كَلاَمَ الْعُقَلاَءِ وَبَعْضُهُ كَلاَمَ الْمَجَانِينِ وَكَذَا سَائِرُ أُمُورِهِ (1) .
4 - الصَّرْعُ: عِلَّةٌ تَمْنَعُ الدِّمَاغَ مِنْ فِعْلِهِ مَنْعًا غَيْرَ تَامٍّ فَتَتَشَنَّجُ الأَْعْضَاءُ (2) .
5 - الإِْغْمَاءُ: الإِْغْمَاءُ مَصْدَرُ أُغْمِيَ عَلَى الرَّجُل، وَفِعْلُهُ مُلاَزِمٌ لِلْبِنَاءِ لِلْمَفْعُول، وَهُوَ مَرَضٌ يُزِيل الْقُوَى وَيَسْتُرُ الْعَقْل، وَقِيل: هُوَ فُتُورٌ عَارِضٌ لاَ بِمُخَدَّرٍ يُزِيل عَمَل الْقُوَى (3) .
6 - الْخَدَرُ: اسْتِرْخَاءٌ يَغْشَى بَعْضَ الأَْعْضَاءِ أَوِ الْجِسْمَ كُلَّهُ، وَخَدَّرَ الْعُضْوَ تَخْدِيرًا: جَعَلَهُ خَدِرًا، أَوْ حَقَنَهُ بِمُخَدِّرٍ لإِِزَالَةِ إِحْسَاسِهِ (4) .
7 - التَّرْقِيدُ: الْمُرَقِّدُ شَيْءٌ يُشْرَبُ يُنَوِّمُ مَنْ شَرِبَهُ وَيُرَقِّدُهُ وَتَذْهَبُ مَعَهُ الْحَوَاسُّ (5) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
8 - السُّكْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَعَدٍّ بِشُرْبِ مُحَرَّمٍ مَعْلُومٍ لِلشَّارِبِ كَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُسْكِرَاتِ، وَهَذَا حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 274، وابن عابدين 2 / 426.
(2) القاموس.
(3) المعجم الوسيط، والتعريفات للجرجاني.
(4) لسان العرب وتاج العروس.
(5) لسان العرب، والفروق للقرافي 1 / 217 الفرق الأربعون.(25/91)
عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (1) } وَلِحَدِيثِ: كُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُل خَمْرٍ حَرَامٌ (2) .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ السُّكْرُ بِغَيْرِ تَعَدٍّ كَأَنْ يَشْرَبَ شَرَابًا مُسْكِرًا يَظُنُّهُ غَيْرَ مُسْكِرٍ. وَهَذَا لاَ إِثْمَ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ (3) } وَكَذَا لَوْ شَرِبَهُ مُضْطَرًّا كَأَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَوْ لِدَفْعِ غُصَّةٍ وَلَمْ يَحْضُرْهُ غَيْرُهُ.
ضَابِطُ السُّكْرِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَابِطِ السُّكْرِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ - إِلَى أَنَّ ضَابِطَ السُّكْرِ هُوَ مَنِ اخْتَلَطَ كَلاَمُهُ وَكَانَ غَالِبُهُ هَذَيَانًا، فَقَدْ قَال الشَّافِعِيُّ فِي حَدِّهِ: إِنَّهُ الَّذِي اخْتَل كَلاَمُهُ الْمَنْظُومُ وَانْكَشَفَ سِرُّهُ الْمَكْتُومُ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ السَّكْرَانَ هُوَ الَّذِي لاَ يَعْرِفُ الأَْرْضَ مِنَ السَّمَاءِ، وَالرَّجُل مِنَ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ قَوْل الْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
انْظُرْ: أَشْرِبَة (ج 5 ص 23 - 24) .
__________
(1) سورة المائدة / 90.
(2) حديث: " كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ". أخرجه مسلم (3 / 1588 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر.
(3) سورة الأحزاب / 5.(25/92)
وُجُوبُ الْحَدِّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْكِرَاتِ:
10 - السُّكْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرَابِ الْخَمْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الأَْشْرِبَةِ الأُْخْرَى، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ شَارِبِ الْخَمْرِ عَنْ حُكْمِ شَارِبِ الْمُسْكِرَاتِ الأُْخْرَى مِنَ الأَْنْبِذَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.
أَوَّلاً - الْخَمْرُ:
11 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ حَرَامٌ وَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى شَارِبِهَا سَوَاءٌ أَكَانَ مَا شَرِبَهُ قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا وَسَوَاءٌ سَكِرَ مِنْهَا أَمْ لَمْ يَسْكَرْ (1) .
وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ جَمِيعًا عَلَى ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ
__________
(1) البدائع 7 / 39، ابن عابدين 4 / 37، 38، الهداية 2 / 110، المبسوط 24 / 2 - 3، حاشية الدسوقي 4 / 352، شرح منح الجليل 4 / 550، بداية المجتهد 2 / 477، مغني المحتاج 4 / 186، نهاية المحتاج 8 / 11 - 12، حاشية الجمل 5 / 157، المغني لابن قدامة 8 / 303، الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل لشرف الدين موسى الحجاوي 4 / 267، دار المعرفة ـ بيروت.(25/92)
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَل أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (1) } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ ثَبَتَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَبْلُغُ فِي مَجْمُوعِهَا حَدَّ التَّوَاتُرِ (2) . فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَرِّضُ بِالْخَمْرِ وَلَعَل اللَّهَ سَيُنَزِّل فِيهَا أَمْرًا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ. قَال: فَمَا لَبِثْنَا إِلاَّ يَسِيرًا حَتَّى قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ، فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الآْيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلاَ يَشْرَبْ وَلاَ يَبِعْ، قَال: فَاسْتَقْبَل النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْهَا فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ فَسَفَكُوهَا (3) .
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَال: كُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ (4) .
__________
(1) سورة المائدة / 90، 91.
(2) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للشوكاني 10 / 126 وما بعدها ـ مكتبة الكليات الأزهرية 1398 هـ - 1978 م.
(3) حديث: " يا أيها الناس إن الله يعرض بالخمر ". أخرجه مسلم (3 / 1578 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري.
(4) حديث: " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ". أخرجه مسلم (3 / 1578، 1588 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر.(25/93)
وَفِي رِوَايَةٍ: كُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُل خَمْرٍ حَرَامٌ.
وَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ (1) .
ثَانِيًا: الْمُسْكِرَاتُ الأُْخْرَى غَيْرُ الْخَمْرِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الشُّرْبِ مِنَ الأَْنْبِذَةِ الأُْخْرَى الْمُسْكِرَةِ - غَيْرِ الْخَمْرِ -
الْقَوْل الأَْوَّل:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْخَمْرِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْعِنَبِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الأَْنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ فِي تَحْرِيمِ الشُّرْبِ، فَيُسَمَّى جَمِيعُ ذَلِكَ خَمْرًا وَيَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ مِنْهَا سَوَاءٌ سَكِرَ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَسْكَرْ (2) .
وَقَدْ رُوِيَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَنَسٍ، وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَال
__________
(1) المبسوط 7 / 23، المغني لابن قدامة 8 / 303.
(2) شرح منح الجليل 4 / 549، بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2 / 477، مغني المحتاج 4 / 187، المجموع شرح المهذب 20 / 112، نهاية المحتاج 8 / 12، حاشية الجمل 5 / 158، المغني لابن قدامة 8 / 304، 305، منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات لابن النجار 2 / 475 - الناشر عالم الكتب، المحرر في الفقه لأبي البركات 2 / 162 - الناشر دار الكتاب العربي، الإقناع 4 / 266.(25/93)
عَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْقَاسِمُ، وَقَتَادَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَإِسْحَاقُ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُل خَمْرٍ حَرَامٌ (2) .
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِتْعِ فَقَال: كُل شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ (3) .
وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى قَال: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ شَرَابًا يُصْنَعُ بِأَرْضِنَا يُقَال لَهُ الْمِزْرُ، مِنَ الشَّعِيرِ، وَشَرَابٌ يُقَال لَهُ الْبِتْعُ مِنَ الْعَسَل، فَقَال: كُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ (4) .
الْقَوْل الثَّانِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى مَنْ شَرِبَ سِوَى الْخَمْرِ مِنَ الأَْشْرِبَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُسْكِرَةِ إِلاَّ إِذَا سَكِرَ مِنْ شُرْبِهَا، كَنَقِيعِ الزَّبِيبِ وَالْمَطْبُوخِ
__________
(1) المغني 8 / 305.
(2) حديث: " كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ". تقدم تخريجه.
(3) حديث: " كل شراب أسكر فهو حرام ". أخرجه مسلم (3 / 1586 - ط الحلبي) .
(4) حديث أبي موسى: قال: " بعثني النبي صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذ بن جبل إلى اليمن ". أخرجه مسلم (3 / 1586 - ط الحلبي) .(25/94)
أَدْنَى طَبْخَةٍ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَوِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْمُثَلَّثِ، وَالأَْشْرِبَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالدَّخَنِ وَالذُّرَةِ وَالْعَسَل وَالتِّينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ: " حُرِّمَتِ الْخَمْرَةُ بِعَيْنِهَا، قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كُل شَرَابٍ (2)
حُكْمُ تَنَاوُل الْبَنْجِ وَالأَْفْيُونِ وَالْحَشِيشَةِ:
13 - يَحْرُمُ تَنَاوُل الْبَنْجِ وَالأَْفْيُونِ وَالْحَشِيشَةِ، وَلاَ يُحَدُّ شَارِبُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بَل يُعَزَّرُ (3) .
وَقَال الْبَزْدَوِيُّ: يُحَدُّ بِالسُّكْرِ مِنَ الْبَنْجِ فِي زَمَانِنَا عَلَى الْمُفْتَى بِهِ.
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: يَجِبُ الْحَدُّ سَكِرَ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ، وَمَنِ اسْتَحَل السُّكْرَ مِنْهَا وَزَعَمَ أَنَّهُ حَلاَلٌ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ (4) .
__________
(1) البدائع 7 / 39، ابن عابدين 4 / 38، الهداية 2 / 111، المبسوط 24 / 9، فتح القدير 5 / 305.
(2) قول ابن عباس: حرمت الخمرة بعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب. أخرجه النسائي (8 / 321 - ط المكتبة التجارية) .
(3) ابن عابدين 5 / 294 - 295.
(4) الاختيارات 299 مجموعة فتاوى ابن تيمية 34 / 210 - 212.(25/94)
خَلْطُ الْخَمْرِ بِغَيْرِهَا
14 - إِنْ ثَرَدَ فِي الْخَمْرِ أَوِ اصْطَبَغَ بِهِ (أَيِ ائْتَدَمَ) أَوْ طَبَخَ بِهِ لَحْمًا فَأَكَل مِنْ مَرَقَتِهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ عَيْنَ الْخَمْرِ مَوْجُودَةٌ. وَكَذَلِكَ إِنْ لَتَّ بِهِ سَوِيقًا فَأَكَلَهُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَإِنْ عَجَنَ بِهِ دَقِيقًا ثُمَّ خَبَزَهُ فَأَكَلَهُ لَمْ يُحَدَّ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ؛ لأَِنَّ النَّارَ أَكَلَتْ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَثَرُهُ (1) .
وَإِنِ احْتَقَنَ بِالْخَمْرِ لَمْ يُحَدَّ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِشُرْبٍ وَلاَ أَكْلٍ وَلأَِنَّهُ لَمْ يَصِل إِلَى حَلْقِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَاوَى بِهِ جُرْحَهُ (2) وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ عَلَى مَنِ احْتَقَنَ بِهِ الْحَدَّ، لأَِنَّهُ أَوْصَلَهُ إِلَى جَوْفِهِ، وَالأَْوَّل أَوْلَى عِنْدَهُمْ كَمَا يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ، وَرَجَّحَ الْمُتَأَخِّرُونَ الثَّانِيَ (3) .
وَإِنِ اسْتَعَطَ بِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. نَصَّ عَلَى
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 188، المغني لابن قدامة 8 / 306، منتهى الإرادات 2 / 476، الإقناع 4 / 267، المحرر في الفقه ص 163.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 352، مغني المحتاج 4 / 188، المغني 8 / 306، المبسوط 24 / 35.
(3) المغني لابن قدامة 8 / 307، كشاف القناع 6 / 198، المحرر في الفقه ص 163.(25/95)
ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ؛ لأَِنَّهُ أَوْصَلَهُ إِلَى بَاطِنِهِ مِنْ حَلْقِهِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا اكْتَحَل بِهَا أَوِ اقْتَطَرَهَا فِي أُذُنِهِ أَوْ دَاوَى بِهَا جَائِفَةً أَوْ آمَّةً فَوَصَل إِلَى دِمَاغِهِ، لأَِنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ يَعْتَمِدُ شُرْبَ الْخَمْرِ، وَهُوَ بِهَذِهِ الأَْفْعَال لاَ يَصِيرُ شَارِبًا، وَلَيْسَ فِي طَبْعِهِ مَا يَدْعُوهُ إِلَى هَذِهِ الأَْفْعَال لِتَقَعَ الْحَاجَةُ إِلَى شَرْعِ الزَّجْرِ عَنْهُ (2) .
وَلَوْ خُلِطَتْ الْخَمْرُ بِالْمَاءِ، فَإِنْ كَانَتِ الْخَمْرُ غَالِبَةً حُدَّ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا لاَ يُحَدُّ إِلاَّ إِذَا سَكِرَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.
وَكَذَلِكَ يُحَدُّ إِذَا كَانَا سَوَاءً نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ؛ لأَِنَّ اسْمَ الْخَمْرِ بَاقٍ وَهِيَ عَادَةُ بَعْضِ الشَّرَبَةِ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَهَا مَمْزُوجَةً بِالْمَاءِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ خَلَطَ الْمُسْكِرَ بِمَاءٍ فَاسْتُهْلِكَ الْمُسْكِرُ فِيهِ فَشَرِبَهُ لَمْ يُحَدَّ.
وَقَالُوا: إِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لِعَطَشٍ وَكَانَتْ مَمْزُوجَةً بِمَا يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ أُبِيحَتْ لِدَفْعِ الْعَطَشِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَإِنْ شَرِبَهَا مَمْزُوجَةً
__________
(1) المغني 8 / 307، الإقناع 4 / 267.
(2) المبسوط 24 / 35.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 38، البدائع 7 / 40.(25/95)
بِشَيْءٍ يَسِيرٍ لاَ يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ لَمْ تُبَحْ لِعَدَمِ حُصُول الْمَقْصُودِ بِهَا وَعَلَيْهِ الْحَدُّ (1) .
وَلَوْ عَجَنَ دَوَاءً بِخَمْرٍ أَوْ لَتَّهُ أَوْ جَعَلَهَا أَحَدَ أَخْلاَطِ الدَّوَاءِ ثُمَّ شَرِبَهَا وَالدَّوَاءُ هُوَ الْغَالِبُ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْخَمْرُ هِيَ الْغَالِبَةَ فَإِنَّهُ يُحَدُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
لأَِنَّ الْمَغْلُوبَ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِالْغَالِبِ إِذَا كَانَ مِنْ خِلاَفِ جِنْسِهِ وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ (2) .
قَدْرُ حَدِّ السُّكْرِ وَحَدِّ الشُّرْبِ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُطْلَقًا؛ أَيْ سَوَاءٌ سَكِرَ مِنْهَا أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَا شَرِبَهُ مِنْهَا قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدْرِ الْحَدِّ الْوَاجِبِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، (3) وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ
__________
(1) كشاف القناع 6 / 117 - 118.
(2) المبسوط 24 / 35.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 41، البدائع 7 / 57، المبسوط 24 / 30، فتح القدير 5 / 310، حاشية الدسوقي 4 / 353، شرح منح الجليل 4 / 55، بداية المجتهد 2 / 477، المغني لابن قدامة 8 / 307، منتهى الإرادات 2 / 476، المحرر في الفقه ص 163، الإقناع 4 / 267.(25/96)
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ ثَمَانُونَ جَلْدَةً لاَ فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ فَقَال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: اجْعَلْهُ كَأَخَفِّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ، فَضَرَبَ عُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكَتَبَ بِهِ إِلَى خَالِدٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بِالشَّامِ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا قَال فِي الْمَشُورَةِ: إِنَّهُ إِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانِينَ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي:
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو ثَوْرٍ (2) إِلَى أَنَّ قَدْرَ الْحَدِّ أَرْبَعُونَ فَقَطْ، وَلَوْ رَأَى الإِْمَامُ بُلُوغَهُ ثَمَانِينَ جَازَ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى الأَْرْبَعِينَ تَكُونُ تَعْزِيرَاتٍ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ أَرْبَعِينَ ثُمَّ قَال: جَلَدَ النَّبِيُّ
__________
(1) أثر علي: إذا سكر هذي. . . أخرجه الدارقطني (3 / 157 - ط دار المحاسن) ، وأشار ابن حجر إلى الشك في ثبوته عن علي، كذا في التلخيص الحبير (4 / 75 - 76 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) مغني المحتاج 4 / 189، نهاية المحتاج 8 / 14، حاشية الجمل 5 / 160، المغني 8 / 307، المحرر في الفقه ص 163، بداية المجتهد 2 / 477.(25/96)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ (1) .
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَال: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَال، ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ وَدَنَا النَّاسُ مِنَ الرِّيفِ وَالْقُرَى قَال: مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ الْخَمْرِ؟ فَقَال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا كَأَخَفِّ الْحُدُودِ. قَال: فَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ (2) .
قَالُوا: وَفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةٌ لاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ بِفِعْل غَيْرِهِ وَلاَ يَنْعَقِدُ الإِْجْمَاعُ عَلَى مَا خَالَفَ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَتُحْمَل الزِّيَادَةُ مِنْ عُمَرَ عَلَى أَنَّهَا تَعْزِيرٌ يَجُوزُ فِعْلُهَا إِذَا رَأَى الإِْمَامُ ذَلِكَ.
شُرْبُ الْمُسْكِرِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ:
16 - إِذَا شَرِبَ إِنْسَانٌ مُسْكِرًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ يُحَدُّ لِلشُّرْبِ وَيُعَزَّرُ بِعِشْرِينَ سَوْطًا لإِِفْطَارِهِ فِي
__________
(1) حديث: أن عليا جلد الوليد بن عقبة. أخرجه مسلم (3 / 1332 - ط الحلبي) .
(2) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال. أخرجه مسلم (3 / 1331 - ط الحلبي) .(25/97)
شَهْرِ رَمَضَانَ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَذَلِكَ لأَِنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ مُلْزِمٌ لِلْحَدِّ، وَهَتْكُ حُرْمَةِ الشَّهْرِ وَالصَّوْمِ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ وَلَكِنَّ الْحَدَّ أَقْوَى مِنَ التَّعْزِيرِ فَيُبْتَدَأُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ثُمَّ لاَ يُوَالَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّعْزِيرِ لِكَيْ لاَ يُؤَدِّيَ إِلَى الإِْتْلاَفِ.
وَالأَْصْل فِيهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ أَنَّهُ أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ الْحَارِثِيِّ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَحَدَّهُ ثُمَّ حَبَسَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ أَخْرَجَهُ فَضَرَبَهُ عِشْرِينَ سَوْطًا وَقَال: هَذَا لِجَرَاءَتِكَ عَلَى اللَّهِ وَإِفْطَارِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ (2) .
شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَدِّ:
يُشْتَرَطُ لإِِيجَابِ الْحَدِّ مَا يَلِي:
17 - أَوَّلاً: التَّكْلِيفُ وَهُوَ هُنَا الْعَقْل وَالْبُلُوغُ، فَلاَ حَدَّ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ بِاتِّفَاقٍ (3) ؛ لأَِنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً، وَفِعْل الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لاَ يُوصَفُ بِالْجِنَايَةِ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِمَا لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ مِنْهُمَا.
__________
(1) المبسوط 24 / 32 - 33، منتهى الإرادات 2 / 478.
(2) المبسوط 24 / 33.
(3) البدائع 7 / 39، ابن عابدين 4 / 37، حاشية الدسوقي 4 / 352، شرح منح الجليل 4 / 549، مغني المحتاج 4 / 187، نهاية المحتاج 8 / 12، منتهى الإرادات 2 / 476، الإقناع 4 / 267.(25/97)
وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ يُؤَدَّبُ لِلزَّجْرِ.
18 - ثَانِيًا: الإِْسْلاَمُ (1) : فَلاَ حَدَّ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ بِالشُّرْبِ وَلاَ بِالسُّكْرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: وَشُرْبُ الْخَمْرِ مُبَاحٌ لأَِهْل الذِّمَّةِ عِنْدَ أَكْثَرِ مَشَايِخِنَا فَلاَ يَكُونُ جِنَايَةً، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لَكِنَّنَا نُهِينَا عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ، وَفِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ تَعَرُّضٌ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لأَِنَّنَا نَمْنَعُهُمْ مِنَ الشُّرْبِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُمْ إِذَا شَرِبُوا وَسَكِرُوا يُحَدُّونَ لأَِجْل السُّكْرِ لاَ لأَِجْل الشُّرْبِ لأَِنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ فِي الأَْدْيَانِ كُلِّهَا. قَال الْكَاسَانِيُّ: وَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ حَسَنٌ (3) .
وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: " إِنْ سَكِرَ الذِّمِّيُّ مِنَ الْحَرَامِ حُدَّ فِي الأَْصَحِّ لِحُرْمَةِ السُّكْرِ فِي كُل مِلَّةٍ " وَجَاءَ بِهَا أَيْضًا قَوْلُهُ: حُدَّ فِي الأَْصَحِّ أَفْتَى بِهِ الْحَسَنُ وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ
__________
(1) البدائع 7 / 39، ابن عابدين 4 / 37، حاشية الدسوقي 4 / 352، شرح منح الجليل 4 / 549، مغني المحتاج 4 / 187، نهاية المحتاج 8 / 12، منتهى الإرادات 2 / 476، المحرر في الفقه ص 163، الإقناع 4 / 267.
(2) البدائع 7 / 39، المبسوط 24 / 31.
(3) البدائع 7 / 40.(25/98)
الْمَشَايِخِ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ مِنْهُ أَنَّهُ لاَ يُحَدُّ كَمَا فِي النَّهْرِ عَنْ فَتَاوَى قَارِئِ الْهِدَايَةِ (1)
وَقَال الْمَجْدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ: وَلاَ يُحَدُّ الذِّمِّيُّ بِشُرْبِهِ وَإِنْ سَكِرَ، وَعَنْهُ: يُحَدُّ، وَعِنْدِي: إِنْ سَكِرَ حُدَّ وَإِلاَّ فَلاَ (2) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ يُؤَدَّبُ بِالشُّرْبِ إِنْ أَظْهَرَهُ (3) .
19 - ثَالِثًا: عَدَمُ الضَّرُورَةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، بِأَنْ يَشْرَبَهَا مُخْتَارًا لِشُرْبِهَا، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (4) . فَلاَ حَدَّ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهَا وَذَلِكَ لِقَوْل الرَّسُول: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (5) وَلأَِنَّ الْحَدَّ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 37.
(2) المحرر ص 163.
(3) الدسوقي 4 / 352، منح الجليل 4 / 549.
(4) البدائع 7 / 39، ابن عابدين 4 / 37، المبسوط 24 / 32، الهداية 2 / 111، حاشية الدسوقي 4 / 352، شرح منح الجليل 3 / 549، مغني المحتاج 4 / 187، نهاية المحتاج 8 / 12، حاشية الجمل 5 / 159، المغني 8 / 307، منتهى الإرادات 2 / 476، المحرر في الفقه ص 163، الإقناع 4 / 267.
(5) حديث: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان. ورد بلفظ، " إن الله وضع عن أمتي ". . الحديث، أخرجه ابن ماجه (1 / 659 - ط الحلبي) والحاكم (2 / 198 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(25/98)
عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً وَالشُّرْبُ بِالإِْكْرَاهِ حَلاَلٌ فَلَمْ يَكُنْ جِنَايَةً فَلاَ حَدَّ وَلاَ إِثْمَ (1) .
وَسَوَاءٌ أُكْرِهَ بِالْوَعِيدِ وَالضَّرْبِ أَوْ أُلْجِئَ إِلَى شُرْبِهَا بِأَنْ يُفْتَحَ فُوهُ وَتُصَبُّ فِيهِ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ (2) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الإِْكْرَاهَ يَكُونُ بِالتَّهْدِيدِ بِالْقَتْل أَوْ بِالضَّرْبِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ أَوْ بِإِتْلاَفِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ بِالضَّرْبِ الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ؛ أَيْ بِقَيْدٍ أَوْ سَجْنٍ شَدِيدَيْنِ عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ لِسَحْنُونٍ (3) .
وَكَذَلِكَ لاَ حَدَّ عَلَى مَنِ اضْطُرَّ إِلَيْهَا لِدَفْعِ غُصَّةٍ بِهَا إِذَا لَمْ يَجِدْ مَائِعًا سِوَاهَا، وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (4) .
وَلأَِنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً وَالشُّرْبُ لِضَرُورَةِ الْغُصَّةِ حَلاَلٌ فَلَمْ يَكُنْ جِنَايَةً. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (5) .
__________
(1) البدائع 17 / 39، المغني 8 / 307.
(2) المغني لابن قدامة 8 / 307، الإقناع 4 / 267.
(3) حاشية الدسوقي، 4 / 353، شرح منح الجليل، 4 / 552.
(4) سورة البقرة / 173.
(5) البدائع 7 / 39، حاشية الدسوقي 4 / 354، وجاء فيها خلافا لابن عرفة في عدم الجواز، شرح منح الجليل 4 / 552، مغني المحتاج 4 / 188، نهاية المحتاج 8 / 13، المغني 8 / 307، منتهى الإرادات 2 / 476، المحرر ص 162، الإقناع 4 / 266.(25/99)
وَإِنْ شَرِبَهَا لِعَطَشٍ فَالْحَنَابِلَةُ (1) يَقُولُونَ: إِنْ كَانَتْ مَمْزُوجَةً بِمَا يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ أُبِيحَتْ لِدَفْعِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا تُبَاحُ الْمَيْتَةُ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ وَكَإِبَاحَتِهَا لِدَفْعِ الْغُصَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ أَنَّهُ أَسَرَهُ الرُّومُ، فَحَبَسَهُ طَاغِيَتُهُمْ فِي بَيْتٍ فِيهِ مَاءٌ مَمْزُوجٌ بِخَمْرٍ، وَلَحْمُ خِنْزِيرٍ مَشْوِيٌّ لِيَأْكُلَهُ وَيَشْرَبَ الْخَمْرَ، وَتَرَكَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَلَمْ يَفْعَل، ثُمَّ أَخْرَجُوهُ حِينَ خَشُوا مَوْتَهُ فَقَال: وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَحَلَّهُ لِي فَإِنِّي مُضْطَرٌّ وَلَكِنْ لَمْ أَكُنْ لأُِشْمِتَكُمْ بِدِينِ الإِْسْلاَمِ (2) .
وَإِنْ شَرِبَهَا صِرْفًا أَوْ مَمْزُوجَةً بِشَيْءٍ يَسِيرٍ لاَ يَرْوِي مِنَ الْعَطَشِ لَمْ يُبَحْ لَهُ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) يَحِل شُرْبُهَا لِلْعَطَشِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (4) وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، الأَْصَحُّ تَحْرِيمُهَا لِعَطَشٍ
__________
(1) المغني 8 / 307، منتهى الإرادات 2 / 475، المحرر في الفقه ص 162.
(2) قصة عبد الله بن حذافة أوردها ابن حجر في الإصابة (2 / 296 - 297 - ط السعادة) وعزاها إلى البيهقي.
(3) المبسوط 24 / 28.
(4) سورة الأنعام / 119.(25/99)
وَجُوعٍ وَلَكِنْ لاَ يُحَدُّ وَقَالُوا: إِنْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلاَكِ مِنْ عَطَشٍ جَازَ لَهُ شُرْبُهَا (1) .
شُرْبُ الْمُسْكِرِ لِلتَّدَاوِي:
20 - إِنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ لِلتَّدَاوِي (لَمْ يُبَحْ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) . وَيُحَدُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ إِبَاحَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ لِلتَّدَاوِي بِحَدِيثِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ مِنْ أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ أَنَّهُ سَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا فَقَال: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ، فَقَال: إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ (3) .
وَلأَِنَّ الْمُسْكِرَ مُحَرَّمٌ لِعَيْنِهِ فَلَمْ يُبَحْ لِلتَّدَاوِي كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِلَى جَوَازِ التَّدَاوِي بِالْقَدْرِ الَّذِي لاَ يُسْكِرُ كَبَقِيَّةِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 188، نهاية المحتاج 8 / 14، حاشية الجمل 5 / 158.
(2) المبسوط جـ24 ص9، حاشية الدسوقي 4 / 353 - 354، شرح منح الجليل 4 / 552، المغني 8 / 308 مغني المحتاج 20 / 188، نهاية المحتاج 8 / 14، حاشية الجمل 5 / 158.
(3) حديث وائل الحضرمي: " إنه ليس بدواء ". أخرجه مسلم (3 / 1573 - ط الحلبي) .(25/100)
النَّجَاسَاتِ وَهَذَا فِي غَيْرِ حَال الضَّرُورَةِ، أَمَّا فِي حَال الضَّرُورَةِ بِأَنْ لَمْ يَجِدْ دَوَاءً آخَرَ فَفِي جَوَازِهِ خِلاَفٌ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (تَدَاوِي) .
21 - رَابِعًا: مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَدِّ أَيْضًا بَقَاءُ اسْمِ الْخَمْرِ لِلْمَشْرُوبِ وَقْتَ الشُّرْبِ.
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) . لأَِنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالشُّرْبِ تَعَلَّقَ بِهِ حَتَّى لَوْ خُلِطَ الْخَمْرُ بِالْمَاءِ ثُمَّ شَرِبَ نُظِرَ فِيهِ: إِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْمَاءِ لاَ حَدَّ عَلَيْهِ - لأَِنَّ اسْمَ الْخَمْرِ يَزُول عِنْدَ غَلَبَةِ الْمَاءِ، وَإِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْخَمْرِ أَوْ كَانَا سَوَاءً يُحَدُّ؛ لأَِنَّ اسْمَ الْخَمْرِ بَاقٍ وَهِيَ عَادَةُ بَعْضِ الشَّرَبَةِ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَهَا مَمْزُوجَةً بِالْمَاءِ.
وَيُحَدُّ مَنْ شَرِبَ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ (2) عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لأَِنَّهُ خَمْرٌ بِلاَ شَكٍّ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ شُرْبُهُ وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ؛ لأَِنَّ الدُّرْدِيَّ مِنْ كُل شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ صَافِيهِ، وَالاِنْتِفَاعُ بِالْخَمْرِ حَرَامٌ فَكَذَلِكَ بِدُرْدِيِّهِ، وَهَذَا لأَِنَّ فِي الدُّرْدِيِّ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ وَلَوْ وَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ فِي مَاءٍ لَمْ يَجُزْ شُرْبُهُ وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ، فَالدُّرْدِيُّ أَوْلَى (3) .
__________
(1) البدائع 7 / 40.
(2) الدردى ما في أسفل وعاء الخمر من عكر لأنه منه.
(3) الموسوعة جـ5 ص 17 أشربة.(25/100)
22 - خَامِسًا: وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا الْعِلْمُ بِأَنَّ كَثِيرَهَا يُسْكِرُ، فَالْحَدُّ إِنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ شَرِبَهَا عَالِمًا بِأَنَّ كَثِيرَهَا يُسْكِرُ، فَأَمَّا غَيْرُهُ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْل عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ إِلاَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ مَا شَرِبَهُ مُسْكِرًا (1) .
وَذَلِكَ لأَِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهَا وَلاَ قَاصِدٍ إِلَى ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ بِهَا فَأَشْبَهَ مَنْ زُفَّتْ إِلَيْهِ غَيْرُ زَوْجَتِهِ، وَلاَ حَدَّ عَلَى مَنْ شَرِبَهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهَا أَيْضًا - لأَِنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالاَ: لاَ حَدَّ إِلاَّ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ - وَلأَِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِالتَّحْرِيمِ أَشْبَهَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا خَمْرٌ، وَإِذَا ادَّعَى الْجَهْل بِتَحْرِيمِهَا نُظِرَ.
فَإِنْ كَانَ نَاشِئًا بِبَلَدِ الإِْسْلاَمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ تُقْبَل دَعْوَاهُ لأَِنَّ هَذَا لاَ يَكَادُ يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُهُ فَلاَ تُقْبَل دَعْوَاهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالإِْسْلاَمِ أَوْ نَاشِئًا بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْبُلْدَانِ قُبِل مِنْهُ، لأَِنَّهُ يَحْتَمِل مَا قَالَهُ.
__________
(1) الهداية 2 / 111، المبسوط 24 / 32، حاشية الدسوقي 4 / 352، شرح منح الجليل 4 / 550، مغني المحتاج 4 / 187، نهاية المحتاج 8 / 13، حاشية الجمل 5 / 159، المغني 8 / 308، منتهى الإرادات 2 / 476، المحرر في الفقه ص 163، الإقناع 4 / 267.(25/101)
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
23 - سَادِسًا: اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ النُّطْقَ فَلاَ يُحَدُّ الأَْخْرَسُ لِلشُّبْهَةِ (2) لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ نَاطِقًا يَحْتَمِل أَنْ يُخْبِرَ بِمَا لاَ يُحَدُّ بِهِ كَإِكْرَاهٍ أَوْ غَصٍّ بِلُقْمَةٍ.
وَلاَ تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ وَلاَ الْحُرِّيَّةُ فَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى كُلٍّ مِنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى وَالرَّقِيقِ إِلاَّ أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ يَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ (3) .
وُجُودُ رَائِحَةِ الْخَمْرِ:
24 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ تُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ: الْقَوْل الأَْوَّل:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الرَّاجِحَةِ (4) إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى مَنْ تُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ. وَذَلِكَ لأَِنَّ وُجُودَ
__________
(1) المبسوط 24 / 32، حاشية الدسوقي 4 / 352، مغني المحتاج 4 / 188، حاشية الجمل 5 / 159، المغني 8 / 308، 309، منتهى الإرادات 2 / 476.
(2) ابن عابدين 4 / 37.
(3) البدائع 7 / 40، شرح منح الجليل 4 / 549.
(4) البدائع 7 / 40، حاشية ابن عابدين 4 / 40، الهداية شرح بداية المبتدي 2 / 111، المبسوط 4 / 31، فتح القدير 5 / 308، مغني المحتاج 4 / 190، نهاية المحتاج 8 / 16، المغني لابن قدامة 8 / 309، منتهى الإرادات 2 / 476، الإقناع 4 / 267 وجاء فيه " ويعزر من وجد منه رائحتها " المحرر في الفقه ص 163.(25/101)
رَائِحَةِ الْخَمْرِ لاَ يَدُل عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ لِجَوَازِ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ بِهَا وَلَمْ يَشْرَبْهَا، أَوْ شَرِبَهَا عَنْ إِكْرَاهٍ أَوْ غُصَّةٍ خَافَ مِنْهَا الْهَلاَكَ.
الْقَوْل الثَّانِي:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ (1) . إِلَى أَنَّهُ يُحَدُّ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ جَلَدَ رَجُلاً وَجَدَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ (2)
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَال: إِنِّي وَجَدْتُ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ رِيحَ الشَّرَابِ فَأَقَرَّ أَنَّهُ شَرِبَ الطِّلاَ، فَقَال عُمَرُ: إِنِّي سَائِلٌ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ (3) .
وَلأَِنَّ الرَّائِحَةَ تَدُل عَلَى شُرْبِهِ فَجَرَى مَجْرَى الإِْقْرَارِ (4) .
تَقَيُّؤُ الْخَمْرِ:
25 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِتَقَيُّؤِ الْخَمْرِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ:
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 353، شرح منح الجليل 2 / 552، بداية المجتهد 2 / 479، المغني 8 / 309 المحرر في الفقه ص 163.
(2) أثر ابن مسعود في جلده رجلا وجد منه رائحة الخمر. أخرجه البخاري (الفتح 9 / 47 - ط السلفية) ومسلم (1 / 551 - 552 - ط الحلبي) .
(3) أثر عمر: إن وجدت من عبيد الله ريح الشراب. . . أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9 / 288 - ط المجلس العلمي) .
(4) المغني 8 / 309.(25/102)
الْقَوْل الأَْوَّل: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ (1) . إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى مَنْ تَقَيَّأَ الْخَمْرَ؛ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا تُسْكِرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
الْقَوْل الثَّانِي:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ (2) إِلَى أَنَّهُ يُحَدُّ بِذَلِكَ، لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ شُرْبِهَا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِشُرْبِهَا.
وَلِقَوْل الشَّعْبِيِّ لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ قُدَامَةَ مَا كَانَ جَاءَ عَلْقَمَةُ الْخَصِيُّ فَقَال: أَشْهَدُ أَنِّي رَأَيْتُهُ يَتَقَيَّؤُهَا، فَقَال عُمَرُ: مَنْ قَاءَهَا فَقَدْ شَرِبَهَا، فَضَرَبَهُ الْحَدَّ (3) .
وَلِخَبَرِ عُثْمَانَ حِينَ أُتِيَ بِالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ وَرَجُلٌ آخَرُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ رَآهُ شَرِبَهَا وَشَهِدَ الآْخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّؤُهَا فَقَال عُثْمَانُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى شَرِبَهَا، فَقَال:
__________
(1) البدائع 7 / 40، ابن عابدين 4 / 40، الهداية 2 / 111، المبسوط 24 / 31، فتح القدير 5 / 308، مغني المحتاج 4 / 190، نهاية المحتاج 8 / 16، المغني 8 / 309.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 353، المغني 8 / 309، الإقناع 4 / 268، منتهى الإرادات 2 / 476.
(3) أثر عمر: من قاءها فقد شربها. عزاه ابن قدامة إلى سعيد بن منصور في سننه، كذا في المغني (8 / 310 - ط الرياض) .(25/102)
يَا عَلِيُّ قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَأَمَرَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ فَضَرَبَهُ، (1) وَهَذَا بِمَحْضَرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَسَادَتِهِمْ وَلَمْ يُنْكَرْ فَكَانَ إِجْمَاعًا.
وَلأَِنَّهُ يَكْفِي فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَرِبَهَا، وَلاَ يَتَقَيَّؤُهَا أَوْ لاَ يَسْكَرُ مِنْهَا حَتَّى يَشْرَبَهَا (2)
إِثْبَاتُ الْحَدِّ:
لاَ يَجِبُ الْحَدُّ حَتَّى يَثْبُتَ الشُّرْبُ أَوِ السُّكْرُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ: الإِْقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ.
الْبَيِّنَةُ:
26 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشُّرْبَ - وَكَذَلِكَ السُّكْرُ - يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ - أَيْ شَهَادَةِ الشُّهُودِ - وَهِيَ شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ (3) وَيُشْتَرَطُ فِيهِمَا مَا يَلِي:
(1) أَنْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ.
(2) الذُّكُورَةُ، فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ النِّسَاءِ (4) .
__________
(1) أثر عثمان حين جلد الوليد بن عقبة. أخرجه مسلم (3 / 1331 - 1332 - ط الحلبي) .
(2) المغني 8 / 310.
(3) البدائع 7 / 46، وابن عابدين 4 / 40، الهداية 2 / 111، فتح القدير 5 / 312، حاشية الدسوقي 4 / 353، شرح منح الجليل 4 / 551، بداية المجتهد 2 / 479، مغني المحتاج 4 / 190، نهاية المحتاج 8 / 16، حاشية الجمل 5 / 161، المغني 8 / 310، منتهى الإرادات 2 / 476، المحرر في الفقه ص 163، الإقناع 4 / 267.
(4)) البدائع 7 / 46، ابن عابدين 4 / 40، الهداية 2 / 111، فتح القدير 5 / 312، مغني المحتاج 4 / 190، الإقناع 4 / 267.(25/103)
(3) الأَْصَالَةُ فَلاَ تُقْبَل الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَلاَ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا؛ لِتَمَكُّنِ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ فِيهَا وَالْحُدُودُ لاَ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ (1) .
(4) عَدَمُ التَّقَادُمِ (انْظُرْ شَهَادَة) (وَحُدُود) (وَتَقَادُم) ف 13
(5) وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَسْأَل الإِْمَامُ الشَّاهِدَيْنِ عَنْ مَاهِيَّةِ الْخَمْرِ وَكَيْفَ شَرِبَ؛ لاِحْتِمَال الإِْكْرَاهِ، وَمَتَى شَرِبَ لاِحْتِمَال التَّقَادُمِ، وَأَيْنَ شَرِبَ لاِحْتِمَال شُرْبِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ حَبَسَهُ حَتَّى يَسْأَل عَنْ عَدَالَتِهِمْ وَلاَ يَقْضِي بِظَاهِرِهَا (2) .
(6) قِيَامُ الرَّائِحَةِ وَقْتَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ (3) .
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ عَدْلاَنِ بِشُرْبِهِ الْخَمْرَ، وَخَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا مِنَ الْعُدُول بِأَنْ قَالاَ: لَيْسَ رَائِحَتُهُ رَائِحَةَ خَمْرٍ بَل خَلٍّ
__________
(1) البدائع 7 / 46.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 40.
(3) البدائع 7 / 47، ابن عابدين 4 / 40.(25/103)
مَثَلاً، فَلاَ تُعْتَبَرُ الْمُخَالَفَةُ وَيُحَدُّ؛ لأَِنَّ الْمُثْبِتَ يُقَدَّمُ عَلَى النَّافِي (1) .
الإِْقْرَارُ:
27 - يَثْبُتُ الشُّرْبُ أَيْضًا بِإِقْرَارِ الشَّارِبِ نَفْسِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَانْظُرْ (حُدُود) ، إِثْبَاتٌ (2) .
شُرُوطُ إقَامَةِ الْحَدِّ:
28 - يُشْتَرَطُ لإِِقَامَةِ حَدِّ الشُّرْبِ وَالسُّكْرِ شُرُوطٌ، مِنْهَا:
(1) الإِْمَامَةُ. اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الَّذِي يُقِيمُ الْحَدَّ هُوَ الإِْمَامُ أَوْ مَنْ وَلاَّهُ الإِْمَامُ (3) انْظُرْ (حُدُود) .
(2) أَهْلِيَّةُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِلشُّهُودِ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ (4) انْظُرْ (حُدُود)
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 353، شرح منح الجليل 4 / 552.
(2) البدائع 7 / 49، ابن عابدين 4 / 41، الهداية 2 / 111، فتح القدير 5 / 312، حاشية الدسوقي 4 / 353، شرح منح الجليل 4 / 551، بداية المجتهد 2 / 479، مغني المحتاج 4 / 190، حاشية الجمل 5 / 161، نهاية المحتاج 8 / 16، المغني 8 / 301، منتهى الإرادات،2 / 476، المحرر في الفقه ص 163، الإقناع 4 / 267.
(3) البدائع 7 / 57، بداية المجتهد 2 / 478، المحرر في الفقه ص 164.
(4) البدائع 7 / 59.(25/104)
(3) أَنْ لاَ يَكُونَ فِي تَنْفِيذِ حَدِّ الشُّرْبِ خَوْفُ الْهَلاَكِ لأَِنَّ هَذَا الْحَدَّ شُرِعَ زَاجِرًا لاَ مُهْلِكًا (1) انْظُرْ مُصْطَلَحَ جَلْد وَحُدُود وَزِنًى وَقَذْف.
كَيْفِيَّةُ الضَّرْبِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ:
29 - لِلضَّرْبِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ كَيْفِيَّةٌ خَاصَّةٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (جَلْد وَحُدُود)
سُقُوطُ الْحَدِّ بَعْدَ وُجُوبِهِ:
30 - يَسْقُطُ حَدُّ الشُّرْبِ بَعْدَ وُجُوبِهِ بِأُمُورٍ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حُدُود) (وَسُقُوط) .
سَكْرَان
انْظُرْ: سُكْر
__________
(1) البدائع 7 / 59، ابن عابدين 4 / 40، الهداية 2 / 111، نهاية المحتاج 8 / 17.(25/104)
سِكَّة
التَّعْرِيفُ:
1 - تُطْلَقُ السِّكَّةُ (بِالْكَسْرِ) لُغَةً عَلَى الزُّقَاقِ أَوِ الطَّرِيقِ الْمُصْطَفَّةِ مِنَ النَّخِيل، كَمَا تُطْلَقُ عَلَى حَدِيدَةٍ مَنْقُوشَةٍ تُطْبَعُ بِهَا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ.
وَتُطْلَقُ كَذَلِكَ عَلَى سِكَّةِ الْمِحْرَاثِ وَهِيَ الْحَدِيدَةُ الَّتِي تُحْرَثُ بِهَا الأَْرْضُ (1) .
وَاصْطِلاَحًا: اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ السِّكَّةَ بِمَعْنَى الْحَدِيدَةِ الْمَنْقُوشَةِ الَّتِي تُطْبَعُ بِهَا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَاسْتَعْمَلُوهَا أَيْضًا بِمَعْنَى الْمَسْكُوكِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَاسْتَعْمَلُوهَا كَذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ الْمُسْتَوِي وَفِي الزُّقَاقِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - مَا يَتَعَلَّقُ بِالسِّكَّةِ بِمَعْنَى الْمَسْكُوكِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ قَدْ تَقَدَّمَ بَحْثُ أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحَاتِ (دَرَاهِم وَدَنَانِير وَذَهَب) .
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة (سكك) .(25/105)
وَيُرَاجَعُ كَذَلِكَ مُصْطَلَحَاتُ (فُلُوس) (وَنُقُود) .
3 - وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالسِّكَّةِ بِمَعْنَى الزُّقَاقِ أَوِ الطَّرِيقِ فَقَدْ بَحَثَهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَبَاحِثِ الْجِوَارِ وَالشُّفْعَةِ وَالْقِسْمَةِ، وَيَأْتِي تَفْصِيلاً فِي مُصْطَلَحِ " طَرِيق ".
4 - أَمَّا السِّكَّةُ بِمَعْنَى الْحَدِيدَةِ الَّتِي تُطْبَعُ بِهَا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لإِِمَامِ الْمُسْلِمِينَ وِلاَيَةَ ضَرْبِ الْفُلُوسِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِلنَّاسِ فِي دَارِ الضَّرْبِ وَأَنْ تَكُونَ بِقِيمَةِ الْعَدْل فِي مُعَامَلاَتِهِمْ تَسْهِيلاً عَلَيْهِمْ وَتَيْسِيرًا لِمَعَاشِهِمْ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَضْرِبَ الْمَغْشُوشَ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (1) كَمَا لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الإِْمَامِ أَنْ يَضْرِبَ لأَِنَّهُ مِنَ الاِفْتِيَاتِ عَلَيْهِ وَلأَِنَّهُ مَظِنَّةٌ لِلْغِشِّ وَالإِْفْسَادِ بِتَغَيُّرِ قِيَمِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَمَقَادِيرِهَا.
وَلاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَتَّجِرَ فِي الْفُلُوسِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ نُحَاسًا فَيَضْرِبَهُ فَيَتَّجِرَ فِيهِ، وَيُحَرِّمَ عَلَى النَّاسِ الْفُلُوسَ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ وَيَضْرِبَ لَهُمْ غَيْرَهَا لأَِنَّهُ إِضْرَارٌ بِالنَّاسِ وَخُسْرَانٌ عَلَيْهِمْ، بَل
__________
(1) حديث: " من غشنا فليس منا ". أخرجه مسلم (1 / 99 ط. عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.(25/105)
يَضْرِبُ النُّحَاسَ فُلُوسًا بِقِيمَتِهَا مِنْ غَيْرِ رِبْحٍ فِيهَا لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَيُعْطِي أُجْرَةَ الصُّنَّاعِ مِنْ بَيْتِ الْمَال، فَإِنَّ التِّجَارَةَ فِيهَا مِنْ قَبِيل أَكْل أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل؛ لأَِنَّهُ إِنْ حَرَّمَ الْمُعَامَلَةَ بِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ صَارَتْ عَرَضًا وَسِلْعَةً وَإِذَا ضَرَبَ لَهُمْ فُلُوسًا أُخْرَى أَفْسَدَ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الأَْمْوَال بِنَقْصِ أَسْعَارِهَا فَيَظْلِمُهُمْ بِمَا ضَرَبَهُ بِإِغْلاَءِ سِعْرِهَا.
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ كَسْرِ سِكَّةِ الْمُسْلِمِينَ النَّافِقَةِ فِي مُعَامَلاَتِهِمْ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ زَائِفَةً أَوْ دَخَلَهَا الْغِشُّ. يَدُل عَلَيْهِ حَدِيثُ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُكْسَرَ سِكَّةُ الْمُسْلِمِينَ الْجَائِزَةُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ مِنْ بَأْسٍ (1) .
وَعِلَّةُ النَّهْيِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرِضُونَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَيَأْخُذُونَ أَطْرَافَهَا فَيُخْرِجُونَهَا عَنِ السِّعْرِ الَّذِي يَأْخُذُونَهَا بِهِ وَيَجْمَعُونَ مِنْ تِلْكَ الْقِرَاضَةِ شَيْئًا كَثِيرًا بِالسَّبْكِ فَيَكُونُ كَسْرُهَا بَخْسًا وَتَطْفِيفًا.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ عَنْ كَسْرِ السِّكَّةِ أَنْ لاَ تُعَادَ تِبْرًا وَلِتَبْقَى عَلَى
__________
(1) حديث: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس ". أخرجه أبو داود (3 / 730 ط. عزت عبيد دعاس) وإسناده ضعيف (جامع الأصول 11 / 792 ط - الملاح) .(25/106)
حَالِهَا مُرْصَدَةً لِلنَّفَقَةِ. وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَل فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأََنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (1) .
فَقَدْ كَانَ قَوْمُ شُعَيْبٍ يَكْسِرُونَ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ. يَقُول ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ الآْيَةِ: " وَكَسْرُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ ذَنْبٌ عَظِيمٌ لأَِنَّهَا الْوَاسِطَةُ فِي تَقْدِيرِ قِيَمِ الأَْشْيَاءِ وَالسَّبِيل إِلَى مَعْرِفَةِ كَمْيَّةِ الأَْمْوَال وَتَنْزِيلِهَا فِي الْمُعَاوَضَاتِ (2) ".
__________
(1) سورة هود / 78.
(2) كشاف القناع 2 / 232 - 233، المجموع 6 / 10، 11، الأحكام السلطانية (الماوردي) ص 155 - 156، عون المعبود 9 / 318، وأحكام القرآن (ابن العربي) 3 / 23 ط - الدار العلمية بيروت.(25/106)
السُّكْنَى
التَّعْرِيفُ:
1 - السُّكْنَى اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ السَّكَنِ، وَهُوَ الْقَرَارُ فِي الْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِذَلِكَ، وَالْمَسْكَنُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا، الْمَنْزِل أَوِ الْبَيْتُ، وَالْجَمْعُ مَسَاكِنُ. وَالسُّكُونُ ضِدُّ الْحَرَكَةِ، يُقَال: سَكَنَ بِمَعْنَى هَدَأَ وَسَكَتَ (1) .
وَاصْطِلاَحًا هِيَ الْمُكْثُ فِي مَكَانٍ عَلَى سَبِيل الاِسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ (2) .
طَبِيعَةُ حَقِّ السُّكْنَى:
2 - مِنَ الْمُسَلَّمِ بِهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ السُّكْنَى
__________
(1) القاموس، والمصباح، ولسان العرب.
(2) المبسوط لشمس الأئمة السرخسي 8 / 160 طبع مطبعة دار المعرفة للطباعة والنشر بدائع الصنائع للكاساني 4 / 1728 طبع مطبعة الإمام بمصر، مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب 3 / 303 وما بعدها، حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب 4 / 296 طبع المطبعة الأميرية ببولاق مصر، كشاف القناع على متن الإقناع 4 ص 2154.(25/107)
مَنْفَعَةٌ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ عَرَضِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِالْعَيْنِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا، وَأَنَّ السُّكْنَى لَهَا وُجُودٌ وَإِنْ كَانَ لاَ يَسْتَمِرُّ زَمَنًا طَوِيلاً.
وَعَلَى ذَلِكَ فَحَقُّ السُّكْنَى - لِكَوْنِهِ حَقَّ مَنْفَعَةٍ - أَعَمُّ وَأَشْمَل مِنْ حَقِّ الاِنْتِفَاعِ، وَأَنَّ الْمِلْكَ فِي حَقِّ السُّكْنَى يَنْشَأُ عَنْ عَقْدٍ مُمَلِّكٍ، كَالْوَقْفِ وَالإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ، فَهُوَ حَقٌّ يُمَكِّنُ صَاحِبَهُ مِنْ مُبَاشَرَتِهِ وَالاِنْتِفَاعِ، بِنَفْسِهِ أَوْ تَمْكِينِ غَيْرِهِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِعِوَضٍ. بِخِلاَفِ حَقِّ الاِنْتِفَاعِ، فَإِنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ عَقْدٍ، كَهِبَةِ الدَّارِ لِلسُّكْنَى، أَوْ إِذْنٍ وَإِبَاحَةٍ فَقَطْ مِنَ الْمَالِكِ، فَلاَ يَصِحُّ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُمَكِّنَ أَحَدًا غَيْرَهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهِ.
حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ فِي السُّكْنَى:
3 - يَتَمَثَّل حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي السُّكْنَى فِي كُل مَا لاَ يَكُونُ لِلْعَبْدِ إِسْقَاطُهُ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
(1) حَقُّ السُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا، لاَ يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ، فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ إِسْكَانُهَا فِي مَكَانٍ تَقْضِي فِيهِ عِدَّتَهَا، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي وَجَبَتِ الْعِدَّةُ فِيهِ.
وَفِي الْمُطَلَّقَاتِ الْبَائِنَاتِ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ يَكُونُ حَقُّ السُّكْنَى حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ بَعْضِ(25/107)
الْفُقَهَاءِ، أَوْ حَقًّا لِلْعَبْدِ عِنْدَ فَرِيقٍ آخَرَ مِنْهُمْ، لَكِنِ الْجَمِيعُ يَتَّفِقُونَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْكَنِ الَّذِي أَلْزَمَتْ نَفْسَهَا بِالْقَرَارِ فِيهِ.
(2) وَفِي الْمُخْتَلِعَاتِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّ السُّكْنَى، فَيَرَى الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ الْمُخَالِعُ الْبَرَاءَةَ مِنَ السُّكْنَى لَمْ يَجُزِ الشَّرْطُ؛ إِذِ السُّكْنَى فِي بَيْتِ الزَّوْجِ فِي الْعِدَّةِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ إِسْقَاطُهُ، لاَ بِعِوَضٍ وَلاَ غَيْرِهِ
وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ وَقَالُوا بِجَوَازِ أَنْ يُخَالِعَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ الْحَامِل عَلَى سُكْنَاهَا وَنَفَقَتِهَا، وَيَبْرَأَ مِنْهَا (1) .
وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فِي السُّكْنَى فَيَتَمَثَّل فِي كُل تَصَرُّفٍ يَكُونُ الْقَصْدُ مِنْهُ مَصْلَحَةَ الْعَبْدِ، كَهِبَةِ السُّكْنَى أَوْ بَيْعِهَا أَوْ إجَارَتِهَا، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَرَيَانُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مُتَّفِقًا مَعَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُنَظِّمَةِ لَهَا؛ لأَِنَّ تَنْظِيمَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين 3 / 611، جامع الفصولين لابن قاضي شحاده 1 / 200، 201 شرح الخرشي على مختصر خليل 3 / 155، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 6 / 398، وإعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية 4 / 37.(25/108)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسُّكْنَى:
أَوَّلاً: السُّكْنَى كَحَقٍّ عَلَى الْغَيْرِ:
سُكْنَى الزَّوْجَةِ:
4 - السُّكْنَى لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَاجِبَةٌ، وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ السُّكْنَى عَلَى زَوْجِهَا. قَال تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (1) فَوُجُوبُ السُّكْنَى لِلَّتِي هِيَ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ أَوْلَى. وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْمُعَاشَرَةَ بَيْنَ الأَْزْوَاجِ بِالْمَعْرُوفِ، قَال تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) وَمِنَ الْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَنْ يُسْكِنَهَا فِي مَسْكَنٍ تَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا، كَمَا أَنَّ الزَّوْجَةَ لاَ تَسْتَغْنِي عَنِ الْمَسْكَنِ؛ لِلاِسْتِتَارِ عَنِ الْعُيُونِ وَالاِسْتِمْتَاعِ وَحِفْظِ الْمَتَاعِ. فَلِذَلِكَ كَانَتِ السُّكْنَى حَقًّا لَهَا عَلَى زَوْجِهَا، وَهُوَ حَقٌّ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ أَهْل الْعِلْمِ (3) .
الْجَمْعُ بَيْنَ زَوْجَتَيْنِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي دَارٍ لِكُل وَاحِدَةٍ بَيْتٌ فِيهِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ
__________
(1) سورة الطلاق / 6.
(2) سورة النساء / 19.
(3) بدائع الصنائع 4 / 15، المجموع شرح المهذب ص 256، تحفة المحتاج 7 / 443. مع حاشية الشرواني، والشرح الكبير للدردير 2 / 509، الفروع لابن مفلح 5 / 577.(25/108)
امْرَأَتَيْنِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْخُصُومَةِ الَّتِي نَهَى الشَّارِعُ عَنْهَا، وَمَنْعُ الْجَمْعِ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ حَقٌّ خَالِصٌ لَهُمَا فَيَسْقُطُ بِرِضَاهُمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَقَّ لاَ يَسْقُطُ وَلَوْ رَضِيَتِ الزَّوْجَةُ بِهِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي دَارٍ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنَ الزَّوْجَتَيْنِ بَيْتٌ فِيهَا فَذَهَبَ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْقَوْل الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَاشْتَرَطَ الْجُمْهُورُ لِصِحَّةِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لِكُل بَيْتٍ مَرَافِقُهُ الْخَاصَّةُ بِهِ، وَغَلْقٌ يُغْلَقُ بِهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ (وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي مَذْهَبِهِمْ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الدَّارِ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا. فَإِنْ أَبَيْنَ مِنْهُ أَوْ كَرِهَتْهُ إِحْدَاهُمَا فَلاَ يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
الْجَمْعُ بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَأَقَارِبِ الزَّوْجِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ:
6 - الْمُرَادُ بِأَقَارِبِ الزَّوْجِ هُنَا الْوَالِدَانِ وَوَلَدُ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجَةِ.
__________
(1) مجمع الأنهر 1 / 493 فتح القدير 4 / 207، نهاية المحتاج 7 / 186، كشاف القناع 5 / 196، الفروع 5 / 324، مواهب الجليل 4 / 13، الشرح الكبير 2 / 316.(25/109)
فَالْجَمْعُ بَيْنَ الأَْبَوَيْنِ وَالزَّوْجَةِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ لاَ يَجُوزُ (وَكَذَا غَيْرُهُمَا مِنَ الأَْقَارِبِ) وَلِذَلِكَ يَكُونُ لِلزَّوْجَةِ الاِمْتِنَاعُ عَنِ السُّكْنَى مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لأَِنَّ الاِنْفِرَادَ بِمَسْكَنٍ تَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا حَقُّهَا، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ جَبْرُهَا عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَةِ الشَّرِيفَةِ وَالْوَضِيعَةِ، وَقَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّوْجَةِ الشَّرِيفَةِ وَالْوَالِدَيْنِ، وَبِجَوَازِ ذَلِكَ مَعَ الزَّوْجَةِ الْوَضِيعَةِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْوَضِيعَةِ وَالْوَالِدَيْنِ ضَرَرٌ عَلَيْهَا.
وَإِذَا اشْتَرَطَ الزَّوْجُ عَلَى زَوْجَتِهِ السُّكْنَى مَعَ الأَْبَوَيْنِ فَسَكَنَتْ، ثُمَّ طَلَبَتْ الاِنْفِرَادَ بِمَسْكَنٍ، فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا أَثْبَتَتِ الضَّرَرَ مِنَ السَّكَنِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ عَاجِزًا لاَ يَلْزَمُهُ إِجَابَةُ طَلَبِهَا، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا يَلْزَمُهُ. وَقِيل: لاَ يَلْزَمُهُ غَيْرُ مَا شَرَطَتْهُ عَلَيْهِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 2213، بستان العارفين للإمام النووي ص 34، كشاف القناع 3 / 53، الشرح الكبير 2 / 474.(25/109)
وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَوَلَدِ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِهَا فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ، فَلاَ يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إِذَا كَانَ وَلَدُ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِهَا كَبِيرًا يَفْهَمُ الْجِمَاعَ؛ لأَِنَّ السُّكْنَى مَعَهُ فِيهَا إِضْرَارٌ بِالزَّوْجَةِ، وَهَذَا حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ فَيَسْقُطُ بِرِضَاهَا.
وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا لاَ يَفْهَمُ الْجِمَاعَ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ إِسْكَانَهُ مَعَهَا جَائِزٌ، وَلَيْسَ لَهَا الْحَقُّ فِي الاِمْتِنَاعِ مِنَ السُّكْنَى مَعَهُ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الزَّوْجَةَ لاَ يَجُوزُ لَهَا الاِمْتِنَاعُ مِنَ السُّكْنَى مَعَ وَلَدِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِهَا إِذَا كَانَتْ تَعْلَمُ بِهِ حَال الْبِنَاءِ. فَإِنْ كَانَتْ لاَ تَعْلَمُ بِهِ عِنْدَ الْبِنَاءِ بِهَا وَكَانَ لَهُ حَاضِنَةٌ، فَلِلزَّوْجَةِ الْحَقُّ فِي الاِمْتِنَاعِ مِنَ السُّكْنَى مَعَهُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِهَا حَاضِنَةٌ غَيْرُ أَبِيهِ فَلَيْسَ لَهَا الاِمْتِنَاعُ عَنِ السُّكْنَى مَعَهُ (1) .
خُلُوُّ الْمَسْكَنِ مِنْ أَهْل الزَّوْجَةِ:
7 - الْمُرَادُ بِالأَْهْل هُنَا الأَْبَوَانِ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ مَحَارِمِهَا وَوَلَدِهَا مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ. فَإِذَا أَرَادَتِ الزَّوْجَةُ أَنْ تُسْكِنَ أَحَدًا مِنَ الأَْهْل غَيْرِ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ. وَلِلزَّوْجِ
__________
(1) البحر الرائق 4 / 210، فتح القدير 3 / 335، العقود الدرية 1 / 71، الشرح الصغير 1 / 581، حاشية الدسوقي 2 / 474.(25/110)
مَنْعُ الزَّوْجَةِ مِنْ إِسْكَانِهَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا مَعَهَا؛ لأَِنَّ الْمَنْزِل إِمَّا مِلْكُهُ أَوْ لَهُ حَقُّ الاِنْتِفَاعِ بِهِ، وَحَقُّ الزَّوْجِ فِي زَوْجَتِهِ مِنْ إِسْكَانِ أَقَارِبِهَا مَعَهَا يَسْقُطُ بِرِضَاهُ، فَإِذَا رَضِيَ الزَّوْجُ بِسُكْنَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا مَعَهَا فَلاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ.
يَقُول الزَّيْلَعِيُّ: " وَهَذَا لأَِنَّهُمَا يَتَضَرَّرَانِ بِالسُّكْنَى مَعَ النَّاسِ، فَإِنَّهُمَا لاَ يَأْمَنَانِ عَلَى مَتَاعِهِمَا، وَيَمْنَعُهُمَا ذَلِكَ مِنْ كَمَال الاِسْتِمْتَاعِ وَالْمُعَاشَرَةِ، إِلاَّ أَنْ يَخْتَارَا ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، فَلَهُمَا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَيْهِ ".
وَإِذَا كَانَ الْمَسْكَنُ مِلْكًا لَهُمَا فَلاَ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ مَنْعُ أَهْلِهَا مِنَ السُّكْنَى مَعَهَا إِذَا أَرَادَتْ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَتْ تُرِيدُ إِسْكَانَ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهَا إِسْكَانُهُ إِلاَّ بِرِضَا الزَّوْجِ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ فَلاَ يَجُوزُ لَهَا إِسْكَانُهُ مَعَهُمَا. وَلَمْ يُفَرِّقِ الْجُمْهُورُ بَيْنَ عِلْمِ الزَّوْجِ بِوُجُودِ وَلَدٍ لَهَا وَقْتَ الْبِنَاءِ وَعَدَمِ عِلْمِهِ، أَوْ بَيْنَ وُجُودِ حَاضِنَةٍ لِلْوَلَدِ أَمْ لاَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ إِسْكَانِ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِهِ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِهِ وَقْتَ الْبِنَاءِ، أَوْ كَانَ لاَ يَعْلَمُ بِهِ وَلاَ(25/110)
حَاضِنَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ يَعْلَمُ بِهِ وَلَهُ حَاضِنٌ فَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُسْكِنَهُ مَعَهَا عِنْدَهُمْ (1) .
زِيَارَةُ الأَْبَوَيْنِ أَوِ الْمَحَارِمِ لِلزَّوْجَةِ فِي مَسْكَنِهَا:
8 - يَجُوزُ لأَِبَوَيِ الزَّوْجَةِ وَوَلَدِهَا الْكَبِيرِ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ زِيَارَتُهَا فِي مَسْكَنِهَا الَّذِي يُسْكِنُهَا فِيهِ الزَّوْجُ فِي كُل جُمُعَةٍ مَرَّةً. وَأَمَّا وَلَدُهَا الصَّغِيرُ فَلَهُ حَقُّ الدُّخُول فِي كُل يَوْمٍ لِتَتَفَقَّدَ حَالَهُ، وَأَمَّا غَيْرُ الأَْبَوَيْنِ مِنَ الْمَحَارِمِ فَلَهُمْ حَقُّ زِيَارَتِهَا فِي كُل شَهْرٍ مَرَّةً. وَقِيل: فِي كُل عَامٍ مَرَّةً، وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: لِلزَّوْجِ مَنْعُ أَقَارِبِ الْمَرْأَةِ مِنَ الدُّخُول عَلَيْهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ أَبَوَيْهَا مِنْ زِيَارَتِهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، لَكِنْ إِنْ عَرَفَ بِقَرَائِنِ الْحَال حُدُوثَ ضَرَرٍ بِزِيَارَتِهِمَا، أَوْ زِيَارَةِ أَحَدِهِمَا فَلَهُ الْمَنْعُ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (زِيَارَة) .
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 58، البحر الرائق 4 / 210، نهاية المحتاج 7 / 597، كشاف القناع 3 / 117، البهجة شرح التحفة 1 / 412.
(2) قال الدسوقي في حاشيته معلقا على هذا التعبير: وهذا إذا كان الزوج يتضرر من دخولهم لها فإن كان لا يتضرر فليس لها منعهم من الدخول لها 2 / 473، الشرح الكبير مع الدسوقي عليه 2 / 473 البحر الرائق 2 / 412، والفتاوى الهندية 1 / 557، فتاوى خانية 1 / 429 مع الفتاوى الهندية، مغني المحتاج 3 / 432، كشاف القناع 2 / 117، ورد المحتار 3 / 664، شرح منتهى الإرادات 3 / 99.(25/111)
الْمَسْكَنُ الشَّرْعِيُّ لِلزَّوْجَةِ:
9 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْمَسْكَنِ الشَّرْعِيِّ لِلزَّوْجَةِ هُوَ سَعَةُ الزَّوْجِ وَحَال الزَّوْجَةِ، قِيَاسًا عَلَى النَّفَقَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَقٌّ مُتَرَتِّبٌ عَلَى عَقْدِ الزَّوَاجِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي النَّفَقَةِ هُوَ حَال الزَّوْجَيْنِ فَكَذَلِكَ السُّكْنَى وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَفَقَة) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - غَيْرَ الشِّيرَازِيِّ - إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْمَسْكَنِ الشَّرْعِيِّ هُوَ حَال الزَّوْجَةِ فَقَطْ. عَلَى خِلاَفِ قَوْلِهِمْ فِي النَّفَقَةِ؛ لأَِنَّ الزَّوْجَةَ مُلْزَمَةٌ بِمُلاَزَمَةِ الْمَسْكَنِ، فَلاَ يُمْكِنُهَا إِبْدَالُهُ، فَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرْ حَالُهَا فَذَلِكَ إِضْرَارٌ بِهَا، وَالضَّرَرُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا. أَمَّا النَّفَقَةُ فَيُمْكِنُهَا إِبْدَالُهَا.
وَذَهَبَ الشِّيرَازِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي تَقْدِيرِ الْمَسْكَنِ هُوَ سَعَةُ الزَّوْجِ فَقَطْ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (1) وقَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ
__________
(1) سورة الطلاق / 6.(25/111)
رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (1) وَهَاتَانِ الآْيَتَانِ فِي الْمُطَلَّقَةِ، فَالزَّوْجَةُ أَوْلَى.
قَال: إِنَّ النَّفَقَةَ يُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ، وَالْوَاجِبُ يَكُونُ بِقَدْرِ حَال الْمُنْفِقِ يُسْرًا وَعُسْرًا وَتَوَسُّطًا، كَمَا جَاءَ فِي الآْيَةِ، كَذَلِكَ السُّكْنَى تَكُونُ عَلَى قَدْرِ يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ وَتَوَسُّطِهِ (2) .
اخْتِيَارُ مَكَانِ السُّكْنَى:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ السُّكْنَى بِزَوْجَتِهِ حَيْثُ شَاءَ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَنُصُّونَ عَلَى أَنْ تَكُونَ السُّكْنَى بَيْنَ جِيرَانٍ.
وَقَال الْفُقَهَاءُ: وَإِذَا اشْتَكَتِ الزَّوْجَةُ مِنْ إِضْرَارِ الزَّوْجِ بِهَا يُسْكِنُهَا الْحَاكِمُ بَيْنَ قَوْمٍ صَالِحِينَ؛ لِيَعْلَمُوا صِحَّةَ دَعْوَاهَا (3) .
سُكْنَى الْمُؤْنِسَةِ:
11 - الْمُؤْنِسَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هِيَ الَّتِي تُؤْنِسُ
__________
(1) سورة الطلاق / 7.
(2) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 8 / 229، شرح منهج الطلاب 2 / 102 مع البجيرمي عليه، ومغني المحتاج 3 / 432.
(3) البحر الرائق 4 / 211، التاج والإكليل 4 / 16 مع مواهب الجليل، تحفة المحتاج بشرح المنهاج 7 / 456 مع حواشي الشرواني وابن قاسم العبادي عليها، كشاف القناع 3 / 125، شرح منتهى الإرادات للبهوتي 3 / 183.(25/112)
الزَّوْجَةَ إِذَا خَرَجَ الزَّوْجُ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا أَحَدٌ. وَالْمُؤْنِسَةُ وَاجِبَةٌ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا عِنْدَمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ، كَخَوْفِ مَكَانِهَا أَوْ خَوْفِهَا عَلَى نَفْسِهَا مِنْ عَدُوٍّ يَتَرَبَّصُ بِهَا.
هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ (1) . وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ إِلْزَامَ الزَّوْجَةِ بِالإِْقَامَةِ بِمَكَانٍ لاَ تَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهَا، وَلاَ يُوجَدُ مَعَهَا فِيهِ مُؤْنِسٌ مِنَ الْمُضَارَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (2) كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورُ بِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3) .
وَحَمَل صَاحِبُ هَذَا الْقَوْل مِنَ الْحَنَفِيَّةِ قَوْل مَنْ قَال بِعَدَمِ اللُّزُومِ عَلَى مَا إِذَا أَسْكَنَهَا بَيْنَ جِيرَانٍ صَالِحِينَ، وَعَلَى عَدَمِ الاِسْتِيحَاشِ.
قَال الشُّرُنْبُلاَلِيُّ: قَال فِي النَّهْرِ: لَمْ نَجِدْ مِنْ كَلاَمِهِمْ ذِكْرَ الْمُؤْنِسَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْكِنُهَا بَيْنَ قَوْمٍ صَالِحِينَ بِحَيْثُ لاَ تَسْتَوْحِشُ. وَهَذَا ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوبِهَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْبَيْتُ خَالِيًا مِنَ الْجِيرَانِ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ تَخْشَى عَلَى عَقْلِهَا مِنْ سَعَتِهِ.
__________
(1) البحر الرائق 4 / 211، رد المحتار على الدر المختار 2 / 914، كشاف القناع 3 / 300.
(2) سورة الطلاق / 6.
(3) سورة النساء / 19.(25/112)
وَالْمُقَرَّرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبِهِ قَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّ الْمُؤْنِسَةَ لَيْسَتْ بِلاَزِمَةٍ عَلَى الزَّوْجِ (1) .
سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ:
12 - الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ تُعْتَبَرُ زَوْجَةً؛ لأَِنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ، فَكَانَ الْحَال بَعْدَ الطَّلاَقِ كَالْحَال قَبْلَهُ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْل الْعِلْمِ جَمِيعًا عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى فِيهَا (2) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (3) .
سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ:
13 - إِنْ كَانَتِ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ حَامِلاً فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ السُّكْنَى لَهَا. وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ هُنَاكَ إِجْمَاعًا بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى لَهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (4)
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى السُّكْنَى لِكُل مُطَلَّقَةٍ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، فَكَانَتْ حَقًّا لَهُنَّ؛ لأَِنَّهُ لَوْ أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ لَقَيَّدَ كَمَا فَعَل
__________
(1) عينة ذوي الأحكام هامش درر الحكام 1 / 416.
(2) بداية المجتهد لابن رشد 2 / 65.
(3) سورة الطلاق / 6.
(4) سورة الطلاق / 6.(25/113)
فِي النَّفَقَةِ إِذْ قَيَّدَهَا بِالْحَمْل فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفَقُوا عَلَيْهِنَّ} (1) وَإِذَا كَانَتِ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ غَيْرَ حَامِلٍ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وُجُوبَ السُّكْنَى لَهَا، وَهُوَ رَأْيُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ.
وَالآْيَةُ السَّابِقَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْمُطَلَّقَاتِ، لأَِنَّهَا ذُكِرَتْ بَعْدَ قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) وَهَذِهِ انْتَظَمَتِ الرَّجْعِيَّةَ وَالْبَائِنَ. بِدَلِيل أَنَّ مَنْ بَقِيَ مِنْ طَلاَقِهَا وَاحِدَةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلْعِدَّةِ إِذَا أَرَادَ طَلاَقَهَا بِالآْيَةِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ - لَمَّا أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَهُ وَهِيَ حَائِضٌ: لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلاً (3) وَلَمْ
__________
(1) سورة الطلاق / 6.
(2) سورة الطلاق / 1.
(3) حديث: " ليطلقها طاهرا أو حاملا ". أخرجه مسلم (2 / 1093 ط. الحلبي) من حديث ابن عمر.(25/113)
يُفَرِّقْ بَيْنَ التَّطْلِيقَةِ الأُْولَى وَالثَّانِيَةِ، فَإِذَنْ يَكُونُ قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قَدْ تَضَمَّنَ الْبَائِنَ وَالرَّجْعِيَّ (1) .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا (2) بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، وَفِيهِ: فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ (3) . وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِسْقَاطَ السُّكْنَى، فَبَقِيَ عَلَى عُمُومِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ عَنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ غَيْرَ حَامِلٍ، لاَ سُكْنَى لَهَا. وَبِهَذَا قَال ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُوسٌ، وَالْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ، لَكِنْ إِنْ أَرَادَ الْمُطَلِّقُ إِسْكَانَ الْبَائِنِ فِي مَنْزِلِهِ، أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يَصْلُحُ لَهَا تَحْصِينًا لِفِرَاشِهِ وَلاَ مَحْذُورَ
__________
(1) قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي ص 251، بدائع الصنائع 2 / 238، وأحكام القرآن 3 / 459، 4 / 2038، التاج والإكليل 4 / 162 مع مواهب الجليل، مغني المحتاج 3 / 401، المغني لابن قدامة 7 / 528.
(2) القائلين بوجوب السكن لها.
(3) حديث: " ليس لك عليه نفقة ". أخرجه مسلم (2 / 1114 ط الحلبي) من حديث فاطمة بنت قيس.
(4) سورة الطلاق / 6.(25/114)
فِيهِ، لَزِمَهَا ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُ فِيهِ. وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّهُ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَنْفَقَ عَلَيْهَا نَفَقَةَ دُونٍ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ قَالَتْ: وَاَللَّهِ لأَُعْلِمَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ لِي نَفَقَةٌ أَخَذْتُ الَّذِي يُصْلِحُنِي، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِي نَفَقَةٌ لَمْ آخُذْ مِنْهُ شَيْئًا. قَالَتْ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: لاَ نَفَقَةَ لَكِ وَلاَ سُكْنَى (1) .
سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ عَنْ وَفَاةٍ:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ السُّكْنَى فِي مَال الْمُتَوَفَّى أَيَّامَ عِدَّتِهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ خِلاَفُ الأَْظْهَرِ - إِلَى أَنَّهُ لاَ سُكْنَى لَهَا عَلَى الْمُتَوَفَّى مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ قَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأُمِّ سَلَمَةَ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّمَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِلْمَرْأَةِ إِذَا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ (2) . وَيَقُول ابْنُ عَبَّاسٍ
__________
(1) موطأ مالك بشرح الزرقاني 3 / 63، كشاف القناع 3 / 301.
(2) حديث: " إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة ". أخرجه أحمد (6 / 373 ط الميمنية) والنسائي (6 / 143 - 144 ط. المكتبة التجارية) من حديث فاطمة بنت قيس أصل الحديث في الصحيحين من غير هذه الزيادة وقد ضعفها الزيلعي (نصب الراية 3 / 272 ط المجلس العلمي) .(25/114)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَِزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْل غَيْرَ إِخْرَاجٍ} (1) نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ، بِمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُنَّ مِنَ الرُّبُعِ وَالثُّمُنِ، وَنُسِخَ أَجَل الْحَوْل بِأَنْ جَعَل أَجَلَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا (2) . وَقَالُوا: إِنَّ الْمَنْزِل الَّذِي تَرَكَهُ الْمَيِّتُ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ، أَوْ مِلْكًا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِهِ لِكَوْنِهِ مُسْتَأْجَرًا أَوْ مُعَارًا فَقَدْ بَطَل الْعَقْدُ بِمَوْتِهِ فَلاَ يَحِل لأَِحَدٍ سُكْنَاهُ، إِلاَّ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ وَطِيبِ نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ (3) . وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ فَقَدْ صَارَ لِلْغُرَمَاءِ، أَوْ لِلْوَرَثَةِ، أَوْ لِلْوَصِيَّةِ، وَلاَ يَحِل لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مَال الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُمْ، لِلْحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّمَ. وَعَلَى ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهَا إِلاَّ مِقْدَارُ مِيرَاثِهَا إِنْ كَانَتْ وَارِثَةً فَقَطْ (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 240.
(2) كشاف القناع ط الرياض 5 / 434، المغني لابن قدامة 7 / 528، نيل الأوطار للشوكاني 6 / 340.
(3) صحيح البخاري 2 / 226 (باب الخطبة) وحديث: " فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام " أخرجه البخاري (فتح - 3 / 574 ط السلفية) من حديث ابن عباس وأبي بكرة، ومسلم (2 / 889 ط الحلبي) من حديث جابر، واللفظ للبخاري.
(4) بدائع الصنائع 1 / 2042.(25/115)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْظْهَرِ أَنَّ لَهَا السُّكْنَى وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ بِشَرْطَيْنِ: الشَّرْطُ الأَْوَّل أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدْ دَخَل بِهَا، الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَسْكَنُ لِلْمَيِّتِ إِمَّا بِمِلْكٍ أَوْ بِمَنْفَعَةٍ مُؤَقَّتَةٍ، أَوْ بِإِجَارَةٍ وَقَدْ نَقَدَ كِرَاءَهُ قَبْل مَوْتِهِ. فَإِنْ كَانَ نَقَدَ الْبَعْضَ فَلَهَا السُّكْنَى بِقَدْرِ مَا نَقَدَ فَقَطْ.
وَقَال عَبْدُ الْحَقِّ مِنْهُمْ: إِنْ كَانَ أَكْرَاهَا سَنَةً مُعَيَّنَةً فَهِيَ أَحَقُّ بِالسُّكْنَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَقَدَ.
وَقَدْ حَكَى هَذَا الْقَوْل مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1) . وَلِحَدِيثِ الْفُرَيْعَةِ بِنْتِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادَتِ التَّحَوُّل إِلَى أَهْلِهَا وَإِخْوَتِهَا قَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ (2) .
__________
(1) سورة البقرة / 234.
(2) حديث: " امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب ". أخرجه أبو داود (2 / 723 - 724 تحقيق عزت عبيد الدعاس) والترمذي (3 / 508 - 509 ط الحلبي) من حديث زينب بنت كعب قال الحافظ: (وأعله عبد الحق تبعا لابن حزم بجهالة حال زينب) التلخيص الحبير (3 / 240 ط شركة الطباعة الفنية) .(25/115)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ سُكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِنْ كَانَتْ حَائِلاً رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ (1) .
سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ عَنْ فَسْخٍ:
15 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الرَّاجِحِ فِي مَذْهَبِهِمْ - إِلَى أَنَّ لِلْمُعْتَدَّةِ عَنْ فَسْخٍ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ السُّكْنَى. وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْفَسْخُ بِسَبَبِهَا أَوْ بِسَبَبِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي تَرَتَّبَ الْفَسْخُ عَلَيْهِ مَعْصِيَةً مِنْهَا أَمْ غَيْرَ مَعْصِيَةٍ؛ لأَِنَّ الْقَرَارَ مِنَ الْبَيْتِ مُسْتَحَقٌّ لَهَا، وَلأَِنَّهَا مُعْتَدَّةٌ عَنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ بِفُرْقَةٍ فِي الْحَيَاةِ، فَأَشْبَهَتِ الْمُطَلَّقَةَ تَحْصِينًا لِلْمَاءِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ فَسْخٍ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ فَلاَ سُكْنَى لَهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ سُكْنَى فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَحَال الْعَقْدِ كَحَال النِّكَاحِ، فَلاَ سُكْنَى لَهَا عَلَى الْوَاطِئِ أَوِ الزَّوْجِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ عَنْ فَسْخٍ لَهَا
__________
(1) التاج والإكليل مختصر خليل 4 / 162 من مواهب الجليل، المدونة الكبرى 5 / 157، شرح أبي عبد الله محمد الخرشي (4 / 156، مغني المحتاج 3 / 402، حاشية ابن عابدين 3 / 622، زاد المعاد 4 / 218، 219، نيل الأوطار للشوكاني 6 / 336، المغني 7 / 532.(25/116)
السُّكْنَى فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَسَوَاءٌ اطَّلَعَ عَلَى مُوجِبِ الْفَسْخِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ، فَمَتَى كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَحْبُوسَةً عَنِ النِّكَاحِ بِسَبَبِهِ فَلَهَا السُّكْنَى.
وَقَالُوا: إِنَّ الْمَوْطُوءَةَ بِشُبْهَةٍ لَهَا السُّكْنَى فِي صُورَتَيْنِ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ، أَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ وَلَمْ يَدْخُل بِهَا. وَلَهَا السُّكْنَى عَلَى الزَّوْجِ إِذَا دَخَل بِهَا، سَوَاءٌ حَمَلَتْ مِنَ الْغَالِطِ أَمْ لَمْ تَحْمِل، إِلاَّ إِذَا نَفَى الزَّوْجُ حَمْلَهَا بِلِعَانٍ وَالْتَحَقَ الْحَمْل بِالْغَالِطِ، فَإِنَّ السُّكْنَى تَكُونُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُعْتَدَّةِ عَنْ فَسْخٍ السُّكْنَى إِذَا كَانَتْ حَامِلاً. أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلاً فَلاَ سُكْنَى لَهَا. وَلَوْ وُطِئَتِ الرَّجْعِيَّةُ بِشُبْهَةٍ، أَوْ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ، ثُمَّ بَانَ بِهَا حَمْلٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الزَّوْجِ أَوْ مِنَ الْوَاطِئِ فَعَلَيْهِمَا الأُْجْرَةُ حَتَّى تَضَعَ، وَالنَّفَقَةُ بَعْدَ الْوَضْعِ حَتَّى يَنْكَشِفَ الأَْبُ مِنْهُمَا، فَيَرْجِعَ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ عَلَى الآْخَرِ بِمَا أَنْفَعَهُ؛ لأَِنَّهُ أَدَّى عَنْهُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ (1) .
__________
(1) فتح القدير 3 / 342، بدائع الصنائع 4 / 2041، 2042، نهاية المحتاج 7 / 145، 146، شرح التحرير 2 / 347 من حاشية الشرقاوي. حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 452، حاشية الشيخ علي العدوي على الإمام أبي الحسن 2 / 105، كشاف القناع 3 / 301، 5 / 466 ط الرياض.(25/116)
السُّكْنَى مَعَ الْمُعْتَدَّةِ:
16 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل الْمُطَلِّقِ مُسَاكَنَةُ الْمُعْتَدَّةِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجْعِيَّةِ وَالْبَائِنِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الدَّارُ لَهُمَا وَمَعَهُمَا مَحْرَمٌ، يُشْتَرَطُ فِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا بَصِيرًا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى.
فَإِنْ كَانَ الَّذِي مَعَهُمَا مَحْرَمًا لَهُ، فَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ أُنْثَى، وَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا مَحْرَمٌ لَهُ إِنْ كَانَ ذَكَرًا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل الدُّخُول عَلَى مُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ وَلَوْ كَانَ مَعَهَا مَنْ يَحْفَظُهَا، وَلاَ يُبَاحُ لَهُ السَّكَنُ مَعَهَا فِي دَارٍ جَامِعَةٍ لَهَا وَلِلنَّاسِ. وَحُجَّتُهُمْ فِي تَحْرِيمِ الاِخْتِلاَءِ بِهَا أَنَّ الطَّلاَقَ مُضَادٌّ لِلنِّكَاحِ الَّذِي قَدْ سَبَّبَ الإِْبَاحَةَ وَالإِْبْقَاءَ لِلضِّدِّ مَعَ وُجُودِ ضِدِّهِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا وَجَبَ الاِعْتِدَادُ فِي مَنْزِل الزَّوْجِ فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَسْكُنَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ الْمُطَلِّقُ عَدْلاً، سَوَاءٌ كَانَ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا أَوْ ثَلاَثًا. وَالأَْفْضَل أَنْ يُحَال بَيْنَهُمَا فِي الْبَيْنُونَةِ بِسِتْرٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ فَاسِقًا
__________
(1) ` زاد المعاد 4 / 219، البجيرمي 4 / 85، كشاف القناع 3 / 276.(25/117)
فَيُحَال بَيْنَهُمَا بِامْرَأَةٍ ثِقَةٍ تَقْدِرُ عَلَى الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ تَعَذَّرَ فَلْتَخْرُجْ هِيَ وَتَعْتَدَّ فِي مَنْزِلٍ آخَرَ. وَكَذَا لَوْ ضَاقَ الْبَيْتُ. وَإِنْ خَرَجَ هُوَ كَانَ أَوْلَى، وَلَهُمَا أَنْ يَسْكُنَا بَعْدَ الثَّلاَثِ، إِذَا لَمْ يَلْتَقِيَا الْتِقَاءَ الأَْزْوَاجِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ خَوْفُ فِتْنَةٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ أَنَّ لِلْمُطَلِّقِ السُّكْنَى مَعَ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، كَمَا أَنَّ لَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ، وَلاَ تَحْصُل الرَّجْعَةُ بِمُبَاشَرَتِهَا مِنَ الْقُبْلَةِ وَنَحْوِهَا، لَكِنْ تَحْصُل بِالْوَطْءِ، وَأَمَّا الْبَائِنُ فَلاَ سُكْنَى لَهَا، وَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ. فَلَوْ كَانَتْ دَارُ الْمُطَلِّقِ مُتَّسَعَةً لَهُمَا، وَأَمْكَنَهَا السُّكْنَى فِي غُرْفَةٍ مُنْفَرِدَةٍ، وَبَيْنَهُمَا بَابٌ مُغْلَقٌ (أَيْ بِمَرَافِقِهَا) وَسَكَنَ الزَّوْجُ فِي الْبَاقِي جَازَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَابٌ مُغْلَقٌ وَوُجِدَ مَعَهَا مَحْرَمٌ تَتَحَفَّظُ بِهِ جَازَ، وَإِلاَّ لَمْ يَجُزْ (1) .
سَكَنُ الْحَاضِنَةِ:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُكْنَى الْحَاضِنَةِ، إِذَا لَمْ تَكُنْ هِيَ الأُْمَّ فِي حَال كَوْنِهَا فِي عِصْمَةِ الأَْبِ.
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ لَهَا السُّكْنَى فِي مَال الْمَحْضُونِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلاَّ فَعَلَى مَنْ
__________
(1) البحر الرائق 4 / 168، تبيين الحقائق للزيلعي 3 / 37، الخرشي 4 / 85، 86، كشاف القناع ط الرياض 5 / 343، 434، المبسوط للسرخسي 5 / 209، البحر الرائق 4 / 220.(25/117)
تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ. وَقَال آخَرُونَ: لاَ سُكْنَى لَهَا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، وَلَيْسَ لَهَا إِلاَّ أُجْرَةُ الْحَضَانَةِ (1) .
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (حَضَانَة) .
سُكْنَى الْقَرِيبِ:
18 - تَجِبُ سُكْنَى الْقَرِيبِ الْمُعْسِرِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ حَيْثُ تَجِبُ نَفَقَتُهُ بِشُرُوطٍ.
وَتَفْصِيلُهُ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَفَقَة) .
السُّكْنَى بِاعْتِبَارِهَا مُتَرَتِّبَةً عَلَى تَصَرُّفٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ:
19 - (1) إجَارَةُ السُّكْنَى.
(2) بَيَانُ مَحِل السُّكْنَى.
السُّكْنَى مَنْفَعَةٌ مِنَ الْمَنَافِعِ لاَ بُدَّ لَهَا مِنْ مَحَلٍّ تُسْتَوْفَى مِنْهُ. وَهَذَا الْمَحَل هُوَ الدُّورُ، وَبَيَانُ الْمَحَل شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الإِْجَارَةِ.
وَيَتَحَقَّقُ بَيَانُهُ بِبَيَانِ الْعَيْنِ الَّتِي وَقَعَتِ الإِْجَارَةُ عَلَى مَنْفَعَتِهَا، كَمَا إِذَا قَال: اسْتَأْجَرْتُ هَذِهِ الدَّارَ لِلسُّكْنَى، أَوْ يَقُول الْمُؤَجِّرُ: أَجَّرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ. فَلَوْ قَال: أَجَّرْتُكَ إِحْدَى هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 220، 4 / 40، ورد المحتار مع حاشية ابن عابدين 2 / 877، والفتاوى الكبرى لابن حجر المكي 4 / 216.(25/118)
لِلسُّكْنَى، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ؛ لِجَهَالَةِ مَحَل الْعَقْدِ جَهَالَةً مُفْضِيَةً لِلنِّزَاعِ (1) .
وَلاَ يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَنْ يَسْكُنُهَا، وَلاَ مَا سَيَعْمَل فِيهَا؛ لأَِنَّ الْعُرْفَ كَافٍ فِي ذَلِكَ. وَلأَِنَّ مَنَافِعَ السُّكْنَى غَيْرُ مُتَفَاوِتَةٍ، وَالتَّفَاوُتُ فِيهَا مُتَسَامَحٌ فِيهِ عُرْفًا.
يَقُول الْكَاسَانِيُّ: وَلَمْ يُشْتَرَطْ بَيَانُ مَا يُعْمَل فِيهِ؛ لأَِنَّ الإِْجَارَةَ شُرِعَتْ لِلاِنْتِفَاعِ، وَالدُّورُ وَالْمَنَازِل وَالْبُيُوتُ وَنَحْوُهَا مُعَدَّةٌ لِلاِنْتِفَاعِ بِهَا لِلسُّكْنَى، وَمَنَافِعُ الْعَقَارِ الْمُعَدِّ لِلسُّكْنَى مُتَقَارِبَةٌ؛ لأَِنَّ النَّاسَ لاَ يَتَفَاوَتُونَ فِي السُّكْنَى، فَكَانَتْ مَعْلُومَةً مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ، وَكَذَا الْمَنْفَعَةُ لاَ تَتَفَاوَتُ بِكَثْرَةِ السُّكَّانِ وَقِلَّتِهِمْ إِلاَّ تَفَاوُتًا يَسِيرًا، وَإِنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ، وَكَذَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ نَفْسَهُ وَأَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ (2) .
وَتُرَاعَى فِي ذَلِكَ أَحْكَامُ الإِْجَارَةِ، انْظُرْ (إِجَارَة) .
الْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى:
20 - الْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَصِيَّةِ، وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً عَنِ الْوَقْتِ أَوْ مُقَيَّدَةً
__________
(1) البدائع 5 / 2569، الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 20، حاشية الرشيدي 2 / 12، والمقنع 2 / 202.
(2) البدائع المرجع السابق.(25/118)
بِوَقْتٍ، وَفِي كُلٍّ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِمُعَيَّنٍ كَزَيْدٍ، أَوْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ كَفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى مُطْلَقَةً وَهِيَ لِمُعَيَّنٍ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِسُكْنَى الدَّارِ مَا عَاشَ، فَإِذَا مَاتَ انْتَقَلَتِ السُّكْنَى إِلَى مِلْكِ صَاحِبِ الْعَيْنِ - وَهُمْ وَرَثَةُ الْمُوصِي - لِبُطْلاَنِهَا بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ.
وَيُشْتَرَطُ لاِنْتِفَاعِ الْمُوصَى لَهُ بِالسُّكْنَى أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْمُوصَى بِسُكْنَاهَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَال الْمُوصِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى هَذِهِ الدَّارِ الْمُوصَى بِسُكْنَاهَا، فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَسْكُنُ ثُلُثَهَا وَوَرَثَةُ الْمُوصِي يَسْكُنُونَ ثُلُثَيْهَا، مَا دَامَ الْمُوصَى لَهُ حَيًّا، فَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ تُرَدُّ إِلَيْهِمِ الْمَنْفَعَةُ كَامِلَةً. وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى مُطْلَقَةً وَلِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَفِي جَوَازِهَا خِلاَفٌ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ، فَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى عَدَمَ جَوَازِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَيَرَى صَاحِبَاهُ جَوَازَهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى مُؤَقَّتَةً بِمُدَّةٍ مُحَدَّدَةٍ كَسَنَةٍ مَثَلاً، فَيُنْظَرُ: هَل لِلْمُوصِي مَالٌ آخَرُ غَيْرُ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي أَوْصَى بِسُكْنَاهَا سَنَةً مُعَيَّنَةً؟ فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ سُلِّمَتِ الدَّارُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ لِيَسْكُنَهَا السَّنَةَ الْمَذْكُورَةَ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ قُسِمَتْ سُكْنَى الدَّارِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ أَثْلاَثًا، ثُلُثُهَا لِلْمُوصَى لَهُ، وَثُلُثَاهَا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى. وَإِنْ(25/119)
أَوْصَى بِسُكْنَاهَا سَنَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ فَإِنَّ الدَّارَ تُسَلَّمُ لِلْمُوصَى لَهُ لِيَسْكُنَهَا إِذَا أَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ، فَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا قُسِمَتِ الدَّارُ أَثْلاَثًا يَسْكُنُ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَهَا لِمُدَّةِ ثَلاَثِ سَنَوَاتٍ.
فَإِذَا انْتَهَتِ الْمُدَّةُ الْمَذْكُورَةُ رَدَّ الثَّلاَثَ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَتَكُونُ بِذَلِكَ الدَّارُ جَمِيعُهَا لِلْوَرَثَةِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهَا، فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ يَسَعُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ سُلِّمَتِ الدَّارُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ لِيَسْكُنَهَا السَّنَةَ الْمُحَدَّدَةَ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ لاَ يَسَعُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ فَإِنْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ سُلِّمَتِ الدَّارُ لِلْمُوصَى لَهُ لِيَسْكُنَهَا السَّنَةَ الْمُحَدَّدَةَ وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا فَإِنَّهُ يَسْكُنُ بِمِقْدَارِ الثُّلُثِ حَسَبَ التَّفْصِيل الْمُتَقَدِّمِ.
وَإِنْ عَيَّنَ الْمُوصِي السَّنَةَ الَّتِي أَوْصَى بِسُكْنَاهَا فَمَضَتْ تِلْكَ السَّنَةُ قَبْل وَفَاةِ الْمُوصِي، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُل بِفَوَاتِهَا؛ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ لاَ تُنْتِجُ أَثَرَهَا إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي. وَإِذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ تِلْكَ السَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُل فِيمَا مَضَى قَبْل وَفَاتِهِ. أَمَّا مَا يَبْقَى مِنَ السَّنَةِ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ الْحَقُّ فِي سُكْنَى هَذِهِ الْعَيْنِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 4888، وما بعدها، تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 201 - 203، المبسوط 27 / 182، البحر الرائق 8 / 513، 514، الفتاوى الهندية 6 / 122.(25/119)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالسُّكْنَى لِدَارٍ مُعَيَّنَةٍ إِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُؤَقَّتَةً فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَ يَحْمِل الثُّلُثُ قِيمَتَهَا فَيَتَعَيَّنُ تَسْلِيمُ الْمُوصَى بِهِ إِلَى الْمُوصَى لَهُ لِيَسْكُنَهُ. وَإِنْ لَمْ يَحْمِل الثُّلُثُ قِيمَةَ الْعَيْنِ الْمُوصَى بِسُكْنَاهَا خُيِّرَ الْوَارِثُ بَيْنَ أَنْ يُجِيزَ الْوَصِيَّةَ أَوْ يَخْلَعَ ثُلُثَ جَمِيعِ التَّرِكَةِ مِنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ عِوَضًا أَوْ عَيْنًا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَيُعْطِيَهُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَبِهَذَا يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ جَمِيعِ مَا تَرَكَهُ الْمُوصِي (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ (2) أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلسُّكْنَى مُطْلَقَةً عَنِ التَّأْقِيتِ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَمْلِكُ سَكَنَ الدَّارِ، وَلَهُ حَقُّ تَأْجِيرِهَا وَإِعَارَتِهَا لِغَيْرِهِ وَالإِْيصَاءِ بِمَنْفَعَتِهَا وَتُورَثُ عَنْهُ مَنْفَعَتُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ. وَإِذَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، كَسَنَةٍ أَوْ كَحَيَاةِ الْمُوصَى لَهُ، فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَنْتَفِعُ بِالسُّكْنَى بِنَفْسِهِ الْمُدَّةَ الْمُعَيَّنَةَ أَوْ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ أَوْ أَنْ يُعِيرَ، وَلاَ تُورَثُ عَنْهُ إِذَا مَاتَ، لأَِنَّ
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب 6 / 384، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 412، الصاوي على الشرح الصغير 2 / 433.
(2) نهاية المحتاج 6 / 83، حاشية الشرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج 7 / 562.(25/120)
الْوَصِيَّةَ بِالسُّكْنَى هُنَا مِنْ قَبِيل الإِْبَاحَةِ وَلَيْسَتْ تَمْلِيكًا.
وَالْقَوْل بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُوصَى لَهُ تَأْجِيرُ الْمُوصَى بِهِ إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُقَيَّدَةً بِالاِسْتِعْمَال كَالسُّكْنَى؛ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا؛ وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِلْكَ هُنَا بِالْمَجَّانِ وَالتَّمْلِيكُ بِالإِْجَارَةِ تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ، وَهَذَا أَقْوَى مِنَ التَّمْلِيكِ مَجَّانًا، وَمَنْ مَلَكَ الأَْضْعَفَ لاَ يَمْلِكُ الأَْقْوَى (1) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَقُولُونَ: إِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِسُكْنَى الدَّارِ تُسَلَّمُ لَهُ الدَّارُ لِيَسْكُنَهَا، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ يَسَعُهَا الثُّلُثُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً أَمْ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً بِمُدَّةٍ مُحَدَّدَةٍ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لاَ يَسَعُهَا الثُّلُثُ فَإِنَّ الَّذِي يَجُوزُ مِنْهَا هُوَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ فَقَطْ.
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِسُكْنَى الدَّارِ أَنْ يُؤَجِّرَ مَا لَهُ حَقُّ السُّكْنَى فِيهِ (2) .
هِبَةُ السُّكْنَى:
21 - هِبَةُ الدَّارِ لِلسُّكْنَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ الإِْيجَابُ فِيهَا بِلَفْظٍ مُطْلَقٍ، كَقَوْل الْوَاهِبِ
__________
(1) الدر المختار 5 / 607.
