحِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشِّيحِ تَقِيِّ الدِّينِ.
قَال الْمِرْدَاوِيُّ: وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَدَمَ الإِْفْطَارِ بِمُدَاوَاةِ جَائِفَةٍ وَمَأْمُومَةٍ (2) .
قَال ابْنُ جُزَيٍّ: أَمَّا دَوَاءُ الْجُرْحِ بِمَا يَصِل إِلَى الْجَوْفِ، فَلاَ يُفْطِرُ (3) .
وَقَال الدَّرْدِيرُ، مُعَلِّلاً عَدَمَ الإِْفْطَارِ بِوَضْعِ الدُّهْنِ عَلَى الْجَائِفَةِ، وَالْجُرْحِ الْكَائِنِ فِي الْبَطْنِ الْوَاصِل لِلْجَوْفِ: لأَِنَّهُ لاَ يَصِل لِمَحَل الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَإِلاَّ لَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ (4) .
ز - الاِحْتِقَانُ:
51 - الاِحْتِقَانُ: صَبُّ الدَّوَاءِ أَوْ إِدْخَال نَحْوِهِ فِي الدُّبُرِ (5) . وَقَدْ يَكُونُ بِمَائِعٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَالاِحْتِقَانُ بِالْمَائِعِ مِنَ الْمَاءِ، وَهُوَ الْغَالِبُ، أَوْ غَيْرِ الْمَاءِ - يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَيُوجِبُ الْقَضَاءَ، فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَمَنْصُوصُ خَلِيلٍ، وَهُوَ مُعَلَّلٌ بِأَنَّهُ يَصِل بِهِ الْمَاءُ إِلَى الْجَوْفِ مِنْ
__________
(1) شرح العناية على الهداية للبابرتي مع فتح القدير 2 / 266، 267.
(2) الإنصاف 3 / 299.
(3) القوانين الفقهية ص 80.
(4) الشرح الكبير للدردير 1 / 533، والمدونة 1 / 198.
(5) المصباح المنير مادة (حقن) ، ومراقي الفلاح ص 367، والإقناع 2 / 329.(28/38)
مَنْفَذٍ مَفْتُوحٍ، وَبِأَنَّ غَيْرَ الْمُعْتَادِ كَالْمُعْتَادِ فِي الْوَاصِل، وَبِأَنَّهُ أَبْلَغُ وَأَوْلَى بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ مِنَ الاِسْتِعَاطِ اسْتِدْرَاكًا لِلْفَرِيضَةِ الْفَاسِدَةِ (1) .
وَلاَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، لِعَدَمِ اسْتِكْمَال الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ صُورَةً وَمَعْنًى، كَمَا هُوَ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ، بَل هُوَ لِوُجُودِ مَعْنَى الْفِطْرِ، وَهُوَ وُصُول مَا فِيهِ صَلاَحُ الْبَدَنِ إِلَى الْجَوْفِ، دُونَ صُورَتِهِ، وَهُوَ الْوُصُول مِنَ الْفَمِ دُونَ مَا سِوَاهُ (2) .
وَاسْتَدَل الْمَرْغِينَانِيُّ وَغَيْرُهُ لِلإِْفْطَارِ بِالاِحْتِقَانِ وَغَيْرِهِ، كَالاِسْتِعَاطِ وَالإِْفْطَارِ، بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: إِنَّمَا الإِْفْطَارُ مِمَّا دَخَل، وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ (3) .
وَقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا الْفِطْرُ مِمَّا دَخَل، وَلَيْسَ مِمَّا يَخْرُجُ (4) .
أَمَّا الاِحْتِقَانُ بِالْجَامِدِ، فَفِيهِ بَعْضُ الْخِلاَفِ: فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَا يَدْخُل
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 329 و 330، والهداية وشروحها 2 / 265، 266، والدر المختار 2 / 102، وشرح الدردير 1 / 524، وجواهر الإكليل 1 / 149، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 56، والإقناع 2 / 329، 330، وكشاف القناع 2 / 318.
(2) تبيين الحقائق 1 / 329 و 330.
(3) حديث عائشة: " إنما الإفطار مما دخل وليس مما خرج ". أورده الهيثمي في مجمع الزائد (3 / 167) وقال: رواه أبو يعلى وفيه من لم أعرفه.
(4) قول ابن عباس رضي الله عنهما: " الفطر مما دخل. . ". أخرجه ابن أبي شيبة (3 / 51) .(28/39)
إِلَى الْجَوْفِ مِنَ الدُّبُرِ بِالْحُقْنَةِ يُفْطِرُ، لأَِنَّهُ وَاصِلٌ إِلَى الْجَوْفِ بِاخْتِيَارِهِ، فَأَشْبَهَ الأَْكْل (1) .
كَذَلِكَ دُخُول طَرَفِ أُصْبُعٍ فِي الْمَخْرَجِ حَال الاِسْتِنْجَاءِ يُفْطِرُ، قَال النَّوَوِيُّ: لَوْ أَدْخَل الرَّجُل أُصْبُعَهُ أَوْ غَيْرَهَا دُبُرَهُ، وَبَقِيَ الْبَعْضُ خَارِجًا، بَطَل الصَّوْمُ، بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَغْيِيبَ الْقُطْنِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْجَوَامِدِ الْجَافَّةِ يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَعَدَمَ التَّغْيِيبِ لاَ يُفْسِدُهُ، كَمَا لَوْ بَقِيَ طَرَفُهُ خَارِجًا، لأَِنَّ عَدَمَ تَمَامِ الدُّخُول كَعَدَمِ دُخُول شَيْءٍ بِالْمَرَّةِ، كَإِدْخَال الأُْصْبُعِ غَيْرِ الْمَبْلُولَةِ، أَمَّا الْمَبْلُولَةُ بِالْمَاءِ وَالدُّهْنِ فَيُفْسِدُهُ (3) .
وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ الإِْفْطَارَ وَإِبْطَال الصَّوْمِ بِالْحُقْنَةِ الْمَائِعَةِ نَصًّا.
وَقَالُوا: احْتَرَزَ (خَلِيلٌ) بِالْمَائِعِ عَنِ الْحُقْنَةِ بِالْجَامِدِ، فَلاَ قَضَاءَ فِيهَا، وَلاَ فِي فَتَائِل عَلَيْهَا دُهْنٌ لِخِفَّتِهَا.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ، قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: سُئِل مَالِكٌ عَنِ الْفَتَائِل تُجْعَل لِلْحُقْنَةِ؟ قَال مَالِكٌ: أَرَى ذَلِكَ خَفِيفًا، وَلاَ أَرَى عَلَيْهِ فِيهِ
__________
(1) المغني 3 / 37، وكشاف القناع 2 / 318.
(2) الإقناع للشربيني الخطيب 2 / 330، والمجموع 6 / 314.
(3) مراقي الفلاح ص 370، وانظر تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 1 / 329، 330، والدر المختار ورد المحتار 2 / 102.(28/39)
شَيْئًا، قَال مَالِكٌ: وَإِنِ احْتَقَنَ بِشَيْءٍ يَصِل إِلَى جَوْفِهِ، فَأَرَى عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ (1) .
وَيَبْدُو مَعَ ذَلِكَ تَلْخِيصًا أَنَّ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْحُقْنَةِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ: الإِْفْطَارُ بِالْحُقْنَةِ الْمَائِعَةِ.
الثَّانِيَ: أَنَّ الْحُقْنَةَ تُفْطِرُ مُطْلَقًا.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا لاَ تُفْطِرُ، وَاسْتَحْسَنَهُ اللَّخْمِيُّ، لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصِل إِلَى الْمَعِدَةِ، وَلاَ مَوْضِعَ يَتَصَرَّفُ مِنْهُ مَا يُغَذِّي الْجِسْمَ بِحَالٍ.
الرَّابِعُ: أَنَّ اسْتِعْمَال الْحُقْنَةِ مَكْرُوهٌ. قَال ابْنُ حَبِيبٍ: وَكَانَ مَنْ مَضَى مِنَ السَّلَفِ وَأَهْل الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ التَّعَالُجَ بِالْحَقْنِ إِلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ غَالِبَةٍ، لاَ تُوجَدُ عَنِ التَّعَالُجِ بِهَا مَنْدُوحَةٌ، فَلِهَذَا اسْتُحِبَّ قَضَاءُ الصَّوْمِ بِاسْتِعْمَالِهَا (2) .
ح - الْحُقْنَةُ الْمُتَّخَذَةُ فِي مَسَالِكِ الْبَوْل:
وَيُعَبِّرُ عَنْ هَذَا الشَّافِعِيَّةُ بِالتَّقْطِيرِ، وَلاَ يُسَمُّونَهُ احْتِقَانًا (3) وَفِيهِ هَذَا التَّفْصِيل:
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه (1 / 524، والمدونة الكبرى 1 / 197، ط: دار صادر. بيروت) .
(2) انظر القوانين الفقهية ص 80، ومواهب الجليل للحطاب 2 / 424.
(3) انظر حاشية البيجوري 1 / 303.(28/40)
الأَْوَّل: التَّقْطِيرُ فِي الإِْحْلِيل، أَيِ الذَّكَرِ:
52 - فِي التَّقْطِيرِ أَقْوَالٌ: فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يُفْطِرُ، سَوَاءٌ أَوَصَل إِلَى الْمَثَانَةِ أَمْ لَمْ يَصِل، لأَِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ بَاطِنِ الذَّكَرِ وَبَيْنَ الْجَوْفِ مَنْفَذٌ، وَإِنَّمَا يَمُرُّ الْبَوْل رَشْحًا، فَالَّذِي يَتْرُكُهُ فِيهِ لاَ يَصِل إِلَى الْجَوْفِ، فَلاَ يُفْطِرُ، كَالَّذِي يَتْرُكُهُ فِي فِيهِ وَلاَ يَبْتَلِعُهُ (1) ، وَقَال الْمَوَّاقُ: هُوَ أَخَفُّ مِنَ الْحُقْنَةِ (2) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: لَوْ قَطَّرَ فِيهِ، أَوْ غَيَّبَ فِيهِ شَيْئًا فَوَصَل إِلَى الْمَثَانَةِ لَمْ يَبْطُل صَوْمُهُ (3) .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ - مَعَ ذَلِكَ - فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ:
أَحَدُهَا: إِذَا قَطَّرَ فِيهِ شَيْئًا لَمْ يَصِل إِلَى الْمَثَانَةِ لَمْ يُفْطِرْ، وَهَذَا أَصَحُّهَا، لأَِنَّهُ - كَمَا قَال الْمَحَلِّيُّ - فِي جَوْفٍ غَيْرِ مُحِيلٍ.
الثَّانِي: لاَ يُفْطِرُ.
الثَّالِثُ: إِنْ جَاوَزَ الْحَشَفَةَ أَفْطَرَ، وَإِلاَّ لاَ (4) .
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يُفْطِرُ إِذَا وَصَل
__________
(1) انظر تبيين الحقائق 1 / 330، والفتاوى الهندية 1 / 204، والقوانين الفقهية ص 80، والمغني 3 / 42.
(2) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 2 / 424.
(3) الروض المربع 1 / 140.
(4) روضة المفتين 2 / 357، وانظر الإقناع 2 / 330.(28/40)
إِلَى الْمَثَانَةِ، أَمَّا مَا دَامَ فِي قَصَبَةِ الذَّكَرِ فَلاَ يُفْسِدُ (1) .
الثَّانِي: التَّقْطِيرُ فِي فَرْجِ الْمَرْأَةِ:
53 - الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَنْصُوصُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - الَّذِينَ نَصُّوا عَلَى الإِْحْلِيل فَقَطْ - هُوَ فَسَادُ الصَّوْمِ بِهِ، وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالْحُقْنَةِ (2) .
وَوَجْهُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، اسْتِجْمَاعُ شَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْمَنْفَذِ السَّافِل الْوَاسِعِ،
وَالآْخَرُ: الاِحْتِقَانُ بِالْمَائِعِ.
وَقَدْ نَصَّ الدَّرْدِيرُ عَلَى الإِْفْطَارِ بِهِ، وَنَصَّ الدُّسُوقِيُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَمُقَابِلُهُ مَا لاِبْنِ حَبِيبٍ مِنِ اسْتِحْبَابِ الْقَضَاءِ، بِسَبَبِ الْحُقْنَةِ مِنَ الْمَائِعِ الْوَاصِلَةِ إِلَى الْمَعِدَةِ، مِنَ الدُّبُرِ أَوْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ، كَمَا نَصَّ الدَّرْدِيرُ عَلَى أَنَّ الاِحْتِقَانَ بِالْجَامِدِ لاَ قَضَاءَ فِيهِ، وَلاَ فِي الْفَتَائِل الَّتِي عَلَيْهَا دُهْنٌ (3) .
__________
(1) مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه ص 362، وتبيين الحقائق 1 / 330.
(2) فتح القدير 2 / 267، وتبيين الحقائق 1 / 330، ومراقي الفلاح (370) والفتاوى الهندية 1 / 204، وانظر الإقناع 2 / 330، وحاشية القليوبي وعميرة على شرح المحلي 2 / 56، والروض المربع 1 / 140.
(3) الشرح الكبير للدردير، وحاشية الدسوقي عليه 1 / 524.(28/41)
رَابِعًا: التَّقْصِيرُ فِي حِفْظِ الصَّوْمِ وَالْجَهْل بِهِ:
الأَْوَّل: التَّقْصِيرُ:
54 - أ - مِنْ صُوَرِ التَّقْصِيرِ مَا لَوْ تَسَحَّرَ أَوْ جَامَعَ، ظَانًّا عَدَمَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالْحَال أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ، فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَذَلِكَ لِلشُّبْهَةِ، لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ اللَّيْل، وَالْجِنَايَةُ قَاصِرَةٌ، وَهِيَ جِنَايَةُ عَدَمِ التَّثَبُّتِ، لاَ جِنَايَةُ الإِْفْطَارِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ، وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِعَدَمِ الإِْثْمِ عَلَيْهِ.
وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - أَنَّهُ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ (1) .
وَإِذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ شَيْءٌ، لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَقِيل: يَقْضِي احْتِيَاطًا. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا أَفْطَرَ بِظَنِّ الْغُرُوبِ، وَالْحَال أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَغْرُبْ - عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ النَّهَارِ، وَابْنُ نُجَيْمٍ فَرَّعَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ عَلَى قَاعِدَةِ: الْيَقِينُ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ (2) .
__________
(1) الإنصاف 3 / 311.
(2) انظر الأشباه والنظائر (ص 58 ط بيروت) ، ومراقي الفلاح ص 369، والدر المختار ورد المحتار 2 / 104 و 105، والبدائع 2 / 100، وجواهر الإكليل 1 / 150، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 1 / 526، والقوانين الفقهية ص 81، وروضة الطالبين 2 / 363، وشرح المحلي على المنهاج 20 / 59.(28/41)
قَال ابْنُ جُزَيٍّ: مَنْ شَكَّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ، حُرِّمَ عَلَيْهِ الأَْكْل، وَقِيل: يُكْرَهُ.
فَإِنْ أَكَل فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وُجُوبًا - عَلَى الْمَشْهُورِ - وَقِيل: اسْتِحْبَابًا، وَإِنْ شَكَّ فِي الْغُرُوبِ، لَمْ يَأْكُل اتِّفَاقًا، فَإِنْ أَكَل فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، وَقِيل: الْقَضَاءُ فَقَطْ، وَقَال الدُّسُوقِيُّ: الْمَشْهُورُ عَدَمُهَا.
وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ خَصَّ الْقَضَاءَ بِصِيَامِ الْفَرْضِ فِي الشَّكِّ فِي الْفَجْرِ، دُونَ صِيَامِ النَّفْل، وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا (1) .
وَقِيل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يُفْطِرُ فِي صُورَتَيِ الشَّكِّ فِي الْغُرُوبِ وَالْفَجْرِ، وَقِيل: يُفْطِرُ فِي الأُْولَى، دُونَ الثَّانِيَةِ (2) .
وَمَنْ ظَنَّ أَوِ اشْتَبَهَ فِي الْفِطْرِ، كَمَنْ أَكَل نَاسِيًا فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ، فَأَكَل عَامِدًا، فَإِنَّهُ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ الشَّرْعِيَّةِ (3) .
وَالْقَضَاءُ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) القوانين الفقهية ص 81، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 526.
(2) روضة الطالبين 2 / 363، شرح المحلي على المنهاج 2 / 59.
(3) روضة الطالبين 2 / 363، وانظر شرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي عليه 2 / 59.(28/42)
وَهُوَ الأَْصَحُّ (1) .
أَمَّا لَوْ فَعَل مَا لاَ يَظُنُّ بِهِ الْفِطْرَ، كَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَالاِكْتِحَال وَاللَّمْسِ وَالتَّقْبِيل بِشَهْوَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ بِذَلِكَ، فَأَكَل عَمْدًا، فَإِنَّهُ يَقْضِي فِي تِلْكَ الصُّوَرِ وَيُكَفِّرُ لأَِنَّهُ ظَنٌّ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ.
فَلَوْ كَانَ ظَنُّهُ فِي مَحَلِّهِ فَلاَ كَفَّارَةَ، كَمَا لَوْ أَفْتَاهُ مُفْتٍ - يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ وَيُؤْخَذُ بِفَتْوَاهُ فِي الْبَلَدِ - بِالإِْفْطَارِ فِي الْحِجَامَةِ فَأَكَل عَامِدًا، بَعْدَمَا احْتَجَمَ لاَ يُكَفِّرُ (2) .
وَالْمَالِكِيَّةُ قَسَّمُوا الظَّنَّ فِي الْفِطْرِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ - تَأْوِيلٌ قَرِيبٌ: وَهُوَ الَّذِي يَسْتَنِدُ فِيهِ الْمُفْطِرُ إِلَى أَمْرٍ مَوْجُودٍ، يُعْذَرُ بِهِ شَرْعًا، فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، كَمَا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ:
- لَوْ أَفْطَرَ نَاسِيًا، فَظَنَّ لِفَسَادِ صَوْمِهِ إِبَاحَةَ الْفِطْرِ، فَأَفْطَرَ ثَانِيًا عَامِدًا، فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
أَوْ لَزِمَهُ الْغُسْل لَيْلاً لِجَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ، وَلَمْ يَغْتَسِل إِلاَّ بَعْدَ الْفَجْرِ، فَظَنَّ الإِْبَاحَةَ، فَأَفْطَرَ عَمْدًا.
أَوْ تَسَحَّرَ قُرْبَ الْفَجْرِ، فَظَنَّ بُطْلاَنَ صَوْمِهِ، فَأَفْطَرَ.
أَوْ قَدِمَ الْمُسَافِرُ لَيْلاً، فَظَنَّ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 368.
(2) انظر الدر المختار ورد المحتار عليه 2 / 108 و 109، وبدائع الصنائع 2 / 100.(28/42)
صَوْمُ صَبِيحَةِ قُدُومِهِ، فَأَفْطَرَ مُسْتَنِدًا إِلَى هَذَا التَّأْوِيل، لاَ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ.
أَوْ سَافَرَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَظَنَّ إِبَاحَةَ الْفِطْرِ فَبَيَّتَ الْفِطْرَ، فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
أَوْ رَأَى هِلاَل شَوَّالٍ نَهَارًا، يَوْمَ ثَلاَثِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ، فَأَفْطَرَ.
فَهَؤُلاَءِ إِذَا ظَنُّوا إِبَاحَةَ الْفِطْرِ فَأَفْطَرُوا، فَعَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ عَلِمُوا الْحُرْمَةَ، أَوْ شَكُّوا فِيهَا فَعَلَيْهِمُ الْكَفَّارَةُ.
ب - تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ: وَهُوَ الْمُسْتَنِدُ فِيهِ إِلَى أَمْرٍ مَعْدُومٍ أَوْ مَوْجُودٍ، لَكِنَّهُ لَمْ يُعْذَرْ بِهِ شَرْعًا، فَلاَ يَنْفَعُهُ، وَعَرَّفَهُ الأَْبِيُّ بِأَنَّهُ: مَا لَمْ يَسْتَنِدْ لِمَوْجُودٍ غَالِبًا (1) ، مِثَال ذَلِكَ:
مَنْ رَأَى هِلاَل رَمَضَانَ، فَشَهِدَ عِنْدَ حَاكِمٍ، فَرُدَّ وَلَمْ يُقْبَل لِمَانِعٍ، فَظَنَّ إِبَاحَةَ الْفِطْرِ، فَأَفْطَرَ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِبُعْدِ تَأْوِيلِهِ.
وَقَال أَشْهَبُ: لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِقُرْبِ تَأْوِيلِهِ لاِسْتِنَادِهِ لِمَوْجُودٍ، وَهُوَ رَدُّ الْحَاكِمِ شَهَادَتَهُ.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ اسْتَنَدَ لِمَعْدُومٍ، وَهُوَ أَنَّ الْيَوْمَ لَيْسَ مِنْ رَمَضَانَ، مَعَ أَنَّهُ مِنْهُ بِرُؤْيَةِ عَيْنِهِ.
أَوْ بَيَّتَ الْفِطْرَ وَأَصْبَحَ مُفْطِرًا، فِي يَوْمٍ لِحُمَّى تَأْتِيهِ فِيهِ عَادَةً، ثُمَّ حُمَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَوْلَى إِنْ لَمْ يُحَمَّ.
أَوْ بَيَّتَتِ الْفِطْرَ امْرَأَةٌ لِحَيْضٍ اعْتَادَتْهُ فِي
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 1 / 532، وجواهر الإكليل 1 / 152.(28/43)
يَوْمِهَا، ثُمَّ حَصَل الْحَيْضُ بَعْدَ فِطْرِهَا، وَأَوْلَى إِنْ لَمْ يَحْصُل.
أَوْ أَفْطَرَ لِحِجَامَةٍ فَعَلَهَا بِغَيْرِهِ، أَوْ فُعِلَتْ بِهِ، فَظَنَّ الإِْبَاحَةَ، فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ. لَكِنْ قَال الدَّرْدِيرُ: الْمُعْتَمَدُ فِي هَذَا عَدَمُ الْكَفَّارَةِ، لأَِنَّهُ مِنَ الْقَرِيبِ، لاِسْتِنَادِهِ لِمَوْجُودٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ (1) .
