الْعَلاَمَةُ قَال الأَْصْمَعِيُّ: وَلاَ أَرَى مَشَاعِرَ الْحَجِّ إِلاَّ مِنْ هَذَا لأَِنَّهَا عَلاَمَاتٌ لَهُ (1) .
وَالشِّعَارُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ الْعَلاَمَةُ الظَّاهِرَةُ الْمُمَيِّزَةُ. وَالشِّعَارُ مِنَ الثِّيَابِ هُوَ مَا يَلِي شَعْرَ الْجَسَدِ وَيَكُونُ تَحْتَ الدِّثَارِ. فَالدِّثَارُ لاَ يُلاَقِي الْجَسَدَ وَالشِّعَارُ بِخِلاَفِهِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - التَّشَبُّهُ بِشِعَارِ الْكُفَّارِ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّشَبُّهَ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي اللِّبَاسِ الَّذِي يُمَيِّزُهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ كَالزُّنَّارِ وَنَحْوِهِ، وَالَّذِي هُوَ شِعَارٌ لَهُمْ يَتَمَيَّزُونَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، يُحْكَمُ بِكُفْرِ فَاعِلِهِ ظَاهِرًا إِنْ فَعَلَهُ فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ، وَكَانَ فِعْلُهُ عَلَى سَبِيل الْمَيْل إِلَى الْكُفَّارِ، أَيْ: فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْفِعْل لِضَرُورَةِ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ أَوِ الْخَدِيعَةِ فِي الْحَرْبِ أَوِ الإِْكْرَاهِ مِنَ الْعَدُوِّ. فَلَوْ عُلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَبِسَهُ لاَ لاِعْتِقَادِ حَقِيقَةِ الْكُفْرِ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، والتهذيب للأزهري.
(2) الإقناع للخطيب الشربيني 1 / 140، كشاف القناع عن متن الإقناع 3 / 128، فتح القدير 5 / 302، ابن عابدين 5 / 226 - 227.(26/100)
مِنْهُمْ (1) . وَلأَِنَّ اللِّبَاسَ الْخَاصَّ بِالْكُفَّارِ عَلاَمَةُ الْكُفْرِ، وَالاِسْتِدْلاَل بِالْعَلاَمَةِ وَالْحُكْمُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْل (2) .
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل (ر: تَشَبُّهٌ، ف 4 وَأَلْبِسَةٌ) .
ب - لِبَاسُ مَا يَكُونُ شِعَارًا لِلشُّهْرَةِ:
3 - وَهُوَ اللِّبَاسُ الْمُخَالِفُ لِلْعَادَةِ عِنْدَ أَهْل الْبَلْدَةِ بِحَيْثُ يَشْتَهِرُ لاَبِسُهُ عِنْدَ النَّاسِ وَيُشِيرُونَ إِلَيْهِ. وَهَذَا مَكْرُوهٌ شَرْعًا، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَال، قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا، أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَلْهَبَ فِيهِ نَارًا (3) . وَلِكَوْنِهِ سَبَبًا إِلَى حَمْل النَّاسِ عَلَى الْغِيبَةِ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: أَلْبِسَةٌ. ف 16، 6 136) .
ج - اسْتِعْمَال آلَةٍ مِنْ شِعَارِ شَرَبَةِ الْخَمْرِ:
4 - اخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْمِ فِي الْمَعَازِفِ،
__________
(1) حديث: " من تشبه بقوم فهو منهم. . . . " أخرجه أبو داود (4 / 314 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وجوده ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1 / 236 - ط العبيكان) .
(2) الفتاوى الهندية 2 / 276، جواهر الإكليل 2 / 278، تحفة المحتاج 9 / 92.
(3) حديث: " من لبس ثوب شهرة في الدنيا. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 1193 - ط الحلبي) وهو حديث حسن.
(4) المدخل لابن الحاج 1 / 137، كشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 278 - 285 - ط النصر الحديثة.(26/100)
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ أَنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِعْمَال آلَةٍ مِنْ شِعَارِ الشَّرَبَةِ كَطُنْبُورٍ وَعُودٍ، وَجَدَكٍ وَصَنْجٍ وَمِزْمَارٍ عِرَاقِيٍّ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الأَْوْتَارِ وَالْمَزَامِيرِ؛ لأَِنَّ اللَّذَّةَ الْحَاصِلَةَ مِنْهَا تَدْعُو إِلَى فَسَادٍ كَشُرْبِ الْخَمْرِ لاَ سِيَّمَا مَنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِهَا؛ وَلأَِنَّهَا شِعَارُ الْفَسَقَةِ وَالتَّشَبُّهُ بِهِمْ حَرَامٌ، وَخَرَجَ مَنْ سَمِعَهَا بِغَيْرِ قَصْدٍ (1) . وَ (ر: سَمَاعٌ. مَلاَهِي) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 382، جواهر الإكليل 2 / 238 / 11، 2 / 233، نهاية المحتاج 8 / 281، المغني 9 / 175 - 176.(26/101)
شَعْرٌ وَصُوفٌ وَوَبَرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّعْرُ لُغَةً: نَبْتَةُ الْجِسْمِ مِمَّا لَيْسَ بِصُوفٍ وَلاَ وَبَرٍ لِلإِْنْسَانِ وَغَيْرِهِ، وَفِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ الشَّعْرُ زَوَائِدُ خَيْطِيَّةٌ تَظْهَرُ عَلَى جِلْدِ الإِْنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنَ الثَّدْيِيَّاتِ وَيُقَابِلُهُ الرِّيشُ فِي الطُّيُورِ وَالْخَرَاشِيفُ فِي الزَّوَاحِفِ، وَالْقُشُورُ فِي الأَْسْمَاكِ، وَجَمْعُهُ أَشْعَارٌ وَشُعُورٌ. وَيُقَال: رَجُلٌ أَشْعَرُ وَشَعِرٌ وَشَعْرَانِيٌّ إِذَا كَانَ كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ وَالْجَسَدِ (1)
. وَالصُّوفُ مَا يَكُونُ لِلضَّأْنِ وَمَا أَشْبَهَهُ أَخَصُّ مِنْهُ، وَالصُّوفُ لِلضَّأْنِ، كَالشَّعْرِ لِلْمَعْزِ، وَالْوَبَرِ لِلإِْبِل (2) .
وَالْوَبَرُ مَا يَنْبُتُ عَلَى جُلُودِ الإِْبِل وَالأَْرَانِبِ وَنَحْوِهَا، وَالْجَمْعُ أَوْبَارٌ، وَيُقَال جَمَلٌ وَبِرٌ وَأَوْبَرُ إِذَا كَانَ كَثِيرَ الْوَبَرِ، وَالنَّاقَةُ وَبِرَةٌ وَوَبْرَاءُ (3) .
وَالرِّيشُ مَا يَكُونُ عَلَى أَجْسَامِ الطُّيُورِ
__________
(1) لسان العرب والقاموس والمصباح المنير والمعجم الوسيط مادة (شعر) .
(2) لسان العرب، والمصباح المنير مادة (صوف) .
(3) لسان العرب والمصباح المنير مادة (وبر) .(26/101)
وَأَجْنِحَتِهَا. وَقَدْ يَخُصُّ الْجُنَاحَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِهِ. وَالْفَرْوُ: جُلُودُ بَعْضِ الْحَيَوَانِ كَالدِّبَبَةِ وَالثَّعَالِبِ تُدْبَغُ وَيُتَّخَذُ مِنْهَا مَلاَبِسُ لِلدِّفْءِ وَلِلزِّينَةِ وَجَمْعُهُ فِرَاءٌ.
حُكْمُ شَعْرِ الإِْنْسَانِ:
2 - شَعْرُ الإِْنْسَانِ طَاهِرٌ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الشَّعْرُ مُتَّصِلاً أَمْ مُنْفَصِلاً، وَاسْتَدَلُّوا لِطَهَارَتِهِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاوَل أَبَا طَلْحَةَ شَعْرَهُ فَقَسَمَهُ بَيْنَ النَّاسِ (1) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِشَعْرِ الآْدَمِيِّ بَيْعًا وَاسْتِعْمَالاً؛ لأَِنَّ الآْدَمِيَّ مُكَرَّمٌ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (2) .
فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ مُهَانًا مُبْتَذَلاً (3) .
شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى طَهَارَةِ شَعْرِ الْمَيْتَةِ إِذَا كَانَتْ طَاهِرَةً حَال الْحَيَاةِ.
وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ بِالْقَوْل بِطَهَارَةِ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ لأَِنَّهُ طَاهِرٌ حَال الْحَيَاةِ، وَهَذَا إِذَا جُزَّ جَزًّا وَلَمْ
__________
(1) حديث: " إن النبي صلى الله عليه وسلم ناول أبا طلحة شعره ". أخرجه مسلم (2 / 948 - ط الحلبي) ، من حديث أنس بن مالك.
(2) سورة الإسراء / 70.
(3) البناية 6 / 407، حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 2 / 330، حاشية الدسوقي 1 / 49، ونهاية المحتاج 1 / 228، 229، كشاف القناع 1 / 56 - 57.(26/102)
يُنْتَفْ. فَإِنْ نُتِفَ فَإِنَّ أُصُولَهُ نَجِسَةٌ، وَأَعْلاَهُ طَاهِرٌ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (1) .
وَالآْيَةُ سِيقَتْ لِلاِمْتِنَانِ، فَالظَّاهِرُ شُمُولُهَا الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ.
وَبِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ حِينَ مَرَّ بِهَا: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا (2) . - وَفِي لَفْظٍ - إِنَّمَا حَرُمَ عَلَيْكُمْ لَحْمُهَا وَرُخِّصَ لَكُمْ فِي مَسْكِهَا (3) أَيْ جِلْدِهَا.
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُول بِأَنَّ الْمَعْهُودَ فِي الْمَيْتَةِ حَال الْحَيَاةِ الطَّهَارَةُ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ الْمَوْتُ النَّجَاسَةَ فِيمَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ، وَالشُّعُورُ لاَ تَحُلُّهَا الْحَيَاةُ.
فَلاَ يَحُلُّهَا الْمَوْتُ، وَإِذَا لَمْ يَحُلَّهَا وَجَبَ الْحُكْمُ بِبَقَاءِ الْوَصْفِ الشَّرْعِيِّ الْمَعْهُودِ لِعَدَمِ الْمُزِيل.
فَالأَْصْل فِي طَهَارَةِ شَعْرِ الْمَيْتَةِ أَنَّ مَا لاَ تَحُلُّهُ
__________
(1) سورة النحل / 80.
(2) حديث: " إنما حرم أكلها ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 413 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 276 - ط. الحلبي) من حديث ابن عباس.
(3) حديث: " إنما حرم عليكم لحمها ورخص لكم في مسكها ". أخرجه الدارقطني (1 / 44 - ط دار المحاسن) وصححه.(26/102)
الْحَيَاةُ - لأَِنَّهُ لاَ يُحِسُّ وَلاَ يَتَأَلَّمُ - لاَ تَلْحَقُهُ النَّجَاسَةُ بِالْمَوْتِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى نَجَاسَةِ شَعْرِ الْمَيْتَةِ إِلاَّ مَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ وَدُبِغَ، وَكَذَلِكَ الشَّعْرُ الْمُنْفَصِل مِنَ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَأْكُول وَهُوَ حَيٌّ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (2) . وَهُوَ عَامٌّ فِي الشَّعْرِ وَغَيْرِهِ. وَالْمَيْتَةُ اسْمٌ لِمَا فَارَقَتْهُ الرُّوحُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ بِدُونِ تَذْكِيَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَهَذِهِ الآْيَةُ خَاصَّةٌ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَعَامَّةٌ فِي الشَّعْرِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ رَاجِحَةٌ فِي دَلاَلَتِهَا عَلَى الآْيَةِ الأُْولَى وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (3) . لأَِنَّ قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وَرَدَ لِبَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالآْيَةُ الأُْولَى وَرَدَتْ لِلاِمْتِنَانِ.
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُول بِأَنَّ كُل حَيَوَانٍ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ يَنْجُسُ شَعْرُهُ وَصُوفُهُ (4) .
شَعْرُ الْمَيْتِ:
أَوَّلاً: شَعْرُ رَأْسِ الرَّجُل الْمَيْتِ
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 84، 85، كشاف القناع 1 / 56 - 57، حاشية الدسوقي 1 / 49.
(2) سورة المائدة / 3.
(3) سورة النحل / 80.
(4) المجموع 1 / 230 - 231، 236 - 237، مغني المحتاج 1 / 78.(26/103)
حَلْقِ شَعْرِ رَأْسِ الْمَيْتِ وَلاَ تَسْرِيحِهِ، لأَِنَّ حَلْقَ الشَّعْرِ يَكُونُ لِلزِّينَةِ أَوْ لِلنُّسُكِ وَالْمَيْتُ لاَ نُسُكَ عَلَيْهِ وَلاَ يُزَيَّنُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا مَرَّتْ بِقَوْمٍ يُسَرِّحُونَ شَعْرَ مَيْتٍ فَنَهَتْهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَتْ: عَلاَمَ تَنُصُّونَ مَيِّتَكُمْ. أَيْ: لاَ تُسَرِّحُوا رَأْسَهُ بِالْمُشْطِ؛ لأَِنَّهُ يَقْطَعُ الشَّعْرَ وَيَنْتِفُهُ، وَعَبَّرَتْ بِتَنُصُّونَ وَهُوَ الأَْخْذُ بِالنَّاصِيَةِ، أَيْ مِنْهَا، تَنْفِيرًا عَنْهُ وَيَدُل لِعَدَمِ الْجَوَازِ الْقِيَاسُ عَلَى الْخِتَانِ حَيْثُ يُخْتَنُ الْحَيُّ وَلاَ يُخْتَنُ الْمَيِّتُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ حَلْقِ شَعْرِ رَأْسِ الْمَيْتِ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمُ الْجَوَازَ بِمَا إِذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ الْمَيِّتِ حَلْقُهُ أَمَّا إِذَا كَانَ لاَ يُعْتَادُ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ ذَا جَمَّةٍ فَلاَ يُحْلَقُ بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ، وَاسْتَدَلُّوا لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ الشَّعْرَ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ، وَأَجْزَاؤُهُ مُحْتَرَمَةٌ؛ فَلاَ تُنْتَهَكُ بِهَذَا، وَلَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ فِي هَذَا شَيْءٌ فَكُرِهَ فِعْلُهُ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ آخَرَانِ: الأَْوَّل: أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ وَلاَ يُسْتَحَبُّ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ، وَفِي اللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (شَارِبٌ، وَلِحْيَةٌ) .(26/103)
ثَانِيًا: شَعْرُ رَأْسِ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ:
5 - اتَّفَقَ. جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ ضَفْرِ شَعْرِ الْمَرْأَةِ ثَلاَثَ ضَفَائِرَ، قَرْنَيْهَا وَنَاصِيَتَهَا، وَيُسْدَل خَلْفَهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُجْعَل عَلَى صَدْرِهَا وَيُجْعَل ضَفِيرَتَيْنِ فَوْقَ الْقَمِيصِ تَحْتَ اللِّفَافَةِ؛ لأَِنَّهُ فِي حَال حَيَاتِهَا يُجْعَل وَرَاءَ ظَهْرِهَا لِلزِّينَةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ رُبَّمَا انْتَشَرَ الْكَفَنُ؛ فَيُجْعَل عَلَى صَدْرِهَا.
وَدَلِيل اسْتِحْبَابِ ضَفْرِ شَعْرِ الْمَرْأَةِ مَا رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُنَّ جَعَلْنَ رَأْسَ بِنْتِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَةَ قُرُونٍ، نَقَضْنَهُ ثُمَّ غَسَلْنَهُ ثُمَّ جَعَلْنَهُ ثَلاَثَةَ قُرُونٍ، وَوَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّهُنَّ أَلْقَيْنَهَا خَلْفَهَا (1) .
وَالأَْصْل أَنْ لاَ يُفْعَل فِي الْمَيِّتِ شَيْءٌ مِنْ جِنْسِ الْقُرَبِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الشَّرْعِ مُحَقَّقٍ، فَالظَّاهِرُ إِطْلاَعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا فَعَلَتْ وَتَقْرِيرُهُ لَهُ.
وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: اغْسِلْنَهَا ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ (2) .
__________
(1) حديث أم عطية: " أنهن جعلن رأس بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة قرون ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 132، 134 ط. السلفية) .
(2) حديث: " اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 125 - ط السلفية) ، وأخرجه مسلم بلفظ: " اغسلنها وترًا: ثلاثًا أو خمسًا ".(26/104)
ثَالِثًا: شَعْرُ سَائِرِ الْبَدَنِ مِنَ الْمَيِّتِ كَاللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ وَشَعْرِ الإِْبْطِ وَالْعَانَةِ:
6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ إِلَى كَرَاهَةِ حَلْقِ غَيْرِ مَا يَحْرُمُ حَلْقُهُ حَال الْحَيَاةِ. وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ آخَرَانِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ وَلاَ يُسْتَحَبُّ،
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ. وَدَلِيل الْكَرَاهَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي كَرَاهَةِ حَلْقِ شَعْرِ الرَّأْسِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الشُّعُورَ إِذَا أُزِيلَتْ أَنَّهَا تُصَرُّ وَتُضَمُّ مَعَ الْمَيِّتِ فِي كَفَنِهِ وَيُدْفَنُ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ آخَرَ: أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ لاَ تُدْفَنَ مَعَهُ بَل تُوَارَى فِي الأَْرْضِ فِي غَيْرِ الْقَبْرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ حَلْقِ اللِّحْيَةِ وَكَذَا تَحْرِيمُ حَلْقِ شَعْرِ الْعَانَةِ مِنَ الْمَيِّتِ لِمَا فِيهِ مِنْ لَمْسِ الْعَوْرَةِ وَرُبَّمَا احْتَاجَ إِلَى نَظَرِهَا، وَالنَّظَرُ مُحَرَّمٌ فَلاَ يُرْتَكَبُ مِنْ أَجْل مَنْدُوبٍ، وَيُسَنُّ أَخْذُ شَعْرِ الإِْبِطِ وَقَصُّ الشَّارِبِ (1) .
مَسْحُ الشَّعْرِ فِي الْوُضُوءِ:
7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ مَسْحِ جَمِيعِ شَعْرِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ وَحْدَهُ مِنْ مَنَابِتِ
__________
(1) فتح القدير 2 / 75، الاختيار 1 / 93، حاشية الدسوقي 1 / 410 - 411، 422 - 423، الزرقاني على خليل 2 / 88، المجموع 5 / 178 - 184، كشاف القناع 2 / 96 - 97.(26/104)
الشَّعْرِ الْمُعْتَادِ مِنَ الْمُقَدَّمِ إِلَى نَقْرَةِ الْقَفَا مَعَ مَسْحِ شَعْرِ صُدْغَيْهِ فَمَا فَوْقَ الْعَظْمِ النَّاشِئِ مِنَ الْوَجْهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُمْسَحَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ وَلَوْ قَل فَلاَ يَتَقَدَّرُ وُجُوبُهُ بِشَيْءٍ بَل يَكْفِي فِيهِ مَا يُمْكِنُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَفْرُوضَ فِي الْمَسْحِ هُوَ مَسْحُ مِقْدَارِ النَّاصِيَةِ وَهُوَ رُبُعُ الرَّأْسِ (1) لِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَخُفَّيْهِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ وَبَيَانُ الأَْدِلَّةِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوءٌ) .
نَقْضُ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الشَّعْرِ:
8 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لاَ يُنْقَضُ بِلَمْسِ الشَّعْرِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقْصَدُ ذَلِكَ لِلشَّهْوَةِ غَالِبًا، وَإِنَّمَا تَحْصُل اللَّذَّةُ وَتَثُورُ الشَّهْوَةُ عِنْدَ الْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ لِلإِْحْسَاسِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ لَمْسِ الشَّعْرِ وَالسِّنِّ وَالظُّفُرِ
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُقَابِل الأَْصَحِّ: يُنْتَقَضُ وُضُوءُ الرَّجُل بِلَمْسِ شَعْرِ الْمَرْأَةِ لأَِنَّ
__________
(1) المجموع 1 / 398 - 400، مغني المحتاج 1 / 35، الشرح الصغير 1 / 109، كشاف القناع 1 / 98، فتح القدير 1 / 16.
(2) حديث المغيرة بن شعبة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على ناصيته ". أخرجه مسلم (1 / 230 - ط الحلبي) .(26/105)
الشَّعْرَ لَهُ حُكْمُ الْبَدَنِ فِي الْحِل بِالنِّكَاحِ وَوُجُوبِ غَسْلِهِ بِالْجَنَابَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ يُنْتَقَضُ بِلَمْسِ الشَّعْرِ لِمَنْ يَلْتَذُّ بِهِ إِنْ قَصَدَ اللَّذَّةَ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وَلاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ إِذَا كَانَ اللَّمْسُ بِحَائِلٍ خَفِيفٍ أَوْ كَثِيفٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ نَقْصِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الشَّعْرِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي عَدَمِ النَّقْضِ بِالْمَسِّ مُطْلَقًا مَا لَمْ يُنْزِل (1) .
غَسْل شَعْرِ الرَّأْسِ مِنَ الْجِنَابَةِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَعْمِيمِ شَعْرِ الرَّأْسِ بِالْمَاءِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ لِلذَّكَرِ وَالأُْنْثَى مُسْتَرْسِلاً كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ تَحْتَ كُل شَعْرَةٍ جَنَابَةً فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَ (2) وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِل بِهِ كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّارِ (3) قَال عَلِيٌّ: فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ رَأْسِي، وَكَانَ يَجُزُّ شَعْرَهُ.
__________
(1) المجموع 2 / 27، كشاف القناع 1 / 129، فتح القدير 1 / 48، 49، الشرح الصغير 1 / 143.
(2) حديث: " إن تحت كل شعرة جنابة ". أخرجه أبو داود (1 / 172 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة ثم أعله بضعف أحد رواته.
(3) حديث: " من ترك موضع شعرة ". أخرجه أبو داود (1 / 173 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ولمح ابن حجر في التلخيص (1 / 142 - ط شركة الطباعة الفنية) إلى أن الصواب وقفه على علي بن أبي طالب.(26/105)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ نَقْضِ ضَفَائِرِ الْمَرْأَةِ فِي الْغُسْل:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ نَقْضُ الضُّفُرِ إِنْ كَانَ الْمَاءُ يَصِل إِلَى أُصُول شَعْرِهَا مِنْ غَيْرِ نَقْضٍ، فَإِنْ لَمْ يَصِل إِلاَّ بِالنَّقْضِ لَزِمَهَا نَقْضُهُ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ غُسْل الْجَنَابَةِ وَغُسْل الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضُفُرَ رَأْسِي؛ أَفَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضِ وَلِلْجَنَابَةِ؟ قَال: لاَ. إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ (1) . وَهُوَ صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ - بِثَلاَثَةِ أَلْفَاظٍ: إِفْرَادِ ذِكْرِ الْجَنَابَةِ وَإِفْرَادِ ذِكْرِ الْحَيْضِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. وَحَمَل الْجُمْهُورُ هَذِهِ الأَْحَادِيثَ عَلَى وُصُول الْمَاءِ إِلَى أُصُول الشَّعْرِ بِدَلِيل مَا ثَبَتَ مِنْ وُجُوبِ إِيصَال الْمَاءِ إِلَى أُصُول الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ جَمْعًا بَيْنَ الأَْدِلَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ نَقْضِ الْمَرْأَةِ شَعْرَهَا فِي غُسْل الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ. وَلاَ يَجِبُ فِي
__________
(1) حديث: " إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ". أخرجه مسلم (1 / 259 - 260 - ط. الحلبي) .(26/106)
غُسْل الْجَنَابَةِ إِذَا رَوَتْ أُصُول شَعْرِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مَشْدُودًا بِخُيُوطٍ كَثِيرَةٍ تَمْنَعُ وُصُول الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ أَوْ إِلَى بَاطِنِ الشَّعْرِ، وَالنَّقْضُ مُطْلَقًا مُسْتَحَبٌّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ.
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهَا: إِذَا كُنْتِ حَائِضًا خُذِي مَاءَكِ وَسِدْرَكِ وَامْتَشِطِي (1) . وَلاَ يَكُونُ الْمَشْطُ إِلاَّ فِي شَعْرٍ غَيْرِ مَضْفُورٍ. وَلِلْبُخَارِيِّ: انْفُضِي شَعْرَكِ وَامْتَشِطِي (2) .
وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: انْفُضِي شَعْرَكِ وَاغْتَسِلِي (3)
لأَِنَّ الأَْصْل وُجُوبُ نَقْضِ الشَّعْرِ لِتَحَقُّقِ وُصُول الْمَاءِ إِلَى مَا يَجِبُ غَسْلُهُ وَعُفِيَ عَنْهُ فِي غُسْل الْجَنَابَةِ لأَِنَّهُ يَكْثُرُ فَيَشُقُّ نَقْضُ الشَّعْرِ (4) .
__________
(1) حديث: " إذا كنت حائضًا خذي ماءك وسدرك وامتشطي. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 417 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 870 - ط الحلبي) بمعناه دون ذكر السدر.
(2) حديث: " انفضي شعرك وامتشطي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 418 - ط السلفية) من حديث عائشة.
(3) حديث: " انفضي شعرك واغتسلي ". أخرجه ابن ماجه (1 / 210 - ط الحلبي) وقال البوصيري: " هذا إسناد رجاله ثقات، كذا في مصباح الزجاجة " (1 / 141 - ط دار الجنان) .
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 103، فتح القدير 1 / 52، المجموع 2 / 184، الشرح الصغير 1 / 169، كشاف القناع 1 / 154.(26/106)
حَلْقُ شَعْرِ الْمَوْلُودِ:
10 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى اسْتِحْبَابِ حَلْقِ شَعْرِ رَأْسِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ السَّابِعِ، وَالتَّصَدُّقِ بِزِنَةِ شَعْرِهِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَفِضَّةً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ تَحَرَّى وَتَصَدَّقَ بِهِ. وَيَكُونُ الْحَلْقُ بَعْدَ ذَبْحِ الْعَقِيقَةِ.
كَمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِفَاطِمَةَ لَمَّا وَلَدَتِ الْحَسَنَ: احْلِقِي رَأْسَهُ وَتَصَدَّقِي بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالأَْوْفَاضِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَلْقَ شَعْرِ الْمَوْلُودِ مُبَاحٌ، لَيْسَ بِسُنَّةٍ وَلاَ وَاجِبٍ، وَذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي أَنَّ الْعَقِيقَةَ مُبَاحَةٌ، لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الْعَقِيقَةِ فَقَال: لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْعُقُوقَ. مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ فَلْيَنْسُكْ عَنْهُ. عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَيْنِ مُكَافَأَتَاهُ وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةً (2) وَهَذَا يَنْفِي كَوْنَ الْعَقِيقَةِ سُنَّةً لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ الْعَقَّ بِالْمَشِيئَةِ وَهَذَا أَمَارَةُ الإِْبَاحَةِ.
__________
(1) حديث: " احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة. . . " أخرجه أحمد (6 / 390، 292 - ط الميمنية) من حديث أبي رافع بإسنادين يقوي أحدها الآخر. والأوفاض: الضعفاء من الناس الفقراء الذين لا دفاع بهم (المعجم الوسيط) .
(2) حديث: " لا يحب الله العقوق ". أخرجه النسائي (7 / 163 - ط المكتبة التجارية) ، والحاكم (4 / 238 - ط دائرة المعارف العثمانية) واللفظ للنسائي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(26/107)
وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ لأَِنَّهَا نُسِخَتْ بِالأُْضْحِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْعَقِيقَةَ كَانَتْ مِنَ الْفَضَائِل فَعَلَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ فَنُسِخَتْ بِالأُْضْحِيَّةِ، فَمَتَى نُسِخَ الْفَضْل لاَ يَبْقَى إِلاَّ الْكَرَاهَةُ (1) .
النَّظَرُ إِلَى شَعْرِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى شَعْرِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ لَهَا إِبْدَاؤُهُ لِلأَْجَانِبِ عَنْهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْقَوْل بِعَدَمِ جَوَازِ النَّظَرِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلاً (2) .
بَيْعُ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ:
12 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: نُهِيَ أَنْ تُبَاعَ ثَمَرَةٌ حَتَّى تُطْعِمَ وَلاَ صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ وَلاَ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ (3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 362، بدائع الصنائع 5 / 69، المغني 8 / 646، 647، جواهر الإكليل 1 / 224، القليوبي 4 / 256.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 238، فتح القدير 1 / 182، البناية 9 / 247، مطالب أولي النهى 5 / 18، الروضة 7 / 26، حاشية الدسوقي 1 / 214.
(3) حديث: " نهي أن تباع ثمرة حتى تطعم ". أخرجه الدارقطني (3 / 14 - ط دار المحاسن) والبيهقي (5 / 340 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال البيهقي: تفرد برفعه عمر بن فروخ، وليس بالقوي، ورواه غيره موقوفًا. وكذا صوب الدارقطني وقفه على ابن عباس.(26/107)
وَلأَِنَّ الصُّوفَ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ فَلَمْ يَجُزْ إِفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ كَأَعْضَائِهِ، وَلأَِنَّ الصُّوفَ عَلَى الظَّهْرِ قَبْل الْجَزِّ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي نَفْسِهِ لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ وَصْفِ الْحَيَوَانِ لِقِيَامِهِ بِهِ كَسَائِرِ أَوْصَافِهِ. وَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنَ الشَّاةِ فَلاَ يُفْرَدُ بِالْبَيْعِ؛ وَلأَِنَّهُ يَنْبُتُ مِنْ أَسْفَل سَاعَةً فَسَاعَةً فَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ بِالْجَزَزِ تَحَرِّيًا، وَبِالْوَزْنِ مَعَ رُؤْيَةِ الْغَنَمِ عَلَى أَنْ لاَ يَتَأَخَّرَ الْجَزُّ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ شَهْرٍ (1) .
السَّلَمُ فِي الصُّوفِ:
13 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الصُّوفِ سَلَمًا بِالْوَزْنِ لاَ بِالْجَزَزِ وَذَلِكَ لاِخْتِلاَفِ الْجَزَزِ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ -
وَيَجِبُ بَيَانُ نَوْعِ الصُّوفِ وَأَصْلِهِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى لأَِنَّ صُوفَ الإِْنَاثِ أَنْعَمُ، وَيَذْكُرُ لَوْنَهُ وَوَقْتَهُ هَل هُوَ خَرِيفِيٌّ أَوْ رَبِيعِيٌّ، وَطُولَهُ وَقِصَرَهُ وَوَزْنَهُ وَلاَ يَقْبَل إِلاَّ مُنَقًّى مِنَ الشَّعْرِ وَنَحْوِهِ، كَالشَّوْكِ وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ غَسْلِهِ (2) .
__________
(1) البناية 6 / 408، فتح القدير 6 / 50،51، كشف الحقائق 2 / 18، حاشية الدسوقي 3 / 215، روضة الطالبين 3 / 373، كشاف القناع 3 / 166.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 185، حاشية الدسوقي 3 / 215، نهاية المحتاج 4 / 206، كشاف القناع 3 / 295.(26/108)
وَصْل الشَّعْرِ:
14 - يَحْرُمُ وَصْل شَعْرِ الْمَرْأَةِ بِشَعْرٍ نَجِسٍ أَوْ بِشَعْرِ آدَمِيٍّ. سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُزَوَّجَةُ وَغَيْرُهَا وَسَوَاءٌ بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَلِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ بِالْكَرَاهَةِ. وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ (1) .
وَاللَّعْنَةُ عَلَى الشَّيْءِ تَدُل عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَعِلَّةُ التَّحْرِيمِ مَا فِيهِ مِنَ التَّدْلِيسِ وَالتَّلْبِيسِ بِتَغَيُّرِ خَلْقِ اللَّهِ.
وَالْوَاصِلَةُ الَّتِي تَصِل شَعْرَهَا بِشَعْرٍ مِنَ امْرَأَةٍ أُخْرَى وَالَّتِي يُوصَل شَعْرُهَا بِشَعْرٍ آخَرَ زُورًا، وَالْمُسْتَوْصِلَةُ الَّتِي يُوصَل لَهَا ذَلِكَ بِطَلَبِهَا. لِحُرْمَةِ الاِنْتِفَاعِ بِشَعْرِ الآْدَمِيِّ لِكَرَامَتِهِ، وَالأَْصْل أَنْ يُدْفَنَ شَعْرُهُ إِذَا انْفَصَل. أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَصْل بِغَيْرِ شَعْرِ الآْدَمِيِّ وَهُوَ طَاهِرٌ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ إِلَى حُرْمَةِ الْوَصْل إِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ وَعَلَى الْقَوْل الثَّانِي يُكْرَهُ.
أَمَّا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا: إِنْ وَصَلَتْ بِإِذْنِهِ جَازَ وَإِلاَّ حَرُمَ.
__________
(1) حديث: " لعن الله الواصلة والمستوصلة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 374 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.(26/108)
الثَّانِي: يَحْرُمُ مُطْلَقًا. الثَّالِثُ: لاَ يَحْرُمُ وَلاَ يُكْرَهُ مُطْلَقًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَنْقُول عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يُرَخَّصُ لِلْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ شَعْرِ الآْدَمِيِّ تَتَّخِذُهُ لِتَزِيدَ قُرُونَهَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَيْسَتِ الْوَاصِلَةُ بِالَّتِي تَعْنُونَ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ تَعْرَى الْمَرْأَةُ عَنِ الشَّعْرِ فَتَصِل قَرْنًا مِنْ قُرُونِهَا بِصُوفٍ أَسْوَدَ وَإِنَّمَا الْوَاصِلَةُ الَّتِي تَكُونُ بَغِيًّا فِي شَبِيبَتِهَا فَإِذَا أَسَنَّتْ وَصَلَتْهَا بِالْقِيَادَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ التَّفْرِيقِ فِي التَّحْرِيمِ بَيْنَ الْوَصْل بِالشَّعْرِ وَبِغَيْرِهِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ تَحْرِيمَ وَصْل الشَّعْرِ بِشَعْرٍ سَوَاءٌ كَانَ شَعْرَ آدَمِيٍّ أَوْ شَعْرَ غَيْرِهِ. وَسَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ. قَالُوا وَلاَ بَأْسَ بِمَا تَشُدُّ بِهِ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا أَيْ مِنْ غَيْرِ الشَّعْرِ لِلْحَاجَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لاَ تَصِل الْمَرْأَةُ بِرَأْسِهَا الشَّعْرَ وَلاَ الْقَرَامِل وَلاَ الصُّوفَ (1) .
عَقْصُ الشَّعْرِ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ عَقْصِ الشَّعْرِ فِي الصَّلاَةِ. وَالْعَقْصُ هُوَ شَدُّ ضَفِيرَةِ الشَّعْرِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 239، قوانين الأحكام الشرعية ص 482 ط. دار العلم للملايين، روضة الطالبين 1 / 276، مطالب أولي النهى 1 / 90، كشاف القناع 1 / 81.(26/109)
حَوْل الرَّأْسِ كَمَا تَفْعَلُهُ النِّسَاءُ أَوْ يُجْمَعُ الشَّعْرُ فَيُعْقَدُ فِي مُؤَخَّرَةِ الرَّأْسِ.
وَهُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ. فَلَوْ صَلَّى كَذَلِكَ فَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ، حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وُجُوبَ الإِْعَادَةِ فِيهِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
وَدَلِيل الْكَرَاهَةِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ يُصَلِّي وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ مِنْ وَرَائِهِ فَقَامَ وَجَعَل يَحُلُّهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَل إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَال: مَالَكَ وَرَأْسِي؟ فَقَال: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِنَّمَا مَثَل هَذَا مَثَل الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ (1) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: ذَاكَ كِفْل الشَّيْطَانِ (2) . وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ. . وَلاَ نَكْفِتَ الثِّيَابَ وَالشَّعَرَ (3) .
وَالْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنْهُ، أَنَّ الشَّعْرَ يَسْجُدُ مَعَ الْمُصَلِّي وَلِهَذَا مَثَّلَهُ فِي الْحَدِيثِ بِالَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ شَامِلٌ لِكُل مَنْ صَلَّى كَذَلِكَ، سَوَاءٌ تَعَمَّدَهُ لِلصَّلاَةِ أَمْ كَانَ
__________
(1) حديث: " إنما مثل هذا مثل الذي يصلي ". أخرجه مسلم (1 / 355 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " ذاك كفل الشيطان ". أخرجه الترمذي (2 / 224 - ط الحلبي) من حديث أبي رافع، وقال: " حديث حسن ".
(3) حديث: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 297 - ط السلفية) ومسلم (1 / 354 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس.(26/109)
كَذَلِكَ قَبْل الصَّلاَةِ وَفَعَلَهَا لِمَعْنًى آخَرَ وَصَلَّى عَلَى حَالِهِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ.
وَيَدُل لَهُ إِطْلاَقُ الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَنْقُول عَنِ الصَّحَابَةِ، وَقَال مَالِكٌ: النَّهْيُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ فَعَل ذَلِكَ لِلصَّلاَةِ (1) .
وَيُنْظَرُ بَقِيَّةُ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشَّعْرِ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الآْتِيَةِ: (إِحْرَامٌ، وَتَرْجِيلٌ، وَتَنَمُّصٌ، وَإِحْدَادٌ، وَاخْتِضَابٌ، وَتَسْوِيدٌ، حَلْقٌ، وَدِيَاتٌ) .
الْعِنَايَةُ بِشَعْرِ الإِْنْسَانِ الْحَيِّ:
16 - يُسْتَحَبُّ تَرْجِيل الشَّعْرِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ (2) وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ التَّرْجِيل فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْغِي إِلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ (3) . وَيُسْتَحَبُّ التَّيَامُنُ فِي التَّرْجِيل، وَيُسَنُّ الإِْغْبَابُ فِيهِ، وَالإِْكْثَارُ مِنْهُ مَكْرُوهٌ. كَمَا يُسْتَحَبُّ دَهْنُ الشَّعْرِ غِبًّا وَهُوَ أَنْ يُدْهَنَ ثُمَّ يُتْرَكَ حَتَّى يَجِفَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 216، والمجموع 4 / 98، الزرقاني على خليل 1 / 180، كشاف القناع 1 / 372.
(2) حديث: " من كان له شعر فليكرمه ". أخرجه أبو داود (4 / 395 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في الفتح (1 / 368 - ط السلفية) .
(3) حديث عائشة: كان يصغي إلَيَّ رأسه. أخرجه البخاري (الفتح 4 / 273 - ط السلفية) .(26/)
الدُّهْنُ ثُمَّ يُدْهَنَ ثَانِيًا، وَقِيل يُدْهَنُ يَوْمًا وَيَوْمًا لاَ. وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَاتِ: (إِدْهَانٌ، وَامْتِشَاطٌ، وَتَرْجِيلٌ) .
حُكْمُ شَعْرِ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ:
17 - شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ مَأْكُول اللَّحْمِ أَوْ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ، وَفِي كُل حَالَةٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلاً بِهِ أَوْ مُنْفَصِلاً عَنْهُ.
18 - أَمَّا شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ الْمُتَّصِل بِهِ إِذَا أُخِذَ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَمِثْلُهُ الصُّوفُ وَالْوَبَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (1) وَالآْيَةُ سِيقَتْ لِلاِمْتِنَانِ وَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْمُتَّصِل وَالْمُنْفَصِل وَيَأْتِي الْخِلاَفُ فِي شُمُولِهَا بِشَعْرِ الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ.
وَأَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى طَهَارَةِ شَعْرِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ إِذَا جُزَّ مِنْهُ وَهُوَ حَيٌّ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي الْمَلاَبِسِ وَالْمَفَارِشِ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي شَعْرِ الْمُذَكَّيَاتِ كِفَايَةٌ لِحَاجَةِ النَّاسِ.
أَمَّا شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ الْمُنْفَصِل عَنْهُ فِي الْحَيَاةِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَتِهِ إِذَا جُزَّ
__________
(1) سورة النحل / 80.(26/)
جَزًّا. أَمَّا إِذَا نُتِفَ فَأُصُولُهُ الَّتِي فِيهَا الدُّسُومَةُ نَجِسَةٌ، وَالأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ. فَهُوَ مَيِّتٌ إِلاَّ إِذَا كَانَ لاَ تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ كَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالْوَبَرِ فَهُوَ طَاهِرٌ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يُجَزَّ جَزًّا بِخِلاَفِ مَا نُتِفَ نَتْفًا فَإِنَّ أُصُولَهُ تَكُونُ نَجِسَةً.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى طَهَارَتِهِ إِذَا جُزَّ وَاسْتَدَلُّوا بِالآْيَةِ وَالإِْجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ.
قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: وَكَانَ الْقِيَاسُ نَجَاسَتَهُ كَسَائِرِ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ الْمُنْفَصِلَةِ فِي الْحَيَاةِ وَلَكِنْ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى طَهَارَتِهَا.
أَمَّا إِذَا انْفَصَل شَعْرُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ فِي حَيَاتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ نُتِفَ فَفِيهِ أَوْجُهٌ: الصَّحِيحُ مِنْهَا أَنَّهُ طَاهِرٌ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَزِّ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا، وَالْجَزُّ فِي الشَّعْرِ كَالذَّبْحِ، فِي الْحَيَوَانِ وَلَوْ ذُبِحَ الْحَيَوَانُ لَمْ يَنْجُسْ، فَكَذَلِكَ إِذَا جُزَّ شَعْرُهُ.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ نَجِسٌ سَوَاءٌ انْفَصَل بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَتْفٍ لأَِنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ.
وَدَلِيل هَذِهِ الْقَاعِدَةِ. حَدِيثُ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَجُبُّونَ أَسْنِمَةَ الإِْبِل وَيَقْطَعُونَ أَلْيَاتِ الْغَنَمِ، فَقَال: مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ (1) .
__________
(1) حديث: ما قطع من البهيمة وهي حية. . . . ". أخرجه الترمذي (4 / 72 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن " والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم ".(26/111)
غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اسْتَثْنَوْا الشَّعْرَ لِلإِْجْمَاعِ عَلَى طَهَارَتِهِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَقَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الْحَدِيثَ عَلَى مَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ وَلِذَا اسْتَثْنَوْا الشَّعْرَ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ شَعْرَ كُل حَيَوَانٍ كَبَقِيَّةِ أَجْزَائِهِ مَا كَانَ طَاهِرًا فَشَعْرُهُ طَاهِرٌ، وَمَا كَانَ نَجِسًا فَشَعْرُهُ نَجِسٌ، لاَ فَرْقَ بَيْنَ حَالَةِ الْحَيَاةِ وَحَالَةِ الْمَوْتِ.
فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَفِي أُخْرَى طَاهِرٌ.
19 - أَمَّا شَعْرُ الْحَيَوَانِ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ الْمُتَّصِل بِهِ فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْخِنْزِيرَ وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْخِنْزِيرَ وَالْكَلْبَ لأَِنَّ عَيْنَهُمَا نَجِسَةٌ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى طَهَارَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ لأَِنَّ الأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّ كُل حَيٍّ طَاهِرٌ.
أَمَّا شَعْرُ الْمُنْفَصِل عَنْهُ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ هُوَ طَاهِرٌ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ، إِلاَّ مَا لاَ تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ كَالشَّعْرِ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ كَالْخِنْزِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَهُوَ طَاهِرٌ عِنْدَهُمْ إِذَا جُزَّ، لاَ إِذَا نُتِفَ. (يُنْظَرُ فِي تَفْصِيل أَحْكَامِ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ مُصْطَلَحُ: خِنْزِيرٌ ف 7) .(26/111)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى نَجَاسَتِهِ لأَِنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ بَقِيَّةِ أَجْزَائِهِ، فَمَا كَانَ طَاهِرًا فَشَعْرُهُ طَاهِرٌ وَمَا كَانَ نَجِسًا فَشَعْرُهُ نَجِسٌ (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ شَعْرَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا طَاهِرٌ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 138، 139 بدائع الصنائع 1 / 63، المجموع 1 / 240، 241، 242، حاشية الدسوقي 1 / 49 و53، الشرح الصغير 1 / 42، 44، 49، 50، المغني 1 / 81، الإنصاف 1 / 93.
(2) الفروع 1 / 235، ترجيل الشعر: تسريحه أو تسويته وتزيينه.(26/112)
شِعْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشِّعْرُ فِي اللُّغَةِ: الْعِلْمُ، يُقَال: شَعَرَ بِهِ كَنَصَرَ وَكَرُمَ شَعْرًا وَشَعَرًا إِذَا عَلِمَ بِهِ وَفَطِنَ لَهُ وَعَقَلَهُ، وَلَيْتَ شِعْرِي: أَيْ لَيْتَ عِلْمِي. وَفِي الْحَدِيثِ: لَيْتَ شِعْرِي مَا صَنَعَ فُلاَنٌ (1) أَيْ لَيْتَ عِلْمِي حَاضِرٌ أَوْ مُحِيطٌ بِمَا صَنَعَ " وَأَشْعَرَهُ الأَْمْرَ وَأَشْعَرَهُ بِهِ: أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ، وَفِي التَّنْزِيل: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (2) أَيْ: وَمَا يُدْرِيكُمْ. وَغَلَبَ الشِّعْرُ عَلَى مَنْظُومِ الْقَوْل لِشَرَفِهِ بِالْوَزْنِ وَالْقَافِيَةِ، وَحَدُّهُ: مَا تَرَكَّبَ تَرَكُّبًا مُتَعَاضِدًا وَكَانَ مُقَفًّى مَوْزُونًا مَقْصُودًا بِهِ ذَلِكَ (3) .
وَالشِّعْرُ فِي الاِصْطِلاَحِ: الْكَلاَمُ الْمُقَفَّى الْمَوْزُونُ عَلَى سَبِيل الْقَصْدِ (4) .
__________
(1) حديث: " ليت شعري ما صنع فلان " أورده ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث (2 / 481 - ط الحلبي) .
(2) سورة الأنعام الآية / 109.
(3) لسان العرب، القاموس المحيط، المصباح المنير، المفردات في غريب القرآن، التعريفات، الكليات 3 / 77، تهذيب الأسماء واللغات 1 / 162 من القسم الثاني.
(4) قواعد الفقه للبركتي.(26/112)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
(1) النَّثْرُ:
2 - النَّثْرُ هُوَ: الْكَلاَمُ الْمُتَفَرِّقُ مِنْ غَيْرِ قَافِيَةٍ أَوْ وَزْنٍ، مِنْ نَثَرَ الشَّيْءَ إِذَا رَمَاهُ مُتَفَرِّقًا (1) . وَهُوَ قَسِيمُ الشِّعْرِ
(2) السَّجْعُ:
3 - السَّجْعُ هُوَ: تَوَاطُؤُ الْفَاصِلَتَيْنِ مِنَ النَّثْرِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ فِي الآْخِرِ، يُقَال: سَجَعَ الرَّجُل كَلاَمَهُ: إِذَا جَعَل لِكَلاَمِهِ فَوَاصِل كَقَوَافِي الشِّعْرِ وَلَمْ يَكُنْ مَوْزُونًا (2) .
(3) الرَّجَزُ:
4 - الرَّجَزُ ضَرْبٌ مِنَ الشِّعْرِ عِنْدَ الأَْكْثَرِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَقَارُبِ أَجْزَائِهِ وَقِلَّةِ حُرُوفِهِ. وَاضْطِرَابِ اللِّسَانِ بِهِ. وَقِيل: إِنَّ الرَّجَزَ لَيْسَ بِشِعْرٍ وَإِنَّمَا هُوَ أَنْصَافُ أَبْيَاتٍ أَوْ أَثْلاَثٌ؛ وَلأَِنَّهُ يُقَال لِقَائِلِهِ رَاجِزٌ لاَ شَاعِرٌ
. (4) الْحُدَاءُ:
5 - الْحُدَاءُ - بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا وَتَخْفِيفِ الدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ، يُمَدُّ وَيُقْصَرُ - هُوَ سَوْقُ الإِْبِل بِضَرْبٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الْغِنَاءِ. وَالْحُدَاءُ فِي الْغَالِبِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالرَّجَزِ، وَقَدْ
__________
(1) لسان العرب، القاموس المحيط، فتح الباري 9 / 90.
(2) التعريفات 156، المصباح المنير، القاموس المحيط، فتح الباري 9 / 90.(26/113)
يَكُونُ بِغَيْرِهِ مِنَ الشِّعْرِ (1)
. (5) الْغِنَاءُ:
6 - الْغِنَاءُ: التَّطْرِيبُ وَالتَّرَنُّمُ بِالْكَلاَمِ الْمَوْزُونِ وَغَيْرِهِ، يَكُونُ مَصْحُوبًا بِالْمُوسِيقَى وَغَيْرَ مَصْحُوبٍ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَعَلُّمِ الشِّعْرِ وَإِنْشَائِهِ وَإِنْشَادِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِهِ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
أَوَّلاً: إِنْشَاءُ الشِّعْرِ وَإِنْشَادُهُ وَاسْتِمَاعُهُ:
7 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لَيْسَ فِي إِبَاحَةِ الشِّعْرِ خِلاَفٌ، وَقَدْ قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَالْعُلَمَاءُ، وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إِلَيْهِ لِمَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالاِسْتِشْهَادِ بِهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَتَعَرُّفِ مَعَانِي كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلاَمِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُسْتَدَل بِهِ أَيْضًا عَلَى النَّسَبِ وَالتَّارِيخِ وَأَيَّامِ الْعَرَبِ، يُقَال: الشِّعْرُ دِيوَانُ الْعَرَبِ (3) .
وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الشِّعْرُ نَوْعٌ مِنَ الْكَلاَمِ، قَال الشَّافِعِيُّ: حَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلاَمِ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِهِ: يَعْنِي أَنَّ الشِّعْرَ لَيْسَ يُكْرَهُ لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِمُتَضَمَّنَاتِهِ (4) .
__________
(1) المصباح المنير، القاموس المحيط، فتح الباري 10 / 538.
(2) المعجم الوسيط.
(3) المغني 9 / 177.
(4) أحكام القرآن3 / 462.(26/113)
وَقَال النَّوَوِيُّ: قَال الْعُلَمَاءُ كَافَّةً: الشِّعْرُ مُبَاحٌ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فُحْشٌ وَنَحْوُهُ، وَهُوَ كَلاَمٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَقَدْ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّعْرَ وَاسْتَنْشَدَهُ، وَأَمَرَ بِهِ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي هِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنْشَدَهُ أَصْحَابُهُ بِحَضْرَتِهِ فِي الأَْسْفَارِ وَغَيْرِهَا، وَأَنْشَدَهُ الْخُلَفَاءُ وَأَئِمَّةُ الصَّحَابَةِ وَفُضَلاَءُ السَّلَفِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى إِطْلاَقِهِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا الْمَذْمُومَ مِنْهُ وَهُوَ الْفُحْشُ وَنَحْوُهُ (1) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: الَّذِي يَتَحَصَّل مِنْ كَلاَمِ الْعُلَمَاءِ فِي حَدِّ الشِّعْرِ الْجَائِزِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُكْثَرْ مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَخَلاَ عَنْ هَجْوٍ وَعَنِ الإِْغْرَاقِ فِي الْمَدْحِ وَالْكَذِبِ الْمَحْضِ وَالْغَزَل الْحَرَامِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ جَائِزًا. وَنَقَل ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الإِْجْمَاعَ عَلَى جَوَازِهِ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَاسْتَدَل بِأَحَادِيثَ وَبِمَا أُنْشِدَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ اسْتَنْشَدَهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَقَدْ جَمَعَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ مُجَلَّدًا فِي أَسْمَاءِ مَنْ نُقِل عَنْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ مِنْ شِعْرٍ مُتَعَلِّقٍ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الأَْدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُول: الشِّعْرُ مِنْهُ حَسَنٌ وَمِنْهُ قَبِيحٌ، خُذِ الْحَسَنَ وَدَعِ الْقَبِيحَ،
__________
(1) صحيح مسلم لشرح النووي 15 / 14.(26/114)
وَلَقَدْ رَوَيْتُ مِنْ شِعْرِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَشْعَارًا مِنْهَا الْقَصِيدَةُ فِيهَا أَرْبَعُونَ بَيْتًا، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الأَْدَبِ الْمُفْرَدِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: الشِّعْرُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلاَمِ، حَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلاَمِ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِ الْكَلاَمِ (1) .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَال: رَدَفْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَال: هَل مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ شَيْءٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَال: هِيهِ فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَال: هِيهِ ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَقَال: هِيهِ حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ (2) قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى حِفْظِ الأَْشْعَارِ وَالاِعْتِنَاءِ بِهَا إِذَا تَضَمَّنَتِ الْحِكَمَ وَالْمَعَانِيَ الْمُسْتَحْسَنَةَ شَرْعًا وَطَبْعًا. وَإِنَّمَا اسْتَكْثَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ لأَِنَّهُ كَانَ حَكِيمًا، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ (3) .
__________
(1) فتح الباري 10 / 539، وحديث عبد الله بن عمرو: " الشعر بمنزلة الكلام " أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص299 - ط السلفية) وضعف إسناده ابن حجر في الفتح (10 / 539 - ط السلفية) ولكن ذكر له شواهد تقويه.
(2) حديث عمرو بن الشريد: " ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه مسلم (4 / 1767 - ط الحلبي) ، وفي رواية: " فلقد كاد يسلم في شعره ".
(3) تفسير القرطبي 13 / 145 - 146، صحيح مسلم لشرح النووي 15 / 11. وقوله: أراد أمية ابن الصلت أن يسلم هو تتمة الحديث السابق.(26/114)
وَلَمَّا أَرَادَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَدْحَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبْيَاتٍ مِنَ الشِّعْرِ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: هَاتِ، لاَ يَفْضُضِ اللَّهُ فَاكَ (1) .
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَمْشِي وَهُوَ يَقُول:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ
الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيل الْهَامَ عَنْ مُقِيلِهِ
وَيُذْهِل الْخَلِيل عَنْ خَلِيلِهِ
فَقَال عُمَرُ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ، فِي حَرَمِ اللَّهِ وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَل عَنْهُ يَا عُمَرُ، فَلَهِيَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْل (2)
. وَرَوَى أُبَيٌّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
__________
(1) تفسير القرطبي 13 / 146. وحديث: " هات، لا يفضض الله فاك ". أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (4 / 253 - ط. وزارة الأوقاف العراقية) ، وأورده الهيثمي في المجمع (8 / 217 - 218 - ط القدسي) وقال: " فيه من لم أعرفهم ".
(2) حديث: " خل عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضح النبل ". أخرجه الترمذي (5 / 139 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".(26/115)
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً (1) .
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لاَ وَجْهَ لِقَوْل مَنْ حَرَّمَ الشِّعْرَ مُطْلَقًا أَوْ قَال بِكَرَاهَتِهِ.
8 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: فَقَدْ يَكُونُ فَرْضًا كَمَا نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الشِّهَابِ الْخَفَاجِيِّ قَال: مَعْرِفَةُ شِعْرِ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُخَضْرَمِينَ (وَهُمْ مَنْ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالإِْسْلاَمَ) وَالإِْسْلاَمِيِّينَ رِوَايَةً وَدِرَايَةً فَرْضُ كِفَايَةٍ عِنْدَ فُقَهَاءِ الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّ بِهِ تَثْبُتُ قَوَاعِدُ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي بِهَا يُعْلَمُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى مَعْرِفَتِهِمَا الأَْحْكَامُ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا الْحَلاَل مِنَ الْحَرَامِ، وَكَلاَمُهُمْ وَإِنْ جَازَ فِيهِ الْخَطَأُ فِي الْمَعَانِي فَلاَ يَجُوزُ فِيهِ الْخَطَأُ فِي الأَْلْفَاظِ وَتَرْكِيبِ الْمَبَانِي (2) .
9 - وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا، وَذَلِكَ إِذَا تَضَمَّنَ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حَمْدَهُ أَوِ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ، أَوْ ذِكْرَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الصَّلاَةَ عَلَيْهِ أَوْ مَدْحَهُ أَوِ الذَّبَّ عَنْهُ، أَوْ ذِكْرَ أَصْحَابِهِ أَوْ مَدْحَهُمْ، أَوْ ذِكْرَ الْمُتَّقِينَ وَصِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، أَوْ كَانَ فِي الْوَعْظِ وَالْحِكَمِ أَوِ التَّحْذِيرِ مِنَ الْمَعَاصِي أَوِ الْحَثِّ عَلَى الطَّاعَاتِ وَمَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ (3) .
__________
(1) حديث: " إن من الشعر حكمة ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 537 - ط السلفية) .
(2) رد المحتار 1 / 32.
(3) تفسير القرطبي 13 / 146، فتح الباري 10 / 547، رد المحتار 1 / 443، نهاية المحتاج 8 / 283، أسنى المطالب 4 / 346.(26/115)
10 - وَقَدْ يَكُونُ الشِّعْرُ حَرَامًا إِذَا كَانَ فِي لَفْظِهِ مَا لاَ يَحِل كَوَصْفِ الْخَمْرِ الْمُهَيِّجِ لَهَا، أَوْ هِجَاءِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، أَوْ مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ وَالْكَذِبِ فِي الشِّعْرِ، بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، أَوِ التَّشْبِيبِ بِمُعَيَّنٍ مِنْ أَمْرَدَ أَوِ امْرَأَةٍ غَيْرِ حَلِيلَةٍ، أَوْ كَانَ مِمَّا يُقَال عَلَى الْمَلاَهِي (1) .
11 - وَقَدْ يَكُونُ الشِّعْرُ مَكْرُوهًا. . وَلِلْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَكْرُوهَ مِنَ الشِّعْرِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الشَّخْصُ وَجَعَلَهُ صِنَاعَةً لَهُ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ وَشَغَلَهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا كَانَ مِنَ الشِّعْرِ فِي وَصْفِ الْخُدُودِ وَالْقُدُودِ وَالشُّعُورِ، وَكَذَلِكَ تُكْرَهُ قِرَاءَةُ مَا كَانَ فِيهِ ذِكْرُ الْفِسْقِ وَالْخَمْرِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ الإِْكْثَارُ مِنَ الشِّعْرِ غَيْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ لِقِلَّةِ سَلاَمَةِ فَاعِلِهِ مِنَ التَّجَاوُزِ فِي الْكَلاَمِ لأَِنَّ غَالِبَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُبَالَغَاتٍ، رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِل عَنْ إِنْشَادِ الشِّعْرِ فَقَال: لاَ تُكْثِرَنَّ مِنْهُ فَمِنْ عَيْبِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ
__________
(1) رد المحتار 1 / 32 - 33 - 433، الفواكه الدواني 2 / 408، نهاية المحتاج 8 / 283، أسنى المطالب 4 / 346، المغني 9 / 178.
(2) رد المحتار 1 / 32 - 33 - 443.(26/116)
الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} (1) . قَال: وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ أَنِ اجْمَعِ الشُّعَرَاءَ قِبَلَكَ، وَسَلْهُمْ عَنِ الشِّعْرِ، وَهَل بَقِيَ مَعَهُمْ مَعْرِفَةٌ، وَأَحْضِرْ لَبِيدًا ذَلِكَ، فَجَمَعَهُمْ فَسَأَلَهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّا لَنَعْرِفُهُ وَنَقُولُهُ، وَسَأَل لَبِيدًا فَقَال: مَا قُلْتُ بَيْتَ شِعْرٍ مُنْذُ سَمِعْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَل يَقُول (2) : {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} (3) .
وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مِنَ الْمَذْمُومِ فِي الشِّعْرِ التَّكَلُّمُ مِنَ الْبَاطِل بِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ الْمَرْءُ رَغْبَةً فِي تَسْلِيَةِ النَّفْسِ وَتَحْسِينِ الْقَوْل (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ أَنْ يُشَبِّبَ مِنْ حَلِيلَتِهِ بِمَا حَقُّهُ الإِْخْفَاءُ، وَذَلِكَ مَا لَمْ تَتَأَذَّ بِإِظْهَارِهِ وَإِلاَّ حَرُمَ (5) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ مِنَ الشِّعْرِ الْهِجَاءُ وَالشِّعْرُ الرَّقِيقُ الَّذِي يُشَبِّبُ بِالنِّسَاءِ (6) .
12 - وَقَدْ يَكُونُ الشِّعْرُ مُبَاحًا وَهُوَ الأَْصْل فِي الشِّعْرِ. وَنُصُوصُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ مُتَقَارِبَةٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْيَسِيرُ مِنَ الشِّعْرِ لاَ بَأْسَ
__________
(1) سورة يس / 69.
(2) الفواكه الدواني 2 / 458، تفسير القرطبي 15 / 54.
(3) سورة البقرة / 1، 2.
(4) أحكام القرآن 3 / 465.
(5) نهاية المحتاج 8 / 283، الجمل 5 / 382.
(6) الفروع 6 / 575.(26/116)
بِهِ إِذَا قُصِدَ بِهِ إِظْهَارُ النِّكَاتِ وَالتَّشَابِيهِ الْفَائِقَةِ وَالْمَعَانِي الرَّائِقَةِ، وَمَا كَانَ مِنَ الشِّعْرِ فِي ذِكْرِ الأَْطْلاَل وَالأَْزْمَانِ وَالأُْمَمِ فَمُبَاحٌ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُبَاحُ إِنْشَادُ الشِّعْرِ وَإِنْشَاؤُهُ مَا لَمْ يُكْثِرْ مِنْهُ فَيُكْرَهُ، إِلاَّ فِي الأَْشْعَارِ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي الاِسْتِدْلاَل (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُبَاحُ إِنْشَاءُ الشِّعْرِ وَإِنْشَادُهُ وَاسْتِمَاعُهُ - مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ مَا يَمْنَعُهُ أَوْ يَقْتَضِيهِ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ شُعَرَاءُ يُصْغِي إِلَيْهِمْ كَحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْشَدَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ ابْنِ أَبِي الصَّلْتِ مِائَةَ بَيْتٍ، أَيْ لأَِنَّ أَكْثَرَ شِعْرِهِ حِكَمٌ وَأَمْثَالٌ وَتَذْكِيرٌ بِالْبَعْثِ وَلِهَذَا قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَادَ أَنْ يُسْلِمَ (3) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً (4) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: لَيْسَ فِي إِبَاحَةِ الشِّعْرِ خِلاَفٌ، وَقَدْ قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَالْعُلَمَاءُ، وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إِلَيْهِ (5) .
__________
(1) رد المحتار 1 / 32 - 443.
(2) الفواكه الدواني 2 / 458.
(3) حديث: " كاد أن يسلم " تقدم تخريجه ف 7.
(4) نهاية المحتاج 8 / 283، أسنى المطالب 4 / 346 وحديث: " إن من الشعر حكمة " تقدم تخريجه ف / 7.
(5) المغني 9 / 177.(26/117)
ثَانِيًا: تَعَلُّمُ الشِّعْرِ:
13 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ تَعَلُّمَ الشِّعْرِ مُبَاحٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سُخْفٌ أَوْ حَثٌّ عَلَى شَرٍّ أَوْ مَا يَدْعُو إِلَى حَظْرِهِ.
وَتَعَلُّمُ بَعْضِ الشِّعْرِ يَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الشِّهَابِ الْخَفَاجِيِّ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ نِزَاعَ فِي جَوَازِ تَعَلُّمِ الأَْشْعَارِ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْمُصَنِّفُونَ لِلاِسْتِدْلاَل بِهَا. وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِئْجَارٌ لِتَعْلِيمِ نَحْوِ شِعْرٍ مُبَاحٍ وَيَجُوزُ أَخْذُ الأَْجْرِ عَلَيْهِ (2) .
ثَالِثًا: مَنْعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشِّعْرِ:
14 - كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْصَحَ الْفُصَحَاءِ وَأَبْلَغَ الْبُلَغَاءِ، وَقَدْ أُوتِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَلَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجِبَ عَنْهُ الشِّعْرُ لِمَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدِ ادَّخَرَهُ لَهُ مِنْ فَصَاحَةِ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ دَلاَلَةً عَلَى صِدْقِهِ، كَمَا سَلَبَ عَنْهُ الْكِتَابَةَ وَأَبْقَاهُ عَلَى حُكْمِ الأُْمِّيَّةِ تَحْقِيقًا لِهَذِهِ الْحَالَةِ وَتَأْكِيدًا، وَلِئَلاَّ تَدْخُل الشُّبْهَةُ عَلَى مَنْ أُرْسِل إِلَيْهِ فَيَظُنَّ أَنَّهُ قَوِيَ عَلَى الْقُرْآنِ بِمَا فِي طَبْعِهِ مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى الشِّعْرِ (3) .
__________
(1) رد المحتار 1 / 32، الفواكه الدواني 2 / 458، أسنى المطالب 4 / 182، مطالب أولي النهى 3 / 643.
(2) الفواكه الدواني 2 / 458، ومطالب أولي النهى 3 / 643.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 4 / 21، تفسير القرطبي 15 / 55.(26/117)
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (1) .
15 - وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ تَمَثُّل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنَ الشِّعْرِ وَإِنْشَادِهِ حَاكِيًا عَنْ غَيْرِهِ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ لِمَا رَوَى الْمِقْدَامُ بْنُ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ قَال: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَثَّل بِشَيْءٍ مِنَ الشِّعْرِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَتَمَثَّل بِشِعْرِ ابْنِ أَبِي رَوَاحَةَ وَيَتَمَثَّل وَيَقُول
وَيَأْتِيكَ بِالأَْخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ
(2) . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ
أَلاَ كُل شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِل
(3) .
وَإِصَابَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزْنَ الشِّعْرِ لاَ يُوجِبُ أَنَّهُ يَعْلَمُ الشِّعْرَ، وَكَذَلِكَ مَا يَأْتِي مِنْ نَثْرِ كَلاَمِهِ مِمَّا يَدْخُل فِي وَزْنٍ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَل أَنْتِ إِلاَّ أُصْبُعٌ دَمِيَتْ
__________
(1) سورة يس / 69.
(2) حديث: " كان يتمثل بشعر ابن رواحة. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 139 - ط الحلبي) وفي إسناده مقال، وأورده الهيثمي في المجمع (8 / 128 - ط القدسي) وعزاه إلى البزار والطبراني من حديث ابن عباس وقال: " رجالهما رجال الصحيح ".
(3) فتح الباري 10 / 537 - 541، وحديث: " أصدق كلمة قالها شاعر. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 537 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1768 - ط الحلبي) .(26/118)
وَفِي سَبِيل اللَّهِ مَا لَقِيتِ (1) وَقَوْل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ (2)
فَقَدْ يَأْتِي مِثْل ذَلِكَ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (3) وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} (4) وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} (5) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآْيَاتِ، وَلَيْسَ هَذَا شِعْرًا وَلاَ فِي مَعْنَاهُ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَالِمًا بِالشِّعْرِ وَلاَ شَاعِرًا؛ لأَِنَّ إِصَابَةَ الْقَافِيَتَيْنِ مِنَ الرَّجَزِ وَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَمَا قَال الْقُرْطُبِيُّ، لاَ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَائِل عَالِمًا بِالشِّعْرِ وَلاَ يُسَمَّى شَاعِرًا، كَمَا أَنَّ مَنْ خَاطَ خَيْطًا لاَ يَكُونُ خَيَّاطًا، قَال أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى {مَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} (6) وَمَا عَلَّمْنَاهُ أَنْ يُشْعِرَ، أَيْ مَا جَعَلْنَاهُ شَاعِرًا، وَهَذَا لاَ
__________
(1) حديث: " هل أنت إلا إصبع دميت. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 537 - ط السلفية) من حديث جندب بن عبد الله.
(2) حديث: " أنا النبي لا كذب. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 8 / 28 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1400 - ط الحلبي) .
(3) سورة آل عمران / 92.
(4) سورة الصف / 13.
(5) سورة سبأ / 13.
(6) سورة يس / 69.(26/118)
يَمْنَعُ أَنْ يُنْشِدَ شَيْئًا مِنَ الشِّعْرِ (1) .
رَابِعًا: إِنْشَادُ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ:
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَضْمُونِ الشِّعْرِ، فَإِنْ كَانَ حَسَنًا جَازَ إِنْشَادُهُ فِي الْمَسْجِدِ وَإِلاَّ فَلاَ (2) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مَعَانِي الآْثَارِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُنْشَدَ الأَْشْعَارُ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنْ يُبَاعَ فِيهِ السِّلَعُ، وَأَنْ يُتَحَلَّقَ فِيهِ قَبْل الصَّلاَةِ (3) ثُمَّ وَفَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ لِحَسَّانٍ مِنْبَرًا يُنْشِدُ عَلَيْهِ الشِّعْرَ (4) بِحَمْل الأَْوَّل عَلَى مَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَهْجُوهُ بِهِ، أَوْ عَلَى مَا يَغْلِبُ عَلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرُ مَنْ فِيهِ مُتَشَاغِلاً بِهِ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنِ الْبَيْعِ فِيهِ هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ كَالسُّوقِ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ عَلِيًّا عَنْ خَصْفِ النَّعْل فِيهِ (5) . مَعَ أَنَّهُ لَوِ
__________
(1) تفسير القرطبي 15 / 52 - 54.
(2) تفسير القرطبي 12 / 270 - 271، إعلام الساجد بأحكام المساجد 323.
(3) حديث: " نهى أن تنشد الأشعار في المسجد. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 139 - ط الحلبي) والطحاوي في شرح معاني الآثار (4 / 358 - ط مطبعة الأنوار المحمدية) من حديث عبد الله بن عمرو واللفظ للترمذي وقال: " حديث حسن ".
(4) حديث: " وضع لحسان منبرًا ينشد عليه الشعر ". أخرجه أبو داود (5 / 280 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (5 / 138 - ط الحلبي) من حديث عائشة، وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".
(5) حديث خصف علي للنعل، أخرجه الطحاوي (4 / 359 - ط. مطبعة الأنوار المحمدية) .(26/119)
اجْتَمَعَ النَّاسُ لِخَصْفِ النِّعَال فِيهِ كُرِهَ، فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ وَإِنْشَادُ الشِّعْرِ وَالتَّحَلُّقُ قَبْل الصَّلاَةِ فَمَا غَلَبَ عَلَيْهِ كُرِهَ وَمَا لاَ فَلاَ. وَهَذَا نَظَرَ مَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ (1) .
وَنَقَل الزَّرْكَشِيُّ عَنِ النَّوَوِيِّ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَلاَّ يُنْشَدَ فِي الْمَسْجِدِ شِعْرٌ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ لِلإِْسْلاَمِ وَلاَ حَثٌّ عَلَى مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ حَرُمَ.
وَنُقِل عَنِ الصَّيْمَرِيِّ قَوْلُهُ: كَرِهَ قَوْمٌ إِنْشَادَ الشِّعْرِ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِمَكْرُوهٍ، وَقَدْ كَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُنْشِدُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّعْرَ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنْشَدَهُ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَصِيدَتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ، لَكِنْ لاَ يُكْثِرُ مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ، قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الشِّعْرِ الْمُبَاحِ أَوِ الْمُرَغِّبِ فِي الآْخِرَةِ أَوِ الْمُتَعَلِّقِ بِمَدْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِكْرِ بَعْضِ مَنَاقِبِهِ وَمَآثِرِهِ لاَ مُطْلَقِ الشِّعْرِ، وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: لَعَل الْحَدِيثَ فِي الْمَنْعِ مِنْ إِنْشَادِ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا فِيهِ هَجْوٌ أَوْ مَدْحٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُدِحَ وَأُنْشِدَ مَدْحُهُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ، وَقَال ابْنُ بَطَّالٍ: لَعَلَّهُ كَانَ فِيمَا يَتَشَاغَل النَّاسُ بِهِ حَتَّى يَكُونَ
__________
(1) رد المحتار 1 / 444، وتفسير القرطبي 12 / 271.(26/119)
كُل مَنْ فِي الْمَسْجِدِ يَغْلِبُ عَلَيْهِ.
وَقَال الرَّحِيبَانِيُّ: يُبَاحُ فِي الْمَسْجِدِ إِنْشَادُ شِعْرٍ مُبَاحٍ (1) لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَال: شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ فِي الْمَسْجِدِ وَأَصْحَابُهُ يَتَذَاكَرُونَ الشِّعْرَ وَأَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَرُبَّمَا تَبَسَّمَ مَعَهُمْ (2) .
خَامِسًا: إِنْشَادُ الْمُحْرِمِ الشِّعْرَ:
17 - يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ إِنْشَادُ الشِّعْرِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْحَلاَل إِنْشَادُهُ، فَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ إِنْشَادُ الشِّعْرِ الَّذِي فِيهِ وَصْفُ الْمَرْأَةِ بِمَا لاَ فُحْشَ فِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْهُ أَنْشَدَ مِثْل ذَلِكَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَرَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ قَال: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ بِالإِْبِل وَيَقُول:
وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمْيًا
. . . إِلَخْ، فَقُلْتُ: أَتَرْفُثُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ؟ قَال: إِنَّمَا الرَّفَثُ مَا رُوجِعَ بِهِ النِّسَاءُ (3) .
سَادِسًا: كِتَابَةُ الْبَسْمَلَةِ قَبْل الشِّعْرِ:
18 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ ذِكْرُ " بِسْمِ
__________
(1) إعلام الساجد بأحكام المساجد 322 - 323، ومطالب أولي النهى 2 / 258.
(2) حديث جابر بن سمرة: " شهدت رسول الله أكثر من مائة مرة. . . ". أخرجه أحمد (5 / 91 - ط الحلبي) ، وأخرجه كذلك الترمذي (5 / 140 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) رد المحتار 1 / 32، فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد 2 / 319.(26/120)
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فِي ابْتِدَاءِ جَمِيعِ الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال غَيْرِ الْمَحْظُورَةِ، وَفِي ابْتِدَاءِ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِل، عَمَلاً بِقَوْل النَّبِيِّ: كُل أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ (1) أَيْ: نَاقِصٌ غَيْرُ تَامٍّ، فَيَكُونُ قَلِيل الْبَرَكَةِ. وَنَقَل ابْنُ الْحَكَمَ - كَمَا قَال الْبُهُوتِيُّ - أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لاَ تُكْتَبُ أَمَامَ الشِّعْرِ وَلاَ مَعَهُ، وَذَكَرَ الشَّعْبِيُّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَهُ، قَال الْقَاضِي: لأَِنَّهُ يَشُوبُهُ الْكَذِبُ وَالْهَجْوُ غَالِبًا (2) .
سَابِعًا: جَعْل تَعْلِيمِ الشِّعْرِ صَدَاقًا:
19 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ جَعْل تَعْلِيمِ الشِّعْرِ لِلْمَرْأَةِ صَدَاقًا لَهَا إِذَا كَانَ مِمَّا يَحِل تَعَلُّمُهُ، وَفِيهِ كُلْفَةٌ بِحَيْثُ تَصِحُّ الإِْجَارَةُ عَلَيْهِ، وَقَدْ سُئِل الْمُزَنِيُّ عَنْ صِحَّةِ جَعْل الصَّدَاقِ شِعْرًا فَقَال: يَجُوزُ إِنْ كَانَ مِثْل قَوْل الْقَائِل وَهُوَ أَبُو الدَّرْدَاءِ الأَْنْصَارِيُّ:
يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ
وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ مَا أَرَادَا
يَقُول الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَزَادِي
وَتَقْوَى اللَّهِ أَعْظَمُ مَا اسْتَفَادَا (3)
__________
(1) حديث: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم. . . ". أخرجه السبكي في الطبقات الكبرى (1 / 6 - نشر دار المعرفة) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده اضطراب.
(2) كشاف القناع 1 / 336.
(3) حاشية القليوبي على شرح المنهاج 3 / 288.(26/120)
ثَامِنًا: الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ كُتُبِ الشِّعْرِ:
20 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، وَكَذَا الشِّعْرُ الَّذِي يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ، وَمَا لاَ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ لاَ قَطْعَ فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَبْلُغَ الْجِلْدُ وَالْقِرْطَاسُ نِصَابًا (1) وَلِلتَّفْصِيل (ر: سَرِقَةٌ) .
تَاسِعًا: الْحَدُّ بِمَا جَاءَ فِي الشِّعْرِ:
21 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا اعْتَرَفَ الشَّاعِرُ فِي شِعْرِهِ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا، هَل يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَمْ لاَ؟ فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِهَذَا الاِعْتِرَافِ.
وَذَهَبَ الأَْكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ الشَّاعِرَ قَدْ يُبَالِغُ فِي شِعْرِهِ حَتَّى تَصِل بِهِ الْمُبَالَغَةُ إِلَى الْكَذِبِ وَادِّعَاءِ مَا لَمْ يَحْدُثْ وَنِسْبَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ، رَغْبَةً فِي تَسْلِيَةِ النَّفْسِ وَتَحْسِينِ الْقَوْل، رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُل وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} (2) قَال: أَكْثَرُ قَوْلِهِمْ يَكْذِبُونَ فِيهِ، وَعَقَّبَ ابْنُ كَثِيرٍ بِقَوْلِهِ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ، فَإِنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَبَجَّحُونَ
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 121.
(2) سورة الشعراء / 224 - 226.(26/121)
بِأَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ لَمْ تَصْدُرْ مِنْهُمْ وَلاَ عَنْهُمْ، فَيَتَكَثَّرُونَ بِمَا لَيْسَ لَهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ شِعْرًا لِلنُّعْمَانِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَضْلَةَ يَعْتَرِفُ فِيهِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، فَلَمَّا سَأَلَهُ قَال: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُومِنِينَ مَا شَرِبْتُهَا قَطُّ، وَمَا فَعَلْتُ شَيْئًا مِمَّا قُلْتُ، وَمَا ذَاكَ الشِّعْرُ إِلاَّ فَضْلَةً مِنَ الْقَوْل، وَشَيْءٌ طَفَحَ عَلَى لِسَانِي، فَقَال عُمَرُ: أَظُنُّ ذَلِكَ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لاَ تَعْمَل لِي عَمَلاً أَبَدًا وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ، فَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ حَدَّهُ عَلَى الشَّرَابِ وَقَدْ ضَمَّنَهُ شِعْرَهُ؛ لأَِنَّ الشُّعَرَاءَ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ وَلَكِنْ ذَمَّهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلاَمَهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَزَلَهُ بِهِ (1) .
عَاشِرًا: التَّكَسُّبُ بِالشِّعْرِ:
22 - ذَهَبَ بَعْضُهُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّكَسُّبَ بِالشِّعْرِ مِنَ الْمَكَاسِبِ الْخَبِيثَةِ وَمِنَ السُّحْتِ الْحَرَامِ؛ لأَِنَّ مَا يُدْفَعُ إِلَى الشَّاعِرِ إِنَّمَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ عَادَةً لِقَطْعِ لِسَانِهِ، وَالشَّاعِرُ الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ لِمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَرَضَ شَاعِرٌ يُنْشِدُ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذُوا الشَّيْطَانَ (2) . قَال الْقُرْطُبِيُّ: قَال عُلَمَاؤُنَا:
__________
(1) تفسير ابن كثير 3 / 353 - 354، تفسير ابن العربي 3 / 465، تفسير القرطبي 13 / 149.
(2) حديث: " خذوا الشيطان ". أخرجه مسلم (4 / 1769 - 1770 - ط الحلبي) .(26/121)
وَإِنَّمَا فَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا مَعَ هَذَا الشَّاعِرِ لِمَا عَلِمَ مِنْ حَالِهِ، فَلَعَلَّهُ كَانَ مِمَّنْ قَدْ عُرِفَ أَنَّهُ اتَّخَذَ الشِّعْرَ طَرِيقًا لِلتَّكَسُّبِ، فَيُفْرِطُ فِي الْمَدْحِ إِذَا أُعْطِيَ، وَفِي الْهَجْوِ وَالذَّمِّ إِذَا مُنِعَ، فَيُؤْذِي النَّاسَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْل هَذِهِ الْحَالَةِ، فَكُل مَا يَكْتَسِبُهُ بِالشِّعْرِ حَرَامٌ، وَكُل مَا يَقُولُهُ مِنْ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَلاَ يَحِل الإِْصْغَاءُ إِلَيْهِ، بَل يَجِبُ الإِْنْكَارُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مِنْ لِسَانِهِ قَطْعًا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يُدَارِيَهُ بِمَا اسْتَطَاعَ، وَيُدَافِعَهُ بِمَا أَمْكَنَ، وَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا ابْتِدَاءً؛ لأَِنَّ ذَلِكَ عَوْنٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ أَعْطَاهُ بِنِيَّةِ وِقَايَةِ الْعِرْضِ، فَمَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ كُتِبَ لَهُ بِهِ صَدَقَةً (1) .
وَذَكَرَ الْحَصْكَفِيُّ الْحَنَفِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْطِي الشُّعَرَاءَ وَلِمَنْ يَخَافُ لِسَانَهُ، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ مَا وَرَدَ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلاً قَال: أَتَى شَاعِرٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا بِلاَل، اقْطَعْ عَنِّي لِسَانَهُ فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا (2) .
__________
(1) رد المحتار 5 / 272، تفسير القرطبي 13 / 150.
(2) رد المحتار 5 / 272 وحديث: " يا بلال اقطع لسانه. . . . ". أخرجه الخطابي في الغريب (2 / 170 - ط مركز البحث العلمي - مكة المكرمة) والبيهقي في سننه (10 / 241 - ط دائرة المعارف العثمانية) ولإرساله قال البيهقي: " هذا منقطع ".(26/122)
وَقَال عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يَا أَمِيرَ الْمُومِنِينَ، إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مُدِحَ وَأَعْطَى وَفِيهِ أُسْوَةٌ لِكُل مُسْلِمٍ، قَال: وَمَنْ مَدَحَهُ؟ قَال: عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ فَكَسَاهُ حُلَّةً قَطَعَ بِهَا لِسَانَهُ (1) . أَمَّا الشَّاعِرُ الَّذِي يُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَلاَ يُعْطَى مُدَارَاةً لَهُ وَقَطْعًا لِلِسَانِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ حَلاَلٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ بُرْدَتَهُ إِلَى كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا امْتَدَحَهُ بِقَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ (2) .
وَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَفَدَ عَلَيْهِ الشُّعَرَاءُ كَمَا كَانُوا يَفِدُونَ عَلَى الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ، فَأَقَامُوا بِبَابِهِ أَيَّامًا لاَ يَأْذَنُ لَهُمْ بِالدُّخُول، حَتَّى قَدِمَ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ وَكَانَتْ لَهُ مَكَانَةٌ، فَتَعَرَّضَ لَهُ جَرِيرٌ وَطَلَبَ شَفَاعَتَهُ، فَاسْتَأْذَنَ لَهُمْ، فَلَمْ يَأْذَنْ إِلاَّ لِجَرِيرٍ، فَلَمَّا مَثَل بَيْنَ يَدَيْهِ قَال لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَقُل إِلاَّ حَقًّا، فَمَدَحَهُ بِأَبْيَاتٍ، فَقَال عُمَرُ: يَا جَرِيرُ، لَقَدْ وُلِّيتَ هَذَا الأَْمْرَ وَمَا
__________
(1) تفسير ابن العربي 3 / 466. وحديث عدي بن أرطاة. . . . أخرجه ابن قدامة في " إثبات صفة العلو " (ص 69 - ط الدار السلفية) وضعفه الذهبي في " العلو للعلي الغفار " (ص 42 - ط المكتبة السلفية) .
(2) رد المحتار 5 / 272. وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع بردته إلى كعب بن زهير. . . . أورده ابن حجر في الإصابة (3 / 295 - ط مطبعة السعادة) إلى ابن قانع.(26/122)
أَمْلِكُ إِلاَّ ثَلاَثَمِائَةٍ، فَمِائَةٌ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ، وَمِائَةٌ أَخَذَتْهَا أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ، يَا غُلاَمُ: أَعْطِهِ الْمِائَةَ الثَّالِثَةَ، فَقَال: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهَا لأََحَبُّ مَالٍ كَسَبْتُهُ إِلَيَّ (1) .
حَادِيَ عَشَرَ: شَهَادَةُ الشَّاعِرِ:
23 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى قَبُول شَهَادَةِ الشَّاعِرِ الَّذِي لاَ يَرْتَكِبُ بِشِعْرِهِ مُحَرَّمًا أَوْ مَا يُخِل بِالْمُرُوءَةِ، فَإِنِ ارْتَكَبَ ذَلِكَ فَفِي رَدِّ شَهَادَتِهِ بِهِ تَفْصِيلٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ كَثُرَ إِنْشَادُهُ وَإِنْشَاؤُهُ حِينَ تَنْزِل بِهِ مُهِمَّاتُهُ وَيَجْعَلُهُ مَكْسَبَةً لَهُ تَنْقُضُ مُرُوءَتُهُ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الشَّاعِرِ إِذَا كَانَ لاَ يَرْتَكِبُ بِشِعْرِهِ مُحَرَّمًا، وَإِلاَّ امْتَنَعَتْ شَهَادَتُهُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُرَدُّ شَهَادَةُ الشَّاعِرِ إِذَا هَجَا مَعْصُومَ الدَّمِ - مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا - بِمَا يَفْسُقُ بِهِ، بِخِلاَفِ الْحَرْبِيِّ فَلاَ يَحْرُمُ هِجَاؤُهُ، وَلاَ تُرَدُّ شَهَادَةُ الشَّاعِرِ بِهِجَائِهِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِهِجَاءِ الْكُفَّارِ (3) .
وَظَاهِرُ كَلاَمِهِمْ جَوَازُ هَجْوِ الْكَافِرِ.
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 3 / 465 - 468.
(2) رد المحتار 1 / 433، والفواكه الدواني 2 / 458.
(3) حديث: " أمر حسان بن ثابت بهجاء الكفار ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 546 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1933 - ط الحلبي) من حديث البراء بن عازب.(26/123)
الْمُعَيَّنِ، وَعَلَيْهِ فَيُفَارِقُ عَدَمَ جَوَازِ لَعْنِهِ بِأَنَّ اللَّعْنَ الإِْبْعَادُ مِنَ الْخَيْرِ، وَلاَعِنُهُ لاَ يَتَحَقَّقُ بَعْدَهُ مِنْهُ فَقَدْ يُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرٍ.
وَقَالُوا: تُرَدُّ شَهَادَةُ الشَّاعِرِ كَذَلِكَ إِذَا شَبَّبَ بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِأَنْ ذَكَرَ صِفَاتِهَا مِنْ نَحْوِ حُسْنٍ وَطُولٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْيذَاءِ، وَكَذَلِكَ إِذَا هَتَكَ السِّتْرَ وَوَصَفَ أَعْضَاءَهَا الْبَاطِنَةَ بِمَا حَقُّهُ الإِْخْفَاءُ وَلَوْ كَانَ مِنْ حَلِيلَتِهِ، وَمِثْل الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ الأَْمْرَدُ إِذَا صَرَّحَ بِعِشْقِهِ، فَإِذَا لَمْ يُعَيِّنِ الشَّاعِرُ مَنْ يُشَبِّبُ بِهِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لأَِنَّ التَّشْبِيبَ صَنْعَةٌ، وَغَرَضُ الشَّاعِرِ تَحْسِينُ صَنْعَتِهِ لاَ تَحْقِيقُ الْمَذْكُورِ فِيهِ، فَلَيْسَ ذِكْرُ شَخْصٍ مَجْهُولٍ تَعْيِينًا، لَكِنَّ بَعْضَ الشُّعَرَاءِ قَدْ يَنْصِبُونَ قَرَائِنَ تَدُل عَلَى تَعْيِينِ الْمُشَبَّبِ بِهِ، وَعِنْدَئِذٍ يَكُونُ التَّشْبِيبُ مَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ فِي حُكْمِ التَّشْبِيبِ بِمُعَيَّنٍ.
وَتُرَدُّ شَهَادَةُ الشَّاعِرِ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ أَكْثَرَ الْكَذِبَ فِي شِعْرِهِ، وَجَاوَزَ فِي ذَلِكَ الْحَدَّ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الشَّاعِرُ مَتَى كَانَ يَهْجُو الْمُسْلِمِينَ أَوْ يَمْدَحُ بِالْكَذِبِ أَوْ يَقْذِفُ مُسْلِمًا أَوْ مُسْلِمَةً فَإِنَّ شَهَادَتَهُ تُرَدُّ، وَسَوَاءٌ قَذَفَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ (2) .
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 283، الجمل 5 / 382، أسنى المطالب 4 / 346، فتح الباري 10 / 546.
(2) المغني 9 / 178.(26/123)
شَعِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّعِيرُ جِنْسٌ مِنَ الْحُبُوبِ مَعْرُوفٌ وَاحِدَتُهُ شَعِيرَةٌ، وَهُوَ نَبَاتٌ عُشْبِيٌّ حَبِّيٌّ دُونَ الْبُرِّ فِي الْغِذَاءِ (1) .
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالشَّعِيرِ:
وَرَدَتْ أَحْكَامُ الشَّعِيرِ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا:
الزَّكَاةُ:
2 - فَالشَّعِيرُ مِنَ الْحُبُوبِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ إِذَا بَلَغَتِ النِّصَابَ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ} (2) . الآْيَةَ.
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَأْخُذُوا الصَّدَقَةَ إِلاَّ مِنْ هَذِهِ الأَْرْبَعَةِ: الشَّعِيرِ وَالْحِنْطَةِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ (3) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، والبدائع 2 / 72.
(2) سورة البقرة / 267.
(3) حديث: " لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة. . . " أخرجه الحاكم (1 / 401 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي موسى ومعاذ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(26/124)
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُضَمُّ الشَّعِيرُ إِلَى غَيْرِهِ كَالْقَمْحِ وَالسُّلْتِ لأَِنَّهَا أَجْنَاسٌ ثَلاَثَةٌ مُخْتَلِفَةٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشَّعِيرَ يُضَمُّ إِلَى السُّلْتِ، فَهُمَا عِنْدَهُمْ صِنْفَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَلاَ يُضَمُّ إِلَى الْقَمْحِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشَّعِيرَ وَالسُّلْتَ وَالْقَمْحَ أَصْنَافٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ يُضَمُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ لِتَكْمِيل النِّصَابِ (2) .
وَلاَ تَرِدُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لأَِنَّهُ لاَ يَشْتَرِطُ النِّصَابَ فِي الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، بَل تَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ فِي الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ (3) . رَاجِعِ التَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ " زَكَاةٌ ف 102 ".
__________
(1) حديث: " فيما سقت السماء والعيون. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 347 - ط السلفية) من حديث ابن عمر.
(2) جواهر الإكليل 1 / 124، القوانين الفقهية ص 110، المغني لابن قدامة 2 / 690، مغني المحتاج 1 / 281، البدائع 2 / 60.
(3) الاختيار 1 / 113، والزيلعي 1 / 291.(26/124)
زَكَاةُ الْفِطْرِ:
3 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّعِيرَ مِنَ الْحُبُوبِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ تُؤَدَّى مِنْهَا زَكَاةُ الْفِطْرِ وَأَنَّ الْمُجْزِئَ مِنْهُ هُوَ صَاعٌ (1) لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَرَضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالأُْنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْل خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ (2) .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا نُعْطِيهَا - أَيْ زَكَاةَ الْفِطْرِ - فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ (3) . الْحَدِيثَ.
رَاجِعِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَ: (زَكَاةُ الْفِطْرِ) .
فِي الْبَيْعِ:
4 - لاَ يَدْخُل فِي مُطْلَقِ بَيْعِ الأَْرْضِ مَا هُوَ
__________
(1) سبل السلام 2 / 137، البدائع 2 / 72، والقوانين الفقهية ص 77، مغني المحتاج 1 / 405، المغني لابن قدامة 3 / 57.
(2) حديث: " فرض رسول الله زكاة الفطر صاعًا من تمر. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 367 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 677 - ط الحلبي) .
(3) حديث أبي سعيد: " كنا نعطيها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 372 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 678 - ط الحلبي) .(26/125)
مَزْرُوعٌ فِيهَا مِنَ الشَّعِيرِ وَالْحِنْطَةِ وَسَائِرِ الزُّرُوعِ وَكُل مَا يُؤْخَذُ بِقَلْعٍ أَوْ قَطْعٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ لِلدَّوَامِ فَأَشْبَهَ مَنْقُولاَتِ الدَّارِ (1) .
التَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ) .
فِي الرِّبَا:
5 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّعِيرَ مِنَ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ الَّتِي يَحْرُمُ بَيْعُهَا بِمِثْلِهَا إِلاَّ بِشَرْطِ الْحُلُول وَالْمُمَاثَلَةِ وَالتَّقَابُضِ قَبْل التَّفَرُّقِ.
وَإِذَا بِيعَتْ بِجِنْسٍ آخَرَ كَالتَّمْرِ مَثَلاً جَازَ التَّفَاضُل، وَاشْتُرِطَ الْحُلُول وَالتَّقَابُضُ قَبْل التَّفَرُّقِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى، بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا الْبُرَّ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا الشَّعِيرَ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ (2) .
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ،
__________
(1) مغني المحتاج (2 / 81) ، جواهر الإكليل (2 / 59) ، المغني لابن قدامة (4 / 84) .
(2) حديث: " الذهب بالذهب مثلاً بمثل. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 532 - ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت، وقال: " حسن صحيح ".(26/125)
وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلاً بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 22، المغني لابن قدامة 4 / 4، البدائع 5 / 195، جواهر الإكليل 2 / 17. وحديث: " الذهب بالذهب. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1211 - ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت.(26/126)
شِغَارٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الشِّغَارُ بِكَسْرِ الشِّينِ لُغَةً: نِكَاحٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُل آخَرَ امْرَأَةً عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآْخَرُ امْرَأَةً أُخْرَى بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَصَدَاقُ كُلٍّ مِنْهُمَا بُضْعُ الأُْخْرَى. وَخَصَّ بَعْضُهُمْ بِهِ الْقَرَائِبَ فَقَال: لاَ يَكُونُ الشِّغَارُ إِلاَّ أَنْ تُنْكِحَهُ وَلِيَّتَكَ عَلَى أَنْ يُنْكِحَكَ وَلِيَّتَهُ.
وَسُمِّيَ شِغَارًا إِمَّا تَشْبِيهًا بِرَفْعِ الْكَلْبِ رِجْلَهُ لِيَبُول فِي الْقُبْحِ، قَال الأَْصْمَعِيُّ: الشِّغَارُ الرَّفْعُ فَكَأَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَفَعَ رِجْلَهُ لِلآْخَرِ عَمَّا يُرِيدُ. وَإِمَّا لِخُلُوِّهِ عَنِ الْمَهْرِ لِقَوْلِهِمْ: شَغَرَ الْبَلَدُ إِذَا خَلاَ. وَشَاغَرَ الرَّجُل الرَّجُل أَيْ زَوَّجَ كُل وَاحِدٍ صَاحِبَهُ حَرِيمَتَهُ، عَلَى أَنَّ بُضْعَ كُل وَاحِدَةٍ صَدَاقُ الأُْخْرَى وَلاَ مَهْرَ سِوَى ذَلِكَ، وَكَانَ سَائِغًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ (1) .
وَالشِّغَارُ فِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُل وَلِيَّتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآْخَرُ وَلِيَّتَهُ عَلَى أَنَّ مَهْرَ كُلٍّ مِنْهُمَا بُضْعُ الأُْخْرَى.
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير والمعجم الوسيط.(26/126)
وَهَذَا تَعْرِيفُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَهُ وَلِيَّتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآْخَرُ وَلِيَّتَهُ، سَوَاءٌ جَعَلاَ مَهْرَ كُلٍّ مِنْهُمَا بُضْعَ الأُْخْرَى أَوْ سَكَتَ عَنِ الْمَهْرِ أَوْ شَرَطَا نَفْيَهُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: صَرِيحُ الشِّغَارِ أَنْ يَقُول زَوَّجْتُكَ مُوَلِّيَتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي مُوَلِّيَتَكَ وَلاَ يَذْكُرَانِ مَهْرًا. وَأَمَّا إِنْ قَال: زَوَّجْتُكَ مُوَلِّيَتِي بِكَذَا مَهْرًا عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي وَلِيَّتَكَ بِكَذَا فَهُوَ وَجْهُ الشِّغَارِ؛ لأَِنَّهُ شِغَارٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سَمَّى لِكُل وَاحِدَةٍ مَهْرًا فَلَيْسَ بِشِغَارٍ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ شَرَطَ تَزَوُّجَ إِحْدَاهُمَا بِالأُْخْرَى فَهُوَ شِغَارٌ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الشِّغَارِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالصَّدَاقِ وَلِكَوْنِهِمُ اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِهِ الشَّرْعِيِّ وَبَعْضِ مَسَائِلِهِ التَّفْصِيلِيَّةِ، نَذْكُرُ تَفْصِيل الْحُكْمِ فِي كُل مَذْهَبٍ عَلَى حِدَةٍ.
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ نِكَاحَ الشِّغَارِ - هُوَ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُل الرَّجُل حَرِيمَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ " الآْخَرُ حَرِيمَتَهُ - ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ أَوْ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ بُضْعُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقًا لِلأُْخْرَى
__________
(1) المغني لابن قدامة 6 / 641، والبدائع 2 / 278، ومغني المحتاج 3 / 143، وجواهر الإكليل 1 / 311.(26/127)
لاَ مَهْرَ سِوَى ذَلِكَ -
وَهَذَا النِّكَاحُ عِنْدَهُمْ صَحِيحٌ لأَِنَّهُ مُؤَبَّدٌ أُدْخِل فِيهِ شَرْطٌ فَاسِدٌ - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بُضْعُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقًا لِلأُْخْرَى - وَالنِّكَاحُ لاَ يُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ، كَمَا إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَتَكُونُ التَّسْمِيَةُ فَاسِدَةً لأَِنَّ الْبُضْعَ لَيْسَ بِمَالٍ، فَلاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا بَل يَجِبُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَهْرُ الْمِثْل كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ.
وَالنَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ الْوَارِدُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ بِالْمَرْأَةِ لَيْسَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرٌ (1) مَحْمُولٌ عِنْدَهُمْ عَلَى الْكَرَاهَةِ. وَيُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى الشِّغَارِ أَنْ يُجْعَل بُضْعُ كُلٍّ مِنْهُمَا صَدَاقًا لِلأُْخْرَى مَعَ الْقَبُول مِنَ الآْخَرِ فَإِنْ لَمْ يَقُل ذَلِكَ وَلاَ مَعْنَاهُ، بَل قَال: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ، فَقَبِل الآْخَرُ أَوْ قَال: عَلَى أَنْ يَكُونَ بُضْعُ بِنْتِي صَدَاقًا لِبِنْتِكَ فَلَمْ يَقْبَل الآْخَرُ بَل زَوَّجَهُ بِنْتَهُ وَلَمْ يَجْعَلْهَا صَدَاقًا، لَمْ يَكُنْ شِغَارًا وَإِنَّمَا نِكَاحًا صَحِيحًا بِاتِّفَاقٍ (2) .
__________
(1) حديث: " نهى أن تنكح المرأة بالمرأة " أورده بهذا اللفظ الكاساني في البدائع (2 / 278 - ط الحلبي) ، ولم يعزه إلى أي مصدر، وسيأتي بلفظ مشهور ويأتي تخريجه.
(2) البدائع 2 / 278، حاشية ابن عابدين 2 / 332، 292، والمغني 6 / 641.(26/127)
3 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ صَرِيحَ الشِّغَارِ هُوَ أَنْ يَقُول الرَّجُل لِلرَّجُل: زَوِّجْنِي بِنْتَكَ أَوْ أُخْتَكَ أَوْ أَمَتَكَ عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ بِنْتِي أَوْ أُخْتِي مَعَ جَعْل تَزْوِيجِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَهْرًا لِلأُْخْرَى. فَهَذَا النِّكَاحُ فَاسِدٌ يُفْسَخُ قَبْل الْبِنَاءِ وَبَعْدَ الْبِنَاءِ أَبَدًا، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بَعْدَ الْبِنَاءِ صَدَاقُ الْمِثْل.
وَإِنْ سَمَّى لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرًا دُونَ الأُْخْرَى كَأَنْ يَقُول: زَوِّجْنِي بِنْتَكَ بِمِائَةٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ مَثَلاً عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ بِنْتِي فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ أَيْضًا، وَيُفْسَخُ نِكَاحُ مَنْ لَمْ يُسَمَّ لَهَا صَدَاقٌ قَبْل الْبِنَاءِ وَبَعْدَ الْبِنَاءِ أَبَدًا، وَلَهَا بَعْدَ الْبِنَاءِ صَدَاقُ مِثْلِهَا. أَمَّا الْمُسَمَّى لَهَا الصَّدَاقُ فَيُفْسَخُ نِكَاحُهَا قَبْل الْبِنَاءِ وَيَمْضِي بَعْدَ الْبِنَاءِ بِالأَْكْثَرِ مِنَ الْمُسَمَّى وَصَدَاقِ الْمِثْل، وَيُسَمَّى هَذَا النِّكَاحُ بِمَرْكَبِ الشِّغَارِ عِنْدَهُمْ. وَإِنْ سَمَّى لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرًا كَأَنْ يَقُول: زَوِّجْنِي بِنْتَكَ وَنَحْوَهَا بِمِائَةٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ مَثَلاً عَلَى شَرْطِ أَنْ أُزَوِّجَكَ ابْنَتِي أَوْ أُخْتِي أَوْ أَمَتِي بِمِائَةٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ فَهَذَا النِّكَاحُ فَاسِدٌ كَذَلِكَ يُفْسَخُ قَبْل الْبِنَاءِ وَيَمْضِي بَعْدَ الْبِنَاءِ بِالأَْكْثَرِ مِنَ الْمُسَمَّى وَصَدَاقِ الْمِثْل، وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ وَجْهَ الشِّغَارِ (1) .
4 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ نِكَاحَ الشِّغَارِ -
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 311، مواهب الجليل 3 / 512.(26/128)
وَهُوَ قَوْل الرَّجُل لِلرَّجُل زَوَّجْتُكَ بِنْتِي أَوْ نَحْوَهَا عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ أَوْ نَحْوَهَا وَبُضْعُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقُ الأُْخْرَى، فَيَقْبَل الآْخَرُ ذَلِكَ كَأَنْ يَقُول: تَزَوَّجْتُ بِنْتَكَ وَزَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى مَا ذَكَرْتُ - بَاطِلٌ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشِّغَارِ، وَالشِّغَارُ أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُل ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآْخَرُ ابْنَتَهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ (1) وَلِمَعْنَى الاِشْتِرَاكِ فِي الْبُضْعِ حَيْثُ جَعَلَهُ مَوْرِدَ النِّكَاحِ وَصَدَاقًا لأُِخْرَى فَأَشْبَهَ تَزْوِيجَ وَاحِدَةٍ مِنِ اثْنَيْنِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: عِلَّةُ الْبُطْلاَنِ، التَّعْلِيقُ وَالتَّوَقُّفُ الْمَوْجُودُ فِي هَذَا النِّكَاحِ، وَقِيل لِخُلُوِّهِ مِنَ الْمَهْرِ. فَإِنْ لَمْ يُجْعَل الْبُضْعُ صَدَاقًا بِأَنْ سَكَتَ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ فَالأَْصَحُّ الصِّحَّةُ لِعَدَمِ التَّشْرِيكِ فِي الْبُضْعِ وَلأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ شَرْطُ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ وَذَلِكَ لاَ يُفْسِدُ النِّكَاحَ وَيَجِبُ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ الْمِثْل.
فَعَلَى هَذَا لَوْ قَال: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَكَ وَبُضْعُ ابْنَتِكَ صَدَاقٌ لاِبْنَتِي صَحَّ النِّكَاحُ الأَْوَّل وَبَطَل النِّكَاحُ الثَّانِي.
__________
(1) حديث ابن عمر: نهى عن الشغار: أخرجه البخاري (الفتح 9 / 162 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1034 - ط الحلبي) .(26/128)
وَلَوْ قَال: وَبُضْعُ ابْنَتِي صَدَاقٌ لاِبْنَتِكَ بَطَل الأَْوَّل وَصَحَّ الثَّانِي.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي - وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ - لاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّعْلِيقِ وَالتَّوَقُّفِ.
وَلَوْ سَمَّيَا مَالاً مَعَ جَعْل الْبُضْعِ صَدَاقًا كَأَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي بِأَلْفٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ مَثَلاً عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ بِأَلْفٍ كَذَلِكَ وَبُضْعُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقٌ لِلأُْخْرَى، أَوْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ وَيَكُونَ بُضْعُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَأَلْفُ دِرْهَمٍ صَدَاقًا لِلأُْخْرَى، فَالأَْصَحُّ بُطْلاَنُ هَذَا النِّكَاحِ لِوُجُودِ التَّشْرِيكِ فِيهِ.
وَكَذَا إِذَا سَمَّيَا لإِِحْدَاهُمَا مَهْرًا دُونَ الأُْخْرَى كَأَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي بِنْتَكَ وَبُضْعُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقٌ لِلأُْخْرَى فَالأَْصَحُّ بُطْلاَنُهُ أَيْضًا لِوُجُودِ مَعْنَى التَّشْرِيكِ فِيهِ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي - وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ - يَصِحُّ النِّكَاحُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ لأَِنَّهُ لَيْسَ عَلَى تَفْسِيرِ صُورَةِ الشِّغَارِ وَلأَِنَّهُ لَمْ يَخْل عَنِ الْمَهْرِ.
وَمِنْ صُوَرِ الشِّغَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَ ابْنِي ابْنَتَكَ وَبُضْعُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَدَاقُ الأُْخْرَى.(26/129)
وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ زَيْدٌ مَثَلاً ابْنَتَهُ وَصَدَاقُ الْبِنْتِ بُضْعُ الْمُطَلَّقَةِ فَزَوَّجَهُ عَلَى ذَلِكَ، صَحَّ التَّزْوِيجُ بِمَهْرِ الْمِثْل؛ لِفَسَادِ الْمُسَمَّى وَوَقَعَ الطَّلاَقُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ (1) .
5 - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشِّغَارَ - وَهُوَ أَنْ يُزَوِّجَ شَخْصٌ وَلِيَّتَهُ لِشَخْصٍ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآْخَرُ وَلِيَّتَهُ - نِكَاحٌ فَاسِدٌ، لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الشِّغَارِ (2) . وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ جَلَبَ وَلاَ جَنَبَ وَلاَ شِغَارَ فِي الإِْسْلاَمِ (3) . وَلأَِنَّهُ جَعَل كُل وَاحِدٍ مِنَ الْعَقْدَيْنِ سَلَفًا فِي الآْخَرِ فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ قَال: بِعْنِي ثَوْبَكَ عَلَى أَنْ أَبِيعَكَ ثَوْبِي.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُول: عَلَى أَنَّ صَدَاقَ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بُضْعُ الأُْخْرَى، أَوْ لَمْ يَقُل ذَلِكَ بِأَنْ سَكَتَا عَنْهُ أَوْ شَرَطَا نَفْيَهُ، وَكَذَا لَوْ جَعَلاَ بُضْعَ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَدَرَاهِمَ مَعْلُومَةً مَهْرًا لِلأُْخْرَى.
قَالُوا: وَلَيْسَ فَسَادُ نِكَاحِ الشِّغَارِ مِنْ قِبَل التَّسْمِيَةِ الْفَاسِدَةِ، بَل مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ وَقَفَهُ عَلَى
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 142، روضة الطالبين 7 / 41 - 40.
(2) حديث: " نهى عن الشغار " تقدم تخريجه ف 4.
(3) حديث: " لا جلب ولا جنب ولا. . . " أخرجه النسائي (6 / 111 - ط المكتبة التجارية) من حديث عمران بن حصين، وفي إسناده مقال. ولكن أورد له ابن حجر شواهد تقويه (تلخيص الحبير) (2 / 161، 162 - ط شركة الطباعة الفنية) .(26/129)
شَرْطٍ فَاسِدٍ، أَوْ لأَِنَّهُ شَرَطَ تَمْلِيكَ الْبُضْعِ لِغَيْرِ الزَّوْجِ، فَإِنَّهُ جَعَل تَزْوِيجَهُ إِيَّاهَا مَهْرًا لِلأُْخْرَى فَكَأَنَّهُ مَلَّكَهُ إِيَّاهَا بِشَرْطِ انْتِزَاعِهَا مِنْهُ.
فَإِنْ سَمَّيَا لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرًا كَأَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَكَ وَمَهْرُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ، أَوْ قَال: وَمَهْرُ ابْنَتِي مِائَةٌ وَمَهْرُ ابْنَتِكَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرُ صَحَّ النِّكَاحُ بِالْمُسَمَّى، وَهُوَ الْمَذْهَبُ كَمَا هُوَ مَنْصُوصُ الإِْمَامِ أَحْمَدَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَحْصُل فِي هَذَا الْعَقْدِ تَشْرِيكٌ وَإِنَّمَا حَصَل فِيهِ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَبَطَل الشَّرْطُ وَصَحَّ النِّكَاحُ. وَقَال الْخِرَقِيُّ: هَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ لِلنَّهْيِ الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ، وَلأَِنَّهُ شَرَطَ نِكَاحَ إِحْدَاهُمَا لِنِكَاحِ الأُْخْرَى فَلَمْ يَصِحَّ. وَإِنْ سَمَّيَا الْمَهْرَ لإِِحْدَاهُمَا دُونَ الأُْخْرَى صَحَّ نِكَاحُ مَنْ سُمِّيَ لَهَا؛ لأَِنَّ فِي نِكَاحِهَا تَسْمِيَةً وَشَرْطًا. فَصَحَّتِ التَّسْمِيَةُ وَبَطَل الشَّرْطُ دُونَ الأُْخْرَى الَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَهَا مَهْرٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ خَلاَ مِنْ صَدَاقٍ سِوَى نِكَاحِ الأُْخْرَى.
وَقَال أَبُو بَكْرٍ بِفَسَادِ النِّكَاحَيْنِ لأَِنَّهُ فَسَدَ فِي إِحْدَاهُمَا فَيَفْسُدُ فِي الأُْخْرَى (1) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 6 / 641، وكشاف القناع 5 / 92.(26/130)
رَاجِعِ التَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاحٌ، مَهْرٌ، صَدَاقٌ) .
شَغْل الذِّمَّةِ
انْظُرْ اشْتِغَال الذِّمَّةِ، ذِمَّةٌ(26/130)
شَفَاعَةٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الشَّفَاعَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ شَفَعَ إِلَى فُلاَنٍ فِي الأَْمْرِ شَفْعًا، وَشَفَاعَةً طَالَبَهُ بِوَسِيلَةٍ، أَوْ ذِمَامٍ (1) . أَوْ هِيَ التَّوَسُّطُ بِالْقَوْل فِي وُصُول شَخْصٍ إِلَى مَنْفَعَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ أَوْ أُخْرَوِيَّةٍ أَوْ إِلَى خَلاَصٍ مِنْ مَضَرَّةٍ كَذَلِكَ (2) . أَوْ هِيَ سُؤَال التَّجَاوُزِ عَنِ الذُّنُوبِ مِنَ الَّذِي وَقَعَ الْجِنَايَةُ فِي حَقِّهِ (3) . وَاسْتُشْفِعَ بِفُلاَنٍ إِلَيَّ طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يُشَفَّعَ فَشَفَّعْتُهُ أَيْ قَبِلْتُ شَفَاعَتَهُ (4) .
2 - وَالشَّفَاعَةُ إِنْ كَانَتْ إِلَى اللَّهِ فَهِيَ الدُّعَاءُ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ، فَفِي الأَْثَرِ: مَنْ دَعَا لأَِخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَال الْمَلَكُ الْمُوَكَّل بِهِ: وَلَكَ بِمِثْلٍ (5) . وَإِنْ كَانَتْ إِلَى النَّاسِ فَهِيَ كَلاَمُ الشَّفِيعِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) الفتوحات الإلهية في تفسير آية: (من يشفع شفاعة حسنة) (الآية 85 من سورة النساء) .
(3) التعريفات للجرجاني.
(4) القاموس.
(5) حديث: " من دعا لأخيه بظهر الغيب. . . " أخرجه مسلم (4 / 2094 - ط الحلبي) من حديث أبي الدرداء.(26/131)
فِي حَاجَةٍ يَطْلُبُهَا لِغَيْرِهِ إِلَى مَنْ يَسْتَطِيعُ قَضَاءَهَا كَالْمَلِكِ مَثَلاً (1) . وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْغَاثَةُ:
3 - وَهُوَ مِنْ أَغَاثَ الْمَكْرُوبَ إِغَاثَةً وَمَغُوثَةً: أَيْ فَرَّجَ عَنْهُ وَنَصَرَهُ فِي حَالَةِ الشِّدَّةِ (2) . فَكُلٌّ مِنَ الشَّفَاعَةِ وَالإِْغَاثَةِ مَعُونَةٌ لِلطَّالِبِ
ب - التَّوَسُّل:
4 - وَهُوَ التَّقَرُّبُ يُقَال: تَوَسَّلْتُ إِلَى اللَّهِ بِالْعَمَل وَتَوَسَّل بِفُلاَنٍ إِلَى كَذَا (3) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّفَاعَةِ:
الشَّفَاعَةُ قِسْمَانِ: شَفَاعَةٌ حَسَنَةٌ، وَشَفَاعَةٌ سَيِّئَةٌ.
الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ:
5 - أ - الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ: وَهِيَ: أَنْ يَشْفَعَ الشَّفِيعُ لإِِزَالَةِ ضَرَرٍ أَوْ رَفْعِ مَظْلَمَةٍ عَنْ مَظْلُومٍ، أَوْ جَرِّ مَنْفَعَةٍ إِلَى مُسْتَحِقٍّ لَيْسَ فِي جَرِّهَا ضَرَرٌ وَلاَ ضِرَارٌ، فَهَذِهِ مَرْغُوبٌ فِيهَا مَأْمُورٌ بِهَا، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (4) . وَلِلشَّفِيعِ نَصِيبٌ فِي
__________
(1) لسان العرب، الفتوحات الإلهية.
(2) متن اللغة.
(3) المصباح المنير.
(4) سورة المائدة / 2.(26/131)
أَجْرِهَا وَثَوَابِهَا قَال اللَّهُ تَعَالَى (1) : {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} (2) وَيَنْدَرِجُ فِيهَا دُعَاءُ الْمُسْلِمِ لأَِخِيهِ الْمُسْلِمِ عَنْ ظَهْرِ الْغَيْبِ.
الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ:
5 - ب - الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ هِيَ: أَنْ يَشْفَعَ فِي إِسْقَاطِ حَدٍّ بَعْدَ بُلُوغِهِ السُّلْطَانَ أَوْ هَضْمِ حَقٍّ أَوْ إِعْطَائِهِ لِغَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لأَِنَّهُ تَعَاوُنٌ عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ. قَال تَعَالَى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (3) وَلِلشَّفِيعِ فِي هَذَا كِفْلٌ مِنَ الإِْثْمِ. قَال تَعَالَى: {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا. . .} (4) الآْيَةَ. وَالضَّابِطُ الْعَامُّ: أَنَّ الشَّفَاعَةَ الْحَسَنَةَ هِيَ: مَا كَانَتْ فِيمَا اسْتَحْسَنَهُ الشَّرْعُ، وَالسَّيِّئَةَ فِيمَا كَرِهَهُ وَحَرَّمَهُ (5) .
وَالشَّفَاعَةُ تَكُونُ فِي الآْخِرَةِ وَفِي الدُّنْيَا:
أَوَّلاً - الشَّفَاعَةُ فِي الآْخِرَةِ:
6 - أَجْمَعَ أَهْل السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ عَلَى وُقُوعِ الشَّفَاعَةِ فِي الآْخِرَةِ وَوُجُوبِ الإِْيمَانِ بِهَا. لِصَرِيحِ قَوْله تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ
__________
(1) تفسير فخر الرازي في تفسير آية (من يشفع شفاعة حسنة) الفتوحات الإلهية.
(2) سورة النساء رقم 85.
(3) سورة المائدة / 2.
(4) سورة النساء / 85.
(5) المصادر السابقة.(26/132)
الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} (1) وَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} (2) وَقَدْ جَاءَتِ الأَْحَادِيثُ الَّتِي بَلَغَتْ بِمَجْمُوعِهَا حَدَّ التَّوَاتُرِ بِصِحَّةِ الشَّفَاعَةِ فِي الآْخِرَةِ لِمُذْنِبِي الْمُسْلِمِينَ، فَيَشْفَعُ لَهُ مَنْ يَأْذَنُ لَهُ الرَّحْمَنُ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَصَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ (3) .
جَاءَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ فَيَقُول اللَّهُ عَزَّ وَجَل: شَفَعَتِ الْمَلاَئِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ. . إِلَخْ. (4)
7 - قَال الْعُلَمَاءُ: الشَّفَاعَةُ فِي الآْخِرَةِ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ:
أَوَّلُهَا: مُخْتَصَّةٌ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ: الإِْرَاحَةُ مِنْ هَوْل الْمَوْقِفِ، وَتَعْجِيل الْحِسَابِ، وَهِيَ: الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى.
ثَانِيهَا: فِي إِدْخَال قَوْمٍ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَهَذِهِ أَيْضًا خَاصَّةٌ بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثَالِثُهَا: الشَّفَاعَةُ لِقَوْمٍ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ فَيَشْفَعُ فِيهِمْ نَبِيُّنَا، وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
__________
(1) سورة طه / 109.
(2) سورة الأنبياء / 28.
(3) شرح النووي لصحيح مسلم 3 / 35.
(4) حديث الشفاعة: " فيقول الله: شفعت الملائكة " أخرجه مسلم (1 / 170 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري.(26/132)
رَابِعُهَا: فِيمَنْ دَخَل النَّارَ مِنَ الْمُذْنِبِينَ: فَقَدْ جَاءَتِ الأَْحَادِيثُ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَلاَئِكَةِ وَإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
خَامِسُهَا. فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ لأَِهْلِهَا (1) .
8 - وَيَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَسْأَل اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهُ شَفَاعَةَ الْحَبِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: " قَدْ عُرِفَ بِالنَّقْل الْمُسْتَفِيضِ سُؤَال السَّلَفِ الصَّالِحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: شَفَاعَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَغْبَتُهُمْ فِيهَا، وَعَلَى هَذَا لاَ يُلْتَفَتُ إِلَى مَنْ قَال: إِنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَسْأَل الإِْنْسَانُ اللَّهَ تَعَالَى: أَنْ يَرْزُقَهُ شَفَاعَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَوْنِهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ لِلْمُذْنِبِينَ؛ لأَِنَّ الشَّفَاعَةَ قَدْ تَكُونُ لِتَخْفِيفِ الْحِسَابِ، وَزِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ. ثُمَّ كُل عَاقِلٍ: مُعْتَرِفٌ بِالتَّقْصِيرِ مُحْتَاجٌ إِلَى الْعَفْوِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِعَمَلِهِ مُشْفِقٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ. وَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِل أَلاَ يَدْعُوَ بِالْمَغْفِرَةِ، وَالرَّحْمَةِ لأَِنَّهَا لأَِصْحَابِ الذُّنُوبِ (2) ".
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 113، أسنى المطالب 3 / 104، الشرقاوي على شرح التحرير 2 / 320، شرح صحيح مسلم للنووي 3 / 35.
(2) شرح صحيح مسلم للنووي 3 / 36.(26/133)
ثَانِيًا - الشَّفَاعَةُ فِي الدُّنْيَا:
أ - الشَّفَاعَةُ فِي الْحَدِّ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْرِيمِ الشَّفَاعَةِ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ إِلَى الْحَاكِمِ (1) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأُِسَامَةَ لَمَّا كَلَّمَهُ فِي شَأْنِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ . ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَال: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا (2) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ (3) وَلأَِنَّ الْحَدَّ إِذَا بَلَغَ الْحَاكِمَ وَثَبَتَ عِنْدَهُ وَجَبَ إِقَامَتُهُ وَالسَّعْيُ لِتَرْكِ وَاجِبٍ أَمْرٌ بِالْمُنْكَرِ، وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُ. الْحَنَفِيَّةِ جَوَازَ الشَّفَاعَةِ عِنْدَ الرَّافِعِ لَهُ بَعْدَ وُصُولِهَا إِلَى الْحَاكِمِ وَقَبْل الثُّبُوتِ عِنْدَهُ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 140، حاشية الجمل 5 / 162 - 165، أسنى المطالب 4 / 131، شرح الزرقاني 8 / 92، المدونة 6 / 271، مطالب أولي النهى 6 / 159.
(2) حديث: " أتشفع في حد من حدود الله " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 513 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1315 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(3) حديث: " من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله " أخرجه أبو داود (4 / 23 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ابن عمر وإسناده صحيح.(26/133)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَكَذَلِكَ لاَ تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ إِذَا بَلَغَ الْحَدُّ الشُّرَطَ وَالْحَرَسَ لأَِنَّ الشُّرَطَ وَالْحَرَسَ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ (1) .
أَمَّا قَبْل بُلُوغِهِ إِلَى مَنْ ذُكِرَ فَتَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِيهِ لِمَا وَرَدَ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ مُرَّ عَلَيْهِ بِسَارِقٍ فَتَشَفَّعَ لَهُ، قَالُوا: أَتَشْفَعُ لِسَارِقٍ؟ قَال: نَعَمْ، مَا لَمْ يُؤْتَ بِهِ إِلَى الإِْمَامِ، فَإِذَا أُتِيَ بِهِ إِلَى الإِْمَامِ فَلاَ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ إِنْ عَفَا عَنْهُ (2) .
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَشْفُوعُ فِيهِ مِنَ الأَْشْرَارِ الَّذِينَ مَرَدُوا عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي الَّتِي تُوجِبُ الْحَدَّ، فَلاَ يَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِيهِ (3) .
ب - الشَّفَاعَةُ فِي التَّعَازِيرِ:
10 - أَمَّا التَّعَازِيرُ: فَيَجُوزُ فِيهَا الشَّفَاعَةُ بَلَغَتِ الْحَاكِمَ أَمْ لاَ، بَل يُسْتَحَبُّ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْفُوعُ لَهُ صَاحِبَ شَرٍّ (4) .
__________
(1) المدونة 6 / 271.
(2) أثر أن الزبير مر عليه بسارق أخرجه ابن أبي شيبة (9 / 465 - ط الدار السلفية - بمبي) وحسنه ابن حجر في الفتح (12 / 87 - ط السلفية) ، وورد عنده كذلك عن علي بن أبي طالب وحسنه ابن حجر كذلك.
(3) المصادر السابقة والقوانين الفقهية 349، 354، ومواهب الجليل 6 / 320، والشرح الصغير 4 / 489.
(4) المصادر السابقة، زرقاني 8 / 92.(26/134)
ج - الشَّفَاعَةُ إِلَى وُلاَةِ الأُْمُورِ:
11 - الشَّفَاعَةُ إِلَى وُلاَةِ الأُْمُورِ إِنْ كَانَتْ فِي حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ (1) .
لِقَوْلِهِ تَعَالَى. {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} (2) . . . الآْيَةَ. وَلِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ أَقْبَل عَلَى جُلَسَائِهِ فَقَال: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا (3) وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا أَحَبَّ.
أَخْذُ الْهَدِيَّةِ عَلَى الشَّفَاعَةِ:
12 - إِنْ أَهْدَى الْمَشْفُوعُ لَهُ هَدِيَّةً لِمَنْ يَشْفَعُ لَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَنَحْوِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْوِلاَيَةِ فَإِنْ كَانَتِ الشَّفَاعَةُ لِطَلَبِ مَحْظُورٍ، أَوْ إِسْقَاطِ حَقٍّ أَوْ مَعُونَةٍ عَلَى ظُلْمٍ، أَوْ تَقْدِيمِهِ فِي وِلاَيَةٍ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ أَوْلَى بِهَا مِنْهُ، فَقَبُولُهَا حَرَامٌ بِالاِتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ: لِرَفْعِ مَظْلَمَةٍ عَنِ الْمَشْفُوعِ لَهُ أَوْ إِيصَال حَقٍّ لَهُ أَوْ تَوْلِيَتِهِ وِلاَيَةً يَسْتَحِقُّهَا، فَإِنْ شَرَطَ الْهَدِيَّةَ عَلَى الْمَشْفُوعِ لَهُ فَقَبُولُهَا حَرَامٌ أَيْضًا. وَإِنْ قَال الْمَشْفُوعُ لَهُ: هَذِهِ الْهَدِيَّةُ جَزَاءُ شَفَاعَتِكَ فَقَبُولُهَا حَرَامٌ كَذَلِكَ. أَمَّا إِنْ لَمْ يَشْرِطِ الشَّافِعُ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُهْدِي أَنَّهَا جَزَاءٌ فَإِنْ كَانَ يُهْدَى لَهُ
__________
(1) حاشية الجمل 5 / 165، الإقناع للخطيب 2 / 183.
(2) سورة النساء / 85.
(3) حديث: " كان إذا أتاه طالب حاجة " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 299 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2026 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.(26/134)
قَبْل الشَّفَاعَةِ فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُكْرَهُ لَهُ الْقَبُول، وَإِلاَّ كُرِهَ إِلاَّ أَنْ يُكَافِئَهُ عَلَيْهَا فَإِنْ كَافَأَهُ عَلَيْهَا لَمْ يُكْرَهْ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجُوزُ لِلشَّافِعِ أَخْذُ هَدِيَّةٍ بِحَالٍ مِنَ الأَْحْوَال، لأَِنَّهَا كَالأُْجْرَةِ، وَالشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فَيَحْرُمُ أَخْذُ شَيْءٍ فِي مُقَابِلِهَا. أَمَّا الْبَاذِل فَلَهُ أَنْ يَبْذُل فِي ذَلِكَ مَا يَتَوَصَّل بِهِ إِلَى حَقِّهِ. وَهُوَ الْمَنْقُول عَنِ السَّلَفِ وَالأَْئِمَّةِ (2) .
الاِسْتِشْفَاعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَهْل الصَّلاَحِ:
13 - الاِسْتِشْفَاعُ بِالأَْعْمَال الصَّالِحَةِ وَبِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَهْل الصَّلاَحِ هُوَ مِنَ التَّوَسُّل، وَيُنْظَرُ حُكْمُهُ فِي (تَوَسُّلٌ) .
__________
(1) حاشية الرملي على روضة الطالب 4 / 300.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 481، كشاف القناع 6 / 317.(26/135)
شَفْرُ الْعَيْنِ
انْظُرْ: قِصَاصٌ، دِيَاتٌ، حُكُومَةُ عَدْلٍ
شَفْرُ الْفَرْجِ
انْظُرْ: قِصَاصٌ، دِيَاتٌ، حُكُومَةُ عَدْلٍ
شَفْعٌ
انْظُرْ: نَوَافِل، تَطَوُّعٌ(26/135)
شُفْعَةٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الشُّفْعَةُ بِضَمِّ الشِّينِ وَسُكُونِ الْفَاءِ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى التَّمَلُّكِ، وَتَأْتِي أَيْضًا اسْمًا لِلْمِلْكِ الْمَشْفُوعِ كَمَا قَال الْفَيُّومِيُّ. وَهِيَ مِنَ الشَّفْعِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْوَتْرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ ضَمِّ عَدَدٍ إِلَى عَدَدٍ أَوْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، يُقَال: شَفَعَ الرَّجُل الرَّجُل شَفْعًا إِذَا كَانَ فَرْدًا فَصَارَ لَهُ ثَانِيًا وَشَفَعَ الشَّيْءَ شَفْعًا ضَمَّ مِثْلَهُ إِلَيْهِ وَجَعَلَهُ زَوْجًا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا: " تَمْلِيكُ الْبُقْعَةِ جَبْرًا عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا قَامَ عَلَيْهِ. أَوْ هِيَ حَقُّ تَمَلُّكٍ قَهْرِيٍّ يَثْبُتُ لِلشَّرِيكِ الْقَدِيمِ عَلَى الْحَادِثِ فِيمَا مُلِكَ بِعِوَضٍ (2) "
__________
(1) القاموس، والمعجم الوسيط، والمصباح، مادة: (شفع) .
(2) حاشية رد المحتار على الدر المختار 5 / 142، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 5 / 192، وحاشية سعدي حلبي بهامش فتح القدير 6 / 406، والتاج والإكليل لمختصر خليل 4 / 310، والخرشي على مختصر خليل 6 / 161.(26/136)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ:
2 - الْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: الْبَيْعُ الْحَاصِل مِنْ مُكْرَهٍ بِحَقٍّ، أَوِ الْبَيْعُ عَلَيْهِ نِيَابَةً عَنْهُ، لإِِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ، أَوْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ، أَوْ لِتَحْقِيقِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ (1) . فَالْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ أَعَمُّ مِنَ الشُّفْعَةِ.
ب - التَّوْلِيَةُ:
3 - التَّوْلِيَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ هِيَ: بَيْعُ مَا مَلَكَهُ بِمِثْل مَا قَامَ عَلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنْ بَيْعِ التَّوْلِيَةِ وَالشُّفْعَةِ بَيْعٌ بِمِثْل مَا اشْتَرَى وَيَخْتَلِفَانِ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الشُّفْعَةُ حَقٌّ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَلِصَاحِبِهِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ أَوْ تَرْكُهُ (2) ، لَكِنْ قَال الشَّبْرَامَلِّسِيُّ - مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - إِنْ تَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِ الشُّفْعَةِ مَعْصِيَةٌ - كَأَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي مَشْهُورًا بِالْفِسْقِ وَالْفُجُورِ - فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الأَْخْذُ بِهَا مُسْتَحَبًّا بَل وَاجِبًا إِنْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِدَفْعِ مَا يُرِيدُهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْفُجُورِ (3) .
__________
(1) المصباح المنير مادة جبر، وأسنى المطالب 2 / 2، وهذا التعريف مستخلص من أمثلة البيع الجبري من كتب الفقه، وانظر الموسوعة الفقهية 9 / 70.
(2) شرح الكنز للزيلعي 5 / 239، ونهاية المحتاج 5 / 192، حاشية البجيرمي 3 / 133، والمغني 5 / 459 - 460.
(3) نهاية المحتاج مع حاشية الشبراملسي 5 / 193.(26/136)
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ السُّنَّةِ بِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - 43 - قَال: قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُل مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ، وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فَلاَ شُفْعَةَ (1)
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَال جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُل شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ، لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ (2) . وَعَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ (3) .
وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُقَاسِمْ فِيمَا بِيعَ مِنْ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ أَوْ حَائِطٍ (4) . حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الشُّفْعَةِ:
5 - لَمَّا كَانَتِ الشَّرِكَةُ مَنْشَأَ الضَّرَرِ فِي الْغَالِبِ وَكَانَ الْخُلَطَاءُ كَثِيرًا مَا يَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى
__________
(1) حديث جابر: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة " أخرجه البخاري (4 / 436 - ط. السلفية) .
(2) حديث جابر: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة " أخرجه مسلم (3 / 1229 - ط. الحلبي) .
(3) حديث: " جار الدار أحق بالدار " أخرجه الترمذي (3 / 641 - ط. الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(4) المغني 5 / 460، وانظر أيضًا مغني المحتاج 2 / 296.(26/137)
بَعْضٍ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَفْعَ هَذَا الضَّرَرِ بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ:
(1) بِالْقِسْمَةِ تَارَةً وَانْفِرَادِ كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ بِنَصِيبِهِ
(2) وَبِالشُّفْعَةِ تَارَةً أُخْرَى وَانْفِرَادِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِالْجُمْلَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الآْخَرِ ضَرَرٌ فِي ذَلِكَ.
فَإِذَا أَرَادَ بَيْعَ نَصِيبِهِ وَأَخْذَ عِوَضِهِ كَانَ شَرِيكُهُ أَحَقَّ بِهِ مِنَ الأَْجْنَبِيِّ وَهُوَ يَصِل إِلَى غَرَضِهِ مِنَ الْعِوَضِ مِنْ أَيِّهِمَا كَانَ فَكَانَ الشَّرِيكُ أَحَقَّ بِدَفْعِ الْعِوَضِ مِنَ الأَْجْنَبِيِّ وَيَزُول عَنْهُ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ وَلاَ يَتَضَرَّرُ الْبَائِعُ لأَِنَّهُ يَصِل إِلَى حَقِّهِ مِنَ الثَّمَنِ وَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْعَدْل وَأَحْسَنِ الأَْحْكَامِ الْمُطَابِقَةِ لِلْعُقُول وَالْفِطَرِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ. كَمَا قَال ابْنُ الْقَيِّمِ (1) .
وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الشُّفْعَةِ كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ، دَفْعُ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ وَاسْتِحْدَاثِ الْمَرَافِقِ وَغَيْرِهَا كَمِنْوَرٍ وَمِصْعَدٍ وَبَالُوعَةٍ فِي الْحِصَّةِ الصَّائِرَةِ إِلَيْهِ، وَقِيل ضَرَرِ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ (2) .
__________
(1) أعلام الموقعين 2 / 247.
(2) نهاية المحتاج 5 / 192، حاشية البجيرمي 3 / 134، وانظر المبسوط للسرخسي 14 / 91، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 5 / 239، ابن عابدين 5 / 142.(26/137)
أَسْبَابُ الشُّفْعَةِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَهُ حِصَّةٌ شَائِعَةٌ فِي نَفْسِ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ مَا لَمْ يُقْسَمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الاِتِّصَال بِالْجِوَارِ وَحُقُوقِ الْمَبِيعِ فَاعْتَبَرَهُمَا الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَسْبَابِ الشُّفْعَةِ خِلاَفًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ عَلَى الشُّيُوعِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَهُ حِصَّةٌ شَائِعَةٌ فِي ذَاتِ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ مَا دَامَ لَمْ يُقَاسِمْ (1) . وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السَّابِقِ ف / 4
الشَّرِكَةُ الَّتِي تَكُونُ مَحَلًّا لِلشُّفْعَةِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الشَّرِكَةِ الَّتِي تَكُونُ مَحَلًّا لِلشُّفْعَةِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ مَالِكٌ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ كُل مَا لاَ يَنْقَسِمُ - كَالْبِئْرِ، وَالْحَمَّامِ الصَّغِيرِ، وَالطَّرِيقِ - لاَ شُفْعَةَ فِيهِ (2) .
__________
(1) البدائع 6 / 2681، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 5 / 252، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 474، نهاية المحتاج 5 / 195، حاشية البجيرمي 3 / 136، المغني 5 / 461، منتهى الإرادات 1 / 527.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 476، الخرشي 6 / 163، بلغة السالك لأقرب المسالك ومعها الشرح الصغير 2 / 228، نهاية المحتاج 5 / 195، مغني المحتاج 2 / 297، الأم 2 / 4، المغني 5 / 461، منتهى الإرادات 1 / 557، المقنع 2 / 258.(26/138)
لأَِنَّ إِثْبَاتَ الشُّفْعَةِ فِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ يَضُرُّ بِالْبَائِعِ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ فِي نَصِيبِهِ بِالْقِسْمَةِ وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْمُشْتَرِي لأَِجْل الشَّفِيعِ فَيَتَضَرَّرُ الْبَائِعُ وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ فَتَسْقُطُ الشُّفْعَةُ فَيُؤَدِّي إِثْبَاتُهَا إِلَى نَفْيِهَا (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَمَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ فِي الْعَقَارِ سَوَاءٌ قَبِل الْقِسْمَةَ أَمْ لَمْ يَقْبَلْهَا.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ حَدِيثِ جَابِرٍ قَال: قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُل مَا لَمْ يُقْسَمْ (2) .
وَلأَِنَّ الشُّفْعَةَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ اللاَّحِقِ بِالشَّرِكَةِ فَتَجُوزُ فِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ، فَإِذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي عَيْنٍ مِنَ الأَْعْيَانِ، لَمْ يَكُنْ دَفْعُ ضَرَرِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ دَفْعِ ضَرَرِ الآْخَرِ فَإِذَا بَاعَ نَصِيبَهُ كَانَ شَرِيكُهُ أَحَقَّ بِهِ مِنَ الأَْجْنَبِيِّ، إِذْ فِي ذَلِكَ إِزَالَةُ ضَرَرِهِ مَعَ عَدَمِ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 5 / 466.
(2) حديث: " قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم " سبق تخريجه ف 4.(26/138)
تَضَرُّرِ صَاحِبِهِ، فَإِنَّهُ يَصِل إِلَى حَقِّهِ مِنَ الثَّمَنِ وَيَصِل هَذَا إِلَى اسْتِبْدَادِهِ بِالْمَبِيعِ فَيَزُول الضَّرَرُ عَنْهُمَا جَمِيعًا (1) .
وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ الضَّرَرَ بِالشَّرِكَةِ فِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ أَبْلَغُ مِنَ الضَّرَرِ بِالْعَقَارِ الَّذِي يَقْبَل الْقِسْمَةَ، فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ مُرِيدًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ الأَْدْنَى فَالأَْعْلَى أَوْلَى بِالدَّفْعِ، وَلَوْ كَانَتِ الأَْحَادِيثُ مُخْتَصَّةً بِالْعَقَارَاتِ الْمَقْسُومَةِ فَإِثْبَاتُ الشُّفْعَةِ فِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى ثُبُوتِهَا فِيمَا لاَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ (2) .
الشَّفْعَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ:
10 - الشَّرِكَةُ الْمُجِيزَةُ لِلشُّفْعَةِ هِيَ الشَّرِكَةُ فِي الْمِلْكِ فَقَطْ، فَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ فِي رَقَبَةِ الْعَقَارِ.
أَمَّا الشَّرِكَةُ فِي مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فَلاَ تَثْبُتُ فِيهَا الشُّفْعَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِي قَوْلٍ لِمَالِكٍ لِلشَّرِيكِ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمُطَالَبَةُ بِالشُّفْعَةِ أَيْضًا. قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: (لاَ شُفْعَةَ لِشَرِيكٍ فِي كِرَاءٍ، فَإِنِ اكْتَرَى شَخْصَانِ دَارًا مَثَلاً ثُمَّ أَكْرَى أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ مَنْفَعَتِهَا فَلاَ شُفْعَةَ فِيهِ لِشَرِيكِهِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ مَالِكٍ، وَلَهُ
__________
(1) البدائع 6 / 2686، بشرح الكنز 5 / 252، ابن عابدين 6 / 217، المبسوط 14 / 93، وحاشية الدسوقي 3 / 476 وما بعدها، بلغة السالك لأقرب المسالك 2 / 228، الخرشي 6 / 170.
(2) المراجع السابقة، وأعلام الموقعين 2 / 139 وما بعدها و 249 وما بعدها.(26/139)
الشُّفْعَةُ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ الآْخَرِ) .
وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِلشُّفْعَةِ فِي الْكِرَاءِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَنْقَسِمُ وَأَنْ يَشْفَعَ لِيَسْكُنَ (1) .
شُفْعَةُ الْجَارِ الْمَالِكِ وَالشَّرِيكِ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كَمَا سَبَقَ عَلَى ثُبُوتِ شُفْعَةٍ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَهُ حِصَّةٌ شَائِعَةٌ فِي ذَاتِ الْمَبِيعِ مَا دَامَ لَمْ يُقَاسِمْ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِهَا لِلْجَارِ الْمُلاَصِقِ وَالشَّرِيكِ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ.
الأَْوَّل: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ وَلاَ لِلشَّرِيكِ فِي حُقُوقِ الْبَيْعِ، وَبِهِ قَال: أَهْل الْمَدِينَةِ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَالزُّهْرِيُّ وَيَحْيَى الأَْنْصَارِيُّ وَأَبُو الزِّنَادِ وَرَبِيعَةُ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (2) .
__________
(1) المبسوط 14 / 95، فتح العزيز 11 / 392، ومغني المحتاج 2 / 297، ومنتهى الإرادات 1 / 531، شرح منح الجليل 2 / 586، وانظر حاشية الدسوقي 3 / 474 - 475، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 5 / 312، 213، الخرشي 6 / 163.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 474، والشرح الصغير 2 / 228، ومغني المحتاج 2 / 297، حاشية البجيرمي 3 / 136، وفتح العزيز شرح الوجيز 11 / 392، والمغني 5 / 461، والمقنع 2 / 258.(26/139)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ وَفِيهِ: فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ (1) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ فِي صَدْرِهِ إِثْبَاتَ الشُّفْعَةِ فِي غَيْرِ الْمَقْسُومِ وَنَفْيَهَا فِي الْمَقْسُومِ؛ لأَِنَّ كَلِمَةَ إِنَّمَا لإِِثْبَاتِ الْمَذْكُورِ وَنَفْيِ مَا عَدَاهُ، وَآخِرُهُ نَفْيُ الشُّفْعَةِ عِنْدَ وُقُوعِ الْحُدُودِ وَصَرْفِ الطُّرُقِ، وَالْحُدُودُ بَيْنَ الْجَارَيْنِ وَاقِعَةٌ وَالطُّرُقُ مَصْرُوفَةٌ فَكَانَتِ الشُّفْعَةُ مَنْفِيَّةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَقَالُوا: إِذَا كَانَ الشَّارِعُ يَقْصِدُ رَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ الْجَارِ فَهُوَ أَيْضًا يَقْصِدُ رَفْعَهُ عَنِ الْمُشْتَرِي. وَلاَ يُدْفَعُ ضَرَرُ الْجَارِ بِإِدْخَال الضَّرَرِ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي حَاجَةٍ إِلَى دَارٍ يَسْكُنُهَا هُوَ وَعِيَالُهُ، فَإِذَا سُلِّطَ الْجَارُ عَلَى انْتِزَاعِ دَارِهِ مِنْهُ أَضَرَّ بِهِ ضَرَرًا بَيِّنًا، وَأَيُّ دَارٍ اشْتَرَاهَا وَلَهُ جَارٌ فَحَالُهُ مَعَهُ هَكَذَا. وَتَطَلُّبُهُ دَارًا لاَ جَارَ لَهَا كَالْمُتَعَذَّرِ عَلَيْهِ، فَكَانَ مِنْ تَمَامِ حِكْمَةِ الشَّارِعِ أَنْ أَسْقَطَ الشُّفْعَةَ بِوُقُوعِ الْحُدُودِ وَتَصْرِيفِ الطُّرُقِ لِئَلاَّ يَضُرَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَتَعَذَّرُ عَلَى مَنْ أَرَادَ شِرَاءَ دَارٍ لَهَا جَارٌ أَنْ يَتِمَّ لَهُ مَقْصُودُهُ (2) .
__________
(1) حديث: " فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة " تقدم تخريجه ف 4.
(2) أعلام الموقعين لابن القيم 2 / 259 وما بعدها.(26/140)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ الْمُلاَصِقِ وَالشَّرِيكِ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ، فَسَبَبُ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ عِنْدَهُمْ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: الشَّرِكَةُ أَوِ الْجِوَارُ. ثُمَّ الشَّرِكَةُ نَوْعَانِ:
أ - شَرِكَةٌ فِي مِلْكِ الْمَبِيعِ.
ب - شَرِكَةٌ فِي حُقُوقِهِ، كَالشِّرْبِ وَالطَّرِيقِ.
قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: " الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ لِلْخَلِيطِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ لِلْخَلِيطِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ كَالشِّرْبِ وَالطَّرِيقِ، ثُمَّ لِلْجَارِ (1) ".
وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ قَال: " وَقَفْتُ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَجَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى إِحْدَى مَنْكِبَيَّ إِذْ جَاءَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا سَعْدُ، ابْتَعْ مِنِّي بَيْتِي فِي دَارِكَ. فَقَال سَعْدٌ: وَاللَّهِ مَا أَبْتَاعُهُمَا فَقَال الْمِسْوَرُ: وَاللَّهِ لَتَبْتَاعَنَّهُمَا، فَقَال سَعْدٌ: وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُكَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلاَفٍ مُنَجَّمَةً أَوْ مُقَطَّعَةً، قَال أَبُو رَافِعٍ: لَقَدْ أُعْطِيتُ بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ وَلَوْلاَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ مَا أَعْطَيْتُكَهَا بِأَرْبَعَةِ آلاَفٍ وَأَنَا
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 2681، تبيين الحقائق 5 / 239، المبسوط 14 / 93 - 94، والهداية مع الفتح 9 / 369 وما بعدها.(26/140)
أُعْطَى بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ ". (1)
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تُسْتَحَقُّ بِسَبَبِ الْجِوَارِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ يُنْتَظَرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا (2) .
عَنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٌ قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: أَرْضِي لَيْسَ لأَِحَدٍ فِيهَا شَرِكَةٌ وَلاَ قِسْمَةٌ إِلاَّ الْجِوَارُ، فَقَال: الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ. (3)
اسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُول بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْحُكْمُ بِالشُّفْعَةِ ثَبَتَ فِي الشَّرِكَةِ لإِِفْضَائِهَا إِلَى ضَرَرِ الْمُجَاوَرَةِ فَحَقِيقَةُ الْمُجَاوَرَةِ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ فِيهَا، وَهَذَا لأَِنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ ضَرَرِ الْمُتَأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَضَرَرُ التَّأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ بِاتِّصَال أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالآْخَرِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَتَأَتَّى الْفَصْل فِيهِ.
وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمُجَاوَرَةِ حَتَّى يُرْغَبُ فِي مُجَاوَرَةِ بَعْضِ النَّاسِ لِحُسْنِ خُلُقِهِ وَيُرْغَبُ
__________
(1) حديث عمرو بن الشريد: " وقفت على سعد بن أبي وقاص. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 437 - ط السلفية) .
(2) حديث: " الجار أحق بشفعته. . . " أخرجه الترمذي (3 / 642 - ط. الحلبي) وقال: " حديث حسن غريب ".
(3) حديث الشريد بن سويد: " أرضي ليس لأحد فيها. . . " أخرجه النسائي (7 / 320 - ط المكتبة التجارية) وإسناده حسن.(26/141)
عَنْ جِوَارِ الْبَعْضِ لِسُوءِ خُلُقِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْجَارُ الْقَدِيمُ يَتَأَذَّى بِالْجَارِ الْحَادِثِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ بِالشُّفْعَةِ دَفْعًا لِهَذَا الضَّرَرِ (1) .
شُرُوطُ الشُّفْعَةِ بِالْجِوَارِ:
13 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْجِوَارَ سَبَبٌ لِلشُّفْعَةِ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا بِالْجِوَارِ عَلَى عُمُومِهِ، بَل اشْتَرَطُوا لِذَلِكَ أَنْ تَتَحَقَّقَ الْمُلاَصَقَةُ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَيِّ حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ، سَوَاءٌ امْتَدَّ مَكَانُ الْمُلاَصَقَةِ حَتَّى عَمَّ الْحَدَّ أَمْ قَصُرَ حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَجَاوَزْ.
فَالْمُلاَصِقُ لِلْمَنْزِل وَالْمُلاَصِقُ لأَِقْصَى الدَّارِ سَوَاءٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ لأَِنَّ مِلْكَ كُل حَدٍّ مِنْهُمْ مُتَّصِلٌ بِالْبَيْعِ.
أَمَّا الْجَارُ الْمُحَاذِي فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ بِالْمُجَاوَرَةِ سَوَاءٌ أَكَانَ أَقْرَبَ بَابًا أَمْ أَبْعَدَ؛ لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الشُّفْعَةِ هُوَ الْقُرْبُ وَاتِّصَال أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالآْخَرِ وَذَلِكَ فِي الْجَارِ الْمُلاَصِقِ دُونَ الْجَارِ الْمُحَاذِي فَإِنَّ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ طَرِيقًا نَافِذًا (2)
وَقَال شُرَيْحٌ (3) : الشُّفْعَةُ بِالأَْبْوَابِ، فَأَقْرَبُ الأَْبْوَابِ إِلَى الدَّارِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ. لِمَا
__________
(1) المبسوط للسرخسي 14 / 95، والبدائع للكاساني 6 / 2682.
(2) المبسوط 14 / 93، 94، البدائع 6 / 2691، ابن عابدين 5 / 165، وشرح الكنز للزيلعي 5 / 241، الهداية مع فتح القدير 9 / 376.
(3) المبسوط 14 / 93.(26/141)
وَرَدَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَال: إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكَ بَابًا (1) .
وَلاَ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِلْجَارِ الْمُقَابِل. لأَِنَّ سُوءَ الْمُجَاوَرَةِ لاَ يَتَحَقَّقُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِلْكُ أَحَدِهِمَا مُتَّصِلاً بِمِلْكِ الآْخَرِ وَلاَ شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِي حُقُوقِ الْمِلْكِ.
وَحَقُّ الشُّفْعَةِ يَثْبُتُ لِلْجَارِ الْمُلاَصِقِ لِيُتَرَفَّقَ بِهِ مِنْ حَيْثُ تَوَسُّعُ الْمِلْكِ وَالْمَرَافِقِ، وَهَذَا فِي الْجَارِ الْمُلاَصِقِ يَتَحَقَّقُ لاَمِكَانِ جَعْل إِحْدَى الدَّارَيْنِ مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ الأُْخْرَى.
وَلاَ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْجَارِ الْمُقَابِل لِعَدَمِ إِمْكَانِ جَعْل إِحْدَى الدَّارَيْنِ مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ الأُْخْرَى بِطَرِيقٍ نَافِذٍ بَيْنَهُمَا.
وَلَكِنْ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلْجَارِ الْمُقَابِل إِذَا كَانَتِ الدُّورُ كُلُّهَا فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، لإِِمْكَانِ جَعْل بَعْضِهَا مِنْ مَرَافِقِ الْبَعْضِ بِأَنْ تُجْعَل الدُّورُ كُلُّهَا دَارًا وَاحِدَةً.
وَلاَ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ إِلاَّ لِلْجَارِ الْمَالِكِ، فَلاَ تَثْبُتُ لِجَارِ السُّكْنَى، كَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ ضَرَرِ التَّأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَجِوَارُ السُّكْنَى لَيْسَ بِمُسْتَدَامٍ، وَضَرَرُ التَّأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ، بِاتِّصَال أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالآْخَرِ عَلَى وَجْهٍ لاَ
__________
(1) حديث عائشة: " إن لي جارين. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 438 - ط. السلفية) .(26/142)
يَتَأَتَّى الْفَصْل فِيهِ (1) .
الشُّفْعَةُ بَيْنَ مُلاَّكِ الطَّبَقَاتِ:
13 م - مُلاَّكُ الطَّبَقَاتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُتَجَاوِرُونَ فَيَحِقُّ لَهُمُ الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الْجِوَارِ (2) .
وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ صَاحِبُ الْعُلُوِّ السُّفْل بِالشُّفْعَةِ حَتَّى انْهَدَمَ الْعُلُوُّ فَعَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ بَطَلَتِ الشُّفْعَةُ - لأَِنَّ الاِتِّصَال بِالْجِوَارِ قَدْ زَال، كَمَا لَوْ بَاعَ الَّتِي يَشْفَعُ بِهَا قَبْل الأَْخْذِ.
وَعَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ تَجِبُ الشُّفْعَةُ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبِ الْبِنَاءِ بَل بِالْقَرَارِ وَحَقُّ الْقَرَارِ بَاقٍ.
وَإِنْ كَانَتْ ثَلاَثَةَ أَبْيَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَبَابُ كُلٍّ إِلَى السِّكَّةِ فَبِيعَ الأَْوْسَطُ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلأَْعْلَى وَالأَْسْفَل وَإِنْ بِيعَ الأَْسْفَل أَوِ الأَْعْلَى، فَالأَْوْسَطُ أَوْلَى، بِمَا لَهُ مِنْ حَقِّ الْقَرَارِ؛ لأَِنَّ حَقَّ التَّعَلِّي يَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ، وَهُوَ غَيْرُ مَنْقُولٍ فَتُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ كَالْعَقَارِ (3) .
وَلَوْ كَانَ سُفْلٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِ عُلُوٌّ لأَِحَدِهِمَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَبَاعَ هُوَ السُّفْل وَالْعُلُوَّ كَانَ الْعُلُوُّ لِشَرِيكِهِ فِي الْعُلُوِّ
__________
(1) المبسوط 14 / 95، 96.
(2) مرشد الحيران محمد قدري باشا م 101، والمجلة م 1011.
(3) ابن عابدين 5 / 143.(26/142)
وَالسُّفْل لِشَرِيكِهِ فِي السُّفْل، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرِيكٌ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ فِي حَقِّهِ وَجَارٌ فِي حَقِّ الآْخَرِ أَوْ شَرِيكٌ فِي الْحَقِّ إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا.
وَلَوْ كَانَ السُّفْل لِرَجُلٍ وَالْعُلُوُّ لآِخَرَ فَبِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا فَالشُّفْعَةُ لَهُمَا (1) .
أَرْكَانُ الشُّفْعَةِ:
14 - أَرْكَانُ الشُّفْعَةِ ثَلاَثَةٌ (2) :
(1) الشَّفِيعُ: وَهُوَ الآْخِذُ.
(2) وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ: وَهُوَ الْمُشْتَرِي الَّذِي يَكُونُ الْعَقَارُ فِي حِيَازَتِهِ.
(3) الْمَشْفُوعُ فِيهِ: وَهُوَ الْعَقَارُ الْمَأْخُوذُ أَيْ مَحَل الشُّفْعَةِ.
وَلِكُل رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الأَْرْكَانِ شُرُوطٌ وَأَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا كَمَا سَيَأْتِي.
الشُّرُوطُ الْوَاجِبُ تَوَافُرُهَا فِي الشَّفِيعِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: مِلْكِيَّةُ الشَّفِيعِ لِمَا يَشْفَعُ بِهِ:
15 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِلأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّفِيعُ مَالِكًا لِلْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ بِهِ وَقْتَ شِرَاءِ الْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ. لأَِنَّ سَبَبَ الاِسْتِحْقَاقِ جَوَازُ الْمِلْكِ، وَالسَّبَبُ إِنَّمَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالاِنْعِقَادُ أَمْرٌ
__________
(1) شرح الكنز للزيلعي 5 / 241، والفتاوى الهندية 5 / 164.
(2) مغني المحتاج 2 / 296.(26/143)
زَائِدٌ عَلَى الْوُجُودِ (1) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: لاَ شُفْعَةَ لَهُ بِدَارٍ يَسْكُنُهَا بِالإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ وَلاَ بِدَارٍ بَاعَهَا قَبْل الشِّرَاءِ وَلاَ بِدَارٍ جَعَلَهَا مَسْجِدًا وَلاَ بِدَارٍ جَعَلَهَا وَقْفًا (2) . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُ الشُّفْعَةِ فِي الْكِرَاءِ كَمَا سَبَقَ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: بَقَاءُ الْمِلْكِيَّةِ لِحِينِ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ:
16 - يَجِبُ أَنْ يَبْقَى الشَّفِيعُ مَالِكًا لِلْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ بِهِ حَتَّى يَمْتَلِكَ الْعَقَارَ الْمَشْفُوعَ فِيهِ بِالرِّضَاءِ أَوْ بِحُكْمِ الْقَضَاءِ لِيَتَحَقَّقَ الاِتِّصَال وَقْتَ الْبَيْعِ (3) .
الشُّفْعَةُ لِلْوَقْفِ:
17 - لاَ شُفْعَةَ لِلْوَقْفِ لاَ بِشَرِكَةٍ وَلاَ بِجِوَارٍ.
فَإِذَا بِيعَ عَقَارٌ مُجَاوِرٌ لِوَقْفٍ، أَوْ كَانَ الْمَبِيعُ بَعْضُهُ مِلْكٌ وَبَعْضُهُ وَقْفٌ وَبِيعَ الْمِلْكُ فَلاَ شُفْعَةَ لِلْوَقْفِ، لاَ لِقَيِّمِهِ وَلاَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ (4) .
__________
(1) البدائع 6 / 2703) ، المبسوط 14 / 95، وشرح الكنز للزيلعي 5 / 252، حاشية الدسوقي 3 / 476، مغني المحتاج 2 / 298، نهاية المحتاج 5 / 198، منتهى الإرادات 1 / 530.
(2) البدائع 6 / 2703.
(3) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي مع حاشية الشلبي 5 / 225، ط 1 سنة 1315 هـ.
(4) البدائع 6 / 2703، حاشية ابن عابدين 6 / 233، الخرشي 6 / 163، مغني المحتاج 2 / 297، فتح العزيز 11 / 392، شرح منتهى الإرادات 2 / 441.(26/143)
وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ جَمِيعًا أَلاَّ يَتَضَمَّنَ التَّمَلُّكُ بِالشُّفْعَةِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لأَِنَّ الشُّفْعَةَ لاَ تَقْبَل التَّجْزِئَةَ. وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قِطْعَةً وَاحِدَةً وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا فَلاَ يَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَطْلُبَ بَعْضَ الْمَبِيعِ وَيَتْرُكَ الْبَعْضَ الآْخَرَ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْقِطْعَةُ وَاحِدَةً، وَكَانَ الْمُشْتَرِي مُتَعَدِّدًا فَيَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَطْلُبَ نَصِيبَ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ يَطْلُبَ الْكُل، وَلاَ يُعْتَبَرُ هَذَا تَجْزِئَةً لِلشُّفْعَةِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ مُسْتَقِلٌّ بِمِلْكِيَّةِ نَصِيبِهِ تَمَامَ الاِسْتِقْلاَل. وَإِذَا كَانَتِ الْقِطَعُ مُتَعَدِّدَةً وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا أَخَذَ كُل شَفِيعٍ الْقِطْعَةَ الَّتِي يَشْفَعُ فِيهَا، فَإِنْ تَعَدَّدَ الْمُشْتَرُونَ أَيْضًا فَلِكُل شَفِيعٍ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ بَعْضِهِمْ أَوْ يَأْخُذَ الْكُل وَيُقَدِّرَ لِكُل قِطْعَةٍ مَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الثَّمَنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا فِي الْعَقْدِ (1) .
الْمَشْفُوعُ مِنْهُ:
18 - وَتَجُوزُ الشُّفْعَةُ عَلَى أَيِّ مُشْتَرٍ لِلْعَقَارِ الْمَبِيعِ سَوَاءٌ أَكَانَ قَرِيبًا لِلْبَائِعِ أَمْ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ. لِعُمُومِ النُّصُوصِ الْمُثَبِّتَةِ لِلشُّفْعَةِ.
التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا الشُّفْعَةُ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَ الْمُجِيزَ
__________
(1) المبسوط 14 / 104، البدائع 6 / 2729، حاشية الدسوقي 3 / 490، القليوبي 3 / 49، 50، المغني 5 / 483، منتهى الإرادات 1 / 529، المقنع 2 / 263.(26/144)
لِلشُّفْعَةِ هُوَ عَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ، وَهُوَ الْبَيْعُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ. فَلاَ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ لأَِنَّ الأَْخْذَ بِالشُّفْعَةِ يَكُونُ بِمِثْل مَا مَلَكَ فَإِذَا انْعَدَمَتِ الْمُعَاوَضَةُ تَعَذَّرَ الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ.
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ فِي كُل مِلْكٍ انْتَقَل بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْهِبَةِ لِغَيْرِ الثَّوَابِ، وَالصَّدَقَةِ، مَا عَدَا الْمِيرَاثَ فَإِنَّهُ لاَ شُفْعَةَ فِيهِ بِاتِّفَاقٍ. وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا اعْتَبَرَتِ الضَّرَرَ فَقَطْ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَاتِ وَالصُّلْحِ وَبَدَل الْخُلْعِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ صَحَّحَهَا الْمِرْدَاوِيُّ إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ الأَْمْوَال لأَِنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْبَيْعِ فَقَطْ وَلَيْسَتْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ بِمَعْنَى الْبَيْعِ؛ وَلاِسْتِحَالَةِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الشَّفِيعُ بِمِثْل مَا تَمَلَّكَ بِهِ هَؤُلاَءِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ بِجَامِعِ الاِشْتِرَاكِ فِي الْمُعَاوَضَةِ مَعَ لُحُوقِ الضَّرَرِ ثُمَّ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ فِي هَذِهِ الْحَال فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِقِيمَتِهِ وَفِي قَوْلٍ: بِقِيمَةِ مُقَابِلِهِ (1) .
__________
(1) الهداية مع الفتح 9 / 379، 381، 405، الزيلعي 5 / 252، 253، ابن عابدين 6 / 231، 236، والبدائع 6 / 2696، 2698، 2699، والمبسوط 14 / 141، 145، وبداية المجتهد 2 / 255، والدسوقي 3 / 476، ومغني المحتاج 2 / 296، ونهاية المحتاج 5 / 199، وفتح العزيز 11 / 425، والمغني 5 / 467، منتهى الإرادات 1 / 527، والمقنع 2 / 258، وتصحيح الفروع 4 / 536، 537.(26/144)
الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ، فَإِنْ تَقَابَضَا وَجَبَتِ الشُّفْعَةُ؛ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ عِنْدَ التَّقَابُضِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآْخَرِ فَلاَ شُفْعَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَجِبُ الشُّفْعَةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
الشُّفْعَةُ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ:
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ أَوْ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مَعًا فَلاَ شُفْعَةَ حَتَّى يَجِبَ الْبَيْعُ؛ لأَِنَّهُمْ اشْتَرَطُوا لِجَوَازِ
__________
(1) البدائع 6 / 2696، 2701، المبسوط 14 / 141، الهداية 9 / 407، وشرح الكنز 5 / 253، ابن عابدين 6 / 237، 238، والدسوقي 2 / 475، 482، وما بعدها، بداية المجتهد 2 / 256، والخرشي 6 / 170، ومغني المحتاج 1 / 298، 299، وفتح العزيز 11 / 408، 425، ونهاية المحتاج 5 / 198، والمغني 5 / 468، 471، والمقنع 2 / 258 و 272 - 274.(26/145)
الشُّفْعَةِ زَوَال مِلْكِ الْبَائِعِ عَنِ الْمَبِيعِ (1) .
وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَجِبُ الشُّفْعَةُ لأَِنَّ خِيَارَهُ لاَ يَمْنَعُ زَوَال الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ يَقِفُ عَلَيْهِ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - لاَ تَجِبُ الشُّفْعَةُ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ لاَزِمٍ. لأَِنَّ بَيْعَ الْخِيَارِ مُنْحَلٌّ عَلَى الْمَشْهُورِ، إِلاَّ بَعْدَ مُضِيِّهِ وَلُزُومِهِ فَتَكُونُ الشُّفْعَةُ (3) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: إِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ فَعَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ فَفِي أَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: الْمَنْعُ، لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَرْضَ بِلُزُومِ الْعَقْدِ وَفِي الأَْخْذِ إِلْزَامٌ وَإِثْبَاتٌ لِلْعُهْدَةِ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الأَْظْهَرُ - يُؤْخَذُ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ فِيهِ إِلاَّ لِلْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعُ سُلِّطَ عَلَيْهِ بَعْدَ لُزُومِ الْمِلْكِ وَاسْتِقْرَارِهِ فَقَبْلَهُ أَوْلَى (4) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ قَبْل انْقِضَاءِ الْخِيَارِ كَمَا قَال الْمَالِكِيَّةُ (5) .
__________
(1) البدائع 6 / 2071، الخرشي 6 / 170، مغني المحتاج 2 / 299، وما بعدها، نهاية المحتاج 5 / 198، المغني 5 / 471، والمقنع 20 / 273 وما بعدها.
(2) البدائع 6 / 2701.