(2) المقنع مع حاشيته 2 / 380.(25/120)
لِشَخْصٍ آخَرَ: وَهَبْتُ لَكَ دَارِي لِلسُّكْنَى، أَوْ: مَلَّكْتُكَ سُكْنَى عِمَارَتِي. فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَكُونُ سُكْنَى الدَّارِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ إِذَا تَمَّتِ الْهِبَةُ مُسْتَوْفِيَةً لِلشُّرُوطِ وَالأَْرْكَانِ اللاَّزِمِ تَوَافُرُهَا فِيهَا. وَيَجُوزُ لَهُ كَذَلِكَ أَنْ يُسْكِنَهَا لِغَيْرِهِ بِالإِْجَارَةِ أَوْ بِالإِْعَارَةِ (1) . وَمَلَكِيَّةُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَال لِلْهِبَةِ غَيْرُ لاَزِمَةٍ، فَيَجُوزُ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الإِْيجَابُ مُقَيَّدًا فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (هِبَة، وَعُمْرَى، وَرُقْبَى) . وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْوَاهِبِ اسْتِرْجَاعُ السُّكْنَى فِيهِ إِذَا لَمْ يُقَيِّدْ بِوَقْتٍ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (2) فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَاهِبِ اسْتِرْجَاعُ الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ لِلسُّكْنَى أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ، وَلاَ تَتَقَيَّدُ فِي الرُّجُوعِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ؛ لأَِنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ قَبِيل الْعَارِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (3) فِي قَوْلِهِمُ الثَّانِي إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْوَاهِبِ هِبَةَ السُّكْنَى
__________
(1) تحفة المحتاج 6 / 296.
(2) بدائع الصنائع للكاساني 8 / 3673، المقنع لابن قدامة المقدسي 2 / 336، مغني المحتاج 2 / 2399.
(3) مواهب الجليل للحطاب 6 / 61، 62، مغني المحتاج 4 / 399.(25/121)
أَنْ يَسْتَرْجِعَ السُّكْنَى إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ. فَإِذَا مَاتَ (الْوَاهِبُ) قَبْل مَوْتِ (الْمَوْهُوبِ لَهُ) فَإِنَّ الْمَسْكَنَ يَرْجِعُ إِلَى الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ (الْمَوْهُوبِ لَهُ) . وَأَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ يَعْتَبِرُونَ الْمَسْكَنَ كَالْمُعَمَّرِ.
حِيَازَةُ الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ:
22 - الْمِلْكِيَّةُ لِلدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ تَثْبُتُ بِالْقَبْضِ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) ، وَتَثْبُتُ الْمِلْكِيَّةُ (2) عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِتَمَامِ الْعَقْدِ الْحِيَازَةَ لِلدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا وَهَبَ شَخْصٌ لآِخَرَ دَارًا فَإِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ تَثْبُتُ لَهُ مَلَكِيَّةُ الدَّارِ، وَتُصْبِحُ نَافِذَةً عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ بِحِيَازَةِ هَذِهِ الدَّارِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بَالِغًا رَشِيدًا.
فَإِذَا كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَيَقُومُ وَلِيُّهُ مَقَامَهُ نِيَابَةً عَنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الْوَاهِبَ. فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الْوَاهِبَ فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ تُخْلَى الدَّارُ الْمَوْهُوبَةُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلاَ يَسْكُنُهَا الْوَلِيُّ، فَإِنْ سَكَنَهَا بَطَلَتِ الْهِبَةُ (3) .
__________
(1) المبسوط 12 / 48، مغني المحتاج 2 / 400، المقنع 2 / 332.
(2) كفاية الطالب الرباني 2 / 215، الخرشي 7 / 105.
(3) التاج والإكليل للمواق هامش مواهب الجليل للحطاب 6 / 60.(25/121)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الأَْبَ لَوْ وَهَبَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ الدَّارَ الَّتِي يَسْكُنُهَا، وَكَانَتْ مَشْغُولَةً بِمَتَاعِهِ (أَيِ الْوَاهِبِ) فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ لَهُ، وَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ الْهِبَةِ. لَكِنْ لَوْ أَسْكَنَهَا الأَْبُ لِغَيْرِهِ بِأَجْرٍ فَإِنَّ هَذَا لاَ يَجُوزُ. وَلَوْ أَسْكَنَهَا لِغَيْرِهِ بِدُونِ أَجْرٍ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ (1) .
وَاتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ وَهَبَتْ دَارَهَا لِزَوْجِهَا وَهِيَ سَاكِنَةٌ فِيهَا وَلَهَا أَمْتِعَةٌ فِيهَا، وَالزَّوْجُ سَاكِنٌ مَعَهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ صَحِيحَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَهَبَ الزَّوْجُ دَارَ سُكْنَاهُ لِزَوْجَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لأَِنَّ السُّكْنَى لِلرَّجُل لاَ لِلْمَرْأَةِ، فَإِنَّهَا تَبَعٌ لِزَوْجِهَا (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ خُلُوِّ الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ مِنْ أَمْتِعَةِ غَيْرِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَإِنْ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِهَا، وَاسْتَمَرَّتْ فِيهَا فَإِنَّ الْهِبَةَ لاَ تَصِحُّ. وَلاَ فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْهِبَةِ لِلأَْجْنَبِيِّ أَوْ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَيَقُولُونَ بِجَوَازِ أَنْ يَسْكُنَ الأَْبُ فِي دَارِ سُكْنَاهُ الْمَوْهُوبَةِ لِوَلَدِهِ الْمَشْمُول بِوِلاَيَتِهِ، وَعَلَيْهِ الأُْجْرَةُ بَعْدَ تَمَامِ الْهِبَةِ (3) .
__________
(1) منحة الخالق على البحر الرائق 7 / 288.
(2) انظر الخرشي 7 / 110، 111، منحة الخالق على البحر الرائق 7 / 288.
(3) الفتاوى الكبرى لابن حجر 7 / 362.(25/122)
وَقْفُ الْعَيْنِ لِلسُّكْنَى:
23 - الْوَقْفُ مَشْرُوعٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ جَائِزٌ لاَزِمٌ إِنْ وَقَعَ، وَوَقْفُ السُّكْنَى مُخْتَلَفٌ فِيهِ عِنْدَهُمْ؛ لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي وَقْفِ الْمَنَافِعِ.
فَيَرَى الْجُمْهُورُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَمَنْ قَال بِجَوَازِ الْوَقْفِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ وَقْفَ الْمَنَافِعِ دُونَ الذَّاتِ لاَ يَصِحُّ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ وَقْفَ السُّكْنَى بِاعْتِبَارِهَا مَنْفَعَةً مِنَ الْمَنَافِعِ جَائِزٌ وَصَحِيحٌ شَرْعًا.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَقْفِ الْخُلُوِّ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى صِحَّةِ وَقْفِهِ وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ وَقْفِهِ (1) .
وَانْظُرْ بَحْثَ (خُلُوف 22) (وَوَقْف) .
سُكْنَى الْمُرْتَهِنِ لِلْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ:
24 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لاَ يَحِل لَهُ سُكْنَى الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ إِذَا لَمْ يَأْذَنِ الرَّاهِنُ؛ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ إِنَّمَا تُمْلَكُ بِمِلْكِ الأَْصْل، وَالأَْصْل
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 259، شرح منتهى الإرادات 2 / 478، المبسوط 12 / 27 وما بعدها، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 71، فتح العلي المالك 4 / 250، 251، حاشية الشيخ علي العدوي على الخرشي 7 / 79.(25/122)
مَمْلُوكٌ لِلرَّاهِنِ، فَالْمَنْفَعَةُ تَكُونُ عَلَى مِلْكِهِ، وَلاَ يَسْتَوْفِيهَا غَيْرُهُ إِلاَّ بِإِيجَابِهَا لَهُ. وَعَقْدُ الرَّهْنِ لاَ يَتَضَمَّنُ إِلاَّ مِلْكَ الْيَدِ لِلْمُرْتَهِنِ لاَ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ مَالُهُ فِي الاِنْتِفَاعِ بَعْدَ عَقْدِ الرَّاهِنِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ.
وَهَذَا إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الرَّاهِنُ، فَإِنْ أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ بِالسُّكْنَى فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي سُكْنَى الرَّاهِنِ لِلدَّارِ الْمَرْهُونَةِ (1) . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (رَهْن) .
غَصْبُ السُّكْنَى:
25 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْغَصْبَ يَقَعُ عَلَى السُّكْنَى؛ لأَِنَّهَا مَنْفَعَةُ عَقَارٍ وَغَصْبُ الْعَقَارِ مُمْكِنٌ، فَمَنْ مَنَعَ آخَرَ مِنْ سُكْنَى دَارِهِ يَكُونُ غَاصِبًا لِلسُّكْنَى، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ ظَلَمَ قَيْدَ شِبْرٍ مِنَ الأَْرْضِ طَوَّقَهُ اللَّهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ وَفِي لَفْظٍ: مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنَ الأَْرْضِ (2) .
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 3 / 208، 218، وحاشية الدسوقي عليه، المبسوط 21 / 106، تحفة المحتاج 5 / 76 كشاف القناع 2 / 155، والمغني 4 / 434، ومجمع الضمانات ص 604، 609.
(2) حديث: " من ظلم قيد شبر من الأرض ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 292، 293 ط - السلفية) ومسلم (3 / 1231 - 1232 ط الحلبي) من حديث عائشة.(25/123)
فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُل بِمَنْطُوقِهِ عَلَى إِمْكَانِ وُقُوعِ الْغَصْبِ عَلَى الْعَقَارِ؛ لأَِنَّهُ أَسْنَدَ الْغَصْبَ إِلَى الأَْرْضِ، وَالإِْسْنَادُ دَلِيل الْوُقُوعِ وَإِمْكَانُهُ فَإِذَا ثَبَتَ وُقُوعُ الْغَصْبِ عَلَى الْعَقَارِ فَيَثْبُتُ عَلَى مَنَافِعِهِ الَّتِي مِنْهَا سُكْنَى الدُّورِ.
وَلأَِنَّ الْغَصْبَ يَتَحَقَّقُ بِإِثْبَاتِ يَدِ الْغَاصِبِ وَإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي الدَّارِ وَالْعَقَارِ. فَالْغَاصِبُ يُثْبِتُ يَدَهُ الْمُعْتَدِيَةَ وَيُزِيل يَدَ الْمَالِكِ الْمُحِقَّةَ، وَالْيَدُ هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفِ، وَعَدَمُهَا يَتَمَثَّل فِي عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ. فَإِنْ أَثْبَتَ الْغَاصِبُ يَدَهُ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ السُّكْنَى لاَ يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْغَصْبُ؛ لأَِنَّهَا مَنْفَعَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَالٍ، وَالْغَصْبُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الْمَال. فَلَوْ غَصَبَ دَارًا لَمْ يَضْمَنْ مَنَافِعَهَا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ. وَاسْتَثْنَوْا صُوَرًا، مِنْهَا: الْوَقْفُ، وَدَارُ الْيَتِيمِ، وَالْمُعَدُّ لِلاِسْتِغْلاَل (1) . وَانْظُرْ (ضَمَان) (وَغَصْب) .
مَتَى يَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ:
26 - الْمَالِكِيَّةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الاِسْتِيلاَءِ عَلَى الذَّاتِ وَالاِسْتِيلاَءِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ. وَتَرَتَّبَ عَلَى
__________
(1) بداية المجتهد لابن رشد ص 342، نهاية المحتاج 4 ص 109، كشاف القناع 2 / 340، رد المحتار على الدر المختار 5 / 162.(25/123)
ذَلِكَ أَنَّ الْغَاصِبَ لِلدَّارِ لاَ يَضْمَنُ الأُْجْرَةَ إِلاَّ إِذَا سَكَنَ بِالْفِعْل أَوْ أَسْكَنَهَا لِغَيْرِهِ. أَمَّا الْمُتَعَدِّي (وَهُوَ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي شَيْءٍ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ دُونَ قَصْدِ التَّمَلُّكِ (1)) فَيَجِبُ عَلَيْهِ الأُْجْرَةُ فِي جَمِيعِ الْحَالاَتِ لِمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ (2) .
وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ الْغَصْبَ يَقَعُ بِدُخُول الدَّارِ، وَإِزْعَاجِ سُكَّانِهَا، سَوَاءٌ كَانَ عِنْدَهُ نِيَّةٌ فِي الاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهَا وَالْحِيَازَةِ لِمَنَافِعِهَا أَمْ لَمْ يَكُنْ.
وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ بِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ عِنْدَ إِثْبَاتِ الْيَدِ الْمُتَعَدِّيَةِ. وَدَلِيل ثُبُوتِ الْيَدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهُ لَوْ تَنَازَعَ الْخَارِجُ وَالدَّاخِل فِيهَا حُكِمَ لِمَنْ هُوَ فِيهَا دُونَ الْخَارِجِ عَنْهَا (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْغَصْبَ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِالدُّخُول لِلدَّارِ بِقَصْدِ الاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهَا، أَمَّا الدُّخُول بِدُونِ هَذِهِ النِّيَّةِ فَلاَ يُسَمَّى غَصْبًا، وَلِهَذَا قَالُوا فِي كُتُبِهِمْ: " لاَ يَحْصُل الْغَصْبُ مِنْ غَيْرِ اسْتِيلاَءٍ، فَلَوْ دَخَل أَرْضَ إِنْسَانٍ أَوْ دَارَهُ لَمْ يَضْمَنْهَا بِدُخُولِهِ، سَوَاءٌ دَخَلَهَا بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُهَا فِيهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ (4) ".
__________
(1) فتح العلي المالك 2 / 185.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 414.
(3) مغني المحتاج 2 / 276.
(4) كشاف القناع 4 / 77 ط الرياض.(25/124)
الصُّلْحُ عَلَى السُّكْنَى عَنْ دَعْوَى غَيْرِ مَنْفَعَةٍ:
27 - يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْ دَعْوَى الْمَال عَلَى السُّكْنَى، وَهَذَا الصُّلْحُ إجَارَةٌ لِلْمَصَالِحِ بِهِ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا شُرُوطُهَا؛ لأَِنَّ الْعَيْنَ الْمُدَّعَى بِهَا أُجْرَةٌ لِلسُّكْنَى (سَوَاءٌ أَكَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ أَمْ عَنْ إِنْكَارٍ أَمْ عَنْ سُكُوتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) .
وَمِثَالُهُ: أَنْ يَقُول: صَالَحْتُكَ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أُخْرَى مُدَّةً مَعْلُومَةً.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُدَّعِي يَتْرُكُ الدَّارَ الْمُدَّعَى بِهَا وَيَسْكُنُ الدَّارَ الْمُصَالَحَ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِصِحَّةِ الصُّلْحِ عَلَى السُّكْنَى عِدَّةَ شُرُوطٍ ذُكِرَتْ عِنْدَهُمْ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْمَنَافِعِ، مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ مُعَيَّنًا حَاضِرًا، كَأَنْ يَدَّعِيَ بِهَذَا الْعَبْدِ أَوْ هَذَا الْكِتَابِ وَهُوَ بِيَدِهِ، فَيُصَالِحَهُ بِسُكْنَى دَارِهِ.
فَلَوْ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ كَدَرَاهِمَ، فَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهَا بِالسُّكْنَى لأَِنَّهُ فَسْخُ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ (1) .
وَذَهَبَ الْمُتَيْطِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ
__________
(1) ويظهر من شرط المالكية لصحة الصلح على السكنى أن الصلح بالسكن عن السكنى لا يصلح عندهم، انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 280، 281.(25/124)
الصُّلْحِ عَلَى سُكْنَى دَارٍ (1) . وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَلاَّ يَكُونَ الصُّلْحُ عَلَى سُكْنَى الْعَيْنِ الْمُدَّعَى بِهَا، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِلَى الْمُدَّعِي. وَعَلَيْهِ فَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي فِي يَدِهِ الدَّارَ سَنَةً فِيهَا. ثُمَّ يَدْفَعَهَا إِلَى الْمُدَّعِي لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّ الْعَيْنَ وَمَنَافِعَهَا مِلْكٌ لِلْمُقَرِّ لَهُ. فَكَيْفَ يَتَعَوَّضُ مِنْ مِلْكِهِ أَوْ مَنْفَعَتِهِ. فَإِذَا أَسْكَنَ الْمُدَّعِي الْمُقِرُّ - الْمُدَّعَى عَلَيْهِ - فَيَكُونُ هَذَا تَبَرُّعًا مِنْ صَاحِبِ الْبَيْتِ بِمَنَافِعِهِ لَهُ، فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الدَّارِ مَتَى شَاءَ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي فِي يَدِهِ الدَّارُ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً.
وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لِنَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ الْمَشْرُوطَةِ، فَكَانَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فِي زَعْمِهِ، فَيَجُوزُ (3) .
الصُّلْحُ عَنِ السُّكْنَى:
28 - يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنِ السُّكْنَى عَلَى مَالٍ، أَوْ
__________
(1) التاج والإكليل 5 / 81.
(2) حاشية الشرقاوي على التحرير 4 / 66 مع الشرح المذكور، كشاف القناع 2 / 191.
(3) البدائع 7 / 3511.(25/125)
عَلَى خِدْمَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ إِذَا كَانَا مُخْتَلِفَيِ الْجِنْسِ (1) .
وَأَمَّا الصُّلْحُ عَنِ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى فَفِيهَا خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (صُلْح) .
سُكْنَى أَهْل الذِّمَّةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ:
29 - سُكْنَى أَهْل الذِّمَّةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِنْ كَانَتْ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَلاَ تَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ (2) .
لَمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: أَوْصَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ، قَال: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوُفُودَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ، وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثِ (3) ، وَلِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَبْقَيَنَّ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ (4) .
__________
(1) حاشية العلامة محمد أبي السعود 3 / 179، وبدائع الصنائع 7 / 3528، وكشاف القناع 2 / 192.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 29، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 201، الأم 4 / 100، (طبع كتاب الشعب) ، والمغني لابن قدامة 8 / 527.
(3) حديث: " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ". أخرجه البخاري (فتح60 / 170 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.
(4) حديث: " لا يبقين دينان في جزيرة العرب ". أخرجه مالك في الموطأ (2 / 892 - ط الحلبي) ومن طريق البيهقي (9 / 208 ط دائرة المعارف الهندية) عن عمر بن عبد العزيز مرسلا.(25/125)
وَهَذَا الْحُكْمُ وَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْخِلاَفَ وَقَعَ فِي الْمُرَادِ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ.
وَأَمَّا سُكْنَى أَهْل الذِّمَّةِ فِي غَيْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَهِيَ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ الْمَذْكُورِينَ، نَظِيرُ مَا يَدْفَعُونَهُ مِنْ جِزْيَةٍ، عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
أَوَّلاً: مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
30 - إِذَا أَرَادَ الذِّمِّيُّ السُّكْنَى مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ سُكْنَاهُ بِالشِّرَاءِ لِدَارٍ، أَوْ بِاسْتِئْجَارِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
فَإِذَا أَرَادَ الذِّمِّيُّ أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا فِي الْمِصْرِ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ تُبَاعَ مِنْهُ، وَإِنِ اشْتَرَاهَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا مِنْ مُسْلِمٍ، وَقِيل: لاَ يُجْبَرُ.
وَقَال السَّرَخْسِيُّ: إِنْ مَصَّرَ الإِْمَامُ فِي أَرَاضِيهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ - كَمَا مَصَّرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْبَصْرَةَ وَالْكُوفَةَ - فَاشْتَرَى بِهَا أَهْل الذِّمَّةِ دُورًا وَسَكَنُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يُمْنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّا قَبِلْنَا مِنْهُمْ عَقْدَ الذِّمَّةِ لِيَقِفُوا عَلَى مَحَاسِنِ الدِّينِ، فَعَسَى أَنْ يُؤْمِنُوا، وَاخْتِلاَطُهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَالسَّكَنُ مَعَهُمْ يُحَقِّقُ هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَيَّدَ شَمْسُ الأَْئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ جَوَازَ السُّكْنَى بِقَوْلِهِ: هَذَا إِذَا قَلُّوا وَكَانُوا بِحَيْثُ لاَ تَتَعَطَّل(25/126)
جَمَاعَاتُ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تَتَقَلَّل الْجَمَاعَةُ بِسُكْنَاهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. فَأَمَّا إِذَا كَثُرُوا عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيل بَعْضِ الْجَمَاعَاتِ أَوْ تَقْلِيلِهَا مُنِعُوا مِنَ السُّكْنَى وَأُمِرُوا أَنْ يَسْكُنُوا نَاحِيَةً لَيْسَ فِيهَا لِلْمُسْلِمِينَ جَمَاعَةٌ. قَال: وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الأَْمَالِي.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَال الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ: إِنَّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعَوَّل عَلَيْهِ التَّفْصِيل، فَلاَ نَقُول بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا، وَلاَ بِعَدَمِهِ مُطْلَقًا، بَل يَدُورُ الْحُكْمُ عَلَى الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَالضَّرَرِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ.
وَإِذَا تَكَارَى أَهْل الذِّمَّةِ دُورًا فِي الْمِصْرِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَسْكُنُوا فِيهَا جَازَ؛ لِعَوْدِ نَفْعِهِ إِلَيْنَا؛ وَلِيَرَوْا أَفْعَالَنَا فَيُسْلِمُوا. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْكِرَاءِ وَالشِّرَاءِ، فَكُل مَا قِيل فِي الشِّرَاءِ يَأْتِي هُنَا فِي الْكِرَاءِ (1) .
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِصِحَّةِ سُكْنَى الذِّمِّيِّ أَنْ تَكُونَ حَيْثُ يَنَالُهُ حُكْمُ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ يَسْكُنُ الذِّمِّيُّ حَيْثُ يُخْشَى مِنْهُ أَنْ يَنْكُثَ. فَإِذَا سَكَنَ فِي أَمَاكِنَ بِحَيْثُ لاَ تَنَالُهُ أَحْكَامُنَا، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالاِنْتِقَال. فَإِنْ أَبَوْا قُوتِلُوا.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 209، 210.(25/126)
وَنَقَل الْحَطَّابُ قَوْل بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ أَهْل جِهَةٍ، وَخِفْنَا عَلَيْهِمُ الاِرْتِدَادَ إِذَا فُقِدَ الْجَيْشُ، فَإِنَّهُمْ يُؤْمَرُونَ بِالاِنْتِقَال (1) .
بَيْعُ مَكَانِ سُكْنَى الْمُفْلِسِ لِحَقِّ غُرَمَائِهِ:
31 - إِذَا كَانَ لِلْمُفْلِسِ دَارٌ فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنْ تُبَاعَ فِي دَيْنِهِ وَيُكْتَرَى لَهُ بَدَلُهَا، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا لاَ تُبَاعُ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ نَفِيسَةً، فَتُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِبَعْضِ ثَمَنِهَا مَسْكَنٌ، وَيُصْرَفُ الْبَاقِي إِلَى الْغُرَمَاءِ. وَانْظُرْ بَحْثَ (إِفْلاَس) ف 49.
حُكْمُ بَيْعِ مَحَل السُّكْنَى لِلْحَجِّ:
32 - الْحَجُّ فَرْضٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ حُرٍّ بِشَرْطِ الاِسْتِطَاعَةِ، وَهِيَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ مَعَ الرُّفْقَةِ الآْمِنَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَهَل يَكُونُ مَنْ كَانَ لَهُ بَيْتٌ يَسْكُنُهُ قَادِرًا عَلَى الْحَجِّ بِأَنْ يَبِيعَهُ وَيَحُجَّ بِثَمَنِهِ؟ .
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْقَوْل الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ السَّكَنَ إِذَا كَانَ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ، بِأَنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنْهُ لِسُكْنَاهُ أَوْ لِسُكْنَى مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِسْكَانُهُ، لاَ يُبَاعُ لِلْحَجِّ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَسْكَنُ فَاضِلاً عَنْ حَاجَتِهِ، أَوْ
__________
(1) الحطاب مع التاج والإكليل 3 / 381، ونهاية المحتاج 8 / 81، 85، المغني لابن قدامة 8 / 527.(25/127)
كَانَ نَفِيسًا، وَلَوْ أَبْدَلَهُ لَوَفَّى التَّفَاوُتُ بِنَفَقَةِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ بَيْعُ الْفَاضِل، أَوِ اسْتِبْدَال النَّفِيسِ بِمَسْكَنٍ يَلِيقُ بِمِثْلِهِ لِلْحَجِّ. وَالرَّأْيُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَالْمُؤْنَةِ فَاضِلاً عَنْ مَسْكَنِهِ اللاَّئِقِ الْمُسْتَغْرِقِ لِحَاجَتِهِ. وَلِهَذَا قَالُوا بِبَيْعِ الْمَسْكَنِ لِلْحَجِّ، قِيَاسًا عَلَى بَيْعِهِ فِي الدَّيْنِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَلْزَمُهُ بَيْعُ مَسْكَنِهِ لأَِجْل الْحَجِّ مُطْلَقًا (1) .
حُرْمَةُ مَحَل السُّكْنَى:
33 - جَعَل اللَّهُ لِلْمَسْكَنِ حُرْمَةً، فَلاَ يَجُوزُ الدُّخُول فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ. يَقُول اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (2) . وَيَقُول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اطَّلَعَ فِي دَارِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَفَقَأُوا عَيْنَهُ فَقَدْ أُهْدِرَتْ عَيْنُهُ (3) .
__________
(1) الدر المختار شرح تنوير الأبصار بحاشية ابن عابدين 2 / 196، والحطاب وبهامشه التاج والإكليل 2 / 504، ومغني المحتاج لمعرفة ألفاظ المنهاج 1 / 449، المغني لابن قدامة 3 / 172.
(2) سورة النور / 27.
(3) حديث: " من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه ". أخرجه أبو داود (5 / 366 - تحقيق عزت عبيد الدعاس) وبنحوه أخرجه مسلم (3 / 1699 - ط الحلبي) والنسائي (8 / 61 - ط المكتبة التجارية) من حديث أبي هريرة.(25/127)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الاِسْتِئْذَانُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ فَادْخُل وَإِلاَّ فَارْجِعْ (1) . فَالسُّنَّةُ فِي الاِسْتِئْذَانِ ثَلاَثُ مَرَّاتٍ لاَ يُزَادُ عَلَيْهَا، قَال مَالِكٌ: الاِسْتِئْذَانُ ثَلاَثٌ لاَ أُحِبُّ أَنْ يَزِيدَ أَحَدٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ، فَلاَ أَرَى بَأْسًا أَنْ يَزِيدَ إِذَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ.
وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِئْذَان) .
حُكْمُ دُخُول مَحَل سُكْنَى الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ:
34 - مَنْ دَخَل دَارَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ؛ لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِدُخُول مِلْكِ غَيْرِهِ دُونَ إِذْنٍ، فَكَانَ لِصَاحِبِ الدَّارِ مُطَالَبَتُهُ بِتَرْكِ التَّعَدِّي. كَمَا لَوْ غَصَبَ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنْ خَرَجَ بِالأَْمْرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ضَرْبُهُ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ إِخْرَاجُهُ وَإِزَالَةُ الْعُدْوَانِ بِغَيْرِ الْقَتْل. كَمَا لَوْ غَصَبَ مِنْهُ شَيْئًا فَأَمْكَنَ أَخْذُهُ بِغَيْرِ الْقَتْل. فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِالأَْمْرِ كَانَ لَهُ دَفْعُهُ بِأَسْهَل مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْدَفِعُ بِهِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهُ، فَإِذَا انْدَفَعَ بِقَلِيلٍ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِالْعَصَا لَمْ يَكُنْ لَهُ
__________
(1) حديث: " الاستئذان ثلاث فإن أذن لك فادخل وإلا فارجع ". أخرجه البخاري (فتح 11 / 26 - 27 ط السلفية) ومسلم (3 / 1694 - ط الحلبي) والطحاوي في مشكل الآثار (1 / 499 - ط دائرة المعارف العثمانية) واللفظ له وجميعهم من حديث أبي سعيد الخدري.(25/128)
ضَرْبُهُ بِالْحَدِيدِ؛ لأَِنَّ الْحَدِيدَ آلَةٌ لِلْقَتْل بِخِلاَفِ الْعَصَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ إِلاَّ بِالْقَتْل أَوْ خَافَ أَنْ يَبْدُرَهُ بِالْقَتْل إِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ، فَلَهُ دَفْعُهُ بِمَا يَقْتُلُهُ أَوْ يَقْطَعُ طَرَفَهُ، وَمَا أَتْلَفَ مِنْهُ فَهُوَ هَدَرٌ إِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الدَّاخِل كَابَرَ صَاحِبَ الدَّارِ وَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ دَفْعَهُ إِلاَّ بِذَلِكَ (1) . وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ.
35 - وَإِذَا كَانَ الأَْصْل عَدَمَ جَوَازِ دُخُول بَيْتِ الْغَيْرِ إِلاَّ بِإِذْنٍ، فَإِنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ الأَْحْوَال الْخَاصَّةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الدُّخُول بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَال الْحَنَفِيَّةُ:
أ - حَالَةُ الْغَزْوِ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مُشْرِفًا عَلَى الْعَدُوِّ فَلِلْغُزَاةِ دُخُولُهُ لِيُقَاتِلُوا الْعَدُوَّ مِنْهُ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى إِذْنِ صَاحِبِ الْبَيْتِ.
ب - مَنْ نَهَبَ مِنْ غَيْرِهِ ثَوْبًا، وَدَخَل النَّاهِبُ دَارَهُ جَازَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يَدْخُل دُونَ إِذْنٍ لأَِخْذِ حَقِّهِ (2) .
ج - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ عَلِمَ أَنَّ بَيْتًا يُشْرَبُ فِيهِ الْخَمْرُ أَوْ يُضْرَبُ فِيهِ الطُّنْبُورُ فَلَهُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 351، العدوي على الخرشي 8 / 112، ونهاية المحتاج 8 / 24، ومغني المحتاج 4 / 199، والمهذب 2 / 227، والمغني 8 / 329 - 330.
(2) ابن عابدين 5 / 126 - 127.(25/128)
الْهُجُومُ عَلَيْهِ وَإِزَالَةُ الْمُنْكَرِ وَلَوْ بِالْقِتَال، وَهَذَا عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ (1) .
حُكْمُ النَّظَرِ فِي مَحَل سُكْنَى الْغَيْرِ دُونَ إِذْنٍ:
36 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ - دُونَ إِذْنٍ - مِنْ ثَقْبٍ أَوْ كُوَّةٍ فَرَمَاهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ بِحَصَاةٍ أَوْ طَعَنَهُ بِعُودٍ فَقَلَعَ عَيْنَهُ، لَمْ يَضْمَنْهَا. وَكَذَا لَوْ أَصَابَ قُرْبَ عَيْنِهِ فَجَرَحَهُ، فَسَرَى الْجُرْحُ فَمَاتَ فَهَدَرٌ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ الْمَرْفُوعِ: لَوِ اطَّلَعَ أَحَدٌ فِي بَيْتِكَ وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ جُنَاحٌ (2) .
وَعَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلاً اطَّلَعَ فِي جُحْرٍ مِنْ بَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُكُّ رَأْسَهُ بِمِدْرَى فِي يَدِهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنَيْكَ (3) وَإِنْ تَرَكَ النَّاظِرُ الاِطِّلاَعَ وَانْصَرَفَ لَمْ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 24.
(2) حديث: " لو اطلع في بيتك أحد ولم تأذن له حذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح ". أخرجه البخاري (فتح12 / 216 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1699 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة
(3) حديث: " لو أعلم أنك تنتظرني لطعنت به في عينيك ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 243 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1698 - ط الحلبي) واللفظ لهما من حديث سهل بن سعد الساعدي.(25/129)
يَجُزْ رَمْيُهُ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَطْعَنِ الَّذِي اطَّلَعَ ثُمَّ انْصَرَفَ؛ لأَِنَّهُ تَرَكَ الْجِنَايَةَ.
وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّارِ رَمْيُ النَّاظِرِ بِمَا يَقْتُلُهُ ابْتِدَاءً. فَإِنْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ يَقْتُلُهُ أَوْ حَدِيدَةٍ ثَقِيلَةٍ ضَمِنَهُ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا لَهُ مَا يَقْلَعُ بِهِ الْعَيْنَ الْمُبْصِرَةَ الَّتِي حَصَل الأَْذَى مِنْهَا، دُونَ مَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهَا، فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعِ الْمُطَّلِعُ بِرَمْيِهِ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ جَازَ رَمْيُهُ بِأَكْثَرَ مِنْهُ وَلَوْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ. وَعَلَى صَاحِبِ الدَّارِ ابْتِدَاءً أَنْ يَدْفَعَهُ بِأَسْهَل مَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ، بِأَنْ يَقُول لَهُ انْصَرِفْ، أَوْ يُخَوِّفَهُ أَوْ يَصِيحَ عَلَيْهِ صَيْحَةً مُزْعِجَةً. فَإِنْ لَمْ يَنْصَرِفْ أَشَارَ إِلَيْهِ يُوهِمُهُ أَنَّهُ يَحْذِفُهُ. فَإِنْ لَمْ يَنْصَرِفْ فَلَهُ حَذْفُهُ حِينَئِذٍ.
وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ فِي هَذَا أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ إِلاَّ بِذَلِكَ؛ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلاَ يَجُوزُ رَمْيُ مَنْ نَظَرَ مِنَ الْبَابِ الْمَفْتُوحِ؛ لأَِنَّ التَّفْرِيطَ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ بِفَتْحِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ وَالأَْوْلَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْبَابَ الْمَفْتُوحَ كَالْكُوَّةِ، وَالْكُوَّةُ الْكَبِيرَةُ كَالْبَابِ الْمَفْتُوحِ، وَفِي مَعْنَاهَا الشُّبَّاكُ الْوَاسِعُ، فَلاَ يَجُوزُ رَمْيُهُ مِنْهُ؛ لِتَقْصِيرِ صَاحِبِ الدَّارِ إِلاَّ أَنْ يُنْذِرَهُ فَيَرْمِيَهُ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.(25/129)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: يَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الثُّقْبُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، أَوْ كَانَ الشَّقُّ وَاسِعًا فَلِصَاحِبِ الدَّارِ رَمْيُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ نِسَاءٌ، وَكَانَ فِيهَا صَاحِبُ الْبَيْتِ وَحْدَهُ فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ رَمْيُ النَّاظِرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ، فَلَهُ الرَّمْيُ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لِصَاحِبِ الدَّارِ رَمْيُ النَّاظِرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الدَّارِ نِسَاءٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ لأَِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ كَانَ فِي الدَّارِ الَّتِي اطَّلَعَ فِيهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءٌ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَحَذَفْتَهُ. . (1) . عَامٌّ فِي الدَّارِ الَّتِي فِيهَا نِسَاءٌ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الأَْذْرَعِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَا إِذَا كَانَ النَّاظِرُ أَحَدَ أُصُول صَاحِبِ الدَّارِ الَّذِينَ لاَ قِصَاصَ عَلَيْهِمْ وَلاَ حَدَّ قَذْفٍ، فَلاَ يَجُوزُ رَمْيُهُ، فَإِنْ رَمَاهُ ضَمِنَ.
وَاسْتَثْنَوْا كَذَلِكَ مَا إِذَا كَانَ النَّظَرُ مُبَاحًا لِلنَّاظِرِ لِخُطْبَةٍ وَنَحْوِهَا.
وَحُكْمُ نَظَرِ النَّاظِرِ مِنْ سَطْحِ نَفْسِهِ وَنَظَرِ الْمُؤَذِّنِ مِنَ الْمَنَارَةِ كَالنَّظَرِ
__________
(1) حديث: " لو أن امرأ اطلع عليك ". أخرجه البخاري (فتح12 / 243 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1699 ط الحلبي) واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة.(25/130)
مِنَ الْكُوَّةِ عَلَى الأَْصَحِّ كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ؛ إِذْ لاَ تَفْرِيطَ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: مَنْ قَصَدَ عَيْنَ النَّاظِرِ بِرَمْيِهَا بِحَصَاةٍ أَوْ نَخَسَهَا بِعُودٍ فَفَقَأَهَا، فَالْقِصَاصُ مِنْ عَيْنِ الْمَنْظُورِ لَهُ حَقٌّ لِلنَّاظِرِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ عَيْنَ الْمَنْظُورِ بِأَنْ قَصَدَ مُجَرَّدَ زَجْرِهِ فَصَادَفَ عَيْنَهُ، فَلاَ قَوَدَ عَلَى الْمَنْظُورِ. وَفِي غَيْرِ النَّاظِرِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَنْظُورِ. وَيُحْمَل حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمْيِ النَّاظِرِ عَلَى أَنَّهُ يَرْمِيهِ لِيُنَبِّهَهُ عَلَى أَنَّهُ فَطِنَ بِهِ، أَوْ لِيَدْفَعَهُ عَنْ ذَلِكَ غَيْرَ قَاصِدٍ فَقْءَ عَيْنِهِ فَانْفَقَأَتْ عَيْنُهُ خَطَأً فَالْجُنَاحُ مُنْتَفٍ، وَهُوَ الَّذِي نُفِيَ فِي الْحَدِيثِ.
وَلأَِنَّهُ لَوْ نَظَرَ إِنْسَانٌ إِلَى عَوْرَةِ آخَرَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلاَ يَسْتَبِيحُ فَقْءَ عَيْنِهِ فَالنَّظَرُ إِلَيْهِ فِي بَيْتِهِ أَوْلَى أَنْ لاَ يُسْتَبَاحَ بِهِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ نَظَرَ فِي بَيْتِ إِنْسَانٍ فَفَقَأَ صَاحِبُ الْبَيْتِ عَيْنَهُ لاَ يَضْمَنُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَنْحِيَتُهُ مِنْ غَيْرِ فَقْئِهَا، وَإِنْ أَمْكَنَ ضَمِنَ. وَلَوْ أَدْخَل رَأْسَهُ فَرَمَاهُ بِحَجَرٍ فَفَقَأَهَا لاَ يَضْمَنُ إِجْمَاعًا، لأَِنَّهُ شَغَل مِلْكَهُ كَمَا لَوْ قَصَدَ أَخْذَ ثِيَابِهِ فَدَفَعَهُ حَتَّى قَتَلَهُ لَمْ يَضْمَنْ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 197 - 199، والمغني 8 / 335 - 336.
(2) منح الجليل 4 / 560 - 561، وجواهر الإكليل 2 / 297.
(3) ابن عابدين 5 / 353.(25/130)
سُكُوت
التَّعْرِيفُ:
1 - السُّكُوتُ خِلاَفُ النُّطْقِ، وَهُمَا مَصْدَرَانِ. يُقَال: سَكَتَ الصَّائِتُ سُكُوتًا: إِذَا صَمَتَ.
وَالاِسْمُ السُّكْتَةُ وَالسِّكْتَةُ (1) . يَقُول الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: السُّكُوتُ مُخْتَصٌّ بِتَرْكِ الْكَلاَمِ.
وَرَجُلٌ سِكِّيتٌ: كَثِيرُ السُّكُوتِ (2) .
وَفِي النِّهَايَةِ لاِبْنِ الأَْثِيرِ: تَكَلَّمَ الرَّجُل ثُمَّ سَكَتَ، بِغَيْرِ أَلِفٍ، فَإِذَا انْقَطَعَ كَلاَمُهُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ قِيل: أَسْكَتَ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (سكت) .
(2) المفردات للراغب في المادة.
(3) ابن عابدين 2 / 135.(25/131)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصَّمْتُ:
2 - الصَّمْتُ هُوَ السُّكُوتُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَلاَمِ أَمْ لاَ. وَجَاءَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّ الصَّمْتَ هُوَ السُّكُوتُ الطَّوِيل. وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ النَّهْرِ حَيْثُ قَال: السُّكُوتُ ضَمُّ الشَّفَتَيْنِ، فَإِنْ طَال يُسَمَّى صَمْتًا (1) .
وَفِي الْحَدِيثِ: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ صُمَاتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْل (2) .
ب - الإِْنْصَاتُ:
3 - الإِْنْصَاتُ هُوَ السُّكُوتُ لِلاِسْتِمَاعِ، يُقَال: أَنْصَتَ: إِذَا سَكَتَ سُكُوتَ مُسْتَمِعٍ.
وَأَنْصَتَهُ: إِذَا أَسْكَتَهُ، فَهُوَ لاَزِمٌ وَمُتَعَدٍّ (3) . يَقُول الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (4) الإِْنْصَاتُ هُوَ السُّكُوتُ لِلاِسْتِمَاعِ، وَالإِْصْغَاءُ وَالْمُرَاعَاةُ (5) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ السُّكُوتِ.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 135.
(2) حديث: " لا صمات يوم إلى الليل ". أخرجه أبو داود (3 / 294 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث علي بن أبي طالب وفي إسناده. مقال كذا في فيض القدير للمناوي (6 / 444 - ط المكتبة التجارية) .
(3) لسان العرب مادة: (نصت) .
(4) سورة الأعراف / 204.
(5) تفسير القرطبي 7 / 354.(25/131)
حُكْمُ السُّكُوتِ:
4 - تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ لِحُكْمِ السُّكُوتِ فِي مُخْتَلَفِ الْمَسَائِل: وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ أَحْكَامَهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، بَادِئِينَ بِالْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ، ثُمَّ حُكْمِ السُّكُوتِ وَأَثَرِهِ فِي الْمُعَامَلاَتِ وَالْعُقُودِ وَالدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ نُبَيِّنُ مَا ذَكَرَهُ الأُْصُولِيُّونَ إِجْمَالاً مَعَ التَّعَرُّضِ لِحُكْمِ الإِْجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - السُّكُوتُ مُبَاحٌ غَالِبًا، وَتَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الأُْخْرَى حَسَبَ الأَْحْوَال، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِحُكْمِ السُّكُوتِ التَّكْلِيفِيِّ فِي مَسَائِل، مِنْهَا:
سُكُوتُ الْمُقْتَدِي:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ السُّكُوتُ عَلَى الْمُقْتَدِي عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، فَيَسْتَمِعُ إِذَا جَهَرَ الإِْمَامُ، وَيُنْصِتُ إِذَا أَسَرَّ. فَإِنْ قَرَأَ كُرِهَ تَحْرِيمًا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الآْيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الصَّلاَةِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا نَقْرَأُ خَلْفَ الإِْمَامِ
__________
(1) سورة الأعراف / 204.(25/132)
فَنَزَل {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ الْبَحْرِ: الْمَطْلُوبُ بِالآْيَةِ أَمْرَانِ: الاِسْتِمَاعُ وَالسُّكُوتُ، فَيُعْمَل بِكُلٍّ مِنْهُمَا. وَالأَْوَّل يَخُصُّ الْجَهْرِيَّةَ، وَالثَّانِي لاَ، فَيُجْرَى عَلَى إِطْلاَقِهِ، فَيَجِبُ السُّكُوتُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا (1) . اهـ. وَقَال الْكَاسَانِيُّ: الاِسْتِمَاعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا عِنْدَ الْمُخَافَتَةِ بِالْقِرَاءَةِ فَالإِْنْصَاتُ مُمْكِنٌ عِنْدَ الْمُخَافَتَةِ بِالْقِرَاءَةِ، فَيَجِبُ بِظَاهِرِ النَّصِّ. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَشْهُورٍ: إِنَّمَا جُعِل الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ. فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا (2) . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإِْمَامِ قِرَاءَةٌ لَهُ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ تَجِبُ عَلَى الْمُقْتَدِي الْقِرَاءَةُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصَّلاَةُ جَهْرِيَّةً أَمْ سَرِيَّةً، لَكِنَّهُمْ قَالُوا بِاسْتِحْبَابِ الْقِرَاءَةِ فِيمَا لاَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 366، والبدائع 1 / 111.
(2) حديث: " إنما جعل الإمام ليؤتم به. . . ". كذا أورده الكاساني، وهو عند مسلم بلفظ: " إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا. . إلى أن قال في رواية: وإذا قرأ فأنصتوا ". مسلم (1 / 303 - 304 - ط الحلبي) من حديث أبي موسى الأشعري.
(3) البدائع 1 / 111. وحديث: " من كان له إمام فقراءة. . أخرجه ابن ماجه (1 / 277 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 175 - ط دار الجنان) .(25/132)
يُجْهَرُ فِيهِ (1) . كَمَا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا بِاسْتِحْبَابِهَا لِلْمُقْتَدِي فِي الْجَهْرِيَّةِ عِنْدَ سَكَتَاتِ الإِْمَامِ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى الْمُقْتَدِي قِرَاءَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي الصَّلاَةِ السِّرِّيَّةِ قَوْلاً وَاحِدًا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (3) .
أَمَّا فِيمَا يُجْهَرُ فِيهَا فَفِيهِ قَوْلاَنِ: الْقَدِيمُ أَنَّهُ لاَ يَقْرَأُ بَل يُنْصِتُ، وَذَلِكَ لِلآْيَةِ وَالأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ. وَفِي الْجَدِيدِ: تَتَعَيَّنُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، حِفْظًا أَوْ نَظَرًا فِي مُصْحَفٍ، أَوْ تَلْقِينًا، فِي كُل رَكْعَةٍ، لِكُلٍّ مِنَ الإِْمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ وَالْمُقْتَدِي، سَرِيَّةً كَانَتِ الصَّلاَةُ أَوْ جَهْرِيَّةً، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ (4) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَاءَة) .
السُّكُوتُ لاِسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) الدسوقي 1 / 236، 237، والمغني 1 / 562 - 565، 556.
(2) المغني 1 / 565، 566، 567.
(3) حديث: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 237 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 295 - ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت.
(4) المهذب 1 / 79، ومغني المحتاج 1 / 156، 157.(25/133)
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ) إِلَى أَنَّ السُّكُوتَ وَالإِْنْصَاتَ لاِسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ وَاجِبٌ، فَيَحْرُمُ الْكَلاَمُ إِلاَّ لِلْخَطِيبِ أَوْ لِمَنْ يُكَلِّمُهُ الْخَطِيبُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (1) . وَلِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ، وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ (2) .
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ تَحْذِيرَ مَنْ خِيفَ هَلاَكُهُ؛ لأَِنَّهُ يَجِبُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَالإِْنْصَاتُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ (3) . وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ قَلِيل الذِّكْرِ سِرًّا، كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيل وَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يُشِيرَ بِرَأْسِهِ، أَوْ يَدِهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ مُنْكَرًا (4) .
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ وُجُوبَ السُّكُوتِ بِمَا إِذَا كَانَ الإِْمَامُ قَرِيبًا، بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ
__________
(1) سورة الأعراف / 204.
(2) حديث: " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة. . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 414 - ط السلفية) ومسلم (2 / 583 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) ابن عابدين 1 / 551، والبدائع 1 / 263، وحاشية الدسوقي 1 / 387، ونهاية المحتاج 2 / 308، وكشاف القناع 1 / 47.
(4) نفس المراجع.(25/133)
الإِْنْصَاتِ لِلاِسْتِمَاعِ، وَالْبَعِيدُ لَيْسَ بِمُسْتَمِعٍ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا بِوُجُوبِ السُّكُوتِ حِينَ الْخُطْبَةِ بِلاَ فَرْقٍ بَيْنَ قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ، فِي الأَْصَحِّ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ: لاَ يَجِبُ الإِْنْصَاتُ، وَلاَ يَحْرُمُ الْكَلاَمُ حِينَ الْخُطْبَةِ؛ لِمَا صَحَّ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلَكَ الْمَال وَجَاعَ الْعِيَال فَادْعُ لَنَا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا (2) وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مَوْعِدِ السَّاعَةِ، فَأَوْمَأَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالسُّكُوتِ، فَلَمْ يَقْبَل، وَأَعَادَ الْكَلاَمَ (3) ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا. وَالأَْمْرُ فِي الآْيَةِ لِلنَّدْبِ، فَيُسَنُّ السُّكُوتُ وَالإِْنْصَاتُ وَيُكْرَهُ الْكَلاَمُ، وَذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الأَْدِلَّةِ (4) .
سَكَتَاتُ الإِْمَامِ:
8 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَسْكُتَ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالتَّأْمِينِ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 47.
(2) حديث أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هلك المال. . . . أخرجه البخاري (الفتح 2 / 413 - ط السلفية) . ومسلم (2 / 614 - ط الحلبي) من حديث أنس.
(3) حديث: " سأله رجل عن موعد الساعة. . ". أخرجه البيهقي (3 / 221 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أنس بن مالك وصححه النووي كما في المجموع (4 / 525 - ط المنيرية) .
(4) نهاية المحتاج 2 / 307، 308.(25/134)
قَدْرَ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ الْفَاتِحَةَ. وَذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ الْجَهْرِيَّةِ؛ لِيَتَمَكَّنَ الْمَأْمُومُ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مَعَ الإِْنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ الإِْمَامِ (1) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ حِينَئِذٍ أَنْ يَشْتَغِل بِالذِّكْرِ أَوِ الدُّعَاءِ أَوْ الْقِرَاءَةِ سِرًّا؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ لَيْسَ فِيهَا سُكُوتٌ حَقِيقِيٌّ لِلإِْمَامِ.
وَقَالُوا: إِنَّ السَّكَتَاتِ الْمَنْدُوبَةَ فِي الصَّلاَةِ أَرْبَعٌ: سَكْتَةٌ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ يَفْتَتِحُ فِيهَا، وَسَكْتَةٌ بَيْنَ: وَلاَ الضَّالِّينَ وَآمِينَ، وَسَكْتَةٌ لِلإِْمَامِ بَعْدَ التَّأْمِينِ فِي الْجَهْرِيَّةِ بِقَدْرِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَسَكْتَةٌ قَبْل تَكْبِيرِ الرُّكُوعِ (2) .
وَجَاءَ فِي الْمُغْنِي: قَال أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لِلإِْمَامِ سَكْتَتَانِ، فَاغْتَنِمُوا فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ: إِذَا دَخَل فِي الصَّلاَةِ، وَإِذَا قَال: {وَلاَ الضَّالِّينَ} .
وَقَال عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَّا أَنَا فَأَغْتَنِمُ مِنَ الإِْمَامِ اثْنَتَيْنِ: إِذَا قَال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} فَأَقْرَأُ عِنْدَهَا، وَحِينَ يَخْتِمُ السُّورَةَ، فَأَقْرَأُ قَبْل أَنْ يَرْكَعَ (3) .
وَلاَ يَقُول بِاسْتِحْبَابِ هَذِهِ السَّكَتَاتِ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 150، وكشاف القناع 1 / 339.
(2) أسنى المطالب 1 / 150، ونهاية المحتاج 1 / 474.
(3) المغني لابن قدامة 1 / 566.(25/134)
الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ. وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة، وَقِرَاءَة) .
السُّكُوتُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ:
9 - الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ - أَيْ مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ وَالإِْحْسَانِ إِلَى النَّاسِ - وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ مَا فِيهِ غَضَبُ اللَّهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ - أَصْلٌ مِنْ أُصُول الدِّينِ كَمَا يَقُول الْغَزَالِيُّ، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ وَابْنُ حَزْمٍ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ. فَالسُّكُوتُ عِنْدَ رُؤْيَةِ ارْتِكَابِ الْمُنْكَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهِ حَرَامٌ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ حِينَ تَوَفُّرِ شُرُوطِهِ وَالْمَرَاتِبِ وَالْوَسَائِل الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِْيمَانِ (1) وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَفِي بَيَانِ شُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ وَمَرَاتِبِهِ، وَالْوَسَائِل الَّتِي يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ اتِّخَاذُهَا فِي الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهَل هُوَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 353، وجواهر الإكليل 1 / 251، ومواهب الجليل للحطاب 3 / 48، والأحكام السلطانية للماوردي ص 241، والزواجر 2 / 161، وشرح النووي على مسلم 2 / 22، وإحياء علوم الدين 2 / 391، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 183.(25/135)
فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ - تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ، يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (الأَْمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ) ف 3 - 5 (6 248 - 250) .
السُّكُوتُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
10 - تَحَمُّل الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَيَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالطَّلَبِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ. وَهَذَا إِذَا عَلِمَ الشَّاهِدُ بِقَبُول شَهَادَتِهِ، وَكَانَ الْقَاضِي عَادِلاً، وَيَكُونُ الْمَكَانُ قَرِيبًا، وَلاَ يَعْلَمُ بُطْلاَنَ الشُّهُودِ بِهِ، وَلاَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ خَوْفًا.
فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ السُّكُوتُ؛ لأَِنَّ فِي سُكُوتِهِ تَضْيِيعًا لِلْحَقِّ وَهُوَ مُحَرَّمٌ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (1) وَهَذَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ.
أَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، كَالطَّلاَقِ وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالرَّضَاعِ فَيَجِبُ الأَْدَاءُ حِسْبَةً بِلاَ طَلَبٍ.
إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يُخَيَّرُ فِي الْحُدُودِ، وَسَتْرُهَا فِي بَعْضِ الْحُدُودِ أَبَرُّ، فَالأَْوْلَى فِيهَا الْكِتْمَانُ إِلاَّ لِمُتَهَتِّكٍ وَمَنِ اشْتُهِرَ بِالْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي.
__________
(1) سورة البقرة / 283.(25/135)
هَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ (1) وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى، مَعَ تَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ، وَخِلاَفٍ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَة) .
حُكْمُ السُّكُوتِ فِي الْمُعَامَلاَتِ وَالْعُقُودِ:
11 - الْمُعَامَلاَتُ وَالْعُقُودُ أَسَاسُهَا الرِّضَا الَّذِي يَتَحَقَّقُ غَالِبًا بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول الْقَوْلِيِّ.
وَالأَْصْل أَنَّ السُّكُوتَ لاَ يُعْتَبَرُ رِضًا فَالْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ تَقُول: (لاَ يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ (3)) وَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ وَالسُّيُوطِيُّ فِي أَشْبَاهِهِمَا مِنْ أَنَّ الثَّيِّبَ لَوْ سَكَتَتْ عِنْدَ الاِسْتِئْذَانِ فِي النِّكَاحِ لَمْ يَقُمْ مَقَامَ الإِْذْنِ. وَلَوْ رَأَى أَجْنَبِيًّا يَبِيعُ مَالَهُ فَسَكَتَ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنِ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلاً بِسُكُوتِ الْمُوَكِّل، وَلَوْ سَكَتَ عَنْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ أَوْ إِتْلاَفِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَنْعِ لَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُهُ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَ كُفْءٍ فَسُكُوتُ الْوَلِيِّ عَنْ مُطَالَبَةِ التَّفْرِيقِ لَيْسَ بِرِضًا مَا لَمْ تَلِدْ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 370، 371.
(2) جواهر الإكليل 2 / 242، 236، وحاشية القليوبي على شرح المنهاج 4 / 329 - 331، والمغني لابن قدامة 9 / 146 وما بعدها.
(3) مجلة الأحكام العدلية م (67) والأشباه والنظائر للسيوطي.
(4) الأشباه والنظائر لابن نجيم مع حاشية الحموي ص 184 وما بعدها، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 142، والمنثور للزركشي 2 / 205.(25/136)
وَسَيَأْتِي تَفْصِيل بَعْضِ هَذِهِ الْفُرُوعِ وَنَظَائِرِهَا فِيمَا بَعْدُ مَعَ الأَْدِلَّةِ. هَذَا هُوَ الأَْصْل.
لَكِنْ قَدْ يَتَحَقَّقُ الرِّضَا بِالْفِعْل وَالتَّعَاطِي، أَوِ الْقَوْل مِنْ طَرَفٍ وَالْفِعْل مِنْ طَرَفٍ آخَرَ، أَوِ الْقَوْل مِنْ جَانِبٍ وَالسُّكُوتِ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ يَدُل عَلَى الرِّضَا، كَمَا فُصِّل فِي مُصْطَلَحِ (عَقْد)
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَمْثِلَةً لِمَا يَدُل السُّكُوتُ فِيهَا عَلَى الرِّضَا وَالإِْذْنِ وَفْقًا لِقَاعِدَةِ: إِنَّ السُّكُوتَ فِي مَعْرِضِ الْحَاجَةِ بَيَانٌ، كَمَا ذَكَرُوا أَمْثِلَةً لِمَا لاَ يَدُل فِيهِ السُّكُوتُ عَلَى الرِّضَا بِنَاءً عَلَى الأَْصْل.
وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ أَهَمَّ هَذِهِ الْمَسَائِل بِالتَّفْصِيل:
أ - سُكُوتُ الْمَالِكِ عِنْدَ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ (1) :
12 - إِذَا تَصَرَّفَ الْفُضُولِيُّ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِبَيْعٍ فِي حُضُورِ الْمَالِكِ، فَسَكَتَ فِي حَال كَوْنِهِ أَهْلاً لِلتَّصَرُّفِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْبَيْعِ، فَهَل يُعْتَبَرُ
__________
(1) الفضولي هو من لا يكون أصيلا ولا وليا ولا وكيلا في العقد.(25/136)
سُكُوتُهُ رِضًا وَإِذْنًا بِالْبَيْعِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُعْتَبَرُ هَذَا السُّكُوتُ إِذْنًا وَلاَ يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ، وَذَلِكَ لِقَاعِدَةِ: لاَ يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ (1) . وَعَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ الْبَيْعُ صَحِيحًا، لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ الصَّرِيحَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ بِيعَ مَالُهُ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ لَزِمَهُ الْبَيْعُ، وَلاَ يُعْذَرُ بِسُكُوتِهِ إِذَا ادَّعَاهُ. فَإِنْ مَضَى عَامٌ وَهُوَ سَاكِتٌ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الثَّمَنِ أَيْضًا (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ أَصْلاً، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ بَاعَ مَال غَيْرِهِ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ لَمْ يَصِحَّ قَطْعًا (3) وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: إِنْ بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَوْ بِحَضْرَتِهِ وَسُكُوتِهِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ وَلَوْ أَجَازَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ (4) ، أَيِ الْمِلْكِ وَالإِْذْنِ.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم مع حاشية الحموي ص 184، 185.
(2) الزرقاني 5 / 19، والشرح الصغير للدردير 3 / 26.
(3) نهاية المحتاج 3 / 391.
(4) كشاف القناع 3 / 157(25/137)
أَمَّا شِرَاءُ الْفُضُولِيِّ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (فُضُولِيّ) .
ب - سُكُوتُ الْوَلِيِّ عِنْدَ بَيْعِ أَوْ شِرَاءِ مَنْ تَحْتَ وِلاَيَتِهِ:
13 - إِذَا رَأَى الْوَلِيُّ مُوَلِّيَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ التَّصَرُّفِ يُعْتَبَرُ سُكُوتُهُ رِضًا وَإِذْنًا فِي التِّجَارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. قَال الْمُوصِلِيُّ: لأَِنَّ سُكُوتَهُ عَنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ دَلِيل رِضًا، كَسُكُوتِ الشَّفِيعِ عِنْدَ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ؛ لأَِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْهُ يَتَصَرَّفُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَالْوَلِيُّ سَاكِتٌ، يَعْتَقِدُونَ رِضَاهُ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ لَمَنَعَهُ، فَيُعَامِلُونَهُ مُعَامَلَةَ الْمَأْذُونِ. فَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ سُكُوتُهُ رِضًا يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى الإِْضْرَارِ بِهِمْ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ: السُّكُوتُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يُعْتَبَرُ رِضًا؛ لأَِنَّهُ يَحْتَمِل الرِّضَا وَالسَّخَطَ، فَلاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلاً لِلإِْذْنِ عِنْدَ الاِحْتِمَال (2) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ سُكُوتَ الْقَاضِي فَقَالُوا: إِذَا رَأَى الْقَاضِي الصَّبِيَّ أَوِ
__________
(1) الاختيار للموصلي 2 / 100، والبهجة شرح التحفة 2 / 295.
(2) مغني المحتاج 2 / 100، والمغني لابن قدامة 5 / 85.(25/137)
الْمَعْتُوهَ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ، لاَ يَكُونُ سُكُوتُهُ إِذْنًا فِي التِّجَارَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُ فِي مَال الْغَيْرِ حَتَّى يَكُونَ الإِْذْنُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ (1) .
ج - سُكُوتُ الشَّفِيعِ:
14 - سُكُوتُ الشَّفِيعِ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ وَالثَّمَنِ يُعْتَبَرُ رِضًا بِالْعَقْدِ وَإِقْرَارًا بِالتَّنَازُل عَنِ الشُّفْعَةِ، فَيَسْقُطُ حَقُّهُ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) . فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ الشَّفِيعَ أَنْ يَقُول كَلاَمًا يَدُل عَلَى طَلَبِ الشُّفْعَةِ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي سَمِعَ فِيهِ عَقْدَ الْبَيْعِ فِي الْحَال، ثُمَّ يَطْلُبُ طَلَبَ التَّقْرِيرِ وَالإِْشْهَادِ، فَإِنْ سَكَتَ وَأَخَّرَ الطَّلَبَ يَسْقُطُ حَقُّ شُفْعَتِهِ (2) .
وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، قَال الْخَطِيبُ: الأَْظْهَرُ أَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى الْفَوْرِ، لأَِنَّهَا حَقٌّ ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ كَرَدِّ الْمَبِيعِ، وَإِذَا كَانَ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا أَوْ خَائِفًا مِنْ عَدُوٍّ فَلْيُوَكِّل إِنْ قَدَرَ، وَإِلاَّ فَلْيُشْهِدْ عَلَى الطَّلَبِ. وَإِلاَّ بَطَل حَقُّهُ فِي الأَْظْهَرِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 111.
(2) مجلة الأحكام العدلية م 1029 - 132، والبدائع 5 / 18.(25/138)
لِتَقْصِيرِهِ، وَلإِِشْعَارِ السُّكُوتِ - مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الإِْشْهَادِ - بِالرِّضَا (1) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ: إِنِ اشْتَغَل بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ بِكَلاَمٍ آخَرَ، أَوْ سَلَّمَ عَلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ سَكَتَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ (2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمُ الطَّلَبُ فَوْرًا، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ سَكَتَ الشَّفِيعُ مَعَ عِلْمِهِ بِهَدْمٍ أَوْ بِنَاءٍ فِي الأَْرْضِ مِنْ قِبَل الْمُشْتَرِي، وَلَوْ لإِِصْلاَحٍ، أَوْ سَكَتَ بِلاَ مَانِعٍ شَهْرَيْنِ، إِنْ حَضَرَ الْعَقْدُ تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ.
وَإِلاَّ فَتَسْقُطُ بِحُضُورِهِ سَاكِتًا بِلاَ عُذْرٍ سَنَةً.
فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ وَهُوَ حَاضِرٌ فِي الْبَلَدِ سَاكِتٌ بِلاَ مَانِعٍ فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ (3) .
د - السُّكُوتُ فِي الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ:
15 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْوَدِيعَةَ كَمَا تَنْعَقِدُ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول صَرَاحَةً تَنْعَقِدُ كَذَلِكَ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول دَلاَلَةً. فَإِذَا وَضَعَ رَجُلٌ مَالَهُ فِي دُكَّانٍ مَثَلاً، فَرَآهُ صَاحِبُ الدُّكَّانِ وَسَكَتَ، ثُمَّ تَرَكَ الرَّجُل ذَلِكَ الْمَال وَانْصَرَفَ صَارَ ذَلِكَ الْمَال عِنْدَ صَاحِبِ الدُّكَّانِ وَدِيعَةً،
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 307، 308.
(2) كشاف القناع 4 / 140 - 142.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 484، 485.(25/138)
لأَِنَّ سُكُوتَ صَاحِبِ الدُّكَّانِ حِينَ وَضَعَ الْمَال يَدُل عَلَى قَبُول حِفْظِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا فَرَّطَ فِي حِفْظِهِ يَكُونُ ضَامِنًا كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الأَْمَانَاتِ (1) .
أَمَّا السُّكُوتُ فِي الْعَارِيَّةِ فَلاَ يُعْتَبَرُ رِضًا وَإِذْنًا مِنَ الْمُعِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَوْ طَلَبَ شَخْصٌ مِنْ آخَرَ إعَارَةَ شَيْءٍ، فَسَكَتَ صَاحِبُ ذَلِكَ الشَّيْءِ ثُمَّ أَخَذَهُ الْمُسْتَعِيرُ كَانَ غَاصِبًا.
وَهَذَا هُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا حَيْثُ قَالُوا: الأَْصَحُّ فِي النَّاطِقِ اشْتِرَاطُ لَفْظٍ يُشْعِرُ بِالإِْذْنِ أَوْ بِطَلَبِهِ، كَأَعَرْتُكَ هَذَا وَنَحْوَهُ. وَفِي مُقَابِل الأَْصَحِّ لاَ يُشْتَرَطُ اللَّفْظُ (2) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (وَدِيعَة، عَارِيَّةً) .
هـ - الصُّلْحُ عَلَى السُّكُوتِ:
16 - الصُّلْحُ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ، وَهُوَ انْتِقَالٌ عَنْ حَقٍّ أَوْ دَعْوَى بِعِوَضٍ لِرَفْعِ نِزَاعٍ، أَوْ خَوْفِ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم مع حاشية الحموي 184، والمادة (773) من مجلة الأحكام العدلية، والزرقاني 6 / 114، وحاشية الدسوقي 3 / 419.
(2) مجلة الأحكام العدلية م (805) ، مغني المحتاج 2 / 266، 267.(25/139)
وُقُوعِهِ، كَمَا عَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ، أَوْ عَقْدٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ بِالتَّرَاضِي، كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ (1) .
وَقَدْ قَسَّمَهُ الْفُقَهَاءُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ، وَالصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ وَالصُّلْحُ عَنْ سُكُوتٍ، بِأَنْ يَسْكُتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَى الْمُدَّعِي فَيُصَالِحَهُ بِدَفْعِ شَيْءٍ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الْمُدَّعِي الدَّعْوَى (2) .
وَحُكْمُ الصُّلْحِ عَلَى السُّكُوتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هُوَ حُكْمُ الصُّلْحِ عَلَى الإِْنْكَارِ (3) .
قَال الْبُهُوتِيُّ: إِنِ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِهِ أَوْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، فَيُنْكِرُهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ يَسْكُتُ وَهُوَ يَجْهَلُهُ، ثُمَّ يُصَالِحُ عَلَى مَالٍ، يَصِحُّ الصُّلْحُ، وَيَكُونُ الْمَال الْمُصَالَحُ بِهِ بَيْعًا فِي حَقِّ الْمُدَّعِي وَإِبْرَاءً فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ (4) .
وَنَظِيرُهُ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ حَيْثُ نَصُّوا بِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الإِْنْكَارِ أَوِ السُّكُوتِ هُوَ فِي حَقِّ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 102، ومجلة الأحكام العدلية م (1531) .
(2) مجلة الأحكام العدلية م (1535) ، والدسوقي 3 / 311، وجواهر الإكليل 2 / 103، ونهاية المحتاج 4 / 375.
(3) نهاية المحتاج 4 / 375، وكشاف القناع 3 / 397.
(4) كشاف القناع 3 / 397، 398.(25/139)
الْمُدَّعِي مُعَاوَضَةٌ، وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَلاَصٌ مِنَ الْيَمِينِ وَقَطْعٌ لِلْمُنَازَعَةِ (1) .
أَمَّا الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَحُكْمُ السُّكُوتِ فِي الصُّلْحِ حُكْمُ الإِْقْرَارِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ وَتَجْرِي فِيهِ الصُّوَرُ الَّتِي تَجْرِي فِي الإِْقْرَارِ، مِنْ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ هِبَةٍ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صُلْح) .
سُكُوتُ الْمَرْأَةِ عِنْدَ اسْتِئْذَانِهَا لِلنِّكَاحِ:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ عِنْدَ اسْتِئْذَانِهَا لِلنِّكَاحِ يُعْتَبَرُ رِضًا وَإِذْنًا، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: اسْتَأْمِرُوا النِّسَاءَ فِي أَبْضَاعِهِنَّ، قِيل: إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي وَتَسْكُتُ، قَال: هُوَ إِذْنُهَا (3) . وَفِي رِوَايَةٍ: الْبِكْرُ رِضَاهَا صُمَاتُهَا (4) . وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهَا إِنْ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م (1535، 1549) .
(2) الدسوقي 3 / 309، 311، وجواهر الإكليل 2 / 102.
(3) حديث: " استأمروا النساء في أبضاعهن ". أخرجه النسائي (6 / 68 - ط المكتبة التجارية) من حديث عائشة، ومعناه في البخاري (الفتح 12 / 319 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1037 - ط الحلبي) .
(4) حديث: " رواية: البكر رضاها صماتها ". أخرجها البخاري (الفتح 9 / 191 - ط السلفية) .(25/140)
بَكَتْ بِغَيْرِ صَوْتٍ أَوْ ضَحِكَتْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ سُكُوتِهَا (1) .
لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: سُكُوتُ الْبِكْرِ فِي النِّكَاحِ إِذْنٌ لِلأَْبِ وَالْجَدِّ قَطْعًا، أَمَّا لِسَائِرِ الْعَصَبَةِ وَالْحَاكِمِ فَقَوْلاَنِ: الأَْصَحُّ أَنَّهُ إِذْنٌ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ لاَ بُدَّ مِنَ الْكَلاَمِ كَالثَّيِّبِ (2) .
أَمَّا الثَّيِّبُ فَسُكُوتُهَا عِنْدَ الاِسْتِئْذَانِ فِي النِّكَاحِ لاَ يُعْتَبَرُ إِذْنًا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، بَل لاَ بُدَّ مِنَ الإِْذْنِ الصَّرِيحِ بِالْكَلاَمِ (3) . قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ خِلاَفًا فِي أَنَّ إِذْنَهَا الْكَلاَمُ (4) ، لِخَبَرِ: الثَّيِّبُ تُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهَا (5) . اهـ. وَلأَِنَّ السُّكُوتَ إِنَّمَا جُعِل إِذْنًا فِي الْبِكْرِ لِمَكَانِ الْحَيَاءِ الْمَانِعِ مِنَ النُّطْقِ الْمُخْتَصِّ بِالأَْبْكَارِ، لأَِنَّ الْحَيَاءَ يَكُونُ فِيهِنَّ
__________
(1) الاختيار 3 / 92، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 61، والكافي 2 / 524 والمغني لابن قدامة 6 / 494، والأشباه للسيوطي ص 142، ومغني المحتاج 2 / 147.
(2) مغني المحتاج 2 / 147، والأشباه للسيوطي ص 142.
(3) المراجع السابقة.
(4) المغني لابن قدامة 6 / 493، 494.
(5) حديث: " الثيب تعرب عن نفسها ". أخرجه ابن ماجه (1 / 602 - ط الحلبي) من حديث عدي الكندي، وأعله البوصيري بالانقطاع بين عدي والراوي عنه وهو ابنه، ولكن له ذكر أن له شاهدا من حديث ابن عباس في مسلم وغيره. كذا في مصباح الزجاجة (1 / 330 - ط دار الجنان) .(25/140)
أَكْثَر، فَلاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ الثَّيِّبُ، كَمَا قَال الْمُوصِلِيُّ (1) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاح، وَاسْتِئْذَان) .
سُكُوتُ الزَّوْجِ عِنْدَ وِلاَدَةِ الْمَرْأَةِ:
18 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي بَحْثِ اللِّعَانِ أَنَّهُ لَوْ نَفَى الْوَلَدَ فِي مُدَّةِ التَّهْنِئَةِ، أَوْ عِنْدَ شِرَاءِ آلَةِ الْوِلاَدَةِ كَالْمَهْدِ وَنَحْوِهِ، صَحَّ نَفْيُهُ. أَمَّا بَعْدَ التَّهْنِئَةِ أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّتِهَا فَلاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّ سُكُوتَهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ وَإِقْرَارٌ عَلَى النَّسَبِ، فَلاَ يَصِحُّ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ التَّهْنِئَةِ: فَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهَا بِمُدَّةِ النِّفَاسِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ أَخَّرَ الزَّوْجُ نَفْيَ الْحَمْل يَوْمًا بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْوَضْعِ أَوِ الْحَمْل بِلاَ عُذْرٍ، امْتَنَعَ لِعَانُهُ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ (3) . وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ، حَيْثُ قَالُوا: يُشْتَرَطُ النَّفْيُ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَوْ سَكَتَ مُدَّةً مَعَ إِمْكَانِ
__________
(1) الاختيار 2 / 92، 93.
(2) ابن عابدين 2 / 591.
(3) جواهر الإكليل 1 / 382.(25/141)
الرَّدِّ يُعْتَبَرُ سُكُوتُهُ رِضًا وَإِقْرَارًا، كَحَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الشُّفْعَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ سَمِعَ إِنْسَانًا يُقِرُّ بِنَسَبٍ، وَسَكَتَ الْمُقَرُّ لَهُ جَازَ لِلسَّامِعِ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِهِ؛ لأَِنَّ السُّكُوتَ فِي النَّسَبِ إِقْرَارٌ، لأَِنَّ مَنْ بُشِّرَ بِوَلَدٍ فَسَكَتَ لَحِقَهُ كَمَا لَوْ كَانَ أَقَرَّ بِهِ (2) . وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (لِعَان وَنَسَب) .
19 - هَذَا، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِحُكْمِ السُّكُوتِ فِي مَسَائِل أُخْرَى، وَذَكَرُوا أَنَّ السُّكُوتَ فِيهَا وَأَمْثَالِهَا يُعْتَبَرُ رِضًا وَإِذْنًا، كَالْقَبُول بِالسُّكُوتِ فِي الإِْجَارَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالإِْذْنِ بِالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ، وَسُكُوتِ الْمُحْرِمِ حِينَ حَلَقَ رَأْسَهُ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَسَائِل. فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ السُّكُوتَ فِي الإِْجَارَةِ يُعَدُّ قَبُولاً وَرِضًا، فَإِذَا قَال صَاحِبُ الدَّارِ: اسْكُنْ بِكَذَا وَإِلاَّ فَاخْرُجْ، فَسَكَتَ وَسَكَنَ، كَانَ مُسْتَأْجَرًا بِالْمُسَمَّى بِسُكْنَاهُ وَسُكُوتِهِ. كَذَلِكَ لَوْ قَال صَاحِبُ الدَّارِ: اسْكُنْ بِمِائَةٍ، وَقَال الْمُسْتَأْجِرُ: ثَمَانِينَ، فَسَكَتَ الْمَالِكُ وَأَبْقَى الْمُسْتَأْجِرَ سَاكِنًا يَلْزَمُ ثَمَانُونَ؛ لأَِنَّ السُّكُوتَ مِنْ قِبَل الْمَالِكِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعَدُّ قَبُولاً (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 380، 381.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 591.
(3) مجلة الأحكام العدلية م (438) .(25/141)
وَكَذَا لَوْ قَال الرَّاعِي لِلْمَالِكِ: لاَ أَرْضَى بِمَا سَمَّيْتَ وَإِنَّمَا أَرْضَى بِكَذَا، فَسَكَتَ الْمَالِكُ فَرَعَى الرَّاعِي لَزِمَ الْمَالِكَ مَا سَمَّاهُ الرَّاعِي بِسُكُوتِ الْمَالِكِ (1) .
وَقَالُوا: سُكُوتُ الْوَكِيل قَبُولٌ وَيَرْتَدُّ بِرَدِّهِ (2) . وَسُكُوتُ الْبَائِعِ الَّذِي لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حِينَ رَأَى الْمُشْتَرِيَ قَبَضَ الْمَبِيعَ إِذْنٌ بِقَبْضِهِ. وَإِذَا رَأَى الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ يَبِيعُ الرَّهْنَ فَسَكَتَ يَكُونُ رِضًا مِنَ الْمُرْتَهِنِ، وَيَبْطُل الرَّهْنُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَقَ الْحَلاَّقُ رَأْسَ مُحْرِمٍ وَهُوَ سَاكِتٌ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ إِذْنًا، قَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْصَحُّ أَنَّهُ كَمَا لَوْ حَلَقَ بِأَمْرِهِ فَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ (4) .
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَإِنَّهَا تَنْزِل مَنْزِلَةَ النُّطْقِ. وَاشْتَرَطَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ مِنَ الْقَارِئِ تَصْحِيفٌ وَتَحْرِيفٌ لَرَدَّهُ الشَّيْخُ، فَسُكُوتُهُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ قِرَاءَتِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم مع حاشية الحموي ص 1 / 184، 185.
(2) نفس المرجع.
(3) نفس المرجع ص 1 / 185، 186.
(4) نفس المرجع، والمنثور للزركشي 2 / 207.(25/142)
نُجَيْمٍ فِي أَشْبَاهِهِ، وَالْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ، وَابْنُ عَابِدِينَ وَالزَّرْكَشِيُّ فُرُوعًا أُخْرَى يَنْزِل فِيهَا السُّكُوتُ مَنْزِلَةَ النُّطْقِ وَالإِْذْنِ.
كَمَا ذَكَرُوا أَمْثِلَةً أُخْرَى لاَ يَدُل السُّكُوتُ فِيهَا عَلَى الرِّضَا وَالإِْذْنِ وَفْقًا لِقَاعِدَةِ: (لاَ يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ) وَمِنْ هَذِهِ الأَْمْثِلَةِ:
لَوْ سَكَتَ عَنْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ فَلاَ يَسْقُطُ ضَمَانُهُ. وَلَوْ سَكَتَ عَنْ إِتْلاَفِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الدَّفْعِ لَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُهُ. وَلَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَ كُفْءٍ فَسَكَتَ الْوَلِيُّ عَنْ مُطَالَبَةِ التَّفْرِيقِ لاَ يُعَدُّ رِضًا مَا لَمْ تَلِدْ، وَكَذَا سُكُوتُ امْرَأَةِ الْعِنِّينِ لَيْسَ بِرِضًا وَلَوْ أَقَامَتْ مَعَهُ سِنِينَ. وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَسَائِل خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَفِي مَظَانِّهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (1)
السُّكُوتُ فِي الدَّعَاوَى:
20 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا كُلِّفَ بِالْيَمِينِ فَنَكَل صَرَاحَةً، كَأَنْ قَال: لاَ
__________
(1) فتح القدير لابن الهمام مع الهداية 3 / 206، 207، وحاشية ابن عابدين 3 / 445، وما بعدها، والمنثور للزركشي 2 / 207، وما بعدها، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 142، ولابن نجيم مع حاشية الحموي ص 1 / 184، 186.(25/142)
أَحْلِفُ، أَوْ حُكْمًا كَأَنْ سَكَتَ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَمِنْ غَيْرِ آفَةٍ (كَخَرَسٍ وَطَرَشٍ) يُعْتَبَرُ سُكُوتُهُ نُكُولاً يَحْكُمُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ (1) .
وَإِذَا قَال: لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ، لاَ يُسْتَحْلَفُ بَل يُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، وَكَذَا لَوْ لَزِمَ السُّكُوتَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَدَائِعِ أَنَّ الأَْشْبَهَ أَنَّ هَذَا السُّكُوتَ إِنْكَارٌ فَيُسْتَحْلَفُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ قَال: لاَ أُخَاصِمُهُ، قَال لَهُ الْقَاضِي: إِمَّا خَاصَمْتَ وَإِمَّا أَحَلَفْتُ هَذَا الْمُدَّعِيَ عَلَى دَعْوَاهُ وَحَكَمْتُ لَهُ. فَإِنْ تَكَلَّمَ وَإِلاَّ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعِي. وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ وَجَرَى بِهَا الْعَمَل: إِنْ قَال: لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ، لَمْ يَتْرُكْهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ. فَإِنْ تَمَادَى فِي امْتِنَاعِهِ حَكَمَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى السُّكُوتِ عَنْ جَوَابِ الْمُدَّعِي لِغَيْرِ دَهْشَةٍ أَوْ غَبَاوَةٍ جُعِل حُكْمُهُ كَمُنْكِرٍ لِلْمُدَّعَى بِهِ نَاكِلٌ عَنِ الْيَمِينِ، وَحِينَئِذٍ فَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى
__________
(1) ابن عابدين 4 / 224.
(2) ابن عابدين 4 / 223.
(3) تبصرة الحكام 1 / 241.(25/143)
الْمُدَّعِي بَعْدَ أَنْ يَقُول لَهُ الْقَاضِي: أَجِبْ عَنْ دَعْوَاهُ وَإِلاَّ جَعَلْتُكَ نَاكِلاً، فَإِنْ كَانَ سُكُوتُهُ لِدَهْشَةٍ أَوْ جَهَالَةٍ أَوْ غَبَاوَةٍ شَرَحَ لَهُ ثُمَّ حَكَمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَسُكُوتُ الأَْخْرَسِ عَنِ الإِْشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ لِلْجَوَابِ كَسُكُوتِ النَّاطِقِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي اعْتِبَارِ سُكُوتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ نُكُولاً رِوَايَتَانِ: فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ جَوَابِ الدَّعْوَى حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يُجِيبَ، وَلاَ يَجْعَلُهُ بِذَلِكَ نَاكِلاً. ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ (2) .
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ قَوْلاً آخَرَ مُوَافِقًا لِمَا قَالَهُ الْبُهُوتِيُّ مِنْ أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ أَوْ قَال: لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ، أَوْ قَال: لاَ أَعْلَمُ قَدْرَ حَقِّهِ: قَال لَهُ الْقَاضِي: احْلِفْ وَإِلاَّ جَعَلْتُكَ نَاكِلاً وَقَضَيْتُ عَلَيْكَ. وَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَال لَهُ: إِنْ حَلَفْتَ وَإِلاَّ قَضَيْتُ عَلَيْكَ بِالنُّكُول وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَجَابَ وَإِلاَّ جَعَلَهُ نَاكِلاً وَحَكَمَ عَلَيْهِ (3) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاء) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 468، والقليوبي 4 / 342.
(2) المغني لابن قدامة 9 / 90.
(3) كشاف القناع 6 / 340، والمغني لابن قدامة 9 / 90.(25/143)
السُّكُوتُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
تَعَرَّضَ الأُْصُولِيُّونَ لِحُكْمِ السُّكُوتِ فِي مَوْضِعَيْنِ: الأَْوَّل عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ وَمِنْهَا بَيَانُ الضَّرُورَةِ، وَالثَّانِي عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الإِْجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ. وَفِيمَا يَلِي إِجْمَال مَا قَالُوا:
21 - أَوَّلاً: مِنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ بَيَانُ الضَّرُورَةِ وَهُوَ الْبَيَانُ الَّذِي يَقَعُ بِسَبَبِ الضَّرُورَةِ بِمَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ وَهُوَ السُّكُوتُ، فَيَقَعُ السُّكُوتُ فِيهِ مَقَامَ الْكَلاَمِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
(الأَْوَّل) : مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ مِثْل قَوْله تَعَالَى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} (1) فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لِلأَْبِ، فَصَارَ بَيَانًا لِقَدْرِ نَصِيبِهِ بِدَلاَلَةِ صَدْرِ الْكَلاَمِ، لاَ بِمَحْضِ السُّكُوتِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْمُضَارَبَةُ فَإِنَّ بَيَانَ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ وَالسُّكُوتَ عَنْ نَصِيبِ رَبِّ الْمَال صَحِيحٌ لِلاِسْتِغْنَاءِ عَنِ الْبَيَانِ. كَذَلِكَ بَيَانُ نَصِيبِ رَبِّ الْمَال وَالسُّكُوتُ عَنْ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الْمُزَارَعَةِ.
(الثَّانِي) : مَا يَثْبُتُ بِدَلاَلَةِ حَال الْمُتَكَلِّمِ
__________
(1) سورة النساء آية: 11.(25/144)
كَسُكُوتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أَمْرٍ يُعَايِنُهُ عَنِ التَّغْيِيرِ، فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى كَوْنِهِ حَقًّا، مِثْل مَا شَاهَدَ مِنْ بِيَاعَاتٍ وَمُعَامَلاَتٍ كَانَ النَّاسُ يَتَعَامَلُونَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَمَآكِل وَمَشَارِبَ وَمَلاَبِسَ كَانُوا يَسْتَدِيمُونَ مُبَاشَرَتَهَا، فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُنْكِرْهَا عَلَيْهِمْ، فَدَل أَنَّ جَمِيعَهَا مُبَاحٌ فِي الشَّرْعِ، إِذْ لاَ يَجُوزُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقِرَّ النَّاسَ عَلَى مُنْكَرٍ مَحْظُورٍ، فَكَانَ سُكُوتُهُ بَيَانًا (1) . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ سُكُوتُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ فِي النِّكَاحِ يُجْعَل بَيَانًا لِحَالِهَا الَّتِي تُوجِبُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْحَيَاءُ، فَجُعِل سُكُوتُهَا دَلِيلاً عَلَى الإِْجَازَةِ وَالرِّضَا. وَكَذَلِكَ النُّكُول جُعِل بَيَانًا لِحَال النَّاكِل، وَهُوَ امْتِنَاعُهُ عَنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَيَدُل ذَلِكَ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْمُدَّعَى.
(الثَّالِثُ) : مَا جُعِل بَيَانًا لِضَرُورَةِ دَفْعِ الْغُرُورِ، كَسُكُوتِ الْمَوْلَى حِينَ يَرَى عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي، فَجُعِل هَذَا السُّكُوتُ إِذْنًا؛ دَفْعًا لِلْغُرُورِ عَنِ النَّاسِ.
وَكَذَا سُكُوتُ الشَّفِيعِ، جُعِل رَدًّا لِهَذَا الْمَعْنَى
__________
(1) كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي 3 / 147، 148، والتلويح والتوضيح 2 / 39، 40 مطبعة محمد علي صبيح وأولاده.(25/144)
وَهُوَ دَفْعُ الْغُرُورِ عَنِ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا لَمْ يُجْعَل سُكُوتُ الشَّفِيعِ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ إِسْقَاطًا لَهَا فَإِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ الْمُشْتَرِي عَنِ التَّصَرُّفِ أَوْ تَصَرَّفَ ثُمَّ يَنْقُضُ الشَّفِيعُ عَلَيْهِ تَصَرُّفَهُ، وَكِلاَهُمَا ضَرَرٌ عَلَى الْمُشْتَرِي.
(الرَّابِعُ) : مَا ثَبَتَ لِضَرُورَةِ الْكَلاَمِ، كَمَا لَوْ قَال: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمٌ، أَوْ أَلْفٌ وَدِينَارٌ أَوْ مِائَةٌ وَقَفِيزُ حِنْطَةٍ، فَإِنَّ الْعَطْفَ جُعِل بَيَانًا لِلأَْوَّل، فَجُعِل الأَْوَّل مِنْ جِنْسِ الْمَعْطُوفِ (1) .
ثَانِيًا: الإِْجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ:
22 - الإِْجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ هُوَ أَنْ يَقُول بَعْضُ أَهْل الاِجْتِهَادِ بِقَوْلٍ وَيَنْتَشِرَ ذَلِكَ فِي الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْل ذَلِكَ الْعَصْرِ فَيَسْكُتُونَ، وَلاَ يَظْهَرُ مِنْهُمْ تَصْرِيحٌ بِالْقَوْل وَلاَ الإِْنْكَارِ (2) .
وَشُرُوطُ الإِْجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ الَّذِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ فِي حُكْمِهِ هِيَ:
(1) أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ مُجَرَّدًا عَنْ أَمَارَةِ الرِّضَا وَالسَّخَطِ، فَإِذَا كَانَ السُّكُوتُ مُقْتَرِنًا
__________
(1) كشف الأسرار 3 / 151، 153، والتلويح مع التوضيح 2 / 40.
(2) إرشاد الفحول ص 79 وما بعدها، ومسلم الثبوت 2 / 232.(25/145)
بِالرِّضَا فَإِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعًا، أَوْ بِالسَّخَطِ فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ قَطْعًا.
(2) أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ قَدْ بَلَغَتْ كُل الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَهْل ذَلِكَ الْعَصْرِ.
(3) أَنْ يَكُونَ قَدْ مَضَى عَلَى الْحُكْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ زَمَنُ مُهْلَةِ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّل عَادَةً، وَلاَ تَقِيَّةَ هُنَاكَ لِخَوْفٍ أَوْ مَهَابَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا.
(4) أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مَحَل الاِجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ وَلاَ تَكُونَ قَطْعِيَّةً، وَإِلاَّ فَلاَ يَكُونُ مِنْ مَحَل الإِْجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي حُجِّيَّتِهِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ قَالُوا: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ؛ لأَِنَّهُ لَوْ شُرِطَ قَوْل كُلٍّ فِي انْعِقَادِ الإِْجْمَاعِ لَمْ يَتَحَقَّقْ إِجْمَاعٌ أَصْلاً، لأَِنَّ الْعَادَةَ فِي كُل عَصْرٍ إِفْتَاءُ الأَْكَابِرِ وَسُكُوتُ الأَْصَاغِرِ تَسْلِيمًا (2) . قَال الْجَلاَل الْمَحَلِّيُّ: سُكُوتُ الْعُلَمَاءِ فِي مِثْل ذَلِكَ يُظَنُّ مِنْهُ الْمُوَافَقَةُ عَادَةً (3) .
وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، أَخْذًا مِنْ قَاعِدَةِ: (لاَ يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ)
__________
(1) مسلم الثبوت بهامش المستصفى 2 / 232، وجمع الجوامع 2 / 191، 193.
(2) مسلم الثبوت 2 / 233.
(3) جمع الجوامع 2 / 188.(25/145)
وَلاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ لِغَيْرِ الْمُوَافَقَةِ، كَالْخَوْفِ وَالْمَهَابَةِ وَالتَّرَدُّدِ فِي الْمَسْأَلَةِ (1) .
وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ فِي الْفُتْيَا فَقَطْ أَمَّا الْقَضَاءُ فَلاَ إِجْمَاعَ فِيهِ أَصْلاً (2) .
وَقِيل: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ إِذَا كَثُرَ السُّكُوتُ وَتَكَرَّرَ فِيمَا يَعُمُّ فِيهِ الْبَلْوَى. وَذَهَبَ الآْمِدِيُّ وَالْكَرْخِيُّ إِلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ ظَنِّيٌّ (3) .
قَال ابْنُ السُّبْكِيِّ بَعْدَمَا نَقَل أَقْوَال وَآرَاءَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقًا (4) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) جمع الجوامع 2 / 189، ومسلم الثبوت 2 / 232، 233.
(2) مسلم الثبوت 2 / 232.
(3) نفس المراجع. وانظر رسالة إجمال الإصابة في أقوال الصحابة للعلائي. نشر مركز المخطوطات والتراث التابع لجمعية التراث الإسلامي بالكويت 1407 هـ.
(4) جمع الجوامع مع حاشية البناني 2 / 179، وانظر التلويح مع التوضيح 2 / 42.(25/146)
سِلاَحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - السِّلاَحُ: اسْمٌ جَامِعٌ لآِلَةِ الْحَرْبِ؛ أَيْ: كُل مَا يُقَاتَل بِهِ، وَجَمْعُهُ أَسْلِحَةٌ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (1) . وَخَصَّ بَعْضُهُمُ السِّلاَحَ بِمَا كَانَ مِنَ الْحَدِيدِ وَرُبَّمَا خَصَّ بِهِ السَّيْفَ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: السَّيْفُ وَحْدَهُ يُسَمَّى سِلاَحًا (2) . وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمُعَانَى اللُّغَوِيَّةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسِّلاَحِ:
إِعْدَادُ السِّلاَحِ لِلْجِهَادِ وَالتَّدَرُّبِ عَلَيْهِ:
2 - ذَهَبَ الْعُلَمَاءُ إِلَى أَنَّ الاِسْتِعْدَادَ لِلْجِهَادِ بِإِعْدَادِ السِّلاَحِ وَالتَّدَرُّبِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَعَلَى الرَّمْيِ فَرِيضَةٌ تَقْتَضِيهَا فَرِيضَةُ الْجِهَادِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى
__________
(1) سورة النساء / 102.
(2) لسان العرب، والمفردات للراغب، ومتن اللغة مادة (سلح) ونهاية المحتاج 3 / 378، والفتح الرباني 16 / 6.(25/146)
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (1) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ: إِنَّ الآْيَةَ تَدُل عَلَى أَنَّ الاِسْتِعْدَادَ لِلْجِهَادِ بِالسِّلاَحِ فَرِيضَةٌ، إِلاَّ أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ (2) .
فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُسْلِمِينَ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ لِلأَْعْدَاءِ. وَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ الْقُوَّةِ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ مُطْلَقًا بِغَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلاَ تَقْيِيدٍ، فَهُوَ يَتَّسِعُ لِيَشْمَل كُل عَنَاصِرِ الْقُوَّةِ مَادِّيًّا وَمَعْنَوِيًّا، وَمَا يُتَقَوَّى بِهِ عَلَى حَرْبِ الْعَدُوِّ، وَكُل مَا هُوَ آلَةٌ لِلْغَزْوِ وَالْجِهَادِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْقُوَّةِ. وَقَدْ تَرَكَتِ الآْيَةُ الْكَرِيمَةُ تَحْدِيدَ الْقُوَّةِ الْمَطْلُوبَةِ؛ لأَِنَّهَا تَتَطَوَّرُ تَبَعًا لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَحَتَّى يَلْتَزِمَ الْمُسْلِمُونَ بِإِعْدَادِ مَا يُنَاسِبُ ظُرُوفَهُمْ مِنْ قُوَّةٍ يَسْتَطِيعُونَ بِهَا إِرْهَابَ الْعَدُوِّ (3) .
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ
__________
(1) سورة الأنفال / 60.
(2) تفسير القرطبي 8 / 35 ط دار الكتب المصرية، والتفسير الكبير 15 / 185 الطبعة الأولى.
(3) تفسير القرطبي 8 / 35، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 85 ط البهية المصرية، وتفسير الرازي 15 / 185، وفتح الباري 6 / 91 ط السلفية.(25/147)
يَقُول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ (1) . كَرَّرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّرْغِيبِ فِي تَعَلُّمِهِ وَإِعْدَادِ آلاَتِ الْحَرْبِ، وَقَدْ فَسَّرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُوَّةَ بِالرَّمْيِ وَهُوَ أَهَمُّ فُنُونِ الْقِتَال، حَيْثُ إِنَّ الرَّمْيَ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ فِي اسْتِعْمَال السِّلاَحِ (2) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّمَا فَسَّرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُوَّةَ بِالرَّمْيِ - وَإِنْ كَانَتِ الْقُوَّةُ تَظْهَرُ بِإِعْدَادِ غَيْرِهِ مِنْ آلاَتِ الْحَرْبِ - لِكَوْنِ الرَّمْيِ أَشَدَّ نِكَايَةً فِي الْعَدُوِّ وَأَسْهَل مُؤْنَةً، لأَِنَّهُ قَدْ يَرْمِي رَأْسَ الْكَتِيبَةِ فَيَهْزِمَ مَنْ خَلْفَهُ (3) .
وَلأَِبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَل - يُدْخِل بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلاَثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَالرَّامِيَ بِهِ، وَمُنْبِلَهُ، (4) وَارْمُوا
__________
(1) حديث: " ألا إن القوى الرمي. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 91 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1522 - ط الحلبي) .
(2) فتح الباري (6 / 91 ط السلفية، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 85 ط البهية المصرية، والقرطبي 8 / 35 - ط دار الكتاب المصرية، والفروسية لابن القيم ص 9.
(3) القرطبي 8 / 35، وانظر المراجع السابقة.
(4) النبل السهام ومنبله أي: مناول النبل.(25/147)
وَارْكَبُوا، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا، لَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ إِلاَّ ثَلاَثٌ: تَأْدِيبُ الرَّجُل فَرَسَهُ، وَمُلاَعَبَتُهُ أَهْلَهُ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَمَا عَلِمَهُ رَغْبَةً عَنْهُ، فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ تَرَكَهَا. أَوْ قَال: كَفَرَهَا (1) .
قَال الْخَطَّابِيُّ: أَيْ: لَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ الْمُبَاحِ إِلاَّ ثَلاَثٌ. وَقِيل فِي مَعْنَاهُ أَيْضًا: لَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ الْمُسْتَحَبِّ إِلاَّ هَذِهِ الثَّلاَثُ.
يُبَيِّنُ الْحَدِيثُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِل الْجَنَّةَ صَانِعَ النَّبْل وَالرَّامِيَ بِهِ، وَمُنَاوِل النَّبْل، إِذَا كَانُوا يَقْصِدُونَ فِي عَمَلِهِمْ إِعْلاَءَ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَجِهَادَ الْكُفَّارِ، وَلَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ الْمُسْتَحَبِّ إِلاَّ تَدْرِيبُ الرَّجُل فَرَسَهُ بِالرَّكْضِ وَالْجَوَلاَنِ عَلَى نِيَّةِ الْغَزْوِ، وَكَذَلِكَ الرَّمْيُ (2) .
تَزْيِينُ السِّلاَحِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَزْيِينِ آلاَتِ الْحَرْبِ
__________
(1) حديث: " إن الله - عز وجل - يدخل بالسهم الواحد ثلاثة. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 28 - 29 تحقيق عزت عبيد الدعاس) ، والترمذي (4 / 174 - ط الحلبي) من حديث عقبة بن عامر. وقال الترمذي: " حسن صحيح ".
(2) عون المعبود شرح سنن أبي داود 7 / 189 - 191 ط دار الفكر، وسنن الترمذي 1637، وسنن ابن ماجه: 2811، وسنن النسائي 6 / 223، ومسند أحمد بن حنبل 4 / 46، 148، والفروسية لابن القيم ص9(25/148)
بِالذَّهَبِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَجُوزُ تَزْيِينُ آلاَتِ الْحَرْبِ بِالذَّهَبِ لِلرِّجَال؛ لأَِنَّ الأَْصْل أَنَّ التَّحَلِّيَ بِالذَّهَبِ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَال، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي (1) إِلاَّ مَا خَصَّهُ الدَّلِيل، وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يَدُل عَلَى الْجَوَازِ؛ وَلأَِنَّ فِيهِ زِيَادَةَ إِسْرَافٍ وَخُيَلاَءَ (2) .
وَقِيل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُبَاحُ الذَّهَبُ فِي السِّلاَحِ، وَاخْتَارَهُ الآْمِدِيُّ مِنْهُمْ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ (3) . وَأَمَّا تَحْلِيَةُ آلاَتِ الْحَرْبِ بِالْفِضَّةِ فَيَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
قَال النَّوَوِيُّ: يَحِل لِلرَّجُل مِنَ الْفِضَّةِ الْخَاتَمُ وَحِلْيَةُ آلاَتِ الْحَرْبِ، كَالسَّيْفِ وَالرُّمْحِ
__________
(1) حديث: " إن هذين حرام على ذكور أمتي ". أخرجه أبو داود (4 / 330 - تحقيق عزت عبيد الدعاس) ، والنسائي (8 / 160 - ط البشائر) من حديث علي بن أبي طالب وأخرجه الترمذي (4 / 217 - ط الحلبي) من حديث أبي موسى الأشعري بنحوه، وقال: حسن صحيح.
(2) بدائع الصنائع 5 / 132 - 133 ط دار الكتاب العربي، وحاشية ابن عابدين 5 / 229 ط بولاق، واللباب شرح الكتاب 3 / 285 ط دار الفكر، والخرشي 1 / 99، والدسوقي 1 / 63 ط دار الفكر، والمحلي على المنهاج مع القليوبي وعميرة 2 / 24 ط عيسى الحلبي، والإنصاف 3 / 149 ط دار إحياء التراث العربي، وشرح منتهى الإرادات 1 / 406 ط دار الفكر، وكشاف القناع 2 / 237 ط عالم الكتب.
(3) الإنصاف 3 / 149 ط دار إحياء التراث العربي.(25/148)
وَالْمِنْطَقَةِ وَالدِّرْعِ وَالْخُفِّ وَأَطْرَافِ السِّهَامِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَغِيظُ الْكُفَّارَ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ التَّحْلِيَةُ بِالْفِضَّةِ؛ لأَِنَّهَا فِي مَعْنَى التَّحْلِيَةِ بِالذَّهَبِ (2) . وَأَمَّا السَّيْفُ فَيَجُوزُ تَزْيِينُهُ بِالْفِضَّةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِضَّةً (3) ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْمَسْعُودِيِّ قَال: " رَأَيْتُ فِي بَيْتِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَيْفًا قَبِيعَتُهُ فِضَّةٌ، فَقُلْتُ: سَيْفُ مَنْ هَذَا؟ قَال: سَيْفُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ سَيْفَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ كَانَا مُحَلَّيَيْنِ بِالْفِضَّةِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ تَحْلِيَةُ السَّيْفِ بِالْفِضَّةِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ الْفِضَّةِ. وَأَمَّا تَحْلِيَتُهُ بِالذَّهَبِ فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ؛ لِحُرْمَةِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ
__________
(1) القليوبي وعميرة 2 / 24، وشرح منتهى الإرادات 1 / 406، وكشاف القناع 2 / 237، والمبدع 2 / 371.
(2) البناية شرح الهداية 9 / 238 ط دار الفكر، والخرشي 1 / 99، والدسوقي 1 / 63.
(3) حديث: " كانت قبيعة سيف النبي صلى الله عليه وسلم فضة ". أخرجه الترمذي (4 / 201 - ط الحلبي) . من حديث أنس بن مالك. وحسنه.(25/149)
لِلرِّجَال؛ وَلأَِنَّ فِيهِ زِيَادَةَ إِسْرَافٍ وَخُيَلاَءَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ تَحْلِيَةُ السَّيْفِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، سَوَاءٌ اتَّصَلَتِ الْحِلْيَةُ بِهِ كَقَبْضَتِهِ، أَوِ انْفَصَلَتْ كَغِمْدِهِ، وَذَلِكَ لِلرِّجَال، أَمَّا سَيْفُ الْمَرْأَةِ فَلاَ يَجُوزُ تَحْلِيَتُهُ عِنْدَهُمْ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (2) .