أَوِ اغْتَابَ شَخْصًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَظَنَّ إِبَاحَةَ الْفِطْرِ فَأَفْطَرَ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ (2) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ جَامَعَ عَامِدًا، بَعْدَ الأَْكْل نَاسِيًا، وَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ بِهِ، لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الأَْصَحُّ بُطْلاَنَ صَوْمِهِ بِالْجِمَاعِ، لأَِنَّهُ جَامَعَ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ غَيْرُ صَائِمٍ، فَلَمْ يَأْثَمْ بِهِ، لِذَلِكَ قِيل: لاَ يَبْطُل صَوْمُهُ، وَبُطْلاَنُهُ مَقِيسٌ عَلَى مَنْ ظَنَّ اللَّيْل وَقْتَ الْجِمَاعِ، فَبَانَ خِلاَفُهُ.
وَعِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، أَنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ تَجِبَ بِهِ الْكَفَّارَةُ، لأَِنَّ هَذَا الظَّنَّ لاَ يُبِيحُ الْوَطْءَ.
وَأَمَّا لَوْ قَال: عَلِمْتُ تَحْرِيمَهُ، وَجَهِلْتُ
__________
(1) حديث: " وأفطر الحاجم والمحجوم " أخرجه أبو داود (2 / 770) من حديث ثوبان وذكر الزيلعي في نصب الراية (2 / 472) أن البخاري صححه نقلا عن الترمذي.
(2) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 531، 532، وجواهر الإكليل 1 / 151، 152.(28/43)
وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِلاَ خِلاَفٍ (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَامَعَ فِي يَوْمٍ رَأَى الْهِلاَل فِي لَيْلَتِهِ، وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِفِسْقِهِ أَوْ غَيْرِهِ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، لأَِنَّهُ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ، فَلَزِمَتْهُ كَمَا لَوْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ.
وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل إِلاَّ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، أَوْ نَسِيَ النِّيَّةَ، أَوْ أَكَل عَامِدًا، ثُمَّ جَامَعَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، لِهَتْكِهِ حُرْمَةَ الزَّمَنِ بِهِ، وَلأَِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْتَدِيمِ لِلْوَطْءِ، وَلاَ صَوْمَ هُنَاكَ، فَكَذَا هُنَا (2) .
الثَّانِي: الْجَهْل:
54 - ب - الْجَهْل: عَدَمُ الْعِلْمِ بِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ.
فَالْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، عَلَى إِعْذَارِ حَدِيثِ الْعَهْدِ بِالإِْسْلاَمِ، إِذَا جَهِل الصَّوْمَ فِي رَمَضَانَ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُعْذَرُ مَنْ أَسْلَمَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَصُمْ، وَلَمْ يُصَل، وَلَمْ يُزَكِّ بِجَهْلِهِ بِالشَّرَائِعِ مُدَّةَ جَهْلِهِ؛ لأَِنَّ الْخِطَابَ إِنَّمَا يَلْزَمُ بِالْعِلْمِ بِهِ أَوْ بِدَلِيلِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ، إِذْ لاَ دَلِيل عِنْدَهُ عَلَى فَرْضِ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ (3) .
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج 2 / 70 و 71، والمجموع 6 / 344.
(2) كشاف القناع 2 / 326، والروض المربع 1 / 142.
(3) مراقي الفلاح ص 243.(28/44)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ جَهِل تَحْرِيمَ الطَّعَامِ أَوِ الْوَطْءِ، بِأَنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالإِْسْلاَمِ، أَوْ نَشَأَ بَعِيدًا عَنِ الْعُلَمَاءِ، لَمْ يُفْطِرْ، كَمَا لَوْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْقَيْءُ (1) .
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْجَاهِل بِأَحْكَامِ الصِّيَامِ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هُوَ كَالْعَامِدِ.
وَقَسَّمَ الدُّسُوقِيُّ الْجَاهِل إِلَى ثَلاَثَةٍ: فَجَاهِل حُرْمَةِ الْوَطْءِ، وَجَاهِل رَمَضَانَ، لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا، وَجَاهِل وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ - مَعَ عِلْمِهِ بِحُرْمَةِ الْفِعْل - تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ (2) .
وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ، كَمَا قَرَّرَ بَعْضٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَصَرَّحُوا بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعَامِدِ وَالْجَاهِل وَالْمُكْرَهِ وَالسَّاهِي وَالْمُخْطِئِ (3) .
خَامِسًا: عَوَارِضُ الإِْفْطَارِ:
55 - الْمُرَادُ بِالْعَوَارِضِ: مَا يُبِيحُ عَدَمَ الصَّوْمِ.
وَهِيَ: الْمَرَضُ، وَالسَّفَرُ، وَالْحَمْل، وَالرَّضَاعُ، وَالْهَرَمُ، وَإِرْهَاقُ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَالإِْكْرَاهُ (4) .
__________
(1) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2 / 330.
(2) شرح رسالة أبي زيد، وحاشية العدوي عليه 1 / 400، وجواهر الإكليل 1 / 150.
(3) كشاف القناع 2 / 324، والمغني والشرح الكبير 3 / 54، والروض المربع 1 / 141 و 142.
(4) مراقي الفلاح ص 373.(28/44)
أَوَّلاً: الْمَرَضُ:
56 - الْمَرَضُ هُوَ كُل مَا خَرَجَ بِهِ الإِْنْسَانُ عَنْ حَدِّ الصِّحَّةِ مِنْ عِلَّةٍ (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى إِبَاحَةِ الْفِطْرِ لِلْمَرِيضِ فِي الْجُمْلَةِ (2) ، وَالأَْصْل فِيهِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (3) .
وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَْكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: " لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ، يُفْطِرُ وَيَفْتَدِي، حَتَّى أُنْزِلَتِ الآْيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا يَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (4) فَنَسَخَتْهَا.
فَالْمَرِيضُ الَّذِي يَخَافُ زِيَادَةَ مَرَضِهِ بِالصَّوْمِ أَوْ إِبْطَاءَ الْبُرْءِ أَوْ فَسَادَ عُضْوٍ، لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، بَل يُسَنُّ فِطْرُهُ، وَيُكْرَهُ إِتْمَامُهُ، لأَِنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى الْهَلاَكِ، فَيَجِبُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ (5) .
__________
(1) المصباح المنير مادة (مرض) .
(2) المغني والشرح الكبير 3 / 16.
(3) سورة البقرة: 185.
(4) حديث سلمة بن الأكوع: " لما نزلت هذه الآية. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 8 / 181) ومسلم (2 / 802) والآيتان 184، 185 من سورة البقرة.
(5) حاشية القليوبي على شرح المحلي 1 / 83، وكشاف القناع 2 / 310، ومراقي الفلاح ص 373، ورد المحتار 2 / 116.(28/45)
ثُمَّ إِنَّ شِدَّةَ الْمَرَضِ تُجِيزُ الْفِطْرَ لِلْمَرِيضِ.
أَمَّا الصَّحِيحُ إِذَا خَافَ الشِّدَّةَ أَوِ التَّعَبَ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ، إِذَا حَصَل لَهُ بِالصَّوْمِ مُجَرَّدُ شِدَّةِ تَعَبٍ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِنْ قِيل بِجَوَازِ فِطْرِهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا خَافَ الصَّحِيحُ الْمَرَضَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ فَلَهُ الْفِطْرُ، فَإِنْ خَافَهُ بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ، فَلَيْسَ لَهُ الْفِطْرُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا خَافَ حُصُول أَصْل الْمَرَضِ بِصَوْمِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ - عَلَى الْمَشْهُورِ - إِذْ لَعَلَّهُ لاَ يَنْزِل بِهِ الْمَرَضُ إِذَا صَامَ. وَقِيل: يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ.
فَإِنْ خَافَ كُلٌّ مِنَ الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ الْهَلاَكَ عَلَى نَفْسِهِ بِصَوْمِهِ، وَجَبَ الْفِطْرُ.
وَكَذَا لَوْ خَافَ أَذًى شَدِيدًا، كَتَعْطِيل مَنْفَعَةٍ، مِنْ سَمْعٍ أَوْ بَصَرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، لأَِنَّ حِفْظَ النَّفْسِ وَالْمَنَافِعِ وَاجِبٌ، وَهَذَا بِخِلاَفِ الْجَهْدِ الشَّدِيدِ، فَإِنَّهُ يُبِيحُ الْفِطْرَ لِلْمَرِيضِ، قِيل: وَالصَّحِيحِ أَيْضًا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْمَرِيضَ - وَإِنْ تَعَدَّى بِفِعْل مَا أَمْرَضَهُ - يُبَاحُ لَهُ تَرْكُ الصَّوْمِ، إِذَا وَجَدَ بِهِ ضَرَرًا شَدِيدًا، لَكِنَّهُمْ شَرَطُوا لِجَوَازِ فِطْرِهِ نِيَّةَ التَّرَخُّصِ - كَمَا قَال الرَّمْلِيُّ وَاعْتَمَدَهُ - وَفَرَّقُوا
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 2 / 116، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 1 / 535، وجواهر الإكليل 1 / 153.(28/45)
بَيْنَ الْمَرَضِ الْمُطْبِقِ، وَبَيْنَ الْمَرَضِ الْمُتَقَطِّعِ، فَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ مُطْبِقًا، فَلَهُ تَرْكُ النِّيَّةِ فِي اللَّيْل.
وَإِنْ كَانَ يُحَمُّ وَيَنْقَطِعُ؛ نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ مَحْمُومًا وَقْتَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، فَلَهُ تَرْكُ النِّيَّةِ، وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ مِنَ اللَّيْل، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى الإِْفْطَارِ أَفْطَرَ.
وَمِثْل ذَلِكَ الْحَصَادُ وَالْبِنَاءُ وَالْحَارِسُ - وَلَوْ مُتَبَرِّعًا - فَتَجِبُ عَلَيْهِمُ النِّيَّةُ لَيْلاً، ثُمَّ إِنْ لَحِقَتْهُمْ مَشَقَّةٌ أَفْطَرُوا.
قَال النَّوَوِيُّ: وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى حَالَةٍ لاَ يُمْكِنُهُ فِيهَا الصَّوْمُ، بَل قَال أَصْحَابُنَا: شَرْطُ إِبَاحَةِ الْفِطْرِ أَنْ يَلْحَقَهُ بِالصَّوْمِ مَشَقَّةٌ يَشُقُّ احْتِمَالُهَا، وَأَمَّا الْمَرَضُ الْيَسِيرُ الَّذِي لاَ يَلْحَقُ بِهِ مَشَقَّةٌ ظَاهِرُهُ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْفِطْرُ، بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَنَا، خِلاَفًا لأَِهْل الظَّاهِرِ (1) .
وَخَوْفُ الضَّرَرِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَمَّا خَوْفُ التَّلَفِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَجْعَل الصَّوْمَ مَكْرُوهًا، وَجَزَمَ جَمَاعَةٌ بِحُرْمَتِهِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي الإِْجْزَاءِ، لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، كَمَا لَوْ أَتَمَّ الْمُسَافِرُ (2) .
__________
(1) شرح المحلي وحاشية القليوبي عليه 2 / 64، وروضة الطالبين 2 / 369، والمجموع 6 / 258، وانظر أيضا: الإقناع للشربيني الخطيب وحاشية البجيرمي عليه 2 / 348 و 349.
(2) انظر كشاف القناع 2 / 310، وانظر الإنصاف 3 / 286، والمغني والشرح الكبير 3 / 16.(28/46)
قَالُوا: وَلَوْ تَحَمَّل الْمَرِيضُ الضَّرَرَ، وَصَامَ مَعَهُ، فَقَدْ فَعَل مَكْرُوهًا، لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الإِْضْرَارِ بِنَفْسِهِ، وَتَرْكِهِ تَخْفِيفًا مِنَ اللَّهِ وَقَبُول رُخْصَتِهِ، لَكِنْ يَصِحُّ صَوْمُهُ وَيُجْزِئُهُ، لأَِنَّهُ عَزِيمَةٌ أُبِيحَ تَرْكُهَا رُخْصَةً، فَإِذَا تَحَمَّلَهُ أَجْزَأَهُ، لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، كَمَا أَتَمَّ الْمُسَافِرُ، وَكَالْمَرِيضِ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ تَرْكُ الْجُمُعَةِ، إِذَا حَضَرَهَا.
قَال فِي الْمُبْدِعِ: فَلَوْ خَافَ تَلَفًا بِصَوْمِهِ، كُرِهَ، وَجَزَمَ جَمَاعَةٌ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ. وَلَمْ يَذْكُرُوا خِلاَفًا فِي الإِْجْزَاءِ (1) .
وَلَخَصَّ ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَحْوَال الْمَرِيضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّوْمِ، وَقَال: لِلْمَرِيضِ أَحْوَالٌ:
الأُْولَى: أَنْ لاَ يَقْدِرَ عَلَى الصَّوْمِ أَوْ يَخَافَ الْهَلاَكَ مِنَ الْمَرَضِ أَوِ الضَّعْفَ إِنْ صَامَ، فَالْفِطْرُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الصَّوْمِ بِمَشَقَّةٍ، فَالْفِطْرُ لَهُ جَائِزٌ، وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مُسْتَحَبٌّ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقْدِرَ بِمَشَقَّةٍ، وَيَخَافَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ، فَفِي وُجُوبِ فِطْرِهِ قَوْلاَنِ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ لاَ يَشُقَّ عَلَيْهِ، وَلاَ يَخَافُ
__________
(1) المغني 3 / 17، وكشف القناع 2 / 310.(28/46)
زِيَادَةَ الْمَرَضِ، فَلاَ يُفْطِرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلاَفًا لاِبْنِ سِيرِينَ (1) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَصْبَحَ الصَّحِيحُ صَائِمًا، ثُمَّ مَرِضَ، جَازَ لَهُ الْفِطْرُ بِلاَ خِلاَفٍ، لأَِنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ لِلضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ مَوْجُودَةٌ، فَجَازَ لَهُ الْفِطْرُ (2) .
ثَانِيًا: السَّفَرُ:
57 - يُشْتَرَطُ فِي السَّفَرِ الْمُرَخِّصِ فِي الْفِطْرِ مَا يَلِي:
أ - أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ طَوِيلاً مِمَّا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَأَمَّا الْمَعْنَى الْمَعْقُول مِنْ إِجَازَةِ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ فَهُوَ الْمَشَقَّةُ، وَلَمَّا كَانَتْ لاَ تُوجَدُ فِي كُل سَفَرٍ، وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ الَّذِي فِيهِ الْمَشَقَّةُ، وَلَمَّا كَانَ الصَّحَابَةُ كَأَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى الْحَدِّ فِي ذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يُقَاسَ ذَلِكَ عَلَى الْحَدِّ فِي تَقْصِيرِ الصَّلاَةِ (3) .
ب - أَنْ لاَ يَعْزِمَ الْمُسَافِرُ الإِْقَامَةَ خِلاَل سَفَرِهِ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهِيَ نِصْفُ شَهْرٍ أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (4) .
__________
(1) القوانين الفقهية ص 82.
(2) المجموع 6 / 258، وانظر كشاف القناع 2 / 310.
(3) بداية المجتهد 1 / 346.
(4) الدر المختار 1 / 528، ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي عليه ص 231، والقوانين الفقهية ص 59، وشرح المحلي على المنهاج 1 / 257، والروض المربع 1 / 89.(28/47)
ج - أَنْ لاَ يَكُونَ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ، بَل فِي غَرَضٍ صَحِيحٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ وَتَخْفِيفٌ، فَلاَ يَسْتَحِقُّهَا عَاصٍ بِسَفَرِهِ، بِأَنْ كَانَ مَبْنَى سَفَرِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، كَمَا لَوْ سَافَرَ لِقَطْعِ طَرِيقٍ مَثَلاً.
وَالْحَنَفِيَّةُ يُجِيزُونَ الْفِطْرَ لِلْمُسَافِرِ، وَلَوْ كَانَ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ، عَمَلاً بِإِطْلاَقِ النُّصُوصِ الْمُرَخِّصَةِ، وَلأَِنَّ نَفْسَ السَّفَرِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ أَوْ يُجَاوِرُهُ، وَالرُّخْصَةُ تَتَعَلَّقُ بِالسَّفَرِ لاَ بِالْمَعْصِيَةِ (1) .
د - أَنْ يُجَاوِزَ الْمَدِينَةَ وَمَا يَتَّصِل بِهَا، وَالْبِنَاءَاتِ وَالأَْفْنِيَةَ وَالأَْخْبِيَةَ (2) .
وَذَهَبَ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ، إِلَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ هِلاَل رَمَضَانَ وَهُوَ مُقِيمٌ، ثُمَّ سَافَرَ، جَازَ لَهُ الْفِطْرُ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل مُطْلَقَ السَّفَرِ سَبَبَ الرُّخْصَةِ، بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (3) ، وَلِمَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 216، والدر المختار ورد المحتار 1 / 527، ومراقي الفلاح ص 230، والقوانين الفقهية ص 59، وحاشية البيجوري على ابن قاسم 1 / 210، والروض المربع 1 / 89.
(2) رد المحتار 2 / 115، والشرح الكبير للدردير 1 / 534، ومنح الجليل 1 / 409، والمجموع 6 / 261، وكشاف القناع 2 / 312، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 535.
(3) سورة البقرة / 185.(28/47)
خَرَجَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ مُسَافِرًا، وَأَفْطَرَ (1) .
وَلأَِنَّ السَّفَرَ إِنَّمَا كَانَ سَبَبَ الرُّخْصَةِ لِمَكَانِ الْمَشَقَّةِ.
وَحَكَى النَّوَوِيُّ عَنْ أَبِي مَخْلَدٍ التَّابِعِيِّ أَنَّهُ لاَ يُسَافِرُ، فَإِنْ سَافَرَ لَزِمَهُ الصَّوْمُ وَحُرِّمَ الْفِطْرُ وَعَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ التَّابِعِيِّ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ، وَلاَ يَمْتَنِعُ السَّفَرُ، وَاسْتَدَل لَهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (2) .
حَكَى الْكَاسَانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُ إِذَا أَهَل فِي الْمِصْرِ، ثُمَّ سَافَرَ، لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ. وَاسْتَدَل لَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَلأَِنَّهُ لَمَّا اسْتَهَل فِي الْحَضَرِ لَزِمَهُ صَوْمُ الإِْقَامَةِ، وَهُوَ صَوْمُ الشَّهْرِ حَتْمًا، فَهُوَ بِالسَّفَرِ يُرِيدُ إِسْقَاطَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَلاَ يَمْلِكُ ذَلِكَ، كَالْيَوْمِ الَّذِي سَافَرَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِيهِ (3) .
58 - وَفِي وَقْتِ جَوَازِ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ ثَلاَثُ أَحْوَالٍ:
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة الفتح في رمضان. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 8 / 3) من حديث ابن عباس.
(2) سورة البقرة / 185.
(3) البدائع بتصرف 2 / 94 و 95.(28/48)
الأُْولَى:
أَنْ يَبْدَأَ السَّفَرَ قَبْل الْفَجْرِ، أَوْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُسَافِرٌ، وَيَنْوِيَ الْفِطْرَ، فَيَجُوزَ لَهُ الْفِطْرُ إِجْمَاعًا - كَمَا قَال ابْنُ جُزَيٍّ - لأَِنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالسَّفَرِ، عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبْدَأَ السَّفَرَ بَعْدَ الْفَجْرِ، بِأَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُقِيمٌ بِبَلَدِهِ، ثُمَّ يُسَافِرَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، أَوْ خِلاَل النَّهَارِ، فَإِنَّهُ لاَ يَحِل لَهُ الْفِطْرُ بِإِنْشَاءِ السَّفَرِ بَعْدَمَا أَصْبَحَ صَائِمًا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَذَلِكَ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحَضَرِ (1) .
وَمَعَ ذَلِكَ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي إِفْطَارِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، خِلاَفًا لاِبْنِ كِنَانَةَ، وَذَلِكَ لِلشُّبْهَةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ (2) . وَلأَِنَّهُ لَمَّا سَافَرَ بَعْدَ الْفَجْرِ صَارَ مِنْ أَهْل الْفِطْرِ، فَسَقَطَتْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْفِطْرُ حَتَّى لَوْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ (3) .
__________
(1) الوجيز 1 / 103، والدر المختار 2 / 122، والقوانين الفقهية ص 82، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 64، والمغني 3 / 19، والروض المربع 1 / 139.
(2) الدر المختار ورد المحتار 3 / 122، 123، والقوانين الفقهية ص 82، وانظر مراقي الفلاح ص 369.
(3) الشرح الكبير للدردير 1 / 535، ومنح الجليل 1 / 410، حاشية القليوبي على شرح المحلي 2 / 64، وروضة الطالبين 2 / 369.(28/48)
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ فِي الْحَضَرِ، ثُمَّ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ، طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، فَلَهُ الْفِطْرُ بَعْدَ خُرُوجِهِ وَمُفَارَقَتِهِ بُيُوتَ قَرْيَتِهِ الْعَامِرَةِ، وَخُرُوجِهِ مِنْ بَيْنِ بُنْيَانِهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي:
- ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) .
- وَحَدِيثُ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَقِيل لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ، وَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَشَرِبَ - وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ - فَأَفْطَرَ بَعْضُهُمْ، وَصَامَ بَعْضُهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا صَامُوا، فَقَال: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ (2) .
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ
__________
(1) سورة البقرة / 185.
(2) حديث جابر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح. . . ". أخرجه مسلم (2 / 785، 786) والترمذي (3 / 80 - 81) والسياق للترمذي.(28/49)
إِلَى مَكَّةَ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى مَرَّ بِغَدِيرٍ فِي الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ. قَال: فَعَطِشَ النَّاسُ، جَعَلُوا يَمُدُّونَ أَعْنَاقَهُمْ، وَتَتُوقُ أَنْفُسُهُمْ إِلَيْهِ. قَال: فَدَعَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَأَمْسَكَهُ عَلَى يَدِهِ، حَتَّى رَآهُ النَّاسُ، ثُمَّ شَرِبَ، فَشَرِبَ النَّاسُ (1) .
وَقَالُوا: إِنَّ السَّفَرَ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ، فَإِبَاحَتُهُ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ كَالْمَرَضِ الطَّارِئِ وَلَوْ كَانَ بِفِعْلِهِ.