(3) حاشية الدسوقي 3 / 483 وما بعدها، الخرشي 6 / 170، بداية المجتهد 2 / 256.
(4) فتح العزيز 11 / 408، وما بعدها، الأم 4 / 4.
(5) المغني 5 / 471.(26/145)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ شَرَطَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِلشَّفِيعِ فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ، لأَِنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لِلشَّفِيعِ شَرْطٌ لِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ، فَإِنْ أَجَازَ الشَّفِيعُ الْبَيْعَ جَازَ وَلاَ شُفْعَةَ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ ابْتِدَاءً. وَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ لأَِنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ لَمْ يَزُل، وَالْحِيلَةُ لِلشَّفِيعِ فِي ذَلِكَ أَلاَّ يَفْسَخَ وَلاَ يُجِيزَ حَتَّى يُجِيزَ الْبَائِعُ أَوْ يُجَوِّزَ الْبَيْعَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَتَكُونُ لَهُ الشُّفْعَةُ (1) .
الشُّفْعَةُ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ:
أ - الْبَيْعُ بِالْمَزَادِ الْعَلَنِيِّ:
22 - إِذَا بِيعَ الْعَقَارُ بِالْمَزَادِ الْعَلَنِيِّ فَمُقْتَضَى صِيَغِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ لاَ يَمْنَعُونَ الشُّفْعَةَ فِيهِ لأَِنَّهُمْ ذَكَرُوا شُرُوطًا لِلشُّفْعَةِ إِذَا تَحَقَّقَتْ ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ لِلشَّفِيعِ وَلَمْ يَسْتَثْنُوا الْبَيْعَ بِالْمُزَايَدَةِ.
ب - مَا بِيعَ لِيُجْعَل مَسْجِدًا:
23 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اتَّخَذَ الْمُشْتَرِي الدَّارَ مَسْجِدًا ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْمَسْجِدَ وَيَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْمَسْجِدَ يَتَحَرَّرُ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ إِعْتَاقِ الْعَبْدِ. وَحَقُّ الشَّفِيعِ لاَ يَكُونُ
__________
(1) البدائع 6 / 2701 وما بعدها.(26/146)
أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ لاَ يَمْنَعُ حَقَّ الرَّاهِنِ فَكَذَلِكَ حَقُّ الشَّفِيعِ لاَ يَمْنَعُ صِحَّةَ جَعْل الدَّارِ مَسْجِدًا.
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ لِلشَّفِيعِ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ حَقًّا مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ جَعْلِهِ مَسْجِدًا، لأَِنَّ الْمَسْجِدَ يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَعَل جُزْءًا شَائِعًا مِنْ دَارِهِ مَسْجِدًا أَوْ جَعَل وَسَطَ دَارِهِ مَسْجِدًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ لَمْ يَصِرْ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَذَلِكَ مَا فِيهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ إِذَا جَعَلَهُ مَسْجِدًا، وَهَذَا لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى مَسْجِدِ الضِّرَارِ لأَِنَّهُ قَصَدَ الأَْضْرَارَ بِالشَّفِيعِ مِنْ حَيْثُ إِبْطَال حَقِّهِ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ وَيَرْفَعَ الْمُشْتَرِي بِنَاءَهُ الْمُحْدَثَ (1) .
الْمَال الَّذِي تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ:
24 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَقَارَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الأَْمْوَال الثَّابِتَةِ تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ (2) . وَأَمَّا الأَْمْوَال الْمَنْقُولَةُ فَفِيهَا خِلاَفٌ يَأْتِي بَيَانُهُ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي الْعَقَارِ وَنَحْوِهِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) المبسوط 14 / 113 - 114، والبدائع 6 / 2702، وابن عابدين 6 / 233، ط 2، والخرشي 6 / 174، وحاشية الدسوقي 3 / 487، والفروع 4 / 550.
(2) البدائع 6 / 2700، تبيين الحقائق 5 / 252، حاشية ابن عابدين 6 / 236، المبسوط 14 / 98.(26/146)
قَال: قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُل شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ (1) .
وَبِأَنَّ الشُّفْعَةَ فِي الْعَقَارِ مَا وَجَبَتْ لِكَوْنِهِ: مَسْكَنًا، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِخَوْفِ أَذَى الدَّخِيل وَضَرَرِهِ عَلَى سَبِيل الدَّوَامِ وَذَلِكَ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ فِي الْعَقَارِ (2) .
وَتَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الْعَقَارِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ الْعُلُوُّ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَقَارُ مِمَّا يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ أَوْ مِمَّا لاَ يَحْتَمِلُهَا كَالْحَمَّامِ وَالرَّحَى وَالْبِئْرِ، وَالنَّهْرِ، وَالْعَيْنِ، وَالدُّورِ الصِّغَارِ. وَكُل مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَارِ مِمَّا لَهُ ثَبَاتٌ وَاتِّصَالٌ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدَّمِ ذِكْرُهَا (3) .
25 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي الْمَنْقُول عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ تَثْبُتُ فِي الْمَنْقُول وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبَيِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (4) . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ. بِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ ` صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُل
__________
(1) حديث جابر: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم " تقدم تخريجه ف 4.
(2) شرح العناية على الهداية 9 / 403، والبدائع 6 / 2700.
(3) البدائع 6 / 2700، تبيين الحقائق 5 / 252، شرح العناية على الهداية 9 / 403، مع فتح القدير.
(4) المبسوط 14 / 95، البدائع 6 / 2700، شرح الكنز 5 / 252، وفتح العزيز 11 / 364، ونهاية المحتاج 5 / 193، مغني المحتاج 2 / 296، والمغني 5 / 463 - 465.(26/147)
مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ (1) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ وُقُوعَ الْحُدُودِ وَتَصْرِيفَ الطُّرُقِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَقَارِ دُونَ الْمَنْقُول.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ شُفْعَةَ إِلاَّ فِي دَارٍ أَوْ عَقَارٍ (2) .، وَهَذَا يَقْتَضِي نَفْيَهَا عَنْ غَيْرِ الدَّارِ وَالْعَقَارِ مِمَّا لاَ يَتْبَعُهُمَا وَهُوَ الْمَنْقُول، وَأَمَّا مَا يَتْبَعُهُمَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهَا (3) .
قَالُوا: وَلأَِنَّ الشُّفْعَةَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالضَّرَرُ فِي الْعَقَارِ يَكْثُرُ جِدًّا فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ الشَّرِيكُ إِلَى إِحْدَاثِ الْمَرَافِقِ، وَتَغْيِيرِ الأَْبْنِيَةِ وَتَضْيِيقِ الْوَاسِعِ وَتَخْرِيبِ الْعَامِرِ وَسُوءِ الْجِوَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْعَقَارِ بِخِلاَفِ الْمَنْقُول.
وَقَالُوا أَيْضًا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْقُول وَغَيْرِهِ أَنَّ الضَّرَرَ فِي غَيْرِ الْمَنْقُول يَتَأَبَّدُ بِتَأَبُّدِهِ وَفِي الْمَنْقُول لاَ يَتَأَبَّدُ فَهُوَ ضَرَرٌ عَارِضٌ فَهُوَ كَالْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ (4) .
__________
(1) حديث: " قضى بالشفعة. . . . " تقدم تخريجه ف 4.
(2) حديث: " لا شفعة إلا في دار أو عقار " أخرجه البيهقي (6 / 109 - ط. دائرة المعارف العثمانية) وقال: " الإسناد ضعيف ".
(3) إعلام الموقعين 2 / 251.
(4) إعلام الموقعين 2 / 251.(26/147)
26 - الْقَوْل الثَّانِي: تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي الْمَنْقُول وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ (1) . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُل مَا لَمْ يُقْسَمْ (2) .
قَالُوا: إِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَثْبَتَ الشُّفْعَةَ فِي كُل مَا لَمْ يُقْسَمْ وَهَذَا يَتَنَاوَل الْعَقَارَ وَالْمَنْقُول. لأَِنَّ " مَا " مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي الْمَنْقُول كَمَا هِيَ ثَابِتَةٌ فِي الْعَقَارِ.
وَقَالُوا: وَلأَِنَّ الضَّرَرَ بِالشَّرِكَةِ فِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ أَبْلَغُ مِنَ الضَّرَرِ بِالْعَقَارِ الَّذِي يَقْبَل الْقِسْمَةَ فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ مُرِيدًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ الأَْدْنَى فَالأَْعْلَى أَوْلَى بِالدَّفْعِ (3) .
مَرَاحِل طَلَبِ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ:
27 - عَلَى الشَّفِيعِ أَنْ يُظْهِرَ رَغْبَتَهُ بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ بِمَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ، ثُمَّ يُؤَكِّدَ هَذِهِ الرَّغْبَةَ وَيُعْلِنَهَا وَيُسَمَّى هَذَا طَلَبَ التَّقْرِيرِ وَالإِْشْهَادِ، فَإِذَا لَمْ تَتِمَّ لَهُ الشُّفْعَةُ تَقَدَّمَ لِلْقَضَاءِ بِمَا يُسَمَّى بِطَلَبِ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ (4) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) حديث: " قضى بالشفعة. . . " تقدم تخريجه ف 4.
(3) إعلام الموقعين 2 / 250.
(4) تبيين الحقائق 5 / 242، والبدائع 6 / 2710، الهداية مع فتح القدير 9 / 382، المبسوط 14 / 92، ابن عابدين 6 / 224 - 225، تكملة المجموع 14 / 144، المغني 5 / 477، منتهى الإرادات 1 / 528، المقنع 2 / 260.(26/148)
أ - طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ
28 - وَقْتُ هَذَا الطَّلَبِ هُوَ وَقْتُ عِلْمِ الشَّفِيعِ بِالْبَيْعِ، وَعِلْمُهُ بِالْبَيْعِ قَدْ يَحْصُل بِسَمَاعِهِ بِالْبَيْعِ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ يَحْصُل بِإِخْبَارِ غَيْرِهِ لَهُ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ فِي الْمُخْبِرِ.
فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يُشْتَرَطُ أَحَدُ هَذَيْنِ إِمَّا الْعَدَدُ فِي الْمُخْبِرِ وَهُوَ رَجُلاَنِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَإِمَّا الْعَدَالَةُ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلاَ الْعَدَالَةُ، فَلَوْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ بِالشُّفْعَةِ عَدْلاً كَانَ أَوْ فَاسِقًا، فَسَكَتَ وَلَمْ يَطْلُبْ عَلَى فَوْرِ الْخَبَرِ عَلَى رِوَايَةِ الأَْصْل أَوْ لَمْ يَطْلُبْ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ. بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ عِنْدَهُمَا إِذَا ظَهَرَ كَوْنُ الْخَبَرِ صَادِقًا. وَذَلِكَ لأَِنَّ الْعَدَدَ وَالْعَدَالَةَ لاَ يُعْتَبَرَانِ شَرْعًا فِي الْمُعَامَلاَتِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَةِ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ وَلاَ الْعَدَالَةُ.
وَوَجْهُ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ فِيهِ مَعْنَى الإِْلْزَامِ. أَلاَ تَرَى أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ يَبْطُل لَوْ لَمْ يَطْلُبْ بَعْدَ الْخَبَرِ فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ أَحَدُ شَرْطَيِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْعَدَدُ أَوِ الْعَدَالَةُ (1) .
__________
(1) البدائع 6 / 2710، الهداية مع فتح القدير 9 / 384.(26/148)
29 - وَشَرْطُ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَوْرِ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ (1) . إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ عَلِمَ بِالْبَيْعِ وَسَكَتَ عَنِ الطَّلَبِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَطَل حَقُّ الشُّفْعَةِ فِي رِوَايَةِ الأَْصْل. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ وَخِيَارِ الْقَبُول مَا لَمْ يَقُمْ عَنِ الْمَجْلِسِ أَوْ يَتَشَاغَل عَنِ الطَّلَبِ بِعَمَلٍ آخَرَ لاَ تَبْطُل شُفْعَتُهُ وَلَهُ أَنْ يَطْلُبَ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثَبَتَ نَظَرًا لِلشَّفِيعِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّأَمُّل أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ هَل تَصْلُحُ بِمِثْل هَذَا الثَّمَنِ وَأَنَّهُ هَل يَتَضَرَّرُ بِجِوَارِ هَذَا الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ، أَمْ لاَ يَتَضَرَّرُ بِهِ فَيَتْرُكُ. وَهَذَا لاَ يَصِحُّ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى التَّأَمُّل شَرْطُ الْمَجْلِسِ فِي جَانِبِ الْمُخَيَّرَةِ، وَالْقَبُول، كَذَا هَاهُنَا. وَوَجْهُ رِوَايَةِ الأَْصْل مَا رُوِيَ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الشُّفْعَةُ كَحَل الْعِقَال (2) وَلأَِنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، إِذِ الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكُ مَالٍ مَعْصُومٍ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ لِخَوْفِ ضَرَرٍ
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 243، ابن عابدين 6 / 224 - 225، منتهى الإرادات 1 / 528، المقنع 2 / 260.
(2) حديث: " الشفعة كحل العقال " أخرجه ابن ماجه (2 / 835 - ط. الحلبي) من حديث ابن عمر، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 62 - ط دار الجنان) ، وانظر سبل السلام 3 / 76.(26/149)
يَحْتَمِل الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ فَلاَ يَسْتَقِرُّ إِلاَّ بِالطَّلَبِ عَلَى الْمُوَاثَبَةِ (1) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْمُوَاثَبَةِ حَالاَتٍ يُعْذَرُ فِيهَا بِالتَّأْخِيرِ كَمَا إِذَا سَمِعَ بِالْبَيْعِ فِي حَال سَمَاعِهِ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ سَلَّمَ عَلَى الْمُشْتَرِي قَبْل طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ هُنَاكَ حَائِلٌ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ مَخُوفٌ، أَوْ أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَانِعِ، لاَ تَبْطُل شُفْعَتُهُ بِتَرْكِ الْمُوَاثَبَةِ إِلَى أَنْ يَزُول الْحَائِل (3) .
30 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ لَيْسَتْ عَلَى الْفَوْرِ بَل وَقْتُ وُجُوبِهَا مُتَّسِعٌ، وَاخْتَلَفَ قَوْل مَالِكٍ فِي هَذَا الْوَقْتِ هَل هُوَ مَحْدُودٌ أَمْ لاَ؟ فَمَرَّةً قَال: هُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ وَأَنَّهَا لاَ تَنْقَطِعُ أَبَدًا، إِلاَّ أَنْ يُحْدِثَ الْمُبْتَاعُ بِنَاءً أَوْ تَغْيِيرًا كَثِيرًا بِمَعْرِفَتِهِ وَهُوَ حَاضِرٌ عَالِمٌ سَاكِتٌ، وَمَرَّةً حَدَّدَ هَذَا الْوَقْتَ بِسَنَةٍ، وَهُوَ الأَْشْهَرُ كَمَا يَقُول ابْنُ رُشْدٍ وَقِيل أَكْثَرُ مِنَ السَّنَةِ وَقَدْ قِيل عَنْهُ إِنَّ الْخَمْسَةَ الأَْعْوَامَ لاَ تَنْقَطِعُ فِيهَا الشُّفْعَةُ (4) .
31 - وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الشُّفْعَةَ يَجِبُ طَلَبُهَا عَلَى الْفَوْرِ لأَِنَّهَا حَقٌّ ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ
__________
(1) البدائع 6 / 2711، الهداية مع فتح القدير 9 / 382.
(2) ابن عابدين 6 / 224، 225.
(3) البدائع 6 / 2713، الهداية مع الفتح 9 / 384، والزيلعي 5 / 242.
(4) بداية المجتهد لابن رشد 2 / 263 وما بعدها، والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 484.(26/149)
فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ الأَْصْل وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مُؤَقَّتٌ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْمُكْنَةِ، فَإِنْ طَلَبَهَا إِلَى ثَلاَثٍ كَانَ عَلَى حَقِّهِ، وَإِنْ مَضَتِ الثَّلاَثُ قَبْل طَلَبِهِ بَطَلَتْ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: تَمْتَدُّ مُدَّةً تَسَعُ التَّأَمُّل فِي مِثْل ذَلِكَ الشِّقْصِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مُمْتَدٌّ عَلَى التَّأْبِيدِ مَا لَمْ يُسْقِطْهُ أَوْ يُعَرِّضْ بِإِسْقَاطِهِ (1) .
وَقَدِ اسْتَثْنَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَشْرَ صُوَرٍ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْفَوْرُ هِيَ:
(1) لَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ أَوْ لَهُمَا فَإِنَّهُ لاَ يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ مَا دَامَ الْخِيَارُ بَاقِيًا.
(2) إِنَّ لَهُ التَّأْخِيرَ لاِنْتِظَارِ إِدْرَاكِ الزَّرْعِ حَصَادَهُ عَلَى الأَْصَحِّ.
(3) إِذَا أُخْبِرَ بِالْبَيْعِ عَلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ مِنْ زِيَادَةٍ فِي الثَّمَنِ فَتَرَكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ خِلاَفُهُ فَحَقُّهُ بَاقٍ.
(4) إِذَا كَانَ أَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ غَائِبًا فَلِلْحَاضِرِ انْتِظَارُهُ وَتَأْخِيرُ الأَْخْذِ إِلَى حُضُورِهِ.
(5) إِذَا اشْتَرَى بِمُؤَجَّلٍ.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 307، ونهاية المحتاج 5 / 213.(26/150)
(6) لَوْ قَال: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ لِي الشُّفْعَةَ وَهُوَ مِمَّنْ - يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ.
(7) لَوْ قَال الْعَامِّيُّ. لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ هُنَا وَفِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَبُول قَوْلِهِ.
(8) لَوْ كَانَ الشِّقْصُ الَّذِي يَأْخُذُ بِسَبَبِهِ مَغْصُوبًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْبُوَيْطِيُّ فَقَال: وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ شِقْصٌ مِنْ دَارٍ فَغَصَبَ عَلَى نَصِيبِهِ ثُمَّ بَاعَ الآْخَرُ نَصِيبَهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَلَهُ الشُّفْعَةُ سَاعَةَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ، نَقَلَهُ الْبُلْقِينِيُّ.
(9) الشُّفْعَةُ الَّتِي يَأْخُذُهَا الْوَلِيُّ لِلْيَتِيمِ لَيْسَتْ عَلَى الْفَوْرِ، بَل حَقُّ الْوَلِيِّ عَلَى التَّرَاخِي قَطْعًا، حَتَّى لَوْ أَخَّرَهَا أَوْ عَفَا عَنْهَا لَمْ يَسْقُطْ لأَِجْل الْيَتِيمِ.
(10) لَوْ بَلَغَهُ الشِّرَاءُ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ فَأَخَّرَ لِيَعْلَمَ لاَ يَبْطُل، قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ (1) .
32 - وَالصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ عَلَى الْفَوْرِ إِنْ طَالَبَ بِهَا سَاعَةَ يَعْلَمُ بِالْبَيْعِ وَإِلاَّ بَطَلَتْ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ، وَحُكِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى التَّرَاخِي لاَ تَسْقُطُ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى الرِّضَى مِنْ عَفْوٍ أَوْ مُطَالَبَةٍ بِقِسْمَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 307.
(2) المغني 5 / 477، وما بعدها، منتهى الإرادات 1 / 528، المقنع 2 / 260.(26/150)
وَإِنْ كَانَ لِلشَّفِيعِ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ الطَّلَبَ مِثْل أَنْ لاَ يَعْلَمَ بِالْبَيْعِ فَأَخَّرَ إِلَى أَنْ عَلِمَ وَطَالَبَ سَاعَةَ عَلِمَ أَوْ عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ لَيْلاً فَأَخَّرَ الطَّلَبَ إِلَى الصُّبْحِ أَوْ أَخَّرَ الطَّلَبَ لِشِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ حَتَّى يَأْكُل وَيَشْرَبَ، أَوْ أَخَّرَ الطَّلَبَ مُحْدِثٌ لِطَهَارَةٍ أَوْ إِغْلاَقِ بَابٍ أَوْ لِيَخْرُجَ مِنَ الْحَمَّامِ أَوْ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ، أَوْ لِيُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ وَيَأْتِيَ بِالصَّلاَةِ بِسُنَنِهَا، أَوْ لِيَشْهَدَهَا فِي جَمَاعَةٍ يَخَافُ فَوْتَهَا وَنَحْوِهِ، كَمَنْ عَلِمَ وَقَدْ ضَاعَ مِنْهُ مَالٌ فَأَخَّرَ الطَّلَبَ يَلْتَمِسُ مَا سَقَطَ مِنْهُ لَمْ تَسْقُطِ الشُّفْعَةُ، لأَِنَّ الْعَادَةَ تَقْدِيمُ هَذِهِ الْحَوَائِجِ وَنَحْوِهَا عَلَى غَيْرِهَا فَلاَ يَكُونُ الاِشْتِغَال بِهَا رِضًا بِتَرْكِ الشُّفْعَةِ، كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُسْرِعَ فِي مَشْيِهِ أَوْ يُحَرِّكَ دَابَّتَهُ فَلَمْ يَفْعَل وَمَضَى عَلَى حَسَبِ عَادَتِهِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنِ الْمُشْتَرِي حَاضِرًا عِنْدَ الشَّفِيعِ فِي هَذِهِ الأَْحْوَال، فَتَسْقُطُ بِتَأْخِيرِهِ؛ لأَِنَّهُ مَعَ حُضُورِهِ يُمْكِنُهُ مُطَالَبَتُهُ مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ عَنْ أَشْغَالِهِ إِلاَّ الصَّلاَةَ فَلاَ تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِتَأْخِيرِ الطَّلَبِ لِلصَّلاَةِ وَسُنَنِهَا، وَلَوْ مَعَ حُضُورِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الشَّفِيعِ؛ لأَِنَّ الْعَادَةَ تَأْخِيرُ الْكَلاَمِ عَنِ الصَّلاَةِ، وَلَيْسَ عَلَى الشَّفِيعِ تَخْفِيفُ الصَّلاَةِ - وَلاَ الاِقْتِصَارُ عَلَى أَقَل مَا يُجْزِئُ فِي الصَّلاَةِ (1) .
__________
(1) كشاف القناع 4 / 141، 142.(26/151)
الإِْشْهَادُ عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ:
33 - الإِْشْهَادُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ فَلَوْ لَمْ يُشْهِدْ صَحَّ طَلَبُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا الإِْشْهَادُ لِلإِْظْهَارِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الإِْنْكَارِ؛ لأَِنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لاَ يُصَدِّقُ الشَّفِيعَ فِي الطَّلَبِ أَوْ لاَ يُصَدِّقُهُ فِي الْفَوْرِ وَيَكُونُ الْقَوْل قَوْلَهُ فَيَحْتَاجُ إِلَى الإِْظْهَارِ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْقَاضِي عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ التَّصْدِيقِ، لاَ أَنَّهُ شَرْطُ صِحَّةِ الطَّلَبِ، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ إِنْ كَانَ لِلشَّفِيعِ عُذْرٌ يَمْنَعُ الْمُطَالَبَةَ، فَلْيُوَكِّل فِي الْمُطَالَبَةِ أَوْ يُشْهِدْ عَلَى طَلَبِ الشُّفْعَةِ، فَإِنْ تَرَكَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ مِنْهَا بَطَل حَقُّهُ فِي الأَْظْهَرِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِسَيْرِهِ إِلَى الْمُشْتَرِي فِي طَلَبِهَا بِلاَ إِشْهَادٍ، وَلاَ تَسْقُطُ إِنْ أَخَّرَ طَلَبَهُ بَعْدَ الإِْشْهَادِ، أَيْ إِنَّ الْحَنَابِلَةَ يَشْتَرِطُونَ الإِْشْهَادَ لِصِحَّةِ الطَّلَبِ (2) . وَيَصِحُّ الطَّلَبُ بِكُل لَفْظٍ يُفْهَمُ مِنْهُ طَلَبُ الشُّفْعَةِ كَمَا لَوْ قَال: طَلَبْتُ الشُّفْعَةَ أَوْ أَطْلُبُهَا أَوْ أَنَا طَالِبُهَا، لأَِنَّ الاِعْتِبَارَ لِلْمَعْنَى (3) .
__________
(1) البدائع 6 / 2711، الهداية مع فتح القدير 9 / 383، ومغني المحتاج 2 / 307.
(2) منتهى الإرادات 1 / 528، المقنع 2 / 260 - 261.
(3) الهداية مع فتح القدير 9 / 383، تبيين الحقائق 5 / 243، ابن عابدين 6 / 225، ومنتهى الإرادات 1 / 528.(26/151)
ب - طَلَبُ التَّقْرِيرِ وَالإِْشْهَادِ:
34 - هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ مِنَ الْمُطَالَبَةِ اخْتَصَّ بِذِكْرِهَا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى الشَّفِيعِ بَعْدَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ أَنْ يُشْهِدَ وَيَطْلُبَ التَّقْرِيرَ (1) وَطَلَبُ التَّقْرِيرِ هُوَ أَنْ يُشْهِدَ الشَّفِيعُ عَلَى الْبَائِعِ إِنْ كَانَ الْعَقَارُ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ، أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَقَارُ فِي يَدِهِ، أَوْ عِنْدَ الْمَبِيعِ بِأَنَّهُ طَلَبَ وَيَطْلُبُ فِيهِ الشُّفْعَةَ الآْنَ.
وَالشَّفِيعُ مُحْتَاجٌ إِلَى الإِْشْهَادِ لإِِثْبَاتِهِ عِنْدَ الْقَاضِي وَلاَ يُمْكِنُهُ الإِْشْهَادُ ظَاهِرًا عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ لأَِنَّهُ عَلَى فَوْرِ الْعِلْمِ بِالشِّرَاءِ - عِنْدَ الْبَعْضِ - فَيَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى طَلَبِ الإِْشْهَادِ وَالتَّقْرِيرِ (2) .
35 - وَلِبَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ نَقُول: الْمَبِيعُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ طَلَبَ مِنَ الْبَائِعِ، وَإِنْ شَاءَ طَلَبَ مِنَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ طَلَبَ عِنْدَ الْمَبِيعِ.
أَمَّا الطَّلَبُ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَلأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ، الْبَائِعُ بِالْيَدِ وَالْمُشْتَرِي بِالْمِلْكِ، فَصَحَّ الطَّلَبُ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَأَمَّا الطَّلَبُ عِنْدَ الْمَبِيعِ فَلأَِنَّ الْحَقَّ مُتَعَلِّقٌ
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 244، حاشية ابن عابدين 6 / 225.
(2) الهداية مع فتح القدير 9 / 383.(26/152)
بِهِ، فَإِنْ سَكَتَ عَنِ الطَّلَبِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَعِنْدَ الْمَبِيعِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لأَِنَّهُ فَرَّطَ فِي الطَّلَبِ.
وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ طَلَبَ مِنَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ عِنْدَ الْمَبِيعِ، وَلاَ يَطْلُبُ مِنَ الْبَائِعِ لأَِنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا لِزَوَال يَدِهِ وَلاَ مِلْكَ لَهُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الأَْجْنَبِيِّ.
هَذَا إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الطَّلَبِ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعِ أَوْ عِنْدَ الْمَبِيعِ (1) .
وَالإِْشْهَادُ عَلَى طَلَبِ التَّقْرِيرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِتَوْثِيقِهِ عَلَى تَقْدِيرِ الإِْنْكَارِ كَمَا فِي طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ. وَتَسْمِيَةُ الْمَبِيعِ وَتَحْدِيدُهُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الطَّلَبِ وَالإِْشْهَادِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ شَرْطٌ؛ لأَِنَّ الطَّلَبَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْعَقَارُ لاَ يَصِيرُ مَعْلُومًا إِلاَّ بِالتَّحْدِيدِ فَلاَ يَصِحُّ الطَّلَبُ وَالإِْشْهَادُ بِدُونِهِ (2) .
36 - وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَلْفَاظِ الطَّلَبِ، وَصَحَّحَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِلَفْظٍ يَدُل عَلَى الطَّلَبِ أَيَّ لَفْظٍ كَانَ يَكْفِي، نَحْوُ أَنْ يَقُول: ادَّعَيْتُ الشُّفْعَةَ أَوْ سَأَلْتُ الشُّفْعَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُل عَلَى الطَّلَبِ، قَال
__________
(1) البدائع 6 / 2713، الهداية مع فتح القدير 9 / 384، الزيلعي شرح الكنز 5 / 242.
(2) البدائع 6 / 714 م والهداية مع فتح القدير 9 / 385.(26/152)
الْكَاسَانِيُّ: لأَِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الطَّلَبِ، وَمَعْنَى الطَّلَبِ يَتَأَدَّى بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِلَفْظِ الطَّلَبِ أَمْ بِغَيْرِهِ، وَمِنْ صُوَرِ هَذَا الطَّلَبِ مَا ذُكِرَ فِي الْهِدَايَةِ وَالْكَنْزِ، وَهِيَ أَنْ يَقُول الشَّفِيعُ: إِنَّ فُلاَنًا اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ وَأَنَا شَفِيعُهَا، وَقَدْ كُنْتُ طَلَبْتُ الشُّفْعَةَ وَأَطْلُبُهَا الآْنَ فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ (1) .
37 - وَأَمَّا حُكْمُ هَذَا الطَّلَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَهُوَ اسْتِقْرَارُ الْحَقِّ، فَالشَّفِيعُ إِذَا أَتَى بِطَلَبَيْنِ صَحِيحَيْنِ (طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ وَطَلَبِ التَّقْرِيرِ) اسْتَقَرَّ الْحَقُّ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَبْطُل بِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ أَمَامَ الْقَاضِي بِالأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَبَدًا حَتَّى يُسْقِطَهَا بِلِسَانِهِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَال: إِذَا تَرَكَ الْمُخَاصَمَةَ إِلَى الْقَاضِي فِي زَمَانٍ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الْمُخَاصَمَةِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَلَمْ يُؤَقِّتْ فِيهِ وَقْتًا، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِمَا يَرَاهُ الْقَاضِي، وَقَال مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ، إِذَا مَضَى شَهْرٌ بَعْدَ الطَّلَبِ وَلَمْ يَطْلُبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا وَبِهِ أَخَذَتِ الْمَجَلَّةُ (2) . وَجْهُ قَوْل مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ: أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الشَّفِيعِ وَلاَ يَجُوزُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ
__________
(1) البدائع 6 / 2714، والهداية مع فتح القدير 9 / 385، والزيلعي 5 / 244.
(2) مجلة الأحكام العدلية م (1034) .(26/153)
الإِْنْسَانِ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ الإِْضْرَارَ بِغَيْرِهِ، وَفِي إِبْقَاءِ هَذَا الْحَقِّ بَعْدَ تَأْخِيرِ الْخُصُومَةِ أَبَدًا إِضْرَارٌ بِالْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّهُ لاَ يَبْنِي وَلاَ يَغْرِسُ خَوْفًا مِنَ النَّقْضِ وَالْقَلْعِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّقْدِيرِ بِزَمَانٍ، وَقُدِّرَ بِالشَّهْرِ لأَِنَّهُ أَدْنَى الآْجَال، فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ وَلَمْ يَطْلُبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ فَرَّطَ فِي الطَّلَبِ فَتَبْطُل شُفْعَتُهُ.
وَوَجْهُ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ الْحَقَّ لِلشَّفِيعِ قَدْ ثَبَتَ بِالطَّلَبَيْنِ وَالأَْصْل أَنَّ الْحَقَّ مَتَى ثَبَتَ لإِِنْسَانٍ لاَ يَبْطُل إِلاَّ بِإِبْطَالِهِ وَلَمْ يُوجَدْ لأَِنَّ تَأْخِيرَ الْمُطَالَبَةِ مِنْهُ لاَ يَكُونُ إِبْطَالاً، كَتَأْخِيرِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ (1) .
ج - طَلَبُ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ:
38 - طَلَبُ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ هُوَ طَلَبُ الْمُخَاصَمَةِ عِنْدَ الْقَاضِي، فَيَلْزَمُ أَنْ يَطْلُبَ الشَّفِيعُ وَيُدْعَى فِي حُضُورِ الْحَاكِمِ بَعْدَ طَلَبِ التَّقْرِيرِ وَالإِْشْهَادِ.
وَلاَ تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِتَأْخِيرِ هَذَا الطَّلَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَقَال مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ إِنْ تَرَكَهَا شَهْرًا بَعْدَ الإِْشْهَادِ بَطَلَتْ.
وَلاَ فَرْقَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ لاَ تَبْطُل شُفْعَتُهُ بِالتَّأْخِيرِ بِالاِتِّفَاقِ. لأَِنَّهُ لاَ
__________
(1) البدائع 6 / 2714 وما بعدها، تبيين الحقائق 5 / 244.(26/153)
يَتَمَكَّنُ مِنَ الْخُصُومَةِ إِلاَّ عِنْدَ الْقَاضِي فَكَانَ عُذْرًا.
وَإِذَا تَقَدَّمَ الشَّفِيعُ إِلَى الْقَاضِي فَادَّعَى الشِّرَاءَ وَطَلَبَ الشُّفْعَةَ سَأَلَهُ الْقَاضِي فَإِنِ اعْتَرَفَ بِمِلْكِهِ الَّذِي يَشْفَعُ بِهِ، وَإِلاَّ كَلَّفَهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لأَِنَّ الْيَدَ ظَاهِرٌ مُحْتَمَلٌ فَلاَ تَكْفِي لإِِثْبَاتِ الاِسْتِحْقَاقِ (1) .
فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْبَيِّنَةِ اسْتَحْلَفَ الْمُشْتَرِيَ بِاللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مَالِكٌ لِلَّذِي ذَكَرَهُ مِمَّا يَشْفَعُ بِهِ، فَإِنْ نَكَل أَوْ قَامَتْ لِلشَّفِيعِ بَيِّنَةٌ ثَبَتَ حَقُّهُ فِي الْمُطَالَبَةِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ يَسْأَل الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَل ابْتَاعَ أَمْ لاَ؟ فَإِنْ أَنْكَرَ الاِبْتِيَاعَ قِيل لِلشَّفِيعِ: أَقِمِ الْبَيِّنَةَ لأَِنَّ الشُّفْعَةَ لاَ تَجِبُ إِلاَّ بَعْدَ ثُبُوتِ الْبَيْعِ وَثُبُوتُهُ بِالْحُجَّةِ - فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا اسْتَحْلَفَ الْمُشْتَرِيَ بِاللَّهِ مَا ابْتَاعَ أَوْ بِاللَّهِ مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ شُفْعَةً مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ.
وَلاَ يَلْزَمُ الشَّفِيعَ إِحْضَارُ الثَّمَنِ وَقْتَ الدَّعْوَى بَل بَعْدَ الْقَضَاءِ، فَيَجُوزُ لَهُ الْمُنَازَعَةُ وَإِنْ لَمْ يُحْضِرِ الثَّمَنَ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ (2) .
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 9 / 385، وانظر شرح الكنز 5 / 245، وابن عابدين 6 / 226.
(2) الهداية 9 / 386، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 5 / 245.(26/154)
الشُّفْعَةُ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ:
39 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ، وَلِلذِّمِّيِّ عَلَى الذِّمِّيِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِهَا لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، إِلَى ثُبُوتِهَا لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ أَيْضًا (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الشُّفْعَةِ الَّتِي سَبَقَتْ كَحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُل شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ، رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ (2) .
وَبِالإِْجْمَاعِ لِمَا رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأَجَازَهُ وَأَقَرَّهُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي مَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ
__________
(1) المبسوط 14 / 93، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 5 / 249 - 250، وحاشية الدسوقي 3 / 473، الخرشي 6 / 162، الشرح الصغير للدردير 2 / 227، مواهب الجليل 5 / 310، منح الجليل على مختصر خليل 3 / 583، ونهاية المحتاج 5 / 196، مغني المحتاج 2 / 298، فتح العزيز 11 / 392.
(2) حديث جابر: " قضى بالشفعة " تقدم تخريجه ف 4.(26/154)
يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَيْهِ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا (1) .
وَلأَِنَّ الذِّمِّيَّ كَالْمُسْلِمِ فِي السَّبَبِ وَالْحِكْمَةِ وَهُمَا اتِّصَال الْمِلْكِ بِالشَّرِكَةِ أَوِ الْجِوَارِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الشَّرِيكِ أَوِ الْجَارِ، فَكَمَا جَازَتِ الشُّفْعَةُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَذَلِكَ تَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِهَا لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ (3) ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلَل عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ شُفْعَةَ لِنَصْرَانِيٍّ (4) .
وَبِأَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا قَصَدَتْ مِنْ وَرَاءِ تَشْرِيعِ الشُّفْعَةِ الرِّفْقَ بِالشَّفِيعِ، وَالرِّفْقُ لاَ يَسْتَحِقُّهُ إِلاَّ مَنْ أَقَرَّ بِهَا وَعَمِل بِمُقْتَضَاهَا وَالذِّمِّيُّ لَمْ يُقِرَّ بِهَا وَلَمْ يَعْمَل بِمُقْتَضَاهَا فَلاَ يَسْتَحِقُّ الرِّفْقَ الْمَقْصُودَ بِتَشْرِيعِ الشُّفْعَةِ فَلاَ تَثْبُتُ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ.
وَبِأَنَّ فِي إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ تَسْلِيطًا لَهُ عَلَيْهِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بِالاِتِّفَاقِ (5) .
__________
(1) شرح الهداية 7 / 436، المبسوط 14 / 93.
(2) العناية 5 / 436، ومنح الجليل 3 / 583.
(3) المغني 5 / 551، منتهى الإرادات 1 / 535، المقنع 2 / 275.
(4) حديث: " لا شفعة لنصراني. . . " أخرجه البيهقي (6 / 108 - ط. دائرة المعارف العثمانية) واستنكره، ونقل عن ابن عدي إعلاله.
(5) المغني 5 / 551.(26/155)
تَعَدُّدُ الشُّفَعَاءِ وَتَزَاحُمُهُمْ:
أَوَّلاً. عِنْدَ اتِّحَادِ سَبَبِ الشُّفْعَةِ:
40 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْزِيعِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ عَلَى الشُّفَعَاءِ عِنْدَ اتِّحَادِ سَبَبِ الشُّفْعَةِ لِكُلٍّ مِنْهُمْ بِأَنْ كَانُوا جَمِيعًا مِنْ رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ - أَيْ شُرَكَاءَ مَثَلاً -
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، فِي الأَْظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَدَّدَ الشُّفَعَاءُ وُزِّعَتِ الشُّفْعَةُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ الْحِصَصِ مِنَ الْمِلْكِ، لاَ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالْمِلْكِ فَقُسِّطَ عَلَى قَدْرِهِ كَالأُْجْرَةِ وَالثَّمَنِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ: وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ، إِلَى أَنَّهَا تُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ لاَ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ السَّبَبَ فِي مَوْضُوعِ الشَّرِكَةِ أَصْل الشَّرِكَةِ، وَقَدِ اسْتَوَيَا فِيهِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الاِسْتِحْقَاقِ (2) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 486، وما بعدها، شرح منح الجليل 3 / 586، بلغة السالك 2 / 233، الخرشي 6 / 173، مواهب الجليل 5 / 325، ومغني المحتاج 2 / 305، نهاية المحتاج 5 / 211، الأم 4 / 3، حاشية البجيرمي 3 / 143، والمغني 5 / 523، ومنتهى الإرادات 1 / 529.
(2) البدائع 6 / 2683، 2684، المبسوط 14 / 97، شرح العناية على الهداية 9 / 378، ابن عابدين 6 / 219، شرح الكنز للزيلعي 5 / 241، ونهاية المحتاج 5 / 213، تكملة المجموع 14 / 158، ومنتهى الإرادات 1 / 529، المقنع 2 / 263 - 264.(26/155)
41 - وَكَمَا يُقْسَمُ الْمَشْفُوعُ فِيهِ عَلَى الشُّرَكَاءِ بِالتَّسَاوِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، يُقْسَمُ أَيْضًا عَلَى الْجِيرَانِ بِالتَّسَاوِي بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ مِقْدَارِ الْمُجَاوَرَةِ، فَإِذَا كَانَ لِدَارٍ وَاحِدَةٍ شَفِيعَانِ جَارَانِ جِوَارُهُمَا عَلَى التَّفَاوُتِ بِأَنْ كَانَ جِوَارُ أَحَدِهِمَا بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ الدَّارِ وَجِوَارُ الآْخَرِ بِسُدُسِهَا، كَانَتِ الشُّفْعَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ أَصْل الْجِوَارِ.
فَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي السَّبَبِ أَصْل الشَّرِكَةِ لاَ قَدْرُهَا، وَأَصْل الْجِوَارِ لاَ قَدْرُهُ، وَهَذَا يَعُمُّ حَال انْفِرَادِ الأَْسْبَابِ وَاجْتِمَاعِهَا (1) .
ثَانِيًا: عِنْدَ اخْتِلاَفِ سَبَبِ الشُّفْعَةِ:
42 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَسْبَابَ الشُّفْعَةِ إِذَا اجْتَمَعَتْ يُرَاعَى فِيهَا التَّرْتِيبُ بَيْنَ الشُّفَعَاءِ فَيُقَدَّمُ الأَْقْوَى فَالأَْقْوَى، فَيُقَدَّمُ الشَّرِيكُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ عَلَى الْخَلِيطِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ، وَيُقَدَّمُ الْخَلِيطُ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ عَلَى الْجَارِ الْمُلاَصِقِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنَ الْخَلِيطِ
__________
(1) البدائع 6 / 2683، 2684.(26/156)
وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ (1) وَلأَِنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ هُوَ دَفْعُ ضَرَرِ الدَّخِيل وَأَذَاهُ، وَسَبَبُ وُصُول الضَّرَرِ وَالأَْذَى هُوَ الاِتِّصَال، وَالاِتِّصَال عَلَى هَذِهِ الْمَرَاتِبِ، فَالاِتِّصَال بِالشَّرِكَةِ فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ أَقْوَى مِنَ الاِتِّصَال بِالْخَلْطِ، وَالاِتِّصَال بِالْخَلْطِ أَقْوَى مِنَ الاِتِّصَال بِالْجِوَارِ، وَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ التَّأْثِيرِ تَرْجِيحٌ صَحِيحٌ. فَإِنْ سَلَّمَ الشَّرِيكُ وَجَبَتْ لِلْخَلِيطِ.
وَإِنِ اجْتَمَعَ خَلِيطَانِ يُقَدَّمُ الأَْخَصُّ عَلَى الأَْعَمِّ، وَإِنْ سَلَّمَ الْخَلِيطُ وَجَبَتْ لِلْجَارِ لِمَا قُلْنَا، وَهَذَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ الشَّرِيكُ فَلاَ شُفْعَةَ لِغَيْرِهِ (2) .
فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَيْسَ لِلْمُتَأَخِّرِ حَقٌّ إِلاَّ إِذَا سَلَّمَ الْمُتَقَدِّمُ، فَإِنْ سَلَّمَ فَلِلْمُتَأَخِّرِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ؛ لأَِنَّ السَّبَبَ قَدْ تَقَرَّرَ فِي حَقِّ الْكُل
__________
(1) حديث: " الشريك أحق من الخليط. . . . " قال الزيلعي في نصب الراية (4 / 176 - ط. المجلس العلمي) : " غريب، وذكره ابن الجوزي في التحقيق وقال: إنه حديث لا يعرف، وإنما المعروف ما رواه سعيد بن منصور. . ثم ذكر إسناده إلى الشعبي قال: قال رسول الله صلى الل
(2) البدائع 6 / 2690، المبسوط 14 / 94 - 96، تكملة فتح القدير 9 / 375، تبيين الحقائق 5 / 239، 240، ابن عابدين 6 / 219 وما بعدها.(26/156)
إِلاَّ أَنَّ لِلشَّرِيكِ حَقَّ التَّقَدُّمِ.
وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْجَارُ طَلَبَ الشُّفْعَةَ مَعَ الشَّرِيكِ إِذَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ لِيُمْكِنَهُ الأَْخْذُ إِذَا سَلَّمَ الشَّرِيكُ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ حَتَّى سَلَّمَ الشَّرِيكُ فَلاَ يَحِقُّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ (1) . وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لاَ يُثْبِتُونَ الشُّفْعَةَ إِلاَّ لِلشَّرِيكِ فِي الْمِلْكِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَتَأَتَّى التَّزَاحُمُ عِنْدَهُمْ لأَِنَّهُمْ وَإِنْ وَافَقُوهُمْ فِي ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُمْ ذَهَبُوا مَذْهَبًا آخَرَ فَجَعَلُوهَا لِلشُّرَكَاءِ فِي الْعَقَارِ دُونَ تَرْتِيبٍ إِذَا مَا كَانُوا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا يَكُونُ كُل شَرِيكٍ أَصْلاً فِي الشَّرِكَةِ لاَ خَلَفًا فِيهَا عَنْ غَيْرِهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ خَلَفًا فِي الشَّرِكَةِ عَنْ غَيْرِهِ دُونَ بَعْضٍ فَلاَ تَكُونُ لَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ وَإِنَّمَا يُقَدَّمُ الشَّرِيكُ فِي السَّهْمِ الْمُبَاعِ بَعْضُهُ عَلَى الشَّرِيكِ فِي أَصْل الْعَقَارِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي الْوَرَثَةِ، فَإِذَا كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا عَنْ جَدَّتَيْنِ، وَزَوْجَتَيْنِ، وَشَقِيقَتَيْنِ، فَبَاعَتْ إِحْدَى هَؤُلاَءِ حَظَّهَا مِنَ الدَّارِ كَانَتِ الشُّفْعَةُ أَوَّلاً لِشَرِيكَتِهَا فِي السَّهْمِ دُونَ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ وَالشَّرِيكِ الأَْجْنَبِيِّ، فَتَكُونُ الْجَدَّةُ - مَثَلاً - أَوْلَى بِمَا تَبِيعُ صَاحِبَتُهَا (وَهِيَ الْجَدَّةُ الأُْخْرَى) لاِشْتِرَاكِهِمَا
__________
(1) العناية على الهداية 9 / 376، والبدائع 6 / 2690، والمبسوط 14 / 96، وتبيين الحقائق 5 / 240.(26/157)
فِي السُّدُسِ، وَهَكَذَا (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، إِنْ أَعَارَ شَخْصٌ أَرْضَهُ لِقَوْمٍ يَبْنُونَ فِيهَا أَوْ يَغْرِسُونَ فِيهَا فَفَعَلُوا ثُمَّ بَاعَ أَحَدَهُمْ حَظَّهُ مِنَ الْبِنَاءِ أَوِ الشَّجَرِ قُدِّمَ الشَّخْصُ الْمُعِيرُ عَلَى شُرَكَاءِ الْبَائِعِ فِي أَخْذِ الْحَظِّ الْمَبِيعِ بِقِيمَةِ نَقْضِهِ مَنْقُوضًا أَوْ بِثَمَنِهِ الَّذِي بِيعَ بِهِ فَالْخِيَارُ لَهُ عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ، هَذَا فِي الإِْعَارَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَأَمَّا الْمُقَيَّدَةُ بِزَمَنٍ مَعْلُومٍ وَلَمْ يُنْقَضْ فَقَال ابْنُ رُشْدٍ: إِنْ بَاعَ أَحَدُهُمْ حَظَّهُ قَبْل انْقِضَاءِ أَمَدِ الإِْعَارَةِ عَلَى الْبَقَاءِ فَلِشَرِيكِهِ الشُّفْعَةُ وَلاَ مَقَال لِرَبِّ الأَْرْضِ إِنْ بَاعَهُ عَلَى الْبَقَاءِ، وَإِنْ بَاعَهُ عَلَى النَّقْضِ قُدِّمَ رَبُّ الأَْرْضِ.
فَإِذَا بَنَى رَجُلاَنِ فِي عَرْصَةِ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ، ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنَ النَّقْضِ فَلِرَبِّ الأَْرْضِ أَخْذُهُ بِالأَْقَل مِنْ قِيمَتِهِ مَقْلُوعًا أَوْ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَهُ بِهِ، فَإِنْ أَبَى فَلِشَرِيكِهِ الشُّفْعَةُ لِلضَّرَرِ إِذْ هُوَ أَصْل الشُّفْعَةِ (2) .
ثَالِثًا: مُزَاحَمَةُ الْمُشْتَرِي الشَّفِيعَ لِغَيْرِهِ مِنَ الشُّفَعَاءِ:
43 - إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي شَفِيعًا، فَإِنَّهُ يُزَاحِمُ
__________
(1) شرح منح الجليل على مختصر خليل 3 / 602، الخرشي 6 / 177 - 178، حاشية الدسوقي 3 / 492 وما بعدها.
(2) شرح منح الجليل 3 / 592، مواهب الجليل 5 / 318، الخرشي 6 / 167 - 168.(26/157)
غَيْرَهُ مِنَ الشُّفَعَاءِ بِقُوَّةِ سَبَبِهِ وَيُزَاحِمُونَهُ كَذَلِكَ بِقُوَّةِ السَّبَبِ وَيُقَاسِمُهُمْ وَيُقَاسِمُونَهُ إِذَا كَانُوا مِنْ دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ.
فَالْمُشْتَرِي الشَّفِيعُ يُقَدَّمُ عَلَى مَنْ دُونَهُ فِي سَبَبِ الشُّفْعَةِ، وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ فِي السَّبَبِ (1) .
وَعَلَى هَذَا إِذَا تَسَاوَى الْمُشْتَرِي مَعَ الشُّفَعَاءِ فِي الرُّتْبَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ شَفِيعًا مِثْلَهُمْ فَيُشَارِكُهُمْ وَلاَ يُقَدَّمُ أَحَدُهُمْ عَلَى الآْخَرِ بِشَيْءٍ وَيُقْسَمُ الْعَقَارُ الْمَشْفُوعُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ رُءُوسِهِمْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى قَدْرِ أَمْلاَكِهِمْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ كَمَا هُوَ أَصْل كُلٍّ مِنْهُمْ فِي تَقْسِيمِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ عَلَى الشُّفَعَاءِ فِي حَالَةِ مَا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا (2) .
طَرِيقُ التَّمَلُّكِ بِالشُّفْعَةِ:
44 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّمَلُّكِ بِالشُّفْعَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلشَّفِيعِ إِلاَّ بِتَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي بِالتَّرَاضِي، أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي.
أَمَّا التَّمَلُّكُ بِالتَّسْلِيمِ مِنَ الْمُشْتَرِي فَظَاهِرٌ؛ لأَِنَّ الأَْخْذَ بِتَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي بِرِضَاهُ
__________
(1) الهندية 5 / 178 - 488، حاشية ابن عابدين 6 / 239، شرح منح الجليل على مختصر خليل 3 / 602، الخرشي 6 / 164.
(2) المراجع السابقة، والمغني 5 / 525 وما بعدها، وانظر منتهى الإرادات 1 / 530، المقنع 2 / 264.(26/158)
بِبَدَلٍ يَبْذُلُهُ الشَّفِيعُ وَهُوَ الثَّمَنُ يُفَسِّرُ الشِّرَاءَ وَالشِّرَاءُ تَمَلُّكٌ.
وَأَمَّا قَضَاءُ الْقَاضِي فَلأَِنَّهُ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ عَنْ مَالِكِهِ إِلَى غَيْرِهِ قَهْرًا، فَافْتَقَرَ إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ كَأَخْذِ دَيْنِهِ. وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالشُّفْعَةِ وَكَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ، فَقَال بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ: الْبَيْعُ لاَ يُنْتَقَضُ بَل تَتَحَوَّل الصَّفْقَةُ إِلَى الشَّفِيعِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ الَّذِي جَرَى بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَيَنْعَقِدُ لِلشَّفِيعِ بَيْعٌ آخَرُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَوَجْهُ مَنْ قَال بِالتَّحَوُّل، أَنَّ الْبَيْعَ لَوِ انْتَقَضَ لِتَعَذُّرِ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فَإِذَا انْتُقِضَ لَمْ يَجِبْ فَتَعَذَّرَ الأَْخْذُ.
وَوَجْهُ مَنْ قَال إِنَّهُ يُنْتَقَضُ، نَصَّ كَلاَمِ مُحَمَّدٍ حَيْثُ قَال: انْتُقِضَ الْبَيْعُ فِيمَا بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ.
وَمِنَ الْمَعْقُول أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا قَضَى بِالشُّفْعَةِ قَبْل الْقَبْضِ فَقَدْ عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ قَبْضِ الْمَبِيعِ وَالْعَجْزُ عَنْ قَبْضِهِ يُوجِبُ بُطْلاَنَ الْبَيْعِ لِخُلُوِّهِ عَنِ الْفَائِدَةِ، كَمَا إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْل الْقَبْضِ.
وَلأَِنَّ الْمِلْكَ قَبْل الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِلْمُشْتَرِي لِوُجُودِ آثَارِ الْمِلْكِ فِي حَقِّهِ وَلَوْ تَحَوَّل الْمِلْكُ إِلَى(26/158)
الشَّفِيعِ لَمْ يَثْبُتِ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي (1) .
45 - وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي أَخَذَهُ مِنْهُ وَدَفَعَ الثَّمَنَ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَالْبَيْعُ الأَْوَّل صَحِيحٌ؛ لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَ التَّمَلُّكِ وَقَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَيُجْعَل كَأَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ.
ثُمَّ إِذَا أَخَذَ الدَّارَ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ يَدْفَعُ الثَّمَنَ إِلَى الْبَائِعِ وَكَانَتِ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، وَيَسْتَرِدُّ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مِنَ الْبَائِعِ إِنْ كَانَ قَدْ نَقَدَ.
وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي دَفَعَ الثَّمَنَ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَكَانَتِ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْعُهْدَةَ هِيَ مِنَ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عِنْدَ الاِسْتِحْقَاقِ فَيَكُونُ عَلَى مَنْ قَبَضَهُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا كَانَ نَقَدَ الثَّمَنَ وَلَمْ يَقْبِضِ الدَّارَ حَتَّى قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِمَحْضَرٍ مِنْهُمَا أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الدَّارَ مِنَ الْبَائِعِ وَيَنْقُدُ الثَّمَنَ لِلْمُشْتَرِي وَالْعُهْدَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْقُدْ دَفَعَ الشَّفِيعُ الثَّمَنَ إِلَى الْبَائِعِ، وَالْعُهْدَةُ عَلَى الْبَائِعِ (2) .
46 - وَشَرْطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: حُضُورُ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لاَ يَجُوزُ، فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَلاَ بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي
__________
(1) البدائع 6 / 2724، وابن عابدين 6 / 219، وتبيين الحقائق 5 / 242.
(2) البدائع 6 / 2725، 2726 وما بعدها.(26/159)
جَمِيعًا؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ، أَمَّا الْبَائِعُ فَبِالْيَدِ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَبِالْمِلْكِ فَكَانَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فَيُشْتَرَطُ حُضُورُهُمَا لِئَلاَّ يَكُونَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَحُضُورُ الْبَائِعِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيُكْتَفَى بِحُضُورِ الْمُشْتَرِي لأَِنَّ الْبَائِعَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا لِزَوَال مِلْكِهِ وَيَدِهِ عَنِ الْمَبِيعِ فَصَارَ كَالأَْجْنَبِيِّ، وَكَذَا حُضُورُ الشَّفِيعِ أَوْ وَكِيلِهِ شَرْطُ جَوَازِ الْقَضَاءِ لَهُ بِالشُّفْعَةِ، لأَِنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ كَمَا لاَ يَجُوزُ، فَالْقَضَاءُ لِلْغَائِبِ لاَ يَجُوزُ أَيْضًا، ثُمَّ الْقَاضِي إِذَا قَضَى بِالشُّفْعَةِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلشَّفِيعِ وَلاَ يَقِفُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لَهُ عَلَى التَّسْلِيمِ؛ لأَِنَّ الْمِلْكَ لِلشَّفِيعِ يَثْبُتُ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ، وَالشِّرَاءُ الصَّحِيحُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ (1) .
47 - وَوَقْتُ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ، هُوَ وَقْتُ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُطَالَبَةِ بِهَا فَإِذَا طَالَبَهُ بِهَا الشَّفِيعُ يَقْضِي لَهُ الْقَاضِي بِالشُّفْعَةِ، سَوَاءٌ أَحْضَرَ الثَّمَنَ أَمْ لاَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَ الدَّارَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ مِنَ الشَّفِيعِ وَلِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ لاِسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَنْقُدَ حَبَسَهُ الْقَاضِي؛ لأَِنَّهُ ظَهَرَ
__________
(1) البدائع 6 / 2727، المبسوط 14 / 102، تبيين الحقائق على الكنز 5 / 245، 246.(26/159)
ظُلْمُهُ بِالاِمْتِنَاعِ مِنْ إِيفَاءِ حَقٍّ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، فَيَحْبِسُهُ وَلاَ يَنْقُضُ الشُّفْعَةَ، وَإِنْ طَلَبَ أَجَلاً أَجَّلَهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ النَّقْدُ لِلْحَال فَيَحْتَاجُ إِلَى مُدَّةٍ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنَ النَّقْدِ فَيُمْهِلُهُ وَلاَ يَحْبِسُهُ، فَإِنْ مَضَى الأَْجَل وَلَمْ يَنْقُدْ حَبَسَهُ.
وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِالشُّفْعَةِ حَتَّى يُحْضِرَ الشَّفِيعُ الْمَال، فَإِنْ طَلَبَ أَجَلاً أَجَّلَهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَمْ يَقْضِ لَهُ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنْ قَضَى بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ أَبَى الشَّفِيعُ أَنْ يَنْقُدَ حَبَسَهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُ الشِّقْصَ بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلاَثَةٍ:
أ - حُكْمُ الْحَاكِمِ لَهُ.
ب - دَفْعُ ثَمَنٍ مِنَ الشَّفِيعِ لِلْمُشْتَرِي.
ج - الإِْشْهَادُ بِالأَْخْذِ وَلَوْ فِي غَيْبَةِ الْمُشْتَرِي، وَقِيل لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِحُضُورِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُشْتَرَطُ فِي التَّمَلُّكِ بِالشُّفْعَةِ حُكْمُ الْحَاكِمِ، وَلاَ إِحْضَارُ الثَّمَنِ، وَلاَ حُضُورُ الْمُشْتَرِي وَلاَ رِضَاهُ، وَلاَ بُدَّ مِنْ جِهَةِ الشَّفِيعِ مِنْ لَفْظٍ، كَقَوْلِهِ: تَمَلَّكْتُ، أَوِ اخْتَرْتُ الأَْخْذَ بِالشُّفْعَةِ، أَوْ
__________
(1) البدائع 6 / 2728، الزيلعي 5 / 245.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 487، وما بعدها، الخرشي 6 / 174.(26/160)
أَخَذْتُهُ بِالشُّفْعَةِ، وَمَا أَشْبَهَهُ. وَإِلاَّ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُعَاطَاةِ. وَلَوْ قَال. أَنَا مُطَالِبٌ بِالشُّفْعَةِ، لَمْ يَحْصُل بِهِ التَّمَلُّكُ عَلَى الأَْصَحِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي. وَلِذَلِكَ قَالُوا: يُعْتَبَرُ فِي التَّمَلُّكِ بِهَا، أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَعْلُومًا لِلشَّفِيعِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ فِي الطَّلَبِ. ثُمَّ لاَ يَمْلِكُ الشَّفِيعُ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، بَل يُعْتَبَرُ مَعَهُ أَحَدُ أُمُورٍ.
الأَْوَّل: أَنْ يُسَلِّمَ الْعِوَضَ إِلَى الْمُشْتَرِي، فَيَمْلِكَ بِهِ إِنِ اسْتَلَمَهُ، وَإِلاَّ فَيُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، أَوْ يَرْفَعَ الأَْمْرَ إِلَى الْقَاضِي حَتَّى يُلْزِمَهُ التَّسْلِيمَ. قَال النَّوَوِيُّ: أَوْ يَقْبِضُ عَنْهُ الْقَاضِي.
الثَّانِي: أَنْ يُسَلِّمَ الْمُشْتَرِي الشِّقْصَ وَيَرْضَى بِكَوْنِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الشَّفِيعِ، إِلاَّ أَنْ يَبِيعَ، وَلَوْ رَضِيَ بِكَوْنِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَمْ يُسَلِّمِ الشِّقْصَ، فَوَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: لاَ يَحْصُل الْمِلْكُ؛ لأَِنَّ قَوْل الْمُشْتَرِي وَعْدٌ. وَأَصَحُّهُمَا: الْحُصُول؛ لأَِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ، وَالْمِلْكُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ لاَ يَقِفُ عَلَى الْقَبْضِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْقَاضِي وَيُثْبِتَ حَقَّهُ بِالشُّفْعَةِ، وَيَخْتَارَ التَّمَلُّكَ، فَيَقْضِيَ الْقَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لاَ يَحْصُل الْمِلْكُ حَتَّى يَقْبِضَ عِوَضَهُ، أَوْ يَرْضَى بِتَأَخُّرِهِ، وَأَصَحُّهُمَا: الْحُصُول.(26/160)
وَإِذَا مَلَكَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِغَيْرِ الطَّرِيقِ الأَْوَّل، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَسَلَّمَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ، وَأَنْ يُسَلِّمَهُ الْمُشْتَرِي قَبْل أَدَاءِ الثَّمَنِ وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُؤَخِّرَ حَقَّهُ بِتَأْخِيرِ الْبَائِعِ حَقَّهُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ حَاضِرًا وَقْتَ التَّمَلُّكِ، أُمْهِل ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. فَإِنِ انْقَضَتْ وَلَمْ يُحْضِرْهُ فَسَخَ الْحَاكِمُ تَمَلُّكَهُ، هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْجُمْهُورُ. وَقِيل: إِذَا قَصَّرَ فِي الأَْدَاءِ، بَطَل حَقُّهُ. وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ، رُفِعَ الأَْمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ وَفَسَخَ مِنْهُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُ الشِّقْصَ بِأَخْذِهِ بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَى أَخْذِهِ، بِأَنْ يَقُول قَدْ أَخَذْتُهُ بِالثَّمَنِ أَوْ تَمَلَّكْتُهُ بِالثَّمَنِ أَوِ اخْتَرْتُ الأَْخْذَ بِالشُّفْعَةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ وَالشِّقْصُ مَعْلُومَيْنِ، وَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ.
وَقَال الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ: يَمْلِكُهُ بِالْمُطَالَبَةِ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ السَّابِقَ سَبَبٌ، فَإِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ كَانَ كَالإِْيجَابِ فِي الْبَيْعِ انْضَمَّ إِلَيْهِ الْقَبُول.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالإِْجْمَاعِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ.
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ إِذَا قَال قَدْ أَخَذْتُ الشِّقْصَ
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 83 - 85.(26/161)
بِالثَّمَنِ الَّذِي تَمَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَهُوَ عَالِمٌ بِقَدْرِهِ وَبِالْمَبِيعِ صَحَّ الأَْخْذُ، وَمَلَكَ الشِّقْصَ وَلاَ خِيَارَ لِلشَّفِيعِ وَلاَ لِلْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّ الشِّقْصَ يُؤْخَذُ قَهْرًا وَالْمَقْهُورُ لاَ خِيَارَ لَهُ. وَالآْخِذُ قَهْرًا لاَ خِيَارَ لَهُ أَيْضًا.
وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَوِ الشِّقْصُ مَجْهُولاً لَمْ يَمْلِكْهُ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ، فَيُعْتَبَرُ الْعِلْمُ بِالْعِوَضَيْنِ كَسَائِرِ الْبُيُوعِ، وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالشُّفْعَةِ، ثُمَّ يَتَعَرَّفُ مِقْدَارَ الثَّمَنِ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَالْمَبِيعِ فَيَأْخُذُهُ بِثَمَنِهِ وَيَحْتَمِل أَنَّ لَهُ الأَْخْذَ مَعَ جَهَالَةِ الشِّقْصِ بِنَاءً عَلَى بَيْعِ الْغَائِبِ (1) .
الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ فِي الْمَال الْمَشْفُوعِ فِيهِ:
48 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الأَْرْضِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا أَوْ غَرَسَ فِيهَا، ثُمَّ قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ، وَسَبَبُ الاِخْتِلاَفِ عَلَى مَا قَال ابْنُ رُشْدٍ هُوَ تَرَدُّدُ تَصَرُّفِ الْمَشْفُوعِ عَلَيْهِ الْعَالِمِ بِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ بَيْنَ شُبْهَةِ تَصَرُّفِ الْغَاصِبِ وَتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي الَّذِي يَطْرَأُ عَلَيْهِ الاِسْتِحْقَاقُ وَقَدْ بَنَى فِي الأَْرْضِ وَغَرَسَ وَذَلِكَ أَنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا.
فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَبَهُ الاِسْتِحْقَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقِيمَةَ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَبَهُ التَّعَدِّي كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِنَقْضِهِ أَوْ يُعْطِيَهُ
__________
(1) المغني 5 / 474، 475.(26/161)
قِيمَتَهُ مَنْقُوضًا (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الأَْرْضِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا أَوْ غَرَسَ، ثُمَّ قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ وَالْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا، وَإِنْ شَاءَ أَجْبَرَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى قَلْعِهِمَا، فَيَأْخُذُ الأَْرْضَ فَارِغَةً. وَهَذَا هُوَ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. أَنَّهُ بَنَى فِي مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُتَأَكِّدٌ لِلْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَيُنْقَضُ كَالرَّاهِنِ إِذَا بَنَى فِي الْمَرْهُونِ، وَهَذَا لأَِنَّ حَقَّهُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يُنْقَضُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَتَصَرُّفَاتُهُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَلْعِ وَيُخَيَّرُ الشَّفِيعُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي الْبِنَاءِ؛ لأَِنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الدَّارَ مِلْكُهُ، وَالتَّكْلِيفُ بِالْقَلْعِ مِنْ أَحْكَامِ الْعُدْوَانِ وَصَارَ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا، وَكَمَا إِذَا زَرَعَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لاَ يُكَلَّفُ الْقَلْعَ، وَهَذَا لأَِنَّ فِي إِيجَابِ الْقِيمَةِ دَفْعَ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ بِتَحَمُّل الأَْدْنَى فَيُصَارُ إِلَيْهِ (2) .
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 260.
(2) الهداية مع فتح القدير 9 / 398، البدائع 6 / 2739، ابن عابدين 6 / 232 - 233.(26/162)
أَمَّا الزَّرْعُ فَالْقِيَاسُ قَلْعُهُ وَلَكِنَّ الاِسْتِحْسَانَ عَدَمُ قَلْعِهِ، لأَِنَّ لَهُ نِهَايَةً مَعْلُومَةً وَيَبْقَى بِالأَْجْرِ وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَحْدَثَ الْمُشْتَرِي بِنَاءً أَوْ غَرْسًا أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ فِي الشِّقْصِ قَبْل قِيَامِ الشَّفِيعِ، ثُمَّ قَامَ الشَّفِيعُ بِطَلَبِ شُفْعَتِهِ فَلاَ شُفْعَةَ إِلاَّ أَنْ يُعْطَى الْمُشْتَرِي قِيمَةَ مَا بَنَى وَمَا غَرَسَ.
وَلِلْمُشْتَرِي الْغَلَّةُ إِلَى وَقْتِ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ لأَِنَّهُ فِي ضَمَانِهِ قَبْل الأَْخْذِ بِهَا وَالْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي أَوْ غَرَسَ أَوْ زَرَعَ فِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ ثُمَّ عَلِمَ الشَّفِيعُ فَلَهُ الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ وَقَلْعُ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ وَزَرْعِهِ مَجَّانًا لاَ بِحَقِّ الشُّفْعَةِ، وَلَكِنْ لأَِنَّهُ شَرِيكٌ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إِذَا انْفَرَدَ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فِي الأَْرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ كَانَ لِلآْخَرِ أَنْ يَقْلَعَ مَجَّانًا.
وَإِنْ بَنَى الْمُشْتَرِي وَغَرَسَ فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَالتَّمْيِيزِ ثُمَّ عَلِمَ الشَّفِيعُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَلْعُهُ مَجَّانًا، لأَِنَّهُ بَنَى فِي مِلْكِهِ الَّذِي يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ فَلاَ يُقْلَعُ مَجَّانًا.
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 9 / 399.
(2) بداية المجتهد 2 / 260، الخرشي 6 / 168، 169، وحاشية الدسوقي 3 / 493.(26/162)
فَإِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي قَلْعَ الْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلاَ يُكَلَّفُ تَسْوِيَةَ الأَْرْضِ. لأَِنَّهُ كَانَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِهِ، فَإِنْ حَدَثَ فِي الأَْرْضِ نَقْصٌ فَالشَّفِيعُ إِمَّا أَنْ يَأْخُذَهُ عَلَى صِفَتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ الْمُشْتَرِي الْقَلْعَ، فَلِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ بَيْنَ إِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِي الأَْرْضِ بِأُجْرَةٍ وَبَيْنَ تَمَلُّكِهِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الأَْخْذِ، وَبَيْنَ أَنْ يَنْقُضَهُ وَيَغْرَمَ أَرْشَ النَّقْصِ.
وَلَوْ كَانَ قَدْ زَرَعَ فَيَبْقَى زَرْعُهُ إِلَى أَنْ يُدْرِكَ فَيَحْصُدَهُ، وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالأُْجْرَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي أَوْ غَرَسَ أَعْطَاهُ الشَّفِيعُ قِيمَةَ بِنَائِهِ أَوْ غَرْسِهِ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ بِنَاءَهُ وَغِرَاسَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَخْذِهِ ضَرَرٌ. لأَِنَّهُ مَلَكَهُ، فَإِذَا قَلَعَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْحُفَرِ وَلاَ نَقْصُ الأَْرْضِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لأَِنَّهُ غَرَسَ وَبَنَى فِي مِلْكِهِ، وَمَا حَدَثَ مِنَ النَّقْصِ إِنَّمَا حَدَثَ فِي مِلْكِهِ، وَذَلِكَ لاَ يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ.
وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَ النَّقْصِ الْحَاصِل بِالْقَلْعِ؛ لأَِنَّهُ اشْتُرِطَ فِي قَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ عَدَمُ الضَّرَرِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ نَقْصٌ دَخَل عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ لأَِجْل تَخْلِيصِ مِلْكِهِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ؛ لأَِنَّ النَّقْصَ الْحَاصِل
__________
(1) فتح العزيز 11 / 463، ونهاية المحتاج 5 / 209.(26/163)
بِالْقَلْعِ إِنَّمَا هُوَ فِي مِلْكِ الشَّفِيعِ. فَأَمَّا نَقْصُ الأَْرْضِ الْحَاصِل بِالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ فَلاَ يَضْمَنُهُ.
فَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ الْمُشْتَرِي الْقَلْعَ فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ:
أ - تَرْكِ الشُّفْعَةِ.
ب - دَفْعِ قِيمَةِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فَيَمْلِكُهُ مَعَ الأَْرْضِ.
ج - قَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ وَيَضْمَنُ لَهُ مَا نَقَصَ بِالْقَلْعِ (1) .
وَإِنْ زَرَعَ فِي الأَْرْضِ فَلِلشَّفِيعِ الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ وَيَبْقَى زَرْعُ الْمُشْتَرِي إِلَى أَوَانِ الْحَصَادِ، لأَِنَّ ضَرَرَهُ لاَ يَبْقَى وَلاَ أُجْرَةَ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ زَرَعَهُ فِي مِلْكِهِ؛ وَلأَِنَّ الشَّفِيعَ اشْتَرَى الأَْرْضَ وَفِيهَا زَرْعٌ لِلْبَائِعِ مُبْقًى إِلَى الْحَصَادِ بِلاَ أُجْرَةٍ كَغَيْرِ الْمَشْفُوعِ، وَإِنْ كَانَ فِي الشَّجَرِ ثَمَرٌ ظَاهِرٌ أَثْمَرَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ لَهُ مُبْقًى إِلَى الْجُذَاذِ كَالزَّرْعِ (2) .
اسْتِحْقَاقُ الْمَشْفُوعِ فِيهِ لِلْغَيْرِ:
49 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عُهْدَةِ الشَّفِيعِ أَهِيَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَمْ عَلَى الْبَائِعِ. يَعْنِي إِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ فَظَهَرَ مُسْتَحَقًّا، فَعَلَى مَنْ يَرْجِعُ الثَّمَنُ؟
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
__________
(1) المغني 5 / 500، وما بعدها، ومنتهى الإرادات 1 / 532.
(2) المغني 5 / 502، والمقنع 2 / 269.(26/163)
أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ فَظَهَرَ مُسْتَحَقًّا فَرُجُوعُهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِهِ.
وَإِنْ وَجَدَهُ مَعِيبًا فَلَهُ رَدُّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ أَخْذُ أَرْشِهِ مِنْهُ، وَالْمُشْتَرِي يَرُدُّ عَلَى الْبَائِعِ أَوْ يَأْخُذُ الأَْرْشَ مِنْهُ سَوَاءٌ قَبَضَ الشِّقْصَ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنَ الْبَائِعِ فَالْعُهْدَةُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُشْتَرِي.
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، أَنَّ الشُّفْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَحُصُول الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَزُول الْمِلْكُ مِنَ الْمُشْتَرِي إِلَى الشَّفِيعِ بِالثَّمَنِ فَكَانَتِ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ؛ وَلأَِنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فَمَلَكَ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ كَالْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ الأَْوَّل (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ فَأَدَّى ثَمَنَهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ، فَإِنْ أَدَّاهُ لِلْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ سَوَاءٌ اسْتُحِقَّ قَبْل تَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ أَوْ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ أَدَّاهُ لِلْبَائِعِ وَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ وَهُوَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلشَّفِيعِ.
وَيَرْجِعُ الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ فَقَطْ إِنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ ثُمَّ اسْتُحِقَّتِ الْعَيْنُ، وَلاَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ
__________
(1) الخرشي 6 / 180، حاشية الدسوقي 3 / 493، بداية المجتهد 2 / 260، نهاية المحتاج 5 / 217، والمغني 5 / 534، المقنع 2 / 274.(26/164)
الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ عَلَى أَحَدٍ لأَِنَّهُ لَيْسَ مُقَرَّرًا بِهِ (1) .
وَقَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: الْعُهْدَةُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ لَهُ بِإِيجَابِ الْبَائِعِ فَكَانَ رُجُوعُهُ عَلَيْهِ كَالْمُشْتَرِي (2) .
تَبِعَةُ الْهَلاَكِ:
50 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا هَدَمَ الْمُشْتَرِي بِنَاءَ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ أَوْ هَدَمَهُ غَيْرُهُ أَوْ قَلَعَ الأَْشْجَارَ الَّتِي كَانَتْ مَغْرُوسَةً فِي الأَْرْضِ الْمَشْفُوعَةِ فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الْعَرْصَةَ أَوِ الأَْرْضَ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ بِأَنْ يُقْسَمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْعَرْصَةِ أَوِ الأَْرْضِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ أَوِ الشَّجَرِ وَمَا خَصَّ الْعَرْصَةَ أَوِ الأَْرْضَ مِنْهُ يَدْفَعُهُ الشَّفِيعُ وَتَكُونُ الأَْنْقَاضُ وَالأَْخْشَابُ لِلْمُشْتَرِي. وَإِذَا تَخَرَّبَتِ الدَّارُ الْمَشْفُوعَةُ أَوْ جَفَّتْ أَشْجَارُ الْبُسْتَانِ الْمَشْفُوعِ بِلاَ تَعَدِّي أَحَدٍ عَلَيْهَا يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى، فَإِنْ كَانَ بِهَا أَنْقَاضٌ أَوْ خَشَبٌ وَأَخَذَهُ الْمُشْتَرِي تَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ بِأَنْ يُقْسَمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الدَّارِ أَوِ الْبُسْتَانِ يَوْمَ الْعَقْدِ وَقِيمَةِ الأَْنْقَاضِ وَالْخَشَبِ يَوْمَ الأَْخْذِ، وَإِذَا تَلِفَ بَعْضُ الأَْرْضِ الْمَشْفُوعَةِ بِغَرَقٍ أَوْ نَحْوِهِ سَقَطَتْ حِصَّةُ التَّالِفِ مِنْ أَصْل الثَّمَنِ،
__________
(1) الهداية 8 / 325، والزيلعي على الكنز 5 / 251، وابن عابدين 6 / 228.
(2) المغني 5 / 534.(26/164)
وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الأَْرْضَ مَعَ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ بِالثَّمَنِ الأَْوَّل إِذَا كَانَ مُتَّصِلاً، فَأَمَّا إِذَا زَال الاِتِّصَال ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَلاَ سَبِيل لِلشَّفِيعِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ قَائِمَةً سَوَاءٌ أَكَانَ الزَّوَال بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَمْ بِصُنْعِ الْمُشْتَرِي أَوِ الأَْجْنَبِيِّ؛ لأَِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ الأَْشْيَاءِ إِنَّمَا ثَبَتَ مَعْدُولاً بِهِ عَنِ الْقِيَاسِ مَعْلُولاً بِالتَّبَعِيَّةِ وَقَدْ زَالَتِ التَّبَعِيَّةُ بِزَوَال الاِتِّصَال فَيُرَدُّ الْحُكْمُ فِيهِ إِلَى أَصْل الْقِيَاسِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي نَقْصَ الشِّقْصِ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِلاَ سَبَبٍ مِنْهُ وَإِنَّمَا بِسَبَبٍ سَمَاوِيٍّ أَوْ تَغَيُّرِ سُوقٍ أَوْ كَانَ بِسَبَبٍ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ فَعَلَهُ لِمَصْلَحَةٍ كَهَدْمٍ لِمَصْلَحَةٍ مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّ لَهُ شَفِيعًا أَمْ لاَ. فَإِنْ هَدَمَ لاَ لِمَصْلَحَةٍ ضَمِنَ، فَإِنْ هَدَمَ وَبَنَى فَلَهُ قِيمَتُهُ عَلَى الشَّفِيعِ قَائِمًا لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ وَتُعْتَبَرُ يَوْمَ الْمُطَالَبَةِ وَلَهُ قِيمَةُ النَّقْصِ الأَْوَّل مَنْقُوضًا يَوْمَ الشِّرَاءِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَعَيَّبَتِ الدَّارُ الْمُشْتَرَى بَعْضُهَا أَخَذَ الشَّفِيعُ بِكُل الثَّمَنِ أَوْ
__________
(1) البدائع 6 / 2736، 2739، المبسوط 14 / 1150، الهداية مع الفتح 9 / 402، وتبيين الحقائق 5 / 251 - 252، وانظر ابن عابدين 6 / 233 وما بعدها.
(2) الشرح الصغير بهامش بلغة السالك 2 / 236، حاشية الدسوقي 3 / 494.(26/165)
تَرَكَ كَتَعَيُّبِهَا بِيَدِ الْبَائِعِ، وَكَذَا لَوِ انْهَدَمَتْ بِلاَ تَلَفٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا، فَإِنْ وَقَعَ تَلَفٌ لِبَعْضِهَا فَبِالْحِصَّةِ مِنَ الثَّمَنِ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَلِفَ الشِّقْصُ أَوْ بَعْضُهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ. لأَِنَّهُ مِلْكُهُ تَلِفَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ إِنْ أَرَادَ الشَّفِيعُ الأَْخْذَ بَعْدَ تَلَفِ بَعْضِهِ أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ أَكَانَ التَّلَفُ بِفِعْل اللَّهِ تَعَالَى أَمْ بِفِعْل آدَمِيٍّ، وَسَوَاءٌ أَتَلِفَ بِاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي كَنَقْضِهِ لِلْبِنَاءِ أَمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ مِثْل أَنِ انْهَدَمَ.
ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الأَْنْقَاضُ مَوْجُودَةً أَخَذَهَا مَعَ الْعَرْصَةِ بِالْحِصَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً أَخَذَ الْعَرْصَةَ وَمَا بَقِيَ مِنَ الْبِنَاءِ وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيِّ وَالْعَنْبَرِيِّ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَى الشَّفِيعِ أَخْذُ الْجَمِيعِ وَقَدَرَ عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ فَكَانَ لَهُ بِالْحِصَّةِ مِنَ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ تَلِفَ بِفِعْل آدَمِيٍّ سِوَاهُ أَوْ لَوْ كَانَ لَهُ شَفِيعٌ آخَرُ. أَوْ نَقُول: أَخَذَ بَعْضَ مَا دَخَل مَعَهُ فِي الْعَقْدِ، فَأَخَذَهُ بِالْحِصَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ سَيْفٌ.
وَأَمَّا الضَّرَرُ فَإِنَّمَا حَصَل بِالتَّلَفِ وَلاَ صُنْعَ لِلشَّفِيعِ فِيهِ وَالَّذِي يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ يُؤَدِّي ثَمَنَهُ فَلاَ يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي بِأَخْذِهِ.
وَإِنَّمَا قَالُوا بِأَخْذِ الأَْنْقَاضِ وَإِنْ كَانَتْ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 370.(26/165)
مُنْفَصِلَةً لأَِنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لِلشُّفْعَةِ كَانَ حَال عَقْدِ الْبَيْعِ وَفِي تِلْكَ الْحَال كَانَ مُتَّصِلاً اتِّصَالاً لَيْسَ مَآلُهُ إِلَى الاِنْفِصَال وَانْفِصَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يُسْقِطُ حَقَّ الشُّفْعَةِ. وَإِنْ نُقِضَتِ الْقِيمَةُ مَعَ بَقَاءِ صُورَةِ الْمَبِيعِ مِثْل انْشِقَاقِ الْحَائِطِ وَانْهِدَامِ الْبِنَاءِ، وَشُعْثِ الشَّجَرِ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ الأَْخْذُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوِ التَّرْكُ. لأَِنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ لاَ يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ بِخِلاَفِ الأَْعْيَانِ (1) .
مِيرَاثُ الشُّفْعَةِ:
51 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِيرَاثِ حَقِّ الشُّفْعَةِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ يُورَثُ، فَإِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ يَنْتَقِل حَقُّ الشُّفْعَةِ إِلَى وَرَثَتِهِ.
وَقَيَّدَهُ الْحَنَابِلَةُ بِمَا إِذَا كَانَ الشَّفِيعُ قَدْ طَالَبَ بِالشُّفْعَةِ قَبْل مَوْتِهِ.
وَوَجْهُ الاِنْتِقَال عِنْدَهُمْ أَنَّهُ خِيَارٌ ثَابِتٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمَال فَوُرِثَ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَقَبْل الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ حَقُّ الأَْخْذِ بِهَا، فَتَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِمَوْتِ
__________
(1) المغني 5 / 503.
(2) بداية المجتهد 2 / 260، ونهاية المحتاج 5 / 217، والمغني 5 / 536 وما بعدها، منتهى الإرادات 1 / 532.(26/166)
الشَّفِيعِ وَلاَ تَنْتَقِل إِلَى الْوَرَثَةِ لأَِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِمَالٍ وَإِنَّمَا مُجَرَّدُ الرَّأْيِ وَالْمَشِيئَةِ وَهُمَا لاَ يَبْقَيَانِ بَعْدَ مَوْتِ الشَّفِيعِ وَلأَِنَّ مِلْكَ الشَّفِيعِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ قَدْ زَال بِمَوْتِهِ. أَمَّا إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ أَوْ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي لَهُ بِهَا فَلِوَرَثَتِهِ أَخْذُهَا بِالشُّفْعَةِ (1) .
وَإِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعُ حَيٌّ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَحِقَّ بَاقٍ، وَبِمَوْتِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ لَمْ يَتَغَيَّرِ الاِسْتِحْقَاقُ (2) .
مُسْقِطَاتُ الشُّفْعَةِ:
52 - تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِمَا يَلِي:
أَوَّلاً: تَرْكُ أَحَدِ الطَّلَبَاتِ الثَّلاَثَةِ فِي وَقْتِهِ وَهِيَ طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ، وَطَلَبُ التَّقْرِيرِ وَالإِْشْهَادِ، وَطَلَبُ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ إِذَا تُرِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ (3) .
ثَانِيًا: إِذَا طَلَبَ الشَّفِيعُ بَعْضَ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ وَكَانَ قِطْعَةً وَاحِدَةً وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا،
__________
(1) العناية على الهداية مع فتح القدير 9 / 416، 417، المبسوط 14 / 116، البدائع 6 / 2721، الزيلعي 5 / 257، ابن عابدين 6 / 241.
(2) المبسوط 14 / 116، والبدائع 6 / 2721.
(3) الهداية مع الفتح 9 / 417، والبدائع 6 / 2715، المبسوط 14 / 92، وشرح الكنز 5 / 257، 258، ابن عابدين 6 / 240، 242، والخرشي 6 / 172، حاشية الدسوقي 3 / 484، 486، ونهاية المحتاج ومغني المحتاج 2 / 308، 392، والمغني 5 / 477.(26/166)
لأَِنَّ الشُّفْعَةَ لاَ تَقْبَل التَّجْزِئَةَ (1) .
ثَالِثًا: مَوْتُ الشَّفِيعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَبْل الأَْخْذِ بِهَا رِضَاءً أَوْ قَضَاءً سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَفَاةُ قَبْل الطَّلَبِ أَمْ بَعْدَهُ. وَلاَ تُورَثُ عَنْهُ عِنْدَهُمْ (2) .
رَابِعًا: الإِْبْرَاءُ وَالتَّنَازُل عَنِ الشُّفْعَةِ: فَالإِْبْرَاءُ الْعَامُّ مِنَ الشَّفِيعِ يُبْطِلُهَا قَضَاءً مُطْلَقًا لاَ دِيَانَةً إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا (3) .
وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّنَازُل عَنِ الشُّفْعَةِ بِالتَّفْصِيل كَالتَّالِي:
53 - إِذَا تَنَازَل الشَّفِيعُ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ سَقَطَ حَقُّهُ فِي طَلَبِهَا، وَالتَّنَازُل هَذَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ ضِمْنِيًّا.
فَالتَّنَازُل الصَّرِيحُ نَحْوُ أَنْ يَقُول الشَّفِيعُ: أَبْطَلْتُ الشُّفْعَةَ أَوْ أَسْقَطْتُهَا أَوْ أَبْرَأْتُكَ عَنْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الشُّفْعَةَ خَالِصُ حَقِّهِ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا كَالإِْبْرَاءِ عَنِ الدَّيْنِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سَوَاءٌ عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْبَيْعِ.
أَمَّا التَّنَازُل الضِّمْنِيُّ فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ مِنَ الشَّفِيعِ مَا يَدُل عَلَى رِضَاهُ بِالْبَيْعِ وَثُبُوتِ الْمِلْكِ
__________
(1) المبسوط 14 / 104، البدائع 6 / 2729، حاشية الدسوقي 3 / 490، والمغني 5 / 483، المقنع 2 / 263، منتهى الإرادات 1 / 529.
(2) الكنز مع الزيلعي 5 / 257، ابن عابدين 6 / 241.
(3) حاشية ابن عابدين 6 / 249 ط 2.(26/167)
لِلْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمُشْتَرِي فَإِذَا رَضِيَ بِالشِّرَاءِ أَوْ بِحُكْمِهِ فَقَدْ رَضِيَ بِضَرَرِ جِوَارِهِ فَلاَ يَسْتَحِقُّ الدَّفْعَ بِالشُّفْعَةِ (1) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِسْقَاطٌ) .
التَّنَازُل عَنِ الشُّفْعَةِ قَبْل الْبَيْعِ:
54 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَازَل الشَّفِيعُ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ قَبْل بَيْعِ الْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ فِي طَلَبِهَا بَعْدَ الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ هَذَا التَّنَازُل إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْل وُجُوبِهِ وَوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ مُحَالٌ (2) .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تَسْقُطُ بِالتَّنَازُل عَنْهَا قَبْل الْبَيْعِ - فَإِنَّ إِسْمَاعِيل بْنَ سَعِيدٍ قَال: قُلْتُ لأَِحْمَدَ: مَا مَعْنَى قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ رَبْعَةٌ فَأَرَادَ بَيْعَهَا فَلْيَعْرِضْهَا عَلَيْهِ (3) .
__________
(1) البدائع 6 / 2706، 2715، وما بعدها، شرح العناية على الهداية 9 / 417، والشرح الصغير 2 / 231، والقليوبي 3 / 49، ومغني المحتاج 2 / 219، والمغني 5 / 482.
(2) البدائع 6 / 2715، والزيلعي 5 / 242 حاشية الدسوقي 3 / 488، شرح منح الجليل 3 / 603، ومغني المحتاج 2 / 309، المغني 5 / 541.
(3) حديث: " من كان بينه وبين أخيه. . . " ورد بلفظ: " أيما قوم كانت بينهم رباعة فأراد أحدهم أن يبيع نصيبه فليعرضه على شركائه، فإن أخذوه فهم أحق بالثمن ". أخرجه أحمد (3 / 310 ط. الميمنية) من حديث جابر بن عبد الله، وفي إسناده انقطاع.(26/167)
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: وَلاَ يَحِل لَهُ إِلاَّ أَنْ يَعْرِضَهَا عَلَيْهِ (1) إِذَا كَانَتِ الشُّفْعَةُ ثَابِتَةً لَهُ؟ فَقَال. مَا هُوَ بِبَعِيدٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى ذَلِكَ وَأَلاَّ تَكُونَ لَهُ الشُّفْعَةُ، وَهَذَا قَوْل الْحَكَمِ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي خَيْثَمَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْل الْحَدِيثِ.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي رَبْعَةٍ أَوْ نَخْلٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ رَضِيَ أَخَذَ وَإِنْ كَرِهَ تَرَكَ (2) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ (3) ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا بَاعَهُ بِإِذْنِهِ لاَ حَقَّ لَهُ.
وَلأَِنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ فِي مَوْضِعِ الْوِفَاقِ عَلَى خِلاَفِ الأَْصْل لِكَوْنِهِ يَأْخُذُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ رِضَائِهِ، وَيُجْبِرُهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ بِهِ لِدُخُولِهِ مَعَ الْبَائِعِ فِي الْعَقْدِ الَّذِي أَسَاءَ فِيهِ بِإِدْخَال الضَّرَرِ عَلَى شَرِيكِهِ، وَتَرْكِهِ الإِْحْسَانَ إِلَيْهِ فِي عَرْضِهِ عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ هَاهُنَا فَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَهُ عَلَيْهِ، وَامْتِنَاعُهُ مِنْ أَخْذِهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الضَّرَرِ فِي حَقِّهِ بِبَيْعِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَهُوَ
__________
(1) حديث: " لا يحل له إلا أن يعرضها عليه: ورد بمعناه حديث جابر المتقدم في فقرة (7) .
(2) حديث: " من كان له شريك في ربعة. . . " تقدم تخريجه ف 4.
(3) حديث: " فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به ". أخرجه مسلم (3 / 1229 - ط. الحلبي) .(26/168)
أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلاَ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ كَمَا لَوْ أَخَّرَ الْمُطَالَبَةَ بَعْدَ الْبَيْعِ (1) .
التَّنَازُل عَنِ الشُّفْعَةِ مُقَابِل تَعْوِيضٍ أَوْ صُلْحٍ عَنْهَا:
55 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّنَازُل عَنِ الشُّفْعَةِ مُقَابِل تَعْوِيضٍ يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، لاَ يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ، فَلَوْ صَالَحَ الْمُشْتَرِي الشَّفِيعَ عَنِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ لَمْ يَجُزِ الصُّلْحُ وَلَمْ يَثْبُتِ الْعِوَضُ وَيَبْطُل حَقُّ الشُّفْعَةِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ: تَبْطُل شُفْعَتُهُ إِنْ عَلِمَ بِفَسَادِهِ.
أَمَّا بُطْلاَنُ الصُّلْحِ فَلاِنْعِدَامِ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الْمَحَل لأَِنَّ الثَّابِتَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ التَّمَلُّكِ، وَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وِلاَيَةِ التَّمَلُّكِ وَأَنَّهَا مَعْنًى قَائِمٌ بِالشَّفِيعِ فَلَمْ يَصِحَّ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ فَبَطَل الصُّلْحُ وَلَمْ يَجِبِ الْعِوَضُ.
وَأَمَّا بُطْلاَنُ حَقِّ الشَّفِيعِ فِي الشُّفْعَةِ؛ فَلأَِنَّهُ أَسْقَطَهُ بِالصُّلْحِ فَالصُّلْحُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَإِسْقَاطُ حَقِّ الشُّفْعَةِ صَحِيحٌ، لأَِنَّ صِحَّتَهُ لاَ تَقِفُ عَلَى الْعِوَضِ بَل هُوَ شَيْءٌ مِنَ الأَْمْوَال لاَ يَصْلُحُ عِوَضًا عَنْهُ فَالْتُحِقَ ذِكْرُ الْعِوَضِ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ سَلَّمَ بِلاَ عِوَضٍ (2) .
__________
(1) المغني 5 / 541 وما بعدها.
(2) البدائع 6 / 2719، الهداية مع فتح القدير 9 / 414، ومغني المحتاج 2 / 309، والمغني 5 / 482.(26/168)
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى جَوَازِ الصُّلْحِ عَنِ الشُّفْعَةِ بِعِوَضٍ، لأَِنَّهُ عِوَضٌ عَنْ إِزَالَةِ الْمِلْكِ فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ.
وَقَال الْقَاضِي: مِنَ الْحَنَابِلَةِ. لاَ يَصِحُّ الصُّلْحُ وَلَكِنَّ الشُّفْعَةَ لاَ تَسْقُطُ. لأَِنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِإِسْقَاطِهَا وَإِنَّمَا رَضِيَ بِالْمُعَاوَضَةِ عَنْهَا وَلَمْ تَثْبُتِ الْمُعَاوَضَةُ فَبَقِيَتِ الشُّفْعَةُ (1) .
التَّنَازُل عَنِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ طَلَبِهَا:
56 - يَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَتَنَازَل عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ أَنْ طَلَبَهَا وَقَبْل رِضَى الْمُشْتَرِي أَوْ حُكْمِ الْحَاكِمِ لَهُ بِهَا، فَإِنْ تَرَكَ الشَّفِيعُ طَلَبَ الشُّفْعَةِ أَوْ بَاعَ حِصَّتَهُ الَّتِي يَشْفَعُ بِهَا بَعْدَ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَقَبْل تَمَلُّكِهِ الْمَشْفُوعَ فِيهِ بِالْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَا يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ لأَِنَّهُ يُعَدُّ تَنَازُلاً مِنْهُ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِهَا قَبْل الْحُكْمِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ التَّنَازُل بَعْدَ الْحُكْمِ لَهُ بِهَا أَوْ بَعْدَ رِضَاءِ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ فَلَيْسَ لَهُ التَّنَازُل؛ لأَِنَّهُ بِذَلِكَ يَكُونُ مِلْكَ الْمَشْفُوعِ فِيهِ وَالْمِلْكُ لاَ يَقْبَل الإِْسْقَاطَ (2) .
__________
(1) المغني 5 / 482.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 182.(26/169)
مُسَاوَمَةُ الشَّفِيعِ لِلْمُشْتَرِي:
57 - الْمُسَاوَمَةُ تُعْتَبَرُ تَنَازُلاً عَنِ الشُّفْعَةِ فَإِذَا سَامَ الشَّفِيعُ الدَّارَ مِنَ الْمُشْتَرِي سَقَطَ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ لأَِنَّ الْمُسَاوَمَةَ طَلَبُ تَمْلِيكٍ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ وَهُوَ دَلِيل الرِّضَا بِمِلْكِ الْمُتَمَلِّكِ.
وَلأَِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مِمَّا يَبْطُل بِصَرِيحِ الرِّضَا فَيَبْطُل بِدَلاَلَةِ الرِّضَا أَيْضًا، وَالْمُسَاوَمَةُ تُعْتَبَرُ تَنَازُلاً بِطَرِيقِ الدَّلاَلَةِ (1) .
__________
(1) البدائع 6 / 2720، الشرح الصغير بهامش بلغة السالك 2 / 231(26/169)
شَفَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّفَةُ فِي اللُّغَةِ وَاحِدَةُ الشَّفَتَيْنِ، وَهُمَا طَبَقَا الْفَمِ مِنَ الإِْنْسَانِ، وَأَصْلُهَا شَفَهَةٌ، لأَِنَّ تَصْغِيرَهَا شُفَيْهَةٌ. وَقِيل: أَصْلُهَا شَفْوٌ. قَال الْفَيُّومِيُّ نَقْلاً عَنِ الأَْزْهَرِيِّ: تُجْمَعُ الشَّفَةُ عَلَى شَفَهَاتٍ وَشَفَوَاتٍ، وَالْهَاءُ أَقْيَسُ، وَالْوَاوُ أَعَمُّ.
وَلاَ تَكُونُ الشَّفَةُ إِلاَّ مِنَ الإِْنْسَانِ، أَمَّا سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ فَتُسْتَعْمَل فِيهَا كَلِمَاتٌ أُخْرَى، كَالْمِشْفَرِ لِذِي الْخُفِّ، وَالْجَحْفَلَةِ لِذِي الْحَافِرِ، وَالْمِنْسَرِ وَالْمِنْقَارِ لِذِي الْجَنَاحِ، وَهَكَذَا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ تُطْلَقُ الشَّفَةُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، أَيْ: طَبَقَةُ الْفَمِ مِنَ الإِْنْسَانِ، وَقَدْ حَدَّهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِهَذَا الْمَعْنَى أَنَّهَا فِي عَرْضِ الْوَجْهِ إِلَى الشِّدْقَيْنِ، وَقِيل مَا يَرْتَفِعُ عِنْدَ انْطِبَاقِ
__________
(1) متن اللغة والمصباح المنير ولسان العرب.(26/170)
الْفَمِ. وَفِي الطُّول إِلَى مَا يَسْتُرُ اللِّثَةَ (1) .
وَالثَّانِي: شِرْبُ بَنِي آدَمَ وَالْبَهَائِمِ بِالشِّفَاهِ دُونَ سَقْيِ الزَّرْعِ (2) . قَال ابْنُ عَابِدِينَ: هَذَا أَصْلُهُ. وَالْمُرَادُ اسْتِعْمَال بَنِي آدَمَ لِدَفْعِ الْعَطَشِ أَوْ لِلطَّبْخِ أَوِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل أَوْ غَسْل الثِّيَابِ، وَنَحْوِهَا، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي حَقِّ الْبَهَائِمِ الاِسْتِعْمَال لِلْعَطَشِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُنَاسِبُهَا (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الشِّرْبُ:
2 - الشِّرْبُ لُغَةً: نَصِيبٌ مِنَ الْمَاءِ، وَشَرْعًا: نَوْبَةُ الاِنْتِفَاعِ بِالْمَاءِ سَقْيًا لِلزِّرَاعَةِ وَالدَّوَابِّ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (4) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالشَّفَةُ أَخَصُّ مِنَ الشِّرْبِ لاِخْتِصَاصِهَا بِالْحَيَوَانِ دُونَهُ (5) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً: حُكْمُ الشَّفَةِ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل: (عُضْوِ الإِْنْسَانِ) :
3 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِالشَّفَةِ بِهَذَا
__________
(1) شرح المنهج مع حاشية الجمل 5 / 66، وانظر كشاف القناع 6 / 40.
(2) نتائج الأفكار والعناية على الهداية 8 / 144، وابن عابدين 5 / 281.
(3) رد المحتار على الدر المختار 5 / 281.
(4) سورة الشعراء / 155.
(5) الاختيار 3 / 69، وابن عابدين 5 / 281.(26/170)
الْمَعْنَى فِي مَوْضُوعَيْنِ: غَسْلِهَا حِينَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل: وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا بِالْقَطْعِ أَوْ إِذْهَابِ الْمَنَافِعِ.
أ - غَسْل الشَّفَتَيْنِ حِينَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الشَّفَتَيْنِ، أَيْ مَا يَظْهَرُ عِنْدَ انْضِمَامِهِمَا ضَمًّا طَبِيعِيًّا بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ جُزْءٌ مِنَ الْوَجْهِ، فَيَجِبُ غَسْلُهُمَا فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل (1) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (2) .
أَمَّا مَا يَنْكَتِمُ عِنْدَ الاِنْضِمَامِ فَهُوَ تَبَعٌ لِلْفَمِ، فَلاَ يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) بَل يُسَنُّ. وَكَذَلِكَ فِي الْغُسْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ، حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ غَسْل الْفَمِ وَالأَْنْفِ فَرْضٌ فِي الْغُسْل (3) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْفَمَ وَالأَْنْفَ مِنَ الْوَجْهِ فَتَجِبُ الْمَضْمَضَةُ وَالاِسْتِنْشَاقُ فِي الطَّهَارَتَيْنِ: الصُّغْرَى (الْوُضُوءِ) وَالْكُبْرَى (الْغُسْل (4)) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (غُسْلٌ، مَضْمَضَةٌ، وُضُوءٌ) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 4، جواهر الإكليل على مختصر خليل 1 / 14، والإقناع 1 / 38، وكشاف القناع 1 / 96.
(2) سورة المائدة / 6.
(3) ابن عابدين 1 / 102، والهندية 1 / 4، والدسوقي 1 / 97، 136، ونهاية المحتاج 1 / 280.
(4) كشاف القناع 1 / 96، والمغني 1 / 118.(26/171)
ب - الْجِنَايَةُ عَلَى الشَّفَتَيْنِ:
5 - الْجِنَايَةُ عَلَى الشَّفَتَيْنِ إِذَا كَانَتْ عَمْدًا يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِذَا تَحَقَّقَتْ شُرُوطُهُ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُسَاوَاةِ. (ر: قِصَاصٌ) .
أَمَّا إِذَا كَانَتْ خَطَأً فَفِي قَطْعِ كِلْتَا الشَّفَتَيْنِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ (1) .
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ؛ لأَِنَّ الْعُضْوَيْنِ إِذَا وَجَبَتْ فِيهِمَا دِيَةٌ فَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ (2) .
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ فِي الشَّفَةِ الْعُلْيَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي السُّفْلَى الثُّلُثَانِ؛ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ بِهَا أَعْظَمُ، لأَِنَّهَا هِيَ الَّتِي تَتَحَرَّكُ وَتَحْفَظُ الرِّيقَ وَالطَّعَامَ (3) .
وَكَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي قَطْعِ الشَّفَتَيْنِ تَجِبُ كَذَلِكَ فِي إِذْهَابِ مَنَافِعِهِمَا، بِأَنْ ضَرَبَ
__________
(1) حديث عمرو بن حزم: " وفي الشفتين الدية ". أخرجه النسائي (8 / 58 - 59 - ط. المكتبة التجارية) ، وخرجه ابن حجر في التلخيص (4 / 17 - 18 - ط. شركة الطباعة الفنية) . وتكلم على أسانيده، ونقل تصحيحه عن جماعة من العلماء.
(2) الاختيار 5 / 31، والبدائع 7 / 308، وروضة الطالبين 9 / 182، والزيلعي 6 / 129، وكشاف القناع عن متن الإقناع 5 / 549.
(3) المغني لابن قدامة 8 / 14.(26/171)
الشَّفَتَيْنِ فَأَشَلَّهُمَا، أَوْ تَقَلَّصَتَا فَلَمْ تَنْطَبِقَا عَلَى الأَْسْنَانِ (1) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي: (دِيَاتٌ) .
ثَانِيًا: الشَّفَةُ بِمَعْنَى الشِّرْبِ:
6 - تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِحُكْمِ الشَّفَةِ بِمَعْنَى شِرْبِ الإِْنْسَانِ وَالْبَهَائِمِ بِالشِّفَاهِ عِنْدَ بَيَانِ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَحُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ،
وَقَدْ قَسَمَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْمِيَاهَ بِاعْتِبَارِ الشِّرْبِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، قَال الْمَوْصِلِيُّ الْحَنَفِيُّ:
الْمِيَاهُ أَنْوَاعٌ: الأَْوَّل مَاءُ الْبَحْرِ، وَهُوَ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ الاِنْتِفَاعُ بِهِ بِالشَّفَةِ وَسَقْيِ الأَْرَاضِيِ وَشَقِّ الأَْنْهَارِ، لاَ يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَالاِنْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ وَالْهَوَاءِ.
وَالثَّانِي: الأَْوْدِيَةُ وَالأَْنْهَارُ الْعِظَامُ كَجَيْحُونَ وَسَيَحُونَ وَالنِّيل وَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ. فَالنَّاسُ مُشْتَرِكُونَ فِيهِ فِي الشَّفَةِ وَسَقْيِ الأَْرَاضِيِ وَنَصْبِ الأَْرْحِيَّةِ وَالدَّوَالِي إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْعَامَّةِ.
وَالثَّالِثُ: مَا يَجْرِي فِي نَهْرٍ خَاصٍّ لِقَرْيَةٍ، فَلِغَيْرِهِمْ فِيهِ شَرِكَةٌ فِي الشَّفَةِ، وَهُوَ الشِّرْبُ وَالسَّقْيُ لِلدَّوَابِّ، وَلَهُمْ أَخْذُ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ وَغَسْل الثِّيَابِ وَالطَّبْخِ لاَ غَيْرُ. وَالْبِئْرُ وَالْحَوْضُ حُكْمُهُمَا حُكْمُ النَّهْرِ الْخَاصِّ.
__________
(1) المراجع السابقة، وكشاف القناع 6 / 40.(26/172)
وَالرَّابِعُ: مَا أُحْرِزَ فِي جُبٍّ وَنَحْوِهِ، فَلَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهِ، وَلَهُ بَيْعُهُ؛ لأَِنَّهُ مَلَكَهُ بِالإِْحْرَازِ، وَلَوْ كَانَتِ الْبِئْرُ أَوِ الْعَيْنُ أَوِ النَّهْرُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ كَانَ لَهُ مَنْعُ مَنْ يُرِيدُ الشُّرْبَ مِنَ الدُّخُول فِي مِلْكِهِ إِنْ كَانَ يَجِدُ غَيْرَهُ بِقُرْبِهِ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهُ يَأْخُذُ بِنَفْسِهِ، أَوْ يُخْرِجَ الْمَاءَ إِلَيْهِ، فَإِنْ مَنَعَهُ وَهُوَ يَخَافُ الْعَطَشَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَطِيَّتِهِ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلاَحِ. وَفِي الْمُحْرَزِ بِالإِْنَاءِ يُقَاتِلُهُ بِغَيْرِ سِلاَحٍ (1) .
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ مَعَ تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ (2) . يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (شِرْبٌ، وَمِيَاهٌ) .
شَفِيعٌ
انْظُرْ: شُفْعَةً
شِقٌّ
انْظُرْ: قَبْرٌ
__________
(1) الاختيار للموصلي 3 / 70، 71.
(2) القوانين الفقهية ص 331، ومغني المحتاج 2 / 373، 375، وكشاف القناع 4 / 189، 190، 198، والقليوبي 3 / 95 - 97، وابن عابدين 5 / 281، 282، والمغني 5 / 583 - 590.(26/172)
شُكْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشُّكْرُ: مَصْدَرُ شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ أَشْكُرُ شُكْرًا وَشُكُورًا وَشُكْرَانًا. وَهُوَ عِنْدَ أَهْل اللُّغَةِ: الاِعْتِرَافُ بِالْمَعْرُوفِ الْمُسْدَى إِلَيْكَ وَنَشْرُهُ وَالثَّنَاءُ عَلَى فَاعِلِهِ. وَلاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي مُقَابَلَةِ مَعْرُوفٍ وَنِعْمَةٍ (1) . وَشُكْرُ النِّعْمَةِ مُقَابِل كُفْرِهَا. قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي حِكَايَةِ قَوْل لُقْمَانَ: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (2) .
وَالشُّكْرُ: هُوَ ظُهُورُ أَثَرِ النِّعْمَةِ عَلَى اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ بِأَنْ يَكُونَ اللِّسَانُ مُقِرًّا بِالْمَعْرُوفِ مُثْنِيًا بِهِ، وَيَكُونَ الْقَلْبُ مُعْتَرِفًا بِالنِّعْمَةِ، وَتَكُونَ الْجَوَارِحُ مُسْتَعْمَلَةً فِيمَا يَرْضَاهُ الْمَشْكُورُ (3) . عَلَى حَدِّ قَوْل الشَّاعِرِ:
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلاَثَةً
يَدَيَّ وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَجَّبَا
__________
(1) لسان العرب، ومدارج السالكين 2 / 244، 246، والمجموع للنووي 1 / 74، المطبعة المنيرية، ونهاية المحتاج 1 / 22. .
(2) سورة لقمان / 12.
(3) تفسير القرطبي 1 / 133 - ط. دار الكتب المصرية، ومدارج السالكين 2 / 244، 246.(26/173)
وَالشُّكْرُ لِلَّهِ فِي الاِصْطِلاَحِ: صَرْفُ الْعَبْدِ النِّعَمَ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ فِي طَاعَتِهِ (1) .
أَوْ فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ. وَشُكْرُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَزْكُو عِنْدَهُ الْقَلِيل مِنَ الْعَمَل فَيُضَاعِفُ لِعَامِلِهِ الْجَزَاءَ (2) . وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَجُلاً رَأَى كَلْبًا يَأْكُل الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَأَخَذَ الرَّجُل خُفَّهُ فَجَعَل يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ (3) ، وَلِذَا كَانَ مِنْ أَوْصَافِهِ تَعَالَى: " الشَّكُورَ " كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَدْحُ:
2 - الْمَدْحُ لُغَةً: حُسْنُ الثَّنَاءِ. وَالْمَدْحُ يَكُونُ لِلْحَيِّ وَغَيْرِهِ حَتَّى إِنَّ مَنْ رَأَى لُؤْلُؤَةً ذَاتَ حُسْنٍ فَوَصَفَهَا بِالْحُسْنِ فَقَدْ مَدَحَهَا، وَالْمَدْحُ عَلَى الإِْحْسَانِ يَكُونُ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَلاَ يَكُونُ الشُّكْرُ إِلاَّ بَعْدَهُ (5) .
ب - الْحَمْدُ:
3 - الْحَمْدُ: هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى الْمَحْمُودِ بِجَمِيل
__________
(1) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي 1 / 22، وأسنى المطالب 1 / 3، وشرح مسلم الثبوت 1 / 47.
(2) فتح الباري 1 / 278.
(3) حديث: " أن رجلاً رأى كلبًا يأكل الثرى. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 278 - ط. السلفية) ، ومسلم (4 / 1761 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة، واللفظ للبخاري.
(4) سورة التغابن / 17.
(5) لسان العرب، وتفسير الرازي 1 / 219.(26/173)
صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ، وَنَقِيضُ الْحَمْدِ الذَّمُّ. فَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشُّكْرَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَلَى نِعْمَةٍ أَسْدَاهَا الْمَشْكُورُ إِلَى الشَّاكِرِ خَاصَّةً، وَالْحَمْدُ يَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ الإِْنْعَامِ عَلَى الشَّاكِرِ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَكُونُ فِي غَيْرِ مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ أَصْلاً بَل لِمُجَرَّدِ اتِّصَافِ الْمَحْمُودِ بِالأَْوْصَافِ الْحَسَنَةِ وَالْفَضَائِل. فَلاَ يُقَال: شَكَرْنَا اللَّهَ عَلَى حِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ، وَيُقَال: حَمِدْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا هُوَ مَحْمُودٌ عَلَى إِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ، وَالشُّكْرُ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، وَالْحَمْدَ لَيْسَ إِلاَّ بِاللِّسَانِ، فَيَجْتَمِعُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ فِي الثَّنَاءِ بِاللِّسَانِ عَلَى النِّعْمَةِ، وَيَنْفَرِدُ الْحَمْدُ فِي الثَّنَاءِ بِاللِّسَانِ عَلَى الأَْوْصَافِ الذَّاتِيَّةِ وَنَحْوِهَا، وَيَنْفَرِدُ الشُّكْرُ فِيمَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ (1) . وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: الْحَمْدُ رَأْسُ الشُّكْرِ فَمَنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ لَمْ يَشْكُرْهُ (2) .
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 74، وتفسير الرازي 1 / 219، ونهاية المحتاج 1 / 21، ومدارج السالكين 2 / 246، وأسنى المطالب 1 / 3.
(2) حديث: " الحمد رأس الشكر. . . . ". أخرجه البيهقي في الشعب كما في فيض القدير للمناوي (3 / 418 - ط. المكتبة التجارية) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وأعل بالانقطاع بين عبد الله بن عمرو والراوي عنه.(26/174)
أَحْكَامُ الشُّكْرِ:
4 - الشُّكْرُ نَوْعَانِ، شُكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَشُكْرٌ لِعِبَادِ اللَّهِ.
أَوَّلاً: شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى:
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَدِ اسْتَدَل الْحَلِيمِيُّ لِذَلِكَ بِالآْيَاتِ الَّتِي فِيهَا الأَْمْرُ، نَحْوِ قَوْله تَعَالَى:
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (1) وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) .
ثُمَّ قَال الْحَلِيمِيُّ: فَثَبَتَ بِهَاتَيْنِ الآْيَتَيْنِ وَنَحْوِهِمَا وُجُوبُ شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ لِنِعَمِهِ السَّابِغَةِ عَلَيْهِمْ (3) .
ثُمَّ احْتَجَّ لِلْوُجُوبِ أَيْضًا بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (4) قَال: وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَنِ النَّعِيمِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ عَنْ شُكْرِهِ (5) .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّ شُكْرَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ هَل وَجَبَ بِالْعَقْل ثُمَّ جَاءَ الشَّرْعُ مُقَرِّرًا
__________
(1) سورة البقرة / 152.
(2) سورة الأعراف / 69.
(3) المنهاج في شعب الإيمان 2 / 545 ط. بيروت، دار الفكر 1399 هـ.
(4) سورة التكاثر / 8.
(5) المنهاج 2 / 555.(26/174)
لِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَجِبْ إِلاَّ بِالشَّرْعِ.؟ .
فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى الأَْوَّل مُعْظَمُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ وَنَصَّ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ أَيْضًا.
وَذَهَبَ الأَْشْعَرِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِمُجَرَّدِ الْعَقْل؛ لأَِنَّ الْعَقْل لاَ مَجَال لَهُ فِي أُمُورِ الآْخِرَةِ مِنْ إِثْبَاتِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ (1) . وَتُنْظَرُ الْمَسْأَلَةُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
وَقَال الرَّازِيَّ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيل إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (2) الْمُرَادُ مِنَ الشَّاكِرِ الَّذِي يَكُونُ مُقِرًّا مُعْتَرِفًا بِوُجُوبِ الشُّكْرِ عَلَيْهِ، وَمِنَ الْكَفُورِ الَّذِي لاَ يُقِرُّ بِذَلِكَ إِمَّا لأَِنَّهُ يُنْكِرُ الْخَالِقَ أَوْ لأَِنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ شُكْرِهِ (3) .
وَالإِْكْثَارُ مِنَ الشُّكْرِ مُسْتَحَبٌّ. وَلِلشُّكْرِ مَوَاضِعُ يُنْدَبُ فِيهَا كَحَمْدِ اللَّهِ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْمَلْبَسِ. (وَانْظُرْ: تَحْمِيدٌ) .
فَضْل الشُّكْرِ:
6 - وَرَدَتِ الشَّرِيعَةُ بِإِثْبَاتِ فَضْل الشُّكْرِ مِنْ أَوْجُهٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا:
أ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى فِي كِتَابِهِ عَلَى أَهْل الشُّكْرِ وَوَصَفَ بِذَلِكَ بَعْضَ خَوَاصِّ خَلْقِهِ،
__________
(1) المستصفى للغزالي 1 / 61، وشرح مسلم الثبوت 1 / 47 مطبعة بولاق - 1322 هـ.
(2) سورة الإنسان / 3.
(3) تفسير الرازي 30 / 239.(26/175)
فَقَال تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأَِنْعُمِهِ (1) } وَقَال عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (2) } .
ب - إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ الْهَدَفَ مِنْ تَفَضُّلِهِ بِالنِّعَمِ، قَال تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَل لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَْبْصَارَ وَالأَْفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (3) } وَقَال فِي شَأْنِ تَسْخِيرِهِ الأَْنْعَامَ: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (4) } .
ج - أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ الشَّاكِرِينَ بِأَحْسَنِ الْجَزَاءِ فَقَال: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (5) } وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَعُودُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ نَفْعِ شُكْرِهِمْ بَل نَفْعُهُ لَهُمْ، قَال تَعَالَى: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) } .
د - أَنَّهُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِلْمَزِيدِ مِنَ النِّعَمِ، فَقَال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ
__________
(1) سورة النحل / 120، 121.
(2) سورة الإسراء / 3.
(3) سورة النحل / 78.
(4) سورة الحج / 36.
(5) سورة آل عمران / 145.
(6) سورة لقمان / 12.(26/175)
لأََزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (1) }
هـ - أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ شَاكِرًا شَكُورًا، بِأَنْ يَقْبَل الْعَمَل الْقَلِيل وَيُثْنِيَ عَلَى فَاعِلِهِ، قَال تَعَالَى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (2) } .
وَقَال: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (3) } .
و قِلَّةُ الْمُتَّصِفِينَ بِكَثْرَةِ الشُّكْرِ، كَمَا قَال تَعَالَى: {اعْمَلُوا آل دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ (4) } قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: قِلَّةُ أَهْل الشُّكْرِ فِي الْعَالَمِينَ يَدُل عَلَى أَنَّهُمْ خَوَاصُّ اللَّهِ تَعَالَى.
ز - مَا وَرَدَ مِنْ دُعَاءِ الصَّالِحِينَ أَنْ يُلْهِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى شُكْرَ نِعَمِهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا كَقَوْل سُلَيْمَانَ: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ (5) } وَوَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا (6) وَأَوْصَى مَنْ يُحِبُّهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاللَّهِ عَلَى شُكْرِهِ فَقَال: {
__________
(1) سورة إبراهيم / 7.
(2) سورة البقرة / 158.
(3) سورة الشورى / 23.
(4) سورة سبأ / 13.
(5) سورة النمل / 19.
(6) حديث: " رب اجعلني لك شكارًا ". أخرجه الترمذي (5 / 554 - ط. الحلبي) من حديث ابن عباس، وقال: " حديث حسن صحيح ".(26/176)
يَا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنِّي لأَُحِبُّكَ. . أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ، لاَ تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُل صَلاَةٍ تَقُول: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ (1) .
ح - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ الشُّكْرَ بِالصَّبْرِ فَقَال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآِيَاتٍ لِكُل صَبَّارٍ شَكُورٍ (2) } فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَالشُّكْرُ عَلَى النِّعَمِ أَوْ زَوَال النِّقَمِ، وَالصَّبْرُ عِنْدَ زَوَال النِّعَمِ أَوْ حُلُول الْبَلاَءِ. وَلأَِنَّ الصَّبْرَ عَلَى الطَّاعَةِ عَيْنُ الشُّكْرِ عَلَيْهَا (3) .
وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ: الإِْيمَانُ نِصْفَانِ فَنِصْفٌ فِي الصَّبْرِ وَنِصْفٌ فِي الشُّكْرِ (4) وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ مَوْقُوفًا (5) .
مَا يَكُونُ عَلَيْهِ الشُّكْرُ:
وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
7 - الأَْوَّل: الشُّكْرُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي
__________
(1) حديث: " يا معاذ، والله إني لأحبك. . . . ". أخرجه أبو داود (2 / 181 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (3 / 273 - 274 - ط. دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) سورة إبراهيم / 5.
(3) مدارج السالكين 2 / 243.
(4) حديث: " الإيمان نصفان، فنصف في الصبر ونصف في الشكر ". أخرجه البيهقي في الشعب كما في الجامع الصغير للسيوطي (3 / 188 - بشرحه الفيض، ط المكتبة التجارية) ، وقال المناوي: " فيه يزيد الرقاشي، قال الذهبي وغيره: متروك ".
(5) تفسير القرطبي عند الآية (5) من سورة إبراهيم.(26/176)
أَنْعَمَ بِهَا عَلَى الشَّاكِرِ، وَالْعَبْدُ فِي كُل أَحْوَالِهِ إِنَّمَا هُوَ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ نَبَّهَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ (1) } وَكَثِيرٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَارِدَةٌ فِي تَعْدَادِ تِلْكَ النِّعَمِ بِالتَّفْصِيل، وَفِي لَفْتِ الأَْنْظَارِ إِلَى وُجُوهِ اللُّطْفِ فِيهَا، وَإِلَى الاِعْتِبَارِ بِهَا، وَبَيَانِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا وَضَعَهَا لِيَبْتَلِيَ بِهَا الإِْنْسَانَ هَل يَشْكُرُ أَمْ يَكْفُرُ.
فَمِنْ ذَلِكَ نِعْمَةُ خَلْقِ الأَْرْضِ فِرَاشًا وَالسَّمَاءِ بِنَاءً وَالشَّمْسِ ضِيَاءً وَالْقَمَرِ نُورًا وَتَقْدِيرِ الأَْقْوَاتِ فِي الأَْرْضِ وَإِنْزَال الْمَطَرِ مِنَ السَّمَاءِ شَرَابًا وَإِنْبَاتِ الزَّرْعِ فِيهَا وَسَائِرِ مَا يَصْلُحُ عَلَيْهِ بَدَنُ الإِْنْسَانِ، وَخَلْقِ الأَْنْعَامِ وَمَا جَعَلَهُ فِيهَا لِلنَّاسِ مِنْ مَنَافِعَ مِنْ لَحْمِهَا وَلَبَنِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَرُكُوبِهَا وَالتَّجَمُّل بِهَا.
وَمِنْ ذَلِكَ نِعْمَةُ خَلْقِ الإِْنْسَانِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَخَلْقِ الأَْسْمَاعِ وَالأَْبْصَارِ وَالأَْفْئِدَةِ لِتَكُونَ وَسَائِل لِلإِْدْرَاكِ، وَتَعْلِيمِ الإِْنْسَانِ الْبَيَانَ.
وَمِنْ ذَلِكَ نِعْمَةُ إِرْسَال الرُّسُل وَإِنْزَال الْكُتُبِ وَالدَّلاَلَةِ عَلَى طُرُقِ الإِْيمَانِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا نِعَمٌ عَامَّةٌ لَمْ يُخَصَّ بِهَا مُؤْمِنٌ مِنْ كَافِرٍ (2) .
__________
(1) سورة النحل / 53.
(2) عقد كل من الحليمي والغزالي فصلاً لبيان النعم وتعداد أصنافها ووجوهها كمقدمة لبيان أحكام الشكر، انظر المنهاج 2 / 519 - 544، والإحياء 4 / 96 - 119.(26/177)
وَمِنْهَا نِعَمٌ خَاصَّةٌ وَأَعْظَمُهَا التَّوْفِيقُ لِلإِْيمَانِ وَالاِهْتِدَاءُ لِلْحَقِّ وَالتَّيْسِيرُ لِلْعَمَل الصَّالِحِ، لأَِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلْخَلاَصِ مِنَ الْعَذَابِ فِي الآْخِرَةِ وَالتَّحْصِيل لِنِعَمِ اللَّهِ فِيهَا.
قَال الْحَلِيمِيُّ: وَأَوْلَى النِّعَمِ بِالشُّكْرِ نِعْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ بِالإِْيمَانِ وَالإِْرْشَادِ إِلَى الْحَقِّ، وَالتَّوْفِيقِ لِقَبُولِهِ، لأَِنَّهُ هُوَ الْغَرَضُ الَّذِي لَيْسَ بِتَابِعٍ لِمَا سِوَاهُ، وَكُل غَرَضٍ سِوَاهُ فَهُوَ تَابِعٌ لَهُ، وَالتَّيْسِيرُ لَهُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ تَقْتَضِي الشُّكْرَ لَهَا بِالاِنْتِهَاءِ عَنِ الْمَعَاصِي وَإِتْبَاعِ الإِْيمَانِ حُقُوقَهُ؛ لأَِنَّ الإِْيمَانَ بِاللَّهِ عَهْدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ وَلِكُل عَهْدٍ وَفَاءٌ. وَكُل عِبَادَةٍ تَتْلُو الإِْيمَانَ مِنْ فِعْل شَيْءٍ فَهُوَ شُكْرٌ لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّيْسِيرُ لِكُل شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ نِعْمَةٌ يَجِبُ شُكْرُهَا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ (1) .
8 - النَّوْعُ الثَّانِي: الشُّكْرُ عَلَى دَفْعِ النِّقَمِ سَوَاءٌ انْدَفَعَتْ عَنْهُ أَوْ عَنْ نَحْوِ وَلَدِهِ أَوْ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ كَذَهَابِ مَرَضٍ أَوِ انْحِسَارِ طَاعُونٍ أَوْ عَدُوٍّ، وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يُخْشَى ضَرَرُهُ كَغَرَقٍ أَوْ حَرِيقٍ وَمِنْهُ قَوْل أَهْل الْجَنَّةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (2) } .
__________
(1) المنهاج في شعب الإيمان 2 / 554.
(2) سورة فاطر / 34.(26/177)
وَاحْتَجَّ النَّوَوِيُّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ أُتِيَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا، فَأَخَذَ اللَّبَنَ، فَقَال لَهُ جِبْرِيل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ لَغَوَتْ أُمَّتُكَ (1) .
وَإِذَا رَأَى السَّلِيمُ مُبْتَلًى فِي عَقْلِهِ وَبَدَنِهِ، سُنَّ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الْعَافِيَةِ (2) ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ لِرُؤْيَةِ زَمِنٍ (3) .
وَوَرَدَ أَنَّ السَّلِيمَ يَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلاَكَ بِهِ (4) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ:
الشُّكْرُ عِنْدَ الْمَكْرُوهَاتِ مِنَ الْبَلْوَى وَالْمَصَائِبِ وَالآْلاَمِ:
9 - وَهُوَ مَشْرُوعٌ، لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَال اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُول: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولُونَ:
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به أتي بقدحين من خمر ولبن ". أخرجه البخاري (الفتح 8 / 391 - ط. السلفية) ومسلم (3 / 1592 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) نهاية المحتاج 2 / 99، وأسنى المطالب 1 / 199، ومطالب أولي النهى 1 / 590، والأذكار للنووي ص 104.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد لرؤية زمن ". أخرجه البيهقي (2 / 371 - ط. دائرة المعارف العثمانية) وأعله بالإرسال.
(4) حديث: " الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به ". أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 9 / 391 - 392 - ط. السلفية) من حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن غريب ".(26/178)
نَعَمْ. فَيَقُول: مَاذَا قَال عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُول اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ (1) .
وَوَجْهُ الشُّكْرِ عَلَيْهَا مَا فِيهَا مِنْ تَكْفِيرِ الْخَطَايَا وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وَمَا فِي الصَّبْرِ عَلَيْهَا مِنَ الأَْجْرِ.
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ: يَكُونُ الشُّكْرُ كَظْمًا لِلْغَيْظِ الَّذِي أَصَابَهُ، وَسَتْرًا لِلشَّكْوَى، وَرِعَايَةً لِلأَْدَبِ، وَسُلُوكًا لِمَسْلَكِ الْعِلْمِ، لأَِنَّهُ شَاكِرٌ لِلَّهِ شُكْرَ مَنْ رَضِيَ بِقَضَائِهِ (2) .
وَلِذَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمَرِيضِ إِنْ سُئِل عَنْ حَالِهِ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ الشَّكْوَى إِلَى طَبِيبٍ. قَالُوا: لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: إِذَا كَانَ الشُّكْرُ قَبْل الشَّكْوَى فَلَيْسَ بِشَاكٍ (3) قَال الْبُهُوتِيُّ: وَكَانَ
__________
(1) حديث: " إذا مات ولد العبد. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 332 - ط. الحلبي) وقال: " حديث حسن غريب ".
(2) مدارج السالكين 2 / 254، وإحياء علوم الدين 4 / 125 - 129.
(3) حديث: " إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاك ". أورده القاضي ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (1 / 151 - 152 - ط. مطبعة الاعتدال بدمشق) من طريق بشر بن الحارث الذي ذكره بإسناده.(26/178)
أَحْمَدُ أَوَّلاً يَحْمَدُ اللَّهَ فَقَطْ فَلَمَّا دَخَل عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ طَبِيبُ السُّنَّةِ وَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ صَارَ إِذَا سَأَلَهُ قَال: أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكَ، أَجِدُ كَذَا وَكَذَا (1) .
مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى:
10 - يَتَحَقَّقُ شُكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النِّعْمَةِ بِأُمُورٍ:
أَوَّلُهَا: مَعْرِفَةُ النِّعْمَةِ، بِأَنْ يَعْرِفَ أَنَّهَا نِعْمَةٌ، وَيَعْرِفَ قَدْرَهَا وَيَعْرِفَ وَجْهَ كَوْنِهَا نِعْمَةً وَيَسْتَحْضِرَهَا فِي الذِّهْنِ وَيُمَيِّزَهَا، إِذْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ تُحْسِنُ إِلَيْهِ وَهُوَ لاَ يَدْرِي. وَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِ النِّعَمِ بِقَوْلِهِ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَل مِنْكُمْ وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ (2) .
وَالثَّانِي: مَعْرِفَةُ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِاللَّهِ، أَوْ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ النِّعَمَ مِنْهُ، لَمْ يُتَصَوَّرْ شُكْرُهُ لَهُ، وَإِذَا عَرَفَ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ أَحَبَّهُ عَلَيْهَا.
وَالثَّالِثُ: قَبُول النِّعْمَةِ بِإِظْهَارِ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَمَعْرِفَةِ أَنَّ وُصُولَهَا إِلَيْهِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ مِنَ الْعَبْدِ وَلاَ بَذْل ثَمَنٍ بَل
__________
(1) كشاف القناع 2 / 79.
(2) حديث: " انظروا إلى من هو أسفل منكم. . . ". أخرجه مسلم (4 / 2275 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.(26/179)
بِمَحْضِ فَضْل اللَّهِ تَعَالَى.
وَالرَّابِعُ: الثَّنَاءُ عَلَى الْمُنْعِمِ بِهَا، وَعَدَمُ كِتْمَانِهَا فَإِنَّ كِتْمَانَهَا كُفْرَانٌ لَهَا، وَالثَّنَاءُ إِمَّا عَامٌّ كَوَصْفِهِ تَعَالَى بِالْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالْبِرِّ وَالإِْحْسَانِ، وَإِمَّا خَاصٌّ وَهُوَ التَّحَدُّثُ بِتِلْكَ النِّعْمَةِ وَإِسْنَادُ التَّفَضُّل بِهَا إِلَى الْمُنْعِمِ بِهَا، وَحَمْدُهُ عَلَيْهَا، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (1) } وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ (2) .
وَالْخَامِسُ: تَرْكُ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا يَكْرَهُهُ الْمُنْعِمُ بِهَا، وَالْعَمَل بِمَا يُرْضِيهِ فِيهَا (3) .
وَالسَّادِسُ: فِعْل الطَّاعَاتِ شُكْرًا عَلَى النِّعَمِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَل لَكُمُ الأَْرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً. . .} الآْيَةَ (4) وَوَرَدَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ. فَقِيل يَا رَسُول اللَّهِ:
__________
(1) سورة الضحى / 11.
(2) حديث: " التحدث بنعمة الله شكر ". أخرجه أحمد (4 / 278 - ط. الميمنية) من حديث النعمان بن بشير، وإسناده حسن.
(3) مدارج السالكين 2 / 244، 247 - 258، والمنهاج في شعب الإيمان 2 / 545، 546، وإحياء علوم الدين 4 / 79 نشر مصطفى الحلبي، 1358 هـ.
(4) سورة البقرة 21، 22.(26/179)
أَتَتَكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ؟ قَال: أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا (1) ؟ .
11 - وَضِدُّ شُكْرِ النِّعَمِ الْكُفْرَانُ بِهَا، وَهُوَ غَيْرُ الْكُفْرِ الْمُخْرِجِ عَنِ الْمِلَّةِ، وَيُسَمِّيهِ الْعُلَمَاءُ " كُفْرُ النِّعْمَةِ ".
فَمِنْ وُجُوهِ الْكُفْرِ بِهَا أَنْ لاَ يَعْرِفَ النِّعْمَةَ، أَوْ أَنْ يَبْخَسَهَا حَقَّهَا مِنَ التَّقْدِيرِ.
وَمِنْهَا أَنْ يُنْكِرَ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يَنْسِبَهَا إِلَى غَيْرِ الْمُتَفَضِّل بِهَا كَمَا يَفْعَل أَهْل الشِّرْكِ إِذْ يَشْكُرُونَ أَنْدَادَهُمْ وَأَصْنَامَهُمْ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: مَنْ قَال مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ (2) .
وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ حَصَّل مَا حَصَّل مِنَ النِّعَمِ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، أَوْ كَمَا قَال قَارُونُ {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي (3) } .
وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ مَا حَصَل لَهُ مِنَ النِّعَمِ حَصَل بِاسْتِحْقَاقٍ لَهُ عَلَى اللَّهِ، لاَ مِنْ فَضْل اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: تَرْكُ الثَّنَاءِ بِهَا عَلَى الْمُنْعِمِ بِهَا وَتَرْكُ
__________
(1) حديث: " أفلا أكون عبدًا شكورًا ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 14 - ط. السلفية) ، ومسلم (4 / 2171 - ط. الحلبي) .
(2) الحديث القدسي: " من قال: مطرنا بنوء كذا. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 522 - ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 84 - ط. الحلبي) من حديث زيد بن خالد الجهني.
(3) سورة القصص / 78.(26/180)
التَّحَدُّثِ بِهَا، وَكَذَلِكَ كِتْمَانُهَا بِحَيْثُ لاَ يَرَاهَا النَّاسُ لِحَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ (1) .
وَقَيَّدَ الْحَلِيمِيُّ هَذَا بِأَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ احْتِيَاطٌ لِنَفْسِهِ.
وَمِنْهَا: التَّعَالِي بِهَا عَلَى سَائِرِ عِبَادِ اللَّهِ وَالزَّهْوُ وَالْمُكَاثَرَةُ وَالْبَغْيُ وَالْمُفَاخَرَةُ.
وَمِنْهَا: اسْتِعْمَالُهَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْعُ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ الْوَاجِبَةِ فِيهَا (2) .
الشُّكْرُ عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعَمِ:
12 - يُسْتَحَبُّ تَجْدِيدُ الشُّكْرِ عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعَمِ لَفْظًا بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُل الأَْكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا (3) وَفِيهِ الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ (4) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ اسْتِحْبَابُ أَذْكَارٍ بِصِيَغٍ
__________
(1) حديث: " أن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " أخرجه الترمذي (5 / 124 - ط. الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: " حديث حسن ".
(2) المنهاج في شعب الإيمان 2 / 546 - 547، وإحياء علوم الدين 4 / 87، 120.
(3) حديث: " إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة. . . . " أخرجه مسلم (4 / 2905 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(4) حديث: " الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ". أخرجه الترمذي (4 / 653 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن غريب ".(26/180)
مُعَيَّنَةٍ فِيهَا التَّحْمِيدُ عِنْدَ حُصُول نِعَمٍ مُعَيَّنَةٍ وَلِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (تَحْمِيدٌ) (وَذِكْرٌ) .
وَيَكُونُ الشُّكْرُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا بِفِعْل قُرْبَةٍ مِنَ الْقُرَبِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ أَوْ يَتَصَدَّقَ مَعَ سُجُودِ الشُّكْرِ أَوْ دُونَهُ (1) .
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ لاَ يَجُوزُ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ بِصَلاَةٍ بِنِيَّةِ الشُّكْرِ (2) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَذْبَحَ ذَبِيحَةً أَوْ يَصْنَعَ دَعْوَةً، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الدَّعَوَاتِ الَّتِي تُصْنَعُ لِمَا يَتَجَدَّدُ مِنَ النِّعَمِ كَالْوَكِيرَةِ الَّتِي تُصْنَعُ لِلْمَسْكَنِ الْمُتَجَدِّدِ، وَالنَّقِيعَةِ الَّتِي تُصْنَعُ لِقُدُومِ الْغَائِبِ، وَالْحُذَّاقِ وَهُوَ مَا يُصْنَعُ عِنْدَ خَتْمِ الصَّبِيِّ الْقُرْآنَ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ مُسْتَحَبَّةٌ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَيْسَ لِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ - يَعْنِي مَا عَدَا وَلِيمَةَ الْعُرْسِ وَالْعَقِيقَةَ - فَضِيلَةٌ تَخْتَصُّ بِهَا، وَلَكِنْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الدَّعْوَةِ لِغَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ، فَإِذَا قَصَدَ بِهَا فَاعِلُهَا شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِطْعَامَ إِخْوَانِهِ، وَبَذْل طَعَامِهِ، فَلَهُ أَجْرُ ذَلِكَ إِنْ
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 98، وأسنى المطالب 1 / 199، 72، وروضة الطالبين 1 / 325.
(2) حاشية شرح المنهاج 1 / 209.(26/181)
شَاءَ اللَّهُ (1) . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (دَعْوَةٌ) .
وَإِذَا نَذَرَ الإِْنْسَانُ أَنْ يَصْنَعَ الْقُرْبَةَ عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعْمَةِ وَانْدِفَاعِ النِّقْمَةِ فَذَلِكَ نَذْرُ تَبَرُّرٍ، وَحُكْمُهُ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِهِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (نَذْرٌ (2)) .
وَمِمَّا يُسَنُّ عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعَمِ وَانْدِفَاعِ النِّقَمِ مِمَّا لَهُ وَقْعٌ أَنْ يَسْجُدَ لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ حُصُول ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ الإِْنْسَانُ وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سُجُودُ الشُّكْرِ) .
ثَانِيًا: شُكْرُ الْعِبَادِ عَلَى الْمَعْرُوفِ:
13 - شُكْرُ الْمُنْعِمِ أَمْرٌ لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُقَلاَءُ فِي اسْتِحْسَانِهِ. وَكُل مُنْعَمٍ عَلَيْهِ يَنْبَغِي لَهُ الشُّكْرُ لِمَنْ أَوْلاَهُ تِلْكَ النِّعْمَةَ وَلَوْ كَانَتْ قَلِيلَةً لِحَدِيثِ: مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيل لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ (3) وَحَدِيثِ: إِنَّ أَشْكَرَ النَّاسِ لِلَّهِ أَشْكَرُهُمْ لِلنَّاسِ (4)
__________
(1) المغني 7 / 11، 12، وشرح المنهاج بهامش حاشية القليوبي 3 / 295.
(2) انظر مثلاً: الجمل على شرح المنهج 5 / 325، والمغني 9 / 2.
(3) حديث: " من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير " أخرجه أحمد (4 / 278 - ط. الميمنية) من حديث النعمان بن بشير، وإسناده حسن.
(4) حديث: " إن أشكر الناس لله أشكرهم للناس ". أخرجه أحمد (5 / 212 - ط. الميمنية) من حديث الأشعث بن قيس، وفي إسناده جهالة، ولكن له شواهد يتقوى بها.(26/181)
وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى شَكَرَ الْمُحْسِنِينَ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ فَالْعَبْدُ أَوْلَى بِأَنْ يَشْكُرَ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالشُّكْرِ لِلْوَالِدَيْنِ وَقَرَنَ ذَلِكَ بِالشُّكْرِ لَهُ لِعِظَمِ فَضْلِهِمَا فَقَال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ (1) } وَالشُّكْرُ بِالْفِعْل هُوَ الأَْصْل، بِأَنْ يَجْزِيَ بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفًا، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أُولِيَ نِعْمَةً فَلْيَشْكُرْهَا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلْيُظْهِرْ ثَنَاءً حَسَنًا (2) .
قَال الْحَلِيمِيُّ: وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الشُّكْرَ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أُرِيدَ بِهِ الشُّكْرُ بِالْفِعْل وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَمْ يَقُل فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلْيُظْهِرْ ثَنَاءً حَسَنًا فَإِذَا كَانَتِ النِّعْمَةُ فِعْلاً كَانَ الشُّكْرُ إِحْسَانًا مَكَانَ إِحْسَانٍ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ قَامَ الذِّكْرُ الْحَسَنُ وَالثَّنَاءُ وَالْبِشْرُ مَقَامَهُ (3) .
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: إِنَّ نَاسًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً فِي قَلِيلٍ وَلاَ أَحْسَنَ بَذْلاً مِنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، لَقَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ،
__________
(1) سورة لقمان / 14.
(2) حديث: " من أولي نعمة فليشكرها. . . " ورد بلفظ: " من أعطي عطاء فوجد فليجز به، ومن لم يجد فليثن فإن من أثنى فقد شكر ومن كتم فقد كفر " أخرجه الترمذي (4 / 379 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وقال: " حديث حسن ".
(3) المنهاج في شعب الإيمان 2 / 556.(26/182)
وَأَشْرَكُونَا فِي الْمِهْنَةِ، لَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَْجْرِ كُلِّهِ، فَقَال: أَمَا مَا دَعَوْتُهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ مُكَافَأَةً أَوْ شِبْهَ الْمُكَافَأَةِ (1) .
وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَال لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ (2) .
وَمِثْلُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ (3) وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً فَوَجَدَ فَلْيَجْزِ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ فَإِنَّ مَنْ أَثْنَى فَقَدْ شَكَرَ، وَمَنْ كَتَمَ فَقَدْ كَفَرَ (4) .
اسْتِدْعَاءُ الشُّكْرِ مِنَ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ:
14 - إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الشُّكْرُ عَلَى الْمَعْرُوفِ مُسْتَحَبًّا إِلاَّ أَنَّ طَلَبَ مُسْدِي الْمَعْرُوفِ أَنْ يُشْكَرَ عَلَيْهِ خِلاَفُ الأَْوْلَى، وَخَاصَّةً فِيمَا مِنْ
__________
(1) حديث أنس: " أن ناسًا من المهاجرين. . . ". أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6 / 513 - ط دار الكتب العلمية) وإسناده صحيح.
(2) حديث: " من صنع إليه معروف. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 380 - ط الحلبي) من حديث أنس، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) حديث: " من صنع إليكم معروفًا فكافئوه. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 310 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 218 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمر.
(4) حديث: " من أعطي عطاء فوجد فليجز به " أخرجه الترمذي (4 / 379 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وقال: " حديث حسن غريب ".(26/182)
شَأْنِهِ أَنْ يُعْمَل لِلَّهِ، وَلِذَلِكَ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ يُحْسِنُ إِلَى الضُّعَفَاءِ دُونَ أَنْ يَنْتَظِرَ مِنْهُمْ شُكْرًا أَوْ جَزَاءً قَال تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا (1) } قَال مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَمَا وَاللَّهِ مَا قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَكِنْ عَلِمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِهِ لِيَرْغَبَ فِي ذَلِكَ رَاغِبٌ (2) وَلَوْ أَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى الْمَعْرُوفِ لَمْ يَحْرُمْ.
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ شَهِدَ لأَِبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَال لَهُ: أَوَلاَ تَحْمَدُنِي عَلَى مَا شَهِدْتَ الْحَقَّ (3) ؟
قَال الرَّازِيَّ: الإِْحْسَانُ إِلَى الْغَيْرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، إِمَّا طَلَبًا لِمُكَافَأَةٍ، أَوْ طَلَبًا لِحَمْدٍ أَوْ ثَنَاءٍ. وَتَارَةً يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِغَيْرِهِ.
وَالنَّوْعُ الأَْوَّل هُوَ الْمَقْبُول عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالأَْخِيرُ هُوَ الشِّرْكُ. أهـ (4) .
وَلَيْسَ هُوَ الشِّرْكَ الْمُخْرِجَ عَنِ الْمِلَّةِ بَل هُوَ الشِّرْكُ فِي الْقَصْدِ وَهُوَ يُحْبِطُ الْعَمَل الَّذِي
__________
(1) سورة الإنسان / 8، 9.
(2) تفسير ابن كثير 4 / 455، والقرطبي 19 / 130.
(3) تفسير ابن كثير 1 / 437.
(4) تفسير الرازي 30 / 246.(26/183)
أَشْرَكَ بِهِ، دُونَ غَيْرِهِ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يَقْبَل إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا. وَأَمَّا إِذَا عَمِلَهُ طَلَبًا لِلْمُكَافَأَةِ أَوِ الْحَمْدِ فَلَهُ مَا طَلَبَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ حَرَامًا إِلاَّ أَنْ يُظْهِرَ أَنَّهُ لِلَّهِ وَيُبْطِنَ خِلاَفَ ذَلِكَ، لأَِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ رِيَاءً.
فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُشْكَرَ عَلَى مَا لَمْ يَفْعَل مِنَ الْخَيْرِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَرَامًا خِلاَفًا لِمَا يَتَبَادَرُ مِنْ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) } فَقَدْ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ (2) .
__________
(1) سورة آل عمران / 188.
(2) تفسير ابن كثير 1 / 437.(26/183)
شَكٌّ
تَعْرِيفُهُ:
1 - الشَّكُّ لُغَةً: نَقِيضُ الْيَقِينِ وَجَمْعُهُ شُكُوكٌ. يُقَال شَكَّ فِي الأَْمْرِ وَتَشَكَّكَ إِذَا تَرَدَّدَ فِيهِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، سَوَاءٌ اسْتَوَى طَرَفَاهُ أَوْ رَجَحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآْخَرِ (1) .
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ (2) } أَيْ غَيْرَ مُسْتَيْقِنٍ، وَهُوَ يَعُمُّ حَالَتَيِ الاِسْتِوَاءِ وَالرُّجْحَانِ (3) . وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ (4) قِيل: إِنَّ مُنَاسَبَتَهُ تَرْجِعُ إِلَى وَقْتِ نُزُول قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ قَال إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَال أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَال بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (5) } . حَيْثُ قَال قَوْمٌ - إِذْ ذَاكَ -
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " شَكَّ "، والكليات 3 / 62 وزارة الثقافة دمشق ونجعة الرائد 2 / 193 منشورات المكتبة البوليسية 1970.
(2) سورة يونس / 94.
(3) المراجع السابقة.
(4) حديث: " نحن أحق بالشك من إبراهيم " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 201 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 133 - ط الحلبي) .
(5) سورة البقرة / 260.(26/184)
شَكَّ إِبْرَاهِيمُ وَلَمْ يَشُكَّ نَبِيُّنَا، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَاضُعًا مِنْهُ وَتَقْدِيمًا لإِِبْرَاهِيمَ عَلَى نَفْسِهِ -: نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ أَيْ أَنَا لَمْ أَشُكَّ مَعَ أَنَّنِي دُونَهُ فَكَيْفَ يَشُكُّ هُوَ؟ (1) .
وَالشَّكُّ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: اسْتُعْمِل فِي حَالَتَيِ الاِسْتِوَاءِ وَالرُّجْحَانِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ لُغَةً فَقَالُوا: مَنْ شَكَّ فِي الصَّلاَةِ، وَمَنْ شَكَّ فِي الطَّلاَقِ، أَيْ مَنْ لَمْ يَسْتَيْقِنْ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ اسْتِوَاءِ الْجَانِبَيْنِ أَوْ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا (2) . وَمَعَ هَذَا فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ فِي جُزْئِيَّاتٍ كَثِيرَةٍ (3) . وَالشَّكُّ فِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ: هُوَ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ لِوُجُودِ أَمَارَتَيْنِ مُتَكَافِئَتَيْنِ فِي الطَّرَفَيْنِ أَوْ لِعَدَمِ الأَْمَارَةِ فِيهِمَا (4) .
__________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر 2 / 495، المكتبة الإسلامية، ولسان العرب.
(2) المصادر السابقة وغمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 193، 204، المكتبة العلمية، بيروت، ونهاية المحتاج 1 / 114، والموسوعة الفقهية 4 / 295.
(3) المراجع السابقة.
(4) المحصول 1 / 101، لجنة البحوث بجامعة ابن سعود الإسلامية سنة 1399 هـ، ونهاية السول في شرح منهاج الأصول للبيضاوي 1 / 40 (المطبعة السلفية القاهرة 1343 هـ) ، والكليات للكفوي 3 / 62 - 63.(26/184)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْيَقِينُ:
2 - الْيَقِينُ مَصْدَرُ يَقِنَ الأَْمْرُ يَيْقَنُ إِذَا ثَبَتَ وَوَضَحَ، وَيُسْتَعْمَل مُتَعَدِّيًا بِنَفْسِهِ وَبِالْيَاءِ، وَيُطْلَقُ - لُغَةً - عَلَى الْعِلْمِ الْحَاصِل عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلاَلٍ وَلِهَذَا لاَ يُسَمَّى عِلْمُ اللَّهِ يَقِينًا (1) . وَهُوَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الأُْصُول: الاِعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ الثَّابِتِ (2) . فَالْيَقِينُ ضِدُّ الشَّكِّ (3) . فَيُقَال شَكَّ وَتَيَقَّنَ وَلاَ يُقَال شَكَّ وَعَلِمَ لأَِنَّ الْعِلْمَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ عَلَى سَبِيل الثِّقَةِ.
ب - الاِشْتِبَاهُ:
3 - الاِشْتِبَاهُ هُوَ مَصْدَرُ اشْتَبَهَ، يُقَال: اشْتَبَهَ الشَّيْئَانِ وَتَشَابَهَا، إِذَا أَشْبَهَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الآْخَرَ، كَمَا يُقَال: اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الأَْمْرُ أَيِ اخْتَلَطَ وَالْتَبَسَ لِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ أَهَمُّهَا الشَّكُّ، فَالْعَلاَقَةُ بَيْنَهُمَا - إِذًا - سَبَبِيَّةٌ حَيْثُ يُعَدُّ الشَّكُّ سَبَبًا هَامًّا مِنْ أَسْبَابِ الاِشْتِبَاهِ. كَمَا قَدْ يَكُونُ الاِشْتِبَاهُ سَبَبًا لِلشَّكِّ (4) .
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط (يقن) والفروق في اللغة ص 72، نشر الدار العربية للكتاب، تونس 1983، والكليات للكفوي 5 / 116.
(2) المحصول 1 / 99 وما بعدها، ونهاية السول 1 / 39، 40.
(3) الفروق في اللغة ص 73، وشرح القواعد الفقهية ص 35.
(4) راجع مصطلح (اشتباه) بالموسوعة الفقهية 4 / 290 وما بعدها.(26/185)
ج - الظَّنُّ:
4 - الظَّنُّ مَصْدَرُ ظَنَّ مِنْ بَابِ قَتَل وَهُوَ خِلاَفُ الْيَقِينِ، وَيُطْلَقُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ عَلَى الطَّرَفِ الرَّاجِحِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ (1) . وَقَدْ يُسْتَعْمَل مَجَازًا بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ (2) } وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ لاَ يُفَرِّقُونَ غَالِبًا بَيْنَ الظَّنِّ وَالشَّكِّ.
د - الْوَهْمُ:
5 - الْوَهْمُ مَصْدَرُ وَهِمَ وَهُوَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ طَرَفُ الْمَرْجُوحِ مِنْ طَرَفَيِ الشَّكِّ (3) . وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْحَمَوِيُّ - نَقْلاً عَنْ مُتَأَخِّرِي الأُْصُولِيِّينَ - حَيْثُ قَال: الْوَهْمُ تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَضْعَفُ مِنَ الآْخَرِ (4) .
وَالْمُتَأَكِّدُ أَنَّهُ لاَ يَرْتَقِي لإِِحْدَاثِ اشْتِبَاهٍ (5) . " إِذْ لاَ عِبْرَةَ لِلتَّوَهُّمِ (6) ". وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ اسْتِنَادًا
__________
(1) غمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر 1 / 193، 204، والمحصول للرازي 1 / 101، ونهاية السول للأسنوي 1 / 40، والكليات للكفوي 3 / 63، والمصباح المنير للفيومي.
(2) سورة البقرة / 46.
(3) المحصول 1 / 101، ونهاية السول 1 / 40، وغمز عيون البصائر على الأشباه 1 / 193، 204، والكليات 3 / 63، والمصباح المنير.
(4) غمز عيون البصائر شرح كتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 193.
(5) الموسوعة الفقهية 4 / 291.
(6) مجلة الأحكام العدلية المادة 74.(26/185)
عَلَى وَهْمٍ، وَلاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الشَّيْءِ الثَّابِتِ بِصُورَةٍ قَطْعِيَّةٍ بِوَهْمٍ طَارِئٍ (1) .
أَقْسَامُ الشَّكِّ بِاعْتِبَارِ حُكْمِ الأَْصْل الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهِ:
6 - يَنْقَسِمُ الشَّكُّ - إِجْمَالاً - بِهَذَا الاِعْتِبَارِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ.
الْقِسْمُ الأَْوَّل: شَكٌّ طَرَأَ عَلَى أَصْلٍ حَرَامٍ مِثْل أَنْ يَجِدَ الْمُسْلِمُ شَاةً مَذْبُوحَةً فِي بَلَدٍ يَقْطُنُهُ مُسْلِمُونَ وَمَجُوسٌ فَلاَ يَحِل لَهُ الأَْكْل مِنْهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا ذَكَاةُ مُسْلِمٍ، لأَِنَّ الأَْصْل فِيهَا الْحُرْمَةُ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الذَّكَاةِ الْمَطْلُوبَةِ شَرْعًا، فَلَوْ كَانَ مُعْظَمُ سُكَّانِ الْبَلَدِ مُسْلِمِينَ جَازَ الإِْقْدَامُ عَلَيْهَا وَالأَْكْل مِنْهَا عَمَلاً بِالْغَالِبِ الْمُفِيدِ لِلْحِلِّيَّةِ (2) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: شَكٌّ طَرَأَ عَلَى أَصْلٍ مُبَاحٍ كَمَا لَوْ وَجَدَ الْمُسْلِمُ مَاءً مُتَغَيِّرًا فَلَهُ أَنْ يَتَطَهَّرَ مِنْهُ مَعَ احْتِمَال أَنْ يَكُونَ تَغَيَّرَ بِنَجَاسَةٍ، أَوْ طُول مُكْثٍ، أَوْ كَثْرَةِ وُرُودِ السِّبَاعِ عَلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ اسْتِنَادًا إِلَى أَنَّ الأَْصْل طَهَارَةُ الْمِيَاهِ (3) . مَعَ
__________
(1) القواعد الفقهية ص 378 - دار القلم. دمشق ط 1 - 1406 هـ.
(2) غمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر لابن نجيم جـ 1 ص 193، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 22. المطبعة الأزهرية. مصر سنة 1328 هـ.
(3) المصدرين السابقين، وانظر: بدائع الصنائع 1 / 73، دار الكتاب العربي بيروت، ومواهب الجليل (بهامشه التاج والإكليل) 1 / 64 - 65 - 53.(26/186)
الْعِلْمِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفِ الْمُؤْمِنِينَ تَجَشُّمَ الْبَحْثِ لِلْكَشْفِ عَنْ طَهَارَتِهِ أَوْ نَجَاسَتِهِ تَيْسِيرًا عَلَيْهِمْ، حَيْثُ وَرَدَ فِي الأَْثَرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خَرَجَ فِي رَكْبٍ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَتَّى وَرَدُوا حَوْضًا فَقَال عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِصَاحِبِ الْحَوْضِ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ هَل تَرِدُ حَوْضَكَ السِّبَاعُ؟ فَقَال عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ لاَ تُخْبِرْنَا، فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ، وَتَرِدُ عَلَيْنَا (1) .
وَفِيهِ أَيْضًا: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَفْسَهُ كَانَ مَارًّا مَعَ صَاحِبٍ لَهُ فَسَقَطَ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ مِنْ مِيزَابٍ، فَقَال صَاحِبُهُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ مَاؤُكَ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ؟ فَقَال عُمَرُ: يَا صَاحِبَ الْمِيزَابِ لاَ تُخْبِرْنَا، وَمَضَى (2) .
فَإِنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَاءٌ طَاهِرٌ وَمَاءٌ نَجِسٌ تَحَرَّى، فَمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى طَهَارَتِهِ تَوَضَّأَ بِهِ (3) .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: شَكٌّ لاَ يُعْرَفُ أَصْلُهُ مِثْل التَّعَامُل مَعَ شَخْصٍ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ دُونَ تَمْيِيزٍ
__________
(1) المنتقى 1 / 62، وإغاثة اللهفان ص 82، مصر سنة 1320 هـ. وأثر عمر بن الخطاب: خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص. أخرجه مالك في الموطأ (1 / 23 - 24 - ط الحلبي) .
(2) المصدر السابق.
(3) حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء 1 / 86. دار القلم. عمان ط 1.(26/186)
لِهَذَا مِنْ ذَاكَ لاِخْتِلاَطِ النَّوْعَيْنِ مَعًا اخْتِلاَطًا يَصْعُبُ تَحْدِيدُهُ، فَمِثْل هَذَا الشَّخْصِ لاَ تَحْرُمُ مُبَايَعَتُهُ وَلاَ التَّعَامُل مَعَهُ لإِِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ الْمُقَابِل حَلاَلاً طَيِّبًا، وَلَكِنْ رَغْمَ هَذَا الاِحْتِمَال فَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّعَامُل مَعَهُ خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ (1) . كَمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّ " الْمَشْكُوكَ فِي وُجُوبِهِ لاَ يَجِبُ فِعْلُهُ وَلاَ يُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ بَل يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ احْتِيَاطًا (2) ".
أَقْسَامُ الشَّكِّ بِحَسَبِ الإِْجْمَاعِ عَلَى اعْتِبَارِهِ وَإِلْغَائِهِ:
7 - ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ الشَّكَّ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ يَنْقَسِمُ أَيْضًا إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: مُجْمَعٌ عَلَى اعْتِبَارِهِ كَالشَّكِّ فِي الْمُذَكَّاةِ وَالْمَيْتَةِ، فَالْحُكْمُ تَحْرِيمُهُمَا مَعًا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مُجْمَعٌ عَلَى إِلْغَائِهِ، كَمَنْ شَكَّ هَل طَلَّقَ أَمْ لاَ؟ فَلاَ شَيْءَ. عَلَيْهِ، وَشَكُّهُ يُعْتَبَرُ لَغْوًا.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَعْلِهِ سَبَبًا، كَمَنْ شَكَّ هَل أَحْدَثَ أَمْ لاَ؟ فَقَدِ اعْتَبَرَهُ مَالِكٌ دُونَ الشَّافِعِيِّ. وَمَنْ شَكَّ هَل طَلَّقَ ثَلاَثًا أَمِ اثْنَتَيْنِ؟ أَلْزَمَهُ مَالِكٌ الطَّلْقَةَ
__________
(1) غمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر 1 / 193.
(2) وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 1 / 22، القواعد الفقهية للندوي ص 218.(26/187)
الْمَشْكُوكَ فِيهَا خِلاَفًا لِلشَّافِعِيِّ (1) وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
الشَّكُّ لاَ يُزِيل الْيَقِينَ، أَوِ " الْيَقِينُ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ " أَوْ " لاَ شَكَّ مَعَ الْيَقِينِ ":
8 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ - عَلَى اخْتِلاَفِ تَرَاكِيبِهَا - مِنْ أُمَّهَاتِ الْقَوَاعِدِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ وَقَدْ قِيل: إِنَّهَا تَدْخُل فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَالْمَسَائِل الْمُخَرَّجَةُ عَنْهَا مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلاَتٍ تَبْلُغُ ثَلاَثَةَ أَرْبَاعِ عِلْمِ الْفِقْهِ (2) .
الشَّكُّ فِي الْمِيرَاثِ:
9 - الْمِيرَاثُ اسْتِحْقَاقٌ وَكُل اسْتِحْقَاقٍ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِثُبُوتِ أَسْبَابِهِ وَتَوَفُّرِ شُرُوطِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، وَهَذِهِ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِيَقِينٍ، فَلاَ يُتَصَوَّرُ مَثَلاً ثُبُوتُ الاِسْتِحْقَاقِ بِالشَّكِّ فِي طَرِيقِهِ وَبِالتَّالِي لاَ يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ الْمِيرَاثِ بِالشَّكِّ (3) .
الشَّكُّ فِي الأَْرْكَانِ:
10 - أَرْكَانُ الشَّيْءِ هِيَ أَجْزَاءُ مَاهِيَّتِهِ الَّتِي يَتَكَوَّنُ مِنْهَا، وَهِيَ الَّتِي تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عَلَى تَوَفُّرِ شُرُوطِهَا (4) . وَأَرْكَانُ أَيِّ عِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ يُرَادُ بِهَا فَرَائِضُهَا الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا إِذْ
__________
(1) الفروق 1 / 225، 226 (دار إحياء الكتب ط 1 س 1344 هـ) .
(2) غمز عيون البصائر على الأشباه 1 / 194.
(3) راجع: شرح السراجية للجرجاني 1 / 219. مطبعة الحلبي بمصر سنة 1363 هـ 1944 م.
(4) المصباح المنير.(26/187)
لاَ فَرْقَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْفَرْضِ إِلاَّ فِي الْحَجِّ حَيْثُ تَتَمَيَّزُ الأَْرْكَانُ فِيهِ عَلَى الْوَاجِبَاتِ وَالْفُرُوضِ بِعَدَمِ جَبْرِهَا بِالدَّمِ (1) .
فَمَنْ شَكَّ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعِبَادَةِ أَوْ فِي فَرْضٍ مِنْ فَرَائِضِهَا، هَل أَتَى بِهِ أَمْ لاَ؟ فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ الْمُحَقَّقِ عِنْدَهُ، وَيَأْتِي بِمَا شَكَّ فِيهِ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلاَمِ سَجْدَتَيْنِ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ قَدْ فَعَل مَا شَكَّ فِيهِ، فَيَكُونَ مَا أَتَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَحْضُ زِيَادَةٍ، وَقَال ابْنُ لُبَابَةَ: يَسْجُدُ قَبْل السَّلاَمِ، وَفِي غَلَبَةِ الظَّنِّ هُنَا قَوْلاَنِ دَاخِل الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ: مِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَهَا كَالشَّكِّ وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَهَا كَالْيَقِينِ (2) .
وَفِيمَا تَقَدَّمَ يَقُول الشَّيْخُ ابْنُ عَاشِرٍ - صَاحِبُ الْمُرْشِدِ الْمُعِينِ:
مَنْ شَكَّ فِي رُكْنٍ بَنَى عَلَى الْيَقِينْ
وَلْيَسْجُدُوا الْبَعْدِيَّ لَكِنْ قَدْ يَبِينْ (3)
.
قَال الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ مَيَّارَةَ: وَيُقَيَّدُ كَلاَمُ صَاحِبِ هَذَا النَّظْمِ بِغَيْرِ الْمُوَسْوِسِ أَوْ كَالْمُسْتَنْكَحِ لأَِنَّ هَذَا لاَ يَعْتَدُّ بِمَا شَكَّ فِيهِ،
__________
(1) الدر الثمين والمورد المعين في شرح المرشد المعين على الضروري من علوم الدين (ميارة الكبرى) 2 / 114 (بهامشه: شرح خطط السداد) .
(2) ميارة الكبرى 2 / 32، 33، وميارة الصغرى ص 46 مطبعة التقدم بمصر ط 3 سنة 1332 هـ.
(3) المرشد المعين على الضروري من علوم الدين ص 14. (المطبعة العلمية بتونس ط 4 سنة 1345 هـ) .(26/188)
وَشَكُّهُ كَالْعَدَمِ وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلاَمِ، فَإِذَا شَكَّ هَل صَلَّى ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا بَنَى عَلَى الأَْرْبَعِ وَسَجَدَ بَعْدَ السَّلاَمِ (1) .