حَمْل السِّلاَحِ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى اسْتِحْبَابِ حَمْل السِّلاَحِ لِلْخَائِفِ فِي الصَّلاَةِ يَدْفَعُ بِهِ الْعَدُوَّ عَنْ نَفْسِهِ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (3) ؛ وَلأَِنَّهُمْ لاَ يَأْمَنُونَ أَنْ يَفْجَأَهُمْ عَدُوُّهُمْ، فَيَمِيلُوا عَلَيْهِمْ. كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} (4) . وَالْمُسْتَحَبُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ، وَلاَ
__________
(1) البناية شرح الهداية 9 / 228 - 230، والخرشي 1 / 99. وحاشية الدسوقي 1 / 63، والأم للإمام الشافعي 2 / 35، وشرح منتهى الإرادات 1 / 406، وكشاف القناع 2 / 237، والمغني 3 / 15.
(2) الخرشي 1 / 99، وحاشية الدسوقي 1 / 63، وشرح منتهى الإرادات 1 / 406، وكشاف القناع 2 / 237 - 238.
(3) سورة النساء / 102.
(4) سورة النساء / 102.(25/149)
يَثْقُلُهُ كَالْجَوْشَنِ (الدِّرْعِ) ، وَلاَ يَمْنَعُ مِنْ كَمَال السُّجُودِ كَالْمِغْفَرِ (1) . وَلاَ يُؤْذِي غَيْرَهُ كَالرُّمْحِ الْمُتَوَسِّطِ وَالْكَبِيرِ، وَلاَ يَجُوزُ حَمْل نَجَسٍ، وَلاَ مَا يُخِل بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ (2) .
وَلَيْسَ النَّصُّ لِلإِْيجَابِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لأَِنَّ الأَْمْرَ بِهِ لِلرِّفْقِ بِهِمْ وَالصِّيَانَةِ لَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ لِلإِْيجَابِ (3) .
وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ حَمْل السِّلاَحِ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ وَاجِبٌ؛ لأَِنَّ ظَاهِرَ الأَْمْرِ الْوُجُوبُ، وَقَدِ اقْتَرَنَ بِالنَّصِّ مَا يَدُل عَلَى إِرَادَةِ الإِْيجَابِ بِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} (4) وَنَفْيُ الْحَرَجِ مَشْرُوطًا بِالأَْذَى دَلِيلٌ عَلَى لُزُومِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ بِهِمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ مَرَضٍ فَلاَ يَجِبُ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، بِتَصْرِيحِ النَّصِّ بِنَفْيِ الْحَرَجِ فِيهِ (5) .
__________
(1) المغفر: زرد من الدرع يلبس تحت القلنسوة.
(2) البدائع 1 / 245 ط دار الكتاب العربي، والبناية شرح الهداية 2 / 940، وروضة الطالبين 2 / 59 ط المكتب الإسلامي، ومغني المحتاج 1 / 304 ط مصطفى الحلبي، والمهذب 1 / 114 ط دار المعرفة، والمغني 2 / 412 ط الرياض، وكشاف القناع 2 / 17 ط عالم الكتب، وتفسير القرطبي 5 / 371.
(3) المراجع السابقة.
(4) سورة النساء / 102.
(5) المهذب 1 / 114، ومغني المحتاج 1 / 304، وروضة الطالبين 2 / 59، والمغني 2 / 412.(25/150)
نَزْعُ السِّلاَحِ عَنِ الشَّهِيدِ:
5 - يُنْزَعُ السِّلاَحُ عَنِ الشَّهِيدِ، لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ، وَأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ (1) . قَال الْبَغَوِيُّ: هَذَا هُوَ السُّنَّةُ فِي الشَّهِيدِ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُ الأَْسْلِحَةُ وَالْجُلُودُ وَالْخِفَافُ وَالْفِرَاءُ، وَيُدْفَنَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ ثِيَابِ الْعَامَّةِ؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ الَّتِي أُمِرَ بِنَزْعِهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ؛ وَلأَِنَّ الدَّفْنَ بِالسِّلاَحِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ كَانَ مِنْ عَادَةِ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَ أَبْطَالَهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الأَْسْلِحَةِ، وَقَدْ نُهِينَا عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ (2) .
زَكَاةُ السِّلاَحِ:
6 - لَيْسَ فِي سِلاَحِ الاِسْتِعْمَال - كَدَوَابِّ الرُّكُوبِ وَثِيَابِ الْبَدَنِ وَأَثَاثِ الْمَنْزِل - زَكَاةٌ؛ لأَِنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الأَْصْلِيَّةِ، وَلَيْسَتْ بِنَامِيَةٍ.
__________
(1) حديث: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 497 - 498 تحقيق عزت عبيد الدعاس) وضعفه ابن حجر في التلخيص الحبير (2 / 118 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) بدائع الصنائع 1 / 324، والمبسوط 2 / 50، وشرح منح الجليل 1 / 312، والدسوقي 1 / 425، ومغني المحتاج 1 / 351، وشرح التحرير بحاشية الشرقاوي 1 / 337، وروضة الطالبين 2 / 120، وكشاف القناع 2 / 99، ومنتهى الإرادات 1 / 155.(25/150)
وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنِ السِّلاَحُ وَنَحْوُهُ لِلتِّجَارَةِ (1) .
حَمْل السِّلاَحِ لِلْمُحْرِمِ:
7 - يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَقَلَّدَ السَّيْفَ لِلْحَاجَةِ، لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: ( {لَمَّا صَالَحَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْل الْحُدَيْبِيَةِ صَالَحَهُمْ أَنْ لاَ يَدْخُلَهَا إِلاَّ بِجُلْبَانِ السِّلاَحِ: الْقِرَابِ بِمَا فِيهِ.) (2) وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي إِبَاحَةِ حَمْلِهِ فِي الْحَرَمِ عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ لأَِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَأْمَنُونَ أَهْل مَكَّةَ أَنْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَلَّدَ السَّيْفَ وَغَيْرَهُ مِنَ الأَْسْلِحَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؛ لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (لاَ يَحِل لِمُحْرِمٍ السِّلاَحُ فِي الْحَرَمِ) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الْقِيَاسُ يَقْتَضِي إِبَاحَتَهُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى اللُّبْسِ، كَمَا لَوْ حَمَل قِرْبَةً فِي عُنُقِهِ (3) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 487، وابن عابدين 2 / 6، وشرح الزرقاني 2 / 145، وكشاف القناع 2 / 167.
(2) حديث: " لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية ". أخرجه البخاري (فتح5 / 303 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1409 - 1410 - ط. الحلبي) .
(3) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 1 / 288، وجواهر الإكليل 1 / 186، وحاشية الدسوقي 2 / 55، وإعلام المساجد في أحكام المساجد ص 169، وكشاف القناع 2 / 428.(25/151)
حَمْل السِّلاَحِ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ:
8 - لاَ يَجُوزُ حَمْل السِّلاَحِ بِمَكَّةَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: لاَ يَحِل لأَِحَدِكُمْ أَنْ يَحْمِل بِمَكَّةَ السِّلاَحَ (1) . وَقَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لاَ يَحِل لأَِحَدٍ أَنْ يَحْمِل السِّلاَحَ بِمَكَّةَ؛ لأَِنَّ الْقِتَال فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلاَ يَحِل مَا يُسَبِّبُهُ.
قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى حَمْل السِّلاَحِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ. فَإِنْ كَانَتْ حَاجَةٌ جَازَ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ بِمَا اشْتَرَطَهُ مِنَ السِّلاَحِ فِي الْقِرَابِ (2) ، وَلِدُخُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ مُتَأَهِّبًا لِلْقِتَال (3) .
حَمْل السِّلاَحِ عَلَى الْغَيْرِ:
9 - مَنْ حَمَل السِّلاَحَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلاَ تَأْوِيلٍ وَلاَ اسْتِحْلاَلٍ فَهُوَ عَاصٍ، وَلاَ يَكْفُرُ بِذَلِكَ، فَإِنِ اسْتَحَلَّهُ كَفَرَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) حديث: " لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح ". أخرجه مسلم (2 / 989 ط. الحلبي) .
(2) حديث: " إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عام عمرة القضاء. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 303 ط السلفية) ومسلم (3 / 1410 ط عيسى الحلبي) من حديث البراء.
(3) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 1 / 288، وجواهر الإكليل 1 / 186، وإعلام المساجد ص 169، وكشاف القناع 2 / 428.(25/151)
مَنْ حَمَل عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا (1) . وَقَال ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي شَرْحِ قَوْلِهِ فَلَيْسَ مِنَّا أَيْ: لَيْسَ مُتَّبِعًا لِطَرِيقَتِنَا؛ لأَِنَّ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَنْصُرَهُ وَيُقَاتِل دُونَهُ، لاَ أَنْ يُرْعِبَهُ بِحَمْل السِّلاَحِ عَلَيْهِ لإِِرَادَةِ قِتَالِهِ أَوْ قَتْلِهِ. وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ لاَ يَسْتَحِل ذَلِكَ، فَأَمَّا مَنْ يَسْتَحِلُّهُ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِاسْتِحْلاَل الْمُحَرَّمِ بِشَرْطِهِ، لاَ بِمُجَرَّدِ حَمْل السِّلاَحِ. وَالأَْوْلَى عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ إِطْلاَقُ لَفْظِ الْخَبَرِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِتَأْوِيلِهِ؛ لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النُّفُوسِ، وَأَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ.
وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَصْرِفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ (2) .
وَالْمُرَادُ بِحَمْل السِّلاَحِ شَهْرُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالصِّيَال عَلَيْهِمْ. وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (صِيَال) .
بَيْعُ السِّلاَحِ لأَِهْل الْحَرْبِ وَأَهْل الْفِتْنَةِ:
10 - يَحْرُمُ بَيْعُ السِّلاَحِ لأَِهْل الْحَرْبِ وَلِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ قَطْعَ الطَّرِيقِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ
__________
(1) حديث: " من حمل علينا السلاح فليس منا ". أخرجه البخاري (فتح12 / 192 ط السلفية) ومسلم (1 / 98 ط. الحلبي) من حديث ابن عمر.
(2) فتح الباري 13 / 20 ط مكتبة الرياض الحديثة والفتح الرباني 16 / 6 ط الأولى، وشرح مسلم للنووي 2 / 108 المطبعة المصرية.(25/152)
إِثَارَةَ الْفِتْنَةِ بَيْنَهُمْ، وَقَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لاَ يَحِل لِمُسْلِمٍ أَنْ يَحْمِل إِلَى عَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ سِلاَحًا يُقَوِّيهِمْ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ كُرَاعًا، وَلاَ مَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى السِّلاَحِ وَالْكُرَاعِ؛ لأَِنَّ فِي بَيْعِ السِّلاَحِ لأَِهْل الْحَرْبِ تَقْوِيَةً لَهُمْ عَلَى قِتَال الْمُسْلِمِينَ، وَبَاعِثًا لَهُمْ عَلَى شَنِّ الْحُرُوبِ وَمُوَاصَلَةِ الْقِتَال؛ لاِسْتِعَانَتِهِمْ بِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ (1) .
وَيَحْرُمُ أَيْضًا بَيْعُ السِّلاَحِ لِلْبُغَاةِ وَأَهْل الْفِتْنَةِ (2) ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (3) . وَلِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ السِّلاَحِ فِي الْفِتْنَةِ (4) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْفِتْنَةُ
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 125، وبدائع الصنائع 4 / 189، والسير الكبير 4 / 141، والخراج لأبي يوسف ص 190، والحطاب 4 / 254، وجواهر الإكليل 2 / 3 و145، ومغني المحتاج 4 / 228، ونهاية المحتاج 5 / 122، والقليوبي 3 / 19، وإعلام الموقعين 3 / 158.
(2) بدائع الصنائع 4 / 189، وتبيين الحقائق 3 / 296، والحطاب 4 / 254، ونهاية المحتاج 3 / 455، والمغني 4 / 246، وإعلام الموقعين 3 / 158.
(3) سورة المائدة / 2.
(4) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع. . . ". أخرجه البيهقي (5 / 327 ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث عمران بن حصين وضعفه.(25/152)
نَائِمَةٌ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَيْقَظَهَا (1) ؛ وَلأَِنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (أَهْل الْحَرْبِ) (وَبُغَاة) .
وَأَمَّا بَيْعُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ السِّلاَحُ، كَالْحَدِيدِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهُمُ الصَّاحِبَانِ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ. وَتَفْصِيلُهُ فِي (بَيْع مَنْهِيّ عَنْهُ) ف 116 (ج 9 212) .
اشْتِرَاطُ حَمْل السِّلاَحِ لِحَدِّ الْحِرَابَةِ (قَطْعُ الطَّرِيقِ) :
11 - يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَارِبِ الَّذِي يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ قَطْعِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ سِلاَحٌ، وَالْحِجَارَةُ وَالْعَصَا سِلاَحٌ هُنَا، فَإِنْ تَعَرَّضُوا لِلنَّاسِ بِالْعِصِيِّ وَالأَْحْجَارِ فَهُمْ مُحَارِبُونَ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَحْمِلُوا شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ (2) .
وَلاَ يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ حَمْل السِّلاَحِ
__________
(1) حديث: " الفتنة نائمة لعن الله. . . ". عزاه صاحب كنز العمال (11 / 127 ط. الرسالة) والسيوطي (فيض القدير 4 / 461 ط. المكتبة التجارية) للرافعي عن أنس. وضعفه.
(2) ابن عابدين 3 / 212، والمغني 8 / 288.(25/153)
بَل يَكْفِي عِنْدَهُمُ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ وَأَخْذُ الْمَال وَلَوْ بِالْكَسْرِ وَالضَّرْبِ بِجَمْعِ الْكَفِّ، أَيْ: بِالْكَفِّ مَقْبُوضَةً (1) .
__________
(1) المدونة الكبرى 6 / 303، وروضة الطالبين 10 / 156، وشرح روض الطالب 4 / 154.(25/153)
سُلاَمَى
التَّعْرِيفُ:
1 - السُّلاَمَى لُغَةً: وَاحِدُ السُّلاَمَيَاتِ بِفَتْحِ الْمِيمِ، هِيَ عِظَامُ الأَْصَابِعِ، وَالسُّلاَمَى اسْمٌ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ أَيْضًا، وَقَال ابْنُ الأَْثِيرِ: السُّلاَمَى جَمْعُ سُلاَمِيَةٍ، وَهِيَ الأُْنْمُلَةُ مِنَ الأَْصَابِعِ (1) .
وَفِي الْحَدِيثِ: كُل سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُل يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الأَْطْرَافِ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَْنْفَ بِالأَْنْفِ وَالأُْذُنَ بِالأُْذُنِ
__________
(1) اللسان، والمصباح، والنهاية، ومختار الصحاح.
(2) حديث: " كل سلامي من الناس عليه صدقة ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 309 ط. السلفية) ومسلم (2 / 699 ط. عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.(25/154)
وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (1) .
وَيُشْتَرَطُ لِجَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِيهَا شُرُوطٌ، مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مِنَ الْمَفْصِل، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ فَلاَ قِصَاصَ فِيهِ مِنْ مَوْضِعِ الْقَطْعِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ: أَنَّ رَجُلاً ضَرَبَ رَجُلاً عَلَى سَاعِدِهِ بِالسَّيْفِ، فَقَطَعَهَا مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُ بِالدِّيَةِ. قَال: إِنِّي أُرِيدُ الْقِصَاصَ قَال: خُذِ الدِّيَةَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا (2) وَلَمْ يَقْضِ لَهُ بِالْقِصَاصِ (3) . . .
قَالُوا: وَأَصَابِعُ كُلٍّ مِنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عَشْرٌ، فَفِي كُل أُصْبُعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ، وَدِيَةُ كُل أُصْبُعٍ مَقْسُومَةٌ عَلَى أَنَامِلِهَا؛ أَيْ: (سُلاَمَيَاتِهَا) فَفِي كُل أُنْمُلَةٍ مِنْهَا غَيْرِ الإِْبْهَامِ: ثُلُثُ دِيَةِ الأُْصْبُعِ؛ لأَِنَّ لِكُل أُصْبُعٍ: ثَلاَثَ أَنَامِل. إِلاَّ الإِْبْهَامَ: فَلَهُ أُنْمُلَتَانِ. فَفِي كُل أُنْمُلَةٍ مِنْهُ: نِصْفُ دِيَةِ الأُْصْبُعِ. عَمَلاً بِقِسْطِ وَاجِبِ الأُْصْبُعِ (4) .
__________
(1) سورة المائدة / 45.
(2) حديث جابر: " أن رجلا ضرب رجلا على ساعده. . . ". أخرجه ابن ماجه (2 / 880 ط عيسى الحلبي) وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده دهثم بن قران اليماني ضعفه أبو داود.
(3) المغني 7 / 707.
(4) مغني المحتاج 6 / 131، جواهر الإكليل 2 / 270، الزيلعي 6 / 131.(25/154)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يَتَنَاوَل الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ السُّلاَمَى مُعَبِّرِينَ عَنْهَا بِالأَْنَامِل تَارَةً، وَبِالْمَفَاصِل مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ تَارَةً أُخْرَى، فِي مَبَاحِثِ الْجِنَايَاتِ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى الْقِصَاصِ وَدِيَاتِ الأَْطْرَافِ. وَفِي الْجَنَائِزِ، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ تَلْيِينِ مَفَاصِل الْمَيِّتِ، وَفِي الْوُضُوءِ، عِنْدَ غَسْل الْمَفَاصِل، وَفِي اسْتِعْمَال الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، لِبَيَانِ حُكْمِ اتِّخَاذِ الأَْنَامِل مِنْهُمَا.(25/155)
سَلاَم
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّلاَمُ - بِفَتْحِ السِّينِ - اسْمُ مَصْدَرِ سَلَّمَ؛ أَيْ: أَلْقَى السَّلاَمَ، وَمِنْ مَعَانِي السَّلاَمِ السَّلاَمَةُ وَالأَْمْنُ وَالتَّحِيَّةُ، وَلِذَلِكَ قِيل لِلْجَنَّةِ: دَارُ السَّلاَمِ لأَِنَّهَا دَارُ السَّلاَمَةِ مِنَ الآْفَاتِ كَالْهَرَمِ وَالأَْسْقَامِ وَالْمَوْتِ. قَال تَعَالَى: {لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (1) .
وَالسَّلاَمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى (2) .
2 - وَالسَّلاَمُ يُطْلَقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أُمُورٍ، مِنْهَا: التَّحِيَّةُ الَّتِي يُحَيِّي بِهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، وَاَلَّتِي أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَا فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَال: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (3) وقَوْله تَعَالَى
__________
(1) سورة الأنعام / 127.
(2) اللسان والصحاح والمصباح مادة (سلم) .
(3) سورة النساء / 86، وتفسير القرطبي 5 / 297 ط الأولى(25/155)
{فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيْبَةً} (1) ذَلِكَ أَنَّ لِلْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ تَحِيَّاتٍ خَاصَّةً بِهِمْ، فَلَمَّا جَاءَ الإِْسْلاَمُ دَعَا الْمُؤْمِنِينَ إِلَى التَّحِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ قَوْل: (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ) ، وَقَصَرَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ بِإِفْشَائِهِ.
وَالسَّلاَمُ أَيْضًا تَحِيَّةُ أَهْل الْجَنَّةِ. قَال سُبْحَانَهُ: {وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُل بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَّرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (2) .
وَقَدِ اخْتِيرَ هَذَا اللَّفْظُ دُونَ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ بِالسَّلاَمَةِ مِنَ الآْفَاتِ فِي الدِّينِ وَالنَّفْسِ؛ وَلأَِنَّ فِي تَحِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِهَذَا اللَّفْظِ عَهْدًا بَيْنَهُمْ عَلَى صِيَانَةِ دِمَائِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّحِيَّةُ:
3 - التَّحِيَّةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ حَيَّاهُ يُحَيِّيهِ تَحِيَّةً، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ بِالْحَيَاةِ، وَمِنْهُ
__________
(1) سورة النور / 61، وتفسير القرطبي 12 / 318 ط الأولى، روح المعاني 18 / 222 ط المنيرية.
(2) سورة الرعد / 23 - 24.
(3) لسان العرب والمصباح مادة (سلم) .(25/156)
(التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ) (1) . أَيْ: الْبَقَاءُ، وَقِيل: الْمُلْكُ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتُعْمِل فِي مَا يُحَيَّا بِهِ مِنْ سَلاَمٍ وَنَحْوِهِ (2) . فَهِيَ أَعَمُّ مِنَ السَّلاَمِ فَتَشْمَل السَّلاَمَ وَالتَّقْبِيل وَالْمُصَافَحَةَ وَالْمُعَانَقَةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
ب - التَّقْبِيل:
4 - التَّقْبِيل فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ قَبَّل، وَالاِسْمُ مِنْهُ الْقُبْلَةُ، وَالْجَمْعُ الْقُبَل (3) . وَالتَّقْبِيل صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ التَّحِيَّةِ.
ج - الْمُصَافَحَةُ:
5 - الْمُصَافَحَةُ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ: الإِْفْضَاءُ بِالْيَدِ إِلَى الْيَدِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْمُصَافَحَةَ إِلْصَاقُ صَفْحَةِ الْكَفِّ بِالْكَفِّ، وَإِقْبَال الْوَجْهِ بِالْوَجْهِ. فَأَخْذُ الأَْصَابِعِ لَيْسَ بِمُصَافَحَةٍ، خِلاَفًا لِلرَّوَافِضِ. وَالسُّنَّةُ أَنْ تَكُونَ بِكِلْتَا يَدَيْهِ بِغَيْرِ حَائِلٍ، مِنْ ثَوْبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَعِنْدَ اللِّقَاءِ وَبَعْدَ السَّلاَمِ، وَأَنْ يَأْخُذَ الإِْبْهَامَ، فَإِنَّ فِيهِ عِرْقًا يُنْبِتُ الْمَحَبَّةَ، وَقَدْ تَحْرُمُ كَمُصَافَحَةِ الأَْمْرَدِ. وَقَدْ تُكْرَهُ كَمُصَافَحَةِ ذِي عَاهَةٍ، مِنْ بَرَصٍ وَجُذَامٍ،
__________
(1) حديث: " التحيات لله ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 311 - ط السلفية) ومسلم (1 / 301 - ط الحلبي) من حديث ابن مسعود.
(2) اللسان والمصباح مادة (حيا) ، تفسير القرطبي 5 / 297 - 298 ط الأولى.
(3) المصباح واللسان وتاج العروس مادة (قبل) .(25/156)
وَتُسَنُّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ خُصُوصًا لِنَحْوِ قُدُومِ سَفَرٍ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مُصَافَحَة) .
د - الْمُعَانَقَةُ:
6 - الْمُعَانَقَةُ فِي اللُّغَةِ: الضَّمُّ وَالاِلْتِزَامُ وَاعْتَنَقْتُ الأَْمْرَ: أَخَذْتُهُ بِجَدٍّ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي أَنَّ الْمُعَانَقَةَ هِيَ جَعْل الرَّجُل عُنُقَهُ عَلَى عُنُقِ صَاحِبِهِ.
وَقَدْ كَرِهَهَا مَالِكٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ لأَِنَّهَا مِنْ فِعْل الأَْعَاجِمِ.
قَال الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ: كَرِهَ مَالِكٌ الْمُعَانَقَةَ، لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ فَعَلَهَا إِلاَّ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا رَجَعَ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَلَمْ يَصْحَبْهَا الْعَمَل مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ.
وَأَمَّا غَيْرُ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ، كَالْحَنَابِلَةِ فَقَالُوا بِجَوَازِهَا، فَفِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ لاِبْنِ مُفْلِحٍ إِبَاحَةُ الْمُعَانَقَةِ. وَمِثْلُهَا تَقْبِيل الْيَدِ وَالرَّأْسِ تَدَيُّنًا وَإِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا مَعَ أَمْنِ الشَّهْوَةِ؛
__________
(1) المصباح مادة (صفح) ، وابن عابدين 5 / 242 المصرية، الفواكه الدواني 2 / 424 ط حلب، حاشية القليوبي 3 / 213 ط حلب.(25/157)
لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَانَقَهُ (1) . قَال إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الرَّجُل يَلْقَى الرَّجُل، يُعَانِقُهُ؟ قَال: نَعَمْ فَعَلَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ.
وَمُعَانَقَةُ الأَْجْنَبِيَّةِ وَالأَْمْرَدِ حَرَامٌ، كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَمُعَانَقَةُ الرَّجُل زَوْجَتَهُ مَكْرُوهَةٌ فِي الصَّوْمِ، وَكَذَا مُعَانَقَةُ ذَوِي الْعَاهَاتِ مِنْ بَرَصٍ وَجُذَامٍ؛ أَيْ: مَكْرُوهَةٌ. وَأَمَّا الْمُعَانَقَةُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، كَمُعَانَقَةِ الرَّجُل لِلرَّجُل فَهِيَ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ خَاصَّةً عِنْدَ الْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحِ (مُعَانَقَة) .
صِيغَةُ السَّلاَمِ وَصِيغَةُ الرَّدِّ:
7 - صِيغَةُ السَّلاَمِ وَصِفَتُهُ الْكَامِلَةُ أَنْ يَقُول الْمُسْلِمُ: " السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ " بِالتَّعْرِيفِ وَبِالْجَمْعِ. سَوَاءٌ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا
__________
(1) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم عانق أبا ذر أخرجه أبو داود (5 / 389 - 390 تحقيق عزت عبيد دعاس) وأعله ابن مفلح بجهالة الراوي عن أبي ذر، كذا في الآداب الشرعية (2 / 275 - ط المنار) .
(2) المصباح مادة (عنق) ، ابن عابدين 2 / 282 - 283، 5 / 244 ط المصرية، الفواكه الدواني 2 / 425 ط حلب، حاشية عميرة 2 / 58 ط حلب، حاشية القليوبي 3 / 213 ط حلب، الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 270، 272 ط الرياض.(25/157)
أَوْ جَمَاعَةً؛ لأَِنَّ الْوَاحِدَ مَعَهُ الْحَفَظَةُ كَالْجَمْعِ مِنَ الآْدَمِيِّينَ وَهَذِهِ الصِّيغَةُ هِيَ الْمَرْوِيَّةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَقُول: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، بِالتَّنْكِيرِ، إِلاَّ أَنَّ التَّعْرِيفَ أَفْضَل؛ لأَِنَّهُ تَحِيَّةُ أَهْل الدُّنْيَا. فَأَمَّا " سَلاَمٌ " بِالتَّنْكِيرِ فَتَحِيَّةُ أَهْل الْجَنَّةِ. كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (1) .
8 - وَالأَْكْمَل أَنْ يَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، بِتَأْخِيرِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، فَلَوْ قَال: عَلَيْكُمُ السَّلاَمُ، أَوْ: عَلَيْكَ السَّلاَمُ، كَانَ مُخَالِفًا لِلأَْكْمَل؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ قَال: لَقِيتُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلاَمُ يَا رَسُول اللَّهِ، فَقَال: لاَ تَقُل عَلَيْكَ السَّلاَمُ، فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلاَمُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ وَلَكِنْ قُل: السَّلاَمُ عَلَيْكَ (2) قَال الْقُرْطُبِيُّ: لَمَّا جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ بِتَقْدِيمِ اسْمِ الْمَدْعُوِّ عَلَيْهِ فِي الشَّرِّ كَقَوْلِهِمْ (عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَغَضَبُ اللَّهِ) نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، لاَ أَنَّ ذَاكَ هُوَ اللَّفْظُ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّ الْمَوْتَى؛ لأَِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى الْمَوْتَى، كَمَا سَلَّمَ عَلَى الأَْحْيَاءِ فَقَال
__________
(1) سورة الرعد / 24.
(2) حديث: " لا تقل عليك السلام ". أخرجه أبو داود (4 / 344 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث جابر بن سليم، وأخرجه كذلك الترمذي (5 / 72 - ط الحلبي) وقال: / " حديث صحيح ".(25/158)
: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ.
وَهَذَا لَيْسَ عَلَى سَبِيل التَّحْرِيمِ، بَل هُوَ خِلاَفُ الأَْكْمَل أَوْ مَكْرُوهٌ كَمَا قَال الْغَزَالِيُّ. وَعَلَى كُل حَالٍ فَيَجِبُ رَدُّ السَّلاَمِ (1) .
ثُمَّ إِنَّ أَكْثَرَ مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَى الْبَرَكَةِ فَتَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَل، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَجُلاً سَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَال عُرْوَةُ: مَا تَرَكَ لَنَا فَضْلاً، إِنَّ السَّلاَمَ قَدِ انْتَهَى إِلَى: وَبَرَكَاتُهُ. وَذَلِكَ كَمَا فِي رُوحُ الْمَعَانِي؛ لاِنْتِظَامِ تِلْكَ التَّحِيَّةِ لِجَمِيعِ فُنُونِ الْمَطَالِبِ الَّتِي هِيَ السَّلاَمَةُ عَنِ الْمَضَارِّ، وَنَيْل الْمَنَافِعِ وَدَوَامُهَا وَنَمَاؤُهَا.
وَقِيل: يَزِيدُ الْمُحَيَّى إِذَا جَمَعَ الْمُحَيِّي الثَّلاَثَةَ لَهُ وَهِيَ السَّلاَمُ وَالرَّحْمَةُ وَالْبَرَكَةُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا قَال: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سَلَّمَ
__________
(1) حاشية العدوي على الرسالة 2 / 435 ط المعرفة، القرطبي 5 / 300 - 301 ط الأولى، الأذكار للنووي 390 ط الأولى، والفتوحات الربانية شرح الأذكار 5 / 322 والحديث: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين " أخرجه مسلم (1 / 218 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(25/158)
عَلَيْهِ فَرَدَّ زَادَ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَقَال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ أَتَيْتُهُ مَرَّةً أُخْرَى فَقُلْتُ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرَكَاتُهُ، فَقَال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرَكَاتُهُ وَطَيِّبُ صَلَوَاتِهِ. وَلاَ يَتَعَيَّنُ مَا ذُكِرَ لِلزِّيَادَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ زِيَادَةُ: وَمَغْفِرَتُهُ (1) .
صِيغَةُ رَدِّ السَّلاَمِ:
9 - صِيغَةُ الرَّدِّ أَنْ يَقُول الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ (وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمُ) بِتَقْدِيمِ الْخَبَرِ وَبِالْوَاوِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَقُول: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ. بِتَنْكِيرِ السَّلاَمِ وَتَقْدِيمِهِ، وَبِدُونِ وَاوٍ، لَكِنِ الأَْفْضَل بِالْوَاوِ لِصَيْرُورَةِ الْكَلاَمِ بِهَا جُمْلَتَيْنِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: عَلَيَّ السَّلاَمُ وَعَلَيْكُمْ، فَيَصِيرُ الرَّادُّ مُسَلِّمًا عَلَى نَفْسِهِ مَرَّتَيْنِ: الأُْولَى مِنَ الْمُبْتَدِئِ وَالثَّانِيَةُ مِنْ نَفْسِ الرَّادِّ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا تَرَكَ الْوَاوَ، فَإِنَّ الْكَلاَمَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ جُمْلَةً وَاحِدَةً تَخُصُّ الْمُسَلِّمَ وَحْدَهُ.
وَالأَْصْل فِي صِيغَةِ الرَّدِّ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى الْبَرَكَةِ فَتَقُول: وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَإِذَا قَال الْمُسَلِّمُ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تَكُونُ وَاجِبَةً، فَلَوِ اقْتَصَرَ الْمُسَلِّمُ عَلَى لَفْظِ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، كَانَتْ
__________
(1) روح المعاني 5 / 99 ط المنيرية.(25/159)
الزِّيَادَةُ مُسْتَحَبَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (1) .
السَّلاَمُ أَوْ رَدُّهُ بِالإِْشَارَةِ:
10 - يُكْرَهُ السَّلاَمُ أَوْ رَدُّهُ بِالإِْشَارَةِ بِالرَّدِّ بِالْيَدِ أَوْ بِالرَّأْسِ بِغَيْرِ نُطْقٍ بِالسَّلاَمِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَقُرْبِ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَل أَهْل الْكِتَابِ: الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلاَ بِالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الإِْشَارَةُ بِالأَْصَابِعِ، وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الإِْشَارَةُ بِالأَْكُفِّ (2) . فَإِنْ كَانَتِ الإِْشَارَةُ مَقْرُونَةً بِالنُّطْقِ، بِحَيْثُ وَقَعَ التَّسْلِيمُ أَوِ الرَّدُّ بِاللِّسَانِ مَعَ الإِْشَارَةِ، أَوْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ بَعِيدًا عَنِ الْمُسَلِّمِ، بِحَيْثُ لاَ يَسْمَعُ صَوْتَهُ فَيُشِيرُ إِلَيْهِ بِالسَّلاَمِ بِيَدِهِ أَوْ رَأْسِهِ لِيُعْلِمَهُ أَنَّهُ يُسَلِّمُ، فَلاَ كَرَاهَةَ (3) .
__________
(1) سورة النساء / 86 - وانظر روح المعاني 5 / 99 ط المنيرية، القرطبي 5 / 299 ط الأولى، العدوي على الرسالة 2 / 435 ط المعرفة، الأذكار للنووي / 391 - 392 ط الأولى.
(2) حديث: " ليس منا من تشبه بغيرنا ". أخرجه الترمذي (5 / 56 - 57 ط الحلبي) .
(3) الفواكه الدواني 2 / 422 - 423 ط حلب، الأذكار للنووي / 393 - 394 ط الأولى.(25/159)
وَتَكْفِي الإِْشَارَةُ فِي السَّلاَمِ عَلَى أَصَمَّ أَوْ أَخْرَسَ، أَوِ الرَّدِّ عَلَى سَلاَمِهِ، خِلاَفًا لِمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الأَْذْكَارِ عَنِ الْمُتَوَلِّي حَيْثُ قَال: إِذَا سَلَّمَ عَلَى أَصَمَّ لاَ يَسْمَعُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَلَفَّظَ بِلَفْظِ السَّلاَمِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَيُشِيرُ بِالْيَدِ حَتَّى يَحْصُل الإِْفْهَامُ وَيَسْتَحِقَّ الْجَوَابَ، فَلَوْ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا لاَ يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ قَال: وَكَذَا لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَصَمُّ وَأَرَادَ الرَّدَّ فَيَتَلَفَّظُ بِاللِّسَانِ وَيُشِيرُ بِالْجَوَابِ لِيَحْصُل بِهِ الإِْفْهَامُ وَيَسْقُطَ عَنْهُ فَرْضُ الْجَوَابِ. قَال: وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى أَخْرَسَ فَأَشَارَ الأَْخْرَسُ بِالْيَدِ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ؛ لأَِنَّ إِشَارَتَهُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِبَارَةِ. وَكَذَا لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَخْرَسُ بِالإِْشَارَةِ يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ مَعَ الْعِبَارَةِ (1) .
السَّلاَمُ بِوَسَاطَةِ الرَّسُول أَوِ الْكِتَابِ:
11 - السَّلاَمُ بِوَاسِطَةِ الرَّسُول أَوِ الْكِتَابِ كَالسَّلاَمِ مُشَافَهَةً، فَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِهِ الأَْذْكَارِ عَنْ أَبِي سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرِهِ فِيمَا إِذَا نَادَى إِنْسَانٌ إِنْسَانًا مِنْ خَلْفِ سِتْرٍ أَوْ حَائِطٍ فَقَال: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا فُلاَنُ، أَوْ كَتَبَ كِتَابًا فِيهِ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا فُلاَنُ، أَوِ: السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ، أَوْ: أَرْسَل رَسُولاً وَقَال: سَلِّمْ عَلَى فُلاَنٍ، فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ أَوِ الرَّسُول وَجَبَ عَلَيْهِ
__________
(1) الأذكار للنووي / 396 ط الأولى ودليل الفالحين 5 / 310، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 419.(25/160)
أَنْ يَرُدَّ السَّلاَمَ. صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَال النَّوَوِيُّ: قَال أَصْحَابُنَا: وَهَذَا الرَّدُّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَكَذَا لَوْ بَلَغَهُ سَلاَمٌ فِي وَرَقَةٍ مِنْ غَائِبٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ السَّلاَمَ بِاللَّفْظِ عَلَى الْفَوْرِ إِذَا قَرَأَهُ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَال لِي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا جِبْرِيل يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلاَمَ، قَالَتْ: قُلْتُ: وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ (1) . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْمُبَلِّغِ أَيْضًا بِأَنْ يَقُول: وَعَلَيْكَ وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ (2) .
السَّلاَمُ وَرَدُّهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ:
12 - السَّلاَمُ وَرَدُّهُ بِالْعَجَمِيَّةِ كَالسَّلاَمِ وَرَدِّهِ بِالْعَرَبِيَّةِ، لأَِنَّ الْغَرَضَ مِنَ السَّلاَمِ التَّأْمِينُ وَالدُّعَاءُ بِالسَّلاَمَةِ وَالتَّحِيَّةُ، فَيَحْصُل ذَلِكَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، كَمَا يَحْصُل بِهَا. وَهَذَا فِي السَّلاَمِ خَارِجَ الصَّلاَةِ، إِذِ السَّلاَمُ فِي الصَّلاَةِ لاَ يُجْزِئُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) حديث: " هذا جبريل يقرأ عليك السلام ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 38 ط. السلفية) ومسلم (4 / 1895 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(2) روح المعاني 5 / 100 - 101 ط المنيرية - القرطبي 5 / 300 - 301 ط. الأولى، التفسير الكبير للرازي 10 / 213، 215 ط. الأولى، الأذكار للنووي / 395 - 396 ط. الأولى.(25/160)
عَلَى قَوْلٍ. وَلاَ يَكْفِيهِ الْخُرُوجُ مِنْهَا بِالنِّيَّةِ. فَإِنْ أَتَى بِالسَّلاَمِ بِالْعَجَمِيَّةِ فَإِنَّ الصَّلاَةَ تَبْطُل عَلَى قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُ أَشْيَاخِهِمُ الصِّحَّةَ قِيَاسًا عَلَى الدُّعَاءِ بِالْعَجَمِيَّةِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ. هَذَا وَجَمِيعُ أَذْكَارِ الصَّلاَةِ تَصِحُّ بِالْعَجَمِيَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُطْلَقًا خِلاَفًا لِلصَّاحِبَيْنِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُذْكَرُ فِي (صَلاَة (1)) .
حُكْمُ الْبَدْءِ بِالسَّلاَمِ وَحُكْمُ الرَّدِّ:
13 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السَّلاَمَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهُوَ سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إِنْ كَانَ الْمُسَلِّمُونَ جَمَاعَةً بِحَيْثُ يَكْفِي سَلاَمُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلَوْ سَلَّمُوا كُلُّهُمْ كَانَ أَفْضَل.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ مُقَابِلٌ لِلْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الاِبْتِدَاءَ بِالسَّلاَمِ وَاجِبٌ. لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ، قِيل: مَا هُنَّ يَا رَسُول اللَّهِ؟
__________
(1) ابن عابدين 1 / 350 ط. المصرية - حاشية الدسوقي 1 / 241 ط. الفكر، الشرح الصغير 1 / 125 ط. الثالثة. روضة الطالبين 1 / 167 - 169 ط. المكتب الإسلامي، حاشية القليوبي 1 / 169 ط. حلب، كشاف القناع 1 / 361 ط. النصر، المغني 1 / 551 ط. الرياض.(25/161)
قَال: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ (1) .
14 - وَأَمَّا رَدُّ السَّلاَمِ فَإِنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الرَّدُّ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً كَانَ رَدُّ السَّلاَمِ فَرْضَ كِفَايَةٍ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ رَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ تَرَكُوهُ كُلُّهُمْ أَثِمُوا كُلُّهُمْ، وَإِنْ رَدُّوا كُلُّهُمْ فَهُوَ النِّهَايَةُ فِي الْكَمَال وَالْفَضِيلَةِ، فَلَوْ رَدَّ غَيْرُهُمْ لَمْ يَسْقُطِ الرَّدُّ عَنْهُمْ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرُدُّوا، فَإِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى رَدِّ ذَلِكَ الأَْجْنَبِيِّ أَثِمُوا.
هَذَا وَالأَْمْرُ بِالسَّلاَمِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِفِعْل الصَّحَابَةِ، فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (2) وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (3) .
وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً سَأَل
__________
(1) حديث: " حق المسلم ". أخرجه مسلم (4 / 1705 - ط الحلبي) .
(2) سورة النور / 61.
(3) سورة النساء / 86.(25/161)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الإِْسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَال: تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ (1) .
وَمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَال: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ - نَفَرٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ جُلُوسٍ - فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ (2) .
وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عِمَارَةَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: أَمَرَنَا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَبْعٍ: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَنَصْرِ الضَّعِيفِ، وَعَوْنِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ (3) . وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ
__________
(1) حديث: " أي الإسلام خير ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 21 - ط السلفية) ومسلم (1 / 65 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " خلق الله آدم ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 3 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2183 - 2184 ط السلفية) .
(3) حديث البراء: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 18 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1635 - ط الحلبي) .(25/162)
يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِئُ عَنِ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ (1) .
وَمِنْ فِعْل الصَّحَابَةِ مَا رُوِيَ عَنِ الطُّفَيْل بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَيَغْدُو مَعَهُ إِلَى السُّوقِ قَال: فَإِذَا غَدَوْنَا إِلَى السُّوقِ لَمْ يَمُرَّ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى سِقَاطٍ، وَلاَ صَاحِبِ بَيْعَةٍ، وَلاَ مِسْكِينٍ، وَلاَ أَحَدٍ، إِلاَّ سَلَّمَ عَلَيْهِ، قَال الطُّفَيْل: فَجِئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْمًا فَاسْتَتْبَعَنِي إِلَى السُّوقِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا تَصْنَعُ بِالسُّوقِ وَأَنْتَ لاَ تَقِفُ عَلَى الْبَيْعِ، وَلاَ تَسْأَل عَنِ السِّلَعِ، وَلاَ تَسُومُ بِهَا، وَلاَ تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوقِ؟ وَأَقُول: اجْلِسْ بِنَا هَاهُنَا نَتَحَدَّثُ، فَقَال: يَا أَبْطَنُ - وَكَانَ الطُّفَيْل ذَا بَطْنٍ - إِنَّمَا نَغْدُو مِنْ أَجَل السَّلاَمِ، نُسَلِّمُ عَلَى مَنْ لَقِينَاهُ (2) .
وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِ السَّلاَمِ وَالرَّدِّ خَاصٌّ
__________
(1) حديث: " يجزئ عن الجماعة ". أخرجه أبو داود (5 / 387 - 388 تحقيق عزت عبيد دعاس) وذكر المنذري تضعيف أحد رواته في مختصر السنن (8 / 78 - نشر دار المعرفة) إلا أن له شواهد تقويه ذكر بعضها الزيلعي في نصب الراية.
(2) فتح القدير 5 / 469 ط. الأميرية، مراقي الفلاح 105، حاشية ابن عابدين 1 / 260، حاشية العدوي على الرسالة 2 / 434 - 436 - ط المعرفة، حاشية القليوبي 4 / 215 - 216، الأذكار للنووي / 394 - 395 ط. الأولى، رياض الصالحين / 343 - 344 ط. دار الكتاب العربي، الآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 374.(25/162)
بِالْمُسَلِّمِ الَّذِي لَمْ يَنْشَغِل بِالأَْذَانِ أَوِ الصَّلاَةِ أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ بِتَلْبِيَةِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ بِالأَْكْل أَوْ بِالشُّرْبِ، أَوْ قَضَاءِ حَاجَةٍ وَغَيْرِهَا، إِذِ السَّلاَمُ عَلَى الْمُنْشَغِل بِمَا ذُكِرَ لَيْسَ كَالسَّلاَمِ عَلَى غَيْرِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَا يَلِي:
أ - السَّلاَمُ عَلَى مَنْ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ:
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ حُكْمَ رَدِّ السَّلاَمِ مِنَ الْمُؤَذِّنِ الْكَرَاهَةُ؛ لأَِنَّ الْفَصْل بَيْنَ جُمَل الأَْذَانِ عِنْدَهُمْ مَكْرُوهَةٌ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْفَصْل بِإِشَارَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ، فَلَهُ الرَّدُّ بِالإِْشَارَةِ، وَيُكْرَهُ السَّلاَمُ أَيْضًا عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُلَبِّي بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لِنَفْسِ الْعِلَّةِ.
وَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ السَّلاَمُ عَلَى الْمُؤَذِّنِ وَالْمُقِيمِ لاِنْشِغَالِهِمْ بِالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُسَنُّ السَّلاَمُ عَلَى مَنْ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ، بَل يَجُوزُ بِالْكَلاَمِ وَلاَ يُبْطِل الأَْذَانَ أَوِ الإِْقَامَةَ (1) .
ب - السَّلاَمُ عَلَى الْمُصَلِّي وَرَدُّهُ السَّلاَمَ:
16 - السَّلاَمُ عَلَى الْمُصَلِّي سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 260 ط. بولاق، جواهر الإكليل 1 / 36 - 37. ط المعرفة تحفة المحتاج 9 / 227 - 228 ط، دار صادر، المغني 2 / 60 - 61 ط. الرياض.(25/163)
جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَقَدْ سُئِل أَحْمَدُ عَنِ الرَّجُل يَدْخُل عَلَى الْقَوْمِ وَهُمْ يُصَلُّونَ أَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ؟ قَال: نَعَمْ (1) . وَأَمَّا رَدُّ السَّلاَمِ مِنَ الْمُصَلِّي فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ - كَمَا فِي الْهِدَايَةِ - أَنْ لاَ يَرُدَّ السَّلاَمَ بِلِسَانِهِ؛ لأَِنَّهُ كَلاَمٌ، وَلاَ بِيَدِهِ؛ لأَِنَّهُ سَلاَمٌ مَعْنًى، حَتَّى لَوْ صَافَحَ بِنِيَّةِ التَّسْلِيمِ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ فَتْحِ الْقَدِيرِ أَنَّ رَدَّ الْمُصَلِّي السَّلاَمَ بِالإِْشَارَةِ مَكْرُوهٌ وَبِالْمُصَافَحَةِ مُفْسِدٌ. ثُمَّ إِنَّ الْمُصَلِّيَ لاَ يَلْزَمُهُ رَدُّ السَّلاَمِ لَفْظًا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ، بَل يَرُدُّ فِي نَفْسِهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ يَرُدُّ بَعْدَ الْفَرَاغِ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ قَال: تَأْوِيلُهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فِي الصَّلاَةِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَرُدُّ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لاَ يَرُدُّ، لاَ قَبْل الْفَرَاغِ وَلاَ بَعْدَهُ فِي نَفْسِهِ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لاَ يَرُدُّ السَّلاَمَ بِاللَّفْظِ، فَإِنْ رَدَّ عَمْدًا أَوْ جَهْلاً بَطَل. وَرَدُّهُ بِاللَّفْظِ سَهْوًا يَقْتَضِي سُجُودَ السَّهْوِ، بَل يَجِبُ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 251 ط. المعرفة، المغني 2 / 60 - 61 ط. الرياض كشاف القناع 1 / 241.(25/163)
عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ السَّلاَمَ بِالإِْشَارَةِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الرَّدِّ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ رَدَّ الْمُصَلِّي السَّلاَمَ بِالْكَلاَمِ عَمْدًا يُبْطِل الصَّلاَةَ.
وَرَدُّ الْمُصَلِّي السَّلاَمَ بِالإِْشَارَةِ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَأَمَّا ابْتِدَاءُ الْمُصَلِّي السَّلاَمَ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ بِالإِْشَارَةِ بِيَدٍ أَوْ رَأْسٍ فَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَطْ، وَلاَ يَلْزَمُهُ السُّجُودُ لِذَلِكَ (1) .
ج - السَّلاَمُ عَلَى الْمُنْشَغِل بِالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالأَْكْل، وَعَلَى قَاضِي الْحَاجَةِ وَعَلَى مَنْ فِي الْحَمَّامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
17 - الأَْوْلَى تَرْكُ السَّلاَمِ عَلَى الْمُنْشَغِل بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَإِنْ سَلَّمَ كَفَاهُ الرَّدُّ بِالإِْشَارَةِ، وَإِنْ رَدَّ بِاللَّفْظِ اسْتَأْنَفَ الاِسْتِعَاذَةَ ثُمَّ يَقْرَأُ، وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ لَفْظًا.
وَأَمَّا السَّلاَمُ عَلَى الْمُنْشَغِل بِالذِّكْرِ مِنْ دُعَاءٍ وَتَدَبُّرٍ فَهُوَ كَالسَّلاَمِ عَلَى الْمُنْشَغِل بِالْقِرَاءَةِ،
__________
(1) الهداية وفتح القدير 1 / 173، 291 - 292 ط. الأميرية، ابن عابدين 1 / 414 ط. المصرية، جواهر الإكليل 1 / 63 ط. المعرفة، تحفة المحتاج 9 / 228 ط. دار صادر. المغني 2 / 60 - 61 ط. الرياض، كشاف القناع 1 / 399.(25/164)
وَالأَْظْهَرُ كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا بِالدُّعَاءِ مُجْمِعَ الْقَلْبِ عَلَيْهِ فَالسَّلاَمُ عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ، لِلْمَشَقَّةِ الَّتِي تَلْحَقُهُ مِنَ الرَّدِّ، وَاَلَّتِي تَقْطَعُهُ عَنِ الاِسْتِغْرَاقِ بِالدُّعَاءِ، وَهِيَ أَكْثَرُ مِنَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي تَلْحَقُ الآْكِل إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَدَّ فِي حَال أَكْلِهِ، وَأَمَّا الْمُلَبِّي فِي الإِْحْرَامِ فَيُكْرَهُ السَّلاَمُ عَلَيْهِ، وَلَوْ سَلَّمَ رَدَّ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ.
وَأَمَّا السَّلاَمُ فِي حَال خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ فَيُكْرَهُ الاِبْتِدَاءُ بِهِ لأَِنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالإِْنْصَاتِ لِلْخُطْبَةِ، فَإِنْ سَلَّمَ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ لِتَقْصِيرِهِ، وَقِيل: إِنْ كَانَ الإِْنْصَاتُ وَاجِبًا لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ سُنَّةً رَدَّ عَلَيْهِ، وَلاَ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ عَلَى كُل وَجْهٍ.
وَلاَ يُسَلِّمُ عَلَى مَنْ كَانَ مُنْشَغِلاً بِالأَْكْل وَاللُّقْمَةُ فِي فَمِهِ، فَإِنْ سَلَّمَ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْجَوَابَ، أَمَّا إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبَلْعِ أَوْ قَبْل وَضْعِ اللُّقْمَةِ فِي فَمِهِ فَلاَ يَتَوَجَّهُ الْمَنْعُ وَيَجِبُ الْجَوَابُ، وَيُسَلِّمُ فِي حَال الْبَيْعِ وَسَائِرِ الْمُعَامَلاَتِ وَيَجِبُ الْجَوَابُ.
وَأَمَّا السَّلاَمُ عَلَى قَاضِي الْحَاجَةِ وَنَحْوِهِ كَالْمُجَامِعِ وَعَلَى مَنْ فِي الْحَمَّامِ وَالنَّائِمِ وَالْغَائِبِ خَلْفَ جِدَارٍ، فَحُكْمُهُ الْكَرَاهَةُ. وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْجَوَابَ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. أَنَّ رَجُلاً مَرَّ وَرَسُول اللَّهِ(25/164)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبُول، فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ (1) .
وَمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلاً مَرَّ وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبُول، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَال النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا رَأَيْتَنِي عَلَى مِثْل هَذِهِ الْحَال فَلاَ تُسَلِّمْ عَلَيَّ. فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَمْ أَرُدَّ عَلَيْكَ (2) .
وَأَمَّا حُكْمُ الرَّدِّ مِنْهُمْ فَهُوَ الْكَرَاهَةُ مِنْ قَاضِي الْحَاجَةِ وَالْمُجَامِعِ، وَأَمَّا مَنْ فِي الْحَمَّامِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ الرَّدُّ، كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ (3) .
أَحْكَامٌ أُخْرَى لِلسَّلاَمِ:
السَّلاَمُ عَلَى الصَّبِيِّ:
18 - السَّلاَمُ عَلَى الصَّبِيِّ أَفْضَل مِنْ تَرْكِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ،
__________
(1) حديث ابن عمر: أن رجلا مر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبول. . . أخرجه مسلم (1 / 281 - ط الحلبي) .
(2) حديث جابر: أن رجلا مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول. . . أخرجه ابن ماجه (1 / 126 - ط الحلبي) وحسن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 102 - ط دار الحنان) .
(3) فتح القدير 1 / 173 ط. الأميرية، ابن عابدين 1 / 411 - 415 ط. المصرية جواهر الإكليل 1 / 37، 251 ط. المعرفة، الزرقاني 3 / 109 ط. الفكر. الخرشي 3 / 110 ط. بولاق، تحفة المحتاج 9 / 227 - 228 ط. دار صادر. الروضة 10 / 232 ط. المكتب الإسلامي، حاشية الجمل على المنهج 5 / 188 - 189 ط. التراث، الأذكار / 401 - 402 ط. الأولى. المغني 1 / 167 ط. الرياض.(25/165)
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَذَكَرَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ جَائِزٌ لِتَأْدِيبِهِمْ، وَهُوَ مَعْنَى كَلاَمِ ابْنِ عَقِيلٍ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَصَاحِبُ عُيُونِ الْمَسَائِل وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَال: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُهُ (1) .
وَأَمَّا جَوَابُ السَّلاَمِ مِنَ الصَّبِيِّ فَغَيْرُ وَاجِبٍ؛ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ، كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَيَسْقُطُ رَدُّ السَّلاَمِ بِرَدِّهِ عَنِ الْبَاقِينَ إِنْ كَانَ عَاقِلاً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ أَهْل الْفَرْضِ فِي الْجُمْلَةِ، بِدَلِيل حِل ذَبِيحَتِهِ مَعَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ فِيهَا فَرْضٌ عِنْدَهُمْ.
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا الأَُجْهُورِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّاشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، قِيَاسًا عَلَى أَذَانِهِ لِلرِّجَال. وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ سُقُوطِ فَرْضِ رَدِّ السَّلاَمِ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِرَدِّ الصَّبِيِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي وَالْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ تَوَقَّفَ فِي الاِكْتِفَاءِ بِرَدِّ الصَّبِيِّ عَنِ الْجَمَاعَةِ صَاحِبُ الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، حَيْثُ قَال: وَلَنَا فِيهِ وَقْفَةٌ؛ لأَِنَّ الرَّدَّ فَرْضٌ
__________
(1) حديث أنس أنه مر على صبيان فسلم عليهم. أخرجه البخاري (الفتح 11 / 32 - ط السلفية) .(25/165)
عَلَى الْبَالِغِينَ، وَرَدُّ الصَّبِيِّ غَيْرُ فَرْضٍ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكْفِي عَنِ الْفَرْضِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ؟ فَلَعَل الأَْظْهَرَ عَدَمُ الاِكْتِفَاءِ بِرَدِّهِ عَنِ الْبَالِغِينَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَجْهَيْنِ فِي رَدِّ السَّلاَمِ مِنَ الْبَالِغِ عَلَى سَلاَمِ الصَّبِيِّ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ إِسْلاَمِهِ - أَيْ الصَّبِيِّ - وَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ وُجُوبَ الرَّدِّ (1) .
السَّلاَمُ عَلَى النِّسَاءِ:
19 - سَلاَمُ الْمَرْأَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ يُسَنُّ كَسَلاَمِ الرَّجُل عَلَى الرَّجُل، وَرَدُّ السَّلاَمِ مِنَ الْمَرْأَةِ عَلَى مِثْلِهَا كَالرَّدِّ مِنَ الرَّجُل عَلَى سَلاَمِ الرَّجُل.
وَأَمَّا سَلاَمُ الرَّجُل عَلَى الْمَرْأَةِ؛ فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ زَوْجَةً أَوْ أَمَةً أَوْ مِنَ الْمَحَارِمِ فَسَلاَمُهُ عَلَيْهَا سُنَّةٌ، وَرَدُّ السَّلاَمِ مِنْهَا عَلَيْهِ وَاجِبٌ، بَل يُسَنُّ أَنْ يُسَلِّمَ الرَّجُل عَلَى أَهْل بَيْتِهِ وَمَحَارِمِهِ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ أَجْنَبِيَّةً فَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا أَوِ امْرَأَةً لاَ تُشْتَهَى فَالسَّلاَمُ عَلَيْهَا سُنَّةٌ،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 265 ط. المصرية، الفواكه الدواني 2 / 422 ط. الثانية القرطبي 5 / 302 ط. الأولى، الروضة 10 / 229 ط. المكتب الإسلامي، نهاية المحتاج 8 / 47 ط. المكتبة الإسلامية، تحفة المحتاج 9 / 223 ط. دار صادر، الأذكار / 396 - 397 ط. الأولى، الآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 380 ط. المنار.(25/166)
وَرَدُّ السَّلاَمِ مِنْهَا عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهَا لَفْظًا وَاجِبٌ. وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ شَابَّةً يُخْشَى الاِفْتِتَانُ بِهَا، أَوْ يُخْشَى افْتِتَانُهَا هِيَ أَيْضًا بِمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهَا فَالسَّلاَمُ عَلَيْهَا وَجَوَابُ السَّلاَمِ مِنْهَا حُكْمُهُ الْكَرَاهَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الرَّجُل يَرُدُّ عَلَى سَلاَمِ الْمَرْأَةِ فِي نَفْسِهِ إِنْ سَلَّمَتْ هِيَ عَلَيْهِ، وَتَرُدُّ هِيَ أَيْضًا فِي نَفْسِهَا إِنْ سَلَّمَ هُوَ عَلَيْهَا، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِحُرْمَةِ رَدِّهَا عَلَيْهِ.
وَأَمَّا سَلاَمُ الرَّجُل عَلَى جَمَاعَةِ النِّسَاءِ فَجَائِزٌ، وَكَذَا سَلاَمُ الرِّجَال عَلَى الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ. وَمِمَّا يَدُل عَلَى جَوَازِ سَلاَمِ الرَّجُل عَلَى جَمَاعَةِ النِّسَاءِ مَا رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَرَّ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نِسْوَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا (1) .
وَمِمَّا يَدُل عَلَى جَوَازِ السَّلاَمِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْعَجُوزِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تُرْسِل إِلَيَّ بِضَاعَةَ نَخْلٍ بِالْمَدِينَةِ فَتَأْخُذُ مِنْ
__________
(1) حديث أسماء بنت يزيد: مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة. أخرجه أبو داود (5 / 383 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (5 / 58 - ط الحلبي) ، واللفظ لأبي داود، وحسنه الترمذي.(25/166)
أُصُول السَّلْقِ فَتَطْرَحُهُ فِي قِدْرٍ، وَتُكَرْكِرُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ انْصَرَفْنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا فَتُقَدِّمُهُ إِلَيْنَا (1) ، وَمَعْنَى تُكَرْكِرُ؛ أَيْ: تَطْحَنُ (2) .
السَّلاَمُ عَلَى الْفُسَّاقِ وَأَرْبَابِ الْمَعَاصِي:
20 - ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ السَّلاَمَ عَلَى الْفَاسِقِ الْمُجَاهِرِ بِفِسْقِهِ مَكْرُوهٌ وَإِلاَّ فَلاَ، وَمِثْل الْفَاسِقِ فِي هَذَا لاَعِبُ الْقِمَارِ وَشَارِبُ الْخَمْرِ وَمُطَيِّرُ الْحَمَامِ وَالْمُغَنِّي وَالْمُغْتَابُ حَال تَلَبُّسِهِمْ بِذَلِكَ، نُقِل عَنْ فُصُول الْعَلاَّمِيِّ أَنَّهُ لاَ يُسَلِّمُ، وَيُسَلِّمُ عَلَى قَوْمٍ فِي مَعْصِيَةٍ وَعَلَى مَنْ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ نَاوِيًا أَنْ يُشْغِلَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكُرِهَ عِنْدَهُمَا تَحْقِيرًا لَهُمَا (3) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلاَمِ عَلَى أَهْل
__________
(1) حديث سهل بن سعد: كانت لنا عجوز. أخرجه البخاري (الفتح 11 / 33 - ط السلفية) .
(2) ابن عابدين 5 / 236 ط المصرية، روح المعاني 5 / 99 ط. المنيرية، القرطبي 5 / 302 ط. الأولى، الفواكه الدواني 2 / 422 ط. الثالثة، شرح الزرقاني 3 / 110 ط دار الفكر، روضة الطالبين 10 / 229 - 230 ط. المكتب الإسلامي، الأذكار للنووي / 402 - 403 ط. الأولى، تحفة المحتاج 9 / 223 ط دار صادر، التفسير الكبير للرازي 10 / 214 - 215 ط الأولى - الآداب الشرعية 1 / 374 - 375 ط الأولى.
(3) ابن عابدين 1 / 414 - 5 / 267 ط. المصرية. الفواكه الدواني 2 / 426 ط. الثالثة.(25/167)
الأَْهْوَاءِ مَكْرُوهٌ، كَابْتِدَائِهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى (1) .
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ وَجْهَيْنِ فِي اسْتِحْبَابِ السَّلاَمِ عَلَى الْفُسَّاقِ وَفِي وُجُوبِ الرَّدِّ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ إِذَا سَلَّمَا. وَذَكَرَ فِي الأَْذْكَارِ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ وَمَنِ اقْتَرَفَ ذَنْبًا عَظِيمًا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ يَنْبَغِي أَنْ لاَ يُسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَلاَ يُرَدَّ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ.
مُحْتَجًّا بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ قِصَّةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ هُوَ وَرَفِيقَانِ لَهُ فَقَال: وَنَهَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كَلاَمِنَا. قَال: وَكُنْتُ آتِي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَأَقُول: هَل حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ أَمْ لاَ؟ (2) وَبِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي الأَْدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَال: (لاَ تُسَلِّمُوا عَلَى شُرَّابِ الْخَمْرِ) (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى السَّلاَمِ عَلَى
__________
(1) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 438، والفواكه الدواني 2 / 426.
(2) حديث قصة كعب بن مالك. أخرجه البخاري (الفتح 3 / 115 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2124 - ط. الحلبي) .
(3) قول عبد الله بن عمرو: لا تسلموا على شراب الخمر. أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص 263 - ط السلفية) .(25/167)
الظَّلَمَةِ، بِأَنْ دَخَل عَلَيْهِمْ وَخَافَ تَرَتُّبَ مَفْسَدَةٍ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ أَوْ غَيْرِهِمَا إِنْ لَمْ يُسَلِّمْ، سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَذَكَرَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ يُسَلِّمُ وَيَنْوِي أَنَّ السَّلاَمَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَكُونُ الْمَعْنَى اللَّهُ عَلَيْكُمْ رَقِيبٌ (1) .
وَذَكَرَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الآْدَابِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِكُل مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَنْ يَلْعَبُ النَّرْدَ أَوِ الشِّطْرَنْجَ، وَكَذَا مُجَالَسَتُهُ لإِِظْهَارِهِ الْمَعْصِيَةَ، وَقَال أَحْمَدُ فِيمَنْ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ: مَا هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُسَلَّمَ عَلَيْهِ، كَمَا لاَ يُسَلَّمُ عَلَى الْمُتَلَبِّسِينَ بِالْمَعَاصِي، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ إِنْ سَلَّمُوا إِلاَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ انْزِجَارُهُمْ بِتَرْكِ الرَّدِّ.
قَال أَبُو دَاوُدَ: قُلْتُ لأَِحْمَدَ: أَمُرُّ بِالْقَوْمِ يَتَقَاذَفُونَ، أُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ؟ قَال: هَؤُلاَءِ قَوْمٌ سُفَهَاءُ، وَالسَّلاَمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، قُلْتُ لأَِحْمَدَ: أُسَلِّمُ عَلَى الْمُخَنَّثِ؟ قَال: لاَ أَدْرِي، السَّلاَمُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ جَل (2) .
وَأَمَّا رَدُّ السَّلاَمِ عَلَى الْفَاسِقِ أَوِ الْمُبْتَدِعِ فَلاَ يَجِبُ زَجْرًا لَهُمَا كَمَا فِي رُوحِ الْمَعَانِي (3) .
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 230 ط. المكتب الإسلامي، الأذكار / 407 ط. الأولى الأدب المفرد بشرحه 2 / 472 ط. السلفية.
(2) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 389 ط. الأولى.
(3) روح المعاني 5 / 101 ط المنيرية.(25/168)
السَّلاَمُ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ:
21 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّلاَمَ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الذِّمِّيِّ إِنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ حَاجَةٌ؛ لأَِنَّ السَّلاَمَ حِينَئِذٍ لأَِجْل الْحَاجَةِ لاَ لِتَعْظِيمِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُول: السَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (1) . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ فِرَقِ الضَّلاَل بِالسَّلاَمِ مَكْرُوهٌ؛ لأَِنَّ السَّلاَمَ تَحِيَّةٌ وَالْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا (2) .
وَيَحْرُمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بُدَاءَةُ الذِّمِّيِّ بِالسَّلاَمِ، وَلَهُ أَنْ يُحَيِّيَهُ بِغَيْرِ السَّلاَمِ بِأَنْ يَقُول: هَدَاكَ اللَّهُ، أَوْ: أَنْعَمَ اللَّهُ صَبَاحَكَ، إِنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ حَاجَةٌ، وَإِلاَّ فَلاَ يَبْتَدِئُهُ بِشَيْءٍ مِنَ الإِْكْرَامِ أَصْلاً؛ لأَِنَّ ذَلِكَ بَسْطٌ لَهُ وَإِينَاسٌ وَإِظْهَارُ وُدٍّ (3) . وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 264 - 265 ط. المصرية، الاختيار 4 / 165 ط. المعرفة روح المعاني 5 / 100 ط. المنيرية.
(2) الفواكه الدواني 2 / 425 - 426 ط. الثالثة، حاشية العدوي على الخرشي 3 / 110 ط بولاق، القرطبي 5 / 303 ط الأولى.
(3) نهاية المحتاج 8 / 49 ط. المكتبة الإسلامية، تحفة المحتاج 9 / 226 ط. دار صادر، روضة الطالبين 10 / 230 - 231 ط. المكتب الإسلامي.(25/168)
تَجِدُ قَوْمًا يُومَنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي الأَْذْكَارِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَهْل الذِّمَّةِ، فَقَطَعَ الأَْكْثَرُونَ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُمْ بِالسَّلاَمِ، وَقَال آخَرُونَ: لَيْسَ هُوَ بِحَرَامٍ بَل هُوَ مَكْرُوهٌ.
حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَجْهًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا؛ أَنَّهُ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُ بِالسَّلاَمِ، وَلَكِنْ يَقْتَصِرُ الْمُسَلِّمُ عَلَى قَوْلِهِ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ، وَلاَ يَذْكُرُهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، إِلاَّ أَنَّ النَّوَوِيَّ وَصَفَ هَذَا الْوَجْهَ بِأَنَّهُ شَاذٌّ.
وَبُدَاءَةُ أَهْل الذِّمَّةِ بِالسَّلاَمِ لاَ تَجُوزُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ أَنْ نُحَيِّيَهُمْ بِتَحِيَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ السَّلاَمِ. قَال أَبُو دَاوُدَ: قُلْتُ لأَِبِي عَبْدِ اللَّهِ: تَكْرَهُ أَنْ يَقُول الرَّجُل لِلذِّمِّيِّ كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ أَوْ: كَيْفَ حَالُكَ؟ أَوْ: كَيْفَ أَنْتَ؟ أَوْ نَحْوَ هَذَا؟ قَال: نَعَمْ، هَذَا عِنْدِي أَكْثَرُ مِنَ السَّلاَمِ.
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ قَال لِلذِّمِّيِّ: أَطَال اللَّهُ بَقَاءَكَ، جَازَ، إِنْ نَوَى أَنَّهُ يُطِيلُهُ لِيُسْلِمَ أَوْ
__________
(1) سورة المجادلة / 22.(25/169)
لِيُؤَدِّيَ الْجِزْيَةَ لأَِنَّهُ دُعَاءٌ بِالإِْسْلاَمِ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجُوزُ (1) .
وَدَلِيل كَرَاهَةِ الْبُدَاءَةِ بِالسَّلاَمِ قَوْل رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاَ تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلاَ النَّصَارَى بِالسَّلاَمِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ (2) .
وَالاِسْتِقَالَةُ أَنْ يَقُول لَهُ: رُدَّ سَلاَمِي الَّذِي سَلَّمْتُهُ عَلَيْكَ؛ لأَِنِّي لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ كَافِرٌ مَا سَلَّمْتُ عَلَيْكَ. وَيُسْتَحَبُّ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ سَلَّمَ عَلَى مَنْ يَظُنُّهُ مُسْلِمًا فَبَانَ ذِمِّيًّا أَنْ يَسْتَقِيلَهُ بِأَنْ يَقُول لَهُ: رُدَّ سَلاَمِي الَّذِي سَلَّمْتُهُ عَلَيْكَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (أَنَّهُ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقِيل: إِنَّهُ كَافِرٌ، فَقَال: رُدَّ عَلَيَّ مَا سَلَّمْتُ عَلَيْكَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَقَال أَكْثَرَ اللَّهُ مَالَكَ وَوَلَدَكَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَال: أَكْثَرُ لِلْجِزْيَةِ) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَسْتَقِيلُهُ.
وَإِذَا كَتَبَ إِلَى الذِّمِّيِّ كِتَابًا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ فِيهِ: السَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، اقْتِدَاءً
__________
(1) الاختيار 4 / 165 ط. المعرفة، الأذكار ص / 404 - 406 ط. الأولى. المغني 8 / 536 ط. الرياض، كشاف القناع 3 / 129 ط،. النصر، الكافي 4 / 359 ط الثانية.
(2) حديث: " لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام ". أخرجه مسلم (4 / 1707 ط. الحلبي) .(25/169)
بِرَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اقْتِصَارِهِ عَلَى ذَلِكَ حِينَ كَتَبَ إِلَى هِرَقْل مَلِكِ الرُّومِ.
وَإِذَا مَرَّ وَاحِدٌ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ مُسْلِمُونَ - وَلَوْ وَاحِدًا - وَكُفَّارٌ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ وَيَقْصِدَ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْمُسْلِمَ. لِمَا رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلاَطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَْوْثَانِ وَالْيَهُودِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
رَدُّ السَّلاَمِ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ:
22 - وَأَمَّا رَدُّ السَّلاَمِ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلاَ يَجِبُ إِلاَّ إِذَا تَحَقَّقَ الْمُسْلِمُ مِنْ لَفْظِ السَّلاَمِ مِنَ الذِّمِّيِّ، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَيَقْتَصِرُ فِي الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِ: وَعَلَيْكُمْ، بِالْوَاوِ وَالْجَمْعِ، أَوْ: وَعَلَيْكَ، بِالْوَاوِ دُونَ الْجَمْعِ عِنْدَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 264 - 265 ط المصرية، الفواكه الدواني 2 / 425 - 426 ط الثالثة - نهاية المحتاج 8 / 49 ط. المكتبة الإسلامية، تحفة المحتاج 9 / 226 ط. دار صادر، الأذكار / 405 - 406 ط. الأولى، روضة الطالبين 10 / 231 ط. المغني 8 / 536 ط. الرياض.(25/170)
الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِكَثْرَةِ الأَْخْبَارِ فِي ذَلِكَ (1) .
فَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْل الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ (2) وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُول أَحَدُهُمْ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقُل: وَعَلَيْكَ (3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَقُول فِي الرَّدِّ: عَلَيْكَ، بِغَيْرِ وَاوٍ بِالإِْفْرَادِ أَوِ الْجَمْعِ (4) . لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ يَقُول أَحَدُهُمُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقُل: عَلَيْكَ (5) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ
__________
(1) الاختيار 4 / 165 ط. المعرفة، الفواكه الدواني 2 / 425 - ذ42 ط. الثالثة، نهاية المحتاج 8 / 49 ط. المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 3 / 130 ط. النصر.
(2) " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 42 ط. السلفية) ومسلم (4 / 1705 ط. الحلبي) .
(3) حديث: " إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم. . . ". أخرجه البخاري (11 / 42 ط. السلفية) .
(4) رياض الصالحين / 349 ط. دار الكتاب العربي، صحيح مسلم بشرح النووي 14 / 144 ط. الأولى، الأذكار / 404، 405 ط الأولى.
(5) حديث: " إن اليهود إذا سلموا عليكم ". أخرجه مسلم (4 / 1706 ط. الحلبي) .(25/170)
قَال: عَلَيْكُمْ. بِالْجَمْعِ وَبِغَيْرِ وَاوٍ.
وَنَقَل النَّفْرَاوِيُّ عَنِ الأَُجْهُورِيُّ قَوْلَهُ: إِنْ تَحَقَّقَ الْمُسْلِمُ أَنَّ الذِّمِّيَّ نَطَقَ بِالسَّلاَمِ بِفَتْحِ السِّينِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ الرَّدُّ عَلَيْهِ؛ لاِحْتِمَال أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الدُّعَاءَ.
مَنْ يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ:
23 - يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيل عَلَى الْكَثِيرِ، وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ.
لِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيل عَلَى الْكَثِيرِ (1) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ زِيَادَةُ: الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ (2) وَهَذَا الْمَذْكُورُ هُوَ السُّنَّةُ، فَلَوْ خَالَفُوا فَسَلَّمَ الْمَاشِي عَلَى الرَّاكِبِ، أَوِ الْجَالِسُ عَلَيْهِمَا لَمْ يُكْرَهْ، وَعَلَى مُقْتَضَى هَذَا لاَ يُكْرَهُ ابْتِدَاءُ الْكَثِيرِينَ بِالسَّلاَمِ عَلَى الْقَلِيل، وَالْكَبِيرِ عَلَى الصَّغِيرِ، وَيَكُونُ هَذَا تَرْكًا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ سَلاَمِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا فِيمَا إِذَا تَلاَقَى الاِثْنَانِ فِي طَرِيقٍ، أَمَّا إِذَا وَرَدَ عَلَى قُعُودٍ أَوْ قَاعِدٍ،
__________
(1) يسلم الراكب على الماشي. أخرجه البخاري (الفتح 11 / 15 - ط. السلفية) .
(2) رواية: " الصغير على الكبير " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 14 - ط. السلفية) .(25/171)
فَإِنَّ الْوَارِدَ يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ عَلَى كُل حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَانَ كَبِيرًا، قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا.
وَإِذَا لَقِيَ رَجُلٌ جَمَاعَةً فَأَرَادَ أَنْ يَخُصَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ بِالسَّلاَمِ كُرِهَ؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ مِنَ السَّلاَمِ الْمُؤَانَسَةُ وَالأُْلْفَةُ، وَفِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ إِيحَاشٌ لِلْبَاقِينَ، وَرُبَّمَا صَارَ سَبَبًا لِلْعَدَاوَةِ، وَإِذَا مَشَى فِي السُّوقِ أَوِ الشَّوَارِعِ الْمَطْرُوقَةِ كَثِيرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ فِيهِ الْمُتَلاَقُونَ، فَقَدْ ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ السَّلاَمَ هُنَا إِنَّمَا يَكُونُ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ. قَال: لأَِنَّهُ لَوْ سَلَّمَ عَلَى كُل مَنْ لَقِيَ لَتَشَاغَل بِهِ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمْ، وَلَخَرَجَ بِهِ عَنْ الْعُرْفِ.
اسْتِحْبَابُ السَّلاَمِ عِنْدَ دُخُول بَيْتٍ أَوْ مَسْجِدٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ:
24 - يُسْتَحَبُّ إِذَا دَخَل بَيْتَهُ أَنْ يُسَلِّمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ وَلْيَقُل: السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ (1) . وَكَذَا إِذَا دَخَل مَسْجِدًا، أَوْ بَيْتًا لِغَيْرِهِ فِيهِ أَحَدٌ، يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَلِّمَ وَأَنْ يَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْل الْبَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ (2) .
__________
(1) قال الإمام مالك في الموطأ (2 / 962 - ط. الحلبي) . أنه بلغه: إذا دخل البيت غير المسكون يقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
(2) استدل على ذلك بقوله تعالى:} فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة { (النور / 61) .(25/171)
السَّلاَمُ عِنْدَ مُفَارَقَةِ الْمَجْلِسِ:
25 - إِذَا كَانَ جَالِسًا مَعَ قَوْمٍ ثُمَّ قَامَ لِيُفَارِقَهُمْ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسٍ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ، ثُمَّ إِذَا قَامَ فَلْيُسَلِّمْ، فَلَيْسَتْ الأُْولَى بِأَحَقَّ مِنَ الآْخِرَةِ (1)
إِلْقَاءُ السَّلاَمِ عَلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ لاَ يَرُدُّ السَّلاَمَ:
26 - قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا مَرَّ عَلَى وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ لاَ يَرُدُّ عَلَيْهِ، إِمَّا لِتَكَبُّرٍ الْمَمْرُورِ عَلَيْهِ وَإِمَّا لإِِهْمَالِهِ الْمَارَّ أَوِ السَّلاَمَ، وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّمَ وَلاَ يَتْرُكَهُ لِهَذَا الظَّنِّ، فَإِنَّ السَّلاَمَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَاَلَّذِي أُمِرَ بِهِ الْمَارُّ أَنْ يُسَلِّمَ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِأَنْ يُحَصِّل الرَّدَّ، مَعَ أَنَّ الْمَمْرُورَ عَلَيْهِ قَدْ يُخْطِئُ الظَّنُّ فِيهِ وَيَرُدُّ.
ثُمَّ قَال النَّوَوِيُّ: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَلَّمَ عَلَى إِنْسَانٍ وَأَسْمَعَهُ سَلاَمَهُ وَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ الرَّدُّ بِشُرُوطِهِ فَلَمْ يَرُدَّ، أَنْ يُحَلِّلَهُ مِنْ ذَلِكَ
__________
(1) حديث: " إذا انتهى أحدكم إلى مجلس ". أخرجه الترمذي (5 / 62 - 63 - ط. الحلبي) وقال: " حديث حسن ".(25/172)
فَيَقُول: أَبْرَأْتُهُ مِنْ حَقِّي فِي رَدِّ السَّلاَمِ، أَوْ: جَعَلْتُهُ فِي حِلٍّ مِنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَيَلْفِظُ بِهَذَا، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ هَذَا الآْدَمِيِّ.
وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَلَّمَ عَلَى إِنْسَانٍ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَنْ يَقُول لَهُ بِعِبَارَةٍ لَطِيفَةٍ: رَدُّ السَّلاَمِ وَاجِبٌ، فَيَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ لِيَسْقُطَ عَنْكَ فَرْضُ الرَّدِّ (1) .
السَّلاَمُ عِنْدَ زِيَارَةِ الْمَوْتَى:
أ - السَّلاَمُ عِنْدَ زِيَارَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَيْهِ:
27 - يُنْدَبُ لِكُل حَاجٍّ زِيَارَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ، فَإِنَّ زِيَارَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ وَأَهَمِّهَا وَأَرْبَحِ الْمَسَاعِي وَأَفْضَل الطِّلْبَاتِ، وَانْظُرْ بَحْثَ (زِيَارَة) .
وَإِذَا أَتَى الزَّائِرُ الْمَسْجِدَ صَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ الْكَرِيمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ وَاسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ عَلَى نَحْوِ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ مِنْ جِدَارِ الْقَبْرِ وَسَلَّمَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول: (السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُول اللَّهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا خِيرَةَ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا حَبِيبَ اللَّهِ،
__________
(1) روح المعاني 5 / 102 ط. المنيرية - تفسير القرطبي 5 / 301 - 302 ط. الأولى، التفسير الكبير للرازي 10 / 213 - ط. الأولى، الأذكار / 408 - 412 ط. الأولى.(25/172)
السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِكَ وَأَصْحَابِكَ وَأَهْل بَيْتِكَ وَعَلَى النَّبِيِّينَ وَسَائِرِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنَّكَ بَلَّغْتَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّيْتَ الأَْمَانَةَ وَنَصَحْتَ الأُْمَّةَ، فَجَزَاكَ اللَّهُ عَنَّا أَفْضَل مَا جَزَى رَسُولاً عَنْ أُمَّتِهِ) وَلاَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ قَدْ أَوْصَاهُ أَحَدٌ بِالسَّلاَمِ عَلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَال: " السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُول اللَّهِ مِنْ فُلاَنِ ابْنِ فُلاَنٍ. ثُمَّ يَتَأَخَّرُ قَدْرَ ذِرَاعٍ إِلَى جِهَةِ يَمِينِهِ فَيُسَلِّمُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَقُول: " السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا خَلِيفَةَ رَسُول اللَّهِ السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا صِدِّيقَ رَسُول اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّكَ جَاهَدْتَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، جَزَاكَ اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ خَيْرًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَأَرْضَاكَ وَجَعَل الْجَنَّةَ مُتَقَلَّبَكَ وَمَثْوَاكَ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ كُل الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ ".
ثُمَّ يَتَأَخَّرُ ذِرَاعًا لِلسَّلاَمِ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَقُول: " السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا صَاحِبَ رَسُول اللَّهِ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ الْفَارُوقَ، أَشْهَدُ أَنَّكَ جَاهَدْتَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، جَزَاكَ اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ خَيْرًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَأَرْضَاكَ وَجَعَل الْجَنَّةَ مُتَقَلَّبُكَ وَمَثْوَاكَ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ كُل(25/173)
الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ " ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مَوْقِفِهِ الأَْوَّل قُبَالَةَ وَجْهِ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
السَّلاَمُ عِنْدَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ:
28 - قَال الْقُرْطُبِيُّ: زِيَارَةُ الْقُبُورِ مِنْ أَعْظَمِ الدَّوَاءِ لِلْقَلْبِ الْقَاسِي؛ لأَِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ وَالآْخِرَةَ. وَذَلِكَ يَحْمِل عَلَى قِصَرِ الأَْمَل وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَتَرْكِ الرَّغْبَةِ فِيهَا (2) . وَتَذْكُرُ كُتُبُ السُّنَّةِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَزُورُ الْقُبُورَ وَيُسَلِّمُ عَلَى سَاكِنِيهَا، وَيُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ ذَلِكَ.
فَعَنْ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ، فَكَانَ قَائِلُهُمْ يَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْل الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلاَحِقُونَ، وَأَسْأَل اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ (3) .
__________
(1) فتح القدير 2 / 337 ط - الأميرية، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 71 - 72 ط. المعرفة، حاشية القليوبي 2 / 126 - ط. الحلبي، الأذكار / 333 - 334 - ط. الأولى، المغني 3 / 558 ط. الرياض، كشاف القناع 2 / 515 - 517 ط. النصر.
(2) تفسير القرطبي 20 / 170 - ط. الأولى.
(3) حديث بريدة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر. أخرجه مسلم (1 / 669 - ط. الحلبي) وانظر النسائي 4 / 94 ط. التجارية، ابن ماجه: 1547 وزاد بعد قوله للاحقون " أنتم لنا فرط، ونحن لكم تبع " ونيل الأوطار 4 / 166 - ط. الجيل، رياض الصالحين / 260 - ط. دار الكتاب العربي، الأذكار / 282 - ط. الأولى.(25/173)
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتَهَا مِنْ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْل إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَِهْل بَقِيعِ الْغَرْقَدِ (1) .
قَوْل: " عَلَيْهِ السَّلَامُ " عِنْدَ ذِكْرِ نَبِيٍّ أَوْ رَجُلٍ مِنَ الصَّالِحِينَ:
29 - السَّلاَمُ عَلَى مَنْ ذُكِرَ فِي الْغَيْبَةِ مَقْصُورٌ عَلَى الأَْنْبِيَاءِ وَالْمَلاَئِكَةِ عِنْدَ ذِكْرِهِمْ، مِثْل قَوْلِكَ: نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ تَأَسِّيًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} (2) وَقَوْلِهِ: {سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (3) وَقَوْلِهِ: {سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} (4) وَقَوْلِهِ: {سَلاَمٌ عَلَى إِل يَاسِينَ} (5) نَعَمْ يَجُوزُ السَّلاَمُ عَلَى آلِهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ تَبَعًا لَهُمْ دُونَ اسْتِقْلاَلٍ.
__________
(1) حديث عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها. أخرجه مسلم (1 / 669 - ط. الحلبي) .
(2) سورة الصافات / 79.
(3) سورة الصافات / 109.
(4) سورة الصافات / 120.
(5) سورة الصافات / 130.(25/174)
30 - وَأَمَّا السَّلاَمُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ اسْتِقْلاَلاً فَمَنَعَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَال بِأَنَّ السَّلاَمَ هُوَ فِي مَعْنَى الصَّلاَةِ فَلاَ يُسْتَعْمَل فِي الْغَائِبِ، فَلاَ يُفْرَدُ بِهِ غَيْرُ الأَْنْبِيَاءِ، فَلاَ يُقَال: أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلاَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الأَْحْيَاءُ وَالأَْمْوَاتُ، وَأَمَّا الْحَاضِرُ فَيُخَاطَبُ بِهِ فَيُقَال: سَلاَمٌ عَلَيْكَ أَوْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ أَوِ السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَوْ عَلَيْكُمْ.
وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ بِأَنَّ السَّلاَمَ يُشْرَعُ فِي حَقِّ كُل مُؤْمِنٍ مِنْ حَيٍّ وَمَيِّتٍ وَغَائِبٍ وَحَاضِرٍ، وَهُوَ تَحِيَّةُ أَهْل الإِْسْلاَمِ، بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ فَإِنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلِهِ - وَلِهَذَا يَقُول الْمُصَلِّي: السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَلاَ يَقُول: الصَّلاَةُ عَلَيْنَا (1) .
السَّلاَمُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الصَّلاَةِ:
31 - الْخُرُوجُ مِنَ الصَّلاَةِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالسَّلاَمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ السَّلاَمَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ عِنْدَهُمْ - لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الطَّهُورُ
__________
(1) الأذكار / 210 - ط. الأولى، القول البديع للسخاوي / 57 ط. الثالثة، جلاء الأفهام لابن القيم / 345 ط. الأولى.(25/174)
وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ (1) . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالسَّلاَمُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ رُكْنًا بَل هُوَ وَاجِبٌ، لأَِنَّ الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعَلِّمْهُ الْمُسِيءَ صَلاَتَهُ، وَلَوْ كَانَ فَرْضًا لأََمَرَ بِهِ؛ إِذْ لاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. فَالْخُرُوجُ مِنَ الصَّلاَةِ عِنْدَهُمْ يَكُونُ بِالسَّلاَمِ، وَيَكُونُ بِغَيْرِهِ مِنْ كُل عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ مُنَافٍ لِلصَّلاَةِ. وَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُهُ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى سَلاَمٍ (2) . وَتَفْصِيلُهُ فِي (تَسْلِيم) .
هَذَا وَالسَّلاَمُ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ مِنْ صَلاَةِ
__________
(1) حديث: " مفتاح الصلاة الطهور. . . . ". أخرجه الترمذي (1 / 9 - ط. الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وإسناده حسن.
(2) ابن عابدين 1 / 314 - 315 ط. المصرية، فتح القدير 1 / 225 - 226 ط. الأولى، الاختيار 1 / 54 ط. الثالثة، تبيين الحقائق 1 / 125 - 126 ط. الأولى بولاق، الفتاوى الهندية 1 / 76 - 77 ط. الثانية بولاق، جواهر الإكليل 1 / 48 - 49 ط. المعرفة، حاشية الدسوقي 1 / 240 - 241 ط الفكر، حاشية العدوي على الرسالة 1 / 245 - 247 ط المعرفة، شرح الزرقاني 1 / 202 ط. الفكر، الخرشي 1 / 273 - 274 ط. بولاق. حاشية القليوبي 1 / 169 - 170 ط حلب، الروضة 1 / 267 - 269 ط. المكتب الإسلامي، المهذب للشيرازي 2 / 87 ط. الثانية - نهاية المحتاج 1 / 514 - 515 ط. المكتبة الإسلامية، المجموع 3 / 473 - 484 ط. السلفية، كشاف القناع 1 / 361 ط. النصر، الإنصاف 2 / 82 - 83 ط. الثانية، المغني 1 / 551 - 552 ط. الرياض.(25/175)
الْجِنَازَةِ يَكُونُ بَعْدَ آخِرِ تَكْبِيرَةٍ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي (صَلاَة الْجِنَازَةِ (1))
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 241 ط. الأميرية، ابن عابدين 1 / 585 ط. المصرية، الاختيار 1 / 95 ط. المعرفة، جواهر الإكليل 1 / 108 ط المعرفة، حاشية الدسوقي 1 / 413 ط. الفكر، الخرشي 2 / 117 - 119 ط. بولاق، حاشية العدوي على الرسالة 1 / 375 ط. الفكر، حاشية القليوبي 1 / 331 ط. حلب، المهذب 1 / 141 ط حلب، روضة الطالبين 2 / 127 ط. المكتب الإسلامي، نهاية المحتاج 2 / 463 - 664 ط. المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 2 / 116 ط. النصر، الإنصاف 2 / 523 ط. التراث، المغني 2 / 491 - 492 ط. الرياض.(25/175)
سَلَبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّلَبُ مَا يَأْخُذُهُ أَحَدُ الْقِرْنَيْنِ فِي الْحَرْبِ مِنْ قِرْنِهِ، مِمَّا يَكُونُ عَلَيْهِ وَمَعَهُ مِنْ ثِيَابٍ وَسِلاَحٍ وَدَابَّةٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ؛ أَيْ: مَسْلُوبٍ.
وَيُقَال: أَخَذَ سَلَبَ الْقَتِيل وَأَسْلاَبَ الْقَتْلَى.
وَالْمَصْدَرُ السَّلْبُ، وَمَعْنَاهُ: الاِنْتِزَاعُ قَهْرًا. وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرَّضْخُ:
2 - الرَّضْخُ لُغَةً: هُوَ الْعَطَاءُ الْقَلِيل. وَيُقَال: رَضَخْتُ لَهُ رَضَخًا؛ أَيْ أَعْطَيْتُهُ شَيْئًا لَيْسَ بِالْكَثِيرِ.
وَشَرْعًا: هُوَ مَالٌ يُعْطِيهِ الإِْمَامُ مِنَ
__________
(1) لسان العرب، وأساس البلاغة، المغرب في ترتيب المعرب، المعجم الوسيط، مادة: سلب.(25/176)
الْخُمُسِ، كَالنَّفْل، مَتْرُوكٌ قَدْرُهُ لاِجْتِهَادِهِ. وَعَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ شَيْءٌ دُونَ سَهْمِ الرَّاجِل، يَجْتَهِدُ الإِْمَامُ فِي قَدْرِهِ، وَهُوَ مِنَ الأَْرْبَاعِ الْخَمْسَةِ، وَقِيل: مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ (1) .
ب - الْغَنِيمَةُ:
3 - الْغَنِيمَةُ: فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، مِنَ الْغُنْمِ، وَهُوَ لُغَةً: الرِّبْحُ وَالْفَضْل، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّهَا فَائِدَةٌ مَحْضَةٌ.
وَشَرْعًا: مَالٌ حَصَل لَنَا مِنْ كُفَّارٍ أَصْلِيِّينَ حَرْبِيِّينَ بِقِتَالٍ مِنَّا، وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ إِيجَافِ خَيْلٍ وَنَحْوِهِ. زَادَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ إِعْلاَءُ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَيَدْخُل فِيهِ السَّلَبُ وَالرَّضْخُ وَالنَّفَل (2) .
ج - الأَْنْفَال:
4 - الأَْنْفَال: هِيَ أَمْوَال الْحَرْبِيِّينَ الَّتِي آلَتْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِقِتَالٍ، كَالْغَنِيمَةِ أَوْ بِغَيْرِ قِتَالٍ كَالْفَيْءِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى السَّهْمِ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: رضخ: ابن عابدين 3 / 235، الفواكه الدواني 1 / 172، مغني المحتاج 3 / 105، التعريفات للجرجاني.
(2) لسان العرب، المصباح المنير، المعجم الوسيط مادة (غنم) ، المغني لابن قدامة 6 / 402، مغني المحتاج 3 / 99، ابن عابدين 3 / 228، التعريفات للجرجاني.(25/176)
لِمَصْلَحَةٍ، وَهُوَ مَا يُجْعَل لِمَنْ عَمِل عَمَلاً زَائِدًا فِي الْحَرْبِ ذَا أَثَرٍ وَنَفْعٍ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمْ: الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا قَتَل أَحَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْمَعْرَكَةِ مُقْبِلاً عَلَى الْقِتَال فَلَهُ سَلَبُهُ، قَال ذَلِكَ الإِْمَامُ أَوْ لَمْ يَقُل؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَل كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ (2) . وَلِقَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ: " اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي رَجُلاً شَدِيدًا، إِلَى أَنْ قَال: حَتَّى أَقْتُلَهُ وَآخُذَ سَلَبَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَاتِل لاَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ إِلاَّ إِذَا اشْتَرَطَ لَهُ الإِْمَامُ ذَلِكَ. كَأَنْ يَقُول قَبْل إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، وَقَبْل أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ. وَإِلاَّ كَانَ السَّلَبُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ.
وَقَال الطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَمْرُ السَّلَبِ مَوْكُولٌ لِلإِْمَامِ فَيَرَى فِيهِ رَأْيَهُ؛ لِمَا رَوَى عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ مَدَدِيًّا اتَّبَعَهُمْ فَقَتَل عِلْجًا، فَأَخَذَ خَالِدٌ بَعْضَ سَلَبِهِ، وَأَعْطَاهُ بَعْضَهُ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 86، وغريب القرآن للأصفهاني
(2) حديث: " من قتل كافرا فله سلبه ". أخرجه أبو داود (3 / 162 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (3 / 353 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أنس بن مالك. وصححه ووافقه الذهبي.(25/177)
فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: لاَ تَرُدُّهُ عَلَيْهِ يَا خَالِدُ (1) وَلِمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ قَتْل أَبِي جَهْلٍ، حَيْثُ أَعْطَى سَلَبُهُ لِمُعَاذِ ابْنِ عَفْرَاءَ مَعَ قَوْلِهِ: كِلاَكُمَا قَتَلَهُ (2) . .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْقَاتِل لاَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ إِلاَّ أَنْ يَقُول لَهُ الإِْمَامُ ذَلِكَ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقُول الإِْمَامُ ذَلِكَ إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ، حَتَّى لاَ يُشَوِّشَ نِيَّتَهُ، وَلاَ يَصْرِفَهَا لِقِتَال الدُّنْيَا؛ لأَِنَّ السَّلَبَ عِنْدَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ النَّفْل فَيُعْطِيهِ الإِْمَامُ لِلْمَصْلَحَةِ حَسَبَ اجْتِهَادِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْمُتَقَدِّمِ.
كَمَا رُوِيَ عَنْ شُبَّرِ بْنِ عَلْقَمَةَ قَال: بَارَزْتُ رَجُلاً يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَقَتَلْتُهُ، وَأَخَذْتُ سَلَبَهُ، فَأَتَيْتُ بِهِ سَعْدًا، فَخَطَبَ سَعْدٌ أَصْحَابَهُ وَقَال: إِنَّ هَذَا سَلَبُ شُبَّرٍ خَيْرٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَإِنَّا قَدْ نَفَّلْنَاهُ إِيَّاهُ (3) .
__________
(1) حديث عوف بن مالك أخرجه أحمد (6 / 26 - ط الميمنية) أصله في مسلم (3 / 1373 - ط الحلبي) .
(2) قصة قتل أبي جهل: أخرجها البخاري (الفتح 6 / 246 - 247 - ط. السلفية) ومسلم (3 / 1372 - ط الحلبي) من حديث عبد الرحمن بن عوف.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 238، حاشية العدوي 2 / 14، الشرح الصغير 2 / 176، القوانين الفقهية ص 99، روضة الطالبين 6 / 372، مغني المحتاج 3 / 99، المغني لابن قدامة 8 / 392، سبل السلام 4 / 52، المهذب في فقه الإمام الشافعي 2 / 238.(25/177)
مَنْ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ:؟
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ مِنَ الْمُقَاتِلِينَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَهُمْ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ السَّلَبَ لِكُل قَاتِلٍ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ أَوِ الرَّضْخَ كَالْعَبْدِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالصَّبِيِّ، وَالتَّاجِرِ، وَالذِّمِّيِّ، لِعُمُومِ الْحَدِيثِ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ (1) وَلِمَا رَوَاهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِل (2) . وَهُوَ حُكْمٌ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِشَيْءٍ مِنَ الأَْشْيَاءِ.
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَسْتَثْنُونَ الذِّمِّيَّ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ وَإِنْ حَضَرَ الْقِتَال بِإِذْنِ الإِْمَامِ، أَمَّا إِذَا حَضَرَ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ فَلاَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ بِاتِّفَاقٍ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ وَالذِّمِّيَّ وَالصَّبِيَّ وَكُل مَنْ لاَ يُسْهَمُ لَهُ لاَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ. هَذَا الْقَوْل الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
__________
(1) حديث: " من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 247 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1371 ط. الحلبي) .
(2) حديث: أن رسول الله صلى الله عليه سلم قضى بالسلب للقاتل. أخرجه أبو داود (3 / 165 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عوف بن مالك وخالد بن الوليد، وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 105 - ط شركة الطباعة الفنية) وهو ثابت في صحيح مسلم من حديث طويل، وهو في صحيح مسلم (3 / 1373 - ط الحلبي) .(25/178)
قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ إِذَا أَجَازَ الإِْمَامُ لَهُمْ، أَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمُ الْجِهَادُ بِدُخُول الْكُفَّارِ إِلَى بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَيَأْخُذُونَ السَّلَبَ عِنْدَ ذَلِكَ. أَمَّا الَّذِي لاَ يَسْتَحِقُّ سَهْمًا وَلاَ رَضْخًا كَالْمُرْجِفِ وَالْمُخَذِّل وَالْخَائِنِ وَالْمُعِينِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِهِ فَلاَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) .
7 - وَمِنْ شُرُوطِ اسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ أَنْ يُغَرِّرَ الْقَاتِل بِنَفْسِهِ فِي قَتْل الْكَافِرِ؛ أَيْ يُخَاطِرَ بِحَيَاتِهِ وَيُوَاجِهَ احْتِمَال الْمَوْتِ، فَإِنْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ صَفِّ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ حِصْنٍ يَتَحَصَّنُ فِيهِ فَلاَ سَلَبَ لَهُ.
وَإِنِ اشْتَرَكَ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي قَتْل الْكَافِرِ حَال الْحَرْبِ، فَالسَّلَبُ لَهُمْ جَمِيعًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ حَيْثُ يَتَنَاوَل الْوَاحِدَ وَالاِثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةَ؛ وَلأَِنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي السَّبَبِ - وَهُوَ الْقَتْل - فَيَجِبُ أَنْ يَشْتَرِكُوا فِي السَّلَبِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ بَيْنَ جَمَاعَةٍ لاَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 239، سبل السلام 4 / 52، الخرشي 3 / 130، الشرح الصغير 2 / 177، جواهر الإكليل 1 / 261، مغني المحتاج 3 / 99، روضة الطالبين 6 / 374، المغني لابن قدامة 8 / 387، حاشية العدوي 2 / 14، فتح القدير 5 / 249، كشاف القناع 3 / 71.(25/178)
يُرْجَى نَجَاتُهُ مِنْهُمْ لَمْ يَخْتَصَّ قَاتِلُهُ بِسَلَبِهِ لأَِنَّهُ لَمْ يُغَرِّرْ بِنَفْسِهِ، وَلأَِنَّ شَرَّ الْكَافِرِ زَال بِالْوُقُوعِ بَيْنَهُمْ. وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَوْ حَمَل جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْكَافِرِينَ، فَقَتَلُوهُ فَسَلَبُهُ لَيْسَ لَهُمْ. بَل يَكُونُ غَنِيمَةً؛ لأَِنَّهُمْ لَمْ يُغَرِّرُوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي قَتْلِهِ، وَكَذَا لَوِ اشْتَرَكَ فِي قَتْلِهِ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَبْلَغَ فِي قَتْلِهِ مِنَ الآْخَرِ؛ لأَِنَّ السَّلَبَ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالْمُخَاطَرَةِ فِي قَتْلِهِ، وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ بِقَتْل الاِثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ فَلَمْ يُسْتَحَقَّ بِهِ السَّلَبُ. قَالُوا: وَلأَِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَكَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي سَلَبٍ، وَلأَِنَّ أَبَا جَهْلٍ ضَرَبَهُ مُعَاذُ ابْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ فَقَال: كِلاَكُمَا قَتَلَهُ، وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ الْجَمُوحِ (1) .