وَقَال الَّذِينَ أَبَاحُوهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ تَغْلِيبٌ لِحُكْمِ السَّفَرِ (2) .
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ الْمُؤَيِّدُونَ لِهَذَا الرَّأْيِ عَلَى أَنَّ الأَْفْضَل لِمَنْ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ نَوَى صَوْمَهُ - إِتْمَامُ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ لَمْ يُبِحْ لَهُ الْفِطْرَ، وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحَضَرِ، كَالصَّلاَةِ (3) .
الثَّالِثَةُ: أَنْ يُفْطِرَ قَبْل مُغَادَرَةِ بَلَدِهِ. وَقَدْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ، وَقَالُوا: إِنَّ رُخْصَةَ السَّفَرِ لاَ تَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ، كَمَا لاَ تَبْقَى بِدُونِهِ، وَلَمَّا يَتَحَقَّقُ السَّفَرُ بَعْدُ، بَل هُوَ مُقِيمٌ وَشَاهِدٌ، وَقَدْ قَال تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ
__________
(1) حديث ابن عباس: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكة. . . ". أخرجه أحمد (1 / 366) ، وعلقه البخاري في صحيحه (8 / 3) .
(2) شرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 64.
(3) كشاف القناع 2 / 312، والروض المربع 1 / 139.(28/49)
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَلاَ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُسَافِرًا حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْبَلَدِ، وَمَهْمَا كَانَ فِي الْبَلَدِ فَلَهُ أَحْكَامُ الْحَاضِرِينَ، وَلِذَلِكَ لاَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ.
وَالْجُمْهُورُ الَّذِينَ قَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِ الإِْفْطَارِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا أَكَل، هَل عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؟ فَقَال مَالِكٌ: لاَ. وَقَال أَشْهَبُ: هُوَ مُتَأَوِّلٌ، وَقَال غَيْرُهُمَا: يُكَفِّرُ.
وَقَال ابْنُ جُزَيٍّ: فَإِنْ أَفْطَرَ قَبْل الْخُرُوجِ، فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ. يُفَرَّقُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ أَنْ يُسَافِرَ فَتَسْقُطَ، أَوْ لاَ، فَتَجِبُ (1) .
59 - وَيَتَّصِل بِهَذِهِ الْمَسَائِل فِي إِفْطَارِ الْمُسَافِرِ: مَا لَوْ نَوَى فِي سَفَرِهِ الصَّوْمَ لَيْلاً، وَأَصْبَحَ صَائِمًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُضَ عَزِيمَتَهُ قَبْل الْفَجْرِ، لاَ يَحِل فِطْرُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ مُحْتَمَلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَوْ أَفْطَرَ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَكَذَا لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ بِالأَْوْلَى، لَوْ نَوَى نَهَارًا (2) .
وَقَال ابْنُ جُزَيٍّ: مَنْ كَانَ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحَ عَلَى نِيَّةِ الصَّوْمِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْفِطْرُ إِلاَّ بِعُذْرٍ، كَالتَّغَذِّي لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَأَجَازَهُ مُطَرِّفٌ
__________
(1) القوانين الفقهية ص 82.
(2) رد المحتار 2 / 122 و 123، وانظر مراقي الفلاح ص 369 و 374.(28/50)
مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ: إِنْ أَفْطَرَ، فَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: يُفَرَّقُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ أَنْ يُفْطِرَ بِجِمَاعٍ فَتَجِبَ، أَوْ بِغَيْرِهِ فَلاَ تَجِبَ.
لَكِنَّ الَّذِي فِي شُرُوحِ خَلِيلٍ، وَفِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ: أَنَّهُ إِذَا بَيَّتَ نِيَّةَ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَأَصْبَحَ صَائِمًا فِيهِ ثُمَّ أَفْطَرَ، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ سَوَاءٌ أَفْطَرَ مُتَأَوِّلاً أَمْ لاَ. فَسَأَل سَحْنُونٌ ابْنَ الْقَاسِمِ، عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ بَيَّتَ الصَّوْمَ فِي الْحَضَرِ ثُمَّ أَفْطَرَ بَعْدَ أَنْ سَافَرَ بَعْدَ الْفَجْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْوِيَهُ فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ ثُمَّ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؟ فَقَال: لأَِنَّ الْحَاضِرَ مِنْ أَهْل الصَّوْمِ فَسَافَرَ فَصَارَ مِنْ أَهْل الْفِطْرِ، فَسَقَطَتْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ، وَالْمُسَافِرُ مُخَيَّرٌ فِيهِمَا، فَاخْتَارَ الصَّوْمَ وَتَرَكَ الرُّخْصَةَ، فَصَارَ مِنْ أَهْل الصِّيَامِ، فَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْكَفَّارَةِ (1) .
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا فِي السَّفَرِ، ثُمَّ أَرَادَ الْفِطْرَ، جَازَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، لأَِنَّ الْعُذْرَ قَائِمٌ - وَهُوَ السَّفَرُ - أَوْ لِدَوَامِ الْعُذْرِ - كَمَا يَقُول الْمَحَلِّيُّ.
وَمِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا
__________
(1) القوانين الفقهية ص 82، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 535، وجواهر الإكليل 1 / 153، ومنح الجليل 1 / 410، وشرح الزرقاني (2 / 213 ط: دار الفكر، بيروت) .(28/50)
. . فَصَامَ حَتَّى مَرَّ بِغَدِيرٍ فِي الطَّرِيقِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. . . فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ (1) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ، لاَ يُعْرَجُ عَلَى مَا خَالَفَهُ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ لإِِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَصَاحِبِ الْمُهَذَّبِ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّهُ دَخَل فِي فَرْضِ الْمُقِيمِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ التَّرَخُّصُ بِرُخْصَةِ الْمُسَافِرِ، كَمَا لَوْ دَخَل فِي الصَّلاَةِ بِنِيَّةِ الإِْتْمَامِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْصُرَ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ، فَفِي كَرَاهَةِ الْفِطْرِ وَجْهَانِ، وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل ذَلِكَ (3) .
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ لَهُ الْفِطْرَ بِمَا شَاءَ، مِنْ جِمَاعٍ وَغَيْرِهِ، كَأَكْلٍ وَشُرْبٍ، لأَِنَّ مَنْ أُبِيحَ لَهُ الأَْكْل أُبِيحَ لَهُ الْجِمَاعُ، كَمَنْ لَمْ يَنْوِ، وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ، لِحُصُول الْفِطْرِ بِالنِّيَّةِ قَبْل الْجِمَاعِ، فَيَقَعُ الْجِمَاعُ بَعْدَهُ (4) .
__________
(1) حديث ابن عباس: " فصام حتى مر بغدير. . . " وحديث جابر: " فصام حتى بلغ كراع الغميم. . . " تقدما في الفقرة / 58.
(2) المغني 3 / 19.
(3) روضة الطالبين 2 / 369، والمهذب وشرحه المجموع 6 / 260 و 261، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 64، والوجيز 1 / 103.
(4) كشاف القناع 2 / 312.(28/51)
صِحَّةُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ:
60 - ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ، وَجَمَاهِيرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ جَائِزٌ صَحِيحٌ مُنْعَقِدٌ، وَإِذَا صَامَ وَقَعَ صِيَامُهُ وَأَجْزَأَهُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُسَافِرِ إِنْ صَامَ فِي سَفَرٍ. وَرُوِيَ الْقَوْل بِكَرَاهَتِهِ.
وَالْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ، وَالأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ، الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى صِحَّةِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ - اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيِّهِمَا أَفْضَل، الصَّوْمُ أَمِ الْفِطْرُ، أَوْ هُمَا مُتَسَاوِيَانِ؟
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَل، إِذَا لَمْ يُجْهِدْهُ الصَّوْمُ وَلَمْ يُضْعِفْهُ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ (1) . قَال الْغَزَالِيُّ: وَالصَّوْمُ أَحَبُّ مِنَ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، لِتَبْرِئَةِ الذِّمَّةِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ (2) . وَقَيَّدَ الْقَلْيُوبِيُّ الضَّرَرَ بِضَرَرٍ لاَ يُوجِبُ الْفِطْرَ (3) .
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} . . إِلَى قَوْلِهِ. .
__________
(1) الدر المختار 2 / 117، وحاشية القليوبي على شرح المحلي على المنهاج 2 / 64.
(2) الوجيز 1 / 103.
(3) حاشية القليوبي 2 / 64.(28/51)
{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ (1) } . فَقَدْ دَلَّتِ الآْيَاتُ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ عَزِيمَةٌ وَالإِْفْطَارَ رُخْصَةٌ، وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ الْعَزِيمَةَ أَفْضَل، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الأُْصُول، قَال ابْنُ رُشْدٍ: مَا كَانَ رُخْصَةً فَالأَْفْضَل تَرْكُ الرُّخْصَةِ، (2) .
وَبِحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ الْمُتَقَدِّمِ قَال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فِي حَرٍّ شَدِيدٍ. . . مَا فِينَا صَائِمٌ إِلاَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ (3) .
وَقَيَّدَ الْحَدَّادِيُّ، صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَفْضَلِيَّةَ الصَّوْمِ - أَيْضًا - بِمَا إِذَا لَمْ تَكُنْ عَامَّةُ رُفْقَتِهِ مُفْطِرِينَ، وَلاَ مُشْتَرِكِينَ فِي النَّفَقَةِ، فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ، فَالأَْفْضَل فِطْرُهُ مُوَافَقَةً لِلْجَمَاعَةِ (4) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ أَفْضَل، بَل قَال الْخِرَقِيُّ: وَالْمُسَافِرُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْفِطْرُ، قَال الْمِرْدَاوِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ.
__________
(1) سورة البقرة / 183 - 185.
(2) بداية المجتهد 1 / 345.
(3) حديث أبي الدرداء: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان. . . ". أخرجه البخاري الفتح (4 / 182) ومسلم (2 / 790) واللفظ لمسلم.
(4) الهداية وفتح القدير 2 / 273، والدر المختار 2 / 117، ومراقي الفلاح ص 375، وبداية المجتهد 1 / 345، والقوانين الفقهية (81) ، والمجموع 6 / 265 و 266، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 64، والإنصاف 3 / 287.(28/52)
وَفِي الإِْقْنَاعِ: وَالْمُسَافِرُ سَفَرَ قَصْرٍ يُسَنُّ لَهُ الْفِطْرُ.
وَيُكْرَهُ صَوْمُهُ، وَلَوْ لَمْ يَجِدْ مَشَقَّةً. وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ وَجَدَ مَشَقَّةً أَوْ لاَ، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَسَعِيدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ (1) .
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ (2) وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّذِي رَخَّصَ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا (3) .
قَال الْمَجْدُ: وَعِنْدِي لاَ يُكْرَهُ لِمَنْ قَوِيَ، وَاخْتَارَهُ الآْجُرِّيُّ (4) .
قَال النَّوَوِيُّ وَالْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: إِنَّ الأَْحَادِيثَ الَّتِي تَدُل عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْفِطْرِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ يَتَضَرَّرُ بِالصَّوْمِ، وَفِي بَعْضِهَا التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، وَلاَ بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيل، لِيُجْمَعَ بَيْنَ الأَْحَادِيثِ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إِهْمَال بَعْضِهَا، أَوِ ادِّعَاءِ النَّسْخِ، مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ (5) .
وَالَّذِينَ سَوَّوْا بَيْنَ الصَّوْمِ وَبَيْنَ الْفِطْرِ،
__________
(1) كشاف القناع 2 / 311، والمغني والشرح الكبير 3 / 18.
(2) حديث جابر: " ليس من البر الصوم في السفر ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 183) ومسلم (2 / 786) .
(3) زيادة: " عليكم برخصة الله. . . ". أخرجها مسلم (2 / 786) ، وفي رواية أخرى لهذا الحديث: " التي رخص لكم " أخرجها النسائي (4 / 176) .
(4) كشاف القناع 2 / 312.
(5) المجموع 6 / 266، وفتح القدير 2 / 273، 274.(28/52)
اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَْسْلَمِيَّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ - وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ - فَقَال: إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ (1) .
انْقِطَاعُ رُخْصَةِ السَّفَرِ:
61 - تَسْقُطُ رُخْصَةُ السَّفَرِ بِأَمْرَيْنِ اتِّفَاقًا:
الأَْوَّل: إِذَا عَادَ الْمُسَافِرُ إِلَى بَلَدِهِ، وَدَخَل وَطَنَهُ، وَهُوَ مَحَل إقَامَتِهِ، وَلَوْ كَانَ دُخُولُهُ بِشَيْءٍ نَسِيَهُ، يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، كَمَا لَوْ قَدِمَ لَيْلاً، أَوْ قَدِمَ قَبْل نِصْفِ النَّهَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
أَمَّا لَوْ قَدِمَ نَهَارًا، وَلَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ لَيْلاً، أَوْ قَدِمَ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ نَوَى الصَّوْمَ قَبْلاً - فَإِنَّهُ يُمْسِكُ بَقِيَّةَ النَّهَارِ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِي وُجُوبِ إِمْسَاكِهِ.
الثَّانِي: إِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الإِْقَامَةَ مُطْلَقًا، أَوْ مُدَّةَ الإِْقَامَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي شُرُوطِ جَوَازِ فِطْرِ الْمُسَافِرِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ الْمَكَانُ صَالِحًا لِلإِْقَامَةِ، لاَ كَالسَّفِينَةِ وَالْمَفَازَةِ وَدَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا بِذَلِكَ، فَيُتِمُّ الصَّلاَةَ،
__________
(1) حديث عائشة: " أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم. . . " الحديث. أخرجه البخاري (4 / 179) ومسلم (2 / 789) .
(2) الدر المختار ورد المحتار عليه 2 / 106.(28/53)
وَيَصُومُ وَلاَ يُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ، لاِنْقِطَاعِ حُكْمِ السَّفَرِ (1) .
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْفِطْرُ - عَلَى الصَّحِيحِ - لِزَوَال الْعُذْرِ، وَفِي قَوْلٍ: يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ، اعْتِبَارًا بِأَوَّل الْيَوْمِ (2) .
قَال ابْنُ جُزَيٍّ: إِنَّ السَّفَرَ لاَ يُبِيحُ قَصْرًا وَلاَ فِطْرًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ وَالْفِعْل، بِخِلاَفِ الإِْقَامَةِ، فَإِنَّهَا تُوجِبُ الصَّوْمَ وَالإِْتْمَامَ بِالنِّيَّةِ دُونَ الْفِعْل (3) .
وَإِذَا لَمْ يَنْوِ الإِْقَامَةَ لَكِنَّهُ أَقَامَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ لَهُ، بِلاَ نِيَّةِ إقَامَةٍ، وَلاَ يَدْرِي مَتَى تَنْقَضِي، أَوْ كَانَ يَتَوَقَّعُ انْقِضَاءَهَا فِي كُل وَقْتٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، كَمَا يَقْصُرَ الصَّلاَةَ. قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ بَقِيَ عَلَى ذَلِكَ سِنِينَ.
فَإِنْ ظَنَّ أَنَّهَا لاَ تَنْقَضِي إِلاَّ فَوْقَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مُقِيمًا، فَلاَ يُفْطِرُ وَلاَ يَقْصُرُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْفَرْضُ قِتَالاً - كَمَا قَال الْغَزَالِيُّ - فَإِنَّهُ يَتَرَخَّصُ عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ دَخَل الْمُسْلِمُونَ أَرْضَ الْحَرْبِ أَوْ حَاصَرُوا حِصْنًا فِيهَا، أَوْ كَانَتِ الْمُحَاصَرَةُ لِلْمِصْرِ عَلَى سَطْحِ الْبَحْرِ، فَإِنَّ لِسَطْحِ الْبَحْرِ
__________
(1) البدائع 2 / 97 و 98، وانظر الشرح الكبير للدردير 1 / 535، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 64 و 1 / 257، والوجيز 1 / 58.
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 64.
(3) القوانين الفقهية ص 82.(28/53)
حُكْمَ دَارِ الْحَرْبِ (1) .
وَدَلِيل هَذَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلاَةَ (2) وَيُلاَحَظُ أَنَّ الْفِطْرَ كَالْقَصْرِ الَّذِي نَصُّوا عَلَيْهِ فِي صَلاَةِ الْمُسَافِرِ، مِنْ حَيْثُ التَّرَخُّصُ، فَإِنَّ الْمُسَافِرَ لَهُ سَائِرُ رُخَصِ السَّفَرِ (3) .
ثَالِثًا: الْحَمْل وَالرَّضَاعُ:
62 - الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْحَامِل وَالْمُرْضِعَ لَهُمَا أَنْ تُفْطِرَا فِي رَمَضَانَ، بِشَرْطِ أَنْ تَخَافَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ عَلَى وَلَدِهِمَا الْمَرَضَ أَوْ زِيَادَتَهُ، أَوِ الضَّرَرَ أَوِ الْهَلاَكَ، فَالْوَلَدُ مِنَ الْحَامِل بِمَنْزِلَةِ عُضْوٍ مِنْهَا، فَالإِْشْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كَالإِْشْفَاقِ مِنْهُ عَلَى بَعْضِ أَعْضَائِهَا (4) .
قَال الدَّرْدِيرُ: وَيَجِبُ (يَعْنِي الْفِطْرَ) إِنْ خَافَتَا هَلاَكًا أَوْ شَدِيدَ أَذًى، وَيَجُوزُ إِنْ خَافَتَا عَلَيْهِ الْمَرَضَ أَوْ زِيَادَتَهُ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ صَوْمِهِمَا، كَالْمَرِيضِ (5) .
__________
(1) الدر المختار 1 / 529، والاختيار 1 / 80، والقوانين الفقهية ص 59، والإقناع بحاشية البجيرمي 2 / 154، والروض المربع 1 / 90، والوجيز 1 / 58 و 59.
(2) انظر الروض المربع 1 / 90، وحديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك عشرين يوما. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 27) وأعله بالإرسال، وأعله الدارقطني بالإرسال والانقطاع كذا في التلخيص لابن حجر (2 / 45) .
(3) حاشية البجيرمي على شرح الإقناع للخطيب 2 / 154.
(4) المغني مع الشرح الكبير 3 / 20.
(5) الشرح الكبير للدردير 1 / 536، وجواهر الإكليل 1 / 153، ومنح الجليل 1 / 410، وكشاف القناع 2 / 313.(28/54)
وَدَلِيل تَرْخِيصِ الْفِطْرِ لَهُمَا: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (1) } وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَرَضِ صُورَتَهُ، أَوْ عَيْنَ الْمَرَضِ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لاَ يَضُرُّهُ الصَّوْمُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، فَكَانَ ذِكْرُ الْمَرَضِ كِنَايَةً عَنْ أَمْرٍ يَضُرُّ الصَّوْمُ مَعَهُ، وَهُوَ مَعْنَى الْمَرَضِ، وَقَدْ وُجِدَ هَاهُنَا، فَيَدْخُلاَنِ تَحْتَ رُخْصَةِ الإِْفْطَارِ (2) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْحَمْل مَرَضٌ حَقِيقَةً، وَالرَّضَاعَ فِي حُكْمِ الْمَرَضِ، وَلَيْسَ مَرَضًا حَقِيقَةً (3) .
وَكَذَلِكَ، مِنْ أَدِلَّةِ تَرْخِيصِ الْفِطْرِ لَهُمَا، حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْكَعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلاَةِ، وَعَنِ الْحَامِل أَوِ الْمُرْضِعِ الصَّوْمَ أَوِ الصِّيَامَ وَفِي لَفْظِ بَعْضِهِمْ: عَنِ الْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ (4) .
وَإِطْلاَقُ لَفْظِ الْحَامِل يَتَنَاوَل - كَمَا نَصَّ الْقَلْيُوبِيُّ - كُل حَمْلٍ، وَلَوْ مِنْ زِنًا وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمُرْضِعُ أُمًّا لِلرَّضِيعِ، أَمْ كَانَتْ
__________
(1) سورة البقرة / 185.
(2) البدائع 2 / 97.
(3) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 536، وانظر حاشية البجيرمي على الإقناع 2 / 346.
(4) حديث: " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 85) ، واللفظ الثاني أخرجه النسائي (4 / 190) . وقال الترمذي: حديث حسن.(28/54)
مُسْتَأْجَرَةً لإِِرْضَاعِ غَيْرِ وَلَدِهَا، فِي رَمَضَانَ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنَّ فِطْرَهَا جَائِزٌ، عَلَى الظَّاهِرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، بَل لَوْ كَانَتْ مُتَبَرِّعَةً وَلَوْ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهَا، أَوْ مِنْ زِنًا، جَازَ لَهَا الْفِطْرُ مَعَ الْفِدْيَةِ (1) .
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، كَابْنِ الْكَمَال وَالْبَهْنَسِيِّ: تُقَيَّدُ الْمُرْضِعُ بِمَا إِذَا تَعَيَّنَتْ لِلإِْرْضَاعِ، كَالظِّئْرِ بِالْعَقْدِ، وَالأُْمِّ بِأَنْ لَمْ يَأْخُذْ ثَدْيَ غَيْرِهَا، أَوْ كَانَ الأَْبُ مُعْسِرًا، لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ عَلَيْهَا، لَكِنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ خِلاَفُهُ، وَأَنَّ الإِْرْضَاعَ وَاجِبٌ عَلَى الأُْمِّ دِيَانَةً مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ، وَقَضَاءً إِذَا كَانَ الأَْبُ مُعْسِرًا، أَوْ كَانَ الْوَلَدُ لاَ يَرْضَعُ مِنْ غَيْرِهَا.
وَأَمَّا الظِّئْرُ فَلأَِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهَا بِالْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ فِي رَمَضَانَ، خِلاَفًا لِمَنْ قَيَّدَ الْحِل بِالإِْجَارَةِ قَبْل رَمَضَانَ (2) .
كَمَا قَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَالْغَزَالِيِّ: يُقَيَّدُ فِطْرُ الْمُرْضِعِ، بِمَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَأْجَرَةً لإِِرْضَاعِ غَيْرِ وَلَدِهَا، أَوْ لَمْ تَكُنْ مُتَبَرِّعَةً، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ الْمُصَحَّحَ عِنْدَهُمْ خِلاَفُهُ، قِيَاسًا عَلَى السَّفَرِ فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِي جَوَازِ الإِْفْطَارِ بِهِ مَنْ سَافَرَ
__________
(1) الدر المختار 2 / 116، وحاشية القليوبي على شرح المحلي 2 / 68.