وَإِجْمَالاً فَإِنَّ الشَّكَّ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُسْتَنْكِحٌ: أَيْ يَعْتَرِي صَاحِبَهُ كَثِيرًا وَهُوَ كَالْعَدَمِ لَكِنَّهُ يَسْجُدُ لَهُ بَعْدَ السَّلاَمِ، وَغَيْرُ مُسْتَنْكِحٍ: وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدَ مُدَّةٍ وَحُكْمُهُ وُجُوبُ الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ، وَأَنَّ السَّهْوَ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ: مُسْتَنْكِحٌ وَغَيْرُ مُسْتَنْكِحٍ (2) .
رَاجِعْ مُصْطَلَحَ (سَهْوٌ) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ.
وَإِنَّ مَنْ شَكَّ فِي جُلُوسِهِ هَل كَانَ فِي الشَّفْعِ أَوْ فِي الْوَتْرِ؟ فَإِنَّ الْمَنْصُوصَ لِمَالِكٍ أَنَّهُ يُسَلِّمُ وَيَسْجُدُ لِسَهْوِهِ، ثُمَّ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ أَضَافَ رَكْعَةَ الْوَتْرِ إِلَى رَكْعَتَيِ الشَّفْعِ مِنْ غَيْرِ سَلاَمٍ فَيَصِيرُ قَدْ صَلَّى الشَّفْعَ ثَلاَثًا، وَمِنْ هُنَا طُولِبَ بِالسُّجُودِ بَعْدَ السَّلاَمِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ: أَيْ مَسْأَلَةَ الشَّكِّ فِي الرُّكْنِ تَتَّفِقُ فِي الْحُكْمِ مَعَ مَسْأَلَةِ التَّحَقُّقِ مِنَ الإِْخْلاَل بِرُكْنٍ فَفِي الأُْولَى يُلْغَى الشَّكُّ وَيُبْنَى عَلَى الْيَقِينِ مَعَ السُّجُودِ بَعْدَ السَّلاَمِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يُجْبَرُ الرُّكْنُ وَيَقَعُ السُّجُودُ بَعْدَ السَّلاَمِ (3) . وَإِنَّ الَّذِي يَجْمَعُ
__________
(1) ميارة الكبرى 2 / 32، وميارة الصغرى ص 46 (مختصر الدر الثمين) .
(2) ميارة الكبرى 2 / 33 (الدر الثمين) .
(3) ميارة الكبرى 2 / 33 (الدر الثمين) .(26/188)
هَذَا كُلَّهُ هُوَ قَوْلُهُمُ: الشَّكُّ فِي النُّقْصَانِ كَتَحَقُّقِهِ (1) . وَلِذَلِكَ قَال الْوَنْشَرِيسِيُّ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: وَمِنْ ثَمَّ لَوْ شَكَّ أَصَلَّى ثَلاَثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ أَتَى بِرَابِعَةٍ أَوْ شَكَّ فِي بَعْضِ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ أَوِ السَّعْيِ أَوْ شَكَّ هَل أَتَى بِالثَّالِثَةِ أَمْ لاَ؟ بَنَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى الْيَقِينِ (2) . وَتُتَمِّمُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ قَاعِدَةٌ أُخْرَى نَصُّهَا: الشَّكُّ فِي الزِّيَادَةِ كَتَحَقُّقِهَا (3) . كَالشَّكِّ فِي حُصُول التَّفَاضُل فِي عُقُودِ الرِّبَا، وَالشَّكِّ فِي عَدَدِ الطَّلاَقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (4) .
الشَّكُّ فِي السَّبَبِ:
11 - السَّبَبُ لُغَةً: هُوَ الْحَبْل أَوِ الطَّرِيقُ ثُمَّ اسْتُعِيرَ مِنَ الْحَبْل لِيَدُل عَلَى كُل مَا يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى شَيْءٍ، كَقَوْلِهِ جَل ذِكْرُهُ: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَْسْبَابُ (5)) أَيِ الْعَلاَئِقُ الَّتِي ظَنُّوا أَنَّهَا سَتُوَصِّلُهُمْ إِلَى النَّعِيمِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ: وَإِنْ كَانَ رِزْقُهُ فِي الأَْسْبَابِ أَيْ فِي طُرُقِ السَّمَاءِ وَأَبْوَابِهَا (6) . وَهُوَ - فِي
__________
(1) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص 197 - الرباط 1400 هـ - 1980 م.
(2) المصدر السابق 197، 198.
(3) نفس المصدر ص 201.
(4) المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي ص 201، الفروق للقرافي 1 / 226 الفرق 44.
(5) سورة البقرة / 166.
(6) حديث: " وإن كان رزقه في الأسباب " أورده ابن الأثير في " النهاية (2 / 329 - ط الحلبي) ولم نهتد إليه في أي مصدر من المصادر الحديثية لدينا.(26/189)
اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ - الأَْمْرُ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّرْعُ أَمَارَةً لِوُجُودِ الْحُكْمِ وَجَعَل انْتِفَاءَهُ أَمَارَةً عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ (1) .
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا فَإِنَّ السَّبَبَ لاَ يَنْعَقِدُ إِلاَّ بِجَعْل الْمُشَرِّعِ لَهُ كَذَلِكَ.
وَحَتَّى يَكُونَ السَّبَبُ وَاضِحَ التَّأْثِيرِ - بِجَعْل اللَّهِ - يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَيَقَّنًا إِذْ لاَ تَأْثِيرَ وَلاَ أَثَرَ لِسَبَبٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، وَذَلِكَ كَالشَّكِّ فِي أَسْبَابِ الْمِيرَاثِ بِأَنْوَاعِهَا (2) . فَإِنَّهُ مَانِعٌ مِنْ حُصُول الْمِيرَاثِ بِالْفِعْل إِذْ لاَ مِيرَاثَ مَعَ الشَّكِّ فِي سَبَبِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ (3) . شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ شَأْنُ الشَّكِّ فِي دُخُول وَقْتِ الظُّهْرِ أَوْ وَقْتِ الْعَصْرِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَسْبَابِ الْعِبَادَاتِ (4) .
وَقَدْ خَصَّصَ الْقَرَافِيُّ فَرْقًا هَامًّا مَيَّزَ فِيهِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الشَّكِّ فِي السَّبَبِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ السَّبَبِ
__________
(1) الموافقات 1 / 187 وما بعدها.
(2) يتوقف الإرث على ثلاثة أمور: وجود أسبابه وشروطه وانتفاء موانعه، ولكن منها مبحث خاص به، فأما أسبابه المتفق عليها فهي ثلاثة: القرابة والزوجية والولاء. (التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية ص 31 - 38 ط 3 سنة 1407 هـ. المملكة العربية السعودية) .
(3) بدائع الصنائع 3 / 217، 218، مواهب الجليل 6 / 623، 624، التاج والإكليل 6 / 623 - 624.
(4) جواهر الإكليل شرح مختصر خليل 1 / 33، كشاف القناع 1 / 177، (بهامشه منتهى الإرادات) - الإقناع في فقه أحمد ابن حنبل 1 / 84، 85.(26/189)
فِي الشَّكِّ (1) . أَشَارَ فِي بِدَايَتِهِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْمَوْضُوعَ قَدْ أَشْكَل أَمْرُهُ عَلَى جَمِيعِ الْفُضَلاَءِ، وَانْبَنَى عَلَى عَدَمِ تَحْرِيرِهِ إِشْكَالٌ آخَرُ فِي مَوَاضِعَ وَمَسَائِل كَثِيرَةٍ حَتَّى خَرَقَ بَعْضُهُمُ الإِْجْمَاعَ فِيهَا (2) .
وَالْقَوْل الْفَصْل فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ حَسَبَ رَأْيِ الْقَرَافِيِّ: " أَنَّ الشَّارِعَ شَرَعَ الأَْحْكَامَ وَشَرَعَ لَهَا أَسْبَابًا وَجَعَل مِنْ جُمْلَةِ مَا شَرَعَهُ مِنَ الأَْسْبَابِ الشَّكَّ، فَشَرَعَهُ - حَيْثُ شَاءَ - فِي صُوَرٍ عَدِيدَةٍ: فَإِذَا شَكَّ فِي الشَّاةِ وَالْمَيْتَةِ حَرُمَتَا مَعًا، وَسَبَبُ التَّحْرِيمِ هُوَ الشَّكُّ، وَإِذَا شَكَّ فِي الأَْجْنَبِيَّةِ وَأُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ حَرُمَتَا مَعًا، وَسَبَبُ التَّحْرِيمِ هُوَ الشَّكُّ، وَإِذَا شَكَّ فِي عَيْنِ الصَّلاَةِ الْمَنْسِيَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِ خَمْسُ صَلَوَاتٍ، وَسَبَبُ وُجُوبِ الْخَمْسِ هُوَ الشَّكُّ، وَإِذَا شَكَّ هَل تَطَهَّرَ أَمْ لاَ؟ وَجَبَ الْوُضُوءُ، وَسَبَبُ وُجُوبِهِ هُوَ الشَّكُّ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ النَّظَائِرِ (3) .
" فَالشَّكُّ فِي السَّبَبِ غَيْرُ السَّبَبِ فِي الشَّكِّ: فَالأَْوَّل يَمْنَعُ التَّقَرُّبَ وَلاَ يَتَقَرَّرُ مَعَهُ حُكْمٌ، وَالثَّانِي لاَ يَمْنَعُ التَّقَرُّبَ وَتَتَقَرَّرُ مَعَهُ
__________
(1) الفروق 1 / 225 - تهذيب الفروق 1 / 227 (بهامش الفروق) .
(2) المصدرين السابقين.
(3) نفس المصدرين ص 225، 226 مع تصرف طفيف. وانظر أيضًا: إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي ص 201.(26/190)
الأَْحْكَامُ كَمَا هُوَ الْحَال فِي النَّظَائِرِ السَّابِقَةِ " وَلاَ نَدَّعِي أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ نَصَبَ الشَّكَّ سَبَبًا فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ بَل فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بِحَسَبِ مَا يَدُل عَلَيْهِ الإِْجْمَاعُ أَوِ النَّصُّ، وَقَدْ يُلْغِي صَاحِبُ الشَّرْعِ الشَّكَّ فَلاَ يَجْعَل فِيهِ شَيْئًا: كَمَنْ شَكَّ هَل طَلَّقَ أَمْ لاَ. فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالشَّكُّ لَغْوٌ، وَمَنْ شَكَّ فِي صَلاَتِهِ هَل سَهَا أَمْ لاَ؟ . فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَالشَّكُّ لَغْوٌ. فَهَذِهِ صُوَرٌ مِنَ الشَّكِّ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِيهَا، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى اعْتِبَارِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ.
وَقِسْمٌ ثَالِثٌ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَصْبِهِ سَبَبًا: كَمَنْ شَكَّ هَل أَحْدَثَ أَمْ لاَ؟ فَقَدِ اعْتَبَرَهُ مَالِكٌ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيِّ، وَمَنْ شَكَّ هَل طَلَّقَ ثَلاَثًا أَمِ اثْنَتَيْنِ؟ أَلْزَمَهُ مَالِكٌ الطَّلْقَةَ الْمَشْكُوكَ فِيهَا خِلاَفًا لِلشَّافِعِيِّ، وَمَنْ حَلَفَ يَمِينًا وَشَكَّ مَا هِيَ؟ أَلْزَمَهُ مَالِكٌ جَمِيعَ الأَْيْمَانِ (1) .
الشَّكُّ فِي الشَّرْطِ:
12 - الشَّرَطُ - بِفَتْحَتَيْنِ -: الْعَلاَمَةُ وَالْجَمْعُ أَشْرَاطٌ مِثْل سَبَبٍ وَأَسْبَابٍ، وَمِنْهُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ، أَيْ عَلاَمَاتُهَا وَدَلاَئِلُهَا. وَالشَّرْطُ - بِسُكُونِ الرَّاءِ - يُجْمَعُ عَلَى شُرُوطٍ. تَقُول:
__________
(1) المصادر السابقة والفروق ص 226 - 227، وتهذيب الفروق بهامش الفروق 1 / 228.(26/190)
شَرَطَ عَلَيْهِ شَرْطًا وَاشْتَرَطْتُ عَلَيْهِ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ أَهْل اللُّغَةِ (1) .
أَمَّا الشَّرْطُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ: فَهُوَ مَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ مُكَمِّلاً لأَِمْرٍ شَرْعِيٍّ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِوُجُودِهِ: كَالطَّهَارَةِ؛ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مُكَمِّلَةً لِلصَّلاَةِ فِيمَا يُقْصَدُ مِنْهَا مِنْ تَعْظِيمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِذِ الْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْهِ تَعَالَى مَعَ الطَّهَارَةِ الشَّامِلَةِ لِلْبَدَنِ وَالثِّيَابِ وَالْمَكَانِ أَكْمَل فِي مَعْنَى الاِحْتِرَامِ وَالتَّعْظِيمِ، وَبِهَذَا الْوَضْعِ لاَ تَتَحَقَّقُ الصَّلاَةُ الشَّرْعِيَّةُ إِلاَّ بِهَا، فَالشَّرْطُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْحُكْمِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمَشْرُوطِ، وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُ الْحُكْمِ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْحُكْمِ وَلاَ عَدَمُهُ (2) .
" وَالشَّكُّ فِي الشَّرْطِ مَانِعٌ مِنْ تَرَتُّبِ الْمَشْرُوطِ (3) " وَهُوَ كَذَلِكَ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي الْمَشْرُوطِ (4) . وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَامْتَنَعَ الْقِصَاصُ مِنَ.
__________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2 / 460.
(2) الفروق للقرافي 1 / 110، 111، والموافقات للشاطبي 1 / 262، ولباب الفرائض ص 4، مطبعة الإرادة بتونس، والعذب الفائض شرح عمدة الفرائض 1 / 17 (مطبعة الحلبي. مصر. ط 1 سنة 1372 هـ) .
(3) قاعدة فقهية نص عليها الونشريسي في كتابه إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص 192.
(4) قاعدة فقهية نص عليها القرافي في الفروق 1 / 111.(26/191)
الأَْبِ فِي قَتْل ابْنِهِ (1) . وَامْتَنَعَ الإِْرْثُ بِالشَّكِّ فِي مَوْتِ الْمُوَرِّثِ أَوْ حَيَاةِ الْوَارِثِ، وَبِالشَّكِّ فِي انْتِفَاءِ الْمَانِعِ مِنَ الْمِيرَاثِ (2) .
الشَّكُّ فِي الْمَانِعِ:
13 - الْمَانِعُ لُغَةً: الْحَائِل (3) .
أَمَّا الْمَانِعُ فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدْ عُرِّفَ بِقَوْلِهِمْ: هُوَ مَا يَلْزَمُ مِنْ أَجْل وُجُودِهِ الْعَدَمُ - أَيْ عَدَمُ الْحُكْمِ - وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ أَجْل عَدَمِهِ وُجُودٌ وَلاَ عَدَمٌ (4) . كَقَتْل الْوَارِثِ لِمُوَرِّثِهِ عَمْدًا وَعُدْوَانًا فَإِنَّهُ يُعَدُّ مَانِعًا مِنَ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ تَحَقَّقَ سَبَبُهُ وَهُوَ الْقَرَابَةُ أَوِ الزَّوْجِيَّةُ أَوْ غَيْرُهُمَا.
فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي الْمَانِعِ فَهَل يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ؟ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى أَنَّ " الشَّكَّ فِي الْمَانِعِ لاَ أَثَرَ لَهُ (5) " أَيْ إِنَّ الشَّكَّ مُلْغًى بِالإِْجْمَاعِ (6) . وَمِنْ ثَمَّ أُلْغِيَ الشَّكُّ الْحَاصِل فِي ارْتِدَادِ زَيْدٍ قَبْل وَفَاتِهِ أَمْ لاَ؟ وَصَحَّ الإِْرْثُ مِنْهُ اسْتِصْحَابًا لِلأَْصْل الَّذِي هُوَ الإِْسْلاَمُ (7) . كَمَا أُلْغِيَ الشَّكُّ فِي الطَّلاَقِ،
__________
(1) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك 1 / 17.
(2) لباب الفرائض ص 4 - العذب الفائض 1 / 17، النهاية في غريب الحديث 4 / 365.
(3) الفروق 1 / 111، والأحكام للآمدي 1 / 67 - لباب الفرائض ص 4، العذب الفائض 1 / 23.
(4) قاعدة فقهية ذكرها الونشريسي في إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص 193.
(5) القاعدة منقولة عن ابن العربي وذكرها المقري في قواعده ورقمها فيه 650، انظر أيضًا المصدر السابق.
(6) الفروق للقرافي 1 / 111.(26/191)
بِمَعْنَى شَكُّ الزَّوْجِ هَل حَصَل مِنْهُ الطَّلاَقُ أَمْ لاَ؟ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الشَّكَّ هُنَا لاَ تَأْثِيرَ لَهُ وَأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِصْحَابُ الْعِصْمَةِ الثَّابِتَةِ قَبْل الشَّكِّ، لأَِنَّ الشَّكَّ هُنَا كَانَ مِنْ قَبِيل الشَّكِّ فِي حُصُول الْمَانِعِ وَهُوَ مُلْغًى (1) وَسَيَأْتِي التَّفْرِيقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الشَّكِّ فِي الْحَدَثِ عِنْدَ تَنَاوُل الشَّكِّ فِي الطَّهَارَةِ.
وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ أَيْضًا أُلْغِيَ الشَّكُّ فِي الْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ وَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ وَمَا إِلَيْهَا (2) .
قَال الْخَطَّابِيُّ - فِي خُصُوصِ الرَّضَاعِ -: هُوَ مِنَ الْمَوَانِعِ الَّتِي يَمْنَعُ وُجُودُهَا وُجُودَ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، فَهُوَ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَيَقْطَعُ اسْتِمْرَارَهُ - إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ - فَإِذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي حُصُولِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ " الشَّكُّ مُلْغًى " وَقَدْ يُقَال: إِنَّ الأَْحْوَطَ التَّنَزُّهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِلشَّخْصِ أَنْ يُقْدِمَ إِلاَّ عَلَى فَرْجٍ مَقْطُوعٍ بِحِلِّيَّتِهِ.
الشَّكُّ فِي الطَّهَارَةِ:
14 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ يَحَبُّ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، وَإِعَادَةُ الصَّلاَةِ إِنْ صَلَّى لأَِنَّ الذِّمَّةَ مَشْغُولَةٌ فَلاَ تَبْرَأُ إِلاَّ بِيَقِينٍ، فَإِنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ فَلاَ وُضُوءَ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لأَِنَّ
__________
(1) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص 193.
(2) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص 193.(26/192)
الْوُضُوءَ لاَ يُنْقَضُ بِالشَّكِّ عِنْدَهُمْ (1) لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَال: شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُل يُخَيَّل إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاَةِ؟ فَقَال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لاَ يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ - فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ -: مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ ثُمَّ شَكَّ فِي الْحَدَثِ فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ وُجُوبًا - وَقِيل: اسْتِحْبَابًا - لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الشَّكَّ فِي أَحَدِ الْمُتَقَابِلَيْنِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي الآْخَرِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنْكِحًا (3) ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَل الْحَدِيثُ (4) .
وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا أَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَالْحَدَثَ مَعًا وَشَكَّ فِي السَّابِقِ مِنْهُمَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَل بِضِدِّ مَا قَبْلَهُمَا: فَإِنْ كَانَ قَبْل ذَلِكَ مُحْدَثًا فَهُوَ الآْنَ مُتَطَهِّرٌ؛ لأَِنَّهُ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَدَثِ وَشَكَّ فِي
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 139. بولاق. المطبعة الأميرية ط 3 سنة 1329 هـ، التمهيد لابن عبد البر 5 / 27، نيل الأوطار للشوكاني 1 / 203 مصر سنة 1357 هـ، ونهاية المحتاج 1 / 114، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 226، وحلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء 1 / 155 - 156.
(2) حديث عبد الله بن زيد قال: شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أخرجه البخاري (الفتح 1 / 237 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 276 - ط الحلبي) .
(3) المستنكح هو الذي يشك في كل وضوء وصلاة أو يطرأ عليه ذلك في اليوم مرة أو مرتين (مواهب الجليل 1 / 300) .
(4) المدونة الكبرى 1 / 13، 14 - مواهب الجليل 1 / 300، التاج والإكليل 1 / 301، التمهيد 5 / 27، المعيار 1 / 10، 11.(26/192)
انْتِقَاضِهَا، حَيْثُ لاَ يَدْرِي هَل الْحَدَثُ الثَّانِي قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا؟ ، وَإِنْ كَانَ مُتَطَهِّرًا وَكَانَ يَعْتَادُ التَّجْدِيدَ فَهُوَ الآْنَ مُحْدِثٌ لأَِنَّهُ مُتَيَقِّنٌ حَدَثًا بَعْدَ تِلْكَ الطَّهَارَةِ وَشَكَّ فِي زَوَالِهِ حَيْثُ لاَ يَدْرِي هَل الطَّهَارَةُ الثَّانِيَةُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ أَمْ لاَ؟ (1) .
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الأَْصْل حَدَثًا كَانَ أَوْ طَهَارَةً، وَهُوَ قَوْل أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَالطَّبَرِيِّ، وَقَال مَالِكٌ: إِنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ كَثِيرًا فَهُوَ عَلَى وُضُوئِهِ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مَنْ أَيْقَنَ بِالْحَدَثِ وَشَكَّ فِي الْوُضُوءِ فَإِنَّ شَكَّهُ لاَ يُفِيدُ فَائِدَةً وَأَنَّ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ فَرْضًا وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الشَّكَّ عِنْدَهُمْ مُلْغًى، وَأَنَّ الْعَمَل عِنْدَهُمْ عَلَى الْيَقِينِ، وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الْفِقْهِ فَتَدَبَّرْهُ وَقِفْ عَلَيْهِ (2) .
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل مَا جَاءَ عَنِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتْ دَمَ الْحَيْضِ وَلَمْ تَدْرِ وَقْتَ حُصُولِهِ فَإِنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ مَنْ رَأَى مَنِيًّا فِي ثَوْبِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ وَقْتَ حُصُولِهِ، أَيْ عَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِل وَتُعِيدَ الصَّلاَةَ مِنْ آخِرِ نَوْمَةٍ، وَهَذَا
__________
(1) الموسوعة الفقهية 4 / 295، والتاج والإكليل 1 / 301، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 227.
(2) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 5 / 27.(26/193)
أَقَل الأَْقْوَال تَعْقِيدًا وَأَكْثَرُهَا وُضُوحًا (1) . وَضَابِطُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنْ أَنَّ حُكْمَ الْحَيْضِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ كَحُكْمِ الْحَيْضِ الْمُتَيَقَّنِ فِي تَرْكِ الْعِبَادَاتِ (2)
وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ - فِي هَذَا الْمَوْضِعِ - مُطْلَقُ التَّرَدُّدِ - كَمَا سَبَقَ فِي مَفْهُومِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى السَّوَاءِ أَمْ كَانَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ أَرْجَحَ (3) .
الشَّكُّ فِي الصَّلاَةِ:
أ - الشَّكُّ فِي الْقِبْلَةِ:
15 - مَنْ شَكَّ فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَل عَنْهَا الْعَالِمِينَ بِهَا مِنْ أَهْل الْمَكَانِ إِنْ وُجِدُوا وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ بِالتَّحَرِّي وَالاِجْتِهَادِ لِمَا رَوَاهُ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُل رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَل {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ (4) } . وَقِبْلَةُ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 132 - 133، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم 1 / 219 - 220، ومواهب الجليل 1 / 312، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 373، والمهذب للشيرازي 1 / 42، 43.
(2) المغني مع الشرح الكبير 1 / 375.
(3) الموسوعة الفقهية 4 / 295، نهاية المحتاج 1 / 114.
(4) حديث عامر بن ربيعة: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة. أخرجه الترمذي (2 / 176 - ط الحلبي) وضعف إسناده، وذكر ابن كثير في تفسيره (1 / 278 - ط. دار الأندلس) أسانيده، وقال: " وهذه الأسانيد فيها ضعف، ولعله يشد بعضها بعضًا ".(26/193)
الْمُتَحَرِّي - كَمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هِيَ جِهَةُ قَصْدِهِ (1) . وَالصَّلاَةُ الْوَاحِدَةُ لِجِهَةِ الْقَصْدِ هَذِهِ تُجْزِئُ الْمُصَلِّيَ وَتُسْقِطُ عَنْهُ الطَّلَبَ لِعَجْزِهِ، وَيَرَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّ الأَْفْضَل لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ لِكُل جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ الأَْرْبَعِ أَخْذًا بِالأَْحْوَطِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ شَكُّهُ دَائِرًا بَيْنَهَا أَمَّا إِذَا انْحَصَرَ شَكُّهُ فِي ثَلاَثِ جِهَاتٍ فَقَطْ مَثَلاً فَإِنَّ الرَّابِعَةَ لاَ يُصَلِّي إِلَيْهَا، وَقَدِ اخْتَارَ اللَّخْمِيُّ مَا فَضَّلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ الأَْوَّل عِنْدَ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ (2) .
ب - الشَّكُّ فِي دُخُول الْوَقْتِ:
16 - مَنْ شَكَّ فِي دُخُول الْوَقْتِ لَمْ يُصَل حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُهُ لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ دُخُولِهِ، فَإِنْ صَلَّى مَعَ الشَّكِّ فَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ وَإِنْ وَافَقَ الْوَقْتَ، لِعَدَمِ صِحَّةِ صَلاَتِهِ مِثْلَمَا هُوَ الأَْمْرُ فِيمَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَصَلَّى مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ (3) .
__________
(1) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (1 / 101) ، بدائع الصنائع (1 / 118) .
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1 / 227) ، ونهاية المحتاج للرملي (1 / 419 - 424) ، وبدائع الصنائع 1 / 118.
(3) جواهر الإكليل شرح مختصر خليل 1 / 33، كشاف القناع (بهامشه منتهى الإرادات) 1 / 177، الإقناع في فقه أحمد بن حنبل 1 / 84، 85 (المطبعة المصرية بالأزهر سنة 1351 هـ) .(26/194)
ج - الشَّكُّ فِي الصَّلاَةِ الْفَائِتَةِ:
17 - مَنْ فَاتَتْهُ صَلاَةٌ مِنْ يَوْمٍ مَا، وَلاَ يَدْرِي أَيَّ صَلاَةٍ هِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ صَلاَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ بِيَقِينٍ لاَ بِشَكٍّ (1) .
د - الشَّكُّ فِي رَكْعَةٍ مِنْ رَكَعَاتِ الصَّلاَةِ:
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ شَكَّ فِي صَلاَتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةً صَلَّى أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا؟ وَقَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَلاَ يُجْزِئُهُ التَّحَرِّي، وَرُوِيَ مِثْل ذَلِكَ عَنِ الثَّوْرِيِّ وَالطَّبَرِيِّ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ:
أَوَّلاً: بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى أَثْلاَثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْل أَنْ يُسَلِّمَ. فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا، شَفَعْنَ لَهُ صَلاَتَهُ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لأَِرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ (2) .
وَثَانِيًا: بِالْقَاعِدَتَيْنِ الْفِقْهِيَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ فِي مَعْنَى الأَْحَادِيثِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا وَغَيْرِهَا مِمَّا يُوجِبُ الْبِنَاءَ عَلَى الْيَقِينِ (3) . وَهُمَا:
__________
(1) البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم 2 / 87.
(2) حديث: " إذا شك أحدكم في صلاته. . . . " أخرجه مسلم (1 / 400 - ط الحلبي) .
(3) التمهيد 5 / 25، الفروق 1 / 227، إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي ص 197.(26/194)
الْقَاعِدَةُ الأُْولَى: " الْيَقِينُ لاَ يُزِيلُهُ الشَّكُّ ". وَالثَّانِيَةُ: " وَالشَّكُّ فِي النُّقْصَانِ كَتَحَقُّقِهِ ".
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا كَانَ الشَّكُّ يَحْدُثُ لَهُ لأَِوَّل مَرَّةٍ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ وَلَمْ يَتَحَرَّ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِل صَلاَةً جَدِيدَةً.
وَإِنْ كَانَ الشَّكُّ يَعْتَادُهُ وَيَتَكَرَّرُ لَهُ يَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ بِحُكْمِ التَّحَرِّي وَيَقْعُدُ وَيَتَشَهَّدُ بَعْدَ كُل رَكْعَةٍ يَظُنُّهَا آخِرَ صَلاَتِهِ لِئَلاَّ يَصِيرَ تَارِكًا فَرْضَ الْقَعْدَةِ، فَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَهُ ظَنٌّ بَنَى عَلَى الأَْقَل، وَقَال الثَّوْرِيُّ - فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - يَتَحَرَّى سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ أَوَّل مَرَّةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: يَتَحَرَّى، قَال: وَإِنْ نَامَ فِي صَلاَتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى؟ اسْتَأْنَفَ.
وَقَال اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إِنْ كَانَ هَذَا شَيْئًا يَلْزَمُهُ وَلاَ يَزَال يَشُكُّ أَجْزَأَهُ سَجْدَتَا السَّهْوِ عَنِ التَّحَرِّي، وَعَنِ الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا يَلْزَمُهُ اسْتَأْنَفَ تِلْكَ الرَّكْعَةَ بِسَجْدَتَيْهَا.
وَقَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الشَّكُّ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْيَقِينُ وَالتَّحَرِّي، فَمَنْ رَجَعَ إِلَى الْيَقِينِ أَلْغَى الشَّكَّ وَسَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ قَبْل السَّلاَمِ، وَإِذَا رَجَعَ إِلَى التَّحَرِّي سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلاَمِ (1) . وَدَلِيلُهُ
__________
(1) حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء 2 / 137، التمهيد 5 / 36، ومراقي الفلاح 259.(26/195)
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَ الشَّيْطَانُ فَلَبَّسَ عَلَيْهِ حَتَّى لاَ يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ (1)
وَحُجَّةُ مَنْ قَال بِالتَّحَرِّي فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ الصَّوَابُ ثُمَّ - يَعْنِي - يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ (2) .
الشَّكُّ فِي الزَّكَاةِ:
أ - الشَّكُّ فِي تَأْدِيَتِهَا:
19 - لَوْ شَكَّ رَجُلٌ فِي الزَّكَاةِ فَلَمْ يَدْرِ أَزَكَّى أَمْ لاَ؟ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا لأَِنَّ الْعُمُرَ كُلَّهُ وَقْتٌ لأَِدَائِهَا، وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ صَاحِبِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَبَيْنَ مَنْ شَكَّ فِي الصَّلاَةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَصَلَّى أَمْ لاَ؟ حَيْثُ ذَكَرُوا - كَمَا تَقَدَّمَ - إِعْفَاءَهُ مِنَ الإِْعَادَةِ لأَِنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ وَالزَّكَاةُ بِخِلاَفِهَا (3) .
__________
(1) حديث: " إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 104 - ط السلفية) ومسلم (1 / 398 - ط الحلبي) .
(2) حديث ابن مسعود: " إذا شك أحدكم في صلاته. . . " أخرجه النسائي (3 / 28 - ط المكتبة التجارية) ، وإسناده صحيح.
(3) الفروق للقرافي 1 / 225، وغمز عيون البصائر على الأشباه (1 / 223، 2 / 55) ، ونزهة النواظر على الأشباه والنظائر ص 67، 199.(26/195)
ب - الشَّكُّ فِي تَأْدِيَةِ كُل الزَّكَاةِ أَوْ بَعْضِهَا:
20 - ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ أَنَّ حَادِثَةً وَقَعَتْ مُفَادُهَا: أَنَّ رَجُلاً شَكَّ هَل أَدَّى جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ أَوْ لاَ؟ حَيْثُ كَانَ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مُتَفَرِّقًا مِنْ غَيْرِ ضَبْطٍ، فَتَمَّ إِفْتَاؤُهُ بِلُزُومِ الإِْعَادَةِ حَيْثُ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ دَفْعُ قَدْرٍ مُعَيَّنٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ لأَِنَّ الزَّكَاةَ ثَابِتَةٌ فِي ذِمَّتِهِ بِيَقِينٍ فَلاَ يَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِالشَّكِّ (1) .
ج - الشَّكُّ فِي مَصْرِفِ الزَّكَاةِ:
21 - إِذَا دَفَعَ الْمُزَكِّي الزَّكَاةَ وَهُوَ شَاكٌّ فِي أَنَّ مَنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ مَصْرِفٌ مِنْ مَصَارِفِهَا وَلَمْ يَتَحَرَّ، أَوْ تَحَرَّى وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَنَّهُ مَصْرِفٌ، فَهُوَ عَلَى الْفَسَادِ إِلاَّ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مَصْرِفٌ (2) . بِخِلاَفِ مَا إِذَا دُفِعَتْ بِاجْتِهَادٍ وَتَحَرٍّ لِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ فِي الْوَاقِعِ كَالْغَنِيِّ وَالْكَافِرِ (3) . فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ زَكَاةٌ (ف 188 - 189 ج 23 233) .
__________
(1) المصادر السابقة والحموي 1 / 210، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق 2 / 228.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 501، 502، والفتاوى الهندية 1 / 190، المطبعة الأميرية. مصر سنة 1310 هـ، بدائع الصنائع 2 / 50.
(3) المصادر السابقة، والتاج والإكليل 2 / 359، ومواهب الجليل 2 / 359.(26/196)
الشَّكُّ فِي الصِّيَامِ:
أ - الشَّكُّ فِي دُخُول رَمَضَانَ:
22 - إِذَا شَكَّ الْمُسْلِمُ فِي دُخُول رَمَضَانَ فِي الْيَوْمِ الْمُوَالِي لِيَوْمِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ يَبْنِي عَلَيْهِ مِثْل أَنْ يَكُونَ لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ مِنْ شَعْبَانَ وَلَمْ يَحُل دُونَ رُؤْيَةِ الْهِلاَل سُحُبٌ وَلاَ غُيُومٌ وَمَعَ ذَلِكَ عَزَمَ أَنْ يَصُومَ غَدًا بِاعْتِبَارِهِ أَوَّل يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ وَلاَ يُجْزِئُهُ صِيَامُ ذَلِكَ الْيَوْمِ لأَِنَّ النِّيَّةَ قَصْدٌ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ الْحَاصِل بِطُرُقِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَحَيْثُ انْتَفَى ذَلِكَ فَلاَ يَصِحُّ قَصْدُهُ وَهُوَ رَأْيُ حَمَّادٍ وَرَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ الْمُنْذِرِ لأَِنَّ الصَّائِمَ لَمْ يَجْزِمِ النِّيَّةَ بِصَوْمِهِ مِنْ رَمَضَانَ فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ إِلاَّ بَعْدَ خُرُوجِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَنَى عَلَى قَوْل الْمُنَجِّمِينَ وَأَهْل الْمَعْرِفَةِ بِالْحِسَابِ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ وَإِنْ كَثُرَتْ إِصَابَتُهُمْ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَجُوزُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. وَقَال الثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ: يَصِحُّ إِذَا نَوَاهُ مِنَ اللَّيْل - وَكَانَ الأَْمْرُ كَمَا قَصَدَ - لأَِنَّهُ نَوَى الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْل فَصَحَّ كَالْيَوْمِ الثَّانِي - وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا يُوَافِقُ الْمَذْهَبَيْنِ (1) .
ب الشَّكُّ فِي دُخُول شَوَّالٍ:
23 - تَصِحُّ النِّيَّةُ لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ مِنْ رَمَضَانَ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 3 / 24، 25. وحلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء 4 / 148، ونهاية المحتاج 3 / 159، ونيل الأوطار 4 / 192، 193.(26/196)
رَغْمَ أَنَّ هُنَاكَ احْتِمَالاً فِي أَنْ يَكُونَ مِنْ شَوَّالٍ، لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ رَمَضَانَ وَقَدْ أُمِرْنَا بِصَوْمِهِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لَكِنْ إِذَا قَال الْمُكَلَّفُ: إِنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا صَائِمٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ شَوَّالٍ فَأَنَا مُفْطِرٌ فَلاَ يَصِحُّ صَوْمُهُ عَلَى رَأْيِ بَعْضِهِمْ لأَِنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِنِيَّةِ الصِّيَامِ وَالنِّيَّةُ قَصْدٌ جَازِمٌ، وَقِيل: تَصِحُّ نِيَّتُهُ لأَِنَّ هَذَا شَرْطٌ وَاقِعٌ وَالأَْصْل بَقَاءُ رَمَضَانَ (1) .
ج - الشَّكُّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ:
24 - إِذَا شَكَّ الصَّائِمُ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَلاَّ يَأْكُل لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ الْفَجْرُ قَدْ طَلَعَ، فَيَكُونُ الأَْكْل إِفْسَادًا لِلصَّوْمِ وَلِذَلِكَ كَانَ مَدْعُوًّا لِلأَْخْذِ بِالأَْحْوَطِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ (2) . وَلَوْ أَكَل وَهُوَ شَاكٌّ، فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ فَسَادَ الصَّوْمِ مَحَل شَكٍّ وَالأَْصْل اسْتِصْحَابُ اللَّيْل حَتَّى يَثْبُتَ النَّهَارُ وَهَذَا لاَ يَثْبُتُ بِالشَّكِّ (3) .
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 3 / 25، 26، وحلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء 3 / 149، ونهاية المحتاج 3 / 159.
(2) حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " أخرجه الترمذي (4 / 668 - ط. الحلبي) ، والحاكم (4 / 99 - ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث الحسن بن علي. وقال الذهبي: " سنده قوي ".
(3) بدائع الصنائع 2 / 105، ونهاية المحتاج 3 / 171، والإقناع في فقه الإمام أحمد 1 / 316 - دار المعرفة لبنان.(26/197)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ أَكَل شَاكًّا فِي الْفَجْرِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ الْحُرْمَةِ رَغْمَ أَنَّ الأَْصْل بَقَاءُ اللَّيْل، هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِصَوْمِ الْفَرْضِ، أَمَّا صَوْمُ النَّفْل فَقَدْ سَوَّى بَعْضُهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْضِ فِي الْقَضَاءِ وَالْحُرْمَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا جَمَاعَةٌ فِي الْحُرْمَةِ حَيْثُ قَالُوا بِالْكَرَاهِيَةِ (1) .
د - الشَّكُّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ:
25 - لَوْ شَكَّ الصَّائِمُ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ لاَ يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ مَعَ الشَّكِّ لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاءُ النَّهَارِ، وَلَوْ أَفْطَرَ عَلَى شَكِّهِ دُونَ أَنْ يَتَبَيَّنَ الْحَال بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ اتِّفَاقًا (2) . وَالْحُرْمَةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا كَذَلِكَ.
وَعَدَمُ الْكَفَّارَةِ فِي الأَْكْل مَعَ الشَّكِّ فِي الْفَجْرِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، أَمَّا الأَْكْل مَعَ الشَّكِّ فِي الْغُرُوبِ فَمُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُهَا، فَإِنْ أَفْطَرَ مُعْتَقِدًا بَقَاءَ اللَّيْل أَوْ حُصُول الْغُرُوبِ ثُمَّ طَرَأَ الشَّكُّ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِلاَ حُرْمَةٍ (3) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 526، وما بعدها، وحلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء 3 / 161.
(2) بدائع الصنائع 2 / 105، وحاشية الدسوقي 1 / 526، وما بعدها، ونهاية المحتاج 3 / 171، والإقناع في فقه الإمام أحمد 1 / 312، 315، وحلية العلماء 3 / 161.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 526، وما بعدها، وحلية العلماء 3 / 161.(26/197)
الشَّكُّ فِي الْحَجِّ:
أ - الشَّكُّ فِي نَوْعِ الإِْحْرَامِ:
26 - إِذَا شَكَّ الْحَاجُّ هَل أَحْرَمَ بِالإِْفْرَادِ أَوْ بِالتَّمَتُّعِ أَوْ بِالْقِرَانِ وَكُل ذَلِكَ قَبْل الطَّوَافِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ يَصْرِفُهُ إِلَى الْقِرَانِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَهُ صَرْفُهُ إِلَى أَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الإِْحْرَامِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ جَعْلُهُ عُمْرَةً عَلَى سَبِيل الاِسْتِحْبَابِ، وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: يَتَحَرَّى فَيَبْنِي عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ لأَِنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الْعِبَادَةِ فَيَدْخُلُهُ التَّحَرِّي كَالْقِبْلَةِ.
وَسَبَبُ الْخِلاَفِ مَوَاقِفُ الأَْئِمَّةِ مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ غَيْرِهِمْ (1) .
وَأَمَّا إِنْ شَكَّ بَعْدَ الطَّوَافِ فَإِنَّ صَرْفَهُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ إِلَى الْعُمْرَةِ لأَِنَّ إِدْخَال الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ الطَّوَافِ مَعَ رَكْعَتَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ (2) .
ب - الشَّكُّ فِي دُخُول ذِي الْحِجَّةِ:
27 - لَوْ شَكَّ النَّاسُ فِي هِلاَل ذِي الْحِجَّةِ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 3 / 254، 255، التاج والإكليل (بهامش مواهب الجليل) 3 / 47، مواهب الجليل 3 / 47، جواهر الإكليل 1 / 171، المهذب للشيرازي 1 / 205، 206، نيل الأوطار 4 / 324.
(2) المصادر السابقة.(26/198)
فَوَقَفُوا بِعَرَفَةَ إِنْ أَكْمَلُوا عِدَّةَ ذِي الْقِعْدَةِ ثَلاَثِينَ يَوْمًا ثُمَّ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلاَل لَيْلَةَ كَذَا، وَتَبَيَّنَ أَنْ يَوْمَ وُقُوفِهِمْ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ فَوُقُوفُهُمْ صَحِيحٌ وَحَجَّتُهُمْ تَامَّةٌ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ (1) .
وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَال: الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالأَْضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ (2) .
وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ الْمُتَمَثِّل فِي صِحَّةِ الْوُقُوفِ كَانَ اسْتِحْسَانًا لاَ قِيَاسًا (3) . أَمَّا إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ فَلاَ يُجْزِيهِمْ وُقُوفُهُمْ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ: أَنَّ الَّذِينَ وَقَفُوا يَوْمَ النَّحْرِ فَعَلُوا مَا تَعَبَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِكْمَال الْعِدَّةِ دُونَ اجْتِهَادٍ بِخِلاَفِ الَّذِينَ وَقَفُوا فِي الثَّامِنِ فَإِنَّ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِمْ وَقَبُولِهِمْ شَهَادَةَ مَنْ لاَ يُوثَقُ بِهِ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 126، بلغة السالك لأقرب المسالك للدردير 1 / 259، نهاية المحتاج 3 / 290، المغني مع الشرح الكبير 3 / 370.
(2) حديث: " الصوم يوم تصومون " أخرجه الترمذي (3 / 71 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن غريب ".
(3) بدائع الصنائع 2 / 126.
(4) مواهب الجليل مع التاج والإكليل 3 / 95.(26/198)
ج - الشَّكُّ فِي الطَّوَافِ:
28 - إِذَا شَكَّ الْحَاجُّ فِي عَدَدِ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَعَلَى هَذَا أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ مَتَى شَكَّ فِيهَا وَهُوَ فِيهَا بَنَى عَلَى الْيَقِينِ كَالصَّلاَةِ (1) . وَلأَِنَّ الشَّكَّ فِي النُّقْصَانِ كَتَحَقُّقِهِ (2) . وَإِنْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بَعْدَ طَوَافِهِ رَجَعَ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ عَدْلاً، وَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الطَّوَافِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ كَمَا لَوْ شَكَّ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلاَةِ (3) .
وَفِي الْمُوَطَّأِ: مَنْ شَكَّ فِي طَوَافِهِ بَعْدَ مَا رَكَعَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ فَلْيُعِدْ لِيَتِمَّ طَوَافُهُ عَلَى الْيَقِينِ ثُمَّ لِيُعِدَ الرَّكْعَتَيْنِ لأَِنَّهُ لاَ صَلاَةَ لِطَوَافٍ إِلاَّ بَعْدَ إِكْمَال السَّبْعِ (4) . وَإِذَا شَكَّ فِي الطَّهَارَةِ وَهُوَ فِي الطَّوَافِ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ ذَلِكَ لأَِنَّهُ شَكَّ فِي شَرْطِ الْعِبَادَةِ قَبْل الْفَرَاغِ مِنْهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَكَّ فِي الطَّهَارَةِ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ (5) .
الشَّكُّ فِي الذَّبَائِحِ:
29 - مَنِ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْمُذَكَّاةُ بِالْمَيْتَةِ حَرُمَتَا مَعًا لِحُصُول سَبَبِ التَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 3 / 398.
(2) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص 197. المطبعة المغربية.
(3) المغني مع الشرح الكبير 3 / 398.
(4) المنتقى للباجي 2 / 289.
(5) حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء 3 / 280، المغني مع الشرح الكبير 3 / 398.(26/199)
الشَّكُّ (1) . وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى الْمُسْلِمُ طَرِيدَةً بِآلَةِ صَيْدٍ فَسَقَطَتْ فِي مَاءٍ وَمَاتَتْ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ أَمْرُهَا، فَلاَ تُؤْكَل لِلشَّكِّ فِي الْمُبِيحِ (2) . وَلَوْ وُجِدَتْ شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ بِبَلَدٍ فِيهِ مَنْ تَحِل ذَبِيحَتُهُ وَمَنْ لاَ تَحِل ذَبِيحَتُهُ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ذَابِحِهَا لاَ تَحِل إِلاَّ إِذَا غَلَبَ عَلَى أَهْل الْبَلَدِ مَنْ تَحِل ذَبِيحَتُهُمْ (3) .
الشَّكُّ فِي الطَّلاَقِ:
30 - شَكُّ الزَّوْجِ فِي الطَّلاَقِ لاَ يَخْلُو مِنْ ثَلاَثِ حَالاَتٍ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ فِي وُقُوعِ أَصْل التَّطْلِيقِ، أَيْ شَكَّ هَل طَلَّقَهَا أَمْ لاَ؟ فَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِإِجْمَاعِ الأُْمَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ النِّكَاحَ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَلاَ يَزُول بِالشَّكِّ (4) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (5) } .
__________
(1) الفروق 1 / 226.
(2) بلغة السالك لأقرب المسالك للصاوي 1 / 295، المكتبة التجارية الكبرى - بمصر 1223 هـ. ومواهب الجليل للحطاب 3 / 217.
(3) نهاية المحتاج 8 / 107، وغمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر 1 / 193.
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 401، الفروق 1 / 126، قواعد المقري: القاعدة رقم (650) ، المهذب 2 / 100، مغني المحتاج إلى معرفة معاني المنهاج 3 / 281، بدائع الصنائع 3 / 126، المغني مع الشرح الكبير 8 / 423، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 153. دار القلم. بيروت.
(5) سورة الإسراء / 36.(26/199)
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِي عَدَدِ الطَّلاَقِ - مَعَ تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ - هَل طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا؟ لَمْ تَحِل لَهُ - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ - إِلاَّ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ لاِحْتِمَال كَوْنِهِ ثَلاَثًا (1) . عَمَلاً بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ (2) وَيُحْكَمُ بِالأَْقَل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، فَإِذَا رَاجَعَهَا حَلَّتْ لَهُ عَلَى رَأْيِ هَؤُلاَءِ (3) .
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقَعَ الشَّكُّ فِي صِفَةِ الطَّلاَقِ كَأَنْ يَتَرَدَّدَ مَثَلاً فِي كَوْنِهَا بَائِنَةً أَوْ رَجْعِيَّةً، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُحْكَمُ بِالرَّجْعِيَّةِ لأَِنَّهَا أَضْعَفُ الطَّلاَقَيْنِ فَكَانَ مُتَيَقِّنًا بِهَا (4) .
وَذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ - فِي هَذَا الْمَعْنَى - أَنَّ الرَّجُل لَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَقْبَحَ طَلاَقٍ فَهُوَ رَجْعِيٌّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لأَِنَّ قَوْلَهُ: أَقْبَحَ طَلاَقٍ يَحْتَمِل الْقُبْحَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَيَحْتَمِل الْقُبْحَ الطَّبِيعِيَّ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ الطَّبِيعِيَّةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا أَنْ يُطَلِّقَهَا
__________
(1) المدونة الكبرى 3 / 13، الشرح الكبير بحاشية الدسوقي 2 / 402، الفروق 1 / 626، القوانين الفقهية ص 153، المغني 8 / 424.
(2) حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " سبق تخريجه ف / 24.
(3) البدائع 3 / 126، مغني المحتاج 3 / 281، المغني مع الشرح الكبير 8 / 424.
(4) بدائع الصنائع 3 / 126.(26/200)
فِي وَقْتٍ يُكْرَهُ الطَّلاَقُ فِيهِ طَبْعًا، فَلاَ تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ فِيهِ بِالشَّكِّ، وَهُوَ بَائِنٌ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ لأَِنَّ الْمُطَلِّقَ قَدْ وَصَفَ الطَّلاَقَ بِالْقُبْحِ، وَالطَّلاَقُ الْقَبِيحُ هُوَ الطَّلاَقُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ الْبَائِنُ، وَلِذَلِكَ يَقَعُ بَائِنًا (1) .
الشَّكُّ فِي الرَّضَاعِ:
31 - الاِحْتِيَاطُ لِنَفْيِ الرِّيبَةِ فِي الأَْبْضَاعِ مُتَأَكِّدٌ وَيَزْدَادُ الأَْمْرُ تَأْكِيدًا إِذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِالْمَحَارِمِ (2) .
فَلَوْ شَكَّ فِي وُجُودِ الرَّضَاعِ أَوْ فِي عَدَدِهِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الرَّضَاعِ فِي الصُّورَةِ الأُْولَى وَعَدَمُ حُصُول الْمِقْدَارِ الْمُحَرِّمِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ إِلاَّ أَنَّهَا تَكُونُ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَتَرْكُهَا أَوْلَى لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ (3) .
وَيَرَى الْقَرَافِيُّ أَنَّ الشَّكَّ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَوْضُوعِ وَمَا نَاظَرَهُ قَدْ يُعَدُّ - فِي بَعْضِ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 124.
(2) نهاية المحتاج 7 / 167، كشاف القناع عن متن الإقناع 3 / 293، الإقناع في فقه أحمد 4 / 133، البحر الرائق شرح كنز الدقائق 3 / 238، والقوانين الفقهية ص 225، 226.
(3) حديث: " من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 126 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1220 - ط الحلبي) من حديث النعمان بن بشير.(26/200)
الْحَالاَتِ - مِنَ الأَْسْبَابِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى الْحُكْمِ بِالتَّحْرِيمِ، مِنْ ذَلِكَ مَثَلاً مَا لَوْ شَكَّ الرَّجُل فِي أَجْنَبِيَّةٍ وَأُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعِ حَرُمَتَا عَلَيْهِ مَعًا (1) .
الشَّكُّ فِي الْيَمِينِ
32 - إِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ فِي أَصْل الْيَمِينِ هَل وَقَعَتْ أَوْ لاَ: كَشَكِّهِ فِي وُقُوعِ الْحَلِفِ أَوِ الْحَلِفِ وَالْحِنْثِ، فَلاَ شَيْءَ عَلَى الشَّاكِّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَالْيَقِينُ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ (2) .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ كَمَا إِذَا حَلَفَ وَحَنِثَ، وَشَكَّ هَل حَلَفَ بِطَلاَقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ مَشْيٍ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ صَدَقَةٍ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَا مَاثَلَهَا - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - طَلاَقُ نِسَائِهِ وَعِتْقُ رَقِيقِهِ وَالْمَشْيُ إِلَى مَكَّةَ وَالتَّصَدُّقُ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى وَجْهِ الإِْفْتَاءِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ إِذِ الْحَالِفُ - فِي رَأْيِهِمْ - يُؤْمَرُ بِإِنْفَاذِ الأَْيْمَانِ الْمَشْكُوكِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ (3) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الشَّاكَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لاَ
__________
(1) الفروق 1 / 225، 226، وإيضاح المسالك ص 193، وانظر أيضًا: الموسوعة الفقهية (رضاع) .
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير مع تقريرات الشيخ عليش (2 / 40 وما بعدها) .
(3) المصدر السابق، والمدونة الكبرى 3 / 14، دار صادر، بيروت.(26/201)
شَيْءَ عَلَيْهِ لأَِنَّ الطَّلاَقَ وَالْعَتَاقَ لاَ يَقَعَانِ بِالشَّكِّ؛ وَلأَِنَّ الْكَفَّارَةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى الْحَلِفِ بِاللَّهِ لاَ تَجِبُ مَعَ الشَّكِّ أَيْضًا إِذِ الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ (1) .
وَيُضِيفُونَ إِلَى هَذَا الْحَلِفَ إِذَا كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ مَعْلُومٍ مَعَ الشَّكِّ فِي الْقَسَمِ هَل كَانَ بِاللَّهِ إِذَا تَحَقَّقَ الشَّرْطُ وَكَانَ الْحَالِفُ مُسْلِمًا؛ لأَِنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَيَجِبُ حَمْل الْمُسْلِمِ عَلَى الإِْتْيَانِ بِالْمَشْرُوعِ دُونَ الْمَحْظُورِ (2) .
الشَّكُّ فِي النَّذْرِ:
33 - لَوْ شَكَّ النَّاذِرُ فِي نَوْعِ الْمَنْذُورِ هَل هُوَ صَلاَةٌ أَوْ صِيَامٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ عِتْقٌ؟ تَلْزَمُهُ - عِنْدَ جُمْهُورِ الأَْئِمَّةِ - كَفَّارَةُ يَمِينٍ، لأَِنَّ الشَّكَّ فِي الْمَنْذُورِ كَعَدَمِ تَسْمِيَتِهِ (3) .
الشَّكُّ فِي الْوَصِيَّةِ:
34 - قَال أَبُو حَنِيفَةَ - فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ مُسَمًّى وَأَخْبَرَ أَنَّ ثُلُثَ مَالِهِ أَلْفٌ مَثَلاً فَإِذَا ثُلُثُ مَالِهِ أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ -: إِنَّ لَهُ
__________
(1) غمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 211، ونزهة النواظر لابن عابدين على الأشباه والنظائر ص 68.
(2) غمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر 1 / 211.
(3) غمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 211، نزهة النواظر على الأشباه والنظائر ص 68، حاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة ابن أبي زيد 2 / 26 دار المعرفة. بيروت.(26/201)
الثُّلُثَ مِنْ جَمِيعِ الْمَال وَالتَّسْمِيَةُ الَّتِي سَمَّى بَاطِلَةٌ لأَِنَّهَا خَطَأٌ. وَالْخَطَأُ لاَ يَنْقُضُ الْوَصِيَّةَ وَلاَ يَكُونُ رُجُوعًا فِيهَا، وَوَافَقَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي هَذَا الرَّأْيِ لأَِنَّهُ لَمَّا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فَقَدْ أَتَى بِوَصِيَّةٍ صَحِيحَةٍ حَيْثُ إِنَّ صِحَّتَهَا لاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى بَيَانِ الْمِقْدَارِ الْمُوصَى بِهِ فَتَقَعُ الْوَصِيَّةُ صَحِيحَةً بِدُونِهِ (1) .
الشَّكُّ فِي الدَّعْوَى، أَوْ مَحَلِّهَا، أَوْ مَحَل الشَّهَادَةِ:
35 - أ - لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ دَيْنًا عَلَى آخَرَ وَشَكَّ الْمَدِينُ فِي قَدْرِهِ يَنْبَغِي لُزُومُ إِخْرَاجِ الْقَدْرِ الْمُتَيَقَّنِ. قَال الْحَمَوِيُّ: قِيل: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيل التَّوَرُّعِ وَالأَْخْذِ بِالأَْحْوَطِ لأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ (2) .
وَالْمُرَادُ بِالْقَدْرِ الْمُتَيَقَّنِ - فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَا مَاثَلَهَا - هُوَ أَكْثَرُ الْمَبْلَغَيْنِ: فَإِذَا كَانَ الشَّكُّ دَائِرًا بَيْنَ عَشَرَةٍ وَخَمْسَةٍ فَالْمُتَيَقَّنُ الْعَشَرَةُ لِدُخُول الْخَمْسَةِ فِيهَا، وَبِهَذَا الاِعْتِبَارِ يَكُونُ الأَْكْثَرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الأَْقَل مُتَيَقَّنًا دَائِمًا رَغْمَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِيهِمَا (3) .
وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الْمَدِينَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَيْهِ أَنْ يُرْضِيَ خَصْمَهُ وَلاَ يَحْلِفَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 381.
(2) الحموي على الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 210.
(3) بدائع الصنائع 7 / 381.(26/202)
خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرَامِ، وَإِنْ أَصَرَّ خَصْمُهُ عَلَى إِحْلاَفِهِ حَلَفَ إِنْ كَانَ أَكْبَرُ ظَنِّهِ أَنَّهُ مُبْطِلٌ، أَمَّا إِذَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَنَّ صَاحِبَ الدَّعْوَى مُحِقٌّ فَإِنَّهُ لاَ يَحْلِفُ (1) .
ب - لَوِ اشْتَرَى أَحَدٌ حَيَوَانًا أَوْ مَتَاعًا ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ بِهِ عَيْبًا وَأَرَادَ رَدَّهُ وَاخْتَلَفَ أَهْل الْخِبْرَةِ فَقَال بَعْضُهُمْ: هُوَ عَيْبٌ وَقَال بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِعَيْبٍ، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ لأَِنَّ السَّلاَمَةَ هِيَ الأَْصْل الْمُتَيَقَّنُ فَلاَ يَثْبُتُ الْعَيْبُ بِالشَّكِّ (2) .
ج - لَوِ ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ عَدَمَ وُصُول النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ الْمُقَرَّرَتَيْنِ لَهَا فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ فَالْقَوْل لَهَا، لأَِنَّ الأَْصْل الْمُتَيَقَّنُ بَقَاؤُهَا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ وَأَمَّا دَعْوَاهُ فَمَشْكُوكٌ فِيهَا وَلاَ يَزُول يَقِينٌ بِشَكٍّ (3) .
د - إِذَا كَانَ إِنْسَانٌ يَعْلَمُ أَنَّ عَلِيًّا مَدِينٌ لِعُمَرَ بِأَلْفِ دِينَارٍ مَثَلاً فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى عَلِيٍّ، وَإِنْ خَامَرَهُ الشَّكُّ فِي وَفَائِهَا أَوْ فِي الإِْبْرَاءِ عَنْهَا إِذْ لاَ عِبْرَةَ بِالشَّكِّ فِي جَانِبِ الْيَقِينِ السَّابِقِ (4) .
الشَّكُّ فِي الشَّهَادَةِ:
36 - لَوْ قَال الشَّاهِدُ: أَشْهَدُ بِأَنَّ لِفُلاَنٍ عَلَى
__________
(1) الحموي على الأشباه والنظائر 1 / 210.
(2) المصادر السابقة.
(3) الحموي على الأشباه والنظائر 1 / 201.
(4) شرح القواعد الفقهية ص 38.(26/202)
فُلاَنٍ مِائَةَ دِينَارٍ - مَثَلاً - فِيمَا أَعْلَمُ أَوْ فِيمَا أَظُنُّ، أَوْ حَسَبَ ظَنِّي لَمْ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لِلشَّكِّ الَّذِي دَاخَلَهَا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى لَفْظِهَا؛ لأَِنَّ رُكْنَ الشَّهَادَةِ لَفْظُ أَشْهَدُ لاَ غَيْرُ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَالْقَسَمُ وَالإِْخْبَارُ لِلْحَال فَكَأَنَّهُ يَقُول: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدِ اطَّلَعْتُ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَا أُخْبِرُ بِهِ، وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ تَعَيَّنَ لَفْظُ أَشْهَدُ (1) .
وَقَدْ بَيَّنَ سَحْنُونٌ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ شَهِدُوا عَلَى امْرَأَةٍ بِنِكَاحٍ أَوْ إِقْرَارٍ أَوْ إِبْرَاءٍ وَسَأَل الْخَصْمُ إِدْخَالَهَا فِي نِسَاءٍ لِلتَّعَرُّفِ عَلَيْهَا مِنْ بَيْنِهِنَّ فَقَالُوا: شَهِدْنَا عَلَيْهَا عَنْ مَعْرِفَتِهَا بِعَيْنِهَا وَنَسَبِهَا وَلاَ نَدْرِي هَل نَعْرِفُهَا الْيَوْمَ وَقَدْ تَغَيَّرَتْ حَالُهَا فَلاَ نَتَكَلَّفُ ذَلِكَ، فَلاَ بُدَّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ - مِنَ التَّعَرُّفِ عَلَيْهَا وَإِلاَّ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ لِلشَّكِّ، أَمَّا لَوْ قَالُوا: نَخَافُ أَنْ تَكُونَ تَغَيَّرَتْ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَال لَهُمْ: إِنْ شَكَكْتُمْ وَقَدْ أَيْقَنْتُمْ أَنَّهَا ابْنَةُ فُلاَنٍ وَلَيْسَ لِفُلاَنٍ هَذَا إِلاَّ بِنْتٌ وَاحِدَةٌ مِنْ حِينِ شَهِدُوا عَلَيْهَا إِلَى الْيَوْمِ جَازَتِ الشَّهَادَةُ - فِي هَذِهِ الْحَالَةِ - وَقُبِلَتْ (2) .
وَمِمَّا تَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ الشَّهَادَةَ مَعَ الشَّكِّ تَسْلُبُ صِفَةَ الْعَدَالَةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 4 / 513.
(2) التاج والإكليل (بهامش مواهب الجليل) 6 / 190.(26/203)
لِلشَّاهِدِ (1) . وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ وَغَيْرِهِ أَكَّدَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ لاَ تَثْبُتُ بِالشَّكِّ (2) . وَوَضَعُوا قُيُودًا لِقَبُول شَهَادَةِ السَّمَاعِ لِلشَّكِّ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُدَاخِلَهَا (3) .
الشَّكُّ فِي النَّسَبِ:
37 - أ - كُل مُطَلَّقَةٍ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَنَسَبُ وَلَدِهَا يَثْبُتُ مِنَ الزَّوْجِ إِلاَّ إِذَا عُلِمَ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ تَجِيءَ بِهِ لأَِكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لأَِنَّ الطَّلاَقَ قَبْل الدُّخُول يُوجِبُ انْقِطَاعَ النِّكَاحِ بِجَمِيعِ عَلاَئِقِهِ فَكَانَ النِّكَاحُ مِنْ كُل وَجْهٍ زَائِلاً بِيَقِينٍ وَمَا زَال بِيَقِينٍ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِيَقِينٍ مِثْلِهِ فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الطَّلاَقِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ وُجِدَ فِي حَال الْفِرَاشِ وَإِنَّهُ وَطِئَهَا وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ إِذْ لاَ يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ بِوَطْءٍ بَعْدَ الطَّلاَقِ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تَلِدُ لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَكَانَ مِنْ وَطْءٍ وُجِدَ عَلَى فِرَاشِ الزَّوْجِ وَكَوْنُ الْعُلُوقِ فِي فِرَاشِهِ يُوجِبُ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْهُ. فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَسْتَيْقِنْ بِكَوْنِهِ مَوْلُودًا عَلَى الْفِرَاشِ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ بِوَطْءٍ بَعْدَ الطَّلاَقِ وَالْفِرَاشُ كَانَ زَائِلاً بِيَقِينٍ فَلاَ يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ (4) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 206.
(2) بدائع الصنائع 6 / 233.
(3) راجع مصطلح (شهادة) من الموسوعة الفقهية.
(4) المغني مع الشرح الكبير 6 / 400، ونهاية المحتاج للرملي 8 / 352 (مطبعة الحلبي بمصر سنة 1357 هـ) .(26/203)
ب - إِذَا ادَّعَى إِنْسَانٌ نَسَبَ لَقِيطٍ أُلْحِقَ بِهِ؛ لاِنْفِرَادِهِ بِالدَّعْوَى، فَإِذَا جَاءَ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ وَادَّعَاهُ فَلَمْ يَزُل نَسَبُهُ عَنِ الأَْوَّل - رَغْمَ الشَّكِّ الَّذِي أَحْدَثَتْهُ دَعْوَى الثَّانِي - لأَِنَّهُ حُكِمَ لَهُ بِهِ فَلاَ يَزُول بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، إِلاَّ إِذَا شَهِدَ الْقَائِفُونَ بِأَنَّهُ لِلثَّانِي فَالْقَوْل قَوْلُهُمْ لأَِنَّ الْقِيَافَةَ تُعْتَبَرُ بَيِّنَةً فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ (1) . وَإِذَا ادَّعَى اللَّقِيطَ اثْنَانِ فَأَلْحَقَهُ الْقَائِفُونَ بِهِمَا صَحَّ ذَلِكَ شَرْعًا وَكَانَ ابْنَهُمَا يَرِثُهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ وَيَرِثَانِهِ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا الرَّأْيُ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْرٍ (2) .
وَقَال أَصْحَابُ الرَّأْيِ يُلْحَقُ بِهِمَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِلآْثَارِ الْكَثِيرَةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.
الشَّكُّ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُتَّهَمُ:
38 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ: تُدْرَأُ الْحُدُودُ بِالشُّبُهَاتِ (3) . وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ - قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ
__________
(1) نهاية المحتاج للرملي 8 / 352، مطبعة الحلبي بمصر سنة 1357 هـ.
(2) تراجع في: مصطلح نسب من الموسوعة الفقهية، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 400.
(3) غمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 379، نزهة النواظر على الأشباه والنظائر ص 142.(26/204)
الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ فَإِنَّ الإِْمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ (1) ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: ادْفَعُوا الْحُدُودَ مَا وَجَدْتُمْ لَهَا مَدْفَعًا (2) وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ (3) وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تُوجِبُ أَوَّلاً: اعْتِمَادَ الْيَقِينِ - مَا أَمْكَنَ - فِي نِسْبَةِ الْجَرِيمَةِ إِلَى الْمُتَّهَمِ، وَثَانِيًا: أَنَّ الشَّكَّ - مَهْمَا كَانَتْ نِسْبَتُهُ وَمَهْمَا كَانَ مَحَلُّهُ وَمَهْمَا كَانَ طَرِيقُهُ - يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُتَّهَمُ فَيَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ، يَقُول الشَّاطِبِيُّ: فَإِنَّ الدَّلِيل يَقُومُ - هُنَاكَ - مُفِيدًا لِلظَّنِّ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِذَا عَارَضَتْهُ شُبْهَةٌ
__________
(1) حديث عائشة - رضي الله عنها -: " ادرؤوا الحدود عن المسلمين " أخرجه الترمذي (4 / 33 - ط الحلبي) وضعفه ابن حجر في التلخيص (4 / 56 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعًا " أخرجه ابن ماجه (2 / 850 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 70 - ط دار الجنان) .
(3) أمر بالعفو وهو التجاوز عن الذنب أي: أسقطوا الحدود فيما بينكم ولا ترفعوها إلَيَّ؛ فإني متى علمتها أقمتها. (جامع الأصول 4 / 410) ،،هو يدل على القاعدة المذكورة بالدعوة إلى التخفيف والتجاوز عمومًا. وحديث: " تعافوا الحدود فيما بينكم " أخرجه أبو داود (4 / 540 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (4 / 383 - ط. دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(26/204)
وَإِنْ ضَعُفَتْ - غَلَبَ - حُكْمُهَا وَدَخَل صَاحِبُهَا فِي مَرْتَبَةِ الْعَفْوِ (1) .
وَثَالِثًا: الْخَطَأُ فِي الْعَفْوِ أَفْضَل شَرْعًا مِنَ الْخَطَأِ فِي الْعُقُوبَةِ حَيْثُ إِنَّ تَبْرِئَةَ الْمُجْرِمِ فِعْلاً أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ مُعَاقَبَةِ الْبَرِيءِ. وَهَذَا الْمَبْدَأُ نَجِدُ تَطْبِيقَاتِهِ مَبْثُوثَةً فِي أَقْضِيَةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَقْضِيَةِ التَّابِعِينَ وَفَتَاوَى الْمُجْتَهِدِينَ، مِنْ ذَلِكَ مَا حَكَمَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي قَضِيَّةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَالِي الْبَصْرَةِ الَّذِي اتُّهِمَ بِالزِّنَا مَعَ امْرَأَةٍ أَرْمَلَةٍ كَانَ يُحْسِنُ إِلَيْهَا، فَاسْتَدْعَى الْخَلِيفَةُ الْوَالِيَ وَشُهُودَ التُّهْمَةِ فَشَهِدَ ثَلاَثَةٌ بِرُؤْيَةِ تَنْفِيذِ الْجَرِيمَةِ، وَلَكِنَّ الشَّاهِدَ الرَّابِعَ الَّذِي يَكْتَمِل بِهِ النِّصَابُ قَال: لَمْ أَرَ مَا قَال هَؤُلاَءِ بَل رَأَيْتُ رِيبَةً وَسَمِعْتُ نَفَسًا عَالِيًا، وَلاَ أَعْرِفُ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَأَسْقَطَ عُمَرُ التُّهْمَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ وَحَفِظَ لَهُ بَرَاءَتَهُ وَطَهَارَتَهُ، وَعَاقَبَ الشُّهُودَ الثَّلاَثَةَ عُقُوبَةَ الْقَذْفِ (2) .
وَعُمَرُ نَفْسُهُ لَمْ يُقِمْ حَدَّ السَّرِقَةِ عَامَ الرَّمَادَةِ لأَِنَّهُ جَعَل مِنَ الْمَجَاعَةِ الْعَامَّةِ قَرِينَةً عَلَى الاِضْطِرَارِ، وَالاِضْطِرَارُ شُبْهَةٌ فِي السَّرِقَةِ تَمْنَعُ الْحَدَّ عَنِ السَّارِقِ بَل تُبِيحُ لَهُ السَّرِقَةَ فِي حُدُودِ الضَّرُورَةِ.
__________
(1) الموافقات 1 / 172.
(2) تاريخ الأمم والملوك للطبري 4 / 70 - 71.(26/205)
وَقَدْ ذَكَرَ الأَْئِمَّةُ أَنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْ مَال أَبِيهِ خُفْيَةً ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ لاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَنْ جَامَعَ الْمُطَلَّقَةَ ثَلاَثًا فِي الْعِدَّةِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ يُبَاحُ لَهُ لاَ حَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا (1) .
وَنُقِل عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْل بِأَنَّ مَا يُعْرَفُ بِشُبْهَةِ الْعَقْدِ يُدْرَأُ الْحَدُّ بِهَا، فَلاَ حَدَّ - فِي رَأْيِهِ - عَلَى مَنْ وَطِئَ مُحَرَّمَةً بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ: كَوَطْءِ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بِلاَ شُهُودٍ مَثَلاً، وَفِي رَأْيِ الصَّاحِبِينَ عَلَيْهِ الْحَدُّ - إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ - وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ (2) .
الشَّكُّ لاَ تُنَاطُ بِهِ الرُّخَصُ: أَوِ الرُّخَصُ لاَ تُنَاطُ بِالشَّكِّ:
39 - هُوَ لَفْظُ قَاعِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ ذَكَرَهَا السُّيُوطِيُّ نَقْلاً عَنْ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ فَرَّعُوا عَلَيْهَا الْفُرُوعَ التَّالِيَةَ:
أ - وُجُوبُ غَسْل الْقَدَمَيْنِ لِمَنْ شَكَّ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَوْ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ.
ب - مَنْ شَكَّ فِي غَسْل إِحْدَى رِجْلَيْهِ وَأَدْخَلَهُمَا فِي الْخُفَّيْنِ - مَعَ ذَلِكَ - لاَ يُبَاحُ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا.
__________
(1) الحموي على الأشباه والنظائر 1 / 380.
(2) الحموي على الأشباه 1 / 381 - ابن عابدين على الأشباه 143.(26/205)
ج - وُجُوبُ الإِْتْمَامِ لِمَنْ شَكَّ فِي جَوَازِ الْقَصْرِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي صُوَرٍ عَدِيدَةٍ (1)
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي: القاعدة الخامسة عشرة ص 141 - (دار الكتب العلمية بيروت ط 1 سنة 1403 هـ) .(26/206)
شَلَلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّلَل لُغَةً: مَصْدَرُ شُل الْعُضْوُ يُشَل شَلَلاً أَيْ أُصِيبَ بِالشَّلَل أَوْ يَبِسَ فَبَطَلَتْ حَرَكَتُهُ، أَوْ ذَهَبَتْ، وَذَلِكَ إِذَا فَسَدَتْ عُرُوقُهُ أَوْ ضَعُفَتْ.
وَيُقَال: شُل فُلاَنٌ. وَيُقَال فِي الدُّعَاءِ لِلرَّجُل. لاَ شُلَّتْ يَمِينُكَ. وَفِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِ: شُلَّتْ يَمِينُهُ، فَهُوَ أَشَل، وَهِيَ شَلاَّءُ، وَالْجَمْعُ شُلٌّ (1) .
وَالشَّلَل فِي الاِصْطِلاَحِ: فَسَادُ الْعُضْوِ وَذَهَابُ حَرَكَتِهِ، وَيَكُونُ الْعُضْوُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فَاسِدَ الْمَنْفَعَةِ (2) . وَلاَ يُشْتَرَطُ زَوَال الْحِسِّ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنَّمَا الشَّلَل بُطْلاَنُ الْعَمَل
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّلَل:
يَتَعَلَّقُ بِالشَّلَل جُمْلَةُ أَحْكَامٍ:
أ - الْوُضُوءُ:
2 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ لَمْسَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ يَنْقُضُ
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 68، والجمل على شرح المنهاج 5 / 35 / 112، وروضة الطالبين 9 / 193.(26/206)
الْوُضُوءَ، وَقَدَّرَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنْ يَكُونَ اللَّمْسُ لِشَهْوَةٍ. وَكَذَا عِنْدَهُمْ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ الْفَرْجِ. وَسَوَّوْا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعُضْوُ الْمَلْمُوسُ أَوِ الْمَلْمُوسُ بِهِ صَحِيحًا أَوْ أَشَل (1) . عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حَدَثٌ) .
ب - صَلاَةُ الأَْشَل:
3 - يَأْتِي الْمَرِيضُ أَوِ الْمُصَابُ بِالشَّلَل بِأَرْكَانِ الصَّلاَةِ الَّتِي يَسْتَطِيعُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لأَِنَّ الْعَاجِزَ عَنِ الْفِعْل لاَ يُكَلَّفُ بِهِ. فَإِذَا عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ يُصَلِّي قَاعِدًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ صَلَّى قَاعِدًا بِالإِْيمَاءِ. وَيَجْعَل السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْقُعُودِ يَسْتَلْقِي وَيُومِئُ إِيمَاءً لأَِنَّ سُقُوطَ الرُّكْنِ لِمَكَانِ الْعُذْرِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْعُذْرِ.
وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: مَرِضْتُ فَعَادَنِي رَسُول اللَّهِ فَقَال: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ، تُومِئُ إِيمَاءً (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني 1 / 29، وجواهر الإكليل 1 / 21، القليوبي وعميرة 1 / 34، وكشاف القناع للبهوتي 1 / 129، وروضة الطالبين 1 / 74، 75.
(2) حديث: " صلي قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 587 - ط السلفية) دون قوله: " تومئ إيماء " ولكن ورد حديث جابر مرفوعًا: " إن استطعت أن تسجد على الأرض فاسجد وإلا فأومئ إيماء واجعل السجود أخفض من الركوع " أورده الهيثمي في المجمع (2 / 148 - ط القدسي) وقال: " رواه البزار وأبو يعلى، ورجال البزار رجال الصحيح ".(26/207)
وَقَال قَاضِيخَانُ: تَسْقُطُ عَنِ الْمَرِيضِ الْعَاجِزِ عَنِ الإِْيمَاءِ بِالرَّأْسِ (1) . (ر: صَلاَةُ الْمَرِيضِ) .
ج - الْجِنَايَةُ الَّتِي تُسَبِّبُ الشَّلَل:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الشَّلَل النَّاشِئِ عَنِ الاِعْتِدَاءِ بِالضَّرْبِ أَوِ الْجُرْحِ حَيْثُ زَالَتِ الْمَنْفَعَةُ مَعَ بَقَاءِ الْعُضْوِ قَائِمًا.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف 36) .
د - أَخْذُ الْعُضْوِ الصَّحِيحِ بِالأَْشَل:
5 - إِذَا جَنَى جَانٍ صَحِيحُ الْيَدِ عَلَى يَدٍ شَلاَّءَ فَقَطَعَهَا فَلاَ تُقْطَعُ الصَّحِيحَةُ بِالشَّلاَّءِ وَكَذَا إِذَا كَانَ الْمَقْطُوعُ رِجْلاً أَوْ لِسَانًا أَشَل لِعَدَمِ التَّمَاثُل وَإِنْ رَضِيَ الْجَانِي فَتَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَقْطُوعُ أُذُنًا أَوْ أَنْفًا أَشَل فَتَجِبُ دِيَةُ الْعُضْوِ كَامِلَةً. لأَِنَّ الْيَدَ أَوِ الرِّجْل الشَّلاَّءَ لاَ نَفْعَ فِيهَا سِوَى الْجَمَال فَلاَ يُؤْخَذُ بِهَا مَا فِيهِ نَفْعٌ كَالصَّحِيحَةِ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 106، وابن عابدين 1 / 508، وجواهر الإكليل 1 / 57، والقليوبي وعميرة 1 / 145، 146، 207، والمغني 2 / 148.
(2) ابن عابدين 5 / 357، وجواهر الإكليل 2 / 259 / 31، وقليوبي وعميرة 4 / 117، والمغني 7 / 733.(26/207)
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (دِيَاتٌ ف 43) .
هـ - أَخْذُ الْعُضْوِ الأَْشَل بِالصَّحِيحِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ الْعُضْوُ الصَّحِيحُ بِالصَّحِيحِ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الْعُضْوِ الأَْشَل بِالصَّحِيحِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَذَلِكَ لَهُ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَأَخَذَ الدِّيَةَ.
وَلاَ تُقْطَعُ إِلاَّ إِنْ قَال أَهْل الْخِبْرَةِ وَالْبَصَرِ: بِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ الدَّمُ بِالْحَسْمِ، أَمَّا إِنْ قَالُوا: إِنَّ الدَّمَ لاَ يَنْقَطِعُ فَلاَ قِصَاصَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَتَجِبُ دِيَةُ يَدِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ تُقْطَعُ يَدُ الْجَانِي إِذَا كَانَتْ شَلاَّءَ بِالْيَدِ الصَّحِيحَةِ، لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ، وَعَلَيْهِ الْعَقْل أَيِ: الدِّيَةُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَا زُفَرَ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشَّلاَّءَ لاَ تُقْطَعُ بِالشَّلاَّءِ؛ لأَِنَّ الشَّلَل عِلَّةٌ، وَالْعِلَل يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهَا فِي الْبَدَنِ.
وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ: بِأَنَّ بَعْضَ الشَّلَل فِي يَدَيْهِمَا يُوجِبُ اخْتِلاَفَ أَرْشَيْهِمَا، وَذَلِكَ
__________
(1) البدائع 7 / 298، روضة الطالبين 9 / 194، 202، وكشاف القناع 5 / 556 - 557، 5 / 557 - 535، وشرح الزرقاني 8 / 16 - 19.(26/208)
يُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، فَلاَ تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ تُقْطَعُ الشَّلاَّءُ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ بِشَلاَّءَ وَلَكِنَّ مَحَلَّهُ إِذَا اسْتَوَيَا فِي الشَّل، أَوْ كَانَ شَلَل الْجَانِي أَكْثَرَ وَلَمْ يُخَفْ نَزْفُ الدَّمِ، وَإِلاَّ فَلاَ تُقْطَعُ (1) .
إِلاَّ أَنَّ زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ قَال: إِنْ كَانَا سَوَاءً فَفِيهِمَا الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَقَلَّهُمَا شَلَلاً فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ قَطَعَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ الأَْرْشَ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ شَلَلاً، فَلاَ قِصَاصَ وَلَهُ أَرْشُ يَدِهِ (2) .
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل ر: الْمَوْسُوعَةُ الْفِقْهِيَّةُ: جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ - فِقْرَةُ (15 16 70 - 71) .
و نِكَاحُ الأَْشَل:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ عِنِّينًا فَلِلزَّوْجَةِ الْخِيَارُ. وَعَلَيْهِ إِنْ كَانَ الشَّل فِي غَيْرِ عُضْوِ الذَّكَرِ فَلاَ يُعَدُّ مِنْ عُيُوبِ النِّكَاحِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُفَوِّتُ الاِسْتِمْتَاعَ وَلاَ يُخْشَى تَعَدِّيهِ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَلَمْ يُفْسَخْ بِهِ النِّكَاحُ كَالْعَمَى وَالْعَرَجِ؛ وَلأَِنَّ الْفَسْخَ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِنَصٍّ أَوْ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 33، وكشاف القناع 5 / 557، والبدائع 7 / 303.
(2) البدائع 7 / 303.(26/208)
إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ وَلاَ شَيْءَ هُنَا (1) .
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل فِي مَسْأَلَةِ الْعِنِّينِ رَاجِعْ مُصْطَلَحَ (عِنِّينٌ وَنِكَاحٌ) .
شِمَالٌ
انْظُرْ: يَمِينٌ
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 3 / 115، وجواهر الإكليل 1 / 299، القليوبي وعميرة 3 / 261 - 262، المغني 6 / 650 - 651 - 652.(26/209)
شَمٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّمُّ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ شَمَمْتُهُ أَشَمُّهُ، وَشَمَمْتُهُ أَشُمُّهُ شَمًّا. وَالشَّمُّ: حِسُّ الأَْنْفِ، وَإِدْرَاكُ الرَّوَائِحِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: تَشَمَّمَ الشَّيْءَ وَاشْتَمَّهُ: أَدْنَاهُ مِنْ أَنْفِهِ لِيَجْتَذِبَ رَائِحَتَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَى اللَّفْظِ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِنْكَاهُ:
2 - جَاءَ فِي اللِّسَانِ: اسْتَنْكَهَهُ: شَمَّ رَائِحَةَ فَمِهِ، وَالاِسْمُ: النَّكْهَةُ. وَنَكَهْتُهُ: شَمَمْتُ رِيحَهُ، وَفِي حَدِيثِ قِصَّةِ مَاعِزٍ الأَْسْلَمِيِّ: فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهَ (2) : أَيْ شَمَّ نَكْهَتَهُ وَرَائِحَةَ فَمِهِ (3)
. الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - الشَّمُّ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَذَلِكَ فِي حَقِّ
__________
(1) لسان العرب والمعجم الوسيط ومغني المحتاج 4 / 71.
(2) حديث قصة ماعز الأسلمي: " فقام رجل فاستنكهه " أخرجه مسلم (3 / 1322 - ط الحلبي) من حديث بريدة.
(3) لسان العرب.(26/209)
الشُّهُودِ الْمَأْمُورِينَ بِالشَّمِّ لأَِجْل الْخُصُومَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي رَوَائِحِ الْمَشْمُومِ حَيْثُ يُقْصَدُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ أَوْ يُقْصَدُ مَنْعُ الرَّدِّ إِذَا حَدَثَ الْعَيْبُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي (1) .
وَكَمَا فِي شَمِّ الشُّهُودِ فَمَ السَّكْرَانِ لِمَعْرِفَةِ رَائِحَةِ الْخَمْرِ (2) .
وَقَدْ يَكُونُ الشَّمُّ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا كَشَمِّ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُونَ بِذَلِكَ (3) .
وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا كَشَمِّ الزُّهُورِ وَالرَّيَاحِينِ الْمُبَاحَةِ وَالطِّيبِ الْمُبَاحِ. إِلاَّ إِذَا كَانَ طِيبًا تَطَيَّبَتْ بِهِ امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ فَيَحْرُمُ تَعَمُّدُ شَمِّهِ. (4) .
شَمُّ الصَّائِمِ الطِّيبَ وَنَحْوَهُ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَدْخَل الصَّائِمُ إِلَى حَلْقِهِ الْبَخُورَ وَشَمَّ رَائِحَتَهُ أَفْطَرَ لإِِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ. وَإِذَا لَمْ يَصِل إِلَى حَلْقِهِ لاَ يُفْطِرُ. أَمَّا لَوْ شَمَّ هَوَاءً فِيهِ رَائِحَةُ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لاَ جِسْمَ لَهُ فَلاَ يُفْطِرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَكَرِهَهُ الْمَالِكِيَّةُ.
كَمَا يُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ شَمُّ الرَّيَاحِينِ وَنَحْوِهَا نَهَارًا لِلصَّائِمِ لأَِنَّهُ مِنَ التَّرَفُّهِ وَلِذَلِكَ يُسَنُّ لَهُ تَرْكُهُ.
__________
(1) المنثور 2 / 87.
(2) المواق بهامش الحطاب 6 / 317.
(3) المغني 3 / 323، والمنثور 2 / 87، والبدائع 2 / 191.
(4) المنثور 2 / 87(26/210)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ الطِّيبُ مَسْحُوقًا كُرِهَ شَمُّهُ لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مِنْ شَمِّهِ أَنْ يَجْذِبَهُ نَفْسَهُ لِلْحَلْقِ، وَلِذَلِكَ لاَ يُكْرَهُ شَمُّ الْوَرْدِ وَالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ غَيْرِ الْمَسْحُوقِ (1) .
شَمُّ الْمُحْرِمِ الطِّيبَ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ شَمِّ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ. وَلاَ فَرْقَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بَيْنَ الطِّيبِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ (2) . وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَقَال الْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَحْرُمُ شَمُّ الطِّيبِ الْمُؤَنَّثِ (3) .
كَذَلِكَ يُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ شَمُّ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ (4) ، لَكِنْ يُؤْخَذُ مِمَّا جَاءَ فِي الْمُهَذَّبِ وَشَرْحِهِ الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ يَحْرُمُ شَمُّ مَا يُعْتَبَرُ طِيبًا كَالْوَرْدِ وَالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ. وَاخْتُلِفَ فِي الرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ وَالنَّرْجِسِ وَالنَّيْلُوفَرِ وَنَحْوِهِ. وَفِيهِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ شَمُّهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ سُئِل عَنِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 97، 113، وأسهل المدارك 1 / 419، وجواهر الإكليل 1 / 149، وحاشية الدسوقي 1 / 525، وأسنى المطالب 1 / 422، والجمل على شرح المنهج 2 / 329، وشرح منتهى الإرادات 1 / 454.
(2) الطيب المذكر هو ما له رائحة ذكية ولا يتعلق أثره بماسه كياسمين وورد والطيب المؤنث هو ما له رائحة ذكية ويتعلق بماسه تعلقًا شديدًا كالزبد والمسك والزعفران (منح الجليل 1 / 510) .
(3) ابن عابدين 2 / 201، والبدائع 2 / 191، ومنح الجليل 1 / 510.
(4) الجمل على المنهج 2 / 509.(26/210)
الْمُحْرِمِ: يَدْخُل الْبُسْتَانَ؟ فَقَال: نَعَمْ وَيَشُمُّ الرَّيْحَانَ؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ لَهَا رَائِحَةٌ إِذَا كَانَتْ رَطْبَةً فَإِذَا جَفَّتْ لَمْ يَكُنْ لَهَا رَائِحَةٌ.
وَالثَّانِي: لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ يُرَادُ لِلرَّائِحَةِ فَهُوَ كَالْوَرْدِ وَالزَّعْفَرَانِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا لِلْمُحْرِمِ بِشَمِّ الرَّيْحَانِ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَكْسَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ فَرَوَى بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ شَمَّ الرَّيْحَانِ لِلْمُحْرِمِ، وَالثَّانِي عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَسْأَل عَنِ الرَّيْحَانِ أَيَشَمُّهُ الْمُحْرِمُ، وَالطِّيبِ وَالدُّهْنِ فَقَال: لاَ.
وَأَمَّا مَا يُطْلَبُ لِلأَْكْل وَالتَّدَاوِي غَالِبًا كَالْقَرَنْفُل وَالدَّارَصِينِيَّ وَالْفَوَاكِهِ كَالتُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ فَيَجُوزُ أَكْلُهُ وَشَمُّهُ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ.
وَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْجُلُوسُ عِنْدَ الْعَطَّارِ وَفِي مَوْضِعٍ يُبَخَّرُ لأَِنَّ فِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ مَشَقَّةً وَلأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَطَيُّبٍ مَقْصُودٍ وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُتَوَقَّى ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ قُرْبَةٍ كَالْجُلُوسِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَهِيَ تُجَمَّرُ، فَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ لأَِنَّ الْجُلُوسَ عِنْدَهَا قُرْبَةٌ (1) .
وَفَصَّل الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: النَّبَاتُ الَّذِي
__________
(1) الجمل على المنهج 2 / 509، والمجموع 7 / 248 إلى 252.(26/211)
تُسْتَطَابُ رَائِحَتُهُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا لاَ يَنْبُتُ لِلطِّيبِ وَلاَ يُتَّخَذُ مِنْهُ كَنَبَاتِ الصَّحْرَاءِ مِنَ الشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ وَالْخُزَامَى وَالْفَوَاكِهِ كُلِّهَا مِنَ الأُْتْرُجِّ وَالتُّفَّاحِ، وَمَا يُنْبِتُهُ الآْدَمِيُّونَ لِغَيْرِ قَصْدِ الطِّيبِ كَالْحِنَّاءِ وَالْعُصْفُرِ فَمُبَاحٌ شَمُّهُ وَلاَ فِدْيَةَ فِيهِ وَلاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشُمَّ شَيْئًا مِنْ نَبَاتِ الأَْرْضِ.
الثَّانِي: مَا يُنْبِتُهُ الآْدَمِيُّونَ لِلطِّيبِ وَلاَ يُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ كَالرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ وَالنَّرْجِسِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يُبَاحُ بِغَيْرِ فِدْيَةٍ، قَالَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَإِسْحَاقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَالآْخَرُ يَحْرُمُ شَمُّهُ، فَإِنْ فَعَل فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَهُوَ قَوْل جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي ثَوْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لأَِنَّهُ يُتَّخَذُ لِلطِّيبِ فَأَشْبَهَ الْوَرْدَ وَكَلاَمُ أَحْمَدَ يَحْتَمِل أَنَّهُ يُكْرَهُ وَلاَ يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ.
الثَّالِثُ: مَا يَنْبُتُ لِلطِّيبِ وَيُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ كَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ فَفِي شَمِّهِ الْفِدْيَةُ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي الْوَرْدِ أَنَّهُ لاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي شَمِّهِ لأَِنَّهُ زَهْرٌ فَشَمُّهُ كَشَمِّ زَهْرِ سَائِرِ الشَّجَرِ (1) .
__________
(1) المغني 3 / 315 - 316.(26/211)
الإِْجَارَةُ لِلشَّمِّ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِجَارَةِ الشَّيْءِ كَالتُّفَّاحِ مَثَلاً لِشَمِّهِ لأَِنَّ الرَّائِحَةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَنْفَعَةٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لأَِنَّهَا لاَ قِيمَةَ لَهَا شَرْعًا (1) .
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ اسْتِئْجَارَ الْمِسْكِ وَالرَّيَاحِينِ لِلشَّمِّ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ مُتَقَوَّمَةٌ.
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ مَا تَتْلَفُ عَيْنُهُ وَمَا لاَ تَتْلَفُ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ مَا يَبْقَى مِنَ الطِّيبِ وَالصَّنْدَل وَقِطَعِ الْكَافُورِ وَالنِّدِّ لِتَشُمَّهُ الْمَرْضَى وَغَيْرُهُمْ مُدَّةً ثُمَّ يَرُدَّهَا، لأَِنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ فَأَشْبَهَتِ الْوَزْنَ وَالتَّحَلِّي. ثُمَّ قَال: وَلاَ يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ مَا لاَ يَبْقَى مِنَ الرَّيَاحِينِ كَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ وَأَشْبَاهِهِ لِشَمِّهَا، لأَِنَّهَا تَتْلَفُ عَنْ قُرْبٍ فَأَشْبَهَتِ الْمَطْعُومَاتِ (2) .
الْجِنَايَةُ عَلَى حَاسَّةِ الشَّمِّ:
7 - الْجِنَايَةُ عَلَى حَاسَّةِ الشَّمِّ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً. فَإِنْ كَانَ عَمْدًا كَمَنْ شَجَّ إِنْسَانًا فَذَهَبَ شَمُّهُ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْجَانِي بِمِثْل مَا فَعَل، فَإِنْ ذَهَبَ بِذَلِكَ شَمُّهُ فَقَدِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 21، والدسوقي 4 / 20، ومنح الجليل 3 / 776.
(2) أسنى المطالب 2 / 406، والمغني 5 / 548، 549.(26/212)
اسْتَوْفَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حَقَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبِ الشَّمُّ فُعِل بِالْجَانِي مَا يُذْهِبُ الشَّمَّ بِوَاسِطَةِ أَهْل الْخِبْرَةِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِذْهَابُ الشَّمِّ إِلاَّ بِجِنَايَةٍ سَقَطَ الْقَوَدُ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ.
وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَجِبُ الدِّيَةُ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُضْرَبَ الْجَانِي ضَرْبًا يَذْهَبُ بِهِ حَاسَّةُ الشَّمِّ فَلَمْ يَكُنِ اسْتِيفَاءُ الْمِثْل مُمْكِنًا فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ. وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَإِنْ كَانَ إِبْطَال حَاسَّةِ الشَّمِّ نَتِيجَةَ ضَرْبٍ أَوْ جُرْحٍ وَقَعَ خَطَأً، أَوْ كَانَ الضَّرْبُ عَمْدًا لَكِنْ كَانَ الْجُرْحُ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً إِذَا كَانَ إِبْطَال الشَّمِّ مِنَ الْمَنْخِرَيْنِ؛ لأَِنَّهُ حَاسَّةٌ تَخْتَصُّ بِمَنْفَعَةٍ فَكَانَ فِيهَا الدِّيَةُ كَسَائِرِ الْحَوَاسِّ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا وَلأَِنَّ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: وَفِي الْمَشَامِّ الدِّيَةُ (2) .
__________
(1) البدائع 7 / 309، وشرح الزرقاني 8 / 17، وجواهر الإكليل 2 / 260، والحطاب 6 / 248، ومغني المحتاج 4 / 29، وروضة الطالبين 9 / 186، وشرح منتهى الإرادات 3 / 292، وكشاف القناع 5 / 552 - 553.
(2) حديث: " في المشام الدية " ذكره الشربيني في مغني المحتاج (4 / 71 - نشر دار الفكر) وقال: " غريب " وقال ابن حجر في التلخيص (4 / 29 - ط شركة الطباعة الفنية) : " لم أجده ".(26/212)
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ لأَِنَّهُ ضَعِيفُ النَّفْعِ.
وَإِذَا زَال الشَّمُّ مِنْ أَحَدِ الْمَنْخِرَيْنِ فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ. وَإِنْ نَقَصَ الشَّمُّ وَجَبَ بِقِسْطِهِ مِنَ الدِّيَةِ إِذَا أَمْكَنَ مَعْرِفَتُهُ وَإِلاَّ فَحُكُومَةٌ يُقَدِّرُهَا الْحَاكِمُ بِالاِجْتِهَادِ (1) .
وَمَنِ ادَّعَى زَوَال الشَّمِّ امْتُحِنَ فِي غَفَلاَتِهِ بِالرَّوَائِحِ الْحَادَّةِ الطَّيِّبَةِ وَالْمُنْتِنَةِ - فَإِنْ هَشَّ لِلطَّيِّبِ وَعَبَسَ لِغَيْرِهِ فَالْقَوْل قَوْل الْجَانِي بِيَمِينِهِ لِظُهُورِ كَذِبِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.
وَإِنْ لَمْ يَتَأَثَّرْ بِالرَّوَائِحِ الْحَادَّةِ وَلَمْ يَبِنْ مِنْهُ ذَلِكَ، فَالْقَوْل قَوْل الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.
زَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَيَحْلُفُ لِظُهُورِ صِدْقِهِ، وَلاَ يُعْرَفُ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِ.
وَإِنِ ادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ نَقْصَ شَمِّهِ فَالْقَوْل قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لأَِنَّهُ لاَ يُتَوَصَّل إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إِلاَّ مِنْ جِهَتِهِ فَقُبِل قَوْلُهُ فِيهِ، وَيَجِبُ لَهُ مِنَ الدِّيَةِ مَا تُخْرِجُهُ الْحُكُومَةُ.
وَإِنْ ذَهَبَ شَمُّهُ ثُمَّ عَادَ قَبْل أَخْذِ الدِّيَةِ
__________
(1) البدائع 7 / 312، وابن عابدين 5 / 369 وجواهر الإكليل 2 / 268 - 269، والقوانين الفقهية ص 345 نشر دار الكتاب العربي، ومغني المحتاج 4 / 71، والمغني لابن قدامة 8 / 11 - 12.(26/213)
سَقَطَتْ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَخْذِهَا رَدَّهَا لأَِنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَهَبَ. وَإِنْ رُجِيَ عَوْدُ شَمِّهِ إِلَى مُدَّةٍ انْتُظِرَ إِلَيْهَا (1) .
هَذَا إِذَا ذَهَبَ الشَّمُّ وَحْدَهُ.
أَمَّا إِنْ قَطَعَ أَنْفَهُ فَذَهَبَ بِذَلِكَ شَمُّهُ فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لأَِنَّ الشَّمَّ فِي غَيْرِ الأَْنْفِ فَلاَ تَدْخُل أَحَدُهُمَا فِي الآْخَرِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فِيهِمَا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَنْدَرِجُ الشَّمُّ فِي الأَْنْفِ كَالْبَصَرِ مَعَ الْعَيْنِ (3) .
إِثْبَاتُ شُرْبِ الْمُسْكِرِ بِشَمِّ الرَّائِحَةِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِثْبَاتِ الشُّرْبِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ بِشَمِّ رَائِحَةِ الْخَمْرِ فِي فَمِ الشَّارِبِ (4) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (أَشْرِبَةٌ) .
شِنْدَاخٌ
انْظُرْ: إِمْلاَكٌ، دَعْوَةٌ
__________
(1) المغني 8 / 12، ومغني المحتاج 4 / 71، وكشاف القناع 6 / 39.
(2) مغني المحتاج 4 / 62، والمغني 8 / 14، وكشاف القناع 6 / 39.
(3) جواهر الإكليل 2 / 270.
(4) البدائع 7 / 40 - 51، وجواهر الإكليل 2 / 296، وأسهل المدارك 3 / 176، ومغني المحتاج 4 / 190، والمغني 8 / 39، والمواق 6 / 317.(26/213)
شَهَادَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الشَّهَادَةِ فِي اللُّغَةِ: الْخَبَرُ الْقَاطِعُ، وَالْحُضُورُ وَالْمُعَايَنَةُ وَالْعَلاَنِيَةُ، وَالْقَسَمُ، وَالإِْقْرَارُ، وَكَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وَالْمَوْتُ فِي سَبِيل اللَّهِ. يُقَال: شَهِدَ بِكَذَا إِذَا أَخْبَرَ بِهِ وَشَهِدَ كَذَا إِذَا حَضَرَهُ، أَوْ عَايَنَهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ يُعَدَّى الْفِعْل (شَهِدَ) بِالْهَمْزَةِ، فَيُقَال: أَشْهَدْتُهُ الشَّيْءَ إِشْهَادًا، أَوْ بِالأَْلِفِ، فَقَال: شَاهَدْتُهُ مُشَاهَدَةً، مِثْل عَايَنْتُهُ وَزْنًا وَمَعْنًى (1) .
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْحُضُورِ: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (2) } .
قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ: " وَشَهِدَ بِمَعْنَى حَضَرَ (3) ".
__________
(1) انظر مادة (شهد) في الصحاح، والقاموس، والتاج، واللسان، والمصباح المنير، ومعجم مقاييس اللغة، ومادة (هشد) في العين 3 / 397 - 398، وتهذيب اللغة: 6 / 72 - 77، ومادة (دشه) في جمهرة اللغة 2 / 270، والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني.
(2) سورة البقرة / 185.
(3) الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي 2 / 299 (ط 3 دار القلم بالقاهرة 1387 هـ / 1967 م) وفيه أن الشهر ليس بمفعول وإنما هو ظرف زمان.(26/214)
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْمُعَايَنَةِ: قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (1) } .
قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ مَعْنَاهَا: " وَقَوْلُهُ: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} ، يَعْنِي مُشَاهَدَةَ الْبَصَرِ (2) ".
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْقَسَمِ أَوِ الْيَمِينِ: قَوْله تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (3) } .
قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: " الشَّهَادَةُ مَعْنَاهَا الْيَمِينُ هَاهُنَا (4) ".
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْخَبَرِ الْقَاطِعِ: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا (5) } .
وَاسْتِعْمَالُهَا بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ.
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الإِْقْرَارِ: قَوْله تَعَالَى: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ (6) }
__________
(1) سورة الزخرف / 19.
(2) المفردات ص 269.
(3) سورة النور / 6.
(4) اللسان مادة (شهد) .
(5) سورة يوسف / 81.
(6) سورة التوبة / 17.(26/214)
أَيْ مُقِرِّينَ (1) فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النَّفْسِ هِيَ الإِْقْرَارُ.
وَتُطْلَقُ الشَّهَادَةُ أَيْضًا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ. (وَهِيَ قَوْلُنَا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) وَتُسَمَّى الْعِبَارَةُ (أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) بِالشَّهَادَتَيْنِ.
وَمَعْنَاهُمَا هُنَا مُتَفَرِّعٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْمَعْنَيَيْنِ (الإِْخْبَارُ وَالإِْقْرَارُ) ، فَإِنْ مَعْنَى الشَّهَادَةِ هُنَا هُوَ الإِْعْلاَمُ وَالْبَيَانُ لأَِمْرٍ قَدْ عُلِمَ وَالإِْقْرَارُ الاِعْتِرَافُ بِهِ، وَقَدْ نَصَّ ابْنُ الأَْنْبَارِيِّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى هُوَ: " أَعْلَمُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. وَأُبَيِّنُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَعْلَمُ وَأُبَيِّنُ أَنَّ مُحَمَّدًا مُبَلِّغٌ لِلأَْخْبَارِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل (2) " وَسُمِّيَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِالتَّشَهُّدِ، وَهُوَ صِيغَةُ (تَفَعَّل) مِنَ الشَّهَادَةِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ (التَّشَهُّدُ) عَلَى (التَّحِيَّاتِ) الَّتِي تُقْرَأُ فِي آخِرِ الصَّلاَةِ.
جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ النَّبِيَّ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُهُمُ التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ (3) .
__________
(1) المفردات (مادة: شهد) : 269.
(2) الزاهر في معاني كلمات الناس أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، تحقيق الدكتور حاتم الضامن 1 / 125 (ط 1 دار الرشيد) وزارة الثقافة والإعلام في الجمهورية العراقية 1399 هـ / 1979 م، وانظر: لسان العرب (مادة شهد) وقد نقل هذا المعنى عن ابن الأنباري.
(3) حديث " ابن مسعود أنه كان يعلمهم التشهد " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 56 - ط السلفية) .(26/215)
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْعَلاَنِيَةِ: قَوْله تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ (1) } أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَال فِي مَعْنَى هَذِهِ الآْيَةِ: " السِّرُّ وَالْعَلاَنِيَةُ (2) ".
وَمِنَ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْمَوْتِ فِي سَبِيل اللَّهِ: قَوْله تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ (3) } .
فَهُوَ شَهِيدٌ قَدْ رَزَقَهُ اللَّهُ الشَّهَادَةَ، جَمْعُهُ شُهَدَاءُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الشَّهَادَةِ فِي الإِْخْبَارِ بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى النَّفْسِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ) .
وَاسْتَعْمَلُوا اللَّفْظَ فِي الْمَوْتِ فِي سَبِيل اللَّهِ وَبَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ (شَهِيدٌ) .
وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي الْقَسَمِ كَمَا فِي اللِّعَانِ، (وَبَيَانُهُ فِي اللِّعَانِ) .
كَمَا اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الشَّهَادَةِ فِي الإِْخْبَارِ بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ فِي مَجْلِسِ
__________
(1) سورة الأنعام / 73.
(2) نقل ذلك السيوطي عنه في الدر المنثور في التفسير بالمأثور 3 / 23، 4 / 46، تفسير الآية 73 من الأنعام وفي تفسير الآية 9 من الرعد.
(3) سورة النساء / 69.(26/215)
الْقَضَاءِ، وَهُوَ مَوْضُوعُ الْبَحْثِ فِي هَذَا الْمُصْطَلَحِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِ الشَّهَادَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى.
فَعَرَّفَهَا الْكَمَال مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا: إِخْبَارُ صِدْقٍ لإِِثْبَاتِ حَقٍّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.
وَعَرَّفَهَا الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: بِأَنَّهَا إِخْبَارُ حَاكِمٍ مِنْ عِلْمٍ لِيَقْضِيَ بِمُقْتَضَاهُ.
وَعَرَّفَهَا الْجَمَل مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا: إِخْبَارٌ بِحَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ بِلَفْظِ أَشْهَدُ.
وَعَرَّفَهَا الشَّيْبَانِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهَا: الإِْخْبَارُ بِمَا عَلِمَهُ بِلَفْظِ أَشْهَدُ أَوْ شَهِدْتُ (1) .
وَتَسْمِيَتُهَا بِالشَّهَادَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ الْمُتَيَقَّنَةِ، لأَِنَّ الشَّاهِدَ يُخْبِرُ عَنْ مَا شَاهَدَهُ وَالإِْشَارَةُ إِلَيْهَا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُل يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَال لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 6 / 2، الشرح الكبير للدردير 4 / 164، حاشية الجمل 5 / 377، نيل المآرب بشرح دليل الطالب بتحقيق د. محمد الأشقر 2 / 470.
(2) حديث ابن عباس: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يشهد بشهادة " أخرجه الحاكم (4 / 98 - 99 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، والبيهقي (10 / 156 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال البيهقي في أحد رواته: " تكلم فيه الحميدي ولم يرو عن وجه يعتمد عليه " وقال الذهبي: " واه ".(26/216)
وَتُسَمَّى " بَيِّنَةً " أَيْضًا؛ لأَِنَّهَا تُبَيِّنُ مَا الْتَبَسَ وَتَكْشِفُ الْحَقَّ فِي مَا اخْتُلِفَ فِيهِ (1) .
وَهِيَ إِحْدَى الْحُجَجِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الدَّعْوَى.
أَلْفَاظٌ ذَاتُ صِلَةٍ:
الإِْقْرَارُ:
2 - الإِْقْرَارُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الإِْخْبَارُ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْمُخْبِرِ.
الدَّعْوَى:
3 - الدَّعْوَى: قَوْلٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْقَاضِي يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ حَقٍّ قِبَل الْغَيْرِ أَوْ دُفْعُ الْخَصْمِ عَنْ حَقِّ نَفْسِهِ.
فَيَجْمَعُ كُلًّا مِنَ الإِْقْرَارِ وَالدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ، أَنَّهَا إِخْبَارَاتٌ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا: أَنَّ الإِْخْبَارَ إِنْ كَانَ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ عَلَى الْمُخْبِرِ، وَيَقْتَصِرُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ فَإِقْرَارٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَصِرْ، فَإِمَّا أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْمُخْبِرِ فِيهِ نَفْعٌ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ لِغَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ الشَّهَادَةُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُخْبِرِ نَفْعٌ فِيهِ لأَِنَّهُ إِخْبَارٌ بِحَقٍّ لَهُ فَهُوَ
__________
(1) المغني 12 / 4، الشرح الكبير (على هامش المغني) 12 / 3.(26/216)
الدَّعْوَى، انْظُرْ: الْمَوْسُوعَةَ الْفِقْهِيَّةَ مُصْطَلَحَ (إِقْرَارٌ) (6 67) .
الْبَيِّنَةُ:
4 - الْبَيِّنَةُ: عَرَّفَهَا الرَّاغِبُ بِأَنَّهَا: الدَّلاَلَةُ الْوَاضِحَةُ عَقْلِيَّةً أَوْ مَحْسُوسَةً (1) . وَعَرَّفَهَا الْمَجْدَوِيُّ الْبَرَكَتِيُّ بِأَنَّهَا: الْحُجَّةُ الْقَوِيَّةُ وَالدَّلِيل (2) . وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الْبَيِّنَةُ فِي الشَّرْعِ: اسْمٌ لِمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ. وَهِيَ تَارَةً تَكُونُ أَرْبَعَةَ شُهُودٍ، وَتَارَةً ثَلاَثَةً بِالنَّصِّ فِي بَيِّنَةِ الْمُفَلِّسِ، وَتَارَةً شَاهِدَيْنِ وَشَاهِدًا وَاحِدًا وَامْرَأَةً وَاحِدَةً وَنُكُولاً وَيَمِينًا أَوْ خَمْسِينَ يَمِينًا أَوْ أَرْبَعَةَ أَيْمَانٍ، وَتَكُونُ شَاهِدَ الْحَال (أَيِ الْقَرَائِنَ) فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ (3) .
وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَذَا أَعَمَّ مِنَ الشَّهَادَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ.
5 - تَحَمُّل الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا (4) } . وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ (5) } وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ (6) } .
__________
(1) المفردات في غريب القرآن (ص 68) .
(2) قواعد الفقه (216) .
(3) الطرق الحكمية (24) .
(4) سورة البقرة / 282.
(5) سورة الطلاق / 2.
(6) سورة البقرة / 283.(26/217)
وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةٌ فَلَزِمَ أَدَاؤُهَا كَسَائِرِ الأَْمَانَاتِ (1) . فَإِذَا قَامَ بِهَا الْعَدَدُ الْكَافِي (كَمَا سَيَأْتِي) سَقَطَ الإِْثْمُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَإِنِ امْتَنَعَ الْجَمِيعُ أَثِمُوا كُلُّهُمْ.
وَإِنَّمَا يَأْثَمُ الْمُمْتَنِعُ إِذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِالشَّهَادَةِ، وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ تَنْفَعُ.
فَإِذَا تَضَرَّرَ فِي التَّحَمُّل أَوِ الأَْدَاءِ، أَوْ كَانَتْ شَهَادَتُهُ لاَ تَنْفَعُ، بِأَنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ، أَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّبَذُّل فِي التَّزْكِيَةِ وَنَحْوِهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ (2) } . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (3) .
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ مَقْصُودَ الشَّهَادَةِ لاَ يَحْصُل مِنْهُ. وَقَدْ يَكُونُ تَحَمُّلُهَا وَأَدَاؤُهَا أَوْ أَحَدُهُمَا فَرْضًا عَيْنِيًّا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُ ذَلِكَ الْعَدَدِ مِنَ الشُّهُودِ الَّذِي يَحْصُل بِهِ الْحُكْمُ، وَخِيفَ ضَيَاعُ الْحَقِّ (4) .
__________
(1) المغني 12 / 3، والشرح الكبير في هامش الموضع نفسه.
(2) سورة البقرة / 282.
(3) حديث: " لا ضرر ولا ضرار " أخرجه ابن ماجه (2 / 784 - ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت، وأعله البوصيري بالانقطاع كذا في مصباح الزجاجة (2 / 33 - ط دار الجنان) ، ولكنه له شواهد يتقوى بها ذكرها ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم (ص 286 - 287 ط الحلبي) .
(4) الشرح الكبير مع المغني (12 / 3، 4) ، وانظر القوانين الفقهية (205) ، والدر المختار (4 / 369) ، ومغني المحتاج (4 / 450) .(26/217)
وَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ، أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ فَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ أَدَاءٌ ف 26 ح 2 ص 340 لِبَيَانِ الْخِلاَفِ فِي أَفْضَلِيَّةِ الشَّهَادَةِ أَوِ السَّتْرِ.
مَشْرُوعِيَّةُ الشَّهَادَةِ:
6 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الشَّهَادَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول.
أَمَّا الْكِتَابُ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ (1) } .
وَقَوْلُهُ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (2) } .
وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ (3) } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ وَائِل بْنِ حُجْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ (4) .
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْبَيِّنَةُ عَلَى
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) سورة الطلاق / 2.
(3) سورة البقرة / 283.
(4) حديث: " شاهداك أو يمينه "، أخرجه مسلم (1 / 122 - ط الحلبي) .(26/218)
الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (1) . . وَالْبَيِّنَةُ هِيَ الشَّهَادَةُ.
" قَدِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا لإِِثْبَاتِ الدَّعَاوَى.
أَمَّا الْمَعْقُول: فَلأَِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهَا لِحُصُول التَّجَاحُدِ بَيْنَ النَّاسِ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا (2) .
أَرْكَانُ الشَّهَادَةِ:
7 - أَرْكَانُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خَمْسَةُ أُمُورٍ: الشَّاهِدُ، وَالْمَشْهُودُ لَهُ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَالْمَشْهُودُ بِهِ، وَالصِّيغَةُ (3) .
وَرُكْنُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: اللَّفْظُ الْخَاصُّ، وَهُوَ لَفْظُ (أَشْهَدُ) عِنْدَهُمْ (4) .
سَبَبُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
8 - سَبَبُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ طَلَبُ الْمُدَّعِي الشَّهَادَةَ مِنَ الشَّاهِدِ، أَوْ خَوْفُ فَوْتِ حَقِّ الْمُدَّعِي إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْمُدَّعِي كَوْنَهُ شَاهِدًا.
حُجِّيَّةُ الشَّهَادَةِ:
9 - الشَّهَادَةُ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ تُظْهِرُ الْحَقَّ
__________
(1) حديث: " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " أخرجه البيهقي (10 / 252 - ط دائرة المعارف العثمانية) وإسناده صحيح.
(2) المغني 12 / 3، وانظر في حاشية الشرح الكبير في الموضع نفسه.
(3) مغني المحتاج 4 / 426، والجمل على شرح المنهج 5 / 377، ونهاية المحتاج 8 / 277.
(4) فتح القدير 6 / 2، وتبيين الحقائق 4 / 207.(26/218)
وَلاَ تُوجِبُهُ (1) . وَلَكِنْ تُوجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِمُقْتَضَاهَا (2) . لأَِنَّهَا إِذَا اسْتَوْفَتْ شُرُوطَهَا مُظْهِرَةٌ لِلْحَقِّ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ.
(شُرُوطُ الشَّهَادَةِ:
10 - لِلشَّهَادَةِ نَوْعَانِ مِنَ الشُّرُوطِ:
شُرُوطُ تَحَمُّلٍ.
وَشُرُوطُ أَدَاءً.
فَأَمَّا شُرُوطُ التَّحَمُّل: فَمِنْهَا:
11 - أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَاقِلاً وَقْتَ التَّحَمُّل، فَلاَ يَصِحُّ تَحَمُّلُهَا مِنْ مَجْنُونٍ وَصَبِيٍّ لاَ يَعْقِل؛ لأَِنَّ تَحَمُّل الشَّهَادَةِ عِبَارَةٌ عَنْ فَهْمِ الْحَادِثَةِ وَضَبْطِهَا، وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ إِلاَّ بِآلَةِ الْفَهْمِ وَالضَّبْطِ، وَهِيَ الْعَقْل.
12 - أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا، فَلاَ يَصِحُّ التَّحَمُّل مِنَ الأَْعْمَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ تَحَمُّلِهِ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ
__________
(1) الإقناع 4 / 430، ومنتهى الإرادات 2 / 647، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد 12 / 3.
(2) فتح القدير 6 / 2، والبدائع 6 / 282، البناية في شرح الهداية 7 / 120، الفتاوى الهندية 3 / 450، شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل 4 / 215.
(3) مختصر الطحاوي: 332، تحفة الفقهاء للسمرقندي 3 / 527، روضة القضاة للسمناني 1 / 263، بدائع الصنائع 9 / 4023.(26/219)
التَّسَامُعُ إِذَا تَيَقَّنَ الصَّوْتَ وَقَطَعَ بِأَنَّهُ صَوْتُ فُلاَنٍ (1) .
13 - أَنْ يَكُونَ التَّحَمُّل عَنْ عِلْمٍ، أَوْ عَنْ مُعَايَنَةٍ لِلشَّيْءِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِنَفْسِهِ لاَ بِغَيْرِهِ: لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: ذُكِرَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُل يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَال لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ (2) .
وَلاَ يَتِمُّ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْعِلْمِ، أَوِ الْمُعَايَنَةِ، إِلاَّ فِيمَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ، كَالنِّكَاحِ، وَالنَّسَبِ، وَالْمَوْتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ (3) . أَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَتُشْتَرَطُ فِيهِ الْمُعَايَنَةُ.
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا رَآهُ مِنْ خَطِّ نَفْسِهِ إِلاَّ إِذَا تَذَكَّرَ ذَلِكَ وَتَيَقَّنَ مِنْهُ، لأَِنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، وَالْخَتْمَ يُشْبِهُ الْخَتْمَ، كَثِيرًا مَا يَقَعُ التَّزْوِيرُ، فَلاَ مُعَوَّل إِلاَّ عَلَى التَّذَكُّرِ.
__________
(1) الهداية 3 / 121 وشرحها فتح القدير 6 / 27، والبناية 7 / 160، وتبيين الحقائق 4 / 217، تبصرة الحكام 2 / 80، المهذب 2 / 336، المغني 12 / 61، 62 والشرح الكبير 12 / 67.
(2) حديث ابن عباس - تقدم تخريجه في ف1.
(3) البدائع 9 / 4024، الفتاوى الهندية 3 / 450، والدر المختار 4 / 370، والمهذب 2 / 335.(26/219)
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِ عَلَى مَا يَجِدُهُ مِنْ خَطِّ نَفْسِهِ (1) . وَعَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ (2) .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَاضِي يَجِدُ فِي دِيوَانِهِ شَيْئًا لاَ يَحْفَظُهُ، كَإِقْرَارِ رَجُلٍ أَوْ شَهَادَةِ شُهُودٍ، أَوْ صُدُورِ حُكْمٍ مِنْهُ وَقَدْ خُتِمَ بِخَتْمِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَقْضِي بِذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَقْضِي بِهِ (3) .
14 - وَلاَ يُشْتَرَطُ لِلتَّحَمُّل: الْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالإِْسْلاَمُ، وَالْعَدَالَةُ، حَتَّى لَوْ كَانَ الشَّاهِدُ وَقْتَ التَّحَمُّل صَبِيًّا عَاقِلاً، أَوْ عَبْدًا، أَوْ كَافِرًا، أَوْ فَاسِقًا، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَتَابَ الْفَاسِقُ، فَشَهِدُوا عِنْدَ الْقَاضِي قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ (4) .
15 - وَأَمَّا شُرُوطُ الأَْدَاءِ: فَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّاهِدِ.
وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّهَادَةِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 9 / 4038، 4048، الفتاوى الهندية 3 / 450.
(2) الشرح الكبير 12 / 10، المغني 12 / 22.
(3) شرح أدب القاضي للخصاف تأليف برهان الأئمة حسام الدين عمر بن عبد العزيز ابن مازة البخاري الحنفي المعروف بالصدر الشهيد 3 / 97، 105.
(4) تبيين الحقائق 4 / 218، الفتاوى الهندية 3 / 450، والقوانين الفقهية (203) ، تبصرة الحكام 1 / 216، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 12 / 57، الإقناع 4 / 440، والمغني مع الشرح الكبير 12 / 84.(26/220)
وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمَشْهُودِ بِهِ.
وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى النِّصَابِ (أَيْ عَدَدِ الشُّهُودِ) .
أَوَّلاً: مَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّاهِدِ:
أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ أَهْلاً لِلشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ بِتَوَفُّرِ شُرُوطِهَا فِيهِ. وَمِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ:
(1) - الْبُلُوغُ:
16 - فَلاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ الأَْطْفَال وَالصِّبْيَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (1) .
وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنَ الرِّجَال لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِل أَوْ يُفِيقَ (2) . وَلأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يُؤْمَنْ عَلَى حِفْظِ أَمْوَالِهِ، فَلأََنْ لاَ يُؤْمَنَ عَلَى حِفْظِ حُقُوقِ غَيْرِهِ أَوْلَى (3) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْجِرَاحِ وَالْقَتْل قَبْل أَنْ يَتَفَرَّقُوا، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: أَنْ
__________
(1) سورة البقرة 282.
(2) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة ". أخرجه ابن ماجه (1 / 658 - ط الحلبي) والحاكم (2 / 59 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) المهذب 2 / 325.(26/220)
يَتَّفِقُوا فِي شَهَادَتِهِمْ، وَأَنْ لاَ يَدْخُل بَيْنَهُمْ كَبِيرٌ، وَاخْتُلِفَ فِي إِنَاثِهِمْ (1) .
(2) - الْعَقْل:
17 - فَلاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ غَيْرِ الْعَاقِل إِجْمَاعًا، لأَِنَّهُ لاَ يَعْقِل مَا يَقُولُهُ وَلاَ يَصِفُهُ (2) .
وَسَوَاءٌ أَذَهَبَ عَقْلُهُ بِجُنُونٍ أَوْ سُكْرٍ وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمُحَصِّلٍ وَلاَ تَحْصُل الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ: وَلأَِنَّهُ لاَ يَأْثَمُ بِكَذِبِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلاَ يُتَحَرَّزُ مِنْهُ (3) "
(3) - الْحُرِّيَّةُ:
18 - فَلاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ مَنْ فِيهِ رِقٌّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، كَسَائِرِ الْوِلاَيَاتِ، إِذْ فِي، الشَّهَادَاتِ نُفُوذُ قَوْلٍ عَلَى الْغَيْرِ، وَهُوَ نَوْعُ وِلاَيَةٍ؛ وَلأَِنَّ مَنْ فِيهِ رِقٌّ مُشْتَغِلٌ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ فَلاَ يَتَفَرَّغُ لأَِدَاءِ الشَّهَادَةِ (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى قَبُول شَهَادَتِهِ فِي كُل شَيْءٍ إِلاَّ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ (5) .
(وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: رِقٌّ ج 23 ص 81) .
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 7، الخرشي 7 / 196، والقوانين الفقهية (202) ، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 12 / 37.
(2) شرح منح الجليل 4 / 217.
(3) المغني 12 / 27.
(4) أسني المطالب 5 / 939.
(5) الشرح الكبير 12 / 65، منتهى الإرادات 2 / 662، الإنصاف 12 / 60.(26/221)
(4) - الْبَصَرُ:
19 - فَلاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ الأَْعْمَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُطْلَقًا (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ الأَْعْمَى فِي الأَْفْعَال؛ لأَِنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ بِهَا الْبَصَرُ، وَكَذَا فِي الأَْقْوَال إِلاَّ فِيمَا يَثْبُتُ بِالاِسْتِفَاضَةِ؛ لأَِنَّهَا مُسْتَنَدُهَا السَّمَاعُ وَلَيْسَ الرُّؤْيَةَ، وَإِلاَّ فِي التَّرْجَمَةِ بِحَضْرَةِ الْقَاضِي لأَِنَّهُ يُفَسِّرُ مَا سَمِعَهُ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِي الأَْقْوَال دُونَ الأَْفْعَال فِيمَا لاَ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مِنَ الأَْقْوَال إِذَا كَانَ فَطِنًا، وَلاَ تَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الأَْصْوَاتُ، وَتَيَقَّنَ الْمَشْهُودَ لَهُ، وَالْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، فَإِنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَلاَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَجُوزُ شَهَادَةُ الأَْعْمَى إِذَا تَيَقَّنَ الصَّوْتَ لأَِنَّهُ رَجُلٌ عَدْلٌ مَقْبُول الرِّوَايَةِ فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ كَالْبَصِيرِ؛ وَلأَِنَّ السَّمْعَ أَحَدُ الْحَوَاسِّ الَّتِي يَحْصُل بِهَا الْيَقِينُ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَنْ أَلِفَهُ الأَْعْمَى، وَكَثُرَتْ صُحْبَتُهُ لَهُ، وَعَرَفَ صَوْتَهُ يَقِينًا، فَيَجِبُ أَنْ تُقْبَل شَهَادَتُهُ، فِيمَا تَيَقَّنَهُ كَالْبَصِيرِ، وَلاَ سَبِيل
__________
(1) البدائع 9 / 4023، فتح القدير 6 / 27، الفتاوى الهندية 3 / 464 - 465.
(2) المهذب 2 / 336.
(3) الخرشي 7 / 179، شرح منح الجليل 4 / 221.(26/221)
إِلَى إِنْكَارِ حُصُول الْيَقِينِ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال (1) .
وَذَهَبَ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) إِلَى قَبُول شَهَادَتِهِ فِيمَا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُعُ؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إِلَى السَّمَاعِ، وَلاَ خَلَل فِيهِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْعْمَى لَوْ تَحَمَّل شَهَادَةً تَحْتَاجُ إِلَى الْبَصَرِ، وَهُوَ بَصِيرٌ، ثُمَّ عَمِيَ فَإِنْ تَحَمَّل عَلَى رَجُلٍ مَعْرُوفٍ بِالاِسْمِ وَالنَّسَبِ يُقِرُّ لِرَجُلٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ بَعْدَمَا عَمِيَ، وَتُقْبَل شَهَادَتُهُ لِحُصُول الْعِلْمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تُقْبَل.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تَيَقَّنَ صَوْتَهُ لِكَثْرَةِ إِلْفِهِ لَهُ صَحَّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ.
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِنْ شَهِدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَهُوَ بَصِيرٌ، ثُمَّ عَمِيَ قَبْل الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ، جَازَ الْحُكْمُ بِهَا عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مَعْنًى طَرَأَ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَلاَ يُمْنَعُ الْحُكْمُ بِهَا، كَمَا لَوْ مَاتَ الشَّاهِدَانِ أَوْ غَابَا بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى عَدَمِ قَبُول
__________
(1) المغني والشرح الكبير 12 / 61.
(2) الهداية 3 / 121، وشرحها فتح القدير 6 / 27، البناية 7 / 160، تبيين الحقائق 4 / 217، المبسوط 16 / 129.(26/222)
شَهَادَتِهِ فِي الْحَالَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ؛ لأَِنَّ قِيَامَ الأَْهْلِيَّةِ شَرْطٌ وَقْتَ الْقَضَاءِ لِتَصِيرَ حُجَّةً (1) .
(5) - الإِْسْلاَمُ:
20 - الأَْصْل أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ مُسْلِمًا فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْكُفَّارِ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى مُسْلِمٍ أَمْ عَلَى غَيْرِ مُسْلِمٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (2) . وَقَوْلُهُ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (3) . وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِعَدْلٍ وَلَيْسَ مِنَّا وَلأَِنَّهُ أَفْسَقُ الْفُسَّاقِ وَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يُؤْمَنُ مِنْهُ الْكَذِبُ عَلَى خَلْقِهِ.
وَعَلَى هَذَا الأَْصْل جَرَى مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ (4) .
لَكِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا الأَْصْل شَهَادَةَ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ فَقَدْ أَجَازُوهَا عَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَْرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} (5) .
__________
(1) تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 4 / 218، ومنح الجليل 4 / 221، وروضة الطالبين 12 / 260، والمغني 12 / 62 و63.
(2) سورة البقرة / 282.
(3) سورة الطلاق / 2.
(4) مواهب الجليل 6 / 150، وأسني المطالب 4 / 339، ومغني المحتاج 4 / 427، والمغني 12 / 53.
(5) سورة المائدة / 106.(26/222)
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ شَهَادَةَ الذِّمِّيِّينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ، وَشَهَادَةَ الْحَرْبِيِّينَ عَلَى أَمْثَالِهِمْ.
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ مُطْلَقًا (1) .
(6) - النُّطْقُ:
21 - فَلاَ تَصِحُّ شَهَادَةُ الأَْخْرَسِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى صِحَّةِ شَهَادَتِهِ إِذَا عُرِفَتْ إِشَارَتُهُ وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ قَبُول شَهَادَةِ الأَْخْرَسِ إِذَا أَدَّاهَا بِخَطِّهِ (2) .
(7) - الْعَدَالَةُ:
22 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (3) . وَلِهَذَا لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْفَاسِقِ.
وَالْعَدَالَةُ عَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِالْمُحَافَظَةِ الدِّينِيَّةِ عَلَى اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَتَوَقِّي الصَّغَائِرِ وَأَدَاءِ الأَْمَانَةِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَأَنْ يَكُونَ صَلاَحُهُ أَكْثَرَ مِنْ فَسَادِهِ وَهِيَ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَبُول.
وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِالصَّلاَحِ فِي الدِّينِ وَهُوَ: أَدَاءُ الْفَرَائِضِ بِرَوَاتِبِهَا، وَاجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ وَعَدَمُ الإِْصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهَا أَيْضًا
__________
(1) البحر الرائق 7 / 102، 104، المبسوط 16 / 133، 135.
(2) أقرب المسالك 176، التاج والإكليل 6 / 154، مواهب الجليل للحطاب 6 / 154، وروضة الطالبين 11 / 245، وشرح منتهى الإرادات 3 / 545.
(3) سورة الطلاق / 2.(26/223)
اسْتِعْمَال الْمُرُوءَةِ بِفِعْل مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ، وَتَرْكِ مَا يُدَلِّسُهُ وَيَشِينُهُ.
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ الْمُرُوءَةَ شَرْطًا مُسْتَقِلًّا. وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عَدَالَةٌ)
وَالْعَدَالَةُ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَبُول عَلَى الْقَاضِي لاَ جَوَازِهِ (1) . فَإِذَا تَوَفَّرَتْ فِي الشَّاهِدِ وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ بِشَهَادَتِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: إِذَا كَانَ الأَْغْلَبُ عَلَى الرَّجُل وَالأَْظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَةُ وَالْمُرُوءَةُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الأَْغْلَبُ عَلَى الرَّجُل وَالأَْظْهَرُ مِنْ أَمْرِهِ الْمَعْصِيَةَ وَخِلاَفَ الْمُرُوءَةِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ (2) .
(8) - التَّيَقُّظُ: أَوِ الضَّبْطُ:
23 - لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ مُغَفَّلٍ لاَ يَضْبِطُ أَصْلاً أَوْ غَالِبًا لِعَدَمِ التَّوَثُّقِ بِقَوْلِهِ، أَمَّا مَنْ لاَ يَضْبِطُ نَادِرًا وَالأَْغْلَبُ فِيهِ الْحِفْظُ وَالضَّبْطُ فَتُقْبَل قَطْعًا؛ لأَِنَّ أَحَدًا لاَ يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ (3) .
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 150، وشرح منتهى الإرادات 3 / 546، ومغني المحتاج 4 / 427، شرح أدب القاضي للخصاف تأليف حسام الدين الصدر الشهيد بن مازة البخاري 3 / 8ف 545 وأحكام القرآن للجصاص 1 / 503 - 504، الفتاوى الهندية 3 / 450.
(2) مختصر المزني من كلام الشافعي 5 / 256، الأم 7 48.
(3) القوانين الفقهية (303) ط. بيروت دار الكتاب وتبصرة الحكام 1 / 172، ومغني المحتاج 4 / 436، والمغني مع الشرح الكبير 12 / 30.(26/223)
(9) - أَلاَّ يَكُونَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ:
24 - وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) .
فَإِنْ تَابَ وَأَصْلَحَ:
فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى قَبُول شَهَادَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ الآْيَةِ السَّابِقَةِ مُبَاشَرَةً: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ قَبُول شَهَادَتِهِ وَلَوْ تَابَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِيمَا حُدَّ فِيهِ وَتُقْبَل فِيمَا عَدَاهُ إِنْ تَابَ (3) .
وَمَنَاطُ الْخِلاَفِ فِي هَذِهِ الآْيَةِ فِي وُرُودِ الاِسْتِثْنَاءِ بَعْدَ مَذْكُورِينَ أَيَشْمَلُهُمْ كُلَّهُمْ أَمْ يَعُودُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ؟
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ يَعُودُ إِلَى الأَْخِيرِ وَهُوَ هُنَا التَّوْبَةُ مِنَ الْفِسْقِ فَقَطْ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِقَوْل عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِمَنْ جَلَدَهُ فِي شَهَادَتِهِ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِقَوْلِهِ: تُبْ أَقْبَل شَهَادَتَكَ.
__________
(1) سورة النور / 4.
(2) سورة النور / 5.
(3) الفتاوى الهندية 3 / 450، والحطاب 6 / 161.(26/224)
وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ (1) .
(10) - الذُّكُورَةُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ:
يُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ
25 - لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: " مَضَتِ السُّنَّةُ بِأَنْ لاَ شَهَادَةَ لِلنِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ".
(11) - عَدَمُ التُّهْمَةِ:
26 - لِلتُّهْمَةِ أَسْبَابٌ مِنْهَا:
أ - أَنْ يَجُرَّ بِشَهَادَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعَ ضُرًّا، فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْوَارِثِ لِمُوَرِّثِهِ بِجُرْحٍ قَبْل انْدِمَالِهِ، وَلاَ الضَّامِنِ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ بِالأَْدَاءِ، وَلاَ الإِْبْرَاءِ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ وَخَالَفَ فِي هَذَا الشَّافِعِيَّةُ. ب - الْبَعْضِيَّةُ: فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ أَصْلٍ لِفَرْعِهِ، وَلاَ فَرْعٍ لأَِصْلِهِ، وَتُقْبَل شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ.
ح - الْعَدَاوَةُ: فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ عَدُوٍّ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَدَاوَةِ هُنَا، الْعَدَاوَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ لاَ الدِّينِيَّةُ، فَتُقْبَل شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ، وَالسُّنِّيُّ عَلَى الْمُبْتَدِعِ، وَكَذَا مَنْ
__________
(1) المستصفي 2 / 174، وفواتح الرحموت (بهامش المستصفي) 1 / 332، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (طبعة محمد علي صبيح) 2 / 135.(26/224)
أَبْغَضَ الْفَاسِقَ لِفِسْقِهِ لاَ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ وَالْعَدَاوَةُ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ أَنْ تَبْلُغَ حَدًّا يَتَمَنَّى زَوَال نِعْمَتِهِ وَيَفْرَحُ لِمُصِيبَتِهِ، وَيَحْزَنُ لِمَسَرَّتِهِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَيُخَصُّ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ عَلَى الآْخَرِ، وَتُقْبَل شَهَادَةُ الْعَدُوِّ لِعَدُوِّهِ إِذْ لاَ تُهْمَةَ.
د - أَنْ يَدْفَعَ بِالشَّهَادَةِ عَنْ نَفْسِهِ عَارَ الْكَذِبِ، فَإِنْ شَهِدَ فَاسِقٌ وَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ ثُمَّ تَابَ بِشُرُوطِ التَّوْبَةِ فَشَهَادَتُهُ الْمُسْتَأْنَفَةُ مَقْبُولَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ أَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ الَّتِي رُدَّتْ لَمْ تُقْبَل.
هـ - الْحِرْصُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْمُبَادَرَةِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى، وَذَلِكَ فِي غَيْرِ شَهَادَةِ الْحِسْبَةِ (1) .
و الْعَصَبِيَّةُ، فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ مَنْ عُرِفَ بِهَا وَبِالإِْفْرَاطِ فِي الْحَمِيَّةِ كَتَعَصُّبِ قَبِيلَةٍ عَلَى قَبِيلَةٍ وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ رُتْبَةَ الْعَدَاوَةِ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا لاِشْتِرَاطِ عَدَمِ التُّهْمَةِ (3) بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلاَ خَائِنَةٍ وَلاَ
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 223، والشرح الصغير 4 / 246، والقوانين الفقهية (303، 304) ط. دار الكتاب العربي، وتبصرة الحكام 1 / 154، وروضة الطالبين 11 / 234 - 242، والمهذب 2 / 331، ومغني المحتاج 4 / 433، والمغني 12 / 55 وما بعدها، ومنتهى الإرادات 3 / 555.
(2) منتهى الإرادات 3 / 555.
(3) المهذب 2 / 330.(26/225)
ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَانِعِ لأَِهْل الْبَيْتِ (1) .
ثَانِيًا: مَا يَرْجِعُ مِنْ شُرُوطِ الأَْدَاءِ إِلَى الشَّهَادَةِ نَفْسِهَا وَمِنْ ذَلِكَ:
27 - (1) - اشْتِرَاطُ وُجُودِ الدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ مِنَ الْمُدَّعِي أَوْ نَائِبِهِ. أَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا وُجُودُ الدَّعْوَى عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (2) .
(2) - مُوَافَقَتُهَا لِلدَّعْوَى (كَمَا سَيَرِدُ تَفْصِيلُهُ) .
(3) - الْعَدَدُ فِي الشَّهَادَةِ فِيمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال.
(4) - اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ (كَمَا سَيَرِدُ تَفْصِيلُهُ) .
(5) - تَعَذُّرُ حُضُورِ الأَْصْل (وَهَذَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ) كَمَا سَيَأْتِي.
(6) - أَنْ تُؤَدَّى بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ. بِأَنْ يَقُول: أَشْهَدُ بِكَذَا وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَكْفِي مَا يَدُل عَلَى
__________
(1) حديث: " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ". أخرجه أحمد (2 / 204 - ط، الميمنية) من حديث عبد الله بن عمرو، قوى إسناده ابن حجر في التلخيص (2 / 198 -. ط. شركة الطباعة الفنية) . وذو الغمر: ذو الحقد، والقانع: الخادم الذي انقطع لخدمة أهل البيت.
(2) الدر المختار 4 / 370.(26/225)
حُصُول عِلْمِ الشَّاهِدِ كَأَنْ يَقُول: رَأَيْتُ كَذَا أَوْ سَمِعْتُ كَذَا وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُول: أَشْهَدُ. (1)
ثَالِثًا: مَا يَرْجِعُ مِنْ شُرُوطِ الأَْدَاءِ إِلَى الْمَشْهُودِ بِهِ:
يُشْتَرَطُ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ:
(28) - (1) - أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَإِنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِمَجْهُولٍ فَلاَ تُقْبَل. وَذَلِكَ لأَِنَّ شَرْطَ صِحَّةِ قَضَاءِ الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ مَعْلُومًا.
(2) - كَوْنُ الْمَشْهُودِ بِهِ مَالاً أَوْ مَنْفَعَةً فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا شَرْعًا.
رَابِعًا: مَا يَرْجِعُ مِنْ شُرُوطِ الأَْدَاءِ إِلَى نِصَابِ الشَّهَادَةِ:
29 - يَخْتَلِفُ عَدَدُ الشُّهُودِ فِي الشَّهَادَاتِ بِحَسَبِ الْمَوْضُوعِ الْمَشْهُودِ بِهِ:
أ - مِنَ الشَّهَادَاتِ مَا لاَ يُقْبَل فِيهِ أَقَل مِنْ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ، لاَ امْرَأَةَ بَيْنَهُمْ وَذَلِكَ فِي الزِّنَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ. .} (2) الآْيَةَ.
وقَوْله تَعَالَى: {لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ. . .} (3) الآْيَةَ. وقَوْله تَعَالَى
__________
(1) البدائع 6 / 273، والشرح الصغير 2 / 348 ط. الحلبي، والمغني 9 / 216، الطبعة الثالثة، والجمل على شرح المنهج 5 / 377.
(2) سورة النور / 4.
(3) سورة النور / 13.(26/226)
: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} . (1)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَال يَا رَسُول اللَّهِ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلاً أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قَال: نَعَمْ. (2)
ب - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى مَنْ عُرِفَ بِغِنًى أَنَّهُ فَقِيرٌ لأَِخْذِ زَكَاةٍ فَلاَ بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ ثَلاَثَةِ رِجَالٍ، يَشْهَدُونَ لَهُ. (3)
لِحَدِيثِ قَبِيصَةَ حَتَّى يَقُومَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ. (4)
ج - وَمِنْهَا مَا يُقْبَل فِيهِ شَاهِدَانِ لاَ امْرَأَةَ فِيهِمَا، وَهُوَ مَا سِوَى الزِّنَى مِنَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَحَدِّ الْحِرَابَةِ، وَالْجَلْدِ فِي الْخَمْرِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال غَالِبًا، مِمَّا لَيْسَ بِمَالٍ وَلاَ يُقْصَدُ مِنْهُ مَالٌ: كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلاَقِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالإِْيلاَءِ، وَالظِّهَارِ، وَالنَّسَبِ، وَالإِْسْلاَمِ،
__________
(1) سورة النساء / 15.
(2) حديث أبي هريرة أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله إن وجدت. . " أخرجه مسلم (2 / 1135 ط الحلبي) .
(3) شرح منتهى الإرادات 3 / 556.
(4) حديث قبيصة: " حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا. . " أخرجه مسلم (2 / 722 - ط الحلبي) .(26/226)
وَالرِّدَّةِ، وَالْجَرْحِ، وَالتَّعْدِيل، وَالْمَوْتِ وَالإِْعْسَارِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْوِصَايَةِ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَهُمْ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لاَ امْرَأَةَ فِيهِمَا. (1)
وَدَلِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى شَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ فِي الطَّلاَقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْوَصِيَّةِ.
فَأَمَّا الطَّلاَقُ وَالرَّجْعَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . (2)
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَقَوْلُهُ: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} . (3)
وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي النِّكَاحِ: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ. (4)
وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَال: " مَضَتِ السُّنَّةُ بِأَنَّهُ لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَلاَ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ.
__________
(1) الشرح الكبير 12 / 84، تبصرة الحكام 1 / 265، روضة الطالبين للنووي 11 / 253، والمغني 12 / 6.
(2) سورة الطلاق / 2.
(3) سورة المائدة / 106.
(4) حديث: " لا نكاح إلا بولي ". أخرجه البيهقي (7 / 125 - ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة، وإسناده صحيح.(26/227)
وَقِيسَ عَلَيْهَا مَا شَارَكَهَا فِي الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ. (1)
د - وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَا يُقْبَل فِيهِ شَاهِدَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ هُوَ مَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَقُّ مَالاً أَمْ غَيْرَ مَالٍ، كَالنِّكَاحِ وَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالْوَكَالَةِ وَالْوِصَايَةِ. (2)
وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} . (3) وَقَصَرَ الْجُمْهُورُ قَبُول شَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الرَّجُل وَالْمَرْأَتَيْنِ عَلَى مَا هُوَ مَالٌ أَوْ بِمَعْنَى الْمَال، كَالْبَيْعِ، وَالإِْقَالَةِ، وَالْحَوَالَةِ، وَالضَّمَانِ، وَالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، كَالْخِيَارِ، وَالأَْجَل، وَغَيْرِ ذَلِكَ. (4)
وَأَجَازُوا فِيهِ أَنْ يَثْبُتَ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي.
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 442، نهاية المحتاج 8 / 295.
(2) الهداية 3 / 117، فتح القدير 6 / 7، الفتاوى الهندية 3 / 451، المبسوط 16 / 115.
(3) سورة البقرة / 282.
(4) الشرح الكبير 12 / 90، حاشية الدسوقي 4 / 87، حاشية الخرشي 4 / 201، مغني المحتاج 4 / 41 نهاية المحتاج 8 / 294 - 295، روضة الطالبين 11 / 254، 278، المغني 12 / 9.(26/227)
وَدَلِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ. (1)
وَلَمْ يُجِزِ الْحَنَفِيَّةُ الْقَضَاءَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ؛ لأَِنَّ الآْثَارَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي هَذَا الشَّأْنِ لاَ تَثْبُتُ عِنْدَهُمْ (2) .
هـ - وَمِنْهَا مَا تُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ، وَهُوَ الْوِلاَدَةُ وَالاِسْتِهْلاَل وَالرَّضَاعُ، وَمَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الرِّجَال الأَْجَانِبُ مِنَ الْعُيُوبِ الْمَسْتُورَةِ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ هَذِهِ الأُْمُورُ مِنَ النِّسَاءِ. (3) عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَل فِي الْوِلاَدَةِ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ وَحْدَهَا، وَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ غَيْرِ الْقَابِلَةِ إِلاَّ مَعَ غَيْرِهَا.
__________
(1) حديث: " قضى بيمين وشاهد ". أخرجه مسلم (3 / 1337 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(2) انظر شرح أدب القاضي للخصاف تأليف حسام الدين الصدر الشهيد 4 / 455. الفقرة 1499.
(3) انظر هذه المذاهب في كتاب الشهادات من الحاوي للماوردي الفقرة 3877 وانظر المغني: 12 / 16 - 17، والشرح الكبير 12 / 97 - 98، والمبسوط 16 / 142 - 144، جواهر العقود 2 / 438، معين الحكام: 94 - 95، سنن البيهقي 10 / 151، بداية المجتهد 2 / 454، شرح الزرقاني على موطأ مالك 4 / 380.(26/228)
وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (1) .
الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَل فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ مُسْلِمَةٍ حُرَّةٍ عَدْلَةٍ قَابِلَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، إِلاَّ وِلاَدَةَ الْمُطَلَّقَةِ فَلاَ تُقْبَل فِيهَا شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ (2) اسْتِدْلاَلاً بِمَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ. (3)
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا أَجَازَا شَهَادَتَهَا (4) .
الثَّالِثُ: ذَهَبَ مَالِكٌ، وَالْحَكَمُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ إِلَى أَنَّهُ تُقْبَل فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ وَلاَ يُشْتَرَطُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُنَّ لَمَّا قُمْنَ فِي انْفِرَادِهِنَّ مَقَامَ الرِّجَال، وَجَبَ أَنْ يَقُمْنَ فِي الْعَدَدِ مَقَامَ الرِّجَال، وَأَكْثَرُ عَدَدِ الرِّجَال اثْنَانِ، فَاقْتَضَى أَنْ
__________
(1) المغني 12 / 16 - 17، الشرح الكبير 12 / 98، الإنصاف 12 / 86.
(2) الهداية 3 / 117، المبسوط 16 / 143، معين الحكام: 94، الفتاوى الهندية 3 / 451.
(3) حديث حذيفة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة ". أخرجه الدارقطني (4 / 233 - ط دار المحاسن) والبيهقي (10 / 151 - ط. دائرة المعارف العثمانية) وأعله بالانقطاع.
(4) روى ذلك عبد الرزاق عن عمر (المصنف: 8 / 334 الحديث 15429) ورواه الدارقطني عن علي موقوفا (سنن الدارقطني 4 / 233) وانظره في السنن الكبرى (10 / 151 وفي إسناده مقال (نصب الراية 4 / 80) والدراية (2 / 171 ضمن الحديث 827) .(26/228)
يَكُونَ أَكْثَرُ عَدَدِ النِّسَاءِ اثْنَتَيْنِ (1)
الرَّابِعُ: هُوَ مَا حُكِيَ عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ أَنَّهُ تُقْبَل ثَلاَثُ نِسْوَةٍ، وَلاَ يُقْبَل أَقَل مِنْهُنَّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَنَسٍ. وَاسْتُدِل لِذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ ضَمَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ إِلَى الرَّجُل فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لاَ يَنْفَرِدْنَ فِيهِ فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَبْدَل الرَّجُل بِالْمَرْأَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْفَرِدْنَ فِيهِ فَيَصِرْنَ ثَلاَثًا. (2)
الْخَامِسُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَعَطَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْبَل فِي ذَلِكَ أَقَل مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ. (3)
قَال الشَّافِعِيُّ: لأَِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل حَيْثُ أَجَازَ الشَّهَادَةَ انْتَهَى بِأَقَلِّهَا إِلَى شَاهِدَيْنِ، أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَأَقَامَ الثِّنْتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ، حَيْثُ أَجَازَهُمَا فَإِذَا أَجَازَ الْمُسْلِمُونَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِيمَا يَغِيبُ عَنِ الرِّجَال لَمْ يَجُزْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يُجِيزُوهَا إِلاَّ عَلَى أَصْل حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل فِي الشَّهَادَاتِ، فَيَجْعَلُونَ كُل امْرَأَتَيْنِ تَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ، وَإِذَا فَعَلُوا لَمْ يَجُزْ إِلاَّ أَرْبَعٌ، وَهَكَذَا
__________
(1) المدونة الكبرى 5 / 158، تبصرة الحكام 1 / 295، والقوانين الفقهية 315 ط. تونس. تنوير الحوالك 2 / 110، وانظر المغني 12 / 17.
(2) كتاب الشهادات من الحاوي للماوردي الفقرة 3877، والمغني 12 / 17، والشرح الكبير 12 / 98.
(3) الأم 6 / 267، 7 / 43، مختصر المزني 5 / 248، كتاب الشهادات من الحاوي الكبير: الفقرة 3877، السنن الكبرى 10 / 151، مغني المحتاج 4 / 442، نهاية المحتاج 8 / 296، المهذب 2 / 335.(26/229)
الْمَعْنَى فِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ ذِكْرُهُ - وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ. (1)
و وَمِنْهَا مَا تُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَتُقْبَل شَهَادَةُ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ الْعَدْل بِمُفْرَدِهِ فِي إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ اسْتِدْلاَلاً بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلاَل، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ. (2)
وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنِّي رَأَيْتُ الْهِلاَل، فَقَال: أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟ وَأَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: نَعَمْ، قَال: يَا بِلاَل أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنْ يَصُومُوا غَدًا. (3)
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ مِنْ غَيْمٍ أَوْ غُبَارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ تُقْبَل شَهَادَةُ الطَّبِيبِ الْوَاحِدِ فِي الشِّجَاجِ، وَالْبَيْطَارِ فِي عُيُوبِ الدَّوَابِّ.
__________
(1) الأم 6 / 267.
(2) حديث ابن عمر: " تراءى الناس الهلال ". أخرجه أبو داود (2 / 756 - 757 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 423 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) حديث: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه الترمذي (3 / 65 - ط الحلبي) والنسائي (4 / 132 - ط المكتبة التجارية) ورجحا إرساله.(26/229)
وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِمَا إِذَا كَانَ بِتَكْلِيفٍ مِنَ الإِْمَامِ.
وَقَيَّدَهُ الْحَنَابِلَةُ بِمَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ. (1)
حُكْمُ الإِْشْهَادِ:
30 - فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الإِْشْهَادِ عَلَى الْعُقُودِ بَيْنَ عُقُودِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهَا: فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ الإِْشْهَادَ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ وَاجِبٌ وَشَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ. (2)
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الإِْشْهَادَ غَيْرُ وَاجِبٍ إِذَا تَمَّ الإِْعْلاَنُ. (3)
أَمَّا عُقُودُ الْبُيُوعِ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو مُوسَى الأَْشْعَرِيُّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالضَّحَّاكُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّ الإِْشْهَادَ وَاجِبٌ. (4)
قَال عَطَاءٌ: أَشْهِدْ إِذَا بِعْتَ وَإِذَا
__________
(1) الأم 2 / 80 ونجد رأيه الثاني في الموضع نفسه أنه لا يجوز إلا شاهدان. وانظر مختصر المزني 2 / 3، وانظر نهاية المحتاج 3 / 149، مغني المحتاج 1 / 420 - 421، حاشية البجيرمي على الخطيب 2 / 324، تبصرة الحكام 1 / 229، والمغني مع الشرح الكبير 3 / 8، وشرح منتهى الإرادات 3 / 557، الهداية 1 / 121 وشروحها: فتح القدير 2 / 59، البناية 3 / 288.
(2) الحديث تقدم تخريجه ف29.
(3) المدونة الكبرى المجلد الثاني ص192، تبصرة الحكام 1 / 209.
(4) انظر تفسير القرطبي 3 / 402، جواهر العقد 2 / 428، بداية المجتهد 2 / 452، الشهادات من الحاوي الفقرة 3809(26/230)
اشْتَرَيْتَ بِدِرْهَمٍ أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ أَوْ ثُلُثِ دِرْهَمٍ أَوْ أَقَل مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل يَقُول: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (1) .
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ، إِلَى أَنَّ الأَْمْرَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} لِلنَّدْبِ وَلَيْسَ لِلْوُجُوبِ، لِوُرُودِ الآْيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (2) . فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الأَْمْرَ فِيهَا مَحْمُولٌ عَلَى الاِسْتِحْبَابِ. (3)
وَلِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّهُ بَاعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَلَهُ وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ (4) .
فَدَل ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ.
وَقَدْ بَاعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشْهَدَ، وَبَاعَ فِي أَحْيَانٍ أُخْرَى وَاشْتَرَى، وَرَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ، (5) وَلَمْ يُشْهِدْ.
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) سورة البقرة / 283.
(3) المبسوط 16 / 112، تبصرة الحكام 1 / 209، الأم 3 / 76 - 77، مختصر المزني 5 / 246، المهذب 2 / 324، نهاية المحتاج 8 / 277، سنن البيهقي 10 / 145، تفسير القرطبي 3 / 402، تفسير ابن كثير 1 / 336.
(4) حديث جابر: أنه باع النبي صلى الله عليه وسلم جمله واستثنى ظهره إلى المدينة. أخرجه البخاري (الفتح 4 / 485 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1222 - ط. الحلبي) .
(5) حديث " رهن درعه عند يهودي " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 142 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1226 - ط الحلبي) من حديث عائشة(26/230)
وَلَوْ كَانَ الإِْشْهَادُ أَمْرًا وَاجِبًا لَوَجَبَ مَعَ الرَّهْنِ لِخَوْفِ الْمُنَازَعَةِ. (1)
قَال ابْنُ عَطِيَّةَ: (وَالْوُجُوبُ فِي ذَلِكَ قَلِقٌ، أَمَّا فِي الدَّقَائِقِ فَصَعْبٌ شَاقٌّ، وَأَمَّا مَا كَثُرَ فَرُبَّمَا يَقْصِدُ التَّاجِرُ الاِسْتِئْلاَفَ بِتَرْكِ الإِْشْهَادِ، وَقَدْ يَكُونُ عَادَةً فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ، وَقَدْ يُسْتَحَى مِنَ الْعَالِمِ وَالرَّجُل الْكَبِيرِ الْمُوَقَّرِ فَلاَ يُشْهِدُ عَلَيْهِ، فَيَدْخُل ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الاِئْتِمَانِ، وَيَبْقَى الأَْمْرُ بِالإِْشْهَادِ نَدْبًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي الأَْغْلَبِ مَا لَمْ يَقَعْ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنْهُ) (2)
مُسْتَنَدُ عِلْمِ الشَّاهِدِ:
31 - الأَْصْل فِي الشَّهَادَةِ أَنْ تَكُونَ عَنْ مُشَاهَدَةٍ وَعِيَانٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . (3)
وقَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} . (4)
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الشَّهَادَةَ تَكُونُ بِالْعِلْمِ، وَلاَ تَصِحُّ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ.
وَيُسْتَدَل لِذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُل يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَال لِي: يَا ابْنَ
__________
(1) تفسير القرطبي 3 / 403.
(2) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (طبعة القاهرة) 2 / 298، وانظر تفسير القرطبي 3 / 403
(3) سورة الزخرف / 86
(4) سورة يوسف / 81(26/231)
عَبَّاسٍ لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُول اللَّهِ بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ. (1)
وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهَا أَقْوَى أَسْبَابِ الْعِلْمِ وَهِيَ الْمُشَاهَدَةُ وَالْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ.
لَكِنَّ الأُْمُورَ الْمَشْهُودَ بِهَا قَدْ تَتَفَاوَتُ فِيمَا بَيْنَهَا فِي تَحْصِيل الْعِلْمِ بِهَا:
فَمِنْهَا مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعَايِنَهُ الشَّاهِدُ كَالْقَتْل، وَالسَّرِقَةِ، وَالْغَصْبِ، وَالرَّضَاعِ، وَالزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ.
فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ الشَّاهِدُ هَذِهِ الأُْمُورَ إِلاَّ بِالْمُعَايَنَةِ بِبَصَرِهِ.
فَمِنْهَا أُمُورٌ لاَ يَصِحُّ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا إِلاَّ بِالسَّمَاعِ وَالْمُعَايَنَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ فِي عُقُودِ النِّكَاحِ، وَالْبُيُوعِ، وَالإِْجَارَاتِ، وَالطَّلاَقِ؛ لأَِنَّ الأَْصْوَاتَ قَدْ تَشْتَبِهُ، وَيَكْتَفِي الْحَنَابِلَةُ فِيهَا بِالسَّمَاعِ إِذَا عَرَفَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَقِينًا وَتَيَقَّنَ أَنَّهُ كَلاَمُهُمَا. (2)
وَمِنْهَا مَا يَحْصُل عِلْمُهُ بِهَا عَنْ طَرِيقِ سَمَاعِ الأَْخْبَارِ الشَّائِعَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْمُسْتَفِيضَةِ،
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه.
(2) الدر المختار 4 / 375، والقوانين الفقهية (205) ط دار القلم بيروت، روضة الطالبين 11 / 259، والمغني مع الشرح الكبير 12 / 19(26/231)
الْمَرْتَبَةِ السَّابِقَةِ يَكُونُ مَصْدَرُهَا سَمَاعًا مُسْتَفِيضًا لَمْ يَبْلُغْ فِي اسْتِفَاضَتِهِ حَدَّ الأُْولَى، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الْمَقْصُودُ بِكَلاَمِ الْفُقَهَاءِ عِنْدَ إِطْلاَقِهِمُ الْحَدِيثَ عَلَى شَهَادَةِ السَّمَاعِ، أَوِ الشَّهَادَةِ بِالسَّمَاعِ، أَوْ بِالتَّسَامُعِ. (1) وَهِيَ الَّتِي قَالُوا فِي تَعْرِيفِهَا: " إِنَّهَا لَقَبٌ لِمَا يُصَرِّحُ الشَّاهِدُ فِيهِ بِاسْتِنَادِ شَهَادَتِهِ لِسَمَاعٍ مِنْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَتَخْرُجُ - بِذَلِكَ - شَهَادَةُ الْبَتِّ وَالنَّقْل. (2) وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ اعْتِمَادِهَا قَضَاءً لِلضَّرُورَةِ، أَوِ الْحَاجَةِ فِي حَالاَتٍ خَاصَّةٍ اخْتَلَفَتْ كَمَا بِاخْتِلاَفِ الْمَذَاهِبِ فِي تَحْدِيدِ مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ، وَضَبْطِ الْقُيُودِ الَّتِي تَعُودُ إِلَيْهَا، وَالثَّابِتُ عِنْدَ الدَّارِسِينَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمَذَاهِبِ الإِْسْلاَمِيَّةِ تَسَامُحًا فِي الأَْخْذِ بِهَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَالِكِيُّ. (3)
وَأَفَاضَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْل فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ، حَيْثُ بَيَّنَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّ النَّظَرَ فِي شَهَادَةِ السَّامِعِ يَتَنَاوَل الْجَوَانِبَ التَّالِيَةَ:
الأَْوَّل: الصِّفَةُ الَّتِي تُؤَدَّى بِهَا:
32 - الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُعَوَّل
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 346، 347، التاودي والتسولي على التحفة 1 / 132.
(2) الحدود بشرح الرصاع ص455، المطبعة التونسية س. 1350هـ. مواهب الجليل مع التاج والإكليل 6 / 191، 192، جواهر الإكليل 2 / 242، التاودي والتسولي على التحفة 1 / 132.
(3) الفروق للقرافي 4 / 55، دار إحياء الكتب العربية ط 1 / س 1346هـ.(26/232)
أَنْ يَقُول الشُّهُودُ - عِنْدَ تَأْدِيَتِهَا - " سَمِعْنَا سَمَاعًا فَاشِيًا مِنْ أَهْل الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ - مَثَلاً - صَدَقَةٌ عَلَى بَنِي فُلاَنٍ "، أَيْ: لاَ بُدَّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعُدُول، وَغَيْرِ الْعُدُول فِي الْمَنْقُول عَنْهُمْ. (1) وَيَرَى بَعْضُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا: " إِنَّا لَمْ نَزَل نَسْمَعُ مِنَ الثِّقَاتِ، أَوْ سَمِعْنَا سَمَاعًا فَاشِيًا مِنْ أَهْل الْعَدْل ". (2) وَهُوَ رَأْيٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّ حَصْرَ مَصْدَرِ سَمَاعِهِمْ فِي الثِّقَاتِ وَالْعُدُول يُخْرِجُهَا مِنَ السَّمَاعِ إِلَى النَّقْل وَهُوَ مَوْضُوعٌ آخَرُ. (3)
قَال ابْنُ فَرْحُونَ: وَلاَ يَكُونُ السَّمَاعُ بِأَنْ يَقُولُوا: " سَمِعْنَا مِنْ أَقْوَامٍ بِأَعْيَانِهِمْ " يُسَمُّونَهُمْ أَوْ يَعْرِفُونَهُمْ، إِذْ لَيْسَتْ - حِينَئِذٍ - شَهَادَةَ تَسَامُعٍ بَل هِيَ شَهَادَةٌ عَلَى شَهَادَةٍ، فَتَخْرُجُ عَنْ حَدِّ شَهَادَةِ السَّمَاعِ. (4)
وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ الاِكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِمْ: " سَمِعْنَا سَمَاعًا فَاشِيًا ". (5) دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى إِضَافَةٍ " مِنَ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ " حَيْثُ لاَ عِبْرَةَ بِذِكْرٍ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 347، مواهب الجليل مع التاج والإكليل 6 / 191 - 192، جواهر الإكليل 2 / 242، التاودي والتسولي على تحفة ابن عاصم 1 / 132.
(2) المصادر السابقة.
(3) نفس المصادر المذكورة سابقا - شرح حدود ابن عرفة للرصاع ص455.
(4) تبصرة الحكام 1 / 347.
(5) انظر شهادة السماع في الأحباس والمواريث من المدونة الكبرى 5 / 171، دار صادر - بيروت.(26/232)
كَالنَّسَبِ، وَالْمِلْكِ، وَالْمَوْتِ، وَالْوَقْفِ.
فَيَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا مُعْتَمِدًا عَلَى التَّسَامُعِ.
الشَّهَادَةُ بِالسَّمَاعِ وَالتَّسَامُعِ:
الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاَثِ مَرَاتِبَ بِاعْتِبَارِ دَرَجَةِ الْعِلْمِ الْحَاصِل بِهَا:
الْمَرْتَبَةُ الأُْولَى:
33 - تُفِيدُ عِلْمًا جَازِمًا مَقْطُوعًا بِهِ وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا: بِشَهَادَةِ السَّمَاعِ الْمُتَوَاتِرِ كَالسَّمَاعِ بِوُجُودِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَغْدَادَ وَالْقَاهِرَةِ وَالْقَيْرَوَانِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُدُنِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي ثَبَتَ الْقَطْعُ بِوُجُودِهَا سَمَاعًا عِنْدَ كُل مَنْ لَمْ يُشَاهِدْهَا مُشَاهَدَةً مُبَاشَرَةً فَهَذِهِ عِنْدَ حُصُولِهَا تَكُونُ - مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الْقَبُول وَالاِعْتِبَارِ - بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ إِجْمَاعًا (1) .