8 - وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَقْتُول الَّذِي يَأْخُذُ قَاتِلُهُ سَلَبَهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُقَاتِلِينَ الَّذِينَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ شَرْعًا، أَمَّا إِذَا قَتَل امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ شَيْخًا فَانِيًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ رَاهِبًا مُنْعَزِلاً فِي صَوْمَعَتِهِ أَوْ نَحْوَهُمْ مِمَّنْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِهِمْ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ قَاتِلُهُ السَّلَبَ مَا لَمْ يَشْتَرِكْ فِي الْقِتَال. فَإِنِ اشْتَرَكَ أَحَدٌ مِنْ
__________
(1) سبق تخريجه ف5.(25/179)
هَؤُلاَءِ فِي الْقِتَال اسْتَحَقَّ قَاتِلُهُ سَلَبَهُ، لِجَوَازِ قَتْلِهِ حِينَئِذٍ.
9 - وَمِنْ شُرُوطِ اسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ أَنْ يَقْتُلَهُ أَوْ يُثْخِنَهُ بِجِرَاحٍ تَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ الْمَقْتُول، بِحَيْثُ يَكُونُ قَدْ كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ وَأَزَال امْتِنَاعَهُ كُلِّيًّا؛ كَأَنْ يَفْقَأَ عَيْنَيْهِ أَوْ يُعْمِيَ بَصَرَهُ أَوْ يَقْطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ: وَكَذَا لَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ أَوْ أَسَرَهُ أَوْ قَطَعَ يَدًا وَرِجْلاً لِضَعْفِ حَرَكَتِهِ فِي الْقَطْعِ؛ وَلأَِنَّ الأَْسْرَ أَبْلَغُ فِي الْقَهْرِ وَأَصْعَبُ مِنَ الْقَتْل؛ وَلأَِنَّ الإِْمَامَ يَتَخَيَّرُ فِي الأَْسِيرِ بَيْنَ الْقَتْل وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ وَنَحْوِهَا.
قَال مَكْحُولٌ: لاَ يَكُونُ السَّلَبُ إِلاَّ لِمَنْ أَسَرَ عِلْجًا (1) أَوْ قَتَلَهُ، وَقَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا أَسَرَ رَجُلاً فَقَتَلَهُ الإِْمَامُ صَبْرًا فَسَلَبُهُ لِمَنْ أَسَرَهُ، وَإِنِ اسْتَبَقَاهُ الإِْمَامُ كَانَ لَهُ فِدَاؤُهُ أَوْ رَقَبَتُهُ وَسَلَبُهُ لأَِنَّهُ كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرَّهُ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْ بَيْنِهِمُ السُّبْكِيُّ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ إِلاَّ الْقَاتِل لِظَاهِرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ (2) وَلأَِنَّ غَيْرَ الْقَتْل لاَ يُزِيل الاِمْتِنَاعَ،
__________
(1) الرجل الضخم من كفار العجم.
(2) سبق تخريجه ف5.(25/179)
فَرُبَّ أَعْمَى شَرٌّ مِنَ الْبَصِيرِ، وَمَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ يَحْتَال عَلَى الأَْخْذِ بِثَأْرِ نَفْسِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقَاطِعَ لِلرِّجْلَيْنِ أَوِ الْيَدَيْنِ أَوِ الْيَدِ وَالرِّجْل لاَ يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ لأَِنَّهُ لَمْ يَكُفَّ شَرَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ.
وَكَذَا إِنْ أَسَرَهُ؛ لأَِنَّ الَّذِي أَسَرَهُ لَمْ يَقْتُلْهُ سَوَاءٌ قَتَلَهُ الإِْمَامُ أَوِ اسْتَبَقَاهُ بِرِقٍّ أَوْ فِدَاءٍ أَوْ مَنٍّ، وَيَكُونُ سَلَبُهُ وَفِدَاؤُهُ إِنْ فُدِيَ، وَرِقُّهُ إِنْ رُقَّ، غَنِيمَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لأَِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَسَرُوا أَسْرَى بَدْرٍ، فَقَتَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَاسْتَبْقَى سَائِرَهُمْ (1) . فَلَمْ يُعْطِ مَنْ أَسَرَهُمْ أَسْلاَبَهُمْ وَلاَ فِدَاءَهُمْ، بَل كَانَ فِدَاؤُهُمْ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ.
وَإِنْ عَانَقَ رَجُلاً فَقَتَلَهُ آخَرُ فَسَلَبُهُ لِلْقَاتِل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ وَلأَِنَّهُ كَفَى الْمُسْلِمِينَ شَرًّا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُعَانِقْهُ الآْخَرُ.
وَذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّ سَلَبَهُ لِلْمُعَانِقِ. وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَ الْكَافِرُ مُقْبِلاً عَلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُهُ
__________
(1) قصة أسرى بدر ومقتل عقبة والنضر أوردها ابن كثير في السيرة النبوية (2 / 473 - نشر دار إحياء التراث العربي) وعزاها إلى ابن إسحاق في سيرته.(25/180)
فَجَاءَ آخَرُ مِنْ وَرَائِهِ، فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ فَسَلَبُهُ لِقَاتِلِهِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلاَ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَدَرْتُ إِلَيْهِ حَتَّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْل عَاتِقِهِ ضَرْبَةً، وَأَقْبَل عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رَائِحَةَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ. . . ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا وَجَلَسَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: مَنْ قَتَل قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ، قَال: فَقُمْتُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ . . . إِلَى أَنْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ فَاقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ. فَقَال رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُول اللَّهِ، سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيل عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنْ حَقِّهِ، فَقَال أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لاَهَا اللَّهِ إِذًا لاَ يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ تَعَالَى يُقَاتِل عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ، قَال: فَأَعْطَانِيهِ (1) .
قَال أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ أَمْسَكَهُ وَاحِدٌ وَقَتَلَهُ آخَرُ فَالسَّلَبُ بَيْنَهُمَا
__________
(1) حديث أبي قتادة: أخرجه البخاري (الفتح 6 / 247 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1370 - 1371 - ط. الحلبي) .(25/180)
لاِنْدِفَاعِ شَرِّهِ بِهِمَا. وَهَذَا فِيمَا إِذَا مَنَعَهُ الْهَرَبَ وَلَمْ يَضْبِطْهُ. فَأَمَّا الإِْمْسَاكُ الضَّابِطُ فَهُوَ أَسْرٌ. وَقَتْل الأَْسِيرِ لاَ يُسْتَحَقُّ بِهِ السَّلَبُ (1) .
10 - وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا فِي اسْتِحْقَاقِ السَّلْبِ: أَنْ يَقْتُل الْكَافِرَ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى الْقِتَال وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ. فَإِذَا انْهَزَمَ جَيْشُ الْمُشْرِكِينَ وَاتَّبَعَهُمْ فَقَتَل كَافِرًا مِنْهُمْ فَلاَ يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ لأَِنَّ بِهَزِيمَتِهِمُ انْدَفَعَ شَرُّهُمْ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَل كَافِرًا وَهُوَ أَسِيرٌ فِي يَدِهِ، أَوْ وَهُوَ نَائِمٌ أَوْ مَشْغُولٌ بِأَكْلٍ أَوْ نَحْوِهِ أَوْ مُثْخَنٌ زَائِل الاِمْتِنَاعِ؛ لأَِنَّ الْقَاتِل لَمْ يُغَرِّرُ بِنَفْسِهِ فِي قَتْلِهِ وَلَمْ يَكُفَّ الْمُسْلِمِينَ شَرَّ الْمَقْتُول.
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْطِ ابْنَ مَسْعُودٍ سَلَبَ أَبِي جَهْلٍ لأَِنَّهُ ذَبَحَهُ بَعْدَ أَنْ أَثْخَنَهُ مُعَاذُ بْنُ الْجَمُوحِ، (2) وَأَمَرَ بِقَتْل عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ صَبْرًا، وَلَمْ يُعْطِ سَلَبَهُمَا مَنْ قَتَلَهُمَا، (3) وَقَتَل رِجَال بَنِي قُرَيْظَةَ صَبْرًا فَلَمْ يُعْطِ مَنْ قَتَلَهُمْ سِلاَبَهُمْ (4) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 386، روضة الطالبين 6 / 263، مغني المحتاج 3 / 100، كشاف القناع 3 / 71، سبل السلام 4 / 53.
(2) الحديث سبق تخريجه ف5.
(3) الحديث سبق تخريجه ف9.
(4) قصة مقتل رجال بني قريظة صبرا. أوردها ابن كثير في السيرة (3 / 248 - 242 - نشر دار إحياء التراث العربي) نقلا عن ابن إسحاق في سيرته.(25/181)
وَذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّ السَّلَبَ يَسْتَحِقُّهُ كُل مَنْ قَتَل كَافِرًا لِعُمُومِ حَدِيثِ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ (1)
وَلأَِنَّ سَلَمَةَ بْنَ الأَْكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَل طَلِيعَةً لِلْكُفَّارِ، وَهُوَ مُنْهَزِمٌ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَتَلَهُ؟ قَالُوا: سَلَمَةُ بْنُ الأَْكْوَعِ، قَال: لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ (2) .
أَمَّا إِذَا انْهَزَمَ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ، وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، فَسَلَبُهُ لِقَاتِلِهِ لأَِنَّ الْحَرْبَ فَرٌّ وَكَرٌّ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَهُ مُقْبِلاً أَوْ مُدْبِرًا مَا دَامَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً، فَالشَّرُّ مُتَوَقَّعٌ وَالْمُوَلِّي لاَ تُؤْمَنُ كَرَّتُهُ.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ الْقَاتِل فِي الصُّفُوفِ الْمُلْتَحِمَةِ يَسْتَحِقُّ سَلَبَ مَنْ قَتَلَهُ لِعُمُومِ خَبَرِ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ وَلِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ السَّابِقِ قَال فِيهِ: فَلَمَّا الْتَقَيْنَا رَأَيْتُ رَجُلاً مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلاَ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْحَدِيثَ، وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَتَل يَوْمَ هَوَازِنَ عِشْرِينَ رَجُلاً وَأَخَذَ أَسْلاَبَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْتِقَاءِ الزَّحْفَيْنِ (3) وَلِحَدِيثِ عَوْفِ
__________
(1) الحديث سبق تخريجه ف5.
(2) حديث: قتل سلمة بن الأكوع رجلا من طليعة الكفار. أخرجه مسلم (3 / 1375 - ط. الحلبي) .
(3) حديث أنس. أن أبا طلحة قتل يوم هوازن عشرين رجلا. تقدم بعضه ف (5) وتقدم تخريجه.(25/181)
بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ الْمَدَدِيِّ الَّذِي قَتَل رَجُلاً مِنْ الرُّومِ، حَيْثُ قَال فِيهِ: فَقَضَى لَنَا أَنَّا لَقِينَا عَدُوَّنَا فَقَاتَلُونَا قِتَالاً شَدِيدًا (1) . الْحَدِيثَ. وَمَعَ ذَلِكَ أَخَذَ الْمَدَدِيُّ سَلَبَ الرَّجُل الَّذِي قَتَلَهُ.
وَذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ إِلَى أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِل مَا لَمْ يَلْتَقِ الزَّحْفَانِ، وَلَمْ تَمْتَدَّ الصُّفُوفُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلاَ سَلَبَ لأَِحَدٍ.
وَهَل يُشْتَرَطُ إِذْنُ الإِْمَامِ؟ قَال أَحْمَدُ وَالأَْوْزَاعِيُّ: لاَ يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْخُذَ الْقَاتِل السَّلَبَ إِلاَّ بِإِذْنِ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّهُ فِعْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَلَمْ يَنْفُذْ أَمْرُهُ فِيهِ إِلاَّ بِإِذْنِ الإِْمَامِ بِأَخْذِ سَهْمِهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ أَحْمَدَ عَلَى سَبِيل الاِسْتِحْبَابِ لاَ عَلَى سَبِيل الإِْيجَابِ، لِيَخْرُجَ مِنَ الْخِلاَفِ. فَعَلَى هَذَا إِنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ يَكُونُ قَدْ تَرَكَ الْفَضِيلَةَ وَلَهُ أَخْذُهُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَهُ أَخْذُ السَّلَبِ بِغَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّهُ اسْتَحَقَّهُ بِجَعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ ذَلِكَ، وَلاَ يُؤْمَنُ إِنْ أَظْهَرَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يُعْطِيَهُ (3) .
__________
(1) حديث عوف بن مالك تقدم تخريجه ف (5) .
(2) المغني لابن قدامة 8 / 388.
(3) المصدر نفسه.(25/182)
هَل تَلْزَمُ الْبَيِّنَةُ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ؟
11 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل الدَّعْوَى فِي اسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ إِلاَّ بِشَهَادَةٍ، لِوُرُودِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ (1) . وَقَال مَالِكٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ: يُعْطَى السَّلَبَ إِذَا قَال: أَنَا قَتَلْتُهُ، وَلاَ يُسْأَل عَنْ بَيِّنَةٍ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ قَبِل قَوْل أَبِي قَتَادَةَ وَمُعَاذِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْجُمُوحِ وَغَيْرِهِمَا وَأَعْطَاهُمُ السَّلَبَ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ شَهَادَةٍ وَلاَ حَلِفٍ. وَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ اشْتَرَطُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لاَ تُقْبَل إِلاَّ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ؛ لأَِنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَ الْبَيِّنَةَ، وَإِطْلاَقُهَا يَنْصَرِفُ إِلَى شَاهِدَيْنِ. وَلأَِنَّهَا كَشَهَادَةِ الْقَتْل الْعَمْدِ، وَمِنْ بَيْنِ هَؤُلاَءِ أَحْمَدُ. وَذَهَبَ الْبَعْضُ الآْخَرُ إِلَى قَبُول شَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَيَمِينٍ؛ لأَِنَّهَا دَعْوَى فِي الْمَال فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ كَسَائِرِ الأَْمْوَال. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْل الْحَدِيثِ (2) . وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى قَبُول شَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، لأَِنَّ النَّبِيَّ قَبِل قَوْل الَّذِي شَهِدَ لأَِبِي قَتَادَةَ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ (3) .
__________
(1) الحديث تقدم ف6.
(2) سبل السلام 4 / 53، كشاف القناع 3 / 72، المغني لابن قدامة 8 / 396.
(3) المغني لابن قدامة 8 / 396، كشاف القناع 3 / 72، سبل السلام 4 / 53.(25/182)
هَل يُخَمَّسُ السَّلَبُ؟
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَخْمِيسِ السَّلَبِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ إِلَى أَنَّ السَّلَبَ لاَ يُخَمَّسُ، لَمَا رَوَاهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِل وَلَمْ يُخَمِّسِ السَّلَبَ (1) . وَلِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (إِنَّا كُنَّا لاَ نُخَمِّسُ السَّلَبَ) .
وَذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ وَمَكْحُولٌ - وَهُوَ مُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّ السَّلَبَ يُخَمَّسُ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول} (2) . الآْيَةَ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَال إِسْحَاقُ: إِنِ اسْتَكْثَرَ الإِْمَامُ السَّلَبَ خَمَّسَهُ وَذَلِكَ إِلَيْهِ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَارَزَ مَرْزُبَانَ الزَّارَةِ بِالْبَحْرَيْنِ فَطَعَنَهُ فَدَقَّ صُلْبَهُ وَأَخَذَ سِوَارَيْهِ وَسَلَبَهُ، فَلَمَّا صَلَّى الظُّهْرَ أَتَى أَبَا طَلْحَةَ فِي دَارِهِ فَقَال: إِنَّا كُنَّا لاَ نُخَمِّسُ السَّلَبَ، وَإِنَّ سَلَبَ الْبَرَاءِ قَدْ بَلَغَ مَالاً، وَأَنَا خَامِسٌ، فَكَانَ أَوَّل سَلَبٍ خُمِّسَ فِي الإِْسْلاَمِ
__________
(1) الحديث تقدم ف (6) .
(2) سورة الأنفال / 41.(25/183)
سَلَبَ الْبَرَاءِ، وَقَدْ بَلَغَ سَلَبُهُ ثَلاَثِينَ أَلْفًا (1) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ سَلَبَ الْمَقْتُول كَسَائِرِ الْغَنِيمَةِ، لاَ يَخْتَصُّ بِهِ الْقَاتِل وَأَنَّ الْقَاتِل وَغَيْرَهُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَيُنَفِّلُهُ الإِْمَامُ. وَمَحَل التَّنْفِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسِ قَبْل الإِْحْرَازِ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ، وَمِنَ الْخُمُسِ بَعْدَ الأَْحْرَازِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَكُونُ مِنَ الْخُمُسِ يُنَفِّلُهُ الإِْمَامُ لِلْمُقَاتِل إِنْ رَأَى مَصْلَحَةً فِي ذَلِكَ (2) .
السَّلَبُ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْقَاتِل:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّلَبَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِل هُوَ مَا عَلَى الْقَتِيل مِنْ ثِيَابٍ وَعِمَامَةٍ وَقَلَنْسُوَةٍ وَخُفٍّ وَرَانٍ (3) وَطَيْلَسَانٍ، وَكَذَا مَا عَلَيْهِ مِنْ سِلاَحٍ وَآلاَتِ حَرْبٍ كَالدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ وَالرُّمْحِ وَالسِّكِّينِ، وَالسَّيْفِ واللَّسْتِ وَالْقَوْسِ وَالنُّشَّابِ وَنَحْوِهَا، وَمَا عَلَى دَابَّتِهِ مِنْ سَرْجٍ وَلِجَامٍ وَمِقْوَدٍ وَنَحْوِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ
__________
(1) المصادر السابقة، مغني المحتاج 3 / 101، روضة الطالبين 6 / 375، فتح القدير 5 / 249.
(2) فتح القدير 5 / 249، القوانين الفقهية ص 99، سبل السلام 4 / 58.
(3) الران كالخف إلا أنه لا قدم له (القاموس) .(25/183)
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مِنَ السَّلَبِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الشَّرَفِيَّةِ كَالتَّاجِ وَالسِّوَارِ وَالْخَاتَمِ وَالطَّوْقِ وَالْمِنْطَقَةِ وَلَوْ مُذَهَّبَةً، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَا الْهِمْيَانُ (1) الَّذِي لِلنَّفَقَةِ وَمَا فِيهِ مِنَ النَّفَقَةِ؛ لأَِنَّهُ يَدْخُل فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ، وَلِحَدِيثِ الْبَرَاءِ الْمُتَقَدِّمِ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي السَّلَبِ سِوَارُهُ وَمِنْطَقَتُهُ. وَمِنَ السَّلَبِ الدَّابَّةُ الَّتِي يَرْكَبُهَا، لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْمَدَدِيِّ أَنَّهُ قَتَل عِلْجًا فَحَازَ فَرَسَهُ وَسِلاَحَهُ (2) . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ وَمَكْحُولٌ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: وَكَذَا الدَّابَّةُ الَّتِي يُمْسِكُهَا هُوَ بِيَدِهِ أَوْ بِيَدِ غُلاَمِهِ لِلْقِتَال، وَخَالَفَهُمْ فِي هَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِذْ قَالُوا: إِنَّ الدَّابَّةَ الَّتِي يُمْسِكُهَا غُلاَمُهُ، أَوْ مَا تُسَمَّى بِالْجَنِيبَةِ، وَهِيَ الَّتِي تُقَادُ مَعَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ أَمَامَهُ أَمْ خَلْفَهُ أَمْ بِجَنْبِهِ، لاَ تَدْخُل فِي السَّلَبِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الدَّابَّةَ الَّتِي يَرْكَبُهَا لَيْسَتْ مِنَ السَّلَبِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لأَِنَّ السَّلَبَ مَا كَانَ عَلَى بَدَنِهِ، وَالدَّابَّةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَأَمَّا الدَّابَّةُ الَّتِي فِي مَنْزِلِهِ، أَوْ فِي خَيْمَتِهِ، أَوْ كَانَتْ مُنْفَلِتَةً فَلَيْسَتْ مِنَ السَّلَبِ بِاتِّفَاقٍ.
__________
(1) الهميان: كيس للنفقة يشد في الوسط
(2) الحديث سبق تخريجه ف (10) .(25/184)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّاجَ وَالطَّوْقَ وَالسِّوَارَ وَالْقُرْطَ الَّذِي فِي الأُْذُنِ، وَالْخَاتَمَ وَالْعَيْنَ وَالصَّلِيبَ وَالْهِمْيَانَ وَمَا فِيهِ مِنَ النَّفَقَةِ، لَيْسَتْ مِنَ السَّلَبِ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ لَيْسَتْ مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهَا فِي الْحَرْبِ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا يَحْمِل مَعَهُ مِنَ الْمَال الْمَوْجُودِ فِي حَقِيبَتِهِ وَخَرِيطَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ السَّلَبِ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ لِبَاسِهِ، وَلاَ مِنْ حُلِيِّهِ وَلاَ حِلْيَةِ فَرَسِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا مِنَ السَّلَبِ وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوءَةً مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، وَعَلَيْهِ ذَهَبَ السُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّهُ حَمَلَهَا لِتَوَقُّعِ الاِحْتِيَاجِ إِلَيْهَا (1) .
سُلْحَفَاة
انْظُرْ: أَطْعِمَة
__________
(1) فتح القدير 5 / 253 حاشية ابن عابدين 3 / 241، جواهر الإكليل 2 / 261، الشرح الصغير 2 / 177، حاشية الخرشي 3 / 130، مغني المحتاج 3 / 100، روضة الطالبين 6 / 374، المهذب 2 / 239، المغني لابن قدامة 8 / 394، كشاف القناع 3 / 72.(25/184)
سَلْخ
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّلْخُ فِي اللُّغَةِ: نَزْعُ جِلْدِ الْحَيَوَانِ.
يُقَال: سَلَخَ الإِْهَابَ عَنِ الشَّاةِ يَسْلُخُهُ وَيَسْلَخُهُ: إِذَا كَشَطَهُ، وَنَقَل صَاحِبُ لِسَانِ الْعَرَبِ: كُل شَيْءٍ يُفْلَقُ عَنْ قِشْرٍ فَقَدِ انْسَلَخَ، وَيُقَال: سَلَخَ الْحَرُّ جِلْدَ الإِْنْسَانِ فَانْسَلَخَ، وَسَلَخَتِ الْمَرْأَةُ عَنْهَا دِرْعَهَا، وَيُقَال: انْسَلَخَ النَّهَارُ مِنَ اللَّيْل؛ أَيْ خَرَجَ مِنْهُ خُرُوجًا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ ضَوْئِهِ (1) .
وَفِي التَّنْزِيل: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْل نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} (2) .
وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ خَاصٌّ بِنَزْعِ جِلْدِ الْحَيَوَانِ.
__________
(1) لسان العرب، والمفردات.
(2) سورة يس / 37.(25/185)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَحْرُمُ سَلْخُ جِلْدِ الآْدَمِيِّ فِي حَيَاتِهِ، وَبَعْدَ مَمَاتِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ هَتْكِ حُرْمَتِهِ (1) .
وَهُوَ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ عُلَمَاءِ الإِْسْلاَمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (2) .
وَسَلْخُ جِلْدِهِ يَتَنَافَى مَعَ هَذَا التَّكْرِيمِ، وَيَحْرُمُ سَلْخُ الْحَيَوَانِ وَهُوَ حَيٌّ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعْذِيبِ.
وَيُكْرَهُ أَنْ يَبْدَأَ الْجَزَّارُ بِسَلْخِ الْحَيَوَانِ قَبْل أَنْ تَزْهَقَ نَفْسُهُ، وَيَسْكُنَ اضْطِرَابُهُ (3) .
لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: {
بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُدَيْل بْنَ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيَّ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ يَصِيحُ فِي فِجَاجِ مِنًى بِكَلِمَاتٍ، مِنْهَا: لاَ تَعْجَلُوا الأَْنْفُسَ حَتَّى تَزْهَقَ، وَأَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ (4) .
__________
(1) المجموع 1 / 216.
(2) سورة الإسراء / 70.
(3) المدونة 2 / 66، مواهب الجليل 3 / 222، الاختيار 5 / 12، كشاف القناع 6 / 210 - 211، الفتاوى الهندية.
(4) حديث: " لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق، وأيام منى ". . أخرجه الدارقطني (4 / 283 - ط. دار المحاسن) والبيهقي (9 / 278 ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة، وقال البيهقي: (ضعيف ليس بشيء) .(25/185)
الاِسْتِئْجَارُ لِسَلْخِ الدَّابَّةِ بِجِلْدِهَا
3 - لاَ يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ شَخْصٍ لِسَلْخِ دَابَّةٍ بِجِلْدِهَا (أُجْرَةً) لِمَا فِيهِ مِنْ غَرَرٍ، لأَِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيَخْرُجُ سَلِيمًا أَمْ لاَ؟ وَهَل هُوَ ثَخِينٌ أَمْ رَقِيقٌ؟ وَلأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنِ الْمَنْفَعَةِ، فَإِنْ سَلَخَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْجِلْدُ أُجْرَةً لِعَمَلِهِ، فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل؛ لِفَسَادِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ (1) .
دِيَةُ جِلْدِ الآْدَمِيِّ:
4 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجِبُ فِي جِلْدِ الْبَدَنِ حُكُومَةُ عَدْلٍ. جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ:
" أَمَّا جِلْدُ الْبَدَنِ، لَحْمُ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ، وَالْجِرَاحَاتُ الَّتِي فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ (2) .
وَلَمْ نَقِفْ عَلَى نَصٍّ فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُرَاجَعِ الَّتِي تَيَسَّرَ لَنَا الاِطِّلاَعُ عَلَيْهَا، مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا سُلِخَ جِلْدُ مَعْصُومِ الدَّمِ وَجَبَ عَلَى السَّالِخِ كَمَال الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ فِي
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 268، والإقناع للشربيني الخطيب 2 / 370، ومطالب أولي النهى 3 / 594، الشرح الصغير 5 / 18.
(2) ابن عابدين 5 / 373.(25/186)
الْجِلْدِ جَمَالاً، وَمَنْفَعَةً ظَاهِرَةً، فَإِنْ سَلَخَ جِلْدَ مَنْ كَانَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ مَقْطُوعًا كَيَدِهِ، أَوْ قَطَعَ عُضْوًا مَسْلُوخًا جِلْدُهُ، سَقَطَ الْقِسْطُ مِنَ الدِّيَةِ، فَتَجِبُ فِي الأُْولَى دِيَةُ الْجِلْدِ إِلاَّ قِسْطَ الْعُضْوِ، وَتُوَزَّعُ فِي الثَّانِيَةِ سَاحَةُ الْجَلْدِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ. فَمَا يَخُصُّ الْعُضْوَ الْمَقْطُوعَ يُحَطُّ مِنْ دِيَتِهِ، وَيَجِبُ الْبَاقِي (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (دِيَات) .
سُلْطَان
انْظُرْ: إِمَامَة كُبْرَى
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 288، أسنى المطالب 4 / 50.(25/186)
سَلَس
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّلَسُ فِي اللُّغَةِ: السُّهُولَةُ وَاللُّيُونَةُ وَالاِنْقِيَادُ وَالاِسْتِرْسَال وَعَدَمُ الاِسْتِمْسَاكِ، قَال فِي الْمِصْبَاحِ: سَلِسَ سَلَسًا، مِنْ بَابِ تَعِبَ: سَهُل وَلاَنَ فَهُوَ سَلِسٌ، وَرَجُلٌ سَلِسٌ بِالْكَسْرِ: بَيِّنُ السَّلَسِ بِالْفَتْحِ، وَالسَّلاَسَةُ أَيْضًا: سُهُولَةُ الْخُلُقِ، وَسَلَسُ الْبَوْل: اسْتِرْسَالُهُ وَعَدَمُ اسْتِمْسَاكِهِ؛ لِحُدُوثِ مَرَضٍ بِصَاحِبِهِ، وَصَاحِبُهُ سَلِسٌ، بِالْكَسْرِ.
وَالسَّلَسُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: اسْتِرْسَال الْخَارِجِ بِدُونِ اخْتِيَارٍ مِنْ بَوْلٍ أَوْ مَذْيٍ أَوْ مَنِيٍّ أَوْ وَدْيٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ رِيحٍ (1) ، وَقَدْ يُطْلَقُ السَّلَسُ عَلَى الْخَارِجِ نَفْسِهِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
__________
(1) الصحاح والمصباح مادة سلس، جواهر الإكليل 1 / 19 ط. المعرفة.(25/187)
أ - الاِسْتِحَاضَةُ:
2 - الاِسْتِحَاضَةُ: هِيَ سَيَلاَنُ الدَّمِ مِنَ الْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ حَيْضِهَا وَهُوَ دَمُ فَسَادٍ (1) .
ب - الْمَرَضُ:
3 - الْمَرَضُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَعْرِضُ لِلْبَدَنِ فَيُخْرِجُهُ عَنِ الاِعْتِدَال الْخَاصِّ (2) .
ج - النَّجَاسَةُ:
4 - النَّجَاسَةُ: إِمَّا عَيْنِيَّةٌ، وَهِيَ: مُسْتَقْذَرٌ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلاَةِ حَيْثُ لاَ مُرَخِّصَ، أَوْ حُكْمِيَّةٌ، وَهِيَ وَصْفٌ يَقُومُ بِالْمَحَل يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلاَةِ حَيْثُ لاَ مُرَخِّصَ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
1 - الْوُضُوءُ وَالصَّلاَةُ مِمَّنْ بِهِ سَلَسٌ:
5 - السَّلَسُ: حَدَثٌ دَائِمٌ، صَاحِبُهُ مَعْذُورٌ، فَيُعَامَل فِي وُضُوئِهِ وَعِبَادَتِهِ مُعَامَلَةً خَاصَّةً تَخْتَلِفُ عَنْ مُعَامَلَةِ غَيْرِهِ مِنَ
__________
(1) المصباح مادة (حيض) .
(2) المصباح مادة مرض، التعريفات للجرجاني / 268 ط. الكتاب العربي.
(3) المصباح مادة نجس، وحاشية القليوبي 1 / 68 - 69 ط. الحلبي.(25/187)
الأَْصِحَّاءِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْل، أَوِ اسْتِطْلاَقُ الْبَطْنِ، أَوِ انْفِلاَتُ الرِّيحِ، أَوْ رُعَافٌ دَائِمٌ، أَوْ جُرْحٌ لاَ يَرْقَأُ، يَتَوَضَّئُونَ لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ (1)
وَيُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا مِنْ أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ، وَيُصَلُّونَ بِذَلِكَ الْوُضُوءِ فِي الْوَقْتِ مَا شَاءُوا مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِل، وَإِنْ تَوَضَّأَ عَلَى السَّيَلاَنِ وَصَلَّى عَلَى الاِنْقِطَاعِ، وَتَمَّ الاِنْقِطَاعُ بِاسْتِيعَابِ الْوَقْتِ الثَّانِي أَعَادَ، وَكَذَا إِذَا انْقَطَعَ فِي خِلاَل الصَّلاَةِ وَتَمَّ الاِنْقِطَاعُ.
وَيَبْطُل الْوُضُوءُ عِنْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الْمَفْرُوضَةِ بِالْحَدَثِ السَّابِقِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَال زُفَرُ: يَبْطُل بِدُخُول الْوَقْتِ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَبْطُل بِهِمَا.
__________
(1) حديث: " المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة ". قال الزيلعي (1 / 204 - ط. المجلس العلمي) " غريب جدا " وتعقبه ابن قطلوبغا بقوله: " قلت: علقه محمد بن الحسن في الآثار، ورواه ابن بطة من حديث حمنة بنت جحش كذا في " منية الألمعي " (ص 19 - الملحق بآخر نصب الراية) .(25/188)
وَيَبْقَى الْوُضُوءُ مَا دَامَ الْوَقْتُ بَاقِيًا بِشَرْطَيْنِ: -
أَنْ يَتَوَضَّأَ لِعُذْرِهِ وَأَنْ لاَ يَطْرَأَ عَلَيْهِ حَدَثٌ آخَرُ كَخُرُوجِ رِيحٍ أَوْ سَيَلاَنِ دَمٍ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّلَسَ إِنْ فَارَقَ أَكْثَرَ الزَّمَانِ وَلاَزَمَ أَقَلَّهُ فَإِنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، فَإِنْ لاَزَمَ النِّصْفَ - وَأَوْلَى الْجُل - أَوِ الْكُل فَلاَ يَنْقُضُ، هَذَا إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَفْعِهِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى رَفْعِهِ فَإِنَّهُ يَنْقُضُ مُطْلَقًا كَسَلَسِ مَذْيٍ لِطُول عُزُوبَةٍ أَوْ مَرَضٍ يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرٍ أَوْ تَفَكُّرٍ أَمْكَنَهُ رَفْعُهُ بِتَدَاوٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ تَزَوُّجٍ، وَيُغْتَفَرُ لَهُ زَمَنَ التَّدَاوِي وَالتَّزَوُّجِ، وَنُدِبَ الْوُضُوءُ عِنْدَهُمْ إِنْ لاَزَمَ السَّلَسُ أَكْثَرَ الزَّمَنِ وَأَوْلَى نِصْفَهُ، لاَ إِنْ عَمَّهُ فَلاَ يُنْدَبُ، وَمَحَل النَّدْبِ فِي مُلاَزَمَةِ الأَْكْثَرِ إِنْ لَمْ يَشُقَّ، لاَ إِنْ شَقَّ الْوُضُوءُ بِبَرْدٍ وَنَحْوِهِ فَلاَ يُنْدَبُ، وَقَدْ تَرَدَّدَ مُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ فِي اعْتِبَارِ الْمُلاَزَمَةِ مِنْ دَوَامٍ وَكَثْرَةٍ وَمُسَاوَاةٍ وَقِلَّةٍ فِي وَقْتِ الصَّلاَةِ خَاصَّةً وَهُوَ مِنَ الزَّوَال إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي، أَوِ اعْتِبَارُهَا مُطْلَقًا لاَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 41 ط. المكتبة الإسلامية، الدر المختار 1 / 139، 280 - 283، فتح القدير 1 / 124 - 128، وتبيين الحقائق 1 / 64، مراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي / 80.(25/188)
بِقَيْدِ وَقْتِ الصَّلاَةِ فَيُعْتَبَرُ حَتَّى مِنَ الطُّلُوعِ إِلَى الزَّوَال، وَفِي قَوْل الْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَنْقُضُ السَّلَسُ مُطْلَقًا غَيْرَ أَنَّهُ يُنْدَبُ الْوُضُوءُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يُلاَزِمْ كُل الزَّمَانِ فَلاَ يُنْدَبُ (1) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ سِتَّةَ شُرُوطٍ يَخْتَصُّ بِهَا مَنْ بِهِ حَدَثٌ دَائِمٌ كَسَلَسٍ وَاسْتِحَاضَةٍ وَهِيَ: الشَّدُّ، وَالْعَصْبُ، وَالْوُضُوءُ لِكُل فَرِيضَةٍ بَعْدَ دُخُول الْوَقْتِ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ، وَتُجْزِئُ قَبْلَهُ عَلَى وَجْهٍ شَاذٍّ، وَتَجْدِيدُ الْعِصَابَةِ لِكُل فَرِيضَةٍ، وَنِيَّةُ الاِسْتِبَاحَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى الصَّلاَةِ فِي الأَْصَحِّ.
فَلَوْ أَخَّرَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلاَةِ كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ وَانْتِظَارِ الْجَمَاعَةِ وَالاِجْتِهَادِ فِي قِبْلَتِهِ وَالذَّهَابِ إِلَى مَسْجِدٍ وَتَحْصِيل السُّتْرَةِ، لَمْ يَضُرَّ لأَِنَّهُ لاَ يُعَدُّ بِذَلِكَ مُقَصِّرًا، وَيَتَوَضَّأُ لِكُل فَرْضٍ وَلَوْ مَنْذُورًا كَالْمُتَيَمِّمِ؛ لِبَقَاءِ الْحَدَثِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: تَوَضَّئِي لِكُل صَلاَةٍ (2) وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنَ النَّوَافِل فَقَطْ، وَصَلاَةُ الْجِنَازَةِ لَهَا حُكْمُ
__________
(1) الدسوقي 1 / 1116 - 1117 ط. الفكر، الخرشي 1 / 152 - 153 ط. الفكر، الزرقاني 1 / 84 - 85 ط. الفكر، جواهر الإكليل 1 / 19 - 20 ط. المعرفة.
(2) حديث: " توضئي لكل صلاة ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 332 - ط. السلفية) . من حديث عائشة.(25/189)
النَّافِلَةِ، وَلَوْ زَال الْعُذْرُ وَقْتًا يَسَعُ الْوُضُوءَ وَالصَّلاَةَ كَانْقِطَاعِ الدَّمِ مَثَلاً وَجَبَ الْوُضُوءُ وَإِزَالَةُ مَا عَلَى الْفَرْجِ مِنَ الدَّمِ وَنَحْوِهِ.
وَمَنْ أَصَابَهُ سَلَسُ مَنِيٍّ يَلْزَمُهُ الْغُسْل لِكُل فَرْضٍ، وَلَوِ اسْتَمْسَكَ الْحَدَثُ بِالْجُلُوسِ فِي الصَّلاَةِ وَجَبَ بِلاَ إِعَادَةٍ، وَيَنْوِي الْمَعْذُورُ اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ لاَ رَفْعَ الْحَدَثِ لأَِنَّهُ دَائِمُ الْحَدَثِ لاَ يَرْفَعُهُ وُضُوءُهُ وَإِنَّمَا يُبِيحُ لَهُ الْعِبَادَةَ.
وَالْحَنَابِلَةُ فِي هَذَا كُلِّهِ كَالشَّافِعِيَّةِ إِلاَّ فِي مَسْأَلَةِ الْوُضُوءِ لِكُل فَرْضٍ، فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ صَاحِبَ الْحَدَثِ الدَّائِمِ يَتَوَضَّأُ لِكُل وَقْتٍ، وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِل كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْفُقَهَاءُ سِوَى الْمَالِكِيَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ لِلْمَعْذُورِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِاسْتِحْبَابِهِ كَمَا سَبَقَ، وَالْوُضُوءُ يَكُونُ بَعْدَ دُخُول الْوَقْتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
__________
(1) المنثور 2 / 43 ط. الأولى، روضة الطالبين 1 / 137 ط. المكتب الإسلامي، مغني المحتاج 1 / 111 ط. الفكر، حاشية القليوبي 1 / 101 - 102 ط. الحلبي، كشاف القناع 1 / 138، 247 ط. النصر، المغني 1 / 340 - 343 ط. الرياض.(25/189)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ.
إِمَامَةُ مَنْ بِهِ سَلَسٌ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الإِْمَامُ مَرِيضًا بِالسَّلَسِ وَالْمَأْمُومُ كَذَلِكَ فَالصَّلاَةُ جَائِزَةٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الإِْمَامُ مَرِيضًا بِالسَّلَسِ وَالْمَأْمُومُ سَلِيمًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ إِمَامَةِ الْمَرِيضِ لِصَلاَةِ غَيْرِهِ مِنَ الأَْصِحَّاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: عَدَمُ الْجَوَازِ لأَِنَّ أَصْحَابَ الأَْعْذَارِ يُصَلُّونَ مَعَ الْحَدَثِ حَقِيقَةً، لَكِنْ جُعِل الْحَدَثُ الْمَوْجُودُ فِي حَقِّهِمْ كَالْمَعْدُومِ، لِلْحَاجَةِ إِلَى الأَْدَاءِ، فَلاَ يَتَعَدَّاهُمْ؛ لأَِنَّ الضَّرُورَةَ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَلأَِنَّ الصَّحِيحَ أَقْوَى حَالاً مِنَ الْمَعْذُورِ وَلاَ يَجُوزُ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ: الْجَوَازُ لِصِحَّةِ صَلاَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةٍ، وَلأَِنَّهُ إِذَا عُفِيَ عَنِ الأَْعْذَارِ فِي حَقِّ صَاحِبِهَا عُفِيَ عَنْهَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إِمَامًا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَجِدُ ذَلِكَ (أَيْ سَلَسَ الْمَذْيِ) وَلاَ(25/190)
يَنْصَرِفُ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ إِمَامَةِ أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ لِلأَْصِحَّاءِ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (عُذْر) .
سَلَفٌ
انْظُرْ: سَلَم، قَرْض
__________
(1) فتح القدير 1 / 318 ط. الأميرية، تبيين الحقائق 1 / 140 - 141 ط. الأميرية، الفتاوى الهندية 1 / 84 ط. المكتبة الإسلامية، جواهر الإكليل 1 / 78 ط. المعرفة، الدسوقي 1 / 330 ط. الفكر، التاج والإكليل بهامش الحطاب 2 / 104 ط. النجاح، مغني المحتاج 1 / 241 ط. الفكر، كشاف القناع 1 / 476 ط. النصر، المغني 1 / 340 - 343 ط. الرياض.(25/190)
سَلَم
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي السَّلَمِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الإِْعْطَاءُ وَالتَّسْلِيفُ (1) يُقَال: أَسْلَمَ الثَّوْبَ لِلْخَيَّاطِ؛ أَيْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ. قَال الْمُطَرِّزِيُّ: أَسْلَمَ فِي الْبُرِّ؛ أَيْ أَسْلَفَ، مِنَ السَّلَمِ، وَأَصْلُهُ: أَسْلَمَ الثَّمَنَ فِيهِ، فَحُذِفَ (2) .
وَالسَّلَمُ فِي الاِصْطِلاَحِ عِبَارَةٌ عَنْ " بَيْعِ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ بِبَدَلٍ يُعْطَى عَاجِلاً " وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِهِ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ:
فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الَّذِينَ شَرَطُوا فِي صِحَّتِهِ قَبْضَ رَأْسِ الْمَال فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَتَأْجِيل
__________
(1) لسان العرب، مادة " غرر " المقالة للمغراوي ص 216، أنيس الفقهاء للقونوي ص 218، مشارق الأنوار للقاضي عياض 2 / 217.
(2) المغرب للمطرزي (تحقيق الفاخوري ومختار، حلب 1402 هـ) 1 / 412.(25/191)
الْمُسْلَمِ فِيهِ - احْتِرَازًا مِنَ السَّلَمِ الْحَال - عَرَّفُوهُ بِمَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ، فَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: " هُوَ شِرَاءُ آجِلٍ بِعَاجِلٍ " (1) . وَنَصَّتِ الْمَادَّةُ (123) مِنْ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ " بَيْعُ مُؤَجَّلٍ بِمُعَجَّلٍ ". وَجَاءَ فِي الإِْقْنَاعِ بِأَنَّهُ " عَقْدٌ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ بِثَمَنٍ مَقْبُوضٍ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ " (2) .
وَالشَّافِعِيَّةُ الَّذِينَ شَرَطُوا لِصِحَّةِ السَّلَمِ قَبْضَ رَأْسِ الْمَال فِي الْمَجْلِسِ، وَأَجَازُوا كَوْنَ السَّلَمِ حَالًّا وَمُؤَجَّلاً عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ " عَقْدٌ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ بِبَدَلٍ يُعْطَى عَاجِلاً " (3)
فَلَمْ يُقَيِّدُوا الْمُسْلَمَ فِيهِ الْمَوْصُوفَ فِي الذِّمَّةِ بِكَوْنِهِ مُؤَجَّلاً، لِجَوَازِ السَّلَمِ الْحَال عِنْدَهُمْ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ الَّذِينَ مَنَعُوا السَّلَمَ الْحَال، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَال فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَأَجَازُوا تَأْجِيلَهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ لِخِفَّةِ الأَْمْرِ، فَقَدْ عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ " بَيْعُ مَعْلُومٍ فِي الذِّمَّةِ مَحْصُورٍ بِالصِّفَةِ بِعَيْنٍ حَاضِرَةٍ أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِهَا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ " (4) .
__________
(1) رد المحتار (بولاق سنة 1272 هـ) 4 / 203.
(2) كشاف القناع (مطبعة الحكومة بمكة 1394 هـ) 3 / 276، المطلع للبعلي ص 245
(3) فتح العزيز للرافعي 9 / 207، الروضة للنووي 4 / 3.
(4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (ط - دار الشعب بالقاهرة) ص 1186.(25/191)
فَتَعْبِيرُ (أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِهَا) يُشِيرُ إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ، حَيْثُ إِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي حُكْمِ التَّعْجِيل بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ (1) .
وَقَوْلُهُ " إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ " يُبَيِّنُ وُجُوبَ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مُؤَجَّلاً، احْتِرَازًا مِنَ السَّلَمِ الْحَال، وَيُسَمِّي الْفُقَهَاءُ الْمُشْتَرِيَ فِي هَذَا الْعَقْدِ " رَبَّ السَّلَمِ " أَوِ " الْمُسْلَمَ " وَالْبَائِعَ " الْمُسْلَمَ إِلَيْهِ "، وَالْمَبِيعَ " الْمُسْلَمَ فِيهِ " وَالثَّمَنَ، " رَأْسَ مَال السَّلَمِ " (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّيْنُ:
2 - وَهُوَ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا مُشَخَّصًا، سَوَاءٌ كَانَ نَقْدًا أَوْ غَيْرَهُ (3) .
(ر: دَيْن) وَالدَّيْنُ أَعَمُّ مِنَ السَّلَمِ.
ب - بَيْعُ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ الْمَوْصُوفَةِ فِي الذِّمَّةِ:
3 - وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ مُعَيَّنَةً. وَالثَّانِي أَنْ لاَ تَكُونَ الْعَيْنُ مُعَيَّنَةً.
__________
(1) انظر إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي ص 173.
(2) أنيس الفقهاء للقونوي ص 220.
(3) انظر م 158 من مجلة الأحكام العدلية.(25/192)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا النَّوْعِ الثَّانِي وَبَيْنَ السَّلَمِ أَنَّ السَّلَمَ يُشْتَرَطُ فِيهِ تَأْجِيل تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، أَمَّا بَيْعُ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ فَقَدْ يَكُونُ حَالًّا.
وَانْظُرْ (بَيْع) .
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ الْمَوْصُوفَةِ فِي الذِّمَّةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّعَاقُدُ بِلَفْظِ السَّلَمِ، أَوْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، فَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ (السَّلَمِ) اشْتُرِطَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ قَبْل التَّفَرُّقِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ بِلَفْظِ (الْبَيْعِ) فَلاَ يُشْتَرَطُ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ، وَعَلَى كَوْنِ ذَلِكَ بَيْعًا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَإِلاَّ يَصِيرُ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَلاَ يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ لأَِنَّ التَّعْيِينَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ لِصَيْرُورَةِ الْمُعَيَّنِ حَالًّا لاَ يَدْخُلُهُ أَجَلٌ أَبَدًا (1) .
ج - عَقْدُ الإِْجَارَةِ:
4 - وَهِيَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْلُومَةِ فِي مُقَابِل عِوَضٍ مَعْلُومٍ (2) .
د - الاِسْتِصْنَاعُ:
5 - عَقْدُ مُقَاوَلَةٍ مَعَ أَهْل الصَّنْعَةِ عَلَى أَنْ يَعْمَل شَيْئًا (3) .
__________
(1) المغني 3 / 583 والشرقاوي على التحرير 2 / 16.
(2) مجلة الأحكام العدلية م 405.
(3) م 124 من المجلة.(25/192)
مَشْرُوعِيَّةُ السَّلَمِ:
6 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ عَقْدِ السَّلَمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
أ - أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) . قَال ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَأَذِنَ فِيهِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآْيَةَ (2) .
وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهَا أَبَاحَتِ الدَّيْنَ، وَالسَّلَمُ نَوْعٌ مِنَ الدُّيُونِ، قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: " الدَّيْنُ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كُل مُعَامَلَةٍ كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِيهَا نَقْدًا، وَالآْخَرُ فِي الذِّمَّةِ نَسِيئَةً، فَإِنَّ الْعَيْنَ عِنْدَ الْعَرَبِ مَا كَانَ حَاضِرًا، وَالدَّيْنَ مَا كَانَ غَائِبًا " (3) .
فَدَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى حِل الْمُدَايَنَاتِ بِعُمُومِهَا، وَشَمَلَتِ السَّلَمَ بِاعْتِبَارِهِ مِنْ
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) أثر ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى. . أخرجه الشافعي (2 / 171 - مسنده - ترتيب السندي - نشر دار الكتب العلمية) والحاكم (2 / 286 - ط دائرة المعارف العثمانية) .
(3) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 247.(25/193)
أَفْرَادِهَا، إِذِ الْمُسْلَمُ فِيهِ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ إِلَى أَجَلِهِ.
ب - وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَالنَّاسُ يُسْلِفُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ، فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (1) .
فَدَل الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ عَلَى إِبَاحَةِ السَّلَمِ وَعَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ، وَحَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالاَ: كُنَّا نُصِيبُ الْمَغَانِمَ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يَأْتِينَا أَنْبَاطٌ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ، فَنُسْلِفُهُمْ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّيْتِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَقُلْتُ: أَكَانَ لَهُمْ زَرْعٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ زَرْعٌ؟ فَقَال: مَا كُنَّا نَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ (2) .
ج - وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ
__________
(1) حديث: " من أسلف في تمر. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 429 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1227 - ط الحلبي) . واللفظ لمسلم.
(2) المغني لابن قدامة (مكتبة الرياض الحديثة 1401 هـ) 4 / 304. وحديث عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى أخرجه البخاري (الفتح 4 / 434 - ط السلفية) .(25/193)
كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ السَّلَمَ جَائِزٌ (1) .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ السَّلَمِ: 7 - إِنَّ عَقْدَ السَّلَمِ مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَمِنْ هُنَا كَانَ فِي إِبَاحَتِهِ رَفْعٌ لِلْحَرَجِ عَنِ النَّاسِ، فَالْمُزَارِعُ مَثَلاً قَدْ لاَ يَكُونُ عِنْدَهُ الْمَال الَّذِي يُنْفِقُهُ فِي إِصْلاَحِ أَرْضِهِ وَتَعَهُّدِ زَرْعِهِ إِلَى أَنْ يُدْرِكَ، وَلاَ يَجِدُ مَنْ يُقْرِضُهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَال، وَلِذَلِكَ فَهُوَ فِي حَاجَةٍ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الْمُعَامَلَةِ يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنَ الْحُصُول عَلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَال، وَإِلاَّ فَاتَتْ عَلَيْهِ مَصْلَحَةُ اسْتِثْمَارِ أَرْضِهِ، وَكَانَ فِي حَرَجٍ وَمَشَقَّةٍ وَعَنَتٍ، فَمِنْ أَجَل ذَلِكَ أُبِيحَ السَّلَمُ. .
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الْحِكْمَةِ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي حَيْثُ قَال: " وَلأَِنَّ الْمُثَمَّنَ فِي الْبَيْعِ أَحَدُ عِوَضَيِ الْعَقْدِ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ كَالثَّمَنِ، وَلأَِنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إِلَيْهِ؛ لأَِنَّ أَرْبَابَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالتِّجَارَاتِ يَحْتَاجُونَ إِلَى النَّفَقَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَيْهَا لِتَكْمُل، وَقَدْ تَعُوزُهُمُ النَّفَقَةُ، فَجُوِّزَ لَهُمُ السَّلَمُ لِيَرْتَفِقُوا وَيَرْتَفِقَ الْمُسْلِمُ (2) بِالاِسْتِرْخَاصِ (3) .
__________
(1) المغني 4 / 304.
(2) أي رب السلم.
(3) المغني 4 / 305.(25/194)
مَدَى مُوَافَقَةِ السَّلَمِ لِلْقِيَاسِ:
8 - بَعْدَمَا ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ عَقْدِ السَّلَمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْمَشْرُوعِيَّةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ وَمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ، أَمْ أَنَّهَا جَاءَتِ اسْتِثْنَاءً عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى هَذَا الْعَقْدِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) ، وَهُوَ أَنَّ السَّلَمَ عَقْدٌ جَائِزٌ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ (1) قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: " هُوَ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ " إِذْ هُوَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالإِْجْمَاعِ لِلْحَاجَةِ (2) ". وَقَال زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ: " السَّلَمُ عَقْدُ غَرَرٍ جُوِّزَ لِلْحَاجَةِ (3) . وَفِي " مِنَحِ الْجَلِيل ": " صَرَّحَ فِي الْمُدَوَّنَةِ بِأَنَّ السَّلَمَ رُخْصَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ بَائِعِهِ (4) ".
(وَالثَّانِي) لِتَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
__________
(1) انظر الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب 1 / 280، بداية المجتهد (ط - دار الكتب الحديثة بمصر) 2 / 228، بدائع الصنائع 5 / 201 (مطبعة الجمالية 1328 هـ) ، المغني 4 / 321، شرح منتهى الإرادات 2 / 218، 221، الخرشي 5 / 214.
(2) البحر الرائق 6 / 196.
(3) أسنى المطالب شرح روض الطالب 2 / 122.
(4) منح الجليل لعليش 3 / 2.(25/194)
وَابْنِ الْقَيِّمِ، وَهُوَ أَنَّ السَّلَمَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ، وَلَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ.
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: " السَّلَمُ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ " فَقَوْلُهُمْ هَذَا مِنْ جِنْسِ مَا رَوَوْا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ (1) وَأَرْخَصَ فِي السَّلَمِ.
وَهَذَا لَمْ يُرْوَ فِي الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلاَمِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: السَّلَمُ بَيْعُ الإِْنْسَانِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، فَيَكُونُ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ.
وَنَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ: إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَيْعُ عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ، فَيَكُونُ قَدْ بَاعَ مَال الْغَيْرِ قَبْل أَنْ يَشْتَرِيَهُ. وَفِيهِ نَظَرٌ. وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَيْعُ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ.
وَهَذَا أَشْبَهُ. فَيَكُونُ قَدْ ضَمِنَ لَهُ شَيْئًا لاَ يَدْرِي هَل يَحْصُل أَوْ لاَ يَحْصُل. وَهَذَا فِي السَّلَمِ الْحَال إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُوَفِّيهِ.
وَالْمُنَاسَبَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ.
فَأَمَّا السَّلَمُ الْمُؤَجَّل، فَإِنَّهُ دَيْنٌ مِنَ
__________
(1) حديث: " لا تبع ما ليس عندك ". أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 4 / 430 - ط السلفية) من حديث حكيم بن حزام، وحسنه الترمذي.(25/195)
الدُّيُونِ، وَهُوَ كَالاِبْتِيَاعِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ. فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ مُؤَجَّلاً فِي الذِّمَّةِ، وَكَوْنِ الْعِوَضِ الآْخَرِ مُؤَجَّلاً فِي الذِّمَّةِ، وَقَدْ قَال تَعَالَى {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ فِي الذِّمَّةِ حَلاَلٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الآْيَةَ.
فَإِبَاحَةُ هَذَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ لاَ عَلَى خِلاَفِهِ " (2) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ فِي " إِعْلاَمِ الْمُوَقِّعِينَ ": " وَأَمَّا السَّلَمُ، فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ فَوَهَمَ دُخُولَهُ تَحْتَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ فَإِنَّهُ بَيْعُ مَعْدُومٍ، وَالْقِيَاسُ يَمْنَعُ مِنْهُ. .
وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ بَيْعُ مَضْمُونٍ فِي الذِّمَّةِ مَوْصُوفٍ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ غَالِبًا، وَهُوَ كَالْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ فِي الإِْجَارَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ.
وَقَدْ فَطَرَ اللَّهُ الْعُقَلاَءَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ بَيْعِ الإِْنْسَانِ مَا لاَ يَمْلِكُهُ وَلاَ هُوَ مَقْدُورٌ لَهُ وَبَيْنَ السَّلَمِ إِلَيْهِ فِي مُغَلٍّ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهِ
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) مجموعة فتاوى ابن تيمية 20 / 529.(25/195)
مَقْدُورٍ فِي الْعَادَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ. فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَيْتَةِ وَالْمُذَكَّى وَالرِّبَا وَالْبَيْعِ " (1) .
أَرْكَانُ السَّلَمِ وَشُرُوطُ صِحَّتِهِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ السَّلَمِ ثَلاَثَةٌ:
(1) الصِّيغَةُ (وَهِيَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول) .
(2) وَالْعَاقِدَانِ (وَهُمَا الْمُسْلِمُ، وَالْمُسْلَمُ إِلَيْهِ) .
(3) وَالْمَحَل (وَهُوَ شَيْئَانِ: رَأْسُ الْمَال، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ حَيْثُ اعْتَبَرُوا رُكْنَ السَّلَمِ هُوَ الصِّيغَةَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول الدَّالَّيْنِ عَلَى اتِّفَاقِ الإِْرَادَتَيْنِ وَتُوَافِقْهُمَا عَلَى إنْشَاءِ هَذَا الْعَقْدِ (2) .
الرُّكْنُ الأَْوَّل: الصِّيغَةُ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الإِْيجَابِ بِلَفْظِ السَّلَمِ أَوِ السَّلَفِ، وَكُل مَا اشْتُقَّ مِنْهُمَا، كَأَسْلَفْتُكَ وَأَسْلَمْتُكَ، وَأَعْطَيْتُكَ كَذَا سَلَمًا أَوْ سَلَفًا فِي كَذَا. .؛ لأَِنَّهُمَا لَفْظَانِ بِمَعْنًى
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين (مراجعة ط عبد الرؤوف سعد) 2 / 19.
(2) انظر التعريفات للشريف الجرجاني (ط - الدار التونسية 1971 م) ص 59، 67.(25/196)
وَاحِدٍ، وَكِلاَهُمَا اسْمٌ لِهَذَا الْعَقْدِ. وَكَذَا عَلَى صِحَّةِ الْقَبُول بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَى الرِّضَا بِمَا أَوْجَبَهُ الأَْوَّل، مِثْل: قَبِلْتُ وَرَضِيتُ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
11 - غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ انْعِقَادِ السَّلَمِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) لأَِبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ السَّلَمُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ إِذَا بَيَّنَ فِيهِ إِرَادَةَ السَّلَمِ وَتَحَقَّقَتْ شُرُوطُهُ، كَأَنْ يَقُول رَبُّ السَّلَمِ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ خَمْسِينَ رِطْلاً زَيْتًا صِفَتُهُ كَذَا إِلَى أَجَل كَذَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ حَالَّةٍ، وَقَبِل الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ. أَوْ يَقُول الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ: بِعْتُكَ عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ قَمْحٍ صِفَتُهُ كَذَا إِلَى أَجَل كَذَا، بِخَمْسِينَ دِينَارًا مُعَجَّلَةٍ فِي الْمَجْلِسِ. وَقَبِل الطَّرَفُ الآْخَرُ (2) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: " التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إِنْ عَرَفَا الْمَقْصُودَ انْعَقَدَتْ، فَأَيُّ
__________
(1) البدائع 5 / 201، شرح منتهى الإرادات 2 / 214، نهاية المحتاج وحاشية الرشيدي عليه 4 / 178، المهذب 1 / 304، منح الجليل 3 / 2.
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 214، بدائع الصنائع 5 / 201، المهذب 1 / 304، روضة الطالبين 4 / 6، مواهب الجليل 4 / 538، الخرشي 5 / 223، منح الجليل 3 / 36، فتح العزيز 9 / 224، وبدائع الصنائع 5 / 201.(25/196)
لَفْظٍ مِنَ الأَْلْفَاظِ عَرَفَ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ مَقْصُودَهُمَا انْعَقَدَ بِهِ الْعَقْدُ. وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَحُدَّ أَلْفَاظَ الْعُقُودِ حَدًّا، بَل ذَكَرَهَا مُطْلَقَةً. فَكَمَا تَنْعَقِدُ الْعُقُودُ بِمَا يَدُل عَلَيْهَا مِنَ الأَْلْفَاظِ الْفَارِسِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْلْسُنِ الْعَجَمِيَّةِ، فَهِيَ تَنْعَقِدُ بِمَا يَدُل عَلَيْهَا مِنَ الأَْلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَلِهَذَا وَقَعَ الطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ وَغَيْرُهُ " (1) .
(وَالثَّانِي) لِزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ صَحَّحَهُ الشَّيْخَانِ النَّوَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ، وَهُوَ أَنَّ السَّلَمَ لاَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَحُجَّةُ زُفَرَ " أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لاَ يَنْعَقِدَ أَصْلاً؛ لأَِنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الإِْنْسَانِ، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، إِلاَّ أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِجَوَازِهِ بِلَفْظِ السَّلَمِ (2) بِقَوْلِهِ: وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ (3) " فَوَجَبَ الاِقْتِصَارُ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ إجْزَاءِ سِوَاهُ.
أَمَّا حُجَّةُ أَصْحَابِ هَذَا الرَّأْيِ مِنَ
__________
(1) القياس لابن تيمية ص 24، مجموع فتاوى ابن تيمية 20 / 533، وانظر إعلام الموقعين 2 / 23 (طبعة طه عبد الرؤوف سعد) .
(2) بدائع الصنائع 5 / 201.
(3) حديث: " رخص في السلم ". ذكر الزيلعي في نصب الراية (4 / 45 - ط المجلس العلمي) أنه مستنبط من حديث ابن عباس المتقدم في فقرة رقم (4) .(25/197)
الشَّافِعِيَّةِ فَهُوَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ لَفْظُهُ، وَيَنْعَقِدُ بَيْعًا نَظَرًا لِلَّفْظِ وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ تَعْيِينُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَبْضُ رَأْسِ الْمَال فِي الْمَجْلِسِ لأَِنَّ السَّلَمَ غَيْرُ الْبَيْعِ، فَلاَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِهِ (1) .
12 - وَاشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي صِيغَةِ السَّلَمِ أَنْ تَكُونَ بَاتَّةً لاَ خِيَارَ فِيهَا لأَِيٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ عَقْدٌ لاَ يَقْبَل خِيَارَ الشَّرْطِ، إِذْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ تَمْلِيكُ رَأْسِ الْمَال وَإِقْبَاضُهُ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ قَبْل التَّفَرُّقِ، وَوُجُوبُ تَحَقُّقِهِمَا مَنَافٍ لِخِيَارِ الشَّرْطِ.
قَال الشَّافِعِيُّ فِي " الأُْمِّ ": لاَ يَجُوزُ الْخِيَارُ فِي السَّلَفِ. لَوْ قَال رَجُلٌ لِرَجُلٍ: أَبْتَاعُ مِنْكَ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَنْقُدُكَهَا مِائَةَ صَاعٍ تَمْرًا إِلَى شَهْرٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ بَعْدَ تَفَرُّقِنَا مِنْ مَقَامِنَا الَّذِي تَبَايَعْنَا فِيهِ، أَوْ أَنْتَ بِالْخِيَارِ، أَوْ كِلاَنَا بِالْخِيَارِ، لَمْ يَجُزْ فِيهِ الْبَيْعُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَشَارَطَا الْخِيَارَ ثَلاَثًا فِي بُيُوعِ الأَْعْيَانِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَال: أَبْتَاعُ مِنْكَ مِائَةَ صَاعٍ تَمْرًا بِمِائَةِ دِينَارٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ يَوْمًا، إِنْ رَضِيتُ أَعْطَيْتُكَ الدَّنَانِيرَ، وَإِنْ لَمْ أَرْضَ
__________
(1) المهذب 1 / 304، روضة الطالبين 4 / 6، فتح العزيز 9 / 224، أسنى المطالب 2 / 124.(25/197)
فَالْبَيْعُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ مَفْسُوخٌ، لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّ هَذَا بَيْعٌ مَوْصُوفٌ، وَالْبَيْعُ الْمَوْصُوفُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِأَنْ يَقْبِضَ صَاحِبُهُ ثَمَنَهُ قَبْل أَنْ يَتَفَرَّقَا؛ لأَِنَّ قَبْضَهُ مَا سَلَّفَ فِيهِ قَبْضُ مِلْكٍ، وَهُوَ لَوْ قَبَّضَهُ مَال الرَّجُل عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ لَمْ يَكُنْ قَبْضَ مِلْكٍ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي، فَلَمْ يَمْلِكِ الْبَائِعُ مَا دُفِعَ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لِلْبَائِعِ فَلَمْ يُمَلِّكْهُ الْبَائِعُ مَا بَاعَهُ؛ لأَِنَّهُ عَسَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَالِهِ ثُمَّ يَرُدَّهُ إِلَيْهِ، فَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ فِيهِ إِلاَّ مَقْطُوعًا بِلاَ خِيَارٍ " (1) .
وَفِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ: (يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بَاتًّا عَارِيًا عَنْ شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْعَاقِدَيْنِ أَوْ لأَِحَدِهِمَا) ؛ لأَِنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ فِي الأَْصْل ثَبَتَ مَعْدُولاً بِهِ عَنِ الْقِيَاسِ لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْحَال، وَشَرْطُ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ.
وَمِثْل هَذَا الشَّرْطِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الأَْصْل، إِلاَّ أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَهُ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ، فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى أَصْل الْقِيَاسِ، خُصُوصًا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ،
__________
(1) الأم 3 / 133 (بإشراف محمد زهري النجار) .(25/198)
وَالسَّلَمُ لَيْسَ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْعَيْنِ فِيمَا شُرِعَ لَهُ الْخِيَارُ؛ لأَِنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الْغَبْنِ، وَالسَّلَمُ مَبْنَاهُ عَلَى الْغَبْنِ وَوَكْسِ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّهُ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ، فَوُرُودُ النَّصِّ هُنَاكَ لاَ يَكُونُ وُرُودًا هَاهُنَا دَلاَلَةً، فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيهِ لِلْقِيَاسِ.
وَلأَِنَّ قَبْضَهُ رَأْسَ الْمَال مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَلاَ صِحَّةَ لِلْقَبْضِ إِلاَّ فِي الْمِلْكِ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ، فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ. وَمِثْلُهُ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ (1) .
وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ وَقَالُوا بِجَوَازِ خِيَارِ الشَّرْطِ فِي السَّلَمِ لِلْعَاقِدَيْنِ أَوْ لأَِحَدِهِمَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَ ذَلِكَ، بِشَرْطِ أَلاَّ يَتِمَّ فَقْدُ رَأْسِ الْمَال، فَإِنْ فُقِدَ فَسَدَ الْعَقْدُ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِتَرَدُّدِ رَأْسِ الْمَال بَيْنَ السَّلَفِيَّةِ وَالثَّمَنِيَّةِ (2) .
هَذَا هُوَ الرَّأْيُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ قَبْضِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا؛ لأَِنَّ هَذَا التَّأْخِيرَ الْيَسِيرُ فِي حُكْمِ التَّعْجِيل، فَيَكُونُ مَعْفُوًّا عَنْهُ؛ إِذِ الْقَاعِدَةُ أَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 201، وشرح منتهى الإرادات 2 / 169.
(2) منح الجليل لعليش 3 / 5.(25/198)
الْعَاقِدَانِ:
13 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي كُل وَاحِدٍ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِصُدُورِهِ عَنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ وِلاَيَةٌ إِذَا كَانَ يَعْقِدُ لِغَيْرِهِ.
أَمَّا الأَْهْلِيَّةُ الْمُشْتَرَطَةُ فَهِيَ أَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ الَّتِي تَعْنِي صَلاَحِيَّةَ الشَّخْصِ لِصُدُورِ الأَْقْوَال مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، وَتَتَحَقَّقُ هَذِهِ الأَْهْلِيَّةُ فِي الإِْنْسَانِ الْبَالِغِ الْعَاقِل الرَّشِيدِ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِأَيِّ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ. (ر: أَهْلِيَّة) .
وَأَمَّا الْوِلاَيَةُ الْمَطْلُوبَةُ فِيمَنْ يَعْقِدُ السَّلَمَ عَنْ غَيْرِهِ فَهِيَ كَوْنُهُ مُخَوَّلاً شَرْعًا فِي ذَلِكَ بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ:
إِمَّا بِالنِّيَابَةِ الاِخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِالْوَكَالَةِ. وَلاَ بُدَّ فِيهَا أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْوَكِيل وَالْمُوَكِّل أَهْلاً لإِِنْشَاءِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ (ر: وَكَالَة) .
وَإِمَّا بِالنِّيَابَةِ الإِْجْبَارِيَّةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ، وَتَكُونُ لِمَنْ يَلِي مَال الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ وَالأَْوْصِيَاءِ، الَّذِينَ جُعِلَتْ لَهُمْ سُلْطَةٌ شَرْعِيَّةٌ عَلَى إِبْرَامِ الْعُقُودِ وَإِنْشَاءِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ لِمَصْلَحَةِ مَنْ يَلُونَهُمْ. - (ر: وِلاَيَة) .(25/199)
وَكَذَلِكَ شَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي عَقْدِ السَّلَمِ أَلاَّ يَكُونَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ (1) وَجَعَلُوا لِسَلَمِ الْمَرِيضِ أَحْكَامًا خَاصَّةً؛ حِمَايَةً لِحُقُوقِ الدَّائِنِينَ وَالْوَرَثَةِ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ الضَّارَّةِ بِهَا. حَيْثُ إِنَّ السَّلَمَ مَظِنَّةُ الْمُحَابَاةِ لأَِنَّ الْمَبِيعَ يُبَاعُ بِأَقَل مِنْ ثَمَنِهِ.
وَفَرَّقُوا فِي حُكْمِ السَّلَمِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ رَبُّ السَّلَمِ مَرِيضًا، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ مَرِيضًا. تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُطَوَّلاَتِ كُتُبِهِمْ (2) .
الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ:
أ - الشُّرُوطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْبَدَلَيْنِ مَعًا:
14 - أ - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ رَأْسِ الْمَال وَالْمُسْلَمِ فِيهِ مَالاً مُتَقَوِّمًا، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُعَدُّ مَالاً مُنْتَفَعًا بِهِ شَرْعًا. (ر: مَال) .
ب - وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ أَلاَّ يَكُونَ الْبَدَلاَنِ مَالَيْنِ يَتَحَقَّقُ فِي سَلَمِ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ رِبَا
__________
(1) مرض الموت: هو المرض المخوف الذي يتصل بالموت، ولو لم يكن الموت بسببه. (ر: مرض الموت) .
(2) المبسوط للسرخسي 29 / 38، فما بعد و54 و78، والبدائع 7 / 353.(25/199)
النَّسِيئَةِ، وَذَلِكَ بِأَلاَّ يَجْمَعَ الْبَدَلَيْنِ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْل، حَيْثُ إِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مُؤَجَّلٌ فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا جَمَعَهُ مَعَ رَأْسِ الْمَال أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْل، تَحَقَّقَ رِبَا النَّسَاءِ فِيهِ، وَكَانَ فَاسِدًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (2) .
(ر: رِبًا) .
ج - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ بِحَدِّ ذَاتِهَا، وَأَنَّهَا تُحَازُ بِحِيَازَةِ أُصُولِهَا وَمَصَادِرِهَا، وَهِيَ الأَْعْيَانُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا. وَمِنْ ثَمَّ أَجَازُوا كَوْنَهَا رَأْسَ مَالٍ وَمُسْلَمًا فِيهِ فِي عَقْدِ السَّلَمِ. وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ قَال رَبُّ السَّلَمِ: أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ سُكْنَى دَارِي هَذِهِ سَنَةً، أَوْ
__________
(1) القوانين الفقهية (ص273) . وانظر شرح منتهى الإرادات 2 / 215، الخرشي 5 / 206، بداية المجتهد 2 / 227 (ط - دار الكتب الحديثة) . كشاف القناع 3 / 278، بدائع الصنائع 5 / 214، المغني 4 / 331 وما بعدها.
(2) حديث: " الذهب بالذهب والفضة بالفضة. . . . ". أخرجه مسلم (3 / 1211 - ط الحلبي) .(25/200)
خِدْمَتِي شَهْرًا فِي كَذَا إِلَى أَجَل كَذَا، صَحَّ ذَلِكَ السَّلَمُ.
وَلَوْ قَال لَهُ: أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ عِشْرِينَ دِينَارًا فِي مَنْفَعَةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي ذِمَّتِكَ إِلَى أَجَل كَذَا، صَحَّ السَّلَمُ.
د - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ كَوْنُ أَيٍّ مِنْ الْبَدَلَيْنِ فِي السَّلَمِ مَنْفَعَةً؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ مَعَ أَنَّهَا مِلْكٌ لاَ تُعْتَبَرُ أَمْوَالاً فِي مَذْهَبِهِمْ؛ إِذِ الْمَال عِنْدَهُمْ " مَا يَمِيل إِلَيْهِ طَبْعُ الإِْنْسَانِ وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ (1) " وَالْمَنَافِعُ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلإِْحْرَازِ وَالاِدِّخَارِ؛ إِذْ هِيَ أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَآنًا فَآنًا، وَتَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ وَقْتِهَا، وَمَا يَحْدُثُ فِيهَا غَيْرُ الَّذِي يَنْتَهِي.
عَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَصِحُّ جَعْل الْمَنَافِعِ بَدَلاً فِي عَقْدِ السَّلَمِ عِنْدَهُمْ (2) . (ر: مَنَافِع) .
ب - شُرُوطُ رَأْسِ مَال السَّلَمِ:
يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ فِي رَأْسِ مَال السَّلَمِ شَرْطَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا:
15 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية المادة (126) .
(2) فتح العزيز للرافعي 9 / 210، شرح الخرشي على خليل 5 / 203، شرح منتهى الإرادات 2 / 360، أسنى المطالب 2 / 123، نهاية المحتاج 4 / 182، 208، روضة الطالبين 4 / 27.(25/200)
رَأْسِ الْمَال أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ بَدَلٌ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ، فَلاَ بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَعْلُومًا، كَسَائِرِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ.
وَرَأْسُ الْمَال إِمَّا أَنْ يُوصَفَ فِي الذِّمَّةِ، ثُمَّ يُعَيَّنَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا عِنْدَ الْعَقْدِ، كَأَنْ يَكُونَ حَاضِرًا مُشَاهَدًا، ثُمَّ يَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى عَيْنِهِ.
فَإِنْ كَانَ مَوْصُوفًا، فَيَجِبُ أَنْ يَنُصَّ فِي عَقْدِ السَّلَمِ عَلَى جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ.
عَلَى هَذَا، فَإِنْ قَبِل الطَّرَفُ الآْخَرُ، وَجَبَ تَعْيِينُ رَأْسِ الْمَال فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَتَسْلِيمُهُ إِلَيْهِ وَفَاءً بِالْعَقْدِ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ الإِْشَارَةِ إِلَى رَأْسِ مَال السَّلَمِ الْحَاضِرِ هَل هِيَ كَافِيَةٌ فِي رَفْعِ الْجَهَالَةِ عَنْهُ، وَاعْتِبَارِهِ مَعْلُومًا، أَمْ لاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْقَدْرِ وَالصِّفَاتِ بِالإِْضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ؟ .
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ تَكْفِي الرُّؤْيَةُ إِذَا كَانَ
__________
(1) رد المحتار 4 / 206، المهذب 1 / 307، القوانين الفقهية لابن جزي (ط - تونس) ص 274، المغني (ط - مكتبة الرياض الحديثة) 4 / 330، أسنى المطالب 2 / 123، 124.(25/201)
رَأْسُ مَال السَّلَمِ مُعَيَّنًا سَوَاءٌ كَانَ مِثْلِيًّا أَوْ قِيَمِيًّا وَلاَ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ قَدْرِهِ أَوْ صِفَاتِهِ (1) .
وَوَجْهُ ذَلِكَ " أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى تَعْيِينِ رَأْسِ الْمَال، وَأَنَّهُ حَصَل بِالإِْشَارَةِ إِلَيْهِ، فَلاَ حَاجَةَ إِلَى إِعْلاَمِ قَدْرِهِ. وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ إِعْلاَمُ قَدْرِ الثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَلاَ فِي السَّلَمِ إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَال مِمَّا لاَ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ " (2) .
وَقَال الشِّيرَازِيُّ: " لاَ يَجِبُ ذِكْرُ صِفَاتِهِ وَمِقْدَارِهِ، لأَِنَّهُ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ لاَ يَقْتَضِي رَدَّ الْمِثْل، فَوَجَبَ أَنْ تُغْنِيَ الْمُشَاهَدَةُ عَنْ ذِكْرِ صِفَاتِهِ، كَالْمَهْرِ وَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ " (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ، إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ ذِكْرُ مِقْدَارِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلاَ يَصِحُّ السَّلَمُ إِلاَّ بِبَيَانِهَا (4) .
قَال الشِّيرَازِيُّ: " لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَنْفَسِخَ السَّلَمُ بِانْقِطَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ
__________
(1) المغني 4 / 331، البدائع 5 / 201، أسنى المطالب 2 / 142، رد المحتار 4 / 207، نهاية المحتاج 4 / 183، مواهب الجليل 4 / 516، التاج والإكليل 4 / 516، العناية على الهداية (الميمنية 1319 هـ) 6 / 221.
(2) بدائع الصنائع 5 / 202.
(3) المهذب 1 / 307.
(4) المغني 4 / 330، شرح منتهى الإرادات 2 / 221، حاشية الرملي على أسنى المطالب 2 / 124، المهذب 1 / 307.(25/201)
مِقْدَارُهُ وَصِفَتُهُ لَمْ يُعْرَفْ مَا يُرَدُّ " (1) .
وَجَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: (وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ - أَيْ رَأْسِ مَال السَّلَمِ - مَعْلُومَ الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَتَأَخَّرُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَلاَ يُؤْمَنُ انْفِسَاخُهُ، فَوَجَبَ مَعْرِفَةُ رَأْسِ مَالِهِ لِيَرُدَّ بَدَلَهُ، كَالْقَرْضِ. فَعَلَى هَذَا لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ بِصُبْرَةٍ مُشَاهَدَةٍ لاَ يَعْلَمَانِ قَدْرَهَا) (2) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْبَغْدَادِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ صِفَاتِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِثْلِيًّا أَوْ قِيمِيًّا، حَيْثُ إِنَّ الْمُشَاهَدَةَ تَكْفِي فِي رَفْعِ الْجَهَالَةِ عَنِ الأَْوْصَافِ.
أَمَّا قَدْرُهُ، فَهُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ كَوْنِ رَأْسِ الْمَال مِثْلِيًّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِمِقْدَارِهِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ قِيمِيًّا. فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا - كَالْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالذَّرْعِيَّاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ - فَإِنَّهُ يَجِبُ بَيَانُ الْقَدْرِ، وَلاَ تَكْفِي الْمُشَاهَدَةُ، أَمَّا إِذَا كَانَ قِيمِيًّا فَلاَ يُشْتَرَطُ بَيَانُ قَدْرِهِ، وَتَكْفِي الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ (3) .
__________
(1) المهذب 1 / 307.
(2) كشاف القناع 3 / 291.
(3) فتح القدير والعناية 6 / 221 (مطبعة الميمنية سنة 1319 هـ) ، رد المحتار 4 / 207، (بولاق 1272 هـ) ، الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب البغدادي 1 / 280، بدائع الصنائع 5 / 202.(25/202)
(الشَّرْطُ الثَّانِي) تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَال فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ:
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ السَّلَمِ تَسْلِيمُ رَأْسِ مَالِهِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَهُ بَطَل الْعَقْدُ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:
(أَوَّلاً) بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (2) . وَالتَّسْلِيفُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي خَاطَبَنَا بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الإِْعْطَاءُ، فَيَكُونُ مَعْنَى كَلاَمِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " فَلْيُعْطِ "؛ لأَِنَّهُ لاَ يَقَعُ اسْمُ السَّلَفِ فِيهِ حَتَّى يُعْطِيَهُ مَا أَسْلَفَهُ قَبْل أَنْ يُفَارِقَ مَنْ أَسْلَفَهُ، فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ رَأْسَ الْمَال فَإِنَّهُ يَكُونُ غَيْرَ مُسْلِفٍ شَيْئًا، بَل وَاعِدًا بِأَنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 202، الأم 3 / 95 (ط - زهري النجار) ، المهذب 1 / 307، مغني المحتاج 2 / 102، فتح العزيز 9 / 209، كفاية الأخيار 1 / 142، أنيس الفقهاء ص 220، حلية الفقهاء لابن فارس ص 140، شرح منتهى الإرادات 2 / 220، المغني 4 / 328، كشاف القناع 3 / 291، فتح القدير والعناية 5 / 227، (الميمنية 1319 هـ) ، رد المحتار 4 / 208.
(2) حديث: " من أسلف فليسلف في كيل معلوم. . . . ". تقدم تخريجه ف 4.(25/202)
يُسْلِفَ. قَال الرَّمْلِيُّ: (وَلأَِنَّ السَّلَمَ مُشْتَقٌّ مِنْ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَال، أَيْ تَعْجِيلِهِ، وَأَسْمَاءُ الْعُقُودِ الْمُشْتَقَّةِ مِنَ الْمَعَانِي لاَ بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ تِلْكَ الْمَعَانِي فِيهَا) (1) .
(ثَانِيًا) بِأَنَّ الاِفْتِرَاقَ قَبْل قَبْضِ رَأْسِ الْمَال يَكُونُ افْتِرَاقًا عَنْ كَالِئٍ بِكَالِئٍ؛ أَيْ: نَسِيئَةٍ بِنَسِيئَةٍ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالإِْجْمَاعِ (2) .
(ثَالِثًا) بِأَنَّ فِي السَّلَمِ غَرَرًا احْتُمِل لِلْحَاجَةِ، فَجُبِرَ ذَلِكَ بِتَعْجِيل قَبْضِ الْعِوَضِ الآْخَرِ، وَهُوَ الثَّمَنُ، كَيْ لاَ يَعْظُمَ الْغَرَرُ فِي الطَّرَفَيْنِ (3) .
(رَابِعًا) بِأَنَّ الْغَايَةَ الشَّرْعِيَّةَ الْمَقْصُودَةَ فِي الْعُقُودِ تُرَتَّبُ آثَارُهَا عَلَيْهَا بِمُجَرَّدِ انْعِقَادِهَا، فَإِذَا تَأَخَّرَ الْبَدَلاَنِ كَانَ الْعَقْدُ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ لِلطَّرَفَيْنِ خِلاَفًا لِحُكْمِهِ الأَْصْلِيِّ، مُقْتَضَاهُ وَغَايَتُهُ، وَمِنْ هُنَا قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ تَأْخِيرِ رَأْسِ الْمَال فِي السَّلَمِ: فَإِنَّ ذَلِكَ مُنِعَ مِنْهُ لِئَلاَّ تَبْقَى ذِمَّةُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَشْغُولَةً بِغَيْرِ فَائِدَةٍ حَصَلَتْ لاَ لَهُ وَلاَ لِلآْخَرِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ
__________
(1) حاشية الرملي على أسنى المطالب 2 / 122.
(2) انظر المغني 4 / 54، نظرية العقد لابن تيمية ص 235، نيل الأوطار 5 / 255 وما بعدها، تكملة المجموع للسبكي 10 / 107، الموطأ باب جامع بيع الثمر 2 / 628، 660 (ط - عيسى الحلبي) .
(3) فتح العزيز 9 / 209.(25/203)
الْعُقُودِ الْقَبْضُ، فَهُوَ عَقْدٌ لَمْ يَحْصُل بِهِ مَقْصُودٌ أَصْلاً، بَل هُوَ الْتِزَامٌ بِلاَ فَائِدَةٍ " (1) .
(خَامِسًا) إِنَّ مَطْلُوبَ الشَّارِعِ صَلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَحَسْمُ مَادَّةِ الْفَسَادِ وَالْفِتَنِ. وَإِذَا اشْتَمَلَتِ الْمُعَامَلَةُ عَلَى شَغْل الذِّمَّتَيْنِ، تَوَجَّهَتِ الْمُطَالَبَةُ مِنَ الْجِهَتَيْنِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَثْرَةِ الْخُصُومَاتِ وَالْعَدَاوَاتِ، فَمَنَعَ الشَّرْعُ مَا يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ بِاشْتِرَاطِ تَعْجِيل قَبْضِ رَأْسِ الْمَال (2) .
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ اشْتِرَاطَ قَبْضِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ قَبْل التَّفَرُّقِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَلَيْسَ شَرْطَ صِحَّةٍ؛ لأَِنَّ السَّلَمَ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا بِدُونِ قَبْضِ رَأْسِ الْمَال، ثُمَّ يَفْسُدُ بِالاِفْتِرَاقِ قَبْل الْقَبْضِ. وَبَقَاءُ الْعَقْدِ صَحِيحًا يَعْقُبُ الْعَقْدَ وَلاَ يَتَقَدَّمُهُ، فَيَصْلُحُ الْقَبْضُ شَرْطًا لَهُ (3) .
وَقَدْ جَاءَ فِي م (387) مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: " يُشْتَرَطُ لِبَقَاءِ صِحَّةِ السَّلَمِ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، فَإِذَا تَفَرَّقَ الْعَاقِدَانِ
__________
(1) نظرية العقد لابن تيمية ص 235.
(2) الفروق للقرافي 3 / 290.
(3) بدائع الصنائع 5 / 203، رد المحتار 4 / 208، وانظر م 555 من مرشد الحيران، البحر الرائق 6 / 177.(25/203)
قَبْل تَسْلِيمِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ ".
وَقَدْ خَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ تَعْجِيل رَأْسِ مَال السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَقَالُوا: يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ بِشَرْطٍ وَبِغَيْرِ شَرْطٍ، اعْتِبَارًا لِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ: " مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ "، حَيْثُ إِنَّهُمُ اعْتَبَرُوا هَذَا التَّأْخِيرَ الْيَسِيرَ مَعْفُوًّا عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ التَّعْجِيل (1) ، وَمِنْ هُنَا قَال الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِهِ (الإِْشْرَافِ) فِي تَعْلِيل جَوَازِ ذَلِكَ التَّأْخِيرِ الْيَسِيرِ: " فَأَشْبَهَ التَّأْخِيرَ لِلتَّشَاغُل بِالْقَبْضِ " (2) .
قَال ابْنُ رُشْدٍ فِي " الْمُقَدِّمَاتِ الْمُمَهِّدَاتِ ": (وَأَمَّا تَأْخِيرُهُ فَوْقَ الثَّلاَثِ بِشَرْطٍ، فَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ، كَانَ رَأْسُ الْمَال عَيْنًا أَوْ عَرْضًا. فَإِنْ تَأَخَّرَ فَوْقَ الثَّلاَثِ بِغَيْرِ شَرْطٍ لَمْ يُفْسَخْ إِنْ كَانَ عَرْضًا. وَاخْتُلِفَ فِيهِ إِنْ كَانَ عَيْنًا: فَعَلَى مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ مِنْ بَابِ
__________
(1) شرح الخرشي 5 / 220، المقدمات الممهدات لابن رشد ص 516، مواهب الجليل 4 / 514 وما بعدها، إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي ص 173، ولعل ذلك مستفاد من أن مالكا في المدونة لم يجعل اليوم واليومين أجلا، كما نقل صاحب التاج والإكليل (4 / 367) عن ابن سراج.
(2) الإشراف على مسائل الخلاف 1 / 280.(25/204)
السَّلَمِ يَفْسُدُ بِذَلِكَ وَيُفْسَخُ. وَعَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ حَبِيبٍ أَنَّهُ لاَ يُفْسَخُ إِلاَّ أَنْ يَتَأَخَّرَ فَوْقَ الثَّلاَثِ بِشَرْطٍ) (1) .
17 - بَقِيَ بَعْدَ هَذَا مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ، وَهِيَ: مَا لَوْ عَجَّل الْمُسْلِمُ بَعْضَ رَأْسِ الْمَال فِي الْمَجْلِسِ وَأَجَّل الْبَعْضَ الآْخَرَ، فَمَا هُوَ الْحُكْمُ؟ .
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَبْطُل السَّلَمُ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ، وَيَسْقُطُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَيَصِحُّ فِي الْبَاقِي بِقِسْطِهِ (2) . قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: " وَصَحَّ فِي حِصَّةِ النَّقْدِ لِوُجُودِ قَبْضِ رَأْسِ الْمَال بِقَدْرِهِ، وَلاَ يَشِيعُ الْفَسَادُ لأَِنَّهُ طَارِئٌ، إِذِ السَّلَمُ وَقَعَ صَحِيحًا فِي الْكُل، وَلِذَا لَوْ نَقَدَ الْكُل قَبْل الاِفْتِرَاقِ صَحَّ " (3)
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَهُوَ أَنَّهُ يَبْطُل السَّلَمُ فِي الصَّفْقَةِ كُلِّهَا. عَلَّل الْمَالِكِيَّةُ قَوْلَهُمْ هَذَا بِأَنَّهُ " مَتَى قَبَضَ
__________
(1) المقدمات الممهدات ص 516، وانظر منح الجليل 3 / 4 و3 / 3.
(2) فتح العزيز 9 / 210، روضة الطالبين 4 / 3، مغني المحتاج 2 / 102، كشاف القناع 3 / 291، البحر الرائق 6 / 178، تأسيس النظر ص 95.
(3) البحر الرائق 6 / 178.(25/204)
الْبَعْضَ وَأَخَّرَ الْبَعْضَ فَسَدَ؛ لأَِنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ ". أَيْ: ابْتِدَاءُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ (1) .
وَمُسْتَنَدُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ الأَْصْل عِنْدَهُ فِي أَبْوَابِ الْمُعَامَلاَتِ أَنَّ الْعَقْدَ إِذَا وَرَدَ الْفَسْخُ عَلَى بَعْضِهِ انْفَسَخَ كُلُّهُ (2) .
18 - وَلَوْ أَرَادَ رَبُّ السَّلَمِ أَنْ يَجْعَل الدَّيْنَ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ رَأْسَ مَال سَلَمٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمَالِكٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ، لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ (3) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ شَيْخُ الإِْسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ فَذَهَبَا إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ إِنْ كَانَ حَالًّا يَجُوزُ جَعْلُهُ رَأْسَ مَال سَلَمٍ، وَحُجَّتُهُمَا عَلَى الْجَوَازِ هُوَ عَدَمُ تَحَقُّقِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ - وَهُوَ بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، أَيْ: الدَّيْنِ الْمُؤَخَّرِ بِالدَّيْنِ الْمُؤَخَّرِ - عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الْمَجْعُول رَأْسَ مَال
__________
(1) حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 2 / 163.
(2) تأسيس النظر للدبوسي ص 95 (ط - دار الفكر بيروت سنة 1399 هـ) .
(3) رد المحتار 4 / 209، تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 140، فتح العزيز 9 / 212، الشرح الكبير على المقنع 4 / 336، بدائع الصنائع 7 / 3155 (مطبعة الإمام بالقاهرة) ، نهاية المحتاج 4 / 180، شرح منتهى الإرادات 2 / 221.(25/205)
السَّلَمِ غَيْرَ مُؤَجَّلٍ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ؛ لأَِنَّهَا تَكُونُ مِنْ قَبِيل بَيْعِ الدَّيْنِ الْمُؤَخَّرِ بِالدَّيْنِ الْمُعَجَّل؛ وَلِوُجُودِ الْقَبْضِ الْحُكْمِيِّ لِرَأْسِ مَال السَّلَمِ مِنْ قِبَل الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، لِكَوْنِهِ حَالًّا فِي ذِمَّتِهِ. فَكَأَنَّ الْمُسْلِمَ - إِذْ جَعَل مَا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ مُعَجِّلاً رَأْسَ مَال السَّلَمِ - قَبَضَهُ مِنْهُ وَرَدَّهُ إِلَيْهِ، فَصَارَ دَيْنًا مُعَجَّلاً مَقْبُوضًا حُكْمًا، فَارْتَفَعَ الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ؛ وَلأَِنَّ دَعْوَى الإِْجْمَاعِ عَلَى الْمَنْعِ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الْمَجْعُول رَأْسَ مَال السَّلَمِ مُؤَجَّلاً فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ فَلاَ خِلاَفَ لأَِحَدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي مَنْعِ ذَلِكَ شَرْعًا، وَأَنَّهُ مِنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ الْمَحْظُورِ، لِكَوْنِهِ ذَرِيعَةً إِلَى رِبَا النَّسِيئَةِ.
19 - أَمَّا إِذَا جَعَل رَبُّ السَّلَمِ مَالَهُ الْمَوْجُودَ فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ رَأْسُ مَال السَّلَمِ، فَهَل يَصِحُّ ذَلِكَ، وَيَنُوبُ الْقَبْضُ السَّابِقُ لِلْعَقْدِ مَنَابَ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ فِي مَجْلِسِهِ، أَمْ لاَ يَصِحُّ ذَلِكَ وَيَحْتَاجُ إِلَى قَبْضٍ جَدِيدٍ؟ .
لِلْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلاَنِ: (أَحَدُهُمَا) لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ قَبْضَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ السَّابِقِ لِلْعَيْنِ الْمَجْعُولَةِ رَأْسَ مَال السَّلَمِ يَنُوبُ عَنِ
__________
(1) إعلام الموقعين 2 / 9.(25/205)
الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً أَمْ مَضْمُونَةً، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ (1) .
(وَالثَّانِي) لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَنُوبُ الْقَبْضُ السَّابِقُ لِرَأْسِ مَال السَّلَمِ عَنِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ إِذَا كَانَتْ يَدُ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ عَلَيْهِ يَدَ ضَمَانٍ لاَ يَدَ أَمَانَةٍ، لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ الْقَبْضُ الْبَدِيل مِثْلُهُ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ أَمْكَنَ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ. أَمَّا إِذَا كَانَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً - كَيَدِ الْوَكِيل وَالْوَدِيعِ وَالشَّرِيكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - فَإِنَّ الْقَبْضَ السَّابِقَ لاَ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ لِيَصِحَّ عَقْدُ السَّلَمِ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (قَبْض) .
ج - شُرُوطُ الْمُسْلَمِ فِيهِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ دَيْنًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ:
20 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ دَيْنًا مَوْصُوفًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ إِذَا جُعِل الْمُسْلَمُ فِيهِ شَيْئًا
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 221، كشاف القناع 3 / 291.
(2) (مجمع الضمانات البغدادي ص 217، الفتاوى الطرطوسية ص 253، بدائع الصنائع 5 / 248.(25/206)
مُعَيَّنًا بِذَاتِهِ (1) ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مُنَاقِضٌ لِلْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ، إِذْ هُوَ مَوْضُوعٌ لِبَيْعِ شَيْءٍ فِي الذِّمَّةِ بِثَمَنٍ مُعَجَّلٍ، وَمُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْمُسْلَمِ فِيهِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، وَمَحَلُّهُ ذِمَّةُ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ. فَإِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مُعَيَّنًا تَعَلَّقَ حَقُّ رَبِّ السَّلَمِ بِذَاتِهِ، وَكَانَ مَحَل الاِلْتِزَامِ ذَلِكَ الشَّيْءَ الْمُعَيَّنَ، لاَ ذِمَّةَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ تَعْيِينُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ.
وَبِالإِْضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا التَّعْيِينَ يَجْعَل السَّلَمَ مِنْ عُقُودِ الْغَرَرِ؛ إِذْ يَنْشَأُ عَنْهُ غُرَرُ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَنْفِيذِ الْعَقْدِ فَلاَ يُدْرَى أَيَتِمُّ هَذَا الْعَقْدُ أَمْ يَنْفَسِخُ، حَيْثُ إِنَّ مِنَ الْمُحْتَمَل أَنْ يَهْلِكَ ذَلِكَ الشَّيْءُ الْمُعَيَّنُ قَبْل حُلُول وَقْتِ أَدَائِهِ، فَيَسْتَحِيل تَنْفِيذُهُ.
وَالْغَرَرُ مُفْسِدٌ لِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَمُقَرَّرٌ. وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا لَوْ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ، فَإِنَّ الْوَفَاءَ يَكُونُ بِأَدَاءِ أَيَّةِ عَيْنٍ تَتَحَقَّقُ فِيهَا الأَْوْصَافُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، وَلاَ يَتَعَذَّرُ تَنْفِيذُ الْعَقْدِ لَوْ تَلِفَ
__________
(1) الهداية مع فتح القدير والعناية (الميمنية 1319 هـ) 6 / 219، القوانين الفقهية (ط - الدار العربية للكتاب) ص 274، مواهب الجليل 4 / 534، بداية المجتهد 2 / 230، روضة الطالبين 4 / 6، نهاية المحتاج 4 / 183.(25/206)
الْمُسْلَمُ فِيهِ قَبْل تَسْلِيمِهِ؛ إِذْ يَسَعُهُ الاِنْتِقَال عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ أَمْثَالِهِ (1) .
وَقَدْ رَتَّبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَضَمُّنِ السَّلَمِ غَرَرًا إِذَا عَيَّنَ الْمُسْلَمَ فِيهِ أَيْلُولَةَ الْعَقْدِ إِلَى السَّلَفِ الَّذِي يَجُرُّ نَفْعًا. فَقَال الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْمُمَهِّدَاتِ ": " وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزِ السَّلَمُ فِي الدُّورِ وَالأَْرَضِينَ؛ لأَِنَّ السَّلَمَ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِصِفَةٍ، وَلاَ بُدَّ فِي صِفَةِ الدُّورِ وَالأَْرَضِينَ مِنْ ذِكْرِ مَوْضِعِهَا، وَإِذَا ذَكَرَ مَوْضِعَهَا تَعَيَّنَتْ، فَصَارَ السَّلَمُ فِيهَا كَمَنِ ابْتَاعَ مِنْ رَجُلٍ دَارَ فُلاَنٍ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّصَهَا لَهُ مِنْهُ، وَذَلِكَ مِنَ الْغَرَرِ الَّذِي لاَ يَحِل وَلاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَدْرِي بِكَمْ يَتَخَلَّصُهَا مِنْهُ، وَرُبَّمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّصَهَا مِنْهُ، وَمَتَى لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّصَهَا مِنْهُ رَدَّ إِلَيْهِ رَأْسَ مَالِهِ، فَصَارَ مَرَّةً بَيْعًا وَمَرَّةً سَلَفًا، وَذَلِكَ سَلَفٌ جَرَّ نَفْعًا " (2) .
كَمَا بَنَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مَنْعَ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مُعَيَّنًا عَلَى أَسَاسِ أَنَّ السَّلَمَ إِنَّمَا جَازَ شَرْعًا عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَإِذْ عَيَّنَ الْمُسْلَمَ فِيهِ، فَيُمْكِنُ عِنْدَئِذٍ بَيْعُهُ فِي الْحَال،
__________
(1) كشاف القناع 3 / 292، أسنى المطالب 2 / 124، 130.
(2) المقدمات الممهدات ص 516.(25/207)
وَلاَ يَكُونُ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلَى السَّلَمِ، فَيَنْسَحِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ الأَْصْلِيُّ وَهُوَ عَدَمُ الْمَشْرُوعِيَّةِ (1) .
وَلَعَل الْمُسْتَنَدَ النَّصِّيَّ لِوُجُوبِ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ دَيْنًا مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ، وَعَدَمُ جَوَازِ السَّلَمِ إِذَا تَعَيَّنَ مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ قَال جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنَّ بَنِي فُلاَنٍ أَسْلَمُوا (لِقَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ) وَإِنَّهُمْ قَدْ جَاءُوا، فَأَخَافُ أَنْ يَرْتَدُّوا. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ عِنْدَهُ؟ فَقَال رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ: عِنْدِي كَذَا وَكَذَا (لِشَيْءٍ قَدْ سَمَّاهُ) أُرَاهُ قَال: ثَلاَثُمِائَةِ دِينَارٍ، بِسِعْرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلاَنٍ. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِسِعْرِ كَذَا وَكَذَا، إِلَى أَجَل كَذَا وَكَذَا، وَلَيْسَ مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلاَنٍ (2) .
21 - وَبِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُسْلَمًا فِيهِ مِنَ الأَْمْوَال هُوَ الْمِثْلِيَّاتُ كَالْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَذْرُوعَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 292، شرح منتهى الإرادات 2 / 221.
(2) حديث عبد الله بن سلام: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن بني فلان أسلموا. . . . أخرجه ابن ماجه (2 / 766 - ط الحلبي) ، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 24 - ط دار الجنان) .(25/207)
الْمُتَقَارِبَةِ، وَالْقِيمِيَّاتِ الَّتِي تَقْبَل الاِنْضِبَاطَ بِالْوَصْفِ (1) .
قَال الشِّيرَازِيُّ فِي (الْمُهَذَّبِ) : (وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي كُل مَالٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَتُضْبَطُ صِفَاتُهُ كَالأَْثْمَانِ وَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالأَْصْوَافِ وَالأَْشْعَارِ وَالأَْخْشَابِ وَالأَْحْجَارِ وَالطِّينِ وَالْفَخَّارِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالْبَلُّورِ وَالزُّجَاجِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْمْوَال الَّتِي تُبَاعُ وَتُضْبَطُ بِالصِّفَاتِ) (2) .
أَمَّا مَا لاَ يُمْكِنُ ضَبْطُ صِفَاتِهِ مِنَ الأَْمْوَال فَلاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْمُشَاقَّةِ، وَعَدَمُهَا مَطْلُوبٌ شَرْعًا (3) .
وَعَلَى هَذَا فَقَدْ نَصَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي النُّقُودِ - عَلَى أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال مِنْ غَيْرِهَا
__________
(1) البحر الرائق 6 / 169، شرح منتهى الإرادات 2 / 214، 215، أسنى المطالب 2 / 128، فتح العزيز 9 / 268، الهداية مع فتح القدير والعناية 6 / 206، 207، كشاف القناع 3 / 276 وما بعدها، الخرشي 5 / 212 وما بعدها، الإفصاح1 / 363، بداية المجتهد 2 / 229، رد المحتار 4 / 203، المغني 4 / 318، 320.
(2) المهذب 1 / 304.