(2) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 374، والدر المختار ورد المحتار عليه 2 / 116.(28/55)
لِغَرَضِ نَفْسِهِ، وَغَرَضِ غَيْرِهِ، بِأُجْرَةٍ وَغَيْرِهَا (1) .
رَابِعًا: الشَّيْخُوخَةُ وَالْهَرَمُ:
63 - وَتَشْمَل الشَّيْخُوخَةُ وَالْهَرَمُ مَا يَلِي: -
الشَّيْخَ الْفَانِيَ، وَهُوَ الَّذِي فَنِيَتْ قُوَّتُهُ، أَوْ أَشْرَفَ عَلَى الْفَنَاءِ، وَأَصْبَحَ كُل يَوْمٍ فِي نَقْصٍ إِلَى أَنْ يَمُوتَ.
الْمَرِيضَ الَّذِي لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَتَحَقَّقَ الْيَأْسُ مِنْ صِحَّتِهِ.
الْعَجُوزَ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الْمُسِنَّةُ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: الْمَرِيضُ الَّذِي لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ فِي حُكْمِ الْكَبِيرِ (2) .
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ عَجْزَ الشَّيْخُوخَةِ وَالْهَرَمِ، بِأَنْ يَكُونَ مُسْتَمِرًّا، فَلَوْ لَمْ يَقْدِرَا عَلَى الصَّوْمِ لِشِدَّةِ الْحَرِّ مَثَلاً، كَانَ لَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا، وَيَقْضِيَاهُ فِي الشِّتَاءِ (3) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُمَا الصَّوْمُ، وَنَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ الإِْجْمَاعَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ لَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا، إِذَا كَانَ الصَّوْمُ يُجْهِدُهُمَا وَيَشُقُّ عَلَيْهِمَا مَشَقَّةً شَدِيدَةً.
قَال ابْنُ جُزَيٍّ: إِنَّ الشَّيْخَ وَالْعَجُوزَ الْعَاجِزَيْنِ عَنِ الصَّوْمِ، يَجُوزُ لَهُمَا الْفِطْرُ
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج 2 / 68، والمجموع 6 / 268.
(2) رد المحتار 2 / 119، وحاشية البجيرمي على الإقناع 2 / 344، والمجموع 6 / 258، والروض المربع 1 / 138.
(3) رد المحتار 2 / 119 نقلا عن فتح القدير.(28/55)
إِجْمَاعًا، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمَا (1) .
وَالأَْصْل فِي شَرْعِيَّةِ إِفْطَارِ مَنْ ذُكِرَ:
أ - قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ (2) } فَقَدْ قِيل فِي بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيل: إِنَّ (لاَ) مُضْمَرَةٌ فِي الآْيَةِ، وَالْمَعْنَى: وَعَلَى الَّذِينَ لاَ يُطِيقُونَهُ.
وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: الآْيَةُ لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، وَهِيَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ، لاَ يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا، فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُل يَوْمٍ مِسْكِينًا (3) .
وَالآْيَةُ فِي مَحَل الاِسْتِدْلاَل، حَتَّى عَلَى الْقَوْل بِنَسْخِهَا، لأَِنَّهَا إِنْ وَرَدَتْ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي - كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ - فَظَاهِرٌ، وَإِنْ وَرَدَتْ لِلتَّخْيِيرِ فَكَذَلِكَ؛ لأَِنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَى الصَّوْمِ، فَبَقِيَ الشَّيْخُ الْفَانِي عَلَى حَالِهِ كَمَا كَانَ (4) .
ب - وَالْعُمُومَاتُ الْقَاضِيَةُ بِرَفْعِ الْحَرَجِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (5) } .
__________
(1) مراقي الفلاح 375 و 367، والقوانين الفقهية ص 82، المجموع 6 / 258، المغني مع الشرح الكبير 3 / 79، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 64، وكشاف القناع 2 / 309.
(2) سورة البقرة / 184.
(3) فتح القدير 2 / 277.
(4) العناية للبابرتي على الهداية بهامش فتح القدير 2 / 277.
(5) سورة الحج / 78.(28/56)
وَمُوجِبُ الإِْفْطَارِ بِسَبَبِ الشَّيْخُوخَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: وُجُوبُ الْفِدْيَةِ، وَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
خَامِسًا: إِرْهَاقُ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ:
64 - مَنْ أَرْهَقَهُ جُوعٌ مُفْرِطٌ، أَوْ عَطَشٌ شَدِيدٌ، فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَيَقْضِي (1) . وَقَيَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلاَكَ، بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، لاَ بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ، أَوْ يَخَافَ نُقْصَانَ الْعَقْل، أَوْ ذَهَابَ بَعْضِ الْحَوَاسِّ، كَالْحَامِل وَالْمُرْضِعِ إِذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الْهَلاَكَ أَوْ عَلَى أَوْلاَدِهِمَا.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ حُرِّمَ عَلَيْهِ الصِّيَامُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ حِفْظَ النَّفْسِ وَالْمَنَافِعِ وَاجِبٌ (2) .
الثَّانِي: أَنْ لاَ يَكُونَ ذَلِكَ بِإِتْعَابِ نَفْسِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ بِهِ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَقِيل: لاَ (3) .
وَأَلْحَقَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالْمَرِيضِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْخَوْفَ عَلَى النَّفْسِ فِي مَعْنَى الْمَرَضِ (4) . وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَمِثْل الْمَرَضِ غَلَبَةُ جُوعٍ
__________
(1) القوانين الفقهية ص 82، والدر المختار 2 / 116، 117.
(2) جواهر الإكليل 1 / 153، والقوانين الفقهية ص 82، وانظر حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 374.
(3) مراقي الفلاح ص 374.
(4) حاشية البجيرمي على الإقناع 2 / 346.(28/56)
وَعَطَشٍ، لاَ نَحْوُ صُدَاعٍ، وَوَجَعِ أُذُنٍ وَسِنٍّ خَفِيفَةٍ.
وَمَثَّلُوا لَهُ بِأَرْبَابِ الْمِهَنِ الشَّاقَّةِ، لَكِنْ قَالُوا: عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الصِّيَامَ لَيْلاً، ثُمَّ إِنِ احْتَاجَ إِلَى الإِْفْطَارِ، وَلَحِقَتْهُ مَشَقَّةٌ، أَفْطَرَ (1) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْمُحْتَرِفُ الْمُحْتَاجُ إِلَى نَفَقَتِهِ كَالْخَبَّازِ وَالْحَصَّادِ، إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَوِ اشْتَغَل بِحِرْفَتِهِ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ، يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْفِطْرُ قَبْل أَنْ تَلْحَقَهُ مَشَقَّةٌ.
وَقَال أَبُو بَكْرٍ الآْجُرِّيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: مَنْ صَنْعَتُهُ شَاقَّةٌ، فَإِنْ خَافَ بِالصَّوْمِ تَلَفًا، أَفْطَرَ وَقَضَى، إِنْ ضَرَّهُ تَرْكُ الصَّنْعَةِ، فَإِنْ لَمْ يَضُرَّهُ تَرْكُهَا أَثِمَ بِالْفِطْرِ وَبِتَرْكِهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْتِفِ الضَّرَرُ بِتَرْكِهَا، فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ بِالْفِطْرِ لِلْعُذْرِ (2) .
65 - وَأَلْحَقُوا بِإِرْهَاقِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ خَوْفَ الضَّعْفِ عَنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ الْمُتَوَقَّعِ أَوِ الْمُتَيَقَّنِ كَأَنْ كَانَ مُحِيطًا: فَالْغَازِي إِذَا كَانَ يَعْلَمُ يَقِينًا أَوْ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ الْقِتَال بِسَبَبِ وُجُودِهِ بِمُقَابَلَةِ الْعَدُوِّ، وَيَخَافُ الضَّعْفَ عَنِ الْقِتَال بِالصَّوْمِ، وَلَيْسَ مُسَافِرًا، لَهُ الْفِطْرُ قَبْل الْحَرْبِ.
قَال فِي الْهِنْدِيَّةِ: فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقِ الْقِتَال فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، لأَِنَّ فِي الْقِتَال يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيمِ
__________
(1) حاشية القليوبي على شرح المحلي 2 / 64.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 208 نقلا عن القنية، ورد المحتار 2 / 114، 115، وكشاف القناع 2 / 310.(28/57)
الإِْفْطَارِ، لِيَتَقَوَّى وَلاَ كَذَلِكَ الْمَرَضُ.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: وَمَنْ قَاتَل عَدُوًّا، أَوْ أَحَاطَ الْعَدُوُّ بِبَلَدِهِ، وَالصَّوْمُ يُضْعِفُهُ عَنِ الْقِتَال، سَاغَ لَهُ الْفِطْرُ بِدُونِ سَفَرٍ نَصًّا، لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ (1) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فِي أَنَّ الْمُرْهَقَ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ، يُفْطِرُ، وَيَقْضِي - كَمَا ذَكَرْنَا - وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِيمَا إِذَا أَفْطَرَ الْمُرْهَقُ، فَهَل يُمْسِكُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، أَمْ يَجُوزُ لَهُ الأَْكْل (2) ؟
سَادِسًا: الإِْكْرَاهُ:
66 - الإِْكْرَاهُ: حَمْل الإِْنْسَانِ غَيْرَهُ، عَلَى فِعْل أَوْ تَرْكِ مَا لاَ يَرْضَاهُ بِالْوَعِيدِ (3) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْفِطْرِ فَأَفْطَرَ قَضَى.
قَالُوا: إِذَا أُكْرِهَ الصَّائِمُ بِالْقَتْل عَلَى الْفِطْرِ، بِتَنَاوُل الطَّعَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ، فَمُرَخَّصٌ لَهُ بِهِ، وَالصَّوْمُ أَفْضَل، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ مِنَ الإِْفْطَارِ حَتَّى قُتِل، يُثَابُ عَلَيْهِ، لأَِنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ حَالَةَ الإِْكْرَاهِ، وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي الإِْكْرَاهِ هُوَ سُقُوطُ الْمَأْثَمِ بِالتَّرْكِ، لاَ فِي سُقُوطِ الْوُجُوبِ، بَل بَقِيَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا، وَالتَّرْكُ حَرَامًا، وَإِذَا كَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا،
__________
(1) مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه ص 374، وانظر الفتاوى الهندية 1 / 207، وكشاف القناع 2 / 310، 311.
(2) القوانين الفقهية ص 82 و 83.
(3) التعريفات للجرجاني.(28/57)
وَالتَّرْكُ حَرَامًا، كَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قَائِمًا، فَهُوَ بِالاِمْتِنَاعِ بَذَل نَفْسَهُ لإِِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، طَلَبًا لِمَرْضَاتِهِ، فَكَانَ مُجَاهِدًا فِي دِينِهِ، فَيُثَابُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمُكْرَهُ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا، فَالإِْكْرَاهُ - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ - حِينَئِذٍ مُبِيحٌ مُطْلَقٌ، فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا، بَل مُوجِبٌ، وَالأَْفْضَل هُوَ الإِْفْطَارُ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلاَ يَسَعُهُ أَنْ لاَ يُفْطِرَ، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَقُتِل، يَأْثَمُ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ: أَنَّ فِي الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ كَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا قَبْل الإِْكْرَاهِ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةِ التَّرْكِ أَصْلاً، فَإِذَا جَاءَ الإِْكْرَاهُ - وَهُوَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الرُّخْصَةِ - كَانَ أَثَرُهُ فِي إِثْبَاتِ رُخْصَةِ التَّرْكِ، لاَ فِي إِسْقَاطِ الْوُجُوبِ.
وَأَمَّا فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، فَالْوُجُوبُ مَعَ رُخْصَةِ التَّرْكِ، كَانَ ثَابِتًا قَبْل الإِْكْرَاهِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِلإِْكْرَاهِ أَثَرٌ آخَرُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا قَبْلَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ إِسْقَاطَ الْوُجُوبِ رَأْسًا، وَإِثْبَاتَ الإِْبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ، فَنَزَل مَنْزِلَةَ الإِْكْرَاهِ عَلَى أَكْل الْمَيْتَةِ، وَهُنَاكَ يُبَاحُ لَهُ الأَْكْل، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ، فَكَذَا هُنَا (1) .
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الإِْكْرَاهِ عَلَى الأَْكْل أَوِ الشُّرْبِ، وَبَيْنَ الإِْكْرَاهِ عَلَى الْوَطْءِ:
__________
(1) البدائع 2 / 96 و 97.(28/58)
فَقَالُوا فِي الإِْكْرَاهِ عَلَى الأَْكْل: لَوْ أُكْرِهَ حَتَّى أَكَل أَوْ شَرِبَ لَمْ يُفْطِرْ، كَمَا لَوْ أُوجِرَ فِي حَلْقِهِ مُكْرَهًا، لأَِنَّ الْحُكْمَ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى اخْتِيَارِهِ سَاقِطٌ لِعَدَمِ وُجُودِ الاِخْتِيَارِ.
أَمَّا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْوَطْءِ زِنًا، فَإِنَّهُ لاَ يُبَاحُ بِالإِْكْرَاهِ، فَيُفْطِرُ بِهِ، بِخِلاَفِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ.
وَاعْتَمَدَ الْعَزِيزِيُّ الإِْطْلاَقَ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ عَدَمَ الإِْفْطَارِ، لِشُبْهَةِ الإِْكْرَاهِ عَلَى الْوَطْءِ، وَالْحُرْمَةِ مِنْ جِهَةِ الْوَطْءِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الإِْكْرَاهُ عَلَى الإِْفْطَارِ مُطْلَقًا بِالْوَطْءِ وَالأَْكْل وَالشُّرْبِ، إِذَا فَعَلَهُ الْمُكْرَهُ لاَ يُفْطِرُ بِهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِلاَّ فِي الإِْكْرَاهِ عَلَى الإِْفْطَارِ بِالزِّنَا، فَإِنَّ فِيهِ وَجْهًا بِالإِْفْطَارِ وَالْقَضَاءِ عِنْدَهُمْ.
وَهَذَا الإِْطْلاَقُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْفِعْل، أَوْ فُعِل بِهِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، بِأَنْ صُبَّ فِي حَلْقِهِ، مُكْرَهًا أَوْ نَائِمًا، كَمَا لَوْ أُوجِرَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ مُعَالَجَةً، لاَ يُفْطِرُ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، لِحَدِيثِ: وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (1) .
مُلْحَقَاتٌ بِالْعَوَارِضِ
67 - يُمْكِنُ إِلْحَاقُ مَا يَلِي مِنَ الأَْعْذَارِ بِالْعَوَارِضِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ، وَأَقَرُّوهَا
__________
(1) الإقناع وحاشية البجيرمي عليه 2 / 329، كشاف القناع 2 / 320. وحديث: " وما استكرهوا عليه " تقدم ف 38.(28/58)
وَأَفْرَدُوا لَهَا أَحْكَامًا كُلَّمَا عَرَضَتْ فِي الصَّوْمِ، كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالإِْغْمَاءِ وَالْجُنُونِ وَالسُّكْرِ وَالنَّوْمِ وَالرِّدَّةِ وَالْغَفْلَةِ.
وَأَحْكَامُهُمَا تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ وَيُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ:
أَوَّلاً: الْجِمَاعُ عَمْدًا:
68 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ جِمَاعَ الصَّائِمِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا مُخْتَارًا بِأَنْ يَلْتَقِيَ الْخِتَانَانِ وَتَغِيبَ الْحَشَفَةُ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ - مُفْطِرٌ يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ، أَنْزَل أَوْ لَمْ يُنْزِل.
وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ، لأَِنَّ الْخَلَل انْجَبَرَ بِالْكَفَّارَةِ. وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لَهُمْ: إِنْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ دَخَل فِيهِ الْقَضَاءُ، وَإِلاَّ فَلاَ يَدْخُل فَيَجِبُ الْقَضَاءُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ - بِلاَ عُذْرٍ - آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا أَنْزَل أَمْ لاَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، عَامِدًا كَانَ أَوْ سَاهِيًا، أَوْ جَاهِلاً أَوْ مُخْطِئًا، مُخْتَارًا أَوْ مُكْرَهًا (1) ، وَهَذَا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، هَلَكْتُ، قَال: مَا لَكَ؟ قَال: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَل
__________
(1) كشاف القناع 2 / 324، والمغني مع الشرح الكبير 3 / 54.(28/59)
تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَال: لاَ. قَال: فَهَل تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَال: لاَ. قَال: فَهَل تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَال: لاَ. قَال: فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ (1) ، قَال: أَيْنَ السَّائِل؟ فَقَال: أَنَا، قَال: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ، فَقَال الرَّجُل: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُول اللَّهِ، فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا - يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ - أَهْل بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْل بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَال: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ (2) .
وَلاَ خِلاَفَ فِي فَسَادِ صَوْمِ الْمَرْأَةِ بِالْجِمَاعِ لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْمُفْطِرَاتِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الرَّجُل وَالْمَرْأَةُ. وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا:
فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَهِيَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا أَيْضًا، لأَِنَّهَا هَتَكَتْ صَوْمَ رَمَضَانَ بِالْجِمَاعِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهَا كَالرَّجُل.
وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ وُجُوبَهَا عَلَيْهَا، بِأَنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ هُوَ جِنَايَةُ الإِْفْسَادِ، لاَ نَفْسُ الْوِقَاعِ،
__________
(1) العرق: المكتل.
(2) حديث أبي هريرة: " بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 163) ومسلم (2 / 781 - 782) والسياق للبخاري.(28/59)
وَقَدْ شَارَكَتْهُ فِيهَا، وَقَدِ اسْتَوَيَا فِي الْجِنَايَةِ، وَالْبَيَانُ فِي حَقِّ الرَّجُل بَيَانٌ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، فَقَدْ وُجِدَ فَسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ بِإِفْطَارٍ كَامِلٍ حَرَامٍ مَحْضٍ مُتَعَمَّدٍ، فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهَا بِدَلاَلَةِ النَّصِّ، وَلاَ يَتَحَمَّل الرَّجُل عَنْهَا؛ لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ أَوْ عُقُوبَةٌ، وَلاَ يَجْرِي فِيهَا التَّحَمُّل (1) .
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ الأَْصَحُّ، وَرِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهَا، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْوَاطِئَ فِي رَمَضَانَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً، وَلَمْ يَأْمُرِ الْمَرْأَةَ بِشَيْءٍ، مَعَ عِلْمِهِ بِوُجُودِ ذَلِكَ مِنْهَا. وَلأَِنَّ الْجِمَاعَ فِعْلُهُ، وَإِنَّمَا هِيَ مَحَل الْفِعْل (2) . وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: تَجِبُ، وَيَتَحَمَّلُهَا الرَّجُل.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ الزَّوْجَ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ عَنْهُمَا، وَضَعَّفَهَا بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ الأَْصْل عَدَمُ التَّدَاخُل (3) . وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ أُكْرِهَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ حَتَّى مَكَّنَتِ الرَّجُل مِنْهَا لَزِمَتْهَا الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ غُصِبَتْ أَوْ أُتِيَتْ نَائِمَةً فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهَا (4) .
__________
(1) الهداية بشروحها 2 / 263، والبدائع 2 / 98.
(2) المغني 3 / 58، وشرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي عليه 2 / 71، والهداية بشروحها 2 / 262.
(3) الإنصاف 3 / 314، وشرح المحلي في الموضع نفسه.
(4) الإنصاف 3 / 313.(28/60)
ثَانِيًا: الأَْكْل وَالشُّرْبُ عَمْدًا:
69 - مِمَّا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: الأَْكْل وَالشُّرْبُ.
فَإِذَا أَكَل الصَّائِمُ، فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ أَوْ شَرِبَ غِذَاءً أَوْ دَوَاءً، طَائِعًا عَامِدًا، بِغَيْرِ خَطَأٍ وَلاَ إِكْرَاهٍ وَلاَ نِسْيَانٍ، أَفْطَرَ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: وُصُول مَا فِيهِ صَلاَحُ بَدَنِهِ لِجَوْفِهِ، بِأَنْ يَكُونَ مِمَّا يُؤْكَل عَادَةً عَلَى قَصْدِ التَّغَذِّي أَوِ التَّدَاوِي أَوِ التَّلَذُّذِ، أَوْ مِمَّا يَمِيل إِلَيْهِ الطَّبْعُ، وَتَنْقَضِي بِهِ شَهْوَةُ الْبَطْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ صَلاَحُ الْبَدَنِ، بَل ضَرَرُهُ.
وَشَرَطُوا أَيْضًا لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ: أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ لَيْلاً، وَأَنْ لاَ يَكُونَ مُكْرَهًا، وَأَنْ لاَ يَطْرَأَ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ لاَ صُنْعَ لَهُ فِيهِ، كَمَرَضٍ وَحَيْضٍ.
وَشَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ: أَنْ يَكُونَ إِفْسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ خَاصَّةً، عَمْدًا قَصْدًا لاِنْتِهَاكِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ، مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مُبِيحٍ لِلْفِطْرِ (1) .
وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي شُرْبِ الدُّخَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَضَرَّ الْبَدَنَ، لَكِنْ تَمِيل إِلَيْهِ بَعْضُ الطِّبَاعِ، وَتَنْقَضِي بِهِ
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 2 / 108 - 110، ومراقي الفلاح ص 364 و 368، والقوانين الفقهية ص 83، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 1 / 528.(28/60)
شَهْوَةُ الْبَطْنِ، يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ مُفْتِرٌ وَحَرَامٌ، لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُل مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ (1) .