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ:
34 - تُفِيدُ ظَنًّا قَوِيًّا يَقْرُبُ مِنَ الْقَطْعِ وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا: بِالاِسْتِفَاضَةِ مِنَ الْخَلْقِ الْغَفِيرِ: كَالشَّهَادَةِ بِأَنَّ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ مِنْ أَوْثَقِ مَنْ أَخَذَ عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ، وَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ يُعْتَبَرُ الصَّاحِبَ الأَْوَّل لأَِبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 345، 346، البهجة في شرح التحفة 1 / 132، مطبعة حجازي بالقاهرة، حلي المعاصم لبنت فكر ابن عاصم 1 / 132 بهامش البهجة.(26/233)
قَبُول هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَوُجُوبِ الْعَمَل بِمُقْتَضَاهَا مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: إِذَا رُئِيَ الْهِلاَل رُؤْيَةً مُسْتَفِيضَةً مِنْ جَمٍّ غَفِيرٍ وَشَاعَ أَمْرُهُ بَيْنَ أَهْل الْبَلَدِ لَزِمَ الْفِطْرُ أَوِ الصَّوْمُ مَنْ رَآهُ، وَمَنْ لَمْ يَرَهُ دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى شَهَادَةٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَدُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى إِثْبَاتِ تَعْدِيل نَقَلَتِهِ. (1)
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل أَيْضًا اسْتِفَاضَةُ التَّعْدِيل وَالتَّجْرِيحِ عِنْدَ الْحُكَّامِ، وَالْمَحْكُومِينَ:
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لاَ يَحْتَاجُ الْحَاكِمُ إِلَى السُّؤَال عَنْهُ لاِسْتِفَاضَةِ عَدَالَتِهِ عِنْدَهُ سَمَاعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لاَ يَسْأَل عَنْهُ لاِشْتِهَارِ جُرْحَتِهِ، وَإِنَّمَا يُطَالَبُ بِالْكَشْفِ عَمَّنْ لَمْ يَشْتَهِرْ لاَ بِهَذِهِ وَلاَ بِتِلْكَ. (2)
وَقَدْ تَنَاقَل الْفُقَهَاءُ، وَأَصْحَابُ التَّرَاجِمِ، أَنَّ ابْنَ أَبِي حَازِمٍ شَهِدَ عِنْدَ قَاضِي الْمَدِينَةِ فَقَال لَهُ الْقَاضِي: أَمَّا الاِسْمُ فَاسْمُ عَدْلٍ وَلَكِنْ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّكَ ابْنَ أَبِي حَازِمٍ؟ فَدَل هَذَا عَلَى أَنَّ عَدَالَةَ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى السُّؤَال عَنْهَا، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ مَعَ أَنَّهُ لاَ يُعْرَفُ شَخْصُهُ. (3)
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ:
35 - تُفِيدُ ظَنًّا قَوِيًّا دُونَ الظَّنِّ الْمَذْكُورِ فِي
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) تبصرة الحكام 1 / 346، 347. التاودي على التحفة 1 / 132.
(3) طبقات الفقهاء للشيرازي ص146، دار الرائد العربي بيروت، المدارك لعياض 3 / 9 - 12 الطبعة المغربية.(26/233)
الْعُدُول فِي الْمَنْقُول عَنْهُمْ خِلاَفًا لِمَا يَرَاهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ مَاجِشُونَ (1) .
وَالثَّانِي: شُرُوطُ قَبُولِهَا:
36 - وَأَهَمُّهَا بِاخْتِصَارٍ:
(1) أَنْ تَكُونَ مِنْ عَدْلَيْنِ فَأَكْثَرَ وَيُكْتَفَى بِهِمَا عَلَى الْمَشْهُورِ، خِلاَفًا لِمَنْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُكْتَفَى فِيهَا إِلاَّ بِأَرْبَعَةٍ عُدُولٍ. (2)
(2) السَّلاَمَةُ مِنَ الرِّيَبِ: فَإِنْ شَهِدَ ثَلاَثَةٌ عُدُولٌ مَثَلاً عَلَى السَّمَاعِ وَفِي الْحَيِّ أَوْ فِي الْقَبِيلَةِ مِائَةُ رَجُلٍ فِي مِثْل سِنِّهِمْ لاَ يَعْرِفُونَ شَيْئًا عَنِ الْمَشْهُودِ فِيهِ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ تُرَدُّ لِلرِّيبَةِ الَّتِي حُفَّتْ بِهَا، فَإِذَا انْتَفَتِ الرِّيبَةُ قُبِلَتْ، كَمَا إِذَا شَهِدَ عَلَى أَمْرٍ مَا، شَيْخَانِ قَدِ انْقَرَضَ جِيلُهُمَا، فَلاَ تُرَدُّ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِذَلِكَ غَيْرُهُمَا مِنْ أَهْل الْبَلَدِ وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَدْلاَنِ طَارِئَانِ بِاسْتِفَاضَةِ مَوْتٍ، أَوْ وِلاَيَةٍ، أَوْ عَزْلٍ، قَدْ حَدَثَ بِبَلَدِهِمَا وَلَيْسَ مَعَهُمَا - فِي الْغُرْبَةِ - غَيْرُهُمَا، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمَا مَقْبُولَةٌ لِلْغَرَضِ نَفْسِهِ. (3)
(3) أَنْ يَكُونَ السَّمَاعُ فَاشِيًا مُسْتَفِيضًا، وَهَذَا الْقَدْرُ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ دَاخِل الْمَذْهَبِ
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 192، التاج والإكليل 6 / 192، تبصرة الحكام 1 / 347.
(2) تبصرة الحكام 1 / 347، 348، التاودي والتسولي على تحفة ابن عاصم 1 / 138.
(3) تبصرة الحكام 1 / 348، التاودي والتسولي على تحفة ابن عاصم 1 / 137.(26/234)
الْمَالِكِيِّ وَخَارِجَهُ. (1) إِلاَّ أَنَّهُمْ قَدِ اخْتَلَفُوا كَمَا تَقَدَّمَ فِي إِضَافَةِ: " مِنَ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ " أَوْ " مِنَ الثِّقَاتِ " فَقَطْ، أَوْ عَدَمِ إِضَافَتِهِمَا. (2)
(4) أَنْ يَحْلِفَ الْمَشْهُودُ لَهُ: فَلاَ يَقْضِي الْقَاضِي لأَِحَدٍ بِالشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ إِلاَّ بَعْدَ يَمِينِهِ، لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ أَصْل السَّمَاعِ الَّذِي فَشَا وَانْتَشَرَ مَنْقُولاً عَنْ وَاحِدٍ، وَالشَّاهِدُ الْوَاحِدُ لاَ بُدَّ مَعَهُ مِنَ الْيَمِينِ فِي الدَّعَاوَى الْمَالِيَّةِ. (3)
الثَّالِثُ: مَحَالُّهَا: أَيِ: الْمَوَاضِعُ الَّتِي تُقْبَل فِيهَا شَهَادَةُ السَّمَاعِ.
37 - سَلَكَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ بِالْخُصُوصِ - لِتَحْدِيدِ هَذِهِ الْمَحَال الْمَرْوِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ - ثَلاَثَ طُرُقٍ:
أَحَدُهَا: لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ الَّذِي يَرْوِي أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَا لاَ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ، وَلاَ يَنْتَقِل الْمِلْكُ فِيهِ، كَالْمَوْتِ، وَالنَّسَبِ، وَالْوَقْفِ، وَنَصَّ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي النِّكَاحِ. (4)
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 12 / 24، تبصرة الحكام 1 / 348، 349، مواهب الجليل 6 / 191، 192.
(2) انظر: المدونة الكبرى 5 / 171، البيان والتحصيل 1 / 153، 154، جواهر الإكليل 2 / 241، الكافي في فقه أهل المدينة 2 / 903، وما بعدها لابن عبد البر، مكتبة الرياض الحديثة بالرياض ط1 س 1398هـ = 1978م.
(3) البهجة شرح التحفة 1 / 138، تبصرة الحكام 1 / 348.
(4) تهذيب الفروق 4 / 101 بهامش الفروق للقرافي.(26/234)
الثَّانِيَةُ: لاِبْنِ رُشْدٍ الْجَدِّ: حَكَى فِيهَا أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ: تُقْبَل فِي كُل شَيْءٍ، لاَ تُقْبَل فِي شَيْءٍ، تُقْبَل فِي كُل شَيْءٍ مَا عَدَا النَّسَبَ، وَالْقَضَاءَ وَالنِّكَاحَ وَالْمَوْتَ، إِذْ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَسْتَفِيضَ اسْتِفَاضَةً يَحْصُل بِهَا الْقَطْعُ لاَ الظَّنُّ، وَرَابِعُ الأَْقْوَال عَكْسُ السَّابِقِ، لاَ تُقْبَل إِلاَّ فِي النَّسَبِ وَالْقَضَاءِ، وَالنِّكَاحِ وَالْمَوْتِ. (1)
وَالثَّالِثَةُ: لاِبْنِ شَاسٍ، وَابْنِ الْحَاجِبِ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ قَالُوا: إِنَّهَا تَجُوزُ فِي مَسَائِل مَعْدُودَةٍ، أَوْصَلَهَا بَعْضُهُمْ إِلَى عِشْرِينَ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِينَ وَأَنْهَاهَا أَحَدُهُمْ إِلَى تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ. (2)
مِنْهَا: النِّكَاحُ، وَالْحَمْل، وَالْوِلاَدَةُ، وَالرَّضَاعُ، وَالنَّسَبُ، وَالْمَوْتُ، وَالْوَلاَءُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالأَْحْبَاسُ، وَالضَّرَرُ، وَتَوْلِيَةُ الْقَاضِي وَعَزْلُهُ، وَتَرْشِيدُ السَّفِيهِ، وَالْوَصِيَّةُ، وَفِي الصَّدَقَاتِ، وَالأَْحْبَاسِ الَّتِي تَقَادَمَ أَمْرُهَا، وَطَال زَمَانُهَا، وَفِي الإِْسْلاَمِ وَالرِّدَّةِ، وَالْعَدَالَةِ، وَالتَّجْرِيحِ، وَالْمِلْكِ لِلْحَائِزِ. (3)
__________
(1) البيان والتحصيل 10 / 153، 154.
(2) المصدر السابق ص101، 102.
(3) القوانين الفقهية لابن جزي ص205 دار القلم بيروت ط1 س1977م، تبصرة الحكام 1 / 349، الكافي لابن عبد البر 2 / 903 - 906 مواهب الجليل 6 / 192 - 194 مع التاج والإكليل، تهذيب الفروق 4 / 101 - 102، جواهر الإكليل 2 / 242، 243، التاودي مع التسولي على تحفة ابن عاصم جـ1 ص132 - 137.(26/235)
أَمَّا بَقِيَّةُ الأَْئِمَّةِ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّةِ شَهَادَةِ التَّسَامُعِ فِي النَّسَبِ وَالْوِلاَدَةِ لِلضَّرُورَةِ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَمَّا النَّسَبُ، فَلاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْل الْعِلْمِ مَنَعَ مِنْهُ، وَلَوْ مُنِعَ ذَلِكَ لاَسْتَحَالَتْ مَعْرِفَةُ الشَّهَادَةِ بِهِ، إِذْ لاَ سَبِيل إِلَى مَعْرِفَتِهِ قَطْعًا بِغَيْرِهِ وَلاَ تُمْكِنُ الْمُشَاهَدَةُ فِيهِ، وَلَوِ اعْتُبِرَتِ الْمُشَاهَدَةُ لَمَا عَرَفَ أَحَدٌ أَبَاهُ وَلاَ أُمَّهُ وَلاَ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ. (1)
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ: فَقَال الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: تَجُوزُ - بِالإِْضَافَةِ إِلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ - فِي تِسْعَةِ أَشْيَاءَ: النِّكَاحِ، وَالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَالْوَقْفِ وَمَصْرِفِهِ، وَالْمَوْتِ، وَالْعِتْقِ، وَالْوَلاَءِ، وَالْوِلاَيَةِ، وَالْعَزْل، مُعَلِّلِينَ رَأْيَهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ تَتَعَذَّرُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا غَالِبًا بِمُشَاهَدَتِهَا أَوْ مُشَاهَدَةِ أَسْبَابِهَا، فَلَوْ لَمْ تُقْبَل فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ لأََدَّى ذَلِكَ إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَتَعْطِيل الأَْحْكَامِ وَضَيَاعِ الْحُقُوقِ. (2)
وَيَرَى الْبَعْضُ الآْخَرُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا لاَ تُقْبَل فِي الْوَقْفِ، وَالْوَلاَءِ، وَالْعِتْقِ وَالزَّوْجِيَّةِ؛ لأَِنَّ الشَّهَادَةَ مُمْكِنَةٌ فِيهَا
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 2ا / 24.
(2) المغني مع الشرح الكبير 12 / 24.(26/235)
بِالْقَطْعِ حَيْثُ إِنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى عَقْدٍ كَبَقِيَّةِ الْعُقُودِ. (1)
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ تَصِحُّ إِلاَّ فِي النِّكَاحِ وَالْمَوْتِ وَالنَّسَبِ، وَلاَ تُقْبَل فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ؛ لأَِنَّ الشَّهَادَةَ فِيهِ لاَ تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا شَهَادَةً بِمَالٍ، وَمَا دَامَ الأَْمْرُ كَذَلِكَ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالدَّيْنِ، وَالدَّيْنُ لاَ تُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ السَّمَاعِ، وَأَمَّا صَاحِبَاهُ فَقَدْ نَصَّا عَلَى قَبُولِهَا فِي الْوَلاَءِ مِثْل عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ (2) .
شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ:
38 - قَال ابْنُ فَرْحُونَ: التَّوَسُّمُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَسْمِ وَهُوَ التَّأْثِيرُ بِحَدِيدَةٍ فِي جِلْدِ الْبَعِيرِ يَكُونُ عَلاَمَةً يُسْتَدَل بِهَا. قَال ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ قَال لِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: فِي الْقَوَافِل وَالرِّفَاقِ تَمُرُّ بِأُمَّهَاتِ الْقُرَى وَالْمَدَائِنِ فَتَقَعُ بَيْنَهُمُ الْخُصُومَةُ عِنْدَ حَاكِمِ الْقَرْيَةِ أَوِ الْمَدِينَةِ الَّتِي حَلُّوا بِهَا، أَوْ مَرُّوا بِهَا، فَإِنَّ مَالِكًا وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ أَجَازُوا شَهَادَةَ مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، مِمَّنْ جَمَعَهُ ذَلِكَ السَّفَرُ، وَوُجْهَةُ تِلْكَ الْمُرَافَقَةِ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفُوا بِعَدَالَةٍ وَلاَ سَخْطَةٍ إِلاَّ عَلَى التَّوَسُّمِ لَهُمْ بِالْحُرِّيَّةِ وَالْعَدَالَةِ وَذَلِكَ فِيمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُعَامَلاَتِ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ خَاصَّةً مِنَ الأَْسْلاَفِ
__________
(1) نفس المصدر السابق.
(2) بدائع الصنائع 6 / 266، 267، المغني مع الشرح الكبير 12 / 24.(26/236)
وَالأَْكْرِيَةِ، وَالْبُيُوعِ، وَالأَْشْرِبَةِ، كَانُوا مِنْ أَهْل بَلَدٍ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ أَهْل بَلَدَيْنِ مَتَى كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَالْمَشْهُودُ لَهُ مِنْ أَهْل الْقَرْيَةِ، أَوِ الْمَدِينَةِ الَّتِي اخْتَصَمُوا فِيهَا، أَوْ مَعْرُوفًا مِنْ غَيْرِهَا إِذَا كَانَ مِمَّنْ جَمَعَهُ وَإِيَّاهُمْ ذَلِكَ السَّفَرُ، وَكَذَلِكَ تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عَلَى كَرْيِهِمْ فِي كُل مَا عَمِلُوهُ بِهِ وَفِيهِ وَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ قَالاَ (أَيْ: مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ) : وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ عَلَى وَجْهِ الاِضْطِرَارِ مِثْل مَا أُجِيزَتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ فِيمَا لاَ يَحْضُرُهُ الرِّجَال، مِثْل مَا أُجِيزَتْ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ بَيْنَهُمْ فِي الْجِرَاحَاتِ. قَالاَ: وَلاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ فِي كُل حَقٍّ كَانَ ثَابِتًا فِي دَعْوَاهُمْ قَبْل سَفَرِهِمْ، إِلاَّ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْعَدَالَةِ.
قَال ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَلاَ يُمَكَّنُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنْ تَجْرِيحِ هَؤُلاَءِ الشُّهُودِ، لأَِنَّهُمْ إِنَّمَا أُجِيزُوا عَلَى التَّوَسُّمِ فَلَيْسَ فِيهِمْ جُرْحَةٌ إِلاَّ أَنْ يَسْتَرِيبَ الْحَاكِمُ فِيهِمْ قَبْل حُكْمِهِ بِشَهَادَتِهِمْ بِسَبَبِ قَطْعِ يَدٍ، أَوْ جَلْدٍ فِي ظَهْرٍ فَلْيَتَثَبَّتْ فِي تَوَسُّمِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ انْتِفَاءُ تِلْكَ الرِّيبَةِ، وَإِلاَّ أَسْقَطَهُمْ. قَال: وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ وَامْرَأَةٌ، أَوْ عَدْلٌ، وَتَوَسَّمَ فِيهِمْ أَنَّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ قُبِلُوا بِالتَّوَسُّمِ عَبِيدٌ أَوْ مَسْخُوطُونَ، فَإِنْ كَانَ قَبْل الْحُكْمِ تَثَبَّتَ فِي ذَلِكَ: وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِهِمْ فَلاَ يُرَدُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ(26/236)
أَنْ يَشْهَدَ عَدْلاَنِ: أَنَّهُمَا كَانَا عَبْدَيْنِ أَوْ مَسْخُوطَيْنِ قَال: وَلاَ يُقْبَل بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي سَرِقَةٍ، وَلاَ زِنًا، وَلاَ غَصْبٍ، وَلاَ تَلَصُّصٍ، وَلاَ مُشَاتَمَةٍ، وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ فِي الْمَال فِي السَّفَرِ لِلضَّرُورَةِ.
قَال ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَحَكَى ابْنُ حَبِيبٍ ذَلِكَ يَعْنِي شَهَادَةَ التَّوَسُّمِ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ خِلاَفُ ظَاهِرِ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرِوَايَتُهُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ، لَمْ يُجِزْ شَهَادَةَ الْغُرَبَاءِ دُونَ أَنْ تُعْرَفَ عَدَالَتُهُمْ. انْتَهَى.
ثُمَّ قَال ابْنُ فَرْحُونَ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْغُرَبَاءِ حَيْثُ لاَ تَكُونُ ضَرُورَةٌ مِثْل شَهَادَتِهِمْ فِي الْحَضَرِ (1)
أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ:
39 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ: لاَ يَحِل لِلشَّاهِدِ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ الشَّهَادَةَ إِذَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ (2) لأَِنَّ إِقَامَتَهَا فَرْضٌ، قَال تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} . (3)
أَمَّا إِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، وَكَانَ مُحْتَاجًا، وَكَانَ أَدَاؤُهَا يَسْتَدْعِي تَرْكَ عَمَلِهِ وَتَحَمُّل
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 5 - 6.
(2) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 12 / 6، الشرح الكبير 12 / 5، المغني 12 / 9، أدب القضاء لابن أبي الدم الشافعي 2 / 4.
(3) سورة الطلاق / 2.(26/237)
الْمَشَقَّةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى: عَدَمِ جَوَازِ أَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَيْهَا، لَكِنْ لَهُ أُجْرَةُ الرُّكُوبِ إِلَى مَوْضِعِ الأَْدَاءِ. (1) قَال تَعَالَى: {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} . (2)
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى: الْجَوَازِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ إِنْفَاقَ الإِْنْسَانِ عَلَى عِيَالِهِ فَرْضُ عَيْنٍ، وَالشَّهَادَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَلاَ يُشْتَغَل عَنْ فَرْضِ الْعَيْنِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا أَخَذَ الرِّزْقَ جَمَعَ بَيْنَ الأَْمْرَيْنِ. وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ وَهِيَ لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا أُجْرَةً كَمَا يَجُوزُ عَلَى كَتْبِ الْوَثِيقَةِ. (3)
تَعْدِيل الشُّهُودِ:
40 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الشَّاهِدِ، وَلاَ فِي اعْتِبَارِ الْعَدَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْحَاصِلَةِ بِالسُّؤَال وَالتَّزْكِيَةِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي الاِكْتِفَاءِ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ. (4)
وَفِي تَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَزْكِيَةٌ) .
تَحْلِيفُ الشَّاهِدِ الْيَمِينَ:
41 - قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: حُكِيَ عَنِ ابْنِ وَضَّاحٍ، وَقَاضِي الْجَمَاعَةِ بِقُرْطُبَةَ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ: أَنَّهُ حَلَّفَ شُهُودًا فِي تَرِكَةٍ " بِاللَّهِ إِنَّ مَا شَهِدُوا بِهِ
__________
(1) المراجع المذكورة، والدر المختار 4 / 370، وحاشية الدسوقي 4 / 199، والشرح الصغير 4 / 285.
(2) سورة البقرة / 282.
(3) المغني 12 / 19، والمهذب 2 / 325. -
(4) الهداية 3 / 118، فتح القدير 6 / 12، الفتاوى الهندية 3 / 527.(26/237)
لَحَقٌّ ". وَعَنِ ابْنِ وَضَّاحٍ أَنَّهُ قَال: أَرَى لِفَسَادِ النَّاسِ أَنْ يُحَلِّفَ الْحَاكِمُ الشُّهُودَ.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ. وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَحْلِيفَ الشَّاهِدَيْنِ إِذَا كَانَا مِنْ غَيْرِ أَهْل الْمِلَّةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ وَكَذَا. قَال ابْنُ عَبَّاسٍ بِتَحْلِيفِ الْمَرْأَةِ إِذَا شَهِدَتْ فِي الرَّضَاعِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.
قَال الْقَاضِي: لاَ يَحْلِفُ الشَّاهِدُ عَلَى أَصْلِنَا إِلاَّ فِي مَوْضِعَيْنِ وَذَكَرَ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، ثُمَّ قَال: (قَال شَيْخُنَا يَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ) هَذَانِ الْمَوْضِعَانِ قُبِل فِيهِمَا الْكَافِرُ وَالْمَرْأَةُ وَحْدَهَا لِلضَّرُورَةِ، فَقِيَاسُهُ أَنَّ كُل مَنْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لِلضَّرُورَةِ اسْتُحْلِفَ (قَال ابْنُ الْقَيِّمِ) : وَإِذَا كَانَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُفَرِّقَ الشُّهُودَ إِذَا ارْتَابَ بِهِمْ فَأَوْلَى أَنْ يُخَلِّفَهُمْ إِذَا ارْتَابَ بِهِمْ. (1)
الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ:
42 - قَدْ لاَ يَسْتَطِيعُ الشَّاهِدُ الْمَقْبُول الشَّهَادَةِ أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ بِنَفْسِهِ أَمَامَ الْقَضَاءِ، لِسَفَرٍ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ عُذْرٍ مِنَ الأَْعْذَارِ، فَيُشْهِدُ عَلَى شَهَادَتِهِ شَاهِدَيْنِ تَتَوَفَّرُ فِيهِمَا الصِّفَاتُ الَّتِي تُؤَهِّلُهُمَا لِلشَّهَادَةِ، وَيَطْلَبُ مِنْهُمَا تَحَمُّلَهَا وَالإِْدْلاَءَ بِهَا أَمَامَ الْقَضَاءِ، فَيَقُومُ هَذَانِ الشَّاهِدَانِ مَقَامَهُ، فِي نَقْل تِلْكَ الشَّهَادَةِ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بِلَفْظِهَا
__________
(1) الطرق الحكمية ص125.(26/238)
الْمَخْصُوصِ فِي التَّحَمُّل وَالأَْدَاءِ؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ فَلاَ تُقْبَل الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ إِلاَّ عِنْدَ تَعَذُّرِ شُهُودِ الأَْصْل بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَيَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ دَوَامَ تَعَذُّرِ شُهُودِ الأَْصْل إِلَى حِينِ صُدُورِ الْحُكْمِ، فَمَتَى أَمْكَنَتْ شَهَادَةُ الأُْصُول قَبْل الْحُكْمِ وُقِفَ الْحُكْمُ عَلَى سَمَاعِهَا، وَلَوْ بَعْدَ سَمَاعِ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ؛ لأَِنَّهُ قَدَرَ عَلَى الأَْصْل فَلاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْبَدَل.
وَمِمَّا يُجِيزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ أَنْ يَخَافَ الْمَوْتَ فَيَضِيعَ الْحَقُّ.
هَذَا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ مُتَبَايِنَةً فِيمَا يَجُوزُ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَمَا لاَ يَجُوزُ.
فَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ: إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ فِي سَائِرِ الأُْمُورِ مَالاً أَوْ عُقُوبَةً. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا: جَائِزَةٌ فِي كُل حَقٍّ لاَ يَسْقُطُ بِشُبْهَةٍ، فَلاَ تُقْبَل فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. (2)
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَإِنَّمَا قُلْنَا بِذَلِكَ اسْتِحْسَانًا.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَلَيْسَتْ حَقًّا
__________
(1) المدونة الكبرى 5 / 159، تبصرة الحكام (على هامش فتح العلي المالك) 1 / 353، والمهذب 2 / 339، ومنتهى الإرادات 3 / 560.
(2) الهداية 3 / 129، 130، الفتاوى الهندية 3 / 523، المغني 12 / 87، الشرح الكبير 12 / 102.(26/238)
لِلْمَشْهُودِ لَهُ وَالنِّيَابَةُ لاَ تُجْزِئُ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَيْهَا، إِذْ شَاهِدُ الأَْصْل قَدْ يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِمَرَضٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ بُعْدِ مَسَافَةٍ، فَلَوْ لَمْ تَجُزِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ أَدَّى إِلَى ضَيَاعِ الْحُقُوقِ، وَصَارَ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى: جَوَازِ تَحَمُّل الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا، وَإِلَى قَبُول الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهَا؛ لأَِنَّ الأَْصْل قَدْ يَتَعَذَّرُ؛ وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ حَقٌّ لاَزِمٌ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهَا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ؛ وَلأَِنَّهَا طَرِيقٌ يُظْهِرُ الْحَقَّ كَالإِْقْرَارِ فَيُشْهِدُ عَلَيْهَا، لَكِنَّهَا إِنَّمَا تُقْبَل فِي غَيْرِ عُقُوبَةٍ مُسْتَحَقَّةٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَغَيْرِ إِحْصَانٍ، كَالأَْقَارِيرِ، وَالْعُقُودِ، وَالنُّسُوخِ، وَالرَّضَاعِ، وَالْوِلاَدَةِ، وَعُيُوبِ النِّسَاءِ. سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَقُّ الآْدَمِيِّ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ، وَتُقْبَل فِي إِثْبَاتِ عُقُوبَةِ الآْدَمِيِّ عَلَى الْمَذْهَبِ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ. أَمَّا الْعُقُوبَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَلاَ تُقْبَل فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى الأَْظْهَرِ. (2)
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 238.
(2) مغني المحتاج 4 / 452، 453، وانظر مختصر المزني 5 / 258، المهذب 2 / 338، مغني المحتاج 4 / 453.(26/239)
46 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ، وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى شَهَادَةِ الشَّاهِدِ الثَّانِي، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ إِثْبَاتُ قَوْلٍ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ. خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ الشَّهَادَةَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ. (1)
وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدٍ، ثُمَّ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ الشَّاهِدِ الثَّانِي فِي الْقَضِيَّةِ نَفْسِهَا، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ. (2)
مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْل عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: " لاَ يَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إِلاَّ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ (3) .
وَالْقَوْل الثَّانِي: عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِكُلٍّ مِنَ الأَْصْلَيْنِ اثْنَانِ؛ لأَِنَّ شَهَادَتَهُمَا عَلَى وَاحِدٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ شَهَادَتِهِ، فَلاَ تَقُومُ مَقَامَ شَهَادَةِ غَيْرِهِ.
43 - وَلاَ يَصِحُّ تَحَمُّل شَهَادَةِ مَرْدُودِ الشَّهَادَةِ؛ لِسُقُوطِهَا.
__________
(1) المهذب 2 / 338، شرح منتهى الإرادات 3 / 560، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 237، 238، تبصرة الحكام 1 / 282.
(2) الهداية 3 / 130، المبسوط 16 / 138، فتاوى قاضيخان (مطبوعة على هامش الفتاوى الهندية) 2 / 485، المغني 12 / 95 - 96.
(3) قول علي رواه عبد الرزاق في المصنف (المصنف: 8 / 339 الحديث. 1545) وانظره في نصب الراية 4 / 87، والدراية 2 / 173، ضمن تخريج الحديث 835.(26/239)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لاَ يَصِحُّ تَحَمُّل النِّسْوَةِ لِلشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، لأَِنَّ شَهَادَةَ الْفَرْعِ تُثْبِتُ الأَْصْل لاَ مَا شَهِدَ بِهِ؛ وَلأَِنَّ التَّحَمُّل لَيْسَ بِمَالٍ وَلاَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَال، وَهُوَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال فَلَمْ يُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ كَالنِّكَاحِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِنَّ، فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَتُهُنَّ، إِنْ كَانَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَشْهَبُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ مُطْلَقًا، وَأَجَازَ أَصْبَغُ نَقْل امْرَأَتَيْنِ عَنِ امْرَأَتَيْنِ فِيمَا يَنْفَرِدْنَ بِهِ. قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: لاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَلاَ تُجْزِئُ فِيهِ النِّسَاءُ، وَلاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ، وَلَوْ كُنَّ أَلْفًا، إِلاَّ مَعَ رَجُلٍ؛ لأَِنَّ الشَّهَادَةَ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِرَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى صِحَّةِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ، حَيْثُ يُقْبَلْنَ فِي أَصْلٍ وَفَرْعٍ، وَفَرْعِ فَرْعٍ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ مَا يَشْهَدُ بِهِ الأُْصُول فَدَخَل فِيهِ النِّسَاءُ، فَيُقْبَل رَجُلاَنِ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَيُقْبَل رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى مِثْلِهِمْ أَوْ رَجُلَيْنِ أَصْلَيْنِ أَوْ فَرْعَيْنِ فِي الْمَال وَمَا يُقْصَدُ بِهِ، وَتُقْبَل امْرَأَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ فِيمَا تُقْبَل فِيهِ الْمَرْأَةُ. (1)
__________
(1) تبيين الحقائق 2 / 238، مغني المحتاج 4 / 454، المهذب 2 / 388، تبصرة الحكام / 283 ط: دار الكتب العلمية - لبنان، وشرح منتهى الإرادات 3 / 560، 561(26/240)
48 - وَإِذَا فَسَقَ الشَّاهِدُ الأَْصِيل أَوِ ارْتَدَّ، أَوْ نَشَأَتْ عِنْدَهُ عَدَاوَةٌ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ امْتَنَعَ الْقَاضِي مِنْ قَبُول شَهَادَةِ الْفَرْعِ؛ لِسُقُوطِ شَهَادَةِ الأَْصْل. (1) وَلَوْ حَدَثَ الْفِسْقُ أَوِ الرِّدَّةُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَقَبْل الْحُكْمِ امْتَنَعَ الْحُكْمُ.
الاِسْتِرْعَاءُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ:
44 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الاِسْتِرْعَاءُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَالاِسْتِرْعَاءُ هُوَ: طَلَبُ الْحِفْظِ، أَيْ: بِأَنْ يَقُول شَاهِدُ الأَْصْل لِشَاهِدِ الْفَرْعِ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي وَاحْفَظْهَا، فَلِلْفَرْعِ وَلِمَنْ سَمِعَهُ يَقُول ذَلِكَ، أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَلَوْ لَمْ يَخُصَّهُ بِالاِسْتِرْعَاءِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا سَمِعَ شَاهِدُ الْفَرْعِ الأَْصْل شَهَادَةَ الشَّاهِدِ الأَْصْل أَمَامَ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْعِهِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَيْضًا مَا إِذَا سَمِعَ الْفَرْعُ الأَْصْل يَذْكُرُ سَبَبَ الْحَقِّ بِأَنْ يَقُول: أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ أَلْفًا مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ كَقَرْضٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
__________
(1) انظر المبسوط 16 / 139، الفتاوى الهندية 3 / 252، وفتاوى قاضيخان 2 / 485، الفتاوى البزازية (على هامش الفتاوى الهندية) 5 / 295، تبصرة الحكام 1 / 354، ومغني المحتاج 4 / 454، وشرح منتهى الإرادات 3 / 560(26/240)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ؛ لأَِنَّ مَنْ سَمِعَ إِقْرَارَ غَيْرِهِ حَل لَهُ الشَّهَادَةُ وَإِنْ لَمْ يَقُل لَهُ اشْهَدْ. (1)
45 - وَيُؤَدِّي شَاهِدُ الْفَرْعِ شَهَادَتَهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَحَمَّلَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلاَ نَقْصٍ، فَإِنْ سَمِعَهُ يَشْهَدُ بِحَقٍّ مُضَافٍ إِلَى سَبَبٍ يُوجِبُ الْحَقَّ ذَكَرَهُ، وَإِنْ سَمِعَهُ يَشْهَدُ عِنْدَ الْحَاكِمِ ذَكَرَهُ، وَإِنْ أَشْهَدَهُ شَاهِدُ الأَْصْل عَلَى شَهَادَتِهِ أَوِ اسْتَرْعَاهُ، قَال: أَشْهَدُ أَنَّ فُلاَنًا يَشْهَدُ أَنَّ لِفُلاَنٍ عَلَى فُلاَنٍ كَذَا وَأَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ وَهَكَذَا.
وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُومَ شَاهِدُ الْفَرْعِ بِتَعْدِيل شَاهِدِ الأَْصْل، وَيَقُومُ الْقَاضِي بِالْبَحْثِ عَنِ الْعَدَالَةِ، فَإِنْ عَدَّلَهُ الْفَرْعُ وَهُوَ أَهْلٌ لِلتَّعْدِيل جَازَ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْفَرْعِ مَا لَمْ يُعَدِّل شَاهِدَ الأَْصْل، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ عَدَالَتَهُ لَمْ يَنْقُل الشَّهَادَةَ عَنْهُ. (2)
وَإِنْ أَنْكَرَ شُهُودُ الأَْصْل الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَل شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ؛ لأَِنَّ التَّحْمِيل لَمْ يَثْبُتْ، لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ. (3)
__________
(1) الهداية 2 / 130، والمهذب 2 / 339، وتبصرة الحكام 1 / 353
(2) الهداية 3 / 131، وتبيين الحقائق 4 / 240، وتبصرة الحكام 1 / 283، ومغني المحتاج 4 / 456، وشرح منتهى الإرادات 3 / 560
(3) الهداية 3 / 131، الفتاوى الهندية 3 / 525، وشرح منتهى الإرادات 3 / 561(26/241)
46 - أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْقَضَاءَ بِشَهَادَةِ الاِسْتِرْعَاءِ عَلَى بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا الإِْنْسَانُ اضْطِرَارًا، كَالطَّلاَقِ وَالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ، وَالتَّزْوِيجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَصُورَتُهَا أَنْ يَكْتُبَ الْمُسْتَرْعَى كِتَابًا سِرًّا؛ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَل هَذَا التَّصَرُّفَ لأَِمْرٍ يَتَخَوَّفُهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ، وَأَنَّهُ يَرْجِعُ فِيمَا عَقَدَ عِنْدَ أَمْنِهِ مِمَّا يَتَخَوَّفُهُ وَيَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ شُهُودُ الاِسْتِرْعَاءِ. (1) وَقَدْ أَوْرَدَ صَاحِبُ تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ أَمْثِلَةً لِمَا يَقُولُهُ الْمُسْتَرْعِي، فِي وَثِيقَةِ الاِسْتِرْعَاءِ فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ الاِسْتِرْعَاءِ. فَقَال نَقْلاً عَنِ ابْنِ الْعَطَّارِ: يُصَدَّقُ الْمُسْتَرْعَى فِي الْحَبْسِ (يَعْنِي الْوَقْفَ) فِيمَا يَذْكُرُهُ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَتَوَقَّعُهَا وَيَكْتُبُ فِي ذَلِكَ: " أَشْهَدَ فُلاَنٌ شُهُودَ هَذَا الْكِتَابِ بِشَهَادَةِ اسْتِرْعَاءٍ، وَاسْتِخْفَاءٍ لِلشَّهَادَةِ: أَنَّهُ مَتَى عَقَدَ فِي دَارِهِ بِمَوْضِعِ كَذَا تَحْبِيسًا عَلَى بَنِيهِ أَوْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ لأَِمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى مَالِهِ الْمَذْكُورِ، وَلِيُمْسِكَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَرْجِعَ فِيمَا عَقَدَ فِيهِ عِنْدَ أَمْنِهِ مِمَّا تَخَوَّفَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِمَا عَقَدَهُ فِيهِ وَجْهَ الْقُرْبَةِ، وَلاَ وَجْهَ الْحَبْسِ بَل لِمَا يَخْشَاهُ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لِمَا يَعْقِدُهُ فِيهِ مِنَ التَّحْبِيسِ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي تَارِيخِ كَذَا وَكَذَا. (2)
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 2
(2) المصدر السابق(26/241)
وَمِمَّا ذَكَرُوهُ أَيْضًا أَنَّهُ إِذَا خَطَبَ مَنْ هُوَ قَاهِرٌ لِشَخْصٍ بَعْضَ بَنَاتِهِ فَأَنْكَحَهُ الْمَخْطُوبُ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدَ شُهُودَ الاِسْتِرْعَاءِ سِرًّا: أَنِّي إِنَّمَا أَفْعَلُهُ خَوْفًا مِنْهُ وَهُوَ مِمَّنْ يُخَافُ عَدَاوَتُهُ.
وَأَنَّهُ إِنْ شَاءَ اخْتَارَهَا لِنَفْسِهِ لِغَيْرِ نِكَاحٍ فَأَنْكَحَهُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ نِكَاحٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا.
وَإِذَا بَنَى ظَالِمٌ أَوْ مَنْ يُخَافُ شَرُّهُ غُرْفَةً مُحْدَثَةً بِإِزَاءِ دَارِ رَجُلٍ وَفَتَحَ بَابًا يَطَّلِعُ مِنْهُ عَلَى مَا فِي دَارِهِ عَلَى وَجْهِ الاِسْتِطَالَةِ لِقُدْرَتِهِ، وَجَاهِهِ، فَيُشْهِدُ الرَّجُل أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْهُ لِخَوْفِهِ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَضُرَّهُ أَوْ يُؤْذِيَهُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِحَقِّهِ مَتَى أَمْكَنَهُ، وَتَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ لِمَعْرِفَتِهِمْ وَأَنَّ الْمُحْدِثَ لِذَلِكَ مِمَّنْ يُتَّقَى شَرُّهُ، وَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ مَتَى قَامَ بِطَلَبِ حَقِّهِ. (1)
وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ: " مَنْ لَهُ دَارٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ فَبَاعَ أَخُوهُ جَمِيعَهَا مِمَّنْ يَعْلَمُ اشْتِرَاكَهُمَا فِيهَا وَلَهُ سُلْطَانٌ، وَقُدْرَةٌ، وَخَافَ ضَرَرَهُ إِذَا تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ، فَاسْتَرْعَى أَنَّ سُكُوتَهُ عَنِ الْكَلاَمِ فِي نَصِيبِهِ وَفِي الشُّفْعَةِ فِي نَصِيبِ أَخِيهِ لِمَا يَتَوَقَّعُهُ مِنْ تَحَامُل الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ، وَإِضْرَارِهِ بِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ تَارِكٍ لِطَلَبِهِ مَتَى أَمْكَنَهُ. فَإِذَا ذَهَبَتِ التَّقِيَّةُ، وَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ بِهَذِهِ الْوَثِيقَةِ أَثْبَتَهَا، وَأَثْبَتَ الْمِلْكَ،
__________
(1) المصدر السابق(26/242)
وَالاِشْتِرَاكَ، وَأَعْذَرَ إِلَى أَخِيهِ وَإِلَى الْمُشْتَرِي، قُضِيَ لَهُ بِحَقِّهِ وَبِالشُّفْعَةِ. (1)
مَا يَجُوزُ الاِسْتِرْعَاءُ فِيهِ:
47 - قَال ابْنُ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ الاِسْتِرْعَاءُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ بَابِ التَّطَوُّعِ: كَالطَّلاَقِ، وَالتَّحْبِيسِ وَالْهِبَةِ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمِ السَّبَبُ إِلاَّ بِقَوْلِهِ، مِثْل أَنْ يُشْهِدَ أَنِّي إِنْ طَلَّقْتُ فَإِنِّي أُطَلِّقُ خَوْفًا مِنْ أَمْرٍ أَتَوَقَّعُهُ مِنْ جِهَةِ كَذَا، أَوْ حَلَفَ بِالطَّلاَقِ وَكَانَ أَشْهَدَ أَنِّي إِنْ حَلَفْتُ بِالطَّلاَقِ فَإِنَّمَا هُوَ لأَِجْل إِكْرَاهٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا وَمَا ذَكَرْنَاهُ مَعَهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا مَعْرِفَةُ الشُّهُودِ وَالسَّبَبِ الْمَذْكُورِ. وَلاَ يَجُوزُ الاِسْتِرْعَاءُ فِي الْبُيُوعِ مِثْل أَنْ يُشْهِدَ قَبْل الْبَيْعِ أَنَّهُ رَاجِعٌ فِي الْبَيْعِ وَأَنَّ بَيْعَهُ لأَِمْرٍ يَتَوَقَّعُهُ؛ لأَِنَّ الْمُبَايَعَةَ خِلاَفُ مَا تَطَوَّعَ بِهِ. وَقَدْ أَخَذَ الْبَائِعُ فِيهِ ثَمَنًا، وَفِي ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمُبْتَاعِ إِلاَّ أَنْ يَعْرِفَ الشُّهُودُ الإِْكْرَاهَ عَلَى الْبَيْعِ أَوِ الإِْخَافَةَ فَيَجُوزُ الاِسْتِرْعَاءُ إِذَا انْعَقَدَ قَبْل الْبَيْعِ وَتَضَمَّنَ الْعَقْدُ شَهَادَةَ مَنْ يَعْرِفُ الإِْخَافَةَ وَالتَّوَقُّعَ الَّذِي ذَكَرَهُ. (2)
الرُّجُوعُ عَنِ الشَّهَادَةِ:
48 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ إِنْ
__________
(1) المصدر السابق
(2) تبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك 1 / 336 ط المكتبة التجارية الكبرى(26/242)
رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا، فَلاَ يَخْلُو رُجُوعُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَبْل قَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا قَبْل الْحُكْمِ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُمَا، لأَِنَّ الْحَقَّ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَضَاءِ، وَالْقَاضِيَ لاَ يَقْضِي بِكَلاَمٍ مُتَنَاقِضٍ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِمَا، لأَِنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَا شَيْئًا عَلَى الْمُدَّعِي، وَلاَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
49 - وَإِنْ رَجَعَا بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْل التَّنْفِيذِ: فَإِنْ كَانَ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ لَمْ يَجُزِ الاِسْتِيفَاءُ وَالتَّنْفِيذُ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَالرُّجُوعُ شُبْهَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَلَمْ يَجُزِ الاِسْتِيفَاءُ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ. (1)
وَإِنْ كَانَ مَالاً أَوْ عَقْدًا اسْتَوْفَى الْمَال لأَِنَّ الْقَضَاءَ قَدْ تَمَّ، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ حَتَّى يَتَأَثَّرَ بِالرُّجُوعِ؛ فَلاَ يُنْتَقَضُ الْحُكْمُ. وَعَلَى الشُّهُودِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ لإِِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الضَّمَانِ، وَلاَ يَرْجِعُونَ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ. (2)
50 - أَمَّا إِنْ رَجَعَ الشُّهُودُ بَعْدَ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ: فَإِنَّهُ لاَ يُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ رَدُّ مَا أَخَذَهُ، لأَِنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَا
__________
(1) الدر المختار 4 / 396، ومنح الجليل 4 / 288، والمغني 12 / 137، والمهذب 2 / 341
(2) المهذب 2 / 341، ومغني المحتاج 4 / 456، الهداية 3 / 132، والفتاوى الهندية 3 / 535، الشرح الكبير 12 / 113، الخرشي 4 / 220، شرح منح الجليل 4 / 284، 289 - 290(26/243)
صَادِقَيْنِ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَا كَاذِبَيْنِ، وَقَدِ اقْتَرَنَ الْحُكْمُ وَالاِسْتِيفَاءُ بِأَحَدِ الاِحْتِمَالَيْنِ؛ فَلاَ يُنْقَضُ بِرُجُوعٍ مُحْتَمَلٍ، (1) وَعَلَى الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَضْمَنَا مَا أَتْلَفَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا. (2)
فَإِنْ كَانَ مَا شَهِدَا بِهِ يُوجِبُ الْقَتْل، أَوِ الْحَدَّ، أَوِ الْقِصَاصَ: نُظِرَ، فَإِنْ قَالاَ تَعَمَّدْنَا لِيُقْتَل بِشَهَادَتِنَا: وَجَبَ عَلَيْهِمَا الْقَوَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَبِهِ قَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالأَْوْزَاعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ شُبْرُمَةَ (3) .
لِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ فَقَطَعَهُ، ثُمَّ أَتَيَاهُ بِرَجُلٍ آخَرَ فَقَالاَ: إِنَّا أَخْطَأْنَا بِالأَْوَّل، وَهَذَا السَّارِقُ، فَأَبْطَل شَهَادَتَهُمَا عَلَى الآْخَرِ، وَضَمَّنَهُمَا دِيَةَ يَدِ الأَْوَّل، وَقَال: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا (4) .
وَلأَِنَّهُمَا أَلْجَآهُ إِلَى قَتْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَزِمَهُمَا
__________
(1) المهذب 2 / 341، المغني 12 / 138
(2) الهداية 3 / 132
(3) حاشية الدسوقي 4 / 207، المهذب 2 / 341، المغني 12 / 136، 138، الشرح الكبير 12 / 117
(4) خبر الشعبي أن رجلين شهدا عند علي. . . . . رواه الإمام الشافعي (الأم: 7 / 49) والطحاوي (اختلاف الفقهاء: 216) ومحمد بن الحسن في كتاب الرجوع عن الشهادة (المبسوط 16 / 178) والبيهقي (السنن الكبرى 10 / 251)(26/243)
الْقَوَدُ كَمَا لَوْ أَكْرَهَاهُ عَلَى قَتْلِهِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ قَوَدَ عَلَيْهِمَا، لأَِنَّهُمَا لَمْ يُبَاشِرَا الإِْتْلاَفَ، فَأَشْبَهَا حَافِرَ الْبِئْرِ، وَنَاصِبَ السِّكِّينِ، إِذَا تَلِفَ بِهِمَا شَيْءٌ، وَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ. (2)
وَإِنْ قَال الشُّهُودُ: أَخْطَأْنَا، أَوْ جَهِلْنَا كَانَتْ عَلَيْهِمُ الدِّيَةُ فِي أَمْوَالِهِمْ مُخَفَّفَةً مُؤَجَّلَةً، وَلاَ تَتَحَمَّل الْعَاقِلَةُ عَنْهُمَا شَيْئًا؛ لأَِنَّ الْعَاقِلَةَ لاَ تَحْمِل الاِعْتِرَافَ.
وَإِنْ قَالُوا: تَعَمَّدْنَا الشَّهَادَةَ وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْتَل وَهُمْ يَجْهَلُونَ قَتْلَهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَمْدِ، وَمُؤَجَّلَةٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَطَأِ.
فَإِنْ قَالُوا: أَخْطَأْنَا، وَجَبَتْ دِيَةٌ مُخَفَّفَةٌ؛ لأَِنَّهُ خَطَأٌ وَلاَ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ لأَِنَّهَا وَجَبَتْ بِاعْتِرَافِهِمْ.
فَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ تَعَمَّدَ وَبَعْضَهُمْ أَخْطَأَ وَجَبَ عَلَى الْمُخْطِئِ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ الْمُخَفَّفَةِ، وَعَلَى الْمُتَعَمِّدِ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْقَوَدُ لِمُشَارَكَةِ الْمُخْطِئِ.
__________
(1) المهذب 2 / 341
(2) شرح أدب القاضي للحصاف تأليف ابن مازة 4 / 508 الفقرة: 1559، وبدائع الصنائع 9 / 4066، الفتاوى الهندية 3 / 555، شرح منح الجليل 4 / 289 - 290(26/244)
وَإِنْ اخْتَلَفُوا، فَقَال بَعْضُهُمْ: تَعَمَّدْنَا كُلُّنَا، وَقَال بَعْضُهُمْ أَخْطَأْنَا كُلُّنَا، وَجَبَ عَلَى الْمُقِرِّ بِعَمْدِ الْجَمِيعِ الْقَوَدُ، وَعَلَى الْمُقِرِّ بِخَطَأِ الْجَمِيعِ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ الْمُخَفَّفَةِ. (1)
(رُجُوعُ بَعْضِ الشُّهُودِ:
51 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (2) : إِلَى أَنَّهُ إِذَا رَجَعَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بَعْدَ الْحُكْمِ وَبَعْدَ اسْتِيفَائِهِ فِي شَهَادَةٍ نِصَابُهَا شَاهِدَانِ ضَمِنَ نِصْفَ الْمَال أَوْ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَالْعِبْرَةُ لِمَنْ بَقِيَ لاَ لِمَنْ رَجَعَ.
وَلَوْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ أَصْل أَرْبَعَةِ شُهُودٍ فِي شَهَادَةٍ نِصَابُهَا شَاهِدَانِ أَيْضًا، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ قَائِمًا.
وَكَذَا لَوْ رَجَعَ اثْنَانِ مِنْهُمْ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمَا، لِبَقَاءِ النِّصَابِ.
وَلَوْ رَجَعَ ثَلاَثَةٌ مِنْهُمْ فَعَلَيْهِمْ نِصْفُ الْمَال، لِبَقَاءِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ شَطْرُ الشَّهَادَةِ فَيَتَحَمَّلُونَ شَطْرَ الْمَال.
وَلَوْ رَجَعَتِ امْرَأَةٌ وَكَانَ النِّصَابُ رَجُلاً وَامْرَأَتَيْنِ غَرِمَتِ الرَّاجِعَةُ رُبُعَ الْمَال.
__________
(1) المهذب 2 / 341
(2) بدائع الصنائع 9 / 4072 - 4073، تبيين الحقائق 4 / 245، الفتاوى الهندية 3 / 525، شرح منح الجليل 4 / 292، الخرشي 4 / 221، الهداية 3 / 133، الجمل على شرح المنهج 5 / 406 - 407، نهاية المحتاج 8 / 313(26/244)
وَلَوْ شَهِدَ عَشْرُ نِسْوَةٍ وَرَجُلٌ وَاحِدٌ، فَرَجَعَ ثَمَانٍ مِنْهُنَّ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِنَّ، لِبَقَاءِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ.
وَلَوْ رَجَعَ تِسْعٌ مِنْهُنَّ غَرِمْنَ رُبُعَ الْمَال. .
وَهَكَذَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ كُل مَوْضِعٍ وَجَبَ الضَّمَانُ فِيهِ عَلَى الشُّهُودِ بِالرُّجُوعِ وَجَبَ أَنْ يُوَزَّعَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِهِمْ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا.
قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْهُ: إِنَّهُ إِذَا شَهِدَ بِشَهَادَةٍ ثُمَّ رَجَعَ وَقَدْ أَتْلَفَ مَالاً فَإِنَّهُ ضَامِنٌ بِقَدْرِ مَا كَانُوا فِي الشَّهَادَةِ، فَإِنْ كَانُوا اثْنَيْنِ فَعَلَيْهِ النِّصْفُ، وَإِنْ كَانُوا ثَلاَثَةً فَعَلَيْهِ الثُّلُثُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانُوا عَشَرَةً فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ، وَسَوَاءٌ رَجَعَ وَحْدَهُ أَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا، وَسَوَاءٌ رَجَعَ الزَّائِدُ عَنِ الْقَدْرِ الْكَافِي فِي الشَّهَادَةِ أَوْ مَنْ لَيْسَ بِزَائِدٍ، فَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالْقِصَاصِ، فَرَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَقَال: عَمَدْنَا إِلَى قَتْلِهِ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ قَال: أَخْطَأْنَا فَعَلَيْهِ رُبُعُ الدِّيَةِ، وَإِنْ رَجَعَ اثْنَانِ فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ، أَوْ نِصْفُ الدِّيَةِ.
وَإِنْ شَهِدَ سِتَّةٌ بِالزِّنَى عَلَى مُحْصَنٍ فَرُجِمَ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعَ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوْ سُدُسُ الدِّيَةِ، وَإِنْ رَجَعَ اثْنَانِ فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ أَوْ ثُلُثُ الدِّيَةِ. (1)
__________
(1) المغني 12 / 144، الشرح الكبير 12 / 120(26/245)
الاِخْتِلاَفُ فِي الشَّهَادَةِ:
52 - الشَّهَادَةُ إِذَا وَافَقَتِ الدَّعْوَى قُبِلَتْ، وَإِنْ خَالَفَتْهَا لَمْ تُقْبَل؛ لأَِنَّ تَقَدُّمَ الدَّعْوَى فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ شَرْطُ قَبُول الشَّهَادَةِ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِيمَا يُوَافِقُهَا وَانْعَدَمَتْ فِيمَا يُخَالِفُهَا.
وَيَنْبَغِي اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لِتَكْمُل الشَّهَادَةُ.
فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ دِينَارًا، وَشَهِدَ الآْخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ ثَوْبًا: فَلاَ تَكْمُل الشَّهَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ. (1)
53 - وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَذَهَبَ صَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِلَى أَنَّ الاِتِّفَاقَ فِي الْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ. (2)
فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ وَالآْخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَمْ تُقْبَل الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ، لأَِنَّهُمَا اخْتَلَفَا لَفْظًا، وَذَلِكَ يَدُل عَلَى اخْتِلاَفِ الْمَعْنَى لأَِنَّهُ يُسْتَفَادُ بِاللَّفْظِ، وَهَذَا لأَِنَّ الأَْلْفَ لاَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الأَْلْفَيْنِ، بَل هُمَا جُمْلَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ فَحَصَل عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ، فَصَارَ كَمَا إِذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَال. (3)
__________
(1) المغني 12 / 131
(2) الهداية 3 / 136، تبيين الحقائق 4 / 229، الفتاوى الهندية 3 / 503
(3) الهداية 3 / 136(26/245)
وَعِنْدَهُمَا تُقْبَل عَلَى الأَْلْفِ إِذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الأَْلْفَيْنِ.
وَهُوَ رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. (1)
لأَِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الأَْلْفِ، وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالزِّيَادَةِ فَيَثْبُتُ مَا اجْتَمَعَا عَلَيْهِ دُونَ مَا تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُهُمَا، فَصَارَ كَالأَْلْفِ وَالأَْلْفِ وَالْخَمْسِمِائَةِ.
أَمَّا إِذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالآْخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ: قُبِلَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى الأَْلْفِ عِنْدَ الْجَمِيعِ حَتَّى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاِتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهَا لَفْظًا وَمَعْنًى؛ لأَِنَّ الأَْلْفَ وَالْخَمْسَمِائَةِ جُمْلَتَانِ عُطِفَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى وَالْعَطْفُ يُقَرِّرُ الأَْوَّل. (2)
54 - وَمَتَى كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلٍ فَاخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي زَمَنِهِ، أَوْ مَكَانِهِ، أَوْ صِفَةٍ لَهُ تَدُل عَلَى تَغَايُرِ الْفِعْلَيْنِ لَمْ تَكْمُل شَهَادَتُهُمَا.
مِثْل أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ دِينَارًا يَوْمَ السَّبْتِ، وَيَشْهَدَ الآْخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ دِينَارًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ بِدِمَشْقَ، وَيَشْهَدَ الآْخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ بِمِصْرَ، أَوْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ ثَوْبًا أَبْيَضَ وَيَشْهَدَ الآْخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ ثَوْبًا أَسْوَدَ: فَلاَ تَكْمُل
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 345، المهذب 2 / 339، والشرح الكبير 12 / 26
(2) الهداية 2 / 137(26/246)
الشَّهَادَةُ؛ لأَِنَّ كُل فِعْلٍ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ شَاهِدَانِ. (1)
تَعَارُضُ الشَّهَادَاتِ:
55 - قَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الْخَصْمَيْنِ مُدَّعِيًا وَيُقِيمُ عَلَى دَعْوَاهُ بَيِّنَةً (شَهَادَةً) كَامِلَةً، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ أَوْ فِي مِلْكٍ مُقَيَّدٍ بِذِكْرِ سَبَبِ التَّمَلُّكِ.
فَإِنْ كَانَتَا فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ، لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ سَبَبُ التَّمَلُّكِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الدَّعْوَى تَارِيخًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمُدَّعَى بِهِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا أَوْ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا أَوْ فِي يَدِهِمَا مَعًا.
56 - أ - فَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا: فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ (2) عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ (3) لِقَوْلِهِ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. (4)
وَلأَِنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ وَذُو الْيَدِ مُدَّعًى عَلَيْهِ، فَجَعَل جِنْسَ الْبَيِّنَةِ
__________
(1) المغني 12 / 131
(2) ذو اليد: هو الذي وضع يده على عين بالفعل أو الذي ثبت تصرفه تصرف الملاك. والخارج هنا هو المدعي، أو هو البريء عن وضع اليد، والتصرف على الوجه المشروع - كما في المجلة (م 1757)
(3) الهداية 3 / 157، الإختيار لتعليل المختار 2 / 116، 117، ومجلة الأحكام العدلية المادة (1757 و 1679، 1680) ، المغني 12 / 167، 168.
(4) الحديث تقدم تخريجه ف6(26/246)
فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَهُوَ الَّذِي يَدَّعِي مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْخَارِجُ، فَتُقْبَل بَيِّنَتُهُ وَتُرَدُّ بَيِّنَةُ الْيَدِ؛ وَلأَِنَّهَا أَكْثَرُ إِثْبَاتًا، لأَِنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْخَارِجِ، وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ لاَ تُثْبِتُهُ، لأَِنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ لَهُ بِالْيَدِ، وَإِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ إِثْبَاتًا كَانَتْ أَقْوَى.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (1) وَالشَّافِعِيَّةُ (2) : إِلَى تَرْجِيحِ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ؛ لأَِنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَانِ، فَتَبْقَى الْيَدُ دَلِيلاً عَلَى الْمِلْكِ، وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلاَنِ فِي دَابَّةٍ أَوْ بَعِيرٍ، فَأَقَامَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهَا لَهُ نَتْجُهَا، فَقَضَى بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ. (3)
57 - ب - أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا:
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (4) إِلَى أَنَّهُ يُنْظَرُ: إِنْ: لَمْ يُؤَرِّخَا وَقْتًا: قُضِيَ بِالشَّيْءِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ، وَكَذَا إِذَا أَرَّخَا وَقْتًا بِعَيْنِهِ. وَإِذَا أُرِّخَتْ إِحْدَاهُمَا تَارِيخًا أَسْبَقَ مِنَ الثَّانِيَةِ: فَالأَْسْبَقُ أَوْلَى، لأَِنَّهُمَا يُعْتَبَرَانِ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 309، والشرح الصغير 4 / 307، والمغني 12 / 168
(2) المهذب 2 / 312، مختصر المزني 5 / 261
(3) حديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان في دابة أو بعير. . . " أخرجه الدارقطني (4 / 209 - ط دار المحاسن) من حديث جابر، وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (4 / 210 - ط شركة الطباعة الفنية)
(4) الاختيار2 / 118(26/247)
خَارِجَيْنِ، لِوُجُودِهَا عِنْدَ غَيْرِهِمَا، فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِمَا وَصْفُ (الْمُدَّعِي) فَتُسْمَعُ بَيِّنَتُهُمَا، وَيُحْكَمُ لِلأَْسْبَقِ؛ لأَِنَّ الأَْسْبَقَ يُثْبِتُ الْمِلْكِيَّةَ فِي وَقْتٍ لاَ يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: إِنْ تَعَذَّرَ تَرْجِيحُ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِوَجْهٍ مِنَ الْمُرَجِّحَاتِ، وَالْحَال؛ أَنَّ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا: سَقَطَتَا؛ لِتَعَارُضِهِمَا، وَبَقِيَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ بِيَدِ حَائِزِهِ. وَفِي ذَلِكَ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا عَيْنًا وَهِيَ فِي يَدِ ثَالِثٍ، وَهُوَ مُنْكِرٌ وَلَمْ يَنْسِبْهَا لأَِحَدِهِمَا، وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، وَكَانَتَا مُطَلَّقَتِي التَّارِيخِ أَوْ مُتَّفِقَتَيْهِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا مُطْلَقَةً وَالأُْخْرَى مُؤَرَّخَةً: سَقَطَتِ الْبَيِّنَتَانِ، لِتَنَاقُضِ مُوجِبِيهِمَا وَلاَ مُرَجِّحَ، وَيَحْلِفُ صَاحِبُ الْيَدِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا يَمِينًا.
وَفِي قَوْلٍ: تُسْتَعْمَل الْبَيِّنَتَانِ، وَتُنْزَعُ الْعَيْنُ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ، وَعَلَى هَذَا تُقْسَمُ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ مُنَاصَفَةً فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، وَيُرَجَّحُ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: تُوقَفُ حَتَّى يَبِينَ الأَْمْرُ أَوْ يَصْطَلِحَا عَلَى شَيْءٍ.
(2) وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَنْكَرَ الثَّالِثُ
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 309
(2) مغني المحتاج 4 / 480(26/247)
دَعْوَى الْمُدَّعِيَيْنِ، فَقَال: لَيْسَتْ لَهُمَا وَلاَ لأَِحَدِهِمَا: أُقْرِعَ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ، وَإِنْ كَانَ لأَِحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ: حُكِمَ لَهُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنَ الْمُدَّعِيَيْنِ بَيِّنَةٌ: تَعَارَضَتَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي عَدَمِ الْيَدِ، فَتَسْقُطَانِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ الْعَمَل بِإِحْدَاهُمَا. (1)
58 - ج - أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدِهِمَا مَعًا:
فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (2) إِلَى التَّفْصِيل:
فَإِنْ لَمْ تُؤَرَّخَا تَارِيخًا، وَكَذَا إِذَا أُرِّخَتَا تَارِيخًا مُعَيَّنًا وَكَانَ تَارِيخُهُمَا سَوَاءً: قُضِيَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ الآْخَرِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ بِالنِّسْبَةِ لِهَذَا النِّصْفِ خَارِجٌ فَهُوَ مُدَّعٍ وَالْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي.
وَإِنْ أُرِّخَتْ إِحْدَاهُمَا دُونَ الأُْخْرَى: قُضِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلاَ عِبْرَةَ بِالتَّارِيخِ لِلاِحْتِمَال، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ لِصَاحِبِ التَّارِيخِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ فِي أَيْدِيهِمَا كَمَا كَانَتْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهُوَ تَسَاقُطُ الْبَيِّنَتَيْنِ، إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِهَا مِنَ الآْخَرِ، وَقِيل: تُجْعَل بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْل الْقِسْمَةِ،
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 526، 527.
(2) انظر المصادر السابقة، وانظر نهاية المحتاج 8 / 339، ومغني المحتاج 4 / 480.(26/248)
وَلاَ يَجِيءُ الْقَوْل بِالْوَقْفِ، إِذْ لاَ مَعْنَى لَهُ، وَفِي الْقُرْعَةِ وَجْهَانِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الْمُتَنَازِعَيْنِ إِنْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ وَتَسَاوَتِ الْبَيِّنَتَانِ مِنْ كُل وَجْهٍ: تَعَارَضَتَا وَتَسَاقَطَتَا؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَنْفِي مَا تُثْبِتُهُ الأُْخْرَى، فَلاَ يُمْكِنُ الْعَمَل بِهِمَا، وَلاَ بِإِحْدَاهُمَا فَتَتَسَاقَطَانِ، وَيَصِيرُ الْمُتَنَازِعَانِ كَمَنْ لاَ بَيِّنَةَ لَهُ، فَيَتَحَالَفَانِ، وَيَتَنَاصَفَانِ مَا بِأَيْدِيهِمَا. (1)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى تَرْجِيحِ إِحْدَاهُمَا بِزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ فِي الْبَيِّنَةِ الأَْصْلِيَّةِ لاَ الْمُزَكِّيَةِ، وَفِي رَأْيِ بَعْضِهِمْ تُرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ إِذَا أَفَادَتِ الْكَثْرَةُ الْعِلْمَ، بِحَيْثُ تَكُونُ الْكَثْرَةُ جَمْعًا يَسْتَحِيل تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ.
59 - وَإِنْ كَانَتَا فِي مِلْكٍ مُقَيَّدٍ بِسَبَبِهِ:
وَذَلِكَ بِأَنْ يُذْكَرَ الْمِلْكُ عَنْ طَرِيقِ الإِْرْثِ مَثَلاً أَوْ عَنْ طَرِيقِ الشِّرَاءِ أَوِ النِّتَاجِ.
فَفِي الإِْرْثِ يُقْضَى بِهِ لِلْخَارِجِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا أَسْبَقَ، فَيُقْضَى بِهِ لِلأَْسْبَقِ.
أَمَّا إِذَا كَانَا خَارِجَيْنِ، بِأَنْ كَانَ الشَّيْءُ عِنْدَ غَيْرِهِمَا: فَيُقْسَمُ الشَّيْءُ بَيْنَهُمَا، أَوْ يُقْضَى بِهِ لِلأَْسْبَقِ إِذَا ذَكَرَا تَارِيخًا.
وَفِي الشِّرَاءِ: إِذَا ادَّعَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 523(26/248)
الشِّرَاءَ مِنْ صَاحِبِهِ وَلاَ تَارِيخَ لَهُمَا، وَكَذَا إِنْ أَرَّخَا وَتَارِيخُهُمَا سَوَاءٌ، تَعَارَضَتَا وَسَقَطَتَا، وَيُتْرَكُ الشَّيْءُ لِلَّذِي فِي يَدِهِ. (1)
أَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ: فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ، وَإِذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ شَخْصٍ آخَرَ يُقْضَى لَهُمَا بِالشَّيْءِ نِصْفَيْنِ.
وَفِي النِّتَاجِ: بِأَنْ يَذْكُرَ أَنَّ هَذِهِ النَّاقَةَ نَتَجَتْ عِنْدَهُ، أَيْ: وَلَدَتْ فِي مِلْكِهِ، فَيَكُونُ صَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى إِذَا لَمْ يُؤَرِّخَا، أَوْ أَرَّخَا وَقْتًا وَاحِدًا؛ لأَِنَّ النِّتَاجَ لاَ يَتَكَرَّرُ.
لِمَا رُوِيَ: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي نَاقَةٍ، فَقَال. كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا: نَتَجَتْ هَذِهِ النَّاقَةُ عِنْدِي. وَأَقَامَا بَيِّنَةً فَقَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ. (2)
أَمَّا مَا يَتَكَرَّرُ سَبَبُهُ، كَالْبِنَاءِ، وَالنَّسْجِ، وَالصُّنْعِ، وَالْغَرْسِ: فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى. أَمَّا إِذَا ذَكَرَ أَحَدُهُمَا الْمِلْكَ وَالآْخَرُ النِّتَاجَ: فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى لأَِنَّهَا تُثْبِتُ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ.
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 309
(2) حديث أن رجلين اختصما في ناقة. . . رواه الدارقطني من حديث جابر (سنن الدارقطني 4 / 209 الحديث 21) ، والبيهقي (السنن الكبرى 10 / 256) ، وانظر الدر المختار ورد المحتار (4 / 438 ـ 440) ، ومجلة الأحكام العدلية المادة 1758، وانظر نهاية المحتاج 8 / 339، ومصطلح (تعارض ف: 9) ، والمغني 12 / 187(26/249)
وَجَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ مَا يَلِي:
أ - إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الشَّخْصَيْنِ الْمِلْكَ بِالاِسْتِقْلاَل وَادَّعَى الآْخَرُ الْمِلْكَ بِالاِشْتِرَاكِ فِي مَالٍ، وَالْحَال أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَصَرِّفٌ أَيْ ذُو يَدٍ: فَبَيِّنَةُ الاِسْتِقْلاَل أَوْلَى.
ب - تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ التَّمْلِيكِ عَلَى بَيِّنَةِ الْعَارِيَّةُ.
ج - تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْبَيْعِ عَلَى بَيِّنَةِ الْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَالإِْجَارَةِ وَتُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الإِْجَارَةِ عَلَى بَيِّنَةِ الرَّهْنِ.
د - تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الصِّحَّةِ عَلَى بَيِّنَةِ مَرَضِ الْمَوْتِ.
هـ - تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْعَقْل عَلَى بَيِّنَةِ الْجُنُونِ أَوِ الْعَتَهِ.
و تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْحُدُوثِ عَلَى بَيِّنَةِ الْقِدَمِ. (1)
كَثْرَةُ الْعَدَدِ وَقُوَّةُ عَدَالَةِ الشَّاهِدِ:
60 - إِذَا أَقَامَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ بَيِّنَةً عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ مِنَ الْمُرَجِّحَاتِ سِوَى كَثْرَةِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى بِأَنْ كَانَتِ الأُْولَى عَشَرَةَ شُهُودٍ وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ شَاهِدَيْنِ فَقَطْ، أَوْ تَرَجَّحَتْ إِحْدَاهُمَا بِزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ بِأَنْ كَانَتْ أَظْهَرَ زُهْدًا وَأَوْفَرَ تَحَرُّجًا مِنَ الأُْخْرَى.
__________
(1) انظر مجلة الأحكام العدلية (المادة 1756 وما بعدها)(26/249)
فَهَل تَتَرَجَّحُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى؟ .
ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (1) إِلَى تَرْجِيحِهَا بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ وَقُوَّةِ الْعَدَالَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (2) وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (3) ، وَقَوْل جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ (4) : إِلَى أَنَّهُ لاَ يُغَلَّبُ الْحُكْمُ بِالْبَيِّنَةِ الزَّائِدَةِ فِي الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ وَإِنَّمَا هُمَا سَوَاءٌ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى عَدَدِ الشَّهَادَةِ بِقَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (5)
وَبِقَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . (6)
فَمَنَعَ النَّصُّ مِنَ الاِجْتِهَادِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛ وَلأَِنَّهُ لَمَّا جَازَ الاِقْتِصَارُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ، وَعَلَى قَبُول الْعَدْل مَعَ مَنْ هُوَ أَعْدَل، دَل عَلَى أَنَّهُ لاَ تَأْثِيرَ لِزِيَادَةِ الْعَدَدِ وَقُوَّةِ الْعَدَالَةِ. (7)
__________
(1) انظر حاشية الدسوقي 4 / 177، وتبصرة الحكام 1 / 309
(2) الهداية 3 / 173، نتائج الأفكار (تكملة فتح القدير) 6 / 243، والدر المختار 4 / 440، والمغني 12 / 176
(3) مختصر المزني: 5 / 261، الأم 6 / 251 ـ 252، الشهادات من الحاوي للماوردي الفقرة 5044 ـ 5045
(4) المدونة الكبرى 5 / 188، تبصرة الحكام 1 / 309
(5) سورة البقرة / 282
(6) سورة الطلاق / 2
(7) الشهادات من الحاوي للماوردي الفقرة: 5050(26/250)
شَهَادَةُ الأَْبْدَادِ:
61 - الأَْبْدَادُ: هُمُ الْمُتَفَرِّقُونَ، وَاحِدُهُمْ بُدٌّ، مِنَ التَّبْدِيدِ؛ لأَِنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا فِي ذَلِكَ مُتَفَرِّقِينَ، وَاحِدٌ هُنَا وَآخَرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَوَاحِدٌ الْيَوْمَ وَوَاحِدٌ غَدًا، وَوَاحِدٌ عَلَى مَعْنًى، وَوَاحِدٌ عَلَى مَعْنًى آخَرَ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: الَّذِينَ انْفَرَدُوا بِبَيَانِ أَحْكَامِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الأَْبْدَادِ فِي النِّكَاحِ، وَهِيَ أَنْ لاَ يَجْتَمِعَ الشُّهُودُ عَلَى شَهَادَةِ الْوَلِيِّ وَالزَّوْجِ، بَل إِنَّمَا عَقَدُوا وَتَفَرَّقُوا، وَقَال كُل وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ: (أَشْهِدْ مَنْ لَقِيتَ) هَكَذَا فَسَّرُوهُ بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، أَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ.
فَتَتِمُّ عِنْدَهُمْ بِشَهَادَةِ سِتَّةِ شُهُودٍ: مِنْهُمُ اثْنَانِ عَلَى الْوَلِيِّ، وَاثْنَانِ عَلَى الزَّوْجِ، وَاثْنَانِ عَلَى الزَّوْجَةِ إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا. وَفِي الْبِكْرِ ذَاتَ الأَْبِ تَتِمُّ بِأَرْبَعَةٍ: مِنْهُمْ شَاهِدَانِ عَلَى الزَّوْجِ وَشَاهِدَانِ عَلَى الْوَلِيِّ.
وَأَمَّا إِنْ أَشْهَدَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمُ الشُّهُودَ الَّذِينَ أَشْهَدَهُمْ صَاحِبُهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَلَيْسَتْ شَهَادَةَ أَبْدَادٍ.
قَال ابْنُ الْهِنْدِيِّ: شَهَادَةُ الأَْبْدَادِ لاَ تَعْمَل شَيْئًا، إِذَا شَهِدَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِغَيْرِ نَصٍّ مَا شَهِدَ بِهِ صَاحِبُهُ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى جَمِيعِ(26/250)
شَهَادَاتِهِمْ وَاحِدًا، حَتَّى يَتَّفِقَ مِنْهُمْ شَاهِدَانِ عَلَى نَصٍّ وَاحِدٍ.
لَكِنْ فِي الْمَذْهَبِ خِلاَفٌ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ الْهِنْدِيِّ، فَفِي أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ سُئِل مَالِكٌ عَنْ شَاهِدَيْنِ شَهِدَ أَحَدُهُمَا فِي مَنْزِلٍ أَنَّهُ مَسْكَنُ هَذَا، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ حَيْزُهُ، فَقَال خَصْمُهُ: قَدِ اخْتَلَفَتْ شَهَادَتُهُمَا. فَقَال مَالِكٌ: مَسْكَنُهُ وَحَيْزُهُ شَهَادَةٌ وَاحِدَةٌ لاَ تَفْتَرِقُ. (1)
شَهَادَةُ الاِسْتِخْفَاءِ أَوِ الاِسْتِغْفَال:
62 - الْمُسْتَخْفِي هُوَ الَّذِي يُخْفِي نَفْسَهُ عَنِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِيُسْمَعَ قَرَارُهُ وَلاَ يُعْلَمَ بِهِ، كَأَنْ يَجْحَدَ الْحَقَّ عَلاَنِيَةً وَيُقِرَّ بِهِ سِرًّا، فَيَخْتَبِئُ شَاهِدَانِ فِي مَوْضِعٍ لاَ يَعْلَمُ بِهِمَا الْمُقِرُّ لِيَسْمَعَا إِقْرَارَهُ، وَلِيَشْهَدَا بِهِ مِنْ بُعْدٍ، فَشَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِمَا إِذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ غَيْرَ مَخْدُوعٍ وَلاَ خَائِنٍ لأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّهُ لاَ تُسْمَعُ شَهَادَةُ الْمُسْتَخْفِي؛ (2) لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول: {وَلاَ تَجَسَّسُوا} (3)
__________
(1) تبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك 1 / 338
(2) الشرح الكبير 12 / 18، المغني 12 / 101، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 12 / 22، روضة الطالبين للنووي 11 / 243، تبصرة الحكام 1 / 378 وسماها (شهادة الإستغفال) البيان والتحصيل 10 / 56.
(3) سورة الحجرات / 12(26/251)
شَهَادَةُ الزُّورِ:
63 - شَهَادَةُ الزُّورِ مِنَ الْكَبَائِرِ. (1) وَلاَ يَجُوزُ الْعَمَل بِهَا وَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ فِيمَا بَعْدُ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلاَثًا قَالُوا: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ. قَال: الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ - وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا - فَقَال: أَلاَ وَقَوْل الزُّورِ. قَال: فَمَا زَال يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. (2)
وَلأَِنَّ فِيهَا رَفْعَ الْعَدْل، وَتَحْقِيقَ الْجَوْرِ.
فَإِذَا أَقَرَّ شَخْصٌ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ أَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ، قَال أَبُو حَنِيفَةَ (3) : يُشَهَّرُ بِهِ فِي السُّوقِ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل السُّوقِ أَوْ فِي قَوْمِهِ أَوْ مَحَلَّتِهِ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ فِي مَكَانٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ، وَيُقَال: إِنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوا النَّاسَ مِنْهُ. (4)
__________
(1) انظر كتاب (الكبائر) للذهبي وقد جعل فيه شهادة الزور الكبيرة الثامنة عشرة فيه (ص 86)
(2) حديث " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 261 ـ ط السلفية) ومسلم (1 / 91) ـ ط الحلبي)
(3) الهداية 3 / 132، فتح القدير 6 / 83
(4) قوله " ويقال إنا وجدنا هذا شاهد زور. . " أصل ذلك ما ورد عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا يفعلون ذلك انظر أخبار القضاة لوكيع 2 / 19، 3 / 89، المصنف لعبد الرزاق الصنعاني 8 / 325 ـ 326 الأحاديث 15388 ـ 15390، جامع مسانيد الإمام الأعظم 2 / 274، المبسوط 16 / 145، سنن البيهقي الكبرى 10 / 141 ـ 142، الدراية 2 / 172(26/251)
وَلاَ يُحْبَسُ وَلاَ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ لِتَحَقُّقِ الْقَصْدِ وَهُوَ الاِنْزِجَارُ.
وَكَانَ شُرَيْحٌ يُشَهِّرُهُ وَلاَ يَضْرِبُهُ. (1)
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: نُوجِعُهُ ضَرْبًا وَنَحْبِسُهُ. (2)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لِلإِْمَامِ أَنْ يُعَزِّرَ شَاهِدَ الزُّورِ بِالضَّرْبِ أَوِ الْحَبْسِ أَوِ الزَّجْرِ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يُشَهِّرَ أَمْرَهُ فَعَل (3) لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَسَخَّمَ وَجْهَهُ (4) أَيْ: سَوَّدَهُ.
وَلأَِنَّ هَذِهِ كَبِيرَةٌ يَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إِلَى الْعِبَادِ، وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (5) وَالْحَنَابِلَةُ (6) : إِلَى تَعْزِيرِهِ وَضَرْبِهِ وَأَنْ يُطَافَ بِهِ فِي الْمَجَالِسِ.
وَعَلَى كُل حَالٍ إِذَا ثَبَتَ زُورُهُ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَنُبِّهَ النَّاسُ عَلَى حَقِيقَتِهِ.
وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَبْنِيَّ عَلَى شَهَادَتِهِ كَانَ
__________
(1) انظر ذلك في أخبار القضاة 3 / 219 ـ 220، المبسوط 16 / 145
(2) الهداية 3 / 132، فتح القدير 6 / 83.
(3) المهذب 2 / 330
(4) قوله " لما روي عن عمر أنه ضرب شاهد الزور. . " رواه البيهقي في السنن الكبرى 10 / 142، بسنده عن مكحول عن عمر
(5) المدونة الكبرى 5 / 203، تبصرة الحكام 2 / 314.
(6) منتهى الإرادات: 678، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 12 / 107، المغني 12 / 153، الشرح الكبير 12 / 131(26/252)
بَاطِلاً (1) لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اذْكُرُوا الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ لِيَحْذَرَهُ النَّاسُ (2)
وَالْمُسْلِمُونَ وَأَهْل الذِّمَّةِ فِي حُكْمِ شَهَادَةِ الزُّورِ سَوَاءٌ، لِقِيَامِ الأَْهْلِيَّةِ فِي حَقِّهِمْ جَمِيعًا فِيمَا تَعَلَّقَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ. (3)
وَإِذَا تَابَ شَاهِدُ الزُّورِ وَمَضَتْ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةٌ ظَهَرَتْ فِيهَا تَوْبَتُهُ، وَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ وَعَدَالَتُهُ: قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (4) وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ (5) وَالشَّافِعِيُّ (6) .
وَقَال مَالِكٌ (7) : لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ أَبَدًا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يُؤْمَنُ مِنْهُ.
شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ:
64 - يُقْصَدُ بِهَا أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّاهِدُ شَهَادَةً تَحَمَّلَهَا ابْتِدَاءً لاَ بِطَلَبِ طَالِبٍ وَلاَ بِتَقَدُّمِ دَعْوَى.
وَمَعْنَى (حِسْبَةً) أَيِ احْتِسَابًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى.
__________
(1) الشرح الكبير 12 / 133
(2) حديث " اذكروا الفاسق بما فيه. . . " رواه ابن أبي الدنيا، وابن عدي، والخطيب من حديث معاوية بن حيدة، ورواه بعضهم عن عائشة: (كشف الخفاء 1 / 114 الحديث 205)
(3) المبسوط 16 / 146
(4) الشرح الكبير 12 / 133
(5) المبسوط 16 / 146، فتح القدير 6 / 84
(6) المهذب 1 / 329، المجموع 2 / 249، روضة الطالبين 11 / 249
(7) المدونة الكبرى 5 / 203(26/252)
وَتُقْبَل شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِي كُل مَا تَمَحَّضَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَالزِّنَى، وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَةِ، وَالطَّلاَقِ، وَالاِسْتِيلاَدِ، وَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ الْعَامَّةِ. (انْظُرْ: حِسْبَةٌ) .
2025 شَهَادَةُ الاِسْتِرْعَاءِ
انْظُرْ: اسْتِرْعَاءٌ(26/253)
شَهَادَةُ الزُّورِ
التَّعْرِيفُ:
1 - شَهَادَةُ الزُّورِ: مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ يَتَكَوَّنُ مِنْ كَلِمَتَيْنِ هُمَا: الشَّهَادَةُ، وَالزُّورُ.
أَمَّا الشَّهَادَةُ فِي اللُّغَةِ، فَمِنْ مَعَانِيهَا: الْبَيَانُ، وَالإِْظْهَارُ، وَالْحُضُورُ، وَمُسْتَنَدُهَا الْمُشَاهَدَةُ إِمَّا بِالْبَصَرِ أَوْ بِالْبَصِيرَةِ.
وَأَمَّا الزُّورُ فَهُوَ الْكَذِبُ وَالْبَاطِل، وَقِيل: هُوَ شَهَادَةُ الْبَاطِل، يُقَال: رَجُلٌ زُورٌ وَقَوْمٌ زُورٌ: أَيْ مُمَوِّهٌ بِكَذِبٍ (1) .
وَشَهَادَةُ الزُّورِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هِيَ الشَّهَادَةُ بِالْكَذِبِ لِيُتَوَصَّل بِهَا إِلَى الْبَاطِل مِنْ إِتْلاَفِ نَفْسٍ، أَوْ أَخْذِ مَالٍ، أَوْ تَحْلِيل حَرَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلاَلٍ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ
__________
(1) المفردات في غريب القرآن، ولسان العرب، ومختار الصحاح، والمصباح المنير مادة " شهد ".
(2) حاشية الطحطاوي على الدر المختار (3 / 260) ط دار المعرفة، بيروت، والعناية بهامش فتح القدير (3 / 226) ، ط بولاق، ومواهب الجليل 6 / 122 ط دار الفكر بيروت، وفتح الباري (10 / 412) ط الرياض الحديثة، والقرطبي 12 / 55 ط الكتب سنة 1964.(26/253)
مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا، قَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فِي كِتَابِهِ مَعَ نَهْيِهِ عَنِ الأَْوْثَانِ فَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَْوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْل الزُّورِ} ، (1) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ الأَْسَدِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلاَةَ الصُّبْحِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِمًا، فَقَال: عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الإِْشْرَاكَ بِاللَّهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآْيَةَ: {وَاجْتَنِبُوا قَوْل الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} (2) .
وَرَوَى أَبُو بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ، قَال ثَلاَثًا: الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ - وَكَانَ مُتَّكِئًا - فَقَال: أَلاَ وَقَوْل الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلاَ وَقَوْل الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَال يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لاَ يَسْكُتُ. (3)
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لَنْ تَزُول قَدَمَا شَاهِدِ الزُّورِ حَتَّى يُوجِبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ. (4)
__________
(1) سورة الحج 30 - 31.
(2) حديث: " عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ". أخرجه ابن ماجه (2 / 794 - ط الحلبي) وأعله ابن حجر في التلخيص (4 / 90 - ط شركة الطباعة الفنية) بقوله: " إسناده مجهول ".
(3) حديث: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 405 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 91 - ط الحلبي) .
(4) حديث: " لن تزول قدما شاهد الزور ". أخرجه ابن ماجه (2 / 974 - ط الحلبي) وقال البوصيري: " إسناده ضعيف " كذا في مصباح الزجاجة (2 / 38 - ط دار الجنان) .(26/254)
فَمَتَى ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي أَوِ الْحَاكِمِ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ عَمْدًا عَزَّرَهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ التَّعْزِيرِ، (1) وَسَيَأْتِي آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِيهَا.
بِمَ تَثْبُتُ شَهَادَةُ الزُّورِ؟
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِالإِْقْرَارِ؛ لأَِنَّهُ لاَ تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي إِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ بِأَنْ يَشْهَدَ بِمَا يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ: بِأَنْ يَشْهَدَ عَلَى رَجُلٍ بِفِعْلٍ فِي الشَّامِ فِي وَقْتٍ، وَيَعْلَمَ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي الْعِرَاقِ، أَوْ يَشْهَدَ بِقَتْل رَجُلٍ وَهُوَ حَيٌّ، أَوْ أَنَّ هَذِهِ الْبَهِيمَةَ فِي يَدِ هَذَا مُنْذُ ثَلاَثَةِ أَعْوَامٍ وَسِنُّهَا أَقَل مِنْ ذَلِكَ، أَوْ يَشْهَدَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ فَعَل شَيْئًا فِي وَقْتٍ وَقَدْ مَاتَ قَبْل ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يُولَدْ إِلاَّ بَعْدَهُ وَأَشْبَاهِ هَذَا مِمَّا يُتَيَقَّنُ بِكَذِبِهِ وَيُعْلَمُ تَعَمُّدُهُ لِذَلِكَ.
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير 6 / 84 ط بولاق، والمبسوط للسرخسي 16 / 145، ط دار المعرفة بيروت، وبدائع الصنائع 6 / 289 - 290 ط دار الكتاب العربي، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 41، وتبيين الحقائق 4 / 223 ط دار المعرفة بيروت، والشرح الصغير 4 / 744 ط دار المعارف بمصر، والقرطبي 12 / 55 ط الكتاب، وروضة الطالبين 11 / 145 ط المكتب الإسلامي، والمهذب 2 / 329 ط دار المعرفة. بيروت، والقليوبي وعميرة 4 / 319 ط عيسى الحلبي، والمغني 9 / 260 ط الرياض، وأعلام الموقعين 1 / 119) ط دار الجيل.(26/254)
4 - وَلاَ تَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ؛ لأَِنَّهَا نَفْيٌ لِشَهَادَتِهِ، وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ لِلإِْثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ، وَقَدْ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ فَلاَ يُعَزَّرُ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ، أَوْ ظُهُورِ فِسْقِهِ أَوْ غَلَطِهِ فِي الشَّهَادَةِ، لأَِنَّ الْفِسْقَ لاَ يَمْنَعُ الصِّدْقَ، وَالتَّعَارُضُ لاَ يُعْلَمُ بِهِ كَذِبُ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِعَيْنِهَا، وَالْغَلَطُ قَدْ يَعْرِضُ لِلصَّادِقِ الْعَدْل وَلاَ يَتَعَمَّدُهُ فَيُعْفَى عَنْهُ. (1) وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} . (2)
قَال الشِّيرَازِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: تَثْبُتُ شَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ شَاهِدُ زُورٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ شَاهِدُ زُورٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدَ مَا يَقْطَعُ بِكَذِبِهِ.
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ فَعَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ قَبْل الْحُكْمِ أَمْ بَعْدَهُ. (3)
كَيْفِيَّةُ عُقُوبَةِ شَاهِدِ الزُّورِ:
5 - لَمَّا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ لَمْ تُقَدِّرْ عُقُوبَةً مُحَدَّدَةً
__________
(1) المبسوط للسرخسي 16 / 145، وفتح القدير 6 / 83، وتبيين الحقائق 4 / 241 ومواهب الجليل 6 / 122، وروضة الطالبين 11 / 145، وأسنى المطالب 4 / 358، والمغني 9 / 262.
(2) سورة الأحزاب آية: 33.
(3) المهذب 2 / 329 ط دار المعرفة بيروت، وتبصرة الحكام 2 / 52.(26/255)
لِشَاهِدِ الزُّورِ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ هِيَ التَّعْزِيرُ، قَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عُقُوبَةِ شَاهِدِ الزُّورِ مِنْ حَيْثُ تَفْصِيلاَتُ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ لاَ مِنْ حَيْثُ مَبْدَأُ عِقَابِ شَاهِدِ الزُّورِ بِالتَّعْزِيرِ، إِذْ أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْزِيرِهِ. إِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ عَمْدًا عَزَّرَهُ وُجُوبًا وَشَهَّرَ بِهِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِهِ قَال شُرَيْحٌ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّعْزِيرِ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: تَأْدِيبُ شَاهِدِ الزُّورِ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ إِنْ رَأَى تَعْزِيرَهُ بِالْجَلْدِ جَلَدَهُ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَحْبِسَهُ، أَوْ كَشْفَ رَأْسِهِ وَإِهَانَتَهُ وَتَوْبِيخَهُ فَعَل ذَلِكَ، وَلاَ يَزِيدُ فِي جَلْدِهِ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ، وَقَال الشَّافِعِيُّ: لاَ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا. وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّشْهِيرِ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ: فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُوقِفُهُ فِي السُّوقِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل السُّوقِ، أَوْ مَحَلَّةِ قَبِيلَتِهِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْقَبَائِل، أَوْ فِي مَسْجِدِهِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْمَسَاجِدِ، وَيَقُول الْمُوَكَّل بِهِ: إِنَّ الْحَاكِمَ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلاَمَ وَيَقُول: هَذَا شَاهِدُ زُورٍ فَاعْرِفُوهُ.
6 - وَلاَ يُسَخَّمُ وَجْهٌ (أَيْ يُسَوِّدُهُ) لأَِنَّهُ مُثْلَةٌ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُثْلَةِ، (1) وَلاَ يُرْكِبُهُ
__________
(1) حديث: " نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 119 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن يزيد.(26/255)
مَقْلُوبًا، وَلاَ يُكَلِّفُ الشَّاهِدَ أَنْ يُنَادِيَ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي الْجُمْلَةِ لَيْسَ فِي هَذَا تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْعَل مِمَّا يَرَاهُ - مَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى مُخَالَفَةِ نَصٍّ أَوْ مَعْنَى نَصٍّ. (1)
7 - وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي أَوِ الْحَاكِمِ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ شَهِدَ بِالزُّورِ عُوقِبَ بِالسِّجْنِ وَالضَّرْبِ، وَيُطَافُ بِهِ فِي الْمَجَالِسِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ زُورٍ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَسَخَّمَ وَجْهَهُ. وَعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ بِالشَّامِ: إِذَا أَخَذْتُمْ شَاهِدَ الزُّورِ فَاجْلِدُوهُ بِضَرْبِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا، وَسَخِّمُوا وَجْهَهُ وَطَوِّفُوا بِهِ حَتَّى يَعْرِفَهُ النَّاسُ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُطَال حَبْسُهُ؛ لأَِنَّهُ أَتَى كَبِيرَةً مِنَ الْكَبَائِرِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.
وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ شَهَادَةِ الزُّورِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ، فَقَال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَْوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْل الزُّورِ} (2) ، وَلأَِنَّ هَذِهِ
__________
(1) المدونة 6 / 203 ط دار صادر بيروت، وتبصرة الحكام 2 / 213 ط دار الكتب العلمية، والشرح الصغير 4 / 206 ط دار المعارف بمصر، والمهذب 2 / 330، وروضة الطالبين 11 / 144 - 145، المغني 9 / 260 - 262 ط الرياض.
(2) سورة الحج / آية: 30.(26/256)
الْكَبِيرَةَ يَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إِلَى الْعِبَادِ بِإِتْلاَفِ أَنْفُسِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. (1)
7 م - وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا أَقَرَّ الشَّاهِدُ أَنَّهُ شَهِدَ زُورًا: يُشَهَّرُ بِهِ فِي الأَْسْوَاقِ إِنْ كَانَ سُوقِيًّا، أَوْ بَيْنَ قَوْمِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ سُوقِيٍّ، وَذَلِكَ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ فِي مَكَانِ تَجَمُّعِ النَّاسِ، وَيَقُول الْمُرْسَل مَعَهُ: إِنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ، وَحَذِّرُوهُ النَّاسَ، وَلاَ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ أَوِ الْحَبْسِ؛ لأَِنَّ شُرَيْحًا كَانَ يُشَهِّرُ شَاهِدَ الزُّورِ وَلاَ يُعَزِّرُهُ، وَكَانَ قَضَايَاهُ لاَ تَخْفَى عَنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ؛ وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّوَصُّل إِلَى الاِنْزِجَارِ؛ وَهُوَ يَحْصُل بِالتَّشْهِيرِ، بَل رُبَّمَا يَكُونُ أَعْظَمَ عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الضَّرْبِ، فَيُكْتَفَى بِهِ، وَالضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ لَكِنَّهُ يَقَعُ مَانِعًا عَنِ الرُّجُوعِ فَوَجَبَ التَّخْفِيفُ نَظَرًا إِلَى هَذَا الْوَجْهِ. (2)
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 289 - 290، وفتح القدير 6 / 83، والبحر الرائق 7 / 125، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 241، وتبيين الحقائق 4 / 242، وشرح العناية بهامش فتح القدير 4 / 84، وابن عابدين 4 / 395، والشرح الصغير 4 / 206، والقوانين الفقهية ص 203 ط دار القلم بيروت، وتبصرة الحكام 2 / 213.
(2) البحر الرائق 7 / 125 - 126، وتبيين الحقائق 4 / 242، والعناية بهامش فتح القدير 4 / 84، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 3 / 260، والبدائع 6 / 289 - 290.(26/256)
وَذَكَرَ الزَّيْلَعِيُّ نَقْلاً عَنِ الْحَاكِمِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْكَاتِبِ: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرْجِعَ عَلَى سَبِيل التَّوْبَةِ وَالنَّدَامَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعَزَّرُ بِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَرْجِعَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ بِإِجْمَاعِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ لاَ يُعْلَمَ رُجُوعُهُ بِأَيِّ سَبَبٍ فَإِنَّهُ عَلَى الاِخْتِلاَفِ الَّذِي ذَكَرْنَا. (1)
الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِلَى أَنَّ قَضَاءَ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لاَ بَاطِنًا؛ لأَِنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ حُجَّةٌ ظَاهِرًا لاَ بَاطِنًا فَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ كَذَلِكَ لأَِنَّ الْقَضَاءَ يَنْفُذُ بِقَدْرِ الْحُجَّةِ، وَلاَ يُزِيل شَيْئًا عَنْ صِفَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ، سَوَاءٌ الْعُقُودُ مِنَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ وَالْفُسُوخُ، فَلاَ يَحِل لِلْمَقْضِيِّ لَهُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ مَا حُكِمَ لَهُ بِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ بُضْعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَل بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 242.
(2) ابن عابدين 4 / 333، والشرح الصغير 4 / 295، وروضة الطالبين 11 / 152، والقليوبي 4 / 304، والمهذب 2 / 343، والمغني 9 / 60.(26/257)
لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ. (1)
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: يَنْفُذُ قَضَاءٌ بِشَهَادَةِ الزُّورِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ حَيْثُ كَانَ الْمَحَل قَابِلاً، وَالْقَاضِي غَيْرَ عَالِمٍ بِزُورِهِمْ، لِقَوْل عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لاِمْرَأَةٍ أَقَامَ عَلَيْهَا رَجُلٌ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، فَأَنْكَرَتْ فَقَضَى لَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَتْ لَهُ: لِمَ تُزَوِّجُنِي؟ أَمَا وَقَدْ قَضَيْتَ عَلَيَّ فَجَدِّدْ نِكَاحِي، فَقَال: لاَ أُجَدِّدُ نِكَاحَكَ، الشَّاهِدَانِ زَوَّجَاكَ؛ فَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدِ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بَاطِنًا بِالْقَضَاءِ لَمَا امْتَنَعَ مِنْ تَجْدِيدِ الْعَقْدِ عِنْدَ طَلَبِهَا.
9 - وَأَمَّا فِي الأَْمْلاَكِ الْمُرْسَلَةِ (أَيِ الَّتِي لَمْ يُذْكَرْ لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ) فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لاَ بَاطِنًا؛ لأَِنَّ الْمِلْكَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ وَلَيْسَ بَعْضُ الأَْسْبَابِ بِأَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ لِتَزَاحُمِهَا فَلاَ يُمْكِنُ إِثْبَاتُ السَّبَبِ سَابِقًا عَلَى الْقَضَاءِ بِطَرِيقِ الاِقْتِضَاءِ. (2)
تَضْمِينُ شُهُودِ الزُّورِ:
10 - مَتَى عُلِمَ أَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا بِالزُّورِ: تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ كَانَ بَاطِلاً، وَلَزِمَ نَقْضُهُ وَبُطْلاَنُ
__________
(1) حديث: " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 339 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1337 - ط الحلبي) من حديث أم سلمة.
(2) ابن عابدين 4 / 333، والمغني 9 / 60.(26/257)
مَا حُكِمَ بِهِ، وَيَضْمَنُ شُهُودُ الزُّورِ مَا تَرَتَّبَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ مِنْ ضَمَانٍ. فَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ مَالاً: رُدَّ إِلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ إِتْلاَفًا: فَعَلَى الشُّهُودِ ضَمَانُهُ؛ لأَِنَّهُمْ سَبَبُ إِتْلاَفِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى شُهُودِ الزُّورِ إِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ، كَأَنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِقَتْلٍ عَمْدٍ عُدْوَانٍ أَوْ بِرِدَّةٍ أَوْ بِزِنًى وَهُوَ مُحْصَنٌ، فَقُتِل الرَّجُل بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا وَأَقَرَّا بِتَعَمُّدِ قَتْلِهِ، وَقَالاَ: تَعَمَّدْنَا الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِالزُّورِ لِيُقْتَل أَوْ يُقْطَعَ: فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا، لِتَعَمُّدِ الْقَتْل بِتَزْوِيرِ الشَّهَادَةِ، لِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ: أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَهُ ثُمَّ عَادَا فَقَالاَ: أَخْطَأْنَا، لَيْسَ هَذَا هُوَ السَّارِقَ، فَقَال عَلِيٌّ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعَتْكُمَا، وَلاَ مُخَالِفَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا، وَإِنَّهُمَا تَسَبَّبَا إِلَى قَتْلِهِ أَوْ قَطْعِهِ بِمَا يُفْضِي إِلَيْهِ غَالِبًا فَلَزِمَهُمَا كَالْمُكْرَهِ. وَبِهِ قَال ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ.
11 - وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا شَهِدُوا زُورًا بِمَا يُوجِبُ الْقَطْعَ قِصَاصًا، فَقُطِعَ أَوْ فِي سَرِقَةٍ لَزِمَهُمَا الْقَطْعُ، وَإِذَا سَرَى أَثَرُ الْقَطْعِ إِلَى(26/258)
النَّفْسِ فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، كَمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاضِي إِذَا قَضَى زُورًا بِالْقِصَاصِ، وَكَانَ يَعْلَمُ بِكَذِبِ الشُّهُودِ.
وَتَجِبُ عَلَيْهِمَا الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ إِذَا قَالاَ: تَعَمَّدْنَا الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ، وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْتَل بِهَذَا، وَكَانَا مِمَّا يَحْتَمِل أَنْ يَجْهَلاَ ذَلِكَ. وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي أَمْوَالِهِمَا لأَِنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ وَلاَ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لأَِنَّهُ ثَبَتَ بِاعْتِرَافِهِمَا وَالْعَاقِلَةُ لاَ تَحْمِل الاِعْتِرَافَ. (1)
12 - وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْقِصَاصِ أَوْ شُهُودُ الْحَدِّ بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ وَقَبْل الاِسْتِيفَاءِ، لَمْ يُسْتَوْفَ الْقَوَدُ وَلاَ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ عُقُوبَةٌ لاَ سَبِيل إِلَى جَبْرِهَا إِذَا اسْتُوْفِيَتْ بِخِلاَفِ الْمَال، وَلأَِنَّ رُجُوعَ الشُّهُودِ شُبْهَةٌ لاِحْتِمَال صِدْقِهِمْ، وَالْقَوَدُ وَالْحَدُّ يُدْرَآنِ بِالشُّبْهَةِ، فَيُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَلاَ غُرْمَ عَلَى الشُّهُودِ بَل يُعَزَّرُونَ.
وَوَجَبَتْ دِيَةُ قَوَدٍ لِلْمَشْهُودِ لَهُ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ وَقَدْ سَقَطَ أَحَدُهُمَا فَتَعَيَّنَ الآْخَرُ، وَيَرْجِعُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى الشُّهُودِ. (2)
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 99 - 300، ونهاية المحتاج 8 / 211، والمهذب 2 / 341، والمغني 9 / 245 - 247، 251، 255، 262، 7 / 645 - 646، وكشاف القناع 6 / 443، والشرح الصغير 4 / 295 ط دار المعارف بمصر.
(2) المراجع السابقة.(26/258)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَدَا أَشْهَبَ: إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الدِّيَةُ لاَ الْقِصَاصُ؛ لأَِنَّ الْقَتْل بِشَهَادَةِ الزُّورِ قَتْلٌ بِالسَّبَبِ، وَالْقَتْل تَسَبُّبًا لاَ يُسَاوِي الْقَتْل مُبَاشَرَةً، وَلِذَا قَصُرَ أَثَرُهُ، فَوَجَبَتْ بِهِ الدِّيَةُ لاَ الْقِصَاصُ. (1)
12 م - وَيَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى شُهُودِ الزُّورِ إِذَا شَهِدُوا بِالزِّنَى وَيُقَامُ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ سَوَاءٌ تَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ قَبْل الاِسْتِيفَاءِ أَوْ بَعْدَهُ. وَيُحَدُّونَ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَى حَدَّ الْقَذْفِ أَوَّلاً. ثُمَّ يُقْتَلُونَ إِذَا تَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ بِالرَّجْمِ.
وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِالتَّدَاخُل فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: فَإِنْ كَانَ فِي الْحُدُودِ قَتْلٌ فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِهِ، لِقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " مَا كَانَتْ حُدُودٌ فِيهَا قَتْلٌ إِلاَّ أَحَاطَ الْقَتْل بِذَلِكَ كُلِّهِ وَلأَِنَّهُ لاَ حَاجَةَ مَعَهُ إِلَى الزَّجْرِ بِغَيْرِهِ، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ حَدَّ الْقَذْفِ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يَدْخُل فِي الْقَتْل، بَل لاَ بُدَّ مِنَ اسْتِيفَائِهِ قَبْلَهُ. (2)
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 285، والشرح الصغير 4 / 295.
(2) فتح القدير 4 / 208،209 ط بولاق، والدسوقي (4 / 347) ط دار الفكر، وروضة الطالبين 10 / 164 ط المكتب الإسلامي، والمغني 8 / 213، 214 ط الرياض.(26/259)
تَوْبَةُ شَاهِدِ الزُّورِ:
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَابَ شَاهِدُ الزُّورِ وَأَتَتْ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةٌ تَظْهَرُ فِيهَا تَوْبَتُهُ، وَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ فِيهَا وَعَدَالَتُهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} . (1)
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ. (2)
وَلأَِنَّهُ تَائِبٌ مِنْ ذَنْبِهِ؛ فَقُبِلَتْ تَوْبَتُهُ كَسَائِرِ التَّائِبِينَ.
وَمُدَّةُ ظُهُورِ التَّوْبَةِ عِنْدَهُمْ سَنَةٌ؛ لأَِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ صِحَّةُ التَّوْبَةِ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ، فَكَانَتْ أَوْلَى الْمُدَدِ بِالتَّقْدِيرِ سَنَةً؛ لأَِنَّهُ تَمُرُّ فِيهَا الْفُصُول الأَْرْبَعَةُ الَّتِي تَهِيجُ فِيهَا الطَّبَائِعُ وَتَتَغَيَّرُ فِيهَا الأَْحْوَال. (3)
وَقَال الْبَابَرْتِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: مُدَّةُ ظُهُورِ التَّوْبَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ
__________
(1) سورة آل عمران آية: 89.
(2) حديث: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1420 - ط الحلبي) من حديث ابن مسعود، وفي إسناده مقال، ولكن حسنه ابن حجر لشواهده، كذا في المقاصد الحسنة للسخاوي (ص - 152 - ط الخانجي) .
(3) شرح العناية بهامش فتح القدير 6 / 84، وروضة الطالبين 11 / 245، 248، والمهذب 2 / 332، والمغني 9 / 202.(26/259)
قَال: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ ظَاهِرَ الصَّلاَحِ حِينَ شَهِدَ بِالزُّورِ لاَ تُقْبَل لَهُ شَهَادَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ لاِحْتِمَال بَقَائِهِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُظْهِرٍ لِلصَّلاَحِ حِينَ الشَّهَادَةِ فَفِي قَبُولِهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا ظَهَرَتْ تَوْبَتُهُ قَوْلاَنِ. (2)
شَهَادَتَانِ
انْظُرْ: إِسْلاَمٌ، تَلْقِينٌ
__________
(1) شرح العناية بهامش فتح القدير 6 / 84.
(2) الشرح الصغير 4 / 206.(26/260)
شَهْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّهْرُ: الْهِلاَل، سُمِّيَ بِهِ لِشُهْرَتِهِ وَوُضُوحِهِ، ثُمَّ سُمِّيَتِ الأَْيَّامُ بِهِ. وَجَمْعُهُ: شُهُورٌ وَأَشْهُرٌ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشُّهْرَةِ وَهِيَ: الاِنْتِشَارُ وَوُضُوحُ الأَْمْرِ، وَمِنْهُ شَهَرْتُ الأَْمْرَ أُشْهِرُهُ شَهْرًا وَشُهْرَةً فَاشْتَهَرَ أَيْ: وَضَحَ، وَكَذَلِكَ أَشْهَرْتُهُ وَشَهَّرْتُهُ تَشْهِيرًا. (1)
وَأَوَّل الشَّهْرِ: مِنَ الْيَوْمِ الأَْوَّل إِلَى السَّادِسَ عَشَرَ. وَآخِرُ الشَّهْرِ مِنْهُ إِلَى الآْخِرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فَإِنَّ أَوَّلَهُ حِينَئِذٍ إِلَى وَقْتِ الزَّوَال مِنَ الْخَامِسَ عَشَرَ، وَمَا بَعْدَهُ آخِرُ الشَّهْرِ. وَرَأْسُ الشَّهْرِ: اللَّيْلَةُ الأُْولَى مَعَ الْيَوْمِ. وَغُرَّةُ الشَّهْرِ: إِلَى انْقِضَاءِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْهِلاَل فَقِيل: إِنَّهُ كَالْغُرَّةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَوَّل يَوْمٍ، وَإِنْ خَفِيَ فَالثَّانِي. وَسَلْخُ الشَّهْرِ: الْيَوْمُ الأَْخِيرُ مِنْهُ. (2)
__________
(1) الصحاح والمصباح المنير.
(2) الكليات 5 / 120.(26/260)
وَفِي الشَّرْعِ: الْمُرَادُ بِالشَّهْرِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ: الشَّهْرُ الْهِلاَلِيُّ. (1) قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (2)
. وَلَمْ يَخْتَلِفِ النَّاسُ فِي أَنَّ الأَْشْهُرَ الْحُرُمَ مُعْتَبَرَةٌ بِالأَْهِلَّةِ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الآْيَةُ تَدُل عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ تَعْلِيقُ الأَْحْكَامِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا، إِنَّمَا يَكُونُ بِالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ الَّتِي تَعْرِفُهَا الْعَرَبُ، دُونَ الشُّهُورِ الَّتِي تَعْتَبِرُهَا الْعَجَمُ وَالرُّومُ وَالْقِبْطُ، وَإِنْ لَمْ تَزِدْ (شُهُورُ سَنَوَاتِهِمْ) عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا لأَِنَّهَا مُخْتَلِفَةُ الأَْعْدَادِ: مِنْهَا مَا يَزِيدُ عَلَى ثَلاَثِينَ يَوْمًا، وَمِنْهَا مَا يَنْقُصُ. وَشُهُورُ الْعَرَبِ لاَ تَزِيدُ عَلَى ثَلاَثِينَ يَوْمًا، وَإِنْ كَانَ مِنْهَا مَا يَنْقُصُ. وَالَّذِي يَنْقُصُ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ لَهُ شَهْرٌ، وَإِنَّمَا تَفَاوُتُهَا فِي النُّقْصَانِ وَالتَّمَامِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلاَفِ سَيْرِ الْقَمَرِ فِي الْبُرُوجِ. (3)
وَوَرَدَ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ هَذَا الأَْصْل فِي بَعْضِ الْمَسَائِل، كَالأَْشْهُرِ السِّتَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي أَقَل الْحَمْل، يُرِيدُونَ بِالشَّهْرِ فِيهَا
__________
(1) شرح التحرير بحاشية الشرقاوي 1 / 155، والمغني 7 / 458.
(2) سورة التوبة / 36.
(3) القرطبي 8 / 133.(26/261)
ثَلاَثِينَ يَوْمًا وَلاَ يَعْنُونَ بِهِ الشَّهْرَ الْهِلاَلِيَّ. (1)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّهْرِ:
أَشْهُرُ الْحَجِّ:
2 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ هِيَ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ هِيَ: شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ. وَلِلتَّفْصِيل ر: (أَشْهُرُ الْحَجِّ ف 1 - 4 ج 5 49) .
الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ:
3 - الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ: هِيَ الَّتِي وَرَدَ ذِكْرُهَا فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} وَالْمُرَادُ بِهَا: رَجَبُ مُضَرَ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ: (الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ ف 1 - 6 ج 5 50) .
الْعِدَّةُ بِالشُّهُورِ:
4 - إِذَا لَمْ تَكُنْ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ذَاتَ قُرْءٍ لِصِغَرٍ أَوْ يَأْسٍ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ
__________
(1) شرح التحرير بحاشية الشرقاوي 1 / 154، وروضة الطالبين 1 / 153.(26/261)
أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} . (1)
وَذَاتُ الْقُرْءِ إِذَا ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لاَ تَدْرِي مَا رَفَعَهُ اعْتَدَّتْ بِالأَْشْهُرِ. وَالآْيِسَةُ، وَكُل مَنْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَلاَ حَمْل بِهَا قَبْل الدُّخُول أَوْ بَعْدَهُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً عِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ؛ (2) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} . (3)
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ بِالأَْشْهُرِ، وَعِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَانْتِقَال الْعِدَّةِ مِنَ الأَْشْهُرِ إِلَى الأَْقْرَاءِ، وَانْتِقَالُهَا مِنَ الأَْقْرَاءِ إِلَى الأَْشْهُرِ: يُنْظَرُ فِي (عِدَّةٌ) .
الإِْجَارَةُ مُشَاهَرَةً:
5 - إِذَا قَال الْمُؤَجِّرُ: آجَرْتُكَ دَارِي عِشْرِينَ شَهْرًا كُل شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ مَثَلاً جَازَ الْعَقْدُ بِغَيْرِ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّ الْمُدَّةَ مَعْلُومَةٌ وَأَجْرُهَا مَعْلُومٌ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ الْفَسْخِ بِحَالٍ، لأَِنَّهَا مُدَّةٌ وَاحِدَةٌ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَال: آجَرْتُكَ عِشْرِينَ شَهْرًا بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا. (4)
__________
(1) سورة الطلاق / 4.
(2) المغني 7 / 449 ط الرياض، وبدائع الصنائع 3 / 195، وفتح القدير 3 / 29، والقوانين الفقهية ص 235 نشر دار الكتاب العربي، ومغني المحتاج 3 / 386، 395، وروضة الطالبين 8 / 370.
(3) سورة البقرة / 234.
(4) المغني مع الشرح الكبير 6 / 19 - 20، وتكملة فتح القدير 7 / 176 ط بولاق، والتاج والإكليل 5 / 440.(26/262)
أَمَّا إِذَا قَال الْمُؤَجِّرُ: آجَرْتُكَ هَذَا كُل شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ. فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ الإِْجَارَةِ حَسَبَ الاِتِّجَاهَاتِ التَّالِيَةِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى: أَنَّ الإِْجَارَةَ صَحِيحَةٌ إِلاَّ أَنَّ الشَّهْرَ الأَْوَّل تَلْزَمُ الإِْجَارَةُ فِيهِ بِإِطْلاَقِ الْعَقْدِ، وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الشُّهُورِ يَلْزَمُ الْعَقْدُ فِيهِ بِالتَّلَبُّسِ بِهِ، وَهُوَ السُّكْنَى فِي الدَّارِ. وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَقَى لِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ كُل دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ، وَجَاءَ بِالتَّمْرِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُل مِنْهُ، (1) قَال عَلِيٌّ: كُنْتُ أَدْلُو الدَّلْوَ وَأَشْتَرِطُهَا جَلْدَةً (2) . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَْنْصَارِ قَال لِيَهُودِيٍّ: أَسْقِي نَخْلَكَ؟ قَال: كُل دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ. وَاشْتَرَطَ الأَْنْصَارِيُّ أَنْ لاَ يَأْخُذَهَا خَدِرَةً عَفِنَةً وَلاَ تَارِزَةً يَابِسَةً وَلاَ حَشَفَةً. وَلاَ يَأْخُذَ إِلاَّ جَلْدَةً
__________
(1) حديث: " أن عليا استقى لرجل من اليهود ". أخرجه ابن ماجه (2 / 818 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس، وقال البوصيري: " هذا إسناد ضعيف " كذا في مصباح الزجاجة (2 / 53 - ط دار الجنان) وقال ابن حجر: " رواه أحمد من طريق علي بإسناد جيد " كذا في التلخيص الحبير (3 / 61 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث علي: " كنت أدلو الدلو. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 818 - ط الحلبي) وقال البوصيري: " هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات موقوفًا ". كذا في مصباح الزجاجة (2 / 53 - ط دار الجنان) .(26/262)
فَاسْتَقَى بِنَحْوٍ مِنْ صَاعَيْنِ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهُوَ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا؛ وَلأَِنَّ شُرُوعَهُ فِي كُل شَهْرٍ مَعَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعَقْدِ مِنَ الاِتِّفَاقِ عَلَى تَقْدِيرِ أَجْرِهِ وَالرِّضَا بِبَذْلِهِ بِهِ جَرَى مَجْرَى ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ وَصَارَ كَالْبَيْعِ بِالْمُعَاطَاةِ. (2)
وَالْمَالِكِيَّةُ وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ بِصِحَّةِ الإِْجَارَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ لاَ يَعْتَبِرُونَ الإِْجَارَةَ لاَزِمَةً فَلِكُلٍّ مِنَ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَهُمْ حَل الْعَقْدِ عَنْ نَفْسِهِ مَتَى شَاءَ، وَلاَ كَلاَمَ لِلآْخَرِ. (3)
وَالْقَوْل الصَّحِيحُ لِلشَّافِعِيَّةِ وَلأَِبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جَعْفَرٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ لأَِنَّ " كُل " اسْمٌ لِلْعَدَدِ، فَإِذَا لَمْ يُقَدِّرْهُ كَانَ مُبْهَمًا مَجْهُولاً فَيَكُونُ فَاسِدًا كَمَا لَوْ قَال: آجَرْتُكَ مُدَّةً أَوْ شَهْرًا. (4)
قَال فِي الإِْمْلاَءِ - وَهُوَ الْقَوْل الْمُقَابِل لِلصَّحِيحِ لِلشَّافِعِيَّةِ -: تَصِحُّ الإِْجَارَةُ فِي
__________
(1) حديث أبي هريرة: أن رجلا من الأنصار قال ليهودي: أسقي نخلك. أخرجه ابن ماجه (2 / 818 - 819 - ط الحلبي) وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 53 - ط دار الجنان) .
(2) المغني مع الشرح الكبير 6 / 18 - 19.
(3) الشرح الصغير 4 / 60.
(4) المهذب 1 / 403 نشر دار المعرفة، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 18.(26/263)
الشَّهْرِ الأَْوَّل، وَتَبْطُل فِيمَا زَادَ؛ لأَِنَّ الشَّهْرَ الأَْوَّل مَعْلُومٌ وَمَا زَادَ مَجْهُولٌ، فَصَحَّ فِي الْمَعْلُومِ وَبَطَل فِي الْمَجْهُول، كَمَا لَوْ قَال: آجَرْتُكَ هَذَا الشَّهْرَ بِدِينَارٍ وَمَا زَادَ بِحِسَابِهِ (1) .
الْمُرَادُ بِالشَّهْرِ فِي الإِْجَارَةِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ عَقْدَ الإِْجَارَةِ إِذَا انْطَبَقَ عَلَى أَوَّل الشَّهْرِ كَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ وَمَا بَعْدَهُ بِالأَْهِلَّةِ (2) .
وَإِنْ لَمْ يَنْطَبِقِ الْعَقْدُ عَلَى أَوَّل الشَّهْرِ تَمَّمَ الْمُنْكَسِرَ بِالْعَدَدِ مِنَ الأَْخِيرِ، وَيُحْسَبُ الثَّانِي بِالأَْهِلَّةِ. بِهَذَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ فِي بَابِ الْعِدَّةِ (3) .
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةٍ - نَقَلَهَا عَنْهُ ابْنُ قُدَامَةَ - وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ يُسْتَوْفَى الْجَمِيعُ بِالْعَدَدِ؛ لأَِنَّ الشَّهْرَ الأَْوَّل يَكْمُل بِالأَْيَّامِ مِنَ الثَّانِي، فَيَصِيرُ أَوَّل الثَّانِي
__________
(1) المهذب 1 / 403.
(2) فتح القدير 3 / 30 ط بولاق، وابن عابدين 5 / 32، ومطالب أولي النهى 3 / 622، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 5، والمهذب 1 / 403.
(3) المغني مع الشرح الكبير 6 / 5، ومطالب أولي النهى 3 / 622، وفتح القدير 3 / 30، والمهذب 1 / 403، وروضة الطالبين 5 / 197، والقوانين الفقهية ص 236، والشرح الصغير 2 / 673.(26/263)
بِالأَْيَّامِ، فَيَكْمُل بِالثَّالِثِ وَهَكَذَا (1) .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْخِلاَفَ يَجْرِي فِي كُل مَا يُعْتَبَرُ بِالأَْشْهُرِ، كَعِدَّةِ وَفَاةٍ، وَصَوْمِ شَهْرَيْ كَفَّارَةٍ، وَمُدَّةِ خِيَارٍ، وَأَجَل ثَمَنٍ وَسَلَمٍ لأَِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِل تُسَاوِي مَا تَقَدَّمَ مَعْنًى (2) .
الشَّهْرُ الْحَرَامُ
انْظُرْ: الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ
شَهْرُ رَمَضَانَ
انْظُرْ: رَمَضَانُ
شُهْرَةٌ
انْظُرْ: تَسَامُحٌ، أَلْبِسَةٌ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 32، وفتح القدير 3 / 30، والمغني مع الشرح الكبير 6 / 5.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 622، وفتح القدير 3 / 30 ط. بولاق.(26/264)
شَهْوَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّهْوَةُ لُغَةً: اشْتِيَاقُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ، وَالْجَمْعُ: شَهَوَاتٌ. وَشَيْءٌ شَهِيٌّ، مِثْل لَذِيذٍ، وَزْنًا وَمَعْنًى. وَاشْتَهَاهُ وَتَشَهَّاهُ: أَحَبَّهُ وَرَغِبَ فِيهِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَوَقَانُ النَّفْسِ إِلَى الْمُسْتَلَذَّاتِ (2) .
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: الشَّهَوَاتُ عِبَارَةٌ عَمَّا يُوَافِقُ الإِْنْسَانَ وَيَشْتَهِيهِ وَيُلاَئِمُهُ وَلاَ يَتَّقِيهِ (3) .
وَفِي إِعْطَاءِ النَّفْسِ حَظَّهَا مِنَ الشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةِ مَذَاهِبُ حَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ.
أَحَدُهَا: مَنْعُهَا وَقَهْرُهَا كَيْ لاَ تَطْغَى.
وَالثَّانِي: إِعْطَاؤُهَا تَحَيُّلاً عَلَى نَشَاطِهَا وَبَعْثًا لِرُوحَانِيَّتِهَا.
وَالثَّالِثُ: قَال - وَهُوَ الأَْشْبَهُ -:
__________
(1) ترتيب القاموس المحيط والمصباح المنير.
(2) التعريفات وكشاف اصطلاح الفنون 3 / 788.
(3) تفسير القرطبي 11 / 125.(26/264)
التَّوَسُّطُ؛ لأَِنَّ فِي إِعْطَاءِ الْكُل سَلاَطَةً، وَفِي الْمَنْعِ بَلاَدَةً (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّهْوَةِ:
نَقْضُ الْوُضُوءِ بِاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ:
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى: أَنَّ لَمْسَ الْمَرْأَةِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ بِشَهْوَةٍ أَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ غَيْرُ نَاقِضٍ لِلْوُضُوءِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى: أَنَّهُ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِمُبَاشَرَةِ فَاحِشَةٍ اسْتِحْسَانًا. وَهِيَ مَسُّ فَرْجٍ أَوْ دُبُرٍ بِذَكَرٍ مُنْتَصِبٍ بِلاَ حَائِلٍ يَمْنَعُ حَرَارَةَ الْجَسَدِ، أَوْ مَعَ وُجُودِ حَائِلٍ رَقِيقٍ لاَ يَمْنَعُ الْحَرَارَةَ.
وَكَمَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُ الرَّجُل يُنْتَقَضُ وُضُوءُ الْمَرْأَةِ كَمَا فِي الْقُنْيَةِ.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ إِلاَّ بِخُرُوجِ الْمَذْيِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ.
وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ: أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ الْفَاحِشَةَ لاَ تَخْلُو عَنْ خُرُوجِ الْمَذْيِ غَالِبًا، وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ.
وَفِي مَجْمَعِ الأَْنْهُرِ: قَوْلُهُ: (أَيْ مُحَمَّدٍ) :
__________
(1) عميرة علي شرح المنهاج 4 / 264، ونهاية المحتاج 8 / 154، وحاشية الجمل 5 / 279.(26/265)
أَقْيَسُ، وَقَوْلُهُمَا: أَحْوَطُ (1) .
3 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّ لَمْسَ الْمُتَوَضِّئِ الْبَالِغِ لِشَخْصٍ يُلْتَذُّ بِمِثْلِهِ عَادَةً - مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى - يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَلَوْ كَانَ الْمَلْمُوسُ غَيْرَ بَالِغٍ، أَوْ كَانَ اللَّمْسُ لِظُفُرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ كَثَوْبٍ، وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَائِل خَفِيفًا يُحِسُّ اللاَّمِسُ مَعَهُ بِطَرَاوَةِ الْبَدَنِ، أَمْ كَانَ كَثِيفًا، وَتَأَوَّلَهَا بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِالْخَفِيفِ، وَمَحَل الْخِلاَفِ بَيْنَ الْخَفِيفِ وَالْكَثِيفِ مَا لَمْ يَقْبِضْ، فَإِنْ قَبَضَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْجِسْمِ نُقِضَ اتِّفَاقًا
وَمَحَل النَّقْضِ: إِنْ قَصَدَ التَّلَذُّذَ بِلَمْسِهِ، وَإِنْ لَمْ تَحْصُل لَهُ لَذَّةٌ حَال لَمْسِهِ، أَوْ وَجَدَهَا حَال اللَّمْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا لَهَا ابْتِدَاءً. فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ وَلَمْ تَحْصُل لَهُ لَذَّةٌ فَلاَ نَقْضَ وَلَوْ وَجَدَهَا بَعْدَ اللَّمْسِ.
وَالْمَلْمُوسُ - إِنْ بَلَغَ وَوَجَدَ اللَّذَّةَ أَوْ قَصَدَهَا - بِأَنْ مَالَتْ نَفْسُهُ لأََنْ يَلْمِسَهُ غَيْرُهُ فَلَمَسَهُ: انْتُقِضَ وُضُوءُهُ؛ لأَِنَّهُ صَارَ فِي الْحَقِيقَةِ لاَمِسًا وَمَلْمُوسًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا فَلاَ نَقْضَ، وَلَوْ قَصَدَ وَوَجَدَ.
وَأَمَّا الْقُبْلَةُ فِي الْفَمِ فَتَنْقُضُ الْوُضُوءَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ قَصَدَ الْمُقَبِّل اللَّذَّةَ أَوْ وَجَدَهَا،
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 51، وابن عابدين 1 / 99، وتبيين الحقائق 1 / 12.(26/265)
أَمْ لاَ؛ لأَِنَّهَا مَظِنَّةُ اللَّذَّةِ بِخِلاَفِهَا فِي غَيْرِ الْفَمِ. وَسَوَاءٌ فِي النَّقْضِ: الْمُقَبِّل وَالْمُقَبَّل، وَلَوْ وَقَعَتْ بِإِكْرَاهٍ أَوِ اسْتِغْفَالٍ.
وَلاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِلَذَّةٍ مِنْ نَظَرٍ أَوْ فِكْرٍ وَلَوْ أَنْعَظَ، وَلاَ بِلَمْسِ صَغِيرَةٍ لاَ تُشْتَهَى أَوْ بَهِيمَةٍ (1) .
4 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْتِقَاءَ بَشَرَتَيِ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِشَهْوَةٍ أَوْ إِكْرَاهٍ، أَوْ نِسْيَانٍ، أَوْ يَكُونَ الرَّجُل مَمْسُوحَ الذَّكَرِ، أَوْ خَصِيًّا، أَوْ عِنِّينًا، أَوِ الْمَرْأَةُ عَجُوزًا شَوْهَاءَ أَوْ كَافِرَةً.
وَاللَّمْسُ عِنْدَهُمُ: الْحِسُّ بِالْيَدِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مَظِنَّةُ ثَوَرَانِ الشَّهْوَةِ، وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ بَاقِي صُوَرِ الاِلْتِقَاءِ فَأُلْحِقَتْ بِهِ، بِخِلاَفِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الْفَرْجِ، فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِبَطْنِ الْكَفِّ لأَِنَّ الْمَسَّ إِنَّمَا يُثِيرُ الشَّهْوَةَ بِبَطْنِ الْكَفِّ، وَاللَّمْسُ يُثِيرُهَا بِهِ وَبِغَيْرِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالرَّجُل: الذَّكَرُ إِذَا بَلَغَ حَدًّا يَشْتَهِي لاَ الْبَالِغُ.
وَبِالْمَرْأَةِ: الأُْنْثَى إِذَا صَارَتْ مُشْتَهَاةً لاَ الْبَالِغَةُ.
وَلاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِ الْمَحْرَمِ لَهُ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ، وَلَوْ بِشَهْوَةٍ فِي
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 142 - 144.(26/266)
الأَْظْهَرِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مَظِنَّةَ الشَّهْوَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، كَالرَّجُل. وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} (1) .
وَالْمَلْمُوسُ رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً كَاللاَّمِسِ فِي نَقْضِ وُضُوئِهِ فِي الأَْظْهَرِ؛ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي لَذَّةِ اللَّمْسِ.
وَلاَ نَقْضَ بِلَمْسِ الصَّغِيرَةِ أَوِ الصَّغِيرِ إِذَا لَمْ يَبْلُغْ كُلٌّ مِنْهُمَا حَدًّا يُشْتَهَى عُرْفًا. وَلاَ بِلَمْسِ الشَّعْرِ أَوِ السِّنِّ أَوِ الظُّفُرِ فِي الأَْصَحِّ (2) .
5 - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى. أَنَّ مِنَ النَّوَاقِضِ لِلْوُضُوءِ مَسُّ بَشَرَةِ الذَّكَرِ بَشَرَةَ أُنْثَى لِشَهْوَةٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} .
وَأَمَّا كَوْنُ اللَّمْسِ لاَ يَنْقُضُ إِلاَّ إِذَا كَانَ لِشَهْوَةٍ فَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الآْيَةِ وَالأَْخْبَارِ. لأَِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: فَقَدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ (3) . وَنَصْبُهُمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي، وَرُوِيَ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيِ
__________
(1) سورة النساء / 43.
(2) مغني المحتاج 1 / 34 - 35.
(3) حديث عائشة: " فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش. . . ". أخرجه مسلم: (1 / 352 - ط. الحلبي) .(26/266)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجْلاَيَ فِي قِبْلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ. غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلِي (1) .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ غَمْزَهُ رِجْلَيْهَا كَانَ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ. وَلأَِنَّ الْمَسَّ لَيْسَ بِحَدَثٍ فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ دَاعٍ إِلَى الْحَدَثِ، فَاعْتُبِرَتِ الْحَالَةُ الَّتِي يَدْعُو فِيهَا إِلَى الْحَدَثِ، وَهِيَ حَالَةُ الشَّهْوَةِ.
وَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ مَسُّ بَشَرَتِهَا بَشَرَتَهُ لِشَهْوَةٍ؛ لأَِنَّهَا مُلاَمَسَةٌ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَاسْتَوَى فِيهَا الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى كَالْجِمَاعِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي الْمَسِّ النَّاقِضِ لِلْوُضُوءِ: أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ؛ لأَِنَّهُ مَعَ الْحَائِل لَمْ يَلْمِسْ بَشَرَتَهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمَسَ ثِيَابَهَا لِشَهْوَةٍ، وَالشَّهْوَةُ لاَ تُوجِبُ الْوُضُوءَ بِمُجَرَّدِهَا. وَلاَ يَنْقُضُ مَسُّ الرَّجُل الطِّفْلَةَ، وَلاَ مَسُّ الْمَرْأَةِ الطِّفْل. أَيْ: مِنْ دُونِ سَبْعِ سَنَوَاتٍ، وَلاَ يُنْتَقَضُ وُضُوءُ مَلْمُوسِ بَدَنِهِ وَلَوْ وَجَدَ مِنْهُ شَهْوَةً؛ لأَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِيهِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُنْتَقَضُ وُضُوءُ الْمَلْمُوسِ إِذَا وُجِدَتْ مِنْهُ الشَّهْوَةُ؛ لأَِنَّ مَا يُنْتَقَضُ بِالْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ لاَ فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ اللاَّمِسِ وَالْمَلْمُوسِ (2) .
__________
(1) حديث عائشة: " كنت أنام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البخاري، (الفتح 3 / 80 ط. السلفية) ومسلم (1 / 367 - ط. الحلبي) .
(2) المغني لابن قدامة 1 / 195 طبعة الرياض.(26/267)
وَلاَ يُنْتَقَضُ وُضُوءٌ بِانْتِشَارِ ذَكَرٍ عَنْ فِكْرٍ وَتَكْرَارِ نَظَرٍ، وَلاَ بِلَمْسِ شَعْرٍ وَظُفُرٍ وَسِنٍّ وَلاَ الْمَسِّ بِهِ؛ لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِل، وَلاَ مَسِّ عُضْوٍ مَقْطُوعٍ لِزَوَال حُرْمَتِهِ، وَلاَ يُنْتَقَضُ وُضُوءُ رَجُلٍ مَسَّ أَمْرَدَ (1) . وَلَوْ بِشَهْوَةٍ، لِعَدَمِ تَنَاوُل الآْيَةِ لَهُ. وَلأَِنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلشَّهْوَةِ شَرْعًا.
وَلاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ الرَّجُل الرَّجُل، وَلاَ بِمَسِّ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ (2) .
وَتَفْصِيل مَا تَقَدَّمَ فِي مُصْطَلَحِ (وُضُوءٌ) .
الشَّهْوَةُ وَأَثَرُهَا فِي الصَّوْمِ:
أ - الإِْنْزَال بِنَظَرٍ أَوْ فِكْرٍ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى: أَنَّ إِنْزَال الْمَنِيِّ أَوِ الْمَذْيِ عَنْ نَظَرٍ وَفِكْرٍ لاَ يُبْطِل الصِّيَامَ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ: إِذَا اعْتَادَ الإِْنْزَال بِالنَّظَرِ، أَوْ كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَل يَفْسُدُ الصِّيَامُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ إِنْزَال الْمَنِيِّ بِالنَّظَرِ الْمُسْتَدِيمِ يُفْسِدُ الصَّوْمَ؛ لأَِنَّهُ إِنْزَالٌ بِفِعْلٍ يُتَلَذَّذُ بِهِ، وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ.
وَأَمَّا الإِْنْزَال عَنْ فِكْرٍ فَيُفْسِدُ الصَّوْمَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يُفْسِدُهُ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ.
__________
(1) الأمرد: الشاب طرّ شاربه ولم تنبت لحيته. القاموس.
(2) كشاف القناع 1 / 128 - 129.(26/267)
ب - الإِْنْزَال عَنْ قُبْلَةٍ أَوْ مَسٍّ أَوْ مُعَانَقَةٍ.
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ إِنْزَال الْمَنِيِّ بِاللَّمْسِ أَوِ الْمُعَانَقَةِ أَوِ الْقُبْلَةِ يُفْسِدُ الصَّوْمَ؛ لأَِنَّهُ إِنْزَالٌ بِمُبَاشَرَةٍ فَأَشْبَهَ الإِْنْزَال بِالْجِمَاعِ دُونَ الْفَرْجِ. أَمَّا إِذَا حَصَل مِنَ الْقُبْلَةِ وَالْمُعَانَقَةِ وَاللَّمْسِ إِنْزَال مَذْيٍ فَلاَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَيُفْسِدُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ خَارِجٌ تَخَلَّلَهُ الشَّهْوَةُ خَرَجَ بِالْمُبَاشَرَةِ فَأَفْسَدَ الصَّوْمَ كَالْمَنِيِّ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ) .
الشَّهْوَةُ وَأَثَرُهَا فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ:
أ - الْجِمَاعُ:
8 - إِذَا وَقَعَ الْجِمَاعُ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ وَإِذَا وَقَعَ الْجِمَاعُ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَقَبْل التَّحَلُّل الأَْوَّل فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ فَسَادِ الْحَجِّ وَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ بَدَنَةً.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ التَّحَلُّل الأَْوَّل لاَ يُفْسِدُ الْحَجَّ.
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ: الْمَوْسُوعَةُ 2 191 - 193) .
__________
(1) مراقي الفلاح ص 362، وابن عابدين 2 / 112. والقوانين الفقهية ص 118، ومغني المحتاج 1 / 430 - 431 والمغني 3 / 111 - 312 وما بعدها.(26/268)
ب - مُقَدِّمَاتُ الْجِمَاعِ:
9 - اللَّمْسُ بِشَهْوَةٍ وَالتَّقْبِيل وَالْمُبَاشَرَةُ بِغَيْرِ جِمَاعٍ، يَجِبُ عَلَى مَنْ فَعَل شَيْئًا مِنْهَا الدَّمُ، سَوَاءٌ أَنْزَل أَمْ لَمْ يُنْزِل، وَحَجُّهُ صَحِيحٌ عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ: الْمَوْسُوعَةُ 2 192 - 193) .
ج - النَّظَرُ وَالتَّفَكُّرُ:
10 - النَّظَرُ أَوِ التَّفَكُّرُ بِشَهْوَةٍ إِذَا أَدَّى إِلَى الإِْنْزَال لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَتَفْصِيل الْخِلاَفِ فِيهِ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ: الْمَوْسُوعَةُ 2 193) .
النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ:
نَظَرُ الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ:
11 - أ - إِذَا كَانَتْ زَوْجَةً جَازَ لِلزَّوْجِ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ جَسَدِهَا بِشَهْوَةٍ:
ب - إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ ذَاتَ مَحْرَمٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجُوزُ نَظَرُ الْبَالِغِ بِلاَ شَهْوَةٍ مِنْ مَحْرَمِهِ الأُْنْثَى. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا كَالرَّقَبَةِ وَالرَّأْسِ وَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، وَلَمْ يُجِزِ الْحَنَابِلَةُ النَّظَرَ إِلَى مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ النَّظَرِ إِلَى الصَّدْرِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ، وَلَمْ يُجِيزُوا النَّظَرَ إِلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا؛ لأَِنَّهُ أَدْعَى لِلشَّهْوَةِ.(26/268)
وَتَوَسَّعَ الشَّافِعِيَّةُ فَأَجَازُوا النَّظَرَ إِلَى جَمِيعِ جَسَدِهَا إِلاَّ مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرُكْبَتِهَا، وَأَجَازُوا النَّظَرَ إِلَى السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ؛ لأَِنَّهُمَا لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِنَظَرِ الْمَحْرَمِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يُجِيزُوا النَّظَرَ إِلاَّ إِلَى وَجْهِهَا وَيَدَيْهَا دُونَ سَائِرِ جَسَدِهَا. هَذَا وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى حُرْمَةِ النَّظَرِ بِشَهْوَةٍ إِلَى مَحْرَمِهِ الأُْنْثَى.
ج - إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ أَجْنَبِيَّةً حُرَّةً فَلاَ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهَا بِشَهْوَةٍ مُطْلَقًا، أَوْ مَعَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ نَظَرُ الأَْجْنَبِيِّ إِلَى سَائِرِ بَدَنِ الأَْجْنَبِيَّةِ الْحُرَّةِ إِلاَّ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (1) . إِلاَّ أَنَّ النَّظَرَ إِلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَهِيَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ خُصَّ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (2) وَالْمُرَادُ مِنَ الزِّينَةِ مَوَاضِعُهَا، وَمَوَاضِعُ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ، فَالْكُحْل زِينَةُ الْوَجْهِ وَالْخَاتَمُ زِينَةُ الْكَفِّ؛ وَلأَِنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالأَْخْذِ وَالْعَطَاءِ، وَلاَ يُمْكِنُهَا ذَلِكَ عَادَةً إِلاَّ بِكَشْفِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، فَيَحِل لَهَا الْكَشْفُ، وَهَذَا
__________
(1) سورة النور / 30.
(2) سورة النور / 31.(26/269)
قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَحِل النَّظَرُ إِلَى الْقَدَمَيْنِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ كَالْحَنَفِيَّةِ فِي جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ الأَْجْنَبِيَّةِ وَكَفَّيْهَا. أَمَّا النَّظَرُ إِلَى الْقَدَمَيْنِ فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ نَظَرُ بَالِغٍ عَاقِلٍ مُخْتَارٍ، وَلَوْ شَيْخًا أَوْ عَاجِزًا عَنِ الْوَطْءِ أَوْ مُخَنَّثًا - وَهُوَ الْمُتَشَبِّهُ بِالنِّسَاءِ - إِلَى عَوْرَةِ أَجْنَبِيَّةٍ حُرَّةٍ كَبِيرَةٍ - وَهِيَ مَنْ بَلَغَتْ حَدًّا تُشْتَهَى فِيهِ لِلنَّاظِرِ بِلاَ خِلاَفٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} وَالْمُرَادُ بِالْعَوْرَةِ: مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ.
وَكَذَا يَحْرُمُ عِنْدَهُمْ: النَّظَرُ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ عِنْدَ خَوْفِ فِتْنَةٍ تَدْعُو إِلَى الاِخْتِلاَءِ بِهَا لِجِمَاعٍ أَوْ مُقَدِّمَاتِهِ بِالإِْجْمَاعِ كَمَا قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ.
وَكَذَا يَحْرُمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ النَّظَرُ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ عِنْدَ الأَْمْنِ مِنَ الْفِتْنَةِ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، كَذَا فِي الْمِنْهَاجِ لِلنَّوَوِيِّ.
وَوَجَّهَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْعِ النِّسَاءِ مِنَ الْخُرُوجِ سَافِرَاتِ الْوُجُوهِ، وَبِأَنَّ النَّظَرَ مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ وَمُحَرِّكٌ لِلشَّهْوَةِ، وَقَدْ قَال تَعَالَى: {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} وَاللاَّئِقُ بِمَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ سَدُّ(26/269)
الْبَابِ وَالإِْعْرَاضُ عَنْ تَفَاصِيل الأَْحْوَال كَالْخَلْوَةِ بِالأَْجْنَبِيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ، وَنَسَبَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ لِجُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ، وَنَسَبَهُ الشَّيْخَانِ لِلأَْكْثَرِينَ، وَقَال الإِْسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ: إِنَّهُ الصَّوَابُ لِكَوْنِ الأَْكْثَرِينَ عَلَيْهِ، وَقَال الْبُلْقِينِيُّ: التَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ الْمُدْرَكِ، وَالْفَتْوَى عَلَى مَا فِي الْمِنْهَاجِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ نَظَرِ الرَّجُل إِلَى جَمِيعِ بَدَنِ الأَْجْنَبِيَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فِي ظَاهِرِ كَلاَمِ أَحْمَدَ. وَقَال الْقَاضِي: يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إِلَى مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ؛ لأَِنَّهُ عَوْرَةٌ، وَيُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِمَا مَعَ الْكَرَاهَةِ إِذَا أَمِنَ الْفِتْنَةَ وَنَظَرَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ.
هَذَا وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ إِلَى الْمَرْأَةِ بِشَهْوَةٍ حَرَامٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَحْرَمًا أَمْ أَجْنَبِيَّةً عَدَا زَوْجَتَهُ وَمَنْ تَحِل لَهُ.
وَكَذَا يَحْرُمُ نَظَرُ الأَْجْنَبِيَّةِ إِلَى الأَْجْنَبِيِّ إِذَا كَانَ بِشَهْوَةٍ (1) .
اللَّمْسُ بِشَهْوَةٍ:
12 - مَتَى حَرُمَ النَّظَرُ حَرُمَ الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ؛ لأَِنَّ الْمَسَّ أَبْلَغُ مِنَ النَّظَرِ فِي إِثَارَةِ الشَّهْوَةِ، وَمَا
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 119 - 124، والشرح الكبير 2 / 215، ومغني المحتاج 3 / 128 - 129، والمغني 6 / 552 - 560.(26/270)
حَل نَظَرُهُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى حَل لَمْسُهُ إِذَا أَمِنَ الشَّهْوَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ ذَلِكَ أَوْ شَكَّ فَلاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ وَاللَّمْسُ.
أَمَّا الأَْجْنَبِيَّةُ فَلاَ يَحِل مَسُّ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَإِنْ أَمِنَ الشَّهْوَةَ؛ لأَِنَّهُ أَغْلَظُ مِنَ النَّظَرِ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (لَمْسٌ وَمَسٌّ) .
أَثَرُ الشَّهْوَةِ فِي النِّكَاحِ:
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ بِالزِّنَى.
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ اللِّوَاطَ فِي رِوَايَةٍ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ اللِّوَاطَ لاَ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ؛ لأَِنَّ الْمُحَرَّمَاتِ بِاللِّوَاطِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِنَّ فِي التَّحْرِيمِ، فَيَدْخُلْنَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِل لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى: أَنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ كَمَا تَثْبُتُ بِالزِّنَى تَثْبُتُ بِالْمَسِّ وَالنَّظَرِ بِشَهْوَةٍ.
فَيَحْرُمُ أَصْل مَمْسُوسَةٍ بِشَهْوَةٍ وَلَوْ لِشَعْرٍ عَلَى الرَّأْسِ بِحَائِلٍ لاَ يَمْنَعُ الْحَرَارَةَ، وَكَذَا يَحْرُمُ أَصْل مَا مَسَّتْهُ.
وَيَحْرُمُ أَيْضًا نِكَاحُ أَصْل النَّاظِرَةِ بِشَهْوَةٍ إِلَى ذَكَرٍ، وَأَصْل الْمَنْظُورِ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (زِنًى، لِوَاطٌ،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 235، ومغني المحتاج 3 / 132 - 133، وكشاف القناع 5 / 15 - (ط. دار الفكر.)
(2) سور النساء / 24.(26/270)
نَظَرٌ، نِكَاحٌ) وَالْعِبْرَةُ لِلشَّهْوَةِ عِنْدَ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ لاَ بَعْدَهُمَا (1) .
حَدُّ الشَّهْوَةِ:
14 - حَدُّ الشَّهْوَةِ فِي النَّظَرِ وَالْمَسِّ تَحَرُّكُ الآْلَةِ أَوْ زِيَادَةُ التَّحَرُّكِ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَهَا، وَبِهِ يُفْتَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (لِوَاطٌ، وَنِكَاحٌ) .
أَثَرُ الشَّهْوَةِ فِي الرَّجْعَةِ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ الرَّجْعَةَ تَحْصُل بِالْقَوْل وَالْفِعْل، وَيَقْصِدُونَ بِالْفِعْل: الْوَطْءَ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَمُقَدَّمَاتُ الْوَطْءِ لاَ تَخْلُو عَنْ مَسٍّ بِشَهْوَةٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ لاَ تَحْصُل بِالْفِعْل كَالْوَطْءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ (3) . بَل لاَ بُدَّ فِيهَا مِنَ الْقَوْل قِيَاسًا عَلَى عَقْدِ الزَّوَاجِ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِالْقَوْل الدَّال عَلَيْهِ.
وَتَفْصِيل الْخِلاَفِ فِيهِ فِي مُصْطَلَحِ (رَجْعَةٌ) .
__________
(1) البدائع 2 / 260 - 261، والمغني 6 / 577.
(2) ابن عابدين 2 / 280.
(3) ابن عابدين 2 / 530، والشرح الصغير 2 / 606، والقوانين الفقهية ص 239 ومغني المحتاج 3 / 337، وكشاف القناع 5 / 343(26/271)
كَسْرُ الشَّهْوَةِ:
16 - مَنْ أَرَادَ الزَّوَاجَ وَلَمْ يَسْتَطِعْ، يَكْسِرْ شَهْوَتَهُ بِالصَّوْمِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ (1) .
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أُهْبَةَ النِّكَاحِ يَكْسِرْهَا بِالصَّوْمِ، وَلاَ يَكْسِرْهَا بِنَحْوِ كَافُورٍ بَل يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ وَيُكْرَهُ أَنْ يَحْتَال فِي قَطْعِ شَهْوَتِهِ؛ لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْخِصَاءِ، إِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لاَ يَقْطَعُ الشَّهْوَةَ بِالْكُلِّيَّةِ بَل يُفَتِّرُهَا فِي الْحَال، وَلَوْ أَرَادَ إِعَادَتَهَا بِاسْتِعْمَال ضِدِّ الأَْدْوِيَةِ لأََمْكَنَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ يَقْطَعُ الشَّهْوَةَ حَرُمَ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاحٌ) .
__________
(1) حديث: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 112 - ط. السلفية) ومسلم (2 / 1018 - ط. الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود.
(2) نهاية المحتاج 6 / 179، 8 / 416 - 417، والجمل 5 / 491، وأسنى المطالب 3 / 107، ومطالب أولي النهى 5 / 5.(26/271)
شَهِيدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّهِيدُ لُغَةً: الْحَاضِرُ. وَالشَّاهِدُ، الْعَالِمُ الَّذِي يُبَيِّنُ مَا عَلِمَهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} . (1) وَالشَّهِيدُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى - وَمَعْنَاهُ الأَْمِينُ فِي شَهَادَتِهِ وَالْحَاضِرُ.
وَالشَّهِيدُ الْمَقْتُول فِي سَبِيل اللَّهِ، وَالْجَمْعُ شُهَدَاءُ. قَال ابْنُ الأَْنْبَارِيِّ سُمِّيَ الشَّهِيدُ شَهِيدًا لأَِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ شَهِدُوا لَهُ بِالْجَنَّةِ (2) . وَقِيل: لأَِنَّهُ يَكُونُ شَهِيدًا عَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ (3) .
وَالشَّهِيدُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي قِتَال الْكُفَّارِ وَبِسَبَبِهِ (4) .
وَيُلْحَقُ بِهِ فِي أُمُورِ الآْخِرَةِ أَنْوَاعٌ يَأْتِي بَيَانُهَا.
مَنْزِلَةُ الشَّهِيدِ:
2 - الشَّهِيدُ لَهُ مَنْزِلَةٌ عَالِيَةٌ عِنْدَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ
__________
(1) سورة المائدة / 106.
(2) لسان العرب.
(3) القرطبي 4 / 218.
(4) مغني المحتاج 1 / 350، وانظر ابن عابدين 1 / 607،608.(26/272)
وَتَعَالَى - يَشْهَدُ بِهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي عَدَدٍ مِنَ الآْيَاتِ مِنْهَا:
قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيل اللَّهِ أَمْوَاتًا بَل أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} . (1)
وقَوْله تَعَالَى: {فَلْيُقَاتِل فِي سَبِيل اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآْخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِل فِي سَبِيل اللَّهِ فَيُقْتَل أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} . (2)
وَيَشْهَدُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِنْهَا:
مَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا أَحَدٌ يَدْخُل الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأَْرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ الشَّهِيدَ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَل عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ (3) .
وَمَا رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ
__________
(1) سورة آل عمران 170 - 171.
(2) سورة النساء / 74.
(3) حديث: " ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 32 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1498 - ط. الحلبي) .(26/272)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَشْفَعُ الشَّهِيدُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْل بَيْتِهِ (1) .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ، يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّل دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَْكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ (2) .
أَقْسَامُ الشَّهِيدِ:
3 - الشَّهِيدُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: الأَْوَّل شَهِيدُ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَالثَّانِي شَهِيدُ الدُّنْيَا، وَالثَّالِثُ شَهِيدُ الآْخِرَةِ (3) .
فَشَهِيدُ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ هُوَ الَّذِي يُقْتَل فِي قِتَالٍ مَعَ الْكُفَّارِ، مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ، لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَكَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا
__________
(1) حديث: " يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته " أخرجه أبو داود (2 / 34 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وابن حبان (الإحسان 7 / 84 ط. دار الكتب العلمية) واللفظ لأبي داود، وصححه ابن حبان.
(2) حديث: " للشهيد عند الله ست خصال ". أخرجه الترمذي (4 / 187 - 188 - ط. الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) مغني المحتاج 1 / 350، نشر المكتبة الإسلامية. حاشية رد المحتار 2 / 252 الطبعة الثانية. حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 425 طبع دار إحياء الكتب العربية. المغني لابن قدامة 2 / 393 - 399، نشر مكتبة القاهرة.(26/273)
هِيَ السُّفْلَى، دُونَ غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا (1) .
فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: إِنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال مُسْتَفْهِمًا: الرَّجُل يُقَاتِل لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُل يُقَاتِل لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُل يُقَاتِل لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيل اللَّهِ؟ قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ قَاتَل لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيل اللَّهِ (2) .
أَمَّا شَهِيدُ الدُّنْيَا: فَهُوَ مَنْ قُتِل فِي قِتَالٍ مَعَ الْكُفَّارِ وَقَدْ غَل فِي الْغَنِيمَةِ، أَوْ قَاتَل رِيَاءً، أَوْ لِغَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا.
وَأَمَّا شَهِيدُ الآْخِرَةِ: فَهُوَ الْمَقْتُول ظُلْمًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَكَالْمَيِّتِ بِدَاءِ الْبَطْنِ، أَوْ بِالطَّاعُونِ، أَوْ بِالْغَرَقِ، وَكَالْمَيِّتِ فِي الْغُرْبَةِ، وَكَطَالِبِ الْعِلْمِ إِذَا مَاتَ فِي طَلَبِهِ، وَالنُّفَسَاءِ الَّتِي تَمُوتُ فِي طَلْقِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاسْتُثْنِيَ مِنَ الْغَرِيبِ الْعَاصِي بِغُرْبَتِهِ، وَمِنَ الْغَرِيقِ الْعَاصِي بِرُكُوبِهِ الْبَحْرَ كَأَنْ كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ عَدَمَ السَّلاَمَةِ، أَوْ رُكُوبُهُ لإِِتْيَانِ مَعْصِيَةٍ مِنْ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 350.
(2) حديث: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 28 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1512 - 1513 ط. الحلبي) .(26/273)
الْمَعَاصِي، وَمِنَ الطَّلْقِ الْحَامِل بِزِنًى (1) .
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: الْمَطْعُونُ، وَالْمَبْطُونُ، وَالْغَرِقُ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيل اللَّهِ (2) . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُل مُسْلِمٍ (3) . وَفِي حَدِيثٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ قُتِل دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ (4) .
غُسْل الشَّهِيدِ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ شَهِيدَ الْمُعْتَرَكِ لاَ يُغَسَّل، خِلاَفًا لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، إِذْ قَالاَ بِغُسْلِهِ (5) .
أَمَّا الصَّلاَةُ عَلَيْهِ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وُجُوبَهَا (6)
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 350.
(2) حديث: " الشهداء خمسة: المبطون. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 144 ط. السلفية) ومسلم (3 / 1521 ط. الحلبي) .
(3) حديث: " الطاعون شهادة لكل مسلم " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 180 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1522 - ط. الحلبي) .
(4) حديث: " من قتل دون ماله فهو شهيد " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 123 - ط السلفية) ومسلم (1 / 125 - ط. الحلبي) .
(5) المغني لابن قدامة 2 / 393، بداية المجتهد 1 / 232، نشر مكتبة الكليات الأزهرية.
(6) تبيين الحقائق 1 / 247.(26/274)
وَهُوَ مَا قَال بِهِ الْخَلاَّل وَالثَّوْرِيُّ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الْقَوْل بِاسْتِحْبَابِهَا (1) .
وَيَسْتَدِل الْحَنَفِيَّةُ لِلُزُومِ الصَّلاَةِ بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ، وَكَانَ يُؤْتَى بِتِسْعَةٍ تِسْعَةٍ، وَحَمْزَةُ عَاشِرُهُمْ، فَيُصَلِّي عَلَيْهِمْ. وَقَالُوا: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى غَيْرِهِمْ (2) .
وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَْعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ ثُمَّ قَال: أُهَاجِرُ مَعَكَ. فَأَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةٌ، غَنِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيًا فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قُسِمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ. فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ فَقَال: مَا هَذَا؟ قَالُوا: قَسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: مَا هَذَا؟ قَال: قَسَمْتُهُ لَكَ، قَال: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى إِلَى هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى
__________
(1) المغني 2 / 393.
(2) حديث ابن عباس وابن الزبير أنه عليه الصلاة والسلام صلى على شهداء أحد. أخرجهما الطحاوي في شرح المعاني (1 / 503 - ط مطبعة الأنوار المحمدية) وإسناد حديث ابن الزبير حسن، وحديث ابن عباس قال ابن حجر عن أحد رواته: " فيه ضعف يسير " كذا في التلخيص (2 / 117 - ط شركة الطباعة الفنية) .(26/274)
حَلْقِهِ، بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ فَأَدْخُل الْجَنَّةَ. فَقَال: إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ. فَلَبِثُوا قَلِيلاً ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَال الْعَدُوِّ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْمَل قَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَهُوَ هُوَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَال: صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقَهُ. ثُمَّ كَفَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُبَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ فَكَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ صَلاَتِهِ: اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِل شَهِيدًا، أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ (1) .
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْل أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ (2) . وَقَالُوا: إِنَّ الصَّلاَةَ عَلَى الْمَيِّتِ شُرِعَتْ إِكْرَامًا لَهُ، وَالطَّاهِرُ مِنَ الذَّنْبِ لاَ يَسْتَغْنِي عَنْهَا، كَالنَّبِيِّ وَالصَّبِيِّ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ عَدَمَ غُسْلِهِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ، وَنَصَّ بَعْضُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا (3) .
__________
(1) حديث شداد بن الهاد: أن رجلا من الأعراب. أخرجه النسائي (4 / 60 - 61 ط المكتبة التجارية) وإسناده صحيح.
(2) حديث عقبة بن عامر: أنه خرج يومًا فصلى على أهل أحد. أخرجه البخاري (الفتح 3 / 209 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1795 - ط. الحلبي) .
(3) شرح الخرشي 2 / 140، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 425، شرح منح الجليل على مختصر خليل للشيخ محمد عليش 1 / 312.(26/275)
قَال الشَّافِعِيَّةُ (1) : يَحْرُمُ غُسْل الشَّهِيدِ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ حَيٌّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ بِدَفْنِهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَل عَلَيْهِمْ (2) . وَجَاءَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَل عَلَيْهِمْ وَقَال فِي قَتْلَى أُحُدٍ: زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ (3) .
وَلَعَل تَرْكَ الْغُسْل وَالصَّلاَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ جَمَاعَةُ الْمُشْرِكِينَ إِرَادَةُ أَنْ يَلْقَوْا اللَّهَ جَل وَعَزَّ بِكُلُومِهِمْ لِمَا جَاءَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رِيحَ الْكَلِمِ رِيحُ الْمِسْكِ وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ (4) وَاسْتَغْنَوْا بِكَرَامَةِ اللَّهِ جَل وَعَزَّ عَنِ الصَّلاَةِ لَهُمْ مَعَ التَّخْفِيفِ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يَكُونُ فِيمَنْ قَاتَل بِالزَّحْفِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْجِرَاحِ وَخَوْفِ عَوْدَةِ الْعَدُوِّ وَرَجَاءِ طَلَبِهِمْ وَهَمِّهِمْ بِأَهْلِيهِمْ وَهَمِّ أَهْلِيهِمْ بِهِمْ.
وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ إِبْقَاءُ أَثَرِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 349.
(2) حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في قتلى أحد بدفنهم. . . أخرجه البخاري (الفتح 3 / 209 - ط السلفية) .
(3) حديث: " زملوهم بدمائهم. . . ". أخرجه النسائي (4 / 78 - ط. المكتبة التجارية) من حديث عبد الله بن ثعلبة، وإسناده صحيح.
(4) ما ورد أن ريح الكلْم ريح المسك. أخرجه البخاري (الفتح 6 / 20 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1498 - 1499، ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.(26/275)
وَالتَّعْظِيمُ لَهُمْ بِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ دُعَاءِ الْقَوْمِ (1) .
وَوَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ قَطْرَةٍ مِنْ دُمُوعٍ فِي خَشْيَةِ اللَّهِ، وَقَطْرَةِ دَمٍ تُهْرَاقُ فِي سَبِيل اللَّهِ، أَمَّا الأَْثَرَانِ فَأَثَرٌ فِي سَبِيل اللَّهِ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ (2) .
وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ يَرَوْنَ حُرْمَةَ غُسْلِهِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، غَيْرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى كَرَاهَتَهُ، أَمَّا الصَّلاَةُ فَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ لَدَيْهِمْ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُمْ تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَيْهِ، وَمَال إِلَى هَذَا بَعْضُ عُلَمَائِهِمْ مِنْهُمُ الْخَلاَّل، وَأَبُو الْخَطَّابِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي التَّنْبِيهِ (3) .
ضَابِطُ الشَّهِيدِ الَّذِي لاَ يُغَسَّل وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ: مَنْ قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ فِي الْقِتَال، أَوْ وُجِدَ مَيِّتًا فِي مَكَانِ الْمَعْرَكَةِ وَبِهِ أَثَرُ جِرَاحَةٍ أَوْ دَمٍ، لاَ يُغَسَّل لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ: زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ
__________
(1) الأم 1 / 337، ومغني المحتاج 1 / 349،350.
(2) حديث: " ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين. . . " أخرجه الترمذي (4 / 190 - ط. الحلبي) من حديث أبي أمامة، وقال: " حديث حسن غريب ".
(3) الإنصاف في مسائل الخلاف للمرداوي 1 / 399،500 الطبعة الأولى، والمغني 2 / 393.(26/276)
وَلاَ تُغَسِّلُوهُمْ (1) ، وَلَمْ يُنْقَل خِلاَفٌ فِي هَذَا إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ (2) . وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ مَنْ ذُكِرَ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى: أَنَّ كُل مُسْلِمٍ مَاتَ بِسَبَبِ قِتَال الْكُفَّارِ حَال قِيَامِ الْقِتَال لاَ يُغَسَّل، سَوَاءٌ قَتَلَهُ كَافِرٌ، أَوْ أَصَابَهُ سِلاَحُ مُسْلِمٍ خَطَأً، أَوْ عَادَ إِلَيْهِ سِلاَحُهُ، أَوْ سَقَطَ عَنْ دَابَّتِهِ، أَوْ رَمَحَتْهُ دَابَّةٌ فَمَاتَ، أَوْ وُجِدَ قَتِيلاً بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ وَلَمْ يُعْلَمْ سَبَبُ مَوْتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ أَثَرُ دَمٍ أَمْ لاَ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالْبَالِغِ وَالصَّبِيِّ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُغَسَّل كُل مُسْلِمٍ قُتِل بِالْحَدِيدِ ظُلْمًا وَهُوَ طَاهِرٌ بَالِغٌ، وَلَمْ يَجِبْ عِوَضٌ مَالِيٌّ فِي قَتْلِهِ، فَإِنْ كَانَ جُنُبًا أَوْ صَبِيًّا، أَوْ وَجَبَ فِي قَتْلِهِ قِصَاصٌ، فَإِنَّهُ يُغَسَّل، وَإِنْ وُجِدَ قَتِيلاً فِي مَكَانِ الْمَعْرَكَةِ، فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ أَثَرٌ لِجِرَاحَةٍ، أَوْ دَمٍ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ كَالْعَيْنِ فَلاَ يُغَسَّل.
وَلَوْ خَرَجَ الدَّمُ مِنْ مَوْضِعٍ يَخْرُجُ الدَّمُ عَادَةً
__________
(1) حديث: " زملوهم. . . ". سبق تخريجه ف 4.
(2) فتح القدير 2 / 102، الفتاوى الهندية 1 / 167، مواهب الجليل 2 / 246، وروضة الطالبين 2 / 118، المجموع 5 / 260، المغني 2 / 528، الإنصاف 2 / 498.