(3) أسنى المطالب 2 / 130، كشاف القناع 3 / 276، نهاية المحتاج 4 / 195، وبدائع الصنائع 5 / 208.(25/208)
لِئَلاَّ يُفْضِيَ ذَلِكَ إِلَى رِبَا النَّسَاءِ (1) - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: " لأَِنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ صَدَاقًا، فَتَثْبُتُ سَلَمًا كَالْعُرُوضِ، وَلأَِنَّهُ لاَ رِبَا بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ التَّفَاضُل وَلاَ النَّسَاءُ (2) ، فَصَحَّ إِسْلاَمُ أَحَدِهِمَا فِي الآْخَرِ كَالْعَرَضِ فِي الْعَرَضِ " (3) .
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ (4) وَهِيَ مِنَ الْمَوْزُونَاتِ، وَبِأَنَّ كُل مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُسْلَمًا فِيهِ؛ وَلأَِنَّ ضَبْطَهَا بِالصِّفَةِ مُمْكِنٌ بِذِكْرِ نَوْعِ فِضَّتِهَا أَوْ ذَهَبِهَا وَسِكَّتِهَا وَوَزْنِهَا. فَانْتَفَى كُل مَانِعٍ، وَتَوَفَّرَ مَنَاطُ الْجَوَازِ (5) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَقَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ نَقْدًا؛ لأَِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُثَمَّنًا، وَالنُّقُودُ أَثْمَانٌ، فَلاَ تَكُونُ مُسْلَمًا فِيهَا (6) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 215، كشاف القناع 3 / 278، المقدمات الممهدات ص 519 أسنى المطالب 2 / 137، الخرشي 5 / 206، منح الجليل 3 / 11، كفاية الطالب الرباني وحاشية العدوي عليها 2 / 163.
(2) لكون رأس المال عرضا غير نقد.
(3) المغني 4 / 332.
(4) حديث: " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم ". تقدم تخريجه ف6.
(5) الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب البغدادي 1 / 281.
(6) رد المحتار 4 / 203، الهداية وفتح القدير والعناية 6 / 206.(25/208)
وَقَدِ احْتَجَّ الْكَاسَانِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ " أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ " فَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ، لِمَا رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الإِْنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ (1) ، سُمِّيَ السَّلَمُ بَيْعًا، فَكَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَبِيعًا، وَالْمَبِيعُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لاَ تَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، فَلَمْ تَكُنْ مَبِيعَةً، فَلاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا " (2) .
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَعُدُّونَ الْمَذْرُوعَاتِ الْمُتَمَاثِلَةَ الآْحَادِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةَ أَوِ الْمُتَسَاوِيَةَ مِنْ جُمْلَةِ الْمِثْلِيَّاتِ الَّتِي تَقْبَل الثُّبُوتَ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا فِي عَقْدِ السَّلَمِ، وَيَصِحُّ كَوْنُهَا مُسْلَمًا فِيهَا قِيَاسًا عَلَى الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ الَّتِي نَصَّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِيهَا؛ لِلْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَهُمَا وَهِيَ رَفْعُ الْجَهَالَةِ بِالْمِقْدَارِ؛ لأَِنَّ الْقَصْدَ مِنَ التَّقْدِيرِ هُوَ رَفْعُ الْجَهَالَةِ وَإِمْكَانُ
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم ". قال الزيلعي في نصب الراية (4 / 45 - ط المجلس العلمي) : " غريب بهذا اللفظ ". ثم ذكر أنه مركب من معنى حديثين، وقد تقدما في هذا البحث.
(2) بدائع الصنائع 5 / 212.(25/209)
التَّسْلِيمِ بِلاَ نِزَاعٍ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِالْعَدِّ وَالذَّرْعِ فِيمَا يُقَدَّرُ بِالْوَحَدَاتِ الْقِيَاسِيَّةِ الطُّولِيَّةِ أَوْ بِالْعَدَدِ كَمَا هُوَ حَاصِلٌ بِالْوَزْنِ أَوْ بِالْحَجْمِ فِيمَا يُقَدَّرُ بِالْوَزْنِ أَوِ الْكَيْل. قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: فَإِنْ قِيل: لِمَ خَصَّ فِي الْحَدِيثِ الْكَيْل وَالْوَزْنَ؟ أُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ لِغَلَبَتِهِمَا وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى غَيْرِهِمَا (1) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَعْلُومًا:
22 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَعْلُومًا مُبَيَّنًا بِمَا يَرْفَعُ الْجَهَالَةَ عَنْهُ وَيَسُدُّ الأَْبْوَابَ إِلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ تَسْلِيمِهِ، لأَِنَّهُ بَدَلٌ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي سَائِرِ عُقُودِ الْمُبَادَلاَتِ الْمَالِيَّةِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ بِذَاتِهِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ أَنْ يَنُصَّ فِي عَقْدِ السَّلَمِ عَلَى جِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، بِأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ حِنْطَةٌ أَوْ شَعِيرٌ أَوْ تَمْرٌ أَوْ زَيْتٌ. . وَعَلَى نَوْعِهِ إِنْ كَانَ لِلْجِنْسِ الْوَاحِدِ أَكْثَرُ مِنْ نَوْعٍ، بِأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الرُّزَّ مِنَ النَّوْعِ الأَْمْرِيكِيِّ أَوِ الْبِشَاوَرِيِّ وَنَحْوِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 108.(25/209)
ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ لِلْجِنْسِ نَوْعٌ وَاحِدٌ فَلاَ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ النَّوْعِ (1) .
كَمَا اشْتَرَطُوا بَيَانَ قَدْرِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ (2) . . وَبَيَانُ الْقَدْرِ يَتَحَقَّقُ بِكُل وَسِيلَةٍ تَرْفَعُ الْجَهَالَةَ عَنِ الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ تَسْلِيمُهُ، وَتُضْبَطُ الْكَمِّيَّةُ الثَّابِتَةُ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا بِصُورَةٍ لاَ تَدَعُ مَجَالاً لِلْمُنَازَعَةِ عِنْدَ الْوَفَاءِ (3) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي (الْمُغْنِي) : (وَيَجِبُ أَنْ يُقَدِّرَهُ بِمِكْيَالٍ أَوْ أَرْطَالٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ الْعَامَّةِ) .
فَإِنْ قَدَّرَهُ بِإِنَاءٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ أَوْ صَنْجَةٍ مُعَيَّنَةٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَهْلِكُ فَيَتَعَذَّرُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ. وَهَذَا غَرَرٌ لاَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَقْدُ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: " أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ عَلَى أَنَّ السَّلَمَ فِي
__________
(1) البدائع 5 / 207، شرح منتهى الإرادات 2 / 216، الخرشي 5 / 213، بداية المجتهد 2 / 230، المغني 4 / 310.
(2) حديث: " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم ". تقدم تخريجه ف6.
(3) (المغني 4 / 318، نهاية المحتاج 4 / 190، شرح منتهى الإرادات 2 / 218، بداية المجتهد 2 / 229.(25/210)
الطَّعَامِ لاَ يَجُوزُ بِقَفِيزٍ لاَ يُعْلَمُ عِيَارُهُ، وَلاَ فِي ثَوْبٍ بِذَرْعِ فُلاَنٍ؛ لأَِنَّ الْمِعْيَارَ لَوْ تَلِفَ أَوْ مَاتَ فُلاَنٌ بَطَل السَّلَمُ.
وَإِنْ عَيَّنَ مِكْيَال رَجُلٍ أَوْ مِيزَانَهُ، وَكَانَا مَعْرُوفَيْنِ عِنْدَ الْعَامَّةِ جَازَ، وَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِمَا. وَإِنْ لَمْ يُعْرَفَا لَمْ يَجُزْ " (1) .
هَذَا وَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ رَجَّحَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (2) لاَ يَرَوْنَ بَأْسًا فِي اتِّفَاقِ الْعَاقِدَيْنِ عَلَى تَحْدِيدِ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِأَيَّةِ وَحْدَةٍ قِيَاسِيَّةٍ عُرْفِيَّةٍ تَضْبِطُهُ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ الْمُسْتَعْمَلَةِ لِتَحْدِيدِهِ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ بِمَا يَنْفِي عَنْهُ الْجَهَالَةَ وَالْغَرَرَ، وَإِمْكَانُ تَسْلِيمِهِ مِنْ غَيْرِ تَنَازُعٍ، وَالْعِلْمُ بِالْقَدْرِ يُمْكِنُ حُصُولُهُ بِأَيَّةِ وَحْدَةٍ قِيَاسِيَّةٍ عُرْفِيَّةٍ مُنْضَبِطَةٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ قَدَّرَاهُ بِأَيِّ قَدْرٍ جَازَ " (3) ، وَيُفَارِقُ بَيْعَ الرِّبَوِيَّاتِ، فَإِنَّ التَّمَاثُل فِيهَا فِي الْمَكِيل كَيْلاً وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا شَرْطٌ، وَلاَ يُعْلَمُ هَذَا الشَّرْطُ إِذَا قَدَّرَهَا بِغَيْرِ مِقْدَارِهَا الأَْصْلِيِّ (4) .
__________
(1) المغني 4 / 318، وبدائع الصنائع 5 / 207.
(2) اختار هذه الرواية من الحنابلة موفق الدين ابن قدامة في المغني وابن عبدوس في تذكرته وجزم بها في الوجيز والمنور ومنتخب الأزجي. (انظر كشاف القناع 3 / 285، المغني 4 / 318) .
(3) نهاية المحتاج 4 / 191، بدائع الصنائع 5 / 208، المغني 4 / 318، المهذب 1 / 306.
(4) المغني 4 / 319.(25/210)
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي مَذْهَبِهِمْ، وَقَالُوا: لاَ يَصِحُّ سَلَمٌ فِي مَكِيلٍ وَزْنًا، وَلاَ فِي مَوْزُونٍ كَيْلاً، " لأَِنَّهُ مَبِيعٌ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ مَا هُوَ مُقَدَّرٌ بِهِ فِي الأَْصْل، كَبَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَلأَِنَّهُ قَدَّرَهُ بِغَيْرِ مَا هُوَ مُقَدَّرٌ بِهِ فِي الأَْصْل، فَلَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي مَذْرُوعٍ وَزْنًا " (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْعِبْرَةُ بِعُرْفِ أَهْل الْبَلَدِ الَّذِي جَرَى فِيهِ السَّلَمُ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يُضْبَطَ الْمُسْلَمُ فِيهِ بِالْوَحْدَةِ الْقِيَاسِيَّةِ الَّتِي تَعَارَفَ أَهْل الْبَلَدِ وَقْتَ الْعَقْدِ عَلَى تَقْدِيرِهِ بِهَا؛ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ فِي تَقْدِيرِهِ عِنْدَ الْوَفَاءِ. قَال الْخَرَشِيُّ: " يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ مَضْبُوطًا بِعَادَةِ بَلَدِ الْعَقْدِ، مِنْ كَيْلٍ فِيمَا يُكَال كَالْحِنْطَةِ، أَوْ وَزْنٍ كَاللَّحْمِ وَنَحْوِهِ، أَوْ عَدَدٍ كَالرُّمَّانِ وَالتُّفَّاحِ فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ " (2) .
وَبَيَانُ مِقْدَارِ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ إِنَّمَا يَجْرِي فِي الْمِثْلِيَّاتِ الَّتِي تَخْضَعُ أَنْوَاعُهَا لِلْوَحَدَاتِ الْقِيَاسِيَّةِ الْعُرْفِيَّةِ، وَهِيَ الْوَزْنُ أَوِ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 218، وانظر كشاف القناع 3 / 285.
(2) التاج والإكليل 4 / 530، الخرشي على خليل 5 / 212.(25/211)
الْحَجْمُ أَوِ الطُّول أَوِ الْعَدُّ. . أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ آحَادُهَا وَتَتَفَاوَتُ أَفْرَادُهَا بِحَيْثُ لاَ تَقْبَل التَّقْدِيرَ بِتِلْكَ الْوَحَدَاتِ الْقِيَاسِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ صِفَاتُهَا قَابِلَةً لِلاِنْضِبَاطِ، فَعِنْدَئِذٍ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا بِشَرْطِ بَيَانِ صِفَاتِهَا الَّتِي تَتَفَاوَتُ فِيهَا الرَّغَبَاتُ وَيَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِتَفَاوُتِهَا اخْتِلاَفًا ظَاهِرًا. قَال ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: " وَيَنْبَغِي أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِي السَّلَمِ يَكُونُ بِالْوَزْنِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْوَزْنُ وَبِالْكَيْل فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْكَيْل، وَبِالذَّرْعِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الذَّرْعُ، وَبِالْعَدَدِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْعَدَدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدُ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ انْضَبَطَ بِالصِّفَاتِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الْجِنْسِ، مَعَ ذِكْرِ النَّوْعِ إِنْ كَانَ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً، أَوْ مَعَ تَرْكِهِ إِنْ كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا " (1) .
وَلاَ يَجِبُ اسْتِقْصَاءُ كُل الصِّفَاتِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ، وَقَدْ يَنْتَهِي الْحَال فِيهَا إِلَى أَمْرٍ يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ. إِذْ يَبْعُدُ وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ الْمَحِل بِتِلْكَ الصِّفَاتِ كُلِّهَا، فَيَجِبُ الاِكْتِفَاءُ بِالأَْوْصَافِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِهَا غَالِبًا. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْخَرَشِيُّ بِقَوْلِهِ: " أَنْ تُبَيَّنَ أَوْصَافُ الْمُسْلَمِ فِيهِ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 230.(25/211)
الَّتِي تَخْتَلِفُ بِهَا قِيمَتُهُ عِنْدَ الْمُتَبَايِعَيْنِ اخْتِلاَفًا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ عَادَةً ". وَنَقَل الْحَطَّابُ عَنْ صَاحِبِ الشَّامِل " وَأَنْ تُبَيَّنَ صِفَاتُهُ الْمَعْلُومَةُ لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمُسْلَمِ فِيهِ تَخْتَلِفُ بِهَا عَادَةً أَوْ تَخْتَلِفُ الأَْغْرَاضُ بِسَبَبِهَا " (1) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مُؤَجَّلاً:
23 - اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِصِحَّةِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمَ فِيهِ مُؤَجَّلاً فَلاَ يَصِحُّ السَّلَمُ الْحَال (2) ، وَحُجَّتُهُمْ فِي اشْتِرَاطِ الأَْجَل: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (3) فَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالأَْجَل فِي السَّلَمِ، وَأَمْرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، فَيَكُونُ الأَْجَل مِنْ جُمْلَةِ
__________
(1) المغني 4 / 311، شرح الخرشي 5 / 213، مواهب الجليل 4 / 531.
(2) القوانين الفقهية ص 274، البدائع 5 / 212، المقدمات الممهدات ص 515، المغني 4 / 321، كفاية الطالب الرباني 2 / 163، البحر الرائق 6 / 174، المنتقى للباجي 4 / 297، الهادية مع فتح القدير والعناية 6 / 217، شرح منتهى الإرادات 2 / 218.
(3) حديث: " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم. . . ". تقدم تخريجه ف6.(25/212)
شُرُوطِ صِحَّةِ السَّلَمِ، فَلاَ يَصِحُّ بِدُونِهِ.
وَلأَِنَّ السَّلَمَ جُوِّزَ رُخْصَةً لِلرِّفْقِ، وَلاَ يَحْصُل الرِّفْقُ إِلاَّ بِالأَْجَل، فَإِذَا انْتَفَى الأَْجَل انْتَفَى الرِّفْقُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُسْلِفَ يَرْغَبُ فِي تَقْدِيمِ الثَّمَنِ لاِسْتِرْخَاصِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَالْمُسْلَمُ إِلَيْهِ يَرْغَبُ فِيهِ لِمَوْضِعِ النَّسِيئَةِ، وَإِذَا لَمْ يُشْتَرَطِ الأَْجَل زَال هَذَا الْمَعْنَى (1) .
قَال الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: " وَلأَِنَّ السَّلَمَ مَعْنَاهُ السَّلَفُ، وَهُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ رَأْسُ الْمَال وَيَتَأَخَّرَ الْمُسْلَمُ فِيهِ، فَوَجَبَ مَنْعُ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ ذَلِكَ " (2) .
وَلأَِنَّ السَّلَمَ الْحَال يُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، لأَِنَّ السَّلَمَ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ عَاجِزًا عَنْ تَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَرَبُّ السَّلَمِ يُطَالِبُ بِالتَّسْلِيمِ، فَيَتَنَازَعَانِ عَلَى وَجْهٍ تَقَعُ فِيهِ الْحَاجَةُ إِلَى الْفَسْخِ. وَفِيهِ إِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِرَبِّ السَّلَمِ؛ لأَِنَّهُ سَلَّمَ رَأْسَ الْمَال إِلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ وَصَرَفَهُ فِي حَاجَتِهِ، فَلاَ يَصِل إِلَى الْمُسْلَمِ فِيهِ وَلاَ إِلَى رَأْسِ الْمَال، فَشُرِطَ الأَْجَل حَتَّى لاَ يَمْلِكَ الْمُطَالَبَةَ إِلاَّ بَعْدَ حُلُول الأَْجَل، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ
__________
(1) الإشراف على مسائل الخلاف 1 / 280، وانظر المغني 4 / 321.
(2) بداية المجتهد 2 / 228.(25/212)
ظَاهِرًا، فَلاَ يُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْفَسْخِ وَالإِْضْرَارِ بِرَبِّ السَّلَمِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ السَّلَمِ الْحَال كَمَا هُوَ جَائِزٌ مُؤَجَّلاً، وَحُجَّتُهُمْ عَلَى صِحَّةِ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ حَالًّا، الْقِيَاسُ الأَْوْلَوِيُّ عَلَى السَّلَمِ الْمُؤَجَّل (2) ، قَال الشِّيرَازِيُّ: " لأَِنَّهُ إِذَا جَازَ مُؤَجَّلاً، فَلأََنْ يَجُوزَ حَالًّا، وَهُوَ عَنِ الْغَرَرِ أَبْعَدُ، أَوْلَى " (3) . وَمُرَادُهُمْ أَنَّ فِي الأَْجَل ضَرْبًا مِنَ الْغَرَرِ؛ إِذْ رُبَّمَا يَقْدِرُ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ عَلَى تَسْلِيمِهِ فِي الْحَال، وَيَعْجِزُ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل. فَإِذَا جَازَ السَّلَمُ مُؤَجَّلاً، فَهُوَ حَالًّا أَحْرَى بِالْجَوَازِ؛ لأَِنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الْغَرَرِ.
قَال الشَّافِعِيُّ فِي (الأُْمِّ) : " فَإِذَا أَجَازَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الطَّعَامِ بِصِفَةٍ إِلَى أَجَلٍ، كَانَ بَيْعُ الطَّعَامِ بِصِفَةٍ حَالًّا أَجْوَزَ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَيْعِ مَعْنًى إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِصِفَةٍ مَضْمُونًا عَلَى صَاحِبِهِ، فَإِذَا ضَمِنَ مُؤَخَّرًا ضَمِنَ مُعَجَّلاً، وَكَانَ مُعَجَّلاً أَضْمَنَ مِنْهُ مُؤَخَّرًا، وَالأَْعْجَل أَخْرَجُ مِنْ مَعْنَى الْغَرَرِ، وَهُوَ مُجَامِعٌ لَهُ فِي أَنَّهُ مَضْمُونٌ لَهُ عَلَى بَائِعِهِ بِصِفَةٍ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 212.
(2) نهاية المحتاج 4 / 185، أسنى المطالب 2 / 124، فتح العزيز 9 / 226، روضة الطالبين 4 / 7.
(3) المهذب 1 / 304.
(4) الأم 3 / 95 (تصحيح محمد زهري النجار) .(25/213)
أَقَل مُدَّةِ الأَْجَل فِي السَّلَمِ:
24 - مَعَ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ - عَدَا الشَّافِعِيَّةَ - اتَّفَقُوا لِصِحَّةِ السَّلَمِ عَلَى وُجُوبِ كَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مُؤَجَّلاً، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ الأَْجَل الأَْدْنَى الَّذِي لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ بِأَقَل مِنْهُ وَذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ:
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ تَقْدِيرَ الأَْجَل إِلَى الْعَاقِدَيْنِ حَتَّى لَوْ قَدَّرَا نِصْفَ يَوْمٍ جَازَ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: أَقَلُّهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، قِيَاسًا عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَ بِالشَّهْرِ قَال فِي الْبَدَائِعِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ (لأَِنَّ الأَْجَل إِنَّمَا شُرِطَ فِي السَّلَمِ تَرْفِيهًا وَتَيْسِيرًا عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الاِكْتِسَابِ فِي الْمُدَّةِ. وَالشَّهْرُ مُدَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنَ الاِكْتِسَابِ، فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى التَّرْفِيهِ. فَأَمَّا مَا دُونَهُ فَفِي حَدِّ الْقِلَّةِ، فَكَانَ لَهُ حُكْمُ الْحُلُول) (1) .
ب - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ أَقَلَّهُ مَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الأَْسْوَاقُ،
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 213، وانظر فتح القدير (الميمنية 1319 هـ) 6 / 219، رد المحتار 4 / 206.(25/213)
كَالْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَنَحْوِهَا. وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ (1) .
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ يُجَوِّزُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ، وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لاَ بَأْسَ بِهِ إِلَى الْيَوْمِ الْوَاحِدِ (2) .
قَال الْبَاجِيُّ - بَعْدَ عَرْضِ هَذِهِ الأَْقْوَال - " إِذَا ثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ، فَاَلَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ إِنَّ تَغَيُّرَ الأَْسْوَاقِ فِي ذَلِكَ لاَ يَخْتَصُّ بِمُدَّةٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى حَسَبِ عُرْفِ الْبِلاَدِ. وَمَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَر، إِنَّمَا قَدَّرَ عَلَى عُرْفِ بَلَدِهِ. وَتَقْدِيرُ ابْنِ الْقَاسِمِ ذَلِكَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ عِشْرِينَ أَظْهَرُ، لأَِنَّ هَذَا عُرْفُ الْبِلاَدِ، وَمُقْتَضَى مَا عُلِمَ مِنْ أَسْوَاقِهَا، فَإِنَّهُ يَغْلِبُ تَغَيُّرُهَا فِي مِثْل هَذِهِ الْمُدَّةِ " (3) .
ج - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مِنْ شَرْطِ الأَْجَل أَنْ
__________
(1) شرح الخرشي 5 / 210، القوانين الفقهية ص 274، بداية المجتهد 2 / 228، المقدمات الممهدات ص 517.
(2) بداية المجتهد 2 / 228، المنتقى للباجي 4 / 297، وقد ذكر الباجي وابن رشد أن محل هذا الخلاف عند المالكية فيما إذا كان قضاء المسلم فيه البلد الذي عقد فيه السلم. أما إذا كان المسلم فيه يقتضى بغير بلد السلم، فإن أدنى الأجل عندهم هو مدة قطع المسافة التي بين البلدين قلت أو كثرت. وانظر شرح الخرشي 5 / 211.
(3) المنتقى للباجي 4 / 298.(25/214)
يَكُونَ مُدَّةً لَهَا وَقْعٌ فِي الثَّمَنِ عَادَةً، كَالشَّهْرِ وَمَا قَارَبَهُ؛ لأَِنَّ الأَْجَل إِنَّمَا اعْتُبِرَ لِتَحْقِيقِ الرِّفْقِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ شُرِعَ السَّلَمُ، وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ بِالْمُدَّةِ الَّتِي لاَ أَثَرَ لَهَا فِي الثَّمَنِ (1) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الأَْجَل مَعْلُومًا:
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَعْلُومِيَّةَ الأَْجَل الَّذِي يُوَفَّى فِيهِ الْمُسْلَمُ فِيهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ السَّلَمِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (2) فَقَدْ أَوْجَبَ مَعْلُومِيَّةَ الأَْجَل (3) .
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ " إِنْ كَانَ الأَْجَل مَجْهُولاً فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً أَوْ مُتَقَارِبَةً؛ لأَِنَّ كُل ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَلأَِنَّ جَهَالَةَ الأَْجَل مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ، كَجَهَالَةِ الْقَدْرِ " (4) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 218، المغني 4 / 323، كشاف القناع 3 / 285.
(2) حديث: " من أسلف فليسلف في كيل معلوم. . . . ". تقدم تخريجه ف 6.
(3) الخرشي 5 / 210، المغني 4 / 321، شرح منتهى الإرادات 2 / 218، القوانين الفقهية ص 274 (ط - الدار العربية للكتاب) ، المقدمات الممهدات ص 515، نهاية المحتاج 4 / 186، الهداية مع فتح القدير والعناية 6 / 218، روضة الطالبين 4 / 7.
(4) بدائع الصنائع 5 / 213.(25/214)
وَيَتِمُّ الْعِلْمُ بِالأَْجَل بِتَقْدِيرِ مُدَّتِهِ بِالأَْهِلَّةِ نَحْوِ أَوَّل شَهْرِ رَجَبٍ أَوْ أَوْسَطِ مُحَرَّمٍ أَوْ يَوْمٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ، أَوْ بِتَحْدِيدِهِ بِالشُّهُورِ الشَّمْسِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَشْهُورَةِ بَيْنَهُمْ مِثْل أَوَّل شُبَاطَ وَآخِرُ آذَارَ أَوْ يَوْمٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ. أَوْ بِتَحْدِيدِ وَقْتِ مَحِل الْمُسْلَمِ فِيهِ، كَأَنْ يُقَال: بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ سَنَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
وَيُنْظَرُ صُوَرُ مَعْلُومِيَّةِ الأَْجَل فِي مُصْطَلَحِ (أَجَل ف 71 - 80) .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ عِنْدَ مَحِلِّهِ:
26 - وَمُقْتَضَى هَذَا الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِمَّا يَغْلِبُ وُجُودُهُ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل، وَهَذَا شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِصِحَّةِ السَّلَمِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَاجِبُ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الأَْجَل، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمُهُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ حِينَذَاكَ، وَإِلاَّ كَانَ مِنَ الْغَرَرِ الْمَمْنُوعِ (2) .
__________
(1) المغني 4 / 324، نهاية المحتاج 4 / 187، روضة الطالبين 4 / 8.
(2) فتح العزيز 9 / 243، كشاف القناع 3 / 290، كفاية الطالب الرباني 2 / 162، المحلى 9 / 114، روضة الطالبين 4 / 11، شرح الخرشي 5 / 218، الهداية مع فتح القدير والعناية 6 / 213، المنتقى للباجي 4 / 300، المهذب 1 / 305.(25/215)
فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ فِي ثَمَرٍ إِلَى أَجَلٍ لاَ يَعْلَمُ وُجُودَ ذَلِكَ الثَّمَرِ فِيهِ، أَوْ لاَ يُوجَدُ فِيهِ إِلاَّ نَادِرًا، كَمَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ فِي ثِمَارِ نَخْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ ثِمَارِ بُسْتَانٍ بِعَيْنِهِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي (الْمُغْنِي) : " الشَّرْطُ الْخَامِسُ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَامَّ الْوُجُودِ فِي مَحِلِّهِ، وَلاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَمْكَنَ تَسْلِيمُهُ عِنْدَ الأَْجَل، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَامَّ الْوُجُودِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمَحِل بِحُكْمِ الظَّاهِرِ، فَلَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهُ ".
فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ، كَبَيْعِ الآْبِقِ، بَل أَوْلَى. فَإِنَّ السَّلَمَ احْتُمِل فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْغَرَرِ لِلْحَاجَةِ. فَلاَ يُحْتَمَل فِيهِ غَرَرٌ آخَرُ؛ لِئَلاَّ يَكْثُرَ الْغَرَرُ فِيهِ " (1) .
27 - أَمَّا وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَلَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ السَّلَمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْمَعْدُومِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَفِيمَا يَنْقَطِعُ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ قَبْل حُلُول الأَْجَل (2) .
__________
(1) المغني 4 / 325.
(2) فتح العزيز 9 / 245، المنتقى للباجي 4 / 300، المغني 4 / 326، شرح منتهى الإرادات 2 / 220 المقدمات الممهدات ص 513، القوانين الفقهية ص 274، بداية المجتهد 2 / 229، الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1 / 279.(25/215)
وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَالنَّاسُ يُسْلِفُونَ فِي الثَّمَرِ الْعَامَ وَالْعَامَيْنِ، فَقَال: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (1) . فَلَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَذَكَرَهُ وَلَنَهَاهُمْ عَنِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثِ؛ لأَِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الثَّمَرَ لاَ يَبْقَى طُول هَذِهِ الْمُدَّةِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ التَّسْلِيمَ قَبْل حُلُول الأَْجَل غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، فَلاَ يَلْزَمُ وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ؛ إِذْ لاَ فَائِدَةَ لِوُجُودِهِ حِينَئِذٍ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَقَالُوا بِعَدَمِ صِحَّةِ السَّلَمِ إِلاَّ فِيمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الأَْسْوَاقِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى مَحِل الأَْجَل دُونَ انْقِطَاعٍ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بِأَنَّ الأَْجَل يَبْطُل بِمَوْتِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، وَيَجِبُ أَخْذُ الْمُسْلَمِ
__________
(1) الحديث الذي رواه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة. . . . . تقدم تخريجه ف6.
(2) الهداية مع فتح القدير والعناية 6 / 213، المغني 4 / 326، البحر الرائق 6 / 172، وبدائع الصنائع 5 / 211.(25/216)
فِيهِ مِنْ تَرِكَتِهِ. فَاشْتُرِطَ لِذَلِكَ دَوَامُ وُجُودِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لِتَدُومَ الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، إِذْ لَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ هَذَا الشَّرْطُ، وَمَاتَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْل أَنْ يَحِل الأَْجَل فَرُبَّمَا يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ. فَيَئُول ذَلِكَ إِلَى الْغَرَرِ (1) .
الشَّرْطُ السَّادِسُ: تَعْيِينُ مَكَانِ الإِْيفَاءِ:
28 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ مَكَانِ إِيفَاءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لِصِحَّةِ السَّلَمِ عَلَى أَرْبَعَةِ اتِّجَاهَاتٍ.
أ - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الإِْيفَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلَمِ فِيهِ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ، أَيْ: لاَ يَحْتَاجُ نَقْلُهُ إِلَى كُلْفَةِ وَسِيلَةِ نَقْلٍ وَأُجْرَةِ حَمَّالٍ (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعَ صَاحِبَيْهِ فِي اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ مَكَانِ الإِْيفَاءِ. فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ إِيفَاءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ؛ لأَِنَّ التَّسْلِيمَ غَيْرُ
__________
(1) الدر المختار وحاشية رد المحتار (بولاق 1272 هـ) 4 / 206، البحر الرائق 6 / 172، والمقدمات الممهدات ص 513.
(2) وهذا الحكم لا خلاف فيه بين الإمام والصاحبين، وفي هذه الحالة يكون للمسلم إليه أن يوفيه حيث شاء كما صحح الحصكفي في الدر المختار، وصحح ابن كمال أن الوفاء يكون في مكان العقد. (الدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 207) .(25/216)
وَاجِبٍ فِي الْحَال، فَلاَ يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ مَوْضِعًا لِلتَّسْلِيمِ، فَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ بَقِيَ مَجْهُولاً جَهَالَةً مُفْضِيَةً إِلَى الْمُنَازَعَةِ لاِخْتِلاَفِ الْقِيَمِ بِاخْتِلاَفِ الأَْمَاكِنِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الْبَيَانِ دَفْعًا لِلْمُنَازَعَةِ، وَصَارَ كَجَهَالَةِ الصِّفَةِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِهِ، وَيُسَلِّمُهُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ مَكَانَهُ مَوْضِعُ الاِلْتِزَامِ، فَيَتَعَيَّنُ لإِِيفَاءِ مَا الْتَزَمَهُ فِي ذِمَّتِهِ، كَمَوْضِعِ الاِسْتِقْرَاضِ وَالاِسْتِهْلاَكِ وَكَبَيْعِ الْحِنْطَةِ بِعَيْنِهَا (1) .
ب - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ مَكَانِ الإِْيفَاءِ وَلَكِنَّهُ يُفَضَّل (2) . جَاءَ فِي الْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ لاِبْنِ جُزَيٍّ " الأَْحْسَنُ اشْتِرَاطُ مَكَانِ الدَّفْعِ. . . فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنَا فِي الْعَقْدِ مَكَانًا فَمَكَانُ الْعَقْدِ، وَإِنْ عَيَّنَاهُ تَعَيَّنَ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَهُ بِغَيْرِ الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ، وَيَأْخُذُ كِرَاءَ مَسَافَةِ مَا بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ، لأَِنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الأَْجَلَيْنِ " (3) .
ج - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّهُ
__________
(1) البحر الرائق 6 / 176، رد المحتار 4 / 207، بدائع الصنائع 5 / 213، الهداية مع فتح القدير والعناية 6 / 221 وما بعدها.
(2) بداية المجتهد 2 / 229، المنتقى للباجي 4 / 299، وذلك لزوال التخاصم بين العاقدين، وليكون دخولهما على معلوم ".
(3) القوانين الفقهية ص 275.(25/217)
يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ بَيَانُ مَكَانِ تَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فِيهِ إِذَا كَانَ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لاَ يَصْلُحُ لِلتَّسْلِيمِ كَالصَّحْرَاءِ، أَوْ كَانَ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ. فَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ بِمَكَانٍ يَصْلُحُ لِلتَّسْلِيمِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِحَمْل الْمُسْلَمِ فِيهِ مُؤْنَةٌ فَلاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، وَيَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ بِدَلاَلَةِ الْعُرْفِ. وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مُؤَجَّلاً. أَمَّا السَّلَمُ الْحَال فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ تَعْيِينُ مَكَانِ الْوَفَاءِ، وَيَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ (1) .
قَالُوا: وَوَجْهُ اشْتِرَاطِ تَعْيِينِهِ فِي الْمُؤَجَّل إِذَا كَانَ الْمَكَانُ لاَ يَصْلُحُ لِلتَّسْلِيمِ، اخْتِلاَفُ الأَْغْرَاضِ وَتَفَاوُتُهَا فِي الأَْمْكِنَةِ، فَوَجَبَ بَيَانُهُ كَمَا هُوَ الأَْمْرُ فِي الأَْوْصَافِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ فَلأَِنَّهُ يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِاخْتِلاَفِ الْمَكَانِ الَّذِي سَيُسَلَّمُ فِيهِ، كَالصِّفَاتِ الَّتِي يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِاخْتِلاَفِهَا، بِخِلاَفِ مَا لَيْسَ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ، فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ بَيَانُهُ لأَِنَّهُ لاَ يَخْتَلِفُ ثَمَنُهُ بِاخْتِلاَفِهَا، فَلَمْ يَجِبْ بَيَانُهُ كَالصِّفَاتِ الَّتِي لاَ يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِاخْتِلاَفِهَا (2) .
د - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 128، روضة الطالبين 4 / 12، 13، فتح العزيز 9 / 251 وما بعدها، المهذب 1 / 307.
(2) المهذب 1 / 307، أسنى المطالب 2 / 127.(25/217)
مَكَانِ الإِْيفَاءِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْهُ (1) فَدَل عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ. وَلأَِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُ مَكَانِ الإِْيفَاءِ، كَبُيُوعِ الأَْعْيَانِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لاَ يُمْكِنُ الْوَفَاءُ فِيهِ كَمَوْضِعٍ لِلْعَرَاءِ وَبَحْرٍ وَجَبَلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ بَيَانُهُ لِتَعَذُّرِ الْوَفَاءِ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ، فَيَكُونُ مَحِل التَّسْلِيمِ مَجْهُولاً، فَاشْتُرِطَ تَعْيِينُهُ بِالْقَوْل كَالأَْجَل (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى السَّلَمِ وَالْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ:
أ - انْتِقَال الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ:
29 - إِذَا قَبَضَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ رَأْسَ الْمَال كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِكُل التَّصَرُّفَاتِ السَّائِغَةِ شَرْعًا؛ لأَِنَّهُ مِلْكُهُ وَتَحْتَ يَدِهِ.
أَمَّا الْمُسْلَمُ فِيهِ، فَرَغْمَ كَوْنِهِ أَصْبَحَ دَيْنًا لِلْمُسْلِمِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، إِلاَّ أَنَّ مَلَكِيَّتَهُ لَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ قَال السُّيُوطِيُّ فِي (الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ) : " جَمِيعُ الدُّيُونِ الَّتِي فِي الذِّمَّةِ بَعْدَ لُزُومِهَا وَقَبْضِ الْمُقَابِل لَهَا مُسْتَقِرَّةٌ إِلاَّ دَيْنًا وَاحِدًا، هُوَ دَيْنُ السَّلَمِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لاَزِمًا فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ. وَإِنَّمَا كَانَ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) في حديثه " من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ".
(2) كشاف القناع 3 / 292، شرح منتهى الإرادات 2 / 221، وانظر المغني 4 / 333.(25/218)
بِصَدَدِ أَنْ يَطْرَأَ انْقِطَاعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَيَنْفَسِخَ الْعَقْدُ " (1) .
ب - التَّصَرُّفُ فِي دَيْنِ السَّلَمِ قَبْل قَبْضِهِ:
30 - بِنَاءً عَلَى كَوْنِ دَيْنِ السَّلَمِ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوِ الاِسْتِبْدَال عَنْهُ، لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ فَسْخُ الْعَقْدِ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَامْتِنَاعِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ، فَكَانَ كَالْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ. وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ، فَلاَ يَصْرِفْهُ فِي غَيْرِهِ (2) . قَالُوا: وَهَذَا يَقْتَضِي أَلاَّ يَبِيعَ الْمُسْلِمُ دَيْنَ السَّلَمِ لاَ مِنْ صَاحِبٍ وَلاَ مِنْ غَيْرِهِ (3) ، هَذَا فِي الْبَيْعِ أَمَّا غَيْرُهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فَفِيهَا خِلاَفٌ.
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 326.
(2) حديث: " من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره ". أخرجه ابن ماجه (2 / 766 - ط الحلبي) والدارقطني (3 / 45 - ط دار المحاسن) من حديث أبي سعيد واللفظ للدارقطني. وضعف ابن حجر راويه عن أبي سعيد، ونقل عن جمع من العلماء أنهم أعلوا الحديث بالضعف والاضطراب. كذا في التلخيص الحبير (3 / 25 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) رد المحتار 4 / 166، 209، تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 4 / 118، أسنى المطالب 2 / 84، الأم (ط - زهري النجار) 3 / 133، نهاية المحتاج 4 / 87، المهذب 1 / 270، فتح العزيز 8 / 432، مجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 500، 503، 506، المغني 4 / 334، المبدع 4 / 197، شرح منتهى الإرادات 2 / 222.(25/218)
قَال الْحَنَفِيَّةُ: " لاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ لِرَبِّ السَّلَمِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ بِنَحْوِ بَيْعٍ وَشَرِكَةٍ وَمُرَابَحَةِ تَوْلِيَةٍ، وَلَوْ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ " (1) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: " لاَ يَجُوزُ اسْتِبْدَال الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، بِأَنْ يَأْخُذَ رَبُّ السَّلَمِ مَكَانَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَهُوَ مَبِيعٌ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُول قَبْل الْقَبْضِ. . وَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ لِوُجُودِ رُكْنِ الْحَوَالَةِ مَعَ شَرَائِطِهِ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِهِ. . . وَيَجُوزُ الرَّهْنُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ لأَِنَّهُ دَيْنٌ حَقِيقَةً، وَالرَّهْنُ بِالدَّيْنِ - أَيُّ دَيْنٍ كَانَ - جَائِزٌ " (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: " وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلاَ الاِسْتِبْدَال عَنْهُ، وَهَل تَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِهِ بِأَنْ يُحِيل الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمَ بِحَقِّهِ عَلَى مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنُ قَرْضٍ أَوْ إِتْلاَفٍ، أَوِ الْحَوَالَةُ عَلَيْهِ، بِأَنْ يُحِيل الْمُسْلِمُ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنُ قَرْضٍ أَوْ إِتْلاَفٍ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ؟ فِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا: لاَ. وَالثَّانِي: نَعَمْ. وَالثَّالِثُ: لاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ بِهِ " (3) .
__________
(1) انظر رد المحتار 4 / 209، كشاف القناع 3 / 293.
(2) بدائع الصنائع 5 / 214.
(3) المجموع شرح المهذب 9 / 273.(25/219)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: " لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ وَلَوْ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ. . . وَلاَ يَصِحُّ أَخْذُ غَيْرِهِ، أَيْ: الْمُسْلَمِ فِيهِ مَكَانَهُ. . . وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ مِثْلَهُ فِي الْقِيمَةِ أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ. وَلاَ تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِهِ - أَيْ بِدَيْنِ السَّلَمِ - لأَِنَّهَا مُعَاوَضَةٌ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، فَلَمْ تَجُزْ كَالْبَيْعِ. وَلاَ الْحَوَالَةُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَصِحُّ إِلاَّ عَلَى دَيْنٍ مُسْتَقِرٍّ، وَالسَّلَمُ عُرْضَةٌ لِلْفَسْخِ " (1) .
31 - وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ حَيْثُ أَجَازَا بَيْعَ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ بِثَمَنِ الْمِثْل أَوْ دُونَهُ لاَ أَكْثَرَ مِنْهُ حَالًّا. وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (2) .
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَال: " إِذَا أَسْلَفْتَ فِي شَيْءٍ إِلَى أَجَلٍ، فَإِنْ أَخَذْتَ مَا أَسْلَفْتَ فِيهِ، وَإِلاَّ فَخُذْ عِوَضًا أَنْقَصَ مِنْهُ، وَلاَ تَرْبَحْ مَرَّتَيْنِ (3) .
وَحُجَّتُهُمْ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ مِنَ الْمَدِينِ أَوِ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 293.
(2) مختصر الفتاوى العصرية لابن تيمية ص 345، مجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 503، 504، 518، 519 تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته لابن القيم 5 / 111 وما بعدها.
(3) تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته 5 / 113.(25/219)
الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِسِعْرِ الْمِثْل أَوْ دُونَهُ هُوَ عَدَمُ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ، حَيْثُ إِنَّ حَدِيثَ مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلاَ يَصْرِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ ضَعِيفٌ لاَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ (1) . وَحَتَّى لَوْ ثَبَتَ فَمَعْنَى فَلاَ يَصْرِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ أَيْ: لاَ يَصْرِفُهُ إِلَى سَلَمٍ آخَرَ، أَوْ لاَ يَبِعْهُ بِمُعَيَّنٍ مُؤَجَّلٍ. . وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَل النِّزَاعِ. قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: " فَثَبَتَ أَنَّهُ لاَ نَصَّ فِي التَّحْرِيمِ وَلاَ إِجْمَاعَ وَلاَ قِيَاسَ، وَأَنَّ النَّصَّ وَالْقِيَاسَ يَقْتَضِيَانِ الإِْبَاحَةَ (2) .
أَمَّا دَلِيلُهُمْ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ؛ فَلأَِنَّ دَيْنَ السَّلَمِ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَمْ يَنْتَقِل إِلَى ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، فَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ بِزِيَادَةٍ، فَقَدْ رَبِحَ رَبُّ السَّلَمِ فِيمَا لَمْ يَضْمَنْ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ (3) .
32 - وَنَهَجَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَضِيَّةِ مَسْلَكًا
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر: " وفيه عطية بن سعد العوفي، وهو ضعيف. وأعله أبو حاتم والبيهقي وعبد الحق وابن القطان بالضعف والاضطراب ". (التلخيص الحبير 3 / 25) .
(2) تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته 5 / 117.
(3) حديث: " نهى عن ربح ما لم يضمن ". ورد ذلك من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: " لا يحل سلف ولا بيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن ". أخرجه الترمذي (3 / 527 - ط الحلبي) . وقال: " حديث حسن صحيح ".(25/220)
وَسَطًا، إِذْ أَجَازُوا بَيْعَ الْمُسْلَمِ فِيهِ لِغَيْرِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ طَعَامًا فَقَال ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: " وَأَمَّا بَيْعُ السَّلَمِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ فَيَجُوزُ بِكُل شَيْءٍ يَجُوزُ بِهِ التَّبَايُعُ، مَا لَمْ يَكُنْ طَعَامًا؛ لأَِنَّهُ يَدْخُلُهُ بَيْعُ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ " (1) .
أَمَّا الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ، أَوْ بَيْعُهُ مِنَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ فَقَدْ أَجَازُوهُ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ، بَيَّنَهَا الْخَرَشِيُّ بِقَوْلِهِ: " يَجُوزُ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ السَّلَمَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، سَوَاءٌ حَل الأَْجَل أَمْ لاَ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِمَّا يُبَاعُ قَبْل قَبْضِهِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ ثَوْبًا فِي حَيَوَانٍ، فَأَخَذَ عَنْ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ دَرَاهِمَ؛ إِذْ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَيَوَانِ قَبْل قَبْضِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِمَّا يُبَاعُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ دَرَاهِمَ فِي ثَوْبٍ مَثَلاً، فَأَخَذَ عَنْهُ طَسْتَ نُحَاسٍ؛ إِذْ يَجُوزُ بَيْعُ الطَّسْتِ بِالثَّوْبِ يَدًا بِيَدٍ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُسْلَمَ فِيهِ رَأْسُ الْمَال. كَمَا لَوْ أَسْلَمَ دَرَاهِمَ فِي حَيَوَانٍ، فَأَخَذَ عَنْ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ ثَوْبًا، فَإِنَّ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 231.(25/220)
ذَلِكَ جَائِزٌ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ الدَّرَاهِمَ فِي الثَّوْبِ " (1) .
قَال ابْنُ جُزَيٍّ: " مَنْ أَسْلَمَ فِي طَعَامٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَنْهُ غَيْرَ طَعَامٍ، وَلاَ أَنْ يَأْخُذَ طَعَامًا مِنْ جِنْسٍ آخَرَ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْل الأَْجَل أَوْ بَعْدَهُ؛ لأَِنَّهُ مِنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ. فَإِنْ أَسْلَمَ فِي غَيْرِ طَعَامٍ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ غَيْرَهُ إِذَا قَبَّضَهُ الْجِنْسَ الآْخَرَ مَكَانَهُ.
فَإِنْ تَأَخَّرَ الْقَبْضُ عَنِ الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ لِمَصِيرِهِ إِلَى الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ طَعَامًا مِنْ نَوْعٍ آخَرَ مَعَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ كَزَبِيبٍ أَبْيَضَ عَنْ أَسْوَدَ، إِلاَّ إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَجْوَدَ مِنَ الآْخَرِ أَوْ أَدْنَى، فَيَجُوزُ بَعْدَ الأَْجَل؛ لأَِنَّهُ مِنَ الرِّفْقِ وَالْمُسَامَحَةِ، وَلاَ يَجُوزُ قَبْلَهُ؛ لأَِنَّهُ فِي الدُّونِ وُضِعَ عَلَى التَّعْجِيل، وَفِي الأَْجْوَدِ عِوَضٌ عَنِ الضَّمَانِ " وَقَال بَعْدَ ذَلِكَ: " يَجُوزُ بَيْعُ الْعِوَضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ مِنْ بَائِعِهِ بِمِثْل ثَمَنِهِ أَوْ أَقَل لاَ أَكْثَرَ؛ لأَِنَّهُ يُتَّهَمُ فِي الأَْكْثَرِ بِسَلَفٍ جَرَّ مَنْفَعَةً. وَيَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ بَائِعِهِ بِالْمِثْل وَأَقَل وَأَكْثَرَ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ بِالتَّأْخِيرِ لِلْغَرَرِ؛ لأَِنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ، وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ الأَْوَّل نَقْدًا لَجَازَ " (2) .
__________
(1) شرح الخرشي 5 / 227.
(2) القوانين الفقهية (ط - الدار العربية للكتاب بتونس) ص 274، 275.(25/221)
ج - إِيفَاءُ الْمُسْلَمِ فِيهِ:
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا حَل أَجَل السَّلَمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ إِيفَاءُ الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ.
فَإِنْ جَاءَ بِهِ وَفْقَ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْعَقْدِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ قَبُولُهُ (1) " لأَِنَّهُ أَتَاهُ بِحَقِّهِ فِي مَحِلِّهِ، فَلَزِمَهُ قَبُولُهُ، كَالْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ فِي قَبْضِهِ ضَرَرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ.
فَإِنْ أَبَى قِيل لَهُ: إِمَّا أَنْ تَقْبِضَ حَقَّكَ، وَإِمَّا أَنْ تُبَرِّئَ مِنْهُ. فَإِنِ امْتَنَعَ قَبَضَهُ الْحَاكِمُ مِنَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ لِلْمُسْلِمِ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهُ؛ لأَِنَّ الْحَاكِمَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُمْتَنِعِ بِوِلاَيَتِهِ (2) .
أَمَّا قَبْل حُلُول الأَْجَل، فَلاَ يَخْفَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِ مُطَالَبَةُ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ بِالدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ (3) .
وَلَكِنْ إِذَا أَتَى بِهِ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْل الأَْجَل، وَامْتَنَعَ الْمُسْلِمُ مِنْ قَبُولِهِ، فَهَل يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِهِ أَمْ لاَ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 29، 30.
(2) المغني 4 / 339، وانظر كشاف القناع 3 / 288 وما بعدها.
(3) روضة الطالبين 4 / 30.(25/221)
أ - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا أَتَى بِهِ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ قَبْل مَحِلِّهِ، فَيُنْظَرُ فِيهِ:
فَإِنْ كَانَ مِمَّا فِي قَبْضِهِ قَبْل مَحِلِّهِ ضَرَرٌ - عَلَى الْمُسْلِمِ - إِمَّا لِكَوْنِهِ مِمَّا يَتَغَيَّرُ، كَالْفَاكِهَةِ، وَالأَْطْعِمَةِ كُلِّهَا، أَوْ كَانَ قَدِيمُهُ دُونَ حَدِيثِهِ، كَالْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا، لَمْ يَلْزَمِ الْمُسْلِمَ قَبُولُهُ؛ لأَِنَّ لَهُ غَرَضًا فِي تَأْخِيرِهِ، بِأَنْ يَحْتَاجَ إِلَى أَكْلِهِ أَوْ إِطْعَامِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ تَلَفَهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ مَا قَبْلَهُ. وَهَذَا إِنْ كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إِلَى مُؤْنَةٍ، كَالْقُطْنِ وَنَحْوِهِ، أَوْ كَانَ الْوَقْتُ مَخُوفًا يَخْشَى نَهْبُ مَا يَقْبِضُهُ، فَلاَ يَلْزَمُهُ الأَْخْذُ فِي هَذِهِ الأَْحْوَال كُلِّهَا؛ لأَِنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي قَبْضِهِ، وَلَمْ يَأْتِ مَحَل اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ، فَجَرَى مَجْرَى نَقْصِ صِفَةٍ فِيهِ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ ضَرَرَ فِي قَبْضِهِ. بِأَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ يَتَغَيَّرُ، كَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي قَدِيمُهُ وَحَدِيثُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ الزَّيْتُ وَالْعَسَل، وَلاَ فِي قَبْضِهِ ضَرَرٌ لِخَوْفٍ وَلاَ تَحَمُّل مُؤْنَةٍ، فَعَلَيْهِ قَبْضُهُ؛ لأَِنَّ غَرَضَهُ حَاصِلٌ مَعَ زِيَادَةِ تَعْجِيل الْمَنْفَعَةِ،(25/222)
فَجَرَى مَجْرَى زِيَادَةِ الصِّفَةِ وَتَعْجِيل الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِ غَرَضٌ فِي الاِمْتِنَاعِ وَكَانَ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ غَرَضٌ آخَرُ سِوَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِأَنْ كَانَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ رَهْنٌ أَوْ كَفِيلٌ أُجْبِرَ الْمُسْلِمُ عَلَى الْقَبُول عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِلاَّ فَقَوْلاَنِ أَصَحُّهُمَا يُجْبَرُ (1) .
ب - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: " إِذَا دَفَعَ الْمُسْلَمَ فِيهِ قَبْل الأَْجَل، جَازَ قَبُولُهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ. وَأَلْزَمَ الْمُتَأَخِّرُونَ قَبُولَهُ فِي الْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ " (2) .
34 - وَلَوْ أَحْضَرَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ الدَّيْنَ الْمُسْلَمَ فِيهِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ بَعْدَ مَحِل الأَْجَل. فَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَلْزَمُهُ قَبْضُهُ، كَمَا لَوْ أَحْضَرَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ الْمُعَيَّنَ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمَا (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: " اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ مَالِكٍ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَبْضُهُ، مِثْل أَنْ يُسْلِمَ فِي قَطَائِفِ الشِّتَاءِ (4)
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 339، وانظر روضة الطالبين 4 / 30، شرح منتهى الإرادات 2 / 219.
(2) القوانين الفقهية ص 275، وانظر بداية المجتهد 2 / 232، المنتقى للباجي 4 / 304، المدونة 9 / 43.
(3) المغني 4 / 339، شرح منتهى الإرادات 2 / 219، كشاف القناع 3 / 288.
(4) جمع قطيفة: وهي دثار مخمل.(25/222)
فَيَأْتِي بِهَا فِي الصَّيْفِ، وَقَال ابْنُ وَهْبٍ وَجَمَاعَةٌ: لاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ (1) .
وَقَدْ أَوْضَحَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ مَنْشَأَ الْخِلاَفِ فِي الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُلْزِمْهُ بِقَبْضِهِ بَعْدَ الأَْجَل رَأَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعُرُوضِ إِنَّمَا كَانَ وَقْتَ الأَْجَل لاَ غَيْرَهُ. أَمَّا مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ وَأَلْزَمَهُ بِقَبْضِهِ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ (2) .
أَمَّا إِذَا أَتَى الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ فِي مَحِلِّهِ عَلَى غَيْرِ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْعَقْدِ، فَيُنْظَرُ: فَإِنْ أَحْضَرَهُ بِجِنْسِهِ وَنَوْعِهِ، وَلَكِنْ عَلَى صِفَةٍ دُونَ صِفَتِهِ الْمَشْرُوطَةِ جَازَ لِلْمُسْلِمِ قَبُولُهُ، لَكِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَخْذُهُ.
وَإِنْ أَحْضَرَهُ بِجِنْسِهِ وَنَوْعِهِ، وَبِصِفَةٍ أَجْوَدَ مِنَ الْمَوْصُوفِ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِمَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ وَزِيَادَةٍ تَابِعَةٍ لَهُ، فَيَنْفَعُهُ وَلاَ يَضُرُّهُ، إِذْ لَمْ يَفُتْهُ غَرَضٌ (3) .
وَإِنْ أَتَى بِنَوْعٍ آخَرَ مِنْ نَفْسِ الْجِنْسِ، كَأَنْ أَسْلَمَ بِتَمْرٍ خُضَرِيٍّ، فَأَحْضَرَ الْبَرْنِيَّ، أَوْ فِي ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ، فَأَتَى بِمَرْوِيٍّ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ.
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 232.
(2) بداية المجتهد 2 / 233.
(3) روضة الطالبين 4 / 29، المغني 4 / 340، شرح منتهى الإرادات 2 / 217.(25/223)
قَال النَّوَوِيُّ: " أَصَحُّهَا: يَحْرُمُ قَبُولُهُ.
وَالثَّانِي: يَجِبُ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ " قَال الْمَحَلِّيُّ لأَِنَّهُ يُشْبِهُ الاِعْتِيَاضَ عَنْهُ أَيِ الاِعْتِيَاضَ عَنْ رِبَوِيٍّ بِجِنْسِهِ مَعَ تَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: " لاَ يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَل مَا وَصَفْنَاهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي شَرَطَاهَا، وَقَدْ فَاتَ بَعْضُ الصِّفَاتِ، فَإِنَّ النَّوْعَ صِفَةٌ، وَقَدْ فَاتَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَاتَ غَيْرُهُ مِنَ الصِّفَاتِ.
وَقَال أَبُو يَعْلَى: يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ، لأَِنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إِلَى الآْخَرِ فِي الزَّكَاةِ، فَأَشْبَهَ الزِّيَادَةَ فِي الصِّفَةِ مَعَ اتِّفَاقِ النَّوْعِ " (2) .
أَمَّا الْمِعْيَارُ الَّذِي يُحْتَكَمُ إِلَيْهِ فِي حَدِّ الصِّفَةِ الْوَاجِبِ تَوَفُّرُهُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ فَقَدْ بَيَّنَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِقَوْلِهِ: " وَلَيْسَ لَهُ - أَيْ: لِلْمُسْلِمِ - إِلاَّ أَقَل مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الصِّفَةُ؛ لأَِنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَدْ سَلَّمَ إِلَيْهِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ، فَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهُ (3) .
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 30، القليوبي على شرح المحلي للمنهاج 2 / 255.
(2) المغني 4 / 340، وانظر شرح منتهى الإرادات 2 / 217.
(3) المغني 4 / 341، وانظر شرح منتهى الإرادات 2 / 220، كشاف القناع 3 / 289.(25/223)
35 - وَحَيْثُ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ تَسْلِيمُ الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ جَاءَ بِهِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِ الاِمْتِنَاعُ عَنْ تَسَلُّمِهِ فِيهِ. فَإِنْ شَاءَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ أَدَاءَهُ فِي غَيْرِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أ - فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ قَبُولُهُ بِغَيْرِ مَحِلِّهِ، وَلَوْ خَفَّ حَمْلُهُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَهُ بِغَيْرِ الْمَكَانِ الْمُعَيَّنِ، وَيَأْخُذُ كِرَاءَ مَسَافَةِ مَا بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ لأَِنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الأَْجَلَيْنِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ: وَلَوْ سَلَّمَ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ، فَلِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يَأْبَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ (1) . فَإِنْ أَعْطَاهُ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ الأَْجْرِ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لَمَّا قَبَضَ الْمُسْلَمَ فِيهِ فَقَدْ تَعَيَّنَ مِلْكُهُ فِي الْمَقْبُوضِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ الأَْجْرَ عَلَى نَقْل مِلْكِهِ، فَلَمْ يَجُزْ، فَيَرُدُّ الأَْجْرَ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ حَتَّى يُسَلَّمَ فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ؛ لأَِنَّ حَقَّهُ فِي التَّسْلِيمِ فِيهِ، وَلَمْ يَرْضَ بِبُطْلاَنِ حَقِّهِ إِلاَّ
__________
(1) حديث: " المسلمون على شروطهم ". أخرجه أبو داود (4 / 20 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده مقال، ولكن أورد له ابن حجر في التغليق (3 / 282 - ط المكتب الإسلامي) ما يقويه.(25/224)
بِعِوَضٍ، وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، فَبَقِيَ حَقُّهُ فِي التَّسْلِيمِ فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ (1) .
ب - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: (إِذَا أَتَى الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ فِي غَيْرِ مَكَانِ التَّسْلِيمِ فَامْتَنَعَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ أَخْذِهِ، فَإِنْ كَانَ لِنَقْلِهِ مُؤْنَةٌ، أَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ مَخُوفًا، لَمْ يُجْبَرْ. وَإِلاَّ فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي التَّعْجِيل قَبْل الْمَحِل. فَلَوْ رَضِيَ وَأَخَذَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ مُؤْنَةَ النَّقْل. قَال النَّوَوِيُّ: قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا إِجْبَارُهُ) (2) .
د - تَعَذُّرُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل:
36 - إِذَا انْقَطَعَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عِنْدَ حُلُول الأَْجَل، بِحَيْثُ تَعَذَّرَ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ إِيفَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِ فِي وَقْتِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامٍ عَلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ:
أ - فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُخَيَّرُ رَبُّ السَّلَمِ بَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ إِلَى وُجُودِهِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 213، الخرشي 5 / 228، القوانين الفقهية ص 275، وانظر المدونة 9 / 42 (مطبعة السعادة 1323 هـ) ، وانظر كشاف القناع 3 / 292، شرح منتهى الإرادات 2 / 222.
(2) روضة الطالبين 4 / 31.(25/224)
فَيُطَالَبُ بِهِ عِنْدَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ السَّلَمَ وَيَرْجِعَ بِرَأْسِ مَالِهِ إِنْ وُجِدَ، أَوْ عِوَضِهِ إِنْ عُدِمَ، لِتَعَذُّرِ رَدِّهِ. قَال صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: " لأَِنَّ السَّلَمَ قَدْ صَحَّ، وَالْعَجْزَ طَارِئٌ عَلَى شَرَفِ الزَّوَال، فَصَارَ كَإِبَاقِ الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ ".
وَقَال ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: " وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ جَوَازِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ثِمَارِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ شَرَطَهُ الْمُسْلِمِ، فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِالْخِيَارِ " (1) .
وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ ضَابِطَ الاِنْقِطَاعِ بِقَوْلِهِ: " فَإِذَا لَمْ يُوجَدِ الْمُسْلَمُ فِيهِ أَصْلاً، بِأَنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ يَنْشَأُ بِتِلْكَ الْبَلْدَةِ، فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ مُسْتَأْصِلَةٌ، فَهَذَا انْقِطَاعٌ حَقِيقِيٌّ. وَلَوْ وُجِدَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ، لَكِنْ يَفْسُدُ بِنَقْلِهِ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ عِنْدَ قَوْمٍ امْتَنَعُوا مِنْ بَيْعِهِ، فَهُوَ انْقِطَاعٌ. وَلَوْ كَانُوا يَبِيعُونَهُ بِثَمَنٍ غَالٍ، فَلَيْسَ بِانْقِطَاعٍ، بَل يَجِبُ تَحْصِيلُهُ. وَلَوْ أَمْكَنَ نَقْلُهُ، وَجَبَ إِنْ كَانَ قَرِيبًا " (2) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 220، كشاف القناع 3 / 290، القوانين الفقهية ص 275، بداية المجتهد 2 / 230، الخرشي 5 / 221، المغني 4 / 326، الهداية مع فتح القدير والعناية 6 / 214، المهذب 1 / 309، روضة الطالبين 4 / 11.
(2) روضة الطالبين 4 / 12.(25/225)
ب - وَقَال زُفَرُ وَأَشْهَبُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: يَنْفَسِخُ السَّلَمُ ضَرُورَةً، وَيَسْتَرِدُّ رَبُّ السَّلَمِ رَأْسَ الْمَال، وَلاَ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ.
قَال ابْنُ رُشْدٍ مُعَلِّلاً رَأَى أَشْهَبَ: " وَكَأَنَّهُ رَآهُ مِنْ بَابِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ ". وَقَال الشِّيرَازِيُّ مُعَلِّلاً قَوْل الشَّافِعِيِّ هَذَا: " لأَِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ ثَمَرَةُ هَذَا الْعَامِ، وَقَدْ هَلَكَتْ، فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ، فَهَلَكَتِ الصُّبْرَةُ ". وَهِيَ نَفْسُ حُجَّةِ زُفَرَ الَّتِي حَكَاهَا ابْنُ الْهُمَامِ مَبْسُوطَةً أَنَّ الْبُطْلاَنَ لِلْعَجْزِ عَنِ التَّسْلِيمِ قَبْل الْقَبْضِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْل الْقَبْضِ فِي الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ كَمَا لاَ يَثْبُتُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ، لاَ يَبْقَى عِنْدَ فَوَاتِهِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى بِفُلُوسٍ، ثُمَّ كَسَدَتْ قَبْل الْقَبْضِ، يَبْطُل الْعَقْدُ، فَكَذَا هُنَا (1) .
ج - وَقَال سَحْنُونٌ: لَيْسَ لِرَبِّ السَّلَمِ فَسْخُ السَّلَمِ، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَصْبِرَ إِلَى الْقَابِل (2) .
__________
(1) الهداية مع العناية وفتح القدير 6 / 214، القوانين الفقهية ص 275، المهذب 1 / 309، بداية المجتهد 2 / 230، روضة الطالبين 4 / 11.
(2) القوانين الفقهية ص 275، بداية المجتهد 2 / 230.(25/225)
هـ - الإِْقَالَةُ فِي السَّلَمِ: 37 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ الإِْقَالَةِ فِي السَّلَمِ. فَإِذَا أَقَالَهُ رَبُّ السَّلَمِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ رَدُّ الثَّمَنِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ مِثْلِهِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيمِيًّا إِذَا لَمْ يَكُنْ بَاقِيًا.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الإِْقَالَةَ فِي جَمِيعِ مَا أُسْلِمَ فِيهِ جَائِزَةٌ (1) . وَيُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ (إِقَالَة) .
وَلَوِ اتَّفَقَ الْعَاقِدَانِ بَعْدَ الإِْقَالَةِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ رَبَّ السَّلَمِ عِوَضًا عَنْ رَأْسِ الْمَال مِنَ الأَْعْيَانِ أَوِ الأَْثْمَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أ - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ (2) .
وَدَلِيل أَبِي حَنِيفَةَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
__________
(1) المغني 4 / 336، 337، المهذب 1 / 309، المدونة 9 / 69 (مطبعة السعادة 1323 هـ) ، بدائع الصنائع 5 / 214، بداية المجتهد 2 / 231، شرح منتهى الإرادات 2 / 223، المنتقى 4 / 302.
(2) رد المحتار 4 / 209، (بولاق 1272 هـ) ، البدائع 5 / 203، بداية المجتهد 2 / 232، المغني 4 / 337.(25/226)
أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ، فَلاَ يَصْرِفْهُ إِلَى غَيْرِهِ (1) ، وَلأَِنَّ هَذَا مَضْمُونٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ بِعَقْدِ السَّلَمِ، فَلَمْ يَجُزِ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي (2) . وَحُجَّةُ مَالِكٍ " أَنَّ هَذِهِ الإِْقَالَةَ ذَرِيعَةٌ إِلَى أَنْ يَجُوزَ مِنْ ذَلِكَ مَا لاَ يَجُوزُ " (3) .
ب - وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ (4) " لأَِنَّهُ عِوَضٌ مُسْتَقَرٌّ فِي الذِّمَّةِ، فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، كَمَا لَوْ كَانَ قَرْضًا. وَلأَِنَّهُ مَالٌ عَادَ إِلَيْهِ بِفَسْخِ الْعَقْدِ، فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ إِذَا فُسِخَ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ، وَهَذَا مَضْمُونٌ بَعْدَ فَسْخِهِ. وَالْخَبَرُ أَرَادَ بِهِ الْمُسْلَمَ فِيهِ، فَلَمْ يَتَنَاوَل هَذَا ".
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: " فَإِنْ قُلْنَا بِهَذَا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ كَانَ قَرْضًا أَوْ ثَمَنًا فِي بُيُوعِ الأَْعْيَانِ لاَ يَجُوزُ جَعْلُهُ سَلَمًا فِي شَيْءٍ آخَرَ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَيَجُوزُ فِيهِ مَا يَجُوزُ
__________
(1) حديث: " من أسلم في شيء، فلا يصرفه. . . . ". تقدم تخريجه ف 30.
(2) انظر المغني 4 / 337.
(3) بداية المجتهد 2 / 232.
(4) المغني 4 / 337، بداية المجتهد 2 / 232، المهذب 1 / 309.(25/226)
فِي الْقَرْضِ وَأَثْمَانِ الْبِيَاعَاتِ إِذَا فُسِخَتْ " (1) .
وَقَال الشِّيرَازِيُّ: " فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُسْلِمَهُ فِي شَيْءٍ آخَرَ، لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ عَيْنًا، نَظَرْتَ: فَإِنْ كَانَ تَجْمَعُهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرِّبَا كَالدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ وَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَفَرَّقَا قَبْل الْقَبْضِ، كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا بِالآْخَرِ عَيْنًا بِعَيْنٍ. وَإِنْ لَمْ تَجْمَعْهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرِّبَا، كَالدَّرَاهِمِ بِالْحِنْطَةِ وَالثَّوْبِ بِالثَّوْبِ فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَتَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ، كَمَا يَجُوزُ إِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا بِالآْخَرِ عَيْنًا بِعَيْنٍ أَنْ يَتَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ. وَالثَّانِي: لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّ الْمَبِيعَ فِي الذِّمَّةِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَفَرَّقَا قَبْل قَبْضِ عِوَضِهِ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ " (2) .
و تَوْثِيقُ الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ:
38 - لاَ يَخْفَى أَنَّ تَوْثِيقَ الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ يَكُونُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أ - إِمَّا بِتَأْكِيدِ حَقِّ رَبِّ السَّلَمِ فِي الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِالْكِتَابَةِ أَوِ الشَّهَادَةِ، لِمَنْعِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ مِنَ الإِْنْكَارِ وَتَذْكِيرِهِ عِنْدَ النِّسْيَانِ،
__________
(1) المغني 4 / 337
(2) المهذب 1 / 309.(25/227)
وَلِلْحَيْلُولَةِ، دُونَ ادِّعَائِهِ أَقَل مِنَ الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَدْرًا أَوْ صِفَةً، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَوْثِيق) .
ب - وَإِمَّا بِالْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ. فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْثِيقِ الدَّيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِالْكَفَالَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
(1) ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَرَأْيُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَالْحَكَمِ وَغَيْرِهِمْ (1) .
قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ: " السَّلَمُ: السَّلَفُ - وَبِذَلِكَ أَقُول - لاَ بَأْسَ فِيهِ بِالرَّهْنِ وَالْحَمِيل، لأَِنَّهُ بَيْعٌ مِنَ الْبُيُوعِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ جَل ثَنَاؤُهُ بِالرَّهْنِ، فَأَقَل أَمْرِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ إِبَاحَةً لَهُ، فَالسَّلَمُ بَيْعٌ مِنَ الْبُيُوعِ " (2) .
(2) وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ أَخْذُ رَهْنٍ وَلاَ كَفِيلٍ عَنِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ (3) " لأَِنَّ الرَّاهِنَ إِنْ أَخَذَ بِرَأْسِ مَال
__________
(1) القوانين الفقهية ص 328، منح الجليل 3 / 252، رد المحتار 4 / 263، 5 / 318، المغني 4 / 342، الأم 3 / 94.
(2) الأم 3 / 94.
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 222، المغني 4 / 342، كشاف القناع 3 / 298.(25/227)
السَّلَمِ الرَّهْنَ وَالضَّمِينَ، فَقَدْ أَخَذَ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلاَ مَآلُهُ إِلَى الْوُجُوبِ، لأَِنَّ ذَلِكَ قَدْ مَلَكَهُ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ. وَإِنْ أَخَذَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ فَالرَّهْنُ إِنَّمَا يَجُوزُ بِشَيْءٍ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الرَّهْنِ وَلاَ مِنْ ذِمَّةِ الضَّامِنِ. وَلأَِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ هَلاَكَ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ بِعُدْوَانٍ، فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلاَ يَصْرِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ (1) وَلأَِنَّهُ يُقِيمُ مَا فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ مَقَامَ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ أَخْذِ الْعِوَضِ وَالْبَدَل عَنْهُ، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ " (2) .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ كَرَاهَةُ ذَلِكَ (3) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: " إِذَا حَكَمْنَا بِصِحَّةِ ضَمَانِ السَّلَمِ فَلِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَأَيُّهُمَا قَضَاهُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُمَا مِنْهُ، فَإِنْ سَلَّمَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ الْمُسْلَمَ فِيهِ إِلَى الضَّامِنِ لِيَدْفَعَهُ إِلَى الْمُسْلِمِ جَازَ وَكَانَ وَكِيلاً. وَإِنْ
__________
(1) حديث: " من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره ". تقدم تخريجه ف 30.
(2) المغني 4 / 342.
(3) المغني 4 / 342، شرح منتهى الإرادات 2 / 222.(25/228)
قَال: خُذْهُ عَنِ الَّذِي ضَمِنْتَ عَنِّي، لَمْ يَصِحَّ، وَكَانَ قَبْضًا فَاسِدًا مَضْمُونًا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الأَْخْذَ بَعْدَ الْوَفَاءِ، فَإِنْ أَوْصَلَهُ إِلَى الْمُسْلِمِ بَرِئَ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ سَلَّمَ إِلَيْهِ مَا سَلَّطَهُ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَإِنْ أَتْلَفَهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، لأَِنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى ذَلِكَ " (1) .
وَأَيْضًا " إِنْ أَخَذَ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا بِالْمُسْلَمِ فِيهِ، ثُمَّ تَقَايَلاَ السَّلَمَ، أَوْ فُسِخَ الْعَقْدُ لِتَعَذُّرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، بَطَل الرَّهْنُ؛ لِزَوَال الدَّيْنِ الَّذِي بِهِ الرَّهْنُ، وَبَرِئَ الضَّامِنُ.
وَعَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ رَدُّ رَأْسِ مَال السَّلَمِ فِي الْحَال، وَلاَ يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ " (2) .
ز - الاِتِّفَاقُ عَلَى تَقْسِيطِ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى نُجُومٍ:
39 - إِذَا أَسْلَمَ شَخْصٌ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَقْبِضَهُ بِالتَّقْسِيطِ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَجْزَاءً مَعْلُومَةً، كَسَمْنٍ يَأْخُذُ بَعْضَهُ فِي أَوَّل رَجَبٍ وَبَعْضَهُ فِي أَوَّل رَمَضَانَ وَبَعْضَهُ فِي مُنْتَصَفِ شَوَّالٍ مَثَلاً.
__________
(1) المغني 4 / 343.
(2) المغني 4 / 342 وما بعدها.(25/228)
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أ - فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ ذَلِكَ. " لأَِنَّ كُل مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ إِلَى أَجَلٍ، جَازَ أَنْ يَكُونَ إِلَى أَجَلَيْنِ وَآجَالٍ كَالأَْثْمَانِ فِي بُيُوعِ الأَْعْيَانِ " (1) .
ب - وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ ثَانٍ لَهُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ ذَلِكَ " لأَِنَّ مَا يُقَابِل أَبْعَدَهُمَا أَجَلاً أَقَل مِمَّا يُقَابِل الآْخَرَ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ، فَلَمْ يَجُزْ " (2) .
ج - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى التَّفْصِيل حَيْثُ قَالُوا: " يَصِحُّ أَنْ يُسْلِمَ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ إِلَى أَجَلَيْنِ، كَسَمْنٍ يَأْخُذُ بَعْضَهُ فِي رَجَبٍ وَبَعْضَهُ فِي رَمَضَانَ؛ لأَِنَّ كُل بَيْعٍ جَازَ إِلَى أَجَلٍ جَازَ إِلَى أَجَلَيْنِ وَآجَالٍ إِنْ بَيَّنَ قِسْطَ كُل أَجَلٍ وَثَمَنَهُ؛ لأَِنَّ الأَْجَل الأَْبْعَدَ لَهُ زِيَادَةُ وَقْعٍ عَلَى الأَْقْرَبِ، فَمَا يُقَابِلُهُ أَقَل. فَاعْتُبِرَ مَعْرِفَةُ قِسْطِهِ وَثَمَنِهِ. فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْهُمَا لَمْ يَصِحَّ.
وَيَصِحُّ أَنْ يُسْلِمَ فِي شَيْءٍ كَلَحْمٍ وَخُبْزٍ
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 11، أسنى المطالب 2 / 126، المغني 4 / 338، الإشراف على مسائل الخلاف 1 / 280، المهذب1 / 307.
(2) المهذب 1 / 307.(25/229)
وَعَسَلٍ يَأْخُذُهُ كُل يَوْمٍ جُزْءًا مَعْلُومًا مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ بَيَّنَ ثَمَنَ كُل قِسْطٍ أَوْ لاَ؛ لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ ".
" فَإِنْ قَبَضَ الْبَعْضَ مِمَّا أَسْلَمَ فِيهِ لِيَأْخُذَ مِنْهُ كُل يَوْمٍ قَدْرًا مَعْلُومًا، وَتَعَذَّرَ قَبْضُ الْبَاقِي، رَجَعَ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَلاَ يُجْعَل الْبَاقِي فَضْلاً عَلَى الْمَقْبُوضِ، لأَِنَّهُ مَبِيعٌ وَاحِدٌ مُتَمَاثِل الأَْجْزَاءِ، فَقِسْطُ الثَّمَنِ عَلَى أَجْزَائِهِ بِالسَّوِيَّةِ. كَمَا لَوْ اتَّحَدَ أَجَلُهُ " (1) .
__________
(1) كشاف القناع 3 / 286، 287، وانظر شرح منتهى الإرادات 2 / 218، 219، المغني 4 / 338.(25/229)
سِلْم
التَّعْرِيفُ
1 - السِّلْمُ: بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا: الصُّلْحُ، يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ.
وَالسِّلْمُ: الْمُسَالِمُ، يُقَال: أَنَا سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَنِي.
وَالتَّسَالُمُ: التَّصَالُحُ، وَالْمُسَالَمَةُ: الْمُصَالَحَةُ.
وَيَأْتِي السِّلْمُ بِمَعْنَى الإِْسْلاَمِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (1) .
قَالُوا: الإِْسْلاَمُ: إِظْهَارُ الْخُضُوعِ وَإِظْهَارُ الشَّرِيعَةِ، وَالْتِزَامُ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِذَلِكَ يُحْقَنُ الدَّمُ وَيُسْتَدْفَعُ الْمَكْرُوهُ (2) .
__________
(1) سورة البقرة / 208.
(2) لسان العرب، المصباح المنير مادة: (سلم) النهاية لابن الأثير 2 / 394، الجامع لأحكام القرآن 3 / 23، فتح الباري 8 / 758 ط السلفية(25/230)
وَالسِّلْمُ: فِي حَقِيقَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ لاَ يَبْعُدُ عَنْ حَقِيقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ، وَلِذَا قَالُوا: هُوَ الصُّلْحُ، خِلاَفُ الْحَرْبِ، أَوْ هُوَ: تَرْكُ الْجِهَادِ مَعَ الْكَافِرِينَ بِشُرُوطِهِ (1) .
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ} (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْهُدْنَةُ:
2 - الْمُهَادَنَةُ: الْمُسَالَمَةُ - وَتُسَمَّى: الْمُوَادَعَةَ، وَالْمُعَاهَدَةَ.
وَشَرْعًا: مُصَالَحَةُ أَهْل الْحَرْبِ عَلَى تَرْكِ الْقِتَال مُدَّةً مُعَيَّنَةً بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ (3) .
ب - الأَْمَانُ:
3 - الأَْمَانُ فِي اللُّغَةِ: عَدَمُ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ فِي الزَّمَنِ الآْتِي.
وَشَرْعًا: رَفْعُ اسْتِبَاحَةِ دَمِ الْحَرْبِيِّ وَرِقِّهِ وَمَالِهِ حِينَ قِتَالِهِ أَوِ الْعَزْمِ عَلَيْهِ،
__________
(1) قواعد الفقه للمجددي / 325، والمعجم الوسيط.
(2) سورة الأنفال / 61.
(3) شرح روض الطالب 4 / 324 ط. المكتبة الإسلامية، المغني 8 / 459.(25/230)
مَعَ اسْتِقْرَارِهِ تَحْتَ حُكْمِ الإِْسْلاَمِ مُدَّةً مَا (1) .
ج - الذِّمَّةُ:
4 - الذِّمَّةُ فِي اللُّغَةِ: الْعَهْدُ وَالأَْمَانُ.
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الْتِزَامُ تَقْرِيرِ الْكُفَّارِ فِي دِيَارِنَا وَحِمَايَتِهِمْ، وَالذَّبِّ عَنْهُمْ، بِبَذْل الْجِزْيَةِ. الْمَوْسُوعَةُ 7 121
د - الْمُعَاهَدَةُ:
5 - وَهِيَ الْمُعَاقَدَةُ وَالْمُحَالَفَةُ. وَالْمُعَاهَدُ: مَنْ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَهْدٌ.
قَال ابْنُ الأَْثِيرِ أَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا صُولِحُوا عَلَى تَرْكِ الْحَرْبِ مُدَّةً مَا (2) .
و الْمُوَادَعَةُ:
6 - وَهِيَ الْمُصَالَحَةُ وَالْمُسَالَمَةُ عَلَى تَرْكِ الْحَرْبِ وَالأَْذَى، وَحَقِيقَةُ الْمُوَادَعَةِ الْمُتَارَكَةُ، أَيْ يَدَعُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا هُوَ فِيهِ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً: السِّلْمُ بِمَعْنَى الإِْسْلاَمِ:
__________
(1) الحطاب 3 / 360 نقلا عن ابن عرفة.
(2) لسان العرب، المصباح المنير.
(3) النهاية 5 / 167.(25/231)
7 - السِّلْمُ الْمُطْلَقُ الَّذِي يَكُونُ بِأَصْل الْمِلَّةِ. غَيْرُ نَاشِئٍ عَنْ عَقْدٍ، وَلاَ يَكُونُ إِلاَّ لِلْمُسْلِمِ بِأَصْل النَّشْأَةِ، أَوْ بِالدُّخُول فِي الإِْسْلاَمِ.
(ر: إِسْلاَم) الْمَوْسُوعَةُ 4 259 - 273.
ثَانِيًا: السِّلْمُ بِمَعْنَى الْمُصَالَحَةِ:
8 - وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ عَقْدًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَيَتَنَوَّعُ إِلَى أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: مَا كَانَ مُؤَبَّدًا، وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ.
وَالْمَقْصُودُ بِهِ: إِقْرَارُ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ فِي دِيَارِ الإِْسْلاَمِ بِشَرْطِ بَذْل الْجِزْيَةِ، وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ انْظُرْ: (أَهْل الذِّمَّةِ - الْمَوْسُوعَةُ 7 120 - 139 - (جِزْيَة - الْمَوْسُوعَةُ 15 149، 207)
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا كَانَ مُؤَقَّتًا. وَيَأْتِي فِي صُورَتَيْنِ:
الأُْولَى: عَقْدُ الْهُدْنَةِ:
9 - الأَْصْل فِيهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ} (1) .
__________
(1) سورة الأنفال / 61.(25/231)
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْمُهَادَنَةِ مَتَى كَانَتْ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ (1) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمِ الأَْعْلَوْنَ} (2) .
فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمُوَادَعَةِ مَصْلَحَةٌ فَلاَ يَجُوزُ بِالإِْجْمَاعِ (3) .
وَقَال صَاحِبُ رَوْضِ الطَّالِبِ: الأَْصْل فِيهَا - قَبْل الإِْجْمَاعِ - قَوْله تَعَالَى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (4) وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ} (5) . وَمُهَادَنَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ (6) وَهِيَ جَائِزَةٌ لاَ وَاجِبَةٌ (7) .
وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ وَقُوَّةٍ وَجَمَاعَةٍ عَدِيدَةٍ وَشِدَّةٍ شَدِيدَةٍ فَلاَ صُلْحَ.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 8 / 39 - 41، المغني 8 / 459، حاشية الطحطاوي على الدر المحتار 2 / 443، جواهر الإكليل شرح مختصر خليل 1 / 269، شرح روض الطالب من أسنى المطالب 4 / 224.
(2) سورة محمد / 35.
(3) حاشية الطحطاوي 2 / 443.
(4) سورة التوبة / 1.
(5) سورة الأنفال / 61.
(6) حديث: " مهادنته قريشا عام الحديبية ". أخرجه البخاري (فتح5 / 312 ط السلفية) ومسلم (3 / 1409 - 1410 - ط - الحلبي) عن غير واحد من الصحابة.
(7) روض الطالب - 4 / 224.(25/232)
وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةٌ فِي الصُّلْحِ لِنَفْعٍ يَجْتَلِبُونَهُ، أَوْ ضَرَرٍ يَدْفَعُونَهُ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ.
وَقَدْ صَالَحَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْل خَيْبَرَ عَلَى شُرُوطٍ نَقَضُوهَا فَنُقِضَ صُلْحُهُمْ فِي عَهْدِ عُمَرَ، وَقَدْ صَالَحَ الضَّمْرِيَّ، وَأُكَيْدِرَ دَوْمَةَ - وَأَهْل نَجْرَانَ وَقَدْ هَادَنَ قُرَيْشًا لِعَشْرَةِ أَعْوَامٍ حَتَّى نَقَضُوا عَهْدَهُ.
وَمَا زَالَتِ الْخُلَفَاءُ وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى هَذِهِ السَّبِيل (1)
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل (هُدْنَة، صُلْح، وَمُعَاهَدَة) .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ عَقْدِ السِّلْمِ الْمُؤَقَّتِ:
عَقْدُ الأَْمَانِ
10 - وَهُوَ عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، قَابِلٌ لِلنَّقْضِ بِشُرُوطِهِ، وَحُكْمُهُ الْجَوَازُ مَعَ شَرْطِ انْتِفَاءِ الضَّرَرِ
- وَإِنْ لَمْ يَظْهَرِ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ أَنْ تَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَمِنَ الْفُرُوقِ الظَّاهِرَةِ بَيْنَ عَقْدِ الأَْمَانِ
__________
(1) القرطبي 8 / 40.(25/232)
وَعَقْدِ الْهُدْنَةِ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْهُدْنَةُ إِلاَّ بِعَقْدِ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، أَمَّا الأَْمَانُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنَ الإِْمَامِ وَمِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ آحَادِهِمْ وَلَوْ مِنِ امْرَأَةٍ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَال ابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ أَمَانَ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ لاَ يَجُوزُ ابْتِدَاءً، وَلَكِنْ إِنْ وَقَعَ يَمْضِي إِنْ أَمْضَاهُ الإِْمَامُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ.
وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَهُ فِي أَبْوَابِ السِّيَرِ وَالْجِهَادِ
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَمَان) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ (6 233 - 235) .
الدَّعْوَةُ إِلَى السِّلْمِ مَعَ أَهْل الْحَرْبِ:
11 - الدَّعْوَةُ إِلَى السِّلْمِ مَعَ الْكُفَّارِ وَمُوَادَعَتُهُمْ وَمُهَادَنَتُهُمْ مِنْ قِبَل إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ جَائِزَةٌ إِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ تَعُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا رَأَى أَنْ يُصَالِحَ أَهْل الْحَرْبِ أَوْ فَرِيقًا مِنْهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ فَلاَ بَأْسَ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ} (1) وَوَادَعَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْل مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَضَعَ
__________
(1) سورة الأنفال / 61.(25/233)
الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ (1) ؛ وَلأَِنَّ الْمُوَادَعَةَ جِهَادٌ مَعْنًى إِذَا كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ دَفْعُ الشَّرِّ حَاصِلٌ بِهِمَا، وَلاَ يَقْتَصِرُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَرْوِيَّةِ لِتَعَدِّي الْمَعْنَى إِلَى مَا زَادَ عَلَيْهَا، بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمُوَادَعَةُ خَيْرًا؛ لأَِنَّهَا تَرْكُ الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَإِنْ صَالَحَهُمْ مُدَّةً ثُمَّ رَأَى نَقْضَ الصُّلْحِ أَنْفَعَ نَبَذَ إِلَيْهِمْ وَقَاتَلَهُمْ؛ لأَِنَّ الْمَصْلَحَةَ لَمَّا تَبَدَّلَتْ كَانَ النَّبْذُ جِهَادًا، وَإِيفَاءُ الْعَهْدِ تَرْكُ الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلاَ بُدَّ مِنَ النَّبْذِ تَحَرُّزًا عَنِ الْغَدْرِ وَقَدْ قَال عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْعُهُودِ: وَفَاءٌ لاَ غَدْرٌ (2) وَلاَ بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ مُدَّةٍ يَبْلُغُ فِيهَا خَبَرُ النَّبْذِ إِلَى جَمِيعِهِمْ وَيُكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِمُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَمَكَّنُ مَلِكُهُمْ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالنَّبْذِ مِنْ إِنْفَاذِ الْخَبَرِ إِلَى أَطْرَافِ بِلاَدِهِ؛ لأَِنَّ بِذَلِكَ يَنْتَفِي الْغَدْرُ (3) .
12 - ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِذَلِكَ شُرُوطًا:
__________
(1) حديث: " وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة. . ". سبق تخريجه ف9.
(2) حديث: " وفاء لا غدر ". أخرجه أبو داود (3 / 190 - تحقيق عزت عبيد الدعاس) والترمذي (4 / 143 - ط الحلبي) موقوفا على عمرو بن عبسه. وقال الترمذي: " حسن صحيح ".
(3) الهداية مع فتح القدير 4 / 293 - 294 ط الأميرية، الاختيار 4 / 120 - 121 ط. المعرفة - حاشية الطحطاوي على الدر المختار 2 / 443 - 444 ط بولاق، ابن عابدين 3 / 226 ط المصرية - تبيين الحقائق 3 / 245 - 246 ط الأميرية.(25/233)
الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ لَهَا الإِْمَامَ أَوْ نَائِبَهُ بِخِلاَفِ الأَْمَانِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَلَوْ مِنْ آحَادِ النَّاسِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ كَالْعَجْزِ عَنِ الْقِتَال مُطْلَقًا أَوْ فِي الْوَقْتِ، مَجَّانًا أَوْ بِعِوَضٍ، فَإِنْ لَمْ تَظْهَرِ الْمَصْلَحَةُ بِأَنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَخْلُوَ عَقْدُهَا عَنْ شَرْطٍ فَاسِدٍ وَإِلاَّ لَمْ يَجُزْ كَشَرْطِ بَقَاءِ مُسْلِمٍ أَسِيرٍ بِأَيْدِيهِمْ أَوْ بَقَاءِ قَرْيَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ خَالِيَةً مِنْهُمْ وَأَنْ يَأْخُذُوا مِنَّا مَالاً إِلاَّ لِخَوْفٍ مِنْهُمْ فَيَجُوزُ كُل مَا مُنِعَ.
الرَّابِعُ، وَهُوَ لِلْمَالِكِيَّةِ خَاصَّةً: عَدَمُ تَحْدِيدِ مُدَّتِهَا بِطُولٍ أَوْ قِصَرٍ بَل يُتْرَكُ ذَلِكَ لاِجْتِهَادِ الإِْمَامِ وَبِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَلاَ يُطِيل لِمَا قَدْ يَحْدُثُ مِنْ قُوَّةِ الإِْسْلاَمِ (1) .
وَخَالَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الشَّرْطِ الرَّابِعِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَشْرُوعَةِ.
ثُمَّ لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ أَوْ لاَ يَكُونُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَرَأَى الإِْمَامُ
__________
(1) الدسوقي 2 / 205 - 206 ط الفكر - الخرشي 3 / 150 - 151 ط بولاق، شرح الزرقاني 3 / 148 - 149 ط، الفكر، جواهر الإكليل 1 / 269 ط. دار المعرفة.(25/234)
الْمَصْلَحَةَ فِي الْهُدْنَةِ هَادَنَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَأَقَل، وَلاَ يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ سَنَةٍ قَطْعًا، وَلاَ سَنَةً عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلاَ مَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ عَلَى الأَْظْهَرِ.
وَإِنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ جَازَتِ الزِّيَادَةُ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَلاَ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشْرِ، لَكِنْ إِنِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَالْحَاجَةُ بَاقِيَةٌ، اسْتُؤْنِفَ الْعَقْدُ (1) .
13 - وَجَوَّزَ الْحَنَابِلَةُ مُهَادَنَةَ الْكُفَّارِ عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ وَلَوْ بِمَالٍ يَدْفَعُهُ الْمُسْلِمُونَ لِلْكُفَّارِ ضَرُورَةً، مِثْل أَنْ يَخَافَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْهَلاَكَ أَوِ الأَْسْرَ، لأَِنَّهُ يَجُوزُ لِلأَْسِيرِ فِدَاءُ نَفْسِهِ بِالْمَال فَكَذَا هُنَا، وَجَازَ تَحَمُّل صَغَارٍ لِدَفْعِ صَغَارٍ أَعْظَمَ مِنْهُ وَهُوَ الْقَتْل أَوِ الأَْسْرُ وَسَبْيُ الذُّرِّيَّةِ الْمُفْضِي إِلَى كُفْرِهِمْ.
قَال الزُّهْرِيُّ: أَرْسَل رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَهُوَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ يَعْنِي يَوْمَ الأَْحْزَابِ: أَرَأَيْتَ إِنْ جَعَلْتُ لَكَ ثُلُثَ ثَمَرِ الأَْنْصَارِ أَتَرْجِعُ بِمَنْ مَعَكَ مِنْ غَطَفَانَ أَوْ تُخَذِّل بَيْنَ الأَْحْزَابِ؟ فَأَرْسَل إِلَيْهِ عُيَيْنَةُ إِنْ
__________
(1) المهذب 2 / 260 - 261 ط حلب، روضة الطالبين 10 / 334 - 336 ط. المكتب الإسلامي، حاشية القليوبي 4 / 237 - 238 ط حلب، الجمل على المنهج 5 / 228 - 229 ط التراث.(25/234)
جَعَلْتَ الشَّطْرَ فَعَلْتُ (1) ، وَلَوْلاَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَمَا بَذَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ فِيهَا مَعْلُومَةً، لأَِنَّ مَا وَجَبَ تَقْدِيرُهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا كَخِيَارِ الشَّرْطِ، وَلَوْ فَوْقَ عَشْرِ سِنِينَ لأَِنَّهَا تَجُوزُ فِي أَقَل مِنْ عَشْرٍ فَجَازَتْ فِي أَكْثَر مِنْهَا كَمُدَّةِ الإِْجَارَةِ، وَلأَِنَّهُ إِنَّمَا جَازَ عَقْدُهَا لِلْمَصْلَحَةِ فَحَيْثُ وُجِدَتْ جَازَ عَقْدُهَا تَحْصِيلاً لِلْمَصْلَحَةِ، وَإِنْ هَادَنَهُمْ مُطْلَقًا بِأَنْ لَمْ يُقَيِّدْ بِمُدَّةٍ لَمْ يَصِحَّ. لأَِنَّ الإِْطْلاَقَ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْجِهَادِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، أَوْ هَادَنَهُمْ مُعَلِّقًا بِمَشِيئَةٍ كَـ: مَا شِئْنَا، أَوْ: شِئْتُمْ، أَوْ: شَاءَ فُلاَنٌ، أَوْ: مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ كَالإِْجَارَةِ وَلِجَهَالَةِ الْمُدَّةِ.
14 - قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهَا، فَقِيل: إِنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (2) لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ مِنَ الْمَيْل إِلَى الصُّلْحِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إِلَى الصُّلْحِ. وَقِيل: مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} . وَقِيل: هِيَ مُحْكَمَةٌ. وَالآْيَتَانِ نَزَلَتَا فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْحَال.
__________
(1) حديث: " أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن. . ". أخرجه عبد الرزاق (5 / 367 - 368 ط المجلس العلمي) عن الزهري مرسلا.
(2) سورة الأنفال / 61.(25/235)
وَقِيل: إِنَّ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} مَخْصُوصٌ فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، وَالأُْخْرَى عَامَّةٌ. فَلاَ يَجُوزُ مُهَادَنَةُ الْكُفَّارِ إِلاَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ إِذَا عَجَزْنَا عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ لِضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ (1) .
__________
(1) تفسير القرطبي 16 / 256.(25/235)
سَمَاد
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّمَادُ مَا تُسَمَّدُ بِهِ الأَْرْضُ، مِنْ سَمَّدَ الأَْرْضَ؛ أَيْ أَصْلَحَهَا بِالسَّمَادِ.
وَتَسْمِيدُ الأَْرْضِ: أَنْ يَجْعَل فِيهَا السَّمَادَ.
وَالسَّمَادُ مَا يُطْرَحُ فِي أُصُول الزَّرْعِ وَالْخُضَرِ مِنْ تُرَابٍ وَسِرْجِينٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِيَجُودَ نَبَاتُهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ السَّمَادِ وَنَجَاسَتِهِ:
2 - الأَْسْمِدَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ رَجِيعِ الْحَيَوَانَاتِ
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير (مادة: سمد) ، وكشاف القناع للبهوتي 6 / 194 - ط عالم الكتب، مغني المحتاج 2 / 11.(25/236)
الَّتِي لاَ يُؤْكَل لَحْمُهَا مِنْ غَيْرِ الطُّيُورِ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي نَجَاسَتِهَا.
أَمَّا الأَْسْمِدَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ ذَرْقِ الطُّيُورِ مِمَّا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهَا، وَهِيَ كُل ذِي مِخْلَبٍ كَالشَّاهِينِ وَالْبَازِي، فَهِيَ نَجِسَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى طَهَارَتِهَا (1) .
أَمَّا الأَْسْمِدَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ رَجِيعِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُؤْكَل لَحْمُهَا فَاخْتَلَفُوا فِيهَا.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا إِلَى أَنَّهَا طَاهِرَةٌ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ مِنَ الطُّيُورِ أَوْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا أَوْرَدَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ طَهَارَةَ سَمَادِ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ بِعَدَمِ أَكْلِهِ لِلنَّجَاسَاتِ، فَإِنْ أَكَل نَجِسًا فَسَمَادُهُ نَجِسٌ عِنْدَهُمْ أَيْضًا (2) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ رَجِيعَ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، سَوَاءٌ الْمَأْكُولَةُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 214، الدسوقي 1 / 151، جواهر الإكليل 1 / 9، مغني المحتاج 1 / 75، القليوبي 1 / 714، كشاف القناع 1 / 193.
(2) ابن عابدين 1 / 126، جواهر الإكليل 1 / 9، 217، القليوبي وعميرة 1 / 70، كشاف القناع 1 / 194، المغني 2 / 88.(25/236)
لُحُومُهَا أَمْ غَيْرُ الْمَأْكُولَةِ مِنْ طُيُورٍ أَوْ غَيْرِهَا نَجِسٌ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى مِثْل ذَلِكَ مَا عَدَا زُفَرَ وَمُحَمَّدًا إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا ذَرْقَ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى وَعَدُّوهُ مِنَ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ (1) .
وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ فِي الْمَسْأَلَةِ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (رَوْث، عَذِرَة، زِبْل، نَجَاسَة) .
حُكْمُ التَّسْمِيدِ بِالنَّجَاسَةِ وَالأَْكْل مِنْ ثِمَارِ الأَْشْجَارِ الْمُسَمَّدَةِ بِهَا:
3 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنَ الطَّاهِرِ الزَّرْعَ الَّذِي سُقِيَ بِنَجَسٍ أَوْ نَبَتَ مِنْ بَذْرٍ نَجِسٍ وَظَاهِرُهُ نَجَسٌ فَيُغْسَل قَبْل أَكْلِهِ وَإِذَا سَنْبَل فَحَبَّاتُهُ الْخَارِجَةُ طَاهِرَةٌ قَطْعًا وَلاَ حَاجَةَ إِلَى غَسْلِهَا، وَهَكَذَا الْقِثَّاءُ وَالْخِيَارُ وَشَبِيهُهُمَا يَكُونُ طَاهِرًا وَلاَ حَاجَةَ إِلَى غَسْلِهِ. وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ رَوْثَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَمْ يُجِيزُوا التَّسْمِيدَ بِأَيٍّ مِنْهُمَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّسْمِيدُ بِالنَّجَاسَاتِ، وَالزُّرُوعُ الْمَسْقِيَّةُ بِالنَّجَاسَاتِ لاَ تَحْرُمُ وَلاَ تُكْرَهُ.
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ تَحْرُمُ الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 79، الاختيار 1 / 34، المغني 2 / 88.(25/237)
الَّتِي سُقِيَتْ بِالنَّجَاسَاتِ أَوْ سُمِّدَتْ بِهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنَّا نُكْرِي أَرَاضِيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يَدْمُلُوهَا بِعَذِرَةِ النَّاسِ وَلأَِنَّهُ تُتْرَكُ أَجْزَاءُ النَّبَاتِ بِالنَّجَاسَةِ، وَالاِسْتِحَالَةُ لاَ تُطَهِّرُ النَّجِسَ عِنْدَهُمْ. وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِل أَنْ يُكْرَهَ ذَلِكَ وَلاَ يَحْرُمُ وَلاَ يُحْكَمُ بِتَنْجِيسِهَا لأَِنَّ النَّجَاسَةَ تَسْتَحِيل فِي بَاطِنِهَا فَتَطْهُرُ بِالاِسْتِحَالَةِ كَالدَّمِ يَسْتَحِيل فِي أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ لَحْمًا وَيَصِيرُ لَبَنًا، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْمُل أَرْضَهُ بِالْعَرَّةِ وَيَقُول: مِكْتَل عَرَّةٍ مِكْتَل بُرَّةٍ وَالْعَرَّةُ عَذِرَةُ النَّاسِ. اهـ. (1)
ب - بَيْعُ السَّمَادِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ السَّمَادِ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْمَأْكُولَةِ لُحُومُهَا أَمْ مِنْ غَيْرِهَا، وَكَرِهُوا بَيْعَ الْعَذِرَةِ (رَجِيعِ بَنِي آدَمَ) خَالِصَةً بِخِلاَفِ مَا خُلِطَ مِنْهَا بِالتُّرَابِ أَوِ الرَّمَادِ فَلاَ كَرَاهَةَ.
وَفَصَّل (الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) فِي الْمَسْأَلَةِ وَقَالُوا: بِجَوَازِ بَيْعِ الزِّبْل وَالسِّرْقِينِ وَالأَْسْمِدَةِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 217، بدائع الصنائع 5 / 144، الفتاوى الهندية 3 / 116، جواهر الإكليل 1 / 10 / 12، حاشية الجمل 2 / 86، المجموع شرح المهذب 2 / 573، المغني 8 / 594، 4 / 283، وكشاف القناع 6 / 194.(25/237)
الطَّاهِرَةِ كَخُرْءِ الْحَمَامِ، وَخِثْيِ الْبَقَرِ وَبَعْرِ الإِْبِل وَنَحْوِهَا.