وَدَلِيل وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَكَل أَوْ شَرِبَ عَمْدًا، مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ رَجُلاً أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ، أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا (2) فَإِنَّهُ عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ بِالإِْفْطَارِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ وَاقِعَةَ حَالٍ لاَ عُمُومَ لَهَا، لَكِنَّهَا عُلِّقَتْ بِالإِْفْطَارِ، لاَ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِ الإِْفْطَارِ وَلَفْظُ الرَّاوِي عَامٌّ، فَاعْتُبِرَ، كَقَوْلِهِ: قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ (3) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَكَل أَوْ شَرِبَ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَدَاءً، وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّصَّ - وَهُوَ حَدِيثُ الأَْعْرَابِيِّ الَّذِي وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ - وَرَدَ فِي الْجِمَاعِ، وَمَا عَدَاهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ. وَلأَِنَّهُ
__________
(1) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر ". أخرجه أبو داود (4 / 90) وإسناده ضعيف. وانظر مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي عليه ص 364.
(2) حديث " أنه أمر رجلا أفطر في رمضان أن يعتق رقبة. . . ". تقدم في الفقرة رقم 68.
(3) تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 1 / 327 و 328، قوله: وقضى بالشفعة للجار مستنبط من قوله صلى الله عليه وسلم: " الجار أحق بشفعته ". أخرجه الترمذي (3 / 642) من حديث جابر وقال: حديث حسن غريب.(28/61)
لاَ نَصَّ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِهَذَا، وَلاَ إِجْمَاعَ.
وَلاَ يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْجِمَاعِ؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الزَّجْرِ عَنْهُ أَمَسُّ، وَالْحِكْمَةُ فِي التَّعَدِّي بِهِ آكَدُ، وَلِهَذَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ إِذَا كَانَ مُحَرَّمًا (1) .
ثَالِثًا: رَفْعُ النِّيَّةِ:
70 - وَمِمَّا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، مَا لَوْ تَعَمَّدَ رَفْعَ النِّيَّةِ نَهَارًا، كَأَنْ يَقُول - وَهُوَ صَائِمٌ: رَفَعْتُ نِيَّةَ صَوْمِي، أَوْ يَقُول رَفَعْتُ نِيَّتِي.
وَأَوْلَى مِنْ ذَلِكَ، رَفْعُ النِّيَّةِ فِي اللَّيْل، كَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ، لأَِنَّهُ رَفَعَهَا فِي مَحِلِّهَا فَلَمْ تَقَعِ النِّيَّةُ فِي مَحِلِّهَا.
وَكَذَلِكَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالإِْصْبَاحِ بِنِيَّةِ الْفِطْرِ، وَلَوْ نَوَى الصِّيَامَ بَعْدَهُ، عَلَى الأَْصَحِّ كَمَا يَقُول ابْنُ جُزَيٍّ.
أَمَّا إِنْ عَلَّقَ الْفِطْرَ عَلَى شَيْءٍ، كَأَنْ يَقُول: إِنْ وَجَدْتُ طَعَامًا أَكَلْتُ فَلَمْ يَجِدْهُ، أَوْ وَجَدَهُ وَلَمْ يُفْطِرْ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ بِتَرْكِ النِّيَّةِ دُونَ الْكَفَّارَةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي الْوَجْهِ الآْخَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ (2) .
__________
(1) فتح القدير شرح الهداية 2 / 264، وشرح المحلي بحاشية القليوبي 2 / 70، والمغني والشرح الكبير 3 / 64 و 65، وكشاف القناع 2 / 327، وانظر الإنصاف 2 / 321.
(2) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 528، والقوانين الفقهية ص 82، والدر المختار ورد المحتار عليه، بتصرف 2 / 103، ومراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه ص 361، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 64، وكشاف القناع 2 / 316، وانظر المهذب مع المجموع 6 / 297.(28/61)
مَا لاَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ:
أَوَّلاً: الأَْكْل وَالشُّرْبُ فِي حَال النِّسْيَانِ:
71 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْكْل وَالشُّرْبَ فِي حَال النِّسْيَانِ لاَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ فَرْضًا أَوْ نَفْلاً، خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي ف / 38.
ثَانِيًا: الْجِمَاعُ فِي حَال النِّسْيَانِ:
72 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّ الْجِمَاعَ فِي حَال النِّسْيَانِ لاَ يُفَطِّرُ قِيَاسًا عَلَى الأَْكْل وَالشُّرْبِ نَاسِيًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ - وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّ مَنْ جَامَعَ نَاسِيًا فَسَدَ صَوْمُهُ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
ثَالِثًا: دُخُول الْغُبَارِ وَنَحْوِهِ حَلْقَ الصَّائِمِ:
73 - إِذَا دَخَل حَلْقَ الصَّائِمِ غُبَارٌ أَوْ ذُبَابٌ أَوْ دُخَانٌ بِنَفْسِهِ، بِلاَ صُنْعِهِ، وَلَوْ كَانَ الصَّائِمُ
__________
(1) الهداية وشروحها 2 / 254 و 255، والمجموع 6 / 324، مراقي الفلاح 360، والمغني والشرح الكبير 3 / 56، كشاف القناع 2 / 324، الإنصاف 3 / 311، والشرح الكبير للدردير 1 / 525 و 527، وجواهر الإكليل 1 / 149، والقوانين الفقهية ص 121.(28/62)
ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ، لَمْ يُفْطِرْ إِجْمَاعًا - كَمَا قَال ابْنُ جُزَيٍّ - لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الاِمْتِنَاعِ عَنْهُ، وَلاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ.
وَكَذَلِكَ إِذَا دَخَل الدَّمْعُ حَلْقَهُ وَكَانَ قَلِيلاً نَحْوَ الْقَطْرَةِ أَوِ الْقَطْرَتَيْنِ فَإِنَّهُ لاَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ؛ لأَِنَّ التَّحَرُّزَ مِنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا حَتَّى وَجَدَ مُلُوحَتَهُ فِي جَمِيعِ فَمِهِ وَابْتَلَعَهُ فَسَدَ صَوْمُهُ (1) .
رَابِعًا: الاِدِّهَانُ:
74 - لَوْ دَهَنَ الصَّائِمُ رَأْسَهُ، أَوْ شَارِبَهُ لاَ يَضُرُّهُ ذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ اخْتَضَبَ بِحِنَّاءٍ، فَوَجَدَ الطَّعْمَ فِي حَلْقِهِ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، إِذْ لاَ عِبْرَةَ بِمَا يَكُونُ مِنَ الْمَسَامِّ، وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ. لَكِنْ صَرَّحَ الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، بِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنَ الْمَذْهَبِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ (2) .
خَامِسًا: الاِحْتِلاَمُ:
75 - إِذَا نَامَ الصَّائِمُ فَاحْتَلَمَ لاَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ، بَل يُتِمُّهُ إِجْمَاعًا، إِذَا لَمْ يَفْعَل شَيْئًا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الاِغْتِسَال (3) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 2 / 103، ومراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه ص 368.
(2) مراقي الفلاح ص 361، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 56، وحاشية الدسوقي وشرح الدردير 1 / 524.
(3) الدر المختار 2 / 98، والقوانين الفقهية (81) .(28/62)
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثٌ لاَ يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْحِجَامَةُ وَالْقَيْءُ وَالاِحْتِلاَمُ (1) .
وَمَنْ أَجْنَبَ لَيْلاً، ثُمَّ أَصْبَحَ صَائِمًا، فَصَوْمُهُ صَحِيحٌ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَإِنْ بَقِيَ جُنُبًا كُل الْيَوْمِ، وَذَلِكَ: لِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَتَا: نَشْهَدُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَانَ لَيُصْبِحُ جُنُبًا، مِنْ غَيْرِ احْتِلاَمٍ ثُمَّ يَغْتَسِل، ثُمَّ يَصُومُ (2) .
قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ الإِْجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَال ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنَّهُ صَارَ إِجْمَاعًا أَوْ كَالإِْجْمَاعِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلاَ صَوْمَ لَهُ وَحُمِل عَلَى النَّسْخِ أَوِ الإِْرْشَادِ إِلَى الأَْفْضَل، وَهُوَ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِل
__________
(1) حديث أبي سعيد: " ثلاث لا يفطرن. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 88) وقال: حديث أبي سعيد الخدري حديث غير محفوظ وأورده ابن حجر في التلخيص (2 / 194) وأفاض في ذكر وجوه إعلاله.
(2) حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما: أخرجه البخاري (الفتح 4 / 153) ومسلم (2 / 781) بألفاظ متقاربة.(28/63)
قَبْل الْفَجْرِ، لِيَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ مِنْ أَوَّل الصَّوْمِ (1) .
سَادِسًا: الْبَلَل فِي الْفَمِ:
76 - مِمَّا لاَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ الْبَلَل الَّذِي يَبْقَى فِي الْفَمِ بَعْدَ الْمَضْمَضَةِ، إِذَا ابْتَلَعَهُ الصَّائِمُ مَعَ الرِّيقِ، بِشَرْطِ أَنْ يَبْصُقَ بَعْدَ مَجِّ الْمَاءِ، لاِخْتِلاَطِ الْمَاءِ بِالْبُصَاقِ، فَلاَ يَخْرُجُ بِمُجَرَّدِ الْمَجِّ، وَلاَ تُشْتَرَطُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْبَصْقِ؛ لأَِنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَهُ مُجَرَّدُ بَلَلٍ وَرُطُوبَةٍ، لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ (2) .
سَابِعًا: ابْتِلاَعُ مَا بَيْنَ الأَْسْنَانِ:
77 - ابْتِلاَعُ مَا بَيْنَ الأَْسْنَانِ، إِذَا كَانَ قَلِيلاً، لاَ يُفْسِدُ وَلاَ يُفْطِرُ؛ لأَِنَّهُ تَبَعٌ لِرِيقِهِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، بِخِلاَفِ الْكَثِيرِ فَإِنَّهُ لاَ يَبْقَى بَيْنَ الأَْسْنَانِ، وَالاِحْتِرَازُ عَنْهُ مُمْكِنٌ.
وَالْقَلِيل: هُوَ مَا دُونَ الْحِمَّصَةِ، وَلَوْ كَانَ قَدْرَهَا أَفْطَرَ.
وَمَذْهَبُ زُفَرَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: فَسَادُ
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج 2 / 62. وحديث أبي هريرة: " من أصبح جنبا فلا صوم له ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 143) ومسلم (2 / 780) بمعناه، وأخرجه النسائي في الكبرى (2 / 343) بلفظ: " من أدركه الصبح وهو جنب فلا يصم ".
(2) مراقي الفلاح ص 361، والدر المختار ورد المحتار 2 / 98.(28/63)
الصَّوْمِ مُطْلَقًا، بِابْتِلاَعِ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ؛ لأَِنَّ الْفَمَ لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ، وَلِهَذَا لاَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ بِالْمَضْمَضَةِ - كَمَا قَال الْمَرْغِينَانِيُّ - وَلَوْ أَكَل الْقَلِيل مِنْ خَارِجِ فَمِهِ أَفْطَرَ، فَكَذَا إِذَا أَكَل مِنْ فَمِهِ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ بِعَدَمِ الإِْفْطَارِ بِهِ مُطْلَقًا.
وَشَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لِعَدَمِ الإِْفْطَارِ بِابْتِلاَعِ مَا بَيْنَ الأَْسْنَانِ شَرْطَيْنِ:
أَوَّلَهُمَا: أَنْ لاَ يَقْصِدَ ابْتِلاَعَهُ.
وَالآْخَرَ: أَنْ يَعْجَزَ عَنْ تَمْيِيزِهِ وَمَجِّهِ؛ لأَِنَّهُ مَعْذُورٌ فِيهِ غَيْرُ مُفَرِّطٍ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمَا أَفْطَرَ، وَلَوْ كَانَ دُونَ الْحِمَّصَةِ، لأَِنَّهُ لاَ مَشَقَّةَ فِي لَفْظِهِ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْهُ مُمْكِنٌ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: عَدَمُ الإِْفْطَارِ بِمَا سَبَقَ إِلَى جَوْفِهِ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ، وَلَوْ عَمْدًا؛ لأَِنَّهُ أَخَذَهُ فِي وَقْتٍ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ فِيهِ - كَمَا يَقُول الدُّسُوقِيُّ - وَقِيل: لاَ يُفْطِرُ، إِلاَّ إِنْ تَعَمَّدَ بَلْعَهُ فَيُفْطِرُ، أَمَّا لَوْ سَبَقَ إِلَى جَوْفِهِ فَلاَ يُفْطِرُ (1) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 2 / 98 و 112، وشروح الهداية 2 / 258، وفيها أقوال أخرى، وهذا اختيار المرغيناني، وانظر المحلي على المنهاج 2 / 57، والإقناع 2 / 329، وكشاف القناع 2 / 321، وروضة الطالبين 2 / 361، والمغني والشرح الكبير 3 / 42 و 43، والقوانين الفقهية ص 80.(28/64)
ثَامِنًا: دَمُ اللِّثَةِ وَالْبُصَاقِ:
78 - لَوْ دَمِيَتْ لِثَتُهُ، فَدَخَل رِيقُهُ حَلْقَهُ مَخْلُوطًا بِالدَّمِ، وَلَمْ يَصِل إِلَى جَوْفِهِ، لاَ يُفْطِرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الدَّمُ غَالِبًا عَلَى الرِّيقِ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ مِنْهُ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا بَيْنَ أَسْنَانِهِ أَوْ مَا يَبْقَى مِنْ أَثَرِ الْمَضْمَضَةِ، أَمَّا لَوْ وَصَل إِلَى جَوْفِهِ، فَإِنْ غَلَبَ الدَّمُ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلاَ كَفَّارَةَ، وَإِنْ غَلَبَ الْبُصَاقُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَسَاوَيَا، فَالْقِيَاسُ أَنْ لاَ يَفْسُدَ وَفِي الاِسْتِحْسَانِ يَفْسُدُ احْتِيَاطًا (1) .
وَلَوْ خَرَجَ الْبُصَاقُ عَلَى شَفَتَيْهِ ثُمَّ ابْتَلَعَهُ، فَسَدَ صَوْمُهُ، وَفِي الْخَانِيَّةِ: تَرَطَّبَتْ شَفَتَاهُ بِبُزَاقِهِ، عِنْدَ الْكَلاَمِ وَنَحْوِهِ، فَابْتَلَعَهُ، لاَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ (2) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الإِْفْطَارُ بِابْتِلاَعِ الرِّيقِ الْمُخْتَلِطِ بِالدَّمِ، لِتَغَيُّرِ الرِّيقِ، وَالدَّمُ نَجِسٌ لاَ يَجُوزُ ابْتِلاَعُهُ وَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ بَلَعَ شَيْئًا نَجِسًا لاَ يُفْطِرُ، إِذْ لاَ فِطْرَ بِبَلْعِ رِيقِهِ الَّذِي لَمْ تُخَالِطْهُ النَّجَاسَةُ (3) .
__________
(1) البدائع 2 / 99، والدر المختار ورد المحتار 2 / 98، وروضة الطالبين 2 / 359، وكشاف القناع 2 / 328.
(2) ومراقي الفلاح ص 362.
(3) روضة الطالبين 2 / 359، وكشاف القناع 2 / 329.(28/64)
تَاسِعًا: ابْتِلاَعُ النُّخَامَةِ:
79 - النُّخَامَةُ هِيَ: النُّخَاعَةُ، وَهِيَ مَا يُخْرِجُهُ الإِْنْسَانُ مِنْ حَلْقِهِ، مِنْ مَخْرَجِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ.
قَال الْفَيُّومِيُّ: هَكَذَا قَيَّدَهُ ابْنُ الأَْثِيرِ، وَهَكَذَا قَال الْمُطَرِّزِيُّ، وَزَادَ: مَا يَخْرُجُ مِنَ الْخَيْشُومِ عِنْدَ التَّنَحْنُحِ (1) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ النُّخَامَةَ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُخَاطًا نَازِلاً مِنَ الرَّأْسِ، أَمْ بَلْغَمًا صَاعِدًا مِنَ الْبَاطِنِ، بِالسُّعَال أَوِ التَّنَحْنُحِ - مَا لَمْ يَفْحُشِ الْبَلْغَمُ - لاَ يُفْطِرُ مُطْلَقًا.
وَفِي نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْبَلْغَمَ لاَ يُفْطِرُ مُطْلَقًا، وَلَوْ وَصَل إِلَى طَرَفِ اللِّسَانِ، لِمَشَقَّتِهِ، خِلاَفًا لِخَلِيلٍ، الَّذِي رَأَى الْفَسَادَ، فِيمَا إِذَا أَمْكَنَ طَرْحُهُ، بِأَنْ جَاوَزَ الْحَلْقَ، ثُمَّ أَرْجَعَهُ وَابْتَلَعَهُ، وَأَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ ابْتِلاَعَ النُّخَامَةِ لاَ يُفْطِرُ، لأَِنَّهُ مُعْتَادٌ فِي الْفَمِ غَيْرُ وَاصِلٍ مِنْ خَارِجٍ، فَأَشْبَهَ الرِّيقَ (2) .
__________
(1) المصباح المنير، مادة: (نخم) .
(2) حاشية القليوبي على شرح المحلي على المنهاج 2 / 55، والدر المختار ورد المحتار 2 / 101 و / 111، والمغني والشرح الكبير 2 / 43، وجواهر الإكليل 1 / 149، والشرح الكبير للدردير 1 / 525.(28/65)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هَذَا التَّفْصِيل:
- إِنِ اقْتَلَعَ النُّخَامَةَ مِنَ الْبَاطِنِ، وَلَفَظَهَا فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ مِمَّا يَتَكَرَّرُ، وَفِي قَوْلٍ: يُفْطِرُ بِهَا كَالاِسْتِقَاءَةِ
- وَلَوْ صَعِدَتْ بِنَفْسِهَا، أَوْ بِسُعَالِهِ، وَلَفَظَهَا لَمْ يُفْطِرْ جَزْمًا.
وَلَوِ ابْتَلَعَهَا بَعْدَ وُصُولِهَا إِلَى ظَاهِرِ الْفَمِ، أَفْطَرَ جَزْمًا.
وَإِذَا حَصَلَتْ فِي ظَاهِرِ الْفَمِ، يَجِبُ قَطْعُ مَجْرَاهَا إِلَى الْحَلْقِ، وَمَجُّهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَوَصَلَتْ إِلَى الْجَوْفِ، أَفْطَرَ فِي الأَْصَحِّ، لِتَقْصِيرِهِ، وَفِي قَوْلٍ: لاَ يُفْطِرُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَفْعَل شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَنِ الْفِعْل.
وَلَوِ ابْتَلَعَهَا بَعْدَ وُصُولِهَا إِلَى ظَاهِرِ الْفَمِ، أَفْطَرَ جَزْمًا (1) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الصَّائِمِ بَلْعُ نُخَامَةٍ، إِذَا حَصَلَتْ فِي فَمِهِ، وَيُفْطِرُ بِهَا إِذَا بَلَعَهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ فِي جَوْفِهِ أَمْ صَدْرِهِ، بَعْدَ أَنْ تَصِل إِلَى فَمِهِ؛ لأَِنَّهَا مِنْ غَيْرِ الْفَمِ، فَأَشْبَهَ الْقَيْءَ، وَلأَِنَّهُ أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ مِنْهَا فَأَشْبَهَ الدَّمَ (2) .
__________
(1) شرح المحلي وحاشية القليوبي 2 / 55، وانظر روضة الطالبين 2 / 360.
(2) كشاف القناع 2 / 329، والروض المربع 1 / 143، والمغني 3 / 43، والإنصاف 2 / 325، 326.(28/65)
مِنْ أَجْل هَذَا الْخِلاَفِ، نَبَّهَ ابْنُ الشِّحْنَةِ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي إِلْقَاءُ النُّخَامَةِ، حَتَّى لاَ يَفْسُدَ صَوْمُهُ عَلَى قَوْل الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَلِيَكُونَ صَوْمُهُ صَحِيحًا بِالاِتِّفَاقِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى مَجِّهَا (1) .
عَاشِرًا: الْقَيْءُ:
80 - يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إِذَا خَرَجَ الْقَيْءُ بِنَفْسِهِ، وَبَيْنَ الاِسْتِقَاءَةِ.
وَعَبَّرَ الْفُقَهَاءُ عَنِ الأَْوَّل، بِمَا: إِذَا ذَرَعَهُ الْقَيْءُ، أَيْ غَلَبَ الْقَيْءُ الصَّائِمَ.
فَإِذَا غَلَبَ الْقَيْءُ، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ الإِْفْطَارِ بِهِ، قَل الْقَيْءُ أَمْ كَثُرَ، بِأَنْ مَلأََ الْفَمَ، وَهَذَا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَمَنِ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ (2) .
أَمَّا لَوْ عَادَ الْقَيْءُ بِنَفْسِهِ، فِي هَذِهِ الْحَال، بِغَيْرِ صُنْعِ الصَّائِمِ، وَلَوْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ، مَعَ تَذَكُّرِ الصَّائِمِ لِلصَّوْمِ، فَلاَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ، عِنْدَ مُحَمَّدٍ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ، لِعَدَمِ وُجُودِ الصُّنْعِ مِنْهُ، وَلأَِنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْفِطْرِ، وَهِيَ الاِبْتِلاَعُ، وَكَذَا مَعْنَاهُ، لأَِنَّهُ
__________
(1) مراقي الفلاح ص 362.
(2) حديث: " من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ". أخرجه الترمذي (3 / 89) وقال: حديث حسن غريب.(28/66)
لاَ يُتَغَذَّى بِهِ عَادَةً، بَل النَّفْسُ تَعَافُهُ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: يَفْسُدُ صَوْمُهُ؛ لأَِنَّهُ خَارِجٌ، حَتَّى انْتَقَضَتْ بِهِ الطَّهَارَةُ، وَقَدْ دَخَل.
وَإِنْ أَعَادَهُ، أَوْ عَادَ قَدْرُ حِمَّصَةٍ مِنْهُ فَأَكْثَرُ، فَسَدَ صَوْمُهُ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ، لِوُجُودِ الإِْدْخَال بَعْدَ الْخُرُوجِ، فَتَتَحَقَّقُ صُورَةُ الْفِطْرِ وَلاَ كَفَّارَةَ فِيهِ.
وَإِنْ كَانَ أَقَل مِنْ مِلْءِ الْفَمِ، فَعَادَ، لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ خَارِجٍ، وَلاَ صُنْعَ لَهُ فِي الإِْدْخَال.