(3) المجموع 5 / 260، روضة الطالبين 2 / 118، مواهب الجليل 2 / 246 - 247.(26/276)
مِنْهُ بِغَيْرِ آفَةٍ فِي الْغَالِبِ كَالأَْنْفِ، وَالدُّبُرِ وَالذَّكَرِ فَيُغَسَّل. وَالأَْصْل عِنْدَهُمْ فِي غُسْل الشَّهِيدِ: أَنَّ كُل مَنْ صَارَ مَقْتُولاً فِي قِتَال أَهْل الْحَرْبِ أَوِ الْبُغَاةِ، أَوْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، بِمَعْنًى مُضَافٍ إِلَى الْعَدُوِّ كَانَ شَهِيدًا، سَوَاءٌ بِالْمُبَاشَرَةِ أَوِ التَّسَبُّبِ، وَكُل مَنْ صَارَ مَقْتُولاً بِمَعْنًى غَيْرِ مُضَافٍ إِلَى الْعَدُوِّ لاَ يَكُونُ شَهِيدًا. فَإِنْ سَقَطَ مِنْ دَابَّتِهِ مِنْ غَيْرِ تَنْفِيرٍ مِنَ الْعَدُوِّ أَوِ انْفَلَتَتْ دَابَّةُ مُشْرِكٍ وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَحَدٌ فَوَطِئَتْ مُسْلِمًا، أَوْ رَمَى مُسْلِمٌ إِلَى الْعَدُوِّ فَأَصَابَ مُسْلِمًا، أَوْ هَرَبَ الْمُسْلِمُونَ فَأَلْجَأَهُمُ الْعَدُوُّ إِلَى خَنْدَقٍ، أَوْ نَارٍ، أَوْ جَعَل الْمُسْلِمُونَ الْحَسَكَ (1) حَوْلَهُمْ، فَمَشَوْا عَلَيْهَا، فِي فِرَارِهِمْ، أَوْ هُجُومِهِمْ عَلَى الْكُفَّارِ فَمَاتُوا يُغَسَّلُونَ، وَكَذَا إِنْ صَعِدَ مُسْلِمٌ حِصْنًا لِلْعَدُوِّ لِيَفْتَحَ الْبَابَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَزَلَّتْ رِجْلُهُ فَمَاتَ، يُغَسَّل (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُغَسَّل الشَّهِيدُ سَوَاءٌ كَانَ مُكَلَّفًا أَوْ غَيْرَهُ إِلاَّ إِنْ كَانَ جُنُبًا أَوِ امْرَأَةً حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا، أَوْ نِفَاسِهَا، وَإِنْ سَقَطَ مِنْ دَابَّتِهِ أَوْ وُجِدَ مَيِّتًا وَلاَ أَثَرَ بِهِ، أَوْ سَقَطَ مِنْ شَاهِقٍ فِي الْقِتَال أَوْ رَفَسَتْهُ دَابَّةٌ فَمَاتَ مِنْهَا، أَوْ عَادَ إِلَيْهِ سَهْمُهُ
__________
(1) الحسك: ما يعمل من الحديد على مثال الشوك ويلقى حول العسكر ويبث في ممرات الخيل فينشب في حوافرها.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 167.(26/277)
فِيهَا، فَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّهُ: يُغَسَّل، إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ فِعْل الْعَدُوِّ، وَمَنْ قُتِل مَظْلُومًا، بِأَيِّ سِلاَحٍ قُتِل، كَقَتِيل اللُّصُوصِ وَنَحْوِهِ يُلْحَقُ بِشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ، فَلاَ يُغَسَّل فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ: يُغَسَّل مَنْ قَتَلَهُ اللُّصُوصُ أَوِ الْبُغَاةُ.
أَمَّا مَنْ مَاتَ فِي غَيْرِ مَا ذُكِرَ مِنَ الَّذِينَ وَرَدَ فِيهِمْ أَنَّهُمْ شُهَدَاءُ: كَالْغَرِيقِ، وَالْمَبْطُونِ، وَالْمَرْأَةِ الَّتِي مَاتَتْ فِي الْوِلاَدَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ شُهَدَاءُ فِي الآْخِرَةِ، وَلَكِنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (2) .
إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ عَنِ الشَّهِيدِ:
6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى الشَّهِيدِ نَجَاسَةٌ غَيْرُ دَمِ الشَّهَادَةِ تُغْسَل عَنْهُ، وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى إِزَالَةِ دَمِ الشَّهَادَةِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَثَرِ الْعِبَادَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلاَ تُغْسَل النَّجَاسَةُ إِذَا كَانَتْ تُؤَدِّي إِلَى إِزَالَةِ دَمِ الشَّهَادَةِ (3) .
وَسَبَقَ أَنَّ النَّجَاسَةَ تُغْسَل عَنِ الشَّهِيدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
__________
(1) الإنصاف 2 / 501،502 وما بعده.
(2) المجموع 5 / 260، وروضة الطالبين 2 / 118، ومواهب الجليل 2 / 246.
(3) أسنى المطالب 1 / 315، روضة الطالبين 2 / 120، الإنصاف 2 / 499، مواهب الجليل 2 / 249.(26/277)
مَوْتُ الشَّهِيدِ بِجِرَاحِهِ فِي الْمَعْرَكَةِ:
7 - الْمُرْتَثُّ: وَهُوَ مَنْ جُرِحَ فِي الْقِتَال، وَقَدْ بَقِيَتْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ ثُمَّ مَاتَ يُغَسَّل وَإِنْ قُطِعَ أَنَّ جِرَاحَتَهُ سَتُؤَدِّي إِلَى مَوْتِهِ (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (ارْتِثَاثٌ 3 9) .
تَكْفِينُ الشَّهِيدِ:
8 - شَهِيدُ الْقِتَال مَعَ الْكُفَّارِ لاَ يُكَفَّنُ كَسَائِرِ الْمَوْتَى بَل يُدْفَنُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْمَعْرَكَةِ بَعْدَ نَزْعِ آلَةِ الْحَرْبِ عَنْهُ. لِحَدِيثِ: زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي ثِيَابِهِمْ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَكْفِينٌ ف 14) .
دَفْنُ الشَّهِيدِ:
9 - مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُدْفَنَ الشُّهَدَاءُ فِي مَصَارِعِهِمْ، وَلاَ يُنْقَلُونَ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، فَإِنَّ قَوْمًا مِنَ الصَّحَابَةِ نَقَلُوا قَتْلاَهُمْ فِي وَاقِعَةِ أُحُدٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَنَادَى مُنَادِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَْمْرِ بِرَدِّ الْقَتْلَى إِلَى مَصَارِعِهِمْ (2) .
فَقَدْ قَال جَابِرٌ: فَبَيْنَمَا أَنَا فِي النَّظَّارِينَ إِذْ جَاءَتْ عَمَّتِي بِأَبِي وَخَالِي عَادَلَتْهُمَا عَلَى نَاضِحٍ، فَدَخَلَتْ بِهِمَا الْمَدِينَةَ لِتَدْفِنَهُمَا فِي مَقَابِرِنَا، إِذْ لَحِقَ رَجُلٌ يُنَادِي، أَلاَ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 315، الإنصاف 2 / 502، رد المحتار 1 / 610، مواهب الجليل 2 / 248.
(2) البدائع 1 / 344، ابن عابدين 1 / 610، وجواهر الإكليل 1 / 111، والقليوبي 1 / 139، وروضة الطالبين 2 / 120، 131، والمغني 2 / 509، 531، 532.(26/278)
إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا بِالْقَتْلَى فَتَدْفِنُوهَا فِي مَصَارِعِهَا حَيْثُ قُتِلَتْ: فَرَجَعْنَا بِهِمَا فَدَفَنَّاهُمَا حَيْثُ قُتِلاَ. . (1) .
دَفْنُ أَكْثَرَ مِنْ شَهِيدٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ:
10 - يَجُوزُ دَفْنُ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الثَّلاَثَةِ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ، فَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُول: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ، وَقَال: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُصَل عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ (2) .
وَدَفَنَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ وَعَمْرَو بْنَ جَمُوحٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَحَبَّةِ، إِذْ قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ادْفِنُوا هَذَيْنِ الْمُتَحَابَّيْنِ فِي الدُّنْيَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ (3) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (دَفْنٌ ف 14) .
__________
(1) حديث جابر: بينا أنا في النظارين أخرجه أحمد 3 / 398 - ط الميمنية) وإسناده حسن.
(2) حديث: " أيهم أكثرهم أخذًا في القرآن. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 212 - 217 - ط. السلفية) .
(3) زاد المعاد في هدي خير العباد 2 / 109، طبع سنة 1390 هـ - 1970م والبدائع 1 / 319، وابن عابدين 1 / 598، والدسوقي 1 / 422، وجواهر الإكليل 1 / 114، والروضة 2 / 138، وكشاف القناع 2 / 143، والمغني 2 / 563، وحديث: " ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا " أخرجه ابن سعد في الطبقات (3 / 562 - ط. بيروت) وإسناده حسن.(26/278)
شُورَى
التَّعْرِيفُ:
1 - الشُّورَى لُغَةً: يُقَال: شَاوَرْتُهُ فِي الأَْمْرِ وَاسْتَشَرْتُهُ: رَاجَعْتُهُ لأََرَى رَأْيَهُ فِيهِ وَاسْتَشَارَهُ: طَلَبَ مِنْهُ الْمَشُورَةَ. وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالرَّأْيِ. وَأَشَارَ يُشِيرُ إِذَا وَجَّهَ الرَّأْيَ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ بِالْيَدِ: أَوْمَأَ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرَّأْيُ:
2 - الرَّأْيُ: الْعَقْل وَالتَّدْبِيرُ وَالاِعْتِقَادُ، وَرَجُلٌ ذُو رَأْيٍ أَيْ: بَصِيرَةٍ وَحِذْقٍ بِالأُْمُورِ (2)
ب - النَّصِيحَةُ:
3 - النَّصِيحَةُ: الإِْخْلاَصُ وَالصِّدْقُ وَالْمَشُورَةُ وَالْعَمَل.
نَصَحْتُ لِزَيْدٍ، أَنْصَحُ نُصْحًا وَنَصِيحَةً، هَذِهِ اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ (3) .
وَفِي الْحَدِيثِ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا: لِمَنْ؟ قَال: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَِئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ (4) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير - مادة (شور) .
(2) لسان العرب مادة (رأى) والمصباح المنير مادة (روى) .
(3) لسان العرب والمصباح المنير مادة (نصح) .
(4) حديث: " الدين النصيحة. . " أخرجه مسلم (1 / 74 - ط الحلبي) من حديث تميم الداري.(26/279)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - لِلْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ الشُّورَى - مِنْ حَيْثُ هِيَ - رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: الْوُجُوبُ: وَيُنْسَبُ هَذَا الْقَوْل لِلنَّوَوِيِّ، وَابْنِ عَطِيَّةَ، وَابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ، وَالرَّازِيِّ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (1) وَظَاهِرُ الأَْمْرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ} يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَالأَْمْرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُشَاوَرَةِ، أَمْرٌ لأُِمَّتِهِ لِتَقْتَدِيَ بِهِ وَلاَ تَرَاهَا مَنْقَصَةً، كَمَا مَدَحَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (2) .
قَال ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: وَاجِبٌ عَلَى الْوُلاَةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لاَ يَعْلَمُونَ، وَمَا أَشْكَل عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَوُجُوهِ الْجَيْشِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَرْبِ، وَوُجُوهِ النَّاسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ، وَوُجُوهِ الْكُتَّابِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْعُمَّال، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْبِلاَدِ وَعِمَارَتِهَا.
قَال ابْنُ عَطِيَّةَ: " وَالشُّورَى مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَعَزَائِمِ الأَْحْكَامِ، وَمَنْ لاَ يَسْتَشِيرُ
__________
(1) سورة آل عمران / 159.
(2) سورة الشورى / 38.(26/279)
أَهْل الْعِلْمِ وَالدِّينِ فَعَزْلُهُ وَاجِبٌ وَهَذَا مِمَّا لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ (1) ".
وَلاَ يَصِحُّ اعْتِبَارُ الأَْمْرِ بِالشُّورَى لِمُجَرَّدِ تَطْيِيبِ نُفُوسِ الصَّحَابَةِ، وَلِرَفْعِ أَقْدَارِهِمْ؛ لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَنَّ مَشُورَتَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَغَيْرُ مَعْمُولٍ عَلَيْهَا مَعَ اسْتِفْرَاغِهِمْ لِلْجَهْدِ فِي اسْتِنْبَاطِ مَا شُوِرُوا فِيهِ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَطْيِيبٌ لِنُفُوسِهِمْ وَلاَ رَفْعٌ لأَِقْدَارِهِمْ، بَل فِيهِ إِيحَاشُهُمْ وَإِعْلاَمُهُمْ بِعَدَمِ قَبُول مَشُورَتِهِمْ (2) .
الثَّانِي: النَّدْبُ. وَيُنْسَبُ هَذَا الْقَوْل لِقَتَادَةَ، وَابْنِ إِسْحَاقَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالرَّبِيعِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشَاوِرَ أَصْحَابَهُ فِي مَكَائِدِ الْحُرُوبِ، وَعِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، هُوَ تَطْيِيبٌ لِنُفُوسِهِمْ، وَرَفْعٌ لأَِقْدَارِهِمْ، وَتَأَلُّفُهُمْ عَلَى دِينِهِمْ - وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَغْنَاهُ عَنْ رَأْيِهِمْ بِوَحْيِهِ.
وَلَقَدْ كَانَتْ سَادَاتُ الْعَرَبِ إِذَا لَمْ يُشَاوَرُوا فِي الأَْمْرِ شَقَّ عَلَيْهِمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُشَاوِرَهُمْ لِيَعْرِفُوا إِكْرَامَهُ لَهُمْ فَتَذْهَبَ أَضْغَانُهُمْ. فَالأَْمْرُ فِي الآْيَةِ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ
__________
(1) تفسير القرطبي 4 / 249، أحكام القرآن للجصاص 2 / 48، تفسير الفخر الرازي 9 / 67، مواهب الجليل 3 / 395 - 396، بدائع السلك في طبائع الملك 1 / 295.
(2) أحكام القرآن للجصاص 2 / 49.(26/280)
كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ (1) وَلَوْ أَجْبَرَهَا الأَْبُ عَلَى النِّكَاحِ جَازَ. لَكِنَّ الأَْوْلَى أَنْ يَسْتَأْمِرَهَا، وَيَسْتَشِيرَهَا تَطْيِيبًا لِنَفْسِهَا؛ فَكَذَا هَاهُنَا (2) .
حُكْمُ الشُّورَى فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
5 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي سِيَاقِ عَدِّهِمْ لِخَصَائِصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنَ الْخَصَائِصِ الْوَاجِبَةِ فِي حَقِّهِ الْمُشَاوَرَةَ فِي الأَْمْرِ مَعَ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ} (3) وَوَجْهُ اخْتِصَاصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوُجُوبِ الْمُشَاوَرَةِ - مَعَ كَوْنِهَا وَاجِبَةً عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أُولِي الأَْمْرِ - أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ مَعَ كَمَال عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ.
وَالْحِكْمَةُ فِي مَشُورَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِصْحَابِهِ: أَنْ يَسْتَنَّ بِهَا الْحُكَّامُ بَعْدَهُ، لاَ لِيَسْتَفِيدَ مِنْهُمْ عِلْمًا أَوْ حُكْمًا. فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنِيًّا عَنْ مَشُورَتِهِمْ بِالْوَحْيِ، كَمَا أَنَّ فِي اسْتِشَارَتِهِمْ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، وَرَفْعًا لأَِقْدَارِهِمْ، وَتَأَلُّفًا لَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ. قَال أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لأَِصْحَابِهِ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) .
__________
(1) حديث: " البكر تستأمر " أخرجه مسلم (2 / 1037 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(2) تفسير الفخر الرازي 9 / 67، وتفسير القرطبي 4 / 250، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 48.
(3) سورة آل عمران / 159.
(4) حديث أبي هريرة: ما رأيت من الناس أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور للسيوطي (2 / 359 - ط. دار الفكر) .(26/280)
6 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَحَل مُشَاوَرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَكُونُ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ؛ إِذِ التَّشَاوُرُ نَوْعٌ مِنَ الاِجْتِهَادِ وَلاَ اجْتِهَادَ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ.
أَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ: فَإِنَّ مَحَل مُشَاوَرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هُوَ فِي أَخْذِ الرَّأْيِ فِي الْحُرُوبِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُهِمَّاتِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَمَّا مَا فِيهِ حُكْمٌ بَيْنَ النَّاسِ فَلاَ يُشَاوِرُ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا يُلْتَمَسُ الْعِلْمُ مِنْهُ، وَلاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ مِنْهُ، بِمَا أُنْزِل عَلَيْهِ لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّل إِلَيْهِمْ} (1) .
أَمَّا فِي غَيْرِ الأَْحْكَامِ فَرُبَّمَا بَلَغَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ مِمَّا شَاهَدُوهُ أَوْ سَمِعُوهُ مَا لَمْ يَبْلُغِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ صَحَّ فِي حَوَادِثَ كَثِيرَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي مُهِمَّاتِ الأُْمُورِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ. وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَ أَصْحَابَهُ فِي أَمْرِ الأَْذَانِ وَهُوَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلاَةَ لَيْسَ يُنَادَى لَهَا، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَال بَعْضُهُمُ اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْل نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَال بَعْضُهُمْ: بَل
__________
(1) سورة النحل / 44.(26/281)
بُوقًا مِثْل قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَال عُمَرُ: أَوَلاَ تَبْعَثُونَ رَجُلاً يُنَادِي بِالصَّلاَةِ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بِلاَل قُمْ فَنَادِ بِالصَّلاَةِ (1)
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ مُصَالَحَةَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ الْفَزَارِيَّ وَالْحَارِثَ بْنَ عَوْفٍ الْمُرِّيَّ، حِينَ حَصَرَهُ الأَْحْزَابُ فِي الْخَنْدَقِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، وَيَرْجِعَا بِمَنْ مَعَهُمَا مِنْ غَطَفَانَ عَنْهُ، فَاسْتَشَارَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، فَقَالاَ لَهُ: يَا رَسُول اللَّهِ أَمْرًا تُحِبُّهُ فَنَصْنَعُهُ أَمْ شَيْئًا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ لاَ بُدَّ لَنَا مِنَ الْعَمَل بِهِ أَمْ شَيْئًا تَصْنَعُهُ لَنَا؟ قَال: بَل شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ، فَأَشَارَا عَلَيْهِ أَلاَّ يُعْطِيَهُمَا فَلَمْ يُعْطِهِمَا شَيْئًا (2) .
كَمَا اسْتَشَارَ فِي أَسَارَى بَدْرٍ، فَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ: بِالْفِدَاءِ، وَأَشَارَ عُمَرُ بِالْقَتْل، فَعَمِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (3) وَكَانَ هَذَا قَبْل نُزُول آيَةِ الأَْنْفَال: {مَا كَانَ
__________
(1) حديث ابن عمر: " كان المسلمون حين قدموا المدينة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 77 - ط السلفية) .
(2) حديث: " أنه أراد مصالحة عيينة بن حصن الفزاري والحارث ابن عوف المري. . . ". أخرجه ابن إسحاق في السيرة من حديث الزهري مرسلا، كذا في البداية والنهاية لابن كثير (4 / 104 - 105 ط مطبعة السعادة) .
(3) حديث: " استشار في أسارى بدر. . . ". أخرجه مسلم (1385 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب.(26/281)
لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَْرْضِ} . (1)
وَلَمَّا نَزَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلَهُ بِبَدْرٍ قَال لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا رَسُول اللَّهِ أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِل؟ أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ وَلاَ نَتَأَخَّرَ عَنْهُ؟ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَال: بَل هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ، قَال: إِنَّ هَذَا لَيْسَ لَنَا بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ، حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَنْزِلٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلَهُ ثُمَّ نَغُورَ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقُلُبِ، وَنَبْنِيَ لَكَ حَوْضًا فَنَمْلأََهُ مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِل النَّاسَ، فَنَشْرَبَ وَلاَ يَشْرَبُونَ. فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ (2) .
كَمَا شَاوَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَأُسَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قِصَّةِ الإِْفْكِ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ - مَا تُشِيرُونَ عَلَيَّ فِي قَوْمٍ يَسُبُّونَ أَهْلِي؟ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ خَيْرًا (3) وَكَانَ هَذَا قَبْل نُزُول بَرَاءَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي سُورَةِ النُّورِ (4) .
__________
(1) سورة الأنفال / 67.
(2) حديث: " نزول منزله ببدر واستشارته الحباب. . . ". أورده ابن هشام في السيرة (2 / 620 - ط الحلبي) نقلا عن ابن إسحاق بإسناد فيه انقطاع.
(3) حديث: " ما تشيرون علي في قوم يسبون أهلي. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 13 / 340 - ط السلفية) .
(4) مطالب أولي النهى 5 / 31، الخصائص للسيوطي 3 / 256، حاشية الدسوقي 2 / 212، أحكام القرآن للجصاص 2 / 49 - 50، تهذيب الرياسة وترتيب السياسة للقلعي 178 - 181، نهاية المحتاج 6 / 175 روضة الطالبين 7 / 3، الحطاب 3 / 395، الخرشي 3 / 158.(26/282)
الشُّورَى فِي الْقَضَاءِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَشِيرَ فِيمَا يَعْرِضُ عَلَيْهِ مِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي يُشْكِل عَلَيْهِ أَمْرُهَا إِذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ فِيهَا الْحُكْمُ.
وَمَحَل الشُّورَى فِي الْقَضَاءِ هُوَ فِيمَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ، وَتَعَارَضَتْ فِيهِ آرَاؤُهُمْ فِي الْمَسَائِل الدَّاخِلَةِ فِي الاِجْتِهَادِ.
أَمَّا الْحُكْمُ الْمَعْلُومُ بِنَصٍّ، أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ، فَلاَ مَدْخَل لِلْمُشَاوَرَةِ فِيهِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْقَاضِيَ يُؤْمَرُ بِأَلاَّ يَقْضِيَ فِيمَا سَبِيلُهُ الاِجْتِهَادُ إِلاَّ بَعْدَ مَشُورَةِ مَنْ يَسُوغُ لَهُ الاِجْتِهَادُ؛ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ.
وَعَلَى الْقَوْل بِالنَّدْبِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لاَ يُلْزَمُ بِمَشُورَةِ مُسْتَشَارِيهِ فَإِذَا حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ فَلَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ افْتِيَاتًا عَلَيْهِ وَإِنْ خَالَفَ اجْتِهَادَهُ، إِلاَّ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا يُخَالِفُ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ إِجْمَاعًا، وَذَلِكَ لِوُجُوبِ نَقْضِ حُكْمِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَيُشَاوِرُ الْقَاضِي الْمُوَافِقِينَ وَالْمُخَالِفِينَ مِنَ(26/282)
الْفُقَهَاءِ، وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ حُجَجِهِمْ لِيَقِفَ عَلَى أَدِلَّةِ كُل فَرِيقٍ فَيَكُونَ اجْتِهَادُهُ أَقْرَبَ إِلَى الصَّوَابِ (1) .
فَإِذَا لَمْ يَقَعِ اجْتِهَادُ الْقَاضِي عَلَى شَيْءٍ، وَبَقِيَتِ الْحَادِثَةُ مُخْتَلِفَةً وَمُشْكِلَةً: كَتَبَ إِلَى: فُقَهَاءِ غَيْرِ مِصْرِهِ، فَالْمُشَاوَرَةُ بِالْكِتَابِ سُنَّةٌ قَدِيمَةٌ فِي الْحَوَادِثِ الشَّرْعِيَّةِ (2)
مَا يَلْزَمُ الْمُسْتَشَارَ فِي مَشُورَتِهِ:
8 - عَلَى مَنِ اسْتُشِيرَ أَنْ يَصْدُقَ فِي مَشُورَتِهِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ (3) وَلِقَوْلِهِ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ (4) .
وَسَوَاءٌ اسْتُشِيرَ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ أَمْ فِي أَمْرِ غَيْرِهِ، فَيَذْكُرُ الْمَحَاسِنَ وَالْمَسَاوِئَ كَمَا يَذْكُرُ الْعُيُوبَ الشَّرْعِيَّةَ وَالْعُيُوبَ الْعُرْفِيَّةَ.
وَلاَ يَكُونُ ذِكْرُ الْمَسَاوِئِ مِنَ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ إِنْ قَصَدَ بِذِكْرِهَا النَّصِيحَةَ.
وَهَذَا الْحُكْمُ شَامِلٌ فِي كُل مَا أُرِيدَ الاِجْتِمَاعُ عَلَيْهِ، كَالنِّكَاحِ، وَالسَّفَرِ،
__________
(1) حاشية الجمل 5 / 347، الشرقاوي على التحرير 2 / 494، حاشية القليوبي 4 / 302، مواهب الجليل 6 / 93، كشاف القناع 6 / 315، مطالب أولي النهى 6 / 478، حاشية ابن عابدين 4 / 303.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 303.
(3) حديث: " المستشار مؤتمن " أخرجه الترمذي (4 / 585 - ط الحلبي) والحاكم (4 / 131 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) تقدم تخريجه ف 3.(26/283)
وَالشَّرِكَةِ، وَالْمُجَاوَرَةِ، وَإِيدَاعِ الأَْمَانَةِ، وَالرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَالْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ (1) .
وَلِفُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ ذِكْرِ الْمَسَاوِئِ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُهُ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنِ اسْتَشَارَهُ الزَّوْجُ فِي التَّزَوُّجِ بِفُلاَنَةَ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ مَا يَعْلَمُهُ فِيهَا مِنَ الْعُيُوبِ لِيُحَذِّرَهُ مِنْهَا، وَيَجُوزُ لِمَنِ اسْتَشَارَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي التَّزَوُّجِ بِفُلاَنٍ أَنْ يَذْكُرَ لَهَا مَا يَعْلَمُهُ فِيهِ مِنَ الْعُيُوبِ لِتَحْذَرَ مِنْهُ.
وَمَحَل جَوَازِ ذِكْرِ الْمَسَاوِئِ لِلْمُسْتَشَارِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَعْرِفُ حَال الْمَسْئُول عَنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ الْمُسْتَشَارِ، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَيَانُ؛ لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ النَّصِيحَةِ لأَِخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: يَجِبُ عَلَيْهِ ذِكْرُ الْمَسَاوِئِ مُطْلَقًا، كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَعْرِفُ تِلْكَ الْمَسَاوِئَ غَيْرَهُ، أَمْ لاَ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ ذِكْرِ الْمَسَاوِئِ سَوَاءٌ اسْتُشِيرَ أَوْ لَمْ يُسْتَشَرْ فِي النِّكَاحِ وَالْمَبِيعِ وَغَيْرِهِمَا لَكِنْ بِشَرْطِ سَلاَمَةِ الْعَاقِبَةِ، بِأَنْ يَأْمَنَ الذَّاكِرُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنِ اسْتُشِيرَ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ وَجَبَ ذِكْرُ الْعَيْبِ إِنْ كَانَ مِمَّا يَثْبُتُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 220، حاشية ابن عابدين 5 / 262، مطالب أولي النهى 5 / 11، القليوبي وعميرة 3 / 214، حواشي تحفة المحتاج 7 / 213.
(2) الشرح الصغير 2 / 348 ط. 7 / 213 (دار المعارف بمصر) .(26/283)
بِهِ الْخِيَارُ كَالْعُنَّةِ وَإِلاَّ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً كَبُخْلٍ فَيُسَنُّ ذِكْرُهُ، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْهُ، وَسَتْرُ نَفْسِهِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: عَلَى مَنِ اسْتُشِيرَ فِي خَاطِبٍ أَوْ مَخْطُوبَةٍ أَنْ يَذْكُرَ مَا فِيهِ مِنْ مَسَاوِئَ أَيْ عُيُوبٍ وَغَيْرِهَا، وَلاَ يَكُونُ ذِكْرُ الْمَسَاوِئِ غِيبَةً مُحَرَّمَةً مَعَ قَصْدِهِ بِذِكْرِ ذَلِكَ النَّصِيحَةَ لِحَدِيثِ: الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ وَحَدِيثِ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ وَإِنِ اسْتُشِيرَ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ بَيَّنَهُ وُجُوبًا كَقَوْلِهِ: عِنْدِي شُحٌّ وَخُلُقِي شَدِيدٌ وَنَحْوِهِمَا (2) .
الشُّورَى فِي عَقْدِ الإِْمَامَةِ الْكُبْرَى:
9 - يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَجْعَل الْخِلاَفَةَ مِنْ بَعْدِهِ شُورَى بَيْنَ عَدَدٍ مَحْصُورٍ يُعَيِّنُهُمْ فَيَرْتَضُونَ بَعْدَ مَوْتِهِ - أَوْ فِي حَيَاتِهِ بِإِذْنِهِ - أَحَدَهُمْ كَمَا جَعَل عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الأَْمْرَ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمْ: عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَطَلْحَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَارْتَضَوْا بِالتَّشَاوُرِ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْخِلاَفَةُ لِعُثْمَانِ مِنْ بَيْنِهِمْ.
وَعَقْدُ الإِْمَامَةِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ دَاخِلٌ فِي الاِسْتِخْلاَفِ إِلاَّ أَنَّهُ يَكُونُ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، وَهُنَا
__________
(1) حواشي تحفة المحتاج 7 / 213، القليوبي وعميرة 3 / 214
(2) مطالب أولي النهى 5 / 11.(26/284)
يَكُونُ فِي عَدَدٍ مَحْصُورٍ يُعَيَّنُ الْخَلِيفَةُ مِنْ بَيْنِهِمْ بِالتَّشَاوُرِ.
وَالشُّورَى لَيْسَتْ شَرْطًا فِي عَقْدِ الإِْمَامَةِ. وَيَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لِمَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى صَلاَحِيَّتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ وَالِدًا وَلاَ وَلَدًا.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اشْتِرَاطِ رِضَا أَهْل الاِخْتِيَارِ بِهِ:
فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ رِضَا أَهْل الاِخْتِيَارِ شَرْطٌ فِي لُزُومِ بَيْعَتِهِ لأَِنَّهَا حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالأُْمَّةِ فَلَمْ تَلْزَمْهُمْ بَيْعَتُهُ إِلاَّ بِرِضَا أَهْل الاِخْتِيَارِ مِنْهُمْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ رِضَا أَهْل الاِخْتِيَارِ، لأَِنَّ بَيْعَةَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ تَتَوَقَّفْ عَلَى رِضَا الصَّحَابَةِ؛ وَلأَِنَّ الإِْمَامَ أَحَقُّ بِهَا؛ فَكَانَ اخْتِيَارُهُ فِيهَا أَمْضَى.
أَمَّا إِذَا كَانَ وَلَدًا أَوْ وَالِدًا فَلِلْعُلَمَاءِ فِي انْفِرَادِ الإِْمَامِ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لَهُ دُونَ اسْتِشَارَةٍ ثَلاَثَةُ مَذَاهِبَ:
الْمَذْهَبُ الأَْوَّل:
لاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لأَِحَدِهِمَا حَتَّى يُشَاوِرَ فِيهِ أَهْل الاِخْتِيَارِ، فَإِذَا رَأَوْهُ أَهْلاً صَحَّ مِنْهُ حِينَئِذٍ عَقْدُ الْبَيْعَةِ لَهُ؛ لأَِنَّ عَقْدَ الْبَيْعَةِ تَزْكِيَةٌ تَجْرِي مَجْرَى الشَّهَادَةِ، وَتَقْلِيدُهُ عَلَى الأُْمَّةِ يَجْرِي مَجْرَى الْحُكْمِ؛ وَهُوَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لِوَالِدٍ وَلاَ لِوَلَدٍ، وَلاَ يَحْكُمَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا(26/284)
لِلتُّهْمَةِ الْعَائِدَةِ إِلَيْهِ بِمَا جُبِل مِنَ الْمَيْل إِلَيْهِ.
الْمَذْهَبُ الثَّانِي:
يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّ أَمْرَهُ نَافِذٌ لِلأُْمَّةِ فَيَغْلِبُ حُكْمُ الْمَنْصِبِ عَلَى حُكْمِ النَّسَبِ، وَلاَ تَجِدُ التُّهْمَةُ طَرِيقًا لِلطَّعْنِ فِي أَمَانَتِهِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ عَهِدَ بِالإِْمَامَةِ إِلَى غَيْرِ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ:
يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لِوَالِدِهِ وَلاَ يَجُوزُ لِوَلَدِهِ لأَِنَّ الْمَيْل إِلَى الْوَلَدِ أَكْثَرُ وَأَقْوَى مِنَ الْمِيل إِلَى الْوَالِدِ (1) .
__________
(1) حاشية الجمل 5 / 120، كشاف القناع 6 / 159، الغياثي للجويني ص 55، الأحكام السلطانية للماوردي 7، 10، حاشية ابن عابدين 3 / 310.(26/285)
شَوْرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّوْرَةُ فِي اللُّغَةِ: الْحُسْنُ وَالْجَمَال، وَالْهَيْئَةُ، وَاللِّبَاسُ. وَقِيل: الشُّورَةُ بِالضَّمِّ: الْهَيْئَةُ وَالْجَمَال، وَالشَّوْرَةُ بِالْفَتْحِ: اللِّبَاسُ، فَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ أَقْبَل رَجُلٌ وَعَلَيْهِ شَوْرَةٌ حَسَنَةٌ (1) .
قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: الشُّورَةُ بِالضَّمِّ: الْجَمَال وَالْحُسْنُ، كَأَنَّهُ مِنَ الشَّوْرِ وَهُوَ عَرْضُ الشَّيْءِ وَإِظْهَارُهُ. وَيُقَال لَهَا أَيْضًا: الشَّارَةُ وَهِيَ الْهَيْئَةُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ أَنَّهُ جَاءَ بِشُوَارٍ كَثِيرٍ (2) قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: الشُّوَارُ مَتَاعُ الْبَيْتِ (3) وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الشُّورَةُ مَتَاعُ
__________
(1) حديث: " أقبل رجل وعليه شورة حسنة " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 476 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1977 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة إلا أنه عندهما: " شارة ".
(2) حديث ابن اللتبية أنه جاء بشوار كثير. أخرج أصل الحديث البخاري (13 / 164 - الفتح ط السلفية) ومسلم (2 / 1464 - ط الحلبي) من حديث أبي حميد الساعدي وليس فيهما هذا اللفظ المذكور، وفي مسلم: " فجاء بسواد كثير " وذكر هذه اللفظ ابن الأثير في " النهاية " (2 / 508 - ط الحلبي) ولم يعزها إلى أي مصدر كعادته.
(3) لسان العرب، ونهاية ابن الأثير.(26/285)
الْبَيْتِ؛ مِنْ فِرَاشٍ وَغِطَاءٍ، وَلِبَاسٍ (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْجِهَازُ:
2 - الْجِهَازُ هُوَ: مَا تُزَفُّ بِهِ الْمَرْأَةُ إِلَى بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ مَتَاعٍ، أَوْ يُمَلِّكُهَا إِيَّاهُ زَوْجُهَا (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَجِبُ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا كُل مَا تَقُومُ بِهِ حَيَاةُ الإِْنْسَانِ: مِنْ نَفَقَةٍ، وَكِسْوَةٍ، وَسَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الإِْنْسَانُ فِي حَيَاتِهِ مِنَ الْمَتَاعِ: كَالْفِرَاشِ، وَالْغِطَاءِ، وَسَائِرِ الأَْدَوَاتِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَيْهَا: كَآلَةِ الطَّحْنِ، وَالطَّبْخِ كَالْقِدْرِ، وَآنِيَةِ الشُّرْبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَسْتَغْنِي عَنْهُ الإِْنْسَانُ، وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْمَالِكِيَّةُ بِالشَّوْرَةِ. وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (3) .
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (4) .
__________
(1) شرح الزرقاني 4 / 244 - 247.
(2) لسان العرب بتصرف.
(3) نهاية المحتاج 7 / 193 - 194 وشرح الزرقاني 4 / 244 - 245 وما بعده، المغني 7 / 568، وابن عابدين 2 / 652.
(4) سورة البقرة / 233.(26/286)
وَالآْيَةُ فِي الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِمَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَتَاعِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (نَفَقَةٌ) .
انْتِفَاعُ الزَّوْجِ بِشَوْرَةِ زَوْجَتِهِ:
4 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: لَيْسَ لِلزَّوْجِ الاِنْتِفَاعُ بِمَا تَمْلِكُهُ الزَّوْجَةُ مِنْ مَتَاعٍ كَالْفِرَاشِ، وَالأَْوَانِي، وَغَيْرِهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا، سَوَاءٌ مَلَّكَهَا إِيَّاهُ هُوَ، أَمْ مَلَكَتْهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَسَوَاءٌ قَبَضَتِ الصَّدَاقَ، أَمْ لَمْ تَقْبِضْهُ (1) .
وَلَهَا حَقُّ التَّصَرُّفِ فِيمَا تَمْلِكُهُ بِمَا أَحَبَّتْ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَالْهِبَةِ، وَالْمُعَاوَضَةِ، مَا لَمْ يَعُدْ ذَلِكَ عَلَيْهَا بِضَرَرٍ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ قَبَضَتِ الزَّوْجَةُ صَدَاقَهَا فَلِلزَّوْجِ التَّمَتُّعُ بِشَوْرَتِهَا فَيَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ مَا يَجُوزُ لَهُ لُبْسُهُ، وَلَهُ النَّوْمُ عَلَى فِرَاشِهَا، وَالاِنْتِفَاعُ بِسَائِرِ الأَْدَوَاتِ الَّتِي تَمْلِكُهَا، وَلَوْ بِغَيْرِ رِضَاهَا. سَوَاءٌ تَمَتَّعَ بِالشَّوْرَةِ مَعَهَا أَوْ وَحْدَهُ وَتَمَتُّعُهُ بِشَوْرَتِهَا حَقٌّ لَهُ، فَلَهُ مَنْعُهَا مِنَ التَّصَرُّفِ بِهَا بِمَا يُزِيل الْمِلْكَ، كَالْمُعَاوَضَةِ، وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُفَوِّتَ عَلَيْهِ حَقَّ التَّمَتُّعِ بِهَا.
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) القليوبي 4 / 576، نهاية المحتاج 7 / 199، والمغني 7 / 569، وابن عابدين 2 / 652.(26/286)
أَمَّا إِذَا لَمْ تَقْبِضْ صَدَاقَهَا وَإِنَّمَا تَجَهَّزَتْ مِنْ مَالِهَا فَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا إِلاَّ الْحَجْرُ عَنِ التَّصَرُّفِ بِمَا يُزِيل الْمِلْكَ، فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ بَيْعِهَا، وَهِبَتِهَا، وَالتَّصَدُّقِ بِهَا، وَالتَّبَرُّعِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ (1) وَالتَّفْصِيل فِي: (نَفَقَةٌ) .
شَوْطٌ
انْظُرْ: طَوَافٌ، سَعْيٌ
__________
(1) شرح الزرقاني 4 / 247.(26/287)
شَوَّالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - شَوَّالٌ، وَيُقَال: الشَّوَّال: هُوَ أَحَدُ شُهُورِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، الَّذِي يَلِي رَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرُ عِيدِ الْفِطْرِ (1) ، وَأَوَّل أَشْهُرِ الْحَجِّ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِشَوَّالٍ:
صِيَامُ السِّتِّ مِنْ شَوَّالٍ:
2 - ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ صِيَامَ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ سُنَّةٌ (3) لِحَدِيثِ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ (4) .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ لِئَلاَّ يُلْحِقَ الْعَامَّةُ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ (5) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) سورة البقرة / 197.
(3) روضة الطالبين 2 / 387، نهاية المحتاج 3 / 208، كشاف القناع 2 / 337 - 338، أسنى المطالب 1 / 413.
(4) حديث: " من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال. . . " أخرجه مسلم (2 / 822 ط الحلبي) من حديث أبي أيوب الأنصاري.
(5) الفتاوى الهندية 1 / 201، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 351، مواهب الجليل 2 / 414، وحاشية الزرقاني 2 / 199.(26/287)
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْمُ التَّطَوُّعِ) .
مَا تَثْبُتُ بِهِ رُؤْيَةُ هِلاَل شَوَّالٍ:
3 - يَثْبُتُ هِلاَل شَوَّالٍ بِإِكْمَال عِدَّةِ رَمَضَانَ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَا يَثْبُتُ بِهِ هِلاَل شَوَّالٍ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَذَهَبَ الأَْكْثَرُونَ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ بِأَقَل مِنْ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ، وَقَال آخَرُونَ: يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَال الْبَعْضُ: يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَإِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً فَقَدْ رَأَى الْبَعْضُ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الرُّؤْيَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَوِيَّةُ الْهِلاَل) (1) .
الْمُنْفَرِدُ بِرُؤْيَةِ هِلاَل شَوَّالٍ:
4 - إِذَا انْفَرَدَ وَاحِدٌ بِرُؤْيَةِ هِلاَل شَوَّالٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْفِطْرُ إِلاَّ أَنْ يَحْصُل لَهُ عُذْرٌ يُبِيحُ الإِْفْطَارَ كَالسَّفَرِ، أَوِ الْمَرَضِ، أَوِ الْحَيْضِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ: الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالأَْضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ (2) وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 302، نهاية المحتاج 2 / 151، القليوبي 2 / 50، روضة الطالبين 2 / 348، كتاب الكافي ص 334، مواهب الجليل 2 / 382.
(2) حديث: " الصوم يوم تصومون. . . " أخرجه الترمذي (3 / 71 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن غريب ".(26/288)
النَّاسُ، وَالأَْضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ (1) وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْيَوْمِ بِلاَ كَفَّارَةٍ، وَإِنْ كَانَ الرَّائِي الإِْمَامَ أَوِ الْقَاضِيَ، لاَ يَخْرُجُ إِلَى الْمُصَلَّى، وَلاَ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ، وَلاَ يُفْطِرُ الرَّائِي سِرًّا وَلاَ جَهْرًا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ بِمَفَازَةٍ لَيْسَ بِقُرْبِهِ بَلَدٌ وَلَيْسَ فِي جَمَاعَةٍ: يَبْنِي عَلَى يَقِينِ رُؤْيَتِهِ فَيُفْطِرُ، لأَِنَّهُ لاَ يَتَيَقَّنُ مُخَالَفَةَ الْجَمَاعَةِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا رَأَى شَخْصٌ هِلاَل شَوَّالٍ وَحْدَهُ لَزِمَهُ الْفِطْرُ، وَيُنْدَبُ أَنْ يَكُونَ سِرًّا (3) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ (4) .
شَيْبٌ
انْظُرْ: شَعْرٌ، اخْتِضَابٌ
شَيْطَانٌ
انْظُرْ: جِنٌّ
__________
(1) حديث: " الفطر يوم يفطر الناس ". أخرجه الترمذي (3 / 156 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن غريب ".
(2) الفتاوى الهندية 1 / 198، الدسوقي 1 / 512، ومواهب الجليل 2 / 389.
(3) حاشية الجمل 2 / 308.
(4) حديث: " وأفطروا لرؤيته " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 119 - ط السلفية) ومسلم (2 / 762 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(26/288)
شُيُوعٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الشُّيُوعُ مَصْدَرُ شَاعَ - يُقَال: شَاعَ يَشِيعُ شَيْعًا، وَشَيَعَانًا وَشُيُوعًا: إِذَا ظَهَرَ وَانْتَشَرَ. يُقَال: شَاعَ الْخَبَرُ شُيُوعًا فَهُوَ شَائِعٌ إِذَا: ذَاعَ، وَانْتَشَرَ، وَأَشَاعَهُ إِشَاعَةً أَطَارَهُ وَأَذَاعَهُ وَأَظْهَرَهُ.
وَفِي هَذَا قَوْلُهُمْ: نَصِيبُ فُلاَنٍ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ الدَّارِ، أَيْ: مُتَّصِلٌ بِكُل جُزْءٍ مِنْهَا وَمُشَاعٌ فِيهَا لَيْسَ بِمَقْسُومٍ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
(1) الْخَلْطُ:
2 - الْخَلْطُ: تَدَاخُل الأَْشْيَاءِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، وَقَدْ يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَعْدَ ذَلِكَ كَالْحَيَوَانِ، وَقَدْ لاَ يُمْكِنُ كَالْمَائِعَاتِ فَيَكُونُ مَزْجًا (2) .
(2) الشَّرِكَةُ:
3 - وَهِيَ لُغَةً: الاِخْتِلاَطُ عَلَى الشُّيُوعِ،
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير.
(2) المصباح المنير، لسان العرب.(26/289)
وَشَرْعًا: ثُبُوتُ الْحَقِّ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لِشَخْصَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى وَجْهِ الشُّيُوعِ. وَعَبَّرَ عَنْهَا صَاحِبُ الْمُغْنِي بِأَنَّهَا اجْتِمَاعٌ فِي اسْتِحْقَاقٍ أَوْ تَصَرُّفٍ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - أ - يَحْرُمُ إِشَاعَةُ أَسْرَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَأُمُورِهِمُ الدَّاخِلِيَّةِ مِمَّا يَمَسُّ أَمْنَهُمْ وَاسْتِقْرَارَهُمْ، حَتَّى لاَ يَعْلَمَ الأَْعْدَاءُ مَوَاضِعَ الضَّعْفِ فِيهِمْ، فَيَسْتَغِلُّوهَا أَوْ قُوَّتِهِمْ فَيَتَحَصَّنُوا مِنْهُمْ.
ب - كَمَا يَحْرُمُ إِشَاعَةُ مَا يَمَسُّ أَعْرَاضَ النَّاسِ وَأَسْرَارَهُمْ الْخَاصَّةَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ} (2) .
انْظُرْ: (إِشَاعَةٌ، وَإِفْشَاءُ السِّرِّ) .
حُكْمُ ثُبُوتِ الْجَرِيمَةِ بِالشُّيُوعِ فِي النَّاسِ:
5 - إِنْ شَاعَ فِي النَّاسِ: أَنَّ فُلاَنًا سَرَقَ مَتَاعَ فُلاَنٍ، أَوْ زَنَى بِفُلاَنَةٍ، لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الشُّيُوعِ، بَل لاَ بُدَّ مِنَ الإِْثْبَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (حُدُودٌ، وَإِثْبَاتٌ) .
__________
(1) حاشية القليوبي 2 / 332، والمغني 5 / 3.
(2) سورة النور / 19.(26/289)
الشُّيُوعُ فِي اللَّوْثِ:
6 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الشُّيُوعَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، بِأَنَّ فُلاَنًا الَّذِي جُهِل قَاتِلُهُ، قَتَلَهُ فُلاَنٌ هُوَ لَوْثٌ، فَيَجُوزُ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَحْلِفُوا أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ عَلَى مَنْ قَتَل مُوَرِّثَهُمُ اسْتِنَادًا إِلَى شُيُوعِ ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ (1) .
بَيْعُ الْمُشَاعِ:
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ بَيْعِ جُزْءٍ مُشَاعٍ فِي دَارٍ كَالثُّلُثِ وَنَحْوِهِ، وَبَيْعِ صَاعٍ مِنْ صُبْرَةٍ مُتَسَاوِيَةِ الأَْجْزَاءِ، وَبَيْعِ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ مِنْ مِائَةِ سَهْمٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ) (2) .
قِسْمَةُ الْمُشَاعِ:
8 - يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ قِسْمَةُ الْمِلْكِ الْمُشَاعِ بِطَلَبِ الشُّرَكَاءِ، أَوْ بِطَلَبِ بَعْضِهِمْ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ مُنْتَفِعٌ قَبْل الْقِسْمَةِ بِنَصِيبِ غَيْرِهِ، فَإِذَا طَلَبَ مِنَ الْحَاكِمِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ، وَيَمْنَعَ الْغَيْرَ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهِ، يَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ إِجَابَةُ طَلَبِهِ، إِلاَّ إِذَا بَطَلَتِ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ فِي الْمَقْسُومِ بِالْقِسْمَةِ.
فَإِنْ كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ تَفُوتُ
__________
(1) القليوبي 4 / 165، نهاية المحتاج 7 / 390.
(2) كشاف القناع 3 / 170، ابن عابدين 4 / 32، أسنى المطالب 2 / 14.(26/290)
بِالْقِسْمَةِ، فَلاَ يُجَابُ طَلَبُهُمُ الْقِسْمَةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلاَ يُمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ إِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ تَبْطُل كُلِّيَّةً؛ لأَِنَّهُ سَفَهٌ، وَإِتْلاَفُ مَالٍ بِلاَ ضَرُورَةٍ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنِ اقْتَسَمُوا بِالتَّرَاضِي لاَ يَمْنَعُ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَمْنَعُ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى إِتْلاَفِ مَالِهِ بِالْحُكْمِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قِسْمَةٌ) .
زَكَاةُ الْمُشَاعِ:
9 - إِذَا مَلَكَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ نِصَابَ مَالٍ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِلْكًا مُشَاعًا كَأَنْ وَرِثَاهُ، أَوِ اشْتَرَيَاهُ، زَكَّيَاهُ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَالتَّفْصِيل فِي: (خُلْطَةٌ، زَكَاةٌ) .
رَهْنُ الْمُشَاعِ:
10 - يَصِحُّ رَهْنُ الْمُشَاعِ، مِنْ عَقَارٍ وَحَيَوَانٍ، كَمَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَهِبَتُهُ، وَوَقْفُهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَاقِي لِلرَّاهِنِ أَوْ لِغَيْرِهِ، إِذْ لاَ ضَرَرَ عَلَى الشَّرِيكِ؛ لأَِنَّهُ يَتَعَامَل مَعَ الْمُرْتَهِنِ كَمَا كَانَ يَتَعَامَل مَعَ الرَّاهِنِ، وَقَبْضُهُ بِقَبْضِ الْجَمِيعِ، فَيَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ فِي غَيْرِ الْمَنْقُول، وَبِالنَّقْل فِي الْمَنْقُول، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) .
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 203، نهاية المحتاج 8 / 285، حاشية الدسوقي 3 / 507، ابن عابدين 5 / 165.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 235، روضة الطالبين 4 / 38 - 39، نهاية المحتاج 4 / 239، كشاف القناع 3 / 326.(26/290)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ رَهْنُ الْمُشَاعِ، لِعَدَمِ كَوْنِهِ مُمَيَّزًا، وَمُوجِبُ الرَّهْنِ: الْحَبْسُ الدَّائِمُ مَا بَقِيَ الدَّيْنُ، وَبِالْمُشَاعِ يَفُوتُ الدَّوَامُ؛ لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الْمُهَايَأَةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَال: رَهَنْتُكَ يَوْمًا دُونَ يَوْمٍ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الشُّيُوعُ مُقَارِنًا أَوْ طَارِئًا، رَهَنَ مِنْ شَرِيكِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ الشَّرِيكَ يُمْسِكُهُ يَوْمًا رَهْنًا، وَيَوْمًا يَسْتَخْدِمُهُ (1) . انْظُرْ: (رَهْنٌ) .
هِبَةُ الْمُشَاعِ:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى جَوَازِ هِبَةِ الْمُشَاعِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا أَمْكَنَ قِسْمَتُهُ، وَمَا لَمْ يُمْكِنْ قِسْمَتُهُ، وَسَوَاءٌ وَهَبَهُ لِشَرِيكِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ هِبَةُ مُشَاعٍ شُيُوعًا مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ فِيمَا يَنْقَسِمُ وَلأَِنَّهُ مَا مِنْ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُشَاعِ إِلاَّ وَلِلشَّرِيكِ فِيهِ مِلْكٌ، فَلاَ تَصِحُّ هِبَتُهُ؛ لأَِنَّ الْقَبْضَ الْكَامِل غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَقِيل يَجُوزُ هِبَتُهُ لِشَرِيكِهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُشَاعُ غَيْرَ قَابِلٍ لِلْقِسْمَةِ، بِحَيْثُ لاَ يَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهِ إِذَا قُسِمَ تَجُوزُ هِبَتُهُ (3) . وَانْظُرْ: (هِبَةٌ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 315
(2) روضة الطالبين 5 / 373، المغني 5 / 655، حاشية الدسوقي 3 / 235.
(3) الدر المختار وحاشيته 4 / 510 - 511.(26/291)
إِجَارَةُ الْمُشَاعِ:
12 - يَجُوزُ إِجَارَةُ الْمُشَاعِ لِلشَّرِيكِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، أَمَّا إِجَارَتُهُ لِغَيْرِ الشَّرِيكِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّتِهِ. فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِلَى صِحَّةِ إِجَارَةِ الْمُشَاعِ، وَهُوَ قَوْل الصَّاحِبَيْنِ: (أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ) ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، لأَِنَّ الإِْجَارَةَ أَحَدُ نَوْعَيِ الْبَيْعِ، فَتَجُوزُ فِي الْمُشَاعِ، كَمَا تَجُوزُ فِي بَيْعِ الأَْعْيَانِ، وَالْمُشَاعُ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ بِالْمُهَايَأَةِ؛ وَلأَِنَّهُ عَقْدٌ فِي مِلْكِهِ، يَجُوزُ مَعَ شَرِيكِهِ فَجَازَ مَعَ غَيْرِهِ كَالْبَيْعِ؛ وَلأَِنَّهُ يَجُوزُ إِذَا فَعَلَهُ الشَّرِيكَانِ مَعًا فَجَازَ لأَِحَدِهِمَا فِعْلُهُ فِي نَصِيبِهِ مُنْفَرِدًا كَالْبَيْعِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ، وَهُوَ الْقَوْل الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ تَجُوزُ إِجَارَةُ الْمُشَاعِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَمْ تَصِحَّ إِجَارَتُهُ كَالْمَغْصُوبِ.
وَلأَِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إِلاَّ بِتَسْلِيمِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَلاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ (1) .
وَانْظُرْ: (إِجَارَةٌ) .
وَقْفُ الْمُشَاعِ:
13 - يَجُوزُ وَقْفُ الْمُشَاعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ،
__________
(1) المغني 4 / 553، الفتاوى الهندية 4 / 447، ابن عابدين 5 / 29، أسنى المطالب 2 / 409، الشرح الصغير 4 / 59 - 60.(26/291)
وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرِ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَال: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا. قَال: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ، وَلاَ يُوهَبُ، وَلاَ يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيل اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيل، وَالضَّيْفِ (1) .
وَلأَِنَّهُ عَقْدٌ يَجُوزُ عَلَى بَعْضِ الْجُمْلَةِ مُفْرِزًا فَجَازَ عَلَيْهِ مُشَاعًا كَالْبَيْعِ، وَكَالْعَرْصَةِ يَجُوزُ بَيْعُهَا فَجَازَ وَقْفُهَا كَالْمُفْرَزَةِ؛ وَلأَِنَّ الْوَقْفَ تَحْبِيسُ الأَْصْل، وَتَسْبِيل الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا يَحْصُل فِي الْمُشَاعِ كَحُصُولِهِ فِي الْمُفْرَزِ (2) .
وَقَال مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَصِحُّ وَقْفُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَقْبَل الْقِسْمَةَ، أَمَّا مَا لاَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ فَيَصِحُّ وَقْفُهُ اتِّفَاقًا (3) .
انْظُرْ: (وَقْفٌ) .
__________
(1) حديث ابن عمر: " أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 354 - 355 - ط. السلفية) .
(2) المغني 5 / 643، أسنى المطالب 2 / 457.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 364.(26/292)
الْمِلْكُ الْمُشَاعُ فِي عَقَارٍ:
14 - إِذَا مَلَكَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ عَقَارًا مِلْكًا مُشَاعًا، وَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ لأَِجْنَبِيٍّ، ثَبَتَ لِلآْخَرِ حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
انْظُرْ: (شُفْعَةٌ) .
صَائِلٌ
انْظُرْ: (صِيَالٌ) .(26/292)
صَابِئَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّابِئَةُ لُغَةً: جَمْعُ الصَّابِئِ. وَالصَّابِئُ: مَنْ خَرَجَ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ. يُقَال: صَبَأَ فُلاَنٌ يَصْبَأُ: إِذَا خَرَجَ مِنْ دِينِهِ، وَتَقُول الْعَرَبُ: صَبَأَتِ النُّجُومُ إِذَا طَلَعَتْ (1) .
وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الصَّابِئَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مَعَ أَهْل الْمِلَل فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ، مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَعَمِل صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) .
2 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْرِيفِ الصَّابِئَةِ عَلَى أَقْوَالٍ هِيَ:
أ - أَنَّهُمْ قَوْمٌ كَانُوا عَلَى دِينِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ
__________
(1) لسان العرب - صبأ. ومن هذا المعنى ما كانت قريش تقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه صابئ، أي: خرج عن دينها. ونقل ابن القيم: أنها كانت تقول ذلك لما رأته من الشبه بين الدين الذي أتى به صلى الله عليه وسلم ودين الصابئة، فإنهم كانوا يقولون لا إله إلا الله (أحكام أهل الذمة ص 92) .
(2) سورة البقرة / 62.(26/293)
- نَقَلَهُ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ (1) .
وَنَقَل ابْنُ مَنْظُورٍ عَنِ اللَّيْثِ: هُمْ قَوْمٌ يُشْبِهُ دِينُهُمْ دِينَ النَّصَارَى، إِلاَّ أَنَّ قِبْلَتَهُمْ نَحْوَ مَهَبِّ الْجَنُوبِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِ نُوحٍ وَهُمْ كَاذِبُونَ. وَنَقَل قَرِيبًا مِنْهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْخَلِيل (2) .
ب - أَنَّهُمْ صِنْفٌ مِنَ النَّصَارَى أَلْيَنُ مِنْهُمْ قَوْلاً. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَبِهِ قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ (3) .
ج - وَقَال السُّدِّيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: هُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ لأَِنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ، وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ.
د - قَال مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي نُجَيْحٍ: هُمْ قَوْمٌ تَرَكَّبَ دِينُهُمْ بَيْنَ الْيَهُودِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ (4) .
هـ - وَقِيل: هُمْ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
و وَقَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمْ قَوْمٌ بَيْنَ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ (5) .
ز - وَقَال الْحَسَنُ أَيْضًا وَقَتَادَةَ: هُمْ قَوْمٌ
__________
(1) المفردات - صبا يصبو.
(2) لسان العرب - صبأ.
(3) المغني 6 / 591، وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص 74 المطبعة المنيرية.
(4) تفسير القرطبي عند الآية 62 من سورة البقرة 1 / 434.
(5) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 74 المطبعة المنيرية.(26/293)
يَعْبُدُونَ الْمَلاَئِكَةَ، وَيُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيَقْرَءُونَ الزَّبُورَ، وَيُصَلُّونَ الْخَمْسَ. رَآهُمْ زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فَأَرَادَ وَضْعَ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ حِينَ عَرَفَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلاَئِكَةَ، وَنَقَل الْقُرْطُبِيُّ: أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ يَعْتَقِدُونَ تَأْثِيرَ النُّجُومِ (1) .
ح - وَقِيل: إِنَّهُمْ قَوْمٌ كَانُوا يَقُولُونَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَلَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ وَلاَ كِتَابٌ وَلاَ نَبِيٌّ (2) .
ط - وَقَال الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْل الْكِتَابِ؛ لأَِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَعَابِدُ الْكَوْكَبِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ (3) .
ى - وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ: إِنَّهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ؛ لأَِنَّهُمْ يَسْبِتُونَ (4) .
مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ الصَّابِئَةِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ دِينِ الصَّابِئَةِ أَهُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ أَمْ لاَ، عَلَى أَقْوَالٍ:
3 - الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّهُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ، وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَقَدْ جَعَلَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ، لأَِنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ، وَلاَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَلَكِنْ
__________
(1) تفسير القرطبي عند الآية 62 من سورة البقرة 1 / 434.
(2) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 74.
(3) بدائع الصنائع 9 / 4330، الخراج لأبي يوسف 122.
(4) المبدع 3 / 404.(26/294)
يُعَظِّمُونَهَا كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ لِلْكَعْبَةِ فِي الاِسْتِقْبَال إِلَيْهَا.
وَأَمَّا أَحْمَدُ فَقَال فِي رِوَايَةٍ: هُمْ مِنَ النَّصَارَى؛ لأَِنَّهُمْ يَدِينُونَ بِالإِْنْجِيل وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِمَا نُقِل عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَقَال فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: هُمْ مِنَ الْيَهُودِ لأَِنَّهُمْ يَسْبِتُونَ، وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَال: إِنَّهُمْ يَسْبِتُونَ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْل الْكِتَابِ. قَال الْقُرْطُبِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الَّذِي تَحَصَّل مِنْ مَذْهَبِهِمْ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ، يَعْتَقِدُونَ تَأْثِيرَ النُّجُومِ، وَأَنَّهَا فَعَّالَةٌ، قَال: وَلِهَذَا أَفْتَى أَبُو سَعِيدٍ الإِْصْطَخْرِيُّ، الْقَاهِرَ بِاللَّهِ بِكُفْرِهِمْ، حِينَ سَأَلَهُ عَنْهُمْ (2) ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِيهِمْ؛ لأَِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَعَابِدُ الْكَوَاكِبِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ (3) .
4 - الْقَوْل الثَّالِثُ: وَهُوَ لِلشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ تَرَدَّدُوا فِيهِمْ. قَال النَّوَوِيُّ: الْمَذْهَبُ أَنَّهُمْ إِنْ خَالَفُوا النَّصَارَى فِي أَصْل دِينِهِمْ فَلَيْسُوا
__________
(1) بدائع الصنائع 9 / 4330، وفتح القدير لابن الهمام 5 / 191، 2 / 374، وحاشية ابن عابدين 3 / 268، ومجمع الأنهر / 670، والمغني لابن قدامة 8 / 496، وكشاف القناع 3 / 118، والمبدع 3 / 404، وتفسير القرطبي 1 / 435.
(2) تفسير القرطبي عند سورة البقرة 62، 1 / 434.
(3) كتاب الخراج ص 122، والرتاج 2 / 96، والمراجع السابقة للحنفية.(26/294)
مِنْهُمْ، وَإِلاَّ فَهُمْ مِنْهُمْ. قَال: وَهَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ (أَيْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ) ، وَقِيل: فِيهِمْ قَوْلاَنِ: قَال: وَهَذَا إِذَا لَمْ يُكَفِّرْهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَإِنْ كَفَّرُوهُمْ لَمْ يُقَرُّوا قَطْعًا. أَيْ: لأَِنَّهُمْ لاَ يَكُونُونَ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ.
وَالْمُرَادُ بِأَصْل دِينِهِمْ عَلَى مَا فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ لِلْمَحَلِّيِّ: عِيسَى وَالإِْنْجِيل، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فُرُوعٌ، أَيْ: إِنْ كَانُوا يَتَّبِعُونَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيُؤْمِنُونَ بِالإِْنْجِيل فَهُمْ مِنَ النَّصَارَى وَلَوْ خَالَفُوا النَّصَارَى فِي الْفُرُوعِ، مَا لَمْ تُكَفِّرْهُمُ النَّصَارَى بِالْمُخَالَفَةِ فِي الْفُرُوعِ فَإِنْ كَفَّرُوهُمْ فَلَيْسُوا مِنْهُمْ.
وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَوْ خَالَفُوا النَّصَارَى فِي أَصْل دِينِهِمْ وَلَوِ احْتِمَالاً كَأَنْ نَفَوْا الصَّانِعَ أَوْ عَبَدُوا كَوْكَبًا حَرُمَ نِسَاؤُهُمْ عَلَيْنَا (1) .
5 - الْقَوْل الرَّابِعُ: أَنَّ الصَّابِئَةَ فِرْقَتَانِ مُتَمَيِّزَتَانِ لاَ تَدْخُل إِحْدَاهُمَا فِي الأُْخْرَى وَإِنْ تَوَافَقَتَا فِي الاِسْمِ.
أ - الْفِرْقَةُ الأُْولَى: هُمُ الصَّابِئَةُ الْحَرَّانِيُّونَ (وَسَمَّاهُمُ ابْنُ النَّدِيمِ وَالشَّهْرَسْتَانِيُّ: الْحَرْنَانِيِّينَ) وَهُمْ: قَوْمٌ أَقْدَمُ مِنَ النَّصَارَى كَانُوا فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَعْبُدُونَ
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 305، 306، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 252، ونهاية المحتاج 6 / 288.(26/295)
الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ، وَيُضِيفُونَ التَّأْثِيرَ إِلَيْهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْفَلَكَ حَيٌّ نَاطِقٌ. قَال الْجَصَّاصُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ تَسَمَّتْ بِالصَّابِئَةِ، وَهُمُ الْفَلاَسِفَةُ الْحَرَّانِيُّونَ الَّذِينَ بِنَاحِيَةِ حَرَّانَ (1) . وَهُمْ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ، وَلاَ يَنْتَمُونَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ، وَلاَ يَنْتَحِلُونَ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ، فَهَؤُلاَءِ لَيْسُوا أَهْل كِتَابٍ. وَذَكَرَهُمُ الْمَسْعُودِيُّ وَأَنَّ لَهُمْ سَبْعَةَ هَيَاكِل بِأَسْمَاءِ الزَّهْرَةِ وَالْمِرِّيخِ وَالْمُشْتَرَى وَزُحَل وَغَيْرِهِمَا. وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي زَمَانِهِ.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُمُ الشَّهْرِسْتَانِيُّ وَأَطْنَبَ فِي بَيَانِ اعْتِقَادَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ. وَذَكَرَهُمُ ابْنُ النَّدِيمِ فِي فَهْرَسَتِهِ، وَذَكَرَ قُرَاهُمْ وَأَحْوَالَهُمْ وَمَعَابِدَهُمْ، وَنَقَل عَنِ الْمُؤَلِّفِينَ النَّصَارَى: أَنَّهُمْ لَمْ يَكُنِ اسْمُهُمْ الصَّابِئَةَ، وَأَنَّ الْمَأْمُونَ مَرَّ بِدِيَارِ مُضَرَ فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ، وَفِيهِمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَرْنَانِيِّينَ، فَأَنْكَرَ الْمَأْمُونُ زِيَّهُمْ. فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا يَهُودًا وَلاَ نَصَارَى وَلاَ مَجُوسًا أَنْظَرَهُمْ إِلَى رُجُوعِهِ مِنْ سَفْرَتِهِ، وَقَال: إِنْ أَنْتُمْ دَخَلْتُمْ فِي الإِْسْلاَمِ، أَوْ فِي دِينٍ مِنْ هَذِهِ الأَْدْيَانِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَإِلاَّ أَمَرْتُ بِقَتْلِكُمْ. وَرَحَل عَنْهُمْ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ، وَهِيَ رِحْلَتُهُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا.
__________
(1) حران بلد بديار مضر بينها وبين الرقة يومان وهي على الطريق بين الموصل والشام (معجم البلدان 2 / 235) .(26/295)
فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْلَمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَنَصَّرَ، وَبَقِيَ مِنْهُمْ شِرْذِمَةٌ عَلَى دِينِهِمْ، احْتَالُوا بِأَنْ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ الصَّابِئَةَ، لِيَسْلَمُوا وَيَبْقَوْا فِي الذِّمَّةِ (1)
. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ لَمْ يَكُنِ اسْمُهُمُ الصَّابِئَةَ أَوَّلاً، وَأَنَّهُمْ تَسَمَّوْا بِذَلِكَ فِي آخِرِ عَهْدِ الْمَأْمُونِ.
وَأَفَادَ الْبَيْرُونِيُّ: أَنَّ هَذِهِ النِّحْلَةَ هِيَ نِحْلَةُ فَلاَسِفَةِ الْيُونَانِيِّينَ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قَبْل النَّصْرَانِيَّةِ، وَأَنَّ مِنْ فَلاَسِفَتِهَا: فِيثَاغُورْسُ، وَأَغَاذِيمُونُ، وَوَالِيسُ، وَهُرْمُسُ، وَكَانَتْ لَهُمْ هَيَاكِل بِأَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ، وَأَنَّ الْيُونَانِيِّينَ، وَمِنْ بَعْدِهِمُ الرُّومَانُ، كَانُوا عَلَى هَذِهِ النِّحْلَةِ، ثُمَّ لَمَّا غَلَبَتِ النَّصْرَانِيَّةُ عَلَى بِلاَدِ الرُّومِ وَالْيُونَانِ وَتَنَصَّرَ أَهْل هَذِهِ النِّحْلَةِ: بَقِيَ عَلَيْهَا مِنْ أَهْل الْمَشْرِقِ بَقَايَا، وَلَمْ يَكُنِ اسْمُهُمُ الصَّابِئَةَ، وَإِنَّمَا تَسَمَّوْا بِذَلِكَ فِي عَصْرِ الْمَأْمُونِ سَنَةَ 228 هـ (2) وَهُمْ لَيْسُوا مِنَ الصَّابِئَةِ فِي الْحَقِيقَةِ، بَل حَقِيقَةُ الصَّابِئَةِ هُمُ الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ.
ب - وَالْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: هُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ لَهُمْ شَبَهٌ بِالنَّصَارَى.
قَال الْجَصَّاصُ: وَهَؤُلاَءِ بِنَوَاحِي كَسْكَرَ
__________
(1) الفهرست لابن النديم ص 444 - 446.
(2) كذا في كتاب البيروني المطبوع والصواب: 218 هـ وهي السنة التي توفي فيها المأمون.(26/296)
وَالْبَطَائِحِ (مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ) وَهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنَ النَّصَارَى إِلاَّ أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ دِيَانَتِهِمْ؛ لأَِنَّ النَّصَارَى فِرَقٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهُمُ: الْمَرْقُونِيُّونَ، والآْرْيُوسِيَّةُ، وَالْمَارُونِيَّةُ. وَالْفِرَقُ الثَّلاَثُ مِنَ النَّسْطُورِيَّةِ، وَالْمَلْكِيَّةِ، وَالْيَعْقُوبِيَّةِ يَبْرَءُونَ مِنْهُمْ وَيُجَرِّمُونَهُمْ. وَهُمْ يَنْتَمُونَ إِلَى يَحْيَى وَشِيثٍ. قَال: وَالنَّصَارَى تُسَمِّيهِمْ يُوحَانِسِيَّةَ. أهـ. قَال الْجَصَّاصُ: فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي جَعْلِهِ الصَّابِئَةَ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ مَحْمُولٌ عَلَى هَؤُلاَءِ.
وَأَمَّا الْبَيْرُونِيُّ فَيَرَى: أَنَّ هَذِهِ الْفِرْقَةَ الثَّانِيَةَ أَصْلُهَا الْيَهُودُ الَّذِينَ أَسَرَهُمْ بُخْتَ نَصَّرَ، وَأَجْلاَهُمْ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ إِلَى بَابِل مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، فَلَمَّا أَذِنَ لَهُمْ كُورَشُ بِالْعَوْدَةِ إِلَى فِلَسْطِينَ تَخَلَّفَ بِالْعِرَاقِ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ وَآثَرُوا الإِْقَامَةَ فِي بَابِل، وَلَمْ يَكُونُوا فِي دِينِهِمْ بِمَكَانٍ مُعْتَمَدٍ، فَسَمِعُوا أَقَاوِيل الْمَجُوسِ وَصَبَوْا إِلَى بَعْضِهَا، فَامْتَزَجَ مَذْهَبُهُمْ مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْيَهُودِيَّةِ. قَال: وَهَؤُلاَءِ هُمُ الصَّابِئُونَ بِالْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَ الاِسْمُ أَشْهَرُ بِالْفِرْقَةِ الأُْولَى، وَكَذَا مَيَّزَ بَيْنَ الْفِرْقَتَيْنِ الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَابْنُ الْقَيِّمِ، وَقَال ابْنُ الْهُمَامِ: قِيل: فِي الصَّابِئَةِ الطَّائِفَتَانِ، وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي قَال الْبَعْضُ إِنَّهُمْ مِنَ النَّصَارَى يُسَمَّوْنَ (الْمَنْدَائِيِّينَ) وَمِنْهُمُ الآْنَ بَقَايَا فِي جَنُوبِ(26/296)
الْعِرَاقِ، وَقَدْ صَدَرَتْ عَنْهُمْ دِرَاسَاتٌ حَدِيثَةٌ كَشَفَتْ بَعْضَ مَا عِنْدَهُمْ، وَمِنْهَا مَا كَتَبَهُ بَعْضُ كُتَّابِهِمْ، وَبَعْضُ مَنْ يُعَايِشُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُرْجِمَتْ بَعْضُ كِتَابَاتِهِمُ الدِّينِيَّةِ إِلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَفِيهَا: أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ، وَبِالْمَلاَئِكَةِ، وَبِبَعْضِ الأَْنْبِيَاءِ، مِنْهُمْ: آدَمُ، وَشِيثُ، وَنُوحٌ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِمُوسَى، وَلاَ بِالْمَسِيحِ، وَلاَ التَّوْرَاةِ، وَلاَ الإِْنْجِيل، وَيُؤْمِنُونَ بِالتَّعْمِيدِ. وَلَهُمْ عِبَادَاتٌ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِهَا: مِنْ صَلَوَاتٍ، وَزَكَاةٍ، وَصَوْمٍ، وَأَعْيَادٍ دِينِيَّةٍ، وَيَغْتَسِلُونَ كُل يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاَثًا، وَلِذَلِكَ قَدْ يُسَمَّوْنَ الْمُغْتَسِلَةَ، وَيُسَمُّونَ اللَّهَ عَلَى الذَّبَائِحِ (1) .
وَأَضَافَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِرْقَةً ثَالِثَةً، كَانَتْ قَبْل التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل، كَانُوا مُوَحِّدِينَ؛ قَال: فَهَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَعَمِل صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} قَال: فَهَؤُلاَءِ كَالْمُتَّبِعِينَ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِمَامِ الْحُنَفَاءِ قَبْل نُزُول التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل، هُمُ
__________
(1) انظر مثلاً كتاب (مفاهيم صابئية مندائية) للباحثة الصابئية ناجية مراني، بغداد 1981 م.(26/297)
الَّذِينَ أَثْنَى عَلَيْهِمُ اللَّهُ تَعَالَى (1) .
عَلَى أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ لِلصَّابِئَةِ إِلَى فِرْقَتَيْنِ، وَدَعْوَى أَنَّ الْحَرَّانِيِّينَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يَتَسَمَّوْنَ الصَّابِئَةَ حَتَّى كَانَ عَهْدُ الْمَأْمُونِ، دَعْوَى هِيَ مَوْضُوعُ شَكٍّ - وَإِنْ دَرَجَ عَلَيْهَا بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ - فَإِنَّ كُتُبَ الْحَنَفِيَّةِ، تَنْسُبُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الصَّابِئَةَ الَّذِينَ يُعَظِّمُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ لَيْسُوا مُشْرِكِينَ؛ بَل هُمْ أَهْل الْكِتَابِ؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ تِلْكَ الْكَوَاكِبَ، بَل يُعَظِّمُونَهَا كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ الْكَعْبَةَ، وَأَنَّ صَاحِبَيْهِ قَالاَ: بَل هُمْ كَعُبَّادِ الأَْوْثَانِ (2) وَأَبُو حَنِيفَةَ كَانَ قَبْل الْمَأْمُونِ فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ 150 وَالْمَأْمُونُ سَنَةَ 218 هـ. وَكَلاَمُهُ وَكَلاَمُ صَاحِبَيْهِ مُنْصَبٌّ عَلَى الْحَرَّانِيِّينَ؛ فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ، مِمَّا يَدُل عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَانِهِ مُسَمَّيْنَ بِاسْمِ الصَّابِئَةِ. وَنُصُوصُ الْمُؤَرِّخِينَ مُضْطَرِبَةٌ،
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 / 91، ونهاية المحتاج شرح المنهاج 6 / 288، والرد على المنطقيين لابن تيمية 287 - 289، 654 - 656، ومروج الذهب للمسعودي 1 / 378 نشر عبد الرحمن محمد 1346هـ. والملل والنحل للشهرستاني 2 / 224 - 230 والفهرست لابن النديم ص 444، وفتح القدير 2 / 374، وأحكام أهل الذمة لابن القيم 1 / 92، والآثار الباقية عن القرون الخالية للبيروني ص 204، 205.
(2) انظر فتح القدير 4 / 370.(26/297)
بَعْضُهَا يَدُل عَلَى أَنَّهُمْ فِرْقَتَانِ، وَبَعْضُهَا عَلَى أَنَّهُمْ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصَّابِئَةِ:
6 - يَنْطَبِقُ عَلَى الصَّابِئَةِ الأَْحْكَامُ الَّتِي تَنْطَبِقُ عَلَى الْكُفَّارِ عَامَّةً: كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الصَّابِئِ لِلْمُسْلِمَةِ، وَكَعَدِمِ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ مِنْهُمْ، وَعَدَمِ إِقَامَتِهِمْ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ.
وَأَمَّا الأَْحْكَامُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِأَهْل الْكِتَابِ: كَجَوَازِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لَهُمْ، وَأَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَأَنْ يَأْكُل مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجْرَائِهَا عَلَيْهِمْ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي حَقِيقَةِ دِينِهِمْ، فَمَنِ اعْتَبَرَهُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ، أَوْ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ: أَجْرَى عَلَيْهِمُ الأَْحْكَامَ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْكِتَابِيِّ، أَوْ مَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ. وَمَنِ اعْتَبَرَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْل الْكِتَابِ، وَلَيْسَ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ: أَجْرَى عَلَيْهِمُ الأَْحْكَامَ الَّتِي تَنْطَبِقُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ: (أَهْل الْكِتَابِ، أَرْضُ الْعَرَبِ، جِزْيَةٌ) (1) .
إِقْرَارُ الصَّابِئَةِ فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ وَضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ:
7 - أَمَّا جَزِيرَةُ الْعَرَبِ: فَلاَ يَجُوزُ إِقْرَارُ
__________
(1) حديث: " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب " أخرجه مسلم (3 / 1388 - ط. الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب.(26/298)
الصَّابِئِينَ فِيهَا، كَسَائِرِ الْكُفَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْل الْكِتَابِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأَُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، حَتَّى لاَ أَدَعَ إِلاَّ مُسْلِمًا وَحَدِيثِ عَائِشَةَ. آخِرُ مَا عَهِدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُتْرَكُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ (1) وَفِي الْمُرَادِ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ خِلاَفٌ، وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَرْضُ الْعَرَبِ) .
وَأَمَّا فِي خَارِجِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ سَائِرِ بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ: فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِقْرَارِ الصَّابِئَةِ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِ إِقْرَارِهِمْ فِيهَا، وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ نَصَارَى، وَأَنَّ تَعْظِيمَهُمْ لِلْكَوَاكِبِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْعِبَادَةِ لَهَا.
وَقَال صَاحِبَاهُ: لاَ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ لأَِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ كَعِبَادَةِ الْمُشْرِكِينَ لِلأَْصْنَامِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: بِجَوَازِ إِقْرَارِهِمْ كَذَلِكَ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ يَجُوزُ أَنْ تُضْرَبَ عَلَى كُل كَافِرٍ، كِتَابِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ (3) .
__________
(1) حديث عائشة: " آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه أحمد (6 / 275 - ط الميمنية) وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5 / 325 - ط القدسي) : رجاله " رجال الصحيح ".
(2) فتح القدير 4 / 370، وفي كتاب الخراج خلاف هذا عن أبي يوسف، الرتاج 2 / 96.
(3) جواهر الإكليل 1 / 266، وتفسير القرطبي 1 / 435.(26/298)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الصَّابِئَةَ يَجُوزُ أَنْ تُعْقَدَ لَهُمُ الذِّمَّةُ بِالْجِزْيَةِ، عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُمْ مِنَ النَّصَارَى، إِنْ وَافَقُوهُمْ فِي أَصْل دِينِهِمْ، وَلَوْ خَالَفُوهُمْ فِي فُرُوعِهِ، وَلَمْ تُكَفِّرْهُمُ النَّصَارَى. أَمَّا إِنْ كَفَّرَتْهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِمُخَالَفَتِهِمْ فِي الْفُرُوعِ، فَقَدْ قِيل: يَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ وَإِنْ لَمْ تَجُزْ مُنَاكَحَتُهُمْ، لأَِنَّ مَبْنَى تَحْرِيمِ النِّكَاحِ، الاِحْتِيَاطُ، بِخِلاَفِ الْجِزْيَةِ (1) .
وَهَذَا التَّرَدُّدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِنَّمَا هُوَ فِي الصَّابِئَةِ الْمُشَابِهَةِ لِلنَّصَارَى (وَهُمُ الْمُسَمَّوْنَ الْمَنْدَائِيِّينَ) ، أَمَّا الصَّابِئَةُ عُبَّادُ الْكَوَاكِبِ: فَقَدْ جَزَمَ الرَّمْلِيُّ بِأَنَّ الْخِلاَفَ لاَ يَجْرِي فِيهِمْ، وَأَنَّهُمْ لاَ يُقَرُّونَ بِبِلاَدِ الإِْسْلاَمِ. قَال: وَلِذَلِكَ أَفْتَى الإِْصْطَخْرِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ - الْخَلِيفَةَ الْقَاهِرَ - بِقَتْلِهِمْ، لَمَّا اسْتَفْتَى فِيهِمُ الْفُقَهَاءَ، فَبَذَلُوا لَهُ مَالاً كَثِيرًا فَتَرَكَهُمْ (2) .
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ، لِنَصِّ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُمْ جِنْسٌ مِنَ النَّصَارَى: وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهُمْ جِنْسٌ مِنَ الْيَهُودِ، قَالُوا: وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْفَلَكَ حَيٌّ نَاطِقٌ، وَإِنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ آلِهَةٌ فَهُمْ كَعَبَدَةِ الأَْوْثَانِ، أَيْ:
__________
(1) الجمل على المنهج 5 / 213، والأحكام السلطانية 143، والقليوبي 3 / 253 ومغني المحتاج 4 / 244.
(2) نهاية المحتاج 6 / 288، وأحكام أهل الذمة لابن القيم 1 / 92، وطبقات الشافعية للسبكي 2 / 193.(26/299)
فَلاَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ (1) .
وَرَجَّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْقَوْل الأَْوَّل، قَال: هَذِهِ الأُْمَّةُ - يَعْنِي الصَّابِئَةَ - فِيهِمُ: الْمُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ، وَفِيهِمُ الْكَافِرُ، وَفِيهِمُ الآْخِذُ مِنْ دِينِ الرُّسُل مَا وَافَقَ عُقُولَهُمْ، وَاسْتَحْسَنُوهُ فَدَانُوا بِهِ وَرَضُوهُ لأَِنْفُسِهِمْ، وَعَقْدُ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِمَحَاسِنِ مَا عِنْدَ أَهْل الشَّرَائِعِ بِزَعْمِهِمْ، وَلاَ يَتَعَصَّبُونَ لِمِلَّةٍ عَلَى مِلَّةٍ، وَالْمِلَل عِنْدَهُمْ نَوَامِيسُ لِمَصَالِحِ الْعَالَمِ، فَلاَ مَعْنَى لِمُحَارَبَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، بَل يُؤْخَذُ بِمَحَاسِنِهَا وَمَا تَكْمُل بِهِ النُّفُوسُ، وَتَتَهَذَّبُ بِهِ الأَْخْلاَقُ. قَال: وَبِالْجُمْلَةِ فَالصَّابِئَةُ أَحْسَنُ حَالاً مِنَ الْمَجُوسِ. فَأَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَخْذِهَا مِنَ الصَّابِئَةِ بِطَرِيقِ الأَْوْلَى، فَإِنَّ الْمَجُوسَ مِنْ أَخْبَثِ الأُْمَمِ دِينًا وَمَذْهَبًا، وَلاَ يَتَمَسَّكُونَ بِكِتَابٍ وَلاَ يَنْتَمُونَ إِلَى مِلَّةٍ، فَشِرْكُ الصَّابِئَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَخَفَّ مِنْهُ فَلَيْسَ بِأَعْظَمَ مِنْهُ. اهـ (2) .
دِيَةُ الصَّابِئِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ، كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ، وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ الصَّابِئَةُ إِنْ كَانُوا أَهْل ذِمَّةٍ (3) .
__________
(1) كشاف القناع 3 / 118.
(2) أحكام أهل الذمة 1 / 98.
(3) الهداية وتكملة فتح القدير 8 / 307.(26/299)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ دِيَةَ الصَّابِئِ كَدِيَةِ النَّصْرَانِيِّ، وَمِقْدَارُهَا ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا إِنْ وَافَقَ الصَّابِئُ النَّصَارَى فِي أَصْل دِينِهِمْ وَلَوْ خَالَفَهُ فِي الْفُرُوعِ، مَا لَمْ يُكَفِّرْهُ النَّصَارَى (1) .
وَلَمْ يُصَرِّحِ الْحَنَابِلَةُ بِحُكْمِهِمْ فِي مِقْدَارِ الدِّيَةِ، لَكِنَّ مُقْتَضَى الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَهَبَتْ إِلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ أَنْ تَكُونَ دِيَةُ الصَّابِئِ نِصْفَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَفِي رِوَايَةٍ: الثُّلُثَ (2) .
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَهَبَتْ إِلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْل الْكِتَابِ: أَنْ تَكُونَ دِيَتُهُ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ نَجِدْ لَدَيْهِمُ التَّصْرِيحَ بِمِقْدَارِ دِيَاتِ الصَّابِئَةِ، وَحَيْثُ إِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوهُمْ كَالنَّصَارَى فِي الذَّبَائِحِ وَنَحْوِهَا، فَلِذَا يَظْهَرُ أَنَّ دِيَاتِهِمْ كَدِيَةِ الْمَجُوسِ، وَهِيَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ لِلرَّجُل، وَأَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ لِلْمَرْأَةِ (3) .
حُكْمُ ذَبَائِحِ الصَّابِئَةِ،
وَحُكْمُ تَزَوُّجِ نِسَائِهِمْ:
9 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ: لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَأْكُل مِنْ ذَبَائِحِ الصَّابِئَةِ، وَأَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ نِسَائِهِمْ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 258.
(2) الفروع 6 / 19.
(3) التاج والإكليل للمواق بهامش الحطاب 6 / 257.(26/300)
الْكَوَاكِبَ، وَإِنَّمَا يُعَظِّمُونَهَا كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ لِلْكَعْبَةِ.
وَقَال صَاحِبَاهُ: هُمْ مِنَ الزَّنَادِقَةِ وَالْمُشْرِكِينَ، فَلاَ تَحِل نِسَاؤُهُمْ وَلاَ ذَبَائِحُهُمْ.
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْل بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ، فَلَوِ اتَّفَقَ عَلَى تَفْسِيرِهِمُ اتَّفَقَ الْحُكْمُ فِيهِمْ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ ذَبَائِحِ الصَّابِئَةِ لِشِدَّةِ مُخَالَفَتِهِمْ لِلنَّصَارَى (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ خَالَفَ الصَّابِئَةُ النَّصَارَى فِي أَصْل دِينِهِمْ (أَيِ الإِْيمَانِ بِعِيسَى وَالإِْنْجِيل) حَرُمَتْ ذَبَائِحُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا إِنْ لَمْ يُخَالِفُوهُمْ فِي ذَلِكَ فَلاَ تَحْرُمُ ذَبَائِحُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ عَلَيْنَا، مَا لَمْ تُكَفِّرْهُمُ النَّصَارَى، فَإِنْ كَفَّرَهُمُ النَّصَارَى حَرُمَتْ نِسَاؤُهُمْ وَذَبَائِحُهُمْ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ ذَبِيحَةُ الْمُبْتَدِعِ إِنْ كَانَتْ بِدْعَتُهُ مُكَفِّرَةً. وَهَذَا الْحُكْمُ الْمُتَرَدَّدُ فِيهِ هُوَ غَيْرُ الصَّابِئَةِ عُبَّادِ الْكَوَاكِبِ، وَهُمُ الْحَرَّانِيَّةُ؛ فَإِنَّ هَؤُلاَءِ مَجْزُومٌ بِكُفْرِهِمْ؛ فَلاَ تَحِل مُنَاكَحَتُهُمْ
__________
(1) فتح القدير 2 / 374، وابن عابدين 5 / 188، والبدائع 2 / 271 و 5 / 46.
(2) الخرشي على مختصر خليل وحاشية العدوي 2 / 303 المطبعة الشرقية 1316 هـ.(26/300)
وَلاَ ذَبَائِحُهُمْ قَوْلاً وَاحِدًا، وَلاَ يَجْرِي فِيهِمُ الْخِلاَفُ الْمُتَقَدِّمُ (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الصَّابِئَةُ مِنَ الْيَهُودِ، وَفِي أُخْرَى: هُمْ مِنَ النَّصَارَى. فَعَلَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ: يَجُوزُ أَكْل ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ. وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ: أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ؛ فَهُمْ كَعَبَدَةِ الأَْوْثَانِ (2) .
وَقْفُ الصَّابِئَةِ:
10 - قَال ابْنُ الْهُمَامِ: الصَّابِئَةُ إِنْ كَانُوا دَهْرِيَّةً أَيْ: يَقُولُونَ: {مَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} فَهُمْ صِنْفٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ، وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ: بِقَوْل أَهْل الْكِتَابِ صَحَّ مِنْ أَوْقَافِهِمْ مَا يَصِحُّ مِنْ أَوْقَافِ أَهْل الذِّمَّةِ، وَالَّذِي يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ فَيَصِحُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ لاَ عَلَى بِيَعِهِمْ مَثَلاً (3)
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 288 وحاشية القليوبي 3 / 252، 4 / 240 وكشاف القناع 4 / 240.
(2) المغني 6 / 591.
(3) فتح القدير 5 / 38.(26/301)
صَابُونٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّابُونُ: هُوَ الَّذِي يُغْسَل بِهِ الثِّيَابُ مَعْرُوفٌ (1) .
وَنُقِل عَنِ ابْنِ دُرَيْدٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلاَمِ الْعَرَبِ (2) وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَحْمَاضٍ دُهْنِيَّةٍ وَبَعْضِ الْقَلَوِيَّاتِ، وَتُسْتَعْمَل رَغْوَتُهُ فِي التَّنْظِيفِ وَالْغَسْل (3)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّابُونِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً - اسْتِعْمَال الصَّابُونِ الْمَعْمُول مِنْ زِيتِ نَجِسٍ:
2 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُخْتَارِ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الصَّابُونَ الْمَصْنُوعَ مِنَ الزَّيْتِ النَّجِسِ أَوِ الْمُتَنَجِّسِ طَاهِرٌ، فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ وَالْمُعَامَلَةُ بِهِ، قَال فِي الدُّرِّ: وَيَطْهُرُ زَيْتٌ تَنَجَّسَ بِجَعْلِهِ صَابُونًا، بِهِ يُفْتَى لِلْبَلْوَى، كَتَنُّورٍ رُشَّ بِمَاءٍ نَجِسٍ لاَ بَأْسَ بِالْخَبْزِ فِيهِ، وَكَطِينٍ تَنَجَّسَ فَجُعِل مِنْهُ كُوزٌ بَعْدَ جَعْلِهِ عَلَى النَّارِ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ فَرَّعُوهَا
__________
(1) لسان العرب.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب.
(3) الصحاح وتجديده للمرعشلي، والمعجم الوسيط.(26/301)
عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِلْبَلْوَى، وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ. وَالْعِلَّةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ التَّغَيُّرُ وَانْقِلاَبُ الْحَقِيقَةِ، وَمُقْتَضَاهُ عَدَمُ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالصَّابُونِ، فَيَدْخُل فِيهِ كُل مَا كَانَ فِيهِ تَغَيُّرٌ وَانْقِلاَبُ حَقِيقَةٍ (1) وَمِثْلُهُ مَا فِي الْفَتْحِ لاِبْنِ الْهُمَامِ (2) .
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ كَذَلِكَ الاِنْتِفَاعَ بِالصَّابُونِ الْمَعْمُول مِنْ زَيْتِ نَجِسٍ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِطَهَارَتِهِ، فَقَدْ جَاءَ فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ نَقْلاً عَنِ الْمَجْمُوعِ: يَجُوزُ اتِّخَاذُ الصَّابُونِ مِنَ الزَّيْتِ النَّجِسِ (3) قَال الرَّمْلِيُّ: وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي بَدَنِهِ وَثَوْبِهِ، كَمَا صَرَّحُوا بِذَلِكَ. ثُمَّ قَال: ثُمَّ يُطَهِّرُهُمَا (4) وَيُفْهَمُ مِنْهُ: أَنَّهُ مَا زَال نَجِسًا؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ الأَْصْل عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ مِنْ نَجِسِ الْعَيْنِ إِلاَّ شَيْئَانِ: خَمْرٌ تَخَلَّلَتْ، وَجِلْدٌ نَجُسَ بِالْمَوْتِ إِذَا دُبِغَ (5) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ النَّجِسِ وَالْمُتَنَجِّسِ فَقَالُوا: بِجَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِمُتَنَجِّسٍ، لاَ بِنَجِسٍ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ وَأَكْل آدَمِيٍّ، فَيُسْتَصْبَحُ عِنْدَهُمْ بِالزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ
__________
(1) ابن عابدين وبهامشه الدر المختار 1 / 210.
(2) فتح القدير 1 / 176.
(3) أسنى المطالب 1 / 278.
(4) حاشية الرملي على أسنى المطالب 1 / 278، ونهاية المحتاج 2 / 278.
(5) نهاية المحتاج 2 / 230،232.(26/302)
فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، وَيُعْمَل مِنْهُ الصَّابُونُ، وَيُنْتَفَعُ بِهِ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الاِنْتِفَاعِ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ: عَدَمُ جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِالصَّابُونِ الْمَعْمُول مِنَ النَّجِسِ كَشَحْمِ الْمَيْتَةِ، وَإِنْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِجَوَازِ الاِسْتِصْبَاحِ بِشَحْمِ الْمَيْتَةِ إِذَا تُحُفِّظَ مِنْهُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تَطْهُرُ نَجَاسَةٌ بِاسْتِحَالَةٍ وَلاَ بِنَارٍ، فَالصَّابُونُ الْمَعْمُول مِنْ زَيْتِ نَجِسٍ نَجِسٌ، وَدُخَانُ النَّجَاسَةِ وَغُبَارُهَا نَجِسٌ (2) . وَهَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُسْتَخْرَجُ أَنْ تَطْهُرَ النَّجَاسَاتُ بِالاِسْتِحَالَةِ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ إِذَا انْقَلَبَتْ، وَجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَتْ (3) .
ثَانِيًا - الْوُضُوءُ بِمَاءِ الصَّابُونِ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ مَاءَ الصَّابُونِ إِذَا ذَهَبَتْ رِقَّتُهُ وَصَارَ ثَخِينًا لاَ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ، وَإِذَا بَقِيَتْ رِقَّتُهُ وَلَطَافَتُهُ جَازَ (4) قَال ابْنُ الْهُمَامِ فِي تَعْلِيل الْجَوَازِ: الْمُخَالِطُ الْمَغْلُوبُ لاَ يَسْلُبُ الإِْطْلاَقَ، فَوَجَبَ تَرْتِيبُ حُكْمِ الْمُطْلَقِ عَلَى
__________
(1) الزرقاني مع حاشية البناني 1 / 34، الحطاب 1 / 117، وفيه أن المتنجس ما كان طاهرًا في الأصل وأصابته نجاسة كالزيت والسمن ونحوه تقع فيه فأرة أو نجاسة، والنجس ما كانت عينه نجسة كالميتة والدم.
(2) كشاف القناع 1 / 186.
(3) المغني لابن قدامة 2 / 72
(4) الفتاوى الهندية 1 / 21، والخانية بهامش الهندية 1 / 16.(26/302)
الْمَاءِ الَّذِي هُوَ كَذَلِكَ، أَيْ: جَوَازُ الْوُضُوءِ بِهِ. وَقَدِ اغْتَسَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ قَصْعَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ، وَالْمَاءُ بِذَلِكَ يَتَغَيَّرُ، وَلَمْ يُعْتَبَرَ الْمَغْلُوبِيَّةُ (1) .
وَالأَْصْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ شَيْءٌ يُمْكِنُ حِفْظُهُ مِنْهُ - غَيْرُ التُّرَابِ وَالْمِلْحِ - كَالزَّعْفَرَانِ، وَالتَّمْرِ، وَالدَّقِيقِ، فَتَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ؛ لأَِنَّهُ زَال عَنْهُ إِطْلاَقُ اسْمِ الْمَاءِ. لَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي صِفَةِ التَّغَيُّرِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَسِيرًا، بِأَنْ وَقَعَ فِيهِ قَلِيلٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ، فَاصْفَرَّ قَلِيلاً أَوْ صَابُونٍ أَوْ دَقِيقٍ فَابْيَضَّ قَلِيلاً، بِحَيْثُ لاَ يُضَافُ إِلَيْهِ فَوَجْهَانِ: الصَّحِيحُ مِنْهُمَا: أَنَّهُ طَهُورٌ لِبَقَاءِ اسْمِ الْمَاءِ، قَال النَّوَوِيُّ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ (2) .
وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ حَيْثُ قَالُوا: وَمَا سَقَطَ فِي الْمَاءِ مِنَ الْبَاقِلاَّ، وَالْحِمَّصِ، وَالْوَرْدِ، وَالزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِ مِنَ الطَّاهِرَاتِ، وَكَانَ يَسِيرًا، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ طَعْمٌ وَلاَ لَوْنٌ وَلاَ
__________
(1) حديث: " اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في قصعة فيها أثر العجين " أخرجه النسائي (1 / 202 - 203 - ط. المكتبة التجارية) من حديث أم هانئ.
(2) المجموع للنووي 1 / 102، 104 والقليوبي 1 / 18 - 19.(26/303)
رَائِحَةٌ كَثِيرَةٌ حَتَّى يُنْسَبَ الْمَاءُ إِلَيْهِ تَوَضَّأَ بِهِ (1) .
وَهَذَا إِذَا كَانَ الصَّابُونُ مَعْمُولاً مِنْ زَيْتِ طَاهِرٍ. أَمَّا إِذَا كَانَ مَصْنُوعًا مِنْ غَيْرِ طَاهِرٍ، فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِطَهَارَتِهِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ، أَمَّا مَنْ يَقُول: إِنَّ النَّجِسَ لاَ يَطْهُرُ بِاسْتِحَالَتِهِ فَلاَ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ (ر: ف 2)
وَالظَّاهِرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُمْ لاَ يُجَوِّزُونَ التَّوَضُّؤَ بِمَاءِ الصَّابُونِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا (2) . حَيْثُ قَالُوا: مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ، فَذَلِكَ الْمَاءُ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُطَهِّرٍ لِغَيْرِهِ، فَلاَ يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَيُسْتَعْمَل فِي الْعَادَاتِ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (طَهَارَةٌ وَمِيَاهٌ)
ثَالِثًا: اسْتِعْمَال الْمُحْرِمِ لِلصَّابُونِ:
4 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِاسْتِعْمَال الْمُحْرِمِ الصَّابُونَ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْفَتْحِ: لَوْ غَسَل بِالصَّابُونِ وَالْحُرْضِ (4) لاَ رِوَايَةَ فِيهِ، وَقَالُوا: لاَ شَيْءَ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ وَلاَ يَقْتُل (أَيِ الْهَوَامَّ) ثُمَّ قَال:
__________
(1) كشاف القناع 1 / 26، والمغني 1 / 14.
(2) الحطاب 1 / 58،59.
(3) الفواكه الدواني 1 / 145.
(4) قال في القاموس: الحرض - بضمة وبضمتين - كالأشنان (وهو نبت يغسل به) .(26/303)
وَمُقْتَضَى التَّعْلِيل عَدَمُ وُجُوبِ الدَّمِ وَالصَّدَقَةِ اتِّفَاقًا، وَلِذَا قَال فِي الظَّهِيرِيَّةِ: وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ (1) .
وَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ فِي الصَّابُونِ الْعَادِيِّ، الَّذِي لاَ يُعْتَبَرُ طِيبًا؛ لأَِنَّ الْمُحْرِمَ إِنَّمَا يُمْنَعُ مِنَ اسْتِعْمَال الطِّيبِ، وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ نَصًّا فِي الْمَوْضُوعِ.
وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (تَطَيُّبٌ وَإِحْرَامٌ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 2 / 163، فتح القدير 2 / 228.(26/304)
صَاعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّاعُ وَالصُّوَاعُ (بِالْكَسْرِ وَبِالضَّمِّ) لُغَةً: مِكْيَالٌ يُكَال بِهِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ.
وَقَال الدَّاوُدِيُّ: مِعْيَارُهُ لاَ يَخْتَلِفُ أَرْبَعُ حَفَنَاتٍ بِكَفَّيِ الرَّجُل الَّذِي لَيْسَ بِعَظِيمِ الْكَفَّيْنِ وَلاَ صَغِيرِهَا. وَقِيل: هُوَ إِنَاءٌ يُشْرَبُ فِيهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُدُّ:
2 - الْمُدُّ بِالضَّمِّ: كَيْلٌ، وَهُوَ رِطْلاَنِ عِنْدَ
__________
(1) القاموس المحيط، وتاج العروس، والنهاية في غريب الحديث والأثر، ومختار الصحاح.
(2) تبيين الحقائق 1 / 309 ط. دار المعرفة، وبدائع الصنائع 2 / 73 ط. دار الكتاب العربي، والشرح الصغير 1 / 608 ط. دار المعارف بمصر، والدسوقي 1 / 504 - 505 ط. دار الفكر، وروضة الطالبين 2 / 302 ط. المكتب الإسلامي، وحاشية الجمل 2 / 241 ط. دار إحياء التراث العربي، وكشاف القناع 1 / 156 ط. عالم الكتب، ومطالب أولي النهى 2 / 112.(26/304)
أَهْل الْعِرَاقِ، وَرِطْلٌ وَثُلُثٌ عِنْدَ أَهْل الْحِجَازِ.
وَقَال الْفَيْرُوزُ آبَادِي: قِيل: الْمُدُّ هُوَ مِلْءُ كَفَّيِ الإِْنْسَانِ الْمُتَوَسِّطِ إِذَا مَلأََهُمَا وَمَدَّ يَدَهُ بِهِمَا، وَبِهِ سُمِّيَ مُدًّا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُدَّ يُسَاوِي رُبُعَ الصَّاعِ، فَالْمُدُّ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّاعِ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُدَّ وَالصَّاعَ مِنْ وِحْدَاتِ الأَْكْيَال الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ (2)
ب - الْوَسْقُ:
3 - الْوَسْقُ وَالْوِسْقُ: مَكِيلَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَهُوَ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْوَسْقُ عَلَى هَذَا الْحِسَابِ مِائَةٌ وَسِتُّونَ مَنًّا (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (4) .
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، والنهاية، وتاج العروس، ولسان العرب مادة (مدد) .
(2) فتح القدير 2 / 40 ط بولاق، وابن عابدين 2 / 76 ط بولاق، والشرح الصغير 1 / 608، والمغني 1 / 222، وكشاف القناع 1 / 155، والأموال لأبي عبيد ص (207) وشرح روض الطالب 1 / 71.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، وتاج العروس مادة (وسق) .
(4) الشرح الصغير 1 / 608، والقليوبي 1 / 24، والمغني 2 / 700، وجواهر الإكليل 1 / 124، والنهاية في غريب الحديث والأثر 4 / 210.(26/305)
ج - الْمَنُّ:
4 - الْمَنُّ بِالْفَتْحِ وَالتَّشْدِيدِ مِعْيَارٌ قَدِيمٌ، كَانَ يُكَال بِهِ أَوْ يُوزَنُ، وَقَدْرُهُ إِذْ ذَاكَ رِطْلاَنِ بَغْدَادِيَّانِ (1) ، وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
د - الْفَرَقُ:
5 - الْفَرَقُ بِفَتْحَتَيْنِ أَوْ بِسُكُونِ الرَّاءِ: مِكْيَالٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلاً، وَالْجَمْعُ فُرْقَانٌ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال أَبُو عُبَيْدٍ: لاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَ النَّاسِ أَعْلَمُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفَرَقَ ثَلاَثَةُ آصُعٍ، وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلاً (3)
هـ - الرِّطْل:
6 - الرِّطْل: مِعْيَارٌ يُوزَنُ بِهِ، وَهُوَ بِالْبَغْدَادِيِّ اثْنَتَا عَشْرَةَ أُوقِيَّةً، فَيُسَاوِي مِثْقَالاً (4) .
قَال الرَّافِعِيُّ: قَال الْفُقَهَاءُ: وَإِذَا أُطْلِقَ الرِّطْل فِي الْفُرُوعِ، فَالْمُرَادُ بِهِ رِطْلٌ بَغْدَادِيٌّ، وَالرِّطْل مِكْيَالٌ أَيْضًا (5) .
__________
(1) معجم لغة الفقهاء، ولسان العرب، والمعجم الوسيط، وتاج العروس مادة (من) .
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والتاج، والنهاية، والقاموس المحيط، والصحاح مادة (فرق) .
(3) الشرح الصغير 1 / 608، والمغني 1 / 225، والأموال لأبي عبيد ط (208) الطبعة الأولى.
(4) المصباح المنير، والمغرب، والمعجم الوسيط، ولسان العرب مادة (رطل) .
(5) المصباح المنير مادة (رطل) وابن عابدين 2 / 76 ط بولاق، والزرقاني 2 / 131.(26/305)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصَّاعِ:
مِقْدَارُ الصَّاعِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ الصَّاعِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّاعَ: خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ (1) قَال أَبُو عُبَيْدٍ: وَلاَ اخْتِلاَفَ بَيْنَ النَّاسِ أَعْلَمُهُ فِي أَنَّ الْفَرَقَ ثَلاَثَةُ آصُعٍ، وَالْفَرَقُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلاً؛ فَثَبَتَ أَنَّ الصَّاعَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ.
وَرُوِيَ: أَنَّ أَبَا يُوسُفَ حِينَمَا دَخَل الْمَدِينَةَ سَأَلَهُمْ عَنِ الصَّاعِ، فَقَالُوا: خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ، فَطَالَبَهُمْ بِالْحُجَّةِ فَقَالُوا: غَدًا. فَجَاءَ مِنَ الْغَدِ سَبْعُونَ شَيْخًا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَخَذَ صَاعًا تَحْتَ رِدَائِهِ فَقَال: صَاعِي وَرِثْتُهُ عَنْ أَبِي، وَوَرِثَهُ أَبِي عَنْ جَدِّي، حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالرِّطْل الْعِرَاقِيُّ عِنْدَهُمْ: مِائَةُ دِرْهَمٍ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ (2) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: الصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ
__________
(1) حديث: " تصدق بفرق بين ستة مساكين " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 18 - ط السلفية) .
(2) جواهر الإكليل 1 / 124، وحاشية الدسوقي 1 / 504، شرح المنهاج 2 / 36، وروضة الطالبين 2 / 301، والمغني 1 / 222 - 223.(26/306)
لأَِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَهُوَ رِطْلاَنِ؛ وَيَغْتَسِل بِالصَّاعِ (1) ، فَعُلِمَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنَّ مِقْدَارَ الْمُدِّ رِطْلاَنِ. فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُدَّ رِطْلاَنِ: يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ صَاعُ رَسُول اللَّهِ أَرْبَعَةَ أَمْدَادٍ، وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ لأَِنَّ الْمُدَّ رُبُعُ صَاعٍ بِاتِّفَاقٍ.
وَالرِّطْل الْعِرَاقِيُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: عِشْرُونَ أَسْتَارًا، وَالأَْسْتَارُ: سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ (2)
الاِغْتِسَال بِالصَّاعِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِغْتِسَال بِالصَّاعِ مُجْزِئٌ، إِذَا حَصَل الإِْسْبَاغُ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: " لَيْسَ فِي حُصُول الإِْجْزَاءِ فِي الْمُدِّ فِي الْوُضُوءِ، وَالصَّاعِ فِي الْغُسْل خِلاَفٌ نَعْلَمُهُ " فَإِنْ أَسْبَغَ بِدُونِ الصَّاعِ فِي الْغُسْل أَجْزَأَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْغُسْل وَقَدْ فَعَلَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ: الاِغْتِسَال بِالصَّاعِ سُنَّةٌ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ أَنْ لاَ يَنْقُصَ مَاءُ الْغُسْل عَنْ صَاعٍ تَقْرِيبًا، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ فِيمَنِ اعْتَدَل جَسَدُهُ؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوَضِّؤُهُ الْمُدُّ، وَيُغَسِّلُهُ الصَّاعُ. أَمَّا مَنْ لَمْ يَعْتَدِل جَسَدُهُ فَيَخْتَلِفُ
__________
(1) حديث أنس: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل - أو كان يغتسل - بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد ". أخرجه البخاري، (الفتح 1 / 304 - ط السلفية) .
(2) البناية شرح الهداية 3 / 355، فتح القدير 2 / 30.(26/306)
زِيَادَةً وَنَقْصًا (1) .
فَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغَسِّل - أَوْ كَانَ يَغْتَسِل - بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ (2) .
وَوَرَدَ: أَنَّ قَوْمًا سَأَلُوا جَابِرًا عَنِ الْغُسْل، فَقَال: يَكْفِيكَ صَاعٌ، فَقَال رَجُلٌ: مَا يَكْفِينِي. فَقَال جَابِرٌ: كَانَ يَكْفِي مَنْ هُوَ أَوْفَى شَعْرًا مِنْكَ وَخَيْرٌ مِنْكَ، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
وَلَمْ يَنُصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى سُنِّيَّةِ الاِغْتِسَال بِالصَّاعِ.
صَدَقَةُ الْفِطْرِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيرِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِالصَّاعِ، فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْوَاجِبَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ - عَنْ كُل إِنْسَانٍ - صَاعٌ مِنَ الْبُرِّ أَوِ الشَّعِيرِ أَوْ دَقِيقِهِمَا أَوِ التَّمْرِ، أَوِ الزَّبِيبِ، فَهُمْ يَرَوْنَ عَدَمَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ جَمِيعِ الأَْصْنَافِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا زَكَاةُ الْفِطْرِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ
__________
(1) البدائع 1 / 35، والفتاوى الهندية 1 / 16، والمهذب 1 / 38، وروضة الطالبين 1 / 90، والمغني 1 / 222، وكشاف القناع 1 / 156، ونهاية المحتاج 1 / 212.
(2) حديث: " أنس. . . " سبق تخريجه ف 7.
(3) حديث جابر: " أن قومًا سألوا جابرًا عن الغسل. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 365 - ط السلفية) .(26/307)
تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُل حُرٍّ وَعَبْدٍ، ذَكَرٍ وَأُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ (1) . وَلِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: كُنَّا نُخْرِجُ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ، عَنْ كُل صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ (2) .
وَقَدْ نُقِل عَنْ أَبِي الْفَرَجِ الدَّارِمِيِّ وَالْبَنْدَنِيجِيِّ: أَنَّ الْوَاجِبَ إِخْرَاجُ صَاعٍ مُعَايَرٍ بِالصَّاعِ الَّذِي كَانَ يُخْرَجُ بِهِ زَمَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ الصَّاعُ مَوْجُودٌ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الاِسْتِظْهَارُ بِأَنْ يُخْرِجَ مَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ لاَ يُنْقِصُهُ عَنْهُ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْوَاجِبَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَسَوِيقِهِ، أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ، لِمَا رَوَى ثَعْلَبَةُ بْنُ صُعَيْرٍ الْعُذْرِيُّ
__________
(1) حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر. . . . أخرجه البخاري (الفتح 3 / 367 - ط السلفية) ومسلم (2 / 677 - ط. الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) حديث أبي سعيد: كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم (2 / 678 - ط الحلبي) وأخرجه البخاري (الفتح 3 / 371 - ط السلفية) مختصرًا.
(3) بداية المجتهد 1 / 289، والقوانين الفقهية ص 76، والدسوقي 1 / 504، ومواهب الجليل 2 / 366، وروضة الطالبين 2 / 301، 302، والمجموع 6 / 128 ط السلفية، والمغني 3 / 55، وكشاف القناع 2 / 53 ط. عالم الكتب.(26/307)
أَنَّهُ قَال: خَطَبَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أَدُّوا عَنْ كُل حُرٍّ وَعَبْدٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ (1) .
وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ: أَنَّ عَشَرَةً مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رَوَوْا: عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، وَاحْتُجَّ بِرِوَايَتِهِمْ.
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الزَّبِيبِ، فَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: نِصْفَ صَاعٍ؛ لأَِنَّ قِيمَةَ الزَّبِيبِ تَزِيدُ عَنْ قِيمَةِ
__________
(1) حديث: " أدوا عن كل حر وعبد. . . " يدل عليه ما رواه أبو داود من حديث الحسن أنه قال: خطب ابن عباس رحمه الله في آخر رمضان على منبر البصرة فقال: أخرجوا صدقة صومكم فكأن الناس لم يعلموا فقال: من هاهنا من أهل المدينة؟ قوموا إلى إخوانكم فعلموهم فإنهم لا يعل وهو حديث حسن (جامع الأصول بتحقيق الأرناؤوط 4 / 644) ، وذكر الزيلعي والعيني شواهد له (نصب الراية 2 / 418 - 423 وعمدة القاري 9 / 113 وما بعدها) .(26/308)
الْحِنْطَةِ فِي الْعَادَةِ، ثُمَّ اكْتَفَى مِنَ الْحِنْطَةِ بِنِصْفِ صَاعٍ؛ فَمِنَ الزَّبِيبِ أَوْلَى.
وَرَوَى الْحَسَنُ، وَأَسَدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَال: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ وَلأَِنَّ الزَّبِيبَ لاَ يَكُونُ مِثْل الْحِنْطَةِ فِي التَّغَذِّي، بَل يَكُونُ أَنْقَصَ مِنْهَا، كَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ؛ فَكَانَ التَّقْدِيرُ فِيهِ بِالصَّاعِ، كَمَا فِي الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَدَاءُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فِي الْفِطْرَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ جِنْسَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَلَوْ أَدَّى نِصْفَ صَاعِ شَعِيرٍ، وَنِصْفَ صَاعِ تَمْرٍ، أَوْ نِصْفَ صَاعِ شَعِيرٍ وَرُبُعَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ جَازَ (1) .
وَهُنَاكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةُ الْفِطْرِ) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُجْزِئُ فِي الْفِطْرَةِ الْوَاحِدَةِ صَاعٌ مِنْ جِنْسَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ الْجِنْسَانِ مُتَمَاثِلِينَ أَوْ أَحَدُهُمَا مِمَّا يَجِبُ وَالآْخَرُ أَعْلَى مِنْهُ، كَمَا لاَ يُجْزِئُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَنْ
__________
(1) بدائع الصنائع (2 / 72 ط دار الكتاب العربي، وابن عابدين 2 / 76 ط بولاق) والبحر الرائق 2 / 273 ط دار المعرفة، وتبيين الحقائق 1 / 307 ط دار المعرفة) .(26/308)
يَكْسُوَ خَمْسَةً وَيُطْعِمَ خَمْسَةً؛ لأَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِصَاعِ بُرٍّ، أَوْ شَعِيرٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ جَمَعَ صَاعًا مِنَ التَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ، وَالأَْقِطِ، وَأَخْرَجَهُ أَجْزَأَهُ كَمَا لَوْ كَانَ خَالِصًا مِنْ. أَحَدِهِمَا (2) .
وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي ذَلِكَ.
صُبْحٌ
انْظُرْ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَةُ، وَأَوْقَاتُ الصَّلاَةِ.
__________
(1) المجموع 6 / 135.
(2) كشاف القناع 2 / 253.(26/309)
صُبْرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصُّبْرَةُ فِي اللُّغَةِ: الْكَوْمَةُ مِنْ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ، جَمْعُهَا صُبَرٌ، كَغُرْفَةٍ وَغُرَفٍ، يُقَال: صَبَّرْتُ الْمَتَاعَ: إِذَا جَمَعْتُهُ وَضَمَمْتُ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ. وَقِيل: هِيَ الْكَوْمَةُ مِنَ الطَّعَامِ خَاصَّةً، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَجْهُولَةَ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَمْ مَعْلُومَتَهُمَا، وَقِيل: مَا جُمِعَ مِنَ الطَّعَامِ بِلاَ كَيْلٍ وَلاَ وَزْنٍ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال سُلَيْمَانُ الْجَمَل: أَطْلَقَهَا الْفُقَهَاءُ عَلَى كُل مُتَمَاثِل الأَْجْزَاءِ (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الْجُزَافُ - مُثَلَّثُ الْجِيمِ - وَهُوَ بَيْعُ مَا يُكَال، أَوْ يُوزَنُ، أَوْ يُعَدُّ جُمْلَةً بِلاَ كَيْلٍ، وَلاَ وَزْنٍ، وَلاَ عَدٍّ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصُّبْرَةِ:
بَيْعُ الصُّبْرَةِ جُزَافًا:
3 - يَصِحُّ بَيْعُ الصُّبْرَةِ جُزَافًا وَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةَ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح مادة (صبر) ، وكشاف القناع 3 / 168، حاشية الجمل 3 / 34.
(2) مواهب الجليل 4 / 285، المصباح المنير، والموسوعة الفقهية (مصطلح: جزاف) .(26/309)
الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ. فَإِنْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ مِنَ الْحِنْطَةِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ صِيعَانَهَا؛ لأَِنَّ غَرَرَ الْجَهَالَةِ يَنْتَفِي بِالْمُشَاهَدَةِ (1) . كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ صَاعٍ مِنْ صُبْرَةٍ وَبَيْعُ صُبْرَةٍ: كُل صَاعٍ بِدِرْهَمٍ، وَأَرَادَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ شِرَاءَ جَمِيعِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَعْلُومَةَ الصِّيعَانِ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الصِّيعَانِ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيل. وَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةَ الصِّيعَانِ كَانَتْ مَجْهُولَةَ الْجُمْلَةِ، مَعْلُومَةَ التَّفْصِيل، وَجَهْل الْجُمْلَةِ وَحْدَهُ لاَ يَضُرُّ (2) .
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ بَاعَ صُبْرَةً: كُل صَاعٍ بِدِرْهَمٍ صَحَّ فِي صَاعٍ، قَال: لأَِنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، غَيْرَ أَنَّ الأَْقَل مَعْلُومٌ فَيَجُوزُ فِيهِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ، وَمَا عَدَاهُ مَجْهُولٌ فَيَفْسُدُ، وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ. وَقَال صَاحِبَاهُ: يَجُوزُ فِي الْكُل؛ لأَِنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ بِالإِْشَارَةِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهِ لِجَوَازِ بَيْعِهِ. أَمَّا إِذَا كَالاَهُ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ بِالإِْجْمَاعِ لِزَوَال الْمَانِعِ
__________
(1) المجموع 9 / 310 - 312، نهاية المحتاج 3 / 413 - 414، ابن عابدين 4 / 22، تبيين الحقائق 4 / 5 - 6، الإنصاف 4 / 303، الكافي 2 / 14 - 15، بلغة السالك 2 / 359، مواهب الجليل 4 / 285.
(2) المصادر السابقة.(26/310)
قَبْل تَقَرُّرِ الْفَسَادِ (1) .
شُرُوطُ جَوَازِ بَيْعِ الصُّبْرَةِ جُزَافًا:
4 - يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الصُّبْرَةِ جُزَافًا مَا يَلِي:
أ - أَنْ لاَ يَغُشَّ بَائِعُ الصُّبْرَةِ، بِأَنْ يَجْعَلَهَا عَلَى دِكَّةٍ أَوْ رَبْوَةٍ، أَوْ يَجْعَل الرَّدِيءَ مِنْهَا أَوِ الْمَبْلُول فِي بَاطِنِهَا، لِحَدِيثِ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (2) فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ؛ فَإِنْ عَلِمَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ ذَلِكَ بَطَل الْعَقْدُ؛ لِمَنْعِ ذَلِكَ تَخْمِينَ الْقَدْرِ فَيَكْثُرُ الْغَرَرُ، هَذَا إِذَا لَمْ يَرَ قَبْل الْوَضْعِ فِيهِ، فَإِنْ رَأَى الصُّبْرَةَ قَبْل الْوَضْعِ صَحَّ الْبَيْعُ لِحُصُول التَّخْمِينِ، وَإِنْ جَهِل كُلٌّ مِنْهُمَا ذَلِكَ: بِأَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَحَل مُسْتَوٍ فَظَهَرَ خِلاَفُهُ خُيِّرَ مَنْ لَحِقَهُ النَّقْصُ، بَيْنَ الْفَسْخِ، وَالإِْمْضَاءِ (3) .
ب - أَنْ تَكُونَ مُتَسَاوِيَةَ الأَْجْزَاءِ. فَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَجْزَاؤُهَا لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ.
ج - أَنْ يَرَى الْمَبِيعَ جُزَافًا حَال الْعَقْدِ، أَوْ قَبْلَهُ إِذَا اسْتَمَرَّ عَلَى حَالِهِ إِلَى وَقْتِ الْعَقْدِ دُونَ تَغَيُّرٍ.
د - أَنْ يَجْهَل الْمُتَبَايِعَانِ مَعًا قَدْرَ الْكَيْل أَوِ
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 5 - 6، ابن عابدين 4 / 22.
(2) حديث: " من غشنا فليس منا " أخرجه مسلم (1 / 99 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) روض الطالب 2 / 17، كشاف القناع 3 / 169.(26/310)
الْوَزْنِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَعْلَمُ الْقَدْرَ دُونَ الآْخِرِ فَلاَ يَصِحُّ.
هـ - أَنْ تَسْتَوِيَ الأَْرْضُ الَّتِي يُوضَعُ عَلَيْهَا الْمَبِيعُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَوِيَةً فَفِيهَا التَّفْصِيل السَّابِقُ (1) . (ر: مُصْطَلَحَ " بَيْعُ الْجُزَافِ ") .
بَيْعُ الصُّبْرَةِ إِلاَّ صَاعًا:
5 - إِنْ بَاعَ الصُّبْرَةَ إِلاَّ صَاعًا، فَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الصِّيعَانِ صَحَّ الْبَيْعُ وَنُزِّل عَلَى الشُّيُوعِ، فَإِنْ كَانَتْ عَشَرَةَ آصُعٍ كَانَ الْمَبِيعُ تِسْعَةَ أَعْشَارِهَا. . . أَمَّا إِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةَ الصِّيعَانِ فَلاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثُّنْيَا، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ: إِلاَّ أَنْ يُعْلَمَ (2) وَلأَِنَّ الْمَبِيعَ هُوَ: مَا وَرَاءَ الصَّاعِ، وَهُوَ مَجْهُولٌ لأَِنَّهُ خَالَطَهُ أَعْيَانٌ أُخْرَى، وَلاَ يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّخْمِينِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ إِحَاطَةِ الْعِيَانِ بِجَمِيعِ جَوَانِبِ الْمَبِيعِ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ (3)
وَإِنْ بَاعَ نِصْفَ الصُّبْرَةِ الْمُشَاهَدَةِ، أَوْ ثُلُثَهَا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَجْزَائِهَا الْمَعْلُومَةِ صَحَّ
__________
(1) المصادر السابقة (الموسوعة الفقهية 9 / 74 - 75) .
(2) حديث: " نهى عن البيع الثنيا " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 50 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1175 ط. الحلبي) من حديث جابر بلفظ " نهى عن المحاقلة والمزابنة والثنيا "، وزاد الترمذي (3 / 85 - ط. الحلبي) : " إلا أن تعلم ".
(3) أسنى المطالب 2 / 17، الكافي 2 / 15، الإنصاف 4 / 303.(26/311)
الْبَيْعُ بِلاَ خِلاَفٍ. وَإِنْ قَال: بِعْتُكَ بَعْضَ هَذِهِ الصُّبْرَةِ، أَوْ نَصِيبًا مِنْهَا، أَوْ جُزْءًا مِنْهَا، مَا شِئْتَ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْعِبَارَاتِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا قَدْرٌ مَعْلُومٌ؛ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِلْغَرَرِ (1) .
بَيْعُ صُبْرَةٍ بِشَرْطِ أَنْ يَزِيدَهُ صَاعًا أَوْ يُنْقِصَهُ:
6 - إِنْ بَاعَ صُبْرَةً: كُل صَاعٍ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَزِيدَهُ أَوْ يُنْقِصَهُ صَاعًا لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ إِنْ أَرَادَ الزِّيَادَةَ عَلَى سَبِيل الْهِبَةِ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ شَرْطُ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ.
وَإِنْ أَرَادَهَا عَلَى سَبِيل الْبَيْعِ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّاعُ مَجْهُولاً فَهُوَ بَيْعُ مَجْهُولٍ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا لَمْ يَصِحَّ - أَيْضًا - إِذَا كَانَ مِنْ صُبْرَةٍ مَجْهُولَةِ الصِّيعَانِ؛ لأَِنَّنَا نَجْهَل تَفْصِيل الثَّمَنِ وَجُمْلَتَهُ (2) .
بَيْعُ صُبْرَةٍ وَذِكْرُ جُمْلَتِهَا:
7 - إِذَا بَاعَ صُبْرَةً وَسَمَّى جُمْلَتَهَا، بِأَنْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ قَفِيزٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ وَجَدَهَا نَاقِصَةً، أَوْ زَائِدَةً:
قَال الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ إِنْ زَادَتْ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسَمَّى أَوْ نَقَصَتْ مِنْهُ؛ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ جُمْلَةِ الثَّمَنِ
__________
(1) المجموع 9 / 313، والمصادر السابقة، بلغة السالك على الشرح الصغير 2 / 10.
(2) المجموع 9 / 314 - 315، الكافي 2 / 15.(26/311)
وَتَفْصِيلِهِ، فَكَأَنَّهُ قَال: بِعْتُكَ قَفِيزًا وَشَيْئًا لاَ يَعْلَمَانِ قَدْرَهُ بِدِرْهَمٍ لِجَهْلِهِمَا كَمِّيَّةَ قُفْزَانِهَا (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً يَأْخُذُ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسَمَّى فَالزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ؛ لأَِنَّهَا مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهَا (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ بَاعَا الصُّبْرَةَ وَحَزَرَاهَا، أَوْ وَكَّلاَ مَنْ يَحْزِرُهَا (أَيْ يُخَمِّنُهَا) فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهَا كَذَلِكَ فَبِهَا، وَإِلاَّ فَالْخِيَارُ لِمَنْ لَزِمَهُ الضَّرَرُ (3) .
صَبْغٌ
انْظُرْ: اخْتِضَابٌ
صَبِيٌّ
انْظُرْ: صِغَرٌ
صَحَابِيٌّ
انْظُرْ: قَوْل الصَّحَابِيِّ
__________
(1) المحلي على القليوبي 2 / 163، المجموع 9 / 313، الكافي 2 / 16، كشاف القناع 3 / 169.
(2) تبيين الحقائق 4 / 6، ابن عابدين 4 / 35.
(3) الشرح الصغير للدردير 3 / 36 - 37.(26/312)
صُحْبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصُّحْبَةُ فِي اللُّغَةِ: الْمُلاَزَمَةُ وَالْمُرَافَقَةُ، وَالْمُعَاشَرَةُ. يُقَال: صَحِبَهُ يَصْحَبُهُ صُحْبَةً، وَصَحَابَةً بِالْفَتْحِ وَبِالْكَسْرِ: عَاشَرَهُ وَرَافَقَهُ، وَلاَزَمَهُ (1) .
وَفِي حَدِيثِ قَيْلَةَ: خَرَجْتُ أَبْتَغِي الصَّحَابَةَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
هَذَا مُطْلَقُ الصُّحْبَةِ لُغَةً. أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ: فَإِذَا أَطْلَقُوا الصُّحْبَةَ؛ فَالْمُرَادُ بِهَا صُحْبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرُّفْقَةُ:
2 - الرُّفْقَةُ فِي اللُّغَةِ: مُطْلَقُ الصُّحْبَةِ فِي السَّفَرِ أَوْ غَيْرِهِ، يُقَال: رَافَقَ الرَّجُل
__________
(1) الإصابة 1 / 7، فتح الباري 7 / 4، علوم الحديث لابن الصلاح 263، والقاموس المحيط.
(2) حديث قيلة: " خرجت أبتغي الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أورده الهيثمي في المجمع (6 / 11 - ط. القدسي) ضمن حديث طويل وقال: " رواه الطبراني ورجاله ثقات ".(26/312)
صَاحَبَهُ: وَقِيل فِي السَّفَرِ خَاصَّةً فَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الصُّحْبَةِ (1) .
ب - الصَّدَاقَةُ:
3 - الصَّدَاقَةُ، وَالْمُصَادَقَةُ: الْمُخَالَّةُ: بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُقَال: صَادَقْتُهُ مُصَادَقَةً وَصَدَاقَةً: خَالَلْتُهُ، وَالصَّدَاقَةُ أَخَصُّ مِنَ الصُّحْبَةِ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصُّحْبَةِ:
مَا تَثْبُتُ بِهِ الصُّحْبَةُ:
4 - اخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْمِ فِيمَا تَثْبُتُ بِهِ الصُّحْبَةُ، وَفِي مُسْتَحِقِّ اسْمِ الصُّحْبَةِ. قَال بَعْضُهُمْ: " إِنَّ الصَّحَابِيَّ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنًا بِهِ، وَمَاتَ عَلَى الإِْسْلاَمِ " وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: هَذَا أَصَحُّ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
فَيَدْخُل فِيمَنْ لَقِيَهُ: مَنْ طَالَتْ مُجَالَسَتُهُ لَهُ، وَمَنْ قَصُرَتْ، وَمَنْ رَوَى عَنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ، وَمَنْ غَزَا مَعَهُ، وَمَنْ لَمْ يَغْزُ مَعَهُ، وَمَنْ رَآهُ رُؤْيَةً وَلَوْ مِنْ بَعِيدٍ، وَمَنْ لَمْ يَرَهُ لِعَارِضٍ، كَالْعَمَى.
وَيَخْرُجُ بِقَيْدِ الإِْيمَانِ: مَنْ لَقِيَهُ كَافِرًا وَإِنْ أَسْلَمَ فِيمَا بَعْدُ، إِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ الإِْيمَانِ، كَمَا يَخْرُجُ بِقَيْدِ الْمَوْتِ عَلَى الإِْيمَانِ: مَنِ ارْتَدَّ عَنِ الإِْسْلاَمِ بَعْدَ صُحْبَةِ
__________
(1) لسان العرب.
(2) المصدر السابق(26/313)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ فَلاَ يُعَدُّ صَحَابِيًّا.
وَهَل يُشْتَرَطُ التَّمْيِيزُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ؟ مِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ. قَال ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: بَعْدَ أَنْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ " وَعَمَل مَنْ صَنَّفَ فِي الصَّحَابَةِ يَدُل عَلَى الثَّانِي " أَيْ: عَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّمْيِيزِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ يَسْتَحِقُّ اسْمَ الصُّحْبَةِ، وَلاَ يُعَدُّ فِي الصَّحَابَةِ إِلاَّ مَنْ أَقَامَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةً فَصَاعِدًا، أَوْ غَزَا مَعَهُ غَزْوَةً فَصَاعِدًا، حُكِيَ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقَال ابْنُ الصَّلاَحِ: هَذَا إِنْ صَحَّ: طَرِيقَةُ الأُْصُولِيِّينَ (1) .
وَقِيل: يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الصُّحْبَةِ: طُول الاِجْتِمَاعِ وَالرِّوَايَةُ عَنْهُ مَعًا، وَقِيل: يُشْتَرَطُ أَحَدُهُمَا، وَقِيل: يُشْتَرَطُ الْغَزْوُ مَعَهُ، أَوْ مُضِيُّ سَنَةٍ عَلَى الاِجْتِمَاعِ، وَقَال أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل: لأَِنَّ لِصُحْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَفًا عَظِيمًا لاَ يُنَال إِلاَّ بِاجْتِمَاعٍ طَوِيلٍ يَظْهَرُ فِيهِ الْخُلُقُ الْمَطْبُوعُ عَلَيْهِ الشَّخْصُ، كَالْغَزْوِ الْمُشْتَمِل عَلَى السَّفَرِ الَّذِي هُوَ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، وَالسَّنَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْفُصُول الأَْرْبَعَةِ الَّتِي يَخْتَلِفُ فِيهَا الْمِزَاجُ (2) .
__________
(1) الإصابة 1 / 7، فتح الباري 7 / 4، علوم الحديث لابن الصلاح 263.
(2) حاشية العطار على جمع الجوامع 2 / 196.(26/313)
طُرُقُ إِثْبَاتِ الصُّحْبَةِ:
5 - الصُّحْبَةُ تَثْبُتُ بِطُرُقٍ:
(1) - مِنْهَا: التَّوَاتُرُ بِأَنَّهُ صَحَابِيٌّ.
(2) - ثُمَّ الاِسْتِفَاضَةُ، وَالشُّهْرَةُ، الْقَاصِرَةُ عَنِ التَّوَاتُرِ.
(3) - ثُمَّ بِأَنْ يُرْوَى عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ فُلاَنًا لَهُ صُحْبَةٌ، أَوْ عَنْ أَحَدِ التَّابِعِينَ بِنَاءً عَلَى قَبُول التَّزْكِيَةِ عَنْ وَاحِدٍ.
(4) - ثُمَّ بِأَنْ يَقُول هُوَ إِذَا كَانَ ثَابِتَ الْعَدَالَةِ وَالْمُعَاصَرَةِ - أَنَا صَحَابِيٌّ، أَمَّا الشَّرْطُ الأَْوَّل: وَهُوَ الْعَدَالَةُ فَجَزَمَ بِهِ الآْمِدِيُّ وَغَيْرُهُ؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ: أَنَا صَحَابِيٌّ، قَبْل ثُبُوتِ عَدَالَتِهِ يَلْزَمُ مِنْ قَبُول قَوْلِهِ: إِثْبَاتُ عَدَالَتِهِ، لأَِنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ عُدُولٌ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْل الْقَائِل: أَنَا عَدْلٌ، وَذَلِكَ لاَ يُقْبَل.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمُعَاصَرَةُ فَيُعْتَبَرُ بِمُضِيِّ مِائَةِ سَنَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ لأَِصْحَابِهِ: أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؟ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ أَحَدٌ (1) وَزَادَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ
__________
(1) علوم الحديث لابن الصلاح 264، الإصابة 1 / 8 - 9 وحديث: " أريتكم ليلتكم هذه. . . ". أخرجه البخاري (الفتح / 1 / 211 - ط. السلفية) ومسلم (4 / 1965 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر واللفظ لمسلم.(26/314)
ذَلِكَ كَانَ قَبْل مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَهْرٍ (1) .
عَدَالَةُ مَنْ ثَبَتَتْ صُحْبَتُهُ:
6 - اتَّفَقَ أَهْل السُّنَّةِ: عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ عُدُولٌ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلاَّ شُذُوذٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ.
وَهَذِهِ الْخِصِّيصَةُ لِلصَّحَابَةِ بِأَسْرِهِمْ، وَلاَ يُسْأَل عَنْ عَدَالَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، بَل ذَلِكَ أَمْرٌ مَفْرُوغٌ مِنْهُ، لِكَوْنِهِمْ عَلَى الإِْطْلاَقِ مُعَدَّلِينَ بِتَعْدِيل اللَّهِ لَهُمْ وَإِخْبَارِهِ عَنْ طَهَارَتِهِمْ، وَاخْتِيَارِهِ لَهُمْ (2) بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ، قَال تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآْيَةَ (3) .
قِيل: اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ الآْيَةَ وَارِدَةٌ فِي أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (4) وَقَال تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} (5) الآْيَةَ وَفِي نُصُوصِ السُّنَّةِ الشَّاهِدَةِ بِذَلِكَ كَثْرَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ: أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي
__________
(1) حديث جابر أخرجه مسلم (4 / 1966) .
(2) الإصابة 1 / 9 - 10، علوم الحديث 264.
(3) سورة آل عمران / 110.
(4) سورة البقرة / 143.
(5) سورة الفتح / 29.(26/314)
بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْل أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلاَ نَصِيفَهُ (1) .
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهَ، اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لاَ تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ أَذَانِي، وَمَنْ أَذَانِي فَقَدْ أَذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ (2) .
قَال ابْنُ الصَّلاَحِ: ثُمَّ إِنَّ الأُْمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى تَعْدِيل جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ لاَبَسَ الْفِتَنَ مِنْهُمْ فَكَذَلِكَ، بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الإِْجْمَاعِ، إِحْسَانًا لِلظَّنِّ بِهِمْ، وَنَظَرًا إِلَى مَا تَمَهَّدَ لَهُمْ مِنَ الْمَآثِرِ، وَكَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَتَاحَ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ نَقَلَةَ الشَّرِيعَةِ (3) .
وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِتَعْدِيلِهِمْ، وَلاَ يَحْتَاجُونَ مَعَ تَعْدِيل اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَهُمْ إِلَى تَعْدِيل أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ عَنِ
__________
(1) حديث: " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده. . . " أخرجه البخاري (الفتح 7 / 21 - ط. السلفية) ومسلم (4 / 1967 - ط. الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، واللفظ لمسلم.
(2) حديث: " الله الله في أصحابي. . . " أخرجه الترمذي (5 / 696 - ط. الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وقال: " هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه " وذكر هذا الحديث الذهبي من مناكير راويه عن أبي سعيد في الميزان (4 / 564 - ط. الحلبي) .
(3) التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح للعراقي (301) .(26/315)
الْخَطِيبِ فِي " الْكِفَايَةِ " أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرِدْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيهِمْ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ لأََوْجَبَتِ الْحَال الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَالْجِهَادِ، وَنُصْرَةِ الإِْسْلاَمِ، وَبَذْل الْمُهَجِ وَالأَْمْوَال، وَقَتْل الآْبَاءِ، وَالأَْبْنَاءِ، وَالْمُنَاصَحَةِ فِي الدِّينِ، وَقُوَّةِ الإِْيمَانِ وَالْيَقِينِ: الْقَطْعَ بِتَعْدِيلِهِمْ، وَالاِعْتِقَادَ بِنَزَاهَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَافَّةً أَفْضَل مِنْ جَمِيعِ الْخَالِفِينَ بَعْدَهُمْ وَالْمُعَدَّلِينَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ، ثُمَّ قَال: هَذَا مَذْهَبُ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَمَنْ يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ، وَرَوَى بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيَّ قَال: " إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُل يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ "، ذَلِكَ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ، وَالْقُرْآنَ حَقٌّ، وَمَا جَاءَ بِهِ حَقٌّ، وَإِنَّمَا أَدَّى إِلَيْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ الصَّحَابَةُ، وَهَؤُلاَءِ يُرِيدُونَ أَنْ يُجَرِّحُوا شُهُودَنَا، لِيُبْطِلُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَالْجَرْحُ بِهِمْ أَوْلَى، وَهُمْ زَنَادِقَةٌ (1) .
إِنْكَارُ صُحْبَةِ مَنْ ثَبَتَتْ صُحْبَتُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
__________
(1) الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي 46 - 49، وعلوم الحديث 264، الإصابة 1 / 17 و 18.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 377، وشرح الزرقاني 8 / 74، نهاية المحتاج 7 / 419، مطالب أولي النهى 6 / 287.(26/315)
لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْله تَعَالَى: {إِذْ يَقُول لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (1) وَاخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ غَيْرِهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، كَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ: عَلَى أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ سَائِرِ الصَّحَابَةِ غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ لاَ يَكْفُرُ بِهَذَا الإِْنْكَارِ. وَهُوَ مَفْهُومُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل الْحَنَفِيَّةِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَكْفُرُ لِتَكْذِيبِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلأَِنَّهُ يَعْرِفُهَا الْعَامُّ، وَالْخَاصُّ، وَانْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ، فَنَافِي صُحْبَةِ أَحَدِهِمْ، أَوْ كُلِّهِمْ مُكَذِّبٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
سَبُّ الصَّحَابَةِ:
8 - مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ، أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَإِنْ نَسَبَ إِلَيْهِمْ مَا لاَ يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِمْ، أَوْ فِي دِينِهِمْ بِأَنْ يَصِفَ بَعْضَهُمْ بِبُخْلٍ، أَوْ جُبْنٍ، أَوْ قِلَّةِ عِلْمٍ، أَوْ عَدَمِ الزُّهْدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلاَ يَكْفُرُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ.
أَمَّا إِنْ رَمَاهُمْ بِمَا يَقْدَحُ فِي دِينِهِمْ أَوْ عَدَالَتِهِمْ كَقَذْفِهِمْ: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ قَذَفَ الصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ: عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) سورة التوبة / 40.
(2) أسنى المطالب 4 / 118، وحاشية الدسوقي 4 / 303، وكشاف القناع 6 / 172.(26/316)
بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ مُكَذِّبٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ.
أَمَّا بَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ مَنْ سَبَّهُمْ، فَقَال الْجُمْهُورُ: لاَ يَكْفُرُ بِسَبِّ أَحَدِ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ عَائِشَةَ بِغَيْرِ مَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ (1) وَيَكْفُرُ بِتَكْفِيرِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ أَوِ الْقَوْل بِأَنَّ الصَّحَابَةَ ارْتَدُّوا جَمِيعًا بَعْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَنَّهُمْ فَسَقَوْا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الرِّضَا عَنْهُمْ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: أَنَّ نَقَلَةَ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ كُفَّارٌ، أَوْ فَسَقَةٌ، وَأَنَّ هَذِهِ الأُْمَّةَ الَّتِي هِيَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ، وَخَيْرُهَا الْقَرْنُ الأَْوَّل كَانَ عَامَّتُهُمْ كُفَّارًا، أَوْ فُسَّاقًا، وَمَضْمُونُ هَذَا: أَنَّ هَذِهِ الأُْمَّةَ شَرُّ الأُْمَمِ، وَأَنَّ سَابِقِيهَا هُمْ أَشْرَارُهَا، وَكُفْرُ مَنْ يَقُول هَذَا مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ (2) .
وَجَاءَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: يَجِبُ إِكْفَارُ مَنْ كَفَّرَ عُثْمَانَ، أَوْ عَلِيًّا، أَوْ طَلْحَةَ، أَوْ عَائِشَةَ، وَكَذَا مَنْ يَسُبُّ الشَّيْخَيْنِ أَوْ يَلْعَنُهُمَا (3) .
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 419، شرح الزرقاني 8 / 74، فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 6 / 318، 319.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 282.
(3) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 6 / 318 - 319، مطالب أولي النهى 6 / 287.(26/316)
صِحَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصِّحَّةُ فِي اللُّغَةِ: وَالصُّحُّ وَالصِّحَاحُ ضِدُّ السَّقَمِ، وَهِيَ أَيْضًا: ذَهَابُ الْمَرَضِ. وَالصِّحَّةُ فِي الْبَدَنِ: حَالَةٌ طَبِيعِيَّةٌ تَجْرِي أَفْعَالُهُ مَعَهَا عَلَى الْمَجْرَى الطَّبِيعِيِّ، وَقَدِ اسْتُعِيرَتِ الصِّحَّةُ لِلْمَعَانِي فَقِيل: صَحَّتِ الصَّلاَةُ إِذَا أَسْقَطَتِ الْقَضَاءَ، وَصَحَّ الْعَقْدُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، وَصَحَّ الْقَوْل إِذَا طَابَقَ الْوَاقِعَ، وَالصَّحِيحُ الْحَقُّ: وَهُوَ خِلاَفُ الْبَاطِل (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الصِّحَّةُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ مِنْ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْوَضْعِيِّ (ر: مُصْطَلَحُ حُكْمٌ ف 4) .
وَاخْتَلَفَ الأُْصُولِيُّونَ فِي تَعْرِيفِ الصِّحَّةِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الصِّحَّةَ عِبَارَةٌ عَمَّا وَافَقَ الشَّرْعَ وَجَبَ الْقَضَاءُ أَوْ لَمْ يَجِبْ، وَيَشْمَل عِنْدَهُمُ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الصِّحَّةَ فِي الْعِبَادَاتِ: انْدِفَاعُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ.
__________
(1) المصباح المنير والصحاح ولسان العرب مادة (صحح) .(26/317)
فَفِي تَعْرِيفِ الْحَنَفِيَّةِ زِيَادَةُ قَيْدٍ، إِذْ هِيَ عِنْدَهُمْ: مُوَافَقَةُ أَمْرِ الشَّارِعِ عَلَى وَجْهٍ يَنْدَفِعُ بِهِ الْقَضَاءُ.
وَفِي الْمُعَامَلاَتِ تَرَتُّبُ أَثَرِهَا وَهُوَ مَا شُرِعَتْ مِنْ أَجْلِهِ، كَحِل الاِنْتِفَاعِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَالاِسْتِمْتَاعِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ.
وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلاَفِ بَيْنَ التَّعْرِيفَيْنِ فِيمَنْ صَلَّى ظَانًّا أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ، فَتَكُونُ صَلاَتُهُ صَحِيحَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لأَِنَّهُ وَافَقَ الأَْمْرَ الْمُتَوَجَّهَ عَلَيْهِ فِي الْحَال، وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَوُجُوبُهُ بِأَمْرٍ مُتَجَدِّدٍ، فَلاَ يُشْتَقُّ مِنْهُ اسْمُ الصِّحَّةِ وَتَكُونُ هَذِهِ الصَّلاَةُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِعَدَمِ انْدِفَاعِ الْقَضَاءِ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِمْ إِنَّ الصِّحَّةَ لاَ تَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِتَحْقِيقِ الْمَقْصُودِ الدُّنْيَوِيِّ مِنَ التَّكْلِيفِ وَهُوَ فِي الْعِبَادَاتِ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ، وَفِي الْمُعَامَلاَتِ بِتَحْقِيقِ الأَْغْرَاضِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْعُقُودِ، وَالْفُسُوخِ، كَمِلْكِ الرَّقَبَةِ فِي الْبَيْعِ، وَمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي النِّكَاحِ، وَمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فِي الإِْجَارَةِ، وَالْبَيْنُونَةِ فِي الطَّلاَقِ.
وَمَا لَمْ يُوصَل إِلَى الْمَقَاصِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ يُسَمَّى بُطْلاَنًا وَفَسَادًا.
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الصَّحِيحُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ مَا اجْتَمَعَ أَرْكَانُهُ وَشَرَائِطُهُ حَتَّى يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ (1)
__________
(1) المستصفى 1 / 94 - 95، مسلم الثبوت (مع المستصفى) 1 / 120 - 121، تيسير التحرير 2 / 234 - 235، جمع الجوامع بحاشية العطار 1 / 140 - 142، التلويح على التوضيح 2 / 122 - 123، التعريفات 132.(26/317)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْجْزَاءُ:
2 - الإِْجْزَاءُ لُغَةً الْكِفَايَةُ وَالإِْغْنَاءُ.
وَاصْطِلاَحًا: مُوَافَقَةُ أَمْرِ الشَّارِعِ بِأَنْ يَكُونَ الْفِعْل مُسْتَجْمِعًا مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّرُوطِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَنْدَفِعَ بِفِعْلِهِ الْقَضَاءُ، فَالصِّحَّةُ وَالإِْجْزَاءُ مُتَرَادِفَانِ فِي الاِسْتِعْمَال، إِلاَّ أَنَّ الإِْجْزَاءَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الصِّحَّةِ (1) . وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِجْزَاءٌ ف 1، 2)
ب - الْبُطْلاَنُ:
3 - الْبُطْلاَنُ لُغَةً الضَّيَاعُ وَالْخُسْرَانُ.
وَاصْطِلاَحًا: يَخْتَلِفُ تَعْرِيفُ الْبُطْلاَنِ تَبَعًا لِلْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ. فَالْبُطْلاَنُ فِي الْعِبَادَاتِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْعِبَادَةِ حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، كَمَا لَوْ صَلَّى مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ. وَالْبُطْلاَنُ فِي الْمُعَامَلاَتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ تَقَعَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْبُطْلاَنُ هُوَ الْفَسَادُ بِمَعْنَى أَنْ تَقَعَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ
__________
(1) تيسير التحرير 2 / 235.(26/318)
بِأَصْلِهِ أَوْ بِوَصْفِهِ أَوْ بِهِمَا. (ر: مُصْطَلَحُ بُطْلاَنٌ ف 1) .
ج - الأَْدَاءُ:
4 - الأَْدَاءُ لُغَةً: الإِْيصَال.
وَاصْطِلاَحًا: فِعْل بَعْضِ - وَقِيل كُل - مَا دَخَل وَقْتُهُ قَبْل خُرُوجِهِ، وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا
د - الْقَضَاءُ:
5 - الْقَضَاءُ لُغَةً: الأَْدَاءُ.
وَاصْطِلاَحًا: مَا فُعِل بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ أَدَائِهِ اسْتِدْرَاكًا لِمَا سَبَقَ لِفِعْلِهِ مُقْتَضٍ
(ر: مُصْطَلَحُ أَدَاءٌ ف 1)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الأَْدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَبَيْنَ الصِّحَّةِ، أَنَّهُمَا يَأْتِيَانِ وَصْفًا لِلصِّحَّةِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّحَّةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
6 - أَهْلِيَّةُ الإِْنْسَانِ لأَِدَاءِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ تَتَعَلَّقُ بِقُدْرَتَيْنِ: قُدْرَةِ فَهْمِ الْخِطَابِ وَذَلِكَ بِالْعَقْل، وَقُدْرَةِ الْعَمَل بِهِ وَهِيَ بِالْبَدَنِ.
وَلَقَدِ اعْتُبِرَ الْمَرَضُ مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ؛ لأَِنَّ لَهُ أَثَرًا فِي نَقْصِ التَّكْلِيفِ وَعَدَمِ تَمَامِهِ؛ لأَِنَّ الْمَرِيضَ يَتَرَخَّصُ بِرُخَصٍ كَثِيرَةٍ شُرِعَتْ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُ، كَمَا يَكُونُ الْمَرَضُ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال سَبَبًا لِلْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ. (ر: أَهْلِيَّةٌ ف 9 وَف 13) .(26/318)
فَإِذَا كَانَ الإِْنْسَانُ صَحِيحَ الْبَدَنِ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ التَّكْلِيفُ كَامِلاً لِتَحَقُّقِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ جُمْلَةً مِنَ الأَْحْكَامِ يُشْتَرَطُ فِيهَا صِحَّةُ الْبَدَنِ مِنْهَا:
(1) يُشْتَرَطُ فِي إِمَامِ الصَّلاَةِ إِذَا كَانَ يَؤُمُّ الأَْصِحَّاءَ أَنْ يَكُونَ سَالِمًا مِنَ الأَْعْذَارِ، كَسَلَسِ الْبَوْل، وَانْفِلاَتِ الرِّيحِ، وَالْجُرْحِ السَّائِل، وَالرُّعَافِ. (ر: إِمَامَةُ الصَّلاَةِ ف 10) .
(2) وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْجِهَادِ السَّلاَمَةُ مِنَ الضَّرَرِ، فَلاَ يَجِبُ الْجِهَادُ عَلَى الْعَاجِزِ غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ لأَِنَّ الْعَجْزَ يَنْفِي الْوُجُوبَ، وَالْمُسْتَطِيعُ: هُوَ الصَّحِيحُ فِي بَدَنِهِ مِنَ الْمَرَضِ. (ر: جِهَادٌ ف 21)
(3) وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الإِْمَامَةَ الْكُبْرَى أَنْ يَكُونَ سَلِيمَ الْحَوَاسِّ وَالأَْعْضَاءِ مِمَّا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْحَرَكَةِ لِلنُّهُوضِ بِمَهَامِّ الإِْمَامَةِ.
(الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى ف 10)
(4) وَمِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ: الاِسْتِطَاعَةُ، وَمِنْهَا صِحَّةُ الْبَدَنِ، وَسَلاَمَتُهُ مِنَ الأَْمْرَاضِ وَالْعَاهَاتِ الَّتِي تَعُوقُ عَنِ الْحَجِّ. (ر: حَجٌّ ف 19) .(26/319)
(5) لاَ تُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْبَدَنِ فِي إِقَامَةِ حَدِّ الرَّجْمِ، أَوِ الْقِصَاصِ؛ لأَِنَّ نَفْسَهُ مُسْتَوْفَاةٌ فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَبَيْنَ الْمَرِيضِ.
أَمَّا الْجَلْدُ فَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا يُرْجَى بُرْؤُهُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى تَأْخِيرِ إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ التَّأْخِيرِ. أَمَّا إِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ، أَوْ كَانَ الْجَانِي ضَعِيفَ الْخِلْقَةِ لاَ يَحْتَمِل السِّيَاطَ، فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْحَال إِذْ لاَ غَايَةَ تُنْتَظَرُ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُضْرَبَ ضَرْبًا يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَفُ. (ر: حُدُودٌ ف 14) .
(6) لاَ يَجُوزُ لِلصَّحِيحِ أَنْ يَتَرَخَّصَ بِرُخَصِ الْمَرِيضِ؛ لأَِنَّهَا رُخْصَةٌ ثَبَتَتْ تَخْفِيفًا عَنِ الْمَرِيضِ لِعُذْرِ الْمَرَضِ فَتَقْتَصِرُ عَلَيْهِ. (ر: رُخْصَةٌ ف 15، 16) .
صِحَّةُ الْحَدِيثِ:
(7) عَرَّفَ الْمُحَدِّثُونَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِأَنَّهُ: مَا اتَّصَل سَنَدُهُ بِنَقْل الثِّقَةِ (وَهُوَ الْعَدْل الضَّابِطُ عَنْ مِثْلِهِ) مِنْ غَيْرِ شُذُوذٍ وَلاَ عِلَّةٍ. فَيَشْتَرِطُونَ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ خَمْسَةَ شُرُوطٍ:
الأَْوَّل: اتِّصَال السَّنَدِ، فَخَرَجَ الْحَدِيثُ الْمُنْقَطِعُ، وَالْمُعْضَل، وَالْمُعَلَّقُ، وَالْمُدَلَّسُ، وَالْمُرْسَل.
الثَّانِي: عَدَالَةُ الرُّوَاةِ. فَخَرَجَ بِهِ رِوَايَةُ مَجْهُول الْحَال، أَوِ الْعَيْنِ أَوِ الْمَعْرُوفِ بِالضَّعْفِ.(26/319)
الثَّالِثُ: ضَبْطُ الرُّوَاةِ. وَخَرَجَ بِهِ الْمُغَفَّل كَثِيرُ الْخَطَأِ.
الرَّابِعُ: السَّلاَمَةُ مِنَ الشُّذُوذِ، وَخَرَجَ بِهِ الْحَدِيثُ الشَّاذُّ.
الْخَامِسُ: السَّلاَمَةُ مِنَ الْعِلَّةِ الْقَادِحَةِ، وَخَرَجَ بِهِ الْحَدِيثُ الْمُعَل.
وَخَالَفَ فِي هَذَا الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ؛ فَمَدَارُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ عَلَى عَدَالَةِ الرُّوَاةِ. وَالْعَدَالَةُ عِنْدَهُمْ: هِيَ الْمُشْتَرَطَةُ فِي قَبُول الشَّهَادَةِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْفِقْهِ. كَمَا كَانَ لَهُمْ نَظَرٌ فِي اشْتِرَاطِ السَّلاَمَةِ مِنَ الشُّذُوذِ وَالْعِلَّةِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعِلَل الَّتِي يُعَلِّل بِهَا الْمُحَدِّثُونَ الْحَدِيثَ، لاَ تَجْرِي عَلَى أُصُول الْفُقَهَاءِ.
مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا أَثْبَتَ الرَّاوِي عَنْ شَيْخِهِ شَيْئًا فَنَفَاهُ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ، أَوْ أَكْثَرُ عَدَدًا، أَوْ أَكْثَرُ مُلاَزَمَةً مِنْهُ. فَإِنَّ الأُْصُولِيِّينَ يُقَدِّمُونَ رِوَايَةَ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي وَيَقْبَلُونَ الْحَدِيثَ.
أَمَّا الْمُحَدِّثُونَ فَيُسَمُّونَهُ شَاذًّا؛ لأَِنَّ الشُّذُوذَ عِنْدَهُمْ: مَا يُخَالِفُ فِيهِ الرَّاوِي فِي رِوَايَتِهِ مَنْ هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ قَبِل(26/320)
الْحَدِيثَ الْمُرْسَل، الَّذِي يَقُول فِيهِ التَّابِعِيُّ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا أَوْ فَعَل كَذَا. وَرَدَّ الْمُحَدِّثُونَ الْمُرْسَل لِلْجَهْل بِحَال الْمَحْذُوفِ، لأَِنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ صَحَابِيًّا، أَوْ تَابِعِيًّا، وَلاَ حُجَّةَ فِي الْمَجْهُول (1) .
صَحِيحٌ
انْظُرْ: صِحَّةٌ
صَدَاقٌ
انْظُرْ: مَهْرٌ
__________
(1) تدريب الراوي ص22، 23، الاقتراح في بيان الاصطلاح ص152 - 155، المستصفى 1 / 155 - 168، 169، تيسير التحرير 3 / 39 وما بعدها وص102، شرح ألفية العراقي (التبصرة والتذكرة) 1 / 12 - 14.(26/320)
صَدَاقَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّدَاقَةُ فِي اللُّغَةِ: مُشْتَقَّةٌ مِنَ الصِّدْقِ فِي الْوُدِّ وَالنُّصْحِ، يُقَال: صَادَقْتُهُ مُصَادَقَةً وَصَدَاقًا، وَالاِسْمُ الصَّدَاقَةُ أَيْ: خَالَلْتُهُ (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اتِّفَاقُ الضَّمَائِرِ عَلَى الْمَوَدَّةِ، فَإِذَا أَضْمَرَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلَيْنِ مَوَدَّةَ صَاحِبِهِ فَصَارَ بَاطِنُهُ فِيهَا كَظَاهِرِهِ سُمِّيَا صَدِيقَيْنِ (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصُّحْبَةُ:
2 - الصُّحْبَةُ هِيَ فِي اللُّغَةِ: الْعِشْرَةُ الطَّوِيلَةُ
ب - الرُّفْقَةُ:
3 - الرُّفْقَةُ هِيَ: الصُّحْبَةُ فِي السَّفَرِ خَاصَّةً (3)
__________
(1) لسان العرب، تفسير الماوردي في تفسير آية 61 من سورة النور في قوله تعالى: (أو صديقكم) ، الفروق اللغوية لأبي هلال.
(2) الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري.
(3) لسان العرب.(26/321)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصَّدَاقَةِ:
التَّرْغِيبُ فِي الصَّدَاقَةِ:
4 - رَغَّبَتِ الشَّرِيعَةُ فِي الصَّدَاقَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَبَّرَتْ عَنْهَا فِي الْغَالِبِ بِالأُْخُوَّةِ فِي اللَّهِ (1)
قَال تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأَْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَْعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} (2) .
وَجَاءَ فِي الأَْثَرِ: الْمَرْءُ كَثِيرٌ بِأَخِيهِ (3)
الأَْكْل فِي بَيْتِ الصَّدِيقِ:
5 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ لِلصَّدِيقِ الأَْكْل فِي بَيْتِ صَدِيقِهِ وَبُسْتَانِهِ، وَنَحْوِهِمَا فِي حَال غَيْبَتِهِ، إِذَا عَلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لاَ يَكْرَهُ ذَلِكَ مِنْهُ (4) .
وَقَال الزَّمَخْشَرِيُّ: يُحْكَى عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّهُ دَخَل دَارَهُ فَإِذَا فِيهَا حَلْقَةٌ مِنْ أَصْدِقَائِهِ، وَقَدِ اسْتَلُّوا سِلاَلاً مِنْ تَحْتِ سَرِيرِهِ فِيهَا أَطَايِبُ الأَْطْعِمَةِ، وَهُمْ مُكِبُّونَ عَلَيْهَا
__________
(1) تفسير الماوردي في تفسير الآية 61 من سورة النور، وتفسير القاسمي عند تفسير الآية نفسها
(2) سورة النور / 61.
(3) حديث: " المرء كثير بأخيه " أخرجه ابن عدي في الكامل (3 / 1099 - ط الفكر) ، واتهم أحد رواته بالوضع.
(4) روضة الطالبين 7 / 338.(26/321)
يَأْكُلُونَ مِنْهَا، فَتَهَلَّلَتْ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ سُرُورًا، وَضَحِكَ يَقُول: هَكَذَا وَجَدْنَاهُمْ، يُرِيدُ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ لَقِيَهُمْ مِنَ الْبَدْرِيِّينَ وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: فِي جَوَازِ ذَلِكَ قَوْلاَنِ لِلْعُلَمَاءِ (1) :.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّدِيقَ يَأْكُل مِنْ مَنْزِل صَدِيقِهِ فِي الْوَلِيمَةِ بِلاَ دَعْوَةٍ دُونَ غَيْرِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَأْكُل فِي الْوَلِيمَةِ وَغَيْرِهَا، إِذَا كَانَ الطَّعَامُ حَاضِرًا غَيْرَ مُحْرَزٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي نَسْخِ مَا تَقَدَّمَ بَعْدَ ثُبُوتِ حُكْمِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى ثُبُوتِهِ لَمْ يُنْسَخْ شَيْءٌ مِنْهُ، وَبِهِ قَال قَتَادَةَ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ (2) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} الآْيَةَ (3) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ (4) وَجَاءَ فِي
__________
(1) تفسير الماوردي في تفسير الآية 61 من سورة النور، تفسير القاسمي، تفسير الخازن.
(2) تفسير الماوردي في آية: (ليس على الأعمى حرج) . . إلخ من سورة النور / 61.
(3) سورة النور / 27.
(4) حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه " أخرجه الدارقطني (3 / 26 - ذ. دار المحاسن) من حديث أنس بن مالك، وفي إسناده جهالة، لكن أورد له ابن حجر شواهد تقويه في التلخيص (3 / 45 - 46 ط. شركة الطباعة الفنية) .(26/322)
تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} (1) أَنَّهُ إِذَا دَل ظَاهِرُ الْحَال عَلَى رِضَا الْمَالِكِ قَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الإِْذْنِ الصَّرِيحِ (2) .
شَهَادَةُ الصَّدِيقِ لِصَدِيقِهِ:
6 - تُقْبَل شَهَادَةُ الصَّدِيقِ لِصَدِيقِهِ فِي قَوْل عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: يُشْتَرَطُ لِقَبُول شَهَادَةِ الصَّدِيقِ لِصَدِيقِهِ: أَلاَّ تَكُونَ الصَّدَاقَةُ بَيْنَهُمَا مُتَنَاهِيَةً، بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مَال الآْخَرِ، وَأَنْ يَبْرُزَ فِي الْعَدَالَةِ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: اشْتِرَاطَ أَلاَّ يَكُونَ فِي عِيَالِهِ، يَأْكُل مَعَهُمْ وَيَسْكُنُ عِنْدَهُمْ كَأَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِهِمْ (3)
(ر: مُصْطَلَحُ شَهَادَةٌ) .
__________
(1) سورة النور / 61.
(2) تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل في تفسير (أو صديقكم) الآية 61 من سورة النور.
(3) ابن عابدين 4 / 376، المغني 9 / 194، حاشية الدسوقي 4 / 169، نهاية المحتاج 8 / 304، القليوبي 4 / 322.(26/322)
صَدَقَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّدَقَةُ بِفَتْحِ الدَّال لُغَةً: مَا يُعْطَى عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لاَ عَلَى وَجْهِ الْمَكْرُمَةِ (1) .
وَيَشْمَل هَذَا الْمَعْنَى الزَّكَاةَ وَصَدَقَةَ التَّطَوُّعِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ تُسْتَعْمَل بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الشَّامِل، فَيُقَال لِلزَّكَاةِ: صَدَقَةٌ، كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآْيَةَ (2) .
وَيُقَال لِلتَّطَوُّعِ: صَدَقَةٌ كَمَا وَرَدَ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ وَتَحِل لِغَنِيٍّ، أَيْ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ (3)
يَقُول الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الصَّدَقَةُ: مَا يُخْرِجُهُ الإِْنْسَانُ مِنْ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ
__________
(1) المعجم الوسيط في اللغة مادة (صدق) ، وهذا معنى ما قيل: إنها ما أعطيته في ذات الله، كما ورد في لسان العرب وتاج العروس، ومتن اللغة - مادة (صدق) .
(2) سورة التوبة الآية (60) .
(3) مغني المحتاج 3 / 120، والمغني لابن قدامة 5 / 649.(26/323)
كَالزَّكَاةِ. لَكِنَّ الصَّدَقَةَ فِي الأَْصْل تُقَال: لِلْمُتَطَوَّعِ بِهِ، وَالزَّكَاةُ تُقَال: لِلْوَاجِبِ (1)
وَالْغَالِبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: اسْتِعْمَال هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ خَاصَّةً.
يَقُول الشِّرْبِينِيُّ: صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ هِيَ الْمُرَادَةُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ غَالِبًا (2) وَيُفْهَمُ هَذَا مِنْ كَلاَمِ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا، يَقُول الْحَطَّابُ: الْهِبَةُ إِنْ تَمَحَّضَتْ لِثَوَابِ الآْخِرَةِ فَهِيَ الصَّدَقَةُ (3) ، وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْبَعْلِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي الْمُطْلِعِ عَلَى أَبْوَابِ الْمُقْنِعِ (4) .