أَمَّا الأَْسْمِدَةُ النَّجِسَةُ فَيَحْرُمُ بَيْعُهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْل شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ (1) وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا حَيْثُ أَوْرَدُوا فِي بَابِ الْبَيْعِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ مَا هُوَ نَجَاسَةٌ أَصْلِيَّةٌ أَوْ لاَ يُمْكِنُ طَهَارَتُهُ كَزِبْلٍ مِنْ غَيْرِ مُبَاحٍ وَذَلِكَ لاِشْتِرَاطِهِمُ الطَّهَارَةَ فِي الْبَيْعِ، لَكِنِ الْعَمَل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الزِّبْل (الأَْسْمِدَةِ) غَيْرِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ عَذِرَةِ بَنِي آدَمَ وَذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الأَْسْمِدَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنَ الْمَأْكُول اللَّحْمِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ لأَِنَّهُ نَجَسٌ وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ النَّجَسِ سَوَاءٌ أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ بِالاِسْتِحَالَةِ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ أَمْ لَمْ يُمْكِنْ تَطْهِيرُهُ كَسِرْجِينٍ وَأَسْمِدَةٍ وَغَيْرِهَا (2) . (ر: نَجَاسَة) .
__________
(1) حديث: " إن الله إذا حرم على قوم. . . . ". أخرجه أبو داود (3 / 758 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ابن عباس وإسناده صحيح.
(2) ابن عابدين 5 / 246، 247، الدسوقي 3 / 10، كشاف القناع 3 / 156، الحطاب 4 / 260، أسنى المطالب 2 / 8، الروضة 3 / 348، المغني 4 / 283، الفتاوى الهندية 3 / 116، بدائع الصنائع 5 / 144.(25/238)
ج - السَّمَادُ فِي الْمُزَارَعَةِ أَوِ الْمُسَاقَاةِ وَنَحْوِهَا:
5 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ كُل شَرْطٍ لَيْسَ مِنْ أَعْمَال الزِّرَاعَةِ إِذَا اشْتَرَطَهُ الْمَالِكُ يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ، وَمِنْ ذَلِكَ تَسْمِيدُ الأَْرْضِ بِالزِّبْل، فَشِرَاءُ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَال لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْعَمَل فَجَرَى مَجْرَى مَا يُلَقَّحُ بِهِ، وَتَفْرِيقُ ذَلِكَ فِي الأَْرْضِ عَلَى الْعَامِل كَالتَّلْقِيحِ. فَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ كَانَ تَأْكِيدًا، أَمَّا إِنْ شُرِطَ عَلَى أَحَدِهِمَا شَيْءٌ مِمَّا يَلْزَمُ الآْخَرَ كَاشْتِرَاطِ شِرَاءِ السَّمَادِ عَلَى الْعَامِل، فَقَال الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ: لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ لأَِنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَأَفْسَدَهُ كَالْمُضَارَبَةِ إِذَا شُرِطَ الْعَمَل فِيهَا عَلَى رَبِّ الْمَال.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ قَوْلَهُمْ: كُل شَرْطٍ يَنْتَفِعُ بِهِ رَبُّ الأَْرْضِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يُفْسِدُهَا كَطَرْحِ السِّرْقِينِ (السَّمَادِ) فِي الأَْرْضِ (1) .
__________
(1) المغني 5 / 402، نهاية المحتاج 5 / 254، الاختيار 3 / 78 - ط دار المعرفة - بيروت.(25/238)
سَمَاع
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّمَاعُ: مَصْدَرُ سَمِعَ، وَسَمِعَ لَهُ يَسْمَعُ سَمْعًا وَسِمْعًا وَسَمَاعًا، وَمِنْ مَعَانِيهِ:
أ - الإِْدْرَاكُ: يُقَال: سَمِعَ الصَّوْتَ سَمَاعًا: إِذَا أَدْرَكَهُ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ، فَهُوَ سَامِعٌ، وَمِنْهُ السَّمَاعُ، بِمَعْنَى اسْتِمَاعِ الْغِنَاءِ وَالآْلاَتِ الْمُطْرِبَةِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْغِنَاءِ ذَاتِهِ (1) .
ب - وَمِنْهَا الإِْجَابَةُ: كَمَا فِي أَدْعِيَةِ الصَّلاَةِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ أَيْ: أَجَابَ مَنْ حَمِدَهُ وَتَقَبَّلَهُ مِنْهُ.
ج - وَمِنْهَا الْفَهْمُ: يُقَال: " سَمِعْتُ كَلاَمَهُ: إِذَا فَهِمْتَ مَعْنَى لَفْظِهِ ".
د - الْقَبُول: مِثْل: سَمِعَ عُذْرَهُ: إِذَا قَبِل،
__________
(1) النهاية ولسان العرب وتاج العروس والمصباح.(25/239)
وَسَمِعَ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ: قَبِلَهَا، وَسَمِعَ الدَّعْوَى: لَمْ يَرُدَّهَا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِمَاعُ:
2 - السَّمَاعُ يَكُونُ بِقَصْدٍ وَبِغَيْرِ قَصْدٍ فِي حِينَ لاَ يَكُونُ الاِسْتِمَاعُ إِلاَّ بِقَصْدٍ، وَيَكُونُ السَّمَاعُ اسْمًا لِلْمَسْمُوعِ فَيُقَال لِلْغِنَاءِ: سَمَاعٌ (2) .
ب - الإِْنْصَاتُ:
3 - الإِْنْصَاتُ هُوَ السُّكُوتُ وَتَرْكُ اللَّغْوِ مِنْ أَجْل السَّمَاعِ وَالاِسْتِمَاعِ (ر: اسْتِمَاع) ، وَقَدْ أَوْرَدَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلِمَتَيْنِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ - جَل ذِكْرُهُ -: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (3) وَالْمَعْنَى حَسْبَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَهْل اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ: " إِذَا قَرَأَ الإِْمَامُ فَاسْتَمِعُوا إِلَى قِرَاءَتِهِ وَلاَ تَتَكَلَّمُوا (4) " كَمَا وَرَدَتَا مَعًا فِي أَحَادِيثَ نَبَوِيَّةٍ كَثِيرَةٍ، وَوَرَدَتَا كَذَلِكَ فِي قَوْل عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - فِيمَا رَوَاهُ مَالِكٌ - إِذَا
__________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر 2 / 401، ولسان العرب، والمصباح المنير، وتاج العروس.
(2) الفروق للعسكري ص 70.
(3) سورة الأعراف / 204.
(4) لسان العرب.(25/239)
قَامَ الإِْمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَاسْتَمِعُوا وَأَنْصِتُوا. (1)
ج - الإِْصْغَاءُ:
4 - هُوَ أَنْ يَجْمَعَ إِلَى حُسْنِ السَّمَاعِ الاِسْتِمَاعَ مُبَالَغَةً فِي الإِْنْصَاتِ، لِمَا تَتَضَمَّنُهُ هَذِهِ الصِّيغَةُ مِنْ دَلاَلَةٍ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَمِعَ قَدْ أَمَال سَمْعَهُ أَوْ أُذُنَهُ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ أَوْ مَصْدَرِ الصَّوْتِ حَتَّى يَنْقَطِعَ عَنْ كُل شَيْءٍ يَشْغَلُهُ عَنْهُ (2) .
د - الْغِنَاءُ:
5 - الْغِنَاءُ بِالْمَدِّ - لُغَةً: صَوْتٌ مُرْتَفِعٌ مُتَوَالٍ، وَقَال ابْنُ سِيدَهْ: الْغِنَاءُ - مِنَ الصَّوْتِ مَا طُرِبَ بِهِ.
وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي كِتَابِهِ: كَشَّافُ الْقِنَاعِ: أَنَّهُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالشِّعْرِ وَمَا يُقَارِبُهُ مِنَ الرَّجَزِ عَلَى نَحْوٍ مَخْصُوصٍ (3) .
فَالْغِنَاءُ نَوْعٌ مِنَ السَّمَاعِ.
__________
(1) أثر (إذا قام الإمام يخطب يوم الجمعة فاستمعوا وأنصتوا) . أخرجه مالك من حديث عثمان بن عفان موقوفا عليه (الموطأ 1 / 104 ط عيسى الحلبي) .
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر.
(3) الإمتاع بأحكام السماع. مخطوط بالمكتبة الوطنية بتونس ورقم 17 وجه، وانظر أيضا: فرح الأسماع برخص السماع ص 49 الدار العربية للكتاب بتونس تحقيق وتقديم: محمد الشريف الرحموني ط1 سنة 1985م. والنهاية في غريب الحديث والأثر، ولسان العرب.(25/240)
وَالتَّغْبِيرُ: ضَرْبٌ مِنَ الْغِنَاءِ يُذَكِّرُ بِالْغَابِرَةِ وَهِيَ الآْخِرَةُ. وَالْمُغَبِّرَةُ قَوْمٌ يُغَبِّرُونَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِدُعَاءٍ وَتَضَرُّعٍ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ هَذَا الاِسْمُ لِتَزْهِيدِهِمُ النَّاسَ فِي الْفَانِيَةِ وَهِيَ الدُّنْيَا وَتَرْغِيبِهِمْ فِي الْبَاقِيَةِ وَهِيَ الآْخِرَةُ، وَهُوَ مِنْ (غَبَرَ) الَّذِي يُسْتَعْمَل لِلْبَاقِي كَمَا يُسْتَعْمَل لِلْمَاضِي، وَقَدْ كَرِهَهُ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ لأَِنَّهُ يُلْهِي عَنِ الْقُرْآنِ وَاعْتَبَرَهُ مِنْ عَمَل الزَّنَادِقَةِ، وَقَال فِيهِ الشَّيْخُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّهُ مِنْ أَمْثَل أَنْوَاعِ السَّمَاعِ وَمَعَ ذَلِكَ كَرِهَهُ الأَْئِمَّةُ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
1 - حُكْمُ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ فِي حَقِّ مَنْ يَسْمَعُ الأَْذَانَ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ سَمِعَ الأَْذَانَ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مَا عَدَا الْجُمُعَةَ، فَذَهَبَ
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 11 / 298، 629، 36 / 200، والمقدمة لابن خلدون ص 426 وما بعدها، المكتبة التجارية الكبرى بمصر، وإحياء علوم الدين 2 / 268، 269 دار المعرفة بيروت 1982م، وكتاب السماع ص 37 وما بعدها تحقيق المراغي، لجنة إحياء التراث القاهرة 1390 هـ - 1970م، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 / 215 - 222، دار الشروق للطباعة القاهرة سنة 1388 هـ 1968م. وفرح الأسماع برخص السماع ص 49، والمعيار 11 / 29 وما بعدها، ص 106 وما بعدها. دار الغرب الإسلامي سنة 1401 هـ 1981م.(25/240)
بَعْضُهُمْ إِلَى وُجُوبِ حُضُورِهَا، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ بَل هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمَا إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَحُضُورُهَا فَرْضُ عَيْنٍ بِشُرُوطِهِ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (صَلاَة الْجَمَاعَةِ، وَصَلاَة الْجُمُعَةِ (1))
مَا يَقُولُهُ سَامِعُ الأَْذَانِ:
7 - يُسَنُّ لِمَنْ سَمِعَ الأَْذَانَ أَنْ يَقُول مِثْلَمَا يَقُول الْمُؤَذِّنُ لِلأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِذَا سَمِعْتُمِ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْل مَا يَقُول الْمُؤَذِّنُ (2) .
وَفِي رِوَايَةٍ: إِلاَّ فِي حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ،
__________
(1) ابن تيمية: مجموع الفتاوى 23 / 225، والنووي على صحيح مسلم 5 / 155، 153، وابن قدامة: المغني 2 / 4 - 5 مع الشرح الكبير، دار الفكر بيروت 7 - سنة 1404 هـ، مجموع الفتاوى 23 / 225 - 226. ونيل الأوطار 3 / 234، والأم 1 / 153، دار المعرفة بيروت ط2، 1393 هـ 1973م، والقفال الشاشي: حلية العلماء في معرفة مذاهب العلماء 2 / 155، مؤسسة الرسالة دار الأرقم عمان ط1 من 1400 هـ 1980م.
(2) حديث: " إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 90 ط، السلفية) ومسلم (1 / 88 ط. عيسى الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا.(25/241)
حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ فَقُولُوا: لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ (1) .
فَإِذَا تَمَّ الأَْذَانُ يُسَنُّ لِلسَّامِعِ أَنْ يَطْلُبَ الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ قَال حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ - حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2) . وَانْظُرْ (أَذَان) .
__________
(1) حديث: " إلا في حي على الصلاة حي على الفلاح فقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله ". يدل عليه ما أخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب مرفوعا بلفظ: " إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر. فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. قال: أشهد أن لا وأخرج البخاري نحوه من حديث معاوية وقال: هكذا سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: (فتح الباري 2 / 91 ونيل الأوطار 2 / 35 نشر دار الجيل
(2) حديث: " من قال حين يسمع النداء. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 94 ط السلفية) من حديث جابر بن عبد الله.(25/241)
إِسْمَاعُ الْمُصَلِّي قِرَاءَةَ نَفْسِهِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَقَل مَا يُجْزِئُ فِي حَالَةِ الإِْسْرَارِ قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ يُسْمِعُهَا نَفْسَهُ لَوْ كَانَ سَمِيعًا، مِثْلَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي التَّكْبِيرِ لأَِنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ بِقِرَاءَةٍ. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي حَالَةِ الإِْسْرَارِ أَنْ يُسْمِعَ الْمُصَلِّي قِرَاءَتَهُ نَفْسَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكْتَفِيَ فِيهَا - عِنْدَهُمْ - بِتَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِالْقُرْآنِ دُونَ أَنْ يُلْزَمَ بِإِسْمَاعِ نَفْسِهِ، قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: " تَحْرِيكُ لِسَانِ الْمُسِرِّ فَقَطْ يُجْزِئُهُ، وَلَوْ أَسْمَعَ أُذُنَيْهِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ. وَلاَ يُجْزِئُ مَا دُونَ ذَلِكَ كَالْقِرَاءَةِ بِالْقَلْبِ؛ لأَِنَّ تَحْرِيكَ اللِّسَانِ شَرْطٌ أَدْنَى فِي صِحَّةِ الْقِرَاءَةِ. قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: كَانَ مَالِكٌ لاَ يَرَى مَا قَرَأَ بِهِ الرَّجُل فِي الصَّلاَةِ فِي نَفْسِهِ مَا لَمْ يُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَهُ قِرَاءَةً، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ نُقِل عَنْ شُيُوخِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَقْرَأَ فَقَرَأَ بِقَلْبِهِ لَمْ يَحْنَثْ. وَأَنَّ الْجُنُبَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِقَلْبِهِ مَا لَمْ يُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَهُ (1) ".
__________
(1) زروق على رسالة ابن أبي زيد القيرواني مع شرح ابن ناجي عليها 1 / 156، 179، 183، دار الفكر سنة 1402 هـ، والتاج والإكليل لمختصر خليل 1 / 518، بهامش مواهب الجليل للحطاب. دار الفكر ط2 سنة 1398 هـ - 1980م، والمدونة الكبرى 1 / 65، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 559، دار الفكر، دمشق.(25/242)
أَمَّا حَالَةُ الْجَهْرِ - فَإِنَّ أَدْنَى مَا يُطْلَبُ مِنَ الْمُصَلِّي فِيهَا أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ وَلاَ حَدَّ لأَِعْلاَهُ خَاصَّةً إِذَا كَانَ إِمَامًا إِذْ عَلَيْهِ أَنْ يُبَالِغَ فِي رَفْعِ صَوْتِهِ بِقَدْرِ مَا يُسْمِعُ الْمَأْمُومِينَ لأَِنَّهُمْ مُطَالَبُونَ بِالاِسْتِمَاعِ وَالإِْنْصَاتِ لَهُ دُونَ الْقِرَاءَةِ (1) .
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (صَلاَة الْجَمَاعَةِ) .
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَدُونَ الرَّجُل فِي الْجَهْرِ إِذْ عَلَيْهَا أَنْ تُسْمِعَ نَفْسَهَا خَاصَّةً مِثْلَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي حَقِّهَا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّلْبِيَةِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ أَعْلَى جَهْرِهَا وَأَدْنَاهُ وَاحِدًا فَيَسْتَوِي فِي حَقِّهَا الْحَالَتَانِ (2) .
سَمَاعُ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ لِمَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمْ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ،
__________
(1) الحطاب: مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 1 / 525، والمواق: التاج والإكليل 1 / 525 بهامش المصدر السابق ـ زروق مع ابن ناجي على رسالة ابن أبي زيد 1 / 183، وأبو الحسن على الرسالة بحاشية العدوي 1 / 255، دار المعرفة، بيروت، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 643، أحكام القرآن للجصاص 3 / 260.
(2) المعيار 1 / 151 - 153، دار الغرب الإسلامي - بيروت، مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 138 - 149، الرسالة السادسة، والحطاب: مواهب الجليل 1 / 525 - زروق على الرسالة مع ابن ناجي عليها 1 / 179 - شرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 255، 256 المغني مع الشرح الكبير 1 / 559، 560، ومواهب الجليل 1 / 518.(25/242)
وَالأَْوْزَاعِيُّ، إِلَى وُجُوبِ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ لِمَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمْ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ.
انْظُرْ: مُصْطَلَحَيْ (اسْتِمَاع، وَصَلاَةُ الْجُمُعَةِ) .
السُّجُودُ لِسَمَاعِ آيِ السَّجْدَةِ:
10 - يَتَرَتَّبُ سُجُودُ التِّلاَوَةِ عَلَى اسْتِمَاعِ آيَةٍ مِنْ آيَاتِهِ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الأَْئِمَّةِ فِي حُكْمِهِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سُجُود التِّلاَوَةِ) .
سَمَاعُ الدَّعْوَى:
11 - سَمَاعُ الدَّعْوَى - فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ - لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنَ الْقَاضِي أَوْ مِمَّنْ يَقُومُ مَقَامَهُ (1) . وَهُمْ يُرِيدُونَ بِهَذَا السَّمَاعِ أَمْرَيْنِ مُتَتَالِيَيْنِ:
الأَْوَّل: الإِْنْصَاتُ وَالإِْصْغَاءُ إِلَيْهَا لاِسْتِيعَابِهَا وَإِدْرَاكِ خَفَايَاهَا عِنْدَ رَفْعِهَا إِلَيْهِ مِنَ
__________
(1) كصاحب الشرطة أو صاحب الحسبة أو صاحب الرد أو صاحب المدينة، كما نص على ذلك غير واحد من الفقهاء (النباهي: المرقبة العليا ص5) .(25/243)
الْمُدَّعِي أَوْ وَكِيلِهِ حَيْثُ نَصُّوا عَلَى أَنَّ السَّمَاعَ هُنَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَامِلاً شَامِلاً مُحَصِّلاً لِلْفَهْمِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا مُوسَى الأَْشْعَرِيَّ فِي رِسَالَةِ الْقَضَاءِ الْمَشْهُورَةِ، حِينَ قَال: " فَافْهَمْ إِذَا أُدْلِيَ إِلَيْكَ إِذْ لاَ يَتَمَكَّنُ أَيُّ حَاكِمٍ مَهْمَا كَانَتْ دَرَجَتُهُ مِنَ الْحُكْمِ بِالْحَقِّ إِلاَّ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الْفَهْمِ.
النَّوْعُ الأَْوَّل: فَهْمُ الدَّعْوَى الَّتِي عُرِضَتْ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِفَهْمِ الْوَاقِعِ وَالْفِقْهِ فِيهِ (1) .
الثَّانِي: فَهْمُ الْوَاجِبِ فِي الْوَاقِعِ وَهُوَ فَهْمُ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْوَاقِعِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ.
وَقَدْ حَرَصَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَوْفِيرِ كُل مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُسَاعِدَ عَلَى سَلاَمَةِ هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ مَرْحَلَةِ سَمَاعِ الدَّعْوَى وَفَهْمِهَا فَنَبَّهُوا:
أَوَّلاً: إِلَى أَنَّ سَلاَمَةَ السَّمْعِ وَالنُّطْقِ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَتَوَافَرَ فِي الْقَاضِي لاِسْتِمْرَارِ وِلاَيَتِهِ، وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَثَانِيًا: إِلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ - إِذَا لَمْ يُدْرِكْ كَلاَمَ
__________
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين 1 / 85 - دار الجيل، بيروت.(25/243)
أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ - أَنْ يُطَالِبَهُ بِالإِْعَادَةِ حَتَّى يَفْهَمَ عَنْهُ مَا يَقُول فَهْمًا كَافِيًا (1) .
وَأَخِيرًا أَكَّدُوا عَلَى تَجَنُّبِ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَشْغَل السَّامِعَ عَنِ الْمُتَابَعَةِ وَالاِنْتِبَاهِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ وَاسْتِصْفَاءِ الْفِكْرِ كَالْغَضَبِ وَالْجُوعِ الْمُفْرِطِ وَالْعَطَشِ الشَّدِيدِ وَالأَْلَمِ الْمُزْعِجِ وَمُدَافَعَةِ أَحَدِ الأَْخْبَثَيْنِ، وَشِدَّةِ النُّعَاسِ، وَالْحُزْنِ وَالْفَرَحِ وَمَا إِلَيْهَا. وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ يَقْضِي الْقَاضِي أَوْ لاَ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ (2) وَقَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِسَالَتِهِ الْمَذْكُورَةِ: " إِيَّاكَ وَالْغَضَبَ وَالْقَلَقَ وَالضَّجَرَ وَالتَّأَذِّي بِالنَّاسِ وَالتَّنَكُّرَ لَهُمْ عِنْدَ الْخُصُومَةِ.
الأَْمْرُ الثَّانِي: قَبُول الدَّعْوَى مِنَ الْمُدَّعِي يُقَال: سَمِعَ الْقَاضِي دَعْوَى فُلاَنٍ: إِذَا
__________
(1) إعلام الموقعين 1 / 87 - 88، والمغني مع الشرح الكبير 11 / 282، 396 - 399 وتبصرة الحكام 1 / 25، 37 بهامش فتح العلي المالك. وجواهر الإكليل شرح مختصر خليل 2 / 221، ومواهب الجليل مع التاج والإكليل 6 / 99، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 60 وللماوردي 66.
(2) حديث: (لا يقضي القاضي أو لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان) . أخرجه الشافعي بهذا اللفظ كما في الفتح (13 / 137 ط. السلفية) وأخرجه البخاري من حديث أبي بكرة مرفوعا بلفظ (لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان) (فتح الباري 13 / 136 ط. السلفية) .(25/244)
قَبِلَهَا، وَيُقَال: لَمْ يَسْمَعْهَا: إِذَا رَدَّهَا، كَمَا يُقَال: هَذِهِ دَعْوَى مَسْمُوعَةٌ؛ أَيْ: مُسْتَجْمِعَةٌ لِشُرُوطِ الْقَبُول، وَتِلْكَ دَعْوَى غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ؛ أَيْ: أَنَّهَا لَمْ تَسْتَكْمِل مَا يُطْلَبُ لِسَمَاعِهَا.
وَقَدْ عَرَّفَ الْفُقَهَاءُ الدَّعْوَى بِتَعْرِيفَاتٍ مُتَقَارِبَةٍ يَدْعَمُ بَعْضُهَا الْبَعْضَ وَيَشْرَحُهُ.
وَاَلَّذِي يَتَعَيَّنُ ذِكْرُهُ هُنَا أَنَّ الدَّعْوَى - مَهْمَا كَانَ نَوْعُهَا (1) - لاَ يُتَّجَهُ سَمَاعُهَا وَلاَ يَتَحَتَّمُ إِلاَّ فِي حَالَتَيْنِ:
الأُْولَى: أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً مُسْتَجْمِعَةً لِشُرُوطِهَا.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ مَدْعُومَةً بِبَيِّنَةٍ شَرْعِيَّةٍ تَشْهَدُ بِصِدْقِ دَعْوَى الْمُدَّعِي.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (دَعْوَى) .
فَسَمَاعُ الدَّعْوَى فِي الْحَالَةِ الأُْولَى يُوجِبُ لِلْمُدَّعِي طَلَبَ الْجَوَابِ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ حَمْلِهِ عَلَى الْيَمِينِ إِنْ أَنْكَرَ، وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ يُوجِبُ سَمَاعُهَا الْحُكْمَ لِلْمُدَّعِي بِمُقْتَضَى الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي أَقَامَهَا (2) .
__________
(1) إعلام الموقعين 1 / 86، 2 / 175، المغني مع الشرح الكبير 11 / 395، جواهر الإكليل 2 / 225، مواهب الجليل مع التاج والإكليل 6 / 122، المغني مع الشرح الكبير 11 / 5، التبصرة 2 / 132، المصباح المنير 1 / 392، 393.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 35 / 390.(25/244)
سَمَاعُ الشَّهَادَةِ:
12 - الشَّهَادَةُ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ بِمَا عَلِمَهُ الشَّاهِدُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُل أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} (1) . وَقَوْلِهِ - جَل ذِكْرُهُ -: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2) وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ حِكَايَةً عَنْ قَوْل إِخْوَةِ يُوسُفَ: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} (3) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا عَلِمْتَ مِثْل الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلاَّ فَدَعْ (4) .
وَالْعِلْمُ الَّذِي تَقَعُ بِهِ الشَّهَادَةُ يَحْصُل بِطَرِيقَتَيْنِ:
أ - الرُّؤْيَةُ:
وَتَكُونُ فِي الأَْفْعَال كَالْغَصْبِ وَالإِْتْلاَفِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ وَالإِْكْرَاهِ وَنَحْوِهَا،
__________
(1) سورة الإسراء / 36.
(2) سورة الزخرف / 86.
(3) سورة يوسف / 81.
(4) حديث: " إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع ". أورده السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 291) وعزاه إلى الحاكم والبيهقي. وأخرجه الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: (ذُكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يشهد بشهادة فقال لي يا ابن عباس: " لا تشهد إلا على ما يضيء لك كضياء هذا الشمس " وأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الشمس، والحديث صححه الحاكم وأعله ال (المستدرك 4 / 98 نشر دار الكتاب العربي) .(25/245)
كَمَا تَكُونُ فِي الصِّفَاتِ الْمَرْئِيَّةِ مِثْل الْعُيُوبِ فِي الْمَبِيعِ وَالْمُؤَجَّرِ وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ (1) .
ب - السَّمَاعُ: وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: سَمَاعُ الصَّوْتِ مِنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فِي الأَْقْوَال سَوَاءٌ أَكَانَ السَّامِعُ مُبْصِرًا أَمْ غَيْرَ مُبْصِرٍ مِثْل مَا يَقَعُ بِهِ إِبْرَامُ الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالسَّلَمِ وَالرَّهْنِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى سَمَاعِ كَلاَمِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، إِذَا عَرَفَهَا السَّامِعُ وَتَيَقَّنَ أَنَّهَا مَصْدَرُ مَا سَمِعَ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَة) .
الشَّهَادَةُ بِالسَّمَاعِ (التَّسَامُعُ) :
13 - وَهِيَ: الشَّهَادَةُ الَّتِي يَكُونُ طَرِيقُهَا حَاسَّةَ السَّمْعِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شَهَادَة) .
سَمَاعُ الْغِنَاءِ وَالْمُوسِيقَى:
14 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ سَمَاعِ الْغِنَاءِ
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير 2 / 2120، مواهب الجليل 6 / 145، جواهر الإكليل 2 / 233.
(2) البيان والتحصيل لابن رشد 9 / 444، 445، 10 / 57 - 89 دار الغرب الإسلامي، المغني مع الشرح الكبير 12 / 21، جواهر الإكليل 2 / 233، مواهب الجليل 6 / 154.(25/245)
وَالْمُوسِيقَى عَلَى مَذَاهِبَ تُنْظَرُ فِي (اسْتِمَاع، غِنَاء، مَعَازِف) .
حُكْمُ سَمَاعِ صَوْتِ الْمَرْأَةِ:
15 - سَامِعُ صَوْتِ الْمَرْأَةِ إِنْ كَانَ يَتَلَذَّذُ بِهِ أَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ فِتْنَةً حَرُمَ عَلَيْهِ اسْتِمَاعُهُ وَإِلاَّ فَلاَ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (اسْتِمَاع) .
حُكْمُ سَمَاعِ الْقُرْآنِ:
16 - اسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ عِنْدَ تِلاَوَتِهِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) وَلاِسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ آدَابٌ وَأَحْكَامٌ مُبَيَّنَةٌ تَفْصِيلاً فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِمَاع، تِلاَوَة، قُرْآن) .
حُكْمُ سَمَاعِ الْحَدِيثِ:
17 - إِنَّ سَمَاعَ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ وَطَلَبَ السُّنَنِ وَالآْثَارِ وَإِتْقَانَ ذَلِكَ وَضَبْطَهُ وَحِفْظَهُ وَوَعْيَهُ هُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ لأَِنَّ الشَّرِيعَةَ الَّتِي تَعَبَّدَنَا اللَّهُ بِهَا مُتَلَقَّاةٌ مِنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِفَتِهِ مُبَلِّغًا مَا نَزَّلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ وَحْيٍ مَتْلُوٍّ مُعْجِزِ النِّظَامِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، وَوَحْيٍ مَرْوِيٍّ لَيْسَ
__________
(1) سورة الأعراف / 204.(25/246)
بِمُعْجِزٍ وَلاَ مَتْلُوٍّ وَلَكِنَّهُ مَقْرُوءٌ مَسْمُوعٌ وَهُوَ مَا وَرَدَ عَنْهُ فِي الأَْحَادِيثِ وَالأَْخْبَارِ.
وَمُهِمَّةُ جَمْعِهِ وَتَحْصِيلِهِ قَدْ أُلْقِيَتْ عَلَى كَوَاهِل الأُْمَّةِ وَخَاصَّةً أَعْلاَمَهَا وَذَوِي الْقُدْرَةِ مِنْ أَبْنَائِهَا، وَلاَ يَتِمُّ لَهُمْ ذَلِكَ إِلاَّ بِالسَّمَاعِ وَالتَّقْيِيدِ وَالْحِفْظِ وَالتَّدْوِينِ (1) .
وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِل فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِل فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ (2) .
وَفِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ (3) .
__________
(1) الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ص 6، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1 / 96، 97، دار الآفاق الجديدة بيروت ط2 سنة 1402 هـ 1983م.
(2) حديث: " نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه ". أخرجه الترمذي (5 / 33 ط، دار الكتب العلمية) وأبو داود (4 / 68، 69 - ط، عزت عبيد الدعاس) وحسنه الترمذي.
(3) حديث: " نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمع فرب مبلغ أوعى من سامع ". أخرجه الترمذي (5 / 33 ط. دار الكتب العلمية) وقال: هذا حديث حسن صحيح.(25/246)
وَحَثَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى اعْتِمَادِ هَذَا الطَّرِيقِ أَخْذًا وَعَطَاءً فَقَال فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ -: تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ وَيُسْمَعُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكُمْ (1) .
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ فِي الْحَدِيثَيْنِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ يُرَادُ لِلْعِلْمِ الاِسْتِمَاعُ وَالإِْنْصَاتُ وَالْحِفْظُ وَالْعَمَل وَالنَّشْرُ (2) .
وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ التَّمْيِيزِ فِي سَمَاعِ الْحَدِيثِ، فَإِنْ فَهِمَ الْخِطَابَ وَرَدَّ الْجَوَابَ كَانَ مُمَيِّزًا صَحِيحَ السَّمَاعِ وَإِلاَّ فَلاَ، وَهُوَ رَأْيُ أَغْلَبِ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمْ مُوسَى بْنُ هَارُونَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.
وَنَقَل الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ أَهْل الصَّنْعَةِ حَدَّدُوا أَوَّل زَمَنٍ يَصِحُّ فِيهِ السَّمَاعُ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَعَلَى هَذَا اسْتَقَرَّ الْعَمَل (3) . اعْتِمَادًا
__________
(1) حديث: " تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم ". أخرجه أبو داود (4 / 68 - ط، عزت عبيد الدعاس) وإسناده حسن (جامع الأصول في أحاديث الرسول 8 / 19، 20 ط. مطبعة الملاح) .
(2) جامع بيان العلم 1 / 118، دار الكتب العلمية، بيروت، والإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ص 221.
(3) الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ص 62، 65 - 66، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 1 / 171، المكتبة السلفية، وتدريب الراوي في شرح تقريب المناوي 2 / 5 - 6 دار التراث ط2 سنة 1392 هـ 1972م.(25/247)
عَلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قَال: عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي مِنْ دَلْوٍ مِنْ بِئْرٍ كَانَتْ فِي دَارِنَا وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ. وَلَعَلَّهُمْ رَأَوْا هَذَا التَّحْدِيدَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَدْنَى مَا يَحْصُل فِيهِ ضَبْطُ مَا يَسْمَعُ وَإِلاَّ فَمَرَدُّ ذَلِكَ لِلْعَادَةِ وَحْدَهَا؛ إِذِ الأَْمْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ اسْتِعْدَادِ الأَْشْخَاصِ لِلأَْخْذِ وَالتَّلَقِّي كَمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ طُرُقِ التَّحَمُّل، وَهِيَ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ ضَبَطَهَا أَهْل الرِّوَايَةِ فِي ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ، أَوَّلُهَا: سَمَاعُ الْحَدِيثِ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ وَهُوَ أَرْفَعُ الأَْقْسَامِ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْل الْعِلْمِ، وَأَدْنَاهَا الْوِجَادَةُ.
أَمَّا السِّنُّ الَّذِي يُسْتَحَبُّ فِيهِ أَنْ يَبْتَدِئَ الطَّالِبُ لِسَمَاعِ الْحَدِيثِ فَقِيل ثَلاَثُونَ سَنَةً وَقِيل عِشْرُونَ، وَعَلَيْهِ قَبْل الشُّرُوعِ فِي سَمَاعِ الْحَدِيثِ أَنْ يَتَخَلَّقَ بِأَخْلاَقِ أَهْلِهِ وَأَنْ يَلْتَزِمَ بِزِيِّهِمْ وَيَتَأَدَّبَ بِأَدَبِهِمْ وَأَنْ يَلْزَمَ الْوَقَارَ وَالسَّكِينَةَ وَالْمُوَاظَبَةَ فِي طَلَبِهِ وَإِخْلاَصَ النِّيَّةِ فِيهِ وَالتَّوَاضُعَ لِمَنْ يَأْخُذُ عَنْهُ وَالصَّبْرَ عَلَى مَا يَلْقَاهُ فِي سَبِيلِهِ وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا يُسَاعِدُ عَلَى الاِسْتِفَادَةِ وَالإِْفَادَةِ وَيُيَسِّرُ التَّحَمُّل وَالتَّحْمِيل (1) .
__________
(1) الإلماع 45 - 63 وما بعدها، جامع الأصول 9 / 15، 38 وما بعدها، وفتح الباري 1 / 172 البرهان 1 / 644، والإلماع ص 64، فتح الباري 1 / 173، وتدريب الراوي 2 / 140 - 158.(25/247)
سَمَاعُ اللَّغْوِ:
18 - اللَّغْوُ مِنَ الْكَلاَمِ: - مَا لاَ يُعْتَدُّ بِهِ إِمَّا لأَِنَّهُ يُورَدُ ارْتِجَالاً عَنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَدُونَ تَثَبُّتٍ وَتَفْكِيرٍ فَيَجْرِي مَجْرَى اللَّغَا الَّذِي يُطْلَقُ عَلَى صَوْتِ الْعَصَافِيرِ وَنَحْوِهَا مِنَ الطُّيُورِ (1) .
وَإِمَّا لأَِنَّهُ يُورَدُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَيُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنِ الصَّوَابِ كَمَنْ قَال لِصَاحِبِهِ: أَنْصِتْ، وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ (2) . أَوْ كَمَنْ دَعَا لأَِهْل الدُّنْيَا فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ (3) . وَقَدْ يُطْلَقُ اللَّغْوُ
__________
(1) المفردات في غريب القرآن ص 451، روح المعاني 27 / 139، 30 / 22، 23.
(2) حديث: " إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 414 ط. السلفية) ومسلم (2 / 583) من حديث أبي هريرة مرفوعا
(3) قال ابن العربي: لقد رأيت الزهاد بمدينة السلام والكوفة إذا بلغ الإمام إلى الدعاء لأهل الدنيا قاموا فصلوا ورأيتهم يتكلمون مع جلسائهم فيما يحتاجون إليه من أمرهم أو في علم ولا يصغون إليهم حينئذ لأنه عندهم لغو فلا يلزم استماعهم لاسيما وبعض الخطباء يكذبون حينئذ(25/248)
عَلَى كُل كَلاَمٍ قَبِيحٍ بَاطِلٍ، كَالْخَوْضِ فِي الْمَعَاصِي، وَالسَّبِّ، وَالشَّتْمِ، وَالرَّفَثِ، وَمَا إِلَيْهَا (1) . قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (2) . أَيْ: كَنُّوا عَنِ الْقَبِيحِ وَتَعَفَّفُوا عَنِ التَّصْرِيحِ بِهِ، وَقِيل: مَعْنَاهُ: إِذَا صَادَفُوا أَهْل اللَّغْوِ لَمْ يَخُوضُوا مَعَهُمْ فِي بَاطِلِهِمْ أَوْ فِي سَقَطِ كَلاَمِهِمْ.
وَمَا دَامَ اللَّغْوُ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي لاَ يَجْلِبُ نَفْعًا وَلاَ يَدْفَعُ إِثْمًا، وَلاَ يَتَّصِل بِقَصْدٍ صَحِيحٍ، فَإِنَّ سَمَاعَهُ كَالْخَوْضِ فِيهِ لاَ يَخْرُجُ حُكْمُهُ عَنِ الْحَظْرِ وَالْكَرَاهَةِ، تَبَعًا لِشِدَّةِ اتِّصَالِهِ بِالْمَفَاسِدِ، وَانْفِكَاكِهِ عَنْهَا (3) .
وَالْمُؤْمِنُونَ مُطَالَبُونَ بِالإِْعْرَاضِ عَنْهُ، وَالإِْحْجَامِ عَنْ سَمَاعِهِ، وَالْخَوْضِ فِيهِ إِطْلاَقًا لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَخْلاَقِهِمْ وَلاَ يَتَنَاسَبُ - فِي أَقَل صُوَرِهِ - مَعَ جِدِّهِمْ وَكَمَال نُفُوسِهِمْ.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
__________
(1) أحكام القرآن 3 / 312، 428 - المطبعة البهية بمصر سنة 1347 هـ، روح المعاني 27 / 139، 30 / 22، 23.
(2) سورة الفرقان / 72.
(3) أحكام القرآن للجصاص 3 / 428، والمفردات في غريب القرآن ص 451، روح المعاني 19 / 51، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 126.(25/248)
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَاَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (1) .
وَقَال جَل ذِكْرُهُ فِي صِفَتِهِمْ: {وَاَلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (2) . وَقَال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (3) .
__________
(1) سورة المؤمنون / 1 - 3.
(2) سورة الفرقان / 72.
(3) سورة القصص / 55.(25/249)
سَمْت
التَّعْرِيفُ
1 - مِنْ مَعَانِي السَّمْتِ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ. وَالْمُسَامَتَةُ: الْمُوَازَاةُ وَالْمُقَابَلَةُ، يُقَال: سَامَتَ الْقِبْلَةَ مُسَامَتَةً: إِذَا اسْتَقْبَلَهَا وَاتَّجَهَ نَحْوَهَا. وَسَمَتَ سَمْتَهُ: نَحَا نَحْوَهُ، وَيُطْلَقُ السَّمْتُ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْهُدَى، فَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: " إِنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلًّا وَسَمْتًا وَهَدْيًا بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَبْنُ أُمِّ عَبْدٍ (1) .
وَالسَّمْتُ أَيْضًا " هَيْئَةُ أَهْل الْخَيْرِ " يُقَال: رَجُلٌ حَسَنُ السَّمْتِ، وَمَا أَحْسَنَ سَمْتَهُ؛ أَيْ: هَدْيَهُ. وَالتَّسْمِيتُ (بِالسِّينِ وَالشِّينِ) ، الدُّعَاءُ لِلْعَاطِسِ (2) .
__________
(1) قول حذيفة: " إن أشبه الناس دلاّ وسمتا ". . . . أخرجه البخاري (الفتح 10 / 509 - ط السلفية) وابن أم عبد هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
(2) لسان العرب، المصباح المنير.(25/249)
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الاِسْتِقْبَال، وَالْمُحَاذَاةُ: اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَمُحَاذَاتُهَا مُرَادِفَانِ لِمُسَامَتَتِهَا.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (اسْتِقْبَال) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مُسَامَتَةَ الْقِبْلَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ صَلاَةِ الْقَادِرِ عَلَى ذَلِكَ (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِقْبَال) .
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 417، والدسوقي 1 / 223.
(2) سورة البقرة / 144.(25/250)
سِمْحَاق
التَّعْرِيفُ:
1 - السِّمْحَاقُ بِكَسْرِ السِّينِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ قِشْرَةٌ رَقِيقَةٌ فَوْقَ عَظْمِ الرَّأْسِ تَفْصِل اللَّحْمَ عَنِ الْعَظْمِ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تُطْلَقُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَلَى الشَّجَّةِ الَّتِي تَصِل إِلَى تِلْكَ الْقِشْرَةِ، تَقْطَعُ اللَّحْمَ وَلاَ تَصِل إِلَى الْعَظْمِ (1) . وَيُسَمِّيهَا الْمَالِكِيَّةُ الْمِلْطَاةَ، أَمَّا السِّمْحَاقُ عِنْدَهُمْ: فَهِيَ الَّتِي كَشَطَتِ الْجِلْدَ؛ أَيْ: أَزَالَتْهُ عَنِ اللَّحْمِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الْجُرُوحُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْوَجْهِ أَوِ الرَّأْسِ - أَيِ الشِّجَاجُ - تَتَنَوَّعُ حَسَبَ شِدَّتِهَا وَخِفَّتِهَا إِلَى أَنْوَاعٍ: مِنْهَا مَا لَمْ تَصِل إِلَى الْعَظْمِ كَالْحَارِصَةِ، وَالدَّامِعَةِ، وَالدَّامِيَةِ،
__________
(1) لسان العرب، والزيلعي 6 / 132، والقليوبي 4 / 112، والمطلع على أبواب المقنع ص 367.
(2) جواهر الإكليل 2 / 259.(25/250)
وَالْبَاضِعَةِ، وَالْمُتَلاَحِمَةِ، وَالسِّمْحَاقِ، وَمِنْهَا مَا تَصِل إِلَى الْعَظْمِ كَالْمُوضِحَةِ وَالْهَاشِمَةِ وَالآْمَّةِ وَالْمُنَقِّلَةِ (1) . وَقَدْ فُصِّلَتْ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - السِّمْحَاقُ: نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الشِّجَاجِ الَّتِي لاَ تَجِبُ فِيهَا دِيَةٌ وَلاَ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ (2) ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَمْدًا أَمْ خَطَأً؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ مِنَ الشَّرْعِ، وَيَصْعُبُ ضَبْطُهَا وَتَقْدِيرُهَا، وَلاَ يُمْكِنُ إِهْدَارُهَا، فَتَجِبُ فِيهَا الْحُكُومَةُ (3) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ذَكَرَهَا الْمُوصِلِيُّ: يَجِبُ فِي عَمْدِهَا الْقِصَاصُ؛ لإِِمْكَانِ ضَبْطِهَا (4) .
(ر: دِيَات، وَقِصَاص) .
__________
(1) الزيلعي 6 / 132، وجواهر الإكليل 2 / 259، والقليوبي 4 / 112، 113، والمطلع ص 367
(2) الحكومة: هي ما تدفع للمجني عليه من قبل الجاني باجتهاد القاضي أو بتقدير أهل الخبرة، وذلك فيما لا يكون فيه أرش مقدر: (ر: حكومة) .
(3) الاختيار 5 / 42، والزيلعي 6 / 132، 134، والروضة 9 / 265، والقليوبي 4 / 112، 113، والمغني 8 / 42.
(4) الاختيار 5 / 242، والقليوبي 4 / 113، والفواكه الدواني 2 / 213، وجواهر الإكليل 2 / 259.(25/251)
سَمْع
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّمْعُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ حِسُّ الأُْذُنِ، قَال الرَّاغِبُ: السَّمْعُ قُوَّةٌ فِي الأُْذُنِ بِهَا تُدْرِكُ الأَْصْوَاتَ. وَفِي التَّنْزِيل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (1) .
وَيُطْلَقُ السَّمْعُ عَلَى الأُْذُنِ، وَقَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى الإِْجَابَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ (2) أَيْ: أَجَابَ حَمْدَهُ وَتَقَبَّلَهُ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى: الدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ دُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ (3) (2 م) أَيْ: لاَ يُسْتَجَابُ وَلاَ يُعْتَدُّ
__________
(1) سورة ق / 37.
(2) حديث: " سمع الله لمن حمده ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 282 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(3) دعاء " اللهم إني أعوذ بك من دعاء لا يسمع ". أخرجه الترمذي (5 / 519 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: " حديث حسن صحيح ".(25/251)
بِهِ كَأَنَّهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ (1) .
وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى " السَّمِيعُ ".
وَالاِصْطِلاَحُ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِمَاعُ:
2 - الاِسْتِمَاعُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: قَصْدُ السَّمَاعِ بُغْيَةَ فَهْمِ الْمَسْمُوعِ أَوِ الاِسْتِفَادَةِ مِنْهُ. أَمَّا السَّمْعُ فَقَدْ يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ الْقَصْدِ أَوْ بِدُونِهِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الاِسْتِمَاعِ (2) .
ب - الإِْنْصَاتُ:
3 - الإِْنْصَاتُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: السُّكُوتُ لِلاِسْتِمَاعِ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - السَّمْعُ - كَسَائِرِ الْحَوَاسِّ وَالْجَوَارِحِ - مِنْ أَجَل النِّعَمِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ بِهَا وَأَمَرَ بِحِفْظِهَا عَمَّا حَرَّمَهُ تَعَالَى. قَال تَعَالَى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ
__________
(1) لسان العرب، مفردات الراغب وتعريفات الجرجاني.
(2) المصباح، الفروق للعسكري 81، القليوبي 3 / 297.
(3) المغرب، المصباح، النظم المستعذب للركبي 1 / 81، القليوبي 1 / 280.(25/252)
وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُل أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} (1) . وَقَال: {وَقَدْ نَزَّل عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (2) .
وَالسَّمْعُ مِنْ أَهَمِّ حَوَاسِّ الإِْنْسَانِ وَأَشْرَفِهَا حَتَّى مِنَ الْبَصَرِ كَمَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِذْ هُوَ الْمُدْرِكُ لِخِطَابِ الشَّرْعِ الَّذِي بِهِ التَّكْلِيفُ؛ وَلأَِنَّهُ يُدْرَكُ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ، وَفِي كُل الأَْحْوَال، أَمَّا الْبَصَرُ فَيَتَوَقَّفُ الإِْدْرَاكُ بِهِ عَلَى الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ (3) .
لِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَتَصَدَّى لأَِمْرٍ مُهِمٍّ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ كَالإِْمَامَةِ وَالْقَضَاءِ أَنْ يَكُونَ سَمِيعًا، فَلاَ يَجُوزُ تَنْصِيبُ إِمَامٍ أَصَمَّ، وَلاَ تَعْيِينُ قَاضٍ لاَ يَسْمَعُ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِمَامَة كُبْرَى وَبَابِ: الْقَضَاءِ) .
وَيَحْرُمُ سَمَاعُ الْغِيبَةِ، وَفُحْشِ الْقَوْل، وَالْغِنَاءِ الْمُحَرَّمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ.
مَا يَجِبُ بِإِذْهَابِ السَّمْعِ بِجِنَايَةٍ:
5 - السَّمْعُ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لاَ تَفُوتُ مَنْفَعَتُهَا
__________
(1) سورة الإسراء / 36.
(2) سورة النساء / 140.
(3) نهاية المحتاج 7 / 334.(25/252)
بِالْمُبَاشَرَةِ لَهَا بِالْجِنَايَةِ، بَل تَفُوتُ تَبَعًا لِمَحَلِّهَا أَوْ لِمُجَاوِرِهَا. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا زَال السَّمْعُ بِسِرَايَةٍ مِنْ جِنَايَةٍ لاَ قِصَاصَ فِيهَا تَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ (1) ، كَأَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ خَطَأً أَوْ مِمَّا يَتَعَذَّرُ مِنْهُ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْقِصَاصِ كَالْهَاشِمَةِ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ تَكَافُؤٌ بَيْنَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ قَوْلَهُ: " إِنَّ عَوَامَّ أَهْل الْعِلْمِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فِي السَّمْعِ دِيَةً ". وَقَال: وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَبِهِ قَال مُجَاهِدٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَأَهْل الشَّامِ، وَأَهْل الْعِرَاقِ وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: " لاَ أَعْلَمُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ خِلاَفًا لَهُمْ (2) ".
وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: وَفِي السَّمْعِ دِيَةٌ (3) .
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلاً رَمَى رَجُلاً بِحَجَرٍ فَذَهَبَ سَمْعُهُ وَعَقْلُهُ وَلِسَانُهُ وَنِكَاحُهُ، فَقَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ، وَالرَّجُل
__________
(1) ابن عابدين 5 / 348، نهاية المحتاج 7 / 334، مواهب الجليل 6 / 248، المغني 8 / 9.
(2) المغني 8 / 9.
(3) حديث: " وفي السمع دية ". أورده البيهقي في سننه (8 / 85 - ط دائرة المعارف العثمانية) بلفظ: " في السمع مائة من الإبل "، وعزاه إلى أبي يحيى الساجي بإسناد ضعفه.(25/253)
حَيٌّ؛ لأَِنَّ السَّمْعَ حَاسَّةٌ تَخْتَصُّ بِنَفْعٍ فَكَانَ فِيهَا الدِّيَةُ.
أَمَّا إِذَا ذَهَبَ بِجِنَايَةٍ فِيهَا الْقِصَاصُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجِبُ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِ، فَيُقْتَصُّ مِنْهُ بِمِثْل فِعْلِهِ. فَإِنْ ذَهَبَ بِهِ فَقَدْ حَصَل الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ أُذْهِبَ بِمُعَالَجَةٍ لأَِنَّ لِلسَّمْعِ مَحِلًّا مَضْبُوطًا، وَلأَِهْل الْخِبْرَةِ طُرُقٌ فِي إِبْطَالِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَلَكِنْ قَالُوا: إِذَا لَمْ يَبْطُل بِالْقِصَاصِ فَلاَ يَبْطُل بِالْمُعَالَجَةِ بَل يَجِبُ عَلَى الْجَانِي أَوْ عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ قِصَاصَ فِي إِبْطَال السَّمْعِ لِتَعَذُّرِ الاِقْتِصَاصِ فِيهِ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي (الْقِصَاص) (وَالدِّيَة) (وَالْجِنَايَةُ فِي مَا دُونَ النَّفْسِ) . وَبَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَصْل مُصْطَلَحِ السَّمْعِ يُنْظَرُ فِي بَحْثِ (اسْتِمَاع) (وَأُذُن) .
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 25، نهاية المحتاج 7 / 286، مواهب الجليل 6 / 248، وكشاف القناع 5 / 552، 553.
(2) بدائع الصنائع 7 / 307.(25/253)
سَمْعِيَّات
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّمْعِيَّاتُ: هِيَ الأُْمُورُ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا السَّمْعُ، كَالنُّبُوَّةِ، أَوْ هِيَ تَتَوَقَّفُ عَلَى السَّمْعِ كَالْمَعَادِ وَأَسْبَابِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ مِنَ الإِْيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ (1) .
وَيَدْخُل فِي السَّمْعِيَّاتِ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ وَعَذَابُ الْقَبْرِ وَالْبَعْثُ، وَالأُْمُورُ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَ الْبَعْثِ كَالْحِسَابِ وَالْكُتُبِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ (2) .
__________
(1) المعجم الوسيط 1 / 452 وشرح الشريف الجرجاني على المواقف ص 217، وتفسير الفخر الرازي 2 / 27، والألوسي 1 / 114.
(2) القرطبي 1 / 163، الشريف الجرجاني على المواقف العضدية / 217 المواقف العضدية - المرصد الثاني 371 / 383، روضة الطالبين 10 / 71.(25/254)
الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ:
2 - الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالسَّمْعِيَّاتِ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْقِسْمُ الأَْوَّل: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالإِْيمَانِ بِهَا، وَأَقْسَامِهَا، وَأَدِلَّتِهَا. وَتَفْصِيلُهُ فِي مَبْحَثِ (إِيمَان (1)) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ مُنْكِرِهَا أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا، وَجَزَاءِ ذَلِكَ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مَبْحَثِ: (رِدَّة) .
سَمَك
انْظُرْ: أَطْعِمَة
__________
(1) الموسوعة الفقهية 7 / 314.(25/254)
سُمّ
التَّعْرِيفُ:
1 - السُّمُّ بِتَثْلِيثِ السِّينِ فِي اللُّغَةِ: الْمَادَّةُ الْقَاتِلَةُ، وَجَمْعُهَا سُمُومٌ وَسِمَامٌ، وَيُقَال: هَذَا شَيْءٌ مَسْمُومٌ؛ أَيْ: فِيهِ سُمٌّ، وَسَمَّ الطَّعَامَ: جَعَل فِيهِ السُّمَّ (1) .
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التِّرْيَاقُ:
2 - هُوَ بِكَسْرِ التَّاءِ وَيُقَال لَهُ أَيْضًا دِرْيَاقٌ: دَوَاءُ السُّمُومِ - فَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ فِي عَجْوَةِ الْعَالِيَةِ شِفَاءً، أَوْ إِنَّهَا تِرْيَاقٌ، أَوَّل الْبُكْرَةِ (2) وَيُطْلَقُ عَلَى كُل مَا يُسْتَعْمَل
__________
(1) لسان العرب.
(2) حديث: " إن في عجوة العالية شفاء ". أخرجه مسلم (3 / 1619 - ط الحلبي) من حديث عائشة.(25/255)
لِدَفْعِ السُّمِّ فِي الأَْدْوِيَةِ وَالْمَعَاجِينِ (1) .
ب - الدَّوَاءُ:
3 - الدَّوَاءُ مِنْ دَاوَيْتُ الْعَلِيل دَوَاءً وَمُدَاوَاةً: إِذَا عَالَجْتَهُ بِالأَْشْفِيَةِ الَّتِي تُوَافِقُهُ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسُّمِّ:
تَنَاوُل السُّمِّ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ تَنَاوُل مَا يَقْتُل مِنَ السُّمِّ بِلاَ حَاجَةٍ إِلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (3) وَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (4) .
طَهَارَةُ السُّمِّ أَوْ نَجَاسَتُهُ:
اخْتَلَفُوا فِي نَجَاسَةِ السُّمِّ، أَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ الْقَوْل بِأَنَّ السُّمَّ نَجَسٌ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْجَامِدِ وَغَيْرِهِ، وَلاَ بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ النَّبَاتَاتِ الطَّاهِرَةِ الَّتِي لَمْ تَحْرُمْ إِلاَّ لأَِضْرَارِهَا، وَمَا كَانَ مِنَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ، وَسَائِرِ الْهَوَامِّ ذَوَاتِ السُّمُومِ. وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ الأَْشْجَارِ
__________
(1) لسان العرب.
(2) لسان العرب.
(3) سورة البقرة / 195.
(4) سورة النساء / 29.(25/255)
وَالنَّبَاتَاتِ مِمَّا لَمْ يَحْرُمْ إِلاَّ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُضِرًّا بِالصِّحَّةِ، وَبَيْنَ مَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ أَوْ كَانَ مِنْ نَجَسٍ، كَأَنْ يُخَالِطَهُ لُحُومُ الْحَيَّاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ لُحُومِ الْهَوَامِّ ذَوَاتِ السَّمُومِ أَوْ كَانَ لُعَابًا لِمَا ذُكِرَ، كَسُمِّ الْحَيَّةِ، وَالْعَقْرَبِ وَسَائِرِ الْهَوَامِّ، قَالُوا: تَبْطُل الصَّلاَةُ بِلَسْعَةِ الْحَيَّةِ؛ لأَِنَّ سُمَّهَا تَظْهَرُ عَلَى مَحَل اللَّسْعَةِ. أَمَّا لُعَابُ الْعَقْرَبِ فَلاَ تَبْطُل بِهِ الصَّلاَةُ عَلَى الأَْوْجَهِ عِنْدَهُمْ لأَِنَّ إِبْرَتَهَا تَغُوصُ فِي بَاطِنِ اللَّحْمِ وَيَمُجُّ السُّمَّ فِيهِ، وَهُوَ لاَ يَجِبُ غَسْلُهُ (1) . وَسَبَبُ نَجَاسَتِهِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ فِي السُّمَيَّةِ بَل لِكَوْنِهِ فَضْلَةَ غَيْرِ مَأْكُولٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ لُعَابَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَغَيْرِهَا مِنْ ذَوَاتِ السُّمُومِ طَاهِرٌ كَلُعَابِ كُل حَيٍّ إِذَا لَمْ يَسْتَعْمِل النَّجَاسَةَ، جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل: " نَقَل صَاحِبُ الْجَمْعِ عَنِ ابْنِ هَارُونَ: أَنَّهُ قَال فِي شَرْحِ قَوْل ابْنِ الْحَاجِبِ: اللُّعَابُ وَالْمُخَاطُ مِنَ الْحَيِّ طَاهِرٌ، ثُمَّ قَال: إِنَّ الْحَشَرَاتِ إِذَا أُمِنَ مِنْ سُمِّهَا: مُبَاحَةٌ "، وَقَال الزَّرْقَانِيُّ: وَإِنْ لَمْ يُؤْمَنْ مِنْ سُمِّهَا (2) .
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 309، كشاف القناع 6 / 189، ونهاية المحتاج 1 / 233 - 234، حاشية الشرقاوي على التحرير 1 / 118.
(2) مواهب الجليل 1 / 93 وما بعده.، شرح الزرقاني 1 / 24.(25/256)
وَيُفْهَمُ مِنْ عِبَارَاتِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ لُعَابَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ نَجَسٌ عِنْدَهُمْ؛ لِنَجَاسَةِ لَحْمِهَا، وَلُعَابُهَا مِنْ جِسْمِهَا كَكُل مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ النَّجَاسَاتِ.
بَيْعُ السُّمِّ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ السُّمَّ الْقَاتِل إِذَا خَلاَ مِنْ نَفْعٍ يُبَاحُ أَوْ خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ كَلُحُومِ الْحَيَّاتِ وَغَيْرِهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ؛ لأَِنَّ جَوَازَ الاِنْتِفَاعِ فِي الْمَبِيعِ انْتِفَاعًا مَشْرُوعًا، وَطَهَارَتُهُ شَرْطَانِ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْبَيْعِ (2) .
وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَفْعٌ مُبَاحٌ شَرْعًا وَلَمْ تُخَالِطْهُ نَجَاسَةٌ فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ بَيْعِهِ سَوَاءٌ كَانَ السُّمُّ مِنَ الْحَشَائِشِ أَمْ مِنَ الْحَيَّاتِ. وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ النَّبَاتَاتِ وَالْحَشَائِشِ مِنَ السُّمِّ وَبَيْنَ مَا كَانَ مِنَ الأَْفَاعِي، وَقَالُوا بِتَحْرِيمِ بَيْعِ سُمُومِ الأَْفَاعِي؛ لِخُلُوِّهَا مِنْ نَفْعٍ مُبَاحٍ، فَأَمَّا السُّمُّ مِنَ الْحَشَائِشِ وَالنَّبَاتَاتِ، فَإِنْ كَانَ لاَ
__________
(1) حاشية الطحطاوي ص: 19، بدائع الصنائع 1 / 64 - 65.
(2) كتاب الأم للشافعي 3 / 115، نهاية المحتاج 3 / 384، حاشية الجمل على المنهج 3 / 26، كشاف القناع 3 / 155، مواهب الجليل 4 / 266.(25/256)
يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ كَانَ يَقْتُل قَلِيلُهُ غَالِبًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِعَدَمِ النَّفْعِ وَخَوْفِ الضَّرَرِ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَفْعٌ كَالتَّدَاوِي بِهِ جَازَ بَيْعُهُ (1) .
التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (بَيْع) .
التَّدَاوِي بِالسُّمِّ:
6 - يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالسُّمِّ حَتَّى عِنْدَ مَنْ يَقُول بِنَجَاسَتِهِ إِنْ غَلَبَتِ السَّلاَمَةُ مِنْ ضَرَرِهِ وَيُرْجَى نَفْعُهُ، لاِرْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، وَلِدَفْعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُمَا، بِشَرْطِ إِخْبَارِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ بِذَلِكَ أَوْ مَعْرِفَةِ الْمُتَدَاوِي بِهِ، وَعَدَمِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِمَّا يُحَصِّل التَّدَاوِيَ (2) .
الْقَتْل بِالسُّمِّ:
7 - قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِذَا قُدِّمَ لِصَبِيٍّ غَيْرِ مُمَيِّزٍ أَوْ مَجْنُونٍ طَعَامٌ مَسْمُومٌ فَمَاتَ مِنْهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى مُقَدِّمِ الطَّعَامِ، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ السُّمَّ يَقْتُل غَالِبًا، سَوَاءٌ أَخْبَرَهُ أَنَّ الطَّعَامَ مَسْمُومٌ أَمْ لاَ.
وَإِنْ أَكْرَهَ بَالِغًا عَاقِلاً عَلَى أَكْل طَعَامٍ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) كشاف القناع 2 / 76، أسنى المطالب 4 / 159، الأم للشافعي 3 / 115، شرح الزرقاني 3 / 27، ابن عابدين 4 / 101.(25/257)
مَسْمُومٍ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُكْرِهُ أَنَّهُ مَسْمُومٌ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْمُكْرِهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَسْمُومٌ فَلاَ قِصَاصَ كَمَا إِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى قَتَل نَفْسِهِ.
وَإِنْ أَوْجَرَهُ السُّمَّ فِي حَلْقِهِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَإِنْ كَانَ بَالِغًا؛ لأَِنَّهُ أَلْجَأَهُ إِلَيْهِ وَلاَ اخْتِيَارَ لَهُ حَتَّى يُقَال عَنْهُ: إِنَّهُ تَنَاوَل السُّمَّ بِاخْتِيَارِهِ، فَحَدُّ الْعَمْدِ صَادِقٌ عَلَيْهِ (1) . وَإِنْ قَدَّمَ طَعَامًا مَسْمُومًا لِبَالِغٍ عَاقِلٍ فَأَكَلَهُ فَمَاتَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ الْحَال فَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَل نَفْسَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْحَال فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ. فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ بَل تَجِبُ دِيَةٌ لِشِبْهِ الْعَمْدِ لِتَنَاوُلِهِ لَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ تَغْرِيرُهُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: يَجِبُ الْقِصَاصُ لِتَغْرِيرِهِ كَالإِْكْرَاهِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ يَقْتُل غَالِبًا، وَيُتَّخَذُ طَرِيقًا إِلَى الْقَتْل كَثِيرًا فَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ (3) .
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 5، نهاية المحتاج 7 / 254، المغني 7 / 643، حاشية الدسوقي 4 / 244، مواهب الجليل 6 / 241
(2) نهاية المحتاج 7 / 254.
(3) المغني 7 / 643، المدونة 6 / 433، مواهب الجليل 6 / 241.(25/257)
وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ.
وَإِنْ دَسَّ فِي طَعَامِ شَخْصٍ مُمَيِّزٍ أَوْ بَالِغٍ الْغَالِبُ أَكْلُهُ مِنْهُ فَأَكَلَهُ جَاهِلاً، فَعَلَيْهِ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَإِنْ دَسَّ السُّمَّ فِي طَعَامِ نَفْسِهِ فَأَكَل مِنْهُ آخَرُ عَادَتُهُ الدُّخُول عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ هَدَرًا؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ فَإِنَّمَا الدَّاخِل هُوَ الَّذِي قَتَل نَفْسَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَفَرَ فِي دَارِهِ بِئْرًا فَدَخَل فِيهِ رَجُلٌ فَوَقَعَ فِيهِ (1) .
وَإِنْ دَاوَى جُرْحًا فِي جِسْمِهِ مِنْ جِنَايَةٍ مَضْمُونَةٍ بِسُمٍّ قَاتِلٍ، فَمَاتَ فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْجَارِحِ فِي النَّفْسِ وَلاَ دِيَةِ النَّفْسِ؛ إِذْ هُوَ قَاتِل نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ السُّمَّ يَقْتُل غَالِبًا أَوْ أَنَّهُ سُمٌّ، بَل يَجِبُ عَلَى الْجَارِحِ ضَمَانُ الْجُرْحِ بِالْقِصَاصِ أَوْ بِالأَْرْشِ، حَسَبَ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ. وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ وَالْقِصَاصِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ قِصَاصَ فِي الْقَتْل بِالسُّمِّ مُطْلَقًا، فَإِنْ قَدَّمَ إِلَى إِنْسَانٍ طَعَامًا مَسْمُومًا فَأَكَل مِنْهُ - وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَسْمُومٌ - فَمَاتَ مِنْهُ فَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ، فَيُعَزَّرُ بِحَبْسٍ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ أَوْجَرَهُ إيجَارًا أَوْ أَكْرَهَهُ
__________
(1) المصادر السابقة.(25/258)
عَلَى تَنَاوُلِهِ وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي لأَِنَّ الْقَتْل حَصَل بِمَا لاَ يَجْرَحُ فَكَانَ مِنْ شِبْهِ الْعَمْدِ (1) .
سِمَنٌ
انْظُرْ: نَمَاء
__________
(1) ابن عابدين 5 / 348 - 349.(25/258)
سَنَة
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّنَةُ فِي اللُّغَةِ وَالاِصْطِلاَحِ: الْحَوْل، وَجَمْعُهَا سَنَوَاتٌ وَيَجُوزُ سَنَهَاتٌ، وَإِذَا أُطْلِقَتِ السَّنَةُ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ فَهِيَ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ، وَلَيْسَتِ الشَّمْسِيَّةَ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَامُ:
2 - وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ الْحَوْل، وَفَرَّقَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ بَيْنَ الْعَامِ وَبَيْنَ السَّنَةِ، قَال ابْنُ الْجَوَالِيقِيِّ: وَلاَ تُفَرِّقُ عَوَامُّ النَّاسِ بَيْنَ الْعَامِ وَالسَّنَةِ وَيَجْعَلُونَهُمَا بِمَعْنًى، وَهُوَ غَلَطٌ وَالصَّوَابُ مَا أُخْبِرْتُ بِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ قَال: السَّنَةُ: مِنْ أَيِّ يَوْمٍ عَدَدْتَهُ إِلَى مِثْلِهِ، وَالْعَامُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ شِتَاءً وَصَيْفًا، وَفِي التَّهْذِيبِ أَيْضًا: الْعَامُ: حَوْلٌ يَأْتِي عَلَى شَتْوَةٍ
__________
(1) الصحاح واللسان والمصباح والمغرب مادة سنة.(25/259)
وَصَيْفَةٍ، وَعَلَى هَذَا فَالْعَامُ أَخَصُّ مِنَ السَّنَةِ، فَكُل عَامٍ سَنَةٌ وَلَيْسَ كُل سَنَةٍ عَامًا، وَإِذَا عَدَدْتَ مِنْ يَوْمٍ إِلَى مِثْلِهِ فَهُوَ سَنَةٌ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ نِصْفُ الصَّيْفِ وَنِصْفُ الشِّتَاءِ، وَالْعَامُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ صَيْفًا وَشِتَاءً. مُتَوَالِيَيْنِ (1) .
ب - الشَّهْرُ:
3 - الشَّهْرُ. مَا بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنَ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ يُقَدَّرُ بِدَوْرَةِ الْقَمَرِ حَوْل الأَْرْضِ، وَيُسَمَّى الشَّهْرَ الْقَمَرِيَّ، أَوْ يُقَدَّرُ بِجُزْءٍ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنَ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ، وَيُسَمَّى الشَّهْرَ الشَّمْسِيَّ، وَيُطْلَقُ الشَّهْرُ أَيْضًا عَلَى الْعَدَدِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الأَْيَّامِ (2) .
أَنْوَاعُ السَّنَةِ:
4 - السَّنَةُ تَتَنَوَّعُ إِلَى سَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ وَهِيَ الَّتِي تَعْتَمِدُ فِي بِدَايَتِهَا وَنِهَايَتِهَا عَلَى حَرَكَةِ الشَّمْسِ، قَال زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ: وَعَدَدُ أَيَّامِهَا ثَلاَثُ مِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا، وَرُبُعُ يَوْمٍ إِلاَّ جُزْءًا مِنْ ثَلاَثِ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْ يَوْمٍ، وَإِلَى سَنَةٍ قَمَرِيَّةٍ وَهِيَ الَّتِي تَعْتَمِدُ عَلَى ظُهُورِ
__________
(1) المصباح.
(2) المعجم الوسيط والقاموس المحيط.(25/259)
الْهِلاَل وَاخْتِفَائِهِ فِي بِدَايَةِ الشَّهْرِ وَنِهَايَتِهِ، قَال زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ: وَعَدَدُ أَيَّامِهَا كَمَا قَال صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَغَيْرُهُ: ثَلاَثُ مِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا وَخُمُسُ يَوْمٍ وَسُدُسُهُ. فَالسَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ تَتَّفِقُ مَعَ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ فِي عَدَدِ الشُّهُورِ وَتَخْتَلِفُ مَعَهَا فِي عَدَدِ الأَْيَّامِ فَتَزِيدُ أَيَّامُهَا عَلَى أَيَّامِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ بِأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَجُزْءٍ مِنْ وَاحِدٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ الْيَوْمِ.
وَقَدِ اعْتَمَدَ عَلَى السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ الرُّومُ وَالسُّرْيَانُ وَالْفُرْسُ وَالْقِبْطُ فِي تَأْرِيخِهِمْ، فَهُنَاكَ السَّنَةُ الرُّومِيَّةُ، وَالسَّنَةُ السُّرْيَانِيَّةُ، وَالسَّنَةُ الْفَارِسِيَّةُ وَالسَّنَةُ الْقِبْطِيَّةُ، وَهَذِهِ السُّنُونَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَّفِقَةً فِي عَدَدِ شُهُورِ كُل سَنَةٍ مِنْهَا، إِلاَّ أَنَّهَا تَخْتَلِفُ فِي أَسْمَاءِ تِلْكَ الشُّهُورِ وَفِي مَوْعِدِ بَدْءِ كُل سَنَةٍ مِنْهَا وَفِي عَدَدِ أَيَّامِهَا (1) .
الأَْحْكَامُ الإِْجْمَالِيَّةُ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
أ - الزَّكَاةُ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَوْل - أَيْ مُضِيَّ سَنَةٍ كَامِلَةٍ عَلَى مِلْكِهِ النِّصَابَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي نِصَابِ السَّائِمَةِ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ،
__________
(1) مروج الذهب للمسعودي 1 / 349 - 354 ط. البهية، التعريفات للجرجاني / 161 ط. العربي، فتح القدير 3 / 266 ط. الأميرية، أسنى المطالب 2 / 125 ط. الميمنية.(25/260)
وَفِي الأَْثْمَانِ، وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَفِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ؛ لِحَدِيثِ: لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل (1) . أَمَّا الزَّرْعُ وَالثِّمَارُ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا حَوْلٌ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (2) وَلأَِنَّهَا نَمَاءٌ بِنَفْسِهَا مُتَكَامِلَةٌ عِنْدَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهَا فَتُؤْخَذُ زَكَاتُهَا حِينَئِذٍ، ثُمَّ تَأْخُذُ فِي النَّقْصِ لاَ فِي النَّمَاءِ، فَلاَ تَجِبُ فِيهَا زَكَاةٌ ثَانِيَةٌ؛ لِعَدَمِ إِرْصَادِهَا لِلنَّمَاءِ، وَالْمَعْدِنُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنَ الأَْرْضِ كَالزَّرْعِ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ حَوْلٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ خُمُسٍ.
فَيُؤْخَذُ زَكَاتُهُ عِنْدَ حُصُولِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الأَْثْمَانِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ كُل حَوْلٍ لأَِنَّهُ مَظِنَّةُ النَّمَاءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الأَْثْمَانَ قِيَمُ الأَْمْوَال وَرَأْسُ مَال التِّجَارَةِ، وَبِهَا تَحْصُل الْمُضَارَبَةُ وَالشَّرِكَةُ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِنْ مَلَكَ نِصَابًا مِنْ مَال الزَّكَاةِ مِمَّا يُعْتَبَرُ لَهُ الْحَوْل وَلاَ مَال لَهُ سِوَاهُ، انْعَقَدَ حَوْلُهُ مِنْ حِينِ حُصُول
__________
(1) حديث: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ". أورده ابن حجر في التلخيص (2 / 156 - ط شركة الطباعة الفنية) بهذا اللفظ، وقال عن إسناده: " لا بأس به " وأخرجه أبو داود (2 / 230 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث علي بن أبي طالب بلفظ: " ليس في مال زكاة. . . ".
(2) سورة الأنعام / 141.(25/260)
الْمِلْكِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) . وَيُنْظَرُ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحُ (زَكَاة)
مُدَّةُ تَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ:
6 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مُدَّةَ تَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ سَنَةٌ كَامِلَةٌ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا زَادَتْ قِيمَتُهُ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ (2) . وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (لُقَطَة) .
ج - مُدَّةُ إِمْهَال الْعِنِّينِ:
7 - الْعِنِّينُ يَضْرِبُ لَهُ الْقَاضِي سَنَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ (كَمَا فَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) فَقَدْ يَكُونُ تَعَذُّرُ الْجِمَاعِ لِعَارِضِ حَرَارَةٍ فَيَزُول فِي الشِّتَاءِ، أَوْ بُرُودَةٍ فَيَزُول فِي الصَّيْفِ، أَوْ يُبُوسَةٍ فَتَزُول فِي الرَّبِيعِ، أَوْ رُطُوبَةٍ فَتَزُول فِي الْخَرِيفِ، فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ وَلَمْ يَطَأْ، عَلِمْنَا أَنَّهُ عَجْزٌ خِلْقِيٌّ. (وَانْظُرْ: إِمْهَال، عُنَّة) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 13، 63، 67، حاشية الدسوقي 1 / 431، 451، 456 - 457، المجموع للنووي 5 / 361، حاشية القليوبي 2 / 19، 25، نهاية المحتاج 3 / 63، المغني 2 / 625.
(2) الاختيار 3 / 32 ط. المعرفة، جواهر الإكليل 2 / 217 ط. المعرفة، روضة الطالبين 5 / 406 - 407 ط. المكتب الإسلامي، المغني 5 / 695 ط. الرياض.(25/261)
د - مُدَّةُ التَّغْرِيبِ فِي عُقُوبَةِ الزِّنَى:
8 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مِنْ حَدِّ الزَّانِي إِنْ كَانَ بِكْرًا التَّغْرِيبَ لِمُدَّةِ سَنَةٍ لِمَسَافَةِ قَصْرٍ فَأَكْثَرَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّغْرِيبَ لَيْسَ مِنَ الْحَدِّ، وَلَكِنَّهُمْ يُجِيزُونَ لِلإِْمَامِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ إِنْ رَأَى فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (زِنًى وَتَغْرِيب) .(25/261)
سَنَد
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّنَدُ فِي اللُّغَةِ: مَا قَابَلَكَ مِنَ الْجَبَل وَعَلاَ عَنِ السَّفْحِ، وَالْجَمْعُ أَسْنَادٌ. وَكُل مَا يُسْتَنَدُ إِلَيْهِ وَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنْ حَائِطٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ سَنَدٌ. وَمِنْهُ قِيل لِصَكِّ الدَّيْنِ وَغَيْرِهِ: سَنَدٌ. وَقَدْ سَنَدَ إِلَى الشَّيْءِ يَسْنُدُ سُنُودًا، وَاسْتَنَدَ وَتَسَانَدَ وَأَسْنَدَ غَيْرَهُ. وَمَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ يُسَمَّى مَسْنَدًا وَمِسْنَدًا وَمُسْنَدًا وَجَمْعُهُ الْمَسَانِدُ (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُسْتَعْمَل السَّنَدُ فِي اسْتِعْمَالَيْنِ:
الأَْوَّل: الْحُجَّةُ الْمَكْتُوبَةُ الَّتِي تُوَثَّقُ بِهَا الْحُقُوقُ. وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْحُقُوقِ فِي الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ. وَجَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِذَلِكَ شُرُوطٌ:
(1) أَنْ يُبَيِّنَ فِي السَّنَدِ مَا يُثْبِتُ الْحَقَّ بِأَنْ يَكُونَ مُصَدَّرًا بِذِكْرِ مَبْلَغِ الدَّيْنِ مَثَلاً بِالرَّقْمِ
__________
(1) لسان العرب والمعجم الوسيط مادة (سند) .(25/262)
وَالْحَرْفِ، وَمُعَنْوَنًا بِاسْمِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ. وَأَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا بِخَاتَمِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مَعَ إِمْضَائِهِ.
(2) أَنْ يَكُونَ سَالِمًا مِنَ التَّزْوِيرِ وَالْكَشْطِ وَالتَّغْيِيرِ وَأَنْ يَثْبُتَ أَنَّ الْخَطَّ هُوَ خَطُّ الْكَاتِبِ بِشَهَادَةِ أَهْل الْخِبْرَةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ.
وَجَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ (الْمَادَّةُ 1736) : " لاَ يُعْمَل بِالْخَطِّ وَالْخَتْمِ فَقَطْ وَلَكِنْ إِذَا كَانَ سَالِمًا عَنْ شُبْهَةِ التَّزْوِيرِ وَالتَّصْنِيعِ يَكُونُ مَعْمُولاً بِهِ، يَعْنِي يَكُونُ مَدَارًا لِلْحُكْمِ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الثُّبُوتِ بِوَجْهٍ آخَرَ (1) ". وَالسَّنَدُ إِذَا اسْتَوْفَى الشُّرُوطَ الْمَرْعِيَّةَ لاِعْتِبَارِهِ كَانَ مِنْ قَبِيل الإِْقْرَارِ بِالْكِتَابَةِ.
جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ (الْمَادَّةِ 1609) (إِذَا كَتَبَ أَحَدٌ سَنَدًا أَوِ اسْتَكْتَبَهُ وَأَعَادَهُ لأَِحَدٍ مَمْضِيًّا أَوْ مَخْتُومًا يَكُونُ مُعْتَبَرًا وَمَرْعِيًّا كَتَقْرِيرِهِ الشِّفَاهِيِّ لأَِنَّهُ إِقْرَارٌ بِالْكِتَابَةِ إِنْ كَانَ مَرْسُومًا، يَعْنِي إِنْ كَانَ ذَلِكَ السَّنَدُ كُتِبَ مُوَافِقًا لِلرَّسْمِ وَالْعَادَةِ وَالْوَثَائِقِ الَّتِي تُعْلَمُ بِالْقَبْضِ الْمُسَمَّاةِ بِالْوُصُول هِيَ مِنْ هَذَا الْقَبِيل أَيْضًا (2)) .
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي 5 / 384.
(2) شرح المجلة للأتاسي 4 / 694.(25/262)
وَجَاءَ فِي الْمَادَّةِ (1607) : أَمْرُ أَحَدٍ بِأَنْ يَكْتُبَ إِقْرَارَهُ هُوَ إِقْرَارٌ حُكْمًا. بِنَاءً عَلَيْهِ لَوْ أَمَرَ أَحَدٌ كَاتِبًا بِقَوْلِهِ: اكْتُبْ لِي سَنَدًا يَحْتَوِي أَنِّي مَدْيُونٌ لِفُلاَنٍ بِكَذَا دَرَاهِمَ، وَوَضَعَ فِيهِ إِمْضَاءَهُ أَوْ خَتْمَهُ، يَكُونُ مِنْ قَبِيل الإِْقْرَارِ بِالْكِتَابَةِ كَالسَّنَدِ الَّذِي كَتَبَهُ بِخَطِّ يَدِهِ (1) . وَتُرَاجَعُ الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسَّنَدِ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ: إِقْرَار (ف 40) وَإِثْبَات (ف 34) وَتَوْثِيق (ف 12) وَتَزْوِير (ف 17) .
الإِْطْلاَقُ الثَّانِي: يُطْلَقُ السَّنَدُ عَلَى سِلْسِلَةِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَتْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ شُرُوطُ السَّنَدِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي قَبُول الْحَدِيثِ فِي مُصْطَلَحِ (إِسْنَاد) .
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي 4 / 689.(25/263)
سُنَّة
التَّعْرِيفُ:
1 - السُّنَّةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقَةُ وَالْعَادَةُ وَالسِّيرَةُ، حَمِيدَةً كَانَتْ أَمْ ذَمِيمَةً. وَالْجَمْعُ سُنَنٌ (1) .
وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ سَنَّ فِي الإِْسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِل بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِْسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِل بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ (2) .
ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ فِي الطَّرِيقَةِ الْمَحْمُودَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، فَسُنَّةُ اللَّهِ أَحْكَامُهُ وَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، وَسَنَّ اللَّهُ سُنَّةً؛ أَيْ بَيَّنَ طَرِيقًا قَوِيمًا.
وَيُقَال: فُلاَنٌ مِنْ أَهْل السُّنَّةِ، مَعْنَاهُ: مِنْ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (سنن) والتعريفات للجرجاني م (سنة) .
(2) حديث: " من سن في الإسلام سنة حسنة فله. . . . ". أخرجه مسلم (1 / 705 - ط الحلبي) من حديث جرير.(25/263)
أَهْل الطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ الْمَحْمُودَةِ (1) . وَفِي الْحَدِيثِ: تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي (2) .
وَالسُّنَّةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لَهَا مَعَانٍ، مِنْهَا أَنَّهَا اسْمٌ لِلطَّرِيقَةِ الْمَسْلُوكَةِ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ افْتِرَاضٍ وَلاَ وُجُوبٍ (3) .
وَتُطْلَقُ أَيْضًا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: عَلَى الْفِعْل إِذَا وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَدُل دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ (4) .
وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ: بِأَنَّهَا مَا طُلِبَ فِعْلُهُ طَلَبًا مُؤَكَّدًا غَيْرَ جَازِمٍ (5) .
فَالسُّنَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ، وَيُقَابِلُهَا الْوَاجِبُ، وَالْفَرْضُ، وَالْحَرَامُ، وَالْمَكْرُوهُ، وَالْمُبَاحُ، وَعَرَّفَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، بِأَنَّهَا مَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ بِفِعْلِهِ وَلاَ يُعَاقَبُ
__________
(1) لسان العرب مادة: (سن) .
(2) حديث: " إني تركت فيكم شيئين. . . ". أخرجه مالك في الموطأ (2 / 898 - ط الحلبي) والحاكم (1 / 93 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه.
(3) كشف الأسرار للبزدوي 2 / 302، وحاشية الفنري على التلويح 2 / 242 وابن عابدين 1 / 70 والتعريفات للجرجاني.
(4) ابن عابدين 1 / 70، 454، جواهر الإكليل 1 / 73، مسلم الثبوت 2 / 92، جمع الجوامع 1 / 89، 90.
(5) جواهر الإكليل 1 / 11(25/264)
بِتَرْكِهِ (1) . وَتُطْلَقُ السُّنَّةُ أَيْضًا عَلَى دَلِيلٍ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَعَرَّفَهَا الأُْصُولِيُّونَ بِهَذَا الْمَعْنَى: بِأَنَّهَا مَا صَدَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ فِعْلٍ، أَوْ تَقْرِيرٍ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسُّنَّةِ:
أَوَّلاً: السُّنَّةُ بِالاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ:
2 - تُطْلَقُ السُّنَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: عَلَى الْمَنْدُوبِ، وَالْمُسْتَحَبِّ، وَالتَّطَوُّعِ، فَهِيَ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ، فَكُلٌّ مِنْهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْفِعْل الْمَطْلُوبِ طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ.
قَال الْبُنَانِيُّ: وَمِثْلُهَا الْحَسَنُ أَوِ النَّفَل وَالْمُرَغَّبُ فِيهِ. وَنَفَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ تَرَادُفَهَا حَيْثُ قَالُوا: إِنْ وَاظَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْفِعْل فَهُوَ السُّنَّةُ، وَإِنْ لَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ كَأَنْ فَعَلَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَهُوَ الْمُسْتَحَبُّ، أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ وَهُوَ مَا يُنْشِئُهُ الإِْنْسَانُ بِاخْتِيَارِهِ مِنَ الأَْوْرَادِ فَهُوَ التَّطَوُّعُ. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَمَنْ مَعَهُ لِلْمَنْدُوبِ لِعُمُومِهِ لِلأَْقْسَامِ الثَّلاَثَةِ (3) .
وَيُقَسِّمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ السُّنَنَ إِلَى
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 67، مطالب أولي النهى 1 / 92، وابن عابدين 1 / 70.
(2) التوضيح والتلويح 2 / 242، ومسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2 / 97، وجمع الجوامع 2 / 94.
(3) جمع الجوامع وشرحه 1 / 89، 90.(25/264)
سُنَنٍ مُؤَكَّدَةٍ وَغَيْرِ مُؤَكَّدَةٍ. إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَقُولُونَ: إِنَّ تَرْكَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ مَكْرُوهٌ، أَمَّا تَرْكُ غَيْرِ الْمُؤَكَّدَةِ فَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمَشْرُوعَاتِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: فَرْضٌ، وَوَاجِبٌ، وَسُنَّةٌ، وَنَفْلٌ. فَمَا كَانَ فِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ مَعَ مَنْعِ التَّرْكِ إِنْ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ فَفَرْضٌ، أَوْ بِظَنِّيٍّ فَوَاجِبٌ، وَبِلاَ مَنْعِ التَّرْكِ إِنْ كَانَ مِمَّا وَاظَبَ عَلَيْهِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ فَسُنَّةٌ، وَإِلاَّ فَمَنْدُوبٌ وَنَفْلٌ (1) .
وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ بِالتَّرَادُفِ بَيْنَهُمَا (2) إِلاَّ فِي مَوَاضِعَ تُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهَا. فَالسُّنَّةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْمَعْنَى الْفِقْهِيِّ نَوْعَانِ:
أ - سُنَّةُ الْهُدَى:
وَهِيَ مَا تَكُونُ إقَامَتُهَا تَكْمِيلاً لِلدِّينِ، وَتَتَعَلَّقُ بِتَرْكِهَا كَرَاهَةٌ أَوْ إِسَاءَةٌ، كَصَلاَةِ الْجَمَاعَةِ، وَالأَْذَانِ، وَالإِْقَامَةِ، وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَيْهَا عَلَى سَبِيل الْعِبَادَةِ، وَتُسَمَّى أَيْضًا السُّنَّةُ الْمُؤَكَّدَةُ.
ب - سُنَنُ الزَّوَائِدِ:
وَهِيَ الَّتِي لاَ يَتَعَلَّقُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 70.
(2) جمع الجوامع 1 / 88.(25/265)
بِتَرْكِهَا كَرَاهَةٌ وَلاَ إِسَاءَةٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهَا عَلَى سَبِيل الْعَادَةِ، فَإِقَامَتُهَا حَسَنَةٌ، كَسَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لِبَاسِهِ وَقِيَامِهِ، وَقُعُودِهِ وَأَكْلِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: السُّنَّةُ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَاظَبَ عَلَيْهِ، وَأَظْهَرَهُ فِي جَمَاعَةٍ، وَلَمْ يَدُل دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ. وَالرَّغِيبَةُ: مَا رَغَّبَ الشَّارِعُ فِيهِ وَحَدَّهُ وَلَمْ يُظْهِرْهُ فِي جَمَاعَةٍ. وَالنَّفَل مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ؛ أَيْ تَرَكَهُ فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ (2) .
ثَانِيًا: السُّنَّةُ فِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ:
3 - أَدِلَّةُ الشَّرْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَاَلَّتِي تُسْتَنْبَطُ مِنْهَا الأَْحْكَامُ الْفِقْهِيَّةُ أَرْبَعَةٌ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالإِْجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ. وَالسُّنَّةُ: هِيَ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ فِعْلٍ، أَوْ تَقْرِيرٍ.
فَالسَّنَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى تُرَادِفُ الْحَدِيثَ. وَقِيل: إِنَّ الْحَدِيثَ مَا صَدَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأَْقْوَال، فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَخَصُّ مِنَ السُّنَّةِ. وَيُطْلَقُ عَلَى الْحَدِيثِ الْخَبَرُ أَيْضًا. وَقِيل: الْخَبَرُ أَعَمُّ لِيَشْمَل مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ
__________
(1) التعريفات للجرجاني ص 161، 162، وابن عابدين 1 / 70.
(2) جواهر الإكليل 1 / 73.(25/265)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ غَيْرِهِ، فَكُل حَدِيثٍ خَبَرٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ (1) .
وَالسُّنَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: السُّنَّةُ الْقَوْلِيَّةُ، وَهِيَ أَقْوَال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالسُّنَّةُ الْفِعْلِيَّةُ، وَهِيَ أَفْعَالُهُ، وَالسُّنَّةُ التَّقْرِيرِيَّةُ، وَهِيَ كَفُّهُ وَسُكُوتُهُ عَنْ إِنْكَارِ مَا فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَمَامَهُ أَوْ مَا أُخْبِرَ بِهِ (2) .
وَتَنْقَسِمُ السُّنَّةُ بِاعْتِبَارِ السَّنَدِ: إِلَى الْمُتَوَاتِرِ، وَالْمَشْهُورِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ (3) . وَالسُّنَّةُ بِالْمَعْنَى الأُْصُولِيِّ: هِيَ دَلِيلٌ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ تُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ إِذَا كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً. وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَل وَلاَ يُوجِبُ الْعِلْمَ يَقِينًا، وَهَذَا مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ وَجُمْلَةِ الْفُقَهَاءِ كَمَا حَرَّرَهُ الأُْصُولِيُّونَ (4) .
وَأَمَّا الْمَشْهُورُ: فَيُلْحِقُهُ بَعْضُهُمْ بِالْمُتَوَاتِرِ فِي إِيجَابِهِ عِلْمَ الْيَقِينِ، وَبَعْضُهُمْ بِالآْحَادِ فَيُوجِبُ الْعَمَل دُونَ الْعِلْمِ الْيَقِينِ (5) .
وَلِبَيَانِ مَعْنَى التَّوَاتُرِ وَالشُّهْرَةِ وَشُرُوطِهِمَا
__________
(1) التلويح 2 / 242، وكشف الأسرار 2 / 354، وشرح نخبة الفكر ص 23، 24.
(2) جمع الجوامع 2 / 94، ومسلم الثبوت 2 / 97.
(3) كشف الأسرار للبزدوي 2 / 359 وما بعدها
(4) كشف الأسرار 2 / 360، 362، 370.
(5) كشف الأسرار 2 / 386، 369.(25/266)
وَآرَاءِ الأُْصُولِيِّينَ وَأَدِلَّتِهِمْ، وَمَا يُوجِبُهُ خَبَرُ الآْحَادِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَسَائِل يُنْظَرُ الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ.(25/266)
سِنّ
التَّعْرِيفُ:
1 - السِّنُّ لُغَةً: وَاحِدَةُ الأَْسْنَانِ، وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَظْمِ تَنْبُتُ فِي الْفَكِّ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، يُقَال: هَذِهِ سِنٌّ، وَجَمْعُهَا: أَسْنَانٌ.
وَلِلإِْنْسَانِ اثْنَتَانِ وَثَلاَثُونَ سِنًّا أَرْبَعُ ثَنَايَا، وَأَرْبَعُ رَبَاعِيَاتٍ، وَأَرْبَعَةُ أَنْيَابٍ، وَأَرْبَعَةُ نَوَاجِذَ، وَسِتَّةَ عَشَرَ ضِرْسًا.
وَبَعْضُهُمْ يَقُول: أَرْبَعُ ثَنَايَا، وَأَرْبَعُ رَبَاعِيَاتٍ، وَأَرْبَعُ أَنْيَابٍ، وَأَرْبَعَةُ نَوَاجِذَ، وَأَرْبَعُ ضَوَاحِكَ وَاثْنَتَا عَشْرَةَ رَحًى.
وَبَعْضُهُمْ يُقَسِّمُ الأَْسْنَانَ إِلَى قَوَاطِعَ وَضَوَاحِكَ وَطَوَاحِنَ.
وَالسِّنُّ مِنَ الشَّيْءِ: كُل جُزْءٍ مُسَنَّنٌ مُحَدَّدٌ عَلَى هَيْئَتِهَا مِثْل سِنِّ الْمُشْطِ، أَوِ الْمِنْجَل، أَوِ الْمِنْشَارِ، أَوِ الْمِفْتَاحِ، أَوِ الْقَلَمِ، وَأَسَنَّ فُلاَنٌ: إِذَا نَبَتَ سِنُّهُ أَوْ كَبِرَتْ سِنُّهُ؛ أَيْ(25/267)
عُمْرُهُ، وَسَنَّنَ الرَّجُل؛ أَيْ قَدَّرَ لَهُ عُمْرًا بِالتَّخْمِينِ، وَيُقَال: فُلاَنٌ سِنُّ فُلاَنٍ: إِذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي السِّنِّ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسِّنِّ:
أ - الْقِصَاصُ فِي قَلْعِ السِّنِّ:
2 - أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ إِذَا كَانَ مُتَعَمَّدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَْنْفَ بِالأَْنْفِ وَالأُْذُنَ بِالأُْذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (2) الآْيَةَ، وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنَّ عَمَّتَهُ الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنَ الأَْنْصَارِ فَقَضَى نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ، فَقَال أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُول اللَّهِ؟ لاَ وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا. قَال: وَكَانُوا قَبْل ذَلِكَ سَأَلُوا أَهْلَهَا الْعَفْوَ وَالأَْرْشَ، فَلَمَّا حَلَفَ أَخُوهَا وَهُوَ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الْقَوْمُ بِالْعَفْوِ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأََبَرَّهُ (3) .
وَلأَِنَّهُ أَمْكَنَ فِي السِّنِّ اسْتِيفَاءُ الْمُمَاثَلَةِ،
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير مادة: سن.
(2) سورة المائدة / 45.
(3) حديث أنس: " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ". أخرجه البخاري (الفتح 306، 8 / 717 ط. السلفية) ومسلم (3 / 1302 ط. الحلبي) .(25/267)
لِكَوْنِهَا مَحْدُودَةً فِي نَفْسِهَا، فَوَجَبَ فِيهَا الْقِصَاصُ.
فَتُؤْخَذُ السِّنُّ الصَّحِيحَةُ بِالسِّنِّ الصَّحِيحَةِ، وَالْمَكْسُورَةُ أَوِ السَّوْدَاءُ أَوِ الصَّفْرَاءُ أَوِ الْحَمْرَاءُ أَوِ الْخَضْرَاءُ بِالصَّحِيحَةِ، إِنْ شَاءَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ فِي سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَلاَ قِصَاصَ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ، وَيَنْتَقِل إِلَى الأَْرْشِ كَمَا يَأْتِي.
وَتُؤْخَذُ الْعُلْيَا بِالْعُلْيَا وَالسُّفْلَى بِالسُّفْلَى وَالثَّنِيَّةُ بِالثَّنِيَّةِ وَالنَّابُ بِالنَّابِ وَالضَّاحِكُ بِالضَّاحِكِ، وَالضِّرْسُ بِالضِّرْسِ؛ لِتَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَكَانِ، وَلاَ يُؤْخَذُ الأَْعْلَى بِالأَْسْفَل، وَلاَ الأَْسْفَل بِالأَْعْلَى؛ لاِخْتِلاَفِهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَكَانِ.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَرَى قَلْعَ سِنِّ الْجَانِي الَّذِي قَلَعَ سِنَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لإِِمْكَانِ الاِسْتِيفَاءِ بِلاَ حَيْفٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْلَعُ سِنُّ الْجَانِي، وَإِنَّمَا تُبْرَدُ إِلَى اللَّحْمِ، وَيُكْسَرُ مَا ظَهَرَ مِنَ السِّنِّ وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنِ الْجُزْءِ الدَّاخِل فِي اللِّثَةِ؛ لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ إِذْ رُبَّمَا(25/268)
تَفْسُدُ اللِّثَةُ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ فِيهِ أَنْ يَفْعَل الْمَقْلُوعُ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَل الْقَالِعُ.
وَنُقِل عَنِ الْمَقْدِسِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلُهُ: يَنْبَغِي اخْتِيَارُ الْبَرْدِ خُصُوصًا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْقَلْعِ كَمَا لَوْ كَانَتْ أَسْنَانُهُ غَيْرَ مُفَلَّجَةٍ، بِحَيْثُ يَخَافُ مِنْ قَلْعِ وَاحِدٍ أَنْ يَتْبَعَهُ غَيْرُهُ، أَوْ أَنْ تَفْسُدَ اللِّثَةُ. وَقَال بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ هَذَا الرَّأْيَ هُوَ الْمُفْتَى بِهِ.
وَمِثْل الْقَلْعِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِذَا اضْطَرَبَتِ السِّنُّ اضْطِرَابًا شَدِيدًا جِدًّا، حَتَّى وَإِنْ ثَبَتَتْ أَوْ نَبَتَتْ مِنْ مَكَانِهَا أُخْرَى أَوْ رَدَّ الْمَقْلُوعَةَ فَنَبَتَتْ؛ لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ يَوْمُ الْجِنَايَةِ وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِصَاصِ إيلاَمُ الْجَانِي لِرَدْعِهِ وَرَدْعِ أَمْثَالِهِ (1) .
ب - الْقِصَاصُ بِكَسْرِ السِّنِّ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ وَتُسْتَوْفَى بِالتَّبْرِيدِ فَيُؤْخَذُ
__________
(1) البدائع 7 / 314، حاشية ابن عابدين 5 / 354، مواهب الجليل 6 / 249، جواهر الإكليل 2 / 261، 268، 270، حاشية الخرشي 8 / 42، 20، 37، روضة الطالبين 9 / 198، 2760، مغني المحتاج 4 / 35، 63، الأم للشافعي 6 / 55، المغني لابن قدامة 7 / 720، 8 / 21، كشاف القناع 5 / 550، الجامع لأحكام القرآن 6 / 197، أحكام القرآن لابن العربي 2 / 133.(25/268)
النِّصْفُ بِالنِّصْفِ، وَالثُّلُثُ بِالثُّلُثِ، وَكُل جُزْءٍ بِمِثْلِهِ. وَلاَ يُؤْخَذُ ذَلِكَ بِالْمِسَاحَةِ كَيْ لاَ يُفْضِيَ إِلَى أَخْذِ جَمِيعِ سِنِّ الْجَانِي بِبَعْضِ سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. وَيَكُونُ الْقِصَاصُ بِالْمِبْرَدِ لِيُؤْمَنَ أَخْذُ الزِّيَادَةِ، وَلاَ يُقْتَصُّ حَتَّى يَقُول أَهْل الْخِبْرَةِ: إِنَّهُ تُؤْمَنُ انْقِلاَعُهَا أَوِ السَّوَادُ فِيهَا؛ لأَِنَّ تَوَهُّمَ الزِّيَادَةِ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، وَدَلِيلُهُمْ حَدِيثُ الرُّبَيِّعِ فَإِنَّهَا كَسَرَتْ سِنَّ جَارِيَةٍ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ (1) ؛ وَلأَِنَّ مَا جَرَى الْقِصَاصُ فِي جُمْلَتِهِ جَرَى فِي بَعْضِهِ إِذَا أَمْكَنَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي كَسْرِ السِّنِّ؛ لِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِالْمُمَاثَلَةِ؛ لأَِنَّ الْكَسْرَ لاَ يَدْخُل تَحْتَ الضَّبْطِ، فَإِنْ أَمْكَنَ دُخُولُهُ تَحْتَ الضَّبْطِ وَجَبَ الْقِصَاصُ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَإِذَا كَسَرَ رَجُلٌ سِنَّ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِهَا سَأَلْتُ أَهْل الْعِلْمِ فَإِنْ قَالُوا: نَقْدِرُ عَلَى كَسْرِهَا مِنْ نِصْفِهَا بِلاَ إِتْلاَفٍ لِبَقِيَّتِهَا وَلاَ صَدْعٍ، أَقْرَرْتُهُ، وَإِنْ قَالُوا: لاَ نَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ نُقِرُّهُ لِتَفَتُّتِهَا (2) .
__________
(1) حديث الربيع سبق تخريجه ف2.
(2) البدائع 7 / 314، حاشية ابن عابدين 5 / 354، مواهب الجليل 6 / 249، جواهر الإكليل 2 / 261، 268، 270، حاشية الخرشي 8 / 42، 20، 37، روضة الطالبين 9 / 198، 2760، مغني المحتاج 4 / 35، 63، الأم للشافعي 6 / 55، المغني لابن قدامة 7 / 720، 8 / 21، كشاف القناع 5 / 550، الجامع لأحكام القرآن 6 / 197، أحكام القرآن لابن العربي 2 / 113.(25/269)
ج - قَلْعُ سِنِّ مَنْ لَمْ يُثْغِرْ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ إِلاَّ مِنْ سِنِّ مَنْ أَثْغَرَ؛ أَيْ: سَقَطَتْ رَوَاضِعُهُ ثُمَّ نَبَتَتْ.