وَإِنْ أَعَادَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَفْسُدُ صَوْمُهُ، لِوُجُودِ الصُّنْعِ مِنْهُ فِي الإِْدْخَال (1) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْمُفْطِرَ فِي الْقَيْءِ هُوَ رُجُوعُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَيْءُ لِعِلَّةٍ أَوِ امْتِلاَءِ مَعِدَةٍ، قَل أَوْ كَثُرَ، تَغَيَّرَ أَوْ لاَ، رَجَعَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، فَإِنَّهُ مُفْطِرٌ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ (2) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَوْ عَادَ الْقَيْءُ بِنَفْسِهِ، لاَ يُفْطِرُ لأَِنَّهُ كَالْمُكْرَهِ، وَلَوْ أَعَادَهُ أَفْطَرَ، كَمَا لَوْ أَعَادَ بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنِ الْفَمِ (3) .
__________
(1) الهداية وشروحها 2 / 259 و 260، والدر المختار ورد المحتار 2 / 110 و 111.
(2) شرح الخرشي 2 / 250، والشرح الكبير للدردير 1 / 525، والقوانين الفقهية ص 81.
(3) كشاف القناع 2 / 321، وانظر الروض المربع 1 / 140.(28/66)
81 - أَمَّا الاِسْتِقَاءَةُ، وَهِيَ: اسْتِخْرَاجُ مَا فِي الْجَوْفِ عَمْدًا، أَوْ هِيَ: تَكَلُّفُ الْقَيْءِ (1) فَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلصَّوْمِ مُوجِبَةٌ لِلْقَضَاءِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْكَفَّارَةِ (2) .
وَرُوِيَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ لاَ يُفْطِرُ بِالاِسْتِقَاءَةِ إِلاَّ بِمِلْءِ الْفَمِ، قَال ابْنُ عَقِيلٍ: وَلاَ وَجْهَ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ عِنْدِي (3) .
وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي الاِسْتِقَاءَةِ:
أ - فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا، وَالصَّائِمُ مُتَذَكِّرٌ لِصَوْمِهِ، غَيْرُ نَاسٍ، وَالْقَيْءُ مِلْءُ فَمِهِ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَالْقِيَاسُ مَتْرُوكٌ بِهِ، وَلاَ كَفَّارَةَ فِيهِ لِعَدَمِ صُورَةِ الْفِطْرِ.
ب - وَإِنْ كَانَ أَقَل مِنْ مِلْءِ الْفَمِ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، يَفْسُدُ صَوْمُهُ، لإِِطْلاَقِ الْحَدِيثِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لاَ يَفْسُدُ؛ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ حُكْمًا، قَالُوا: وَهُوَ الصَّحِيحُ، ثُمَّ إِنْ عَادَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَفْسُدْ عِنْدَهُ، لِعَدَمِ سَبْقِ الْخُرُوجِ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَعَنْهُ: أَنَّهُ لاَ يَفْسُدُ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَهِيَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ
__________
(1) المصباح المنير ومختار الصحاح والنهاية في غريب الحديث مادة: قيء.
(2) القوانين الفقهية ص 81، والإجماع لابن المنذر ص 53، (ط دار طيبة الرياض) وانظر المجموع 6 / 320، والإنصاف 3 / 300، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 55.
(3) الإنصاف 3 / 300.(28/67)
هَذَا كُلَّهُ إِذَا كَانَ الْقَيْءُ طَعَامًا، أَوْ مُرَّةً فَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ بَلْغَمًا، فَغَيْرُ مُفْسِدٍ لِلصَّوْمِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ (1) .
حَادِيَ عَشَرَ: طُلُوعُ الْفَجْرِ فِي حَالَةِ الأَْكْل أَوِ الْجِمَاعِ:
82 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ وَفِي فِيهِ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ فَلْيَلْفِظُهُ، وَيَصِحُّ صَوْمُهُ. فَإِنِ ابْتَلَعَهُ أَفْطَرَ، وَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِيمَنْ أَكَل أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا ثُمَّ تَذَكَّرَ الصَّوْمَ، صَحَّ صَوْمُهُ إِنْ بَادَرَ إِلَى لَفْظِهِ. وَإِنْ سَبَقَ شَيْءٌ إِلَى جَوْفِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَلاَ يُفْطِرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِذَا وَصَل شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَى جَوْفِهِ - وَلَوْ غَلَبَهُ - أَفْطَرَ (2) .
وَإِذَا نَزَعَ، وَقَطَعَ الْجِمَاعَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي الْحَال فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْمَالِكِيَّةِ - لاَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ، وَقَيَّدَهُ الْقَلْيُوبِيُّ بِأَنْ لاَ يَقْصِدَ اللَّذَّةَ بِالنَّزْعِ، وَإِلاَّ بَطَل صَوْمُهُ، حَتَّى لَوْ أَمْنَى بَعْدَ النَّزْعِ، لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَصَوْمُهُ صَحِيحٌ، لأَِنَّهُ كَالاِحْتِلاَمِ - كَمَا
__________
(1) الهداية وشروحها 2 / 260، وانظر الدر المختار ورد المحتار عليه 2 / 111، ومراقي الفلاح ص 362، وفتح القدير 2 / 260.
(2) الإنصاف 3 / 370، وحاشية الدسوقي 1 / 525، روضة الطالبين 2 / 364، الدر المختار ورد المحتار عليه 2 / 99.(28/67)
يَقُول الْحَنَفِيَّةُ - وَلِتَوَلُّدِهِ مِنْ مُبَاشَرَةٍ مُبَاحَةٍ - كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ (1) .
وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ نَزَعَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَأَمْنَى حَال الطُّلُوعِ - لاَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ - فَلاَ قَضَاءَ؛ لأَِنَّ الَّذِي بَعْدَهُ مِنَ النَّهَارِ وَالَّذِي قَبْلَهُ مِنَ اللَّيْل، وَالنَّزْعُ لَيْسَ وَطْئًا (2) .
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ هُوَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ.
وَسَبَبُ هَذَا الاِخْتِلاَفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ أَنَّهُ: هَل يُعَدُّ النَّزْعُ جِمَاعًا، أَوْ لاَ يُعَدُّ جِمَاعًا؟ وَلِهَذَا قَالُوا: مَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ - وَهُوَ يُجَامِعُ - فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَقِيل: وَالْكَفَّارَةُ (3) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ النَّزْعَ جِمَاعٌ، فَمَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَنَزَعَ فِي الْحَال، مَعَ أَوَّل طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، لأَِنَّهُ يَلْتَذُّ بِالنَّزْعِ، كَمَا يَلْتَذُّ بِالإِْيلاَجِ، كَمَا لَوِ اسْتَدَامَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ (4) .
وَلَوْ مَكَثَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مُجَامِعًا، بَطَل صَوْمُهُ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِطُلُوعِهِ.
وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْمُكْثِ وَالْبَقَاءِ، فِي
__________
(1) حاشية القليوبي على شرح المحلي 2 / 59، والدر المختار 2 / 99، والبدائع 2 / 94.
(2) جواهر الإكليل 2 / 152.
(3) القوانين الفقهية ص 81.
(4) كشاف القناع 2 / 325.(28/68)
هَذِهِ الْحَال، خِلاَفٌ:
فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ؛ لأَِنَّهَا تَجِبُ بِإِفْسَادِ الصَّوْمِ، وَالصَّوْمُ مُنْتَفٍ حَال الْجِمَاعِ فَاسْتَحَال إِفْسَادُهُ، فَلَمْ تَجِبِ الْكَفَّارَةُ. أَوْ كَمَا قَال النَّوَوِيُّ: لأَِنَّ مُكْثَهُ مَسْبُوقٌ بِبُطْلاَنِ الصَّوْمِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ (1) .
مَكْرُوهَاتُ الصَّوْمِ:
83 - يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ بِوَجْهِ عَامٍّ - مَعَ الْخِلاَفِ - مَا يَلِي:
أ - ذَوْقُ شَيْءٍ بِلاَ عُذْرٍ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ لِلْفَسَادِ، وَلَوْ كَانَ الصَّوْمُ نَفْلاً، عَلَى الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ يَحْرُمُ إِبْطَال النَّفْل بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ، وَظَاهِرُ إِطْلاَقِ الْكَرَاهَةِ يُفِيدُ أَنَّهَا تَحْرِيمِيَّةٌ.
وَمِنَ الْعُذْرِ مَضْغُ الطَّعَامِ لِلْوَلَدِ، إِذَا لَمْ تَجِدِ الأُْمُّ مِنْهُ بُدًّا، فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَيُكْرَهُ إِذَا كَانَ لَهَا مِنْهُ بُدٌّ.
وَلَيْسَ مِنَ الْعُذْرِ، ذَوْقُ اللَّبَنِ وَالْعَسَل لِمَعْرِفَةِ الْجَيِّدِ مِنْهُ وَالرَّدِيءِ عِنْدَ الشِّرَاءِ، فَيُكْرَهُ ذَلِكَ. وَكَذَا ذَوْقُ الطَّعَامِ، لِيُنْظَرَ اعْتِدَالُهُ،
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار عليه 2 / 99، وروضة الطالبين 2 / 364 و 365، وحاشية القليوبي على شرح المحلي على المنهاج 2 / 59.(28/68)
وَلَوْ كَانَ لِصَانِعِ الطَّعَامِ.
لَكِنْ نُقِل عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ قَوْلُهُ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَجْتَنِبَ ذَوْقَ الطَّعَامِ، فَإِنْ فَعَل فَلاَ بَأْسَ بِهِ، بَل قَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْهُ: أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ لِحَاجَةٍ وَمَصْلَحَةٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ وَإِلاَّ كُرِهَ.
وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَ الْمَذُوقِ فِي حَلْقِهِ أَفْطَرَ (1) .
ب - وَيُكْرَهُ مَضْغُ الْعِلْكِ، الَّذِي لاَ يَتَحَلَّل مِنْهُ أَجْزَاءٌ، فَلاَ يَصِل مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى الْجَوْفِ.
وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ: اتِّهَامُهُ بِالْفِطْرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلاً أَمِ امْرَأَةً، قَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: إِيَّاكَ وَمَا يَسْبِقُ إِلَى الْعُقُول إِنْكَارُهُ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَكَ اعْتِذَارُهُ.
أَمَّا مَا يَتَحَلَّل مِنْهُ أَجْزَاءٌ، فَيَحْرُمُ مَضْغُهُ، وَلَوْ لَمْ يَبْتَلِعْ رِيقُهُ، إقَامَةً لِلْمَظِنَّةِ مَقَامَ الْمَئِنَّةِ، فَإِنْ تَفَتَّتَ فَوَصَل شَيْءٌ مِنْهُ إِلَى جَوْفِهِ عَمْدًا أَفْطَرَ، وَإِنْ شَكَّ فِي الْوُصُول لَمْ يُفْطِرْ (2) .
ج - تُكْرَهُ الْقُبْلَةُ إِنْ لَمْ يَأْمَنْ عَلَى نَفْسِهِ وُقُوعَ مُفْسِدٍ مِنَ الإِْنْزَال أَوِ الْجِمَاعِ
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَقْبِيل) ف 17
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 371، والهداية بشروحها 2 / 268، والشرح الكبير للدردير 1 / 517، والمجموع 6 / 354، وكشاف القناع 2 / 329.
(2) مراقي الفلاح ص 371، وانظر الدر المختار 2 / 112، وجواهر الإكليل 1 / 147، وكشاف القناع 2 / 329، والمحلي على المنهاج 2 / 62.(28/69)
د - وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ وَالْمُعَانَقَةَ وَدَوَاعِيَ الْوَطْءِ - كَاللَّمْسِ وَتَكْرَارِ النَّظَرِ - حُكْمَهَا حُكْمُ الْقُبْلَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَخَصَّ الْحَنَفِيَّةُ الْمُبَاشَرَةَ الْفَاحِشَةَ، بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ، وَهِيَ - عِنْدَهُمْ - أَنْ يَتَعَانَقَا، وَهُمَا مُتَجَرِّدَانِ، وَيَمَسَّ فَرْجُهُ فَرْجَهَا. وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهَا تُكْرَهُ، وَإِنْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الإِْنْزَال وَالْجِمَاعَ. وَنَقَل الطَّحَاوِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ عَدَمَ الْخِلاَفِ فِي كَرَاهَتِهَا، وَكَذَلِكَ الْقُبْلَةُ الْفَاحِشَةُ، وَهِيَ أَنْ يَمُصَّ شَفَتَهَا، فَيُكْرَهُ عَلَى الإِْطْلاَقِ (1) .
هـ - الْحِجَامَةُ، وَهِيَ أَيْضًا مِمَّا يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ - فِي الْجُمْلَةِ - وَهِيَ اسْتِخْرَاجُ الدَّمِ الْمُحْقَنِ مِنَ الْجِسْمِ، مَصًّا أَوْ شَرْطًا.
وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا لاَ تُفْطِرُ الْحَاجِمَ وَلاَ الْمَحْجُومَ، وَلَكِنَّهُمْ كَرِهُوهَا بِوَجْهٍ عَامٍّ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ بَأْسَ بِهَا، إِنْ أَمِنَ الصَّائِمُ عَلَى نَفْسِهِ الضَّعْفَ، أَمَّا إِذَا خَافَ الضَّعْفَ، فَإِنَّهَا تُكْرَهُ، وَشَرَطَ شَيْخُ الإِْسْلاَمِ الْكَرَاهَةَ، إِذَا كَانَتْ تُورِثُ ضَعْفًا يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى الْفِطْرِ (2) .
__________
(1) مراقي الفلاح ص 372، والدر المختار ورد المحتار 2 / 112 و 113، والفتاوى الهندية 1 / 200، والإقناع 2 / 331، وكشاف القناع 2 / 330، والمجموع 6 / 322، والمغني والشرح الكبير 3 / 40، والإنصاف للمرداوي 3 / 315.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 199 و 200.(28/69)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْمَرِيضَ وَالصَّحِيحَ، إِذَا عُلِمَتْ سَلاَمَتُهُمَا بِالْحِجَامَةِ أَوْ ظُنَّتْ، جَازَتِ الْحِجَامَةُ لَهُمَا، وَإِنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ عَدَمَ السَّلاَمَةِ لَهُمَا حُرِّمَتْ لَهُمَا، وَفِي حَالَةِ الشَّكِّ تُكْرَهُ لِلْمَرِيضِ، وَتَجُوزُ لِلصَّحِيحِ.
قَالُوا: إِنَّ مَحَل الْمَنْعِ إِذَا لَمْ يَخْشَ بِتَأْخِيرِهَا عَلِيلٌ هَلاَكًا أَوْ شَدِيدَ أَذًى، وَإِلاَّ وَجَبَ فِعْلُهَا وَإِنْ أَدَّتْ لِلْفِطْرِ، وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ الاِحْتِرَازُ مِنَ الْحِجَامَةِ، مِنَ الْحَاجِمِ وَالْمَحْجُومِ؛ لأَِنَّهَا تُضْعِفُهُ.
قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ: لَوْ تَرَكَ رَجُلٌ الْحِجَامَةَ صَائِمًا لِلتَّوَقِّي، كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ، وَلَوِ احْتَجَمَ لَمْ أَرَهُ يُفْطِرُهُ.
وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الْخَطَّابِيِّ، أَنَّ الْمَحْجُومَ قَدْ يَضْعُفُ فَتَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ، فَيَعْجَزُ عَنِ الصَّوْمِ فَيُفْطِرُ بِسَبَبِهَا، وَالْحَاجِمُ قَدْ يَصِل إِلَى جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنَ الدَّمِ (2) .
وَدَلِيل عَدَمِ الإِْفْطَارِ بِالْحِجَامَةِ، حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 1 / 518.
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 59 و 62، والأم للشافعي (2 / 97) (ط: دار المعرفة. بيروت) ، والمهذب مع المجموع 6 / 349 - 352.(28/70)
احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ (1) .
وَدَلِيل كَرَاهَةِ الْحِجَامَةِ حَدِيثُ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ أَنَّهُ قَال لأَِنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَال: لاَ، إِلاَّ مِنْ أَجْل الضَّعْفِ (2) .
وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّهُ دَمٌ خَارِجٌ مِنَ الْبَدَنِ، فَأَشْبَهَ الْفَصْدَ (3) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْحِجَامَةَ يُفْطِرُ بِهَا الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ، لِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ (4) .
قَال الْمِرْدَاوِيُّ: وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الأَْصْحَابِ، فَرَّقَ - فِي الْفِطْرِ وَعَدَمِهِ - بَيْنَ الْحَاجِمِ وَالْمَحْجُومِ.
قَال الشَّوْكَانِيُّ: يُجْمَعُ بَيْنَ الأَْحَادِيثِ، بِأَنَّ الْحِجَامَةَ مَكْرُوهَةٌ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ يَضْعُفُ بِهَا، وَتَزْدَادُ الْكَرَاهَةُ إِذَا كَانَ الضَّعْفُ يَبْلُغُ إِلَى حَدٍّ يَكُونُ سَبَبًا لِلإِْفْطَارِ، وَلاَ تُكْرَهُ فِي حَقِّ مَنْ
__________
(1) حديث ابن عباس: " احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 174) .
(2) حديث ثابت البناني أنه قال لأنس بن مالك: " أكنتم تكرهون الحجامة للصائم. . .؟ ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 174) .
(3) المغني والشرح الكبير 3 / 40.
(4) حديث: " أفطر الحاجم والمحجوم ". أخرجه الترمذي (3 / 135) وقال: حديث حسن صحيح.(28/70)
كَانَ لاَ يَضْعُفُ بِهَا، وَعَلَى كُل حَالٍ تَجَنُّبُ الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ أَوْلَى (1) .
أَمَّا الْفَصْدُ، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى كَرَاهَتِهِ، كَالْحِجَامَةِ، وَكَرَاهَةِ كُل عَمَلٍ شَاقٍّ، وَكُل مَا يُظَنُّ أَنَّهُ يُضْعِفُ عَنِ الصَّوْمِ، وَكَذَلِكَ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْفَصَادَةَ كَالْحِجَامَةِ.
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ الَّذِينَ قَالُوا بِالْفِطْرِ فِي الْحِجَامَةِ، قَالُوا: لاَ فِطْرَ بِفَصْدٍ وَشَرْطٍ، وَلاَ بِإِخْرَاجِ دَمِهِ بِرُعَافٍ، لأَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِيهِ، وَالْقِيَاسُ لاَ يَقْتَضِيهِ.
وَفِي قَوْلٍ لَهُمْ - اخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ - إِفْطَارُ الْمَفْصُودِ دُونَ الْفَاصِدِ، كَمَا اخْتَارَ إِفْطَارَ الصَّائِمِ، بِإِخْرَاجِ دَمِهِ، بِرُعَافٍ وَغَيْرِهِ (2) .
و وَتُكْرَهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ فِي الصَّوْمِ.
فَفِي الْمَضْمَضَةِ: بِإِيصَال الْمَاءِ إِلَى رَأْسِ الْحَلْقِ، وَفِي الاِسْتِنْشَاقِ: بِإِيصَالِهِ إِلَى فَوْقِ الْمَارِنِ.
وَذَلِكَ لِحَدِيثِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ: بَالِغْ فِي
__________
(1) الإنصاف 3 / 302، ونيل الأوطار 4 / 203.
(2) مراقي الفلاح ص 372، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 1 / 518، والإقناع 2 / 334، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 62، وكشاف القناع 2 / 320، والروض المربع 1 / 140، 141، والإنصاف 3 / 303.(28/71)
الاِسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا (1) ، وَذَلِكَ خَشْيَةَ فَسَادِ صَوْمِهِ.
وَمِنَ الْمَكْرُوهَاتِ الَّتِي عَدَّدَهَا الْمَالِكِيَّةُ: فُضُول الْقَوْل وَالْعَمَل، وَإِدْخَال كُل رَطْبٍ لَهُ طَعْمٌ (فِي فَمِهِ) وَإِنْ مَجَّهُ، وَالإِْكْثَارُ مِنَ النَّوْمِ فِي النَّهَارِ (2) .
مَا لاَ يُكْرَهُ فِي الصَّوْمِ:
84 - لاَ يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ - فِي الْجُمْلَةِ - مَا يَلِي، مَعَ الْخِلاَفِ فِي بَعْضِهَا:
أ - الاِكْتِحَال غَيْرُ مَكْرُوهٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، بَل أَجَازُوهُ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُفْطِرُ بِهِ الصَّائِمُ وَلَوْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ، قَال النَّوَوِيُّ: لأَِنَّ الْعَيْنَ لَيْسَتْ بِجَوْفٍ، وَلاَ مَنْفَذَ مِنْهَا إِلَى الْحَلْقِ (3) .
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: اكْتَحَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَائِمٌ (4) ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
__________
(1) حديث لقيط بن صبرة: " بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما ". أخرجه الترمذي (3 / 146) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) القوانين الفقهية ص 78.
(3) فتح القدير 2 / 269، ورد المحتار 2 / 113 و 114، والمهذب 6 / 347، وروضة الطالبين 2 / 357.
(4) حديث عائشة: " اكتحل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 536) وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 299) .(28/71)
قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: اشْتَكَتْ عَيْنِي، أَفَأَكْتَحِل وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَال: نَعَمْ (1) .
وَتَرَدَّدَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الاِكْتِحَال، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ لاَ يَتَحَلَّل مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يُفْطِرْ، وَإِنْ تَحَلَّل مِنْهُ شَيْءٌ أَفْطَرَ. وَقَال أَبُو مُصْعَبٍ: لاَ يُفْطِرُ. وَمَنَعَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ مُطْلَقًا.
وَقَال أَبُو الْحَسَنِ: إِنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ يَصِل إِلَى حَلْقِهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَإِنْ شَكَّ كُرِهَ، وَلْيَتَمَادَ (أَيْ يَسْتَمِرُّ فِي صَوْمِهِ) وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لاَ يَصِل، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَقَال مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إِذَا دَخَل حَلْقَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ قَدْ وَصَل الْكُحْل إِلَى حَلْقِهِ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وَإِنْ تَحَقَّقَ عَدَمَ وُصُولِهِ لِلْحَلْقِ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، كَاكْتِحَالِهِ لَيْلاً وَهُبُوطِهِ نَهَارًا لِلْحَلْقِ، لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ (2) .