وَفِي وَجْهِ تَسْمِيَتِهَا صَدَقَةً يَقُول الْقَلْيُوبِيُّ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لإِِشْعَارِهَا بِصِدْقِ نِيَّةِ بَاذِلِهَا (5) ، وَهَذَا الْمَعْنَى الأَْخِيرُ أَيْ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْبَحْثِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ.
2 - وَقَدْ تُطْلَقُ الصَّدَقَةُ عَلَى الْوَقْفِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ: أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِمَالٍ لَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ يُقَال لَهُ: ثَمْغٌ. . . فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ، وَلاَ
__________
(1) المفردات للأصفهاني، وتاج العروس مادة (صدق) .
(2) مغني المحتاج 3 / 120.
(3) مواهب الجليل للحطاب 6 / 49.
(4) المطلع ص291.
(5) القليوبي على شرح المنهاج 3 / 195.(26/323)
يُورَثُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ (1) .
3 - وَقَدْ تُطْلَقُ الصَّدَقَةُ: عَلَى كُل نَوْعٍ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْهِبَةُ، الْهَدِيَّةُ، الْعَطِيَّةُ:
4 - الْهِبَةُ، وَالْهَدِيَّةُ، وَالْعَطِيَّةُ، كُلٌّ مِنْهَا تَمْلِيكٌ بِلاَ عِوَضٍ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ هَذَا التَّمْلِيكُ لِثَوَابِ الآْخِرَةِ فَصَدَقَةٌ، وَإِذَا كَانَ لِلْمُوَاصَلَةِ وَالْوِدَادِ فَهِبَةٌ، وَإِنْ قُصِدَ بِهِ الإِْكْرَامُ فَهَدِيَّةٌ. فَكُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ قَسِيمٌ لِلآْخَرِ. وَالْعَطِيَّةُ شَامِلَةٌ لِلْجَمِيعِ (3) .
ب - الْعَارِيَّةُ:
5 - الْعَارِيَّةُ: إِبَاحَةٌ أَوْ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةِ عَيْنٍ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ لِصَاحِبِهَا بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ (4) .
__________
(1) حديث ابن عمر: " تصدق بأصله، لا يباع ولا يوهب ولا يورث ". أخرجه البخاري: (الفتح 5 / 392 - ط. السلفية) .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 7 / 91 وحديث: " كل معروف صدقة ". أخرجه البخاري: (الفتح 10 / 447 - ط. السلفية) من حديث جابر بن عبد الله وأخرجه مسلم (2 / 697 - ط. الحلبي) من حديث حذيفة.
(3) البدائع 6 / 116، وحاشية العدوي 2 / 233، ومنتهى الإرادات 2 / 518، والقليوبي 3 / 110، 111، والمغني لابن قدامة 5 / 649، والمطلع على أبواب المقنع ص291.
(4) ابن عابدين 4 / 502، والشرح الصغير للدردير 3 / 570، والزرقاني 6 / 126، وشرح المنهاج وحواشيه، 5 / 115، والمغني لابن قدامة 5 / 220.(26/324)
وَعَلَى هَذَا فَكُلٌّ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْعَارِيَّةِ تَبَرُّعٌ لَكِنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكُ عَيْنٍ، وَالْعَارِيَّةَ إِبَاحَةٌ أَوْ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَالصَّدَقَةُ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِيهَا. كَمَا سَيَأْتِي. وَالْعَارِيَّةُ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ رَدِّ الْعَيْنِ لِمَالِكِهَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مُصْطَلَحِ: (إِعَارَةٌ) (1) .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الصَّدَقَةِ وَفَضْلِهَا:
6 - إِنَّ أَدَاءَ الصَّدَقَةِ مِنْ بَابِ إِعَانَةِ الضَّعِيفِ، وَإِغَاثَةِ اللَّهِيفِ، وَإِقْدَارِ الْعَاجِزِ، وَتَقْوِيَتِهِ عَلَى أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَاتِ.
وَالصَّدَقَةُ شُكْرٌ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ، وَهِيَ دَلِيلٌ لِصِحَّةِ إِيمَانِ مُؤَدِّيهَا وَتَصْدِيقِهِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ صَدَقَةً (2) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْل الصَّدَقَةِ أَحَادِيثُ مِنْهَا:
1 - مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِل إِلاَّ ظِلُّهُ. . . فَذَكَرَ مِنْهُمْ: رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ (3) .
__________
(1) الموسوعة الفقهية ج5 / 181.
(2) بدائع الصنائع للكاساني 2 / 3، وفتح القدير 2 / 153، وشرح الترمذي لابن العربي 3 / 90، الفروع لابن مفلح 2 / 288.
(3) حديث: " سبعة يظلهم الله في ظله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 143 - ط السلفية) .(26/324)
2 - مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ وَلاَ يَقْبَل اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، إِلاَّ أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً تَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَل كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ (1) .
أَقْسَامُ الصَّدَقَةِ:
7 - الصَّدَقَةُ أَنْوَاعٌ:
أ - صَدَقَةٌ مَفْرُوضَةٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ عَلَى الأَْمْوَال، وَهِيَ زَكَاةُ الْمَال، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ) .
ب - صَدَقَةٌ عَلَى الأَْبْدَانِ، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةُ الْفِطْرِ) .
ج - صَدَقَةٌ يَفْرِضُهَا الشَّخْصُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهِيَ الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ بِالنَّذْرِ، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي (نَذْرٌ) .
د - الصَّدَقَاتُ الْمَفْرُوضَةُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَالْفِدْيَةِ، وَالْكَفَّارَةِ، وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (فِدْيَةٌ وَكَفَّارَةٌ) .
هـ - صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، وَنُبَيِّنُ أَحْكَامَهَا فِيمَا يَلِي:
__________
(1) حديث: " ما تصدق أحد بصدقة من طيب. . . " أخرجه الترمذي (3 / 40 - ط الحلبي) وأصله في البخاري (الفتح 3 / 278 - ط السلفية) ومسلم (2 / 702 - ط الحلبي) .(26/325)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
8 - الصَّدَقَةُ مَسْنُونَةٌ، وَرَدَ النَّدْبُ إِلَيْهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الأَْحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرِيفَةِ.
أَمَّا مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) .
يَقُول ابْنُ الْعَرَبِيِّ: جَاءَ هَذَا الْكَلاَمُ فِي مَعْرِضِ النَّدْبِ وَالتَّحْضِيضِ عَلَى إِنْفَاقِ الْمَال فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَفِي سَبِيل اللَّهِ بِنُصْرَةِ الدِّينِ (2) . وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (3) .
وَأَمَّا مِنَ الأَْحَادِيثِ فَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ أَبَا الدَّحْدَاحِ لَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَال: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَلاَ أَرَى رَبَّنَا يَسْتَقْرِضُ مِمَّا أَعْطَانَا لأَِنْفُسِنَا، وَلِي أَرْضَانِ: أَرْضٌ بِالْعَالِيَةِ وَأَرْضٌ بِالسَّافِلَةِ، وَقَدْ جَعَلْتُ خَيْرَهُمَا صَدَقَةً. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمْ عِذْقٍ (4) مُذَلَّلٍ لأَِبِي الدَّحْدَاحِ فِي
__________
(1) سورة البقرة الآية (245) .
(2) أحكام القرآن 1 / 230.
(3) سورة المزمل الآية (20) .
(4) العذق بالفتح النخلة، وبالكسر العرجون بما فيه من الشماريخ.(26/325)
الْجَنَّةِ (1) وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِنًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَقَى مُؤْمِنًا عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا عَلَى عُرْيٍ، كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ: الصَّدَقَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ آكَدُ، وَكَذَا عِنْدَ الأُْمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَعِنْدَ الْكُسُوفِ، وَعِنْدَ الْمَرَضِ، وَالسَّفَرِ، وَبِمَكَّةَ، وَالْمَدِينَةِ، وَفِي الْغَزْوِ وَالْحَجِّ، وَالأَْوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ، كَعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَيَّامِ الْعِيدِ، وَمِثْل ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْبُهُوتِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ (3) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّدَقَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
9 - الْكَلاَمُ عَنِ الصَّدَقَةِ يَسْتَوْجِبُ التَّطَرُّقَ لِلأُْمُورِ التَّالِيَةِ:
(1) - الْمُتَصَدِّقُ: وَهُوَ، مَنْ يَدْفَعُ الصَّدَقَةَ
__________
(1) حديث عبد الله بن مسعود: في قصة أبي الدحداح. أخرجه القرطبي بإسناده في " الجامع لأحكام القرآن " (3 / 237 - 238 - ط. دار الكتب المصرية) .
(2) حديث: " أيما مؤمن أطعم مؤمنًا على جوع. . . . " أخرجه الترمذي (4 / 633 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وقال: " هذا حديث غريب، وقد روي هذا عن عطية، عن أبي سعيد مرفوعًا، وهو أصح عندنا وأشبه ".
(3) روضة الطالبين 2 / 341، المجموع 6 / 237، والمبسوط للسرخسي 12 / 92، والمغني لابن قدامة 3 / 82، وكشاف القناع 2 / 295، ط. بيروت.(26/326)
وَيُخْرِجُهَا مِنْ مَالِهِ
(2) - الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَنْ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنَ الْغَيْرِ.
(3) - الْمُتَصَدَّقُ بِهِ: وَهُوَ الْمَال الَّذِي يُتَطَوَّعُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ.
(4) - النِّيَّةُ: وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: الْمُتَصَدِّقُ:
10 - صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ: تَبَرُّعٌ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا:
أ - أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدِّقُ مِنْ أَهْل التَّبَرُّعِ، أَيْ: عَاقِلاً بَالِغًا رَشِيدًا، ذَا وِلاَيَةٍ فِي التَّصَرُّفِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ تَصِحُّ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ مِنَ الصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ، أَمَّا الصَّغِيرُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ (1) فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل التَّصَرُّفِ أَصْلاً، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ (2) .
__________
(1) الصبي المميز عند الفقهاء: هو الذي يفرق بين الخير والشر، ويدرك نتائج تصرفه، وقد حدده الفقهاء حسب الأغلبية أن يكون عمره سبع سنين فما فوق، والصبي غير المميز: هو من لا يدرك نتائج تصرفه، فلم يبلغ السابع من عمره. (ابن عابدين 5 / 421، جواهر الإكليل 1 / 22، ومجلة الأحكام العدلية م (943)
(2) مجلة الأحكام العدلية: م (957، 966) ، والمنثور للزركشي 2 / 301، والتوضيح والتلويح 3 / 159، والفواكه الدواني 2 / 216.(26/326)
وَأَمَّا الصَّغِيرُ الْمُمَيِّزُ: فَإِنَّ الصَّدَقَةَ مِنْهُ تُعْتَبَرُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ ضَرَرًا مَحْضًا، وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةَ ضَرَرًا دُنْيَوِيًّا، وَالَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ، كَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْوَقْفِ، وَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ لاَ تَصِحُّ، بَل تَقَعُ بَاطِلَةً، حَتَّى لَوْ أَذِنَ الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ؛ لأَِنَّ إِجَازَتَهُمَا فِي التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ لاَغِيَةٌ، وَقَدِ اسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَصِيَّةَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الَّذِي يَعْقِل الْوَصِيَّةَ (1) .
وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِمْ لِلسَّفَهِ، أَوِ الإِْفْلاَسِ، أَوْ غَيْرِهِمَا فَهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ فَلاَ تَصِحُّ مِنْهُمُ الصَّدَقَةُ (2) وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حَجْرٌ)
وَكَمَا لاَ تَصِحُّ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ مِنَ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، لاَ تَصِحُّ الصَّدَقَةُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِنْ قِبَل أَوْلِيَائِهِمْ نِيَابَةً عَنْهُمْ، لأَِنَّهُمْ لاَ يَمْلِكُونَ التَّبَرُّعَ مِنْ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 508، 5 / 110، ومجلة الأحكام العدلية م / 967، والتوضيح مع التلويح 3 / 159، والمنثور للزركشي 2 / 301، والمغني لابن قدامة 5 / 663، وجواهر الإكليل 2 / 97، 98 وشرح منتهى الإرادات 2 / 539، والخرشي 8 / 167.
(2) ابن عابدين 5 / 89 - 92، ومجلة الأحكام العدلية م (998) والمغني لابن قدامة 5 / 663، و4 / 520، وجواهر الإكليل 2 / 97، 98.(26/327)
أَمْوَال مَنْ تَحْتَ وِلاَيَتِهِمْ (1)
ب - أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلْمَال الْمُتَصَدَّقِ بِهِ، أَوْ وَكِيلاً عَنْهُ، فَلاَ تَصِحُّ الصَّدَقَةُ مِنْ مَال الْغَيْرِ بِلاَ وَكَالَةٍ. وَمَنْ فَعَل ذَلِكَ يَضْمَنُ مَا تَصَدَّقَ بِهِ؛ لأَِنَّهُ ضَيَّعَ مَال الْغَيْرِ عَلَى صَاحِبِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، يَقُول التُّمُرْتَاشِيُّ: شَرَائِطُ صِحَّةِ الْهِبَةِ فِي الْوَاهِبِ: الْعَقْل، وَالْبُلُوغُ، وَالْمِلْكُ (2) . ثُمَّ قَال: وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ بِجَامِعِ التَّبَرُّعِ (3)
وَلأَِنَّ الصَّدَقَةَ مِنَ الْقُرُبَاتِ فَتُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِيمَا إِذَا تَصَدَّقَ مِنْ مَال الْغَيْرِ دُونَ إِذْنِهِ.
صَدَقَةُ الْمَرْأَةِ مِنْ مَال زَوْجِهَا:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا لِلسَّائِل وَغَيْرِهِ بِمَا أَذِنَ الزَّوْجُ صَرِيحًا. كَمَا يَجُوزُ التَّصَدُّقُ مِنْ مَال الزَّوْجِ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ إِذَا كَانَ يَسِيرًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) (4) .
وَيَسْتَدِل الْفُقَهَاءُ عَلَى الْجَوَازِ بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَال رَسُول
__________
(1) التوضيح والتلويح 3 / 159، 160.
(2) الدر المختار بهامش ابن عابدين 4 / 508.
(3) نفس المرجع 4 / 522، وانظر المغني 4 / 516.
(4) الهداية في فتح القدير 7 / 341، وشرح الترمذي لابن العربي 3 / 177، 178، وشرح النووي على صحيح مسلم 7 / 112، والمغني 4 / 516.(26/327)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا وَلَهُ مِثْلُهُ بِمَا اكْتَسَبَ، وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِلْخَازِنِ مِثْل ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا (1) وَلَمْ يَذْكُرْ إِذْنًا.
وَعَنْ أَسْمَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَيْسَ لِي شَيْءٌ إِلاَّ مَا أَدْخَل عَلَيَّ الزُّبَيْرُ فَهَل عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ (2) مِمَّا يُدْخِل عَلَيَّ؟ فَقَال: ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ، وَلاَ تُوعِي فَيُوعِيَ اللَّهُ عَلَيْكَ (3) .
وَلأَِنَّ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ كَمَا عَلَّلَهُ الْمَرْغِينَانِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ (4) .
قَال فِي الْهِدَايَةِ: يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ مِنْ مَنْزِل زَوْجِهَا بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ، كَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ (5) وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَصْكَفِيُّ (6)
وَيَقُول النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِصَحِيحِ
__________
(1) حديث: " إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها. . . " أخرجه مسلم (2 / 710 - ط. الحلبي) .
(2) الرضخ العطية القليلة، يقال: (رضخت له رضخا) أعطيته ليس بالكثير (المصباح المنير والمطلع على أبواب المقنع ص216) .
(3) حديث أسماء: ارضخي ما استطعت. أخرجه مسلم (2 / 714 - ط الحلبي) .
(4) نفس المراجع
(5) الهداية مع فتح القدير 7 / 341.
(6) الدر المختار بهامش ابن عابدين 5 / 103.(26/328)
مُسْلِمٍ: الإِْذْنُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: الإِْذْنُ الصَّرِيحُ فِي النَّفَقَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَالثَّانِي: الإِْذْنُ الْمَفْهُومُ مِنَ اطِّرَادِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، كَإِعْطَاءِ السَّائِل كَعُمْرَةٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ، وَاطَّرَدَ الْعُرْفُ فِيهِ، وَعُلِمَ بِالْعُرْفِ رِضَا الزَّوْجِ وَالْمَالِكِ بِهِ، فَإِذْنُهُ فِي ذَلِكَ حَاصِلٌ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ (1) .
وَمِثْلُهُ مَا حَرَّرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ حَيْثُ قَال: وَيَحْتَمِل عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَحْمُولاً عَلَى الْعَادَةِ. وَأَنَّهَا إِذَا عَلِمَتْ مِنْهُ، أَنَّهُ لاَ يَكْرَهُ الْعَطَاءَ وَالصَّدَقَةَ فَعَلَتْ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يُجْحِفْ، وَعَلَى ذَلِكَ عَادَةُ النَّاسِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَيْرَ مُفْسِدَةٍ (2)
وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: الإِْذْنُ الْعُرْفِيُّ يَقُومُ مَقَامَ الإِْذْنِ الْحَقِيقِيِّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَال لَهَا: افْعَلِي هَذَا (3)
وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ التَّصَدُّقُ مِنْ مَال زَوْجِهَا وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا، لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لاَ تُنْفِقُ امْرَأَةٌ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، قِيل: يَا رَسُول اللَّهِ: وَلاَ الطَّعَامَ؟ قَال: ذَاكَ
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 7 / 112.
(2) شرح الترمذي لابن العربي 3 / 177، 178.
(3) المغني لابن قدامة 4 / 516.(26/328)
أَفْضَل أَمْوَالِنَا (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالأَْوَّل - أَيِ الْجَوَازُ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ - أَصَحُّ، لأَِنَّ الأَْحَادِيثَ فِيهَا خَاصَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ (2) .
أَمَّا إِذَا مَنَعَهَا مِنَ الصَّدَقَةِ مِنْ مَالِهِ، وَلَمْ يَكُنِ الْعُرْفُ جَارِيًا بِذَلِكَ، أَوِ اضْطَرَبَ الْعُرْفُ، أَوْ شَكَّتْ فِي رِضَاهُ، أَوْ كَانَ شَخْصًا يَشُحُّ بِذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لِلْمَرْأَةِ وَغَيْرِهَا التَّصَدُّقُ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ بِصَرِيحِ إِذْنِهِ، كَمَا حَقَّقَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ (3) .
12 - وَمَا ذُكِرَ مِنْ حُكْمِ تَصَدُّقِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَال زَوْجِهَا يُطَبَّقُ عَلَى تَصَدُّقِ الْخَازِنِ مِنْ مَال الْمَالِكِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ: وَلِلْخَازِنِ مِثْل ذَلِكَ أَيْ: مِنَ الأَْجْرِ (4) ، أَيْ: إِنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَثُوبَةِ، كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ أَجْرٌ كَامِلٌ، كَمَا قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ، أَوْ مَعْنَاهُ الْمُشَارَكَةُ فِي الأَْجْرِ مُطْلَقًا، لأَِنَّ الْمُشَارِكَ فِي الطَّاعَةِ مُشَارِكٌ فِي الأَْجْرِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا
__________
(1) حديث: " لا تنفق المرأة شيئًا من بيتها. . . " أخرجه الترمذي (3 / 48 - 49 ط. الحلبي) وقال: " حديث حسن ".
(2) نفس المراجع.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 7 / 112، وابن عابدين 5 / 103، والمغني لابن قدامة 4 / 516.
(4) شرح الترمذي لابن العربي 3 / 177.(26/329)
أَكْثَرَ مِنَ الآْخَرِ، كَمَا حَقَّقَهُ النَّوَوِيُّ (1) .
تَصَدُّقُ الزَّوْجَةِ مِنْ مَالِهَا بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْبَالِغَةَ الرَّشِيدَةَ لَهَا حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا، بِالتَّبَرُّعِ، أَوِ الْمُعَاوَضَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، أَمْ غَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ. وَعَلَى ذَلِكَ فَالزَّوْجَةُ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ زَوْجِهَا فِي التَّصَدُّقِ مِنْ مَالِهَا وَلَوْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ (2)
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لِلنِّسَاءِ: تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ، فَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ (3) وَلَمْ يَسْأَل وَلَمْ يَسْتَفْصِل، فَلَوْ كَانَ لاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُنَّ بِغَيْرِ إِذْنِ أَزْوَاجِهِنَّ لَمَا أَمَرَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّدَقَةِ، وَلاَ مَحَالَةَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِنَّ مَنْ لَهَا زَوْجٌ وَمَنْ لاَ زَوْجَ لَهَا، كَمَا حَرَّرَهُ السُّبْكِيُّ (4) .
وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْل التَّصَرُّفِ، وَلاَ حَقَّ لِزَوْجِهَا فِي مَالِهَا، فَلَمْ يَمْلِكِ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِي التَّصَرُّفِ بِجَمِيعِهِ، كَمَا عَلَّلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ (5) .
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي 7 / 112، وشرح الترمذي لابن العربي 7 / 178.
(2) الاختيار 3 / 91، والمجموع (التكملة للسبكي) 12 / 272، والمغني لابن قدامة 4 / 513.
(3) حديث: " تصدقن ولو من حليكن. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 328 - ط السلفية) ومسلم (2 / 695 - ط. الحلبي) .
(4) تكلمة المجموع للسبكي 13 / 272، 273.
(5) المغني لابن قدامة 4 / 514.(26/329)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُحْجَرُ عَلَى الزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ الرَّشِيدَةِ لِزَوْجِهَا الْبَالِغِ الرَّشِيدِ فِي تَبَرُّعٍ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ أَنَّ امْرَأَةَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُلِيٍّ لَهَا، فَقَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ عَطِيَّةٌ حَتَّى يَأْذَنَ زَوْجُهَا، فَهَل اسْتَأْذَنْتِ كَعْبًا؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كَعْبٍ، فَقَال: هَل أَذِنْتَ لَهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ بِحُلِيِّهَا؟ قَال: نَعَمْ. فَقَبِلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) . وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ مَالِهَا التَّجَمُّل بِهِ لِزَوْجِهَا، وَالْمَال مَقْصُودٌ فِي زَوَاجِهَا، حَيْثُ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَِرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا (2)
وَالْعَادَةُ أَنَّ الزَّوْجَ يَزِيدُ فِي مَهْرِهَا مِنْ أَجْل مَالِهَا وَيَتَبَسَّطُ فِيهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ، فَتَعَلَّقَ حَقُّ الزَّوْجِ فِي مَالِهَا (3)
__________
(1) حديث: " أن امرأة كعب بن مالك أتت النبي صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 798 - ط. الحلبي) والطحاوي في شرح المعاني (4 / 351 - ط مطبعة الأنوار المحمدية) وقال الطحاوي: " حديث شاذ لا يثبت "، ولكن ورد الحديث دون القصة المذكورة بلفظ: " لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها " أخرجه أبو داود (3 / 816 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمرو، وإسناده حسن.
(2) حديث: " تنكح المرأة لأربع " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 132 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1086 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 308، وشرح الزرقاني 5 / 306، وجواهر الإكليل 2 / 102، والمغني لابن قدامة 4 / 513، 514.(26/330)
وَمَحَل الْحَجْرِ عَلَيْهَا فِي تَبَرُّعِهَا بِزَائِدٍ عَنِ الثُّلُثِ مِنْ مَالِهَا إِذَا كَانَ التَّبَرُّعُ لِغَيْرِ زَوْجِهَا. وَأَمَّا لَهُ فَلَهَا أَنْ تَهَبَ جَمِيعَ مَالِهَا لَهُ، وَلاَ اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ لأَِحَدٍ (1) .
هَذَا، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ (ر: مَرَضُ الْمَوْتِ) .
ثَانِيًا: الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ:
14 - لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَصَدِّقِ، مِنَ الْعَقْل، وَالْبُلُوغِ، وَالرُّشْدِ، وَأَهْلِيَّةِ التَّبَرُّعِ، فَيَصِحُّ التَّصَدُّقُ عَلَى الصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ، أَوْ إِفْلاَسٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، لأَِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِمْ نَفْعٌ مَحْضٌ لَهُمْ، فَلاَ تَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِ الأَْوْلِيَاءِ (2) .
وَحَيْثُ إِنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ بِلاَ عِوَضٍ لِثَوَابِ الآْخِرَةِ، فَهُنَاكَ أَشْخَاصٌ لاَ تَصِحُّ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ، وَآخَرُونَ تَصِحُّ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ هَذَا الْمَوْضُوعَ كَالتَّالِي:
أ - الصَّدَقَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
15 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 308.
(2) التوضيح مع التلويح 3 / 159، وابن عابدين 5 / 91، 110، ومجلة الأحكام العدلية م (967) والمغني لابن قدامة 5 / 660(26/330)
الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْل صَدَقَةِ الْفَرِيضَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَى حُرْمَتِهَا، وَذَلِكَ صِيَانَةً لِمَنْصِبِهِ الشَّرِيفِ (1)
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَل عَنْهُ، فَإِنْ قِيل: صَدَقَةٌ قَال لأَِصْحَابِهِ: كُلُوا، وَلَمْ يَأْكُل، وَإِنْ قِيل لَهُ: هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ فَأَكَل مَعَهُمْ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ: فَالصَّدَقَةُ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ أَبْدَل اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِهَا الْفَيْءَ الَّذِي يُؤْخَذُ عَلَى سَبِيل الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ الْمَبْنِيِّ عَلَى عِزِّ الآْخِذِ، وَذُل الْمَأْخُوذِ مِنْهُ (3) .
ب - الصَّدَقَةُ عَلَى آل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ: عَلَى عَدَمِ جَوَازِ صَدَقَةِ الْفَرِيضَةِ عَلَى آل مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَنْبَغِي لآِل مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ (4) .
__________
(1) الدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 212، وجواهر الإكليل 1 / 273، والحطاب 3 / 397، ومغني المحتاج 3 / 120، والمغني لابن قدامة 2 / 260.
(2) حديث أبي هريرة: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 203 - ط السلفية) ومسلم (2 / 756 - ط. الحلبي) .
(3) المغني 2 / 260، وعمدة القاري 3 / 135.
(4) حديث: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد " أخرجه مسلم (2 / 753 - ط الحلبي) من حديث عبد المطلب بن ربيعة.(26/331)
أَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهَا عَلَيْهِمْ. وَالْبَعْضُ يَقُولُونَ: بِعَدَمِ الْجَوَازِ (1) وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (آلٌ 4 وَ 10)
ج - التَّصَدُّقُ عَلَى ذَوِي الْقَرَابَةِ وَالأَْزْوَاجِ:
17 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ التَّصَدُّقِ عَلَى الأَْقْرِبَاءِ، وَالأَْزْوَاجِ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، بَل صَرَّحَ بَعْضُهُمْ: بِأَنَّهُ يُسَنُّ التَّصَدُّقُ عَلَيْهِمْ، وَلَهُمْ أَخْذُهَا، وَلَوْ كَانُوا مِمَّنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ (2) ، فَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُل عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ (3) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ (4) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: دَفْعُ الصَّدَقَةِ لِقَرِيبِ أَقْرَبَ فَأَقْرَبَ رَحِمًا وَلَوْ كَانَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ
__________
(1) الاختيار 1 / 122 وجواهر الإكليل 1 / 138 والمغني 2 / 655 - 656.
(2) فتح القدير مع الهداية (2 / 22، 23، ط. بولاق) ، والمجموع للنووي 6 / 238، والمغني لابن قدامة 2 / 659، وكشاف القناع 2 / 336.
(3) حديث: " إذا أنفق الرجل على أهله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 136 ط. السلفية) .
(4) حديث: " الصدقة على المسكين صدقة " أخرجه الترمذي (3 / 38 - ط الحلبي) من حديث سلمان بن عامر، وقال: " حديث حسن ".(26/331)
أَفْضَل مِنْ دَفْعِهَا لِغَيْرِ الْقَرِيبِ، وَلِلْقَرِيبِ غَيْرِ الأَْقْرَبِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ أَتَيَتَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتَا لِبِلاَلٍ: سَل لَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَل يُجْزِئُ أَنْ نَتَصَدَّقَ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَيَتَامَى فِي حُجُورِنَا؟ فَقَال: نَعَمْ لَهُمَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ (1) .
هَذَا وَقَدْ رَتَّبَ الشَّافِعِيَّةُ مَنْ يُفَضَّل عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ فَقَالُوا: هِيَ فِي الأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ، وَفِي الأَْشَدِّ مِنْهُمْ عَدَاوَةً أَفْضَل مِنْهَا فِي غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِيُتَأَلَّفَ قَلْبُهُ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ مُجَانَبَةِ الرِّيَاءِ وَكَسْرِ النَّفْسِ، وَأُلْحِقَ بِهِمُ الأَْزْوَاجُ مِنَ الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ، ثُمَّ الرَّحِمِ غَيْرِ الْمَحْرَمِ، كَأَوْلاَدِ الْعَمِّ وَالْخَال. ثُمَّ فِي الأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ رَضَاعًا، ثُمَّ مُصَاهَرَةً، ثُمَّ وَلاَءً، ثُمَّ جِوَارًا، وَقُدِّمَ الْجَارُ الأَْجْنَبِيُّ عَلَى قَرِيبٍ بَعِيدٍ عَنْ دَارِ الْمُتَصَدِّقِ، بِحَيْثُ لاَ تُنْقَل إِلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَ بِبَادِيَةٍ (2) . وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 121، وأسنى المطالب شرح روضة الطالب 1 / 406 وحديث: " إن امرأتين أتيتا رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 328 - ط. السلفية) ومسلم (2 / 195 - ط. الحلبي) .
(2) أسنى المطالب 1 / 407، ومغني المحتاج 3 / 121.
(3) كشاف القناع 2 / 296.(26/332)
د - التَّصَدُّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالأَْغْنِيَاءِ:
18 - الأَْصْل أَنَّ الصَّدَقَةَ تُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَهَذَا هُوَ الأَْفْضَل، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ (1) . وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (2) وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَحِل لِلْغَنِيِّ (3) ؛ لأَِنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ كَالْهِبَةِ فَتَصِحُّ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ (4) . قَال السَّرَخْسِيُّ: ثُمَّ التَّصَدُّقُ عَلَى الْغَنِيِّ يَكُونُ قُرْبَةً يُسْتَحَقُّ بِهَا الثَّوَابُ، فَقَدْ يَكُونُ غَنِيًّا يَمْلِكُ النِّصَابَ، وَلَهُ عِيَالٌ كَثِيرَةٌ، وَالنَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَى مِثْل هَذَا لِنَيْل الثَّوَابِ (5) . لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِلْغَنِيِّ التَّنَزُّهُ عَنْهَا، وَيُكْرَهُ لَهُ التَّعَرُّضُ لأَِخْذِهَا؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ الْمُتَعَفِّفِينَ عَنِ السُّؤَال مَعَ وُجُودِ حَاجَتِهِمْ، فَقَال: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِل أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} (6) وَيُكْرَهُ لَهُ أَخْذُهَا وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا. وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُهَا إِنْ أَظْهَرَ الْفَاقَةَ، كَمَا يَحْرُمُ أَنْ يَسْأَل، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْغَنِيُّ بِالْمَال، وَالْغَنِيُّ بِالْكَسْبِ، لِحَدِيثِ: مَنْ سَأَل النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا
__________
(1) شرح الروض 1 / 407، ومغني المحتاج 3 / 121.
(2) سورة البلد الآية: 16.
(3) المراد بالغنى هنا: هو الذي يحرم عليه الزكاة (مغني المحتاج 3 / 120) .
(4) المبسوط 12 / 92، ومغني المحتاج 3 / 120، وكشاف القناع 2 / 298.
(5) المبسوط 12 / 92.
(6) سورة البقرة الآية 273.(26/332)
يَسْأَل جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِل أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ (1) أَيْ: يُعَذَّبُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
لَكِنْ نَقَل الرَّمْلِيُّ عَنِ ابْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: جَوَازُ طَلَبِهَا لِلْغَنِيِّ، وَيُحْمَل الذَّمُّ الْوَارِدُ فِي الأَْخْبَارِ عَلَى الطَّلَبِ مِنَ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ (2) .
هـ - الصَّدَقَةُ عَلَى الْكَافِرِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْكَافِرِ، وَسَبَبُ الْخِلاَفِ: هُوَ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ لأَِجْل الثَّوَابِ، وَهَل يُثَابُ الشَّخْصُ بِالإِْنْفَاقِ عَلَى الْكُفَّارِ؟ .
فَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَنْقُول عَنْ مُحَمَّدٍ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: إِنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لِلْكُفَّارِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ أَمْ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ؟ مُسْتَأْمَنِينَ أَمْ غَيْرَ مُسْتَأْمَنِينَ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَمْ يَكُنِ الأَْسِيرُ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ كَافِرًا (3) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي كُل كَبِدٍ رَطْبَةٍ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 120، وشرح الروض 1 / 406، وابن عابدين 2 / 69 وحديث: " من سأل الناس أموالهم تكثرا. . . " أخرجه مسلم (2 / 720 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة
(2) حاشية الرملي على شرح الروض 1 / 406.
(3) ابن عابدين 2 / 67، ومغني المحتاج 3 / 121، وشرح الروض 1 / 406، والمغني لابن قدامة 2 / 659.(26/333)
أَجْرٌ (1) وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِل أُمِّي؟ قَال: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ (2) وَلأَِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحْمُودَةٌ فِي كُل دِينٍ، وَالإِْهْدَاءُ إِلَى الْغَيْرِ مِنْ مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ (3) .
وَفَرَّقَ الْحَصْكَفِيُّ فِي الدُّرِّ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَغَيْرِهِ فَقَال: وَجَازَ دَفْعُ غَيْرِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ إِلَى الذِّمِّيِّ - وَلَوْ وَاجِبًا - كَنَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ وَفِطْرَةٍ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ.
وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ وَلَوْ مُسْتَأْمَنًا فَجَمِيعُ الصَّدَقَاتِ لاَ تَجُوزُ لَهُ (4) .
وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ الشِّرْبِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَال: قَضِيَّةُ إِطْلاَقِ حِل الصَّدَقَةِ لِلْكَافِرِ. أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَا فِي الْبَيَانِ عَنِ الصَّيْمَرِيِّ وَالأَْوْجَهُ مَا قَالَهُ الأَْذْرَعِيُّ مِنْ أَنَّ: هَذَا فِيمَنْ لَهُ عَهْدٌ، أَوْ
__________
(1) حديث: " في كل كبد رطبة أجر ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 41 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1761 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث أسماء بنت أبي بكر: " قدمت علي أمي وهي مشركة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 233 - ط السلفية) .
(3) ابن عابدين 2 / 67.
(4) الدر المختار بهامش ابن عابدين 2 / 67.(26/333)
ذِمَّةٌ أَوْ قَرَابَةٌ أَوْ يُرْجَى إِسْلاَمُهُ، أَوْ كَانَ بِأَيْدِينَا بِأَسْرٍ وَنَحْوِهِ. فَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ فَلاَ (1) .
ثَالِثًا: الْمُتَصَدَّقُ بِهِ:
20 - الْمُتَصَدَّقُ بِهِ هُوَ: الْمَال الَّذِي يُعْطَى لِلْفَقِيرِ وَذِي الْحَاجَةِ، وَحَيْثُ إِنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ بِلاَ عِوَضٍ لأَِجْل ثَوَابِ الآْخِرَةِ، فَيَنْبَغِي فِي الْمَال الْمُتَصَدَّقِ بِهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَلاَل الطَّيِّبِ، وَلاَ يَكُونَ مِنَ الْحَرَامِ أَوْ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةٌ، كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ مَالاً جَيِّدًا، لاَ رَدِيئًا، حَتَّى يَحْصُل عَلَى خَيْرِ الْبِرِّ وَجَزِيل الثَّوَابِ (2) .
وَقَدْ بَحَثَ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الأَْحْكَامَ، وَحُكْمُ التَّصَدُّقِ مِنَ الأَْمْوَال الرَّدِيئَةِ وَالْحَرَامِ كَالتَّالِي:
التَّصَدُّقُ بِالْمَال الْحَلاَل وَالْحَرَامِ وَالْمَال الْمُشْتَبَهِ فِيهِ:
21 - لَقَدْ حَثَّ الإِْسْلاَمُ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ مِنَ الْمَال الْحَلاَل وَالطَّيِّبِ، وَأَنْ تَكُونَ مِمَّا يُحِبُّهُ الْمُتَصَدِّقُ. فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَل اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، إِلاَّ أَخَذَهَا الرَّحْمَنُ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 121.
(2) ابن عابدين 2 / 26، والمجموع 6 / 24، وكشاف القناع 2 / 295 - 298، والاختيار 3 / 54، وشرح الترمذي 3 / 164.(26/334)
بِيَمِينِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَل، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلَوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ (1) وَالْمُرَادُ بِالطَّيِّبِ هُنَا الْحَلاَل، كَمَا قَال النَّوَوِيُّ (2) .
وَعَنْهُ أَيْضًا: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَل إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُل كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (3) . وَقَال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (4) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُل يُطِيل السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ (5) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ أَحَدُ الأَْحَادِيثِ الَّتِي هِيَ مِنْ قَوَاعِدِ الإِْسْلاَمِ وَمَبَانِي الأَْحْكَامِ. . . وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الإِْنْفَاقِ مِنَ الْحَلاَل، وَالنَّهْيُ عَنِ الإِْنْفَاقِ مِنْ غَيْرِهِ. وَفِيهِ أَنَّ الْمَشْرُوبَ وَالْمَأْكُول وَالْمَلْبُوسَ وَنَحْوَ ذَلِكَ
__________
(1) حديث: " ما تصدق أحد بصدقة " سبق تخرجه ف 6.
(2) شرح صحيح مسلم للنووي 7 / 88 - 100، والمجموع 6 / 241.
(3) سورة المؤمنون آية: 51.
(4) سورة البقرة / 172.
(5) حديث: " أيها الناس إن الله طيب. . . " أخرجه مسلم (صحيح مسلم 2 / 703 ط. عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا.(26/334)
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَلاَلاً خَالِصًا لاَ شُبْهَةَ فِيهِ (1) .
وَحَذَّرَ الْحُسَيْنِيُّ فِي كِفَايَةِ الأَْخْيَارِ مِنْ أَخْذِ مَالٍ فِيهِ شُبْهَةٌ لِلتَّصَدُّقِ بِهِ، وَنَقَل عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلَهُ: لأََنْ أَرُدَّ دِرْهَمًا مِنْ حَرَامٍ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَتَّى بَلَغَ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ (2) .
وَعَلَى هَذَا فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْتَارَ الرَّجُل أَحَل مَالِهِ، وَأَبْعَدَهُ عَنِ الْحَرَامِ وَالشُّبْهَةِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ، كَمَا حَرَّرَهُ النَّوَوِيُّ (3) .
وَإِذَا كَانَ فِي عُهْدَةِ الْمُكَلَّفِ مَالٌ حَرَامٌ، فَإِنْ عَلِمَ أَصْحَابُهُ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَصْحَابُهُ يَتَصَدَّقْ بِهِ.
أَمَّا الآْخِذُ أَيْ: الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَرَفَ أَنَّ الْمَال الْمُتَصَدَّقَ بِهِ مِنَ النَّجِسِ أَوِ الْحَرَامِ كَالْغَصْبِ، أَوِ السَّرِقَةِ، أَوِ الْغَدْرِ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لاَ يَأْخُذَهُ وَلاَ يَأْكُل مِنْهُ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَجَازَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ أَخْذَهُ لَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ (4) .
يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَمَظَالِمُ لاَ يَعْرِفُ أَرْبَابَهَا، وَأَيِسَ مِنْ
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي 7 / 100.
(2) كفاية الأخيار للحسيني 1 / 124.
(3) المجموع 6 / 241.
(4) ابن عابدين 3 / 323، والمجموع 6 / 241، فتح القدير مع الهداية 4 / 348، ومطالب أولي النهى 4 / 65، 66، 5 / 135، والجمل 3 / 23.(26/335)
مَعْرِفَتِهِمْ، فَعَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِقَدْرِهَا مِنْ مَالِهِ، وَإِنِ اسْتَغْرَقَتْ جَمِيعَ مَالِهِ (1) .
وَقَال ابْنُ الْهُمَامِ: يُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ بِالأَْمْوَال الَّتِي حَصَلَتْ بِالْغَدْرِ، كَالْمَال الْمَغْصُوبِ (2) .
قَال الْجَمَل مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ تَصَدَّقَ أَوْ وَهَبَ أَوْ أَوْصَى بِالنَّجِسِ صَحَّ عَلَى مَعْنَى نَقْل الْيَدِ، لاَ التَّمْلِيكِ (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّ مَنْ بِيَدِهِ نَحْوُ غُصُوبٍ، أَوْ رُهُونٍ، أَوْ أَمَانَاتٍ، لاَ يَعْرِفُ أَرْبَابَهَا، وَأَيِسَ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ، فَلَهُ الصَّدَقَةُ بِهَا مِنْهُمْ - أَيْ: مِنْ قِبَلِهِمْ. وَقَال بَعْضُهُمْ: يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ (4) .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الدُّيُونِ الَّتِي جُهِل أَرْبَابُهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (5) .
أَمَّا الأَْمْوَال الَّتِي فِيهَا شُبْهَةٌ فَالأَْوْلَى الاِبْتِعَادُ عَنْهَا، وَلِهَذَا قَال النَّوَوِيُّ فِي التَّصَدُّقِ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ (6) .
قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَلاَل بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 223.
(2) فتح القدير 4 / 348.
(3) الجمل 3 / 23.
(4) مطالب أولي النهى 1 / 65، 66.
(5) نفس المرجع 4 / 68.
(6) المجموع 6 / 241.(26/335)
وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْل الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ (1) .
التَّصَدُّقُ بِالْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ:
22 - يُسْتَحَبُّ فِي الصَّدَقَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ أَيِ: الْمَال الْمُعْطَى مِنْ أَجْوَدِ مَال الْمُتَصَدِّقِ وَأَحَبِّهِ إِلَيْهِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (2) قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَالْمَعْنَى لَنْ تَكُونُوا أَبْرَارًا حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، أَيْ: نَفَائِسِ الأَْمْوَال وَكَرَائِمِهَا، وَكَانَ السَّلَفُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إِذَا أَحَبُّوا شَيْئًا جَعَلُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى. فَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ أَكْثَرَ الأَْنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَال أَنَسٌ رَاوِي الْحَدِيثِ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَاءُ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا
__________
(1) حديث: " الحلال بين والحرام بين. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 126 ط. السلفية) من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا.
(2) سورة آل عمران - الآية 92.(26/336)
عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُول اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ قَال: فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ (1) .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَشْتَرِي أَعْدَالاً مِنْ سُكَّرٍ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا، فَقِيل لَهُ: هَلاَّ تَصَدَّقْتَ بِقِيمَتِهَا؟ قَال: لأَِنَّ السُّكَّرَ أَحَبُّ إِلَيَّ فَأَرَدْتُ أَنْ أُنْفِقَ مِمَّا أُحِبُّ (2) .
وَالْمُرَادُ بِالآْيَةِ حُصُول كَثْرَةِ الثَّوَابِ بِالتَّصَدُّقِ مِمَّا يُحِبُّهُ. وَلاَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَال الْمُتَصَدَّقُ بِهِ كَثِيرًا، وَيُسْتَحَبُّ التَّصَدُّقُ وَلَوْ بِشَيْءٍ نَزْرٍ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (3) وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ (4) .
وَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ التَّصَدُّقِ بِالرَّدِيءِ مِنَ الْمَال. قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا
__________
(1) تفسير روح المعاني 3 / 222، 223 وحديث " أن أبا طلحة كان أكثر الأنصار مالا من نخل " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 325 ط. السلفية) واللفظ له، ومسلم (صحيح مسلم 2 / 693 ط. عيسى الحلبي) من حديث أنس مالك - رضي الله عنه -.
(2) تفسير القرطبي 4 / 133، وانظر في الموضوع كشاف القناع 2 / 299.
(3) سورة الزلزلة / 8.
(4) كفاية الأخيار 1 / 125 وحديث: " اتقوا النار ولو بشق تمرة " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 448 ط. السلفية) ومسلم (صحيح مسلم 3 / 704 ط. عيسى الحلبي) مرفوعًا من حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه -.(26/336)
أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (1) أَيْ: لاَ تَتَصَدَّقُوا بِالصَّدَقَةِ مِنَ الْمَال الْخَبِيثِ، وَلاَ تَفْعَلُوا مَعَ اللَّهِ مَا لاَ تَرْضَوْنَهُ لأَِنْفُسِكُمْ.
وَرَجَّحَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنَّ الآْيَةَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ حَيْثُ قَال: لَوْ كَانَتْ فِي الْفَرِيضَةِ لَمَا قَال: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} لأَِنَّ الرَّدِيءَ وَالْخَبِيثَ لاَ يَجُوزُ أَخْذُهُ فِي الْفَرْضِ بِحَالٍ، لاَ مَعَ تَقْدِيرِ الإِْغْمَاضِ وَلاَ مَعَ عَدَمِهِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مَعَ عَدَمِ الإِْغْمَاضِ فِي النَّفْل (2)
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْل بَرَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، أَنَّ الآْيَةَ فِي التَّطَوُّعِ، نُدِبُوا إِلَيْهِ أَنْ لاَ يَتَطَوَّعُوا إِلاَّ بِمُمْتَازٍ جَيِّدٍ (3) وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَجُلٍ عَلَّقَ قِنْوَ حَشَفٍ فِي الْمَسْجِدِ: لَوْ شَاءَ رَبُّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ تَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْهَا وَقَال: إِنَّ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ يَأْكُل الْحَشَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية (267) .
(2) القرطبي 3 / 326.
(3) القرطبي 3 / 320، 321.
(4) مختصر سنن أبي داود 2 / 213. وحديث: " لو شاء رب هذه الصدقة " أخرجه النسائي (سنن النسائي 5 / 43 - 44 نشر مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب) وأبو داود (سنن أبي داود 2 / 261 ط. استانبول) واللفظ له من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه -. وفي سنده صالح بن أبي عريب، لم يوثقه غير ابن حبان، وباقي رجاله ثقات (جامع الأصول في أحاديث الرسول بتحقيق الأرناؤوط 6 / 456 نشر مكتبة الحلواني) .(26/337)
التَّصَدُّقُ بِكُل مَالِهِ:
23 - يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ بِفَاضِلٍ عَنْ كِفَايَتِهِ، وَكِفَايَةِ مَنْ يَمُونُهُ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِمَا يُنْقِصُ مُؤْنَةَ مَنْ يَمُونُهُ أَثِمَ. وَمَنْ أَرَادَ التَّصَرُّفَ بِمَالِهِ كُلِّهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ حُسْنَ التَّوَكُّل وَالصَّبْرِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجُوزُ.
وَيُكْرَهُ لِمَنْ لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَى الضِّيقِ أَنْ يُنْقِصَ نَفَقَةَ نَفْسِهِ عَنِ الْكِفَايَةِ التَّامَّةِ.
وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ (1) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الإِْنْسَانَ مَا دَامَ صَحِيحًا رَشِيدًا لَهُ التَّبَرُّعُ بِجَمِيعِ مَالِهِ عَلَى كُل مَنْ أَحَبَّ. قَال فِي الرِّسَالَةِ: وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِمَالِهِ كُلِّهِ لِلَّهِ. لَكِنْ قَال النَّفْرَاوِيُّ: مَحَل نَدْبِ التَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ الْمَال أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدِّقُ طَيِّبَ النَّفْسِ بَعْدَ الصَّدَقَةِ بِجَمِيعِ مَالِهِ، لاَ يَنْدَمُ عَلَى الْبَقَاءِ بِلاَ مَالٍ. وَأَنَّ مَا يَرْجُوهُ فِي الْمُسْتَقْبَل مُمَاثِلٌ لِمَا تَصَدَّقَ بِهِ فِي الْحَال، وَأَنْ لاَ يَكُونَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَل لِنَفْسِهِ، أَوْ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، أَوْ يُنْدَبُ الإِْنْفَاقُ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ لَمْ يُنْدَبْ لَهُ ذَلِكَ (2) بَل يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِنْ تَحَقَّقَ الْحَاجَةَ لِمَنْ تَلْزَمُهُ
__________
(1) حاشية عابدين على الدر المختار 2 / 71، والاختيار لتعليل المختار 3 / 54.
(2) الفواكه الدواني 2 / 323.(26/337)
نَفَقَتُهُ، أَوْ يُكْرَهُ إِنْ تَيَقَّنَ الْحَاجَةَ لِمَنْ يُنْدَبُ الإِْنْفَاقُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الأَْفْضَل أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا يَفْضُل عَنْ حَاجَتِهِ وَمُؤْنَتِهِ، وَمُؤْنَةِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ (1) .
وَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ (2) : الأَْوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنَ الْفَاضِل عَنْ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مَنْ يَمُونُهُ عَلَى الدَّوَامِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُول (3) وَلأَِنَّ نَفَقَةَ مَنْ يَمُونُهُ وَاجِبَةٌ وَالتَّطَوُّعُ نَافِلَةٌ، وَتَقْدِيمُ النَّفْل عَلَى الْفَرْضِ غَيْرُ جَائِزٍ.
فَإِنْ كَانَ الرَّجُل لاَ عِيَال لَهُ، فَأَرَادَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَكَانَ ذَا مَكْسَبٍ، أَوْ كَانَ وَاثِقًا مِنْ نَفْسِهِ يُحْسِنُ التَّوَكُّل وَالصَّبْرَ عَلَى الْفَقْرِ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَحَسَنٌ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: أَمَرَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالاً عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا،
__________
(1) نفس المرجع.
(2) المغني لابن قدامة 3 / 83، 84.
(3) حديث: " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 294 ط. السلفية) بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وأخرجه مسلم (صحيح مسلم 2 / 717 ط. عيسى الحلبي) من حديث حكيم بن خزام بلفظ " أفضل الصدقة (أو خير الصدقة) عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول ".(26/338)
فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَبْقَيْتَ لأَِهْلِكَ؟ قُلْتُ: مِثْلَهُ. قَال: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُل مَا عِنْدَهُ فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَبْقَيْتَ لأَِهْلِكَ؟ قَال: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقُلْتُ لاَ أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ بَعْدَهُ أَبَدًا (1) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَهَذَا كَانَ فَضِيلَةً فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِقُوَّةِ يَقِينِهِ، وَكَمَال إِيمَانِهِ، وَكَانَ أَيْضًا تَاجِرًا ذَا مَكْسَبٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْمُتَصَدِّقِ أَحَدُ هَذَيْنِ كُرِهَ لَهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ مَالِهِ. فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَأْتِي أَحَدُكُمْ بِمَا يَمْلِكُ، وَيَقُول هَذِهِ صَدَقَةٌ، ثُمَّ يَقْعُدُ يَسْتَكِفُّ النَّاسَ، خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى (2) ؛ وَلأَِنَّ الإِْنْسَانَ إِذَا أَخْرَجَ جَمِيعَ مَالِهِ لاَ يَأْمَنُ فِتْنَةَ الْفَقْرِ، وَشِدَّةَ نِزَاعِ النَّفْسِ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ فَيَنْدَمُ، فَيَذْهَبُ مَالُهُ، وَيَبْطُل أَجْرُهُ، وَيَصِيرُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ (3) .
__________
(1) حديث عمر - رضي الله عنه - قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق. . . " أخرجه (أبو داود 2 / 312 - 313 ط. استانبول) واللفظ له، (والترمذي 5 / 574 نشر دار الكتب العلمية - بيروت) . وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2) حديث: " يأتي أحدكم بما يملك " أخرجه أبو داود من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - مرفوعا (سنن أبي داود 2 / 310 - 311 ط. استانبول) وفيه عنعنة ابن اسحاق (جامع الأصول في أحاديث الرسول 6 / 465 بتحقيق الرناؤوط)
(3) المغني لابن قدامة 3 / 83،84.(26/338)
وَاتَّفَقَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ مَعَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ فِي: أَنَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِعِيَالِهِ وَدَيْنِهِ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ فَضَل عَنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَهَل يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ الْفَاضِل؟ فِيهِ عِنْدَهُمْ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: إِنْ صَبَرَ عَلَى الضِّيقِ فَنَعَمْ، وَإِلاَّ فَلاَ بَل يُكْرَهُ ذَلِكَ، قَالُوا: وَعَلَيْهِ تُحْمَل الأَْخْبَارُ الْمُخْتَلِفَةُ الظَّاهِرِ (1)
رَابِعًا - النِّيَّةُ:
24 - الصَّدَقَةُ قُرْبَةٌ؛ لأَِنَّهَا تَمْلِيكٌ بِلاَ عِوَضٍ، لأَِجْل ثَوَابِ الآْخِرَةِ، فَلاَ بُدَّ فِيهَا مِنَ النِّيَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (2) وَيُسْتَحَبُّ فِي الصَّدَقَةِ أَنْ يَنْوِيَ الْمُتَصَدِّقُ ثَوَابَهَا لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ كُل مَنْ أَتَى بِعِبَادَةٍ مَا سَوَاءٌ أَكَانَتْ صَلاَةً أَمْ صَوْمًا أَمْ صَدَقَةً أَمْ قِرَاءَةً، لَهُ أَنْ يَجْعَل ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ وَإِنْ نَوَاهَا لِنَفْسِهِ (3) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: " وَالأَْفْضَل لِمَنْ يَتَصَدَّقُ
__________
(1) كفاية الأخيار للحسيني 1 / 124، وأسنى المطالب 1 / 407.
(2) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 9 ط. السلفية) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
(3) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 2 / 236، والبدائع 6 / 218، والخرشي على مختصر خليل 7 / 102، والمغني لابن قدامة 5 / 649، و 3 / 82، وأشباه ابن نجيم ص 29، وأشباه السيوطي ص 12.(26/339)
نَفْلاً أَنْ يَنْوِيَ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ لأَِنَّهَا تَصِل إِلَيْهِمْ، وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ (1) .
وَتَفْصِيل أَحْكَامِ النِّيَّةِ فِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّةٌ) .
إِخْفَاءُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ:
25 - الأَْفْضَل فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أَنْ تَكُونَ سِرًّا، وَهَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ تَصِحُّ وَيُثَابُ عَلَيْهَا فِي الْعَلَنِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (2) .
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِل إِلاَّ ظِلُّهُ وَذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلاً تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ (3) وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 71.
(2) سورة البقرة الآية 272.
(3) حديث: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. . . " " رجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " سبق تخريجه ف 6.(26/339)
تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ (1) .
وَلأَِنَّ الإِْسْرَارَ بِالتَّطَوُّعِ يَخْلُو عَنِ الرِّيَاءِ وَالْمَنِّ، وَإِعْطَاءُ الصَّدَقَةِ سِرًّا يُرَادُ بِهِ رِضَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحْدَهُ. وَنُقِل عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَوْلُهُ: صَدَقَةُ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ أَفْضَل مِنْ صَدَقَةِ الْعَلاَنِيَةِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا (2) .
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْحَال فِي الصَّدَقَةِ يَخْتَلِفُ بِحَال الْمُعْطِي لَهَا وَالْمُعْطَى إِيَّاهَا وَالنَّاسِ الشَّاهِدِينَ لَهَا.
أَمَّا الْمُعْطِي فَلَهُ فَائِدَةُ إِظْهَارِ السُّنَّةِ وَثَوَابِ الْقُدْوَةِ، وَآفَتُهَا الرِّيَاءُ، وَالْمَنُّ، وَالأَْذَى. وَأَمَّا الْمُعْطَى إِيَّاهَا فَإِنَّ السِّرَّ أَسْلَمُ لَهُ مِنَ احْتِقَارِ النَّاسِ لَهُ، أَوْ نِسْبَتِهِ إِلَى أَنَّهُ أَخَذَهَا مَعَ الْغِنَى وَتَرْكِ التَّعَفُّفِ.
وَأَمَّا حَال النَّاسِ فَالسِّرُّ عَنْهُمْ أَفْضَل مِنَ الْعَلاَنِيَةِ لَهُمْ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا طَعَنُوا عَلَى الْمُعْطِي لَهَا بِالرِّيَاءِ، وَعَلَى الآْخِذِ لَهَا
__________
(1) تفسير القرطبي 2 / 232، 234، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 236، وحاشية القليوبي 3 / 204، 205، والمهذب 1 / 183، وكشاف القناع 2 / 266. وحديث: " صنائع المعروف تقي مصارع السوء. . . ". أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - وإسناده حسن (مجمع الزوائد 3 / 115 نشر مكتبة القدسي) .
(2) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 236.(26/340)
بِالاِسْتِغْنَاءِ، وَلَهُمْ فِيهَا تَحْرِيكُ الْقُلُوبِ إِلَى الصَّدَقَةِ. لَكِنَّ هَذَا الْيَوْمَ قَلِيلٌ (1) وَيَقُول الْخَطِيبُ: إِنْ كَانَ الْمُتَصَدِّقُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَأَظْهَرَهَا لِيُقْتَدَى بِهِ مِنْ غَيْرِ رِيَاءٍ وَلاَ سُمْعَةٍ، فَهُوَ أَفْضَل (2) .
أَمَّا صَدَقَةُ الْفَرْضِ فَلاَ خِلاَفَ أَنَّ إِظْهَارَهَا أَفْضَل كَصَلاَةِ الْفَرْضِ وَسَائِرِ الْفَرَائِضِ.
تَرْكُ الْمَنِّ وَالأَْذَى:
26 - يَحْرُمُ الْمَنُّ وَالأَْذَى بِالصَّدَقَةِ، وَيَبْطُل الثَّوَابُ بِذَلِكَ، فَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمَنِّ وَالأَْذَى، وَجَعَلَهُمَا مُبْطِلَيْنِ لِلصَّدَقَاتِ حَيْثُ قَال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَْذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} (3) وَحَثَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُنْفِقِينَ فِي سَبِيل اللَّهِ بِعَدَمِ إِتْبَاعِ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى فَقَال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيل اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (4)
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فِي أَنَّ الْمَنَّ وَالأَْذَى فِي الصَّدَقَةِ حَرَامٌ يُبْطِل الثَّوَابَ. قَال الْقُرْطُبِيُّ: عَبَّرَ تَعَالَى عَنْ عَدَمِ الْقَبُول
__________
(1) نفس المرجع.
(2) مغني المحتاج 3 / 121.
(3) سورة البقرة الآية 264.
(4) سورة البقرة الآية 262.(26/340)
وَحِرْمَانِ الثَّوَابِ بِالإِْبْطَال (1) .
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ: الْمَنُّ بِالصَّدَقَةِ حَرَامٌ مُبْطِلٌ لِلأَْجْرِ لِلآْيَةِ السَّابِقَةِ، وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ: ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَال: فَقَرَأَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَ مِرَارٍ. قَال أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: الْمُسْبِل، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ (2) .
وَجَعَلَهُ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْكَبَائِرِ فَقَال: وَيَحْرُمُ الْمَنُّ بِالصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ مِنَ الْكَبِيرَةِ وَيَبْطُل الثَّوَابَ بِذَلِكَ (3) .
وَهَل تُبْطِل الْمَعْصِيَةُ الطَّاعَةَ؟ فِيهِ خِلاَفٌ. قَال الْقُرْطُبِيُّ: الْعَقِيدَةُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ لاَ تُبْطِل الْحَسَنَاتِ، وَلاَ تُحْبِطُهَا. فَالْمَنُّ وَالأَْذَى فِي صَدَقَةٍ لاَ يُبْطِل صَدَقَةً أُخْرَى (4)
التَّصَدُّقُ فِي الْمَسْجِدِ:
27 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّصَدُّقِ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى جَوَازِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ،
__________
(1) القرطبي 3 / 311، ومغني المحتاج 3 / 122، وكشاف القناع 2 / 298.
(2) حديث: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة. . . " أخرجه مسلم (صحيح مسلم 1 / 102 ط. عيسى الحلبي) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - مرفوعا.
(3) كشاف القناع عن متن الإقناع 2 / 298.
(4) القرطبي 3 / 311(26/341)
وَبَعْضُهُمْ بَيَّنُوا لَهُ شُرُوطًا لاَ يَجُوزُ بِغَيْرِهَا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ يَحِل أَنْ يَسْأَل شَيْئًا مَنْ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ بِالْفِعْل أَوْ بِالْقُوَّةِ، كَالصَّحِيحِ الْمُكْتَسِبِ، وَيَأْثَمُ مُعْطِيهِ إِنْ عَلِمَ بِحَالِهِ؛ لأَِنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى الْمُحَرَّمِ (1) ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ السَّائِل إِذَا كَانَ لاَ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي، وَلاَ يَتَخَطَّى الرِّقَابَ، وَلاَ يَسْأَل إِلْحَافًا، بَل لأَِمْرٍ لاَ بُدَّ مِنْهُ، فَلاَ بَأْسَ بِالسُّؤَال وَالإِْعْطَاءِ. ثُمَّ قَال نَقْلاً عَنِ الْبَزَّازِيَّةِ: وَلاَ يَجُوزُ الإِْعْطَاءُ إِذَا لَمْ يَكُونُوا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ (2) . وَمَا نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ مِنْ تَعْلِيقِ رَجُلٍ قِنْوَ حَشَفٍ فِي الْمَسْجِدِ يَدُل كَذَلِكَ عَلَى مُطْلَقِ الْجَوَازِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُعْتَبَرْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ (3)
كَمَا يَدُل عَلَى الْجَوَازِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَل مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ فَقَال أَبُو بَكْرٍ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا أَنَا بِسَائِلٍ يَسْأَل فَوَجَدْتُ كِسْرَةَ خُبْزٍ فِي يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَخَذْتُهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 71.
(2) ابن عابدين 1 / 554.
(3) القرطبي 3 / 321.
(4) حديث: " هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينا؟ . . . " أخرجه أبو داود (سنن أبي داود 2 / 309 ط. استانبول) والحاكم (المستدرك 1 / 412 نشر دار الكتاب العربي) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر وصححه ووافقه الذهبي. إلا أن في إسناده المبارك بن فضالة وهو متكلم فيه (ميزان الاعتدال 3 / 431 ط. عيسى الحلبي) .(26/341)
وَيَقُول الْبُهُوتِيُّ: يُكْرَهُ سُؤَال الصَّدَقَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالتَّصَدُّقُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ يَقُول: " وَلاَ يُكْرَهُ التَّصَدُّقُ عَلَى غَيْرِ السَّائِل وَلاَ عَلَى مَنْ سَأَل لَهُ الْخَطِيبُ (1) ". وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٌ)
الأَْحْوَال وَالأَْمَاكِنُ الَّتِي تُفَضَّل فِيهَا الصَّدَقَةُ:
28 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الْحَالاَتِ وَالأَْمَاكِنَ الَّتِي تُفَضَّل فِيهَا الصَّدَقَةُ، وَيَكُونُ أَجْرُهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا، وَمِنْ هَذِهِ الْحَالاَتِ وَالأَْمَاكِنِ مَا يَأْتِي:
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فِي رَمَضَانَ أَفْضَل مِنْ دَفْعِهَا فِي غَيْرِهِ، لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَل؟ قَال: صَدَقَةٌ فِي رَمَضَانَ (2) . وَلأَِنَّ الْفُقَرَاءَ فِيهِ يَضْعُفُونَ وَيَعْجِزُونَ عَنِ الْكَسْبِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ. وَتَتَأَكَّدُ فِي الأَْيَّامِ الْفَاضِلَةِ كَعَشْرِ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 371.
(2) حديث: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصدقة أفضل؟ قال: صدقة في رمضان ". أخرجه الترمذي (سنن الترمذي 3 / 52 نشر دار الكتب العلمية) من حديث أنس - رضي الله عنه - وفي سنده صدقة بن موسى وفيه مقال. قال الترمذي: هذا حديث غريب، وصدقة بن موسى ليس عندهم (جامع الأصول في أحاديث الرسول بتحقيق الأرناؤوط 9 / 261)(26/342)
ذِي الْحِجَّةِ، وَأَيَّامِ الْعِيدِ، وَكَذَا فِي الأَْمَاكِنِ الشَّرِيفَةِ، كَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَفِي الْغَزْوِ، وَالْحَجِّ، وَعِنْدَ الأُْمُورِ الْمُهِمَّةِ، كَالْكُسُوفِ وَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ (1) .
ثُمَّ نَقَل عَنِ الأَْذْرَعِيِّ قَوْلَهُ: وَلاَ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ أَرَادَ التَّطَوُّعَ بِصَدَقَةٍ، أَوْ بِرٍّ فِي رَجَبٍ، أَوْ شَعْبَانَ مَثَلاً، أَنَّ الأَْفْضَل لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إِلَى رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الأَْوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ، بَل الْمُسَارَعَةُ إِلَى الصَّدَقَةِ أَفْضَل بِلاَ شَكٍّ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ التَّصَدُّقَ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ مِنَ الأَْيَّامِ الْفَاضِلَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِمَّا يَقَعُ فِي غَيْرِهَا (2) .
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: وَفِي أَوْقَاتِ الْحَاجَةِ أَفْضَل مِنْهَا فِي غَيْرِهَا (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} (4) .
وَعَلَّل الْحَنَابِلَةُ فَضْل الصَّدَقَةِ فِي رَمَضَانَ بِأَنَّ الْحَسَنَاتِ تُضَاعَفُ فِيهِ، وَلأَِنَّ فِيهِ إِعَانَةً عَلَى أَدَاءِ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ، وَمَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ (5) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 121.
(2) مغني المحتاج 3 / 121.
(3) كشاف القناع 2 / 296.
(4) سورة البلد الآية (14) .
(5) المغني 3 / 82.(26/342)
وَيُسْتَحَبُّ اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا، التَّوْسِيعُ عَلَى الْعِيَال، وَالإِْحْسَانُ إِلَى الأَْقَارِبِ وَالْجِيرَانِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ - لاَ سِيَّمَا فِي عَشَرَةٍ آخِرَهُ؛ لأَِنَّ فِيهِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَهُوَ أَفْضَل مِمَّا عَدَاهُ مِنَ الأَْيَّامِ الأُْخْرَى (1)
الرُّجُوعُ فِي الصَّدَقَةِ:
29 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ لِلْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَرْجِعَ فِي صَدَقَتِهِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالصَّدَقَةِ الثَّوَابُ، وَقَدْ حَصَل، وَإِنَّمَا الرُّجُوعُ يَكُونُ عِنْدَ تَمَكُّنِ الْخَلَل فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ كَمَا يَقُول السَّرَخْسِيُّ (2) . وَيَسْتَوِي أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ عَلَى غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ فِي أَنْ لاَ رُجُوعَ فِيهَا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
وَعَمَّمَ الْمَالِكِيَّةُ الْحُكْمَ فَقَالُوا: كُل مَا يَكُونُ لِثَوَابِ الآْخِرَةِ لاَ رُجُوعَ فِيهَا، وَلَوْ مِنْ وَالِدٍ لِوَلَدِهِ (4) لَكِنَّهُمْ قَالُوا: لِلْوَالِدِ أَنْ يَعْتَصِرَ مَا وَهَبَهُ لاِبْنِهِ وَذَلِكَ بِشُرُوطٍ تُذْكَرُ فِي (هِبَةٌ) .
وَنُصُوصُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَتَّفِقُ مَعَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ صِحَّةِ رُجُوعِ الْمُتَصَدِّقِ
__________
(1) أسنى المطالب شرح الروض 1 / 406.
(2) المبسوط للسرخسي 12 / 92، وابن عابدين 4 / 522.
(3) المبسوط 12 / 92.
(4) الفواكه الدواني 2 / 217.(26/343)
فِي صَدَقَتِهِ (1) أَمَّا الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ فَتُذْكَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (هِبَةٌ) .
صَدَقَةُ الْفِطْرِ
انْظُرْ: زَكَاةُ الْفِطْرِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 684، ومطالب أولي النهى 4 / 104، وروضة الطالبين 4 / 363.(26/343)
صَدِيدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - فِي اللُّغَةِ: صَدِيدُ الْجُرْحِ: مَاؤُهُ الرَّقِيقُ الْمُخْتَلِطُ بِالدَّمِ قَبْل أَنْ يَغْلُظَ فَإِنْ غَلُظَ سُمِّيَ مِدَّةً (بِكَسْرِ الْمِيمِ) . وَالصَّدِيدُ فِي الْقُرْآنِ: مَا يَسِيل مِنْ جُلُودِ أَهْل النَّارِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقَيْحُ:
2 - الْقَيْحُ: الْمِدَّةُ الْخَالِصَةُ الَّتِي لاَ يُخَالِطُهَا دَمٌ (2) .
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالصَّدِيدِ:
حُكْمُهُ مِنْ حَيْثُ النَّجَاسَةُ وَالطَّهَارَةُ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ الصَّدِيدَ نَجِسٌ كَالدَّمِ، لأَِنَّهُ مِنَ الْخَبَائِثِ، وَالطِّبَاعُ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة (صدد) .
(2) المعجم الوسيط ولسان العرب والحطاب مع المواق 1 / 104 - 105.(26/344)
السَّلِيمَةُ تَسْتَخْبِثُهُ (1) .
انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِهِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ الصَّدِيدِ مِنَ الْجُرْحِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: لاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ الصَّدِيدِ مِنَ الْجُرْحِ؛ لأَِنَّ النَّجَاسَةَ الَّتِي تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَهُمْ هِيَ: مَا خَرَجَتْ مِنَ السَّبِيلَيْنِ فَقَطْ، أَمَّا مَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَسَا الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَقَامَ أَحَدُهُمَا يُصَلِّي، فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْكُفَّارِ بِسَهْمٍ فَنَزَعَهُ وَصَلَّى وَدَمُهُ يَجْرِي، وَعَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ (3) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ النَّجِسِ مِنَ الآْدَمِيِّ الْحَيِّ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ أَوْ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، لِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: دَخَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَفِيَّةَ فَقَرَّبَتْ لَهُ عِرْقًا فَأَكَل فَأَتَى الْمُؤَذِّنُ فَقَال: الْوُضُوءَ
__________
(1) البدائع 1 / 60 والدسوقي 1 / 56، ومغني المحتاج 1 / 79، وكشاف القناع 1 / 124، والمغني 1 / 186.
(2) مغني المحتاج 1 / 32، والدسوقي 1 / 114 - 115.
(3) حديث: " أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حرسا المسلمين. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 136 - ط. عزت عبيد دعاس) من حديث جابر بن عبد الله، وصححه ابن خزيمة (1 / 24 - ط. المكتب الإسلامي) .(26/344)
الْوُضُوءَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا عَلَيْنَا الْوُضُوءُ فِيمَا يَخْرُجُ وَلَيْسَ عَلَيْنَا فِيمَا يَدْخُل (1) ، عَلَّقَ الْحُكْمَ بِكُل مَا يَخْرُجُ، أَوْ بِمُطْلَقِ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمَخْرَجِ، إِلاَّ أَنَّ خُرُوجَ الطَّاهِرِ لَيْسَ بِمُرَادٍ فَبَقِيَ خُرُوجُ النَّجِسِ مُرَادًا.
وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ، أَوْ رُعَافٌ، أَوْ قَلْسٌ، أَوْ مَذْيٌ، فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلاَتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لاَ يَتَكَلَّمُ (2) ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ النَّجِسِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ.
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ لَمَّا اسْتُحِيضَتْ: تَوَضَّئِي فَإِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ (3) ، أَمَرَهَا بِالْوُضُوءِ وَعَلَّل بِانْفِجَارِ دَمِ
__________
(1) حديث أبي أمامة: إنما علينا الوضوء. أخرجه الطبراني (8 / 249 - ط وزارة الأوقاف العراقية) وأورده الهيثمي في المجمع (2 / 152 - ط. القدسي) وأعله بضعف راويين فيه.
(2) حديث: " من أصابه قيء أو رعاف أو قلس ". أخرجه ابن ماجه (1 / 385، 389 ط. الحلبي) من حديث عائشة، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 223 ط دار الجنان) " هذا إسناد ضعيف ".
(3) حديث قوله لفاطمة بنت أبي حبيش: " توضئي. . . . ". حديث عائشة بلفظ: " إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي " ولم نهتد إلى اللفظ الوارد في البحث.(26/345)
الْعِرْقِ لاَ بِالْمُرُورِ عَلَى الْمَخْرَجِ، وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْوُضُوءُ مِنْ كُل دَمٍ سَائِلٍ (1) وَالأَْخْبَارُ فِي هَذَا الْبَابِ وَرَدَتْ مَوْرِدَ الاِسْتِفَاضَةِ، حَتَّى وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا مِثْل ذَلِكَ، مِنْهُمْ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ (2) .
5 - وَعَلَى ذَلِكَ إِنْ سَال الصَّدِيدُ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ وَالْقُرْحِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ لِوُجُودِ الْحَدَثِ وَخُرُوجِ النَّجِسِ، وَهُوَ انْتِقَال النَّجِسِ مِنَ الْبَاطِنِ إِلَى الظَّاهِرِ، لَكِنَّهُ لاَ يَنْقُضُ إِلاَّ إِذَا سَال وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، فَلَوْ ظَهَرَ الصَّدِيدُ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ وَلَمْ يَسِل لَمْ يَكُنْ حَدَثًا؛ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَسِل كَانَ فِي مَحَلِّهِ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَتِرًا بِالْجِلْدَةِ، وَانْشِقَاقُهَا يُوجِبُ زَوَال السُّتْرَةِ لاَ زَوَال الصَّدِيدِ عَنْ مَحَلِّهِ، وَلاَ حُكْمَ لِلنَّجَسِ مَا دَامَ فِي مَحَلِّهِ، فَإِذَا سَال عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ فَقَدِ انْتَقَل عَنْ مَحَلِّهِ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ.
وَعِنْدَ زُفَرَ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ سَوَاءٌ سَال عَنْ مَحَلِّهِ أَمْ لَمْ يَسِل؛ لأَِنَّ الْحَدَثَ الْحَقِيقِيَّ عِنْدَهُ هُوَ ظُهُورُ النَّجِسِ مِنَ الآْدَمِيِّ الْحَيِّ، وَقَدْ
__________
(1) حديث تميم الداري: " الوضوء من كل دم سائل ". أخرجه الدارقطني (1 / 157 - ط دار المحاسن) وأعله بانقطاع في سنده وبجهالة راويين فيه.
(2) البدائع 1 / 24.(26/345)
ظَهَرَ؛ وَلأَِنَّ ظُهُورَ النَّجِسِ اعْتُبِرَ حَدَثًا فِي السَّبِيلَيْنِ، سَال عَنْ رَأْسِ الْمَخْرَجِ أَوْ لَمْ يَسِل، فَكَذَا فِي غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ (1) .
6 - وَالْحَنَابِلَةُ كَالْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الأَْصْل انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ النَّجِسِ مِنَ الْبَدَنِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ أَمْ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا اسْتَدَل بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، إِلاَّ أَنَّ الَّذِي يَنْقُضُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْكَثِيرُ مِنْ ذَلِكَ دُونَ الْيَسِيرِ، قَال الْقَاضِي: الْيَسِيرُ لاَ يَنْقُضُ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الدَّمِ: إِذَا كَانَ فَاحِشًا فَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى بَزَقَ دَمًا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، وَابْنُ عُمَرَ عَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ دَمٌ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، قَال أَحْمَدُ: عِدَّةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ تَكَلَّمُوا فِيهِ.
وَحَدُّ الْكَثِيرِ الَّذِي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي نَصِّ أَحْمَدَ: هُوَ مَا فَحُشَ فِي نَفْسِ كُل أَحَدٍ بِحَسَبِهِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ: الْفَاحِشُ مَا فَحُشَ فِي قَلْبِكَ، قَال الْخَلاَّل: إِنَّهُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ، قَال فِي الشَّرْحِ: لأَِنَّ اعْتِبَارَ حَال الإِْنْسَانِ بِمَا يَسْتَفْحِشُهُ غَيْرُهُ فِيهِ حَرَجٌ فَيَكُونُ مَنْفِيًّا، وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: إِنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا يَفْحُشُ فِي نُفُوسِ أَوْسَاطِ النَّاسِ، وَلَوِ اسْتَخْرَجَ كَثِيرَهُ بِقُطْنَةٍ نَقَضَ أَيْضًا؛
__________
(1) البدائع 1 / 25.(26/346)
لأَِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا خَرَجَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمُعَالَجَةٍ لاَ أَثَرَ لَهُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ وَعَدَمِهِ، وَقَدْ نُقِل عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِل: كَمِ الْكَثِيرُ؟ فَقَال: شِبْرٌ فِي شِبْرٍ، وَفِي مَوْضِعٍ قَال: قَدْرُ الْكَفِّ فَاحِشٌ، وَفِي مَوْضِعٍ قَال: الَّذِي يُوجِبُ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مِقْدَارَ مَا يَرْفَعُهُ الإِْنْسَانُ بِأَصَابِعِهِ الْخَمْسِ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، فَقِيل لَهُ: إِنْ كَانَ مِقْدَارَ عَشَرَةِ أَصَابِعَ؟ فَرَآهُ كَثِيرًا (1)
صَلاَةُ مَنْ تَنَجَّسَ ثَوْبُهُ أَوْ بَدَنُهُ بِالصَّدِيدِ:
7 - مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الصَّلاَةِ: طَهَارَةَ الثَّوْبِ، وَالْبَدَنِ، وَالْمَكَانِ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَإِذَا أَصَابَ الْبَدَنَ أَوِ الثَّوْبَ شَيْءٌ مِنَ الصَّدِيدِ فَإِنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ يُعْفَى عَنِ الْيَسِيرِ وَتَجُوزُ الصَّلاَةُ بِهِ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ غَالِبًا لاَ يَسْلَمُ مِنْ مِثْل هَذَا؛ وَلأَِنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
8 - لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْيَسِيرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ غَيْرِ زُفَرَ قَدْرُ الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ، فَإِنْ زَادَ لَمْ تَجُزِ الصَّلاَةُ بِهِ، وَقَال زُفَرُ: لاَ يُعْفَى عَنْهُ؛ لأَِنَّ قَلِيل النَّجَاسَةِ وَكَثِيرَهَا سَوَاءٌ.
وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُعْفَى عَمَّا دُونَ الدِّرْهَمِ، أَمَّا قَدْرُ الدِّرْهَمِ فَقَدْ قِيل: إِنَّهُ مِنَ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 124 - 125، والمغني 1 / 184 - 186.(26/346)
الْكَثِيرِ وَقِيل: إِنَّهُ مِنَ الْقَلِيل.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قِيل: يُعْفَى عَنِ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ عَلَى الرَّاجِحِ مَا لَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهِ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يَخْلُو مِنْهَا غَالِبًا، فَلَوْ وَجَبَ الْغُسْل فِي كُل مَرَّةٍ لَشَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، أَمَّا مَا خَرَجَ مِنْهَا بِفِعْلِهِ فَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ فَقَطْ، وَقِيل: يُعْفَى عَنِ الْيَسِيرِ فَقَطْ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَتَعَافَاهُ النَّاسُ فِي الْعَادَةِ،
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْيَسِيرُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي لَمْ يُنْقِضِ الْوُضُوءَ، أَيْ: مَا لاَ يَفْحُشْ فِي النَّفْسِ (1) .
صَدِيقٌ
انْظُرْ: صَدَاقَةٌ
__________
(1) الاختيار 1 / 32، والهداية 1 / 35، والدسوقي 1 / 73، ومغني المحتاج 1 / 194، والوجيز 1 / 48، والمهذب 1 / 67، وكشاف القناع 1 / 190، وشرح منتهى الإرادات 1 / 102، والحطاب والمواق 1 / 104 - 105.(26/347)
صِرَافَةٌ
انْظُرْ: صَرْفٌ
صُرَدٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَةٌ
صَرَعٌ
انْظُرْ: جُنُونٌ(26/347)
صَرْفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّرْفُ فِي اللُّغَةِ: يَأْتِي بِمَعَانٍ، مِنْهَا: رَدُّ الشَّيْءِ عَنِ الْوَجْهِ، يُقَال: صَرَفَهُ يَصْرِفُهُ صَرْفًا إِذَا رَدَّهُ وَصَرَفْتُ الرَّجُل عَنِّي فَانْصَرَفَ. وَمِنْهَا: الإِْنْفَاقُ، كَقَوْلِكَ: صَرَفْتُ الْمَال، أَيْ: أَنْفَقْتُهُ. وَمِنْهَا الْبَيْعُ، كَمَا تَقُول: صَرَفْتُ الذَّهَبَ بِالدَّرَاهِمِ، أَيْ: بِعْتُهُ. وَاسْمُ الْفَاعِل مِنْ هَذَا صَيْرَفِيٌّ، وَصَيْرَفٌ، وَصَرَّافٌ لِلْمُبَالَغَةِ. وَمِنْهَا الْفَضْل وَالزِّيَادَةُ.
قَال ابْنُ فَارِسٍ: الصَّرْفُ: فَضْل الدِّرْهَمِ فِي الْجَوْدَةِ عَلَى الدِّرْهَمِ، وَالدِّينَارِ عَلَى الدِّينَارِ (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، بِأَنَّهُ بَيْعُ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ، جِنْسًا بِجِنْسٍ، أَوْ بِغَيْرِ جِنْسٍ، فَيَشْمَل بَيْعَ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، كَمَا يَشْمَل بَيْعَ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالثَّمَنِ مَا خُلِقَ لِلثَّمَنِيَّةِ، فَيَدْخُل فِيهِ بَيْعُ الْمَصُوغِ بِالْمَصُوغِ أَوْ بِالنَّقْدِ (2) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب في المادة.
(2) ابن عابدين 4 / 334، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 5 / 215، والهداية مع فتح القدير والعناية 6 / 258، ومغني المحتاج 2 / 25، والمغني لابن قدامة 4 / 41، وشرح منتهى الإرادات 2 / 201.(26/348)
قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: سُمِّيَ بِالصَّرْفِ لِلْحَاجَةِ إِلَى النَّقْل فِي بَدَلَيْهِ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ، أَوْ لأَِنَّهُ لاَ يُطْلَبُ مِنْهُ إِلاَّ الزِّيَادَةُ، إِذْ لاَ يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ، وَالصَّرْفُ هُوَ الزِّيَادَةُ (1) .
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ بَيْعُ النَّقْدِ بِنَقْدٍ مُغَايِرٍ لِنَوْعِهِ، كَبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، أَمَّا بَيْعُ النَّقْدِ بِنَقْدٍ مِثْلِهِ، كَبَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، أَوْ بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، فَسَمَّوْهُ بِاسْمٍ آخَرَ حَيْثُ قَالُوا: إِنِ اتَّحَدَ جِنْسُ الْعِوَضَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِالْوَزْنِ فَهُوَ الْمُرَاطَلَةُ، وَإِنْ كَانَ بِالْعَدَدِ فَهُوَ الْمُبَادَلَةُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْعُ:
2 - الْبَيْعُ بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ: مُبَادَلَةُ الْمَال بِالْمَال بِالتَّرَاضِي، كَمَا عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ (3) أَوْ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى غَيْرِ مَنَافِعَ، كَمَا قَال الْمَالِكِيَّةُ (4) أَوْ: هُوَ مُعَاوَضَةٌ مَالِيَّةٌ تُفِيدُ مِلْكَ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ عَلَى التَّأْبِيدِ، كَمَا عَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ (5) ،
__________
(1) الهداية مع الفتح 6 / 258، 259.
(2) الدسوقي 3 / 2، والحطاب 4 / 226، وانظر حاشية الصاوي على الشرح الصغير 3 / 63.
(3) فتح القدير مع الهداية 5 / 445.
(4) الشرح الصغير للدردير 3 / 12.
(5) حاشية القليوبي على شرح المنهاج 2 / 152.(26/348)
أَوْ: هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَال بِالْمَال تَمْلِيكًا وَتَمَلُّكًا كَمَا عَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ (1) .
وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَشْمَل الْبَيْعُ الصَّرْفَ، وَالسَّلَمَ، وَالْمُقَايَضَةَ، وَالْبَيْعَ الْمُطْلَقَ. فَالصَّرْفُ قِسْمٌ مِنَ الْبَيْعِ بِهَذَا الْمَعْنَى. أَمَّا الْبَيْعُ بِالْمَعْنَى الأَْخَصِّ فَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى غَيْرِ مَنَافِعَ، أَحَدُ عِوَضَيْهِ غَيْرُ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ (2) . وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ الْبَيْعُ قَسِيمًا لِلصَّرْفِ، وَبِمَا أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ أَشْهَرُ أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ سُمِّيَ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ (3)
ب - الرِّبَا:
3 - الرِّبَا لُغَةً: الزِّيَادَةُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ: فَضْلٌ خَالٍ عَنْ عِوَضٍ بِمِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ مَشْرُوطٌ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ (4) ، وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الصَّرْفَ إِذَا اخْتَلَّتْ شُرُوطُهُ يَدْخُلُهُ الرِّبَا.
ج - السَّلَمُ:
4 - السَّلَمُ هُوَ: بَيْعُ شَيْءٍ مُؤَجَّلٍ بِثَمَنٍ مُعَجَّلٍ (5) .
__________
(1) المغني والشرح الكبير 4 / 2، كشاف القناع 3 / 146.
(2) نفس المراجع السابقة.
(3) مجلة الأحكام العدلية م (120) .
(4) تنوير الأبصار على هامش ابن عابدين 4 / 176، 177.
(5) مجلة الأحكام العدلية م (123) .(26/349)
د - الْمُقَايَضَةُ:
5 - الْمُقَايَضَةُ هِيَ: بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ، أَيْ: مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ (1) .
مَشْرُوعِيَّةُ الصَّرْفِ:
6 - بَيْعُ الأَْثْمَانِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ أَيِ: الصَّرْفُ جَائِزٌ إِذَا تَوَافَرَتْ فِيهِ شُرُوطُ الصِّحَّةِ الآْتِيَةُ؛ لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ قَال تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) وَقَدْ وَرَدَ فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ مِنْهَا مَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (3) أَيْ: بِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ مِثْلاً بِمِثْلٍ الْحَدِيثَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقَدْرِ، لاَ فِي الصُّورَةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ (4) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م (123) .
(2) سورة البقرة - الآية (275) .
(3) الهداية مع الفتح 6 / 258، 260، والبدائع 5 / 215، والمغني 4 / 30 وحديث: " الذهب بالذهب والفضة بالفضة ". أخرجه مسلم (3 / 1211 - ط. الحلبي) .
(4) العناية على هامش الهداية 6 / 260. وحديث: " جيدها ورديئها سواء ". قال الزيلعي في نصب الراية (4 / 37 - ط المجلس العلمي) : " غريب " يعني أنه لا أصل له، ثم قال: ومعناه يؤخذ من إطلاق حديث أبي سعيد الذي سيأتي.(26/349)
بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ (1) .
وَحَيْثُ إِنَّ عَقْدَ الصَّرْفِ بَيْعُ الأَْثْمَانِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَلاَ يُقْصَدُ بِهِ إِلاَّ الزِّيَادَةُ وَالْفَضْل دُونَ الاِنْتِفَاعِ بِعَيْنِ الْبَدَل فِي الْغَالِبِ، وَالرِّبَا كَذَلِكَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَفَضْلٌ، وَضَعَ الْفُقَهَاءُ لِجَوَازِ الصَّرْفِ شُرُوطًا تُمَيِّزُ الرِّبَا عَنِ الصَّرْفِ، وَتَمْنَعُ النَّاسَ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الرِّبَا.
شُرُوطُ الصَّرْفِ:
أَوَّلاً - تَقَابُضُ الْبَدَلَيْنِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الصَّرْفِ تَقَابُضُ الْبَدَلَيْنِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ قَبْل افْتِرَاقِهِمَا. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ أَنَّ الْمُتَصَارِفَيْنِ إِذَا
__________
(1) قال ابن الهمام: الشف بالكسر من الأضداد، يقال للنقصان والزيادة، والمراد هنا لا تزيدوا بعضها على بعض (فتح القدير 6 / 260) . وحديث: " لا تبيعوا الذهب بالذهب ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 380 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1208 - ط. الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري.(26/350)
افْتَرَقَا قَبْل أَنْ يَتَقَابَضَا، أَنَّ الصَّرْفَ فَاسِدٌ (1) .
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ (2) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ (3) وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا (4) ، وَنَهَى أَنْ يُبَاعَ غَائِبٌ بِنَاجِزٍ (5) ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ (6) .
8 - وَالاِفْتِرَاقُ الْمَانِعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّرْفِ هُوَ افْتِرَاقُ الْعَاقِدَيْنِ بِأَبْدَانِهِمَا عَنْ مَجْلِسِهِمَا، فَيَأْخُذُ هَذَا فِي جِهَةٍ، وَهَذَا فِي جِهَةٍ أُخْرَى، أَوْ يَذْهَبُ أَحَدُهُمَا وَيَبْقَى الآْخَرُ، حَتَّى لَوْ
__________
(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 5 / 215، فتح القدير على الهداية 6 / 259، والقوانين الفقهية ص 251، جواهر الإكليل 2 / 10، ومغني المحتاج 2 / 25، والمغني لابن قدامة 4 / 41، وكشاف القناع 3 / 266.
(2) حديث: " الذهب بالذهب. . . " تقدم تخريجه فـ 6.
(3) حديث: " بيعوا. . . " أخرجه الترمذي (3532 ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت وأصله في مسلم.
(4) حديث: " نهى عن بيع الذهب بالورق دينا ". أخرجه أحمد (4 / 368 - ط. الميمنية) من حديث البراء بن عازب، وإسناده صحيح.
(5) حديث: " نهى أن يباع غائب بناجز ". تقدم فـ 6.
(6) حيث: " الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 347 - ط السلفية) من حديث عمر بن الخطاب.(26/350)
كَانَا فِي مَجْلِسِهِمَا لَمْ يَبْرَحَا عَنْهُ لَمْ يَكُونَا مُفْتَرِقَيْنِ وَإِنْ طَال مَجْلِسُهُمَا، لاِنْعِدَامِ الاِفْتِرَاقِ بِالأَْبْدَانِ، وَكَذَا إِذَا قَامَا عَنْ مَجْلِسِهِمَا فَذَهَبَا مَعًا فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى مَنْزِل أَحَدِهِمَا أَوْ إِلَى الصَّرَّافِ فَتَقَابَضَا عِنْدَهُ، وَلَمْ يُفَارِقْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، جَازَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ الْمَجْلِسَ هُنَا كَمَجْلِسِ الْخِيَارِ، كَمَا حَرَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1)
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ صُوَرًا أُخْرَى أَيْضًا لاَ تُعْتَبَرُ افْتِرَاقًا بِالأَْبْدَانِ، فَيَصِحُّ فِيهَا الصَّرْفُ كَمَا إِذَا نَامَ الْعَاقِدَانِ فِي الْمَجْلِسِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ (2) وَلاَ بُدَّ فِي التَّقَابُضِ مِنَ الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ، فَلاَ تَكْفِي الْحَوَالَةُ وَإِنْ حَصَل الْقَبْضُ بِهَا فِي الْمَجْلِسِ (3) .
9 - وَهَذَا الشَّرْطُ أَيِ: التَّقَابُضُ مُعْتَبَرٌ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصَّرْفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بَيْعَ الْجِنْسِ بِجِنْسِهِ، كَبَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ كَبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ (4) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ مَنَعُوا التَّأْخِيرَ فِي الصَّرْفِ
__________
(1) البدائع 5 / 215، فتح القدير 6 / 259، وتكملة المجموع للسبكي 10 / 9، ومغني المحتاج 2 / 24، وكشاف القناع 3 / 266.
(2) البدائع 5 / 215.
(3) القوانين الفقهية ص 251، ومغني المحتاج 2 / 22.
(4) البدائع 5 / 216.(26/351)
مُطْلَقًا، وَقَالُوا: يَحْرُمُ صَرْفُ مُؤَخَّرٍ إِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ طَوِيلاً، كَمَا يَحْرُمُ إِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ كِلاَ الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا مَعَ فُرْقَةِ بَدَنٍ.
وَيُمْنَعُ التَّأْخِيرُ عِنْدَهُمْ وَلَوْ كَانَ غَلَبَةً، كَأَنْ يَحُول بَيْنَهُمَا عَدُوٌّ أَوْ سَيْلٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَال ابْنُ جُزَيٍّ: إِنْ تَفَرَّقَا قَبْل التَّقَابُضِ غَلَبَةً فَقَوْلاَنِ: الإِْبْطَال وَالتَّصْحِيحُ (1) أَمَّا التَّأْخِيرُ الْيَسِيرُ بِدُونِ فُرْقَةِ بَدَنٍ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ كَرَاهَتُهُ، وَمَذْهَبُ الْمَوَّازِيَّةِ وَالْعُتْبِيَّةِ جَوَازُهُ (2) .
قَال الدَّرْدِيرُ: وَأَمَّا دُخُول الصَّيْرَفِيِّ حَانُوتَهُ لِتَقْلِيبِ الدَّرَاهِمِ فَقِيل: بِالْكَرَاهَةِ، وَقِيل: بِالْجَوَازِ. وَكَذَلِكَ دُخُولُهُ الْحَانُوتَ لِيُخْرِجَ مِنْهُ الدَّرَاهِمَ (3) .
وَفِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل لِلْحَطَّابِ: سُئِل مَالِكٌ عَنِ الرَّجُل يَصْرِفُ مِنَ الصَّرَّافِ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ، وَيَقُول لَهُ: اذْهَبْ بِهَا فَزِنْهَا عِنْدَ الصَّرَّافِ، وَأَرِهِ وُجُوهَهَا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ فَقَال: أَمَّا الشَّيْءُ الْقَرِيبُ فَأَرْجُو أَنْ لاَ يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، وَهُوَ يُشْبِهُ عِنْدِي مَا لَوْ قَامَا إِلَيْهِ جَمِيعًا. وَنُقِل عَنِ ابْنِ رُشْدٍ: أَسْتَخِفُّ ذَلِكَ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 10، والشرح الصغير 3 / 49، والقوانين الفقهية ص 250.
(2) جواهر الإكليل 2 / 10.
(3) الشرح الصغير 3 / 49.(26/351)
لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ، إِذْ غَالِبُ النَّاسِ لاَ يُمَيِّزُونَ النُّقُودَ؛ وَلأَِنَّ التَّقَابُضَ قَدْ حَصَل بَيْنَهُمَا قَبْل ذَلِكَ (1) . فَلَمْ يَكُونَا بِفِعْلِهِمَا هَذَا مُخَالِفَيْنِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ (2) وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمِقْدَارُ لاَ يُسَامَحُ فِيهِ فِي الصَّرْفِ لَوَقَعَ النَّاسُ بِذَلِكَ فِي حَرَجٍ شَدِيدٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُول: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (3) .
الْوَكَالَةُ بِالْقَبْضِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّهُ تَصِحُّ الْوَكَالَةُ بِالْقَبْضِ فِي الصَّرْفِ، فَلَوْ وَكَّل الْمُتَصَارِفَانِ مَنْ يَقْبِضُ لَهُمَا، أَوْ وَكَّل أَحَدُهُمَا مَنْ يَقْبِضُ لَهُ، فَتَقَابَضَ الْوَكِيلاَنِ، أَوْ تَقَابَضَ أَحَدُ الْمُتَصَارِفَيْنِ وَوَكِيل الآْخَرِ قَبْل تَفَرُّقِ الْمُوَكَّلَيْنِ، أَوْ قَبْل تَفَرُّقِ الْمُوَكَّل وَالْعَاقِدِ الثَّانِي الَّذِي لَمْ يُوَكِّل جَازَ الْعَقْدُ، وَصَحَّ الْقَبْضُ؛ لأَِنَّ قَبْضَ الْوَكِيل كَقَبْضِ مُوَكِّلِهِ. وَإِنِ افْتَرَقَ الْمُوَكَّلاَنِ، أَوِ الْمُوَكَّل وَالْعَاقِدُ الثَّانِي قَبْل الْقَبْضِ، بَطَل الصَّرْفُ، افْتَرَقَ الْوَكِيلاَنِ أَوْ لاَ فَالْمُعْتَبَرُ فِي الاِفْتِرَاقِ الْمُخِل لِلصَّرْفِ هُوَ افْتِرَاقُ الْعَاقِدَيْنِ لاَ الْوَكِيلَيْنِ (4)
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 303.
(2) حديث: " الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء ". تقدم تخريجه ف 6.
(3) سورة الحج (78) .
(4) البدائع 5 / 516، الاختيار 2 / 39، ومغني المحتاج 2 / 22، وكشاف القناع 3 / 266.(26/352)
فَإِذَا عَقَدَ وَوَكَّل غَيْرَهُ فِي الْقَبْضِ، وَقَبَضَ الْوَكِيل بِحَضْرَةِ مُوَكِّلِهِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ صَحَّ. وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1)) .
وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ: أَنَّهُ إِنْ وَكَّل غَيْرَهُ فِي الْقَبْضِ بَطَل الصَّرْفُ، وَلَوْ قَبَضَ بِحَضْرَةِ مُوَكِّلِهِ؛ لأَِنَّهُ مَظِنَّةُ التَّأْخِيرِ (2) .
قَبْضُ بَعْضِ الْعِوَضَيْنِ:
11 - إِذَا حَصَل التَّقَابُضُ فِي بَعْضِ الثَّمَنِ دُونَ بَعْضِهِ وَافْتَرَقَا بَطَل الصَّرْفُ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا حَصَل فِيهِ التَّقَابُضُ، وَلَهُمْ فِيهِ اتِّجَاهَانِ:
الأَْوَّل: صِحَّةُ الْعَقْدِ فِيمَا قُبِضَ وَبُطْلاَنُهُ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ. وَهَذَا رَأْيُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: بُطْلاَنُ الْعَقْدِ فِي الْكُل، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَوَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) .
__________
(1) المراجع السابقة، وانظر مواهب الجليل 4 / 303 وما بعدها، جواهر الإكليل 2 / 10، والشرح الصغير 3 / 49، والقوانين الفقهية ص 251، والمغني 4 / 60.
(2) جواهر الإكليل 2 / 10، والشرح الصغير 3 / 49، والقوانين الفقهية ص 251.
(3) فتح القدير مع الهداية 6 / 267، الاختيار للموصلي 2 / 41، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 138، ومواهب الجليل للحطاب 4 / 306، وبداية المجتهد 2 / 173، وحاشية القليوبي مع عميرة 2 / 167، ونهاية المحتاج 3 / 412، وكشاف القناع على متن الإقناع 3 / 266، والمغني لابن قدامة 4 / 60.(26/352)
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الأَْمْثِلَةِ وَالْفُرُوعِ الَّتِي ذَكَرُوهَا:
12 - أ - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ: لَوْ بَاعَ إِنَاءَ فِضَّةٍ، وَقَبَضَ بَعْضَ ثَمَنِهِ، وَافْتَرَقَا، صَحَّ فِيمَا قُبِضَ وَالإِْنَاءُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَبَطَل فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ، سَوَاءٌ أَبَاعَهُ بِفِضَّةٍ أَمْ بِذَهَبٍ؛ لأَِنَّهُ صَرْفٌ وَهُوَ يَبْطُل بِالاِفْتِرَاقِ قَبْل الْقَبْضِ، فَيَتَقَدَّرُ الْفَسَادُ بِقَدْرِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَلاَ يَشِيعُ لأَِنَّهُ طَارِئٌ.
وَلاَ يَكُونُ هَذَا تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ أَيْضًا؛ لأَِنَّ التَّفْرِيقَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ، لاَ مِنْ جِهَةِ الْعَاقِدِ، كَمَا حَرَّرَهُ الزَّيْلَعِيُّ. وَقَال الْبَابَرْتِيُّ فِي تَعْلِيلِهِ: تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْل تَمَامِهَا لاَ يَجُوزُ، وَهَاهُنَا الصَّفْقَةُ تَامَّةٌ، فَلاَ يَكُونُ مَانِعًا (1) .
13 - ب - ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِنِ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا الصَّرْفُ عَلَى أَنْ يَتَأَخَّرَ مِنْهُ شَيْءٌ فُسِخَ، وَإِنْ عَقَدَا عَلَى الْمُنَاجَزَةِ ثُمَّ أَخَّرَ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ مِنْهُ انْتُقِضَ الصَّرْفُ فِيمَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّظِرَةُ بِاتِّفَاقٍ. فَإِنْ كَانَتِ النَّظِرَةُ فِي أَقَل مِنْ صَرْفِ دِينَارٍ انْتُقِضَ صَرْفُ دِينَارٍ، وَإِنْ
__________
(1) الهداية مع الفتح 6 / 267، والزيلعي 4 / 138.(26/353)
كَانَ أَكْثَرَ مِنْ صَرْفِ دِينَارٍ انْتُقِضَ صَرْفُ دِينَارَيْنِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَكْثَرَ مِنْ دِينَارَيْنِ انْتُقِضَ صَرْفُ ثَلاَثَةِ دَنَانِيرَ، وَهَكَذَا أَبَدًا، وَمَا وَقَعَ فِيهِ التَّنَاجُزُ عَلَى اخْتِلاَفٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَطَّابُ (1) .
وَمِثْلُهُ ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ، ثُمَّ قَال: وَمَبْنَى الْخِلاَفِ فِي الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ يُخَالِطُهَا حَرَامٌ وَحَلاَلٌ، هَل تَبْطُل الصَّفْقَةُ كُلُّهَا أَوِ الْحَرَامُ مِنْهَا فَقَطْ (2) ؟
14 - ج - وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ (3) أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ فِضَّةٍ، وَأَقْبَضَ لِلْبَائِعِ مِنْهَا خَمْسَةً وَتَفَرَّقَا بَعْدَ قَبْضِ الْخَمْسِ فَقَطْ لَمْ يَبْطُل فِيمَا قَابَلَهَا. وَيَبْطُل فِي بَاقِي الْمَبِيعِ. وَلَوِ اسْتَقْرَضَ مِنَ الْبَائِعِ خَمْسَةً غَيْرَهَا فِي الْمَجْلِسِ، وَأَعَادَهَا لَهُ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ. بِخِلاَفِ مَا لَوِ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ تِلْكَ الْخَمْسَةَ فَأَعَادَهَا لَهُ، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَبْطُل فِيهِمَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ (4) .
15 - د - وَذَكَرَ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ قَبَضَ الْبَعْضَ فِي السَّلَمِ وَالصَّرْفِ، ثُمَّ افْتَرَقَا قَبْل تَقَابُضِ الْبَاقِي بَطَل الْعَقْدُ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ فَقَطْ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ (5) .
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب 4 / 306.
(2) بداية المجتهد 2 / 173.
(3) القليوبي 2 / 167، ونهاية المحتاج 3 / 412.
(4) المرجعين السابقين مع تقديم وتأخير في العبارة.
(5) كشاف القناع 3 / 267.(26/353)
وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ: لَوْ صَارَفَ رَجُلاً دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَيْسَ مَعَهُ إِلاَّ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْتَرِقَا قَبْل قَبْضِ الْعَشَرَةِ كُلِّهَا. فَإِنْ قَبَضَ الْخَمْسَةَ وَافْتَرَقَا بَطَل الصَّرْفُ فِي نِصْفِ الدِّينَارِ. وَهَل يَبْطُل فِي مَا يُقَابِل الْخَمْسَةَ الْمَقْبُوضَةَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ (1) .
ثَانِيًا - الْخُلُوُّ عَنِ الْخِيَارِ:
16 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ) أَنَّ الصَّرْفَ لاَ يَصِحُّ مَعَ خِيَارِ الشَّرْطِ. فَإِنْ شُرِطَ الْخِيَارُ فِيهِ لِكِلاَ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ لأَِحَدِهِمَا فَسَدَ الصَّرْفُ، لأَِنَّ الْقَبْضَ فِي هَذَا الْعَقْدِ شَرْطُ صِحَّةٍ، أَوْ شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى الصِّحَّةِ (2) وَالْخِيَارُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ كَمَا قَال الْكَاسَانِيُّ. قَال ابْنُ الْهُمَامِ، لاَ يَصِحُّ فِي الصَّرْفِ خِيَارُ الشَّرْطِ؛ لأَِنَّهُ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ أَوْ تَمَامَهُ، وَذَلِكَ يُخِل بِالْقَبْضِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 60.
(2) اختلف الفقهاء في القبض: هل هو شرط صحة العقد، أو شرط البقاء على الصحة؟ فقيل: هو شرط الصحة، فعلى هذا ينبغي أن يشترط القبض مقرونا بالعقد إلا أن حالهما قبل الافتراق جعلت كحالة العقد تيسيرا، فإذا وجد القبض فيه يجعل كأنه وجد حالة العقد، وقيل: هو شرط الب ونهاية المحتاج 3 / 412، وشرح منتهى الإرادات 2 / 200) .(26/354)
الْمَشْرُوطِ، وَهُوَ الْقَبْضُ الَّذِي يَحْصُل بِهِ التَّعْيِينُ. لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِذَا أَسْقَطَ الْخِيَارَ فِي الْمَجْلِسِ يَعُودُ الْعَقْدُ إِلَى الْجَوَازِ، لاِرْتِفَاعِهِ قَبْل تَقَرُّرِهِ خِلاَفًا لِزُفَرَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَبْطُل الصَّرْفُ بِتَخَايُرٍ، أَيْ: بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِيهِ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَلْزَمُ بِالتَّفَرُّقِ (2) .
وَهَذَا كُلُّهُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، بِخِلاَفِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ، فَإِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ الْمِلْكَ فَلاَ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ. إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: لاَ يُتَصَوَّرُ فِي النَّقْدِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ خِيَارُ رُؤْيَةٍ، لأَِنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ عَلَى مِثْلِهَا لاَ عَيْنِهَا، حَتَّى لَوْ بَاعَهُ هَذَا الدِّينَارَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، لِصَاحِبِ الدِّينَارِ أَنْ يَدْفَعَ غَيْرَهُ. وَكَذَا لِصَاحِبِ الدَّرَاهِمِ (3) .
ثَالِثًا - الْخُلُوُّ عَنِ اشْتِرَاطِ الأَْجَل:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ فِي الصَّرْفِ إِدْخَال الأَْجَل لِلْعَاقِدَيْنِ أَوْ
__________
(1) البدائع 5 / 219، وفتح القدير مع الهداية 6 / 258، 263، وجواهر الإكليل 2 / 14، والحطاب 4 / 308، ومغني المحتاج 2 / 24.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 201.
(3) فتح القدير على الهداية 6 / 258، والمراجع السابقة، وانظر إرشاد السالك مع أسهل المدارك 2 / 234، والمدونة 4 / 189، والجمل 3 / 103، والبدائع 5 / 219، وتكملة المجموع للسبكي 10 / 8.(26/354)
لأَِحَدِهِمَا فَإِنِ اشْتَرَطَاهُ لَهُمَا، أَوْ لأَِحَدِهِمَا فَسَدَ الصَّرْفُ؛ لأَِنَّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ مُسْتَحَقٌّ قَبْل الاِفْتِرَاقِ، وَالأَْجَل يُفَوِّتُ الْقَبْضَ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ شَرْعًا، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ (1) .
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِنِ اشْتُرِطَ الأَْجَل ثُمَّ أَبْطَل صَاحِبُ الأَْجَل أَجَلَهُ قَبْل الاِفْتِرَاقِ، فَنَقَدَ مَا عَلَيْهِ ثُمَّ افْتَرَقَا عَنْ تَقَابُضٍ، يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ جَائِزًا عِنْدَهُمْ، خِلاَفًا لِزُفَرَ (2) .
رَابِعًا - التَّمَاثُل:
18 - وَهَذَا الشَّرْطُ خَاصٌّ بِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ الصَّرْفِ، وَهُوَ بَيْعُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِجِنْسِهِ.
فَإِذَا بِيعَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، أَوِ الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، يَجِبُ فِيهِ التَّمَاثُل فِي الْوَزْنِ. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ، وَالصِّيَاغَةِ وَنَحْوِهِمَا. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِهِ أَمْ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا. زَادَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلاَ اعْتِبَارَ بِهِ عَدَدًا. وَالشَّرْطُ التَّسَاوِي فِي الْعِلْمِ، لاَ بِحَسَبِ نَفْسِ الأَْمْرِ فَقَطْ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمَا التَّسَاوِيَ، وَكَانَ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ مُتَحَقِّقًا لَمْ يَجُزْ إِلاَّ إِذَا ظَهَرَ فِي الْمَجْلِسِ (3) .
__________
(1) البدائع 5 / 219، ومغني المحتاج 2 / 24، وكشاف القناع للبهوتي 3 / 264.
(2) البدائع 5 / 219، قال الكاساني: وهاتان الشريطتان: (شرط الخلو عن الخيار والأجل) فريعتان لشريطة القبض، إلا أن إحداهما تؤثر في نفس القبض والأخرى في صحته.
(3) ابن عابدين 4 / 234، والقوانين الفقهية ص 251، وجواهر الإكليل 2 / 10، ومغني المحتاج 2 / 24، والمغني لابن قدامة 4 / 39.(26/355)
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَلاَ تَبِيعُوا الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهُمَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ (1)
وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي أَنْوَاعِ الصَّرْفِ.
أَنْوَاعُ الصَّرْفِ:
19 - مِنَ الأَْمْثِلَةِ وَالصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الصَّرْفِ وَالأَْحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِكُل صُورَةٍ، يُمْكِنُ تَقْسِيمُ الصَّرْفِ إِلَى الأَْنْوَاعِ الآْتِيَةِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل - بَيْعُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ: (الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) بِجِنْسِهِ
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا بَاعَ فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ مِثْلاً بِمِثْلٍ فِي الْمِقْدَارِ وَالْوَزْنِ، فَيَحْرُمُ بَيْعُ النَّقْدِ بِجِنْسِهِ تَفَاضُلاً، كَمَا يَحْرُمُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ نَسَاءً (2) وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا
__________
(1) حديث: (لا تبيعوا الذهب بالذهب. . .) تقدم تخريجه ف 6.
(2) فتح القدير مع الهداية 6 / 259، 260، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 134 وما بعدها، والاختيار للموصلي 2 / 40، والشرح الصغير للدردير 3 / 47، 48، وبداية المجتهد 2 / 170 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 22 - 24، والمغني لابن قدامة 4 / 3 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 251، 252.(26/355)
مَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ. . . مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ (1) وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ. وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا غَائِبًا بِنَاجِزٍ (2) وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ وَلاَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ (3) وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلاً بِمِثْلٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَهُوَ رِبًا (4) .
21 - وَلاَ اعْتِبَارَ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فِي الذَّهَبِ
__________
(1) حديث: " الذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد ". تقدم بمعناه ف 6.
(2) الشِِف بالكسر من الأضداد: يقال للنقصان والزيادة، والمراد هنا لا تزيدوا بعضها على بعض (فتح القدير 6 / 260) . وحديث " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل. . . " تقدم ف 6.
(3) حديث: " لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين ". أخرجه مسلم (3 / 1209 - ط. الحلبي) .
(4) حديث: " الذهب بالذهب وزنا بوزن ". أخرجه مسلم (3 / 1212 - ط. الحلبي) .(26/356)
وَالْفِضَّةِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ (1)
وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدَانِ عَلَى عِلْمٍ بِمِقْدَارِ الْعِوَضَيْنِ، وَبِالتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ بَيْعُ النَّقْدِ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً، بِأَنْ لَمْ يَعْلَمِ الْعَاقِدَانِ كَمِّيَّةَ الْعِوَضَيْنِ، وَإِنْ كَانَا فِي نَفْسِ الأَْمْرِ مُتَسَاوِيَيْنِ قَالُوا: وَجَهْل التَّسَاوِي حَالَةَ الْعَقْدِ كَعِلْمِ التَّفَاضُل فِي مَنْعِ الصِّحَّةِ (2) إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِنْ بَاعَهَا مُجَازَفَةً ثُمَّ وَزْنًا فِي الْمَجْلِسِ فَظَهَرَا مُتَسَاوِيَيْنِ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ كَسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَصَارَ كَالْعِلْمِ فِي ابْتِدَائِهِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ ظَهَرَ التَّسَاوِي بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ خِلاَفًا لِزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُ يَقُول: الشَّرْطُ التَّسَاوِي، وَقَدْ ثَبَتَ، وَاشْتِرَاطُ الْعِلْمِ بِهِ زِيَادَةٌ بِلاَ دَلِيلٍ (3) .
22 - وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ بِالصِّيَاغَةِ وَالصِّنَاعَةِ أَيْضًا، فَيَدْخُل فِي إِطْلاَقِ الْمُسَاوَاةِ الْمَصُوغُ بِالْمَصُوغِ، وَالتِّبْرُ بِالآْنِيَةِ، فَعَيْنُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَتِبْرُهُمَا، وَمَضْرُوبُهُمَا، وَغَيْرُ الْمَضْرُوبِ مِنْهُمَا،
__________
(1) حديث: " جيدها ورديئها سواء " تقدم ف 6.
(2) فتح القدير 6 / 260، الاختيار 2 / 40، والقوانين الفقهية ص 254، وجوار الإكليل 2 / 10، وروضة الطالبين 3 / 385، وكشاف القناع 3 / 253.
(3) فتح القدير 6 / 260، والاختيار 2 / 10.(26/356)
وَالصَّحِيحُ مِنْهُمَا، وَالْمَكْسُورُ كُلُّهَا سَوَاءٌ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا مَعَ التَّمَاثُل فِي الْمِقْدَارِ، وَتَحْرِيمُهُ مَعَ التَّفَاضُل، حَتَّى لَوْ بَاعَ آنِيَةَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ، أَوْ آنِيَةَ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ أَحَدُهُمَا أَثْقَل مِنَ الآْخَرِ لاَ يَجُوزُ، مَعَ تَفْصِيلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَأْتِي بَيَانُهُ (1) وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا (2) وَمَا رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِإِنَاءٍ كِسْرَوَانِيٍّ قَدْ أُحْكِمَتْ صِيَاغَتُهُ، فَبَعَثَنِي بِهِ لأَِبِيعَهُ، فَأُعْطِيتُ وَزْنَهُ وَزِيَادَةً، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَقَال: أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلاَ (3) .
هَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الصِّحَاحِ بِالْمُكَسَّرَةِ، وَلأَِنَّ لِلصِّنَاعَةِ قِيمَةً،
__________
(1) فتح القدير 6 / 259 - 260، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 43، ومغني المحتاج 2 / 22 - 25، وكشاف القناع 3 / 52.
(2) فتح القدير 6 / 147، 260، ومغني المحتاج 2 / 42، والمغني لابن قدامة 4 / 10، 11. وحديث: " الذهب بالذهب تبرها وعينها ". أخرجه أبو داود (3 / 644 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والنسائي (7 / 277 ط. المكتبة التجارية) من حديث عبادة بن الصامت، وإسناده صحيح.
(3) المراجع السابقة.(26/357)
بِدَلِيل حَالَةِ الإِْتْلاَفِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ ضَمُّ قِيمَةِ الصِّنَاعَةِ إِلَى الذَّهَبِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ قَال لِصَائِغٍ: صُغْ لِي خَاتَمًا وَزْنُهُ دِرْهَمٌ، وَأُعْطِيكَ مِثْل وَزْنِهِ وَأُجْرَتَكَ دِرْهَمًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَلِلصَّائِغِ أَخْذُ الدِّرْهَمَيْنِ أَحَدُهُمَا مُقَابَلَةَ الْخَاتَمِ وَالثَّانِي أُجْرَةً لَهُ (1) وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْبُهُوتِيُّ (2) .
وَقَدْ تَفَرَّدَ الْمَالِكِيَّةُ بِتَسْمِيَةِ بَيْعِ النَّقْدِ بِجِنْسِهِ الْمُرَاطَلَةَ أَوِ الْمُبَادَلَةَ، فَبَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ عِنْدَهُمْ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: إِمَّا مُرَاطَلَةٌ، إِمَّا مُبَادَلَةٌ، وَإِمَّا صَرْفٌ. فَالْمُرَاطَلَةُ بَيْعُ النَّقْدِ بِمِثْلِهِ وَزْنًا. وَالْمُبَادَلَةُ بَيْعُ النَّقْدِ بِمِثْلِهِ عَدَدًا. وَالصَّرْفُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، أَوْ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِفُلُوسٍ (3) .
وَقَدْ صَرَّحُوا فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ بِحُرْمَةِ التَّفَاضُل فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِمِثْلِهَا مُطْلَقًا.
قَال الدَّرْدِيرُ: حَرُمَ فِي عَيْنٍ رِبَا فَضْلٍ أَيْ: زِيَادَةٍ وَلَوْ مُنَاجَزَةً إِنِ اتَّحَدَ الْجِنْسُ، فَلاَ يَجُوزُ دِرْهَمٌ بِدِرْهَمَيْنِ، وَلاَ دِينَارٌ بِدِينَارَيْنِ (4) وَفِي رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ: وَمِنَ الرِّبَا فِي غَيْرِ النَّسِيئَةِ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 10، 11.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 199.
(3) الفواكه الدواني 2 / 112.
(4) الشرح الصغير للدردير 3 / 47.(26/357)
مُتَفَاضِلاً، وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ (1) وَقَال خَلِيلٌ: وَحَرُمَ فِي نَقْدٍ وَطَعَامٍ رِبَا فَضْلٍ وَنَسَاءٍ (2) .
وَظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ يَدُل عَلَى حُرْمَةِ الْمُفَاضَلَةِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِمِثْلِهَا مُطْلَقًا، وَلَوْ قَلَّتِ الزِّيَادَةُ، لَكِنَّهُمْ أَجَازُوا الزِّيَادَةَ الْيَسِيرَةَ فِي ثَلاَثِ مَسَائِل، كَمَا حَرَّرَهُ النَّفْرَاوِيُّ وَغَيْرُهُ:
23 - الأُْولَى - الْمُبَادَلَةُ: وَهِيَ بَيْنَ الْعَيْنِ بِمِثْلِهَا عَدَدًا، حَيْثُ قَالُوا: تَجُوزُ الْمُبَادَلَةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِمِثْلِهِمَا إِنْ تَسَاوَيَا عَدَدًا وَوَزْنًا، وَجَازَتِ الزِّيَادَةُ فِي مُبَادَلَةِ الْقَلِيل مِنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِشُرُوطٍ:
أ - أَنْ تَقَعَ تِلْكَ الْمُعَاقَدَةُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَادَلَةِ دُونَ الْبَيْعِ.
ب - أَنْ تَكُونَ الدَّرَاهِمُ أَوِ الدَّنَانِيرُ الَّتِي وَقَعَتِ الْمُبَادَلَةُ فِيهَا مَعْدُودَةً، أَيْ: يُتَعَامَل بِهَا عَدَدًا لاَ وَزْنًا.
ج - أَنْ تَكُونَ الدَّرَاهِمُ أَوِ الدَّنَانِيرُ الْمُبَدَّلَةُ قَلِيلَةً دُونَ سَبْعَةٍ.
د - أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِي الْوَزْنِ لاَ فِي الْعَدَدِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا بِوَاحِدٍ، لاَ وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ.
هـ - أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ فِي كُل دِينَارٍ أَوْ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 111.
(2) جواهر الإكليل 2 / 10.(26/358)
دِرْهَمٍ السُّدُسَ فَأَقَل. قَال الصَّاوِيُّ: هَذَا الشَّرْطُ ذَكَرَهُ ابْنُ شَاسٍ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَابْنُ جَمَاعَةَ لَكِنْ قَال فِي الْعُبَابِ: أَكْثَرُ الشُّيُوخِ لاَ يَذْكُرُونَ هَذَا الشَّرْطَ، وَقَدْ جَاءَ لَفْظُ (السُّدُسِ) فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَهُوَ يَحْتَمِل لِلتَّمْثِيل وَالشَّرْطِيَّةِ.
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الدُّسُوقِيُّ (1) .
و أَنْ تَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ، أَيْ: يَقْصِدُ الْمَعْرُوفَ، لاَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَايَعَةِ وَالْمُغَالَبَةِ (2) .
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَلاَ بُدَّ فِي جَوَازِ الْمُبَادَلَةِ مِنْ كَوْنِ الدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ مَسْكُوكَةً. وَهَل يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ السِّكَّةِ أَوْ لاَ يُشْتَرَطُ؟ قَوْلاَنِ: وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ اتِّحَادِهِمَا. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَا يُتَعَامَل بِهِ عَدَدًا مِنْ غَيْرِ الْمَسْكُوكِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَسْكُوكِ. وَاعْتَمَدَهُ الصَّاوِيُّ (3) .
24 - الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُسَافِرُ تَكُونُ مَعَهُ الْعَيْنُ غَيْرَ مَسْكُوكَةٍ، وَلاَ تَرُوجُ مَعَهُ فِي الْمَحَل الَّذِي يُسَافِرُ إِلَيْهِ، فَيَجُوزُ لَهُ دَفْعُهَا لِلسَّكَّاكِ لِيَدْفَعَ لَهُ بَدَلَهَا مَسْكُوكًا - وَيَجُوزُ لَهُ دَفْعُ أُجْرَةِ
__________
(1) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 3 / 64، والدسوقي 3 / 41.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 41، والشرح الصغير للدردير 3 / 63، 64، والفواكه الدواني 2 / 111.
(3) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 41، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي 3 / 64.(26/358)
السِّكَّةِ وَإِنْ لَزِمَ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ؛ لأَِنَّ الأُْجْرَةَ زِيَادَةٌ، وَعَلَى كَوْنِهَا عَرْضًا تُفْرَضُ مَعَ الْعَيْنِ عَيْنًا. وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ لِلضَّرُورَةِ؛ لِعَدَمِ تَمَكُّنِ الْمُسَافِرِ مِنَ السَّفَرِ عِنْدَ تَأْخِيرِهِ لِضَرْبِهَا (1) .
25 - الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشَّخْصُ يَكُونُ مَعَهُ الدِّرْهَمُ الْفِضَّةُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى نَحْوِ الْغِذَاءِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ لِنَحْوِ الزَّيَّاتِ وَيَأْخُذَ بِبَعْضِهِ طَعَامًا، وَبِالنِّصْفِ الآْخَرِ فِضَّةً، حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ، أَوْ عِوَضِ كِرَاءٍ بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَل، لِوُجُوبِ تَعْجِيل الْجَمِيعِ، وَكَوْنِ الْمَدْفُوعِ دِرْهَمًا فَأَقَل لاَ أَكْثَرَ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ وَالْمَدْفُوعُ مَسْكُوكَيْنِ، وَأَنْ يَجْرِيَ التَّعَامُل بِالْمَدْفُوعِ وَالْمَأْخُوذِ وَلَوْ لَمْ تَتَّحِدِ السِّكَّةُ، وَأَنْ يَتَّحِدَا فِي الرَّوَاجِ، وَأَنْ يُتَعَجَّل الدِّرْهَمُ وَمُقَابِلُهُ مِنْ عَيْنٍ وَمَا مَعَهَا (2) وَهَذَا فِي الْمُبَادَلَةِ.
26 - أَمَّا الْمُرَاطَلَةُ - وَهِيَ بَيْعُ عَيْنٍ بِمِثْلِهِ أَيْ: ذَهَبٍ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ وَزْنًا بِصَنْجَةٍ أَوْ كِفَّتَيْنِ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا التَّسَاوِي، وَلاَ تُغْتَفَرُ فِيهَا الزِّيَادَةُ وَلَوْ قَلِيلاً (3) .
27 - وَتَجُوزُ الْمُرَاطَلَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ أَحَدُ النَّقْدَيْنِ كُلُّهُ أَجْوَدَ مِنْ جَمِيعِ مُقَابِلِهِ، كَدَنَانِيرَ مَغْرِبِيَّةٍ تُرَاطَل بِدَنَانِيرَ مِصْرِيَّةٍ أَوْ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 111.
(2) الفواكه الدواني 2 / 111، 112.
(3) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 3 / 64، 65.(26/359)
إِسْكَنْدَرِيَّةٍ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْمَغْرِبِيَّةَ أَجْوَدُ مِنَ الْمِصْرِيَّةِ، وَهِيَ أَجْوَدُ مِنَ الإِْسْكَنْدَرِيَّةِ، أَوْ يَكُونُ بَعْضُهُ أَجْوَدَ وَالْبَعْضُ الآْخَرُ مُسَاوٍ لِجَمِيعِ الآْخَرِ فِي الْجَوْدَةِ، لاَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَحَدِهِمَا أَدْنَى مِنَ الآْخَرِ، وَبَعْضُهُ أَجْوَدَ مِنْهُ، كَسَكَنْدَرِيَّةٍ وَمَغْرِبِيَّةٍ تُرَاطَل بِمِصْرِيَّةٍ، فَلاَ يَجُوزُ لِدَوَرَانِ الْفَضْل بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ (1) .
النَّوْعُ الثَّانِي - بَيْعُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالآْخَرِ:
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالآْخَرِ مُتَفَاضِلاً فِي الْوَزْنِ وَالْعَدَدِ، أَوْ مُتَسَاوِيًا، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ جُزَافًا، بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلاَهُمَا قَدْرَ وَوَزْنَ الْبَدَلَيْنِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (2) .
لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الصَّرْفِ أَيْضًا التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ قَبْل الاِفْتِرَاقِ، لِحُرْمَةِ رِبَا النَّسَاءِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصَّرْفِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 65، والشرح الكبير 3 / 42، 43.
(2) حديث: " إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ". أورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 4 ط. المجلس العلمي) وقال " غريب بهذا اللفظ "، ثم أحال إلى حديث عبادة بن الصامت والذي تقدم.(26/359)
وَهَاءَ قَال ابْنُ الْهُمَامِ: مَعْنَى قَوْلِهِ: (رِبًا) أَيْ: حَرَامٌ (1) وَاسْتَثْنَى حَالَةَ التَّقَابُضِ مِنَ الْحَرَامِ بِحَصْرِ الْحِل فِيهَا، فَيَنْتَفِي الْحِل فِي كُل حَالَةٍ غَيْرِهَا، فَيَدْخُل فِي عُمُومِ الْمُسْتَثْنَى حَالَةُ التَّفَاضُل وَالتَّسَاوِي وَالْمُجَازَفَةِ، فَيَحِل كُل ذَلِكَ (2) .
وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْوَحِيدُ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْمَالِكِيَّةُ بِالصَّرْفِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: بَيْعُ النَّقْدِ بِالنَّقْدِ وَمَعَ أَحَدِهِمَا أَوْ كِلَيْهِمَا شَيْءٌ آخَرُ:
29 - إِذَا بَاعَ نَقْدًا بِنَقْدِ غَيْرِ جِنْسِهِ وَمَعَ أَحَدِهِمَا أَوْ كِلَيْهِمَا مَتَاعٌ، كَأَنْ بَاعَ ذَهَبًا بِفِضَّةٍ وَثَوْبٍ، أَوْ سَيْفًا مُحَلًّى بِذَهَبٍ بِفِضَّةٍ، أَوْ بِهَا وَمَعَهَا مَتَاعٌ آخَرُ، وَحَصَل التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ الْعَقْدُ، مُجَازَفَةً كَانَ أَوْ مُتَفَاضِلاً أَوْ مُتَسَاوِيًا؛ لأَِنَّهُ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي فِي الْحَقِيقَةِ، لاِخْتِلاَفِ الْجِنْسَيْنِ، فَيَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُل وَالْمُجَازَفَةُ بِشَرْطِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ قَبْل الاِفْتِرَاقِ.
30 - أَمَّا إِذَا بَاعَ نَقْدًا مَعَ غَيْرِهِ بِنَقْدٍ مِنْ جِنْسِهِ، كَفِضَّةٍ بِفِضَّةٍ وَمَعَهَا شَيْءٌ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 235، والشرح الصغير للدردير 3 / 48، ومغني المحتاج 2 / 204، وكشاف القناع 3 / 254، والمغني لابن قدامة 4 / 11، 39، وشرح منتهى الإرادات 2 / 199.
(2) فتح القدير 6 / 262، 263.(26/360)
كَدِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ وَمُدِّ عَجْوَةٍ، أَوْ كَسَيْفٍ مُحَلًّى بِالذَّهَبِ أَوْ فِضَّةٍ بِثَمَنِ جِنْسِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ نَقْدٍ بِجِنْسِهِ وَمَعَ أَحَدِهِمَا أَوْ كِلَيْهِمَا شَيْءٌ آخَرُ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ مُدٍّ وَدِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، أَوْ بَيْعُ دِرْهَمٍ وَثَوْبٍ. كَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مُحَلًّى بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ كَسَيْفٍ أَوْ مُصْحَفٍ بِجِنْسِ حِلْيَتِهِ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ بِمَسْأَلَةِ: (مُدُّ عَجْوَةٍ) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ قَال: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِخَيْبَرِ بِقِلاَدَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ وَهُوَ مِنَ الْغَنَائِمِ تُبَاعُ، فَأَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلاَدَةِ فَنُزِعَ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَال لَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَفِي رِوَايَةٍ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ حَتَّى تُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا (1) .
وَاسْتَدَلُّوا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا جَمَعَ عِوَضَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْجِنْسِ وَجَبَ أَنْ يَنْقَسِمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآْخَرِ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الآْخَرِ فِي نَفْسِهِ، فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْقِيمَةُ اخْتَلَفَ مَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْعِوَضِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الْمُفَاضَلَةِ
__________
(1) حديث فضالة بن عبيد: " الذهب بالذهب وزنا بوزن ". أخرجه مسلم (3 / 1211 - ط الحلبي) والرواية الأولى لأبي داود (3 / 647 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .(26/360)
أَوِ الْجَهْل بِالْمُمَاثَلَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، يَجُوزُ بَيْعُ نَقْدٍ مَعَ غَيْرِهِ بِنَقْدٍ مِنْ جِنْسِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَزِيدَ الثَّمَنُ (أَيِ النَّقْدُ الْمُفْرَدُ) عَلَى النَّقْدِ الْمَضْمُومِ إِلَيْهِ. وَإِلاَّ بِأَنْ تَسَاوَى النَّقْدَانِ، أَوْ كَانَ النَّقْدُ الْمُفْرَدُ أَقَل بَطَل الْبَيْعُ، لِتَحَقُّقِ التَّفَاضُل الْمُحَرَّمِ. وَكَذَا إِذَا لَمْ يُدْرَ الْحَال؛ لاِحْتِمَال الْمُفَاضَلَةِ وَالرِّبَا (2) .
فَمَنْ بَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى بِثَمَنٍ أَكْثَرَ مِنَ الْحِلْيَةِ، وَكَانَ الثَّمَنُ مِنْ جِنْسِ الْحِلْيَةِ جَازَ، وَذَلِكَ لِمُقَابَلَةِ الْحِلْيَةِ بِمِثْلِهَا ذَهَبًا كَانَتْ أَمْ فِضَّةً.
وَالزِّيَادَةُ بِالنَّصْل وَالْحَمَائِل وَالْجَفْنِ. وَالْعَقْدُ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ لَمْ يُحْمَل عَلَى الْفَسَادِ. وَإِنْ بَاعَهُ بِأَقَل مِنْ قَدْرِ الْحِلْيَةِ أَوْ مِثْلِهِ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ رِبًا. وَلأَِنَّهُ قَبَضَ قَدْرَ الْحِلْيَةِ قَبْل الاِفْتِرَاقِ؛ لأَِنَّهُ صَرْفٌ، فَلاَ بُدَّ مِنْ قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ (3) .
وَلَوِ اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَالْحِلْيَةُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَقَبَضَ مِنْهَا عَشَرَةً فَهِيَ فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا، حَمْلاً لِتَصَرُّفِهِ عَلَى الصِّحَّةِ. وَكَذَا إِذَا قَال خُذْهَا مِنْ ثَمَنِهِمَا؛ لأَِنَّ قَصْدَهُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 39 - 41، ومغني المحتاج 2 / 28، 29.
(2) فتح القدير مع الهداية 6 / 266.
(3) الاختيار 2 / 40، 41 وابن عابدين 4 / 236، 237.(26/361)
الصِّحَّةُ، وَقَدْ يُرَادُ بِالاِثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (1) فَإِنِ افْتَرَقَا لاَ عَنْ قَبْضٍ بَطَل الْبَيْعُ فِيهِمَا إِنْ كَانَتِ الْحِلْيَةُ لاَ تَتَخَلَّصُ إِلاَّ بِضَرَرٍ كَجِذْعٍ فِي سَقْفٍ، وَإِنْ كَانَتْ تَتَخَلَّصُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ جَازَ فِي السَّيْفِ وَبَطَل فِي الْحِلْيَةِ (2) .
31 - وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ تَبَايَعَا فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ وَأَحَدُهُمَا أَقَل وَمَعَ أَقَلِّهِمَا شَيْءٌ آخَرُ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ بَاقِيَ الذَّهَبِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ فَيَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ كَالتُّرَابِ فَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ لِتَحَقُّقِ الرِّبَا، إِذِ الزِّيَادَةُ لاَ يُقَابِلُهَا عِوَضٌ (3) .
32 - أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالأَْصْل عِنْدَهُمْ فِي بَيْعِ الْمُحَلَّى الْمَنْعُ؛ لأَِنَّ فِي بَيْعِهِ بِصِنْفِهِ بَيْعَ ذَهَبٍ وَعَرَضٍ بِذَهَبٍ، أَوْ بَيْعَ فِضَّةٍ وَعَرَضٍ بِفِضَّةٍ لَكِنْ رُخِّصَ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ وَهِيَ:
1 - أَنْ تَكُونَ تَحْلِيَتُهُ مُبَاحًا، كَسَيْفٍ وَمُصْحَفٍ.
__________
(1) سورة الرحمن الآية (22) .
(2) الاختيار 2 / 40، 41، وفتح القدير 6 / 266، وابن عابدين 4 / 237.
(3) الهداية مع الفتح 6 / 272.(26/361)
2 - وَأَنْ تَكُونَ الْحِلْيَةُ قَدْ سُمِّرَتْ عَلَى الْمُحَلَّى بِأَنْ يَكُونَ فِي نَزْعِهَا فَسَادٌ أَوْ غُرْمُ دَرَاهِمَ.
3 - وَأَنْ تَكُونَ الْحِلْيَةُ قَدْرَ الثُّلُثِ فَأَقَل؛ لأَِنَّهُ تَبَعٌ (1) ، وَهَل يُعْتَبَرُ الثُّلُثُ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِالْوَزْنِ؟ خِلاَفٌ. وَالْمُعْتَمَدُ الأَْوَّل. فَإِنْ بِيعَ سَيْفٌ مُحَلًّى بِذَهَبٍ بِسَبْعِينَ دِينَارًا ذَهَبًا، وَكَانَ وَزْنُ حِلْيَتِهِ عِشْرِينَ وَلِصِيَاغَتِهَا تُسَاوِي ثَلاَثِينَ، وَقِيمَةُ النَّصْل وَحْدَهُ أَرْبَعُونَ لَمْ يَجُزْ عَلَى الأَْوَّل وَجَازَ الثَّانِي (2) .
قَال ابْنُ رُشْدٍ فِي تَعْلِيل قَوْل الإِْمَامِ مَالِكٍ: صِحَّةَ بَيْعِ الْمُحَلَّى إِنْ كَانَ فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ الثُّلُثُ فَأَقَل، إِذَا كَانَتِ الْفِضَّةُ قَلِيلَةً لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً فِي الْبَيْعِ. وَصَارَتْ كَأَنَّهَا هِبَةٌ (3) .
النَّوْعُ الرَّابِعُ - بَيْعُ جُمْلَةٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِجُمْلَةٍ مِنْهَا:
33 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ جُمْلَةً مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِدَرَاهِمَ أَوْ بِدَنَانِيرَ، أَوْ بِجُمْلَةٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بَطَل الْعَقْدُ.
__________
(1) الدسوقي 3 / 40، والقوانين الفقهية ص 252، وبداية المجتهد 2 / 172.
(2) نفس المراجع.
(3) بداية المجتهد 2 / 172.(26/362)
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَرْعَ مَسْأَلَةِ: (مُدِّ عَجْوَةٍ) ، وَقَالُوا فِي عِلَّةِ بُطْلاَنِهِ إِنَّ اشْتِمَال أَحَدِ طَرَفَيِ الْعَقْدِ أَوْ كِلَيْهِمَا عَلَى مَالَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ تَوْزِيعُ مَا فِي الآْخَرِ عَلَيْهِمَا اعْتِبَارًا بِالْقِيمَةِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى الْمُفَاضَلَةِ أَوِ الْجَهْل بِالْمُمَاثَلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْجَهْل بِالْمُمَاثَلَةِ حَقِيقَةُ الْمُفَاضَلَةِ فِي بَابِ الرِّبَا (1) قَالُوا: إِنَّ التَّوْزِيعَ هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، كَمَا فِي بَيْعِ شِقْصٍ مَشْفُوعٍ وَسَيْفٍ بِأَلْفٍ. وَقِيمَةُ الشِّقْصِ مِائَةٌ وَالسَّيْفِ خَمْسُونَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ بِثُلُثَيِ الْقِيمَةِ، وَلَوْلاَ التَّوْزِيعُ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ (2) .
قَال السُّبْكِيُّ: وَلاَ يُتْرَكُ التَّوْزِيعُ وَإِنْ أَدَّى إِلَى بُطْلاَنِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ إِذَا كَانَ لَهُ مُقْتَضًى حُمِل عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَدَّى إِلَى فَسَادِ الْعَقْدِ أَوْ إِلَى صَلاَحِهِ، كَمَا إِذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مُقَابَلَةَ جَمِيعِ الثَّمَنِ لِلثَّمَنِ حُمِل عَلَيْهِ وَإِنْ أَدَّى إِلَى فَسَادِهِ، وَلَمْ يُحْمَل عَلَى أَنَّ أَحَدَ الدِّرْهَمَيْنِ هِبَةٌ وَالآْخَرَ ثَمَنٌ لِيَصِحَّ الْعَقْدُ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 28، والمغني لابن قدامة 4 / 39، 41.
(2) المرجعين السابقين وتكملة المجموع للسبكي 10 / 329، وقد ذكر مسألة بيع الجملة من الدراهم والدنانير بجملة منهما نصا، بخلاف سائر كتب الشافعية حيث لم توجد فيها مسألة بالنص، وإن كانت مفهومة من قاعدة (مد عجوة) .
(3) تكملة المجموع 10 / 239.(26/362)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِعَدَمِ جَوَازِ صَرْفِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ مِنْ جَانِبٍ بِمِثْلِهِمَا مِنْ جَانِبٍ آخَرَ. فَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ دِينَارٌ وَدِرْهَمٌ بِدِينَارٍ وَدِرْهَمٍ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ بِاحْتِمَال رَغْبَةِ أَحَدِهِمَا فِي دِينَارِ الآْخَرِ، فَيُقَابِلُهُ بِدِينَارِهِ وَبَعْضِ دِرْهَمِهِ، وَيَصِيرُ بَاقِي دِرْهَمِهِ فِي مُقَابَلَةِ دِرْهَمِ الآْخَرِ. قَالُوا: إِنَّ قَاعِدَةَ الْمَذْهَبِ سَدُّ الذَّرَائِعِ فَالْفَضْل الْمُتَوَهَّمُ كَالْمُحَقَّقِ، وَتَوَهُّمُ الرِّبَا كَتَحَقُّقِهِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ أَوْ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرُ نَوْعِهِ (1) .
34 - وَقَال الْحَنَفِيَّةُ عَدَا زُفَرَ، صَحَّ بَيْعُ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارٍ بِدِرْهَمٍ وَدِينَارَيْنِ، وَيُجْعَل كُل جِنْسٍ مُقَابَلاً بِخِلاَفِ جِنْسِهِ، فَيَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْعُ دِرْهَمَيْنِ بِدِينَارَيْنِ، وَبَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِينَارٍ، وَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ التَّسَاوِي فِيهِمَا، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ.
وَقَالُوا فِي تَوْجِيهِ صِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ إِنَّ فِي صَرْفِ الْجِنْسِ إِلَى خِلاَفِهِ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ، وَإِلَى جِنْسِهِ فَسَادَهُ، وَلاَ مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالصَّحِيحِ، فَحَمْل الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ أَوْلَى، وَلأَِنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي مُطْلَقَ الْمُقَابَلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمُقَيَّدٍ، لاَ مُقَابَلَةُ الْكُل بِالْكُل بِطَرِيقِ الشُّيُوعِ، وَلاَ مُقَابَلَةُ الْفَرْدِ مِنْ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 10، والشرح الصغير 3 / 48، 49، والدسوقي 3 / 39.(26/363)
جِنْسِهِ وَلاَ مِنْ خِلاَفِ جِنْسِهِ فَيُحْمَل عَلَى الْمُقَيَّدِ الْمُصَحِّحِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَل بِالإِْطْلاَقِ (1) .
قَال فِي الْهِدَايَةِ: إِنَّ الْمُقَابَلَةَ الْمُطْلَقَةَ تَحْمِل الْفَرْدَ بِالْفَرْدِ، كَمَا فِي مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ وَإِنَّهُ طَرِيقٌ مُتَعَيَّنٌ لِتَصْحِيحِهِ، فَيُحْمَل عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ (2) .
وَقَال الْمَوْصِلِيُّ فِي تَوْجِيهِهِ: إِنَّهُمَا قَصَدَا الصِّلَةَ ظَاهِرًا، فَيُحْمَل عَلَيْهِ تَحْقِيقًا لِقَصْدِهِمَا وَدَفْعًا لِحَاجَتِهِمَا (3) .
35 - وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا إِذَا بَاعَ أَحَدَ عَشَرَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ فَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَتَكُونُ الْعَشَرَةُ بِمِثْلِهَا، وَالدِّينَارُ بِالدِّرْهَمِ؛ لأَِنَّ شَرْطَ الْبَيْعِ فِي الدَّرَاهِمِ التَّمَاثُل وَهُوَ مَوْجُودٌ ظَاهِرًا، إِذِ الظَّاهِرُ مِنْ حَال الْبَائِعِ إِرَادَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمُقَابَلَةِ حَمْلاً عَلَى الصَّلاَحِ، وَهُوَ الإِْقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ الْجَائِزِ دُونَ الْفَاسِدِ، فَبَقِيَ الدِّرْهَمُ بِالدِّينَارِ، وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَلاَ يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا (4) .
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار للموصلي 2 / 40، وفتح القدير مع الهداية 6 / 368، 369، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 138، 139، والبناية على الهداية للعيني 6 / 700 وما بعدها.
(2) الهداية مع الفتح 6 / 269.
(3) الاختيار 2 / 40.
(4) الهداية مع فتح القدير والعناية 6 / 271.(26/363)
النَّوْعُ الْخَامِسُ - الصَّرْفُ عَلَى الذِّمَّةِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ:
لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الصَّرْفِ عِدَّةُ صُوَرٍ:
36 - الأُْولَى: أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْ رَجُلٍ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ فِي مَجْلِسٍ، ثُمَّ اسْتَقْرَضْتَ أَنْتَ دِينَارًا مِنْ رَجُلٍ آخَرَ إِلَى جَانِبِكَ، وَاسْتَقْرَضَ هُوَ الدَّرَاهِمَ مِنْ رَجُلٍ إِلَى جَانِبِهِ، فَدَفَعْتَ إِلَيْهِ الدِّينَارَ وَقَبَضْتَ الدَّرَاهِمَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ: صَحَّ الصَّرْفُ إِذَا تَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ لأَِنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ يَجْرِي مَجْرَى الْقَبْضِ عِنْدَ الْعَقْدِ (1) .
وَكَذَلِكَ يَصِحُّ الصَّرْفُ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ نَقْدُ أَحَدِهِمَا حَاضِرًا وَاسْتَقْرَضَ الآْخَرُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ تَسَلَّفَا فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّ تَسَلُّفَهُمَا مَظِنَّةُ الطُّول الْمُخِل بِالتَّقَابُضِ، وَإِنْ تَسَلَّفَ أَحَدُهُمَا وَطَال فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَطُل جَازَ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَلَمْ يُجِزْهُ أَشْهَبُ. قَال الْحَطَّابُ: وَلُقِّبَتِ الْمَسْأَلَةُ بِالصَّرْفِ عَلَى الذِّمَّةِ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 235، ومغني المحتاج 2 / 23، 25، والمغني لابن قدامة 4 / 51، 52.
(2) ابن عابدين 4 / 235، ومغني المحتاج 2 / 23 - 25، والمغني لابن قدامة 4 / 51، 52.
(3) مواهب الجليل للحطاب 4 / 309، الموافق عليه 4 / 310.(26/364)
37 - الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ ذَهَبٌ وَلِلآْخَرِ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ مَثَلاً، فَاصْطَرَفَا بِمَا فِي ذِمَّتَيْهِمَا. وَلُقِّبَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِالصَّرْفِ فِي الذِّمَّةِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الصَّرْفِ، وَعَلَّلُوا عَدَمَ الْجَوَازِ بِأَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ بِالإِْجْمَاعِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَفُسِّرَ بِبَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ (1) .
38 - وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: صَحَّ بَيْعُ مَنْ عَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ دَيْنٌ بِدِينَارٍ مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِ، أَيْ مِنْ دَائِنِهِ، فَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ دَيْنٌ، فَبَاعَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَشَرَةُ دِينَارًا بِالْعَشَرَةِ الَّتِي عَلَيْهِ، وَدَفَعَ الدِّينَارَ إِلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ. وَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ الْعَشْرَتَيْنِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَلاَ تَحْتَاجُ إِلَى مُوَافَقَةٍ أُخْرَى.
وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّهُ جَعَل ثَمَنَهُ دَرَاهِمَ لاَ يَجِبُ قَبْضُهَا، وَلاَ تَعَيُّنُهَا بِالْقَبْضِ؛ لأَِنَّ التَّعْيِينَ لِلاِحْتِرَازِ عَنِ الرِّبَا، أَيْ: رِبَا النَّسِيئَةِ، وَلاَ
__________
(1) الروضة 3 / 516، ومغني المحتاج 2 / 25، والمغني لابن قدامة 4 / 53، 54، وكشاف القناع 3 / 270. وحديث: " نهى عن بيع الكالئ بالكالئ " أخرجه البيهقي (5 / 290 - ط. دار المعارف العثمانية) وضعفه ابن حجر في بلوغ المرام (ص193 - ط عبد المجيد حنفي) .(26/364)
رِبَا فِي دَيْنٍ سَقَطَ، وَإِنَّمَا الرِّبَا فِي دَيْنٍ يَقَعُ الْخَطَرُ فِي عَاقِبَتِهِ (1) .
أَمَّا إِذَا بَاعَ الْمَدِينُ الدِّينَارَ بِعَشَرَةٍ مُطْلَقَةٍ أَيْ: بِغَيْرِ ذِكْرِ: (دَيْنٍ عَلَيْهِ) وَدَفَعَ الْبَائِعُ الدِّينَارَ لِلْمُشْتَرِي فَيَصِحُّ ذَلِكَ إِذَا تَوَافَقَا عَلَى مُقَاصَّةِ الْعَشَرَةِ بِالْعَشَرَةِ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ، لِكَوْنِهِ تَصَرُّفًا فِي بَدَل الصَّرْفِ قَبْل قَبْضِهِ، وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ أَنَّهُ بِالتَّقَابُضِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ الأَْوَّل وَانْعَقَدَ صَرْفٌ آخَرُ مُضَافٌ إِلَى الدَّيْنِ (2) .
هَذَا، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الدَّيْنَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ أَوْ مُتَفَاوِتَيْنِ فِي الْوَصْفِ أَوْ مُؤَجَّلَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا حَالًّا وَالآْخَرُ مُؤَجَّلاً أَوْ أَحَدُهُمَا غَلَّةً (3) وَالآْخَرُ صَحِيحًا فَلاَ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ إِلاَّ إِذَا تَقَاصَّا أَيِ: اتَّفَقَا عَلَى الْمُقَاصَّةِ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الذَّخِيرَةِ. وَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ وَتَقَاصَّا، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمَ وَلِلْمَدْيُونِ مِائَةُ دِينَارٍ عَلَيْهِ تَصِيرُ الدَّرَاهِمُ قِصَاصًا بِمِائَةٍ مِنْ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 239، والهداية مع الفتح وحاشية العناية 6 / 262، والزيلعي 4 / 140.
(2) نفس المراجع.
(3) الغلة هي: الدارهم أو الدنانير المقطعة - انظر تبيين الحقائق 4 / 139.(26/365)
قِيمَةِ الدَّنَانِيرِ، وَيَبْقَى لِصَاحِبِ الدَّنَانِيرِ عَلَى صَاحِبِ الدَّرَاهِمِ مَا بَقِيَ مِنْهَا (1) .
39 - أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْمَوْضُوعِ وَقَالُوا: إِنْ وَقَعَ صَرْفُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ فَإِنْ تَأَجَّل الدَّيْنَانِ عَلَيْهِمَا، بِأَنْ كَانَ لأَِحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ دَنَانِيرُ مُؤَجَّلَةٌ وَلِلآْخَرِ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ كَذَلِكَ، سَوَاءٌ اتَّفَقَ الأَْجَلاَنِ أَمِ اخْتَلَفَا، وَتَصَارَفَا قَبْل حُلُولِهِمَا بِأَنْ أَسْقَطَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَهُ عَلَى الآْخَرِ فِي نَظِيرِ إِسْقَاطِ الآْخَرِ مَا لَهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ كَمَا قَال ابْنُ رُشْدٍ (2) . كَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ إِنْ تَأَجَّل مِنْ أَحَدِهِمَا وَحَل الآْخَرُ. قَال الأَْبِيُّ فِي وَجْهِ عَدَمِ الْجَوَازِ: إِنَّ الْحَقَّ فِي أَجَل دَيْنِ النَّقْدِ لِلْمَدِينِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ لِلدَّائِنِ أَخْذُهُ قَبْل أَجَلِهِ بِغَيْرِ رِضَا الْمَدِينِ. فَإِنْ تَأَجَّلاَ فَقَدِ اشْتَرَى كُلٌّ مِنْهُمَا مَا عَلَيْهِ عَلَى أَنْ لاَ يَسْتَحِقَّهُ حَتَّى يَحِل أَجَلُهُ، فَيَقْضِيَهُ مِنْ نَفْسِهِ فَقَدْ تَأَخَّرَ قَبْضُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا اشْتَرَاهُ بِالصَّرْفِ عَنْ عَقْدِهِ بِمُدَّةِ الأَْجَل، وَإِنْ تَأَجَّل مِنْ أَحَدِهِمَا فَقَدِ اشْتَرَى الْمَدِينُ الْمُؤَجِّل مَا هُوَ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ إِلاَّ بَعْدَ مُضِيِّ أَجَلِهِ، فَيَقْضِيهِ مِنْ نَفْسِهِ، فَقَدْ تَأَخَّرَ قَبْضُهُ عَنْ صَرْفِهِ بِمُدَّةِ الأَْجَل (3) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 239، 240.
(2) جواهر الإكليل 2 / 10، 11 وبداية المجتهد 2 / 174.
(3) جواهر الإكليل 2 / 10، 11، الحطاب 4 / 310، والشرح الكبير 3 / 50، 51.(26/365)
هَذَا فِي الصَّرْفِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ دَيْنَيْنِ مِنْ نَوْعَيْنِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ. وَنَظِيرُهُ مَا قَالُوهُ فِي الْمُقَاصَّةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ دَيْنَيْنِ مُتَّحِدَيِ النَّوْعِ وَالصِّنْفِ (1)
وَتَفْصِيل أَحْكَامِ الْمُقَاصَّةِ فِي مُصْطَلَحِهَا.
40 - الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: اقْتِضَاءُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الآْخَرِ، بِأَنْ كَانَ لَكَ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ فَتَأْخُذَ مِنْهُ دَنَانِيرَ، أَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ دَنَانِيرُ فَتَأْخُذَ مِنْهُ دَرَاهِمَ بِسِعْرِ يَوْمِهَا.
وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ، بِشَرْطِ قَبْضِ الْبَدَل فِي الْمَجْلِسِ. وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، فَقُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ رُوَيْدَكَ أَسْأَلُكَ، إِنِّي أَبِيعُ الإِْبِل بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، وَآخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ (2) .
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 76، 77، والقوانين الفقهية ص 287، وبداية المجتهد 2 / 174، 175.
(2) حديث ابن عمر: إني أبيع الأبل بالبقيع. . . أخرجه أبو داود (3 / 651 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ونقل البيهقي عن شعبة أنه أعله بالوقف على ابن عمر، كذا في التلخيص الحبير لابن حجر (3 / 26 - ط شركة الطباعة الفنية) .(26/366)
وَهَذَا يَدُل عَلَى جَوَازِ الاِسْتِبْدَال عَنِ الثَّمَنِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِيمَا إِنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلاً.
وَقَال الْقَاضِي وَهَذَا يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ، وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَمَشْهُورُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ لأَِنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لاَ يُسْتَحَقُّ قَبْضُهُ، فَكَانَ الْقَبْضُ نَاجِزًا فِي أَحَدِهِمَا، وَالنَّاجِزُ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ. وَالآْخَرُ الْجَوَازُ وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّهُ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ، فَكَأَنَّهُ رَضِيَ بِتَعْجِيل الْمُؤَجَّل. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ إِذَا قَضَاهُ بِسِعْرِ يَوْمِهَا، وَلَمْ يَجْعَل لِلْمَقْضِيِّ فَضْلاً لأَِجْل تَأْجِيل مَا فِي الذِّمَّةِ (2) .
النَّوْعُ السَّادِسُ: صَرْفُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ:
41 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى جَوَازِ الْمُعَامَلَةِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ إِنْ رَاجَتْ نَظَرًا لِلْعُرْفِ: أَمَّا إِذَا بِيعَتْ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مُصَارَفَةً فَقَدْ فَصَّلُوا صُوَرَهَا وَأَحْكَامَهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
__________
(1) ابن عابدين 4 / 244، وحاشية القليوبي 2 / 214، وروضة الطالبين 3 / 515، ومغني المحتاج 2 / 70، والمغني لابن قدامة 4 / 54، 55.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 54 وما بعدها، وانظر المراجع السابقة.(26/366)
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَا غَلَبَ ذَهَبُهُ أَوْ فِضَّتُهُ حُكْمُهُمَا حُكْمُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْخَالِصَيْنِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ النُّقُودَ لاَ تَخْلُو عَنْ قَلِيل غِشٍّ لِلاِنْطِبَاعِ، فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْخَالِصِ بِهِ، وَلاَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ إِلاَّ مُتَسَاوِيًا وَزْنًا.
وَمَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْغِشُّ مِنْهُمَا فَفِي حُكْمِ الْعُرُوضِ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ؛ فَصَحَّ بَيْعُهُ بِالْخَالِصِ إِنْ كَانَ الْخَالِصُ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الْمَغْشُوشِ؛ لِيَكُونَ قَدْرُهُ بِمِثْلِهِ وَالزَّائِدِ بِالْغِشِّ. وَيَجُوزُ كَذَلِكَ صَرْفُهُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلاً وَزْنًا وَعَدَدًا بِصَرْفِ الْجِنْسِ لِخِلاَفِهِ، أَيْ: بِأَنْ يَصْرِفَ فِضَّةً كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى غِشِّ الآْخَرِ، وَذَلِكَ بِشَرْطِ التَّقَابُضِ قَبْل الاِفْتِرَاقِ؛ لأَِنَّهُ صَرْفٌ فِي الْبَعْضِ لِوُجُودِ الْفِضَّةِ أَوِ الذَّهَبِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ فِي - الْغِشِّ أَيْضًا -؛ لأَِنَّهُ لاَ تَمْيِيزَ إِلاَّ بِضَرَرٍ (1) .
وَإِنْ كَانَ الْخَالِصُ مِثْل الْمَغْشُوشِ، أَوْ أَقَل مِنْهُ، أَوْ لاَ يُدْرَى فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ لِلرِّبَا فِي الأَْوَّلَيْنِ، وَلاِحْتِمَالِهِ فِي الثَّالِثِ، وَلِلشُّبْهَةِ فِي الرِّبَا حُكْمُ الْحَقِيقَةِ.
وَهَذَا النَّوْعُ، أَيِ: الْغَالِبُ الْغِشِّ لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ إِنْ رَاجَ، لِثَمَنِيَّتِهِ حِينَئِذٍ، لأَِنَّهُ بِالاِصْطِلاَحِ صَارَ أَثْمَانًا، فَمَا دَامَ ذَلِكَ
__________
(1) الدر المختار مع حاشية رد المحتار 4 / 240، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 5 / 220.(26/367)
الاِصْطِلاَحُ مَوْجُودًا لاَ تَبْطُل الثَّمَنِيَّةُ. وَإِنْ لَمْ يَرُجْ تَعَيَّنَ بِالتَّعْيِينِ كَالسِّلْعَةِ، لأَِنَّهَا فِي الأَْصْل سِلْعَةٌ وَإِنَّمَا صَارَتْ أَثْمَانًا بِالاِصْطِلاَحِ، فَإِذَا تَرَكُوا الْمُعَامَلَةَ بِهَا رَجَعَتْ إِلَى أَصْلِهَا (1) .
قَالُوا: وَصَحَّ الْمُبَايَعَةُ وَالاِسْتِقْرَاضُ بِمَا يَرُوجُ مِنَ الْغَالِبِ الْغِشُّ وَزْنًا وَعَدَدًا، أَوْ بِهِمَا عَمَلاً بِالْعُرْفِ. أَمَّا الْمُتَسَاوِي غِشُّهُ وَفِضَّتُهُ، أَوْ ذَهَبُهُ فَكَغَالِبِ الْفِضَّةِ أَوِ الذَّهَبِ فِي التَّبَايُعِ وَالاِسْتِقْرَاضِ، فَلَمْ يَجُزْ إِلاَّ الْوَزْنُ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ الرَّدِيئَةِ إِلاَّ إِذَا أَشَارَ إِلَيْهِمَا، فَيَكُونُ بَيَانًا لِقَدْرِهَا وَوَصْفِهَا.
أَمَّا فِي الصَّرْفِ فَحُكْمُ مُتَسَاوِي الْغِشِّ وَالْفِضَّةِ أَوِ الذَّهَبِ حُكْمُ مَا غَلَبَ غِشُّهُ فَيَصِحُّ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ بِصَرْفِ الْجِنْسِ إِلَى خِلاَفِ جِنْسِهِ، أَيْ: بِأَنْ يَصْرِفَ مَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْغِشِّ إِلَى مَا فِي الآْخَرِ مِنَ الْفِضَّةِ (2) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَظَاهِرُهُ جَوَازُ التَّفَاضُل - هُنَا أَيْضًا - لَكِنْ قَال الزَّيْلَعِيُّ نَقْلاً عَنِ الْخَانِيَّةِ: إِنْ كَانَ نِصْفُهَا صُفْرًا وَنِصْفُهَا فِضَّةً لاَ يَجُوزُ التَّفَاضُل، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ فِيمَا إِذَا بِيعَتْ بِجِنْسِهَا. وَوَجْهُهُ أَنَّ فِضَّتَهَا لَمَّا لَمْ تَصِرْ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 240، 241، والبدائع 5 / 220.
(2) المرجعين السابقين، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 141، 142، وفتح القدير مع الهداية 6 / 274، 275.(26/367)
مَغْلُوبَةً جُعِلَتْ كَأَنَّ كُلَّهَا فِضَّةٌ فِي حَقِّ الصَّرْفِ احْتِيَاطًا (1) .
42 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى جَوَازِ بَيْعِ نَقْدٍ مَغْشُوشٍ، كَدَنَانِيرَ فِيهَا فِضَّةٌ أَوْ نُحَاسٌ، أَوْ دَرَاهِمَ فِيهَا نُحَاسٌ بِمَغْشُوشٍ مِثْلِهِ مُرَاطَلَةً أَوْ مُبَادَلَةً. قَال الْحَطَّابُ: ظَاهِرُهُ وَلَوْ لَمْ يَتَسَاوَ غِشُّهُمَا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ ابْنِ رُشْدٍ. وَجَازَ بَيْعُ نَقْدٍ مَغْشُوشٍ بِخَالِصٍ مِنَ الْغِشِّ عَلَى الْقَوْل الرَّاجِحِ مِنْ كَلاَمِ الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا.
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ خِلاَفُهُ، أَيْ: مَنْعُ بَيْعِ النَّقْدِ الْمَغْشُوشِ بِالنَّقْدِ الْخَالِصِ مِنَ الْغِشِّ، وَنَقَل الأَْبِيُّ عَنِ التَّوْضِيحِ بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلاَفِ: أَنَّهُمْ إِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي الْمَغْشُوشِ الَّذِي لاَ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِهِمْ جَوَازُ بَيْعِ الْمَغْشُوشِ بِصِنْفِهِ الْخَالِصِ إِذَا كَانَ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ (2) .
وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ بَيْعِ الْمَغْشُوشِ: أَنْ يُبَاعَ لِمَنْ يَكْسِرُهُ لِيُصَيِّغَهُ حُلِيًّا، أَوْ لاَ يَغُشَّ بِهِ بِأَنْ يَدَّخِرَهُ لِعَاقِبَةٍ مَثَلاً.
وَيُكْرَهُ بَيْعُهُ لِمَنْ لاَ يُؤْمَنُ غِشُّهُ بِهِ: كَالصَّيَارِفَةِ، وَفَسْخُ بَيْعِهِ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَغُشُّ بِهِ إِنْ كَانَ قَائِمًا وَقُدِّرَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَفُوتَ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) مواهب الجليل للحطاب 4 / 335، وجواهر الإكليل 2 / 16.(26/368)
الْمَغْشُوشُ (1) .
43 - أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: الْغِشُّ الْمُخَالِطُ فِي الْمَوْزُونِ مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا، قَلِيلاً كَانَ أَمْ كَثِيرًا؛ لأَِنَّهُ يَظْهَرُ فِي الْوَزْنِ وَيَمْنَعُ التَّمَاثُل (2) . فَلاَ تُبَاعُ فِضَّةٌ خَالِصَةٌ بِمَغْشُوشَةٍ، وَلاَ فِضَّةٌ مَغْشُوشَةٌ بِفِضَّةٍ مَغْشُوشَةٍ (3) قَال السُّبْكِيُّ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْخَالِصَةِ بِالْمَغْشُوشَةِ، وَإِنْ قَل الْغِشُّ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْغِشُّ مِمَّا قِيمَتُهُ بَاقِيَةٌ أَمْ لاَ، لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الأَْصْحَابِ فِي ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ الْغِشُّ مِمَّا قِيمَتُهُ بَاقِيَةٌ فَبَيْعُ الْخَالِصَةِ بِالْمَغْشُوشَةِ هُوَ بَيْعُ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ وَشَيْءٍ، فَصَارَ كَمَسْأَلَةِ (مُدِّ عَجْوَةٍ) .
وَلأَِنَّ الْفِضَّةَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وَهِيَ مَجْهُولَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ؛ فَأَشْبَهَ بَيْعَ تُرَابِ الصَّاغَةِ وَاللَّبَنِ الْمَشُوبِ بِالْمَاءِ (4) .