أَمَّا إِذَا قَلَعَ سِنَّ مَنْ لَمْ يُثْغِرْ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْجَانِي فِي الْحَال بِقِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ إِتْلاَفُهَا حَيْثُ إِنَّهَا قَدْ تَعُودُ غَالِبًا بِحُكْمِ الْعَادَةِ.
فَإِنْ جَاءَ وَقْتُ نَبَاتِهَا ثُمَّ نَبَتَتْ سَلِيمَةً فِي مَحَلِّهَا فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْجَانِي؛ أَيْ لاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ وَلاَ دِيَةَ كَمَا لَوْ قَلَعَ شَعْرَةً ثُمَّ نَبَتَتْ. إِلاَّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَرَى وُجُوبَ حُكُومَةٍ لِلأَْلَمِ وَأُجْرَةِ الطَّبِيبِ وَإِنْ عَادَتْ بَدَل السِّنِّ نَاقِصَةً ضَمِنَ مَا نَقَصَ مِنْهَا بِالْحِسَابِ، فَفِي ثُلُثِهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا، وَفِي رُبُعِهَا رُبُعُ دِيَتِهَا، وَفِي نِصْفِهَا نِصْفُ دِيَتِهَا وَهَكَذَا. فَإِنْ نَبَتَتْ سَوْدَاءَ أَوْ حَمْرَاءَ، أَوْ صَفْرَاءَ، أَوْ خَضْرَاءَ، أَوْ مَائِلَةً عَنْ مَحَلِّهَا، أَوْ مُعْوَجَّةً، أَوْ بَقِيَ شَيْءٌ مَعَهَا بَعْدَ النَّبَاتِ، أَوْ نَبَتَتْ أَطْوَل مِمَّا كَانَتْ، أَوْ نَبَتَتْ مَعَهَا سِنٌّ شَاغِبَةٌ، وَهِيَ الزَّائِدَةُ الْمُخَالِفَةُ لِنَبْتَةِ غَيْرِهَا مِنَ الأَْسْنَانِ(25/269)
وَجَبَتْ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ لأَِنَّهُ نَقْصٌ حَصَل بِفِعْلِهِ، وَكَذَا إِنْ عَادَتْ وَالدَّمُ يَسِيل لأَِنَّهُ نَقْصٌ حَصَل بِفِعْلِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ جَاءَ وَقْتُ نَبَاتِهَا وَلَمْ تَنْبُتْ بِأَنْ سَقَطَتِ الْبَوَاقِي وَنَبَتْنَ دُونَ الْمَقْلُوعَةِ سُئِل أَهْل الْخِبْرَةِ وَالطِّبِّ، فَإِنْ قَالُوا: قَدْ يُئِسَ مِنْ عَوْدِهَا لِفَسَادِ مَنْبَتِهَا، فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقِصَاصِ، أَوْ دِيَةِ السِّنِّ، وَإِنْ قَالُوا: يُتَوَقَّعُ نَبَاتُهَا إِلَى وَقْتِ كَذَا، انْتُظِرَ، فَإِنْ مَضَى الْوَقْتُ وَلَمْ تَنْبُتْ وَجَبَ الْقِصَاصُ أَيْضًا، وَلاَ يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ لِلصَّغِيرِ فِي صِغَرِهِ بَل يُنْتَظَرُ بُلُوغُهُ لِيَسْتَوْفِيَ هُوَ بِنَفْسِهِ لأَِنَّ الْقِصَاصَ لِلتَّشَفِّي.
فَإِنْ مَاتَ الصَّبِيُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَبْل حُصُول الْيَأْسِ وَقَبْل تَبَيُّنِ الْحَال فَلاَ قِصَاصَ لِوَارِثِهِ وَكَذَا لاَ دِيَةَ لأَِنَّ الأَْصْل الْبَرَاءَةُ وَنَبَاتُ السِّنِّ لَوْ عَاشَ. فَعَلَى هَذَا: تَجِبُ الْحُكُومَةُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ لِوَرَثَةِ الصَّبِيِّ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ لأَِنَّ الْقَلْعَ مَوْجُودٌ وَالْعَوْدَ مَشْكُوكٌ(25/270)
فِيهِ، وَلاَ يَتَأَتَّى النَّبَاتُ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَمَّا إِذَا مَاتَ بَعْدَ الْيَأْسِ فَيَقْتَصُّ وَارِثُهُ فِي الْحَال أَوْ يَأْخُذُ الأَْرْشَ (1) .
وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي قَلْعِ السِّنِّ:
5 - إِنْ قَلَعَ سِنَّ مَنْ قَدْ أَثْغَرَ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْحَال، دُونَ انْتِظَارِ نَبَاتِهَا مِنْ جَدِيدٍ لأَِنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ عَوْدِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُنْظَرُ وَيُسْأَل أَهْل الْخِبْرَةِ فَإِنْ قَالُوا: لاَ تَعُودُ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْحَال. وَإِنْ قَالُوا: يُرْجَى عَوْدُهَا إِلَى وَقْتٍ يَذْكُرُونَهُ، لَمْ يُقْتَصَّ حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ الْوَقْتُ. فَإِنْ لَمْ تَنْبُتْ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ عَادَتْ لَمْ يَجِبْ قِصَاصٌ وَلاَ دِيَةٌ لأَِنَّ مَا عَادَ قَامَ مَقَامَ الأَْوَّل فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ النَّابِتَ لاَ يَكُونُ عِوَضًا عَنِ الْفَائِتِ بَل هُوَ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ فَلاَ يَسْقُطُ بِهِ الضَّمَانُ إِذَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ، كَمَنْ أَتْلَفَ مَال إِنْسَانٍ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَزَقَ الْمُتْلَفَ عَلَيْهِ مِثْل الْمُتْلَفِ، وَكَالْتِحَامِ
__________
(1) المصادر السابقة.(25/270)
الْجَائِفَةِ أَوِ انْدِمَال الْمُوضِحَةِ أَوْ نَبْتِ اللِّسَانِ.
فَإِنْ قَلَعَ رَجُلٌ سِنَّ رَجُلٍ فَرَدَّهَا صَاحِبُهَا إِلَى مَكَانِهَا فَاشْتَدَّتْ وَالْتَحَمَتْ، فَعَلَى الْجَانِي الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَتَأَلَّمَ بِمِثْل مَا فَعَل وَعَلَيْهِ دِيَةُ السِّنِّ فِي الْخَطَأِ؛ لأَِنَّ الْمُعَادَةَ لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا كَمَا كَانَتْ لاِنْقِطَاعِ الْعُرُوقِ، بَل تَبْطُل بِأَدْنَى شَيْءٍ، فَكَانَتْ إِعَادَتُهَا وَعَدَمُ إِعَادَتِهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا رَأْيُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ حَكَى عَنْ شَيْخِ الإِْسْلاَمِ قَوْلَهُ: إِنْ عَادَتِ السِّنُّ إِلَى حَالَتِهَا الأُْولَى فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْجَمَال فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ (1) .
الْحُكْمُ إِنْ نَبَتَتِ السِّنُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:
6 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ نَبَتَتِ السِّنُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ أَوْ أَخْذِ الأَْرْشِ فَلَيْسَ لِلْجَانِي قَلْعُهَا ثَانِيَةً وَلاَ اسْتِرْدَادُ الأَْرْشِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ لِلْجَانِي أَنْ يَسْتَرِدَّ الأَْرْشَ الَّذِي دَفَعَهُ، وَلاَ يَلْزَمُهُ إِذَا كَانَ لَمْ يَدْفَعْ وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ لَهُ قَلْعُ
__________
(1)
) المصادر السابقة.(25/271)
السِّنِّ مَرَّةً أُخْرَى إِذَا كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَدِ اسْتُوْفِيَ الْقِصَاصُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِفِعْلِهِ الْعُدْوَانَ.
وَمَجْرَى الْخِلاَفِ الْمُتَعَلِّقِ بِاسْتِرْدَادِ الأَْرْشِ أَوْ عَدَمِهِ فِي السِّنِّ النَّابِتَةِ لِمَنْ قَدْ أَثْغَرَ، إِلاَّ أَنَّ رَأْيَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِثْل رَأْيِ الْحَنَابِلَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ فِي وُجُوبِ اسْتِرْدَادِ الأَْرْشِ لِلْجَانِي بَعْدَ أَخْذِهِ مِنْهُ وَعَدَمِ لُزُومِهِ عَلَيْهِ قَبْل دَفْعِهِ، وَيَرَوْنَ كَذَلِكَ وُجُوبَ الأَْرْشِ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الَّذِي اقْتُصَّ مِنَ الْجَانِي ثُمَّ نَبَتَتْ سِنُّهُ لِتَبَنِّي الْخَطَأِ فِي الْقِصَاصِ لأَِنَّ الْمُوجِبَ لَهُ فَسَادُ الْمَنْبَتِ وَلَمْ يَفْسُدْ حَيْثُ نَبَتَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى فَانْعَدَمَتِ الْجِنَايَةُ.
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْحَال إِذَا كَانَ مِمَّنْ أَثْغَرَ وَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْجَانِي أَوْ يَأْخُذَ الأَْرْشَ.
وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:
7 - اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي وَقْتِ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى وُجُوبِ تَأْجِيلِهِ لِمُدَّةِ حَوْلٍ كَامِلٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَقْلُوعَةً أَوْ مُتَحَرِّكَةً أَوْ مَكْسُورَةً، وَسَوَاءٌ كَانَتْ سِنَّ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ، وَذَلِكَ لاِحْتِمَال نَبَاتِهَا فِي حَالَةِ(25/271)
الْقَلْعِ وَسُقُوطِ أَوْ ثُبُوتِ الْمُتَحَرِّكَةِ وَلِتَغَيُّرِ الْمَكْسُورَةِ أَوْ عَدَمِ تَغَيُّرِهَا، وَأَصْل هَذَا الرَّأْيِ مَنْسُوبٌ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقِيل: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، فَلاَ يَنْتَظِرُ الْبَالِغُ لأَِنَّ نَبَاتَ سِنِّ الْكَبِيرِ نَادِرٌ، وَيَنْتَظِرُ الصَّبِيُّ لأَِنَّ سِنَّهُ تَنْبُتُ غَالِبًا، وَأَصْل هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقِيل: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَقْلُوعَةِ، وَالْمُتَحَرِّكَةِ، وَالْمَكْسُورَةِ، فَلاَ يُنْتَظَرُ نَبَاتُ الْمَقْلُوعَةِ بَل لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ الأَْرْشَ فِي الْحَال؛ لأَِنَّ السِّنَّ إِذَا سَقَطَتْ فَلاَ تَنْبُتُ غَالِبًا مِنْ جَدِيدٍ. وَيُنْتَظَرُ إِذَا تَحَرَّكَتْ مِنَ الْجِنَايَةِ؛ لأَِنَّهَا قَدْ تَسْقُطُ أَوْ تَثْبُتُ، وَكَذَا الْمَكْسُورَةُ؛ لأَِنَّهَا قَدْ تَتَغَيَّرُ بِاسْوِدَادٍ أَوِ احْمِرَارٍ أَوِ اصْفِرَارٍ أَوِ اخْضِرَارٍ، أَوْ لاَ تَتَغَيَّرُ فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ، وَأَصْل هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَنْسُوبَةٌ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ (1) .
عَوْدُ سِنِّ الْجَانِي بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:
8 - إِنْ عَادَتْ سِنُّ الْجَانِي بَعْدَ أَنِ اقْتُصَّ مِنْهُ دُونَ سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ
__________
(1) المصادر السابقة.(25/272)
يَقْلَعَهَا ثَانِيَةً وَثَالِثَةً؛ لأَِنَّ الْجَانِيَ أَفْسَدَ مَنْبَتَهُ فَيُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْقَلْعُ حَتَّى يَفْسُدَ مَنْبَتُهُ.
وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَبِهِ قَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْلَعَهُ لأَِنَّهُ قَابَل قَلْعًا بِقَلْعٍ فَلاَ تُثَنَّى عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ؛ وَلِئَلاَّ يَأْخُذَ سِنِينَ بِسِنٍّ وَاحِدَةٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُول: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (1) لَكِنْ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الأَْرْشُ لِخُرُوجِ الْقَلْعِ الأَْوَّل عَلَى كَوْنِهِ قِصَاصًا، وَكَأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ بِسَبَبٍ.
وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ شَيْءَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ عَوْدَةَ السِّنِّ لِلْجَانِي هِبَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ بِمَا سَبَقَ.
الْقِصَاصُ فِي قَطْعِ غَيْرِ الْمَثْغُورِ سِنَّ مَثْغُورٍ:
9 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَلَعَ غَيْرُ مَثْغُورٍ سِنَّ مَثْغُورٍ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ إِنْ كَانَ بَالِغًا، أَوْ يَأْخُذَ الأَْرْشَ.
وَإِذَا اقْتَصَّ فَلَيْسَ لَهُ مَعَ الْقِصَاصِ شَيْءٌ آخَرُ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الْجَانِي غَيْرَ بَالِغٍ فَلاَ
__________
(1) سورة المائدة / 45.(25/272)
قِصَاصَ، وَإِنْ قَلَعَ سِنًّا زَائِدَةً قَلَعَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَهُ سِنًّا مِثْلَهَا. إِنْ كَانَتْ لِلْمُسَاوَاةِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ سِنٌّ زَائِدَةٌ فَعَلَى الْجَانِي حُكُومَةٌ لِتَعَذُّرِ الْقِصَاصِ بِسَبَبِ فِقْدَانِ الْمُمَاثَلَةِ (1) .
وَإِنْ قَلَعَ غَيْرُ مَثْغُورٍ سِنَّ غَيْرِ مَثْغُورٍ آخَرَ فَلاَ قِصَاصَ فِي الْحَال، فَإِنْ نَبَتَتْ فَلاَ قِصَاصَ وَلاَ دِيَةَ، وَإِنْ لَمْ تَنْبُتْ وَقَدْ دَخَل وَقْتُهُ فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ (2) .
الدِّيَةُ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ كُل شَيْءٍ مِنَ الأَْسْنَانِ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُقَدَّمُ وَالْمُؤَخَّرُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل (3) .
__________
(1) البدائع 7 / 314، حاشية ابن عابدين 5 / 354، مواهب الجليل 6 / 249، جواهر الإكليل 2 / 261، 268، 270، حاشية الخرشي 8 / 42، 20، 37، روضة الطالبين 9 / 198، 201، 276، مغني المحتاج 4 / 35، 63، المغني لابن قدامة 7 / 720، 278، كشاف القناع 5 / 550، الجامع لأحكام القرآن 6 / 197، أحكام القرآن لابن العربي 2 / 133، الأم للإمام الشافعي 6 / 55.
(2) المصادر السابقة.
(3) حديث: " في السن خمس من الإبل ". أخرجه النسائي (8 / 58 - 59 - ط. المكتبة التجارية) أورده ابن حجر في التلخيص (4 / 17 - 18 ط شركة الطباعة الفنية) وتكلم على أسانيده، ونقل تصحيحه عن جماعة من العلماء.(25/273)
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: فِي الأَْسْنَانِ خَمْسٌ خَمْسٌ (1) . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (دِيَة) .
حُكْمُ السِّنِّ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَتَّخِذَ سِنًّا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ، وَيَجُوزُ لَهُ كَذَلِكَ أَنْ يَشُدَّ سِنَّهُ الْمُتَحَرِّكَةَ بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ كُلَّمَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى ذَلِكَ.
وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّافِعِيَّةُ قَيْدَ الضَّرُورَةِ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الذَّهَبِ لِلاِسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالْفِضَّةِ لِمَا رَوَاهُ الأَْثْرَمُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشُدُّونَ أَسْنَانَهُمْ بِالذَّهَبِ. أَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَلَكِنْ يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَخْلِيل أَسْنَانِهَا بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ لِلزِّينَةِ (2) .
__________
(1) حديث: " في الأسنان خمس خمس ". أخرجه أبو داود (4 / 691 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده حسن.
(2) المجموع 1 / 292، 6 / 38، 46، روضة الطالبين 2 / 262، مغني المحتاج 1 / 391، كشاف القناع 2 / 238، المغني لابن قدامة 3 / 15.(25/273)
حُكْمُ تَفْلِيجِ الأَْسْنَانِ:
12 - قَال الْعُلَمَاءُ: يَحْرُمُ التَّفَلُّجُ: وَهُوَ بَرْدُ مَا بَيْنَ الثَّنَايَا وَالرَّبَاعِيَاتِ مِنَ الأَْسْنَانِ، لِيَتَبَاعَدَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ لِلْحُسْنِ وَالزِّينَةِ.
وَيُسَمَّى الْوَشْرَ، وَهُوَ تَحْدِيدُ الأَْسْنَانِ وَتَفْرِيجُ مَا بَيْنَهَا إِيهَامًا لِلْفَلَجِ الْمَحْمُودِ وَهُوَ مِمَّا قَدْ تَفْعَلُهُ الْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ، لِتُوهِمَ النَّاظِرَ أَنَّهَا شَابَّةٌ صَغِيرَةٌ.
وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْوَاشِرَةِ وَالْمُسْتَوْشِرَةِ؛ لأَِنَّهُ تَبْدِيلٌ لِلْهَيْئَةِ وَتَغْيِيرٌ لِخَلْقِ اللَّهِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَال لأََتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلأَُضِلَّنَّهُمْ وَلأُِمَنِّيَنَّهُمْ وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَْنْعَامِ وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (1) الآْيَةَ.
وَلأَِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّدْلِيسِ وَالْغِشِّ، وَلِهَذَا لَعَنَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَفْعَلْنَهُ وَوَصَفَهُنَّ بِالْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ اللَّهِ، فِيمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ فِي ذَلِكَ، فَقَال: وَمَا لِي لاَ
__________
(1) سورة النساء / 117، 118، 119.(25/274)
أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) .
وَمَحَل هَذَا إِنْ فَعَلَتْهُ لِلْحُسْنِ وَالزِّينَةِ، أَمَّا لَوِ احْتَاجَتْ إِلَيْهِ لِعِلاَجٍ أَوْ عَيْبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا فَلاَ بَأْسَ بِهِ (2) . أَمَّا تَنْظِيفُ الأَْسْنَانِ فَرَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (سِوَاك، وَسُنَن الْفِطْرَةِ، وَسُنَن الْوُضُوءِ) .
سِنّ الْيَأْسِ
انْظُرْ: يَأْس
__________
(1) حديث ابن مسعود: " لعن الله الواشمات. . ". أخرجه البخاري (الفتح 8 / 630 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1678 - ط. الحلبي) .
(2) القوانين الفقهية ص 449، تفسير القرطبي 5 / 392، أحكام القرآن لابن العربي 1 / 630، دليل الفالحين شرح رياض الصالحين 4 / 494، المغني لابن قدامة 1 / 93.(25/274)
السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ
التَّعْرِيفُ:
1 - السُّنَّةُ لُغَةً: الْمَنْهَجُ وَالطَّرِيقَةُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَحْمُودَةً أَمْ مَذْمُومَةً. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَنَّ فِي الإِْسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِل بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِْسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِل بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ (1) .
ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَال السُّنَّةِ فِي الطَّرِيقَةِ الْمَحْمُودَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ.
وَتَعْرِيفُ السُّنَّةِ اصْطِلاَحًا سَيَأْتِي فِي بَحْثِ (سُنَّة) .
أَمَّا الرَّوَاتِبُ فَهُوَ جَمْعُ رَاتِبَةٍ مِنْ رَتَبَ الشَّيْءُ رُتُوبًا؛ أَيِ اسْتَقَرَّ وَدَامَ، فَهُوَ رَاتِبٌ،
__________
(1) حديث: " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها. . . ". أخرجه مسلم (1 / 705 - ط الحلبي) من حديث جرير بن عبد الله.(25/275)
وَسُمِّيَتْ السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ بِذَلِكَ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا (1) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ هِيَ السُّنَنُ التَّابِعَةُ لِغَيْرِهَا، أَوِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَى غَيْرِهَا أَوْ عَلَى مَا لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَالْعِيدَيْنِ وَالضُّحَى وَالتَّرَاوِيحِ (2) . وَيُطْلِقُهَا الْفُقَهَاءُ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْمَسْنُونَةِ قَبْل الْفَرَائِضِ وَبَعْدَهَا؛ لأَِنَّهَا لاَ يُشْرَعُ أَدَاؤُهَا وَحْدَهَا بِدُونِ تِلْكَ الْفَرَائِضِ. وَلَمْ يَقْصُرِ الشَّافِعِيَّةُ السُّنَنَ الرَّوَاتِبَ عَلَى الصَّلاَةِ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ لِلصَّوْمِ سُنَنًا رَوَاتِبَ كَصِيَامِ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - سُنَنُ الزَّوَائِدِ:
2 - هِيَ الَّتِي تَكُونُ إقَامَتُهَا حَسَنَةً وَلاَ يَتَعَلَّقُ بِتَرْكِهَا كَرَاهَةٌ وَلاَ إِسَاءَةٌ، كَأَذَانِ الْمُنْفَرِدِ وَالسِّوَاكِ (4) .
ب - النَّوَافِل:
3 - النَّوَافِل جَمْعُ نَافِلَةٍ، وَالنَّافِلَةُ لُغَةً: مَا زَادَ عَلَى النَّصِيبِ الْمُقَدَّرِ، أَوِ الْحَقِّ أَوِ الْفَرْضِ،
__________
(1) المصباح المنير مادة (رتب) .
(2) القليوبي 1 / 210، والروضة 1 / 327.
(3) شرح الروض 1 / 207.
(4) التعريفات ص 122.(25/275)
أَوْ مَا يُعْطِيهِ الإِْمَامُ لِلْمُجَاهِدِ زِيَادَةً عَنْ سَهْمِهِ (1) .
وَالنَّافِلَةُ أَعَمُّ مِنَ السُّنَّةِ؛ لأَِنَّهَا تَنْقَسِمُ: إِلَى مُعَيَّنَةٍ وَمِنْهَا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ، وَمُطْلَقَةٍ كَصَلاَةِ اللَّيْل (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لأَِدَاءِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ:
4 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ اسْتِحْبَابَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ. وَذَهَبَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: إِلَى أَنَّهُ لاَ تَوْقِيتَ فِي ذَلِكَ حِمَايَةً لِلْفَرَائِضِ، لَكِنْ لاَ يُمْنَعُ مَنْ تَطَوَّعَ بِمَا شَاءَ إِذَا أَمِنَ ذَلِكَ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ تَارِكَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ يَسْتَوْجِبُ إِسَاءَةً وَكَرَاهِيَةً. وَفَسَّرَ ابْنُ عَابِدِينَ اسْتِيجَابَ الإِْسَاءَةِ بِالتَّضْلِيل وَاللَّوْمِ. وَقَال صَاحِبُ كَشْفِ الأَْسْرَارِ: الإِْسَاءَةُ دُونَ الْكَرَاهَةِ. وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: الإِْسَاءَةُ أَفْحَشُ مِنَ الْكَرَاهَةِ. وَفِي التَّلْوِيحِ: تَرْكُ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ قَرِيبٌ مِنَ الْحَرَامِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ تَرْكِ الرَّوَاتِبِ بِلاَ عُذْرٍ (3) . هَذَا فِي الْحَضَرِ. وَفِي السَّفَرِ يَرَى جُمْهُورُ
__________
(1) لسان العرب مادة (نفل) .
(2) المغني 1 / 466.
(3) فتح الباري 3 / 51 - ط السلفية وكشف الأسرار 1 / 630 وابن عابدين 1 / 318، 319، ومطالب أولي النهى 1 / 548.(25/276)
الْفُقَهَاءِ اسْتِحْبَابَ صَلاَةِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ أَيْضًا لَكِنَّهَا فِي الْحَضَرِ آكَدُ. وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي النَّوَافِل عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ (1) . وَبِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَنَامُوا عَنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَسَارُوا حَتَّى ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَزَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ بِالصَّلاَةِ فَصَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُل يَوْمٍ (2) .
وَجَوَّزَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ لِلْمُسَافِرِ تَرْكَ السُّنَنِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يَأْتِي بِهَا فِي حَال الْخَوْفِ، وَيَأْتِي بِهَا فِي حَال الْقَرَارِ وَالأَْمْنِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُخَيَّرُ الْمُسَافِرُ بَيْنَ فِعْل الرَّوَاتِبِ وَتَرْكِهَا إِلاَّ فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ وَالْوِتْرِ فَيُحَافَظُ عَلَيْهِمَا سَفَرًا وَحَضَرًا.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ يُصَلِّي الرَّوَاتِبَ فِي السَّفَرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ ثَبَتَ عَنْهُ فِي
__________
(1) ورد في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ برأسه وكان ابن عمر يفعله أخرجه البخاري (االفتح2 / 578 - ط السلفية) ومسلم (1 / 487 - ط الحلبي) . واللفظ للبخاري.
(2) حديث أبي قتادة: أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر. أخرجه مسلم (1 / 472 - 473 - ط الحلبي) .(25/276)
الصَّحِيحَيْنِ، قَال حَفْصُ بْنُ عَاصِمٍ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَصَلَّى لَنَا الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقْبَل وَأَقْبَلْنَا مَعَهُ حَتَّى جَاءَ رَحْلَهُ وَجَلَسَ وَجَلَسْنَا مَعَهُ فَحَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ نَحْوَ حَيْثُ صَلَّى، فَرَأَى نَاسًا قِيَامًا فَقَال: مَا يَصْنَعُ هَؤُلاَءِ؟ قُلْتُ: يُسَبِّحُونَ. قَال: لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا لأََتْمَمْتُ صَلاَتِي، يَا ابْنَ أَخِي إِنِّي صَحِبْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، وَصَحِبْتُ عُمَرَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، ثُمَّ صَحِبْتُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُول اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (1) .
هَذَا وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِسُقُوطِ عَدَالَةِ الْمُوَاظِبِ عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ فِي غَيْرِ السَّفَرِ (2) . يُنْظَرُ تَفْصِيل الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحِ (عَدَالَة) .
عَدَدُ رَكَعَاتِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ:
5 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَدَدُ رَكَعَاتِ
__________
(1) سورة الأحزاب / 21 والحديث أخرجه مسلم (1 / 479 - 480) ، وأخرجه البخاري (الفتح 2 / 577) مختصرا.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 139، المجموع 4 / 29، 400، 401، مطالب أولي النهى 1 / 548.(25/277)
السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ عَشْرُ رَكَعَاتٍ، وَهُوَ أَدْنَى الْكَمَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: رَكْعَتَانِ قَبْل الظُّهْرِ وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَانِ قَبْل الْفَجْرِ. لِقَوْل عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ قَبْل الظُّهْرِ أَرْبَعًا، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ يَدْخُل فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ ثُمَّ يَدْخُل فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَيُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ وَيَدْخُل بَيْتِي فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الأَْكْمَل فِي الرَّوَاتِبِ غَيْرِ الْوِتْرِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ رَكْعَةً: رَكْعَتَانِ قَبْل الْفَجْرِ، وَأَرْبَعٌ قَبْل الظُّهْرِ، وَثِنْتَانِ بَعْدَهَا، وَأَرْبَعٌ قَبْل الْعَصْرِ، وَثِنْتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَأَرْبَعٌ قَبْل الْعِشَاءِ وَثِنْتَانِ بَعْدَهَا.
وَعَدَّدَ كُلٌّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْوِتْرَ مِنَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَفْضَل الرَّوَاتِبِ الْوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَأَفْضَلُهُمَا الْوِتْرُ عَلَى الْجَدِيدِ الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ
__________
(1) حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في بيته قبل الظهر. . . ". أخرجه مسلم (1 / 504 - ط الحلبي) .
(2) انظر المجموع 3 / 461، 462، المغني والشرح الكبير 1 / 762، 763، المبدع 2 / 14، كشاف القناع 1 / 422.(25/277)
هُمَا سَوَاءٌ وَتَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ سُنَّةُ الْمَغْرِبِ (1) .
قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِل أَشَدَّ مِنْهُ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ (2) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَدَعُوا رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَإِنْ طَرَدَتْكُمُ الْخَيْل (3)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: عَدَدُ رَكَعَاتِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً: رَكْعَتَانِ قَبْل الْفَجْرِ، وَأَرْبَعٌ قَبْل الظُّهْرِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، بِدَلِيل قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مَنْ ثَابَرَ عَلَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي السُّنَّةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْل الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ
__________
(1) فتح الباري 3 / 45، الروضة 1 / 334، كشاف القناع 1 / 414 ط عالم الكتب.
(2) حديث عائشة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن على شيء من النوافل أشد منه تعاهدا على. . . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 45 - ط السلفية) .
(3) حديث: " لا تدعوا ركعتي الفجر. . . . ". أخرجه أبو داود (2 / 46 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وأحمد (2 / 405 - ط الميمنية) واللفظ له، وأورده الذهبي في الميزان (2 / 547 - ط الحلبي) وذكر أن فيه راويا مجهولا.(25/278)
الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْل الْفَجْرِ (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ زِيَادَةً عَلَى السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ: أَرْبَعٌ قَبْل الْعَصْرِ، وَأَرْبَعٌ قَبْل الْعِشَاءِ وَأَرْبَعٌ بَعْدَهَا، مِنْهَا رَكْعَتَانِ مُؤَكَّدَتَانِ، وَسِتٌّ بَعْدَ الْمَغْرِبِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تَحْدِيدَ لِعَدَدِ رَكَعَاتِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، فَيَكْفِي فِي تَحْصِيل النَّدْبِ رَكْعَتَانِ فِي كُل وَقْتٍ، وَإِنْ كَانَ الأَْوْلَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إِلاَّ الْمَغْرِبَ فَسِتُّ رَكَعَاتٍ، فَيُصَلِّي قَبْل الظُّهْرِ وَبَعْدَهَا، وَقَبْل الْعَصْرِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ. وَسُنَّةُ الْفَجْرِ رَغِيبَةٌ - أَيْ مُرَغَّبٌ فِيهَا - وَوَقْتُهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ (3) .
سُنَّةُ الْجُمُعَةِ:
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: تُسَنُّ الصَّلاَةُ قَبْل الْجُمُعَةِ وَبَعْدَهَا، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: سُنَّةُ
__________
(1) حديث: " من ثابر على ثنتي عشرة ركعة في السُّنة. . . ". أخرجه الترمذي (2 / 273 - ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها، ثم تكلم الترمذي على إسناده بما يعله، ولكن أتبعه بذكر شاهد له من حديث أم حبيبة يتقوى به.
(2) فتح القدير 1 / 441، تحفة الفقهاء 2 / 195، ابن عابدين 1 / 452 - 453.
(3) انظر الشرح الصغير 1 / 550 - 557.(25/278)
الْجُمُعَةِ الْقَبْلِيَّةُ أَرْبَعٌ، وَالسُّنَّةُ الْبَعْدِيَّةُ أَرْبَعٌ كَذَلِكَ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: أَقَل السُّنَّةِ رَكْعَتَانِ قَبْلَهَا وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهَا، وَالأَْكْمَل أَرْبَعٌ قَبْلَهَا وَأَرْبَعٌ بَعْدَهَا (1) . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَل أَرْبَعًا (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُصَلِّي قَبْلَهَا دُونَ التَّقَيُّدِ بِعَدَدٍ مُعَيَّنٍ، عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ مَنْ قَال بِصَلاَةِ السُّنَّةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَمَلَهَا عَلَى تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَمَنْ كَرِهَ صَلاَةَ السُّنَّةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَرِهَهَا لأَِنَّهَا تُوَافِقُ وَقْتَ الاِسْتِوَاءِ غَالِبًا، لَكِنْ لَوْ تَقَدَّمَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَ شَيْءَ فِيهَا (3) .
الْوِتْرُ هَل هُوَ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ أَوْ وَاجِبٌ؟
7 - قَال الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَالصَّاحِبَانِ وَرِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: الْوِتْرُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِعَدِّ الْوِتْرِ مِنَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ. قَال الْخَطِيبُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 452، مغني المحتاج 1 / 220.
(2) حديث: " من كان منكم مصليا بعد الجمعة. . . . ". أخرجه مسلم (2 / 600 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 312، 313، 386، انظر المحرر 1 / 496، وانظر نيل الأوطار 3 / 312 - 315.(25/279)
الشِّرْبِينِيُّ: الْوِتْرُ قِسْمٌ مِنَ الرَّوَاتِبِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَقِيل: هُوَ قَسِيمٌ لَهَا، وَالْوِتْرُ أَفْضَل السُّنَنِ. وَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مَا عَدَا الْحَنَفِيَّةَ: أَقَلُّهُ رَكْعَةٌ وَأَكْثَرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً.
وَأَقَل الْكَمَال فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثَلاَثُ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الأَْوْقَاتِ كُلِّهَا، وَأَكْثَرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الأَْخِيرَةِ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الرَّاجِحِ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ. وَقَال زُفَرُ وَهُوَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: هُوَ فَرْضٌ. وَالتَّفْصِيل فِي (صَلاَة الْوِتْرِ) .
قِيَامُ رَمَضَانَ:
8 - أَوْرَدَ الشَّافِعِيَّةُ فِي السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ قِيَامَ رَمَضَانَ، فَقَدْ سَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامَ رَمَضَانَ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَهُوَ عِشْرُونَ رَكْعَةً تُؤَدَّى بَعْدَ سُنَّةِ الْعِشَاءِ، وَتُعْتَبَرُ مِنَ الرَّوَاتِبِ لأَِنَّهَا
__________
(1) البناية شرح الهداية 2 / 527، تحفة الفقهاء 2 / 202 - 204، المجموع 3 / 465 - 469، القليوبي 1 / 212، مغني المحتاج 1 / 220.(25/279)
تُؤَدَّى بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، يُسَلَّمُ عَلَى رَأْسِ كُل رَكْعَتَيْنِ، وَيُتَرَوَّحُ كُل أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بِجِلْسَةٍ خَفِيفَةٍ يُذْكَرُ فِيهَا اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ تُصَلَّى الْوِتْرُ جَمَاعَةً بَعْدَ ذَلِكَ (1) .
وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ سِتٌّ وَثَلاَثُونَ رَكْعَةً يُسَلَّمُ كُل رَكْعَتَيْنِ، وَيُسَنُّ لَهَا الْجَمَاعَةُ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْحَال فِي خِلاَفَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ (2) وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ) .
وَقْتُ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ:
9 - السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ مُقْتَرِنَةٌ بِالْفَرَائِضِ، فَمِنْهَا مَا يُصَلَّى قَبْل الْفَرِيضَةِ، مِثْل سُنَّةِ الْفَجْرِ وَسُنَّةِ الظُّهْرِ الْقَبْلِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا يُصَلَّى بَعْدَ الْفَرِيضَةِ مِثْل سُنَّةِ الظُّهْرِ الْبَعْدِيَّةِ، وَسُنَّةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَالْوِتْرِ وَقِيَامِ رَمَضَانَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ تَفْسِيرًا لَطِيفًا فِي تَقْدِيمِ النَّوَافِل عَلَى الْفَرَائِضِ وَتَأْخِيرِهَا عَنْهَا فَقَال: " أَمَّا فِي التَّقْدِيمِ فَلأَِنَّ النُّفُوسَ لاِشْتِغَالِهَا بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا بَعِيدَةٌ عَنْ حَالَةِ الْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ الَّتِي هِيَ رُوحُ الْعِبَادَةِ،
__________
(1) فتح القدير 1 / 466، 467، البناية 2 / 582، 586، المجموع 3 / 484، المغني والشرح الكبير 1 / 797، 800.
(2) الشرح الكبير 1 / 315.(25/280)
فَإِذَا قُدِّمَتِ النَّوَافِل عَلَى الْفَرَائِضِ أَنِسَتِ النَّفْسُ بِالْعِبَادَةِ، وَتَكَيَّفَتْ بِحَالَةٍ تَقْرُبُ مِنَ الْخُشُوعِ، وَأَمَّا فِي تَأْخِيرِهَا عَنْهَا، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّوَافِل جَابِرَةٌ لِنَقْصِ الْفَرَائِضِ، فَإِذَا وَقَعَ الْفَرْضُ نَاسَبَ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهُ مَا يُجْبِرُ الْخَلَل الَّذِي يَقَعُ فِيهِ. وَلَكِنْ لاَ يَنْوِي فِيهِ نِيَّةَ الْجَبْرِ "
وَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ السُّنَنِ قَبْل الْفَرِيضَةِ فَوَقْتُهَا يَبْدَأُ مِنْ دُخُول وَقْتِ الْفَرِيضَةِ وَيَنْتَهِي بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ إِذَا كَانَتْ تُؤَدَّى فِي جَمَاعَةٍ؛ لأَِنَّهُ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ صَلاَةَ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةُ، حَيْثُ إِنَّ الْفَرَائِضَ تُقَدَّمُ عَلَى النَّوَافِل دَائِمًا عِنْدَ التَّعَارُضِ، إِلاَّ إِذَا أَيْقَنَ الْمَرْءُ أَنَّ بِإِمْكَانِهِ أَدَاءَ النَّافِلَةِ، وَإِدْرَاكَ الْجَمَاعَةِ مَعَ الإِْمَامِ فَلاَ بَأْسَ عِنْدَئِذٍ مِنْ أَدَائِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَرْءُ يُؤَدِّي الصَّلاَةَ مُنْفَرِدًا فَوَقْتُ السُّنَّةِ يَسْتَمِرُّ حَتَّى يَشْرَعَ فِي الْفَرِيضَةِ.
وَالأَْوْلَى لِلْمَرْءِ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ الدُّخُول مَعَ الإِْمَامِ فِي الْفَرِيضَةِ، وَتُدْرَكُ النَّافِلَةُ بَعْدَ الاِنْتِهَاءِ مِنَ الْفَرِيضَةِ، وَيَظْهَرُ هَذَا فِي كُلٍّ مِنْ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَسُنَّةِ الظُّهْرِ الْقَبْلِيَّةِ.
أَمَّا السُّنَنُ الْبَعْدِيَّةُ: مِثْل سُنَّةِ الظُّهْرِ(25/280)
الْبَعْدِيَّةِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَوَقْتُ كُلٍّ مِنْهَا مِنْ بَعْدِ الاِنْتِهَاءِ مِنَ الْفَرِيضَةِ إِلَى خُرُوجِ وَقْتِ الْمَكْتُوبَةِ وَدُخُول وَقْتِ الأُْخْرَى، فَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ وَلَمْ يُؤَدِّ السُّنَنَ الْبَعْدِيَّةَ فَإِنَّهَا تُعْتَبَرُ فَائِتَةً.
وَمِثْل ذَلِكَ يُقَال فِي سُنَّةِ الْجُمُعَةِ الْبَعْدِيَّةِ، وَأَمَّا صَلاَةُ الْوِتْرِ فَوَقْتُهَا يَبْدَأُ مِنْ بَعْدِ الاِنْتِهَاءِ مِنْ سُنَّةِ الْعِشَاءِ الْبَعْدِيَّةِ، وَيَسْتَمِرُّ حَتَّى قُبَيْل أَذَانِ الْفَجْرِ، وَإِنْ كَانَ الأَْفْضَل تَأْخِيرَهَا إِلَى ثُلُثِ اللَّيْل الأَْخِيرِ.
وَأَمَّا صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ فَوَقْتُهَا يَبْدَأُ مِنْ بَعْدِ الاِنْتِهَاءِ مِنْ سُنَّةِ الْعِشَاءِ، وَيَسْتَمِرُّ إِلَى قُبَيْل الْفَجْرِ بِالْقَدْرِ الَّذِي يَسَعُ صَلاَةَ الْوِتْرِ بَعْدَهَا، وَيُفَضَّل أَنْ لاَ يُؤَخِّرَهَا إِذَا كَانَ فِي التَّأْخِيرِ فَوَاتُ الْجَمَاعَةِ؛ إِذْ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تُصَلَّى فِي جَمَاعَةٍ كَمَا مَرَّ آنِفًا، وَبَعْدَ الاِنْتِهَاءِ مِنْهَا تُصَلَّى الْوِتْرُ فِي جَمَاعَةٍ فِي رَمَضَانَ فَقَطْ. وَتُكْرَهُ الْجَمَاعَةُ لِلْوِتْرِ فِي غَيْرِهِ.
مَا يُسْتَحَبُّ وَمَا يُكْرَهُ فِي السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ:
(1) الْقِرَاءَةُ فِي السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ:(25/281)
10 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ: (الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ) : إِلَى أَنَّهُ تُسَنُّ الْقِرَاءَةُ فِي النَّفْل وَالْوِتْرِ.
وَالْقِرَاءَةُ الْمُرَادَةُ هُنَا هِيَ ضَمُّ سُورَةٍ إِلَى الْفَاتِحَةِ، وَمِنَ السُّنَّةِ تَخْفِيفُ الْقِرَاءَةِ فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِيهَا سُورَةَ الْكَافِرُونَ وَالإِْخْلاَصِ، وَأَطَال الْقِرَاءَةَ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ.
وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ مُخَفَّفَةً حَتَّى أَنِّي لأََقُول: هَل قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ؟ .
وَيُسْتَحَبُّ الإِْسْرَارُ بِالْقِرَاءَةِ إِذَا كَانَتِ النَّافِلَةُ نَهَارًا اعْتِبَارًا بِصَلاَةِ النَّهَارِ، وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالإِْسْرَارِ فِي الصَّلاَةِ اللَّيْلِيَّةِ إِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا، وَالْجَهْرُ أَفْضَل بِشَرْطِ أَنْ لاَ يُشَوِّشَ عَلَى غَيْرِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ النَّافِلَةُ أَوِ الْوِتْرُ تُؤَدَّى(25/281)
جَمَاعَةً فَيَجْهَرُ بِهَا الإِْمَامُ لِيُسْمِعَ مَنْ خَلْفَهُ، وَيَتَوَسَّطُ الْمُنْفَرِدُ بِالْجَهْرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ وَاجِبَةٌ فِي جَمِيعِ رَكَعَاتِ النَّفْل وَالْوِتْرِ؛ لأَِنَّ كُل شَفْعٍ مِنْهُ يُعْتَبَرُ صَلاَةً عَلَى حِدَةٍ، وَالْقِيَامُ إِلَى الثَّالِثَةِ كَتَحْرِيمَةٍ مُبْتَدَأَةٍ. وَأَمَّا الْوِتْرُ فَلِلاِحْتِيَاطِ.
(2) فِعْلُهَا فِي الْبَيْتِ:
11 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الأَْفْضَل أَدَاءُ النَّوَافِل فِي الْبَيْتِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ أَدَاءَ الرَّوَاتِبِ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَل. وَذَلِكَ اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ قَبْل الظُّهْرِ أَرْبَعًا، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَدْخُل فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ يَدْخُل فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ وَيَدْخُل بَيْتِي فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.
وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَسَاجِدِ الأَْمْصَارِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْمَسَاجِدِ الَّتِي تُشَدُّ إِلَيْهَا الرِّحَال:(25/282)
وَهِيَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَالْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ، وَالْمَسْجِدُ الأَْقْصَى، وَإِنْ كَانَ الأَْجْرُ يَتَضَاعَفُ فِي هَذِهِ الْمَسَاجِدِ. قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَل مِنْ صَلاَتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إِلاَّ فِي الْمَكْتُوبَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْفْضَل أَدَاءُ عَامَّةِ السُّنَنِ وَالنَّوَافِل فِي الْبَيْتِ، إِلاَّ أَنْ يَخْشَى أَنْ يَتَشَاغَل عَنْهَا إِذَا رَجَعَ.
وَيَجُوزُ أَدَاءُ النَّوَافِل فِي الْمَسْجِدِ، سَوَاءٌ كَانَتْ رَاتِبَةً أَمْ غَيْرَ رَاتِبَةٍ، وَالأَْفْضَل أَدَاؤُهَا فِي الْمَسْجِدِ إِذَا كَانَتْ تُؤَدَّى فِي جَمَاعَةٍ كَمَا فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ وَالْوِتْرِ بَعْدَهَا، وَذَلِكَ حَتَّى يُدْرِكَ الْمَرْءُ فَضْل الْجَمَاعَةِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَدَائِهَا فِي الْمَسْجِدِ وَفِي الْبَيْتِ.
(3) صَلاَةُ الرَّوَاتِبِ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ فُرَادَى:(25/282)
12 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: تُكْرَهُ الْجَمَاعَةُ فِي صَلاَةِ النَّوَافِل.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ كَذَلِكَ: تُكْرَهُ الْجَمَاعَةُ فِي النَّوَافِل، لأَِنَّ شَأْنَ النَّفْل الاِنْفِرَادُ بِهِ، كَمَا تُكْرَهُ صَلاَةُ النَّفْل فِي جَمْعٍ قَلِيلٍ بِمَكَانٍ مُشْتَهِرٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْجَمَاعَةُ كَثِيرَةً وَالْمَكَانُ مُشْتَهِرًا فَلاَ تُكْرَهُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُسْتَحَبُّ الْجَمَاعَةُ فِي التَّرَاوِيحِ وَالْوِتْرِ فِي رَمَضَانَ، وَلاَ يُسْتَحَبُّ فِعْل سَائِرِ الرَّوَاتِبِ جَمَاعَةً.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ التَّطَوُّعُ جَمَاعَةً وَمُنْفَرِدًا؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل الأَْمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا، وَكَانَ أَكْثَرُ تَطَوُّعِهِ مُنْفَرِدًا، وَصَلَّى بِابْنِ عَبَّاسٍ مَرَّةً، وَبِأَنَسٍ وَأُمِّهِ وَالْيَتِيمِ مَرَّةً، وَأَمَّ أَصْحَابَهُ فِي بَيْتِ عِتْبَانَ مَرَّةً، فَعَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ السُّيُول لَتَحُول بَيْنِي وَبَيْنَ(25/283)
مَسْجِدِ قَوْمِي، فَأُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنِي فَتُصَلِّيَ فِي مَكَانٍ مِنْ بَيْتِي أَتَّخِذُهُ مَسْجِدًا، فَقَال: سَنَفْعَل، فَلَمَّا دَخَل قَال: أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَأَشَرْتُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ.
وَكَرِهَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ تَرْكَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ خَاصَّةً بِلاَ عُذْرٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ عُذْرٌ فَلاَ بَأْسَ بِتَرْكِهَا.
وَبَعْضُ هَذِهِ الرَّوَاتِبِ آكَدُ مِنْ بَعْضٍ كَسُنَّةِ الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْوِتْرِ وَسُنَّةِ الظُّهْرِ، وَهِيَ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ آكَدُ لاِفْتِقَارِهِ إِلَى تَكْمِيل الثَّوَابِ الَّذِي فَاتَهُ بِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ.
صَلاَةُ الرَّوَاتِبِ فِي السَّفَرِ:
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَدَاءُ النَّوَافِل فِي السَّفَرِ؛ لأَِنَّهَا مُكَمِّلاَتٌ لِلْفَرَائِضِ وَلِمُدَاوَمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِعْلِهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَأَسْفَارِهِ، وَصَلاَتُهُ لَهَا أَحْيَانًا رَاكِبًا، وَمِنْ ذَلِكَ صَلاَتُهُ الضُّحَى يَوْمَ(25/283)
الْفَتْحِ، وَصَلاَتُهُ سُنَّةَ الْفَجْرِ لَيْلَةَ التَّعْرِيسِ.
وَلِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْحَثِّ عَلَى فِعْل الرَّوَاتِبِ عُمُومًا، وَالأَْمْرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَتْرُوكٌ لِلْمُكَلَّفِ وَهِمَّتِهِ وَوَرَعِهِ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ تَرْكُ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ إِلاَّ فِي السَّفَرِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا إِلاَّ الْفَجْرَ وَالْوِتْرَ فَيُفْعَلاَنِ فِي السَّفَرِ كَالْحَضَرِ لِتَأَكُّدِهِمَا.
حُكْمُ قَضَائِهَا إِذَا فَاتَتْ:
14 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ عُمُومًا إِذَا فَاتَتْ فَإِنَّهَا لاَ تُقْضَى، إِلاَّ سُنَّةَ الْفَجْرِ إِذَا فَاتَتْ مَعَ الْفَرِيضَةِ فَإِنَّهَا تُقْضَى مَعَهَا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ، أَمَّا إِذَا فَاتَتْهُ وَحْدَهَا فَلاَ يَقْضِيهَا قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ لأَِنَّهَا مِنْ مُطْلَقِ النَّفْل، وَهُوَ مَكْرُوهٌ بَعْدَ الصُّبْحِ إِلَى أَنْ(25/284)
تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَّاهُمَا فِي غَيْرِ وَقْتِهِمَا عَلَى الاِنْفِرَادِ، وَإِنَّمَا قَضَاهُمَا تَبَعًا لِلْفَرْضِ غَدَاةَ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لاَ يَقْضِيهِمَا بَعْدَ ارْتِفَاعِهَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَقْضِيهِمَا إِلَى وَقْتِ الزَّوَال لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَضَاهُمَا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ غَدَاةَ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ، وَلَيْلَةُ التَّعْرِيسِ كَانَتْ حِينَ قَفَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ.
وَأَمَّا سُنَّةُ الظُّهْرِ الْقَبْلِيَّةُ إِذَا فَاتَتْ فَإِنَّهَا تُؤَدَّى بَعْدَ الْفَرْضِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَقْدِيمِهَا عَلَى السُّنَّةِ الْبَعْدِيَّةِ وَتَأْخِيرِهَا عَنْهَا، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يُؤَدِّيهِمَا بَعْدَ السُّنَّةِ الْبَعْدِيَّةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُؤَدِّيهِمَا قَبْل السُّنَّةِ الْبَعْدِيَّةِ.
وَأَمَّا بَقِيَّةُ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ إِذَا فَاتَتْ مَعَ فَرَائِضِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ تُقْضَى تَبَعًا كَمَا لاَ تُقْضَى قَصْدًا، وَهُوَ الأَْصَحُّ. وَقَال الْبَعْضُ الآْخَرُ: تُقْضَى تَبَعًا لِلْفَرْضِ بِنَاءً عَلَى جَعْل الْوَارِدِ فِي قَضَاءِ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَارِدًا فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّنَنِ(25/284)
الْفَائِتَةِ مَعَ فَرَائِضِهَا إِلْغَاءً لِخُصُوصِ الْمَحَل.
وَقَدِ اسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ عَلَى عَدَمِ قَضَاءِ سُنَّةِ الْفَجْرِ إِذَا فَاتَتْ وَحْدَهَا: بِأَنَّ السُّنَّةَ عُمُومًا لاَ تُقْضَى لاِخْتِصَاصِ الْقَضَاءِ بِالْوَاجِبِ، لأَِنَّ الْقَضَاءَ تَسْلِيمُ مِثْل مَا وَجَبَ بِالأَْمْرِ. وَالْحَدِيثُ وَرَدَ فِي قَضَائِهَا تَبَعًا لِلْفَرْضِ، فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى الأَْصْل، وَإِنَّمَا تُقْضَى تَبَعًا لَهُ. وَهُوَ لاَ يُصَلِّي بِالْجَمَاعَةِ أَوْ وَحْدَهُ إِلَى وَقْتِ الزَّوَال.
وَبِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَصْرَ، ثُمَّ دَخَل بَيْتِي فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ صَلَّيْتَ صَلاَةً لَمْ تَكُنْ تُصَلِّيهَا؟ فَقَال: قَدِمَ عَلَيَّ مَالٌ فَشَغَلَنِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ كُنْتُ أَرْكَعُهُمَا بَعْدَ الظُّهْرِ، فَصَلَّيْتُهُمَا الآْنَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، أَفَنَقْضِيهِمَا إِذَا فَاتَتَا؟ فَقَال: لاَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُقْضَى مِنَ النَّوَافِل إِلاَّ سُنَّةُ الْفَجْرِ فَقَطْ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَعَ صَلاَةِ(25/285)
الصُّبْحِ أَمْ لاَ، وَنُقِل عَنْ بَعْضِهِمُ الْقَوْل بِحُرْمَةِ قَضَاءِ النَّوَافِل مَا عَدَا سُنَّةَ الْفَجْرِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ مِنَ الْمَذْهَبِ: يُسْتَحَبُّ قَضَاءُ النَّوَافِل الْمُؤَقَّتَةِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ أَنَّ السُّنَنَ الْمُؤَقَّتَةَ لاَ تُقْضَى إِذَا فَاتَتْ، لأَِنَّهَا نَوَافِل، فَهِيَ تُشْبِهُ النَّوَافِل غَيْرَ الْمُؤَقَّتَةِ، وَهَذِهِ لاَ تُقْضَى إِذَا فَاتَتْ. وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنْ لَمْ يَتْبَعِ النَّفَل الْمُؤَقَّتُ غَيْرَهُ كَالضُّحَى قُضِيَ لِشَبَهِهِ بِالْفَرْضِ فِي الاِسْتِقْلاَل، وَإِنْ تَبِعَ غَيْرَهُ كَالرَّوَاتِبِ فَلاَ تُقْضَى.
وَاسْتَدَلُّوا لِلأَْظْهَرِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا وَلِقَضَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةَ الْفَجْرِ لَيْلَةَ التَّعْرِيسِ. وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إِذَا ذَكَرَهُ. وَبِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ السَّابِقِ.(25/285)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تُقْضَى السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ الْفَائِتَةُ مَعَ الْفَرَائِضِ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً، فَإِذَا كَانَتْ كَثِيرَةً فَالأَْوْلَى تَرْكُهَا، إِلاَّ سُنَّةَ الْفَجْرِ فَإِنَّهَا تُقْضَى وَلَوْ كَثُرَتْ. وَاحْتَجُّوا لأَِوْلَوِيَّةِ تَرْكِ مَا كَثُرَ بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، لَمْ يُنْقَل عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى بَيْنَ الْفَرَائِضِ الْمَقْضِيَّةِ؛ وَلأَِنَّ الاِشْتِغَال بِالْفَرْضِ أَوْلَى.
قَال الْحَنَابِلَةُ: لِلزَّوْجَةِ وَالأَْجِيرِ - وَلَوْ خَاصًّا - فِعْل السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ مَعَ الْفَرْضِ لأَِنَّهَا تَابِعَةٌ لَهُ وَلاَ يَجُوزُ مَنْعُهُمَا مِنَ السُّنَنِ لأَِنَّ زَمَنَهَا مُسْتَثْنًى شَرْعًا كَالْفَرَائِضِ.
سِنَّوْر
انْظُرْ: هِرَّة(25/286)
سَهْو
انْظُرْ: سُجُود السَّهْوِ
سَوْدَاء
انْظُرْ: لِبَاس
سِوَارٌ
انْظُرْ: حُلِيّ
سُوبْيَا
انْظُرْ: أَشْرِبَة(25/286)
سُورَة
التَّعْرِيفُ:
1 - السُّورَةُ لُغَةً: السُّورَةُ بِالضَّمِّ: الْمَنْزِلَةُ، وَخَصَّهَا ابْنُ السَّعِيدِ بِالرِّفْعَةِ، وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ بِالشَّرَفِ. وَقِيل: الدَّرَجَةُ، وَقِيل: مَا طَال مِنَ الْبِنَاءِ وَحَسُنَ، وَقِيل: هِيَ الْعَلاَمَةُ.
وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهَا: طَائِفَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ ذَاتُ مَطْلَعٍ وَخَاتِمَةٍ.
وَقِيل: السُّورَةُ تَمَامُ جُمْلَةٍ مِنَ الْمَسْمُوعِ تُحِيطُ بِمَعْنًى تَامٍّ بِمَنْزِلَةِ إِحَاطَةِ السُّورِ بِالْمَدِينَةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقُرْآنُ:
2 - الْقُرْآنُ: هُوَ الْمُنَزَّل عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(25/287)
الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ، الْمَنْقُول عَنْهُ نَقْلاً مُتَوَاتِرًا بِلاَ شُبْهَةٍ.
الآْيَاتُ:
3 - الآْيَاتُ: جَمْعُ آيَةٍ، وَهِيَ لُغَةً: الْعَلاَمَةُ وَالْعِبْرَةُ.
وَاصْطِلاَحًا: هِيَ جُزْءٌ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ تُبَيِّنُ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ تَوْقِيفًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السُّورَةِ أَنَّ السُّورَةَ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا اسْمٌ خَاصٌّ بِهَا، وَلاَ تَقِل عَنْ ثَلاَثِ آيَاتٍ، وَأَمَّا الآْيَةُ فَقَدْ يَكُونُ لَهَا اسْمٌ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ، وَهُوَ الأَْكْثَرُ.
(ر: التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ آيَة) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
تَنْكِيسُ السُّوَرِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ:
4 - مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ يُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ سُوَرِهِ مُرَتَّبَةً كَمَا هِيَ فِي الْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ، وَكَرِهُوا لِلْقَارِئِ فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجَ الصَّلاَةِ أَنْ يُنَكِّسَ السُّوَرَ كَأَنْ يَقْرَأَ {أَلَمْ نَشْرَحْ} ثُمَّ يَقْرَأَ {وَالضُّحَى} ،(25/287)
فَقَدْ سُئِل عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَنْكُوسًا. قَال: ذَلِكَ مَنْكُوسُ الْقَلْبِ. لَكِنْ أَجَازَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ هَذَا التَّنْكِيسَ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ، كَتَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ لِحِفْظِ الْقُرْآنِ. أَوْ عَلَى وَجْهِ الذِّكْرِ، وَلَكِنْ يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ ذَلِكَ خِلاَفُ الأَْوْلَى.
(ر: قُرْآن وَمُصْحَف) .
حُكْمُ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلاَةِ:
5 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ رُكْنٌ فِي كُل رَكْعَةٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: هِيَ رُكْنٌ مُطْلَقًا، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهَا فَرْضٌ لِغَيْرِ الْمَأْمُومِ فِي صَلاَةٍ جَهْرِيَّةٍ وَفِي الْمَذْهَبِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلاَةِ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ، وَلَكِنِ الْفَرْضُ فِي(25/288)
الصَّلاَةِ عِنْدَهُمْ قِرَاءَةُ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} .
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهَذِهِ الآْيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقِرَاءَةِ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا، وَتَقْيِيدُهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ زِيَادَةٌ عَلَى مُطْلَقِ النَّصِّ، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ نُسِخَ فَيَكُونُ أَدْنَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَرْضًا لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ.
تَرْكُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ عَمْدًا فِي الصَّلاَةِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي سُنِّيَّةِ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَ الْفَاتِحَةِ، وَلَكِنِ الْخِلاَفُ وَقَعَ فِيمَنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أَوْ مُتَعَمِّدًا. ر: التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (سَهْو. صَلاَة) .
قِرَاءَةُ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُْخْرَيَيْنِ مِنْ الصَّلاَةِ:
7 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يُسَنُّ قِرَاءَةُ(25/288)
سُورَةٍ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُْخْرَيَيْنِ، لأَِنَّ عَامَّةَ صَلاَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لاَ يَقْرَأُ فِيهَا شَيْئًا، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِنْ شَاءَ سَكَتَ وَإِنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ، وَإِنْ قَرَأَ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ عَلَى وَجْهِ الثَّنَاءِ وَالذِّكْرِ.
(ر: التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ صَلاَة) .
تَكْرَارُ السُّورَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ:
8 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ لِلْمُصَلِّي أَنْ يُكَرِّرَ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ الَّتِي قَرَأَهَا فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى، فَعَنْ رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ {إِذَا زُلْزِلَتْ} فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، فَلاَ أَدْرِي أَنَسِيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ قَرَأَ ذَلِكَ عَمْدًا.
وَحَدِيثُ الرَّجُل الَّذِي كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَكَانَ يَقْرَأُ قَبْل كُل سُورَةٍ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}(25/289)
فَقَال: إِنِّي أُحِبُّهَا. فَقَال لَهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهِيَةِ تَكْرَارِ السُّورَةِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: هُوَ خِلاَفُ الأَْوْلَى. فَقَدْ قَال ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - " لِكُل سُورَةٍ حَظُّهَا مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
جَمْعُ السُّورَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا ثَبَتَ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِي رَكْعَةٍ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَآل عِمْرَانَ وَقَال ابْنُ مَسْعُودٍ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرِنُ بَيْنَهُنَّ - فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّل، سُورَتَيْنِ مِنْ آل حَامِيمَ فِي كُل رَكْعَةٍ.(25/289)
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ النَّافِلَةِ وَالْفَرِيضَةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ السُّوَرِ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ فَقَالُوا: لاَ بَأْسَ أَنْ يَكُونَ فِي النَّوَافِل لِمَا ثَبَتَ فِي الرِّوَايَاتِ السَّابِقَةِ حَيْثُ إِنَّهَا كَانَتْ فِي النَّافِلَةِ، كَقِيَامِ اللَّيْل وَغَيْرِهِ، وَاسْتَحَبُّوا فِي الْفَرِيضَةِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى سُورَةٍ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ.
لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا كَانَ يُصَلِّي أَكْثَر صَلاَتِهِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى فَهِيَ كَمَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ وَهِيَ الْكَرَاهِيَةُ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَقْرَأَ بِسُورَةٍ فِي صَلاَتِهِ. وَلِقَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عِنْدَمَا قَال لَهُ رَجُلٌ: إِنِّي قَرَأْتُ الْمُفَصَّل فِي رَكْعَةٍ، قَال: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لأََنْزَلَهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ فَصَّلَهُ لِتُعْطَى كُل سُورَةٍ حَظَّهَا مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.(25/290)
قِرَاءَةُ السُّورَةِ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ قِرَاءَةٌ، وَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي قِرَاءَتِهَا إِنَّمَا كَانَ يُقْرَأُ فِي سَبِيل الثَّنَاءِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْقِرَاءَةِ. وَلِقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَقِّتْ فِيهَا قَوْلاً، وَلاَ قِرَاءَةً وَلأَِنَّ مَا لاَ رُكُوعَ فِيهِ لاَ قِرَاءَةَ فِيهِ، كَسُجُودِ التِّلاَوَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَقَال: إِنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ، أَوْ مِنْ تَمَامِ السُّنَّةِ فَعَنْ أُمِّ شَرِيكٍ قَالَتْ: أَمَرَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَقْرَأَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. وَأَيْضًا هُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ.(25/290)
وَلأَِنَّهَا صَلاَةٌ يَجِبُ فِيهَا الْقِيَامُ فَوَجَبَتْ فِيهَا الْقِرَاءَةُ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِقِرَاءَةِ السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ قِرَاءَتِهَا؛ لأَِنَّ صَلاَةَ الْجِنَازَةِ شُرِعَ فِيهَا التَّخْفِيفُ وَلِهَذَا لاَ يُقْرَأُ فِيهَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ شَيْءٌ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِز) .(25/291)
سَوْم
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّوْمُ: عَرْضُ السِّلْعَةِ عَلَى الْبَيْعِ، يُقَال: سُمْتُ بِالسِّلْعَةِ أَسُومُ بِهَا سَوْمًا، وَسَاوَمْتُ وَاسْتَمْتُ بِهَا وَعَلَيْهَا: غَالَيْتُ، وَيُقَال: سُمْتُ فُلاَنًا سِلْعَتِي سَوْمًا: إِذَا قُلْتَ: أَتَأْخُذُهَا بِكَذَا مِنَ الثَّمَنِ.
وَالْمُسَاوَمَةُ: الْمُجَاذَبَةُ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى السِّلْعَةِ وَفَضْل ثَمَنِهَا.
قَال الْفَيُّومِيُّ: سَامَ الْبَائِعُ السِّلْعَةَ سَوْمًا: عَرَضَهَا لِلْبَيْعِ، وَسَامَهَا الْمُشْتَرِي وَاسْتَامَهَا: طَلَبَ بَيْعَهَا.
وَسَامَتِ الرَّاعِيَةُ وَالْمَاشِيَةُ وَالْغَنَمُ تَسُومُ سَوْمًا: رَعَتْ بِنَفْسِهَا حَيْثُ شَاءَتْ، فَهِيَ سَائِمَةٌ، وَالسَّوَامُ وَالسَّائِمَةُ: الأَْنْعَامُ الرَّاعِيَةُ. وَأَسَامَهَا هُوَ وَسَامَهَا: رَعَاهَا.(25/291)
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ لَفْظَ السَّوْمِ بِمَعْنَى الرَّعْيِ فِي الْكَلأَِ الْمُبَاحِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، وَبِمَعْنَى عَرْضِ الْبَائِعُ سِلْعَتَهُ بِثَمَنٍ مَا وَيَطْلُبُهُ مَنْ يَرْغَبُ فِي شِرَائِهَا بِثَمَنٍ دُونَهُ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّجْشُ:
2 - النَّجْشُ - بِسُكُونِ الْجِيمِ - مَصْدَرٌ، وَبِالْفَتْحِ اسْمُ مَصْدَرٍ.
هُوَ: أَنْ يَزِيدَ فِي الثَّمَنِ وَلاَ يُرِيدَ الشِّرَاءَ أَوْ يَمْدَحَهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ لِيُرَوِّجَهُ، وَيَجْرِي فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّوْمِ أَنَّ النَّاجِشَ لاَ يَرْغَبُ فِي الشَّيْءِ وَالْمُسَاوِمَ يَرْغَبُ فِيهِ.
ب - الْمُزَايَدَةُ:
3 - بَيْعُ الْمُزَايَدَةِ وَيُسَمَّى بَيْعَ الدَّلاَلَةِ: أَنْ يُنَادِيَ عَلَى السِّلْعَةِ وَيَزِيدَ النَّاسُ فِيهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، حَتَّى تَقِفَ عَلَى آخِرِ مَنْ يَزِيدُ فِيهَا فَيَأْخُذَهَا. وَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ.(25/292)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّوْمِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً: السَّوْمُ فِي الزَّكَاةِ:
4 - مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ كَوْنُهَا سَائِمَةً فِي كَلإٍَ مُبَاحٍ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي كِتَابِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ. . . الْحَدِيثَ.
فَذِكْرُ السَّوْمِ فِي الْحَدِيثِ قَيْدٌ يَدُل عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ. وَاخْتُصَّتِ السَّائِمَةُ بِالزَّكَاةِ لِتَوَفُّرِ مُؤْنَتِهَا بِالرَّعْيِ فِي كَلأٍَ مُبَاحٍ.
وَاشْتَرَطَ الْجُمْهُورُ أَنْ تَكُونَ الإِْسَامَةُ لِلدَّرِّ وَالنَّسْل؛ لأَِنَّ مَال الزَّكَاةِ هُوَ الْمَال النَّامِي وَالْمَال النَّامِي فِي الْحَيَوَانِ بِالإِْسَامَةِ إِذْ بِهَا يَحْصُل النَّسْل فَيَزْدَادُ الْمَال. فَإِنْ كَانَتِ السَّائِمَةُ لِلْحَمْل وَالرُّكُوبِ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا، لأَِنَّهَا تَصِيرُ كَثِيَابِ الْبَدَنِ.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الإِْسَامَةُ أَكْثَرَ الْعَامِ لأَِنَّ الأَْكْثَرَ لَهُ حُكْمُ الْكُل، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ(25/292)
وَالْحَنَابِلَةِ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ: فَعِنْدَهُمْ إِنْ عُلِفَتْ مُعْظَمَ الْحَوْل فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَإِنْ عُلِفَتْ دُونَ الْمُعْظَمِ فَالأَْصَحُّ: إِنْ عُلِفَتْ قَدْرًا تَعِيشُ بِدُونِهِ بِلاَ ضَرَرٍ بَيِّنٍ، وَجَبَتْ زَكَاتُهَا لَحْظَةَ الْمُؤْنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَعِيشُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ بِدُونِهِ أَوْ تَعِيشُ وَلَكِنْ بِضَرَرٍ بَيِّنٍ فَلاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا لِظُهُورِ الْمُؤْنَةِ.
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ فِيهِ الإِْسَامَةَ مِنَ الْمَالِكِ، فَلَوْ سَامَتِ الْمَاشِيَةُ بِنَفْسِهَا أَوْ أَسَامَهَا غَاصِبٌ أَوْ مُشْتَرٍ شِرَاءً فَاسِدًا فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا فِي الأَْصَحِّ لِعَدَمِ إِسَامَةِ الْمَالِكِ، وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ قَصْدُهُ لأَِنَّ السَّوْمَ يُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ قَصْدُهُ.
وَهَذَا مُقْتَضَى كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا اسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلاَ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ، فَلَوْ سَامَتْ بِنَفْسِهَا أَوْ أَسَامَهَا غَاصِبٌ فَفِيهَا الزَّكَاةُ كَمَنْ غَصَبَ حَبًّا وَزَرَعَهُ فِي أَرْضِ رَبِّهِ، فَفِيهِ الْعُشْرُ عَلَى مَالِكِهِ (1) . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي بَحْثِ (زَكَاة) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 15 - 16 والبدائع 2 / 30 ومغني المحتاج 1 / 379 - 380، والقليوبي 2 / 14، وكشاف القناع 2 / 183 - 184 وشرح منتهى الإرادات 1 / 374.(25/293)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَعِنْدَهُمْ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمَاشِيَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ سَائِمَةً أَمْ مَعْلُوفَةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ عَامِلَةً أَمْ مُهْمَلَةً، لِعُمُومِ مَنْطُوقِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الإِْبِل فَمَا دُونَهَا مِنَ الْغَنَمِ مِنْ كُل خَمْسٍ شَاةٌ (1) .
وَالتَّقْيِيدُ بِالسَّائِمَةِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لاَ لِلاِحْتِرَازِ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ فِي الأَْنْعَامِ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ السَّوْمُ، وَالتَّقْيِيدُ إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لاَ يَكُونُ حُجَّةً بِالإِْجْمَاعِ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي بَحْثِ (زَكَاة) .
ثَانِيًا: السَّوْمُ فِي الْبَيْعِ:
5 - إِذَا كَانَ السَّوْمُ قَبْل الاِتِّفَاقِ وَالتَّرَاضِي عَلَى الثَّمَنِ فَلاَ حُرْمَةَ فِيهِ وَلاَ كَرَاهَةَ؛ لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُزَايَدَةِ وَذَلِكَ جَائِزٌ. أَمَّا بَعْدَ الاِتِّفَاقِ عَلَى مَبْلَغِ الثَّمَنِ فَمَكْرُوهٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمُحَرَّمٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: بُيُوعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَمُزَايَدَةٌ.
__________
(1) حديث: " في أربع وعشرين. . . . ". تقدم تخريجه ف4.
(2) الفواكه الدواني 1 / 396.(25/293)
وَلَكِنِ الْبَيْعُ صَحِيحٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لاِسْتِكْمَال أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا وَقَعَ زَمَنَ الْخِيَارَيْنِ (خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ) لأَِنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 132 والفواكه الدواني 2 / 156 والقليوبي 2 / 183 وكشاف القناع 3 / 183.(25/294)
سِيَاسَة
التَّعْرِيفُ:
1 - لِلسِّيَاسَةِ فِي اللُّغَةِ مَعْنَيَانِ:
الأَْوَّل: فِعْل السَّائِسِ، وَهُوَ مَنْ يَقُومُ عَلَى الدَّوَابِّ وَيُرَوِّضُهَا.
يُقَال: سَاسَ الدَّابَّةَ يَسُوسُهَا سِيَاسَةً.
الثَّانِي: الْقِيَامُ عَلَى الشَّيْءِ بِمَا يُصْلِحُهُ. يُقَال: سَاسَ الأَْمْرَ سِيَاسَةً: إِذَا دَبَّرَهُ.
وَسَاسَ الْوَالِي الرَّعِيَّةَ: أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ وَتَوَلَّى قِيَادَتَهُمْ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ السِّيَاسَةَ فِي اللُّغَةِ تَدُل عَلَى التَّدْبِيرِ وَالإِْصْلاَحِ وَالتَّرْبِيَةِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ تَأْتِي لَمَعَانٍ،
__________
(1) الصحاح، والقاموس المحيط، والتاج، واللسان، والمصباح، والمغرب، وأساس البلاغة، والنهاية، والمعجم الوسيط.(25/294)
2 - مِنْهَا: الأَْوَّل: مَعْنًى عَامٌّ يَتَّصِل بِالدَّوْلَةِ وَالسُّلْطَةِ. فَيُقَال: هِيَ اسْتِصْلاَحُ الْخَلْقِ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُنَجِّي فِي الْعَاجِل وَالآْجِل، وَتَدْبِيرُ أُمُورِهِمْ (1) .
وَقَال الْبُجَيْرِمِيُّ: " السِّيَاسَةُ: إِصْلاَحُ أُمُورِ الرَّعِيَّةِ، وَتَدْبِيرُ أُمُورِهِمْ " (2) وَقَدْ أَطْلَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى السِّيَاسَةِ اسْمَ: " الأَْحْكَامُ السُّلْطَانِيَّةُ " (3) أَوِ " السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ " (4) ، أَوِ " السِّيَاسَةُ الْمَدَنِيَّةُ " (5) .
__________
(1) الكليات - أبو البقاء 3 / 31 - تحقيق عدنان درويش، ومحمد المصري ط - وزارة الثقافة - دمشق 1974م، وجامع الرموز شرح مختصر الوقاية، القهستاني 2 / 290 ط محرم البوسنوي 1300 هـ، وحاشية ابن عابدين 4 / 15 ط2 الحلبي - 1386 هـ - 1966م، وكشاف اصطلاحات الفنون - التهانوي 1 / 644 - 665ط. كلكته 1862م.
(2) البحر الرائق شرح كنز الدقائق - ابن نجيم 5 / 76 ط. العلمية - القاهرة 1311 هـ وطلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية 167ط. المثنى - بغداد 1113 هـ والتجريد لنفع العبيد حاشية البجيرمي 2 / 178 ط. المكتبة الإسلامية - ديار بكر - تركيا. والسياسة الشرعية - أو نظام الدولة الإسلامية 14ط. السلفية - القاهرة 1350 هـ، والكليات 3 / 31، ودستور العلماء 2 / 194.
(3) كما فعل الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية ط. العلمية - بيروت، وأبو يعلى في الأحكام السلطانية ط1 - الحلبي - 1356 هـ 1938 م.
(4) أطلقها ابن تيمية في كتابه " السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية " ط - المكتبة العربية - بيروت - 1386.
(5) وقد ورد في تعريف أبي البقاء، وصاحب دستور العلماء.(25/295)
وَلَمَّا كَانَتِ السِّيَاسَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَسَاسَ الْحُكْمِ، لِذَلِكَ سُمِّيَتْ أَفْعَال رُؤَسَاءِ الدُّوَل، وَمَا يَتَّصِل بِالسُّلْطَةِ " سِيَاسَةٌ " وَقِيل بِأَنَّ الإِْمَامَةَ الْكُبْرَى - رِئَاسَةَ الدَّوْلَةِ - " مَوْضُوعَةٌ لِخِلاَفَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا (1) " وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ عِلْمَ السِّيَاسَةِ: " هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُعْرَفُ مِنْهُ أَنْوَاعُ الرِّيَاسَاتِ وَالسِّيَاسَاتِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، وَأَحْوَالُهَا: مِنْ أَحْوَال السَّلاَطِينِ وَالْمُلُوكِ وَالأُْمَرَاءِ وَأَهْل الاِحْتِسَابِ وَالْقَضَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَزُعَمَاءِ الأَْمْوَال وَوُكَلاَءِ بَيْتِ الْمَال، وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ.
وَمَوْضُوعُهُ الْمَرَاتِبُ الْمَدَنِيَّةُ وَأَحْكَامُهَا، وَالسِّيَاسَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى فَرْعٌ مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَمَلِيَّةِ (2) .
وَلَعَل أَقْدَمَ نَصٍّ وَرَدَتْ فِيهِ كَلِمَةُ " السِّيَاسَةِ " بِالْمَعْنَى الْمُتَعَلِّقِ بِالْحُكْمِ هُوَ قَوْل عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لأَِبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ فِي وَصْفِ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: " إِنِّي وَجَدْتُهُ وَلِيَّ الْخَلِيفَةِ الْمَظْلُومِ، وَالطَّالِبَ
__________
(1) نصيحة الملوك - الماوردي 51 - تحقيق خضر محمد خضر ط - مكتبة الفلاح، ودستور العلماء 2 / 194.
(2) كشاف اصطلاحات الفنون 1 / 386، ومفتاح السعادة - طاش كبرى زاده 1 / 665 ط - 1 الكتب العلمية - بيروت 1405 هـ - 1985م. ودستور العلماء 2 / 48.(25/295)
بِدَمِهِ، الْحَسَنَ السِّيَاسَةِ، الْحَسَنَ التَّدْبِيرِ (1) .
3 - الْمَعْنَى الثَّانِي: يَتَّصِل بِالْعُقُوبَةِ، وَهُوَ أَنَّ السِّيَاسَةَ: " فِعْل شَيْءٍ مِنَ الْحَاكِمِ لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ الْفِعْل دَلِيلٌ جُزْئِيٌّ " (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّعْزِيرُ:
هُوَ تَأْدِيبٌ عَلَى ذَنْبٍ لاَ حَدَّ فِيهِ وَلاَ كَفَّارَةَ غَالِبًا، سَوَاءٌ أَكَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَمْ لآِدَمِيٍّ. وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْعُقُوبَةِ قَال: هُوَ تَأْدِيبٌ دُونَ الْحَدِّ.
أَوْ قَال: عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِلْعَبْدِ.
وَلِذَلِكَ قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: التَّعْزِيرُ لاَ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ. بَل هُوَ بِحَسَبِ الْجَرِيمَةِ فِي جِنْسِهَا وَصِفَتِهَا وَكِبَرِهَا وَصِغَرِهَا. وَعِنْدَهُ أَنَّ التَّعْزِيرَ يُمْكِنُ أَنْ يَزِيدَ عَنِ الْحَدِّ.
__________
(1) تاريخ الرسل والملوك - أبو جعفر محمد بن جرير الطبري 5 / 68 - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (2 - دار المعارف - مصر - 1387 هـ - 1967م) .
(2) البحر الرائق 5 / 11، وحاشية ابن عابدين 4 / 15.(25/296)
وَحُجَّتُهُ أَنَّ الْحَدَّ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ أَعَمُّ مِنْهُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ (1) .
فَالتَّعْزِيرُ أَخَصُّ مِنَ السِّيَاسَةِ.
الْمَصْلَحَةُ:
4 - الْمَصْلَحَةُ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ. وَمَقْصُودُ الشَّرْعِ مِنَ الْخَلْقِ خَمْسَةٌ:
وَهُوَ أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، وَنَفْسَهُمْ، وَعَقْلَهُمْ، وَنَسْلَهُمْ، وَمَالَهُمْ. فَكُل مَا يَتَضَمَّنُ حِفْظَ هَذِهِ الأُْصُول الْخَمْسَةِ فَهُوَ مَصْلَحَةٌ. وَكُل مَا يُفَوِّتُ هَذِهِ الأُْصُول فَهُوَ مَفْسَدَةٌ، وَدَفْعُهَا مَصْلَحَةٌ.
أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى: هِيَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ بِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَنِ الْخَلْقِ ( x662 ;) فَالْمَصْلَحَةُ هِيَ الْغَرَضُ مِنَ السِّيَاسَةِ.
__________
(1) الأحكام السلطانية - الماوردي ص 226، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 263، حاشية البجيرمي 4 / 236، وإعلام الموقعين 2 / 99، والفروع 6 / 104، 116، درر الحكام في شرح غرر الأحكام - منلا خسرو 2 / 74 - 75 (ط - أحمد كامل - استنبول - 1330 هـ) وتعريفات الجرجاني 55 (ط - الحلبي - 1357 هـ - 1938م) جامع الرموز (2 / 397، إعلام الموقعين 2 / 29.
(2) المستصفى من علم الأصول - الغزالي 1 / 286 - 287 (ط1 - الأميرية - بولاق 1322 هـ) . وروضة الناظر وجنة المناظر - ابن قدامة المقدسي ص 148 - 149 (ط1 - الكتاب العربي - بيروت - 1401 هـ - 1981م) . وإرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول - الشوكاني (ط1 - الحلبي 1356 هـ - 1937م) ، الموافقات في أصول الشريعة (2 / 25 - 48 ط - المكتبة التجارية - مصر) .(25/296)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلسُّلْطَانِ سُلُوكَ السِّيَاسَةِ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ النَّاسِ وَتَقْوِيمِ الْعِوَجِ، وَفْقَ مَعَايِيرَ وَضَوَابِطَ يَأْتِي بَيَانُهَا، وَلاَ تَقِفُ السِّيَاسَةُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: السِّيَاسَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا بِخُصُوصِهَا، فَإِنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ - بَعْدَ قَوَاعِدِ الإِْيمَانِ - عَلَى حَسْمِ مَوَادِّ الْفَسَادِ لِبَقَاءِ الْعَالَمِ (1) . وَقَال الْقَرَافِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ التَّوْسِعَةَ عَلَى الْحُكَّامِ فِي الأَْحْكَامِ السِّيَاسِيَّةِ لَيْسَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ، بَل تَشْهَدُ لَهُ الأَْدِلَّةُ، وَتَشْهَدُ لَهُ الْقَوَاعِدُ، وَمِنْ أَهَمِّهَا كَثْرَةُ الْفَسَادِ وَانْتِشَارُهُ، وَالْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ الَّتِي قَال بِهَا مَالِكٌ وَجَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ (2) .
وَقَال أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ:
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 15.
(2) نقل ذلك عنه ابنه فرحون المالكي في تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (2 / 150 - 152 (ط - الحلبي - 1378 هـ - 1958م) .(25/297)
لِلسُّلْطَانِ سُلُوكُ السِّيَاسَةِ، وَهُوَ الْحَزْمُ عِنْدَنَا، وَلاَ يَخْلُو مِنَ الْقَوْل فِيهِ إِمَامٌ. وَلاَ تَقِفُ السِّيَاسَةُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ؛ إِذِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَدْ قَتَلُوا وَمَثَّلُوا وَحَرَقُوا الْمَصَاحِفَ. وَنَفَى عُمَرُ نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ خَوْفَ فِتْنَةِ النِّسَاءِ. وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ (1) .
وَقَدْ حَذَّرَ ابْنُ الْقَيِّمِ مِنْ إِفْرَاطِ مَنْ مَنَعَ الأَْخْذَ بِالسِّيَاسَةِ، مُكْتَفِيًا بِمَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ، وَتَفْرِيطِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الأَْخْذَ بِهَا يُبِيحُ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ فَرْضَ مَا يَرَاهُ مِنْ عُقُوبَةٍ عَلَى هَوَاهُ. . ثُمَّ قَال: وَكِلاَ الطَّائِفَتَيْنِ أُتِيَتْ مِنْ تَقْصِيرِهَا فِي مَعْرِفَةِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَأَنْزَل بِهِ كِتَابَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرْسَل رُسُلَهُ، وَأَنْزَل كُتُبَهُ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْل الَّذِي قَامَتْ بِهِ الأَْرْضُ وَالسَّمَوَاتُ. فَإِنْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْعَدْل وَأَسْفَرَ وَجْهُهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، فَثَمَّ شَرْعُ اللَّهِ وَدِينُهُ، فَأَيُّ طَرِيقٍ اسْتُخْرِجَ بِهَا الْعَدْل وَالْقِسْطُ، فَهِيَ مِنَ الدِّينِ (2) .
__________
(1) الطرق الحكمية 13، والفروع - أبو عبد الله بن مفلح - 6 / 115، 116 - (ط4 - عالم الكتب - بيروت - 1405 هـ - 1985م) .
(2) إعلام الموقعين 4 / 372 - 373، والطرق الحكمية 13 - 14.(25/297)
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ السِّيَاسَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي حُدُودِ الشَّرِيعَةِ لاَ تَتَعَدَّاهَا. حَتَّى قَالُوا: لاَ سِيَاسَةَ إِلاَّ مَا وَافَقَ الشَّرْعَ. وَبِذَلِكَ كَانُوا أَبْعَدَ النَّاسِ عَنِ الأَْخْذِ بِالسِّيَاسَةِ بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ عَدَمُ الاِقْتِصَارِ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ نُصُوصٌ بِخُصُوصِهِ (1) .
أَقْسَامُ السِّيَاسَةِ:
6 - تُقْسَمُ السِّيَاسَةُ إِلَى قِسْمَيْنِ: سِيَاسَةٍ ظَالِمَةٍ تُحَرِّمُهَا الشَّرِيعَةُ. وَسِيَاسَةٍ عَادِلَةٍ تُظْهِرُ الْحَقَّ وَتَدْفَعُ الْمَظَالِمَ وَتَرْدَعُ أَهْل الْفَسَادِ، وَتُوَصِّل إِلَى الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي تُوجِبُ الشَّرِيعَةُ اعْتِمَادَهَا وَالسَّيْرَ عَلَيْهَا (2) وَالسِّيَاسَةُ الْعَادِلَةُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، عَلِمَهَا مَنْ عَلِمَهَا، وَجَهِلَهَا مَنْ جَهِلَهَا، وَمَا يُسَمِّيهِ أَكْثَرُ السَّلاَطِينِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِأَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ - لاَ بِالْعِلْمِ - سِيَاسَةً، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ (3) .
__________
(1) الطرق الحكمية - ابن القيم الجوزية 13 (ط - السنة المحمدية - القاهرة 1372 هـ - 1952م) ، وإعلام الموقعين عن رب العالمين - ابن قيم الجوزية 4 / 378 (ط1 - السعادة - مصر - 1374هـ - 1955م) .
(2) تبصرة الحكام 1 / 132، والطرق الحكمية 5، ومعين الحكام 207، وحاشية ابن عابدين 4 / 15.
(3) الطرق الحكمية 5، والفروع 6 / 431، والبحر الرائق 5 / 76، وكشاف اصطلاحات الفنون 1 / 665.(25/298)
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ يَسُوسُونَ النَّاسَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَكَانَ الْحُكْمُ وَالسِّيَاسَةُ شَيْئًا وَاحِدًا. ثُمَّ لَمَّا اتَّسَعَتِ الدَّوْلَةُ ظَهَرَ الْفَصْل بَيْنَ الشَّرْعِ وَالسِّيَاسَةِ؛ لأَِنَّ أَهْل السُّلْطَةِ صَارُوا يَحْكُمُونَ بِالأَْهْوَاءِ مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (1) .
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: تَقْسِيمُ بَعْضِهِمْ طُرُقَ الْحُكْمِ إِلَى شَرِيعَةٍ وَسِيَاسَةٍ، كَتَقْسِيمِ غَيْرِهِمُ الدِّينَ إِلَى شَرِيعَةٍ وَحَقِيقَةٍ، وَكَتَقْسِيمِ آخَرِينَ الدِّينَ إِلَى عَقْلٍ وَنَقْلٍ. . وَكُل ذَلِكَ تَقْسِيمٌ بَاطِلٌ؛ بَل السِّيَاسَةُ، وَالْحَقِيقَةُ، وَالطَّرِيقَةُ، وَالْعَقْل، كُل ذَلِكَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: صَحِيحٍ، وَفَاسِدٍ. فَالصَّحِيحُ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الشَّرِيعَةِ لاَ قَسِيمٌ لَهَا، وَالْبَاطِل ضِدُّهَا وَمُنَافِيهَا، وَهَذَا الأَْصْل مِنْ أَهَمِّ الأُْصُول وَأَنْفَعِهَا، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ عُمُومُ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُل مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ فِي مَعَارِفِهِمْ وَعُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يُحْوِجْ أُمَّتَهُ إِلَى أَحَدٍ بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا حَاجَتُهُمْ إِلَى مَنْ يُبَلِّغُهُمْ عَنْهُ مَا جَاءَ بِهِ (2) .
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11 / 551، 25 / 392 (ط - مكتبة المعارف - الرباط) .
(2) إعلام الموقعين 3 / 375.(25/298)
حُسْنُ سِيَاسَةِ الإِْمَامِ لِلرَّعِيَّةِ:
7 - إِنَّ لِلسِّيَاسَةِ أَثَرًا كَبِيرًا فِي الأُْمَّةِ، فَحُسْنُ السِّيَاسَةِ يَنْشُرُ الأَْمْنَ، وَالأَْمَانَ فِي أَنْحَاءِ الْبِلاَدِ. وَعِنْدَئِذٍ يَنْطَلِقُ النَّاسُ فِي مَصَالِحِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مُطْمَئِنِّينَ، فَتَنْمُو الثَّرْوَةُ، وَيَعُمُّ الرَّخَاءُ، وَيَقْوَى أَمْرُ الدِّينِ.
وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ لِلإِْمَامِ سِيَاسَةٌ حَازِمَةٌ، تَهْتَمُّ بِكُل أُمُورِ الأُْمَّةِ، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، وَتُرَغِّبُ النَّاسَ بِفِعْل الْخَيْرَاتِ، وَتُثِيبُ عَلَى الْفِعْل الْجَمِيل، كَمَا تُحَذِّرُ مِنَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ وَتُعَاقِبُ عَلَيْهِ وَتَقْطَعُ دَابِرَ دُعَاتِهِ وَمُقْتَرِفِيهِ، وَبِغَيْرِ هَذِهِ السِّيَاسَةِ تَضْعُفُ الدَّوْلَةُ وَتَنْهَارُ وَتَخْرَبُ الْبِلاَدُ.
وَالسِّيَاسَةُ الْحَازِمَةُ الْمُحَقِّقَةُ لِخَيْرِ الأُْمَّةِ هِيَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الإِْمَامُ بَيْنَ اللِّينِ وَالْعُنْفِ، وَيُقَدِّمُ اللِّينَ عَلَى الشِّدَّةِ، وَالدَّعْوَةَ الْحَسَنَةَ عَلَى الْعُقُوبَةِ.
وَعَلَيْهِ أَنْ يَهْتَمَّ بِإِصْلاَحِ دِينِ النَّاسِ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ صَلاَحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
وَأَعْظَمُ عَوْنٍ عَلَى ذَلِكَ ثَلاَثَةُ أُمُورٍ:
الأَْوَّل: الإِْخْلاَصُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالتَّوَكُّل عَلَيْهِ.(25/299)
وَالثَّانِي: الإِْحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ بِالنَّفْعِ وَالْمَال.
وَالثَّالِثُ: الصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ وَعِنْدَ الشَّدَائِدِ (1) .
قَوَاعِدُ السِّيَاسَةِ:
أُسُسُ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَامَّةِ: هِيَ تِلْكَ الْقَوَاعِدُ الأَْسَاسِيَّةُ الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهَا دَوْلَةُ الإِْسْلاَمِ، وَيُسْتَلْهَمُ مِنْهَا النَّهْجُ السِّيَاسِيُّ لِلْحُكْمِ.
الأَْسَاسُ الأَْوَّل: سِيَادَةُ الشَّرِيعَةِ:
8 - يُؤَكِّدُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ هَذِهِ السِّيَادَةَ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ، مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَل ضَلاَلاً مُبِينًا} (2) وقَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} (3) قَال
__________
(1) المنهج المسلوك في سياسة الملوك لعبد الرحمن بن عبد الله بن نصر الشيزري ص 90 (ط - 1326 هـ) دستور العلماء 2 / 194، والتبر المسبوك في نصائح الملوك - الغزالي 53، 70، 71، 83 (ط1 - الخيرية - مصر - 1306 هـ) ، ونصيحة الملوك 223، والسياسة الشرعية - ابن تيمية 112، 113.
(2) سورة الأحزاب / 36.
(3) سورة الأنعام / 62.(25/299)
ابْنُ جَرِيرٍ: أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَالْقَضَاءُ دُونَ سِوَاهُ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ (1) ، وَذَلِكَ حَقٌّ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ؛ لأَِنَّ مَبْنَى الْحِسَابِ فِي الآْخِرَةِ إِنَّمَا يَقُومُ عَلَى عَمَل النَّاسِ فِي الدُّنْيَا، وَلاَ يُحَاسَبُ النَّاسُ عَلَى مَا اجْتَرَحُوا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ عَلَى أَسَاسِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي جَاءَتْ أَحْكَامُهَا مُنَظِّمَةً لِلْحَيَاةِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالاِقْتِصَادِيَّةِ وَأُمُورِ الْمُعَامَلاَتِ الأُْخْرَى.
9 - وَمَا دَامَتِ الْحَاكِمِيَّةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ لِشَرِيعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُل شُؤُونِ الْحَيَاةِ وَإِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، فَإِنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الآْيَاتِ جَاءَتْ آمِرَةً بِتَطْبِيقِ أَحْكَامِهَا وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَتْ بِهِ وَتَرْكِ مَا نَهَتْ عَنْهُ. مِنْ ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَْمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (2) . قَال ابْنُ جَرِيرٍ: فَاتَّبِعْ تِلْكَ الشَّرِيعَةَ الَّتِي جَعَلْنَاهَا لَكَ، وَلاَ تَتَّبِعْ مَا دَعَاكَ إِلَيْهِ الْجَاهِلُونَ بِاَللَّهِ الَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِل، فَتَعْمَل بِهِ فَتَهْلِكُ إِنْ عَمِلْتَ بِهِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ.
وَقَال الزَّمَخْشَرِيُّ: فَاتَّبِعْ شَرِيعَتَكَ الثَّابِتَةَ بِالدَّلاَئِل وَالْحُجَجِ، وَلاَ تَتَّبِعْ مَا لاَ حُجَّةَ عَلَيْهِ
__________
(1) جامع البيان في تفسير القرآن (تفسير الطبري) 7 / 140 ط - 4 - دار المعرفة - بيروت - 1400 هـ - 1980م) .
(2) سورة الجاثية / 18.(25/300)
مِنْ أَهْوَاءِ الْجُهَّال وَدِينِهِمُ الْمَبْنِيِّ عَلَى هَوًى وَبِدْعَةٍ (1) . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِل إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (2) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: قَوْله تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِل إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} يَعْنِي الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. قَال تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذَا أَمْرٌ يَعُمُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ دُونَهُ؛ أَيِ اتَّبِعُوا مِلَّةَ الإِْسْلاَمِ وَالْقُرْآنِ، وَأَحِلُّوا حَلاَلَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَامْتَثِلُوا أَمْرَهُ وَاجْتَنِبُوا نَهْيَهُ. وَدَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى تَرْكِ اتِّبَاعِ الآْرَاءِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ (4) .
10 - وَمِمَّا يُؤَكِّدُ أَنَّ الأَْمْرَ بِاتِّبَاعِ مَا أَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى لاَ يَخُصُّ الْقُرْآنَ فَحَسْبُ، بَل يَعُمُّ السُّنَّةَ أَيْضًا، مَا جَاءَ فِي عَدَدٍ مِنَ الآْيَاتِ مِنَ الأَْمْرِ بِاتِّبَاعِهَا وَتَطْبِيقِهَا. مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
__________
(1) تفسير الطبري 25 / 88، والكشاف 3 / 511 (ط - دار المعرفة - بيروت) .
(2) سورة الأعراف / 3.
(3) سورة الحشر / 7.
(4) الجامع لأحكام القرآن 7 / 161 (ط - دار الكتب العربية - القاهرة - 1387 هـ - 1967م) ، والكشاف 2 / 64.(25/300)
وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (1) .
حَقُّ الإِْمَامِ فِي وَضْعِ الأَْنْظِمَةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ الشَّرِيعَةِ:
11 - تَقْرِيرُ مَبْدَأِ سِيَادَةِ الشَّرِيعَةِ لاَ يَعْنِي حِرْمَانَ الإِْمَامِ وَمِنْ دُونِهِ أَهْل الْحُكْمِ وَالسُّلْطَةِ مِنْ حَقِّ اتِّخَاذِ الْقَرَارَاتِ وَالأَْنْظِمَةِ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا لِسَيْرِ أُمُورِ الدَّوْلَةِ.
ذَلِكَ لأَِنَّ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ مَحْدُودَةٌ وَمُتَنَاهِيَةٌ، وَأَمَّا الْحَوَادِثُ وَتَطَوُّرُ الْحَيَاةِ وَالْمَسَائِل الَّتِي تُوَاجِهُ الأُْمَّةَ وَالدَّوْلَةَ مَعًا، فَغَيْرُ مَحْدُودَةٍ وَلاَ مُتَنَاهِيَةٌ. وَلاَ بُدَّ لِلإِْمَامِ وَأَهْل الْحُكْمِ مِنْ مُوَاجِهَةِ كُل ذَلِكَ بِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ أَنْظِمَةٍ، وَلَكِنْ هَذَا الْحَقُّ لَيْسَ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا لاَ يُخَالِفُ النُّصُوصَ الشَّرْعِيَّةَ، وَلاَ يَخْرُجُ عَلَى مَبَادِئِ الإِْسْلاَمِ وَقَوَاعِدِهِ الْعَامَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الأُْمَّةِ الْوَاجِبَةِ الرِّعَايَةِ، وَاَلَّتِي لأَِجْلِهَا قَامَتِ الدَّوْلَةُ، وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إِلاَّ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى أَهْل الْخِبْرَةِ وَالاِخْتِصَاصِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
الأَْسَاسُ الثَّانِي: الشُّورَى:
12 - الْحُكْمُ أَمَانَةٌ، وَالإِْمَامُ وَمَنْ يَتَوَلَّى
__________
(1) سورة محمد / 33.(25/301)
السُّلْطَةَ مَسْئُولُونَ عَنْ تِلْكَ الأَْمَانَةِ. لِذَلِكَ كَانَ مِنْ صِفَاتِهِمْ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَبِدُّونَ بِرَأْيٍ وَلاَ يَغْفُلُونَ عَنِ الاِسْتِفَادَةِ مِنْ عُقُول الرِّجَال لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (1) .
وَعَلَيْهِ، فَإِنَّ مِنَ الْمُقَرَّرِ فِقْهًا أَنَّ عَلَى الإِْمَامِ مُشَاوَرَةَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ النَّاصِحِينَ لِلدَّوْلَةِ وَلِلأُْمَّةِ، وَأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِمْ فِي أَحْكَامِهِ كَيْ يَدُومَ حُكْمُهُ وَيَقُومَ عَلَى أَسَاسٍ صَحِيحٍ (2) .
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (شُورَى) .
الأَْسَاسُ الثَّالِثُ: الْعَدْل:
13 - الْعَدْل هُوَ الصِّفَةُ الْجَامِعَةُ لِلرِّسَالَةِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي جَاءَ الرُّسُل عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِتَحْقِيقِهَا، وَإِرْشَادِ النَّاسِ إِلَيْهَا وَحَمْلِهِمْ عَلَيْهَا. فَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (3) . وقَوْله تَعَالَى
: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْل وَالإِْحْسَانِ} (4) الآْيَةَ.
__________
(1) سورة الشورى / 38.
(2) سراج الملوك 41، وتحرير الأحكام 72، (فقرة 27) .
(3) سورة الحديد / 25.
(4) سورة النحل / 90.(25/301)
فَالْعَدْل أَمْرٌ فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ السَّعْيَ لإِِقَامَتِهِ فِي الأَْرْضِ، وَلِيَكُونَ مِنْ أَبْرَزِ خَصَائِصِهِمْ بَيْنَ الأُْمَمِ؛ لأَِنَّ دِينَهُمْ دِينُ الْعَدْل. حَتَّى قَال عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَنَّهُ " لاَ رُخْصَةَ فِيهِ فِي قَرِيبٍ وَلاَ بَعِيدٍ وَلاَ فِي شِدَّةٍ وَلاَ رَخَاءٍ، وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِوُجُوبِهِ عَلَى كُل أَحَدٍ وَفِي كُل شَيْءٍ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَدْل) .
مَصْدَرُ السُّلُطَاتِ:
14 - نَصْبُ الإِْمَامِ وَاجِبٌ شَرْعًا وَيَتَعَيَّنُ الإِْمَامُ بِالْبَيْعَةِ مِنْ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ، وَالإِْمَامُ مُكَلَّفٌ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَمُلْزَمٌ بِالْحَلاَل وَالْحَرَامِ، وَمَسْئُولٌ عَنْ ذَلِكَ كَأَيِّ مُسْلِمٍ فِي الأُْمَّةِ، وَهُوَ فَوْقَ ذَلِكَ مَسْئُولٌ عَنْ تَطْبِيقِ تِلْكَ الأَْحْكَامِ فِي كُل شَأْنٍ مِنْ شُئُونِ الدَّوْلَةِ؛ لأَِنَّهُ بِمَنْصِبِهِ أَقْوَى رَجُلٍ فِي الأُْمَّةِ وَوَجَبَتْ عَلَيْهَا طَاعَتُهُ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (طَاعَة، الإِْمَامَة الْكُبْرَى، بَيْعَة.) .
__________
(1) تاريخ الطبري 3 / 585، الفتاوى المصرية 412، اختصار أبي عبد الله محمد بن علي الحنبلي البعلي، وتعليق محمد حامد الفقي (ط - نشر الكتب الإسلامية - كوجرا نواله - باكستان - 1397 هـ - 1977م) .(25/302)
أَنْوَاعُ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ:
أَوَّلاً: السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْحُكْمِ:
الإِْمَامَةُ:
15 - مِنَ الثَّابِتِ أَنَّ الإِْسْلاَمَ دِينٌ وَدَوْلَةٌ؛ لأَِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ هُوَ كِتَابُ عَقِيدَةٍ كَمَا هُوَ كِتَابُ أَحْكَامٍ وَقَوَاعِدُ تُنَظِّمُ صِلَةَ الإِْنْسَانِ بِالإِْنْسَانِ وَالإِْنْسَانِ بِالْمُجْتَمَعِ، وَالْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِ فِي حَالَةِ السِّلْمِ وَالْحَرْبِ.