وَهَذَا أَيْضًا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، فَقَدْ قَالُوا: إِذَا اكْتَحَل بِمَا يَصِل إِلَى حَلْقِهِ وَيَتَحَقَّقُ الْوُصُول إِلَيْهِ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَهَذَا الصَّحِيحُ مِنَ
__________
(1) حديث أنس: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " اشتكت عيني. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 96) وقال: ليس إسناده بالقوي، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء.
(2) حاشية العدوي على الخرشي 2 / 249، وجواهر الإكليل 1 / 149، والقوانين الفقهية ص 80، والمدونة 1 / 197.(28/72)
الْمَذْهَبِ. وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالإِْثْمِدِ الْمُرَوِّحِ عِنْدَ النَّوْمِ، وَقَال: لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ (1) وَلأَِنَّ الْعَيْنَ مَنْفَذٌ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَالْوَاصِل مِنَ الأَْنْفِ.
وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّهُ لاَ يُفْطِرُ بِذَلِكَ (2) .
ب - التَّقْطِيرُ فِي الْعَيْنِ، وَدَهْنُ الأَْجْفَانِ، أَوْ وَضْعُ دَوَاءٍ مَعَ الدُّهْنِ فِي الْعَيْنِ لاَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ، لأَِنَّهُ لاَ يُنَافِيهِ وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّقْطِيرَ فِي الْعَيْنِ مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ إِذَا وَصَل إِلَى الْحَلْقِ، لأَِنَّ الْعَيْنَ مَنْفَذٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَادًا (3) .
ج - دَهْنُ الشَّارِبِ وَنَحْوِهِ، كَالرَّأْسِ وَالْبَطْنِ، لاَ يُفْطِرُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلَوْ وَصَل إِلَى جَوْفِهِ بِشُرْبِ الْمَسَامِّ، لأَِنَّهُ لَمْ يَصِل مِنْ مَنْفَذٍ مَفْتُوحٍ، وَلأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يُنَافِي الصَّوْمَ، وَلأَِنَّهُ - كَمَا يَقُول
__________
(1) حديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأثمد المروح عند النوم ". أخرجه أبو داود (2 / 776) ثم قال: قال لي يحيى بن معين: هو حديث منكر ونقل الزيلعي في نصب الراية (2 / 457) عن ابن عبد الهادي صاحب التنقيح أنه أعله بجهالة راويين فيه.
(2) المغني 3 / 38، والإنصاف 3 / 299 و 300.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 203، ومراقي الفلاح ص 361، والقوانين الفقهية 80، والروضة 2 / 357 والروض المربع 1 / 140.(28/72)
الْمَرْغِينَانِيُّ -: نَوْعُ ارْتِفَاقٍ، وَلَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّوْمِ (1) .
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: مَنْ دَهَنَ رَأْسَهُ نَهَارًا، وَوَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ، أَوْ وَضَعَ حِنَّاءَ فِي رَأْسِهِ نَهَارًا، فَاسْتَطْعَمَهَا فِي حَلْقِهِ، فَالْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ وَإِنْ قَال الدَّرْدِيرُ: لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَهُمْ: وُصُول مَائِعٍ لِلْحَلْقِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْفَمِ، مَعَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لاَ قَضَاءَ فِي دَهْنِ جَائِفَةٍ، وَهِيَ: الْجُرْحُ النَّافِذُ لِلْجَوْفِ، لأَِنَّهُ لاَ يَدْخُل مَدْخَل الطَّعَامِ (2) .
د - الاِسْتِيَاكُ، لاَ يَرَى الْفُقَهَاءُ بِالاِسْتِيَاكِ بِالْعُودِ الْيَابِسِ أَوَّل النَّهَارِ بَأْسًا، وَلاَ يُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بَعْدَ الزَّوَال، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي النَّفْل، لِيَكُونَ أَبْعَدَ مِنَ الرِّيَاءِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ آخِرَ النَّهَارِ. بَل صَرَّحَ الأَْوَّلُونَ بِسُنِّيَّتِهِ آخِرَ النَّهَارِ وَأَوَّلَهُ (3) ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ خَيْرِ خِصَال الصَّائِمِ السِّوَاكُ (4) .
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 3588، ومراقي الفلاح ص 372، والدر المختار 2 / 113، والهداية بشروحها 2 / 269.
(2) الشرح الكبير للدردير - بتصرف 1 / 524، وجواهر الإكليل 1 / 152.
(3) المغني 3 / 46، وروضة الطالبين 2 / 368.
(4) حديث: " من خير خصال الصائم السواك ". أخرجه ابن ماجه (1 / 536) والدارقطني (2 / 203) والبيهقي (4 / 272) واللفظ لابن ماجه، وأشار الدارقطني والبيهقي إلى تضعيفه.(28/73)
وَلِقَوْل عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لاَ أُحْصِي، يَتَسَوَّكُ وَهُوَ صَائِمٌ (1) .
وَقَدْ أَطْلَقَتْ هَذِهِ الأَْحَادِيثُ السِّوَاكَ، فَيُسَنُّ وَلَوْ كَانَ رَطْبًا، أَوْ مَبْلُولاً بِالْمَاءِ، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ كَرَاهَةُ الرَّطْبِ، وَلأَِحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ كَرَاهَةُ الْمَبْلُول بِالْمَاءِ، لاِحْتِمَال أَنْ يَتَحَلَّل مِنْهُ أَجْزَاءٌ إِلَى حَلْقِهِ، فَيُفْطِرُهُ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ.
وَشَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِجَوَازِهِ أَنْ لاَ يَتَحَلَّل مِنْهُ شَيْءٌ، فَإِنْ تَحَلَّل مِنْهُ شَيْءٌ كُرِهَ، وَإِنْ وَصَل إِلَى الْحَلْقِ أَفْطَرَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى سُنِّيَّةِ تَرْكِ السِّوَاكِ بَعْدَ الزَّوَال، وَإِذَا اسْتَاكَ فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، بِشَرْطِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنِ ابْتِلاَعِ شَيْءٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ رُطُوبَتِهِ (2) .
وَاسْتَحَبَّ أَحْمَدُ تَرْكَ السِّوَاكِ بِالْعَشِيِّ، وَقَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُلُوفُ فَمِ
__________
(1) حديث عامر بن ربيعة: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم ". أخرجه الترمذي (3 / 95) ونقل ابن حجر في الفتح (4 / 158) عن غير واحد تضعيف أحد رواته.
(2) مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه ص 372 و 373، والهداية وشروحها 2 / 270 و 271، والدر المختار ورد المحتار 2 / 114، والمغني 3 / 46، والقوانين الفقهية ص 80، وحاشية الدسوقي على الدردير 1 / 534، وروضة الطالبين 2 / 368.(28/73)
الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ الأَْذْفَرِ (1) لِتِلْكَ الرَّائِحَةِ لاَ يُعْجِبُنِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَسْتَاكَ بِالْعَشِيِّ (2) .
وَعَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي الاِسْتِيَاكِ بِالْعُودِ الرَّطْبِ:
إِحْدَاهُمَا: الْكَرَاهَةُ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَالأُْخْرَى: أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَمْ يَرَ أَهْل الْعِلْمِ بِالسِّوَاكِ أَوَّل النَّهَارِ بَأْسًا، إِذَا كَانَ الْعُودُ يَابِسًا (3) .
هـ - الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ فِي غَيْرِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل لاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ وَلاَ يُفْطِرُ.
وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِمَا إِذَا كَانَ لِعَطَشٍ وَنَحْوِهِ، وَكَرِهُوهُ لِغَيْرِ مُوجِبٍ، لأَِنَّ فِيهِ تَغْرِيرًا وَمُخَاطَرَةً، وَذَلِكَ لاِحْتِمَال سَبْقِ شَيْءٍ مِنَ الْمَاءِ إِلَى الْحَلْقِ، فَيَفْسُدُ الصَّوْمُ حِينَئِذٍ (4) .
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ سَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ؟ فَقَال: أَرَأَيْتَ لَوْ مَضْمَضْتَ مِنَ الْمَاءِ وَأَنْتَ صَائِمٌ؟ قُلْتُ: لاَ بَأْسَ، قَال: فَمَهْ (5) .
__________
(1) المسك الأذفر: الجيد إلى الغاية انظر القاموس المحيط (مادة: ذفر) ، وحديث: " خلوف فم الصائم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 103) ومسلم (2 / 807) من حديث أبي هريرة دون قوله فيه: " الأذفر ".
(2) المغني 3 / 46.
(3) المغني 3 / 46 وما بعدها.
(4) الشرح الكبير للدردير، وحاشية الدسوقي عليه 1 / 534.
(5) حديث عمر: " أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 779 - 780) والحاكم (1 / 431) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(28/74)
وَلأَِنَّ الْفَمَ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ، لاَ يُبْطِل الصَّوْمَ بِالْوَاصِل إِلَيْهِ كَالأَْنْفِ وَالْعَيْنِ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّ الْمَضْمَضَةَ، إِنْ كَانَتْ لِحَاجَةٍ كَغَسْل فَمِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَنَحْوِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَضْمَضَةِ لِلطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ عَابِثًا، أَوْ مَضْمَضَ مِنْ أَجْل الْعَطَشِ كُرِهَ (1) .
وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَصُبَّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْعَطَشِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَرْجِ، يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ صَائِمٌ، مِنَ الْعَطَشِ، أَوْ مِنَ الْحَرِّ (2) .
وَكَذَا التَّلَفُّفُ بِثَوْبٍ مُبْتَلٍّ لِلتَّبَرُّدِ وَدَفْعِ الْحَرِّ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلأَِنَّ بِهَذِهِ عَوْنًا لَهُ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَدَفْعًا لِلضَّجَرِ وَالضِّيقِ.
وَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ، لِمَا فِيهَا مِنْ إِظْهَارِ الضَّجَرِ فِي إقَامَةِ الْعِبَادَةِ (3) .
و اغْتِسَال الصَّائِمِ، فَلاَ يُكْرَهُ، وَلاَ بَأْسَ بِهِ حَتَّى لِلتَّبَرُّدِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ
__________
(1) المغني 3 / 44، 45.
(2) حديث بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 769) والحاكم (1 / 432) وأشار الحاكم إلى تصحيحه ووافقه الذهبي.
(3) مراقي الفلاح ص 373، والدر المختار ورد المحتار عليه 2 / 114.(28/74)
عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَتَا: نَشْهَدُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَانَ لَيُصْبِحُ جُنُبًا، مِنْ غَيْرِ احْتِلاَمٍ، ثُمَّ يَغْتَسِل ثُمَّ يَصُومُ (1) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ دَخَل الْحَمَّامَ وَهُوَ صَائِمٌ هُوَ وَأَصْحَابٌ لَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَأَمَّا الْغَوْصُ فِي الْمَاءِ، إِذَا لَمْ يَخَفْ أَنْ يَدْخُل فِي مَسَامِعِهِ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَكَرِهَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ حَال الإِْسْرَافِ وَالتَّجَاوُزِ أَوِ الْعَبَثِ، خَوْفَ فَسَادِ الصَّوْمِ (2) .
الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الإِْفْطَارِ:
85 - حَصَرَ الْفُقَهَاءُ الآْثَارَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى الإِْفْطَارِ فِي أُمُورٍ، مِنْهَا: الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ الْكُبْرَى، وَالْكَفَّارَةُ الصُّغْرَى (وَهَذِهِ هِيَ الْفِدْيَةُ) وَالإِْمْسَاكُ بَقِيَّةَ النَّهَارِ، وَقَطْعُ التَّتَابُعِ، وَالْعُقُوبَةُ (3) .
أَوَّلاً: الْقَضَاءُ:
86 - مَنْ أَفْطَرَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ - كَالْمَرِيضِ
__________
(1) حديث عائشة وأم سلمة: " نشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان ليصبح جنبا. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 153) ومسلم (2 / 781) بألفاظ متقاربة.
(2) مراقي الفلاح ص 373، والدر المختار ورد المحتار 2 / 114، والمغني 3 / 45، وروضة الطالبين 2 / 361.
(3) القوانين الفقهية ص 83.(28/75)
وَالْمُسَافِرِ - قَضَى بِعِدَّةِ مَا فَاتَهُ، لأَِنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِعِدَّةِ مَا فَاتَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (1) } .
وَمَنْ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلُّهُ، قَضَى الشَّهْرَ كُلَّهُ، سَوَاءٌ ابْتَدَأَهُ مِنْ أَوَّل الشَّهْرِ أَوْ مِنْ أَثْنَائِهِ، كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ الْفَائِتَةِ. قَال الأَْبِيُّ: الْقَضَاءُ لِمَا فَاتَ مِنْ رَمَضَانَ بِالْعَدَدِ: فَمَنْ أَفْطَرَ رَمَضَانَ كُلَّهُ، وَكَانَ ثَلاَثِينَ، وَقَضَاهُ فِي شَهْرٍ بِالْهِلاَل، وَكَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، صَامَ يَوْمًا آخَرَ. وَإِنْ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ وَهُوَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَقَضَاهُ فِي شَهْرٍ - وَكَانَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا - فَلاَ يَلْزَمُهُ صَوْمُ الْيَوْمِ الأَْخِيرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .
وَقَال ابْنُ وَهْبٍ: إِنْ صَامَ بِالْهِلاَل، كَفَاهُ مَا صَامَهُ، وَلَوْ كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَرَمَضَانُ ثَلاَثِينَ (2) .
وَكَذَا قَال الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ قَضَى شَهْرًا هِلاَلِيًّا أَجْزَأَهُ، سَوَاءٌ كَانَ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا وَإِنْ لَمْ يَقْضِ شَهْرًا، صَامَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ.
قَال الْمَجْدُ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَقَال: هُوَ أَشْهَرُ.
__________
(1) سورة البقرة: / 185، وانظر كشاف القناع 2 / 333.
(2) كشاف القناع 2 / 333، وجواهر الإكليل 1 / 153 و 154.(28/75)
وَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ يَوْمَ شِتَاءٍ عَنْ يَوْمِ صَيْفٍ، وَيَجُوزُ عَكْسُهُ، بِأَنْ يَقْضِيَ يَوْمَ صَيْفٍ عَنْ يَوْمِ شِتَاءٍ، وَهَذَا لِعُمُومِ الآْيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِطْلاَقِهَا (1) .
وَقَضَاءُ رَمَضَانَ يَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي.
لَكِنَّ الْجُمْهُورَ قَيَّدُوهُ بِمَا إِذَا لَمْ يَفُتْ وَقْتُ قَضَائِهِ، بِأَنْ يُهِل رَمَضَانُ آخَرُ، لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا " كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ، لِمَكَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) كَمَا لاَ يُؤَخِّرُ الصَّلاَةَ الأُْولَى إِلَى الثَّانِيَةِ.
وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ تَأْخِيرُ قَضَاءِ رَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ آخَرَ، مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يَأْثَمُ بِهِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا (3) ، فَإِنْ أَخَّرَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ: إِطْعَامُ مِسْكِينٍ لِكُل يَوْمٍ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا فِيمَنْ عَلَيْهِ صَوْمٌ فَلَمْ يَصُمْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَإِطْعَامُ مِسْكِينٍ لِكُل يَوْمٍ، وَهَذِهِ الْفِدْيَةُ لِلتَّأْخِيرِ، أَمَّا فِدْيَةُ الْمُرْضِعِ وَنَحْوِهَا فَلِفَضِيلَةِ الْوَقْتِ، وَفِدْيَةُ الْهَرَمِ لأَِصْل الصَّوْمِ، وَيَجُوزُ
__________
(1) الإنصاف للمرداوي 3 / 333، وكشاف القناع 2 / 333.
(2) حديث عائشة: " كان يكون على الصوم في رمضان. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 189) ومسلم (2 / 802 - 803) .
(3) كشاف القناع 2 / 333، 334.(28/76)
الإِْطْعَامُ قَبْل الْقَضَاءِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ (1)
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ مُحْتَمَلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِطْلاَقُ التَّرَاخِي بِلاَ قَيْدٍ، فَلَوْ جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ، وَلَمْ يَقْضِ الْفَائِتُ، قَدَّمَ صَوْمَ الأَْدَاءِ عَلَى الْقَضَاءِ، حَتَّى لَوْ نَوَى الصَّوْمَ عَنِ الْقَضَاءِ لَمْ يَقَعْ إِلاَّ عَنِ الأَْدَاءِ، وَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِالتَّأْخِيرِ إِلَيْهِ، لإِِطْلاَقِ النَّصِّ، وَظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (2) } .
وَعِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ يَحْرُمُ التَّطَوُّعُ بِالصَّوْمِ قَبْل قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَلاَ يَصِحُّ تَطَوُّعُهُ بِالصَّوْمِ قَبْل قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ، بَل يَبْدَأُ بِالْفَرْضِ حَتَّى يَقْضِيَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ صَامَهُ بَعْدَ الْفَرْضِ، لأَِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الأُْولَى عَنِ الثَّانِيَةِ، كَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ ( x663 ;)
مَسَائِل تَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ:
الأُْولَى:
87 - إِنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ - وَكَذَا النَّذْرَ وَالْكَفَّارَةَ - لِعُذْرٍ، بِأَنِ اسْتَمَرَّ مَرَضُهُ أَوْ سَفَرُهُ
__________
(1) الإنصاف 3 / 333، وانظر الشرح الكبير للدردير 1 / 537، والقوانين الفقهية ص 84، والإقناع 2 / 343، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 68 و 69، والمهذب 6 / 363، وكشاف القناع 2 / 334.
(2) سورة البقرة: 185، وراجع مراقي الفلاح ص 375، والفتاوى الهندية 1 / 208، والإنصاف 3 / 334.
(3) كشاف القناع 2 / 334، المغني مع الشرح الكبير 3 / 83.(28/76)
الْمُبَاحُ إِلَى مَوْتِهِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْقَضَاءِ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلاَ تَدَارُكَ لِلْغَائِبِ بِالْفِدْيَةِ وَلاَ بِالْقَضَاءِ، لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ، وَلاَ إِثْمَ بِهِ، لأَِنَّهُ فَرْضٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ إِلَى الْمَوْتِ، فَسَقَطَ حُكْمُهُ، كَالْحَجِّ، وَلأَِنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ رَمَضَانَ بِهَذَا الْعُذْرِ أَدَاءً، فَتَأْخِيرُ الْقَضَاءِ أَوْلَى - كَمَا يَقُول النَّوَوِيُّ.
وَسَوَاءٌ اسْتَمَرَّ الْعُذْرُ إِلَى الْمَوْتِ، أَمْ حَصَل الْمَوْتُ فِي رَمَضَانَ، وَلَوْ بَعْدَ زَوَال الْعُذْرِ كَمَا قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ.
وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: يُحْتَمَل أَنْ يَجِبَ الصَّوْمُ عَنْهُ أَوِ التَّكْفِيرُ (1)
الثَّانِيَةُ:
88 - لَوْ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ وَاتَّصَل الْعُذْرُ بِالْمَوْتِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُصَامُ عَنْهُ وَلاَ كَفَّارَةَ فِيهِ، لأَِنَّهُ فَرْضٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِهِ إِلَى الْمَوْتِ فَسَقَطَ حُكْمُهُ، كَالْحَجِّ.
أَمَّا إِذَا زَال الْعُذْرُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الْقَضَاءِ، وَلَمْ يَقْضِ حَتَّى مَاتَ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ وَالْجَدِيدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يُصَامُ عَنْهُ؛ لأَِنَّ
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 364، وانظر شرح المحلي على المنهاج 2 / 69، وكشاف القناع 2 / 334، والإقناع 2 / 343، والإنصاف 3 / 334.(28/77)
الصَّوْمَ وَاجِبٌ بِأَصْل الشَّرْعِ لاَ يُقْضَى عَنْهُ، لأَِنَّهُ لاَ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ فِي الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَمَاتِ كَالصَّلاَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ النَّوَوِيِّ، وَهُوَ قَوْل أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ، زَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَيَصِحُّ ذَلِكَ، وَيُجْزِئُهُ عَنِ الإِْطْعَامِ، وَتَبْرَأُ بِهِ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ وَلاَ يَلْزَمُ الْوَلِيَّ الصَّوْمُ بَل هُوَ إِلَى خِيرَتِهِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ (1) .
أَمَّا فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، ثُمَّ مَاتَ قَبْل رَمَضَانَ آخَرَ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَمْ يَقْضِ لَزِمَهُ الإِْيصَاءُ بِكَفَّارَةِ مَا أَفْطَرَهُ بِقَدْرِ الإِْقَامَةِ مِنَ السَّفَرِ وَالصِّحَّةِ مِنَ الْمَرَضِ وَزَوَال الْعُذْرِ، وَلاَ يَجِبُ الإِْيصَاءُ بِكَفَّارَةِ مَا أَفْطَرَهُ عَلَى مَنْ مَاتَ قَبْل زَوَال الْعُذْرِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الْجَدِيدِ - إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي تَرِكَتِهِ لِكُل يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى الإِْطْعَامِ عَنْهُ لِكُل يَوْمٍ مِسْكِينًا (2) .
__________
(1) حديث عائشة: " من مات وعليه صيام صام. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 192) ومسلم (2 / 803) .
(2) مراقي الفلاح ص 375، جواهر الإكليل 1 / 163، والمجموع 6 / 368، والإنصاف 3 / 334 - 336، وكشاف القناع 2 / 334، 335.(28/77)
وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ: وُجُوبُ مُدٍّ عَنْ كُل يَوْمٍ أَفْطَرَهُ إِذَا فَرَّطَ، بِأَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا خَالِيًا مِنَ الأَْعْذَارِ (1) .
ثَانِيًا: الْكَفَّارَةُ الْكُبْرَى:
89 - ثَبَتَتِ الْكَفَّارَةُ الْكُبْرَى بِالنَّصِّ فِي حَدِيثِ الأَْعْرَابِيِّ الَّذِي وَاقَعَ زَوْجَتَهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِهَا بِإِفْسَادِ الصَّوْمِ بِالْوِقَاعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي وُجُوبِهَا بِإِفْسَادِهِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَتَجِبُ - فِي الْجُمْلَةِ أَيْضًا - بِإِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ خَاصَّةً، طَائِعًا مُتَعَمِّدًا غَيْرَ مُضْطَرٍّ، قَاصِدًا انْتِهَاكَ حُرْمَةِ الصَّوْمِ، مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مُبِيحٍ لِلْفِطْرِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّمَا يُكَفِّرُ إِذَا نَوَى الصِّيَامَ لَيْلاً، وَلَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا، وَلَمْ يَطْرَأْ مُسْقِطٌ، كَمَرَضٍ وَحَيْضٍ.