وَأَمَّا الْمَغْشُوشَةُ بِغِشٍّ لاَ قِيمَةَ لَهُ بَاقِيَةٌ فَلِلْجَهْل بِالْمُمَاثَلَةِ، أَوْ تَحَقُّقِ الْمُفَاضَلَةِ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالْخَالِصَةِ، وَلاَ بِالْمَغْشُوشَةِ مِثْلِهَا (5) .
وَنَقَل السُّبْكِيُّ عَنْ صَاحِبِ التُّحْفَةِ فِي
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 16، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي 3 / 65، 66.
(2) تكملة المجموع للسبكي 10 / 398.
(3) المهذب 1 / 281.
(4) تكملة المجموع 1 / 408، 409.
(5) تكملة المجموع 10 / 409، والمهذب 1 / 281، ومغني المحتاج 2 / 17.(26/368)
الْمَغْشُوشَةِ: أَنَّهُ يُكْرَهُ أَخْذُهَا وَإِمْسَاكُهَا إِذَا كَانَ النَّقْدُ الَّذِي فِي أَيْدِي النَّاسِ خَالِصًا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَغْرِيرَ النَّاسِ فَلَوْ كَانَ جِنْسُ النَّقْدِ مَغْشُوشًا فَلاَ كَرَاهَةَ.
قَال السُّبْكِيُّ: وَأَفَادَ الرُّويَانِيُّ - أَيْضًا - أَنَّ الْغِشَّ لَوْ كَانَ قَلِيلاً مُسْتَهْلَكًا بِحَيْثُ لاَ يَأْخُذُ حَظًّا مِنَ الْوَرِقِ فَلاَ تَأْثِيرَ لَهُ فِي إِبْطَال الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ وُجُودَهُ كَعَدَمِهِ. وَقَدْ قِيل: يَتَعَذَّرُ طَبْعُ الْفِضَّةِ إِذَا لَمْ يُخَالِطْهَا خَلْطٌ مِنْ جَوْهَرٍ آخَرَ. . قُلْتُ: وَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْبِلاَدِ فِي هَذَا الزَّمَانِ (زَمَانِ السُّبْكِيِّ) ضُرِبَتِ الْفِضَّةُ خَالِصَةً فَتَشَقَّقَتْ، فَجُعِل فِيهَا فِي كُل أَلْفِ دِرْهَمٍ مِثْقَالاً مِنْ ذَهَبٍ فَانْصَلَحَتْ، لَكِنَّ مِثْل هَذَا إِذَا بِيعَ لاَ يَظْهَرُ فِي الْمِيزَانِ مَا مَعَهُ مِنَ الْغِشِّ (1) .
وَكُل مَا ذُكِرَ فِي الْفِضَّةِ يَأْتِي فِي الذَّهَبِ حَرْفًا بِحَرْفٍ (2) .
44 - وَفَصَّل الْحَنَابِلَةُ فِي بَيْعِ الأَْثْمَانِ الْمَغْشُوشَةِ بِمِثْلِهَا بَيْنَ مَا يَكُونُ الْغِشُّ فِيهِ مُتَسَاوِيًا وَمَعْلُومَ الْمِقْدَارِ وَمَا يَكُونُ الْغِشُّ فِيهِ غَيْرَ مُتَسَاوٍ أَوْ غَيْرَ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ فَقَالُوا بِجَوَازِ بَيْعِ الْمَغْشُوشِ بِمِثْلِهِ فِي الأَْوَّل وَعَدَمِ جَوَازِهِ فِي الثَّانِي.
قَال الْبُهُوتِيُّ: الأَْثْمَانُ الْمَغْشُوشَةُ إِذَا بِيعَتْ
__________
(1) تكملة المجموع للسبكي 10 / 409، 410، 411.
(2) نفس المرجع.(26/369)
بِغَيْرِهَا، أَيْ: بِأَثْمَانٍ خَالِصَةٍ مِنْ جِنْسِهَا لَمْ يَجُزْ، لِلْعِلْمِ بِالتَّفَاضُل، وَإِنْ بَاعَ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا مَغْشُوشًا بِمِثْلِهِ، وَالْغِشُّ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ مُتَفَاوِتٌ، أَوْ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّ الْجَهْل بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُل.
وَإِنْ عُلِمَ التَّسَاوِي فِي الذَّهَبِ الَّذِي فِي الدِّينَارِ، وَعُلِمَ تَسَاوِي الْغِشِّ الَّذِي فِيهِمَا جَازَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ، لِتَمَاثُلِهِمَا فِي الْمَقْصُودِ وَهُوَ الذَّهَبُ، وَفِي غَيْرِهِ، أَيِ: الْغِشِّ وَلَيْسَتْ مِنْ مَسْأَلَةِ (مُدِّ عَجْوَةٍ) ، لِكَوْنِ الْغِشِّ غَيْرَ مَقْصُودٍ، فَكَأَنَّهُ لاَ قِيمَةَ لَهُ كَالْمِلْحِ فِي الْخُبْزِ (1) .
وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ النُّقُودَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعُقُودِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي أَعْيَانِهَا، فَعَلَى هَذَا إِذَا تَبَايَعَا ذَهَبًا بِفِضَّةٍ فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا بِمَا قَبَضَهُ غِشًّا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَبِيعِ مِثْل: أَنْ يَجِدَ الدَّرَاهِمَ رَصَاصًا، أَوْ نُحَاسًا، أَوْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَالصَّرْفُ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهُ بَاعَهُ غَيْرَ مَا سَمَّى لَهُ.
وَإِذَا كَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ مِثْل: كَوْنِ الْفِضَّةِ سَوْدَاءَ، أَوْ خَشِنَةً، أَوْ سِكَّتِهَا غَيْرَ سِكَّةِ السُّلْطَانِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ الإِْمْسَاكِ وَبَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ (2) .
__________
(1) كشاف القناع 3 / 261، 262.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 48 - 51.(26/369)
النَّوْعُ السَّابِعُ - الصَّرْفُ بِالْفُلُوسِ:
45 - الْفُلُوسُ هِيَ النُّحَاسُ، أَوِ الْحَدِيدُ الْمَضْرُوبُ الَّذِي يُتَعَامَل بِهَا. فَهِيَ الْمَسْكُوكُ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (1) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ بِالْفُلُوسِ، لأَِنَّهَا أَمْوَالٌ مُتَقَوَّمَةٌ مَعْلُومَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ كَاسِدَةً يَجِبُ تَعْيِينُهَا، لأَِنَّهَا عُرُوضٌ، وَإِنْ كَانَتْ نَافِقَةً لَمْ يَجِبْ لأَِنَّهَا مِنَ الأَْثْمَانِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (2) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا صُرِفَتِ الْفُلُوسُ النَّافِقَةُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ نَسَاءً، أَوْ صُرِفَتِ الْفُلُوسُ بِالْفُلُوسِ تَفَاضُلاً. وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ.
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل:
46 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ - عَدَا مُحَمَّدٍ - وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَالشِّيرَازِيِّ وَصَاحِبِ الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى: أَنَّهُ لاَ رِبَا فِي فُلُوسٍ يُتَعَامَل بِهَا عَدَدًا وَلَوْ كَانَتْ نَافِقَةً؛ لِخُرُوجِهَا عَنِ الْكَيْل وَالْوَزْنِ، وَعَدَمُ النَّصِّ وَالإِْجْمَاعِ فِي ذَلِكَ كَمَا قَال الْبُهُوتِيُّ (3) ؛ وَلأَِنَّ عِلَّةَ حُرْمَةِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الثَّمَنِيَّةُ الْغَالِبَةُ الَّتِي
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 16.
(2) الدسوقي 3 / 45، ومغني المحتاج 2 / 17، وشرح منتهى الإرادات 2 / 194.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 194، وكشاف القناع 3 / 252، والفروع 4 / 148، 150.(26/370)
يُعَبَّرُ عَنْهَا - أَيْضًا - بِجَوْهَرِيَّةِ الأَْثْمَانِ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ عَنِ الْفُلُوسِ وَإِنْ رَاجَتْ، كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ (1) .
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ الْفُلُوسَ مِنَ الْعُرُوضِ وَإِنْ كَانَتْ نَافِقَةً (2) . وَوَجَّهَهُ الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا هِيَ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ، وَهُوَ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنُ الْمُتَّفِقُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَالْمُجَانَسَةُ وَإِنْ وُجِدَتْ هَاهُنَا فَلَمْ يُوجَدِ الْقَدْرُ لأَِنَّ الْفُلُوسَ تُبَاعُ بِالْعَدَدِ (3) ، وَهَذَا إِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ بِأَعْيَانِهَا.
وَعَلَى ذَلِكَ فَيَجُوزُ بَيْعُ الْفُلُوسِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ بَيْضَةٍ بِبَيْضَتَيْنِ، وَجَوْزَةٍ بِجَوْزَتَيْنِ، وَسِكِّينٍ بِسِكِّينَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (4) .
هَذَا، وَقَدْ فَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا: يَجُوزُ بَيْعُ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ كِلاَهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا دَيْنًا؛ لأَِنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي حَقِّهِمَا تَثْبُتُ بِاصْطِلاَحِهِمَا، إِذْ لاَ وِلاَيَةَ لِلْغَيْرِ عَلَيْهَا، فَتَبْطُل بِاصْطِلاَحِهِمَا، وَإِذَا بَطَلَتِ الثَّمَنِيَّةُ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 22، ومغني المحتاج 2 / 25، والجمل 3 / 45.
(2) أسنى المطالب 2 / 22، والقليوبي مع شرح المنهاج 3 / 52، ومغني المحتاج 2 / 25.
(3) البدائع 5 / 185.
(4) الهداية مع الفتح 6 / 162، والمراجع السابقة.(26/370)
تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَلاَ يَعُودُ وَزْنِيًّا لِبَقَاءِ الاِصْطِلاَحِ عَلَى الْعَدِّ.
وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ الثَّمَنِيَّةَ تَثْبُتُ بِاصْطِلاَحِ الْكُل فَلاَ تَبْطُل بِاصْطِلاَحِهِمَا، وَإِذَا بَقِيَتْ أَثْمَانًا لاَ تَتَعَيَّنُ؛ فَصَارَ كَمَا إِذَا كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا كَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ (1) .
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: صُوَرُ بَيْعِ الْفَلْسِ بِجِنْسِهِ أَرْبَعٌ:
الأُْولَى: أَنْ يَبِيعَ فَلْسًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا فَلاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةٌ - قَطْعًا - لاِصْطِلاَحِ النَّاسِ عَلَى سُقُوطِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ مِنْهَا، فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا فَضْلاً خَالِيًا مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ وَهُوَ الرِّبَا.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبِيعَ فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ عَيْنِهِمَا فَلاَ يَجُوزُ - أَيْضًا - وَإِلاَّ أَمْسَكَ الْبَائِعُ الْفَلْسَ الْمُعَيَّنَ وَقَبَضَهُ بِعَيْنِهِ مِنْهُ مَعَ فَلْسٍ آخَرَ، لاِسْتِحْقَاقِهِ فَلْسَيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ عَيْنُ مَالِهِ، وَيَبْقَى الْفَلْسُ الآْخَرُ خَالِيًا عَنِ الْعِوَضِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَ فَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا بِفَلْسٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَلاَ يَجُوزُ كَذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لَوْ جَازَ لَقَبَضَ الْمُشْتَرِي الْفَلْسَيْنِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ أَحَدَهُمَا مَكَانَ مَا اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ؛ فَيَبْقَى الآْخَرُ فَضْلاً بِلاَ عِوَضٍ اسْتُحِقَّ بِعَقْدِ الْبَيْعِ، وَهَذَا
__________
(1) الهداية مع الفتح 6 / 162.(26/371)
إِذَا رَضِيَ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ قَبْل قَبْضِ الثَّمَنِ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَبِيعَ فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِعَيْنِهِمَا، فَيَجُوزُ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ (1) .
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي:
47 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، جَزَمَ بِهَا أَبُو الْخَطَّابِ فِي خِلاَفِهِ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - إِلَى: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْفُلُوسِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً وَلاَ نَسَاءً، وَلاَ بَيْعُهَا بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ نَسَاءً (2) .
فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: أَرَأَيْتَ إِنِ اشْتَرَيْتَ خَاتَمَ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ تِبْرِ ذَهَبٍ بِفُلُوسٍ فَافْتَرَقْنَا قَبْل أَنْ نَتَقَابَضَ؟ قَال: لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ مَالِكًا قَال: لاَ يَجُوزُ فَلْسٌ بِفَلْسَيْنِ وَلاَ تَجُوزُ الْفُلُوسُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلاَ بِالدَّنَانِيرِ نَظِرَةً (3) .
وَنَقَل ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَرَبِيعَةَ أَنَّهُمَا كَرِهَا الْفُلُوسَ بِالْفُلُوسِ بَيْنَهُمَا فَضْلٌ أَوْ نَظِرَةٌ، وَقَالاَ: إِنَّهَا صَارَتْ سِكَّةً مِثْل سِكَّةِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ (4) وَحَمَل بَعْضُهُمُ الْكَرَاهَةَ عَلَى التَّحْرِيمِ (5) .
__________
(1) فتح القدير مع الهداية 6 / 162، 163.
(2) المدونة الكبرى 3 / 395، 396، فتح القدير مع الهداية 6 / 162، 163، وكشاف القناع 3 / 252، والفروع وتصحيحها 4 / 147، 151.
(3) المدونة 3 / 395، 396.
(4) نفس المرجع.
(5) إرشاد السالك مع شرحه أسهل المدارك 2 / 233.(26/371)
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ لِقَوْل مُحَمَّدٍ بِعَدَمِ الْجَوَازِ - أَيْضًا - بِأَنَّ الْفُلُوسَ أَثْمَانٌ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلاً، كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَدَلاَلَةُ الْوَصْفِ عِبَارَةٌ عَمَّا تُقَدَّرُ بِهِ مَالِيَّةُ الأَْعْيَانِ، وَمَالِيَّةُ الأَْعْيَانِ كَمَا تُقَدَّرُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ تُقَدَّرُ بِالْفُلُوسِ - أَيْضًا - فَكَانَتْ أَثْمَانًا، وَالثَّمَنُ لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ (عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) فَالْتُحِقَ التَّعْيِينُ فِيهِمَا بِالْعَدَمِ. فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ فَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، كَمَا لاَ يَجُوزُ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا. وَلأَِنَّهَا إِذَا كَانَتْ أَثْمَانًا فَالْوَاحِدُ يُقَابِل الْوَاحِدَ، فَبَقِيَ الآْخَرُ فَضْل مَالٍ لاَ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا، كَمَا حَرَّرَهُ الْكَاسَانِيُّ (1) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الأَْظْهَرُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْفُلُوسَ النَّافِقَةَ يَغْلِبُ عَلَيْهَا حُكْمُ الأَْثْمَانِ، وَتُجْعَل مِعْيَارًا لأَِمْوَال النَّاسِ. وَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَضْرِبَ لَهُمْ فُلُوسًا تَكُونُ بِقِيمَةِ الْعَدْل فِي مُعَامَلاَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ لَهُمْ (2) .
هَذَا، وَتَفْصِيل التَّعَامُل بِالْفُلُوسِ وَأَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ (فُلُوسٌ (3)) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 185.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 468، 469.
(3) أما الأوراق النقدية (البنكنوت) فلم يبحثها المتقدمون من الفقهاء، لعدم وجودها في زمانهم، وقد كتبت فيها رسائل جديدة أشملها (الورق النقدي) للشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، بحث فيها التاريخ وحقيقة الورق النقدي، ثم قيمته وحكمه مستنبطا مما كتبه الفقهاء في النقود وأحكام الفلوس، واستنتج أن الورق النقدي ثمن قائم بذاته له حكم النقدين من الذهب والفضة في جريان الربا والصرف ونحوهما (اللجنة)(26/372)
ظُهُورُ عَيْبٍ أَوْ نَقْصٍ فِي بَدَل الصَّرْفِ:
48 - لَقَدْ سَبَقَ الْقَوْل: بِأَنَّ الصَّرْفَ لاَ يَقْبَل خِيَارَ الشَّرْطِ لأَِنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ أَوْ تَمَامَهُ، وَذَلِكَ مُخِلٌّ بِالْقَبْضِ الْمَشْرُوطِ.
أَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَلاَ يَمْنَعُ تَمَامَ الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ فِي الصَّرْفِ؛ لأَِنَّ السَّلاَمَةَ عَنِ الْعَيْبِ مَطْلُوبَةٌ عَادَةً فَفِقْدَانُهَا يُوجِبُ الْخِيَارَ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ.
هَذَا، وَلِلْفُقَهَاءِ فِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ بَدَل الصَّرْفِ إِذَا كَانَ عَيْنًا فَرَدُّهُ بِالْعَيْبِ يَفْسَخُ الْعَقْدَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الرَّدُّ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا نَقَدَ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا بِأَنْ وَجَدَ الدَّرَاهِمَ الْمَقْبُوضَةَ زُيُوفًا أَوْ كَاسِدَةً، أَوْ وَجَدَهَا رَائِجَةً فِي بَعْضِ التِّجَارَاتِ دُونَ الْبَعْضِ - وَذَلِكَ عَيْبٌ عِنْدَ التِّجَارَةِ - فَرَدَّهَا فِي الْمَجْلِسِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالرَّدِّ، حَتَّى لَوِ اسْتَبْدَل مَكَانَهُ مُضِيَّ الصَّرْفِ.
وَإِنْ رَدَّهَا بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ بَطَل الصَّرْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، لِحُصُول الاِفْتِرَاقِ لاَ عَنْ قَبْضٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لاَ يَبْطُل إِذَا(26/372)
اسْتَبْدَل فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ (1) .
وَإِذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ فِي بَعْضِهِ فَرَدَّ الْمَعِيبَ فِي الْمَرْدُودِ انْتُقِضَ الصَّرْفُ فِي الْمَرْدُودِ، وَبَقِيَ فِي غَيْرِهِ؛ لاِرْتِفَاعِ الْقَبْضِ فِيهِ فَقَطْ (2) .
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِعِبَارَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَتَفْصِيلٍ حَيْثُ قَالُوا:
إِنْ وَجَدَ أَحَدُهُمَا عَيْبًا فِي دَرَاهِمِهِ، أَوْ دَنَانِيرِهِ مِنْ نَقْصٍ أَوْ غِشٍّ، أَوْ غَيْرِ فِضَّةٍ وَلاَ ذَهَبٍ كَرَصَاصٍ وَنُحَاسٍ، فَإِنْ كَانَ بِالْحَضْرَةِ مِنْ غَيْرِ مُفَارَقَةٍ وَلاَ طُولٍ جَازَ لَهُ الرِّضَا وَصَحَّ الصَّرْفُ وَطَلَبَ الإِْتْمَامَ فِي النَّاقِصِ أَوِ الْبَدَل فِي الْغِشِّ وَالرَّصَاصِ فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ مَنْ أَبَاهُ إِنْ لَمْ تُعَيَّنِ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُفَارَقَةٍ، أَوْ طُولٍ فِي الْمَجْلِسِ فَإِنْ رَضِيَ بِغَيْرِ النَّقْصِ صَحَّ الصَّرْفُ، وَإِلاَّ نُقِضَ، وَأَخَذَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ وَقَعَ الصَّرْفُ عَلَى الْعَيْنِ عَلَى أَنَّهَا فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ، وَخَرَجَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا نُحَاسًا بَطَل الْعَقْدُ؛ لأَِنَّهُ بَانَ أَنَّهُ غَيْرُ مَا عُقِدَ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ نُحَاسًا، أَوْ نَحْوَهُ صَحَّ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي دُونَهُ
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني 5 / 219، 220.
(2) ابن عابدين 4 / 236.
(3) الشرح الصغير للدردير 3 / 58، 59، وجواهر الإكليل 2 / 13.(26/373)
بِالْقِسْطِ، وَلِصَاحِبِ الْبَاقِي الْخِيَارُ بَيْنَ الإِْجَازَةِ وَالْفَسْخِ. وَإِنْ خَرَجَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ مَعِيبًا تَخَيَّرَ وَلَمْ يَسْتَبْدِل؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى عَيْنِهِ فَلاَ يَتَجَاوَزُهُ الْحَقُّ إِلَى غَيْرِهِ (1) .
وَإِنْ وَقَعَ الصَّرْفُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا نُحَاسًا قَبْل التَّفَرُّقِ اسْتَبْدَل بِهِ. وَإِنْ خَرَجَ نُحَاسًا بَعْدَ التَّفَرُّقِ بَطَل الْعَقْدُ لِعَدَمِ التَّقَابُضِ. وَإِنْ خَرَجَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ مَعِيبًا اسْتَبْدَل فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ، وَإِنْ فَارَقَ مَجْلِسَ الْعَقْدِ. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الأَْثْمَانَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ عِنْدَهُمْ (2) وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي الْفِقْرَةِ التَّالِيَةِ.
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ حَيْثُ قَالُوا: إِنْ ظَهَرَ عَيْبٌ فِي جَمِيعِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَلَوْ يَسِيرًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَنُحَاسٍ فِي الدَّرَاهِمِ وَالْمَسِّ فِي الذَّهَبِ بَطَل الْعَقْدُ؛ لأَِنَّهُ بَاعَهُ غَيْرَ مَا سَمَّى لَهُ. وَإِنْ ظَهَرَ فِي بَعْضِهِ بَطَل الْعَقْدُ فِيهِ فَقَطْ (3) ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الصَّرْفُ عَيْنًا بِعَيْنٍ، بِأَنْ يَقُول: بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ وَيُشِيرُ إِلَيْهِمَا وَهُمَا حَاضِرَانِ. وَالْعَيْبُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَبِيعِ كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ (4) .
أَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَبِيعِ مِثْل: كَوْنِ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 76، والمهذب 1 / 279.
(2) نفس المراجع.
(3) كشاف القناع 3 / 267، 268، والمس نوع من النحاس.
(4) المغني 4 / 47، 48.(26/373)
الْفِضَّةِ سَوْدَاءَ، أَوْ خَشِنَةً، فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ الإِْمْسَاكِ وَبَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ وَالرَّدِّ، وَلَيْسَ لَهُ الْبَدَل؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ وَاقِعٌ عَلَى عَيْنِهِ، فَإِذَا أَخَذَ غَيْرَهُ أَخَذَ مَا لَمْ يَشْتَرِ (1) .
وَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ كَأَنْ يَقُول: بِعْتُكَ دِينَارًا مِصْرِيًّا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ يَصِحُّ، لَكِنْ لاَ بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِمَا بِالتَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِذَا تَقَابَضَا فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا بِمَا قَبَضَهُ عَيْبًا قَبْل التَّفَرُّقِ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْبَدَل، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ أَمْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى مُطْلَقٍ لاَ عَيْبَ فِيهِ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَإِنْ رَضِيَهُ بِعَيْبِهِ وَالْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ جَازَ، وَإِنْ أَخَذَ الأَْرْشَ فَإِنْ كَانَ الْعِوَضَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ لإِِفْضَائِهِ إِلَى التَّفَاضُل فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّمَاثُل. وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ جَازَ (2) .
تَعَيُّنُ النُّقُودِ بِالتَّعْيِينِ فِي الصَّرْفِ:
49 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى: أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْعَقْدِ فِيمَا عَيَّنَاهُ، وَيَتَعَيَّنُ عِوَضًا فِيهِ، فَلاَ يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ كَمَا فِي سَائِرِ
__________
(1) نفس المرجع.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 51، 52.(26/374)
الأَْعْوَاضِ، وَإِنْ خَرَجَ مَغْصُوبًا بَطَل الْعَقْدُ، وَهَذَا لأَِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ فَيَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَسَائِرِ الأَْعْوَاضِ؛ وَلأَِنَّ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ غَرَضًا فِي التَّعْيِينِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ، وَلِهَذَا لَوِ اشْتَرَى ذَهَبًا بِوَرِقٍ بِعَيْنِهِمَا فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا فِيمَا اشْتَرَاهُ عَيْبًا مِنْ جِنْسِهِ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ أَوْ يَقْبَل، وَلَيْسَ لَهُ الْبَدَل كَمَا سَبَقَ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّ الأَْثْمَانَ النَّقْدِيَّةَ لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَيْ: إِنَّ الْبَدَلَيْنِ فِي الصَّرْفِ لاَ يَتَعَيَّنَانِ بِالتَّعْيِينِ، فَلَوْ تَبَايَعَا دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ جَازَ أَنْ يُمْسِكَا مَا أَشَارَا إِلَيْهِ فِي الْعَقْدِ وَيُؤَدِّيَا بَدَلَهُ قَبْل الاِفْتِرَاقِ.
وَذَلِكَ لأَِنَّ الثَّمَنَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا فِي الذِّمَّةِ كَمَا نُقِل عَنِ الْفَرَّاءِ، فَلَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلاً لِلتَّعْيِينِ بِالإِْشَارَةِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ إِطْلاَقُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الصَّرْفِ بِغَيْرِ الإِْشَارَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ يَجُوزُ إِبْدَالُهَا، وَلاَ يَبْطُل الْعَقْدُ بِخُرُوجِهَا مَغْصُوبَةً (2) .
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 258، جواهر الإكليل 5 / 13، ومواهب الجليل للحطاب 4 / 278، والمهذب 1 / 266، والمغني لابن قدامة 4 / 50 وكشاف القناع 3 / 270.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 244، والفتاوى الهندية 3 / 12، وفتح القدير 5 / 468، والمغني لابن قدامة 4 / 50.(26/374)
صَرُورَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّرُورَةُ بِصَادٍ مُهْمَلَةٍ وَبِتَخْفِيفِ الرَّاءِ: مَنْ لَمْ يَحُجَّ (1) . وَالْمُرَادُ بِهِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: الشَّخْصُ الَّذِي لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ؛ لأَِنَّهُ يَشْمَل مَنْ لَمْ يَحُجَّ أَصْلاً، وَمَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ، أَوْ عَنْ نَفْسِهِ نَفْلاً أَوْ نَذْرًا (2) .
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: هُوَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ قَطُّ (3) ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ.
قَال النَّوَوِيُّ: سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ صَرَّ بِنَفْسِهِ عَنْ إِخْرَاجِهَا فِي الْحَجِّ (4) وَكَرِهَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ تَسْمِيَةَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ صَرُورَةً؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
__________
(1) القاموس، ولسان العرب.
(2) ابن عابدين 2 / 241.
(3) كفاية الطالب 2 / 27.
(4) المجموع 7 / 117.(27/5)
لاَ صَرُورَةَ فِي الإِْسْلاَمِ (1) قَال النَّوَوِيُّ: أَيْ لاَ يَبْقَى أَحَدٌ فِي الإِْسْلاَمِ بِلاَ حَجٍّ، وَلاَ يَحِل لِمُسْتَطِيعٍ تَرْكُهُ (2) ، فَكَرَاهَةُ تَسْمِيَةِ مَنْ لَمْ يَحُجَّ صَرُورَةً، وَاسْتِدْلاَلُهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِيهِ نَظَرٌ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَعَرُّضٌ لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي بَحْثِ الْحَجِّ: أَنَّ الْحَجَّ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ مَعًا؛ فَيَقْبَل النِّيَابَةَ فِي الْجُمْلَةِ. ثُمَّ فَصَّلُوا بَيْنَ حَجِّ الْفَرْضِ وَحَجِّ النَّفْل، وَبَيَّنُوا شُرُوطَ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ، كَمَا بَيَّنُوا شُرُوطَ الآْمِرِ وَالْمَأْمُورِ أَيِ النَّائِبِ، وَهَل يَصِحُّ الْحَجُّ عَنَ الْغَيْرِ مِنْ قِبَل مَنْ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِصَرُورَةٍ أَمْ لاَ؟ وَهَل يَصِحُّ أَخْذُ الأُْجْرَةِ فِي ذَلِكَ؟ وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: نِيَابَةُ الصَّرُورَةِ فِي حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ:
3 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ النَّائِبِ فِي حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ
__________
(1) حديث: " لا صرورة في الإسلام ". أخرجه أبو داود (2 / 349 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وفي إسناده راو ضعيف ذكر تضعيفه الذهبي في الميزان (3 / 312 - ط. الحلبي) .
(2) المجموع للنووي 7 / 113، 117، وكشاف القناع 2 / 522، مطالب أولي النهى 2 / 449.
(3) المجموع 7 / 119.(27/5)
عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ، فَلَيْسَ لِلصَّرُورَةِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ فَعَل وَقَعَ إحْرَامُهُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ لِنَفْسِهِ (1) لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلاً يَقُول: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَال: مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَال: أَخٌ لِي أَوْ قَرِيبٌ لِي. قَال: حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَال: لاَ: قَال: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنْ أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ لاَ عَنِ الْغَيْرِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ عَلَيْهِ رَدَّ مَا أَخَذَ مِنَ النَّفَقَةِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْحَجُّ عَنْهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَحُجَّ (3) قَال النَّوَوِيُّ: وَبِهِ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ (4) .
وَفِي الْمُغْنِي: قَال أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: يَقَعُ الْحَجُّ بَاطِلاً، وَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْهُ وَلاَ عَنْ غَيْرِهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (5) -.
__________
(1) المجموع للنووي 7 / 117، 118، والمغني ابن قدامة 3 / 245، 246.
(2) حديث: " حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ". أخرجه أبو داود (2 / 403 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه النووي في المجموع (7 / 117 - ط المنيرية) .
(3) المغني 3 / 246.
(4) المجموع 7 / 117 - 118.
(5) المغني 3 / 245.(27/6)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُشْتَرَطُ فِي النَّائِبِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، فَيَصِحُّ حَجُّ الصَّرُورَةِ، لَكِنِ الأَْفْضَل أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ خُرُوجًا عَنِ الْخِلاَفِ، فَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ حَجُّ الصَّرُورَةِ.
وَهَل الْكَرَاهَةُ تَحْرِيمِيَّةٌ أَمْ تَنْزِيهِيَّةٌ؟ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْفَتْحِ: وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ: أَنَّ حَجَّ الصَّرُورَةِ عَنْ غَيْرِهِ إِنْ كَانَ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ بِمِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَالصِّحَّةِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ؛ لأَِنَّهُ تَضْيِيقٌ عَلَيْهِ فِي أَوَّل سِنِي الإِْمْكَانِ فَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، وَكَذَا لَوْ تَنَفَّل لِنَفْسِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِعَيْنِ الْحَجِّ الْمَفْعُول، بَل لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْفَوَاتُ إِذِ الْمَوْتُ فِي سَنَةٍ غَيْرُ نَادِرٍ. ثُمَّ نُقِل عَنِ الْبَحْرِ قَوْلُهُ: وَالْحَقُّ أَنَّهَا تَنْزِيهِيَّةٌ عَلَى الآْمِرِ لِقَوْلِهِمْ: وَالأَْفْضَل. . إِلَخْ، تَحْرِيمِيَّةٌ عَلَى الصَّرُورَةِ، أَيِ الْمَأْمُورِ الَّذِي اجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْحَجِّ، وَلَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ؛ لأَِنَّهُ أَثِمَ بِالتَّأْخِيرِ. اهـ. ثُمَّ قَال: وَهَذَا لاَ يُنَافِي كَلاَمَ الْفَتْحِ؛ لأَِنَّهُ فِي الْمَأْمُورِ (1) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِصِحَّةِ حَجِّ الصَّرُورَةِ بِإِطْلاَقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ: حُجِّي عَنْ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 241، وفتح القدير 2 / 320، 321.(27/6)
أَبِيكِ (1) مِنْ غَيْرِ اسْتِخْبَارِهَا عَنْ حَجِّهَا لِنَفْسِهَا قَبْل ذَلِكَ. قَال فِي الْفَتْحِ: وَتَرْكُ الاِسْتِفْصَال فِي وَقَائِعِ الأَْحْوَال يَنْزِل مَنْزِلَةَ عُمُومِ الْخِطَابِ؛ فَيُفِيدُ جَوَازَهُ عَنِ الْغَيْرِ مُطْلَقًا. وَحَدِيثُ شُبْرُمَةَ يُفِيدُ اسْتِحْبَابَ تَقْدِيمِ حَجَّةِ نَفْسِهِ؛ وَبِذَلِكَ يَحْصُل الْجَمْعُ (2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَقَدْ مَنَعُوا اسْتِنَابَةَ صَحِيحٍ مُسْتَطِيعٍ فِي فَرْضٍ لِحَجَّةِ الإِْسْلاَمِ أَوْ حَجَّةٍ مَنْذُورَةٍ. قَال الْحَطَّابُ: لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ، وَتُفْسَخُ إِذَا عُثِرَ عَلَيْهَا (3) . أَمَّا الصَّرُورَةُ: فَيُكْرَهُ عِنْدَهُمْ حَجُّهُ عَنِ الْغَيْرِ.
ثَانِيًا - حُكْمُ الأُْجْرَةِ فِي حَجِّ الصَّرُورَةِ:
4 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ: بِعَدَمِ جَوَازِ أَخْذِ الأُْجْرَةِ لِمَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَوِ اسْتَأْجَرَ رَجُلاً عَلَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بِكَذَا لَمْ يَجُزْ حَجُّهُ، وَإِنَّمَا يَقُول: أَمَرْتُكَ أَنْ تَحُجَّ عَنِّي بِلاَ ذِكْرِ إِجَارَةٍ، وَلَهُ نَفَقَةُ الْمِثْل.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْكِفَايَةِ: أَنَّهُ
__________
(1) حديث " حجي عن أبيك ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 378 - ط. السلفية) ومسلم (2 / 974 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(2) فتح القدير 2 / 321.
(3) جواهر الإكليل 1 / 166.(27/7)
يَقَعُ الْحَجُّ مِنَ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ الأَْصْل عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (1) .
وَعَدَمُ جَوَازِ الأُْجْرَةِ فِي الْحَجِّ هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ - أَيْضًا (2) - قَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي الصَّرُورَةِ الَّذِي يَحُجُّ عَنْ غَيْرِهِ: عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ مِنَ النَّفَقَةِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَقَعَ الْحَجُّ عَنْهُ (3) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: الْجَوَازُ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: لأَِنَّهُ أَخَذَ الْعِوَضَ عَنِ الْعِبَادَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شِيَمِ أَهْل الْخَيْرِ (4) وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حَجٌّ ف 120) .
قَال الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ: وَلاَ أُجْرَةَ لَهُ - يَعْنِي لِلصَّرُورَةِ - لأَِنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِمَا فَعَلَهُ (5) .
__________
(1) ابن عابدين مع الدر المختار 2 / 240، وانظر في الموسوعة الفقهية (مصطلح: حج. ف: 120 الاستئجار على الحج) .
(2) المغني 3 / 331.
(3) المغني 3 / 346.
(4) حاشية الدسوقي 2 / 18، وجواهر الإكليل 1 / 166.
(5) شرح أسنى المطالب على روض الطالب 1 / 457.(27/7)
صَرِيحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّرِيحُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي خَلَصَ مِنْ تَعَلُّقَاتِ غَيْرِهِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ صَرُحَ الشَّيْءُ بِالضَّمِّ صَرَاحَةً وَصُرُوحَةً، وَالْعَرَبِيُّ الصَّرِيحُ: هُوَ خَالِصُ النَّسَبِ، وَالْجَمْعُ صُرَحَاءُ.
وَيُطْلَقُ الصَّرِيحُ - أَيْضًا - عَلَى كُل خَالِصٍ، وَمِنْهُ: الْقَوْل الصَّرِيحُ: وَهُوَ الَّذِي لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى إِضْمَارٍ أَوْ تَأْوِيلٍ. وَصَرَّحَ بِمَا فِي نَفْسِهِ بِالتَّشْدِيدِ: أَخْلَصَهُ لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ، أَوْ أَذْهَبَ عَنْهُ احْتِمَالاَتِ الْمَجَازِ وَالتَّأْوِيل (1) .
وَأَمَّا الصَّرِيحُ فِي الاِصْطِلاَحِ: فَهُوَ كَمَا فِي التَّعْرِيفَاتِ: اسْمٌ لِكَلاَمٍ مَكْشُوفٍ الْمُرَادُ بِهِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الاِسْتِعْمَال حَقِيقَةً كَانَ أَوْ مَجَازًا (2) .
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: أَنَّ الصَّرِيحَ مَا ظَهَرَ الْمُرَادُ بِهِ ظُهُورًا بَيِّنًا بِكَثْرَةِ الاِسْتِعْمَال.
__________
(1) المصباح والقاموس والصحاح مادة (صرح) .
(2) التعريفات للجرجاني / 174 ط. الأولى.(27/8)
وَذَكَرَ صَاحِبُ فَتْحِ الْقَدِيرِ: أَنَّ الصَّرِيحَ. مَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَعْنَى، بِحَيْثُ يَتَبَادَرُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا (1) .
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ: أَنَّ الصَّرِيحَ هُوَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِمَعْنًى لاَ يُفْهَمُ مِنْهُ غَيْرُهُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، وَيُقَابِلُهُ: الْكِنَايَةُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْكِنَايَةُ:
2 - الْكِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ: أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشَيْءٍ يُسْتَدَل بِهِ عَلَى الْمُكَنَّى عَنْهُ كَالرَّفَثِ وَالْغَائِطِ، وَهِيَ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ كَنَّيْتُ بِكَذَا عَنْ كَذَا مِنْ بَابِ رَمَى (3) . وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: فَهِيَ كَمَا فِي التَّعْرِيفَاتِ لِلْجُرْجَانِيِّ: كَلاَمٌ اسْتَتَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ بِالاِسْتِعْمَال وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ ظَاهِرًا فِي اللُّغَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةَ أَمِ الْمَجَازَ. وَذَكَرَ صَاحِبُ فَتْحِ الْقَدِيرِ: أَنَّ الْكِنَايَةَ مَا خَفِيَ الْمُرَادُ بِهِ لِتَوَارُدِ الاِحْتِمَالاَتِ عَلَيْهِ بِخِلاَفِ الصَّرِيحِ (4) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَبَيْنَ الصَّرِيحِ: أَنَّ
__________
(1) فتح القدير والعناية بهامشه 3 / 44 - 45 ط الأميرية.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي / 293 ط. الأولى، المنثور 2 / 306 ط. الأولى.
(3) المصباح مادة (كنى) .
(4) فتح القدير والعناية بهامشه 3 / 87 - 88 ط. الأميرية.(27/8)
الصَّرِيحَ يُدْرَكُ الْمُرَادُ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ النُّطْقِ بِهِ وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ، بِخِلاَفِ الْكِنَايَةِ؛ فَإِنَّ السَّامِعَ يَتَرَدَّدُ فِيهَا فَيَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ.
التَّعْرِيضُ:
3 - وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذٌ مِنْ عَرَضْتُ لَهُ وَعَرَّضْتُ بِهِ تَعْرِيضًا: إِذَا قُلْتَ قَوْلاً وَأَنْتَ تَعْنِيهِ. فَالتَّعْرِيضُ خِلاَفُ التَّصْرِيحِ مِنَ الْقَوْل، كَمَا إِذَا سَأَلْتَ رَجُلاً: هَل رَأَيْتَ فُلاَنًا - وَقَدْ رَآهُ؛ وَيَكْرَهُ أَنْ يَكْذِبَ - فَيَقُول: إِنَّ فُلاَنًا لَيُرَى؛ فَيَجْعَل كَلاَمَهُ مِعْرَاضًا فِرَارًا مِنَ الْكَذِبِ (1) .
وَذَكَرَ الْجُرْجَانِيُّ فِي التَّعْرِيفَاتِ: أَنَّ التَّعْرِيضَ فِي الْكَلاَمِ مَا يَفْهَمُ بِهِ السَّامِعُ مُرَادَهُ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ (2) .
مَنْشَأُ الصَّرِيحِ:
4 - مَأْخَذُ الصَّرِيحِ: هَل هُوَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِهِ أَوْ شُهْرَةُ الاِسْتِعْمَال؟
قَال السُّيُوطِيُّ: فِيهِ خِلاَفٌ.
وَقَال السُّبْكِيُّ: الَّذِي أَقُولُهُ: إِنَّهَا مَرَاتِبُ. أَحَدُهَا: مَا تَكَرَّرَ قُرْآنًا وَسُنَّةً، مَعَ الشِّيَاعِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَالْعَامَّةِ؛ فَهُوَ صَرِيحٌ - قَطْعًا - كَلَفْظِ الطَّلاَقِ.
__________
(1) المصباح مادة (عرض) .
(2) التعريفات للجرجاني / 85 (ط. الأولى)(27/9)
الثَّانِيَةُ: الْمُتَكَرِّرُ غَيْرُ الشَّائِعِ، كَلَفْظِ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ، فِيهِ خِلاَفٌ.
الثَّالِثَةُ: الْوَارِدُ غَيْرُ الشَّائِعِ، كَالاِفْتِدَاءِ، وَفِيهِ خِلاَفٌ أَيْضًا.
الرَّابِعَةُ: وُرُودُهُ دُونَ وُرُودِ الثَّالِثَةِ، وَلَكِنَّهُ شَائِعٌ عَلَى لِسَانِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ كَالْخُلْعِ وَالْمَشْهُورُ: أَنَّهُ صَرِيحٌ.
الْخَامِسَةُ: مَا لَمْ يَرِدْ، وَلَمْ يَشِعْ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ الْعَامَّةِ، مِثْل: حَلاَل اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ كِنَايَةٌ (1) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّرِيحِ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ:
5 - الْقَاعِدَةُ الأُْولَى: الصَّرِيحُ فِيهِ مَعْنَى التَّعَبُّدِ.
وَذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ؛ وَلِكَوْنِ الصَّرِيحِ فِيهِ مَعْنَى التَّعَبُّدِ فَقَدْ حَصَرُوهُ فِي مَوَاضِعَ: كَالطَّلاَقِ وَنَحْوِهِ، وَمِنْ ثَمَّ لَوْ عَمَّ فِي نَاحِيَةٍ اسْتِعْمَال الطَّلاَقِ فِي إِرَادَةِ التَّخَلُّصِ عَنِ الْوَثَاقِ وَنَحْوِهِ، فَخَاطَبَهَا الزَّوْجُ بِالطَّلاَقِ، وَقَال: أَرَدْتُ بِهِ ذَلِكَ - أَيِ التَّخَلُّصَ عَنِ الْوَثَاقِ - لَمْ يُقْبَل؛ لأَِنَّ الاِصْطِلاَحَ الْخَاصَّ لاَ يَرْفَعُ الْعَامَّ (2) .
6 - الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: الصَّرِيحُ يَصِيرُ كِنَايَةً بِالْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ.
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي / 293 (ط. الأولى) .
(2) المنثور للزركشي 2 / 308 (ط. الأولى) .(27/9)
وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ - أَيْضًا - الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ؛ وَلِهَذَا لَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ، أَوْ فَارَقْتُكِ بِالْجِسْمِ، أَوْ سَرَّحْتُكِ مِنَ الْيَدِ، أَوْ إِلَى السُّوقِ لَمْ تَطْلُقْ؛ فَإِنَّ أَوَّل اللَّفْظِ مُرْتَبِطٌ بِآخِرِهِ، وَهُوَ يُضَاهِي الاِسْتِثْنَاءَ كَمَا قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ.
وَمِمَّا يُعَارِضُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ - كَمَا ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ - قَوْلُهُمْ: إِنَّ السُّؤَال لاَ يُلْحِقُ الْكِنَايَةَ بِالصَّرِيحِ، إِلاَّ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ مَا لَوْ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ - وَاسْمُهَا فَاطِمَةُ: طَلِّقْنِي، فَقَال: طَلُقَتْ فَاطِمَةُ، ثُمَّ قَال: نَوَيْتُ فَاطِمَةَ أُخْرَى طَلُقَتْ، وَلاَ يُقْبَل لِدَلاَلَةِ الْحَال، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَال ابْتِدَاءً: طَلُقَتْ فَاطِمَةُ، ثُمَّ قَال: نَوَيْتُ أُخْرَى (1) .
7 - الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: الصَّرِيحُ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، وَالْكِنَايَةُ لاَ تَلْزَمُ إِلاَّ بِنِيَّةٍ: -
وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ، وَالسُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: الصَّرِيحُ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ: أَيْ نِيَّةِ الإِْيقَاعِ؛ لأَِنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لَهُ فَاسْتَغْنَى عَنِ النِّيَّةِ، وَأَمَّا قَصْدُ اللَّفْظِ فَيُشْتَرَطُ لِتَخْرُجَ مَسْأَلَةُ سَبْقِ اللِّسَانِ.
وَمِنْ هَاهُنَا: يَفْتَرِقُ الصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ،
__________
(1) المنثور للزركشي 2 / 308 - 309 ط. الأولى.(27/10)
فَالصَّرِيحُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَمْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَصْدُ اللَّفْظِ، وَالْكِنَايَةُ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَمْرَانِ: قَصْدُ اللَّفْظِ، وَنِيَّةُ الإِْيقَاعِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَال: أَنْ يَقْصِدَ حُرُوفَ الطَّلاَقِ لِلْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ، لِيُخْرِجَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَثَاقٍ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِمُ الصَّرِيحُ: لاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ كَمَا ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ: قَصْدُ الْمُكْرَهِ إِيقَاعَ الطَّلاَقِ، فَإِنَّ فِيهِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يَقَعُ؛ لأَِنَّ اللَّفْظَ سَاقِطٌ بِالإِْكْرَاهِ، وَالنِّيَّةُ لاَ تَعْمَل وَحْدَهَا. وَالأَْصَحُّ: يَقَعُ لِقَصْدِهِ بِلَفْظِهِ.
وَعَلَى هَذَا فَصَرِيحُ لَفْظِ الطَّلاَقِ عِنْدَ الإِْكْرَاهِ كِنَايَةٌ إِنْ نَوَى وَقَعَ، وَإِلاَّ فَلاَ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِمْ: الْكِنَايَةُ تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ مَا إِذَا قِيل لَهُ: طَلَّقْتَ؟ فَقَال: نَعَمْ. فَقِيل: يَلْزَمُهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلاَقًا. وَقِيل: يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ (1) .
8 - الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ: الصَّرَائِحُ تَعْمَل بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ بِلاَ خِلاَفٍ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ: مَا إِذَا قِيل لِلْكَافِرِ: قُل: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَقَالَهَا حُكِمَ بِإِسْلاَمِهِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَإِنْ قَالَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا يُحْكَمُ
__________
(1) المنثور للزركشي 2 / 310. الأولى، الأشباه والنظائر للسيوطي / 293 - 294 ط. الأولى.(27/10)
بِإِسْلاَمِهِ. وَوَجْهُ الْمَنْعِ احْتِمَال قَصْدِ الْحِكَايَةِ (1) .
9 - الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ: كُل تَرْجَمَةٍ (عِنْوَانٍ) نُصِبَتْ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الشَّرِيعَةِ فَالْمُشْتَقُّ مِنْهَا صَرِيحٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ، وَالسُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهَا الْوُضُوءُ عَلَى وَجْهٍ - وَالأَْصَحُّ فِيهِ الصِّحَّةُ - وَالتَّيَمُّمُ فَإِنَّهُ لاَ يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ النِّيَّةِ فِي الأَْصَحِّ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْفَرْضِ. وَالشَّرِكَةُ: فَإِنَّهُ لاَ يَكْفِي فِيهَا مُجَرَّدُ: اشْتَرَكْنَا.
وَالْخُلْعُ: فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ صَرِيحًا إِلاَّ بِذِكْرِ الْمَال (2) .
10 - الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ: الصَّرِيحُ فِي بَابِهِ إِذَا وَجَدَ نَفَاذًا فِي مَوْضُوعِهِ لاَ يَكُونُ كِنَايَةً فِي غَيْرِهِ، وَمَعْنَى وَجَدَ نَفَاذًا: أَيْ أَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ صَرِيحًا.
وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ، وَذَكَرَهَا السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: الطَّلاَقُ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ فَسْخًا أَوْ ظِهَارًا بِالنِّيَّةِ وَبِالْعَكْسِ. أَيْ: أَنَّ الظِّهَارَ لاَ يَكُونُ طَلاَقًا أَوْ فَسْخًا
__________
(1) المنثور للزركشي 2 / 310 ط. الأولى.
(2) المنثور للزركشي 2 / 310 - 311 ط. الأولى. والأشباه والنظائر للسيوطي / 296 ط. الأولى.(27/11)
بِالنِّيَّةِ - أَيْضًا -؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَرِيحٌ فِي بَابِهِ، وَوَجَدَ نَفَاذًا فِي مَوْضُوعِهِ؛ فَلاَ يَكُونُ كِنَايَةً فِي غَيْرِهِ. وَمِنْ فُرُوعِهَا - أَيْضًا - مَا لَوْ قَال فِي الإِْجَارَةِ: بِعْتُكَ مَنْفَعَتَهَا لَمْ تَصِحَّ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ مَوْضُوعٌ لِمِلْكِ الأَْعْيَانِ فَلاَ يُسْتَعْمَل فِي الْمَنَافِعِ، كَمَا لاَ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِلَفْظِ الإِْجَارَةِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ صُوَرٌ ذَكَرَهَا الزَّرْكَشِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ، وَذَكَرَهَا السُّيُوطِيُّ - أَيْضًا - فِي الأَْشْبَاهِ نَقْلاً عَنِ الزَّرْكَشِيِّ وَاعْتَرَضَ عَلَى بَعْضِهَا وَقَال: إِنَّهَا لاَ تُسْتَثْنَى؛ لأَِنَّ الصَّرِيحَ فِيهَا لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا فِي مَوْضُوعِهِ.
وَمِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ مَا يَأْتِي: -
الأُْولَى: إِذَا جَعَلْنَا الْخُلْعَ صَرِيحًا فِي الْفَسْخِ، فَفِي كَوْنِهِ كِنَايَةً فِي الطَّلاَقِ يَنْقُصُ بِهِ الْعَدَدُ إِذَا نَوَيَاهُ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا مِنْ حَيْثُ النَّقْل يَكُونُ طَلاَقًا.
الثَّانِيَةُ: لَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَنَوَى الطَّلاَقَ وَقَعَ، مَعَ أَنَّ التَّحْرِيمَ صَرِيحٌ فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ.
الثَّالِثَةُ: لَوْ قَال: بِعْتُكِ نَفْسَكِ بِكَذَا. وَقَالَتْ: اشْتَرَيْتُ فَكِنَايَةُ خُلْعٍ. وَقَال السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ: إِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لاَ تُسْتَثْنَى؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ فِيهَا لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا فِي مَوْضُوعِهِ.(27/11)
الرَّابِعَةُ: لَوْ قَال: مَالِي طَالِقٌ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الصَّدَقَةَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ. وَإِنْ نَوَى صَدَقَةَ مَالِهِ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْصِدَ قُرْبَةً.
وَعَلَى هَذَا: فَهَل يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِهِ، أَوْ يَتَخَيَّرَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَكَفَّارَةِ يَمِينٍ وَاحِدَةٍ؟ وَجْهَانِ. وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لاَ تُسْتَثْنَى - أَيْضًا - لأَِنَّ الصَّرِيحَ فِيهَا لَمْ يَجِدْ نَفَاذًا فِي مَوْضُوعِهِ.
الْخَامِسَةُ: أَتَى بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ وَقَال: أَرَدْتُ التَّوْكِيل: قُبِل عِنْدَ الأَْكْثَرِينَ.
السَّادِسَةُ: لَوْ رَاجَعَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ، أَوِ التَّزْوِيجِ فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ كِنَايَةٌ تَنْفُذُ بِالنِّيَّةِ لإِِشْعَارِهِ بِالْمَعْنَى.
السَّابِعَةُ: إِذَا قَال مَنْ ثَبَتَ لَهُ الْفَسْخُ: فَسَخْتُ نِكَاحَكِ وَأَطْلَقَ، أَوْ نَوَاهُ حَصَل الْفَسْخُ. وَإِنْ نَوَى بِالْفَسْخِ الطَّلاَقَ طَلُقَتْ فِي الأَْصَحِّ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْفَسْخُ كِنَايَةً فِي الطَّلاَقِ.
الثَّامِنَةُ: قَال: أَعَرْتُكَ حِمَارِي لِتُعِيرَنِي فَرَسَكَ فَإِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الإِْعَارَةَ كِنَايَةٌ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ، وَالْفَسَادُ إِنَّمَا جَاءَ مِنِ اشْتِرَاطِ الْعَارِيَّةِ فِي الْعَقْدِ (1) .
__________
(1) المنثور للزركشي 2 / 311 - 313 ط. الأولى والأشباه والنظائر للسيوطي 295 - 296 ط. الأولى.(27/12)
الصَّرِيحُ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ:
11 - قَال السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ: اعْلَمْ أَنَّ الصَّرِيحَ وَقَعَ فِي الأَْبْوَابِ كُلِّهَا، وَكَذَا الْكِنَايَةُ، إِلاَّ فِي الْخِطْبَةِ. فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا كِنَايَةً بَل ذَكَرُوا التَّعْرِيضَ، وَلاَ فِي النِّكَاحِ، فَلَمْ يَذْكُرُوا الْكِنَايَةَ لِلاِتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِالْكِنَايَةِ، وَوَقَعَ الصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ وَالتَّعْرِيضُ جَمِيعًا فِي الْقَذْفِ (1) .
أ - الْبَيْعُ:
12 - صَرِيحُ الْبَيْعِ فِي الإِْيجَابِ: بِعْتُكَ. وَفِي الْقَبُول: اشْتَرَيْتُ وَقَبِلْتُ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ بِكُل مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا مِنْ قَوْلٍ. كَمَا اتَّفَقُوا - أَيْضًا - عَلَى أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَفِي انْعِقَادِهِ بِغَيْرِ لَفْظِ الْمَاضِي، وَبِالْفِعْل خِلاَفٌ (2) يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ ف - 10 - 21 - 22) .
ب - الْوَقْفُ:
13 - مِنْ صَرِيحِ لَفْظِ الْوَقْفِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي / 297 (ط. الأولى) .
(2) الهداية وفتح القدير 5 / 74 - 75 (ط. الأولى) . الاختيار 2 / 4 (ط. المعرفة) ، جواهر الإكليل 2 / 2 (ط. المعرفة) ، حاشية الدسوقي علي الشرح الكبير 3 / 4 (ط. الفكر) ، الأشباه والنظائر للسيوطي / 297 - 298 (ط. الأولى) ، حاشية القليوبي 2 / 152 - 153. (ط حلبي) ، كشاف القناع 3 / 146 - 147 (ط. النصر) .(27/12)
قَوْل الشَّخْصِ: وَقَفْتُ، أَوْ سَبَّلْتُ، أَوْ حَبَسْتُ كَذَا عَلَى كَذَا؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ ثَبَتَ لَهَا عُرْفُ الاِسْتِعْمَال بَيْنَ النَّاسِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ عُرْفُ الشَّرْعِ بِقَوْل النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَسَبَّلْتَ ثَمَرَتَهَا (1) فَصَارَتْ هَذِهِ الأَْلْفَاظُ فِي الْوَقْفِ كَلَفْظِ التَّطْلِيقِ فِي الطَّلاَقِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ مِنْ كِنَايَاتِ الْوَقْفِ، كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: تَصَدَّقْتُ، أَوْ حَرَّمْتُ، أَوْ أَبَّدْتُ هَذَا الْمَال عَلَى فُلاَنٍ إِذَا قَيَّدَ بِلَفْظَةٍ أُخْرَى، كَأَنْ يَقُول: تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً، أَوْ مُحَبَّسَةً، أَوْ مُسَبَّلَةً، أَوْ مُحَرَّمَةً، أَوْ مُؤَبَّدَةً، أَوْ إِذَا وَصَفَ الصَّدَقَةَ بِصِفَاتِ الْوَقْفِ، كَأَنْ يَقُول: تَصَدَّقْتُ صَدَقَةً لاَ تُبَاعُ وَلاَ تُوهَبُ وَلاَ تُورَثُ تَكُونُ هَذِهِ الصَّدَقَةُ وَقْفًا صَرِيحًا بِهَذَا الْقَيْدِ أَوِ الْوَصْفِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُقَيِّدْهَا بِهَذَا الْقَيْدِ، وَلَمْ يَصِفْهَا بِهَذَا الْوَصْفِ فَيَكُونُ الْوَقْفُ كِنَايَةً، فَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى النِّيَّةِ.
وَبِهَذَا يَتَّضِحُ أَنَّ الصَّرِيحَ فِي الْوَقْفِ
__________
(1) حديث: ' إن شئت حبست أصلها وسبلت ثمرتها '. أخرجه البخاري (الفتح 5 / 399 - ط السلفية) بلفظ: " إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها " وأخرجه النسائي (6 / 232 ط. المكتبة التجارية) بلفظ: " احبس أصلها وسبل ثمرتها ".(27/13)
يَنْقَسِمُ إِلَى: صَرِيحٍ بِنَفْسِهِ، وَصَرِيحٍ مَعَ غَيْرِهِ، وَهُوَ نَوْعٌ غَرِيبٌ لَمْ يَأْتِ مِثْلُهُ إِلاَّ قَلِيلاً كَمَا ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ نَقْلاً عَنِ السُّبْكِيُّ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ) .
ج - الْهِبَةُ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَوْل الْمَالِكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ: وَهَبْتُكَ، أَوْ مَنَحْتُكَ، أَوْ أَعْطَيْتُكَ أَوْ مَلَّكْتُكَ، أَوْ جَعَلْتُ هَذَا الشَّيْءَ لَكَ: هُوَ مِنْ صَرِيحِ الْهِبَةِ. وَأَمَّا إِذَا قَال: كَسَوْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ، أَوْ حَمَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ فَكِنَايَةٌ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الْهِبَةِ (2) .
د - الْخِطْبَةُ:
15 - هِيَ: الْتِمَاسُ نِكَاحِ امْرَأَةٍ
، وَتَكُونُ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ أَوْ بِالتَّعْرِيضِ، وَالْمُرَادُ بِالصَّرِيحِ - هُنَا - التَّعْبِيرُ صَرَاحَةً عَمَّا فِي
__________
(1) البحر الرائق 5 / 205 - 206 (ط. الثانية) . جواهر الإكليل 2 / 207. (ط. المعرفة) . حاشية الدسوقي 4 / 84 (ط. الفكر) . مغني المحتاج 2 / 382 (ط. التراث) . روضة الطالبين 5 / 322 - 323 (ط. المكتب الإسلامي) . الأشباه والنظائر للسيوطي / 299 - 300 (ط. الأولى) . المعني 5 / 602 (ط. الرياض) . كشاف القناع 4 / 241 - 242 (ط. النصر) .
(2) البدائع 6 / 115 - 116 ط الجمالية، جواهر الإكليل 2 / 212 (ط. المعرفة) . مغني المحتاج 2 / 397 (ط. التراث) . الإنصاف 7 / 118 (ط. التراث) .(27/13)
النَّفْسِ، وَهُوَ بِخِلاَفِ التَّعْرِيضِ الَّذِي هُوَ: لَفْظٌ اسْتُعْمِل فِي مَعْنَاهُ لِيَلُوحَ بِغَيْرِهِ. فَمِنْ صَرِيحِ الْخِطْبَةِ أَنْ يَقُول: أُرِيدَ نِكَاحَكِ إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُكِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: رُبَّ رَاغِبٍ فِيكِ، مَنْ يَجِدُ مِثْلَكِ؟ أَنْتِ جَمِيلَةٌ، إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي، لاَ تَبْقَيْنَ أَيِّمًا، لَسْتِ بِمَرْغُوبٍ عَنْكِ، إِنَّ اللَّهَ سَائِقٌ إِلَيْكِ خَيْرًا: فَكُلُّهُ تَعْرِيضٌ (1) .
هـ - النِّكَاحُ:
16 - صَرِيحُهُ فِي الإِْيجَابِ لَفْظُ: التَّزْوِيجِ، وَالإِْنْكَاحِ. وَفِي الْقَبُول: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، أَوْ تَزْوِيجَهَا، أَوْ تَزَوَّجْتُ، أَوْ نَكَحْتُ. ثُمَّ إِنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ: الإِْنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُمَا إِجْمَاعًا وَهُمَا اللَّذَانِ وَرَدَ بِهَا نَصُّ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {زَوَّجْنَاكَهَا} (2) . وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (3) وَسَوَاءٌ اتَّفَقَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ، أَوِ اخْتَلَفَا مِثْل أَنْ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 619 (ط. المصرية) . تبيين الحقائق 3 / 36 (ط. الأميرية) . حاشية الدسوقي 2 / 219 (ط. الفكر) ، الخرشي 3 / 171. (ط. بولاق) . جواهر الإكليل 1 / 276 (ط. المعرفة) . - حاشية القليوبي 3 / 214 (ط. حلبي) ، الأشباه والنظائر للسيوطي / 300 (ط الأولى) - كشاف القناع 5 / 18 (ط. النصر) . المغني 6 / 608 - 609 (ط. الرياض) .
(2) سورة الأحزاب / 37.
(3) سورة النساء / 22.(27/14)
يَقُول: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي هَذِهِ، فَيَقُول: قَبِلْتُ هَذَا النِّكَاحَ، أَوْ هَذَا التَّزْوِيجَ، وَفِي انْعِقَادِهِ بِغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْلْفَاظِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْبَيْعِ وَالتَّمْلِيكِ وَالإِْجَارَةِ - وَهِيَ مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ، عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهَا خِلاَفٌ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي النِّكَاحِ (1) .
و الْخُلْعُ:
17 - أَلْفَاظُ الْخُلْعِ تَنْقَسِمُ إِلَى: صَرِيحٍ، وَكِنَايَةٍ، فَالصَّرِيحُ لَفْظُ الْخُلْعِ وَالْمُفَادَاةُ لِوُرُودِ الْمُفَادَاةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. وَتَفْصِيل الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (خُلْعٌ) .
ز - الطَّلاَقُ:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صَرِيحَ الطَّلاَقِ هُوَ لَفْظُ الطَّلاَقِ وَمُشْتَقَّاتُهُ، وَكَذَلِكَ تَرْجَمَتُهُ إِلَى اللُّغَاتِ الأَْعْجَمِيَّةِ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ وُضِعَ لِحَل قَيْدِ النِّكَاحِ خِصِّيصًا، وَلاَ يَحْتَمِل غَيْرَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ، وَالْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لَفْظَيِ: الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ، وَمَا
__________
(1) ابن عابدين 2 / 267 (ط. المصرية) . تبيين الحقائق 2 / 96 (ط. الأميرية) ، جواهر الإكليل 1 / 277 (ط. المعرفة) - الخرشي 3 / 173 (ط بولاق) ، الجمل على شرح المنهج 4 / 134 (ط. التراث) . الأشباه والنظائر للسيوطي / 300 (ط. الأولى) . المغني 6 / 532 - (ط. الرياض) .(27/14)
تَصَرَّفَ مِنْهُمَا مِنْ صَرِيحِ الطَّلاَقِ لِوُرُودِهِمَا بِمَعْنَى الطَّلاَقِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ الْفِرَاقِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} (1) وَفِي قَوْلِهِ: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (2) وَوَرَدَ لَفْظُ السَّرَاحِ فِي آيَاتٍ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (4) .
إِلاَّ أَنَّ الْجُمْهُورَ يَرَى أَنَّ لَفْظَ الْفِرَاقِ، وَلَفْظَ السَّرَاحِ لَيْسَا مِنْ صَرِيحِ الطَّلاَقِ؛ لأَِنَّهُمَا يُسْتَعْمَلاَنِ فِي غَيْرِ الطَّلاَقِ كَثِيرًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْل اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا. . .} (5) . وَلِذَلِكَ فَهُمَا مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلاَقِ (6) .
__________
(1) سورة النساء / 130.
(2) سورة الطلاق / 2.
(3) سورة البقرة / 229.
(4) سورة البقرة / 231.
(5) سورة آل عمران / 103.
(6) البدائع 3 / 101 - 106 (ط. الجمالية) ، ابن العابدين 2 / 430 (ط. المصرية) . جواهر الإكليل 1 / 345 (ط. المعرفة) ، حاشية الدسوقي 2 / 378 (ط. الفكر) ، روضة الطالبين 8 / 23 - 27 (ط. المكتب الإسلامي) . الأشباه والنظائر للسيوطي / 302 (ط. الأولى) ، كشاف القناع 5 / 245 - 250 (ط. النصر) ، الإنصاف 8 / 462 - 475 (ط. التراث) ، المغني 8 / 121 - 124 (ط الرياض) .(27/15)
ح - الظِّهَارُ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى: أَنَّ اللَّفْظَ الصَّرِيحَ فِي الظِّهَارِ هُوَ أَنْ يَقُول الرَّجُل لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتُهُمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ} (1) . وَلِحَدِيثِ خَوْلَةَ امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ؛ حَيْثُ قَال لَهَا زَوْجُهَا أَوْسٌ: " أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي " (2) وَكَذَا قَوْلُهُ: أَنْتِ عِنْدِي أَوْ مَعِي أَوْ مِنِّي كَظَهْرِ أُمِّي. وَكَذَلِكَ لَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: جِسْمُكِ أَوْ بَدَنُكِ أَوْ جُمْلَتُكِ أَوْ نَفْسُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي.
وَمِثْل ذَلِكَ: مَا لَوْ شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِظَهْرِ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنَ النِّسَاءِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، كَالْجَدَّةِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَالأُْخْتِ وَابْنَتِهَا وَبِنْتِ الأَْخِ فَإِنَّهُ يَكُونُ - أَيْضًا - صَرِيحًا فِي الظِّهَارِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْقَدِيمِ، وَالْقَوْل الثَّانِي فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهُ لاَ يَكُونُ ظِهَارًا لِلْعُدُول عَنِ الْمَعْهُودِ، إِذِ اللَّفْظُ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ مُخْتَصٌّ
__________
(1) سورة المجادلة / 2.
(2) حديث خولة. امرأة أوس بن الصامت. أخرجه أحمد (6 / 410 - ط. الميمنية) . والبيهقي (7 / 389 - ط دائرة المعارف العثمانية) وفي إسناده مقال. ولكن ذكر البيهقي له طريقا آخر مرسلا ثم قال: وهو شاهد للموصول قبله.(27/15)
بِالأُْمِّ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْمَحَارِمِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي (ظِهَارٌ) .
ط - الْقَذْفُ:
20 - امْتَازَتْ صِيغَةُ الْقَذْفِ عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الصِّيَغِ بِمَجِيءِ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ فِيهَا، فَالْقَذْفُ الصَّرِيحُ الْمُتَّفَقُ عَلَى صَرَاحَتِهِ مِنْ قِبَل الْعُلَمَاءِ هُوَ أَنْ يَقُول لِرَجُلٍ: زَنَيْتَ، أَوْ يَا زَانِي، أَوْ لاِمْرَأَةٍ: زَنَيْتِ، أَوْ يَا زَانِيَةَ فَهَذِهِ الأَْلْفَاظُ لاَ تَحْتَمِل مَعْنًى آخَرَ غَيْرَ الْقَذْفِ، وَمِثْل ذَلِكَ اللَّفْظُ الْمُرَكَّبُ مِنَ النُّونِ وَالْيَاءِ وَالْكَافِ، وَكَذَا كُل لَفْظٍ صَرِيحٍ فِي الْجِمَاعِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ وَصْفُ الْحُرْمَةِ، وَكَذَا نَفْيُ الْوَلَدِ عَنْ أَبِيهِ بِقَوْلِهِ: لَسْتَ لأَِبِيكَ.
وَمِنْ صَرِيحِ الْقَذْفِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ: الرَّمْيُ بِالإِْصَابَةِ فِي الدُّبُرِ كَقَوْلِهِ: لُطْتَ، أَوْ لاَطَ بِكَ فُلاَنٌ، سَوَاءٌ خُوطِبَ بِهِ رَجُلٌ أَوِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 575 (ط. المصرية) ، البدائع 3 / 233 (ط. الجمالية) ، فتح القدير 3 / 226 - 229 (ط. الأميرية) . جواهر الإكليل 1 / 372 (ط. الجمالية) - حاشية الدسوقي 2 / 442 (ط. الفكر) . روضة الطالبين 8 / 262 - 264 (ط. المكتب الإسلامي) . حاشية القليوبي 4 / 14 - 15 - (ط الحلبي) . الأشباه والنظائر للسيوطي / 370 (ط. الأولى) كشاف القناع 5 / 368 - 370 (ط. النصر) ، المغني 7 / 340 - 347 (ط. الرياض) .(27/16)
امْرَأَةٌ. وَأَمَّا الرَّمْيُ بِإِتْيَانِ الْبَهَائِمِ فَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ قَذْفٌ إِنْ قُلْنَا: يُوجِبُ الْحَدَّ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَأَمَّا الْكِنَايَةُ: فَكَقَوْلِهِ لِلرَّجُل: يَا فَاجِرُ، وَلِلْمَرْأَةِ: يَا خَبِيثَةُ.
وَأَمَّا التَّعْرِيضُ: فَكَقَوْلِهِ: أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ مَحَلُّهُ (قَذْفٌ) .
ك - النَّذْرُ:
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَوْل الشَّخْصِ:
لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرُ كَذَا مِنْ صَرِيحِ النَّذْرِ وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا دُونَ ذِكْرِ لَفْظِ النَّذْرِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ صَرِيحِ النَّذْرِ أَيْضًا، وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ
__________
(1) البدائع 7 / 42 - 43 ط. الجمالية، ابن عابدين 3 / 168 - 171 (ط. الأميرية) . فتح القدير 4 / 190 - 191 (ط. الأميرية) - الاختيار 4 / 93 - 94 (ط. الثانية) ، جواهر الإكليل 2 / 287 - 288 (ط. المعرفة) ، شرح الزرقاني 8 / 86 - 87 (ط الفكر) ، القوانين الفقهية / 350 (ط الأولى) . الأشباه والنظائر للسيوطي / 305 - 306 (ط. الأولى) ، حاشية القليوبي 4 / 28 - 29 (ط. حلبي) ، روضة الطالبين 8 / 311 - 312 (ط. المكتب الإسلامي) ، حاشية الجمل على المنهج 4 / 425 - 426 (ط. التراث) ، الإنصاف 10 / 210 - 217 (ط. الأولى) ، كشاف القناع 6 / 109 - 112 (ط. النصر) ، المعني 8 / 221 - 222 (ط. الرياض) .(27/16)
وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِ لَفْظِ النَّذْرِ، وَأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ النَّذْرُ بِدُونِهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي (نَذْرٌ)
.
صَعِيدٌ
انْظُرْ: تَيَمُّم
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 125 (ط. المصرية) ، القوانين الفقهية / 73 (ط. الأولى) ، روضة الطالبين 3 / 293 (ط. المكتب الإسلامي) . المغني 9 / 33 (ط. الرياض) .(27/17)
صَغَائِرُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّغَائِرُ لُغَةً: مِنْ صَغُرَ الشَّيْءُ فَهُوَ صَغِيرٌ وَجَمْعُهُ صِغَارٌ، وَالصَّغِيرَةُ صِفَةٌ وَجَمْعُهَا صِغَارٌ أَيْضًا، وَلاَ تُجْمَعُ عَلَى صَغَائِرَ إِلاَّ فِي الذُّنُوبِ وَالآْثَامِ.
أَمَّا اصْطِلاَحًا: فَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ فَقَال بَعْضُهُمْ: الصَّغِيرَةُ - مِنَ الذُّنُوبِ - هِيَ كُل ذَنْبٍ لَمْ يُخْتَمْ بِلَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ نَارٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: الصَّغِيرَةُ مَا دُونَ الْحَدَّيْنِ حَدِّ الدُّنْيَا، وَحَدِّ الآْخِرَةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: الصَّغِيرَةُ هِيَ مَا لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا وَلاَ وَعِيدٌ فِي الآْخِرَةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: الصَّغِيرَةُ هِيَ كُل مَا كُرِهَ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْكَبَائِرُ:
2 - الْكَبِيرَةُ فِي اللُّغَةِ: الإِْثْمُ وَجَمْعُهَا كَبَائِرُ.
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، المعجم الوسيط مادة (صغر) ، وحاشية ابن عابدين 2 / 140، إحياء علوم الدين 4 / 18، 15.(27/17)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هِيَ مَا كَانَ حَرَامًا مَحْضًا، شُرِعَتْ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ، بِنَصٍّ قَاطِعٍ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ. وَقِيل: إِنَّهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَدٌّ، أَوْ تَوَعَّدَ عَلَيْهَا بِالنَّارِ أَوِ اللَّعْنَةِ أَوِ الْغَضَبِ، وَهَذَا أَمْثَل الأَْقْوَال (1) .
اللَّمَمُ:
3 - وَاللَّمَمُ - بِفَتْحَتَيْنِ - مُقَارَبَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَقِيل: هِيَ الصَّغَائِرُ، أَوْ هِيَ فِعْل الرَّجُل الصَّغِيرَةِ ثُمَّ لاَ يُعَاوِدُهَا، وَيُقَال: أَلَمَّ بِالذَّنْبِ فَعَلَهُ، وَأَلَمَّ بِالشَّيْءِ قَرُبَ مِنْهُ، وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الصَّغِيرَةِ (2) . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} (3) وَقَال بَعْضُهُمْ: اللَّمَمُ: هُوَ مَا دُونَ الزِّنَى الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ؛ مِنَ الْقُبْلَةِ، وَالنَّظْرَةِ.
وَقَال آخَرُونَ: اللَّمَمُ هُوَ صَغَائِرُ الذُّنُوبِ.
حُكْمُ الصَّغَائِرِ:
4 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إِلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ.
__________
(1) التعريفات للجرجاني، المصباح المنير مادة (كبر) ، شرح عقيدة الطحاوية ص 418 (ط. المكتب الإسلامي) .
(2) المصباح، غريب القرآن مادة: (لمم) ، تفسير القرطبي 17 / 106.
(3) سورة النجم الآية: (32) .(27/18)
فَقَال مُعْظَمُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الذُّنُوبَ تَنْقَسِمُ إِلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، وَأَنَّ الصَّغَائِرَ تُغْفَرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا} (1) وقَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} (2) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ: مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ (3) .
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّ الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِيَ كُلَّهَا كَبَائِرُ؛ وَإِنَّمَا يُقَال لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ بِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا.
فَالْمُضَاجَعَةُ مَعَ الأَْجْنَبِيَّةِ كَبِيرَةٌ بِالإِْضَافَةِ إِلَى النَّظْرَةِ، صَغِيرَةٌ بِالإِْضَافَةِ إِلَى الزِّنَى. وَقَطْعُ يَدِ الْمُسْلِمِ كَبِيرَةٌ بِالإِْضَافَةِ إِلَى ضَرْبِهِ، صَغِيرَةٌ بِالإِْضَافَةِ إِلَى قَتْلِهِ، كَمَا صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ بِذَلِكَ فِي الإِْحْيَاءِ.
وَقَالُوا: لاَ ذَنْبَ عِنْدَنَا يُغْفَرُ بِاجْتِنَابِ آخَرَ، بَل كُل الذُّنُوبِ كَبِيرَةٌ، وَمُرْتَكِبُهَا فِي الْمَشِيئَةِ، غَيْرُ الْكُفْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ
__________
(1) سورة النساء الآية: (31) .
(2) سورة النجم الآية: (32) .
(3) حديث: " الصلوات الخمس والجمعة. . ". أخرجه مسلم 1 / 209 (ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(27/18)
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) .
وَلِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، فَقَال لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُول اللَّهِ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟ قَال: وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ (2) فَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى الْيَسِيرِ كَمَا جَاءَ عَلَى الْكَثِيرِ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الطَّيِّبُ وَأَبُو إِسْحَاقَ الإِْسْفَرايِينِيُّ وَأَبُو الْمَعَالِي وَعَبْدُ الرَّحِيمِ الْقُشَيْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْوَاعًا مِنْ صَغَائِرِ الذُّنُوبِ مِنْهَا: النَّظَرُ الْمُحَرَّمُ، وَالْقُبْلَةُ، وَالْغَمْزَةُ، وَلَمْسُ الأَْجْنَبِيَّةِ.
وَمِنْهَا: هَجْرُ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَكَثْرَةُ الْخُصُومَاتِ إِلاَّ إِنْ رَاعَى فِيهَا حَقَّ الشَّرْعِ.
وَمِنْهَا: الإِْشْرَافُ عَلَى بُيُوتِ النَّاسِ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ الْفُسَّاقِ إِينَاسًا لَهُمْ، وَالْغَيْبَةُ لِغَيْرِ أَهْل الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ (3) .
وَقَدْ تَعْظُمُ الصَّغَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ، فَتَصِيرُ
__________
(1) سورة النساء الآية: (48) .
(2) حديث: " من اقتطع حق امرئ مسلم. . " أخرجه مسلم 1 / 122 - (ط الحلبي) .
(3) مغني المحتاج 4 / 427، كشاف القناع 6 / 419، الطحاوي ص 371، مواهب الجليل 6 / 151، دليل الفالحين 1 / 353، القرطبي 5 / 158، 17 / 106 إحياء علوم الدين 4 / 15.(27/19)
كَبِيرَةً لِعِدَّةِ أَسْبَابٍ:
مِنْهَا: الإِْصْرَارُ وَالْمُوَاظَبَةُ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَسْتَصْغِرَ الذَّنْبَ.
وَمِنْهَا: السُّرُورُ بِالصَّغِيرَةِ وَالْفَرَحُ وَالتَّبَجُّحُ بِهَا، وَاعْتِدَادُ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ نِعْمَةٌ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ كَوْنِهِ سَبَبَ الشَّقَاوَةِ (1) . وَالتَّفَاصِيل فِي: مُصْطَلَحِ (كَبِيرَةٌ، وَشَهَادَةٌ، وَعَدَالَةٌ، وَمَعْصِيَةٌ) .
__________
(1) إحياء علوم الدين 4 / 32، 33.(27/19)
صِغَرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصِّغَرُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذٌ مِنْ صَغُرَ صِغَرًا: قَل حَجْمُهُ أَوْ سِنُّهُ فَهُوَ صَغِيرٌ، وَالْجَمْعُ: صِغَارٌ. وَفِيهِ - أَيْضًا - الأَْصْغَرُ اسْمُ تَفْضِيلٍ (1) .
وَالصِّغَرُ ضِدُّ الْكِبَرِ، وَالصُّغَارَةُ خِلاَفُ الْعِظَمِ.
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ وَصْفٌ يَلْحَقُ بِالإِْنْسَانِ مُنْذُ مَوْلِدِهِ إِلَى بُلُوغِهِ الْحُلُمَ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الصِّبَا:
2 - يُطْلَقُ الصِّبَا عَلَى مَعَانٍ عِدَّةٍ مِنْهَا: الصِّغَرُ وَالْحَدَاثَةُ، وَالصَّبِيُّ الصَّغِيرُ دُونَ الْغُلاَمِ، أَوْ مَنْ لَمْ يُفْطَمْ بَعْدُ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الصَّبِيُّ مُنْذُ وِلاَدَتِهِ إِلَى أَنْ يُفْطَمَ (3) . وَعَلَى هَذَا فَالصِّبَا أَخَصُّ مِنِ الصِّغَرِ.
__________
(1) لسان العرب لابن منظور، والمعجم الوسيط مادة (صغر) .
(2) كشف الأسرار 4 / 1358.
(3) لسان العرب والمعجم الوسيط(27/20)
التَّمْيِيزُ:
3 - هُوَ أَنْ يَصِيرَ لِلصَّغِيرِ وَعْيٌ وَإِدْرَاكٌ يَفْهَمُ بِهِ الْخِطَابَ إِجْمَالاً (1) .
الْمُرَاهَقَةُ:
4 - الرَّهَقُ: جَهْلٌ فِي الإِْنْسَانِ وَخِفَّةٌ فِي عَقْلِهِ.
يُقَال: فِيهِ رَهَقٌ أَيْ حِدَّةٌ وَخِفَّةٌ.
وَرَاهَقَ الْغُلاَمُ: قَارَبَ الْحُلُمَ (2)
الرُّشْدُ:
5 - الرُّشْدُ: أَنْ يَبْلُغَ الصَّبِيُّ حَدَّ التَّكْلِيفِ صَالِحًا فِي دِينِهِ مُصْلِحًا لِمَالِهِ (3) .
مَرَاحِل الصِّغَرِ:
6 - تَنْقَسِمُ مَرَاحِل الصِّغَرِ إِلَى مَرْحَلَتَيْنِ:
(1) - مَرْحَلَةِ عَدَمِ التَّمْيِيزِ.
(2) - مَرْحَلَةِ التَّمْيِيزِ:
الْمَرْحَلَةُ الأُْولَى: عَدَمُ التَّمْيِيزِ:
7 - تَبْدَأُ هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ مُنْذُ الْوِلاَدَةِ إِلَى التَّمْيِيزِ.
الْمَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَرْحَلَةُ التَّمْيِيزِ:
8 - تَبْدَأُ هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ مُنْذُ قُدْرَةِ الصَّغِيرِ عَلَى
__________
(1) لسان العرب والمعجم الوسيط، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 4 / 1358.
(2) لسان العرب، المعجم الوسيط مادة (رهق) .
(3) لسان العرب، والمعجم الوسيط مادة (رشد) .(27/20)
التَّمْيِيزِ بَيْنَ الأَْشْيَاءِ، بِمَعْنَى: أَنْ يَكُونَ لَهُ إِدْرَاكٌ يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ.
وَيُلاَحَظُ: أَنَّ التَّمْيِيزَ لَيْسَ لَهُ سِنٌّ مُعَيَّنَةٌ يُعْرَفُ بِهَا، وَلَكِنْ تَدُل عَلَى التَّمْيِيزِ أَمَارَاتُ التَّفَتُّحِ وَالنُّضُوجِ، فَقَدْ يَصِل الطِّفْل إِلَى مَرْحَلَةِ التَّمْيِيزِ فِي سِنٍّ مُبَكِّرَةٍ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ إِلَى مَا قَبْل الْبُلُوغِ، وَتَنْتَهِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ بِالْبُلُوغِ (1) .
أَهْلِيَّةُ الصَّغِيرِ:
تَنْقَسِمُ أَهْلِيَّةُ الصَّغِيرِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ - أَهْلِيَّةِ وُجُوبٍ.
ب - أَهْلِيَّةِ أَدَاءً.
(أ) أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ:
9 - هِيَ صَلاَحِيَةُ الإِْنْسَانِ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَمَنَاطُهَا الإِْنْسَانِيَّةُ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ (2) .
(ب) أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ:
10 - هِيَ صَلاَحِيَةُ الإِْنْسَانِ لِصُدُورِ الْفِعْل عَنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، وَمَنَاطُهَا التَّمْيِيزُ.
أَهْلِيَّةُ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَدَى هَذِهِ الأَْهْلِيَّةِ،
__________
(1) نيل الأوطار 1 / 348، كشف الخفاء 2 / 284.
(2) كشف الأسرار 4 / 1357، 1358.(27/21)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: مُصْطَلَحِ (أَهْلِيَّةٌ) (1) .
أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالصَّغِيرِ:
أَوَّلاً - التَّأْذِينُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ:
12 - يُسْتَحَبُّ الأَْذَانُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ الْيُمْنَى، وَالإِْقَامَةُ فِي أُذُنِهِ الْيُسْرَى؛ لِمَا رَوَى أَبُو رَافِعٍ أَنَّهُ قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ (2)
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَذَان) .
ثَانِيًا: تَحْنِيكُ الْمَوْلُودِ:
13 - يُسْتَحَبُّ تَحْنِيكُ الْمَوْلُودِ، وَالتَّحْنِيكُ: هُوَ دَلْكُ حَنَكِ الْمَوْلُودِ بِتَمْرَةٍ مَمْضُوغَةٍ، وَمِنَ الأَْحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَل بِهَا الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّحْنِيكِ، مَا رَوَى أَنَسٌ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ وَلَدَتْ غُلاَمًا، قَال: فَقَال لِي أَبُو طَلْحَةَ: احْفَظْهُ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَتَيْتُهُ بِهِ - وَأَرْسَل مَعِي بِتَمَرَاتٍ - فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا فِي فِي الصَّبِيِّ وَحَنَّكَهُ بِهِ وَسَمَّاهُ: عَبْدَ اللَّهِ (3) . انْظُرْ: (تَحْنِيك)
__________
(1) انظر الموسوعة 7 / 158 - 159 (أهلية) .
(2) حديث أبي رافع أنه قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسين بن علي ". أخرجه الترمذي. 4 / 97 - ط الحلبي) وفي إسناده راو ضعيف، ذكر الذهبي في ترجمته في الميزان: (2 / 254 - ط الحلبي) هذا الحديث من مناكيره.
(3) حديث أنس: " أن أم سليم ولدت غلاما، قال: فقال لي أبو طلحة: احفظه. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 587 - ط. السلفية) ومسلم (3 / 1690 - ط. الحلبي)(27/21)
ثَالِثًا - تَسْمِيَةُ الْمَوْلُودِ:
14 - تُسْتَحَبُّ تَسْمِيَتُهُ بِاسْمٍ مُسْتَحَبٍّ، لِمَا رَوَاهُ سَمُرَةُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَال: الْغُلاَمُ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ يُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ، وَيُسَمَّى وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ (1) انْظُرْ: (تَسْمِيَة) .
رَابِعًا - عَقِيقَةُ الْمَوْلُودِ:
15 - الْعَقِيقَةُ لُغَةً: مَعْنَاهَا الْقَطْعُ.
وَشَرْعًا: مَا يُذْبَحُ عَنِ الْمَوْلُودِ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى
. وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَلْمَانِ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَعَ الْغُلاَمِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَْذَى (2) .
وَلِمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ عَنِ الْغُلاَمِ: شَاتَانِ مُتَكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ (3) .
__________
(1) حديث: " الغلام مرتهن بعقيقته ". أخرجه الترمذي (4 / 101 - ط الحلبي) وقال: حديث حسن صحيح.
(2) حديث سلمان بن عامر الضبي: " مع الغلام عقيقة. .) . أخرجه البخاري (الفتح 9 / 590 - ط السلفية) .
(3) حديث عائشة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم عن الغلام شاتان متكافئتان. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 97 - ط. الحلبي) قال: حديث حسن صحيح. وقوله: متكافئتان أي: متساويتان في السن.(27/22)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا.
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَجَمَاعَةٌ إِلَى اسْتِحْبَابِهَا، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْعَقِيقَةَ نُسِخَتْ بِالأُْضْحِيَّةِ؛ فَمَنْ شَاءَ فَعَل، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَل (1) .
خَامِسًا: الْخِتَانُ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الرِّجَال، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الْمُعْتَمَدِ - إِلَى أَنَّ الْخِتَانَ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَال وَالنِّسَاءِ. انْظُرْ: (خِتَان) .
حُقُوقُ الصَّغِيرِ:
مِنْ حُقُوقِ الصَّغِيرِ مَا يَأْتِي:
17 - أ - أَنْ يُنْسَبَ إِلَى أَبِيهِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَسَبٌ) .
ب - أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَةٌ) .
ج - تَعْلِيمُهُ وَتَأْدِيبُهُ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (تَعْلِيمٌ، وَتَأْدِيبٌ) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الصَّغِيرِ مَالِيًّا:
18 - يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ مَا يَلِي: قِيمَةُ الْمُتْلَفَاتِ، وَالنَّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ،
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 879، البدائع 5 / 69، وجواهر الإكليل 1 / 224، والمهذب 1 / 248، وحلية العلماء 3 / 332.(27/22)
وَالْعُشْرُ، وَالْخَرَاجُ، وَزَكَاةُ الْمَال، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَالأُْضْحِيَّةُ، عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ يُنْظَرُ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِهَا، وَيُطَالَبُ الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ بِتَنْفِيذِ هَذِهِ الاِلْتِزَامَاتِ مِنْ مَال الصَّغِيرِ.
الْوِلاَيَةُ عَلَى الصَّغِيرِ:
19 - الْوِلاَيَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقِيَامُ بِالأَْمْرِ أَوْ عَلَيْهِ، وَقِيل: هِيَ النُّصْرَةُ وَالْمَعُونَةُ (1) .
وَاَلَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوِلاَيَةَ:
هِيَ سُلْطَةٌ شَرْعِيَّةٌ يَتَمَكَّنُ بِهَا صَاحِبُهَا مِنَ الْقِيَامِ عَلَى شُؤُونِ الصِّغَارِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ (2) .
وَتَبْدَأُ الْوِلاَيَةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى الصَّغِيرِ مُنْذُ وِلاَدَتِهِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ رَشِيدًا
، وَمِنْ هَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْوِلاَيَةَ تَكُونُ عَلَى الصَّغِيرِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ وَعَلَى الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْوِلاَيَةُ وَاجِبَةٌ لِمَصْلَحَةِ كُل قَاصِرٍ؛ سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ غَيْرَ صَغِيرٍ.
أَقْسَامُ الْوِلاَيَةِ:
تَنْقَسِمُ الْوِلاَيَةُ بِحَسَبِ السُّلْطَةِ الْمُخَوَّلَةِ لِلْوَلِيِّ إِلَى قِسْمَيْنِ: وِلاَيَةٍ عَلَى النَّفْسِ، وَوِلاَيَةٍ عَلَى الْمَال.
__________
(1) لسان العرب.
(2) ابن عابدين 2 / 296، والبدائع 5 / 152 الدسوقي 3 / 292.(27/23)
أ - الْوِلاَيَةُ عَلَى النَّفْسِ:
20 - يَقُومُ الْوَلِيُّ بِمُقْتَضَاهَا بِالإِْشْرَافِ عَلَى شُؤُونِ الصَّغِيرِ الشَّخْصِيَّةِ، مِثْل: التَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّطْبِيبِ إِلَى آخِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ أُمُورٍ، وَكَذَا تَزْوِيجُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ؛ فَالتَّزْوِيجُ مِنْ بَابِ الْوِلاَيَةِ عَلَى النَّفْسِ.
ب - الْوِلاَيَةُ عَلَى الْمَال:
21 - يَقُومُ الْوَلِيُّ بِمُقْتَضَاهَا بِالإِْشْرَافِ عَلَى شُؤُونِ الصَّغِيرِ الْمَالِيَّةِ: مِنْ إِنْفَاقٍ، وَإِبْرَامِ عُقُودٍ، وَالْعَمَل عَلَى حِفْظِ مَالِهِ وَاسْتِثْمَارِهِ وَتَنْمِيَتِهِ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي تَقْسِيمِ الأَْوْلِيَاءِ وَمَرَاتِبِهِمْ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وِلاَيَةٌ) .
تَأْدِيبُ الصِّغَارِ وَتَعْلِيمُهُمْ:
22 - يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ تَأْدِيبُ الصِّغَارِ بِالآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ؛ الَّتِي تَغْرِسُ فِي نَفْسِ الطِّفْل الأَْخْلاَقَ الْكَرِيمَةَ وَالسُّلُوكَ الْقَوِيمَ، كَالأَْمْرِ بِأَدَاءِ الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ فِي طَوْقِهِ: يُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (تَأْدِيبٌ، تَعْلِيمٌ) .
تَطْبِيبُ الصَّغِيرِ:
23 - لِلْوَلِيِّ عَلَى النَّفْسِ وِلاَيَةُ عِلاَجِ الصَّغِيرِ
__________
(1) البدائع 5 / 152، الشرح الكبير للدردير 3 / 292، نهاية المحتاج 3 / 355.(27/23)
وَتَطْبِيبُهُ وَخِتَانُهُ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ مِنْ أَهَمِّ الأُْمُورِ اللاَّزِمَةِ لِلصِّغَارِ لِتَعَلُّقِهَا بِصِحَّتِهِ وَيَتَحَقَّقُ هَذَا بِالإِْذْنِ لِلطَّبِيبِ فِي تَقْدِيمِ الْعِلاَجِ اللاَّزِمِ لِلصِّغَارِ، وَالإِْذْنِ فِي إِجْرَاءِ الْعَمَلِيَّاتِ الْجِرَاحِيَّةِ لَهُمْ.
قَال الْفُقَهَاءُ: هَذَا خَاصٌّ بِالْوَلِيِّ عَلَى النَّفْسِ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ عَلَى الْمَال ذَلِكَ، فَلَوْ أَذِنَ الْوَلِيُّ عَلَى الْمَال لِلطَّبِيبِ بِإِجْرَاءِ عَمَلِيَّةٍ لِلصَّغِيرِ فَهَلَكَ، فَعَلَى الْوَلِيِّ الدِّيَةُ لِتَعَدِّيهِ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ هُنَاكَ ضَرُورَةٌ مُلِحَّةٌ فِي إِجْرَاءِ الْعَمَلِيَّةِ لإِِنْقَاذِ حَيَاةِ الصَّغِيرِ، وَتَغَيَّبَ الْوَلِيُّ عَلَى النَّفْسِ فَلِلْوَلِيِّ عَلَى الْمَال الإِْذْنُ فِي إِجْرَاءِ الْعَمَلِيَّةِ، أَوْ لأَِيِّ أَحَدٍ مِنْ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ؛ لأَِنَّ إِنْقَاذَ الآْدَمِيِّ وَاجِبٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ (1) .
تَصَرُّفَاتُ الْوَلِيِّ الْمَالِيَّةُ:
24 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَتَصَرَّفُ وُجُوبًا فِي مَال الصَّغِيرِ بِمُقْتَضَى الْمَصْلَحَةِ وَعَدَمِ الضَّرَرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيمِ إِلاَّ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وَقَال سُبْحَانَهُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُل إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (3) كَمَا أَنَّهُمُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 355، المغني 8 / 327، ونهاية المحتاج 7 / 210.
(2) سورة الأنعام آية 152.
(3) سورة البقرة آية 220.(27/24)
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْغَنِيَّ لاَ يَأْكُل مِنْ مَال الْيَتِيمِ، وَلِلْفَقِيرِ أَنْ يَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ} (1) .
وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَال الْيَتِيمِ (2) إِذَا كَانَ فَقِيرًا؛ أَنَّهُ يَأْكُل مِنْهُ مَكَانَ قِيَامِهِ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ (3)
. وَوَرَدَ أَنَّ رَجُلاً سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنِّي فَقِيرٌ لَيْسَ لِي شَيْءٌ، وَلِيَ يَتِيمٌ؟ قَال: كُل مِنْ مَال يَتِيمِكَ غَيْرَ مُسْرِفٍ، وَلاَ مُبَاذِرٍ، وَلاَ مُتَأَثِّلٍ، وَلاَ تَخْلِطْ مَالَكَ بِمَالِهِ (4) " وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وِلاَيَةٌ) .
أَحْكَامُ الصَّغِيرِ فِي الْعِبَادَاتِ:
الطَّهَارَةُ:
25 - تَجِبُ الطَّهَارَةُ عَلَى كُل مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ إِذَا تَحَقَّقَ سَبَبُهَا، أَمَّا الصَّغِيرُ فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الطَّهَارَةُ، وَإِنَّمَا يَأْمُرُهُ الْوَلِيُّ بِهَا أَمْرَ تَأْدِيبٍ وَتَعْلِيمٍ.
__________
(1) سورة النساء آية 6
(2) أسباب النزول للواحدي ص 106، الجامع لأحكام القرآن القرطبي 5 / 34.
(3) حديث نزول آية (ومن كان غنيا فليستعفف) أخرجه البخاري. الفتح 8 / 241 - ط السلفية) ، وفي رواية له: " في والي اليتيم ".
(4) حديث: " كل من مال يتيمك غير مسرف ". أخرجه النسائي (6 / 256 - ط المكتبة التجارية) من حديث عبد الله بن عمرو، وقوى ابن حجر إسناده في الفتح (8 / 241 - ط السلفية) .(27/24)
بَوْل الصَّغِيرِ:
26 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ إِذَا أَكَلاَ الطَّعَامَ وَبَلَغَا عَامَيْنِ فَإِنَّ بَوْلَهُمَا نَجِسٌ كَنَجَاسَةِ بَوْل الْكَبِيرِ؛ يَجِبُ غَسْل الثَّوْبِ إِذَا أَصَابَهُ هَذَا الْبَوْل، وَالدَّلِيل عَلَى نَجَاسَةِ الْبَوْل مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْل، فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ (1) .
أَمَّا بَوْل الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إِذَا لَمْ يَأْكُلاَ الطَّعَامَ، وَكَانَا فِي فَتْرَةِ الرَّضَاعَةِ؛ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ فِي وُجُوبِ التَّطَهُّرِ مِنْهُ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: يُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ ثَوْبَ الْمُرْضِعَةِ أَوْ جَسَدَهَا مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطِ الطِّفْل؛ سَوَاءٌ أَكَانَتْ أُمَّهُ أَمْ غَيْرَهَا، إِذَا كَانَتْ تَجْتَهِدُ فِي دَرْءِ النَّجَاسَةِ عَنْهَا حَال
__________
(1) حديث: " استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه " أخرجه الدارقطني (1 / 128 ط. شركة الطباعة الفنية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والحاكم: (المستدرك 1 / 183) وقال ابن حجر: هو صحيح الإسناد، وأعله أبو حاتم فقال: إن رفعه باطل (نيل الأوطار 1 / 114 نشر دار الجيل) ورواه الدارقطني بلفظ مقارب من حديث أنس رضي الله عنه وقال: المحفوظ مرسل (سنن الدارقطني 1 / 127) .(27/25)
نُزُولِهَا، بِخِلاَفِ الْمُفَرِّطَةِ، لَكِنْ يُنْدَبُ غَسْلُهُ إِنْ كَثُرَ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ بَوْل الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ؛ فَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ بَوْل الصَّغِيرِ اكْتَفَى بِنَضْحِهِ بِالْمَاءِ، وَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ بَوْل الصَّغِيرَةِ وَجَبَ غَسْلُهُ (2) ؛ لِحَدِيثِ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ أَنَّهَا: أَتَتْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنٍ لَهَا لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَأْكُل الطَّعَامَ، فَبَال فِي حِجْرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَلَمْ يَغْسِلْهُ غَسْلاً (3) وَلِحَدِيثِ: يُغْسَل مِنْ بَوْل الْجَارِيَةِ وَيُرَشُّ مِنْ بَوْل الْغُلاَمِ (4) .
وَكُل مَا ذُكِرَ مِنَ اتِّفَاقٍ وَاخْتِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَوْل الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ؛ يَنْطَبِقُ تَمَامًا عَلَى قَيْءِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ (5) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 140، بداية المجتهد 1 / 77، 82 الشرح الصغير 1 / 73. مراقي الفلاح ص 25.
(2) مغني المحتاج 1 / 84، كشاف القناع 1 / 217، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 1 / 98.
(3) حديث أم قيس بنت محصن أنها: " أتت بابن لها صغير. . " أخرجه مسلم (1 / 238 - ط الحلبي) .
(4) حديث: " يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام " أخرجه أبو داود (1 / 262 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 166 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي السمح، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(5) فتح القدير 1 / 140، بداية المجتهد 1 / 77، 82، الشرح الصغير 1 / 73، مراقي الفلاح ص 25، مغني المحتاج 1 / 84، كشاف القناع 1 / 217، ونيل المآرب بشرح دليل الطالب 1 / 98.(27/25)
أَذَانُ الصَّبِيِّ:
27 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ أَذَانِ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُدْرِكُ مَا يَفْعَلُهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَذَانِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ أَذَانُهُ إِلاَّ إِذَا اعْتَمَدَ عَلَى بَالِغٍ فِي إِخْبَارِهِ بِدُخُول الْوَقْتِ فَإِنْ أَذَّنَ الصَّغِيرُ بِلاَ اعْتِمَادٍ عَلَى بَالِغٍ وَجَبَ عَلَى الْبَالِغِينَ إِعَادَةُ الآْذَانِ.
أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: فَيَصِحُّ أَذَانُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ (1) . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (أَذَانٌ) .
صَلاَةُ الصَّغِيرِ:
28 - لاَ تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَى الصَّبِيِّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 362، 365، البدائع 1 / 149 - 151، بداية المجتهد 1 / 104 وما بعدها، القوانين الفقهية ص 47 وما بعدها، المجموعة 3 / 163، مغني المحتاج 1 / 137، 139، المغني لابن قدامة 1 / 409 وما بعدها، كشاف القناع 1 / 271 - 279.
(2) حديث " رفع القلم عن ثلاثة. . " أخرجه أبو داود (4 / 559 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 59 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(27/26)
وَلَكِنْ يُؤْمَرُ الصَّغِيرُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى بِالصَّلاَةِ تَعْوِيدًا لَهُ، إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، وَيُضْرَبُ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ؛ زَجْرًا لَهُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ (1) .
عَوْرَةُ الصَّغِيرِ:
29 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَلَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنْ تَحْدِيدِ عَوْرَةِ الْكِبَارِ مِنِ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَكَيْفِيَّةِ سَتْرِهَا، كَمَا تَكَلَّمُوا عَنْ تَحْدِيدِ عَوْرَةِ الصِّغَارِ مِنَ الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجِهَا.
وَلَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ عَوْرَةِ الصِّغَارِ وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ أَقْوَالِهِمْ مِنْ خِلاَل مَذَاهِبِهِمْ:
أَوَّلاً - الْحَنَفِيَّةُ (2) : لاَ عَوْرَةَ لِلصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ أَرْبَعَ سِنِينَ، فَيُبَاحُ النَّظَرُ إِلَى بَدَنِهِ وَمَسُّهُ، أَمَّا مَنْ بَلَغَ أَرْبَعًا فَأَكْثَرَ، وَلَمْ يُشْتَهَ فَعَوْرَتُهُ الْقُبُل وَالدُّبُرُ، ثُمَّ تَغْلُظُ عَوْرَتُهُ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ. أَيْ تُعْتَبَرُ عَوْرَتُهُ: الدُّبُرُ وَمَا
__________
(1) حديث: " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين. . . " أخرجه أبو داود (1 / 334 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمرو، وحسنه النووي في رياض الصالحين (ص 171 - ط الرسالة) .
(2) رد المحتار 1 / 378(27/26)
حَوْلَهُ مِنِ الأَْلْيَتَيْنِ، وَالْقُبُل وَمَا حَوْلَهُ. وَبَعْدَ الْعَاشِرَةِ: تُعْتَبَرُ عَوْرَتُهُ مِنِ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ كَعَوْرَةِ الْبَالِغِ فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجِهَا، إِذَا كَانَ ذَكَرًا. وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى بَالِغَةً فَجَسَدُهَا كُلُّهُ عَوْرَةٌ إِلاَّ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ وَبَاطِنَ الْقَدَمَيْنِ.
ثَانِيًا - الْمَالِكِيَّةُ (1) : يُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى:
أ - فِي الصَّلاَةِ:
عَوْرَةُ الصَّغِيرِ الْمَأْمُورِ بِالصَّلاَةِ، وَهُوَ بَعْدَ تَمَامِ السَّبْعِ هِيَ: السَّوْأَتَانِ، وَالأَْلْيَتَانِ، وَالْعَانَةُ، وَالْفَخِذُ، فَيُنْدَبُ لَهُ سَتْرُهَا كَحَالَةِ السَّتْرِ الْمَطْلُوبِ مِنَ الْبَالِغِ.
وَعَوْرَةُ الصَّغِيرَةِ الْمَأْمُورَةِ بِالصَّلاَةِ: مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَيُنْدَبُ لَهَا سَتْرُهَا كَالسَّتْرِ الْمَطْلُوبِ مِنَ الْبَالِغَةِ.
ب - خَارِجَ الصَّلاَةِ:
ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ فَأَقَل لاَ عَوْرَةَ لَهُ، فَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ وَتَغْسِيلُهُ مَيِّتًا. وَابْنُ تِسْعٍ إِلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً يَجُوزُ لَهَا النَّظَرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ، وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ تَغْسِيلُهُ، وَابْنُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَكْثَرَ عَوْرَتُهُ كَعَوْرَةِ الرِّجَال.
وَبِنْتُ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ لاَ عَوْرَةَ لَهَا
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 216(27/27)
وَبِنْتُ ثَلاَثِ سِنِينَ إِلَى أَرْبَعٍ لاَ عَوْرَةَ لَهَا فِي النَّظَرِ؛ فَيُنْظَرُ إِلَى بَدَنِهَا وَلَهَا عَوْرَةٌ فِي الْمَسِّ، فَلَيْسَ لِلرَّجُل أَنْ يُغَسِّلَهَا، وَالْمُشْتَهَاةُ بِنْتُ سَبْعِ سَنَوَاتٍ لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل النَّظَرُ إِلَى عَوْرَتِهَا، وَلاَ تَغْسِيلُهَا.
ثَالِثًا - الشَّافِعِيَّةُ (1) : عَوْرَةُ الصَّغِيرِ وَلَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ كَالرَّجُل (مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ) ، وَعَوْرَةُ الصَّغِيرَةِ كَالْكَبِيرَةِ أَيْضًا فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجِهَا.
رَابِعًا - الْحَنَابِلَةُ (2) : لاَ عَوْرَةَ لِلصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ سَبْعَ سِنِينَ؛ فَيُبَاحُ النَّظَرُ إِلَيْهِ وَمَسُّ جَمِيعِ بَدَنِهِ. وَابْنُ سَبْعٍ إِلَى عَشْرٍ عَوْرَتُهُ الْفَرْجَانِ فَقَطْ؛ فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجِهَا، وَبِنْتُ سَبْعٍ إِلَى عَشْرٍ: عَوْرَتُهَا فِي الصَّلاَةِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهَا الاِسْتِتَارُ وَسَتْرُ الرَّأْسِ كَالْبَالِغَةِ احْتِيَاطًا، وَأَمَامَ الأَْجَانِبِ: عَوْرَتُهَا جَمِيعُ بَدَنِهَا إِلاَّ الْوَجْهَ، وَالرَّقَبَةَ، وَالرَّأْسَ، وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَالسَّاقَ، وَالْقَدَمَ. وَبِنْتُ عَشْرٍ كَالْكَبِيرَةِ تَمَامًا.
انْعِقَادُ الْجَمَاعَةِ وَالإِْمَامَةِ بِالصَّغِيرِ:
30 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ - فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ - إِلَى انْعِقَادِ الْجَمَاعَةِ بِإِمَامٍ وَصَبِيٍّ فَرْضًا وَنَفْلاً؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 185 و 3 / 130.
(2) كشاف القناع 1 / 308 وما بعدها، وشرح منتهى الإرادات 1 / 142.(27/27)
ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ صَبِيٌّ فِي التَّهَجُّدِ (1) .
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ: فَلاَ تَنْعَقِدُ الْجَمَاعَةُ بِصَغِيرٍ فِي فَرْضٍ (2) . أَمَّا إِمَامَةُ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهَا. وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (إِمَامَةٌ) .
غُسْل الْمَوْلُودِ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ:
31 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ غُسْل الصَّغِيرِ إِنْ وُلِدَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ. وَيُنْظَرُ: التَّفْصِيل فِي (تَغْسِيل الْمَيِّتِ، اسْتِهْلاَلٌ) .
الزَّكَاةُ فِي مَال الصَّبِيِّ:
32 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِهَا فِي مَال الصَّغِيرِ مُطْلَقًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى وُجُوبِهَا فِي مَال الصَّغِيرِ إِذَا كَانَ الْمَال زُرُوعًا وَثِمَارًا وَعَدَمِ وُجُوبِهَا فِي بَقِيَّةِ أَمْوَالِهِ (3) .
صَوْمُ الصَّغِيرِ:
33 - لاَ يَجِبُ الصَّوْمُ إِلاَّ بِبُلُوغِ الصَّغِيرِ
__________
(1) حديث: " أم النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس وهو صبي في التهجد " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 191 - ط السلفية) .
(2) الدر المختار 1 / 517، المجموع 4 / 93، كشاف القناع 1 / 532، الشرح الكبير 1 / 321.
(3) العناية بهامش الفتح 1 / 481.(27/28)
وَالصَّغِيرَةِ؛ لأَِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ فِيهَا مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى الصِّغَارِ، وَلَمْ يُكَلَّفُوا بِأَدَائِهَا شَرْعًا لِعَدَمِ صَلاَحِيَتِهِمْ لِذَلِكَ؛ فَإِنْ صَامَ الصَّغِيرُ صَحَّ صَوْمُهُ، وَيَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّوْمِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سَنَوَاتٍ، وَيَضْرِبَهُ إِذَا بَلَغَ عَشْرَ سَنَوَاتٍ لِكَيْ يَعْتَادَ عَلَى الصَّوْمِ؛ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الصَّغِيرُ يَتَحَمَّل أَدَاءَ الصَّوْمِ بِلاَ مَشَقَّةٍ، فَإِنْ كَانَ لاَ يُطِيقُهُ فَلاَ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ أَمْرُهُ بِالصَّوْمِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (صَوْمٌ) .
حَجُّ الصَّبِيِّ:
34 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ مُسْتَطِيعًا إِلاَّ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ وَيَقَعُ نَفْلاً، وَلاَ يُجْزِئُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ. (يُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي حَجٌّ) .
يَمِينُ الصَّغِيرِ وَنَذْرُهُ:
35 - لاَ يَنْعَقِدُ يَمِينُ الصَّبِيِّ وَلاَ نَذْرُهُ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ؛ يَسْتَوِي فِي هَذَا الْحُكْمِ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ وَغَيْرُ الْمُمَيِّزِ. انْظُرْ: (أَيْمَان، وَنَذْر) .
اسْتِئْذَانُ الصَّغِيرِ:
36 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ: (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَطَاوُسُ بْنُ كَيْسَانَ، وَالْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ) إِلَى وُجُوبِ أَمْرِ الصَّغِيرِ(27/28)
الْمُمَيِّزِ بِالاِسْتِئْذَانِ قَبْل الدُّخُول، فِي الأَْوْقَاتِ الثَّلاَثَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ؛ لأَِنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِتَخَفُّفِ النَّاسِ فِيهَا مِنَ الثِّيَابِ.
وَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الاِسْتِئْذَانِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الأَْوْقَاتِ الثَّلاَثَةِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ فِي الاِسْتِئْذَانِ عِنْدَ كُل خُرُوجٍ وَدُخُولٍ. وَالصَّغِيرُ مِمَّنْ يَكْثُرُ دُخُولُهُ وَخُرُوجُهُ؛ فَهُوَ مِنَ الطَّوَّافِينَ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْل صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآْيَاتِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) .
وَذَهَبَ أَبُو قِلاَبَةَ إِلَى أَنَّ اسْتِئْذَانَ هَؤُلاَءِ فِي هَذِهِ الأَْوْقَاتِ الثَّلاَثَةِ مَنْدُوبٌ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَكَانَ يَقُول: " إِنَّمَا أُمِرُوا بِهَذَا نَظَرًا لَهُمْ (2) ".
__________
(1) سورة النور / 58، وانظر بدائع الصنائع 5 / 125، وأحكام ابن العربي 5 / 1385، والفواكه الدواني 2 / 426، وتفسير القرطبي 12 / 303، وتفسير الطبري 18 / 111.
(2) القرطبي 2 / 302.(27/29)
أَحْكَامُ الصَّغِيرِ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
أ - وَقْتُ تَسْلِيمِ الصَّغِيرِ أَمْوَالَهُ:
37 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تُسَلَّمُ لِلصَّغِيرِ أَمْوَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ رَاشِدًا؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ دَفْعَ الْمَال إِلَيْهِ عَلَى شَرْطَيْنِ: هُمَا الْبُلُوغُ، وَالرُّشْدُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (1) وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطَيْنِ لاَ يَثْبُتُ بِدُونِهِمَا.
فَإِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ فَإِمَّا أَنْ يَبْلُغَ رَشِيدًا أَوْ غَيْرَ رَشِيدٍ.
فَإِنْ بَلَغَ رَشِيدًا مُصْلِحًا لِلْمَال دُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد: لاَ يُتْمَ بَعْدَ احْتِلاَمٍ (2) . وَإِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ أَشْهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّفْعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} (3) .
وَلِلصَّغِيرَةِ أَحْكَامٌ مِنْ حَيْثُ وَقْتُ تَرْشِيدِهَا وَيُنْظَرُ فِي: (حَجْرٌ، وَرُشْدٌ) .
__________
(1) سورة النساء آية 6
(2) حديث: " لا يتم بعد احتلام " أخرجه أبو داود (2943 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث على بن أبي طالب، وحسن إسناده النووي في رياض الصالحين (ص 760 - ط الرسالة) .
(3) سورة النساء / 6.(27/29)
38 - وَإِنْ بَلَغَ الصَّغِيرُ غَيْرَ رَشِيدٍ فَلاَ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ بَل يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ السَّفَهِ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا} (1) .
إِلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَال: يَسْتَمِرُّ الْحَجْرُ عَلَى الْبَالِغِ غَيْرِ الرَّشِيدِ إِلَى بُلُوغِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ يُسَلَّمُ إِلَيْهِ مَالُهُ وَلَوْ لَمْ يَرْشُدْ؛ لأَِنَّ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذِهِ السِّنِّ إِهْدَارًا لِكَرَامَتِهِ الإِْنْسَانِيَّةِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلاَ تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيمِ إِلاَّ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (2) وَتَمَامُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُعْرَفُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجْرٌ، وَرُشْدٌ) .
ب - الإِْذْنُ لِلصَّغِيرِ بِالتِّجَارَةِ:
39 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اخْتِبَارِ الْمُمَيِّزِ فِي التَّصَرُّفَاتِ؛ لِمَعْرِفَةِ رُشْدِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} أَيِ اخْتَبِرُوهُمْ، وَاخْتِبَارُهُ بِتَفْوِيضِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَمْثَالُهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلاَدِ التُّجَّارِ اخْتُبِرَ بِالْمُمَاكَسَةِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلاَدِ الزُّرَّاعِ اخْتُبِرَ بِالزِّرَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلاَدِ أَصْحَابِ الْحِرَفِ اخْتُبِرَ بِالْحِرْفَةِ، وَالْمَرْأَةُ تُخْتَبَرُ فِي شُؤُونِ الْبَيْتِ مِنْ غَزْلٍ وَطَهْيِ
__________
(1) سورة النساء آية 5.
(2) سورة الأنعام آية 152.(27/30)
طَعَامٍ وَصِيَانَتِهِ وَشِرَاءِ لَوَازِمِ الْبَيْتِ وَنَحْوِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي إِذْنِ الْوَلِيِّ لِلصَّغِيرِ بِالتِّجَارَةِ وَفِي أَثَرِ الإِْذْنِ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ - وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الرِّوَايَةِ الرَّاجِحَةِ - يَجُوزُ لِوَلِيِّ الْمَال الإِْذْنُ لِلصَّغِيرِ فِي التِّجَارَةِ إِذَا أَنِسَ مِنْهُ الْخِبْرَةَ لِتَدْرِيبِهِ عَلَى طُرُقِ الْمَكَاسِبِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} أَيِ اخْتَبِرُوهُمْ لِتَعْلَمُوا رُشْدَهُمْ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الاِخْتِبَارُ بِتَفْوِيضِ التَّصَرُّفِ إِلَيْهِمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ وَلأَِنَّ الْمُمَيِّزَ عَاقِلٌ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فَيَرْتَفِعُ حَجْرُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، وَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُ بِهَذَا الإِْذْنِ فَلَوْ تَصَرَّفَ بِلاَ إِذْنٍ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ - وَلَمْ يَنْفُذْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَالإِْذْنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا، مِثْل: أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ، أَوْ دَلاَلَةً كَمَا لَوْ رَآهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ؛ لأَِنَّ سُكُوتَهُ دَلِيل الرِّضَا، وَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ سُكُوتُهُ لأََدَّى إِلَى الإِْضْرَارِ بِمَنْ يُعَامِلُونَهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ -: لاَ يَثْبُتُ الإِْذْنُ بِالدَّلاَلَةِ؛ لأَِنَّ سُكُوتَهُ مُحْتَمِلٌ لِلرِّضَا وَلِعَدَمِ الرِّضَا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ الإِْذْنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ وَإِنَّمَا يُسَلَّمُ إِلَيْهِ الْمَال وَيُمْتَحَنُ فِي(27/30)
الْمُمَاكَسَةِ، فَإِذَا أَرَادَ الْعَقْدَ عَقَدَ الْوَلِيُّ عَنْهُ؛ لأَِنَّ تَصَرُّفَاتِهِ وَعُقُودَهُ بَاطِلَةٌ لِعَدَمِ تَوَافُرِ الْعَقْل الْكَافِي لِتَقْدِيرِ الْمَصْلَحَةِ فِي مُبَاشَرَةِ التَّصَرُّفِ، فَلاَ يَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْعُقَلاَءِ قَبْل وُجُودِ مَظِنَّةِ كَمَال الْعَقْل (1) .
الْوَصِيَّةُ مِنَ الصَّغِيرِ:
40 - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: - فِي أَرْجَحِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ - عَلَى اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ لِصِحَّةِ الْوَصِيَّةِ، فَلاَ تَصِحُّ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ؛ وَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ؛ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ ضَرَرًا مَحْضًا، إِذْ هِيَ تَبَرُّعٌ، كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَعْمَال التِّجَارَةِ.
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَصِيَّةَ الْمُمَيِّزِ وَهُوَ مَنْ أَتَمَّ السَّابِعَةَ إِذَا كَانَتْ لِتَجْهِيزِهِ وَتَكْفِينِهِ وَدَفْنِهِ؛ لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَازَ وَصِيَّةَ صَبِيٍّ مِنْ غَسَّانَ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ أَوْصَى لأَِخْوَالِهِ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ ضَرَرَ عَلَى الصَّبِيِّ فِي جَوَازِ وَصِيَّتِهِ؛ لأَِنَّ الْمَال سَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ وَلَهُ الرُّجُوعُ عَنْ وَصِيَّتِهِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصِيَّةَ الْمُمَيِّزِ؛
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 170، الدر المختار 5 / 108، 111، تبيين الحقائق 5 / 203 وما بعدها، البدائع 7 / 194 وما بعدها، الشرح الكبير 3 / 294، 303 وما بعدها، الشرح الصغير 3 / 384، المغني 4 / 468 كشاف القناع 3 / 445.(27/31)
وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ فَأَقَل مِمَّا يُقَارِبُهَا، دُونَ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، إِذَا عَقَل الْمُمَيِّزُ الْقُرْبَةَ؛ لأَِنَّهَا تَصَرُّفٌ يُحَقِّقُ نَفْعًا لَهُ فِي الآْخِرَةِ بِالثَّوَابِ، فَصَحَّ مِنْهُ كَالإِْسْلاَمِ وَالصَّلاَةِ (1) .
قَبُول الصَّغِيرِ لِلْوَصِيَّةِ:
41 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُوصَى لَهُ إِنْ كَانَ صَغِيرًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْقَبُول أَوِ الرَّدِّ؛ لأَِنَّ عِبَارَتَهُ مُلْغَاةٌ، وَإِنَّمَا يَقْبَل عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ يَرُدُّ عَنْهُ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَاقِصِ الأَْهْلِيَّةِ - وَهُوَ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ - فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَهُ الْقَبُول؛ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ نَفْعٌ مَحْضٌ لَهُ كَالْهِبَةِ وَالاِسْتِحْقَاقِ فِي الْوَقْفِ، وَلَيْسَ لَهُ وَلاَ لِوَلِيِّهِ الرَّدُّ؛ لأَِنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ فَلاَ يَمْلِكُونَهُ.
وَقَال الْجُمْهُورُ: أَمْرُ الْقَبُول وَالرَّدِّ عَنْ نَاقِصِ الأَْهْلِيَّةِ لِوَلِيِّهِ يَفْعَل مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ.
تَزْوِيجُ الصَّغِيرِ:
42 - لِلصَّغِيرِ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى الزَّوَاجُ قَبْل الْبُلُوغِ، وَلَكِنْ لاَ يُبَاشِرُ عَقْدَ الزَّوَاجِ بِنَفْسِهِ، بَل يَقُومُ وَلِيُّهُ بِمُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ وَتَزْوِيجِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُزَوَّجُ ذَكَرًا يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ
__________
(1) البدائع 7 / 334 وما بعدها، تبيين الحقائق 6 / 185، القوانين الفقهية ص 405، شرح الرسالة 2 / 169، مغني المحتاج 3 / 39، كشاف القناع 4 / 371 وما بعدها، وبداية المجتهد 2 / 328.(27/31)
تَزْوِيجُهُ بِمَهْرِ الْمِثْل، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى زُوِّجَتْ مِنْ إِنْسَانٍ صَالِحٍ يُحَافِظُ عَلَيْهَا وَيُدَبِّرُ شُؤُونَهَا (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نِكَاح) :
طَلاَقُ الصَّغِيرِ:
43 - الطَّلاَقُ رَفْعُ قَيْدِ الزَّوَاجِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْتِزَامَاتٌ مَالِيَّةٌ، فَلِذَلِكَ لاَ يَصِحُّ طَلاَقُ الصَّبِيِّ مُمَيِّزًا أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ طَلاَقَ مُمَيِّزٍ يَعْقِل الطَّلاَقَ وَلَوْ كَانَ دُونَ عَشْرِ سِنِينَ، بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ زَوْجَتَهُ تَبِينُ مِنْهُ وَتُحَرَّمُ عَلَيْهِ إِذَا طَلَّقَهَا، وَيَصِحُّ تَوْكِيل الْمُمَيِّزِ فِي الطَّلاَقِ وَتَوَكُّلُهُ فِيهِ؛ لأَِنَّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ مُبَاشَرَةُ شَيْءٍ، صَحَّ أَنْ يُوَكَّل وَأَنْ يَتَوَكَّل فِيهِ، وَلاَ يَصِحُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنْ يُطَلِّقَ الْوَلِيُّ عَلَى الصَّبِيِّ بِلاَ عِوَضٍ لأَِنَّ الطَّلاَقَ ضَرَرٌ (2) .
عِدَّةُ الصَّغِيرَةِ مِنْ طَلاَقٍ أَوْ وَفَاةٍ:
44 - الْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُل امْرَأَةٍ فَارَقَهَا زَوْجُهَا بِطَلاَقٍ أَوْ وَفَاةٍ، كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً، وَلَمَّا كَانَ زَوَاجُ الصَّغِيرَةِ جَائِزًا صَحَّ إِيقَاعُ الطَّلاَقِ عَلَيْهَا، فَإِذَا طَلُقَتِ الصَّغِيرَةُ فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَلْزَمُهَا، وَتَعْتَدُّ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ إِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ
__________
(1) البدائع 2 / 232، الشرح الصغير 2 / 296، مغني المحتاج 3 / 169، كشاف القناع 5 / 43، 44.
(2) فتح القدير 3 / 21، 38 - 40، الشرح الكبير 2 / 365، بداية المجتهد 2 / 81، 83، المهذب 2 / 77، كشاف القناع 5 / 262، 265.(27/32)
مِنْ طَلاَقٍ. وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عِدَّةِ الصَّغِيرَاتِ فَنَزَل قَوْله تَعَالَى: {وَاَللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} (1) .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاَللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} مَحْمُولٌ عَلَى الصَّغِيرَاتِ فَتَكُونُ عِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ مِنْ وَفَاةٍ: تَكُونُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (2) .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَزْوَاجًا} لَفْظٌ عَامٌّ يَشْمَل الْكَبِيرَاتِ وَالصَّغِيرَاتِ، فَتَكُونُ عِدَّةُ الصَّغِيرَاتِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. وَلِلصَّغِيرَةِ فِي الْعِدَّةِ حَقُّ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى عَلَى زَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ (3) عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ يُعْرَفُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِدَّةٌ) .
__________
(1) سورة الطلاق آية 4، وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن نزول آية: (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم) . أخرجه الحكام (2 / 493 - 493 - ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي بن كعب. وصححه، ووافقه الذهبي.
(2) سورة البقرة آية 234.
(3) فتح القدير 4 / 139، المغني 9 / 90، 91 مغني المحتاج 3 / 386، 387، حاشية الدسوقي 2 / 422، أحكام القرآن للجصاص 3 / 456 وما بعدها، أحكام القرآن لابن العربي 4 / 1836، 1838.(27/32)
قَضَاءُ الصَّغِيرِ:
45 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ تَوْلِيَةِ الصَّغِيرِ الْقَضَاءَ، وَبِالتَّالِي لاَ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ (1) . انْظُرْ: (قَضَاء) .
شَهَادَةُ الصَّغِيرِ:
46 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ عَاقِلاً بَالِغًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الطِّفْل؛ لأَِنَّهُ لاَ تَحْصُل الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ، وَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الصَّغِيرِ غَيْرِ الْبَالِغِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (2) . وَقَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (3) وَقَوْلِهِ: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (4) وَالصَّغِيرُ مِمَّنْ لاَ تُرْضَى شَهَادَتُهُ؛ وَلأَِنَّ الصَّغِيرَ لاَ يَأْثَمُ بِكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ، فَدَل عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَاهِدٍ.
وَأَمَّا شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَتَجُوزُ عِنْدَ الإِْمَامِ مَالِكٍ فِي الْجِرَاحِ، وَفِي الْقَتْل؛ خِلاَفًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (5) .
__________
(1) البدائع 7 / 3، الدسوقي 4 / 129، مغني المحتاج 4 / 375، المغني 9 / 39.
(2) سورة البقرة آية 282
(3) سورة الطلاق 2
(4) سورة البقرة آية 282
(5) بداية المجتهد 2 / 451، 452، البدائع 6 / 267، المغني 9 / 194، مغني المحتاج 4 / 427.(27/33)
أَحْكَامُ الصَّغِيرِ فِي الْعُقُوبَاتِ:
47 - لَقَدْ قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ مَرَاحِل الصِّغَرِ إِلَى قِسْمَيْنِ رَئِيسِيَّيْنِ:
الأَْوَّل: الصَّغِيرُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ وَهَذَا لاَ تُطَبَّقُ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ مِنَ الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ أَصْلاً؛ لاِنْعِدَامِ مَسْئُولِيَّتِهِ.
الثَّانِي: الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ لاَ تُطَبَّقُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ، وَلَكِنْ يُؤَدَّبُ عَلَى مَا ارْتَكَبَ بِمَا يَتَنَاسَبُ مَعَ صِغَرِ سِنِّهِ؛ بِالتَّوْبِيخِ وَالضَّرْبِ غَيْرِ الْمُتْلِفِ أَمَّا إِذَا ارْتَكَبَ الصَّغِيرُ فِعْلاً مِنْ شَأْنِهِ إِتْلاَفُ مَال الْغَيْرِ، وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ مَالِهِ، وَكَذَا لَوْ قَتَل إِنْسَانًا خَطَأً وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، هَذَا هُوَ الْمَبْدَأُ الْعَامُّ الَّذِي يُحَدِّدُ عَلاَقَةَ الصِّغَارِ بِالْعُقُوبَاتِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ - دِيَةٌ - قِصَاصٌ) .
حَقُّ الصَّغِيرِ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:
48 - حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ يَثْبُتُ لأَِوْلِيَاءِ الْمَقْتُول (وَرَثَتِهِ) وَالأَْوْلِيَاءُ قَدْ يَكُونُونَ جَمَاعَةً، أَوْ يَكُونُ وَاحِدًا مُنْفَرِدًا، وَالْجَمَاعَةُ قَدْ يَكُونُونَ جَمِيعًا كِبَارًا، أَوْ كِبَارًا وَصِغَارًا. وَالْوَاحِدُ الْمُنْفَرِدُ قَدْ يَكُونُ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا.
أَوَّلاً - إِذَا كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ صَغِيرًا مُنْفَرِدًا:
49 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِظَارِ بُلُوغِهِ:(27/33)
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رِوَايَتَانِ
إِحْدَاهُمَا: يُنْتَظَرُ بُلُوغُهُ. وَالثَّانِيَةُ: يَسْتَوْفِي الْقَاضِي الْقِصَاصَ نِيَابَةً عَنِ الصَّغِيرِ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يُنْتَظَرُ الْبُلُوغُ، وَلِوَلِيِّ الصَّغِيرِ أَوْ وَصِيِّهِ النَّظَرُ بِالْمَصْلَحَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ أَوْ فِي أَخْذِ الدِّيَةِ كَامِلَةً.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُنْتَظَرُ بُلُوغُ الصَّغِيرِ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ لِلتَّشَفِّي، فَحَقُّهُ التَّفْوِيضُ إِلَى اخْتِيَارِ الْمُسْتَحِقِّ؛ فَلاَ يَحْصُل الْمَقْصُودُ بِاسْتِيفَاءِ غَيْرِهِ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ أَوْ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ (1) .
ثَانِيًا - إِذَا كَانَ الصَّغِيرُ مُشْتَرَكًا مَعَ جَمَاعَةٍ كِبَارٍ:
فَلِلْكِبَارِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَلاَ يُنْتَظَرُ بُلُوغُ الصَّغِيرِ لِثُبُوتِ حَقِّ الْقِصَاصِ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً عَلَى سَبِيل الْكَمَال وَالاِسْتِقْلاَل؛ وَلأَِنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لاَ يَتَجَزَّأُ؛ لِثُبُوتِهِ بِسَبَبٍ لاَ يَتَجَزَّأُ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ.
انْظُرْ: (قِصَاص) .
__________
(1) البدائع 7 / 243، المغني 7 / 739، الشرح الكبير 4 / 258، مغني المحتاج 4 / 40.(27/34)
صَغِيرٌ
انْظُرْ: صِغَر
صَفَا
انْظُرْ: سَعْي(27/34)
صَفٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّفُّ فِي اللُّغَةِ: السَّطْرُ الْمُسْتَقِيمُ مِنْ كُل شَيْءٍ، وَالْقَوْمُ الْمُصْطَفُّونَ وَجَعْل الشَّيْءِ - كَالنَّاسِ وَالأَْشْجَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - عَلَى خَطٍّ مُسْتَوٍ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (1) وَصَافَّ الْجَيْشُ عَدُوَّهُ: قَاتَلَهُ صُفُوفًا، وَتَصَافَّ الْقَوْمُ: وَقَفُوا صُفُوفًا مُتَقَابِلَةً (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصَّفِّ:
أَوَّلاً: تَسْوِيَةُ الصَّفِّ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ:
2 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ بِحَيْثُ لاَ يَتَقَدَّمُ بَعْضُ الْمُصَلِّينَ عَلَى الْبَعْضِ الآْخَرِ، وَيَعْتَدِل الْقَائِمُونَ فِي الصَّفِّ عَلَى سَمْتٍ وَاحِدٍ مَعَ
__________
(1) سورة الصف / 4.
(2) لسان العرب، المصباح المنير، والمعجم الوسيط مادة (صف) .(27/35)
التَّرَاصِّ، وَهُوَ تَلاَصُقُ الْمَنْكِبِ بِالْمَنْكِبِ، وَالْقَدَمِ بِالْقَدَمِ، وَالْكَعْبِ بِالْكَعْبِ حَتَّى لاَ يَكُونَ فِي الصَّفِّ خَلَلٌ وَلاَ فُرْجَةٌ، وَيُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ (1) وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاَةِ (2) وَفِي رِوَايَةٍ: وَأَقِيمُوا الصَّفَّ فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلاَةِ (3) وَلِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَأَقْبَل عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ فَقَال: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وَتَرَاصُّوا فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي (4) .
__________
(1) حديث: " سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة " أخرجه مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا (1 / 324ط. عيسي الحلبي) .
(2) ورواية: " فإن تسوية الصفوف من إتمام الصلاة " أخرجه مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه (فتح الباري 2 / 209ط. السلفية) .
(3) ورواية: " أقيموا الصف فإن إقامة الصف من حسن الصلاة " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 209ط. السلفية) ومسلم (صحيح مسلم 1 / 324ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.
(4) حديث: " أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بواجهة فقال: أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 208ط. السلفية) ، وجامع الأصول (5 / 607 نشر مكتبة الحلواني) .(27/35)
وَفِي رِوَايَةٍ: وَكَانَ أَحَدُنَا يَلْزَقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ (1)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - مِنْهُمُ ابْنُ حَجَرٍ وَبَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ - إِلَى وُجُوبِ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ (2) فَإِنَّ وُرُودَ هَذَا الْوَعِيدِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ، وَالتَّفْرِيطُ فِيهَا حَرَامٌ؛ وَلأَِمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَأَمْرُهُ لِلْوُجُوبِ مَا لَمْ يَصْرِفْهُ صَارِفٌ، وَلاَ صَارِفَ هُنَا.
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: وَمَعَ الْقَوْل بِأَنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ وَاجِبَةٌ فَصَلاَةُ مَنْ خَالَفَ وَلَمْ يُسَوِّ صَحِيحَةٌ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ: أَنَّ أَنَسًا مَعَ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ الصَّلاَةِ (3) .
__________
(1) ورواية: " وكان أحدنا يلزق منكبه بمكنب صاحبه وقدمه بقدمه " أخرجه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه (فتح الباري 2 / 211ط. السلفية) .
(2) حديث: " لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 206 - 207 ط. السلفية) ومسلم 1 / 324 ط. عيسي الحلبي) من حديث نعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(3) مغني المحتاج 1 / 248، البدائع 1 / 159، كشاف القناع 1 / 328، سبل السلام 2 / 47، دليل الفالحين 2 / 563، نيل الأوطار 3 / 212، الفواكه الدواني 1 / 246، فتح الباري 2 / 206.(27/36)
3 - وَمِنْ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ إِكْمَال الصَّفِّ الأَْوَّل فَالأَْوَّل، وَأَنْ لاَ يُشْرَعَ فِي إِنْشَاءِ الصَّفِّ الثَّانِي إِلاَّ بَعْدَ كَمَال الأَْوَّل، وَهَكَذَا. وَهَذَا مَوْضِعُ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ ثُمَّ الَّذِي يَلِيَهُ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ (1) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ وَصَل صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ (2) .
وَعَلَيْهِ فَلاَ يَقِفُ فِي صَفٍّ وَأَمَامَهُ صَفٌّ آخَرُ نَاقِصٌ أَوْ فِيهِ فُرْجَةٌ، بَل يَشُقُّ الصُّفُوفَ لِسَدِّ الْخَلَل أَوِ الْفُرْجَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الصُّفُوفِ الَّتِي أَمَامَهُ؛ لِلأَْحَادِيثِ السَّابِقَةِ (3) .
فَإِذَا حَضَرَ مَعَ الإِْمَامِ رَجُلاَنِ أَوْ أَكْثَرُ، أَوْ رَجُلٌ وَصَبِيٌّ اصْطَفَّا خَلْفَهُ.
__________
(1) حديث: " أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر ". أخرجه أبو داود (سنن أبي داود 1 / 435 ط إستانبول) والنسائي (سنن النسائي 2 / 93 نشر مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب) من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعا، وإسناده صحيح (شرح السنة للبغوي بتحقيق الأرناؤوط 3 / 374) .
(2) حديث: " من وصل صفا وصله الله ومن قطع صفا قطعه الله " أخرجه أبو داود (سنن أبو داود 1 / 433 ط. إستانبول) والنسائي (2 / 93 نشر مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وإسناده حسن (جامع الأصول 5 / 609 - 610 نشر مكتب الحلواني) .
(3) المصادر السابقة(27/36)
وَلَوْ حَضَرَ مَعَهُ رَجُلاَنِ وَامْرَأَةٌ اصْطَفَّ الرَّجُلاَنِ خَلْفَهُ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا، وَلَوِ اجْتَمَعَ الرِّجَال وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالصَّبِيَّاتُ الْمُرَاهِقَاتُ وَأَرَادُوا أَنْ يَصْطَفُّوا لِلْجَمَاعَةِ وَقَفَ الرِّجَال فِي صَفٍّ أَوْ صَفَّيْنِ أَوْ صُفُوفٍ مِمَّا يَلِي الإِْمَامَ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ بَعْدَهُمْ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَقِفُ بَيْنَ كُل رَجُلَيْنِ صَبِيٌّ لِيَتَعَلَّمَ أَفْعَال الصَّلاَةِ.
ثُمَّ يَقِفُ النِّسَاءُ وَلاَ فَرْقَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّبِيَّةِ الْمُرَاهِقَةِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ الصَّبِيَّاتِ الْمُرَاهِقَاتِ يَقِفْنَ وَرَاءَ النِّسَاءِ الْكَبِيرَاتِ. وَيَتَقَدَّمُ بِالنِّسْبَةِ لِهَؤُلاَءِ جَمِيعًا فِي الصُّفُوفِ الأُْوَل الأَْفْضَل فَالأَْفْضَل لِمَا رَوَاهُ أَبُو مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلاَةِ وَيَقُول: اسْتَوُوا وَلاَ تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ؛ لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الأَْحْلاَمِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ (1) .
وَلِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الأَْشْعَرِيِّ قَال: أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ
__________
(1) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ". أخرجه مسلم من حديث أبي مسعود رضي الله عنه (صحيح مسلم 1 / 323 ط. عيسي الحلبي)(27/37)
بِصَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَال: فَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصَفَّ الرِّجَال وَصَفَّ خَلْفَهُمُ الْغِلْمَانَ ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ، فَذَكَرَ صَلاَتَهُ ثُمَّ قَال: هَكَذَا صَلاَةُ. قَال عَبْدُ الأَْعْلَى - رَاوِي الْحَدِيثِ -: لاَ أَحْسَبُهُ إِلاَّ قَال: صَلاَةُ أُمَّتِي (1) .
وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ مَعَ الإِْمَامِ إِلاَّ جَمْعٌ مِنَ النِّسَاءِ صَفَّهُنَّ خَلْفَهُ، وَكَذَا الاِثْنَتَانِ وَالْوَاحِدَةُ. وَمِنْ أَدَبِ الصَّفِّ أَنْ تُسَدَّ الْفُرَجُ وَالْخَلَل، وَأَنْ لاَ يُشْرَعَ فِي صَفٍّ حَتَّى يَتِمَّ الأَْوَّل، وَأَنْ يُفْسَحَ لِمَنْ يُرِيدُ دُخُول الصَّفِّ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ سِعَةٌ، وَيَقِفُ الإِْمَامُ وَسَطَ الصَّفِّ وَالْمُصَلُّونَ خَلْفَهُ (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَسِّطُوا الإِْمَامَ وَسُدُّوا الْخَلَل (3) " وَمُقَابِل
__________
(1) حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: " ألا أحدثكم بصلاة النبي صلي الله عليه وسلم: قال: فأقام الصلاة وصف الرجال، وصف خلفهم الغلمان، ثم صلى بهم فذكر صلاته ثم قال: هكذا الصلاة، قال عبد الأعلى - راوي الحديث - لا أحسبه إلا قال: صلاة أمتي " أخرجه أبو
(2) المصادر السابقة.
(3) حديث: " وسطوا الأمام وسدوا الخلل " أخرجه أبو داود (سنن أبو داود 1 / 439 ط. إستانبول) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وسكت عنه أبو داود والمنذري (مختصر سنن أبو داود للمنذري 1 / 336 نشر دار المعرفة) قال في المهذب: سنده لين قال المناوي: / وأصله قول عبد الحق: ليس إسناده بقوي ولا مشهور. قال ابن القطان: لم يبين علته، وهي أن فيه يحيى بن بشير بن خلاد وأمه وهما مجهولان. فيض القدير 6 / 3462 نشر المكتبة التجارية) .(27/37)
الإِْمَامِ أَفْضَل مِنَ الْجَوَانِبِ، وَجِهَةُ يَمِينِ الإِْمَامِ أَفْضَل مِنْ جِهَةِ يَسَارِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ (1) .
فَضْل الصَّفِّ الأَْوَّل:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَفْضَل صُفُوفِ الرِّجَال - سَوَاءٌ كَانُوا يُصَلُّونَ وَحْدَهُمْ أَوْ مَعَ غَيْرِهِمْ مِنَ الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ - هُوَ الصَّفُّ الأَْوَّل، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ، وَكَذَا أَفْضَل صُفُوفِ النِّسَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رِجَالٌ. أَمَّا النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَال فَأَفْضَل صُفُوفِهِنَّ آخِرُهَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ أَلْيَقُ وَأَسْتَرُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَال أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا (2) .
__________
(1) حديث: " إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف " أخرجه أبو داود (سنن أبي داود 1 / 437 ط إستانبول) وابن ماجة (سنن ابن ماجة 1 / 321 ط عيسي الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا وحسنه الحافظ ابن حجر (فتح الباري 2 / 213 ط. السلفية، وجامع الأصول في أحاديث الرسول بتحقيق الأرناؤوط 5 / 615) .
(2) حديث: " خير صفوف الرجال أولها. . . " أخرجه مسلم. صحيح مسلم 1 / 326 - ط. عيسي الحلبي وشرح السنة للبغوي بتحقيق الأرناؤوط 3 / 371 نشر المكتب الإسلامي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه(27/38)
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَْوَّل ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا (1) .
5 - قَال الْعُلَمَاءُ: مِنْ فَوَائِدِ الْحَثِّ عَلَى الصَّفِّ الأَْوَّل الْمُسَارَعَةُ إِلَى خَلاَصِ الذِّمَّةِ وَالسَّبْقُ لِدُخُول الْمَسْجِدِ؛ وَالْفِرَارُ مِنْ مُشَابَهَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَالْقُرْبُ مِنَ الإِْمَامِ؛ وَاسْتِمَاعُ قِرَاءَتِهِ وَالتَّعَلُّمُ مِنْهُ وَالْفَتْحُ عَلَيْهِ وَالتَّبْلِيغُ عَنْهُ وَمُشَاهَدَةُ أَحْوَالِهِ، وَالسَّلاَمَةُ مِنَ اخْتِرَاقِ الْمَارَّةِ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ وَسَلاَمَةُ الْبَال مِنْ رُؤْيَةِ مَنْ يَكُونُ أَمَامَهُ وَسَلاَمَةُ مَوْضِعِ سُجُودِهِ مِنْ أَذْيَال الْمُصَلِّينَ؛ وَالتَّعَرُّضُ لِصَلاَةِ اللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَدُعَاءُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
6 - وَلَكِنِ الْعُلَمَاءُ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنَ الصَّفِّ الأَْوَّل فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّفَّ الأَْوَّل الْمَمْدُوحَ الَّذِي وَرَدَتِ الأَْحَادِيثُ بِفَضْلِهِ هُوَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِي الإِْمَامَ سَوَاءٌ تَخَلَّلَهُ مِنْبَرٌ أَوْ مَقْصُورَةٌ أَوْ أَعْمِدَةٌ أَوْ نَحْوُهَا، وَسَوَاءٌ جَاءَ صَاحِبُهُ مُقَدَّمًا أَوْ مُؤَخَّرًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ لَكَانَتْ قُرْعَةٌ (2) وَلِقَوْلِهِ
__________
(1) حديث: " لو يعلم الناس ما في. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 139 ط. السلفية) ومسلم 1 / 325 ط. عيسي الحلبي) - واللفظ له - ومالك في الموطأ (1 / 131 ط. عيسي الحلبي) .
(2) حديث: " لو يعلمون. . . . " أخرجه مسلم. 1 / 326 - ط. عيسي الحلبي 9 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.(27/38)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا: تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لاَ يَزَال قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمُ الْغَزَالِيُّ إِلَى أَنَّ الصَّفَّ الأَْوَّل الْفَاضِل هُوَ أَوَّل صَفٍّ تَامٍّ يَلِي الإِْمَامَ وَلاَ يَتَخَلَّلُهُ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ؛ لأَِنَّ مَا فِيهِ خَلَلٌ فَهُوَ نَاقِصٌ. قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: وَكَأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْل لَحَظَ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَامِل، وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل بِمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ مَحْمُودٍ قَال: صَلَّيْنَا خَلْفَ أَمِيرٍ مِنَ الأُْمَرَاءِ فَاضْطَرَّنَا النَّاسُ فَصَلَّيْنَا بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَلَمَّا صَلَّيْنَا قَال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ كُنَّا نَتَّقِي هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الآْخَرِينَ وَمِنْهُمْ بِشْرُ
__________
(1) حديث: " تقدموا فائتموا بي. . . " أخرجه مسلم (صحيح مسلم 1 / 325 - ط. عيسي الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2) حديث عبد الحميد بن محمود قال: " صلينا خلف أمير من الأمراء. . . " أخرجه أبو داود (سنن أبي داود 1 / 436 ط. إستانبول) والنسائي (سنن النسائي 2 / 94 نشر مكتبة المطبوعات الإسلامية) والترمذي 1 / 433 ط. دار الكتب العلمية) قال: حديث حسن صحيح. ورواه أيضا الحاكم من طريق سفيان الثوري وصححه هو الذهبي. المستدرك 1 / 210 نشر دار الكتاب العربي)(27/39)
بْنُ الْحَارِثِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّفِّ الأَْوَّل هُوَ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَكَانِ الصَّلاَةِ وَجَاءَ أَوَّلاً وَإِنْ صَلَّى فِي آخِرِ الصُّفُوفِ، وَاحْتَجُّوا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ جَاءَ أَوَّل الْوَقْتِ وَلَمْ يَدْخُل فِي الصَّفِّ الأَْوَّل أَفْضَل مِمَّنْ جَاءَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَزَاحَمَ إِلَى الصَّفِّ الأَْوَّل. قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ - أَيْضًا -: وَكَأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْل لاَحَظَ الْمَعْنَى فِي تَفْضِيل الصَّفِّ الأَْوَّل دُونَ مُرَاعَاةِ لَفْظِهِ (1) .
الْفِرَارُ مِنَ الصَّفِّ فِي الْقِتَال مَعَ الْكُفَّارِ:
7 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ لَزِمَهُ الْجِهَادُ - وَهُوَ الْمُسْلِمُ الذَّكَرُ الْحُرُّ الْمُكَلَّفُ الْمُسْتَطِيعُ - الاِنْصِرَافُ عَنِ الصَّفِّ عِنْدَ الْتِقَاءِ صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ؛ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ قُتِل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَْدْبَارَ} (2) الآْيَةَ؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) المجموع للنووي 4 / 300، الفواكه الدواني 1 / 246، القوانين الفقهية ص 74، البدائع 1 / 159، دليل الفالحين 3 / 562، نيل الأوطار 3 / 215، مغني المحتاج 1 / 346، فتح الباري 2 / 208، شرح السنة للبغوي 3 / 370، كشف القناع 1 / 328، 487، والمغني 2 / 220 ط. الرياض
(2) سورة الأنفال / 15(27/39)
عَدَّ التَّوَلِّيَ يَوْمَ الزَّحْفِ مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ (1) .
وَذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَزِيدَ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ؛ بِأَنْ كَانُوا مِثْلَهُمْ أَوْ أَقَل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (2) ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَنْضَمُّ إِلَيْهِمْ مُحَارِبًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (3) فَإِنْ زَادَ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَنْ مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ الاِنْصِرَافُ عَنِ الصَّفِّ (4) .
الصَّفُّ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ:
8 - قَال الْفُقَهَاءُ: يُسْتَحَبُّ تَسْوِيَةُ الصَّفِّ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَخَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا (5) .
__________
(1) حديث التولي يوم الزحف. أخرجه البخاري. فتح الباري 12 / 181 ط. السلفية) ومسلم (1 / 92 ط. عيسي الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.
(2) سورة الأنفال / 66.
(3) سورة الأنفال / 16.
(4) ابن عابدين 3 / 221 جواهر الإكليل 1 / 254، مغني المحتاج 3 / 224، كشاف القناع 6 / 37.
(5) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي " أخرجه البخاري. فتح الباري 3 / 116 ط. السلفية) ومسلم. 2 / 656 ط. عيسي الحلبي 9 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(27/40)
وَوَرَدَ أَنَّ أَبَا بَكَّارٍ الْحَكَمَ بْنَ فَرُّوخَ قَال: صَلَّى بِنَا أَبُو الْمَلِيحِ عَلَى جِنَازَةٍ فَظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ كَبَّرَ فَأَقْبَل عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَال: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَلْتَحْسُنْ شَفَاعَتُكُمْ (1) .
كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ تَنْقُصَ الصُّفُوفُ عَنْ ثَلاَثَةٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلاَثَةُ صُفُوفٍ فَقَدْ أَوْجَبَ (2) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلَّى عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلاَّ شُفِّعُوا فِيهِ (3) .
فَإِنْ كَانَ وَرَاءَ الإِْمَامِ أَرْبَعَةٌ جَعَلَهُمْ صَفَّيْنِ فِي كُل صَفٍّ رَجُلَيْنِ، وَإِذَا كَانُوا سَبْعَةً أَقَامُوا ثَلاَثَةَ صُفُوفٍ يَتَقَدَّمُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِمَامًا وَثَلاَثَةٌ بَعْدَهُ وَاثْنَانِ بَعْدَهُمْ وَوَاحِدٌ بَعْدَهُمَا؛ لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَكَانُوا سَبْعَةً فَجَعَل الصَّفَّ الأَْوَّل ثَلاَثَةً وَالثَّانِيَ اثْنَيْنِ وَالثَّالِثَ وَاحِدًا (4) . إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ كَرِهَ
__________
(1) أثر أبي بكار الحكم بن فروح. أخرجه النسائي (سنن النسائي 4 / 76 رقم 19993 نشر المكتبة الإسلامية بحلب) .
(2) حديث: " من صلى عليه ثلاث صفوف فقد أوجب " أخرجه الترمذي (سنن الترمذي 3 / 437 ط. دار الكتب العلمية) من حديث مالك بن هبيرة مرفوعا وقال: حديث مالك بن هبيرة حديث حسن.
(3) حديث: " ما من ميت يصلي عليه أمة. . . ". أخرجه مسلم (2 / 654 ط. عيسي الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا.
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فكانوا سبعة " لم نعثر عليه فيما لدينا من مراجع السنن والآثار، أورده ابن قدامة في المغني، وعزاه إلى كتاب ابن عقيل نقلا عن عطاء بن أبي رباح وقال: لا أحسب هذا الحديث صحيحا. . المغني 2 / 493 ط. الرياض)(27/40)
أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ صَفًّا، كَمَا كَرِهُوا إِذَا كَانُوا ثَلاَثَةً أَنْ يُجْعَلُوا ثَلاَثَةَ صُفُوفٍ بِحَيْثُ يَكُونُ كُل صَفٍّ رَجُلاً وَاحِدًا (1) .
أَمَّا مَسْأَلَةُ صَفِّ الْمَوْتَى إِذَا اجْتَمَعُوا فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (جَنَائِزُ) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 164، ومغني المحتاج 1 / 361، وكشاف القناع 1 / 111، والمغني لابن قدامة 2 / 492، 493(27/41)
صِفَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصِّفَةُ لُغَةً: الْحِلْيَةُ، قَال اللَّيْثُ: الْوَصْفُ: وَصْفُكَ الشَّيْءَ بِحِلْيَتِهِ وَنَعْتِهِ، وَاتَّصَفَ الشَّيْءُ: أَمْكَنَ وَصْفُهُ (1) . وَالصِّفَةُ فِي اصْطِلاَحِ أَهْل النَّحْوِ: هِيَ الاِسْمُ الدَّال عَلَى بَعْضِ أَحْوَال الذَّاتِ، وَذَلِكَ نَحْوُ: طَوِيلٌ وَقَصِيرٌ وَعَاقِلٌ وَأَحْمَقُ وَغَيْرُهَا، وَهِيَ الأَْمَارَةُ اللاَّزِمَةُ لِذَاتِ الْمَوْصُوفِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهَا (2) .
وَالصِّفَةُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: أَنْ يَنْضَبِطَ الْمَوْصُوفُ عَلَى وَجْهٍ فَلاَ يَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ إِلاَّ تَفَاوُتٌ يَسِيرٌ (3) .
وَالصِّفَةُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: تَقْيِيدُ لَفْظٍ مُشْتَرَكِ الْمَعْنَى بِلَفْظٍ آخَرَ مُخْتَصٍّ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلاَ غَايَةٍ، وَلاَ يُرِيدُونَ بِهَا النَّعْتَ فَقَطْ كَالنُّحَاةِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ تَمْثِيلُهُمْ بِمَطْل الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، مَعَ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ بِالإِْضَافَةِ - فَقَطْ - وَقَدْ جَعَلُوهُ صِفَةً (4)
__________
(1) لسان العرب مادة (وصف)
(2) التعريفات ص 175 (ط دار الكتاب العربي) .
(3) بدائع الصنائع 5 / 208، فتح القدير 1 / 192 ط. بولاق.
(4) البحر المحيط للزركشي 4 / 30. ط الأولي، وزارة الأوقاف الكويتية) .(27/41)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - تَدْخُل الصِّفَةُ فِي شُرُوطِ بَيْعِ السَّلَمِ، وَفِي الْبَيْعِ عَلَى الصِّفَةِ، فَيَثْبُتُ بِتَخَلُّفِهَا خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ. وَمَنَاطُ الصِّفَةِ فِي الْفِقْهِ، أَنْ تَكُونَ مُنْضَبِطَةً عَلَى وَجْهٍ لاَ يَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ إِلاَّ تَفَاوُتٌ يَسِيرٌ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ وَيَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ فَلاَ يَجُوزُ الْعَمَل فِيهِ، بِسَبَبِ بَقَاءِ الْعَيْنِ مَجْهُولَةَ الْقَدْرِ جَهَالَةً فَاحِشَةً مُفْضِيَةً إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَعَدَمُهَا مَطْلُوبٌ شَرْعًا (1) ، وَلَيْسَ لِلصِّفَةِ مُقَابِلٌ فِي الثَّمَنِ؛ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً فِي الْعَقْدِ تَدْخُل مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي الرَّدِّ أَوِ الأَْخْذِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (سَلَمٌ) (وَرِبًا) .
وَرَاجِعْ مُصْطَلَحَ (خِيَارُ فَوَاتِ الصِّفَةِ 20 159، وَأَيْضًا ف 10 ص 162) .
3 - وَفِي أُصُول الْفِقْهِ: يَدْخُل مَفْهُومُ الصِّفَةِ: وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى الذَّاتِ بِأَحَدِ الأَْوْصَافِ فِي نَحْوِ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ، وَكَتَعْلِيقِ نَفَقَةِ الْبَيْنُونَةِ عَلَى الْحَمْل، وَشَرْطِ ثَمَرَةِ النَّخْل لِلْبَائِعِ إِذَا كَانَتْ مُؤَبَّرَةً (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 208، الخرشي 5 / 212، المهذب 1 / 304، كشاف القناع 3 / 376.
(2) البحر المحيط 4 / 30 (ط. وزارة الأوقاف الكويتية) .(27/42)
صَفْقَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّفْقَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الصَّفْقِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: الضَّرْبُ الَّذِي يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ (1) .
وَفِي الْحَدِيثِ: التَّسْبِيحُ لِلرِّجَال، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ (2) .
وَتُطْلَقُ الصَّفْقَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ، يُقَال: صَفَّقَ يَدَهُ بِالْبَيْعَةِ وَالْبَيْعِ:
وَعَلَى يَدِهِ صَفْقًا إِذَا ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى يَدِ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ وُجُوبِ الْبَيْعِ، وَيُقَال: تَصَافَقَ الْقَوْمُ إِذَا تَبَايَعُوا. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الصَّفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ رِبًا (3) . أَيْ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ (4)
__________
(1) لسان العرب
(2) حديث: " التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 77 - ط. السلفية) ومسلم (1 / 318 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث أبن مسعود: " صفقتان في صفقة ربا ". أخرجه العقيلي في الضعفاء. 3 / 288 - ط. دار الكتب العلمية) مرفوعا وموقوفا، ورجح الموقوف.
(4) حاشية الجمل 3 / 94، ومطالب أولي النهى 3 / 45، والتعريفات ص 133.(27/42)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصَّفْقَةِ:
2 - الْجَمْعُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فِي صَفْقَةٍ ضَرْبَانِ:
(1) أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ
(2) أَنْ يَجْمَعَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ.
فَالأَْوَّل: إِنْ جَمَعَ فِي الصَّفْقَةِ بَيْنَ مَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ هُوَ جَمْعٌ، كَأَنْ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ أَوْ خَمْسِ نِسْوَةٍ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ بَطَل الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ؛ لِتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الأُْخْتَيْنِ، وَبَيْنَ الْخَمْسِ، فَالإِْبْطَال فِي وَاحِدَةٍ، وَالتَّصْحِيحُ فِي غَيْرِهَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَإِنْ جَمَعَ فِي الصَّفْقَةِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ: كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَابِلٌ لِلْعَقْدِ، بِأَنْ يَجْمَعَ عَيْنَيْنِ لَهُ قَابِلَتَيْنِ لِلْبَيْعِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِمَا، ثُمَّ إِنْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ: كَشَاةٍ وَثَوْبٍ، أَوْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ لَكِنَّهُمَا مُخْتَلِفَا الْقِيمَةِ وَزَّعَ الثَّمَنَ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ. وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ: كَشَاتَيْنِ مُتَّفِقَتَيِ الْقِيمَةِ وَزَّعَ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الأَْجْزَاءِ.
وَإِنْ جَمَعَ فِي الصَّفْقَةِ شَيْئَيْنِ غَيْرَ قَابِلَيْنِ لِلْعَقْدِ: كَخَمْرٍ، وَمَيْتَةٍ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) .
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 420، أسنى المطالب 2 / 42، ابن عابدين 4 / 103، كشاف القناع 3 / 157، الشرح الصغير 3 / 22 - 23.(27/43)
اشْتِمَال الصَّفْقَةِ عَلَى مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ:
3 - إِذَا اشْتَمَلَتِ الصَّفْقَةُ عَلَى مَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، وَمَا لاَ يَجُوزُ، فَإِنْ كَانَ لِمَا لاَ يَجُوزُ فِيهِ الْعَقْدُ قِيمَةٌ، كَأَنْ يَبِيعَ دَارَهُ وَدَارَ غَيْرِهِ صَحَّ الْعَقْدُ فِي دَارِهِ بِالْقِسْطِ مِنَ الْمُسَمَّى، إِذَا وَزَّعَ عَلَى قِيمَتَيْهِمَا، وَبَطَل فِي دَارِ غَيْرِهِ إِعْطَاءً لِكُل مِنْهُمَا حُكْمُهُ؛ وَلأَِنَّ الصَّفْقَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ، فَالْعَدْل التَّصْحِيحُ فِي الصَّحِيحِ، وَقَصْرُ الْفَسَادِ عَلَى الْفَاسِدِ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ بُطْلاَنُ الصَّفْقَةِ كُلِّهَا (1) .
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ، بِأَنِ اشْتَمَلَتْ عَلَى خَلٍّ وَخَمْرٍ، أَوْ مَيْتَةٍ وَمُذَكَّاةٍ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَبْطُل فِيهِمَا إِنْ لَمْ يُسَمِّ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا بِاتِّفَاقِ أَئِمَّتِهِمْ.
أَمَّا إِذَا سَمَّى لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُل فِيهِمَا؛ لأَِنَّ الْمَيْتَةَ وَالْخَمْرَ لَيْسَا بِمَالٍ، وَالْبَيْعُ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ، فَكَانَ الْقَبُول فِي الْمَيْتَةِ، وَالْخَمْرِ كَالْمَشْرُوطِ لِلْبَيْعِ فِيهِمَا، وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ.
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 42، فتح القدير، 6 / 89، مطالب أولي النهى 3 / 45. القوانين الفقهية 172.(27/43)
وَقَال الصَّاحِبَانِ: يَصِحُّ الْعَقْدُ إِنْ سُمِّيَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تُفَرَّقُ الصَّفْقَةُ فِيهِمَا فَيَصِحُّ فِي الْحَلاَل وَيَبْطُل فِي الْحَرَامِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (تَفْرِيقٌ، وَبَيْعٌ) .
وَإِنِ اشْتَمَلَتِ الصَّفْقَةُ عَلَى عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحُكْمِ: كَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ، أَوْ بَيْعٍ وَسَلَمٍ، أَوْ بَيْعٍ وَنِكَاحٍ، صَحَّ كُلٌّ مِنْهُمَا؛ لِصِحَّتِهِ مُنْفَرِدًا فَلاَ يَضُرُّ الْجَمْعُ، وَلاَ أَثَرَ لاِخْتِلاَفِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ، كَمَا لاَ أَثَرَ لَهُ فِي بَيْعِ مَشْفُوعٍ، وَغَيْرِ مَشْفُوعٍ.
وَصُورَةُ الإِْجَارَةِ، وَالْبَيْعِ أَنْ يَقُول: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ، وَآجَرْتُكَ دَارِي سَنَةً بِكَذَا. وَصُورَةُ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ، أَنْ يَقُول: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي، وَبِعْتُكَ دَارَهَا، وَهِيَ فِي حِجْرِهِ؛ أَوْ رَشِيدَةٌ وَكَّلَتْهُ فِي بَيْعِ دَارِهَا فَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَالْبَيْعُ، وَيُوَزَّعُ الْمُسَمَّى عَلَى قِيمَةِ الْمَبِيعِ، وَمَهْرِ الْمِثْل (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَفْرِيقٌ، وَنِكَاحٌ، وَصَدَاقٌ) .
__________
(1) المراجع السابقة(27/44)
صَفِيٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّفِيُّ: مِنَ الصَّفْوِ، وَالصَّفَاءُ نَقِيضُ الْكَدَرِ،
وَهُوَ الْخَالِصُ مِنْ كُل شَيْءٍ، وَاسْتَصْفَى الشَّيْءَ وَاصْطَفَاهُ: اخْتَارَهُ.
قَال أَبُو عُبَيْدَة: الصَّفِيُّ مِنَ الْغَنِيمَةِ: مَا اخْتَارَهُ الرَّئِيسُ مِنَ الْمَغْنَمِ وَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ قَبْل الْقِسْمَةِ: مِنْ فَرَسٍ، أَوْ سَيْفٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ الصَّفِيَّةُ - أَيْضًا - وَجَمْعُهُ صَفَايَا (1) . وَمِنْهُ قَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَنَمَةَ يُخَاطِبُ بِسْطَامٍ بْنَ قَيْسٍ:
لَكَ الْمِرْبَاعُ فِيهَا وَالصَّفَايَا
وَحُكْمُكَ وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُول
وَمِنْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ صَفِيَّةُ مِنَ الصَّفِيِّ تَعْنِي صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ كَانَتْ مِنْ غَنِيمَةِ خَيْبَرَ (2) .
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير - مادة (صفا) .
(2) حديث عائشة: " كانت صفية من الصّفيّ " أخرجه أبو داود (3 / 398 - ط عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 128 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(27/44)
وَلاَ يَخْرُجُ التَّعْرِيفُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
فَالصَّفِيُّ: شَيْءٌ يُخْتَارُ مِنَ الْمَغْنَمِ قَبْل الْقِسْمَةِ: كَالْجَارِيَةِ وَالْعَبْدِ وَالثَّوْبِ وَالسَّيْفِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الصَّفِيَّ كَانَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَلَيْسَ لِلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلاَ يُعْلَمُ مُخَالِفٌ لِهَذَا، إِلاَّ أَبُو ثَوْرٍ فَإِنَّهُ قَال: إِنْ كَانَ الصَّفِيُّ ثَابِتًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِلإِْمَامِ أَنْ يَأْخُذَهُ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجْعَلُهُ مَجْعَل سَهْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَ أَبَا ثَوْرٍ إِلَى هَذَا الْقَوْل (1) .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى بَنِي زُهَيْرِ بْنِ أُقَيْشٍ: إِنَّكُمْ إِنْ شَهِدْتُمْ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، وَأَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ، وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، وَأَدَّيْتُمُ الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ، وَسَهْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفِيَّ أَنْتُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (2) ".
وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا
__________
(1) ابن عابدين 3 / 237، جواهر الإكليل 1 / 274 / 13، المغني لابن قدامة 6 / 409.