فَلاَ كَفَّارَةَ فِي الإِْفْطَارِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَى النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - وَلاَ عَلَى النُّفَسَاءِ وَالْحَائِضِ وَالْمَجْنُونِ، وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَلاَ عَلَى الْمُرْهَقِ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَلاَ عَلَى الْحَامِل، لِعُذْرِهِمْ،
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 721.(28/78)
وَلاَ عَلَى الْمُرْتَدِّ، لأَِنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ الإِْسْلاَمِ، لاَ حُرْمَةَ الصِّيَامِ خُصُوصًا.
فَتَجِبُ بِالْجِمَاعِ عَمْدًا، لاَ نَاسِيًا - خِلاَفًا لأَِحْمَدَ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - وَتَجِبُ بِالأَْكْل وَالشُّرْبِ عَمْدًا، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَتَقَدَّمَتْ مُوجِبَاتٌ أُخْرَى مُخْتَلَفٌ فِيهَا، كَالإِْصْبَاحِ بِنِيَّةِ الْفِطْرِ، وَرَفْضِ النِّيَّةِ نَهَارًا، وَالاِسْتِقَاءِ الْعَامِدِ، وَابْتِلاَعِ مَا لاَ يُغَذِّي عَمْدًا (1) .
أَمَّا خِصَال الْكَفَّارَةِ فَهِيَ: الْعِتْقُ وَالصِّيَامُ وَالإِْطْعَامُ، وَهَذَا بِالاِتِّفَاقِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، هَلَكْتُ، قَال: مَا لَكَ؟ قَال: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَل تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَال: لاَ، قَال: فَهَل تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَال: لاَ، قَال: فَهَل تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَال: لاَ، قَال: فَمَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ (2) فِيهَا
__________
(1) الدر المختار 2 / 110، والقوانين الفقهية ص 83، ومراقي الفلاح ص 366، وروضة الطالبين 2 / 374 وما بعدها، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 69 و 70 وكشاف القناع 2 / 324، وما بعدها.
(2) العرق: وهو مكتل من خوص النخل يسع خمسة عشر صاعا، والصاع أربعة أمداد، فهي ستون مدا (حاشية القليوبي على شرح المحلي 2 / 72) .(28/78)
تَمْرٌ، قَال: أَيْنَ السَّائِل؟ فَقَال: أَنَا، قَال: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ، فَقَال الرَّجُل: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُول اللَّهِ، فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا - يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ - أَهْل بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْل بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَال: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ (1) .
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ الْجَدُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: وَفِيهِ دَلاَلَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ.
قَالُوا: فَكَفَّارَتُهُ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، لَكِنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ، وَأَمَّا هَذِهِ فَبِالسُّنَّةِ.
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ بِالْخِصَال الثَّلاَثِ عَلَى التَّرْتِيبِ. قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقَلَهُ مِنْ أَمْرٍ بَعْدَ عَدَمِهِ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَلَيْسَ هَذَا شَأْنَ التَّخْيِيرِ (2) .
وَقَال الْبَيْضَاوِيُّ: إِنَّ تَرْتِيبَ الثَّانِي عَلَى الأَْوَّل، وَالثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي، بِالْفَاءِ يَدُل عَلَى عَدَمِ التَّخْيِيرِ، مَعَ كَوْنِهَا فِي مَعْرِضِ الْبَيَانِ وَجَوَابِ السُّؤَال، فَنَزَل مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ. وَإِلَى الْقَوْل بِالتَّرْتِيبِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَأَنَّهَا كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَيَعْتِقُ أَوَّلاً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَطْعَمَ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". تقدم في فقرة رقم 68.
(2) منتقى الأخبار 4 / 214، والدر المختار 2 / 109.(28/79)
سِتِّينَ مِسْكِينًا، لِهَذَا الْحَدِيثِ (1) .
ثَالِثًا: الْكَفَّارَةُ الصُّغْرَى:
90 - الْكَفَّارَةُ الصُّغْرَى: هِيَ الْفِدْيَةُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ لِمِسْكِينٍ إِذَا كَانَ مِنَ الْبُرِّ، أَوْ نِصْفُ صَاعٍ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ عَنْ كُل يَوْمٍ، وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَالْفِطْرَةِ قَدْرًا، وَتَكْفِي فِيهَا الإِْبَاحَةُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ التَّمْلِيكُ هُنَا، بِخِلاَفِ الْفِطْرَةِ (2) .
وَتَجِبُ عَلَى مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَل رَمَضَانُ آخَرُ، وَعَلَى الْحَامِل وَالْمُرْضِعِ وَالشَّيْخِ الْهَرَمِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (فِدْيَة) .
رَابِعًا: الإِْمْسَاكُ لِحُرْمَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ:
91 - مِنْ لَوَازِمِ الإِْفْطَارِ فِي رَمَضَانَ: الإِْمْسَاكُ لِحُرْمَةِ الشَّهْرِ، قَال النَّوَوِيُّ: وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ رَمَضَانَ، كَالْكَفَّارَةِ، فَلاَ إِمْسَاكَ عَلَى مُتَعَدٍّ بِالْفِطْرِ، وَفِي نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ (3) وَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ وَتَفْرِيعٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ:
فَالْحَنَفِيَّةُ وَضَعُوا أَصْلَيْنِ لِهَذَا الإِْمْسَاكِ:
__________
(1) نيل الأوطار 4 / 215، وروضة الطالبين 2 / 379، وحاشية القليوبي على شرح المحلي 2 / 72، والمغني 3 / 66.
(2) حاشية البجيرمي على شرح الشربيني الخطيب 2 / 346، والدر المختار 2 / 117.
(3) روضة الطالبين 2 / 371.(28/79)
أَوَّلُهُمَا: أَنَّ كُل مَنْ صَارَ فِي آخِرِ النَّهَارِ بِصِفَةٍ، لَوْ كَانَ فِي أَوَّل النَّهَارِ عَلَيْهَا لَلَزِمَهُ الصَّوْمُ، فَعَلَيْهِ الإِْمْسَاكُ.
ثَانِيهِمَا: كُل مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَالأَْهْلِيَّةِ، ثُمَّ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ، بِأَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا، أَوْ أَصْبَحَ يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِرًا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، أَوْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ، ثُمَّ تَبَيَّنَ طُلُوعُهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْمْسَاكُ تَشَبُّهًا عَلَى الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ الْفِطْرَ قَبِيحٌ، وَتَرْكُ الْقَبِيحِ وَاجِبٌ شَرْعًا، وَقِيل: يُسْتَحَبُّ.
وَأَجْمَعَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ هَذَا الإِْمْسَاكُ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً، أَوْ أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، وَكَذَا عَلَى مُسَافِرٍ أَقَامَ، وَحَائِضٍ وَنُفَسَاءَ طَهُرَتَا، وَمَجْنُونٍ أَفَاقَ، وَمَرِيضٍ صَحَّ، وَمُفْطِرٍ وَلَوْ مُكْرَهًا أَوْ خَطَأً، وَصَبِيٍّ بَلَغَ، وَكَافِرٍ أَسْلَمَ (1) .
وَقَال ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَأَمَّا إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ، فَيُؤْمَرُ بِهِ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ خَاصَّةً، عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا، لاَ مَنْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 2 / 106.(28/80)
مُبِيحٍ ثُمَّ زَال الْعُذْرُ مَعَ الْعِلْمِ بِرَمَضَانَ، فَإِنَّهُ لاَ يُنْدَبُ لَهُ الإِْمْسَاكُ، كَمَنِ اضْطُرَّ لِلْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، مِنْ شِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ فَأَفْطَرَ، وَكَحَائِضٍ وَنُفَسَاءَ طَهُرَتَا نَهَارًا، وَمَرِيضٍ صَحَّ نَهَارًا، وَمُرْضِعٍ مَاتَ وَلَدُهَا، وَمُسَافِرٍ قَدِمَ، وَمَجْنُونٍ أَفَاقَ، وَصَبِيٍّ بَلَغَ نَهَارًا، فَلاَ يُنْدَبُ الإِْمْسَاكُ مِنْهُمْ.
وَقُيِّدَ الْعِلْمُ بِرَمَضَانَ، احْتِرَازٌ عَمَّنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا، وَعَمَّنْ أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الإِْمْسَاكُ، كَصَبِيٍّ بَيَّتَ الصَّوْمَ، وَاسْتَمَرَّ صَائِمًا حَتَّى بَلَغَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْمْسَاكُ، لاِنْعِقَادِ صَوْمِهِ لَهُ نَافِلَةً، أَوْ أَفْطَرَ نَاسِيًا قَبْل بُلُوغِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الإِْمْسَاكِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبِ الْقَضَاءُ عَلَى الصَّبِيِّ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ.
وَنَصُّوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْفِطْرِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْمْسَاكُ، بَعْدَ زَوَال الإِْكْرَاهِ قَالُوا: لأَِنَّ فِعْلَهُ قَبْل زَوَال الْعُذْرِ، لاَ يَتَّصِفُ بِإِبَاحَةٍ وَلاَ غَيْرِهَا.
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ لِمَنْ أَسْلَمَ، لِتَظْهَرَ عَلَيْهِ عَلاَمَةُ الإِْسْلاَمِ بِسُرْعَةٍ، وَلَمْ يَجِبْ، تَأْلِيفًا لَهُ لِلإِْسْلاَمِ، كَمَا نُدِبَ قَضَاؤُهُ، وَلَمْ يَجِبْ لِذَلِكَ (1) .
__________
(1) القوانين الفقهية ص 84، وجواهر الإكليل 1 / 146، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 1 / 514، 515، ومنح الجليل 1 / 390 و 391، وشرح الزرقاني بحاشية البناني 2 / 197 و 198.(28/80)
وَالشَّافِعِيَّةُ بَعْدَ أَنْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الإِْمْسَاكَ تَشَبُّهًا مِنْ خَوَاصِّ رَمَضَانَ، كَالْكَفَّارَةِ، وَأَنَّ مَنْ أَمْسَكَ تَشَبُّهًا لَيْسَ فِي صَوْمٍ وَضَعُوا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ، وَهِيَ: أَنَّ الإِْمْسَاكَ يَجِبُ عَلَى كُل مُتَعَدٍّ بِالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، سَوَاءٌ أَكَل أَوِ ارْتَدَّ أَوْ نَوَى الْخُرُوجَ مِنَ الصَّوْمِ - وَقُلْنَا إِنَّهُ يَخْرُجُ بِذَلِكَ - كَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ نَسِيَ النِّيَّةَ مِنَ اللَّيْل، وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى مَنْ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ إِبَاحَةً حَقِيقِيَّةً، كَالْمُسَافِرِ إِذَا قَدِمَ، وَالْمَرِيضِ إِذَا بَرِئَ بَقِيَّةَ النَّهَارِ (1) .
وَنَظَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الأَْحْوَال:
الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ، اللَّذَانِ يُبَاحُ لَهُمَا الْفِطْرُ، لَهُمَا ثَلاَثَةُ أَحْوَالٍ:
الأُْولَى: أَنْ يُصْبِحَا صَائِمَيْنِ، وَيَدُومَا كَذَلِكَ إِلَى زَوَال الْعُذْرِ، فَالْمَذْهَبُ لُزُومُ إِتْمَامِ الصَّوْمِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَزُول الْعُذْرُ بَعْدَ مَا أَفْطَرَ، فَلاَ يَجِبُ الإِْمْسَاكُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ - كَمَا يَقُول الْمَحَلِّيُّ - فَإِنْ أَكَلاَ أَخْفَيَاهُ، لِئَلاَّ يَتَعَرَّضَا لِلتُّهْمَةِ وَعُقُوبَةِ السُّلْطَانِ، وَلَهُمَا الْجِمَاعُ بَعْدَ زَوَال الْعُذْرِ، إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمَرْأَةُ صَائِمَةً، بِأَنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، أَوْ طَهُرَتْ مِنَ الْحَيْضِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 371، والوجيز 1 / 104.(28/81)
الثَّالِثَةُ: أَنْ يُصْبِحَا غَيْرَ نَاوِيَيْنِ، وَيَزُول الْعُذْرُ قَبْل أَنْ يَأْكُلاَ، فَفِي الْمَذْهَبِ قَوْلاَنِ: لاَ يَلْزَمُهُمَا الإِْمْسَاكُ فِي الْمَذْهَبِ، لأَِنَّ مَنْ أَصْبَحَ تَارِكًا لِلنِّيَّةِ فَقَدْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، فَكَانَ كَمَا لَوْ أَكَل، وَقِيل: يَلْزَمُهُمَا الإِْمْسَاكُ حُرْمَةً لِلْيَوْمِ (1) . وَإِذَا أَصْبَحَ يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِرًا غَيْرَ صَائِمٍ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَضَاؤُهُ وَاجِبٌ، وَيَجِبُ إِمْسَاكُهُ عَلَى الأَْظْهَرِ، وَقِيل: لاَ يَلْزَمُهُ؛ لِعُذْرِهِ (2) .
أَمَّا لَوْ بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ قَبْل الأَْكْل، فَقَدْ حَكَى الْمُتَوَلِّي فِي لُزُومِ الإِْمْسَاكِ الْقَوْلَيْنِ، وَجَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَجَمَاعَةٌ بِلُزُومِهِ. قَال الْقَلْيُوبِيُّ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ (3) .
وَإِذَا بَلَغَ صَبِيٌّ مُفْطِرًا أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ، أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ أَثْنَاءَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَفِيهِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُمْ إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ لأَِنَّهُ يَلْزَمُهُمْ قَضَاؤُهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ، بِنَاءً عَلَى لُزُومِ الْقَضَاءِ. وَالثَّالِثُ: يَلْزَمُ الْكَافِرَ دُونَهُمَا، لِتَقْصِيرِهِ (4) .
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي عليه 2 / 65، روضة الطالبين 2 / 371 و 372.
(2) شرح المحلي على المنهاج 2 / 65.
(3) حاشية القليوبي في الموضع نفسه، وقارن بروضة الطالبين 2 / 372.
(4) روضة الطالبين 2 / 372.(28/81)
وَالرَّابِعُ: يَلْزَمَ الْكَافِرَ وَالصَّبِيَّ لِتَقْصِيرِهِمَا، أَوْ لأَِنَّهُمَا مَأْمُورَانِ عَلَى الْجُمْلَةِ - كَمَا يَقُول الْغَزَالِيُّ - دُونَ الْمَجْنُونِ.
قَال الْمَحَلِّيُّ: لَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ بِالنَّهَارِ صَائِمًا، بِأَنْ نَوَى لَيْلاً، وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ بِلاَ قَضَاءٍ، وَقِيل: يُسْتَحَبُّ إِتْمَامُهُ، وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْفَرْضَ (1) .
وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ إِذَا طَهُرَتَا فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُمَا الإِْمْسَاكُ، وَنَقَل الإِْمَامُ الاِتِّفَاقَ عَلَيْهِ (2) .
وَفِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ بِفُرُوعِهَا:
مَنْ صَارَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ أَهْلاً لِلْوُجُوبِ لَزِمَهُ إِمْسَاكُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَقَضَاؤُهُ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ، وَلِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ فِيهِ بِالرُّؤْيَةِ، وَلإِِدْرَاكِهِ جُزْءًا مِنْ وَقْتِهِ كَالصَّلاَةِ.
وَكَذَا كُل مَنْ أَفْطَرَ، وَالصَّوْمُ يَجِبُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الإِْمْسَاكُ وَالْقَضَاءُ، كَالْفِطْرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَمَنْ أَفْطَرَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ وَكَانَ قَدْ طَلَعَ، أَوْ يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ وَلَمْ تَغِبْ، أَوِ النَّاسِي لِلنِّيَّةِ، فَكُلُّهُمْ يَلْزَمُهُمُ الإِْمْسَاكُ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ اخْتِلاَفًا. أَوْ تَعَمَّدَتْ مُكَلَّفَةٌ
__________
(1) الوجيز 1 / 104، وروضة الطالبين 2 / 372، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 65.
(2) روضة الطالبين 2 / 273.(28/82)
الْفِطْرَ، ثُمَّ حَاضَتْ أَوْ نَفِسَتْ، أَوْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ، فَكُلُّهُمْ يَلْزَمُهُمُ الإِْمْسَاكُ وَالْقَضَاءُ؛ لِمَا سَبَقَ (1) .
فَأَمَّا مَنْ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فِي أَوَّل النَّهَارِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمُسَافِرِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْكَافِرِ وَالْمَرِيضِ إِذَا زَالَتْ أَعْذَارُهُمْ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَطَهُرَتِ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ، وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَصَحَّ الْمَرِيضُ، فَفِيهِمْ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: يَلْزَمُهُمُ الإِْمْسَاكُ بَقِيَّةَ الْيَوْمِ، لأَِنَّهُ مَعْنَى لَوْ وُجِدَ قَبْل الْفَجْرِ أَوْجَبَ الصِّيَامَ، فَإِذَا طَرَأَ بَعْدَ الْفَجْرِ أَوْجَبَ الإِْمْسَاكَ، كَقِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِالرُّؤْيَةِ.
وَاقْتَصَرَ عَلَى مُوجِبِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْبُهُوتِيُّ، فِي كَشَّافِهِ وَرَوْضِهِ.
وَالأُْخْرَى: لاَ يَلْزَمُهُمُ الإِْمْسَاكُ، لأَِنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَال: (مَنْ أَكَل أَوَّل النَّهَارِ، فَلْيَأْكُل آخِرَهُ) ، وَلأَِنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ أَوَّل النَّهَارِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَإِذَا أَفْطَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَهُ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، كَمَا لَوْ دَامَ الْعُذْرُ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِذَا جَامَعَ أَحَدُ هَؤُلاَءِ، بَعْدَ زَوَال عُذْرِهِ، انْبَنَى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، فِي
__________
(1) المغني والشرح الكبير 3 / 72 و 73، وكشاف القناع 2 / 309.(28/82)
وُجُوبِ الإِْمْسَاكِ:
1 - فَإِنْ قُلْنَا: يَلْزَمُهُ الإِْمْسَاكُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِالرُّؤْيَةِ فِي حَقِّهِ إِذَا جَامَعَ.
2 - وَإِنْ قُلْنَا: لاَ يَلْزَمُهُ الإِْمْسَاكُ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. . . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضٍ، فَأَصَابَهَا (1) .
خَامِسًا: الْعُقُوبَةُ:
92 - يُرَادُ بِالْعُقُوبَةِ هُنَا: الْجَزَاءُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ عَمْدًا فِي رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ الإِْفْطَارِ وَمُوجِبَاتِهِ.
وَفِي عُقُوبَةِ الْمُفْطِرِ الْعَامِدِ، مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ.
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ تَارِكَ الصَّوْمِ كَتَارِكِ الصَّلاَةِ، إِذَا كَانَ عَمْدًا كَسَلاً، فَإِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَصُومَ، وَقِيل: يُضْرَبُ فِي حَبْسِهِ، وَلاَ يُقْتَل إِلاَّ إِذَا جَحَدَ الصَّوْمَ أَوِ الصَّلاَةَ، أَوِ اسْتَخَفَّ بِأَحَدِهِمَا.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الشَّرَنْبَلاَلِيِّ، أَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ مَنْ لاَ عُذْرَ لَهُ الأَْكْل جِهَارًا يُقْتَل، لأَِنَّهُ مُسْتَهْزِئٌ بِالدِّينِ، أَوْ مُنْكِرٌ لِمَا ثَبَتَ مِنْهُ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 309، والمغني والشرح الكبير 3 / 72، 73، والروض المربع 1 / 138.(28/83)
بِالضَّرُورَةِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي حِل قَتْلِهِ، وَالأَْمْرِ بِهِ (1) .
وَأَطْلَقَ ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْعُقُوبَةِ قَوْلَهُ: هِيَ لِلْمُنْتَهِكِ لِصَوْمِ رَمَضَانَ (2) .
وَقَال خَلِيلٌ: أُدِّبَ الْمُفْطِرُ عَمْدًا.
وَكَتَبَ عَلَيْهِ الشُّرَّاحُ: أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ عَمْدًا اخْتِيَارًا بِلاَ تَأْوِيلٍ قَرِيبٍ، يُؤَدَّبُ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ: مِنْ ضَرْبٍ أَوْ سَجْنٍ أَوْ بِهِمَا مَعًا، ثُمَّ إِنْ كَانَ فِطْرُهُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ، كَزِنًا وَشُرْبِ خَمْرٍ، حُدَّ مَعَ الأَْدَبِ، وَقُدِّمَ الأَْدَبُ.
وَإِنْ كَانَ فِطْرُهُ يُوجِبُ رَجْمًا، قُدِّمَ الأَْدَبُ، وَاسْتَظْهَرَ الْمِسْنَاوِيُّ سُقُوطَ الأَْدَبِ بِالرَّجْمِ، لإِِتْيَانِ الْقَتْل عَلَى الْجَمِيعِ.
وَمَفْهُومُهُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الأَْدَبِ - كَمَا قَال الدُّسُوقِيُّ - فَإِنْ جَاءَ الْمُفْطِرُ عَمْدًا، قَبْل الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ، حَال كَوْنِهِ تَائِبًا، قَبْل الظُّهُورِ عَلَيْهِ، فَلاَ يُؤَدَّبُ (3) .
وَالشَّافِعِيَّةُ نَصُّوا - بِتَفْصِيلٍ - عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ صَوْمَ رَمَضَانَ، غَيْرَ جَاحِدٍ، مِنْ غَيْرِ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 2 / 110 و 1 / 235، وانظر حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 93.
(2) القوانين الفقهية ص 84.
(3) حاشية الدسوقي على: الشرح الكبير للدردير 1 / 537، وانظر جواهر الإكليل 1 / 154، ومنح الجليل 1 / 412 و 413، وشرح الزرقاني بحاشية البناني 2 / 215 و 216.(28/83)