(2) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي بني زهير بن أقيش أخرجه أبو داود (3 / 400 - ط عزت عبيد دعاس) .(27/45)
قَالَتْ: كَانَتْ صَفِيَّةُ مِنَ الصَّفِيِّ.
3 - وَأَمَّا انْقِطَاعُهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الأُْمَّةِ - قَبْل أَبِي ثَوْرٍ وَبَعْدَهُ - وَكَوْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لَمْ يَأْخُذُوهُ، وَلاَ ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلاَ يُجْمِعُونَ عَلَى تَرْكِ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
صَقْرٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَة، صَيْد
__________
(1) المغني 6 / 409.(27/45)
صَكٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّكُّ فِي اللُّغَةِ: الضَّرْبُ الشَّدِيدُ بِالشَّيْءِ الْعَرِيضِ، يُقَال: صَكَّهُ صَكًّا: إِذَا ضَرَبَهُ فِي قَفَاهُ وَوَجْهِهِ بِيَدِهِ مَبْسُوطَةً. وَقِيل: الضَّرْبُ عَامَّةً بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ الْمُعَامَلاَتُ، وَالأَْقَارِيرُ وَوَقَائِعُ الدَّعْوَى (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السِّجِل:
2 - السِّجِل: هُوَ فِي اللُّغَةِ: الْكِتَابُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ مَا تَضَمَّنَ حُكْمَ الْقَاضِي (3) .
الْمَحْضَرُ:
3 - الْمَحْضَرُ: هُوَ مَا يُكْتَبُ فِيهِ مَا جَرَى بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ مِنْ إِقْرَارٍ، وَإِنْكَارٍ وَإِقَامَةِ بَيِّنَةٍ، وَنُكُولٍ عَنْ يَمِينٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وَقَائِعِ الدَّعْوَى، عَلَى وَجْهٍ يَرْفَعُ الاِشْتِبَاهَ بِلاَ حُكْمٍ (4) .
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير.
(2) المصباح المنير، كشاف القناع 6 / 367، نهاية المحتاج 8 / 258، الفتاوى الهندية 6 / 160 وما بعده.
(3) نهاية المحتاج 8 / 258، كشاف القناع 6 / 367.
(4) المصادر السابقة، وحاشية ابن عابدين 4 / 304.(27/46)
الدِّيوَانُ:
4 - الدِّيوَانُ: هُوَ مَجْمَعُ الصُّحُفِ، وَهُوَ الْخَرَائِطُ الَّتِي يُحْفَظُ فِيهَا السِّجِلاَّتُ وَالْمَحَاضِرُ، وَغَيْرُهَا، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكِتَابِ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ أَسْمَاءُ أَفْرَادِ الْجَيْشِ وَأَصْحَابُ الْعَطِيَّةِ (1) .
الْوَثِيقَةُ:
5 - الْوَثِيقَةُ: هِيَ فِي اللُّغَةِ: الإِْحْكَامُ فِي الأَْمْرِ وَالأَْخْذُ بِالثِّقَةِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هِيَ: مَا يَشْمَل الصَّكَّ، وَالْمَحْضَرَ، وَالسِّجِل، وَالرَّهْنَ، وَكُل مَا يَتَوَثَّقُ بِهِ الإِْنْسَانُ فِي حَقِّهِ (3) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِكِتَابَةِ الصُّكُوكِ وَالسِّجِلاَّتِ:
6 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ كِتَابَةَ الصُّكُوكِ، وَالسِّجِلاَّتِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فِي كُل تَصَرُّفٍ مَالِيٍّ، وَغَيْرِهِ: كَطَلاَقٍ وَإِقْرَارٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِتَمْهِيدِ إِثْبَاتِ الْحُقُوقِ عِنْدَ التَّنَازُعِ؛ وَلِمَا لَهَا مِنْ أَثَرٍ ظَاهِرٍ فِي التَّذَكُّرِ لِلْوَقَائِعِ، وَفِيهَا حِفْظُ الْحُقُوقِ عَنِ الضَّيَاعِ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 304، ولسان العرب، يطلق الديوان الآن على مكان جمع الصحف أو غيرها وهو من إطلاق الحال على المحل.
(2) لسان العرب، القاموس المحيط.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 308.
(4) نهاية المحتاج 8 / 321، المنهج على حاشية الجمل 5 / 398، روضة الطالبين 11 / 276.(27/46)
وُجُوبُ كِتَابَةِ الصُّكُوكِ وَالسِّجِلاَّتِ عَلَى الْقَاضِي:
7 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي عَيْنًا كَتْبُ الصُّكُوكِ، وَالسِّجِلاَّتِ؛ إِذْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِيصَال الْحَقِّ إِلَى أَهْلِهِ، وَهَذَا يَحْصُل بِالشُّهُودِ لاَ بِالصُّكُوكِ وَكِتَابَةِ السِّجِلاَّتِ؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الأَْئِمَّةِ كَانُوا يَحْكُمُونَ، وَلاَ يَكْتُبُونَ الْمَحَاضِرَ وَالسِّجِلاَّتِ، وَلَكِنَّهُ إِنْ سَأَل أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ كِتَابَةَ الصَّكِّ، أَوِ السِّجِل لِيَحْتَجَّ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي إِجَابَتُهُ إِنْ أَحْضَرَ قِرْطَاسًا أَوْ كَانَ هُنَاكَ قِرْطَاسٌ مُعَدٌّ لِذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَال. وَهَذَا رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي كِتَابَةُ الصَّكِّ وَالسِّجِل إِذَا طَلَبَ مِنْهُ مَنْ لَهُ مَصْلَحَةٌ فِي كِتَابَتِهِ وَأَتَى بِكَاغِدٍ، أَوْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَال كَاغِدٌ مُعَدٌّ لِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ وَثِيقَةٌ لِلطَّالِبِ، فَلَزِمَهُ كِتَابَتُهُ، كَعَامِل الزَّكَاةِ، إِذَا طَلَبَ الْمُزَكِّي مِنْهُ كِتَابَةَ صَكٍّ مِنْهُ؛ لِئَلاَّ يُطَالِبَهُ عَامِلٌ آخَرُ،
وَكَمُعَشِّرِ تِجَارَةِ أَهْل حَرْبٍ أَوْ ذِمَّةٍ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، طَلَبُوا مِنْهُ كِتَابَةَ صَكٍّ بِأَدَاءِ الْعُشْرِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ لَهُمْ بَرَاءَةُ ذِمَّةٍ إِذَا مَرَّ
__________
(1) المصادر السابقة، معين الحكام ص 95، تبصرة الحكام 2 / 191.(27/47)
بِهِمْ مُعَشِّرٌ آخَرُ (1) .
أَخْذُ الأُْجْرَةِ بِالْكِتَابَةِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَى كَتْبِ الصُّكُوكِ، وَجَمِيعِ الْوَثَائِقِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} (2) . وَقَالُوا: إِنَّ مَنِ اسْتُبِيحَ عَمَلُهُ، وَكَدُّ خَاطِرِهِ كُلَّمَا احْتَاجَ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِهِ، وَيَسْتَغْرِقُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَفِي ذَلِكَ غَايَةُ الضَّرَرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أُجْرَةُ الْكَاتِبِ مِنْ بَيْتِ الْمَال، فَلَيْسَ لِلْقَاضِي مَنْعُ الْفُقَهَاءِ مِنْ كِتَابَةِ الْعُقُودِ، وَالْحُجَجِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الشَّرْعِ فِيمَا أَبَاحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، إِذَا كَانَ الْكَاتِبُ فَقِيهًا عَالِمًا بِأُمُورِ الشَّرْعِ، وَشُرُوطِ انْعِقَادِ الْعُقُودِ. وَإِذَا مَنَعَ الْقَاضِي ذَلِكَ لِتَصِيرَ إِلَيْهِ هَذِهِ الأُْمُورُ كَانَ هَذَا مِنَ الْمَكْسِ.
وَإِذَا كَانَ الْقَاضِي يُرِيدُ مَنْعَ مَنْ لاَ يَصْلُحُ لِذَلِكَ؛ لِئَلاَّ يَعْقِدَ عَقْدًا فَاسِدًا فَالطَّرِيقُ إِلَى ذَلِكَ أَنْ يَفْعَل كَمَا كَانَ يَفْعَل الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَهُوَ تَعْزِيرُ مَنْ عَقَدَ عَقْدًا فَاسِدًا. وَيَنْبَغِي أَنْ يُسَمِّيَ الأُْجْرَةَ، وَيُعَيِّنَ الْعَمَل، فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى شَيْءٍ، وَجَاءَ الْعَمَل عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ فَهِيَ إِجَارَةٌ صَحِيحَةٌ،
__________
(1) كشاف القناع 6 / 267، مطالب أولي النهى 6 / 544.
(2) سورة البقرة / 282.(27/47)
وَيَجُوزُ لِلْكَاتِبِ أَنْ يَأْخُذَ مَا اتُّفِقَ عَلَيْهِ. مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، مَا لَمْ يَكُنِ الْمَكْتُوبُ لَهُ مُضْطَرًّا إِلَى قَبُول مَا يَطْلُبُهُ الْكَاتِبُ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهِ فِي الْمَوْضِعِ، أَوْ قَصْرِ الْكِتَابَةِ عَلَيْهِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ، عَلَى الْكَاتِبِ أَلاَّ يَرْفَعَ الأُْجْرَةَ عَلَى النَّاسِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّهُ، لِمَا عَلِمَ مِنْ ضَرُورَتِهِمْ إِلَيْهِ، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ فَهِيَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِذَلِكَ (1) .
هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْكَاتِبِ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَال، أَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ فِي بَيْتِ الْمَال، وَإِلاَّ فَرِزْقُهُ فِي بَيْتِ الْمَال؛ لأَِنَّ الْكِتَابَةَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.
ثَمَنُ أَوْرَاقِ الصَّكِّ وَالسِّجِل:
9 - ثَمَنُ أَوْرَاقِ الصَّكِّ وَالسِّجِل مِنْ بَيْتِ الْمَال؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَال شَيْءٌ، أَوِ احْتِيجَ لِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَالثَّمَنُ عَلَى مَنْ سَأَل الْكِتَابَةَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّأْنِ كَمُدَّعٍ، وَمُدَّعًى عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ كِتَابَةَ مَا جَرَى فِي خُصُومَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يُعْلِمُهُ الْقَاضِي أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكْتُبْ فَقَدْ يَنْسَى شَهَادَةَ
__________
(1) كشاف القناع 6 / 367، مطالب أولي النهى 6 / 544، معين الحكام 94، تبصرة الحكام 1 / 191، نهاية المحتاج 8 / 251، أسنى المطالب 4 / 296.(27/48)
الشُّهُودِ، وَالْحُكْمَ (1) .
اسْتِنَادُ الْقَاضِي إِلَى الْخَطِّ فِي حُكْمِهِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي الاِسْتِنَادُ فِي حُكْمِهِ إِلَى خَطِّ الصَّكِّ، أَوِ السِّجِل الْمُجَرَّدِ، فَإِذَا وَجَدَ وَرَقَةً فِيهَا حُكْمُهُ وَطُلِبَ مِنْهُ إِمْضَاؤُهُ، أَوْ تَنْفِيذُهُ، فَإِنْ تَذَّكَّرَهُ أَمْضَاهُ، وَنَفَّذَهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرِ الْوَاقِعَةَ، مُفَصَّلَةً فَلاَ يَعْمَل بِهِ، حَتَّى يَتَذَكَّرَ الْوَقَائِعَ مُفَصَّلَةً (2) . وَلاَ يَكْفِيهِ مَعْرِفَتُهُ أَنَّ هَذَا خَطُّهُ - فَقَطْ - حَتَّى يَتَذَكَّرَ الْوَاقِعَةَ. وَإِنْ كَانَ السِّجِل فِي حِفْظِهِ وَتَحْتَ يَدِهِ، لاِحْتِمَال التَّزْوِيرِ، وَمُشَابَهَةِ الْخَطِّ لِلْخَطِّ؛ وَلأَِنَّ قَضَاءَهُ: فِعْلُهُ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْعِلْمِ هُوَ الأَْصْل فِي فِعْل الإِْنْسَانِ؛ لِهَذَا يَأْخُذُ عِنْدَ الشَّكِّ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ بِالْعِلْمِ (3) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ - وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِنْ كَانَ السِّجِل تَحْتَ يَدِهِ فِي خَرِيطَةٍ وَالْخَرِيطَةُ مَخْتُومَةٌ بِخَتْمِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَتَذَكَّرُ الْوَاقِعَةَ عَمِل بِهِ (4) .
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 251. أسنى المطالب 4 / 269، مطالب أولي النهى 6 / 544، المغني 9 / 76.
(2) أسنى المطالب 4 / 308، حاشية الجمل 5 / 351، نهاية المحتاج 4 / 308، الفتاوى الهندية 3 / 340، مطالب أولي النهى 6 / 532، المغني 9 / 76.
(3) المصادر السابقة
(4) المصادر السابقة(27/48)
شَهَادَةُ الشُّهُودِ عَلَى السِّجِل عَلَى أَنَّهُ حُكْمُهُ:
11 - إِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَدْلاَنِ عَلَى أَنَّ هَذَا الصَّكَّ مِنْ عَمَلِهِ وَالسِّجِل حُكْمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ هُوَ الْوَاقِعَةَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى: أَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تُؤَثِّرْ، فَلاَ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا حَتَّى يَتَذَكَّرَ؛ لأَِنَّ حُكْمَهُ فِعْلُهُ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْعِلْمِ هُوَ الأَْصْل فِي فِعْل الإِْنْسَانِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ عَدْلاَنِ أَنَّ هَذَا حُكْمَهُ، قَبِل شَهَادَتَهُمَا، وَأَمْضَاهُ مُعْتَمِدًا عَلَى شَهَادَتِهِمَا لِقُدْرَتِهِ عَلَى إِمْضَائِهِ؛ وَلأَِنَّهُمَا إِذَا شَهِدَا عِنْدَهُ بِحُكْمِ غَيْرِهِ قَبِلَهُمَا؛ فَأَوْلَى إِنْ شَهِدَا بِحُكْمِهِ (2) .
الشَّهَادَةُ عَلَى مَضْمُونِ الصَّكِّ، وَالسِّجِل:
12 - لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ عَلَى مَضْمُونِ صَكٍّ اسْتِنَادًا عَلَى خَطِّهِ، مَا لَمْ يَتَذَكَّرِ الْوَاقِعَةَ كَالْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ الصَّكُّ فِي حِفْظِهِ وَتَحْتَ يَدِهِ، وَيَأْتِي - هُنَا أَيْضًا - الْخِلاَفُ فِي مَا سَبَقَ فِي صَكِّ الْقَاضِي.
الْعَمَل بِالصَّكِّ وَحْدَهُ:
13 - اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الاِسْتِنَادِ لِثُبُوتِ الْحُقُوقِ عَلَى الصَّكِّ الْمُجَرَّدِ: مَا جَرَى الْعُرْفُ بِقَبُولِهِ بِمُجَرَّدِ كِتَابَتِهِ، كَالْبَرَاءَاتِ
__________
(1) المصادر السابقة
(2) المصادر السابقة(27/49)
السُّلْطَانِيَّةِ لأَِصْحَابِ الْوَظَائِفِ وَنَحْوِهَا كَمَنْشُورِ الْقَاضِي، وَالْوَالِي، وَعَامَّةِ الأَْوَامِرِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَدَفَاتِرِ الْبَيَّاعِينَ، وَالسَّمَاسِرَةِ، وَالصَّرَّافِينَ، وَصُكُوكِ الْوَقْفِ الَّتِي تَقَادَمَ عَلَيْهَا الزَّمَنُ، وَذَلِكَ لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ بِقَبُول كُتُبِ الْبَيَّاعِينَ وَالصَّرَّافِينَ، وَالسَّمَاسِرَةِ وَأَوَامِرِ السُّلْطَانِ بِمُجَرَّدِ كِتَابَتِهِ، وَنُدْرَةِ إِمْكَانِ التَّزْوِيرِ عَلَى السُّلْطَانِ، وَتَعَذُّرِ إِقَامَةِ بَيِّنَةٍ عَلَى صُكُوكِ الأَْوْقَافِ إِذَا تَقَادَمَ عَلَيْهَا الزَّمَنُ؛ وَلِضَرُورَةِ إِحْيَاءِ الأَْوْقَافِ (1) .
كِتَابَةُ الصُّكُوكِ وَالسِّجِلاَّتِ:
14 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّ الصَّكَّ لاَ يَكُونُ مُعْتَبَرًا إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْكِتَابَةُ مُسْتَبِينَةً مَرْسُومَةً مُعَنْوَنَةً، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَبِينَةً كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْهَوَاءِ وَالرَّقْمِ عَلَى الْمَاءِ فَلاَ يُعْتَبَرُ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (كِتَاب) .
صَكَّاءُ
انْظُرْ: أُضْحِيَّة
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 308 - 352 - 353.
(2) ابن عابدين 2 / 428، اللجنه تنوه أن ما جاء في هذا البحث هو من قبيل الإجراءات التي يراعي فيه تغير العرف ومتطلبات الزمن، وأنه يمكن استخدام الوسائل الحديثة التي تحفظ بها الحقوق بمثل ما تحفظ في الصكوك أو أكثر ومما ينبغي مراعاته الدور الذي أصبح للكتابة الآن والضمانات المستحدثة(27/49)
صَلاَحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّلاَحُ: ضِدُّ الْفَسَادِ، وَرَجُلٌ صَالِحٌ فِي نَفْسِهِ مِنْ قَوْمٍ صُلَحَاءَ وَمُصْلِحٌ فِي أَعْمَالِهِ وَأُمُورِهِ، وَقَدْ أَصْلَحَهُ اللَّهُ، وَأَصْلَحَ الشَّيْءَ بَعْدَ فَسَادِهِ: أَقَامَهُ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - صَلاَحُ الإِْنْسَانِ:
2 - قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الصَّالِحُ مَا كَانَ مَسْتُورًا وَلَمْ يَكُنْ مَهْتُوكًا، وَلاَ صَاحِبَ رِيبَةٍ، وَكَانَ مُسْتَقِيمَ الطَّرِيقَةِ، سَلِيمَ النَّاحِيَةِ، قَلِيل الشَّرِّ، لَيْسَ مَعْرُوفًا بِالْكَذِبِ.
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: الصَّلاَحُ فِي الدِّينِ هُوَ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ بِسُنَنِهَا الرَّاتِبَةِ وَاجْتِنَابُ الْمُحَرَّمِ فَلاَ يَرْتَكِبُ كَبِيرَةً وَلاَ يُدْمِنُ عَلَى صَغِيرَةٍ (2) .
ب - بُدُوُّ صَلاَحِ الثِّمَارِ:
3 - وَهُوَ ظُهُورُ مَبَادِئِ النُّضْجِ وَالْحَلاَوَةِ فِيمَا لاَ يَتَلَوَّنُ، وَفِي غَيْرِهِ بِأَنْ يَأْخُذَ فِي الْحُمْرَةِ أَوِ
__________
(1) لسان العرب مادة (صلح) .
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 440، وكشاف القناع 6 / 418 - 419.(27/50)
السَّوَادِ. وَأَمَّا فِي نَحْوِ الْقِثَّاءِ فَهُوَ أَنْ يُجْنَى غَالِبًا لِلأَْكْل، وَفِي الزَّرْعِ اشْتِدَادُهُ بِأَنْ يَتَهَيَّأَ لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَفِي الْوَرْدِ انْفِتَاحُهُ (1) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
4 - يَدْخُل مُصْطَلَحُ صَلاَحٍ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا فِي الشَّهَادَةِ، وَقَبُول شَهَادَةِ الشَّاهِدِ الَّتِي مِنْ شُرُوطِهَا الْعَدَالَةُ؛ وَالصَّلاَحُ مِنْ صِفَاتِهَا، وَفِي الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ حَيْثُ يَتِمُّ التَّقْيِيدُ بِصَلاَحِ الرَّجُل.
وَيَدْخُل فِي بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْل بُدُوِّ صَلاَحِهَا (ر: بَيْعُ الثِّمَارِ: الْمَوْسُوعَةُ الْفِقْهِيَّةُ 9 21) .
وَفِي زَكَاةِ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ وَخَرْصِهَا إِذَا بَدَا صَلاَحُهَا. (ر: خَرْصُ الثِّمَارِ: الْمَوْسُوعَةُ الْفِقْهِيَّةُ ج 19 ص 99 ف 3) .
وَوَقْتُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَبِّ وَالثَّمَرِ (2) (ر: وَقْتُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَبِّ وَالثَّمَرِ: الْمَوْسُوعَةُ الْفِقْهِيَّةُ ج 23 ص 283 ف 106) .
وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى كُل مَوْضُوعٍ مِنَ الْمَوَاضِيعِ السَّالِفَةِ فِي مُصْطَلَحِهِ.
__________
(1) حاشية الجمل على شرح المنهاج 3 / 204.
(2) مواهب الجليل 6 / 150، الفتاوى الهندية 3 / 450، شرح منتهي الإرادات 3 / 546، مغني المحتاج 4 / 427 وشرح أدب القاضي للخصاف تأليف ابن مازه البخاري 3 / 8 فقرة: 545، مختصرة المزني 5 / 256، الأم 7 / 48.(27/50)
صَلاَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّلاَةُ أَصْلُهَا فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَل عَلَيْهِمْ (1) } أَيِ ادْعُ لَهُمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَل، وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ (2) أَيْ لِيَدْعُ لأَِرْبَابِ الطَّعَامِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال الْجُمْهُورُ: هِيَ أَقْوَالٌ وَأَفْعَالٌ مُفْتَتَحَةٌ بِالتَّكْبِيرِ مُخْتَتَمَةٌ بِالتَّسْلِيمِ مَعَ النِّيَّةِ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: هِيَ اسْمٌ لِهَذِهِ الأَْفْعَال الْمَعْلُومَةِ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ (3) .
مَكَانَةُ الصَّلاَةِ فِي الإِْسْلاَمِ:
2 - لِلصَّلاَةِ مَكَانَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الإِْسْلاَمِ. فَهِيَ
__________
(1) سورة التوبة / 103.
(2) حديث: " إذا دعي أحدكم فليجب. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1054 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) فتح القدير 1 / 191 دار إحياء التراث العربي، مواهب الجليل 1 / 377، دار الفكر 1978م مغني المحتاج 1 / 120، كشاف القناع 1 / 221.(27/51)
آكَدُ الْفُرُوضِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ وَأَفْضَلُهَا، وَأَحَدُ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ الْخَمْسَةِ. قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُنِيَ الإِْسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ. وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ (1) وَقَدْ نَسَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارِكَهَا إِلَى الْكُفْرِ فَقَال: إِنَّ بَيْنَ الرَّجُل وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلاَةِ (2) وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ شَقِيقِ الْعُقَيْلِيِّ قَال: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الأَْعْمَال تَرْكَهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلاَةِ. فَالصَّلاَةُ عَمُودُ الدِّينِ الَّذِي لاَ يَقُومُ إِلاَّ بِهِ، قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأْسُ الأَْمْرِ الإِْسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ (3) وَهِيَ أَوَّل مَا يُحَاسَبُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ. قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَّل مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلاَةُ، فَإِنْ صَلَحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَنَجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ
__________
(1) حديث: " بني الإسلام على خمس. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 49 - ط السلفية) ومسلم (1 / 45 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر واللفظ المذكور للبخاري.
(2) حديث: " إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ". أخرجه مسلم (1 / 88 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(3) حديث: " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 12 - ط الحلبي) من حديث معاذ ابن جبل وقال: حديث حسن صحيح.(27/51)
خَابَ وَخَسِرَ (1) كَمَا أَنَّهَا آخِرُ وَصِيَّةٍ وَصَّى بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ عِنْدَ مُفَارَقَتِهِ الدُّنْيَا فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (2) وَهِيَ آخِرُ مَا يُفْقَدُ مِنَ الدِّينِ، فَإِنْ ضَاعَتْ ضَاعَ الدِّينُ كُلُّهُ. قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الإِْسْلاَمِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِاَلَّتِي تَلِيهَا. فَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ الصَّلاَةُ (3)
كَمَا أَنَّهَا الْعِبَادَةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي لاَ تَنْفَكُّ عَنِ الْمُكَلَّفِ، وَتَبْقَى مُلاَزِمَةً لَهُ طُول حَيَاتِهِ لاَ تَسْقُطُ عَنْهُ بِحَالٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِهَا وَالْحَثِّ عَلَى إِقَامَتِهَا، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَمُرَاعَاةِ حُدُودِهَا آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ (4) .
فَرْضُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَعَدَدُ رَكَعَاتِهَا:
3 - أَصْل وُجُوبِ الصَّلاَةِ كَانَ فِي مَكَّةَ فِي أَوَّل
__________
(1) حديث: " أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 270 - (ط. الأولى) . الحلبي) من حديث أبي هريرة وحسنه.
(2) حديث: " الصلاة وما ملكت أيمانكم ". أخرجه ابن ماجه (2 / 900 - 901 - (ط. الأولى) . . الحلبي) من حديث أنس ابن مالك وحسنه البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 95 - (ط. دار الجنان) .
(3) حديث: " لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة. . . ". أخرجه أحمد (5 / 215 - ط الميمنية) من حديث أبي أمامة ووأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (7 / 218 - ط القدسي) قال: رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح.
(4) مواهب الجليل 1 / 380، كشاف القناع 1 / 221.(27/52)
الإِْسْلاَمِ؛ لِوُجُودِ الآْيَاتِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي بِدَايَةِ الرِّسَالَةِ تَحُثُّ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِالصُّورَةِ الْمَعْهُودَةِ فَإِنَّهَا فُرِضَتْ لَيْلَةَ الإِْسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي تَحْدِيدِ زَمَنِهِ. 4 - وَقَدْ ثَبَتَتْ فَرْضِيَّةُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ:
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ. {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ (1) } ، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (2) } أَيْ فَرْضًا مُؤَقَّتًا. وقَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى (3) } وَمُطْلَقُ اسْمِ الصَّلاَةِ يَنْصَرِفُ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْمَعْهُودَةِ، وَهِيَ الَّتِي تُؤَدَّى فِي كُل يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْل (4) } يَجْمَعُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ؛ لأَِنَّ صَلاَةَ الْفَجْرِ تُؤَدَّى فِي أَحَدِ طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَصَلاَةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ يُؤَدَّيَانِ فِي الطَّرَفِ الآْخَرِ، إِذِ النَّهَارُ قِسْمَانِ غَدَاةٌ وَعَشِيٌّ، وَالْغَدَاةُ اسْمٌ لأَِوَّل النَّهَارِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَال، وَمَا بَعْدَهُ الْعَشِيُّ، فَدَخَل فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ ثَلاَثُ صَلَوَاتٍ وَدَخَل فِي قَوْلِهِ:
__________
(1) سورة البقرة / 110.
(2) سورة النساء / 103.
(3) سورة البقرة / 238.
(4) سورة هود / 114.(27/52)
{وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْل} الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ، لأَِنَّهُمَا يُؤَدَّيَانِ فِي زُلَفٍ مِنَ اللَّيْل وَهِيَ سَاعَاتُهُ. وقَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْل وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (1) } قِيل: دُلُوكُ الشَّمْسِ زَوَالُهَا وَغَسَقُ اللَّيْل أَوَّل ظُلْمَتِهِ، فَيَدْخُل فِيهِ صَلاَةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَقَوْلُهُ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أَيْ وَأَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ وَهُوَ صَلاَةُ الْفَجْرِ. فَثَبَتَتْ فَرْضِيَّةُ ثَلاَثِ صَلَوَاتٍ بِهَذِهِ الآْيَةِ وَفَرْضِيَّةُ صَلاَتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ آخَرَ.
وَقِيل: دُلُوكُ الشَّمْسِ غُرُوبُهَا فَيَدْخُل فِيهَا صَلاَةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَفَرْضِيَّةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ آخَرَ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ:
اعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَحُجُّوا بَيْتَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ (2) ، وَقَدِ انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الأُْمَّةِ عَلَى فَرْضِيَّةِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَتَكْفِيرِ مُنْكِرِهَا (3)
__________
(1) سورة الإسراء / 78.
(2) حديث: " اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم. . . ". أخرجه أحمد (5 / 262 - ط. الميمنية) والحاكم (1 / 9 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي أمامة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، والسياق لأحمد.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 234، بدائع الصناع 1 / 89 وما بعدها، دار الكتاب العربي 1982م.، وحاشية العدوي على الرسالة 1 / 211 دار المعرفة، مغني المحتاج 1 / 121، كشاف القناع 1 / 222.(27/53)
حُكْمُ تَارِكِ الصَّلاَةِ:
5 - لِتَارِكِ الصَّلاَةِ حَالَتَانِ: إِمَّا أَنْ يَتْرُكَهَا جُحُودًا لِفَرْضِيَّتِهَا، أَوْ تَهَاوُنًا وَكَسَلاً لاَ جُحُودًا.
فَأَمَّا الْحَالَةُ الأُْولَى: فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلاَةِ جُحُودًا لِفَرْضِيَّتِهَا كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِل كُفْرًا كَجَاحِدِ كُل مَعْلُومٍ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَمِثْل ذَلِكَ مَا لَوْ جَحَدَ رُكْنًا أَوْ شَرْطًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَهَا جَاهِلاً لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالإِْسْلاَمِ أَوْ نَحْوِهِ فَلَيْسَ مُرْتَدًّا، بَل يَعْرِفُ الْوُجُوبَ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ صَارَ مُرْتَدًّا.
وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا - وَهِيَ: تَرْكُ الصَّلاَةِ تَهَاوُنًا وَكَسَلاً لاَ جُحُودًا - فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَل حَدًّا أَيْ أَنَّ حُكْمَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ حُكْمُ الْمُسْلِمِ فَيُغَسَّل، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْفَنُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِْسْلاَمِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى(27/53)
اللَّهِ (1) وَلأَِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِقَتْل الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ قَال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ (2) } وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ (3) فَلَوْ كَفَرَ لَمْ يَدْخُل تَحْتَ الْمَشِيئَةِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلاَةِ تَكَاسُلاً عَمْدًا فَاسِقٌ لاَ يُقْتَل بَل يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلاَةِ تَكَاسُلاً يُدْعَى إِلَى فِعْلِهَا وَيُقَال لَهُ: إِنْ صَلَّيْتَ وَإِلاَّ قَتَلْنَاكَ، فَإِنْ صَلَّى وَإِلاَّ وَجَبَ قَتْلُهُ وَلاَ يُقْتَل حَتَّى يُحْبَسَ ثَلاَثًا وَيُدْعَى فِي وَقْتِ كُل صَلاَةٍ، فَإِنْ صَلَّى وَإِلاَّ قُتِل حَدًّا، وَقِيل كُفْرًا، أَيْ لاَ يُغَسَّل وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلاَ يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ. لَكِنْ لاَ يُرَقُّ وَلاَ يُسْبَى لَهُ أَهْلٌ وَلاَ وَلَدٌ كَسَائِرِ الْمُرْتَدِّينَ. لِمَا
__________
(1) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 75 - ط السلفية) ومسلم (1 / 53 - ط الحلبي 9 من حديث ابن عمر.
(2) سورة التوبة آية / 5.
(3) حديث: " خمس صلوات كتبهن الله على العباد. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 130 - 131 (تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبادة بن الصامت، وصححه ابن عبد البر كما في فيض القدير للمناوي (3 / 453 - ط المكتبة التجارية) .(27/54)
رَوَى جَابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ بَيْنَ الرَّجُل وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاَةِ (1) وَرَوَى بُرَيْدَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ (2) وَرَوَى عُبَادَةُ مَرْفُوعًا مَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الْمِلَّةِ (3) وَكُل شَيْءٍ ذَهَبَ آخِرُهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ. وَلأَِنَّهُ يَدْخُل بِفِعْلِهَا فِي الإِْسْلاَمِ، فَيَخْرُجُ بِتَرْكِهَا مِنْهُ كَالشَّهَادَتَيْنِ. وَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " لاَ حَظَّ فِي الإِْسْلاَمِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ، وَكَذَا عِنْدَهُمْ لَوْ تَرَكَ رُكْنًا أَوْ شَرْطًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ كَالطَّهَارَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلاَ يُقْتَل بِتَرْكِ صَلاَةٍ فَائِتَةٍ.
كَمَا اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْقَتْل فِي مَحَلِّهِ.
فَمَحَلُّهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ بَقَاءُ رَكْعَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا مِنَ الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ فَرْضٌ وَاحِدٌ فَقَطْ. قَال مَالِكٌ: إِنْ قَال: أُصَلِّي وَلَمْ يَفْعَل قُتِل بِقَدْرِ رَكْعَةٍ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ لِلصُّبْحِ، وَغُرُوبِهَا لِلْعَصْرِ، وَطُلُوعِ الْفَجْرِ لِلْعِشَاءِ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ فَرْضَانِ مُشْتَرَكَانِ أُخِّرَ
__________
(1) حديث: " إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ". تقدم تخريحه ف2.
(2) حديث بريدة: " من تركها فقد كفر. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 14 - ط الحلبي) وقال: حديث حسن صحيح.
(3) حديث عبادة: " من ترك الصلاة متعمدا فقد خرج من الملة ". أورده المنذري في الترغيب (1 / 379 - ط الحلبي) وعزاه إلى الطبراني وقال: بإسناده لا بأس به.(27/54)
لِخَمْسِ رَكَعَاتٍ فِي الظُّهْرَيْنِ، وَلأَِرْبَعٍ فِي الْعِشَاءَيْنِ. وَهَذَا فِي الْحَضَرِ، أَمَّا فِي السَّفَرِ فَيُؤَخَّرُ لِثَلاَثٍ فِي الظُّهْرَيْنِ وَأَرْبَعٍ فِي الْعِشَاءَيْنِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَحَل الْقَتْل هُوَ إِخْرَاجُهَا عَنْ وَقْتِهَا الضَّرُورِيِّ فِيمَا لَهُ وَقْتُ ضَرُورَةٍ - بِأَنْ يَجْمَعَ مَعَ الثَّانِيَةِ فِي وَقْتِهَا - فَلاَ يُقْتَل بِتَرْكِ الظُّهْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَلاَ بِتَرْكِ الْمَغْرِبِ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَيُقْتَل فِي الصُّبْحِ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَفِي الْعَصْرِ بِغُرُوبِهَا، وَفِي الْعِشَاءِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، فَيُطَالَبُ بِأَدَائِهَا إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ وَيُتَوَعَّدُ بِالْقَتْل إِنْ أَخَّرَهَا عَنِ الْوَقْتِ، فَإِنْ أَخَّرَ وَخَرَجَ الْوَقْتُ اسْتَوْجَبَ الْقَتْل، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ يُقْتَل بَعْدَ الاِسْتِتَابَةِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ الْمُرْتَدِّ.
وَالاِسْتِتَابَةُ تَكُونُ فِي الْحَال؛ لأَِنَّ تَأْخِيرَهَا يُفَوِّتُ صَلَوَاتٍ، وَقِيل: يُمْهَل ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. وَالْقَوْلاَنِ فِي النَّدْبِ، وَقِيل فِي الْوُجُوبِ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 235، الفتاوى الهندية 1 / 50، حاشية الدسوقي 1 / 189 - 190، ومواهب الجليل 1 / 420، مغني المحتاج 1 / 327، أسنى المطالب 1 / 366، كشاف القناع 1 / 227.(27/55)
شُرُوطُ الصَّلاَةِ:
تَقْسِيمَاتُ الشُّرُوطِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: -
6 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ شُرُوطَ الصَّلاَةِ إِلَى: شُرُوطِ وُجُوبٍ، وَشُرُوطِ صِحَّةٍ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ قِسْمًا ثَالِثًا هُوَ: شُرُوطُ وُجُوبٍ وَصِحَّةٍ مَعًا.
شُرُوطُ وُجُوبِ الصَّلاَةِ:
الإِْسْلاَمُ:
7 - تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَى كُل مُسْلِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وَلاَ تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ؛ لأَِنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حَال كُفْرِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الأَْدَاءِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقَضَاءِ، وَاللاَّزِمُ مُنْتَفٍ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَنَّا لاَ نَأْمُرُ الْكَافِرَ بِالصَّلاَةِ فِي كُفْرِهِ وَلاَ بِقَضَائِهَا إِذَا أَسْلَمَ؛ لأَِنَّهُ أَسْلَمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ بَعْدَهُ فَلَمْ يُؤْمَرْ أَحَدٌ بِقَضَاءِ الصَّلاَةِ؛ وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْفِيرِ عَنِ الإِْسْلاَمِ، وَلِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ (1) } قَال الشَّيْخُ الْعَدَوِيُّ: هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ. وَعَلَى الْقَوْل بِتَكْلِيفِهِمْ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فَهُوَ شَرْطُ صِحَّةٍ.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ وُجُوبَ مُطَالَبَةٍ بِهَا
__________
(1) سورة الأنفال / 38.(27/55)
فِي الدُّنْيَا؛ لِعَدَمِ صِحَّتِهَا مِنْهُ، لَكِنْ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا فِي الآْخِرَةِ زِيَادَةً عَلَى كُفْرِهِ؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ فِعْلِهَا بِالإِْسْلاَمِ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُرْتَدِّ. فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: - إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَجِبُ عَلَى الْمُرْتَدِّ فَلاَ يَقْضِي مَا فَاتَهُ إِذَا رَجَعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّهُ بِالرِّدَّةِ يَصِيرُ كَالْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُرْتَدِّ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ زَمَنَ الرِّدَّةِ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى الإِْسْلاَمِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ؛ وَلأَِنَّهُ الْتَزَمَهَا بِالإِْسْلاَمِ فَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ بِالْجُحُودِ كَحَقِّ الآْدَمِيِّ (2) .
الْعَقْل:
8 - يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً، فَلاَ تَجِبُ عَلَى الْمَجْنُونِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (3) . لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 234، حاشية العدوي على الرسالة 1 / 211 دار المعرفة، مغني المحتاج 1 / 130، كشاف القناع 1 / 222، 223.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 494، ومواهب الجليل 6 / 283 (دار الفكر 1978م) وحاشية الجمل 1 / 287 شرح روض الطالب 1 / 121، مغني المحتاج 1 / 130، كشاف القناع 1 / 223.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 234، حاشية الدسوقي 1 / 201، شرح روض الطالب 1 / 121، كشاف القناع 1 / 222.(27/56)
الْمُبْتَلَى وَفِي رِوَايَةٍ: الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَغَطَّى عَقْلُهُ أَوْ سُتِرَ بِمَرَضٍ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ دَوَاءٍ مُبَاحٍ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ زَوَال الْعَقْل بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ بِصُنْعِ الْعَبْدِ. فَإِنْ كَانَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ كَأَنْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ وَلَوْ بِفَزَعٍ مِنْ سَبُعٍ أَوْ آدَمِيٍّ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتْ فَتْرَةُ الإِْغْمَاءِ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْخَمْسِ، وَإِنْ زَادَتْ عَنْ ذَلِكَ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ لِلْحَرَجِ، وَلَوْ أَفَاقَ فِي زَمَنِ السَّادِسَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ إِفَاقَتُهُ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَ إِنْ كَانَ أَقَل مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِثْل أَنْ يَخِفَّ عَنْهُ الْمَرَضُ عِنْدَ الصُّبْحِ مَثَلاً فَيُفِيقَ قَلِيلاً ثُمَّ يُعَاوِدَهُ فَيُغْمَى عَلَيْهِ، فَتُعْتَبَرُ هَذِهِ الإِْفَاقَةُ، وَيَبْطُل مَا قَبْلَهَا مِنْ حُكْمِ الإِْغْمَاءِ إِذَا كَانَ أَقَل مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لإِِفَاقَتِهِ وَقْتٌ مَعْلُومٌ لَكِنَّهُ يُفِيقُ بَغْتَةً فَيَتَكَلَّمُ بِكَلاَمِ الأَْصِحَّاءِ ثُمَّ يُغْمَى عَلَيْهِ فَلاَ عِبْرَةَ بِهَذِهِ الإِْفَاقَةِ.
وَإِنْ كَانَ زَوَال الْعَقْل بِصُنْعِ الآْدَمِيِّ كَمَا لَوْ زَال عَقْلُهُ بِبَنْجٍ أَوْ خَمْرٍ أَوْ دَوَاءٍ لَزِمَهُ قَضَاءُ
__________
(1) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 558 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 59 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ولفظ " المعتوه " عند الحاكم.(27/56)
مَا فَاتَهُ وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ، وَقَال مُحَمَّدٌ: يَسْقُطُ الْقَضَاءُ بِالْبَنْجِ وَالدَّوَاءِ، لأَِنَّهُ مُبَاحٌ فَصَارَ كَالْمَرِيضِ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ شُرْبُ الْبَنْجِ لأَِجْل الدَّوَاءِ، أَمَّا لَوْ شَرِبَهُ لِلسُّكْرِ فَيَكُونُ مَعْصِيَةً بِصُنْعِهِ كَالْخَمْرِ. وَمِثْل ذَلِكَ النَّوْمُ فَإِنَّهُ لاَ يُسْقِطُ الْقَضَاءَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَمْتَدُّ يَوْمًا وَلَيْلَةً غَالِبًا، فَلاَ حَرَجَ فِي الْقَضَاءِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى سُقُوطِ وُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَى مَنْ زَال عَقْلُهُ بِجُنُونٍ أَوْ إِغْمَاءٍ وَنَحْوِهِ، إِلاَّ إِذَا زَال الْعُذْرُ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ مَا يَسَعُ رَكْعَةً بَعْدَ تَقْدِيرِ تَحْصِيل الطَّهَارَةِ الْمَائِيَّةِ أَوِ التُّرَابِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْبَاقِي لاَ يَسَعُ رَكْعَةً سَقَطَتْ عَنْهُ الصَّلاَةُ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَنْ زَال عَقْلُهُ بِسُكْرٍ حَرَامٍ فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ مُطْلَقًا، وَكَذَا النَّائِمُ وَالسَّاهِي تَجِبُ عَلَيْهِمَا الصَّلاَةُ، فَمَتَى تَنَبَّهَ السَّاهِي أَوِ اسْتَيْقَظَ النَّائِمُ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا الصَّلاَةُ عَلَى كُل حَالٍ سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَاقِي يَسَعُ رَكْعَةً مَعَ فِعْل مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الطُّهْرِ أَمْ لاَ، بَل وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَى مَنْ زَال عَقْلُهُ بِالْجُنُونِ أَوِ الإِْغْمَاءِ أَوِ الْعَتَهِ أَوِ السُّكْرِ بِلاَ تَعَدٍّ فِي الْجَمِيعِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى(27/57)
يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ.
فَوَرَدَ النَّصُّ فِي الْمَجْنُونِ، وَقِيسَ عَلَيْهِ مَنْ زَال عَقْلُهُ بِسَبَبٍ يُعْذَرُ فِيهِ، وَسَوَاءٌ قَل زَمَنُ ذَلِكَ أَوْ طَال. إِلاَّ إِذَا زَالَتْ هَذِهِ الأَْسْبَابُ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ قَدْرُ زَمَنِ تَكْبِيرَةٍ فَأَكْثَرَ؛ لأَِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الإِْيجَابُ يَسْتَوِي فِيهِ الرَّكْعَةُ وَمَا دُونَهَا، وَلاَ تَلْزَمُهُ بِإِدْرَاكِ دُونَ تَكْبِيرَةٍ. وَهَذَا بِخِلاَفِ السُّكْرِ أَوِ الْجُنُونِ أَوِ الإِْغْمَاءِ الْمُتَعَدَّى بِهِ إِذَا أَفَاقَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ زَمَنَ ذَلِكَ لِتَعَدِّيهِ.
قَالُوا: وَأَمَّا النَّاسِي لِلصَّلاَةِ أَوِ النَّائِمُ عَنْهَا وَالْجَاهِل لِوُجُوبِهَا فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الأَْدَاءُ؛ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمْ، وَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ، لِحَدِيثِ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا (1) وَيُقَاسُ عَلَى النَّاسِي وَالنَّائِمِ: الْجَاهِل إِذَا كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالإِْسْلاَمِ.
وَقَصَرَ الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ وُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَى الْمَجْنُونِ الَّذِي لاَ يُفِيقُ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرْفُوعًا: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ
__________
(1) حديث: " من نسي صلاة أو نام عنها. . . ". أخرجه المسلم (1 / 477 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.(27/57)
الْمَعْتُوهِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ وَلأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل التَّكْلِيفِ أَشْبَهَ الطِّفْل، وَمِثْلُهُ الأَْبْلَهُ الَّذِي لاَ يُفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ تَغَطَّى عَقْلُهُ بِمَرَضٍ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ دَوَاءٍ مُبَاحٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يُسْقِطُ الصَّوْمَ، فَكَذَا الصَّلاَةُ؛ وَلأَِنَّ عَمَّارًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " غُشِيَ عَلَيْهِ ثَلاَثًا، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَال: هَل صَلَّيْتَ؟ فَقَالُوا: مَا صَلَّيْتُ مُنْذُ ثَلاَثٍ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى تِلْكَ الثَّلاَثَ، وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ نَحْوُهُ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ، فَكَانَ كَالإِْجْمَاعِ؛ وَلأَِنَّ مُدَّةَ الإِْغْمَاءِ لاَ تَطُول - غَالِبًا - وَلاَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْوِلاَيَةُ، وَكَذَا مَنْ تَغَطَّى عَقْلُهُ بِمُحَرَّمٍ - كَمُسْكِرٍ - فَيَقْضِي؛ لأَِنَّ سُكْرَهُ مَعْصِيَةٌ فَلاَ يُنَاسِبُ إِسْقَاطَ الْوَاجِبِ عَنْهُ.
وَكَذَا تَجِبُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ عَلَى النَّائِمِ: بِمَعْنَى يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا إِذَا اسْتَيْقَظَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا (1) وَلَوْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ حَال نَوْمِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا كَالْمَجْنُونِ، وَمِثْلُهُ السَّاهِي (2) .
__________
(1) تقدم تخريجه قبل قليل.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 512، وحاشية الدسوقي 1 / 184، شرح روض الطالب 1 / 122، مغني المحتاج 1 / 131، كشاف القناع 1 / 222.(27/58)
الْبُلُوغُ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْبُلُوغَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الصَّلاَةِ، فَلاَ تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَى الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ؛ لِلْخَبَرِ الآْتِي؛ وَلأَِنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ كَالْحَجِّ، لَكِنْ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّلاَةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سَنَوَاتٍ، وَيَضْرِبَهُ عَلَى تَرْكِهَا إِذَا بَلَغَ عَشْرَ سَنَوَاتٍ؛ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ (1) .
وَقَدْ حَمَل جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - الأَْمْرَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَحَمَلَهُ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى النَّدْبِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الضَّرْبَ يَكُونُ بِالْيَدِ لاَ بِغَيْرِهَا كَالْعَصَا وَالسَّوْطِ، وَأَنْ لاَ يُجَاوِزَ الثَّلاَثَ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمِرْدَاسٍ الْمُعَلِّمِ: إِيَّاكَ أَنْ تَضْرِبَ فَوْقَ ثَلاَثٍ، فَإِنَّكَ إِذَا ضَرَبْتَ فَوْقَ الثَّلاَثِ اقْتَصَّ اللَّهُ مِنْكَ (2)
__________
(1) حديث: " مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين. . ". أخرجه أبو داود (1 / 324 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسنه النووي في رياض الصالحين (ص 171 - ط. الرسالة) .
(2) حديث: " إياك أن تضرب فوق ثلاثة. . . ". أورده ابن عابدين في رد المحتار (1 / 235 - ط بولاق) نقلا عن أحكام الصغار للإستروشني ولم يعزه إلي أي مصدر حديثي.(27/58)
وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُهُ بِغَيْرِ الْيَدِ، قَال الشَّيْخُ الدُّسُوقِيُّ: وَلاَ يُحَدُّ بِعَدَدٍ كَثَلاَثَةِ أَسْوَاطٍ بَل يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ حَال الصِّبْيَانِ.
وَمَحَل الضَّرْبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ ظَنَّ إِفَادَتَهُ، قَالُوا: الضَّرْبُ يَكُونُ مُؤْلِمًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ إِنْ ظَنَّ إِفَادَتَهُ وَإِلاَّ فَلاَ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ وُجُوبَ الأَْمْرِ بِهَا يَكُونُ بَعْدَ اسْتِكْمَال السَّبْعِ وَالأَْمْرَ بِالضَّرْبِ يَكُونُ بَعْدَ الْعَشْرِ بِأَنْ يَكُونَ الأَْمْرُ فِي أَوَّل الثَّامِنَةِ وَبِالضَّرْبِ فِي أَوَّل الْحَادِيَةِ عَشْرَةَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَكُونُ الأَْمْرُ عِنْدَ الدُّخُول فِي السَّبْعِ وَالضَّرْبُ عِنْدَ الدُّخُول فِي الْعَشْرِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُضْرَبُ فِي أَثْنَاءِ الْعَشْرِ، وَلَوْ عَقِبَ اسْتِكْمَال التِّسْعِ. قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَصَحَّحَهُ الإِْسْنَوِيُّ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي، وَيَنْبَغِي اعْتِمَادُهُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةُ الْبُلُوغِ. وَأَمَّا الأَْمْرُ بِهَا فَلاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ تَمَامِ السَّبْعِ (1) .
شُرُوطُ صِحَّةِ الصَّلاَةِ:
أ - الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ:
10 - وَهِيَ طَهَارَةُ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ عَنِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 234، 235، حاشية الدسوقي 1 / 186، مغني المحتاج 1 / 131، شرح روض الطالب 1 / 121، كشاف القناع 1 / 225.(27/59)
فَطَهِّرْ (1) (2) } وَإِذَا وَجَبَ تَطْهِيرُ الثَّوْبِ فَتَطْهِيرُ الْبَدَنِ أَوْلَى، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَنَزَّهُوا مِنَ الْبَوْل، فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ (3) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي (4) فَثَبَتَ الأَْمْرُ بِاجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ، وَالأَْمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَالنَّهْيُ فِي الْعِبَادَاتِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ.
وَأَمَّا طَهَارَةُ مَكَانِ الصَّلاَةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (5) } وقَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} فَهِيَ تَدُل بِدَلاَلَةِ النَّصِّ عَلَى وُجُوبِ طَهَارَةِ الْمَكَانِ كَمَا اسْتَدَل بِهَا عَلَى وُجُوبِ طَهَارَةِ الْبَدَنِ كَمَا سَبَقَ.
وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّلاَةِ فِي الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَمَعَاطِنِ الإِْبِل وَقَوَارِعِ الطَّرِيقِ وَالْحَمَّامِ وَالْمَقْبَرَةِ. . . إِلَخْ (6)
__________
(1) سورة المدثر / 4.
(2) سورة المدثر / 4.
(3) أخرجه الدارقطني. 1 / 127 - ط دار المحاسن) من حديث أنس ابن مالك، واختلف في وصله وإرساله وذكره ابن أبي حاتم في علل الحديث (1 / 26 - ط السلفية) بطريق رجح فيه وصله.
(4) حديث: / " إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 409 - ط السلفية) ومسلم (1 / 262 - ط. الحلبي) من حديث عائشة بألفاظ متقاربة.
(5) سورة البقرة / 125.
(6) حديث: " نهى عن الصلاة في المزبلة والمجزرة ". أخرجه الترمذي (2 / 178 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر، وقال الترمذي: إسناده ليس بذلك القوي.(27/59)
وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الصَّلاَةِ فِي الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ كَوْنُهُمَا مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ (1) .
ب - الطَّهَارَةُ الْحُكْمِيَّةُ:
11 - وَهِيَ طَهَارَةُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ عَنِ الْحَدَثِ، وَطَهَارَةُ جَمِيعِ الأَْعْضَاءِ عَنِ الْجَنَابَةِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا (2) } وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُقْبَل صَلاَةٌ بِغَيْرِ طَهُورٍ (3) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الطَّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ (4) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَحْتَ كُل شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ (5) وَالإِْنْقَاءُ هُوَ التَّطْهِيرُ (6) . وَتَفْصِيل
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 270، بدائع الصنائع 1 / 114، 115، حاشية الدسوقي 1 / 200، مغني المحتاج 1 / 188، وكشاف القناع 1 / 288.
(2) سورة المائدة / 6.
(3) حديث: " لا تقبل صلاة بغير طهور. . . ". أخرجه مسلم (1 / 204 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر.
(4) حديث: " مفتاح الصلاة الطهور. . . ". أخرجه الترمذي (1 / 9 - ط الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب.
(5) حديث: " تحت كل شعره جنابة. . . ". أخرجه الترمذي (1 / 178 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة وأشار الترمذي إلي تضعيفه.
(6) بدائع الصنائع 1 / 114 دار الكتاب العربي 1982م حاشية ابن عابدين 1 / 296 دار التراث العربي، وحاشية الدسوقي 1 / 201، دار الفكر، مغني المحتاج 1 / 187، كشاف القناع 1 / 248.(27/60)
ذَلِكَ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ: (طَهَارَة، وَوُضُوء، وَغُسْل) .
ج - سَتْرُ الْعَوْرَةِ:
12 - لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُل مَسْجِدٍ (1) } قَال ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: الْمُرَادُ بِهِ الثِّيَابُ فِي الصَّلاَةِ.
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَقْبَل اللَّهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ (2) ؛ وَلأَِنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ حَال الْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ (3) .
د - اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ:
13 - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (4) } وَقَال ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَال: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
__________
(1) سورة الأعراف / 31.
(2) حديث: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ". أخرجه أبو داود. 1 / 421 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (2 / 215 ط. الحلبي) من حديث عائشة، واللفظ لأبي داود وقال الترمذي: حديث حسن.
(3) بدائع الصنائع 1 / 116، حاشية ابن عابدين 1 / 270، حاشية الدسوقي 1 / 211، مغني المحتاج 1 / 184، كشاف القناع 1 / 263، تفسير القرطبي 7 / 189، ط. دار الكتب المصرية 196م.
(4) سورة البقرة / 144.(27/60)
أُنْزِل عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا. وَكَانَ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ (1) .
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِقْبَال) .
هـ - الْعِلْمُ بِدُخُول الْوَقْتِ:
14 - لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْل وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (2) } وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّنِي جِبْرِيل عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ فِي الأُْولَى مِنْهُمَا حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْل الشِّرَاكِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ كُل شَيْءٍ مِثْل ظِلِّهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ وَأَفْطَرَ الصَّائِمُ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ، حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ وَحَرُمَ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ. وَصَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالأَْمْسِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، ثُمَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 117، حاشية ابن عابدين 1 / 286، حاشية الدسوقي 1 / 222، مغني المحتاج 1 / 184، كشاف القناع 1 / 302. وحديث ابن عمر: " بينما الناس بقباء في صلاة الصبح. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 506 - ط السلفية) ومسلم. 1 / 375 - ط. الحلبي) .
(2) سورة الإسراء / 78.(27/61)
صَلَّى الْمَغْرِبَ لِوَقْتِهِ الأَْوَّل، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الآْخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْل، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَتِ الأَْرْضُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ جِبْرِيل وَقَال: يَا مُحَمَّدُ هَذَا وَقْتُ الأَْنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ (1) . وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي فِي الْعِلْمِ بِدُخُول الْوَقْتِ غَلَبَةُ الظَّنِّ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَوْقَاتُ الصَّلاَةِ) .
تَقْسِيمُ أَقْوَال وَأَفْعَال الصَّلاَةِ:
15 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَقْوَال الصَّلاَةِ وَأَفْعَالَهَا إِلَى أَرْكَانٍ، وَوَاجِبَاتٍ، وَسُنَنٍ. فَالأَْرْكَانُ هِيَ الَّتِي لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ بِدُونِهَا بِلاَ عُذْرٍ، وَتَرْكُهَا يُوجِبُ الْبُطْلاَنَ سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا.
وَالْوَاجِبَاتُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ مَا لاَ تَفْسُدُ الصَّلاَةُ بِتَرْكِهِ، وَتُعَادُ وُجُوبًا إِنْ تَرَكَهُ عَمْدًا بِلاَ عُذْرٍ، أَوْ سَهْوًا وَلَمْ يَسْجُدْ لِلسَّهْوِ. فَتَرْكُ الْوَاجِبِ عَمْدًا يُوجِبُ الإِْعَادَةَ، وَسَهْوًا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْهَا يَكُنْ آثِمًا فَاسِقًا، وَيَسْتَحِقُّ تَارِكُ الْوَاجِبِ الْعِقَابَ
__________
(1) حديث: " أمَّني جبريل عند البيت مرتين. . . ". أخرجه الترمذي (1 / 279 - 280 ط الحلبي) من حديث ابن عباس، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 247، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 117، حاشية الدسوقي 1 / 181، مغني المحتاج 1 / 184، كشاف القناع 1 / 257.(27/61)
بِتَرْكِهِ وَلَكِنْ لاَ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ كَمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ فِي حَالَةِ تَرْكِ الْوَاجِبِ سَهْوًا، حَيْثُ إِنَّ تَرْكَهُ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ عِنْدَهُمْ، وَيُخَالِفُونَهُمْ فِي حَالَةِ التَّرْكِ عَمْدًا حَيْثُ إِنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ عَمْدًا يُوجِبُ بُطْلاَنَ الصَّلاَةِ عِنْدَهُمْ.
وَالسُّنَنُ، وَهِيَ الَّتِي لاَ يُوجِبُ تَرْكُهَا الْبُطْلاَنَ وَلَوْ عَمْدًا
قَال الْحَنَفِيَّةُ: السُّنَّةُ: هِيَ الَّتِي لاَ يُوجِبُ تَرْكُهَا فَسَادًا وَلاَ سُجُودًا لِلسَّهْوِ، بَل يُوجِبُ تَرْكُهَا عَمْدًا إِسَاءَةً، وَأَمَّا إِنْ كَانَ غَيْرَ عَامِدٍ فَلاَ إِسَاءَةَ أَيْضًا، وَتُنْدَبُ إِعَادَةُ الصَّلاَةِ.
وَالإِْسَاءَةُ هُنَا أَفْحَشُ مِنَ الْكَرَاهَةِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ السُّنَّةَ اسْتِخْفَافًا فَإِنَّهُ يَكْفُرُ. وَيَأْثَمُ لَوْ تَرَكَ السُّنَّةَ بِلاَ عُذْرٍ عَلَى سَبِيل الإِْصْرَارِ، وَقَال مُحَمَّدٌ: فِي الْمُصِرِّينَ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ الْقِتَال، وَأَبُو يُوسُفَ بِالتَّأْدِيبِ
، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُبَاحُ السُّجُودُ لِلسَّهْوِ عِنْدَ تَرْكِ السُّنَّةِ سَهْوًا مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ وَلاَ اسْتِحْبَابٍ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ قِسْمًا رَابِعًا هُوَ الآْدَابُ، وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ: مَا فَعَلَهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلاَثِ فِي تَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
كَمَا قَسَّمَ الْحَنَابِلَةُ السُّنَنَ إِلَى ضَرْبَيْنِ:(27/62)
سُنَنِ أَقْوَالٍ، وَسُنَنِ أَفْعَالٍ وَتُسَمَّى هَيْئَاتٌ (1) .
وَقَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَقْوَال وَأَفْعَال الصَّلاَةِ إِلَى أَرْكَانٍ وَسُنَنٍ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ الْفَضَائِل (الْمَنْدُوبَاتِ) .
وَالسُّنَنُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَبْعَاضٌ: وَهِيَ السُّنَنُ الْمَجْبُورَةُ بِسُجُودِ السَّهْوِ، سَوَاءٌ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، سُمِّيَتْ أَبْعَاضًا لِتَأَكُّدِ شَأْنِهَا بِالْجَبْرِ تَشْبِيهًا بِالْبَعْضِ حَقِيقَةً.
وَهَيْئَاتٌ: وَهِيَ السُّنَنُ الَّتِي لاَ تُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ (2) .
أَرْكَانُ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الصَّلاَةِ هِيَ:
أ - النِّيَّةُ:
16 - النِّيَّةُ وَهِيَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْل الْعِبَادَةِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ بِدُونِهَا بِحَالٍ، وَالأَْصْل فِيهَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (3) } وَقَوْل
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 297، وما بعدها، كشاف القناع 1 / 385 وما بعدها، مطالب أولي النهى 1 / 493 وما بعدها.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 231 وما بعدها، كفاية الطالب الرباني مع حاشية العدوي 1 / 225 دار المعرفة، مغني المحتاج 1 / 148، شرح روض الطالب 1 / 140.
(3) سورة البينة / 5.(27/62)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى (1) . وَقَدِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى اعْتِبَارِهَا فِي الصَّلاَةِ (2) . وَلاَ بُدَّ فِي النِّيَّةِ مِنْ تَعْيِينِ الْفَرْضِيَّةِ وَنَوْعِيَّةِ الصَّلاَةِ، هَل هِيَ ظُهْرٌ أَمْ عَصْرٌ؟
وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ عَنِ النِّيَّةِ فِي مُصْطَلَحِ (نِيَّةٌ) .
ب - تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ:
17 - وَدَلِيل فَرْضِيَّتِهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَفْتِحُ الصَّلاَةَ بِالتَّكْبِيرِ (3) وَحَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ (4) وَحَدِيثُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرْفَعُهُ قَال: مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الطَّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ (5)
__________
(1) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 - ط السلفية) من حديث عمر بن الخطاب.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 233 دار الفكر، مغني المحتاج 1 / 148، كشاف القناع 1 / 313.
(3) حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير ". أخرجه مسلم (1 / 357 - ط الحلبي) .
(4) حديث المسيء صلاته: " إذا قمت إلي الصلاة فكبر ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 277 ط السلفية 9 ومسلم (1 / 298 ط الحلبي) .
(5) حديث علي رضي الله عنه يرفعه قال: " مفتاح الصلاة الطهور. . . ". تقدم ف 11. وحاشية الدسوقي 1 / 231، مغني المحتاج 1 / 150، كشاف القناع 1 / 330.(27/63)
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل الْكَلاَمِ عَلَى تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ فِي مُصْطَلَحِ (تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ 13 217) .
ج - الْقِيَامُ لِلْقَادِرِ فِي الْفَرْضِ:
18 - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (1) } وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاَةِ؟ فَقَال: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ (2) وَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ الْقِيَامُ فِي فَرْضِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ وَلَوْ بِمُعِينٍ بِأُجْرَةٍ فَاضِلَةٍ عَنْ مُؤْنَتِهِ وَمُؤْنَةِ مَنْ يَعُولُهُ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ.
وَيُقَسِّمُ الْمَالِكِيَّةُ رُكْنَ الْقِيَامِ إِلَى رُكْنَيْنِ:
الْقِيَامِ لِتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، وَالْقِيَامِ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ. قَالُوا: وَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ الْقِيَامُ اسْتِقْلاَلاً، فَلاَ يُجْزِئُ إِيقَاعُ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ فِي الْفَرْضِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ جَالِسًا أَوْ مُنْحَنِيًا، وَلاَ قَائِمًا مُسْتَنِدًا لِعِمَادٍ، بِحَيْثُ لَوْ أُزِيل الْعِمَادُ لَسَقَطَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: شَرْطُهُ نَصْبُ فَقَارِهِ لِلْقَادِرِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ وَقَفَ مُنْحَنِيًا أَوْ مَائِلاً بِحَيْثُ لاَ يُسَمَّى قَائِمًا لَمْ يَصِحَّ، وَالاِنْحِنَاءُ
__________
(1) سورة البقرة آية 238.
(2) حديث عمران: " صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 587 - ط السلفية) .(27/63)
السَّالِبُ لِلاِسْمِ: أَنْ يَصِيرَ إِلَى الرُّكُوعِ أَقْرَب.
قَالُوا: لَوِ اسْتَنَدَ إِلَى شَيْءٍ كَجِدَارٍ أَجْزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ. وَكَذَا لَوْ تَحَامَل عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ مَا اسْتَنَدَ إِلَيْهِ لَسَقَطَ؛ لِوُجُودِ اسْمِ الْقِيَامِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَرْفَعُ قَدَمَيْهِ إِنْ شَاءَ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى قَائِمًا بَل مُعَلِّقًا نَفْسَهُ. وَلَوْ أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ مُتَّكِئًا عَلَى شَيْءٍ أَوِ الْقِيَامُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ لأَِنَّهُ مَيْسُورُهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: حَدُّ الْقِيَامِ مَا لَمْ يَصِرْ رَاكِعًا، وَرُكْنُهُ الاِنْتِصَابُ بِقَدْرِ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى، وَفِيمَا بَعْدَهَا بِقَدْرِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَقَطْ (1) .
وَرُكْنُ الْقِيَامِ خَاصٌّ بِالْفَرْضِ مِنَ الصَّلَوَاتِ دُونَ النَّوَافِل؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَل، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ (2) وَقَدْ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ تَطَوُّعٌ ف 16 (12 157) وَأَمَّا بَقِيَّةُ تَفْصِيلاَتِ الْقِيَامِ فِي الصَّلاَةِ فَتَأْتِي فِي مُصْطَلَحِ (قِيَامٌ) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 231، مغني المحتاج 1 / 153، كشاف القناع 1 / 385.
(2) حديث: " من صلى قائما فهو أفضل ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 586 - ط السلفية 9 من حديث عمران بن حصين.(27/64)
د - قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ:
19 - وَهِيَ رُكْنٌ فِي كُل رَكْعَةٍ مِنْ كُل صَلاَةٍ فَرْضًا أَوْ نَفْلاً جَهْرِيَّةً كَانَتْ أَوْ سِرِّيَّةً. لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (1) وَفِي رِوَايَةٍ لاَ تُجْزِئُ صَلاَةٌ لاَ يَقْرَأُ الرَّجُل فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (2) وَلِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (3) .
وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فَرْضٌ فِي صَلاَةِ الإِْمَامِ وَالْفَذِّ دُونَ الْمَأْمُومِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ بِفَرْضِيَّتِهَا فِي الْجَمِيعِ (4) .
تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قِرَاءَةٌ) .
هـ - الرُّكُوعُ:
20 - وَقَدِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى رُكْنِيَّتِهِ، وَسَنَدُهُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا (5) } .
__________
(1) حديث: " لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 237 - ط السلفية) ومسلم (1 / 295 - ط. الحلبي) . من حديث عبادة من الصامت.
(2) حديث: " لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها الرجل بفاتحة الكتاب ". أخرج هذه الرواية الدارقطني (1 / 322 - ط شركة الطباعة الفنية) ونقل ابن حجر في التلخيص (1 / 231 - ط شركة الطباعة الفنية) أنه صححها.
(3) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 111 - ط السلفية) من حديث مالك بن الحويرث.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 236، مغني المحتاج 1 / 156، شرح روض الطالب 1 / 149، كشاف القناع 1 / 389، مطالب أولي النهى 1 / 494.
(5) سورة الحج / 77.(27/64)
وَحَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل الْمَسْجِدَ فَدَخَل رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ السَّلاَم ثُمَّ قَال: ارْجِعْ فَصَل، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَل. فَعَل ذَلِكَ ثَلاَثًا.
ثُمَّ قَال: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي. فَقَال: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ. ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِل قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَل ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا (1) . فَدَل عَلَى أَنَّ الأَْفْعَال الْمُسَمَّاةَ فِي الْحَدِيثِ لاَ تَسْقُطُ بِحَالٍ، فَإِنَّهَا لَوْ سَقَطَتْ لَسَقَطَتْ عَنِ الأَْعْرَابِيِّ لِجَهْلِهِ بِهَا (2)
وَتَفْصِيل مَبَاحِثِ الرُّكُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (رُكُوعٌ) .
و الاِعْتِدَال:
21 - هُوَ الْقِيَامُ مَعَ الطُّمَأْنِينَةِ بَعْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَهُوَ رُكْنٌ فِي الْفَرْضِ وَالنَّافِلَةِ؛
__________
(1) حديث أبي هريرة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلي. . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 277 - ط السلفية) ومسلم. 1 / 298 - ط. الحلبي) .
(2) حاشية الدسوقي 1 / 239، مغني المحتاج 1 / 163، كشاف القناع 1 / 386.(27/65)
لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسِيءِ صَلاَتَهُ ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِل قَائِمًا، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاوَمَ عَلَيْهِ. لِقَوْل أَبِي حُمَيْدٍ فِي صِفَةِ صَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُل فَقَارٍ مَكَانَهُ (1) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي.
وَيَدْخُل فِي رُكْنِ الاِعْتِدَال الرَّفْعُ مِنْهُ لاِسْتِلْزَامِهِ لَهُ، وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَهُمَا فَعَدُّوا كُلًّا مِنْهُمَا رُكْنًا. قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَتَبْطُل الصَّلاَةُ بِتَعَمُّدِ تَرْكِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَأَمَّا إِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا فَيَرْجِعُ مُحْدَوْدِبًا حَتَّى يَصِل لِحَالَةِ الرُّكُوعِ ثُمَّ يَرْفَعُ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلاَمِ إِلاَّ الْمَأْمُومَ فَلاَ يَسْجُدُ لِحَمْل الإِْمَامِ لِسَهْوِهِ، فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ مُحْدَوْدِبًا وَرَجَعَ قَائِمًا لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ مُرَاعَاةً لِقَوْل ابْنِ حَبِيبٍ: إِنَّ تَارِكَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ سَهْوًا يَرْجِعُ قَائِمًا لاَ مُحْدَوْدِبًا كَتَارِكِ الرُّكُوعِ.
ثُمَّ إِنَّ أَكْثَرَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَفْيِ رُكْنِيَّةِ الاِعْتِدَال، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ. قَالُوا: فَيَسْجُدُ لِتَرْكِهِ سَهْوًا، وَتَبْطُل الصَّلاَةُ بِتَرْكِهِ عَمْدًا قَطْعًا؛ لأَِنَّهُ سُنَّةٌ شُهِرَتْ فَرْضِيَّتُهَا.
قَال الدُّسُوقِيُّ: قَال شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْعَدَوِيُّ - هَذَا هُوَ الرَّاجِحُ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ
__________
(1) حديث أبي حميد الساعدي: " فإذا رفع رأسه استوى. . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 30 5 - ط السلفية) .(27/65)
كَلاَمِ الْحَطَّابِ، وَحَدُّ الاِعْتِدَال عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنْ لاَ يَكُونَ مُنْحَنِيًا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَا لَمْ يَصِرْ رَاكِعًا، قَالُوا: وَالْكَمَال مِنْهُ الاِسْتِقَامَةُ حَتَّى يَعُودَ كُل عُضْوٍ إِلَى مَحَلِّهِ، وَعَلَى هَذَا فَلاَ يَضُرُّ بَقَاؤُهُ مُنْحَنِيًا يَسِيرًا حَال اعْتِدَالِهِ وَاطْمِئْنَانِهِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ لاَ تُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ قَائِمًا، وَسَبَقَ حَدُّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي رُكْنِ الْقِيَامِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الاِعْتِدَال.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الطُّمَأْنِينَةُ فِي الاِعْتِدَال: أَنْ تَسْتَقِرَّ أَعْضَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ قَبْل رُكُوعِهِ، بِحَيْثُ يَنْفَصِل ارْتِفَاعُهُ عَنْ عَوْدِهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لاَ يَقْصِدَ غَيْرَ الاِعْتِدَال، فَلَوْ رَفَعَ فَزِعًا مِنْ شَيْءٍ كَحَيَّةٍ لَمْ يُحْسَبْ رَفْعُهُ اعْتِدَالاً لِوُجُودِ الصَّارِفِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ لاَ يَقْصِدَ بِرَفْعِهِ شَيْئًا آخَرَ (1) .
ز - السُّجُودُ:
22 - مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ السُّجُودُ فِي كُل رَكْعَةٍ مَرَّتَيْنِ. وَقَدِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا (2) } وَلِحَدِيثِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 241، مغني المحتاج 1 / 165، شرح روض الطالب 1 / 157، كشاف القناع 1 / 387، مطالب أولي النهى 1 / 466، 495.
(2) سورة الحج / 77.(27/66)
الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا (1) ، وَحَدَّ الْمَالِكِيَّةُ السُّجُودَ بِأَنَّهُ مَسُّ الأَْرْضِ، أَوْ مَا اتَّصَل بِهَا مِنْ ثَابِتٍ بِالْجَبْهَةِ، فَلاَ يُجْزِئُ السُّجُودُ عَلَى نَحْوِ السَّرِيرِ الْمُعَلَّقِ، وَيَتَحَقَّقُ السُّجُودُ عِنْدَهُمْ بِوَضْعِ أَيْسَرِ جُزْءٍ مِنَ الْجَبْهَةِ بِالأَْرْضِ أَوْ مَا اتَّصَل بِهَا، وَيُشْتَرَطُ اسْتِقْرَارُهَا عَلَى مَا يَسْجُدُ عَلَيْهِ، فَلاَ يَصِحُّ عَلَى تِبْنٍ أَوْ قُطْنٍ. وَأَمَّا وَضْعُ الأَْنْفِ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ، لَكِنْ تُعَادُ الصَّلاَةُ لِتَرْكِهِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا فِي الظُّهْرَيْنِ لِلاِصْفِرَارِ، وَفِي غَيْرِهِمَا لِلطُّلُوعِ مُرَاعَاةً لِلْقَوْل بِوُجُوبِهِ. وَوَضْعُ بَقِيَّةِ الأَْعْضَاءِ - الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ - فَهُوَ سُنَّةٌ. قَال الدُّسُوقِيُّ. قَال فِي التَّوْضِيحِ:
وَكَوْنُ السُّجُودِ عَلَيْهَا سُنَّةً لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْمَذْهَبِ. غَايَتُهُ أَنَّ ابْنَ الْقَصَّارِ قَال: الَّذِي يَقْوَى فِي نَفْسِي أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي الْمَذْهَبِ. وَقِيل:
إِنَّ السُّجُودَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ، وَصَرَّحُوا بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ ارْتِفَاعِ الْعَجِيزَةِ عَنِ الرَّأْسِ بَل يُنْدَبُ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ أَقَل السُّجُودِ يَتَحَقَّقُ بِمُبَاشَرَةِ بَعْضِ جَبْهَتِهِ مَكْشُوفَةَ مُصَلاَّهُ؛ لِحَدِيثِ خَبَّابِ بْنِ الأَْرَتِّ قَال: شَكَوْنَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِدَّةَ الرَّمْضَاءِ فِي
__________
(1) حديث: المسيء صلاته " ثم أسجد حتى تطمئن ساجدا ". تقدم ف 20.(27/66)
جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا فَلَمْ يُشْكِنَا (1) أَيْ لَمْ يُزِل شَكْوَانَا.
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ كَشْفُ الْجَبْهَةِ لأََرْشَدَهُمْ إِلَى سَتْرِهَا، وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ كَشْفُهَا دُونَ بَقِيَّةِ الأَْعْضَاءِ لِسُهُولَتِهِ فِيهَا دُونَ الْبَقِيَّةِ؛ وَلِحُصُول مَقْصُودِ السُّجُودِ وَهُوَ غَايَةُ التَّوَاضُعِ بِكَشْفِهَا. وَيَجِبُ - أَيْضًا - وَضْعُ جُزْءٍ مِنَ الرُّكْبَتَيْنِ، وَمِنْ بَاطِنِ الْكَفَّيْنِ، وَمِنْ بَاطِنِ الْقَدَمَيْنِ عَلَى مُصَلاَّهُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ - وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ (2) وَلاَ يَجِبُ كَشْفُ هَذِهِ الأَْعْضَاءِ، بَل يُكْرَهُ كَشْفُ الرُّكْبَتَيْنِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ. وَقِيل: يَجِبُ كَشْفُ بَاطِنِ الْكَفَّيْنِ.
ثُمَّ إِنَّ مَحَل وُجُوبِ الْوَضْعِ إِذَا لَمْ يَتَعَذَّرْ وَضْعُ شَيْءٍ مِنْهَا، وَإِلاَّ فَيَسْقُطُ الْفَرْضُ، فَلَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنَ الزَّنْدِ لَمْ يَجِبْ وَضْعُهُ؛ لِفَوْتِ مَحَل الْفَرْضِ.
__________
(1) حديث خباب بن الأرت: " شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . ". أخرجه البيهقي " 2 / 105 - ط. دائرة المعارف العثمانية " وأصله في مسلم (1 / 433 - ط الحلبي) .
(2) " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 297 - ط السلفية) ومسلم (1 / 354 - الحلبي) من حديث ابن عباس.(27/67)
وَيَجِبُ - أَيْضًا - أَنْ يَنَال مَحَل سُجُودِهِ ثِقَل رَأْسِهِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَجَدْتَ فَأَمْكِنْ جَبْهَتَكَ (1) قَالُوا: وَمَعْنَى الثِّقَل أَنْ يَتَحَامَل بِحَيْثُ لَوْ فُرِضَ تَحْتَهُ قُطْنٌ أَوْ حَشِيشٌ لاَنْكَبَسَ وَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي يَدِهِ لَوْ فُرِضَتْ تَحْتَ ذَلِكَ، وَلاَ يُشْتَرَطُ التَّحَامُل فِي غَيْرِ الْجَبْهَةِ مِنَ الأَْعْضَاءِ.
وَيَجِبُ كَذَلِكَ أَنْ لاَ يَهْوِيَ لِغَيْرِ السُّجُودِ، فَلَوْ سَقَطَ لِوَجْهِهِ مِنَ الاِعْتِدَال وَجَبَ الْعَوْدُ إِلَى الاِعْتِدَال لِيُهْوِيَ مِنْهُ؛ لاِنْتِفَاءِ الْهُوِيِّ فِي السُّقُوطِ. وَإِنْ سَقَطَ مِنَ الْهَوِيِّ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَوْدُ بَل يُحْسَبُ ذَلِكَ سُجُودًا.
وَيَجِبُ أَيْضًا أَنْ تَرْتَفِعَ أَسَافِلُهُ - عَجِيزَتُهُ وَمَا حَوْلَهَا - عَلَى أَعَالِيهِ لِخَبَرِ صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (2) فَلاَ يَكْتَفِي بِرَفْعِ أَعَالِيهِ عَلَى أَسَافِلِهِ وَلاَ بِتَسَاوِيهِمَا، لِعَدَمِ اسْمِ السُّجُودِ كَمَا لَوْ أَكَبَّ وَمَدَّ رِجْلَيْهِ، إِلاَّ إِنْ كَانَ بِهِ عِلَّةٌ لاَ يُمْكِنُهُ السُّجُودُ إِلاَّ كَذَلِكَ فَيَصِحُّ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَى وِسَادَةٍ بِتَنْكِيسٍ لَزِمَهُ؛ لِحُصُول هَيْئَةِ السُّجُودِ بِذَلِكَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ بِلاَ تَنْكِيسٍ.
وَإِذَا صَلَّى فِي سَفِينَةٍ مَثَلاً وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ
__________
(1) حديث: " إذا سجدت فأمكن جبهتك. . . ". أخرجه أحمد (1 / 287 - ط الميمنية) من حديث ابن عباس. وإسناده حسن.
(2) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". تقدم ف 19.(27/67)
ارْتِفَاعِ ذَلِكَ لِمَيَلاَنِهَا صَلَّى عَلَى حَالِهِ وَلَزِمَهُ الإِْعَادَةُ؛ لأَِنَّ هَذَا عُذْرٌ نَادِرٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السُّجُودَ عَلَى الأَْعْضَاءِ السَّبْعَةِ: الْجَبْهَةِ مَعَ الأَْنْفِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ، رُكْنٌ مَعَ الْقُدْرَةِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ عَلَى الْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ - وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ آرَابٍ: وَجْهُهُ، وَكَفَّاهُ، وَرُكْبَتَاهُ، وَقَدَمَاهُ (1) .
ثُمَّ إِنَّهُ يُجْزِئُ بَعْضُ كُل عُضْوٍ فِي السُّجُودِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْ فِي الْحَدِيثِ الْكُل، وَلَوْ كَانَ سُجُودُهُ عَلَى ظَهْرِ كَفٍّ، وَظَهْرِ قَدَمٍ، وَأَطْرَافِ أَصَابِعِ يَدَيْنِ، وَلاَ يُجْزِئُهُ إِنْ كَانَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ كَوَضْعِ جَبْهَتِهِ عَلَى يَدَيْهِ؛ لأَِنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَدَاخُل أَعْضَاءِ السُّجُودِ.
وَمَتَى عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنِ السُّجُودِ بِجَبْهَتِهِ سَقَطَ عَنْهُ لُزُومُ بَاقِي الأَْعْضَاءِ؛ لأَِنَّ الْجَبْهَةَ هِيَ الأَْصْل فِي السُّجُودِ، وَغَيْرُهَا تَبَعٌ لَهَا، فَإِذَا سَقَطَ الأَْصْل سَقَطَ التَّبَعُ، وَدَلِيل التَّبَعِيَّةِ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
__________
(1) حديث: " إذا سجد العبد سجد معه سبع آراب. . . ". أخرجه مسلم (1 / 355 - ط الحلبي) من حديث العباس ابن عبد المطلب.(27/68)
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ الْيَدَيْنِ تَسْجُدَانِ كَمَا يَسْجُدُ الْوَجْهُ، فَإِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ فَلْيَضَعْ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَهُ فَلْيَرْفَعْهُمَا (1) وَبَاقِي الأَْعْضَاءِ مِثْلُهُمَا فِي ذَلِكَ لِعَدَمِ الْفَارِقِ، وَأَمَّا إِنْ قَدَرَ عَلَى السُّجُودِ بِالْجَبْهَةِ فَإِنَّهُ يَتْبَعُهَا الْبَاقِي مِنَ الأَْعْضَاءِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ السُّجُودُ مَعَ عَدَمِ اسْتِعْلاَءِ الأَْسَافِل إِنْ خَرَجَ عَنْ صِفَةِ السُّجُودِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُعَدُّ سَاجِدًا، وَأَمَّا الاِسْتِعْلاَءُ الْيَسِيرُ فَلاَ بَأْسَ بِهِ - بِأَنْ عَلاَ مَوْضِعُ رَأْسِهِ عَلَى مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ بِلاَ حَاجَةٍ يَسِيرًا - وَيُكْرَهُ الْكَثِيرُ (2) .
ح - الْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ:
23 - مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ الْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي صَلاَةِ الْفَرْضِ أَمِ النَّفْل؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسِيءِ صَلاَتَهُ: ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا (3) وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ جَالِسًا (4) .
__________
(1) حديث: " إن اليدين تسجدان، كما يسجد الوجه. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 553 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 226 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 239، شرح روض الطالب 1 / 160، مغني المحتاج 1 / 169، كشاف القناع 1 / 351، مطالب أولي النهى 1 / 449.
(3) الحديث تخريجه فقرة (20) .
(4) حديث عائشة: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالسا. . ". أخرجه مسلم (1 / 385 - ط الحلبي) .(27/68)
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ قَبْل هَذَا الرُّكْنِ رُكْنًا آخَرَ وَهُوَ الرَّفْعُ مِنَ السُّجُودِ. وَمَا سَبَقَ مِنْ نَفْيِ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ الاِعْتِدَال مِنَ الرُّكُوعِ يَجْرِي - أَيْضًا - فِي الاِعْتِدَال مِنَ السُّجُودِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِصِحَّةِ صَلاَةِ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ عَنِ الأَْرْضِ حَال الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لاَ يَقْصِدَ بِرَفْعِهِ غَيْرَ الْجُلُوسِ، كَمَا فِي الرُّكُوعِ. فَلَوْ رَفَعَ فَزَعًا مِنْ شَيْءٍ لَمْ يَكْفِ، وَيَجِبُ أَنْ يَعُودَ إِلَى السُّجُودِ.
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، قَالُوا: وَيُشْتَرَطُ فِي نَحْوِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَرَفْعٍ مِنْهُمَا: أَنْ لاَ يَقْصِدَ غَيْرَهُ، فَلَوْ رَكَعَ أَوْ سَجَدَ، أَوْ رَفَعَ خَوْفًا مِنْ شَيْءٍ لَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقْصِدَهُ؛ اكْتِفَاءً بِنِيَّةِ الصَّلاَةِ الْمُسْتَصْحِبِ حُكْمَهَا.
قَال الشَّيْخُ الرَّحِيبَانِيُّ: بَل لاَ بُدَّ مِنْ قَصْدِ ذَلِكَ وُجُوبًا (1) .
ط - الْجُلُوسُ لِلتَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ:
24 - وَهُوَ رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِمُدَاوَمَةِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 240 وما بعدها، مغني المحتاج 1 / 171، كشاف القناع 1 / 353، 387، مطالب أولي النهى 1 / 497.(27/69)
صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (1) وَلأَِنَّ التَّشَهُّدَ فَرْضٌ وَالْجُلُوسُ لَهُ مَحَلُّهُ فَيَتْبَعُهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الرُّكْنَ هُوَ الْجُلُوسُ لِلسَّلاَمِ فَقَطْ. فَالْجُزْءُ الأَْخِيرُ مِنَ الْجُلُوسِ الَّذِي يُوقِعُ فِيهِ السَّلاَمَ فَرْضٌ، وَمَا قَبْلَهُ سُنَّةٌ، وَعَلَيْهِ فَلَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ وَاعْتَدَل جَالِسًا وَسَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ الْجُلُوسُ هُوَ الْوَاجِبَ، وَفَاتَتْهُ السُّنَّةُ، وَلَوْ جَلَسَ ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ سَلَّمَ كَانَ آتِيًا بِالْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ جَلَسَ وَتَشَهَّدَ ثُمَّ اسْتَقَل قَائِمًا وَسَلَّمَ كَانَ آتِيًا بِالسُّنَّةِ تَارِكًا لِلْفَرْضِ (2) .
ى - التَّشَهُّدُ الأَْخِيرُ:
25 - وَيَقُول بِرُكْنِيَّتِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَقُل: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ (3) . . .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: {
كُنَّا نَقُول فِي الصَّلاَةِ قَبْل أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ: السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيل وَمِيكَائِيل. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لاَ تَقُولُوا هَذَا. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ، وَلَكِنْ
__________
(1) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". تقدم ف 19.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 240، مغني المحتاج 1 / 172، كشاف القناع 1 / 388، مطالب أولي النهى 1 / 499.
(3) حديث: " إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 131 ط. السلفية) من حديث ابن مسعود.(27/69)
قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ (1) . . . الْحَدِيثَ، وَقَال عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لاَ تُجْزِئُ صَلاَةٌ إِلاَّ بِتَشَهُّدٍ.
وَأَقَل التَّشَهُّدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ. سَلاَمٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. سَلاَمٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ. وَهُوَ أَقَلُّهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - أَيْضًا - بِدُونِ لَفْظِ: " وَبَرَكَاتُهُ ". مَعَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ " وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ " " وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " لاِتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَلَى ذَلِكَ.
وَالتَّشَهُّدُ الأَْخِيرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ (2) .
ك - الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ:
26 - هِيَ رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (3) } ، وَلِحَدِيثِ: قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَال: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ
__________
(1) حديث ابن مسعود: " كنا نقول في الصلاة قبل أن يفرض التشهد. . . ". أخرجه النسائي (3 / 40 - ط دار المحاسن) وصححه الدارقطني إسناده.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 243، مغني المحتاج 1 / 172، كشاف القناع 1 / 388، مطالب أولي النهى 1 / 499.
(3) سورة الأحزاب / 56.(27/70)
حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (1) .
وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْوِتْرِ (2) . وَقَال: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (3) .
وَأَقَل الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ) قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَنَحْوُهُ كَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ أَوْ عَلَى رَسُولِهِ أَوْ عَلَى النَّبِيِّ أَوْ عَلَيْهِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، فَلَوْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل التَّشَهُّدِ لَمْ تُجْزِئْهُ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ يَعُدُّ الصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُكْنًا مُسْتَقِلًّا، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهَا مِنْ جُمْلَةِ التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ (4) .
ل - السَّلاَمُ:
27 - اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى
__________
(1) حديث: " قد علمنا كيف نسلم عليك. . ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 152 - ط السلفية) ومسلم (1 / 305 - ط. الحلبي) من حديث كعب بن عجرة، واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " صلى النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه في الوتر. . . ". أخرجه النسائي (3 / 248 - ط المكتبة التجارية) وأعله ابن حجر بالانقطاع في سنده، كذا في التلخيص الحبير (1 / 248 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". تقدم ف 19.
(4) مغني المحتاج 1 / 172، شرح روض الطالب 1 / 165، حاشية الجمل 1 / 381 وما بعدها، كشاف القناع 1 / 388، مطالب أولي النهى 1 / 499.(27/70)
رُكْنِيَّتِهِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ (1) وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتِمُ الصَّلاَةَ بِالتَّسْلِيمِ (2) .
وَلَفْظُهُ الْمُجْزِئُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ".
قَال الْمَالِكِيَّةُ: فَلاَ يُجْزِئُ سَلاَمُ اللَّهِ، أَوْ سَلاَمِي، أَوْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، وَلاَ بُدَّ - أَيْضًا - مِنْ تَأَخُّرِ " عَلَيْكُمْ " وَأَنْ يَكُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ تَقَدُّمَ " عَلَيْكُمْ " فَيُجْزِئُ عِنْدَهُمْ " عَلَيْكُمُ السَّلاَمُ " مَعَ الْكَرَاهَةِ. قَالُوا: وَلاَ يُجْزِئُ السَّلاَمُ عَلَيْهِمْ، وَلاَ تَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ؛ لأَِنَّهُ دُعَاءٌ لِلْغَائِبِ، وَلاَ عَلَيْكَ وَلاَ عَلَيْكُمَا، وَلاَ سَلاَمِي عَلَيْكُمْ، وَلاَ سَلاَمُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِالتَّحْرِيمِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَلاَ تُجْزِئُ - أَيْضًا - سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ صِيغَتَهُ الْمُجْزِئَةَ:
السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَقُل " وَرَحْمَةُ اللَّهِ " فِي غَيْرِ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُهُ. وَقَال: {
__________
(1) حديث: " تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ". أخرجه الترمذي (1 / 9 - ط الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب.
(2) حديث عائشة: " كان يختم الصلاة بالتسليم ". أخرجه مسلم (1 / 358 - ط الحلبي) .(27/71)
صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَهُوَ سَلاَمٌ فِي صَلاَةِ وَرَدَ مَقْرُونًا بِالرَّحْمَةِ فَلَمْ يُجْزِئْهُ بِدُونِهَا كَالسَّلاَمِ فِي التَّشَهُّدِ. فَإِنْ نَكَّرَ السَّلاَمَ، كَقَوْلِهِ: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، أَوْ عَرَّفَهُ بِغَيْرِ اللاَّمِ، كَسَلاَمِي، أَوْ سَلاَمُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، أَوْ نَكَّسَهُ فَقَال عَلَيْكُمْ سَلاَمٌ أَوْ عَلَيْكُمُ السَّلاَمُ، أَوْ قَال: السَّلاَمُ عَلَيْكَ لَمْ يُجْزِئْهُ لِمُخَالَفَتِهِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَمَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّهُ يُغَيِّرُ السَّلاَمَ الْوَارِدَ، وَيُخِل بِحَرْفٍ يَقْتَضِي الاِسْتِغْرَاقَ.
وَالْوَاجِبُ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: بِوُجُوبِ التَّسْلِيمَتَيْنِ. وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ يَنْوِيَ بِالسَّلاَمِ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلاَةِ، فَلاَ تَجِبُ نِيَّةُ الْخُرُوجِ مِنَ الصَّلاَةِ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ؛ وَلأَِنَّ النِّيَّةَ السَّابِقَةَ مُنْسَحِبَةٌ عَلَى جَمِيعِ الصَّلاَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْخُرُوجِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يُجَدِّدَ نِيَّةَ الْخُرُوجِ مِنَ الصَّلاَةِ بِالسَّلاَمِ لأَِجْل أَنْ يَتَمَيَّزَ عَنْ جِنْسِهِ كَافْتِقَارِ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ إِلَيْهَا لِتَمَيُّزِهَا عَنْ غَيْرِهَا، فَلَوْ سَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ نِيَّةٍ لَمْ يُجْزِهِ، قَال سَنَدٌ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.
الثَّانِي: لاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُنْدَبُ فَقَطْ؛ لاِنْسِحَابِ النِّيَّةِ الأُْولَى. قَال(27/71)
ابْنُ الْفَاكِهَانِيِّ: هُوَ الْمَشْهُورُ، وَكَلاَمُ ابْنِ عَرَفَةَ يُفِيدُ أَنَّهُ الْمُعْتَمَدُ (1) .
م - الطُّمَأْنِينَةُ:
28 - هِيَ: اسْتِقْرَارُ الأَْعْضَاءِ زَمَنًا مَا. قَال الشَّافِعِيَّةُ: أَقَلُّهَا أَنْ تَسْتَقِرَّ الأَْعْضَاءُ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: حُصُول السُّكُونِ وَإِنْ قَل. وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ.
وَالثَّانِي: بِقَدْرِ الذِّكْرِ الْوَاجِبِ. وَفَائِدَةُ الْوَجْهَيْنِ: إِذَا نَسِيَ التَّسْبِيحَ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ، أَوِ التَّحْمِيدَ فِي اعْتِدَالِهِ، أَوْ سُؤَال الْمَغْفِرَةِ فِي جُلُوسِهِ، أَوْ عَجَزَ عَنْهُ لِعُجْمَةٍ أَوْ خَرَسٍ، أَوْ تَعَمَّدَ تَرْكَهُ وَقُلْنَا هُوَ سُنَّةٌ وَاطْمَأَنَّ قَدْرًا لاَ يَتَّسِعُ لَهُ، فَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ عَلَى الْوَجْهِ الأَْوَّل، وَلاَ تَصِحُّ عَلَى الثَّانِي.
وَهِيَ رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَصَحَّحَ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَرْضِيَّتَهَا.
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَلِذَا قَال زَرُّوقٌ: مَنْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيل: إِنَّهَا فَضِيلَةٌ،
وَدَلِيل رُكْنِيَّةِ الطُّمَأْنِينَةِ حَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ الْمُتَقَدِّمُ. وَحَدِيثُ حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً لاَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَلاَ السُّجُودَ فَقَال لَهُ:
مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مِتَّ مِتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 241، مغني المحتاج 1 / 172، كشاف القناع 1 / 361.(27/72)
الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) وَهِيَ رُكْنٌ فِي جَمِيعِ الأَْرْكَانِ (2) .
ن - تَرْتِيبُ الأَْرْكَانِ:
29 - لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّيهَا مُرَتَّبَةً، مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (3) وَعَلَّمَهَا لِلْمُسِيءِ صَلاَتَهُ مُرَتَّبَةً " بِثُمَّ " وَلأَِنَّهَا عِبَادَةٌ تَبْطُل بِالْحَدَثِ كَانَ التَّرْتِيبُ فِيهَا رُكْنًا كَغَيْرِهِ. وَالتَّرْتِيبُ وَاجِبٌ فِي الْفَرَائِضِ فِي أَنْفُسِهَا فَقَطْ. وَأَمَّا تَرْتِيبُ السُّنَنِ فِي أَنْفُسِهَا، أَوْ مَعَ الْفَرَائِضِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ (4) .
أَرْكَانُ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
أَرْكَانُ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سِتَّةٌ:
أ - الْقِيَامُ:
30 - وَهُوَ رُكْنٌ فِي فَرْضٍ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ، وَيَشْمَل التَّامَّ مِنْهُ وَهُوَ: الاِنْتِصَابُ مَعَ الاِعْتِدَال، وَغَيْرَ التَّامِّ وَهُوَ: الاِنْحِنَاءُ الْقَلِيل بِحَيْثُ لاَ تَنَال يَدَاهُ رُكْبَتَيْهِ، وَيَسْقُطُ عَنَ الْعَاجِزِ عَنْهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَالْعَجْزُ الْحُكْمِيُّ هُوَ: كَمَا لَوْ حَصَل لَهُ بِهِ أَلَمٌ شَدِيدٌ، أَوْ خَافَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ
__________
(1) حديث حذيفة: أنه رأي رجلا لا يتم ركوعه: أخرجه البخاري (الفتح 2 / 274، 275 ط السلفية) .
(2) حاشية الدسوقي 1 / 241، مغني المحتاج 1 / 164، كشاف القناع 1 / 387، الإنصاف 2 / 113.
(3) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". تقدم ف 18.
(4) حاشية الدسوقي 1 / 241، مغني المحتاج 1 / 158، كشاف القناع 1 / 389.(27/72)
أَوْ جُرْحِهِ إِذَا قَامَ، أَوْ يَسْلُسُ بَوْلُهُ، أَوْ يَبْدُو رُبُعُ عَوْرَتِهِ، أَوْ يَضْعُفُ عَنِ الْقِرَاءَةِ أَصْلاً - أَمَّا لَوْ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الْقِرَاءَةِ إِذَا قَامَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرَأَ مِقْدَارَ قُدْرَتِهِ، وَالْبَاقِي قَاعِدًا، أَوْ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ، فَيَتَحَتَّمُ الْقُعُودُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِل لِعَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ حُكْمًا إِذْ لَوْ قَامَ لَزِمَ فَوْتُ الطَّهَارَةِ أَوِ السَّتْرِ أَوِ الْقِرَاءَةِ أَوِ الصَّوْمِ بِلاَ خُلْفٍ.
ب - الْقِرَاءَةُ:
31 - وَيَتَحَقَّقُ رُكْنُ الْقِرَاءَةِ بِقِرَاءَةِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمَحَلُّهَا رَكْعَتَانِ فِي الْفَرْضِ وَجَمِيعِ رَكَعَاتِ النَّفْل وَالْوِتْرِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَدْرِ الْقِرَاءَةِ ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ. فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَدَّرَ أَدْنَى الْمَفْرُوضِ بِالآْيَةِ التَّامَّةِ طَوِيلَةً كَانَتْ أَوْ قَصِيرَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُدْهَامَّتَانِ (1) } وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ نَظَرَ (2) } وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (3) } .
وَفِي رِوَايَةٍ: الْفَرْضُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، بَل هُوَ عَلَى أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الاِسْمُ سَوَاءٌ كَانَتْ آيَةً أَوْ مَا دُونَهَا بَعْدَ أَنْ قَرَأَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِرَاءَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَدْرُ الْفَرْضِ بِآيَةٍ طَوِيلَةٍ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ، أَوْ ثَلاَثِ آيَاتٍ قِصَارٍ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ.
__________
(1) سورة الرحمن / 64.
(2) سورة المدثر / 21.
(3) سورة المدثر / 22.(27/73)
وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (1) } فَهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْعُرْفَ، وَيَقُولاَنِ: مُطْلَقُ الْكَلاَمِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَعَارَفِ، وَأَدْنَى مَا يُسَمَّى الْمَرْءُ بِهِ قَارِئًا فِي الْعُرْفِ أَنْ يَقْرَأَ آيَةً طَوِيلَةً، أَوْ ثَلاَثَ آيَاتٍ قِصَارٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَحْتَجُّ بِالآْيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ أَمَرَ بِمُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ، وَقِرَاءَةُ آيَةٍ قَصِيرَةٍ قِرَاءَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِقِرَاءَةِ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَسَى أَنْ لاَ يَتَيَسَّرَ إِلاَّ هَذَا الْقَدْرُ.
وَقَدْ أَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ لاَ يُحْسِنُ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَ يُحْسِنُ لاَ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُ يَجُوزُ، وَإِلَى قَوْلِهِمَا رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ كَمَا جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فَسَيَأْتِي أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ.
ج - الرُّكُوعُ:
32 - وَأَقَلُّهُ طَأْطَأَةُ الرَّأْسِ مَعَ انْحِنَاءِ الظَّهْرِ؛ لأَِنَّهُ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {ارْكَعُوا} ، وَفِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ: هُوَ بِحَيْثُ لَوْ مَدَّ يَدَيْهِ نَال رُكْبَتَيْهِ.
د - السُّجُودُ:
33 - وَيَتَحَقَّقُ بِوَضْعِ جُزْءٍ مِنْ جَبْهَتِهِ وَإِنْ قَل، وَوَضْعُ أَكْثَرِهَا وَاجِبٌ لِلْمُوَاظَبَةِ، كَمَا
__________
(1) سورة المزمل / 20.(27/73)
يَجِبُ وَضْعُ الأَْنْفِ مَعَ الْجَبْهَةِ، وَفِي وَضْعِ الْقَدَمَيْنِ ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ:
الأُْولَى: فَرْضِيَّةُ وَضْعِهِمَا.
وَالثَّانِيَةُ: فَرْضِيَّةُ إِحْدَاهُمَا. وَالثَّالِثَةُ: عَدَمُ الْفَرْضِيَّةِ: أَيْ أَنَّهُ سُنَّةٌ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمَشْهُورَ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ اعْتِمَادُ الْفَرْضِيَّةِ، وَالأَْرْجَحُ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيل وَالْقَوَاعِدُ عَدَمُ الْفَرْضِيَّةِ، وَلِذَا قَال فِي الْعِنَايَةِ وَالدُّرَرِ: إِنَّهُ الْحَقُّ، ثُمَّ الأَْوْجَهُ حَمْل عَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ عَلَى الْوُجُوبِ.
هـ - الْقَعْدَةُ الأَْخِيرَةُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ:
34 - وَهِيَ مَحَل خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ. فَقَال بَعْضُهُمْ: هِيَ رُكْنٌ أَصْلِيٌّ. وَقَال بَعْضُهُمْ:
إِنَّهَا وَاجِبَةٌ لاَ فَرْضٌ، لَكِنِ الْوَاجِبُ - هُنَا - فِي قُوَّةِ الْفَرْضِ فِي الْعَمَل كَالْوِتْرِ. وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ: إِنَّهَا فَرْضٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ أَصْلِيٍّ بَل هِيَ شَرْطٌ لِلتَّحْلِيل.
و الْخُرُوجُ بِصُنْعِهِ:
35 - أَيْ بِصُنْعِ الْمُصَلِّي - فِعْلُهُ الاِخْتِيَارِيُّ - بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَالْوَاجِبُ الْخُرُوجُ بِلَفْظِ السَّلاَمِ وَيُكْرَهُ تَحْرِيمًا الْخُرُوجُ بِغَيْرِهِ كَأَنْ يَضْحَكَ قَهْقَهَةً، أَوْ يُحْدِثَ عَمْدًا، أَوْ يَتَكَلَّمَ، أَوْ يَذْهَبَ، وَاحْتُرِزَ (بِصُنْعِهِ) عَمَّا لَوْ كَانَ سَمَاوِيًّا كَأَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 298، 325، والزيلعي 1 / 125، بدائع الصنائع 1 / 105، وما بعدها، فتح القدير 1 / 238 وما بعدها، الفتاوى الهندية 1 / 69.(27/74)
36 - قَال الْحَصْكَفِيُّ شَارِحُ تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ: وَبَقِيَ مِنَ الْفُرُوضِ: تَمْيِيزُ الْمَفْرُوضِ، وَتَرْتِيبُ الْقِيَامِ عَلَى الرُّكُوعِ، وَالرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَالْقُعُودِ الأَْخِيرِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَإِتْمَامُ الصَّلاَةِ، وَالاِنْتِقَال مِنْ رُكْنٍ إِلَى آخَرَ، وَمُتَابَعَتُهُ لإِِمَامِهِ فِي الْفُرُوضِ، وَصِحَّةُ صَلاَةِ إِمَامِهِ فِي رَأْيِهِ، وَعَدَمُ تَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ، وَعَدَمُ مُخَالَفَتِهِ فِي الْجِهَةِ، وَعَدَمُ تَذَكُّرِ فَائِتَةٍ، وَعَدَمُ مُحَاذَاةِ امْرَأَةٍ بِشَرْطِهِمَا، وَتَعْدِيل الأَْرْكَانِ عِنْدَ الثَّانِي (وَهُوَ أَبُو يُوسُفَ) .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ تَمْيِيزِ الْمَفْرُوضِ، فَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ: بِأَنْ يُمَيِّزَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ عَنِ الأُْولَى، بِأَنْ يَرْفَعَ وَلَوْ قَلِيلاً أَوْ يَكُونَ إِلَى الْقُعُودِ أَقْرَب، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّمْيِيزِ تَمْيِيزُ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَوَاتِ عَمَّا لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَعْلَمْ فَرْضِيَّةَ الْخَمْسِ، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا لاَ يُجْزِيهِ.
وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الْبَعْضَ فَرْضٌ وَالْبَعْضَ سُنَّةٌ وَنَوَى الْفَرْضَ فِي الْكُل، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَنَوَى صَلاَةَ الإِْمَامِ عِنْدَ اقْتِدَائِهِ فِي الْفَرْضِ جَازَ، وَلَوْ عَلِمَ الْفَرْضَ دُونَ مَا فِيهِ مِنْ فَرَائِض وَسُنَنٍ جَازَتْ صَلاَتُهُ أَيْضًا؛ فَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَفْرُوضَ مِنْ أَجْزَاءِ كُل صَلاَةٍ، أَيْ كَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ(27/74)
فِيهَا فَرْضٌ وَأَنَّ التَّسْبِيحَ سُنَّةٌ وَهَكَذَا. وَالْمُرَادُ بِتَرْتِيبِ الْقِيَامِ عَلَى الرُّكُوعِ، وَالرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَالْقُعُودِ الأَْخِيرِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ رَكَعَ ثُمَّ قَامَ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ الرُّكُوعُ، فَإِنْ رَكَعَ ثَانِيًا صَحَّتْ صَلاَتُهُ؛ لِوُجُودِ التَّرْتِيبِ الْمَفْرُوضِ، وَلَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ لِتَقْدِيمِهِ الرُّكُوعَ الْمَفْرُوضَ، وَكَذَا تَقْدِيمُ الرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَأَمَّا الْقُعُودُ الأَْخِيرُ فَيُفْتَرَضُ إِيقَاعُهُ بَعْدَ جَمِيعِ الأَْرْكَانِ، حَتَّى لَوْ تَذَكَّرَ بَعْدَهُ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً سَجَدَهَا وَأَعَادَ الْقُعُودَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَلَوْ تَذَكَّرَ رُكُوعًا قَضَاهُ مَعَ مَا بَعْدَهُ مِنَ السُّجُودِ، أَوْ قِيَامًا أَوْ قِرَاءَةً صَلَّى رَكْعَةً.
37 - وَمِنَ الْفَرَائِضِ - أَيْضًا - إِتْمَامُ الصَّلاَةِ، وَالاِنْتِقَال مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ؛ لأَِنَّ النَّصَّ الْمُوجِبَ لِلصَّلاَةِ يُوجِبُ ذَلِكَ، إِذْ لاَ وُجُودَ لِلصَّلاَةِ بِدُونِ إِتْمَامِهَا وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي الأَْمْرَيْنِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالإِْتْمَامِ عَدَمُ الْقَطْعِ. وَبِالاِنْتِقَال الاِنْتِقَال عَنَ الرُّكْنِ لِلإِْتْيَانِ بِرُكْنٍ بَعْدَهُ إِذْ لاَ يَتَحَقَّقُ مَا بَعْدَهُ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَأَمَّا الاِنْتِقَال مِنْ رُكْنٍ إِلَى آخَرَ بِلاَ فَاصِلٍ بَيْنَهُمَا فَوَاجِبٌ حَتَّى لَوْ رَكَعَ ثُمَّ رَكَعَ يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَنْتَقِل مِنَ الْفَرْضِ وَهُوَ الرُّكُوعُ إِلَى السُّجُودِ، بَل(27/75)
أَدْخَل بَيْنَهُمَا أَجْنَبِيًّا، وَهُوَ الرُّكُوعُ الثَّانِي.
وَالنِّيَّةُ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّة) .
وَكَذَا تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ، فَهِيَ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ فِي الصَّلاَةِ عُمُومًا غَيْرَ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ، أَمَّا فِي الْجِنَازَةِ فَهِيَ رُكْنٌ اتِّفَاقًا (1) . تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ) ف 3 (13 218) .
وَاجِبَاتُ الصَّلاَةِ:
قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَمْ يَقُل بِوَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ سِوَى الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ، وَوَاجِبَاتُ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَخْتَلِفُ عَنْ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
أ - وَاجِبَاتُ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
38 - قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ. وَهِيَ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ لِثُبُوتِهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الزَّائِدِ عَلَى قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ (2) } وَالزِّيَادَةُ وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَجُوزُ لَكِنْ يَجِبُ الْعَمَل بِهَا.
وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ قَالُوا بِوُجُوبِهَا. وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 277، 297، 302.
(2) سورة المزمل / 20.(27/75)
مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ (1) وَلَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ رُكْنًا لَعَلَّمَهُ إِيَّاهَا لِجَهْلِهِ بِالأَْحْكَامِ وَحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (2) مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ.
ثُمَّ إِنَّ كُل آيَةٍ مِنْهَا وَاجِبَةٌ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بِتَرْكِهَا. وَهَذَا عَلَى قَوْل الإِْمَامِ الْقَائِل إِنَّهَا وَاجِبَةٌ بِتَمَامِهَا، وَأَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: فَالْوَاجِبُ أَكْثَرُهَا، فَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بِتَرْكِ أَكْثَرِهَا لاَ أَقَلِّهَا. قَال الْحَصْكَفِيُّ: وَهُوَ - أَيْ قَوْل الإِْمَامِ - أَوْلَى، وَعَلَيْهِ فَكُل آيَةٍ وَاجِبَةٌ.
39 - ضَمُّ أَقْصَرِ سُورَةٍ إِلَى الْفَاتِحَةِ - كَسُورَةِ الْكَوْثَرِ - أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ ثَلاَثِ آيَاتٍ قِصَارٍ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (3) } أَوْ آيَةٍ طَوِيلَةٍ تَعْدِل ثَلاَثَ آيَاتٍ قِصَارٍ، وَقَدَّرُوهَا بِثَلاَثِينَ حَرْفًا.
وَمَحَل هَذَا الضَّمِّ فِي الأُْولَيَيْنِ مِنَ الْفَرْضِ، وَجَمِيعِ رَكَعَاتِ النَّفْل وَالْوِتْرِ.
40 - وَيَجِبُ تَعْيِينُ الْقِرَاءَةِ فِي الأُْولَيَيْنِ عَيْنًا
__________
(1) حديث: " إذا قمت إلي الصلاة فأسبغ الوضوء. . ". . أخرجه مسلم. 1 / 298 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة
(2) حديث: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ". تقدم. ف 19.
(3) سورة المدثر / 21 - 23.(27/76)
مِنَ الْفَرْضِ مِنَ الثُّلاَثِيَّةِ وَالرُّبَاعِيَّةِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُتُونُ، وَهُوَ الْمُصَحَّحُ. وَقِيل: إِنَّ مَحَل الْقِرَاءَةِ رَكْعَتَانِ مِنَ الْفَرْضِ غَيْرُ عَيْنٍ، وَكَوْنُهُمَا فِي الأُْولَيَيْنِ أَفْضَل. وَثَمَرَةُ الْخِلاَفِ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ سُجُودِ السَّهْوِ إِذَا تَرَكَهَا فِي الأُْولَيَيْنِ أَوْ فِي إِحْدَاهُمَا سَهْوًا لِتَأْخِيرِ الْوَاجِبِ سَهْوًا عَنْ مَحَلِّهِ، وَعَلَى الْقَوْل بِالسُّنِّيَّةِ لاَ يَجِبُ.
41 - وَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْفَاتِحَةِ عَلَى كُل السُّورَةِ، حَتَّى قَالُوا: لَوْ قَرَأَ حَرْفًا مِنَ السُّورَةِ سَاهِيًا ثُمَّ تَذَكَّرَ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ ثُمَّ السُّورَةَ وَيَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ، وَقَيَّدَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ بِأَنْ يَكُونَ مِقْدَارَ مَا يَتَأَدَّى بِهِ رُكْنٌ. وَهُوَ مَا مَال إِلَيْهِ ابْنُ عَابِدِينَ قَال: لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ تَأْخِيرُ الاِبْتِدَاءِ بِالْفَاتِحَةِ، وَالتَّأْخِيرُ الْيَسِيرُ وَهُوَ مَا دُونَ رُكْنٍ مَعْفُوٍّ عَنْهُ.
وَكَذَا يَجِبُ تَرْكُ تَكْرِيرِهَا قَبْل سُورَةِ الأُْولَيَيْنِ، فَلَوْ قَرَأَهَا فِي رَكْعَةٍ مِنَ الأُْولَيَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَجَبَ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِتَأْخِيرِ الْوَاجِبِ وَهُوَ السُّورَةُ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ قَرَأَ أَكْثَرَهَا ثُمَّ أَعَادَهَا. أَمَّا لَوْ قَرَأَهَا قَبْل السُّورَةِ مَرَّةً وَبَعْدَهَا مَرَّةً فَلاَ تَجِبُ؛ لِعَدَمِ التَّأْخِيرِ؛ لأَِنَّ الرُّكُوعَ لَيْسَ وَاجِبًا بِإِثْرِ السُّورَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ جَمَعَ بَيْنَ سُوَرٍ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ.(27/76)
وَلاَ يَجِبُ تَرْكُ التَّكْرَارِ فِي الأُْخْرَيَيْنِ؛ لأَِنَّ الاِقْتِصَارَ عَلَى مَرَّةٍ فِي الأُْخْرَيَيْنِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ حَتَّى لاَ يَلْزَمَهُ - سُجُودُ السَّهْوِ بِتَكْرَارِ الْفَاتِحَةِ فِيهَا سَهْوًا، وَلَوْ تَعَمَّدَهُ لاَ يُكْرَهُ مَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى التَّطْوِيل عَلَى الْجَمَاعَةِ، أَوْ إِطَالَةِ الرَّكْعَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا.
42 - رِعَايَةُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَفِيمَا يَتَكَرَّرُ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ وَاجِبًا: أَنَّهُ لَوْ رَكَعَ قَبْل الْقِرَاءَةِ صَحَّ رُكُوعُ هَذِهِ الرَّكْعَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الرُّكُوعِ أَنْ يَكُونَ مُتَرَتِّبًا عَلَى قِرَاءَةٍ فِي كُل رَكْعَةٍ، بِخِلاَفِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَثَلاً فَإِنَّهُ فَرْضٌ حَتَّى لَوْ سَجَدَ قَبْل الرُّكُوعِ لَمْ يَصِحَّ سُجُودُ هَذِهِ الرَّكْعَةِ؛ لأَِنَّ أَصْل السُّجُودِ يُشْتَرَطُ تَرَتُّبُهُ عَلَى الرُّكُوعِ فِي كُل رَكْعَةٍ كَتَرَتُّبِ الرُّكُوعِ عَلَى الْقِيَامِ كَذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْقِرَاءَةَ لَمْ تُفْرَضْ فِي جَمِيعِ رَكَعَاتِ الْفَرْضِ بَل فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهُ بِلاَ تَعْيِينٍ. أَمَّا الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَإِنَّهَا مُعَيَّنَةٌ فِي كُل رَكْعَةٍ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِيمَا يَتَكَرَّرُ: السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ كُل رَكْعَةٍ وَعَدَدُ الرَّكَعَاتِ. أَمَّا السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ كُل رَكْعَةٍ: فَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا بَعْدَهَا وَاجِبٌ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ رَكْعَةٍ ثُمَّ تَذَكَّرَهَا فِيمَا بَعْدَهَا مِنْ قِيَامٍ أَوْ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ فَإِنَّهُ يَقْضِيهَا، وَلاَ يَقْضِي مَا فَعَلَهُ قَبْل قَضَائِهَا مِمَّا هُوَ بَعْدَ رَكْعَتِهَا مِنْ قِيَامٍ أَوْ رُكُوعٍ أَوْ(27/77)
سُجُودٍ، بَل يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ فَقَطْ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي لُزُومِ قَضَاءِ مَا إِذَا تَذَكَّرَهَا فَقَضَاهَا فِيهِ، كَمَا لَوْ تَذَكَّرَ وَهُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ فِي الرَّكْعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّهُ يَسْجُدُهَا، وَهَل يُعِيدُ الرُّكُوعَ أَوِ السُّجُودَ الْمُتَذَكَّرَ فِيهِ؟ .
فَفِي الْهِدَايَةِ أَنَّهُ لاَ تَجِبُ إِعَادَتُهُ بَل تُسْتَحَبُّ مُعَلِّلاً بِأَنَّ التَّرْتِيبَ لَيْسَ بِفَرْضٍ بَيْنَ مَا يَتَكَرَّرُ مِنَ الأَْفْعَال، وَفِي الْخَانِيَّةِ أَنَّهُ يُعِيدُهُ وَإِلاَّ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ؛ مُعَلِّلاً بِأَنَّهُ ارْتُفِضَ بِالْعَوْدِ إِلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الأَْرْكَانِ، لأَِنَّهُ قَبْل الرَّفْعِ مِنْهُ يَقْبَل الرَّفْضَ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ تَذَكَّرَ السَّجْدَةَ بَعْدَمَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ؛ لأَِنَّهُ بَعْدَمَا تَمَّ بِالرَّفْعِ لاَ يَقْبَل الرَّفْضَ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْمُعْتَمَدُ مَا فِي الْهِدَايَةِ، وَلَوْ نَسِيَ سَجْدَةً مِنَ الرَّكْعَةِ الأُْولَى قَضَاهَا وَلَوْ بَعْدَ السَّلاَمِ قَبْل إِتْيَانِهِ بِمُفْسِدٍ، لَكِنَّهُ يَتَشَهَّدُ، ثُمَّ يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ؛ لِبُطْلاَنِ التَّشَهُّدِ وَالْقَعْدَةِ الأَْخِيرَةِ بِالْعَوْدِ إِلَى السَّجْدَةِ؛ لاِشْتِرَاطِهَا التَّرْتِيبَ، وَالتَّقْيِيدُ بِالتَّرْتِيبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا بَعْدَهَا لِلاِحْتِرَازِ عَمَّا قَبْلَهَا مِنْ رَكْعَتِهَا، فَإِنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مِنْ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ شَرْطٌ.
وَأَمَّا الرَّكَعَاتُ فَإِنَّ التَّرْتِيبَ فِيهَا وَاجِبٌ إِلاَّ لِضَرُورَةِ الاِقْتِدَاءِ حَيْثُ يَسْقُطُ بِهِ التَّرْتِيبُ، فَإِنَّ الْمَسْبُوقَ يُصَلِّي آخِرَ الرَّكَعَاتِ قَبْل أَوَّلِهَا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فَإِنْ قُلْتَ وُجُوبُ(27/77)
الشَّيْءِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا أَمْكَنَ ضِدُّهُ، وَعَدَمُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الرَّكَعَاتِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ كُل رَكْعَةٍ أَتَى بِهَا أَوَّلاً فَهِيَ الأُْولَى، وَثَانِيًا فَهِيَ الثَّانِيَةُ وَهَكَذَا. فَإِنَّهُ يُمْكِنُ ذَلِكَ لأَِنَّهُ مِنَ الأُْمُورِ الاِعْتِبَارِيَّةِ الَّتِي يُبْتَنَى عَلَيْهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ إِذَا وُجِدَ مَعَهَا مَا يَقْتَضِيهَا، فَإِذَا صَلَّى مِنَ الْفَرْضِ الرُّبَاعِيِّ رَكْعَتَيْنِ، وَقَصَدَ أَنْ يَجْعَلَهُمَا الأَْخِيرَتَيْنِ فَهُوَ لَغْوٌ، إِلاَّ إِذَا حَقَّقَ قَصْدَهُ بِأَنْ تَرَكَ فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ، وَقَرَأَ فِيمَا بَعْدَهُمَا فَحِينَئِذٍ يُبْتَنَى عَلَيْهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَهِيَ وُجُوبُ الإِْعَادَةِ وَالإِْثْمِ؛ لِوُجُودِ مَا يَقْتَضِي تِلْكَ الأَْحْكَامَ وَلِهَذَا اعْتَبَرَ الشَّارِعُ صَلاَةَ الْمَسْبُوقِ غَيْرَ مُرَتَّبَةٍ مِنْ حَيْثُ الأَْقْوَال، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ عَكْسَ التَّرْتِيبِ بِأَنْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَفْعَل مَا يُبْتَنَى عَلَى ذَلِكَ مِنْ قِرَاءَةٍ وَجَهْرٍ.
كَذَلِكَ أَمَرَ غَيْرَهُ بِالتَّرْتِيبِ بِأَنْ يَفْعَل مَا يَقْتَضِيَهُ بِأَنْ يَقْرَأَ أَوَّلاً وَيَجْهَرَ أَوْ يُسِرَّ، وَإِذَا خَالَفَ يَكُونُ قَدْ عَكَسَ التَّرْتِيبَ حُكْمًا.
تَعْدِيل الأَْرْكَانِ:
43 - وَهُوَ: تَسْكِينُ الْجَوَارِحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، وَأَدْنَاهُ قَدْرُ تَسْبِيحَةٍ، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي تَخْرِيجِ الْكَرْخِيِّ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ شُرِعَ لِتَكْمِيل رُكْنٍ فَيَكُونُ وَاجِبًا كَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ. وَفِي تَخْرِيجِ الْجُرْجَانِيِّ أَنَّهُ سُنَّةٌ لأَِنَّهُ شُرِعَ لِتَكْمِيل الأَْرْكَانِ وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ(27/78)
لِذَاتِهِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ فَرْضٌ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ أَخَفَّ الصَّلاَةَ: صَل فَإِنَّكَ لَمْ تُصَل (1) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ: إِنَّهَا لاَ تَتِمُّ صَلاَةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل: فَيَغْسِل وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُكَبِّرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَل وَيَحْمَدَهُ، ثُمَّ يَقْرَأَ مِنَ الْقُرْآنِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ وَتَيَسَّرَ، ثُمَّ يَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ يَرْكَعَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ ثُمَّ يَقُول: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ يَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ. قَال:
ثُمَّ يُكَبِّرَ فَيَسْجُدَ فَيُمَكِّنَ وَجْهَهُ - أَوْ جَبْهَتَهُ - مِنَ الأَْرْضِ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ وَتَسْتَرْخِيَ، ثُمَّ يُكَبِّرَ فَيَسْتَوِيَ قَاعِدًا عَلَى مَقْعَدِهِ، وَيُقِيمَ صُلْبَهُ فَوَصْفُ الصَّلاَةِ هَكَذَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ حَتَّى تَفْرُغَ لاَ تَتِمُّ صَلاَةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَفْعَل ذَلِكَ (2) .
وَاسْتَدَل عَلَى الْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَ: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا (3) } حَيْثُ أَمَرَ بِالرُّكُوعِ، وَهُوَ: الاِنْحِنَاءُ لُغَةً، وَبِالسُّجُودِ، وَهُوَ:
__________
(1) حديث: " صل فإنك لا تصل ". تقدم ف 20.
(2) حديث رفاعة بن رافع: " إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الصلاة ". أخرجه أبو داود (1 / 537 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(3) سورة الحج / 77.(27/78)
الاِنْخِفَاضُ لُغَةً، فَتَتَعَلَّقُ الرُّكْنِيَّةُ بِالأَْدْنَى مِنْهُمَا.
وَفِي آخِرِ الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ صَلاَةً. فَقَال لَهُ: إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُكَ، وَإِنِ انْتَقَصْتَ مِنْهُ شَيْئًا انْتَقَصْتَ مِنْ صَلاَتِكَ (1) وَلاَ حُجَّةَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي - أَيْضًا - لأَِنَّ فِيهِ وَضْعَ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ وَالثَّنَاءَ وَالتَّسْمِيعَ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الأَْشْيَاءُ فَرْضًا بِالإِْجْمَاعِ.
وَكَذَا تَجِبُ الطُّمَأْنِينَةُ فِي الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَكَذَا نَفْسُ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُحَقِّقِ ابْنِ الْهُمَامِ وَتِلْمِيذِهِ ابْنِ أَمِيرِ حَاجٍّ حَتَّى قَال: إِنَّهُ الصَّوَابُ؛ لِلْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلِلأَْمْرِ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ، وَلِمَا ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ مِنْ لُزُومِ سُجُودِ السَّهْوِ بِتَرْكِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ سَاهِيًا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْحَاصِل أَنَّ الأَْصَحَّ رِوَايَةً وَدِرَايَةً وُجُوبُ تَعْدِيل الأَْرْكَانِ، وَأَمَّا الْقَوْمَةُ وَالْجِلْسَةُ وَتَعْدِيلُهَا فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ السُّنِّيَّةُ، وَرُوِيَ وُجُوبُهَا، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلأَْدِلَّةِ وَعَلَيْهِ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ بِفَرْضِيَّةِ الْكُل،
__________
(1) حديث: " إذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك ". هو شطر من رواية أخري للحديث السابق أخرجه الترمذي (3 / 102 - ط الحلبي) وحسن إسنادها.(27/79)
وَاخْتَارَهُ فِي الْمَجْمَعِ وَالْعَيْنِيُّ وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَئِمَّتِنَا الثَّلاَثَةِ. وَقَال فِي الْفَيْضِ: إِنَّهُ الأَْحْوَطُ.
44 - الْقُعُودُ الأَْوَّل: يَجِبُ الْقُعُودُ الأَْوَّل قَدْرَ التَّشَهُّدِ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي ذَوَاتِ الأَْرْبَعِ وَالثَّلاَثِ، وَلَوْ فِي النَّفْل فِي الأَْصَحِّ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ فِي افْتِرَاضِهِ قَعْدَةَ كُل شَفْعٍ نَفْلاً، وَلِلطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ أَنَّهَا فِي غَيْرِ النَّفْل سُنَّةٌ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَال فِي الْبَدَائِعِ:
وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ اسْمَ السُّنَّةِ، إِمَّا لأَِنَّ وُجُوبَهُ عُرِفَ بِهَا، أَوْ لأَِنَّ الْمُؤَكَّدَةَ فِي مَعْنَى الْوَاجِبِ، وَهَذَا يَقْتَضِي رَفْعَ الْخِلاَفِ.
45 - التَّشَهُّدَانِ: أَيْ تَشَهُّدُ الْقَعْدَةِ الأُْولَى وَتَشَهُّدُ الأَْخِيرَةِ، وَيَجِبُ سُجُودُ السَّهْوِ بِتَرْكِ بَعْضِهِ؛ لأَِنَّهُ ذِكْرٌ وَاحِدٌ مَنْظُومٌ فَتَرْكُ بَعْضِهِ كَتَرْكِ كُلِّهِ، وَأَفْضَل صِيَغِ التَّشَهُّدِ هِيَ الْمَرْوِيَّةُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَتَأْتِي فِي سُنَنِ الصَّلاَةِ.
46 - السَّلاَمُ: وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِهِ وَعَدَمِ فَرْضِيَّتِهِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال لَهُ حِينَ عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ: إِذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ قَضَيْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلاَتَكَ (1) .
__________
(1) حديث: " إذا قلت هذا أو قضيت هذا فقد قضيت صلاتك ". أخرجه أبو داود (1 / 593 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والبيهقي (2 / 172 - ط. دائرة المعارف العثمانية) وأورده الزيلعي في نصب الراية (1 / 424 - ط المجلس العلمي بالهند) وذكر الخلاف فيه على إثبات كونه موقوفا على ابن مسعود.(27/79)
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَحْدَث الرَّجُل وَقَدْ جَلَسَ فِي آخِرِ صَلاَتِهِ قَبْل أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ جَازَتْ صَلاَتُهُ (1) .
وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: إِذَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ أَحْدَث فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَحْرِيمُهَا التَّكْبِير، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ (2) فَإِنَّهُ إِنْ صَحَّ لاَ يُفِيدُ الْفَرْضِيَّةَ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ. ثُمَّ إِنَّهُ يَجِبُ مَرَّتَيْنِ، وَالْوَاجِبُ مِنْهُ لَفْظُ " السَّلاَمُ " فَقَطْ دُونَ " عَلَيْكُمْ ".
47 - إِتْيَانُ كُل فَرْضٍ أَوْ وَاجِبٍ فِي مَحَلِّهِ، فَلَوْ أَخَّرَهُ عَنْ مَحَلِّهِ سَهْوًا سَجَدَ لِلسَّهْوِ. وَمِثَال تَأْخِيرِ الْفَرْضِ: مَا لَوْ أَتَمَّ الْفَاتِحَةَ ثُمَّ مَكَثَ مُتَفَكِّرًا سَهْوًا ثُمَّ رَكَعَ.
وَمِثَال تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ: مَا لَوْ تَذَكَّرَ السُّورَةَ
__________
(1) حديث: " إذا أحدث الرجل وقد جلس آخر صلاته. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 261 - ط دار الحلبي) وقال: هذا حديث إسناده ليس بذلك القوي، وقد اضطربوا في إسناده.
(2) حديث: " تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ". تقدم تخريجه ف 27.(27/80)
وَهُوَ رَاكِعٌ فَضَمَّهَا قَائِمًا وَأَعَادَ الرُّكُوعَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ. وَكَذَا يَجِبُ تَرْكُ تَكْرِيرِ الرُّكُوعِ وَتَثْلِيثِ السُّجُودِ - لأَِنَّ فِي زِيَادَةِ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ تَغْيِيرَ الْمَشْرُوعِ، لأَِنَّ الْوَاجِبَ فِي كُل رَكْعَةٍ رُكُوعٌ وَاحِدٌ وَسَجْدَتَانِ فَقَطْ، فَإِذَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَيْضًا تَرْكُ وَاجِبٍ آخَرَ، وَهُوَ إِتْيَانُ الْفَرْضِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ؛ لأَِنَّ تَكْرِيرَ الرُّكُوعِ فِيهِ تَأْخِيرُ السُّجُودِ عَنْ مَحَلِّهِ وَتَثْلِيثُ السُّجُودِ فِيهِ تَأْخِيرُ الْقِيَامِ أَوِ الْقَعْدَةِ، وَكَذَا الْقَعْدَةُ فِي آخِرِ الرَّكْعَةِ الأُْولَى أَوِ الثَّالِثَةِ فَيَجِبُ تَرْكُهَا، وَيَلْزَمُ مِنْ فِعْلِهَا - أَيْضًا - تَأْخِيرُ الْقِيَامِ إِلَى الثَّانِيَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ عَنْ مَحَلِّهِ.
وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْقَعْدَةُ طَوِيلَةً، أَمَّا الْجِلْسَةُ الْخَفِيفَةُ الَّتِي اسْتَحَبَّهَا الشَّافِعِيَّةُ فَتَرْكُهَا غَيْرُ وَاجِبٍ، بَل هُوَ الأَْفْضَل.
وَهَكَذَا كُل زِيَادَةٍ بَيْنَ فَرْضَيْنِ أَوْ بَيْنَ فَرْضٍ وَوَاجِبٍ يَكُونُ فِيهَا تَرْكُ وَاجِبٍ بِسَبَبِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْهَا تَرْكُ وَاجِبٍ آخَرَ، وَهُوَ تَأْخِيرُ الْفَرْضِ الثَّانِي عَنْ مَحَلِّهِ. وَيَدْخُل فِي الزِّيَادَةِ السُّكُوتُ، حَتَّى لَوْ شَكَّ فَتَفَكَّرَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ تَرْكَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ إِتْيَانُ كُل وَاجِبٍ أَوْ فَرْضٍ فِي مَحَلِّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْوَاجِبَ(27/80)
لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِتَرْكِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ، فَكَانَ تَرْكُهَا وَاجِبًا لِغَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الإِْخْلاَل بِهَذَا الْوَاجِبِ الإِْخْلاَل بِذَاكَ الْوَاجِبِ فَهُوَ نَظِيرُ عَدِّهِمْ مِنَ الْفَرَائِضِ الاِنْتِقَال مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ فَإِنَّهُ فَرْضٌ لِغَيْرِهِ.
وَبَقِيَ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ: قِرَاءَةُ قُنُوتِ الْوِتْرِ، وَتَكْبِيرَاتُ الْعِيدَيْنِ، وَالْجَهْرُ وَالإِْسْرَارُ فِيمَا يُجْهَرُ فِيهِ وَيُسَرُّ (1) .
وَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
ب - وَاجِبَاتُ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
48 - تَكْبِيرَاتُ الاِنْتِقَال فِي مَحَلِّهَا: وَمَحَلُّهَا مَا بَيْنَ بَدْءِ الاِنْتِقَال وَانْتِهَائِهِ لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ: فَإِذَا كَبَّرَ يَعْنِي الإِْمَامَ وَرَكَعَ، فَكَبِّرُوا وَارْكَعُوا. . .، وَإِذَا كَبَّرَ وَسَجَدَ، فَكَبِّرُوا وَاسْجُدُوا (2) وَهَذَا أَمْرٌ، وَهُوَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلَوْ شَرَعَ الْمُصَلِّي فِي التَّكْبِيرِ قَبْل انْتِقَالِهِ كَأَنْ يُكَبِّرَ لِلرُّكُوعِ أَوِ السُّجُودِ قَبْل هُوِيِّهِ إِلَيْهِ، أَوْ كَمَّلَهُ بَعْدَ انْتِهَائِهِ بِأَنْ كَبَّرَ وَهُوَ رَاكِعٌ أَوْ وَهُوَ سَاجِدٌ بَعْدَ انْتِهَاءِ هُوِيِّهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ التَّكْبِيرُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 306 وما بعدها، تبيين الحقائق 1 / 105 وما بعدها دار المعرفة مصورة من الطبعة الأميرية 1313هـ، فتح القدير 1 / 241 دار إحياء التراث العربي.
(2) حديث أبي موسي: " فإذا كبر (يعني الإمام) وركع فكبروا واركعوا ". أخرجه مسلم (1 / 303، 304 - ط. الحلبي) .(27/81)
يَأْتِ بِهِ فِي مَحَلِّهِ.
وَإِنْ شَرَعَ فِيهِ قَبْلَهُ أَوْ كَمَّلَهُ بَعْدَهُ فَوَقَعَ بَعْضُهُ خَارِجًا مِنْهُ فَهُوَ كَتَرْكِهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يُكْمِلْهُ فِي مَحَلِّهِ فَأَشْبَهَ مَنْ تَعَمَّدَ قِرَاءَتَهُ رَاكِعًا أَوْ أَخَذَ فِي التَّشَهُّدِ قَبْل قُعُودِهِ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، وَيُحْتَمَل أَنْ يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ التَّحَرُّزَ يَعْسُرُ، وَالسَّهْوُ بِهِ يَكْثُرُ فَفِي الإِْبْطَال بِهِ وَالسُّجُودِ لَهُ مَشَقَّةٌ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ تَكْبِيرَةُ رُكُوعِ مَسْبُوقٍ أَدْرَكَ إِمَامَهُ رَاكِعًا، فَكَبَّرَ لِلإِْحْرَامِ ثُمَّ رَكَعَ مَعَهُ فَإِنَّ تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ رُكْنٌ، وَتَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ هُنَا سُنَّةٌ لِلاِجْتِزَاءِ عَنْهَا بِتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ. قَالُوا: وَإِنْ نَوَى تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ لَمْ تَنْعَقِدْ صَلاَتُهُ.
49 - التَّسْمِيعُ: وَهُوَ قَوْل: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) ، وَهُوَ وَاجِبٌ لِلإِْمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ دُونَ الْمَأْمُومِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُول ذَلِكَ (1) . {
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبُرَيْدَةَ يَا بُرَيْدَةُ، إِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ الرُّكُوعِ فَقُل: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ (2) وَيَجِبُ أَنْ
__________
(1) حديث: " أنه كان يقول سمع الله لمن حمده ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 282 - ط السلفية) ومسلم (1 / 294 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " يا بريدة إذا رفعت رأسك في الركوع. . . ". أخرج الدارقطني (1 / 339 - ط شركة الطباعة الفنية) وضعف إسناده السيوطي في " دفع التشنيع " (ص 27 - ط دار العروبة) .(27/81)
يَأْتِيَ بِهَا مُرَتَّبَةً، فَلَوْ قَال: مَنْ حَمِدَ اللَّهَ سَمِعَ لَهُ، لَمْ يُجْزِئْهُ.
وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَإِنَّهُ يَحْمَدُ فَقَطْ فِي حَال رَفْعِهِ مِنَ الرُّكُوعِ وَلاَ يُسْمِعْ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا قَال يَعْنِي الإِْمَامَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ (1) . 50 - التَّحْمِيدُ: وَهُوَ قَوْل: " رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ " وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ. لِحَدِيثِ أَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ، وَيُجْزِئُهُ أَنْ يَقُول: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ بِلاَ وَاوٍ. وَبِالْوَاوِ أَفْضَل، كَمَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَقُول: " اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ " بِلاَ وَاوٍ. وَأَفْضَل مِنْهُ مَعَ الْوَاوِ، فَيَقُول: " اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ".
51 - التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ: وَهُوَ قَوْل: " سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ " وَالْوَاجِبُ مِنْهُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يَقُول فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ. وَفِي سُجُودِهِ: سُبْحَانَ رَبِّي الأَْعْلَى (2) .
__________
(1) حديث أبي هريرة: " إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده. . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 290 - ط السلفية) ومسلم (1 / 308 - ط. الحلبي) .
(2) حديث حذيفة: " أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم. " أخرجه الترمذي (2 / 48 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".(27/82)
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَال: لَمَّا نَزَلَتْ {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ. فَلَمَّا نَزَلَتْ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} قَال: اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ (1) .
52 - التَّسْبِيحُ فِي السُّجُودِ: وَهُوَ قَوْل: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَْعْلَى "، وَالْوَاجِبُ مِنْهُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ لِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ.
53 - قَوْل: " رَبِّ اغْفِرْ لِي " فِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: وَهُوَ وَاجِبٌ مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ؛ لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُول بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي (2) قَالُوا: وَإِنْ قَال: " رَبِّ اغْفِرْ لَنَا " أَوِ " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا " فَلاَ بَأْسَ.
__________
(1) حديث عقبة ابن عامر: لما نزلت (فسبح باسم ربك العظيم) . أخرجه أبو داود (1 / 542 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 225 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال الذهبي في أحد رواته: إياس ليس بالمعروف. وقال مرة أخري: ليس بالقوي. كما في التهذيب لابن حجر (1 / 389 - ط دائرة المعارف العثمانية) .
(2) حديث حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يقول: بين السجدتين. . . ". أخرجه أبو داود (1 / 544 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.(27/82)
54 - التَّشَهُّدُ الأَْوَّل: لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَدَاوَمَ عَلَى فِعْلِهِ وَأَمَرَ بِهِ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ حِينَ نَسِيَهُ. قَالُوا: وَهَذَا هُوَ الأَْصْل الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ، لِسُقُوطِهَا بِالسَّهْوِ وَانْجِبَارِهَا بِالسُّجُودِ، وَالْمُجْزِئُ مِنَ التَّشَهُّدِ الأَْوَّل (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، سَلاَمٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، سَلاَمٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، أَوْ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) فَمَنْ تَرَكَ حَرْفًا مِنْ ذَلِكَ عَمْدًا لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ، لِلاِتِّفَاقِ عَلَيْهِ فِي كُل الأَْحَادِيثِ.
55 - الْجُلُوسُ لِلتَّشَهُّدِ الأَْوَّل: وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى غَيْرِ مَنْ قَامَ إِمَامُهُ سَهْوًا وَلَمْ يُنَبَّهْ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ حِينَئِذٍ التَّشَهُّدُ الأَْوَّل، وَيُتَابِعُ إِمَامَهُ وُجُوبًا (1) .
أَنْوَاعُ السُّنَنِ فِي الصَّلاَةِ:
56 - قَسَّمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - سُنَنَ الصَّلاَةِ بِاعْتِبَارِ تَأَكُّدِهَا وَعَدَمِهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهَا إِلَى نَوْعَيْنِ:
فَقَسَّمَهَا الْحَنَفِيَّةُ إِلَى: سُنَنٍ وَآدَابٍ، وَالْمَقْصُودُ بِالسُّنَنِ: هِيَ السُّنَنُ الْمُؤَكَّدَةُ الَّتِي
__________
(1) كشاف القناع 1 / 347 وما بعدها، مطالب أولي النهى1 / 502.(27/83)
وَاظَبَ عَلَيْهَا الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَتَرْكُهَا يُوجِبُ الإِْسَاءَةَ، وَالإِْثْمَ إِذَا أَصَرَّ عَلَى التَّرْكِ.
وَالآْدَابُ: وَهِيَ السُّنَنُ غَيْرُ الْمُؤَكَّدَةِ، وَتَرْكُهَا لاَ يُوجِبُ إِسَاءَةً وَلاَ عِتَابًا لَكِنْ فِعْلُهَا أَفْضَل.
كَمَا قَسَّمَهَا الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: سُنَنٍ وَمَنْدُوبَاتٍ.
فَالسُّنَنُ: هِيَ السُّنَنُ الْمُؤَكَّدَةُ.
وَالْمَنْدُوبَاتُ: هِيَ السُّنَنُ غَيْرُ الْمُؤَكَّدَةِ وَيُسَمُّونَهَا - أَيْضًا - نَوَافِل وَفَضَائِل وَمُسْتَحَبَّاتٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَنْقَسِمُ إِلَى: أَبْعَاضٍ، وَهَيْئَاتٍ.
فَالأَْبْعَاضُ: هِيَ السُّنَنُ الْمَجْبُورَةُ بِسُجُودِ السَّهْوِ، سَوَاءٌ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَسُمِّيَتْ أَبْعَاضًا لِتَأَكُّدِ شَأْنِهَا بِالْجَبْرِ تَشْبِيهًا بِالْبَعْضِ حَقِيقَةً، وَالْهَيْئَاتُ: هِيَ السُّنَنُ الَّتِي لاَ تُجْبَرُ.
وَلَمْ يُقَسِّمْهَا الْحَنَابِلَةُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ وَإِنَّمَا قَسَّمُوهَا بِاعْتِبَارِ الْقَوْل وَالْفِعْل، فَهِيَ تَنْقَسِمُ عِنْدَهُمْ إِلَى: سُنَنِ أَقْوَالٍ، وَسُنَنِ أَفْعَالٍ وَهَيْئَاتٍ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 318، حاشية الدسوقي 1 / 242، 247، حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 225، مغني المحتاج 1 / 148، شرح روض الطالب 1 / 140، كشاف القناع 1 / 390، 385.(27/83)
سُنَنُ الصَّلاَةِ:
(أ) رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ:
57 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ: أَنَّ رَسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ (1) .
وَقَدْ نَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الرَّفْعِ.
58 - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِإِبْهَامَيْهِ شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ، وَبِرُءُوسِ الأَْصَابِعِ فُرُوعَ أُذُنَيْهِ، وَيَسْتَقْبِل بِبُطُونِ كَفَّيْهِ الْقِبْلَةَ، وَيَنْشُرَ أَصَابِعَهُ وَيَرْفَعَهُمَا، فَإِذَا اسْتَقَرَّتَا فِي مَوْضِعِ مُحَاذَاةِ الإِْبْهَامَيْنِ شَحْمَتَيِ الأُْذُنَيْنِ يُكَبِّرُ؛ فَالرَّفْعُ يَكُونُ قَبْل التَّكْبِيرِ.
وَهَذَا فِي الرَّجُل، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَرْفَعُ يَدَيْهَا حِذَاءَ الْمَنْكِبَيْنِ، قَالُوا: وَلاَ يُطَأْطِئُ الْمُصَلِّي رَأْسَهُ عِنْدَ التَّكْبِيرِ؛ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ.
وَلَوْ رَفَعَ الْمُصَلِّي يَدَيْهِ فَإِنَّهُ لاَ يَضُمُّ أَصَابِعَهُ كُل الضَّمِّ، وَلاَ يُفَرِّجُ كُل التَّفْرِيجِ بَل يَتْرُكُهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ بَيْنَ الضَّمِّ وَالتَّفْرِيجِ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ كَبَّرَ وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ حَتَّى فَرَغَ
__________
(1) حديث ابن عمر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 218 - ط السلفية) .(27/84)
مِنَ التَّكْبِيرِ لَمْ يَأْتِ بِهِ، وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ التَّكْبِيرِ رَفَعَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّفْعُ إِلَى الْمَوْضِعِ الْمَسْنُونِ رَفَعَهُمَا قَدْرَ مَا يُمْكِنُ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ رَفْعُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الأُْخْرَى رَفَعَهَا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرَّفْعُ إِلاَّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الْمَسْنُونِ رَفَعَهُمَا.
كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوِ اعْتَادَ الْمُصَلِّي تَرْكَ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ فَإِنَّهُ يَأْثَمُ، وَإِثْمُهُ لاَ لِنَفْسِ التَّرْكِ، بَل؛ لأَِنَّهُ اسْتِخْفَافٌ وَعَدَمُ مُبَالاَةٍ بِسُنَّةٍ وَاظَبَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةَ عُمُرِهِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الاِسْتِخْفَافُ بِمَعْنَى التَّهَاوُنِ وَعَدَمِ الْمُبَالاَةِ، لاَ بِمَعْنَى الاِسْتِهَانَةِ وَالاِحْتِقَارِ، وَإِلاَّ كَانَ كُفْرًا.
59 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الإِْحْرَامِ، فَيُكْرَهُ رَفْعُهُمَا قَبْل التَّكْبِيرِ أَوْ بَعْدَهُ، وَالرَّفْعُ يَكُونُ بِحَيْثُ تَكُونُ ظُهُورُ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَبُطُونُهُمَا إِلَى الأَْرْضِ وَبِحَيْثُ يَنْتَهِي رَفْعُهُمَا إِلَى حَذْوِ الْمَنْكِبَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيل: انْتِهَاؤُهَا إِلَى الصَّدْرِ، وَقِيل: يَرْفَعُهُمَا حَذْوَ الأُْذُنَيْنِ، وَهُمَا مُقَابِلاَنِ لِلْمَشْهُورِ.
وَتُسَمَّى صِفَةُ هَذَا الرَّفْعِ عِنْدَهُمْ صِفَةَ الرَّاهِبِ - وَهِيَ الْمَذْهَبُ - وَمُقَابِلُهُ صِفَتَانِ: صِفَةُ الرَّاغِبِ: وَهِيَ بِأَنْ يَجْعَل بُطُونَ يَدَيْهِ لِلسَّمَاءِ، وَصِفَةُ النَّابِذِ: وَهِيَ أَنْ يُحَاذِيَ بِكَفَّيْهِ مَنْكِبَيْهِ قَائِمَتَيْنِ وَرُءُوسَ أَصَابِعِهِمَا مِمَّا(27/84)
يَلِيَ السَّمَاءَ عَلَى صُورَةِ النَّابِذِ لِلشَّيْءِ.
وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ الْيَدَيْنِ تَكُونُ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ فِي الرَّفْعِ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ (1) .
وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهَا تَكُونُ حَذْوَ الصَّدْرِ مَا فِي حَدِيثِ وَائِل بْنِ حُجْرٍ قَال: رَأَيْتُ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى صُدُورِهِمْ فِي افْتِتَاحِ الصَّلاَةِ (2) وَالدَّلِيل عَلَى كَوْنِهَا حَذْوَ الأُْذُنَيْنِ حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى حَاذَى بِهِمَا أُذُنَيْهِ (3) وَهَذَا فِي رَفْعِ الرَّجُل، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَدُونَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا عِنْدَهُمْ، قَالُوا: وَيُسْتَحَبُّ كَشْفُهُمَا عِنْدَ الإِْحْرَامِ وَإِرْسَالُهُمَا بِوَقَارٍ فَلاَ يَدْفَعُ بِهِمَا أَمَامَهُ.
وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْفَضَائِل عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَلَيْسَ مِنَ السُّنَنِ.
60 - وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَكُونُ الرَّفْعُ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) حديث ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه. . . ". تقدم ف (56) .
(2) حديث وائل بن حجر: " رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعوا أيديهم إلي صدورهم ". أخرجه بمعناه أبو داود (1 / 466 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حتى حاذى بهما أذنيه ". أخرجه مسلم (1 / 292 - ط الحلبي) .(27/85)
-: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ (1) قَالُوا: وَمَعْنَى حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ: أَنْ تُحَاذِيَ أَطْرَافُ أَصَابِعِهِ أَعْلَى أُذُنَيْهِ، وَإِبْهَامَاهُ شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ، وَرَاحَتَاهُ مَنْكِبَيْهِ، وَقَال الأَْذْرَعِيُّ: بَل مَعْنَاهُ كَوْنُ رُءُوسِ أَصَابِعِهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الرَّفْعُ إِلاَّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الْمَشْرُوعِ أَوْ نَقْصٍ مِنْهُ أَتَى بِالْمُمْكِنِ مِنْهُمَا، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الإِْتْيَانُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فَالزِّيَادَةُ أَوْلَى؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِالْمَأْمُورِ وَزِيَادَةٍ.
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُ إِحْدَى يَدَيْهِ رَفَعَ الأُْخْرَى، وَأَقْطَعُ الْكَفَّيْنِ يَرْفَعُ سَاعِدَيْهِ، وَأَقْطَعُ الْمِرْفَقَيْنِ يَرْفَعُ عَضُدَيْهِ تَشْبِيهًا بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ، وَزَمَنُ الرَّفْعِ يَكُونُ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ فِي الأَْصَحِّ لِلاِتِّبَاعِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، سَوَاءٌ انْتَهَى التَّكْبِيرُ مَعَ الْحَطِّ أَوْ لاَ.
وَفِي وَجْهٍ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ قَبْل التَّكْبِيرِ وَيُكَبِّرُ مَعَ ابْتِدَاءِ الإِْرْسَال وَيُنْهِيهِ مَعَ انْتِهَائِهِ، وَقِيل: يَرْفَعُ غَيْرَ مُكَبِّرٍ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَدَاهُ مُرْتَفِعَتَانِ، فَإِذَا فَرَغَ أَرْسَلَهُمَا مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرٍ.
وَإِنْ تَرَكَ الرَّفْعَ حَتَّى شَرَعَ فِي التَّكْبِيرِ أَتَى بِهِ فِي أَثْنَائِهِ لاَ بَعْدَهُ لِزَوَال سَبَبِهِ.
61 - وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: يَرْفَعُ الْمُصَلِّي يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ بِرُءُوسِهِمَا، وَيَسْتَقْبِل بِبُطُونِهِمَا
__________
(1) حديث ابن عمر رضي الله عنهما: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه. . . ". تقدم ف (57) .(27/85)
الْقِبْلَةَ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُصَلِّي عُذْرٌ يَمْنَعُهُ مِنْ رَفْعِهِمَا، أَوْ رَفَعَ إِحْدَاهُمَا إِلَى حَذْوِ الْمَنْكِبَيْنِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ يُكَبِّرُ (1) وَتَكُونُ الْيَدَانِ حَال الرَّفْعِ مَمْدُودَتَيِ الأَْصَابِعِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَل فِي الصَّلاَةِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَدًّا (2) مَضْمُومَةً؛ لأَِنَّ الأَْصَابِعَ إِذَا ضُمَّتْ تَمْتَدُّ، وَيَكُونُ ابْتِدَاءُ الرَّفْعِ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ وَانْتِهَاؤُهُ مَعَ انْتِهَائِهِ؛ لِمَا رَوَى وَائِل بْنُ حُجْرٍ أَنَّهُ: رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ التَّكْبِيرِ (3) وَلأَِنَّ الرَّفْعَ لِلتَّكْبِيرِ فَكَانَ مَعَهُ، وَإِذَا عَجَزَ عَنْ رَفْعِ إِحْدَاهُمَا رَفَعَ الْيَدَ الأُْخْرَى. وَلِلْمُصَلِّي أَنْ يَرْفَعَهُمَا أَقَل مِنْ حَذْوِ الْمَنْكِبَيْنِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ لِعُذْرٍ يَمْنَعُهُ لِحَدِيثِ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (4) .
__________
(1) حديث ابن عمر: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا. . . ". تقدم تخريجه ف (57) .
(2) حديث أبي هريرة: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل في الصلاة يرفع يديه مدا ". أخرجه أبو داود (1 / 479 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي. 2 / 6 - ط. الحلبي) وحسنه.
(3) حديث وائل بن حجر: " أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع التكبير ". أخرجه أبو داود (1 / 465 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(4) حديث: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 13 / 251 - ط السلفية) ومسلم (2 / 975 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.(27/86)
وَيَسْقُطُ نَدْبُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ مَعَ فَرَاغِ التَّكْبِيرِ كُلِّهِ؛ لأَِنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ مَحَلُّهَا، وَإِنْ نَسِيَهُ فِي ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ ثُمَّ ذَكَرَهُ فِي أَثْنَائِهِ أَتَى بِهِ فِيمَا بَقِيَ لِبَقَاءِ مَحَل الاِسْتِحْبَابِ. وَالأَْفْضَل أَنْ تَكُونَ يَدَاهُ مَكْشُوفَتَيْنِ؛ لأَِنَّ كَشْفَهُمَا أَدَل عَلَى الْمَقْصُودِ، وَأَظْهَرُ فِي الْخُضُوعِ (1) .
(ب) الْقَبْضُ (وَضْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى) :
62 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ الْقَبْضَ، وَهُوَ: وَضْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: يُنْدَبُ الإِْرْسَال وَكَرَاهَةُ الْقَبْضِ فِي صَلاَةِ الْفَرْضِ. وَجَوَّزُوهُ فِي النَّفْل وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْسَال) ف 4 (3 94) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَبْضِ، وَمَكَانِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ.
كَيْفِيَّةُ الْقَبْضِ:
63 - فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَبْضِ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الرَّجُل يَأْخُذُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 319، الفتاوى الهندية 1 / 73، حاشية الدسوقي 1 / 247، الفواكه الدواني 1 / 205، حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 227، مغني المحتاج 1 / 152، كشاف القناع 1 / 333.(27/86)
بِيَدِهِ الْيُمْنَى رُسْغَ الْيُسْرَى بِحَيْثُ يُحَلِّقُ الْخِنْصَرُ وَالإِْبْهَامُ عَلَى الرُّسْغِ وَيَبْسُطُ الأَْصَابِعَ الثَّلاَثَ.
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: يُحَلِّقُ إِبْهَامَهُ وَخِنْصَرَهُ وَبِنَصْرِهِ وَيَضَعُ الْوُسْطَى وَالْمُسَبِّحَةَ عَلَى مِعْصَمِهِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَضَعُ الْكَفَّ عَلَى الْكَفِّ
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَقْبِضُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى كُوعِ الْيُسْرَى، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَقْبِضُ بِكَفِّهِ الْيُمْنَى عَلَى كُوعِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَبَعْضِ السَّاعِدِ، وَيَبْسُطُ أَصَابِعَهَا فِي عَرْضِ الْمَفْصِل أَوْ يَنْشُرُهَا صَوْبَ السَّاعِدِ؛ لِمَا رَوَى وَائِل بْنُ حُجْرٍ قَال: قُلْتُ لأََنْظُرَنَّ إِلَى صَلاَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يُصَلِّي فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَالسَّاعِدِ (2) .
مَكَانُ الْوَضْعِ:
64 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَكَانَ وَضْعِ الْيَدَيْنِ تَحْتَ السُّرَّةِ، فَيُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَضَعَهُمَا تَحْتَ سُرَّتِهِ، لِقَوْل عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع اليمنى على اليسرى ". أخرجه مسلم (1 / 103 - ط الحلبي) من حديث وائل ابن حجر.
(2) حديث وائل بن حجر: " قلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أخرجه أبو داود (1 / 456 - 466 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .(27/87)
-: مِنَ السُّنَّةِ وَضْعُ الْكَفِّ عَلَى الْكَفِّ تَحْتَ السُّرَّةِ (1) .
قَال الْحَنَابِلَةُ: وَمَعْنَى وَضْعِ كَفِّهِ الأَْيْمَنِ عَلَى كُوعِهِ الأَْيْسَرِ وَجَعْلُهَا تَحْتَ سُرَّتِهِ أَنَّ فَاعِل ذَلِكَ ذُو ذُلٍّ بَيْنَ يَدَيْ ذِي عِزٍّ، وَنَقَلُوا نَصَّ الإِْمَامِ أَحْمَدَ عَلَى كَرَاهَةِ جَعْل يَدَيْهِ عَلَى صَدْرِهِ. لَكِنِ الْحَنَفِيَّةُ خَصُّوا هَذَا بِالرَّجُل، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَضَعُ يَدَهَا عَلَى صَدْرِهَا عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ وَضْعُ الْيَدَيْنِ تَحْتَ الصَّدْرِ وَفَوْقَ السُّرَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْقَبْضِ فِي النَّفْل، لِحَدِيثِ وَائِل بْنِ حُجْرٍ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى صَدْرِهِ (2) قَالُوا: أَيْ آخِرُهُ فَتَكُونُ الْيَدُ تَحْتَهُ بِقَرِينَةِ رِوَايَةِ (تَحْتَ صَدْرِهِ) ، وَالْحِكْمَةُ فِي جَعْلِهِمَا تَحْتَ صَدْرِهِ: أَنْ يَكُونَ فَوْقَ أَشْرَفِ الأَْعْضَاءِ وَهُوَ الْقَلْبُ، فَإِنَّهُ تَحْتَ الصَّدْرِ.
قَال الإِْمَامُ: وَالْقَصْدُ مِنَ الْقَبْضِ الْمَذْكُورِ
__________
(1) قول علي: " من السنة وضع الكف على الكف تحت السرة ". أخرجه أبو داود (1 / 480 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال الزيلعي: في نصب الراية (1 / 314 - ط المجلس العلمي بالهند) : قال البيهقي في المعرفة: لا يثبت إسناده، تفرد به عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو متروك
(2) حديث وائل: " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ووضع يده اليمنى علي اليسرى على صدره ". أخرجه ابن خزيمة (1 / 243 - ط المكتب الإسلامي) وفي إسناده ضعف، ولكن له طرق أخر يتقوى بها.(27/87)
تَسْكِينُ الْجَوَارِحِ، فَإِنْ أَرْسَلَهُمَا وَلَمْ يَعْبَثْ بِهِمَا فَلاَ بَأْسَ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الأُْمِّ (1) .
(ج) دُعَاءُ الاِسْتِفْتَاحِ وَالتَّعَوُّذُ وَالْبَسْمَلَةُ:
65 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ دُعَاءَ الاِسْتِفْتَاحِ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ. لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلاَةَ قَال: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ (2) ، وَلِمَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ لِلصَّلاَةِ قَال: وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 320، 327، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 250، بلغة السالك 1 / 246 ط. عيسي الحلبي مغني المحتاج 1 / 181، شرح روض الطالب 1 / 145، والمجموعة 3 / 310 المكتبة السلفية المدينة المنورة كشاف القناع 1 / 333، 391.
(2) حديث عائشة: كان إذا استفتح الصلاة قال: (سبحانك اللهم وبحمدك) . أخرجه أبو داود (1 / 491 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ثم أشار إلي إعلاله. ولكن له طرق أخري يتقوى بها ذكرها ابن حجر في التلخيص الحبير (1 / 229 - ط. شركة الطباعة الفنية) .(27/88)
أَنْتَ. أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ. ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، وَاهْدِنِي لأَِحْسَنِ الأَْخْلاَقِ لاَ يَهْدِي لأَِحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ. وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ. لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ وَأَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ (1) . وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ صِيَغٌ كَثِيرَةٌ فِي دُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ غَيْرَ هَاتَيْنِ الصِّيغَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ دُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَفْتَتِحُونَ الصَّلاَةَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) وَحَدِيثِ: " الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ " وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِفْتَاحٌ (3) .
وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ عَلَى دُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ فِي مُصْطَلَحِ: اسْتِفْتَاحٌ (4 211) .
__________
(1) حديث علي ابن أبي طالب: أنه إذا قام للصلاة قال: " وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ". أخرجه مسلم (1 / 534 - 535 - ط الحلبي) .
(2) حديث أبي هريرة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يفتتحون الصلاة. . . ". أورده ابن عبد البر في كتابه الإنصاف (2 / 163 - ضمن مجموعة الرسائل المنيرية) وذكر تضعيف أحد رواته.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 328، حاشية الدسوقي 1 / 252، مغني المحتاج 1 / 155، كشاف القناع 1 / 344، المجموعة 3 / 315.(27/88)
أَمَّا التَّعَوُّذُ بَعْدَ دُعَاءِ الاِسْتِفْتَاحِ وَقَبْل الْقِرَاءَةِ فَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (1) } .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَتِهِ فِي الْفَرْضِ دُونَ النَّفْل (2) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: اسْتِعَاذَةٌ ف 18 وَمَا بَعْدَهَا (4 11) .
أَمَّا الْبَسْمَلَةُ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: بَسْمَلَةٌ ف 5 (8 86) .
(د) قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ:
66 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ الَّتِي يَحْصُل بِهَا أَصْل السُّنَّةِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى حُصُول السُّنَّةِ بِقِرَاءَةِ مَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ، وَلَوْ آيَةً - سَوَاءٌ كَانَتْ طَوِيلَةً أَمْ قَصِيرَةً كَ {مُدْهَامَّتَانِ} - كَمَا تَحْصُل السُّنَّةُ بِقِرَاءَةِ بَعْضِ آيَةٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهَا مَعْنًى تَامٌّ فِي كُل رَكْعَةٍ بِانْفِرَادِهَا، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً كَامِلَةً.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى حُصُول
__________
(1) سورة النحل / 98.
(2) ابن عابدين 1 / 328، الدسوقي 1 / 251، مغني المحتاج 1 / 156، كشاف القناع 1 / 335.(27/89)
السُّنَّةِ بِقِرَاءَةِ آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَاسْتَحَبَّ الإِْمَامُ أَحْمَدُ أَنْ تَكُونَ الآْيَةُ طَوِيلَةً: كَآيَةِ الدَّيْنِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ لِتُشْبِهَ بَعْضَ السُّوَرِ الْقِصَارِ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَالظَّاهِرُ عَدَمُ إِجْزَاءِ آيَةٍ لاَ تَسْتَقِل بِمَعْنًى أَوْ حُكْمٍ نَحْوَ {ثُمَّ نَظَرَ} ، أَوْ {مُدْهَامَّتَانِ} .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَالأَْوْلَى أَنْ تَكُونَ ثَلاَثَ آيَاتٍ لِتَكُونَ قَدْرَ أَقْصَرِ سُورَةٍ. وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ السُّورَةَ الْكَامِلَةَ أَفْضَل، وَأَنَّهُ لاَ تُجْزِئُهُ السُّورَةُ مَا لَوْ قَرَأَهَا قَبْل الْفَاتِحَةِ؛ لِعَدَمِ وُقُوعِهَا مَوْقِعَهَا، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ تَكْرَارُ الْفَاتِحَةِ عَنَ السُّورَةِ؛ لأَِنَّهُ خِلاَفُ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ؛ وَلأَِنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لاَ يُؤَدَّى بِهِ فَرْضٌ وَنَفْلٌ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ لاَ يُحْسِنُ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ وَأَعَادَهَا فَإِنَّهُ يُتَّجَهُ - كَمَا قَال الأَْذْرَعِيُّ - الإِْجْزَاءُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ بِطِوَال الْمُفَصَّل. لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} وَنَحْوِهَا، وَكَانَتْ صَلاَتُهُ بَعْدُ تَخْفِيفًا (1) .
وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الظُّهْرِ فَيُسَنُّ عِنْدَهُمْ
__________
(1) حديث جابر بن سمرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ " ق ". أخرجه مسلم (1 / 33 - ط الحلبي) .(27/89)