وَهُوَ إِلَى جَانِبِ ذَلِكَ يَحْوِي كُل أَنْوَاعِ الْحُقُوقِ وَفُرُوعِهَا. فَالْحُقُوقُ الْمَدَنِيَّةُ إِلَى جَانِبِ الْحُقُوقِ الْجَزَائِيَّةِ، وَالاِقْتِصَادِيَّة، وَالْمَالِيَّةِ، وَالتِّجَارِيَّةِ، وَالدُّوَلِيَّةِ بِفَرْعَيْهَا الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ.
وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْحُقُوقُ مَوَاعِظَ مَتْرُوكَةً لِرَغْبَةِ الإِْنْسَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَحْكَامٌ آمِرَةٌ وَاجِبَةُ التَّنْفِيذِ، وَهَذَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِقِيَامِ الدَّوْلَةِ.
وَهَذِهِ الدَّوْلَةُ لاَ بُدَّ لَهَا مِنْ إِمَامٍ (رَئِيسٍ) يَتَوَلَّى أُمُورَهَا، كَمَا يَسْهَرُ عَلَى مَصْلَحَةِ الأُْمَّةِ، وَقَدْ أَرْشَدَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ إِلَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الآْيَةِ الْمَجِيدَةِ: {وَإِذْ قَال رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً. .} (1) .
__________
(1) سورة البقرة / 30.(25/302)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الآْيَةُ أَصْلٌ فِي نَصْبِ إِمَامٍ وَخَلِيفَةٍ يُسْمَعُ لَهُ وَيُطَاعُ؛ لِتَجْتَمِعَ بِهِ الْكَلِمَةُ، وَتُنَفَّذَ بِهِ أَحْكَامُ الْخَلِيقَةِ (1) .
وَفِي السُّنَّةِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: لاَ يَحِل لِثَلاَثَةِ نَفَرٍ يَكُونُونَ بِأَرْضِ فَلاَةٍ إِلاَّ أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ (2) .
وَقَال: إِذَا خَرَجَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ (3) .
قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَإِذَا شُرِعَ هَذَا لِثَلاَثَةٍ يَكُونُونَ فِي فَلاَةٍ مِنَ الأَْرْضِ أَوْ يُسَافِرُونَ، فَشَرْعِيَّتُهُ لِعَدَدٍ أَكْثَرَ يَسْكُنُونَ الْقُرَى وَالأَْمْصَارَ وَيَحْتَاجُونَ لِدَفْعِ التَّظَالُمِ وَفَصْل التَّخَاصُمِ، أَوْلَى وَأَحْرَى. وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ لِقَوْل مَنْ قَال: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 1 / 264 (ط - دار الكتب العربية - القاهرة - 1387 هـ - 1967 م) .
(2) حديث: " لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم ". أخرجه أحمد (2 / 177 - ط الميمنية) من حديث عبد الله بن عمرو، وأورده الهيثمي في المجمع (8 / 63 - ط القدسي) وقال: " وفيه ابن لهيعة وهو لين، وبقية رجاله رجال الصحيح ".
(3) حديث: " إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ". أخرجه أبو داود (3 / 81 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي سعيد الخدري، وحسنه النووي في رياض الصالحين (ص 376 - ط المكتب الإسلامي) .(25/303)
نَصْبُ الأَْئِمَّةِ وَالْوُلاَةِ وَالْحُكَّامِ (1) . وَلَمَّا كَانَ صَلاَحُ الْبِلاَدِ وَأَمْنُ الْعِبَادِ وَقَطْعُ مَوَادِّ الْفَسَادِ وَإِنْصَافُ الْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ قَاهِرٍ قَادِرٍ (2) لِذَلِكَ وَجَبَ نَصْبُ إِمَامٍ يَقُومُ بِحِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ أُمُورِ الأُْمَّةِ، وَهُوَ فَرْضٌ بِالإِْجْمَاعِ (3) .
وَأَمَّا صِفَاتُ هَذَا الإِْمَامِ وَشُرُوطُهُ وَمَا تَنْعَقِدُ بِهِ إِمَامَتُهُ فَتُنْظَرُ فِي (الإِْمَامَة الْكُبْرَى) (وَبَيْعَة) .
حُقُوقُ الإِْمَامِ:
16 - ذَهَبَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى إِلَى أَنَّ
__________
(1) نيل الأوطار 8 / 265 (ط - الحلبي) .
(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل - ابن حزم 4 / 87 (ط - 2 - دار المعرفة - بيروت - 1395 هـ - 1975 م) ، وشرح مقاصد الطالبين في علم أصول الدين - التفتازاني 2 / 201 (ط - دار الطباعة استنبول - 1277 هـ) ، وسراج الملوك - الطرطوشي 39 (مطبوع مع التبر المسبوك) ، والسياسة الشرعية - ابن تيمية 138 - 139، وتحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام - بدر الدين بن جماعة 48 (فقرة 5) تحقيق فؤاد عبد المنعم أحمد (ط 1 - رئاسة المحاكم الشرعية - قطر 1405 هـ - 1985 م) .
(3)
(3) الفصل 4 / 87، وأصول الدين - البغدادي 271 (ط1 - مطبعة الدولة - استنبول - 1346 هـ - 1928م) والأحكام السلطانية - الماوردي 5. والأحكام السلطانية لأبي يعلى 3، ونهاية الأقدام في علم الكلام - الشهرستاني 478 - (تحقيق ألفريد جيوم ط - مكتبة المثنى - بغداد) والسياسة الشرعية - ابن تيمية 139، وحاشية البجيرمي 4 / 204، وتحرير الأحكام 48 (فقرة 5) .(25/303)
لِلإِْمَامِ حَقَّيْنِ: الطَّاعَةَ وَالنُّصْرَةَ.
وَقَال ابْنُ جَمَاعَةَ: إِنَّهَا عَشَرَةُ حُقُوقٍ: الطَّاعَةُ، وَالنَّصِيحَةُ، وَالتَّعْظِيمُ، وَالاِحْتِرَامُ، وَالإِْيقَاظُ عِنْدَ الْغَفْلَةِ، وَالإِْرْشَادُ عِنْدَ الْخَطَأِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ كُل عَدُوٍّ، وَإِعْلاَمُهُ بِسِيرَةِ عُمَّالِهِ، وَإِعَانَتُهُ، وَجَمْعُ الْقُلُوبِ عَلَى مَحَبَّتِهِ، وَالنُّصْرَةُ (1) .
وَهَذِهِ الْحُقُوقُ لاَ تَكُونُ لِلإِْمَامِ إِلاَّ إِذَا أَطَاعَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَلَزِمَ فَرَائِضَهُ وَحُدُودَهُ، وَأَدَّى لِلأُْمَّةِ حُقُوقَهَا الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ. وَبِرِعَايَةِ الأُْمَّةِ هَذِهِ الْحُقُوقَ تَصْفُو الْقُلُوبُ وَتَجْتَمِعُ الْكَلِمَةُ وَيَتَحَقَّقُ النَّصْرُ.
وَأَمَّا فِيمَا سِوَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ الإِْمَامَ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ يَسْتَوِي مَعَهُمْ جَمِيعًا فِي الْحُقُوقِ وَالأَْحْكَامِ. بَل يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ النَّاسِ خَشْيَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَأَحْسَنَهُمْ قِيَامًا بِأَدَاءِ
__________
(1) تاريخ الطبري 4 / 224، الخراج، أبو يوسف 13 (ط5 - السلفية - القاهرة - 1396 هـ) ومنتخب كنز العمال، المتقي الهندي 2 / 144 (ط - الحلبي - مصر - 1313 هـ) ، ونهج البلاغة - الرضي 1 / 178 بشرح ابن أبي الحديد (ط3 - دار الفكر للجميع - بيروت - 1388 هـ (وينظر نحوه في كتاب الأموال - أبو عبيد القاسم بن سلام 12 (رقم 11) تحقيق محمد خليل هراس (ط - الكليات الأزهرية - 1389 هـ 1969م) الأحكام السلطانية ص15، 17، وفي نصيحة الملوك ص 53 زاد: التعظيم له، وترك الخلاف عليه، وتحرير الأحكام 61 - 64 (فقرة 22) .(25/304)
فَرَائِضِهِ وَاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ؛ لأَِنَّهُ رَأْسُ الدَّوْلَةِ. (1)
وَاجِبَاتُ الإِْمَامِ:
17 - حُقُوقُ الأُْمَّةِ الَّتِي هِيَ وَاجِبَاتُ الإِْمَامِ يُمْكِنُ أَنْ تُجْمَعَ فِي عَشَرَةٍ:
(1) حِفْظُ الدِّينِ وَالْحَثُّ عَلَى تَطْبِيقِهِ، وَنَشْرُ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ وَتَعْظِيمُ أَهْلِهِ وَمُخَالَطَتُهُمْ وَمُشَاوَرَتُهُمْ.
(2) حِرَاسَةُ الْبِلاَدِ وَالدِّفَاعُ عَنْهَا، وَحِفْظُ الأَْمْنِ الدَّاخِلِيِّ.
(3) النَّظَرُ فِي الْخُصُومَاتِ، وَتَنْفِيذِ الأَْحْكَامِ.
(4) إقَامَةُ الْعَدْل فِي جَمِيعِ شُئُونِ الدَّوْلَةِ.
(5) تَطْبِيقُ الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ.
(6) إقَامَةُ فَرْضِ الْجِهَادِ.
(7) عِمَارَةُ الْبِلاَدِ، وَتَسْهِيل سُبُل الْعَيْشِ، وَنَشْرُ الرَّخَاءِ.
(8) جِبَايَةُ الأَْمْوَال عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، وَصَرْفُهَا فِي الْوُجُوهِ الْمَشْرُوعَةِ
__________
(1) نصيحة للملوك ص53، 54، الأحكام السلطانية للماوردي 17، وأدب الدنيا والدين الماوردي 71 (ط1 - الأدبية - مصر - 1317 هـ) ، وتحرير الأحكام ص 64 (فقرة 23) .(25/304)
وَعَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ، مِنْ غَيْرِ سَرِفٍ وَلاَ تَقْتِيرٍ.
(9) أَنْ يُوَلِّيَ أَعْمَال الدَّوْلَةِ الأُْمَنَاءَ النُّصَحَاءَ أَهْل الْخِبْرَةِ.
(10) أَنْ يَهْتَمَّ بِنَفْسِهِ بِسِيَاسَةِ الأُْمَّةِ وَمَصَالِحِهَا، وَأَنْ يُرَاقِبَ أُمُورَ الدَّوْلَةِ وَيَتَصَفَّحَ أَحْوَال الْقَائِمِينَ عَلَيْهَا (1) .
تَعْيِينُ الْعُمَّال وَفَصْلُهُمْ:
أ - تَعْيِينُ الْعُمَّال:
18 - لاَ يَسْتَطِيعُ الإِْمَامُ أَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَ الْحُكْمِ كُلَّهَا بِنَفْسِهِ دُونَ أَنْ يُعَاوِنَهُ فِي ذَلِكَ عُمَّالٌ يُعَيِّنُهُمْ، وَكُلَّمَا اتَّسَعَتْ أُمُورُ الْحُكْمِ وَتَشَعَّبَتْ زَادَتِ الْحَاجَةُ إِلَى هَؤُلاَءِ الْعُمَّال. " وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ بَيِّنَةٌ فِي ضَرُورَاتِ الْعُقُول لاَ يَسْتَرِيبُ اللَّبِيبُ بِهَا " (2) .
وَهَذَا مَا فَعَلَهُ الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ. فَقَدْ وَلَّى عَلَى
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 15 - 17، وأدب الدنيا والدين 70 - 71، ونصيحة الملوك 196 - 225، غياث الأمم 135 - 176، والأحكام السلطانية لأبي يعلى 11 - 12، وتحرير الأحكام 65 - 68 (فقرة 24) .
(2) نصيحة الملوك 185 - 186، غياث الأمم 116، 214، وتحرير الأحكام 58 (فقرة 16) .(25/305)
مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (1) ، وَعَلَى الطَّائِفِ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَبَعَثَ عَلِيًّا وَمُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إِلَى الْيَمَنِ (2) . وَكَانَ يُؤَمِّرُ عَلَى السَّرَايَا، وَيَبْعَثُ جُبَاةَ الزَّكَاةِ وَيُرْسِل السُّفَرَاءَ إِلَى الْمُلُوكِ وَالْقَبَائِل (3) . وَعَلَى هَذَا النَّهْجِ سَارَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَقَدْ أَقَرَّ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ تَعْيِينَ الْعُمَّال مِنْ وَاجِبَاتِ الإِْمَامِ (4) .
ب - صِفَاتُ الْعُمَّال:
19 - يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ أَهْل الدِّيَانَةِ وَالْعِفَّةِ وَالْعَقْل وَالأَْصَالَةِ وَالصِّدْقِ وَالأَْمَانَةِ وَالْحَزْمِ وَالْكِفَايَةِ، وَتَكُونُ الْكِفَايَةُ بِحَسَبِ طَبِيعَةِ الْعَمَل (5) .
__________
(1) حديث تولية عتاب بن أسيد أورده ابن إسحاق في السيرة كما في السيرة لابن هشام (4 / 84 - ط دار الكتاب العربي) وحديث تولية عثمان بن أبي العاص أورده موسى بن عقبة في المغازي كما في تاريخ الإسلام للذهبي (قسم المغازي - ص670 - ط دار الكتاب العربي) .
(2) حديث: بعث معاذ وأبي موسى إلى اليمن. أخرجه مسلم (3 / 1586 - ط الحلبي) .
(3) لدراسة تكوين الدولة النبوية، وجهازها. يراجع كتاب التراتيب الإدارية لعبد الحي الكتاني، لأنه أوسع كتاب في هذا الموضوع.
(4) تنظر الفقرة 17.
(5) نصيحة الملوك 186، 187، والأحكام السلطانية - الماوردي 209، وغياث الأمم ص 215 - 216، 219، وسراج الملوك 114، والطرق الحكمية 238.(25/305)
وَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ الأَْمْثَل فَالأَْمْثَل؛ لِحَدِيثِ: مَنْ وَلَّى رَجُلاً عَلَى عِصَابَةٍ وَهُوَ يَجِدُ فِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ (1) . وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ التَّعْيِينَ وَفْقَ هَوَاهُ.
وَلاَ يَكُونُ اخْتِيَارُهُمْ إِلاَّ بَعْدَ امْتِحَانٍ وَتَجْرِبَةٍ (2) .
ج - مَا يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ نَحْوَ عُمَّالِهِ:
20 - يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ عُمَّالِهِ بِعَدَمِ الظُّلْمِ، قَل أَوْ كَثُرَ، وَأَنْ يُعَرِّفَهُمْ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ؛ لأَِنَّ الْعَامِل الظَّالِمَ أَعْدَى عَدُوٍّ لِلدَّوْلَةِ.
وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي أُمُورِ عُمَّالِهِ، فَإِنْ وَجَدَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّرْقِيَةَ رَقَّاهُ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَل التَّرْقِيَةَ قَفْزًا دُونَ سَبَبٍ.
وَإِنْ وَجَدَ مِنْهُمْ مُسِيئًا حَاسَبَهُ، وَلَهُ أَنْ
__________
(1) حديث: " من ولى رجلا على عصابة. . ". أخرجه الحاكم (4 / 92 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس بلفظ مقارب، وضعف الذهبي أحد رواته.
(2) الطرق الحكمية ص 238، وسراج الملوك ص 114، ونصيحة الملوك ص 182.(25/306)
يَعْفُوَ عَنْهُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مَا أَتَاهُ يُوجِبُ حَدًّا، أَوْ تَعَدَّى عَلَى حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الرَّعِيَّةِ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الْعِقَابِ.
وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْزِل كُل مَنْ يُخِل بِوَاجِبِ الْعَمَل إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَقْوِيمُهُ.
وَلاَ يَتَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِدَوَامِ مُرَاقَبَةِ الْعَامِلِينَ فِي الدَّوْلَةِ، وَالْوُقُوفِ عَلَى أُمُورِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ، وَعَلاَقَتِهِمْ مَعَ النَّاسِ، وَالْتِزَامِهِمْ بِتَنْفِيذِ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنَ السِّيَاسَةِ. . وَيُعِينُهُ عَلَى هَذِهِ الْمُهِمَّةِ جِهَازٌ دَقِيقٌ يُطْلِعُهُ عَلَى جَمِيعِ شُئُونِ الدَّوْلَةِ وَالأُْمَّةِ (1)
د - دِيوَانُ الْمُوَظَّفِينَ:
21 - يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّوْلَةِ دِيوَانٌ يَخُصُّ الْعَامِلِينَ فِي أَجْهِزَتِهَا الْمُخْتَلِفَةِ.
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (دِيوَان) .
ثَانِيًا: السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْمَال:
22 - يُقْصَدُ بِالأَْمْوَال فِي هَذَا الْمَجَال: أَمْوَال الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الْوَارِدَةِ إِلَى خَزِينَةِ الدَّوْلَةِ. (2)
__________
(1) نصيحة الملوك 176 - 178، 189 - 190، والأحكام السلطانية للماوردي ص 212، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 234، نصيحة الملوك ص 190، وغياث الأمم ص 116، والتبر المسبوك ص 86.
(2) تحرير الأحكام ص 146 - 149.(25/306)
وَهِيَ تَتَأَلَّفُ مِنْ أَنْوَاعٍ يُنْظَرُ بَيَانُهَا وَكَيْفِيَّةُ التَّصَرُّفِ فِيهَا فِي مُصْطَلَحِ (بَيْت الْمَال) .
ثَالِثًا: السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْوِلاَيَاتِ:
وِلاَيَةُ الْجَيْشِ:
23 - لَمَّا كَانَ الْجَيْشُ لِلْجِهَادِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْبِلاَدِ، لِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الإِْمَامِ الْعِنَايَةُ بِتَرْتِيبِهِ وَإِعْدَادِهِ، وَتَنْظِيمِ قِيَادَتِهِ، وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِهِ، وَتَعَرُّفِ أَحْوَال الْعَدُوِّ، وَإِنَّ تَحْقِيقَ ذَلِكَ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِتَأْمِينِ الأَْمْوَال اللاَّزِمَةِ لِتَسْلِيحِهِ وَإِدَارَتِهِ وَدَفْعِ مَا يَسْتَحِقُّهُ أَفْرَادُهُ بِشَكْلٍ مُنَظَّمٍ وَمُلاَئِمٍ (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (جِهَاد) .
النَّظَرُ فِي أُمُورِ الْقُضَاةِ:
24 - إِنَّ الْقَضَاءَ مَنْصِبٌ جَلِيلٌ وَخَطِيرٌ؛ لأَِنَّهُ يُحَقِّقُ الْعَدْل فِي الأُْمَّةِ، وَعَلَى الْعَدْل تَقُومُ الدَّوْلَةُ الصَّالِحَةُ، وَقَدْ أَحَاطَتِ الشَّرِيعَةُ هَذَا الْمَنْصِبَ بِاحْتِرَامٍ شَدِيدٍ وَنَظَّمَتْ أَحْكَامَهُ
__________
(1) المنهج المسلوك 104 - 107، سراج الملوك 99، الأحكام السلطانية - للماوردي 35 - 54، الأحكام السلطانية - لأبي يعلى 23 - 35، نصيحة الملوك 265 - 288ـ غياث الأمم 156 - 158، تحرير الأحكام 79 - 86، 94 - 98، 118 - 121، 128 - 137، 144، 165 - 187.(25/307)
وَقَوَاعِدَهُ وَصِفَاتِ مَنْ يَتَوَلاَّهُ وَأُصُول التَّقَاضِي (1) .
وَيَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَتَفَقَّدَ أَحْوَال الْقُضَاةِ وَيَتَحَرَّى عَنْ أَخْبَارِهِمْ وَعَنْ سِيرَتِهِمْ فِي النَّاسِ، وَعَنْ أَحْكَامِهِمْ، وَيَسْأَل الثِّقَاتِ الصَّالِحِينَ عَنْ كُل ذَلِكَ (2) .
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (قَضَاء) .
النَّظَرُ فِي وِلاَيَةِ الصَّدَقَاتِ:
25 - الزَّكَاةُ هِيَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ، وَقَدْ تَكَفَّلَتِ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ بِبَيَانِ مَحِلِّهَا وَنِصَابِهَا وَجِبَايَتِهَا وَأُصُول صَرْفِهَا وَمُسْتَحَقِّيهَا.
وَلِذَلِكَ فَإِنَّ عَلَى رَئِيسِ الدَّوْلَةِ أَنْ يُوَلِّيَ أُمُورَ الزَّكَاةِ الْمُسْلِمَ الْعَدْل الْعَالِمَ بِأَحْكَامِهَا لِيَكُونَ قَادِرًا عَلَى الاِجْتِهَادِ فِي تَطْبِيقِهَا. وَقَدْ تَكُونُ وِلاَيَتُهُ شَامِلَةً جِبَايَةَ الزَّكَاةِ وَقِسْمَتَهَا، وَقَدْ تَكُونُ لِلْجِبَايَةِ دُونَ الْقِسْمَةِ، وَقَدْ تَكُونُ مُطْلَقَةً، فَلَهُ إِنْ شَاءَ أَنْ يَقْسِمَهَا، وَلَهُ أَنْ
__________
(1) الأحكام السلطانية - الماوردي 65 - 76، والأحكام السلطانية - لأبي يعلى 48 - 57، وتحرير الأحكام 88 - 90 (فقرة 47 - 49) .
(2) الأحكام السلطانية - للماوردي 66 - 67، والأحكام السلطانية - لأبي يعلى 46، والمبسوط - السرخسي 16 / 70 (ط - دار المعرفة - بيروت 1406 هـ - 1986م) ، وتبصرة الحكام 1 / 77.(25/307)
يَتْرُكَ الْقِسْمَةَ. أَمَّا إِنْ كَانَ مُكَلَّفًا بِأَخْذِ مَالٍ مُحَدَّدٍ مِنْ أَمْوَال الزَّكَاةِ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِهَا، لأَِنَّهُ عِنْدَئِذٍ يَكُونُ كَالْوَكِيل بِالْقَبْضِ (1) .
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة) .
السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي شَأْنِ الْمُخَالِفِينَ مِنْ بُغَاةٍ وَغَيْرِهِمْ:
26 - قَدْ تَخْرُجُ فِئَةٌ مُسَلَّحَةٌ مُنَظَّمَةٌ. فَإِنْ كَانَ خُرُوجُهَا عَلَى الدِّينِ كَانَتْ مُرْتَدَّةً.
وَإِنْ كَانَ خُرُوجُهَا عَلَى الإِْمَامِ كَانَتْ فِئَةً بَاغِيَةً (2) .
وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْفِقْهِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ (انْظُرْ: رِدَّة. بُغَاة. حِرَابَة) .
رَابِعًا: السِّيَاسَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْعُقُوبَةِ:
أ - الْعُقُوبَةُ سِيَاسَةً:
27 - تَنْقَسِمُ الْعُقُوبَةُ إِلَى:
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 113 - 114، 116. والأحكام السلطانية لأبي يعلى 99 - 102.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 55 - 58، والأحكام السلطانية - لأبي يعلى ص 35 - 38، وغياث الأمم 160، 169، 170، ونصيحة الملوك 254.(25/308)
عُقُوبَاتٍ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا، وَهِيَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ.
وَعُقُوبَاتٍ غَيْرِ مُقَدَّرَةٍ، وَهِيَ التَّعْزِيرُ.
أَمَّا الْعُقُوبَةُ سِيَاسَةً: فَتَكُونُ عِنْدَ اقْتِرَافِ جَرِيمَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، وَبِهَذَا تُرَادِفُ التَّعْزِيرَ:
فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ النَّبَّاشَ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ، فَإِنِ اعْتَادَ النَّبْشَ أَمْكَنَ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ عَلَى سَبِيل السِّيَاسَةِ. ر: مُصْطَلَحَ (سَرِقَة) .
كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُ قَدْ تُزَادُ الْعُقُوبَةُ سِيَاسَةً. فَإِذَا أُقِيمَ حَدُّ السَّرِقَةِ - مَثَلاً - فَقُطِعَتْ يَدُ السَّارِقِ جَازَ حَبْسُهُ حَتَّى يَتُوبَ (1) .
كَمَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ لِلإِْمَامِ حَبْسَ مَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِارْتِكَابِ جَرَائِمَ ضِدَّ الأَْشْخَاصِ، أَوِ الأَْمْوَال وَلَوْ لَمْ يَقْتَرِفْ جَرِيمَةً جَدِيدَةً، وَيَسْتَمِرُّ حَبْسُهُ حَتَّى يَتُوبَ؛ لأَِنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ سَجَنَ ضَابِئَ بْنَ الْحَارِثِ وَكَانَ مِنْ لُصُوصِ بَنِي تَمِيمٍ وَفُتَّاكِهِمْ، حَتَّى مَاتَ فِي السِّجْنِ.
وَكَذَلِكَ يُفْعَل مَعَ مَنْ عُرِفَ بِالشَّرِّ وَالأَْذَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 94، والبحر الرائق 5 / 11.(25/308)
وَخِيفَ أَذَاهُ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ وَالْبِلاَدَ (1) . (ر: عُقُوبَة - تَعْزِير) .
التَّغْرِيبُ سِيَاسَةً:
28 - ثَبَتَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزَّرَ الْمُخَنَّثِينَ وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ وَنَفْيِهِمْ (2) .
وَجَاءَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنْفِي شَارِبَ الْخَمْرِ إِلَى خَيْبَرَ زِيَادَةً فِي عُقُوبَتِهِ.
وَنَفَى نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ لَمَّا خَافَ فِتْنَةَ نِسَاءِ الْمَدِينَةِ بِجَمَالِهِ، بَعْدَ أَنْ قَصَّ شَعْرَهُ فَرَآهُ زَادَ جَمَالاً.
وَلِذَلِكَ جَازَ نَفْيُ أَمْثَال هَؤُلاَءِ إِلَى بَلَدٍ يُؤْمَنُ فَسَادُ أَهْلِهِ. فَإِنْ خَافَ بِهِ عَلَيْهِمْ حُبِسَ. وَبِهَذَا أَخَذَ أَحْمَدُ؛ لأَِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ
__________
(1) المبسوط 24 / 36، 76، درر الحكام 2 / 81، والبحر الرائق 5 / 75، وغنية ذوي الأحكام في بغية درر الحكام - حسن بن عمر الشرنبلالي 2 / 81 (مطبوع على هامش درر الحكام) والفتاوى الهندية 2 / 189 - 190 (ط4 - إحياء التراث العربي - بيروت) وأقضية رسول الله - أبو عبد الله بن فرج المالكي تحقيق محمد ضياء الرحمن الأعظمي 97 - 98 (ط1 -، دار الكتاب المصري، واللبناني - القاهرة وبيروت - 1398 هـ - 1978م) وتبصرة الحكام 2 / 163.
(2) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج المخنثين ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 159 - ط السلفية) .(25/309)
الْمُعَاقَبَةِ، وَإِنَّمَا مِنْ قَبِيل الْخَوْفِ مِنَ الْفَاحِشَةِ قَبْل وُقُوعِهَا. (1) (ر: تَغْرِيب) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ تَغْرِيبُ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ بَعْدَ جَلْدِهِ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ (2) .
وَهَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ جُزْءٌ مِنَ الْحَدِّ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ لاَ يُغَرَّبُ حَدًّا، وَأَجَازُوا تَغْرِيبَهُ سِيَاسَةً، دُونَ تَحْدِيدِهِ بِسَنَةٍ، بَل بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الإِْمَامُ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ تُوجِبُ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ حَبْسِهِ بَعْدَ الْحَدِّ. فَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ جَازَ لِلإِْمَامِ حَبْسُهُ حَتَّى يَتُوبَ. وَقِيل: حَتَّى يَمُوتَ (3) .
الْقَتْل سِيَاسَةً:
29 - يُجِيزُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْقَتْل عَلَى سَبِيل
__________
(1) الطرق الحكمية 266، وفتاوى ابن تيمية 15 / 313، والمبسوط 9 / 45، وجامع الرموز 2 / 290، وحاشية ابن عابدين 4 / 14، 66، إعلام الموقعين 4 / 377.
(2) حديث زيد بن خالد الجهني في " تغريب الزاني غير المحصن ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 156 - ط السلفية) .
(3) المبسوط 9 / 45، البحر الرائق 5 / 11، وبدائع الصنائع 7 / 39، وجامع الرموز 2 / 290، ودرر الحكام 2 / 64، وحاشية ابن عابدين 4 / 14، 66 - 67، والفروع 6 / 57.(25/309)
السِّيَاسَةِ فِي جَرَائِمَ مُعَيَّنَةٍ (1) . وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِير) .
مَنْ لَهُ حَقُّ الْعُقُوبَةِ سِيَاسَةً:
30 - لِلْعُلَمَاءِ خِلاَفٌ فِي تَحْدِيدِ مَنْ لَهُ حَقُّ فَرْضِ الْعُقُوبَةِ سِيَاسَةً. . هَل هُوَ الإِْمَامُ وَنُوَّابُهُ، أَمْ هُوَ الْقَاضِي؟ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عُقُوبَة، تَعْزِير) .
سِيَر
انْظُرْ: جِهَاد، غَنَائِم، أَمَان، جِزْيَة
__________
(1) أقضية الرسول 179 - 180، وحاشية ابن عابدين 4 / 27، 63، 215 - 118، البحر الرائق 5 / 75، المبسوط 9 / 78، 79.
(2) البحر الرائق 7 / 18، 138، 232، وحاشية ابن عابدين 4 / 15، 63، 5 / 299، 439، الأم - الشافعي 6 / 199 وط - دار المعرفة - بيروت) والأحكام السلطانية للماوردي ص 83 - 84، 219، وحاشية البجيرمي 4 / 401، والمدونة - برواية سحنون 5 / 144 (ط1 - مطبعة السعادة - مصر) ، وتبصرة الحكام 1 / 17 - 18، 2 / 142 - 146، وحاشية الدسوقي 4 / 151، 142، 174، والطرق الحكمية 105، والفروع 6 / 480.(25/310)
سَيْف
التَّعْرِيفُ:
1 - السَّيْفُ نَوْعٌ مِنَ الأَْسْلِحَةِ مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ أَسْيَافٌ وَسُيُوفٌ وَأَسْيُفٌ، وَيُقَال: بَيْنَ فَكَّيْ فُلاَنٍ سَيْفٌ صَارِمٌ، وَهُوَ مَجَازٌ عَنْ كَوْنِهِ حَدِيدَ اللِّسَانِ. وَاسْتَافَ الْقَوْمُ وَتَسَايَفُوا: تَضَارَبُوا بِالسُّيُوفِ، وَسَايَفَهُ: ضَارَبَهُ بِالسَّيْفِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسَّيْفِ:
أَوَّلاً: تَطْهِيرُ السَّيْفِ الْمُتَنَجِّسِ:
2 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ السَّيْفَ نَجَاسَةٌ اكْتَفَى بِمَسْحِهِ، لأَِنَّهُ لاَ تَتَدَاخَلُهُ النَّجَاسَةُ، وَمَا عَلَى ظَاهِرِهِ يَزُول بِالْمَسْحِ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ الْكُفَّارَ بِالسُّيُوفِ وَيَمْسَحُونَهَا وَيُصَلُّونَ بِهَا.
__________
(1) المعجم الوسيط في اللغة ولسان العرب.(25/310)
وَهَذَا إِذَا كَانَ السَّيْفُ صَقِيلاً. أَمَّا إِذَا كَانَ بِهِ صَدَأٌ فَلاَ يَطْهُرُ إِلاَّ بِالْمَاءِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ السَّيْفَ وَمَا شَابَهَهُ فِي الصِّقَالَةِ مِنْ دَمٍ مُبَاحٍ، كَالدَّمِ فِي الْجِهَادِ، وَالْقِصَاصِ، وَالذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ، سَوَاءٌ أَمَسَحَهُ مِنَ الدَّمِ أَمْ لاَ، عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ، وَذَلِكَ لِفَسَادِهِ بِالْغَسْل.
وَفِي قَوْلٍ نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ عَنْ مَالِكٍ: يُعْفَى عَمَّا أَصَابَهُ مِنَ الدَّمِ الْمُبَاحِ بِشَرْطِ مَسْحِهِ؛ لاِنْتِفَاءِ النَّجَاسَةِ بِالْمَسْحِ (2) . وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ السَّيْفَ يَطْهُرُ بِالْمَسْحِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَكْفِي مَسْحُهُ وَلَوْ كَانَ صَقِيلاً، بَل يُشْتَرَطُ لِتَطْهِيرِهِ إِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَيْهِ وَانْتِقَال النَّجَاسَةِ عَنْهُ (3) .
وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ نَصًّا فِي الْمَوْضُوعِ.
ثَانِيًا: اعْتِمَادُ خَطِيبِ الْجُمُعَةِ عَلَى السَّيْفِ:
3 - يُسْتَحَبُّ لِلْخَطِيبِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى قَوْسٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ عَصًا، وَذَلِكَ عِنْدَ
__________
(1) فتح القدير مع الهداية 1 / 174.
(2) الحطاب مع المواق 1 / 156، وحاشية الدسوقي 1 / 77.
(3) كشاف القناع عن متن الإقناع 1 / 184.(25/311)
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِمَا رَوَى الْحَكَمُ بْنُ حَزْنٍ الْكُلَفِيُّ قَال: وَفِدْتُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَمْنَا أَيَّامًا شَهِدْنَا فِيهَا الْجُمُعَةَ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ. . . (1) الْحَدِيثَ، وَلأَِنَّ ذَلِكَ أَعْوَنُ لَهُ (2) .
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: يَخْطُبُ الإِْمَامُ بِسَيْفٍ فِي بَلْدَةٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً، كَمَكَّةَ، وَإِلاَّ لاَ كَالْمَدِينَةِ. كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ. ثُمَّ نَقَل عَنِ الْحَاوِي الْقُدُسِيِّ أَنَّهُ إِذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُونَ قَامَ الإِْمَامُ وَالسَّيْفُ فِي يَسَارِهِ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَيْهِ (3) .
ثَالِثًا: تَقَلُّدُ السَّيْفِ لِلْمُحْرِمِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَقَلَّدَ السَّيْفَ وَالسِّلاَحَ، وَيَشُدَّ الْهِمْيَانَ وَالْمِنْطَقَةَ عَلَى وَسَطِهِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ التَّغْطِيَةِ وَاللُّبْسِ (4) .
__________
(1) حديث الحكم بن حزن الكلفي: " وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقمنا أياما ". أخرجه أبو داود (1 / 658 - 659 تحقيق عزت عبيد دعاس) وأعله المنذري بأحد رواته، كذا في مختصر السنن (2 / 18 - نشر دار المعرفة) .
(2) جواهر الإكليل 1 / 97، والروضة 2 / 32، والمغني 2 / 309.
(3) الدر المختار بهامش ابن عابدين 1 / 553.
(4) ابن عابدين 1 / 164، روضة الطالبين 3 / 127.(25/311)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَقَلَّدَ بِالسَّيْفِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: " لاَ يَحِل لِمُحْرِمٍ السِّلاَحُ فِي الْحَرَمِ.
وَإِذَا تَقَلَّدَ بِلاَ عُذْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ نَزْعُهُ فَوْرًا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ (1) . وَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهَا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام ف 61 - 2 154) .
رَابِعًا: تَحْلِيَةُ السَّيْفِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ السَّيْفِ وَآلاَتِ الْحَرْبِ بِالْفِضَّةِ (2) . وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: وَبِالذَّهَبِ، سَوَاءٌ اتَّصَلَتِ الْحِلْيَةُ بِأَصْلِهِ كَالْقَبْضَةِ أَوْ كَانَتْ فِي الْغِمْدِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ تَحْلِيَةُ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ بِالذَّهَبِ قَطْعًا (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُكْرَهُ تَفْضِيضُ نَصْل السَّيْفِ وَالسِّكِّينِ أَوْ قَبْضَتِهِمَا إِذَا لَمْ يَضَعْ يَدَهُ فِي قَبْضَتِهِمَا (4) .
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 186، ومطالب أولي النهى 2 / 330، كشاف القناع 1 / 428.
(2) الحطاب 1 / 25، 26، والروضة 2 / 262، 263.
(3) الروضة 2 / 213.
(4) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 218، 219.(25/312)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (ذَهَب، فِضَّة، وَسِلاَح)
خَامِسًا: اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِالسَّيْفِ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لاَ يُسْتَوْفَى إِلاَّ بِالسَّيْفِ سَوَاءٌ أَكَانَ ارْتِكَابُ الْجَرِيمَةِ بِالسَّيْفِ أَمْ بِغَيْرِهِ.
وَإِذَا أَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يَقْتُل بِغَيْرِ السَّيْفِ لاَ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ (1) وَلِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِي الْمُثْلَةِ (2) ؛ وَلأَِنَّ فِي الْقِصَاصِ بِغَيْرِ السَّيْفِ زِيَادَةَ تَعْذِيبٍ، فَإِنْ فَعَل الْوَلِيُّ بِهِ كَمَا فَعَل فَقَدْ أَسَاءَ بِالْمُخَالَفَةِ، وَيُعَزَّرُ، لَكِنْ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِأَيِّ طَرِيقٍ قَتَلَهُ، سَوَاءٌ أَقَتَلَهُ بِالْعَصَا أَمْ بِالْحَجَرِ أَمْ بِنَحْوِهِمَا؛ لأَِنَّ الْقَتْل حَقُّهُ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لأَِهْل الْقَتِيل أَنْ يَفْعَلُوا بِالْجَانِي كَمَا
__________
(1) حديث: " لا قود إلا بالسيف ". أخرجه ابن ماجه (2 / 889 - ط الحلبي) من حديث النعمان بن بشير، وضعف إسناده ابن حجر في " التلخيص " (4 / 19 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " النهي عن المثلة ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 119 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري.
(3) البدائع 7 / 245، 246، وكشاف القناع 5 / 538، 539، والمغني لابن قدامة 7 / 688.(25/312)
فَعَل، يُقْتَل بِمِثْل مَا قَتَل (1) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (2) وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ كَذَلِكَ (3) .
وَيُسْتَثْنَى الْقَتْل بِالسِّحْرِ أَوِ اللِّوَاطِ أَوِ الْخَمْرِ أَوْ نَحْوِهَا مِنَ الْمَمْنُوعَاتِ فَلاَ يُقْتَصُّ فِي هَذَا بِالْمِثْل، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ الْقَتْل بِمَا يَطُول كَمَنْعِهِ الطَّعَامَ أَوِ الْمَاءَ حَتَّى مَاتَ، فَفِي هَذِهِ الْحَالاَتِ يَتَعَيَّنُ الاِسْتِيفَاءُ بِالسَّيْفِ (4) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ (قِصَاص) وَانْظُرْ (اسْتِيفَاء) ف 14
__________
(1) الدسوقي 4 / 265، ومغني المحتاج 4 / 44، 45، المغني لابن قدامة 7 / 688.
(2) سورة النحل / 126.
(3) حديث: " أن يهوديا رض رأس امرأة مسلمة ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 71 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1300 - ط. الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(4) نفس المراجع، وانظر الزرقاني 8 / 29، والشرح الصغير للدردير 4 / 369 والروضة 9 / 222، والفروع 5 / 663، 664.(25/313)
سَيْكُرَان
انْظُرْ: أَشْرِبَة
شَائِع
انْظُرْ: شُيُوع
شَاذّ
انْظُرْ: شُذُوذ(25/313)
الشَّاذَرْوَانُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّاذَرْوَانُ: بِفَتْحِ الذَّال الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، هُوَ مِنْ جِدَارِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَهُوَ الَّذِي تُرِكَ مِنْ عَرْضِ الأَْسَاسِ خَارِجًا وَيُسَمَّى تَأْزِيرًا، لأَِنَّهُ كَالإِْزَارِ لِلْبَيْتِ (1) .
وَقَال ابْنُ رَشِيدٍ فِي رِحْلَتِهِ: " الشَّاذَرْوَانُ لَفْظَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ، هِيَ فِي لِسَانِ الْفُرْسِ بِكَسْرِ الذَّال ".
وَعَرَّفُوهُ تَعْرِيفًا أَوْضَحَ بِأَنَّهُ: الإِْفْرِيزُ الْمُسَلَّمُ الْخَارِجُ عَنْ عَرْضِ جِدَارِ الْبَيْتِ قَدْرَ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ يُمْكِنُ الْمَشْيُ عَلَيْهِ، وَبَحَثُوا صِحَّةَ الطَّوَافِ فَوْقَهُ، مِمَّا يَدُل عَلَى أَنَّ لَهُ سَطْحًا عَرِيضًا، أَمَّا الآْنَ فَهُوَ بَارِزٌ مِنْ جِدَارِ الْكَعْبَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
__________
(1) المصباح المنير مادة (الشاذروان) .(25/314)
2 - وَاخْتُلِفَ فِي الشَّاذَرْوَانِ هَل هُوَ مِنَ الْكَعْبَةِ أَوْ لاَ؟ .
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْكَعْبَةِ، وَعُلِّل بِأَنَّهُ تَرَكَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَ تَجْدِيدِ بِنَائِهَا، كَمَا تَرَكَتْ الْحَطِيمَ.
(ر: حِجْر وَكَعْبَة) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْكَعْبَةِ، إِنَّمَا هُوَ بِنَاءٌ وُضِعَ أَسْفَل جِدَارِ الْكَعْبَةِ احْتِيَاطًا لِدَعْمِ جِدَارِ الْكَعْبَةِ وَتَثْبِيتِهِ، خُصُوصًا لِخَوْفِ السُّيُول فِي الأَْزْمِنَةِ السَّابِقَةِ.
وَقَدْ وَافَقَ الْحَنَفِيَّةَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، فَأَنْكَرُوا كَوْنَ الشَّاذَرْوَانِ مِنَ الْبَيْتِ، فَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ، الْخَطِيبُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ رَشِيدٍ، وَبَالَغَ فِي إِنْكَارِهِ وَمَال إِلَى رَأْيِهِ الْحَطَّابُ الْمَالِكِيُّ.
وَاسْتَدَل ابْنُ رَشِيدٍ لِقَوْلِهِ بِأَنَّهُ لاَ تُوجَدُ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ، وَلاَ ذُكِرَ مُسَمَّاهَا فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ وَلاَ سَقِيمٍ وَلاَ عَنْ صَحَابِيٍّ وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ فِيمَا عَلِمْتُ، وَلاَ لَهَا ذِكْرٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيِّينَ الْمُتَقَدِّمِينَ.
وَقَال أَيْضًا: انْعَقَدَ إِجْمَاعُ أَهْل الْعِلْمِ قَبْل طُرُوءِ هَذَا الاِسْمِ الْفَارِسِيِّ عَلَى أَنَّ الْبَيْتَ(25/314)
مُتْحَمٌ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ جِهَةِ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ، وَلِذَلِكَ اسْتَلَمَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ الآْخَرَيْنِ (1) . وَعَلَى أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمَّا نَقَضَ الْبَيْتَ وَبَنَاهُ إِنَّمَا زَادَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْحِجْرِ، وَأَنَّهُ أَقَامَهَا عَلَى الأُْسُسِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي عَايَنَهَا الْعُدُول مِنَ الصَّحَابَةِ وَكُبَرَاءِ التَّابِعِينَ، وَوَقَعَ الاِتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْحَجَّاجَ لَمْ يَنْقُضْ إِلاَّ جِهَةَ الْحِجْرِ خَاصَّةً.
كَمَا اسْتَدَل بِأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمَّا هَدَمَ الْكَعْبَةَ أَلْصَقَهَا بِالأَْرْضِ مِنْ جَوَانِبِهَا وَظَهَرَتْ أُسُسُهَا وَأَشْهَدَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَرَفَعَ الْبِنَاءَ عَلَى ذَلِكَ الأَْسَاسِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ دُخُول الشَّاذَرْوَانِ ضِمْنَ الطَّوَافِ. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ خُرُوجِ جَمِيعِ بَدَنِ الطَّائِفِ عَنِ الشَّاذَرْوَانِ، أَيْ: أَنْ يَكُونَ دَاخِلاً فِي ضِمْنِ مَا يَطُوفُ حَوْلَهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ يُوجِبُوا ذَلِكَ وَصَحَّحُوا الطَّوَافَ فَوْقَهُ. قَالُوا: " لَكِنْ
__________
(1) حديث استلام النبي صلى الله عليه وسلم الركنين اليمانين، ورد في حديث ابن عمر أنه قال: " لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 473 - ط السلفية) ومسلم (2 / 924 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.(25/315)
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ طَوَافُهُ وَرَاءَهُ خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ ". لَكِنْ مِنَ الْقَائِلِينَ بِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ مَنْ لاَ يَقُول: إِنَّ الشَّاذَرْوَانَ مِنَ الْكَعْبَةِ (1) . وَفَرَّعَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ فُرُوعًا أَوْرَدَهَا النَّوَوِيُّ:
(1) لَوْ طَافَ مَاشِيًا عَلَى الشَّاذَرْوَانِ وَلَوْ فِي خُطْوَةٍ لَمْ تَصِحَّ طَوْفَتُهُ تِلْكَ؛ لأَِنَّهُ طَافَ فِي الْبَيْتِ لاَ بِالْبَيْتِ.
(2) لَوْ طَافَ خَارِجَ الشَّاذَرْوَانِ وَكَانَ يَضَعُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ أَحْيَانًا عَلَى الشَّاذَرْوَانِ وَيَثِبُ بِالأُْخْرَى، لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ بِاتِّفَاقِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَوَاضِحٌ أَنَّ هَذَيْنِ الْفَرْعَيْنِ غَيْرُ وَاقِعَيْنِ الآْنَ؛ لأَِنَّ الشَّاذَرْوَانَ رُفِعَ مِنْ أَعْلاَمِهِ مَائِلاً حَتَّى يَنْتَهِيَ بِمُلاَصَقَةِ جِدَارِ الْكَعْبَةِ.
(3) لَوْ طَافَ خَارِجَ الشَّاذَرْوَانِ وَكَانَ يَمَسُّ الْجِدَارَ بِيَدِهِ فِي مُوَازَاةِ الشَّاذَرْوَانِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَيْتِ، فَفِي صِحَّةِ طَوَافِهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لاَ يَصِحُّ (2) .
__________
(1) انظر قول ابن قدامة: " فصل: لو طاف على جدار الحجر وشاذروان الكعبة وهو ما فضل من حائطها لم يجزئ، لأن ذلك من البيت، فإذا لم يطف به لم يطف بكل البيت، لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف من وراء ذلك ".
(2) المجموع 8 / 26، وانظر الحطاب 3 / 74، والمغني 3 / 383، وابن عابدين 2 / 168.(25/315)
شَارِب
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّارِبُ: اسْمُ فَاعِل شَرِبَ، يُقَال: شَرِبَ الْمَاءَ أَوْ غَيْرَهُ شُرْبًا فَهُوَ شَارِبٌ، وَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} (1) .
وَرَجُلٌ شَارِبٌ وَشَرُوبٌ وَشَرَّابٌ وَشِرِّيبٌ: مُولَعٌ بِالشَّرَابِ، كَخِمِّيرٍ، وَالشَّرْبُ وَالشُّرُوبُ: الْقَوْمُ يَشْرَبُونَ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى الشَّرَابِ، قَال ابْنُ سِيدَهْ: الشَّرْبُ اسْمُ جَمْعٍ لِشَارِبٍ، كَرَكْبٍ وَرَجْلٍ، وَقِيل: هُوَ جَمْعٌ، وَالشُّرُوبُ جَمْعُ شَارِبٍ، كَشَاهِدٍ وَشُهُودٍ.
وَالشَّارِبُ - أَيْضًا - اسْمٌ لِلشَّعْرِ الَّذِي يَسِيل عَلَى الْفَمِ، قَال أَبُو حَاتِمٍ: وَلاَ يَكَادُ يُثَنَّى، وَقَال أَبُو عُبَيْدَةَ: قَال الْكِلاَبِيُّونَ: شَارِبَانِ، بِاعْتِبَارِ الطَّرَفَيْنِ، وَالْجَمْعُ شَوَارِبُ (2) .
__________
(1) سورة الواقعة / 54، 55.
(2) المصباح المنير، والقاموس المحيط، ولسان العرب مادة (شرب) .(25/316)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اللِّحْيَةُ:
2 - اللِّحْيَةُ: وَهِيَ - بِكَسْرِ اللاَّمِ وَفَتْحِهَا - الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الذَّقَنِ خَاصَّةً، وَالْجَمْعُ: لِحًى وَلُحِيٌّ مَا يَنْبُتُ مِنَ الشَّعْرِ عَلَى ظَاهِرِ اللَّحْيِ، وَهُوَ فَكُّ الْحَنَكِ الأَْسْفَل.
وَالشَّارِبُ وَاللِّحْيَةُ كِلاَهُمَا مِنْ شَعْرِ الْوَجْهِ، لَكِنِ الشَّارِبُ يَكُونُ عَلَى الشَّفَةِ الْعُلْيَا، وَاللِّحْيَةُ تَكُونُ عَلَى الذَّقَنِ (2) .
ب - الْعِذَارُ:
3 - الْعِذَارُ عِنْدَ أَهْل اللُّغَةِ وَالْفِقْهِ: هُوَ الشَّعْرُ النَّابِتُ الْمُحَاذِي لِلأُْذُنَيْنِ بَيْنَ الصُّدْغِ وَالْعَارِضِ وَهُوَ أَوَّل مَا يَنْبُتُ لِلأَْمْرَدِ غَالِبًا (3) .
وَالشَّارِبُ وَالْعِذَارُ كِلاَهُمَا مِنْ شَعْرِ الْوَجْهِ، لَكِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي مَوْضِعِهِمَا مِنَ الْوَجْهِ.
__________
(1) الإقناع للشربيني 1 / 38، المفردات ص 257.
(2) المصباح المنير، الخرشي 1 / 121، الإقناع 1 / 38.
(3) المصباح المنير، ولسان العرب، الإقناع للشربيني 1 / 38، نهاية المحتاج 1 / 154.(25/316)
ج - الْعَنْفَقَةُ:
4 - الْعَنْفَقَةُ: شُعَيْرَاتٌ بَيْنَ الشَّفَةِ السُّفْلَى وَالذَّقَنِ، وَقِيل: الْعَنْفَقَةُ مَا بَيْنَ الذَّقَنِ وَطَرَفِ الشَّفَةِ السُّفْلَى كَانَ عَلَيْهَا شَعْرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَقِيل: الْعَنْفَقَةُ مَا نَبَتَ عَلَى الشَّفَةِ السُّفْلَى مِنَ الشَّعْرِ (1) .
د - الْعُثْنُونُ:
5 - الْعُثْنُونُ: اللِّحْيَةُ أَوْ مَا فَضَل مِنْهَا بَعْدَ الْعَارِضَيْنِ، أَوْ مَا نَبَتَ عَلَى الذَّقَنِ وَتَحْتَهُ سُفْلاً (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّارِبِ (مِنَ الشُّرْبِ) :
6 - يُطْلَقُ الشَّارِبُ - كَمَا سَبَقَ فِي التَّعْرِيفِ - عَلَى مَنْ شَرِبَ الْمَاءَ أَوْ غَيْرَهُ، وَلَكِنِ الشَّارِبُ الَّذِي عُنِيَ الْفُقَهَاءُ بِالأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ هُوَ شَارِبُ الْخَمْرِ وَسَائِرِ الْمُسْكِرَاتِ.
وَشُرْبُ الْخَمْرِ مِنْ كَبَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، بَل إِنَّ الْخَمْرَ أُمُّ الْكَبَائِرِ كَمَا قَال عُمَرُ وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَالأَْصْل فِي تَحْرِيمِهَا، قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَْنْصَابُ وَالأَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط.
(2) القاموس المحيط مادة (عثن) .(25/317)
عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) . انْظُرْ: (أَشْرِبَة، سُكْر) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّارِبِ (الشَّعْرِ عَلَى الشَّفَةِ الْعُلْيَا) :
أَوَّلاً: تَطْهِيرُ الشَّارِبِ:
أ - فِي الْوُضُوءِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْل الشَّارِبِ مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ، وَعَلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْل بَشَرَةِ الشَّارِبِ إِذَا كَانَ خَفِيفًا بِحَيْثُ لاَ يَسْتُرُ شَعْرُ الشَّارِبِ الْبَشَرَةَ؛ أَيِ الْجِلْدَ تَحْتَهُ، فَإِنْ لَمْ تُغْسَل الْبَشَرَةُ - أَيْ لَمْ يَصِل الْمَاءُ إِلَيْهَا - فَلاَ يُجْزِئُ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ (2) .
وَلَكِنِ الْفُقَهَاءُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ إيصَال الْمَاءِ إِلَى بَشَرَةِ الشَّارِبِ فِي الْوُضُوءِ إِذَا كَانَ الشَّعْرُ كَثِيفًا يَسْتُرُ الْبَشَرَةَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ غَسْل بَاطِنِ شَعْرِ الشَّارِبِ وَإِيصَال الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ تَحْتَهُ إِذَا كَانَ كَثِيفًا، لَكِنِ الشَّارِبُ إِذَا كَانَ طَوِيلاً يَسْتُرُ حُمْرَةَ الشَّفَتَيْنِ وَجَبَ تَخْلِيلُهُ لأَِنَّهُ يَمْنَعُ ظَاهِرًا وُصُول الْمَاءِ إِلَى
__________
(1) سورة المائة / 90.
(2) رد المحتار 1 / 66 - 69، الخرشي 1 / 122، نهاية المحتاج 1 / 154، المغني 1 / 116.(25/317)
جَمِيعِ الشَّفَةِ أَوْ بَعْضِهَا، وَلاَ سِيَّمَا إِنْ كَانَ كَثِيفًا، وَتَخْلِيلُهُ مُحَقِّقٌ لِوُصُول الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِهَا (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ مَعَ غَسْل الْوَجْهِ غَسْل ظَاهِرِ الشَّعْرِ إِذَا كَانَ كَثِيفًا، وَيُكْرَهُ تَخْلِيل الشَّعْرِ الْكَثِيفِ عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ مَعَ غَسْل الْوَجْهِ غَسْل الشَّارِبِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِيصَال الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ تَحْتَهُ وَإِنْ كَثُفَ الشَّعْرُ؛ لأَِنَّ كَثَافَتَهُ نَادِرَةٌ فَأُلْحِقَ بِالْغَالِبِ، وَالْمُرَادُ بِالظَّاهِرِ: الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا مِمَّا يَلِي الْوَجْهَ، وَبِالْبَاطِنِ: خِلاَل الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةُ الَّتِي تَحْتَهُ، وَقِيل: الظَّاهِرُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْجِهَتَيْنِ، وَالْبَاطِنُ مَا بَيْنَهُمَا وَأُصُول الشَّعْرِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْل الشَّارِبِ مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ. فَإِنْ كَانَ شَعْرُ الشَّارِبِ كَثِيفًا لاَ يَصِفُ الْبَشَرَةَ أَجْزَأَ غَسْل ظَاهِرِهِ، وَيُسَنُّ تَخْلِيل الشَّارِبِ إِذَا كَانَ كَثِيفًا وَغَسْل بَاطِنِهِ خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ ذَكَرَ فِي
__________
(1) رد المحتار 1 / 69، فتح القدير 1 / 10.
(2) الخرشي 1 / 122.
(3) الإقناع للشربيني وحاشية الباجوري 1 / 38.(25/318)
الشَّارِبِ وَجْهًا آخَرَ فِي وُجُوبِ غَسْل بَاطِنِهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيفًا؛ لأَِنَّهُ يَسْتُرُ مَا تَحْتَهُ عَادَةً، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ كَانَ نَادِرًا فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ (1) .
ب - فِي الْغُسْل:
8 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْغُسْل تَعْمِيمُ الشَّارِبِ شَعْرًا وَبَشَرَةً بِالْمَاءِ، كَثِيفًا كَانَ الشَّارِبُ أَوْ خَفِيفًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ تَحْتَ كُل شَعْرَةٍ جَنَابَةً فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَ (2) . وَلِمَا رَوَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِل بِهِ مِنَ النَّارِ كَذَا وَكَذَا قَال عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ شَعْرِي ثَلاَثًا " وَكَانَ يَجُزُّ شَعْرَهُ (3) . وَلأَِنَّ الْحَدَثَ فِي الْغُسْل مِنَ الْجَنَابَةِ عَمَّ جَمِيعَ الْبَدَنِ فَوَجَبَ تَعْمِيمُهُ بِالْغُسْل، وَلأَِنَّ مَا تَحْتَ الشَّعْرِ بَشَرَةٌ أَمْكَنَ إيصَال الْمَاءِ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَلَزِمَ كَسَائِرِ بَشَرَتِهِ؛ وَلأَِنَّهُ شَعْرٌ نَابِتٌ فِي مَحَل الْغُسْل
__________
(1) كشاف القناع 1 / 96، المغني 1 / 116.
(2) حديث: " إن تحت كل شعرة جنابة ". أخرجه أبو داود (1 / 172 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة، ثم أعله بضعف أحد رواته.
(3) حديث: " من ترك موضع شعرة. . . . ". أخرجه أبو داود (1 / 173 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ولمح ابن حجر في التلخيص (1 / 142 - ط شركة الطباعة الفنية) إلى أن الصواب وقفه على عليّ بن أبي طالب.(25/318)
فَوَجَبَ غَسْلُهُ؛ وَلأَِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ غَسْل الْبَشَرَةِ غَسْلُهُ، فَوَجَبَ غَسْلُهُ لأَِنَّ الْوَاجِبَ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِهِ (1) .
ج - إِعَادَةُ التَّطَهُّرِ بَعْدَ حَلْقِ الشَّارِبِ:
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَل ثُمَّ حَلَقَ شَارِبَهُ أَوْ قَصَّهُ، لاَ يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل، وَلاَ يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ غَسْل مَحَل الْحَلْقِ أَوِ الْقَصِّ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ فِيمَا يَشْمَل هَذِهِ الْحَالَةَ: وَمَتَى غَسَل هَذِهِ الشُّعُورَ ثُمَّ زَالَتْ عَنْهُ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي طَهَارَتِهِ، قَال يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: مَا زَادَهُ ذَلِكَ إِلاَّ طَهَارَةً، وَهَذَا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ؛ لأَِنَّ فَرْضَ الْغَسْل انْتَقَل إِلَى الشَّعْرِ أَصْلاً، بِدَلِيل أَنَّهُ لَوْ غَسَل الْبَشَرَةَ دُونَ الشَّعْرِ لَمْ يُجْزِهِ، بِخِلاَفِ الْخُفَّيْنِ فَإِنَّ مَسْحَهُمَا بَدَلٌ عَنْ غَسْل الرِّجْلَيْنِ فَيُجْزِئُ غَسْل الرِّجْلَيْنِ دُونَ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ (2) .
وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ ظُهُورَ بَشَرَةِ الْوَجْهِ بَعْدَ غَسْل شَعْرِهِ يُوجِبُ غَسْلَهَا قِيَاسًا عَلَى ظُهُورِ قَدَمِ الْمَاسِحِ عَلَى الْخُفِّ (3) .
__________
(1) رد المحتار 1 / 103، الخرشي 1 / 168، مغني المحتاج 1 / 73، المغني 1 / 227 - 228.
(2) الدر المختار ورد المحتار 1 / 69، شرح الزرقاني 1 / 60، المغني 1 / 117.
(3) المغني 1 / 117.(25/319)
ثَانِيًا: الأَْخْذُ مِنَ الشَّارِبِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْخْذَ مِنَ الشَّارِبِ مِنَ الْفِطْرَةِ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْفِطْرَةُ خَمْسٌ - أَوْ: خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ - الْخِتَانُ وَالاِسْتِحْدَادُ وَتَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ وَنَتْفُ الإِْبْطِ وَقَصُّ الشَّارِبِ (1) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَتَفْسِيرُ الْفِطْرَةِ بِالسُّنَّةِ هُنَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لِمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مِنَ السُّنَّةِ قَصُّ الشَّوَارِبِ وَنَتْفُ الإِْبْطِ وَتَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ (2) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْخْذَ مِنَ الشَّارِبِ مِنَ السُّنَّةِ (3) ، لِلْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) حديث: " الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة. . . . ". أخرجه مسلم (1 / 221 - ط الحلبي) .
(2) قوله: من السنة قص الشوارب تعقب الحافظ ابن حجر كلام النووي، أنه لم ير هذا اللفظ في شيء من نسخ البخاري وأن الصواب أنه عند البخاري بلفظ: " الفطرة " كذا في فتح الباري (10 / 339 - ط السلفية) . ولفظ: " من الفطرة قص الشارب " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 334 - ط السلفية) من حديث ابن عمر.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 3 / 146 - 148، المجموع شرح المهذب 1 / 248 - 287.(25/319)
قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا (1) .
11 - لَكِنِ الْفُقَهَاءُ اخْتَلَفُوا فِي ضَابِطِ الأَْخْذِ مِنَ الشَّارِبِ، هَل يَكُونُ بِالْقَصِّ أَمْ بِالْحَلْقِ أَمْ بِالإِْحْفَاءِ؟ (2) .
فَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يُسَنُّ فِي الشَّارِبِ، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ الْخِلاَفَ فَقَال: الْمَذْهَبُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ الْقَصُّ، قَال فِي الْبَدَائِعِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَال الطَّحَاوِيُّ: الْقَصُّ حَسَنٌ وَالْحَلْقُ أَحْسَنُ، وَهُوَ قَوْل عُلَمَائِنَا الثَّلاَثَةِ.
وَأَمَّا طَرَفَا الشَّارِبِ، وَهُمَا السَّبَالاَنِ، فَقِيل: هُمَا مِنْهُ، وَقِيل: مِنَ اللِّحْيَةِ، وَعَلَيْهِ فَلاَ بَأْسَ بِتَرْكِهِمَا، وَقِيل: يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالأَْعَاجِمِ وَأَهْل الْكِتَابِ، وَهَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ. وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ تَوْفِيرَ
__________
(1) حديث: " من لم يأخذ من شاربه فليس منا ". أخرجه الترمذي (5 / 93 - ط الحلبي) وقوى إسناده ابن حجر في الفتح (10 / 337 - ط السلفية) .
(2) القص: أصل القص القطع، يقال: قصصت ما بينهما أي: قطعت، وقص الشعر قطعه، وأخذه بالمقص. الحلق: الإزالة يقال: حلق رأسه يحلقه حلقا وتحلاقا إذا زال شعره. (القاموس المحيط) . الإحفاء: الاستئصال، يقال: أحفى الرجل شاربه إذا بالغ في أخذه وقصه. (لسان العرب، المصباح المنير) .(25/320)
الشَّارِبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْغَازِي مَنْدُوبٌ؛ لِيَكُونَ أَهْيَبَ فِي عَيْنِ الْعَدُوِّ (1) .
وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَهُمْ قَصُّ الشَّارِبِ كُل أُسْبُوعٍ، وَالأَْفْضَل يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيُكْرَهُ تَرْكُهُ وَرَاءَ الأَْرْبَعِينَ لِمَا رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الأَْظْفَارِ وَنَتْفِ الإِْبْطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لاَ تُتْرَكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (2) وَهُوَ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي لَيْسَ لِلرَّأْيِ فِيهَا مَدْخَلٌ فَيَكُونُ كَالْمَرْفُوعِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: قَصُّ الشَّارِبِ مِنَ الْفِطْرَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُصُّوا الشَّوَارِبَ (4) وَهُوَ سُنَّةٌ خَفِيفَةٌ، فَلَيْسَ الأَْمْرُ فِي الْحَدِيثِ لِلْوُجُوبِ، وَالسُّنَّةُ: الْقَصُّ لاَ الإِْحْفَاءُ، وَالشَّارِبُ لاَ يُحْلَقُ بَل يُقَصُّ، قَال يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُول: يُؤْخَذُ مِنَ الشَّارِبِ حَتَّى يَبْدُوَ طَرَفُ الشَّفَةِ وَهُوَ الإِْطَارُ، وَلاَ يَجُزُّهُ فَيُمَثِّل بِنَفْسِهِ.
__________
(1) رد المحتار 2 / 204، 5 / 260 - 261، الاختيار 4 / 177، فتح القدير 2 / 232.
(2) حديث أنس: " وقت لنا في قص الشارب. . . ". أخرجه مسلم (1 / 222 - ط الحلبي) .
(3) رد المحتار 5 / 261 - ط بولاق.
(4) حديث: " قصوا الشوارب. . . ". أخرجه أحمد (2 / 229 - ط الميمنية) من حديث أبي هريرة، وإسناده حسن.(25/320)
وَفِي قَصِّ السَّبَالَتَيْنِ عِنْدَهُمْ قَوْلاَنِ.
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ حَلْقُ مَا خُلِقَ لَهَا مِنْ شَارِبٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: قَصُّ الشَّارِبِ سُنَّةٌ لِلأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَيُسْتَحَبُّ فِي قَصِّ الشَّارِبِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْجَانِبِ الأَْيْمَنِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُل شَيْءٍ (2) . وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقُصَّ شَارِبَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ يَقُصَّهُ لَهُ غَيْرُهُ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُل مِنْ غَيْرِ هَتْكِ مُرُوءَةٍ.
وَأَمَّا حَدُّ مَا يَقُصُّهُ: فَالْمُخْتَارُ أَنْ يَقُصَّ حَتَّى يَبْدُوَ طَرَفُ الشَّفَةِ، وَلاَ يَحُفُّهُ مِنْ أَصْلِهِ، قَالُوا: وَحَدِيثُ: أَحْفُوا الشَّوَارِبَ. . . (3) مَحْمُولٌ عَلَى مَا طَال عَلَى الشَّفَتَيْنِ، وَعَلَى الْحَفِّ مِنْ طَرَفِ الشَّفَةِ لاَ مِنْ أَصْل الشَّعْرِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصُّ أَوْ يَأْخُذُ مِنْ
__________
(1) حاشية العدوي على الفواكه الدواني 2 / 353، الفواكه الدواني 1 / 152، القوانين الفقهية 430.
(2) حديث: " كان يحب التيامن. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 523 - ط السلفية) ومسلم (1 / 226 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(3) حديث: " أحفوا الشوارب. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 349 - ط السلفية) ومسلم (1 / 222 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر.(25/321)
شَارِبِهِ (1) ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيل الرَّحْمَنِ يَفْعَلُهُ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ شُرَحْبِيل بْنِ مُسْلِمٍ الْخَوْلاَنِيِّ قَال: رَأَيْتُ خَمْسَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصُّونَ شَوَارِبَهُمْ وَيَعْفُونَ لِحَاهُمْ وَيُصَغِّرُونَهَا: أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ عَامِرٍ الثَّمَالِيُّ، وَالْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيُّ، كَانُوا يَقُصُّونَ شَوَارِبَهُمْ مَعَ طَرَفِ الشَّفَةِ (2) .
وَقَال الْمُحَاطِيُّ وَغَيْرُهُ: يُكْرَهُ حَلْقُ الشَّارِبِ.
وَقَال الْبَاجُورِيُّ: إِحْفَاءُ الشَّارِبِ بِالْحَلْقِ أَوِ الْقَصِّ مَكْرُوهٌ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَحْلِقَ مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى تَظْهَرَ الشَّفَةُ، وَأَنْ يَقُصَّ مِنْهُ شَيْئًا وَيُبْقِيَ مِنْهُ شَيْئًا.
وَنَقَل الزَّرْكَشِيُّ عَنْ أَبِي حَامِدٍ وَالصَّيْمَرِيِّ؛ اسْتِحْبَابَ الإِْحْفَاءِ، ثُمَّ قَال: وَلَمْ نَجِدْ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصًّا، وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ رَأَيْنَاهُمْ كَالْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ كَانَا يُحْفِيَانِ شَوَارِبَهُمَا، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا أَخَذَا
__________
(1) حديث: " كان يقص أو يأخذ من شاربه. . . ". أخرجه الترمذي (5 / 93 - ط الحلبي) ، وقال: " حديث حسن غريب ".
(2) أثر شرحبيل بن مسلم. أخرجه البيهقي (1 / 151 - ط دائرة المعارف العثمانية) .(25/321)
ذَلِكَ عَنْهُ، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: وَزَعَمَ الْغَزَالِيُّ فِي الإِْحْيَاءِ أَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ.
وَلاَ بَأْسَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِتَرْكِ السَّبَالَتَيْنِ، وَهُمَا طَرَفَا الشَّارِبِ، لِفِعْل عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ؛ وَلأَِنَّهُمَا لاَ يَسْتُرَانِ الْفَمَ، وَلاَ يَبْقَى فِيهِمَا غَمَرُ الطَّعَامِ إِذْ لاَ يَصِل إِلَيْهِمَا.
وَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَأْخِيرُ قَصِّ الشَّارِبِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَالتَّأْخِيرُ إِلَى مَا بَعْدَ الأَْرْبَعِينَ أَشَدُّ كَرَاهَةً لِخَبَرِ مُسْلِمٍ الْمُتَقَدِّمِ. قَال فِي الْمَجْمُوعِ: وَمَعْنَى الْخَبَرِ أَنَّهُمْ لاَ يُؤَخِّرُونَ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ فَإِنْ أَخَّرُوهَا فَلاَ يُؤَخِّرُونَهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ، لاَ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَهَا إِلَى الأَْرْبَعِينَ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ وَالأَْصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ وَالأَْخْذُ مِنْ هَذِهِ الشُّعُورِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ قَصُّ الشَّارِبِ - أَيْ قَصُّ الشَّعْرِ الْمُسْتَدِيرِ عَلَى الشَّفَةِ - أَوْ قَصُّ طَرَفِهِ، وَحَفُّهُ أَوْلَى نَصًّا، قَال فِي النِّهَايَةِ: إِحْفَاءُ الشَّوَارِبِ أَنْ تُبَالِغَ فِي قَصِّهَا، وَمِنَ
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 3 / 149، حاشية الباجوري على الإقناع 2 / 246، أسنى المطالب 1 / 551، المجموع 1 / 287 - 288، روضة الطالبين 2 / 108، 3 / 234.(25/322)
الشَّارِبِ السَّبَالاَنِ وَهُمَا طَرَفَاهُ، لِحَدِيثِ أَحْمَدَ: قُصُّوا سِبَالَكُمْ وَوَفِّرُوا عَثَانِينَكُمْ وَخَالِفُوا أَهْل الْكِتَابِ (1) .
وَقَالُوا: يُسَنُّ الأَْخْذُ مِنَ الشَّارِبِ كُل جُمُعَةٍ لِمَا رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ أَظْفَارَهُ وَشَارِبَهُ كُل جُمُعَةٍ (2) فَإِنْ تَرَكَهُ فَوْقَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كُرِهَ لِحَدِيثِ أَنَسٍ السَّابِقِ: وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ. . . إِلَخْ؛ وَعَلَّلُوا الأَْخْذَ مِنَ الشَّارِبِ كُل جُمُعَةٍ بِأَنَّهُ إِذَا تُرِكَ يَصِيرُ وَحْشًا. (3)
ثَالِثًا: الأَْخْذُ مِنَ الشَّارِبِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ:
12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُرِيدُ حُضُورَ الْجُمُعَةِ تَحْسِينُ هَيْئَتِهِ بِقَصِّ الشَّارِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ الْمَنْدُوبَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ،
__________
(1) حديث: " قصوا سبالكم ". أخرجه أحمد (5 / 265 - ط الميمنية) من حديث أبي أمامة، وأورده الهيثمي في المجمع (5 / 131 - ط القدسي) وقال: " رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح، خلا القاسم وهو ثقة، وفيه كلا لا يضر ".
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ أظفاره وشاربه كل جمعة ". ورد من حديث أبي هريرة. أخرجه البزار (الكشف / 299 - ط الرسالة) . وقال الهيثمي: " رواه البزار والطبراني في الأوسط، وفيه إبراهيم بن قدامة قال البزار: ليس بحجة إذا انفرد بحديث، وقد تفرد بهذا ". كذا في مجمع الزوائد (2 / 170 - 171 - ط القدسي) .
(3) مطالب أولي النهى 1 / 85 - 87، 2 / 425.(25/322)
لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - الَّذِي رَوَاهُ الْبَغَوِيُّ، وَقَدْ سَبَقَ؛ وَلأَِنَّ الْجُمُعَةَ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ فَاسْتُحِبَّ أَنْ يَكُونَ الْمُقِيمُ لَهَا عَلَى أَحْسَنِ وَصْفٍ، وَإِظْهَارًا لِفَضِيلَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ سَيِّدُ الأَْيَّامِ (1) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الأَْخْذَ مِنَ الشَّارِبِ يَكُونُ قَبْل حُضُورِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنِ الْحَنَفِيَّةُ قَالُوا: إِنَّ حَلْقَ الشَّعْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ أَفْضَل لِتَنَالَهُ بَرَكَةُ الصَّلاَةِ (2) .
رَابِعًا: إِزَالَةُ الشَّارِبِ فِي الإِْحْرَامِ:
13 - مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ إِزَالَةُ الشَّعْرِ مِنْ جَمِيعِ بَدَنِ الْمُحْرِمِ وَمِنْهُ الشَّارِبُ، لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} (3) أَيْ: شُعُورَهَا، نَصَّ عَلَى
__________
(1) حديث: " الجمعة سيد الأيام. . . ". أخرجه ابن ماجه (1 / 344 - ط الحلبي) من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر، وحسنه البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 204 - ط دار الجنان) .
(2) بدائع الصنائع 1 / 269، رد المحتار 1 / 554، جواهر الإكليل 1 / 96، كفاية الطالب 1 / 296، أسنى المطالب 1 / 266، كشاف القناع 2 / 42، مطالب أولي النهى 1 / 87.
(3) سورة البقرة / 196.(25/323)
حَلْقِ شَعْرِ الرَّأْسِ وَعَدَّى إِلَى شَعْرِ سَائِرِ الْبَدَنِ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، إِذْ حَلْقُهُ يُؤْذِنُ بِالرَّفَاهِيَةِ، وَهُوَ يُنَافِي الإِْحْرَامَ، لِكَوْنِ الْمُحْرِمِ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، وَقِيسَ عَلَى الْحَلْقِ النَّتْفُ وَالْقَلْعُ وَنَحْوُهُمَا لأَِنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْحَلْقِ مِنْ حَيْثُ إِزَالَةُ الشَّعْرِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْحَلْقِ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ لأَِنَّهُ هُوَ الْغَالِبُ (1) ، أَمَّا مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ فَيُنْظَرُ فِي (إِحْرَام) (وَحَلْق) .
خَامِسًا: الأَْخْذُ مِنْ شَارِبِ الْمَيِّتِ:
14 - إِذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَلاَ يُؤْخَذُ مِنْ شَارِبِهِ وَلاَ مِنْ شَعْرِهِ شَيْءٌ؛ مُرَاعَاةً لإِِحْرَامِهِ، لأَِنَّهُ يَظَل عَلَيْهِ، وَيُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا (2) كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الأَْعْرَابِيِّ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ فَمَاتَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلاَ تُحَنِّطُوهُ وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا (3) .
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ مِنَ الْمَوْتَى فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي
__________
(1) رد المحتار 2 / 209، كفاية الطالب 1 / 420، أسنى المطالب 1 / 509، المغني 421 - 422.
(2) فتح العزيز (مع المجموع) 5 / 129.
(3) حديث: " اغسلوه بماء وسدر. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 136 - ط السلفية) ومسلم (2 / 865 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس.(25/323)
الأَْخْذِ مِنْ شَارِبِهِ: وَلِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلاَنِ:
قَال النَّوَوِيُّ: يَحْصُل مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْخْذِ مِنْ شَارِبِ الْمَيِّتِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ الْمُخْتَارُ: أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَالثَّانِي: لاَ يُكْرَهُ وَلاَ يُسْتَحَبُّ، وَالثَّالِثُ: يُسْتَحَبُّ، وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ الشَّارِبُ طَوِيلاً؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرَائِسِكُمْ (1) . وَلأَِنَّ تَرْكَهُ يُقَبِّحُ مَنْظَرَهُ، وَلأَِنَّهُ فِعْلٌ مَسْنُونٌ فِي الْحَيَاةِ لاَ مَضَرَّةَ فِيهِ فَشُرِعَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالْغُسْل، وَمِمَّنِ اسْتَحَبَّهُ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ. وَمِمَّنْ كَرِهَهُ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْمُزَنِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَنَقَلَهُ الْعَبْدَرِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَصَرَّحَ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ الأَْخْذُ مِنْ شَارِبِ الْمَيِّتِ بِأَنَّ الأَْخْذَ مِنْهُ يَكُونُ قَبْل الْغُسْل.
وَقَال النَّوَوِيُّ: وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْجُمْهُورُ - يَعْنِي جُمْهُورَ الأَْصْحَابِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - لِدَفْنِ
__________
(1) حديث: " اصنعوا بموتاكم ما تصنعون بعرائسكم. . . ". أورده ابن قدامة في المغني (2 / 541 - ط الرياض) ولم يعزه إلى أي مصدر.(25/324)
هَذِهِ الأَْجْزَاءِ مَعَ الْمَيِّتِ، وَقَال صَاحِبُ الْعُدَّةِ: مَا يُؤْخَذُ مِنْهَا يُصَرُّ فِي كَفَنِهِ، وَوَافَقَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ فِي الشَّعْرِ الْمُنَتَّفِ فِي تَسْرِيحِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، وَقَال بِهِ غَيْرُهُمْ.
وَقَال صَاحِبُ الْحَادِي: الاِخْتِيَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لاَ يُدْفَنُ مَعَهُ إِذْ لاَ أَصْل لَهُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا أُخِذَ الشَّعْرُ جُعِل مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ؛ لأَِنَّهُ مِنَ الْمَيِّتِ فَيُسْتَحَبُّ جَعْلُهُ فِي أَكْفَانِهِ كَأَعْضَائِهِ، فَيُغَسَّل وَيُجْعَل مَعَهُ (2) .
سَادِسًا: أَخْذُ الْمُعْتَكِفِ مِنْ شَارِبِهِ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَضُرُّ فِي الاِعْتِكَافِ أَخْذُ الْمُعْتَكِفِ مِنْ شَارِبِهِ إِذَا لَمْ يُلَوِّثِ الْمَسْجِدَ بِذَلِكَ، لِعَدَمِ وُرُودِ تَرْكِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ الأَْمْرِ بِهِ، وَالأَْصْل بَقَاءُ الإِْبَاحَةِ.
لَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ شَارِبِهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوْ جَمَعَ مَا يَأْخُذُهُ فِي ثَوْبِهِ وَأَلْقَاهُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لِحُرْمَتِهِ،
__________
(1) الوسيط 2 / 807 - 808، روضة الطالبين 2 / 108، 5 / 178 - 179 - 180.
(2) المغني 2 / 541.(25/324)
فَإِنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ يُبْطِل اعْتِكَافَهُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ مِنْهُمْ بِإِبْطَال الاِعْتِكَافِ بِكُل مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَلاَ يَبْطُل اعْتِكَافُهُ عِنْدَ مَنْ خَصَّ الإِْبْطَال بِالْكَبِيرَةِ.
وَقَالُوا: إِذَا احْتَاجَ الْمُعْتَكِفُ إِلَى قَصِّ شَارِبِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُدْنِيَ رَأْسَهُ لِمَنْ يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ وَيُصْلِحُهُ، وَلاَ يَخْرُجُ فِي ذَلِكَ إِلَى بَيْتِهِ وَلاَ إِلَى دُكَّانِ الْحَجَّامِ، لأَِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ صَوْنُ الْمَسَاجِدِ عَنْ كُل قَذَرٍ كَقَصِّ الشَّارِبِ وَنَحْوِهِ (2) .
سَابِعًا: الْوُضُوءُ وَالْغُسْل بَعْدَ قَصِّ الشَّارِبِ:
16 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ الْوُضُوءُ لِمَنْ قَصَّ شَارِبَهُ، وَكَذَلِكَ الْغُسْل (3) .
ثَامِنًا: الْجِنَايَةُ عَلَى الشَّارِبِ:
17 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى
__________
(1) الدسوقي 1 / 549، جواهر الإكليل 1 / 159، مواهب الجليل 2 / 463، الجمل 2 / 363.
(2) مطالب أولي النهى 2 / 254، كشاف القناع 2 / 364.
(3) نهاية المحتاج 2 / 321، الإقناع للشربيني 1 / 47.(25/325)
الشَّارِبِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، لأَِنَّ الشَّارِبَ تَبَعٌ لِلِّحْيَةِ فَصَارَ كَبَعْضِ أَطْرَافِهَا (1) . وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (حُكُومَة عَدْلٍ) .
شَارِب الْخَمْرِ
انْظُرْ: حُدُود، سُكْر
__________
(1) فتح القدير 8 / 309، الإقناع للشربيني 2 / 166، مطالب أولي النهى 6 / 125.(25/325)
شَارِد
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّارِدُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ شَرَدَ، يُقَال: شَرَدَ الْبَعِيرُ شُرُودًا: نَدَّ وَنَفَرَ، الاِسْمُ الشِّرَادُ، بِالْكَسْرِ (1) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الآْبِقُ:
2 - الآْبِقُ: هُوَ الْعَبْدُ الْمُنْطَلِقُ تَمَرُّدًا عَلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ كِبَرٍ فِي الْعَمَل، وَيُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَفْظَ الآْبِقِ عَلَى مَنْ ذَهَبَ مُتَخَفِّيًا مُطْلَقًا لِسَبَبٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَفْظُ الآْبِقِ خَاصٌّ بِالإِْنْسَانِ، وَالشَّارِدُ خَاصٌّ بِالْحَيَوَانِ. (انْظُرِ الْمَوْسُوعَةَ: إِبَاق) .
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، غريب القرآن مادة شرد، حاشية الجمل 3 / 28.(25/326)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
(1) بَيْعُ الشَّارِدِ أَوْ إجَارَتُهُ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْجَمَل الشَّارِدِ وَنَحْوِهِ، مِمَّا لاَ يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِهِ لِلْمُشْتَرِي لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ (1) وَلأَِنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْبَيْعِ هُوَ تَمْلِيكُ التَّصَرُّفِ، وَذَلِكَ لاَ يَتَحَقَّقُ فِيمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ.
وَلاَ يَجُوزُ كَذَلِكَ أَنْ يُؤَجِّرَ بَعِيرًا شَارِدًا أَوْ نَحْوَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ (2) التَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ (بَيْع، إِجَارَة) .
(2) ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الشَّارِدِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَوَحَّشَ الْحَيَوَانُ الآْنِسُ الْمَأْكُول، فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى ذَبْحِهِ فِي مَحَل الذَّكَاةِ كَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ، أَوِ الْبَقَرَةِ أَوِ الشَّاةِ أَوْ غَيْرِهَا، فَكُل مَوْضِعٍ مِنْ بَدَنِهِ مَحَلٌّ
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع الغرر ". أخرجه مسلم (3 / 1153 - ط الحلبي) .
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 5، حاشية الدسوقي 1 / 484، حاشية العدوي 2 / 127، جواهر الإكليل 2 / 5.(25/326)
لِذَكَاتِهِ، فَإِذَا جَرَحَهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ بَدَنِهِ سَوَاءٌ الْخَاصِرَةُ أَوِ الْفَخِذُ أَوْ غَيْرِهِمَا فَمَاتَ حَل أَكْلُهُ؛ أَيْ أَنَّهُ يَكْفِي فِي ذَبْحِهِ أَيُّ جُرْحٍ يُفْضِي إِلَى الزَّهُوقِ كَيْفَ كَانَ؛ لِمَا رَوَاهُ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَصَابَ النَّاسُ غَنَمًا وَإِبِلاً فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ بِهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذِهِ الْبَهَائِمَ لَهَا أَوَابِدُ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا (1) ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَال: " مَا أَعْجَزَكَ مِنَ الْبَهَائِمِ مِمَّا فِي يَدِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّوَحُّشِ مُجَرَّدَ الإِْفْلاَتِ بَل مَتَى تَيَسَّرَ اللُّحُوقُ بِهِ بِعَدْوٍ أَوِ اسْتِعَانَةٍ بِمَنْ يُمْسِكُهُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ تَوَحُّشًا وَلاَ يَحِل حِينَئِذٍ إِلاَّ بِالذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ.
وَفَرَّقَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الْفِرَارِ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْفِرَارِ فِي الْمِصْرِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّاةِ.
فَقَالُوا: إِذَا شَرَدَتِ الشَّاةُ فِي الصَّحْرَاءِ تُذْبَحُ اضْطِرَارًا، وَلَهُ أَنْ يَجْرَحَهَا مِنْ أَيِّ مَكَانٍ مِنْ
__________
(1) حديث: " إن هذه البهائم لها أوابد ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 188 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1558 - ط. الحلبي) .(25/327)
بَدَنِهَا حَتَّى وَإِنْ أَصَابَ فِي قَرْنِهَا أَوْ ظِلْفِهَا وَأَدْمَاهَا ثُمَّ مَاتَتْ حَل أَكْلُهَا لِتَعَذُّرِ ذَبْحِهَا الْعَادِيِّ.
أَمَّا إِذَا شَرَدَتْ فِي الْمِصْرِ فَلاَ يَجُوزُ ذَبْحُهَا اضْطِرَارًا لأَِنَّ ذَكَاتَهَا الْعَادِيَّةَ غَيْرُ مُتَعَذِّرَةٍ.
وَإِلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ ذَهَبَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَكَذَا ابْنُ حَبِيبٍ مِنْهُمْ فِي الْبَقَرَةِ الشَّارِدَةِ خَاصَّةً.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَرَبِيعَةُ إِلَى أَنَّ الشَّارِدَ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَغَيْرِهَا، لاَ يَحِل إِلاَّ بِذَكَاتِهِ فِي مَوْضِعِ الذَّبْحِ الْمُعْتَادِ - الْحَلْقِ أَوِ اللَّبَّةِ - وَلاَ يَتَغَيَّرُ مَوْضِعُ الذَّكَاةِ بِشُرُودِهِ وَتَوَحُّشِهِ (1) . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ (2)
انْظُرْ: (ذَبْح، ذَكَاة، صَيْد) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 192، القوانين الفقهية ص 182، المجموع للنووي 9 / 122، المغني لابن قدامة 8 / 566.
(2) حديث: " الذكاة في الحلق واللبة ". أخرجه الدارقطني (4 / 283 - ط. دار المحاسن) من حديث أبي هريرة نقل الزيلعي عن ابن عبد الهادي أنه قال عن إسناده: " هذا إسناد ضعيف بمرة " كذا في نصب الراية (4 / 185 - ط المجلس العلمي) .(25/327)
شَارِع
انْظُرْ: ارْتِفَاق، حُكْم حَاكِمٍ، طَرِيق
شَاة
انْظُرْ: غَنَم
شَاهِين
انْظُرْ: أَطْعِمَة، صَيْد(25/328)
شُؤْم
التَّعْرِيفُ:
1 - الشُّؤْمُ لُغَةً: الشَّرُّ، وَرَجُلٌ مَشْئُومٌ: غَيْرُ مُبَارَكٍ، وَتَشَاءَمَ الْقَوْمُ بِهِ مِثْل تَطَيَّرُوا بِهِ، وَالتَّشَاؤُمُ تَوَقُّعُ الشَّرِّ (1) . فَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا أَرَادَتِ الْمُضِيَّ لِمُهِمٍّ تَطَيَّرَتْ بِأَنْ مَرَّتْ بِجَاثِمِ الطَّيْرِ، فَتُثِيرُهَا لِتَسْتَفِيدَ: هَل تَمْضِي أَوْ تَرْجِعُ؟ فَإِنْ ذَهَبَ الطَّيْرُ شِمَالاً تَشَاءَمُوا فَرَجَعُوا وَإِنْ ذَهَبَ يَمِينًا تَيَامَنُوا فَمَضَوْا (2) . فَنَهَى الشَّارِعُ عَنْ ذَلِكَ وَقَال: لاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَّةَ (3) وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْفَأْل:
2 - الْفَأْل: قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يُسْتَبْشَرُ بِهِ.
__________
(1) المصباح المنير (مادة: شؤم) .
(2) المصباح المنير (مادة: طير) .
(3) حديث: " لا طيرة ولا هامة ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 171 ط السلفية) ومسلم (4 / 1742 - 1743 ط الحلبي) .(25/328)
يُقَال: تَفَاءَل بِالشَّيْءِ تَفَاؤُلاً وَفَأْلاً، وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِيمَا يُكْرَهُ، يُقَال: لاَ فَأْل عَلَيْكَ؛ أَيْ: لاَ ضَيْرَ عَلَيْكَ. وَفِي الْحَدِيثِ: أَحْسَنُهَا الْفَأْل (1) وَهُوَ أَنْ يَسْمَعَ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ فَيَتَيَمَّنَ بِهَا، وَهُوَ ضِدُّ الطِّيَرَةِ، كَأَنْ يَسْمَعَ مَرِيضٌ: يَا سَالِمُ، أَوْ طَالِبٌ: يَا وَاجِدُ (2) . وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ أَنْ يَسْمَعَ يَا رَاشِدُ يَا نَجِيحُ (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى كَرَاهَةِ التَّشَاؤُمِ وَالطِّيَرَةِ دُونَ الْفَأْل.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لاَ يَتَطَيَّرُ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَرْضًا سَأَل عَنِ
__________
(1) حديث: " أحسنها الفأل ". أخرجه أبو داود (4 / 235 - تحقيق عزت عبيد الدعاس) والبيهقي (8 / 139 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عروة بن عامر مرسلا.
(2) لسان العرب، والمعجم الوسيط مادة (فأل) .
(3) حديث: " كان يعجبه إذا خرج. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 161 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك وقال: حديث حسن صحيح.(25/329)
اسْمِهَا، فَإِنْ كَانَ حَسَنًا رُئِيَ الْبِشْرُ فِي وَجْهِهِ وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا رُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَكَانَ إِذَا بَعَثَ رَجُلاً سَأَل عَنِ اسْمِهِ فَإِنْ كَانَ حَسَنَ الاِسْمِ رُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا رُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ (1) .
وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلاَثَةٍ: فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ (2) . وَقَال ابْنُ مُفْلِحٍ: إِنَّهُ قَوْل غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الأَْصْحَابِ. وَقَال: الأَْوْلَى الْقَطْعُ بِتَحْرِيمِهَا، وَلَعَل مُرَادَهُمْ بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمُ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ التَّشَاؤُمَ وَالطِّيَرَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّهُ يَحْرُمَ اعْتِقَادُهَا وَالْعَمَل بِهَا. وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ وَلاَ مَنْ تُطُيِّرَ لَهُ (3) . وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطِّيَرَةُ شِرْكٌ وَمَا مِنَّا
__________
(1) حديث: " كان لا يتطير من شيء. . . ". أخرجه أحمد (5 / 347 - 348 - ط الميمنية) . وأبو داود (2 / 236 - تحقيق عزت عبيد الدعاس) من حديث بريدة، وحسنه الحافظ في الفتح (10 / 215 - ط السلفية) .
(2) حديث: " إنما الشؤم في ثلاثة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 60 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1747 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(3) حديث: " ليس منا من تطير. . . . ". رواه البزار - كما في الترغيب والمجمع - من حديث عمران وقال المنذري (4 / 33 - ط الحلبي) : " إسناده جيد، ورواه الطبراني من حديث ابن عباس بإسناد حسن ".(25/329)
إِلاَّ تَطَيَّرَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّل (1) . قَال النَّوَوِيُّ: كَانَتْ تَصُدُّهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْوْقَاتِ عَنْ مَصَالِحِهِمْ، فَنَفَى الشَّرْعُ ذَلِكَ وَأَبْطَلَهُ وَنَهَى عَنْهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ بِنَفْعٍ وَلاَ بِضُرٍّ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ طِيَرَةَ (2) . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: الطِّيَرَةُ شِرْكٌ أَيْ: اعْتِقَادُ أَنَّهَا تَنْفَعُ أَوْ تَضُرُّ إِذَا عَمِلُوا بِمُقْتَضَاهَا مُعْتَقِدِينَ تَأْثِيرَهَا فَهُوَ شِرْكٌ لأَِنَّهُمْ جَعَلُوا لَهَا أَثَرًا فِي الْفِعْل وَالإِْيجَادِ، وَأَمَّا الْفَأْل، وَقَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ الصَّالِحَةِ وَالْحَسَنَةِ وَالطَّيِّبَةِ.
قَال الْعُلَمَاءُ: يَكُونُ الْفَأْل فِيمَا يَسُرُّ وَفِيمَا يَسُوءُ، وَالْغَالِبُ فِي السُّرُورِ، وَالطِّيَرَةُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِيمَا يَسُوءُ. قَالُوا: وَقَدْ يُسْتَعْمَل مَجَازًا فِي السُّرُورِ يُقَال: تَفَاءَلْتُ بِكَذَا، بِالتَّخْفِيفِ، وَتَفَأَّلْت بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ الأَْصْل.
قَال الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا أُحِبُّ الْفَأْل لأَِنَّ الإِْنْسَانَ إِذَا أَمَّل فَائِدَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلَهُ عِنْدَ سَبَبٍ قَوِيٍّ أَوْ ضَعِيفٍ، فَهُوَ عَلَى خَيْرٍ فِي الْحَال وَإِنْ غَلَطَ فِي جِهَةِ الرَّجَاءِ، فَالرَّجَاءُ لَهُ
__________
(1) حديث: " الطيرة شرك ". أخرجه أحمد (1 / 389، 438 - ط الميمنية) ، وأبو داود (4 / 230 - تحقيق عزت عبيد الدعاس) ، والترمذي (4 / 161 - ط الحلبي) . وقال: حسن صحيح) . وقال الحافظ: وقوله: " وما منا إلا " من كلام ابن مسعود أدرج في الخبر (الفتح 10 / 214 ط السلفية) .
(2) حديث: " لا طيرة " تقدم تخريجه ف1.(25/330)
خَيْرٌ، وَأَمَّا إِذَا قَطَعَ رَجَاءَهُ وَأَمَلَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ ذَلِكَ شَرٌّ لَهُ، وَالطِّيَرَةُ فِيهَا سُوءُ الظَّنِّ، وَتَوَقُّعُ الْبَلاَءِ (1) . وَانْظُرْ أَيْضًا: (تَطَيُّر. تَفَاؤُل) .
شُؤْمُ الْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ وَالْمَسْكَنِ:
4 - قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلاَثَةٍ: فِي الْفَرَسِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ (2) . وَعَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ مَرْفُوعًا إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ وَالْمَسْكَنِ (3) حَمَل مَالِكٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَبَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ.
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: قَال ابْنُ قُتَيْبَةَ: " وَجْهُهُ أَنَّ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَطَيَّرُونَ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَمَهُمْ أَنْ لاَ طِيَرَةَ، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا بَقِيَتِ الطِّيَرَةُ فِي هَذِهِ الأَْشْيَاءِ الثَّلاَثَةِ: فَأَخَذَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: " إِنَّمَا عَنَى أَنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ هِيَ أَكْثَرُ مَا يَتَطَيَّرُ بِهِ النَّاسُ، فَمَنْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ أُبِيحَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ وَيَسْتَبْدِل بِهِ غَيْرَهُ ".
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 14 / 219، 220.
(2) حديث: " إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس والمرأة والدار ". تقدم تخريجه.
(3) حديث: " إن كان الشؤم في شيء ففي المرأة. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 60 ط السلفية) ومسلم (4 / 1748 ط الحلبي) تقدم تخريجه ف3.(25/330)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ شُؤْمَ الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ وَلُودٍ، وَشُؤْمَ الْفَرَسِ إِذَا لَمْ يُغْزَ عَلَيْهِ أَوْ كَانَتْ ضَرُوبًا، وَشُؤْمَ الدَّارِ جَارُ السُّوءِ أَوْ كَانَتْ بَعِيدَةً عَنِ الْمَسْجِدِ، وَقَدْ أَنْكَرَتْهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عِنْدَمَا سَمِعَتْهُ وَاعْتَبَرَتْهُ مِنْ أَوْهَامِ رَاوِيهِ، وَأَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ فِي رِوَايَتِهِ. فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ دَخَلاَ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالاَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَال: الطِّيَرَةُ فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ فَغَضِبَتْ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَتْ: " مَا قَالَهُ ". وَإِنَّمَا قَال: إِنَّ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَطَيَّرُونَ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: وَلاَ مَعْنَى لإِِنْكَارِ ذَلِكَ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ مَعَ مُوَافَقَةِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبْعَثْ لِيُخْبِرَ النَّاسَ عَنْ مُعْتَقَدَاتِهِمُ الْمَاضِيَةِ وَالْحَاصِلَةِ، وَإِنَّمَا بُعِثَ لِيُعَلِّمَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَعْتَقِدُوهُ (1) .
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري (6 / 61 - ط السلفية) ، شرح صحيح مسلم للنووي (14 / 218 - 222) المطبعة المصرية، سنن أبي داود مع شرحه للخطابي، (4 / 236 - 237 - ط عزت عبيد الدعاس) .(25/331)
التَّسْمِيَةُ بِمَا يُتَطَيَّرُ بِهِ:
5 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهِيَةِ تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ بِمَا يُتَطَيَّرُ بِنَفْيِهِ أَوْ إِثْبَاتِهِ، كَبَرَكَةٍ وَغَنِيمَةٍ، وَنَافِعٍ، وَيَسَارٍ، وَحَرْبٍ، وَقُرَّةٍ، وَشِهَابٍ وَحِمَارٍ؛ لِحَدِيثِ سَمُرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُسَمِّ غُلاَمَكَ يَسَارًا وَلاَ رَبَاحًا وَلاَ نَجِيحًا، وَلاَ أَفْلَحَ، فَإِنَّكَ تَقُول: أَثَمَّ هُوَ، فَلاَ يَكُونُ. فَتَقُول: لاَ (1) .
فَرُبَّمَا كَانَ طَرِيقًا إِلَى التَّشَاؤُمِ وَالتَّطَيُّرِ، فَالنَّهْيُ يَتَنَاوَل مَا يَطْرُقُ إِلَى الطِّيَرَةِ إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَحْرُمُ؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ الآْذِنَ عَلَى مَشْرَبَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدٌ يُقَال لَهُ: رَبَاحٌ (2) . وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ (تَسْمِيَة ف 12) .
__________
(1) حديث: " لا تسم غلامك يسارا ". شطر من حديث أخرجه مسلم (3 / 1685 - ط الحلبي) من حديث سمرة بن جندب.
(2) القليوبي 4 / 256 - ط الحلبي، كشاف القناع 3 / 26 - ط الرياض. وحديث: " أن الآذن على. . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 278 - 279 - ط السلفية) . ومسلم (2 / 1105 - 1108 - ط الحلبي) واللفظ له من حديث عمر بن الخطاب.(25/331)
شِبَع
التَّعْرِيفُ:
1 - الشِّبَعُ: مَعْرُوفٌ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْبِطْنَةُ:
2 - الْبِطْنَةُ لُغَةً: الاِمْتِلاَءُ الشَّدِيدُ مِنَ الطَّعَامِ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشِّبَعِ:
الأَْكْل مِنَ الطَّعَامِ الْحَلاَل فَوْقَ الشِّبَعِ:
3 - مِنْ آدَابِ الأَْكْل الاِعْتِدَال فِي الطَّعَامِ وَعَدَمُ مِلْءِ الْبَطْنِ، وَأَكْثَرُ مَا يَسُوغُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَجْعَل الْمُسْلِمُ بَطْنَهُ أَثْلاَثًا: ثُلُثًا لِلطَّعَامِ وَثُلُثًا لِلشَّرَابِ وَثُلُثًا لِلنَّفَسِ؛ لِحَدِيثِ: مَا مَلأََ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ
__________
(1) مختار الصحاح ومتن اللغة ولسان العرب مادة (شبع) وابن عابدين 5 / 215.
(2) مختار الصحاح ومتن اللغة.(25/332)
فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ (1) . وَلاِعْتِدَال الْجَسَدِ وَخِفَّتِهِ؛ لأَِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الشِّبَعِ ثِقَل الْبَدَنِ، وَهُوَ يُورِثُ الْكَسَل عَنِ الْعِبَادَةِ وَالْعَمَل، وَيُعْرَفُ الثُّلُثُ بِالاِقْتِصَارِ عَلَى ثُلُثِ مَا كَانَ يَشْبَعُ بِهِ، وَقِيل يُعْرَفُ بِالاِقْتِصَارِ عَلَى نِصْفِ الْمُدِّ، وَاسْتَظْهَرَ النَّفْرَاوِيُّ الأَْوَّل لاِخْتِلاَفِ النَّاسِ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ مَنْ لاَ يُضْعِفُهُ قِلَّةُ الشِّبَعِ، وَإِلاَّ فَالأَْفْضَل فِي حَقِّهِ اسْتِعْمَال مَا يَحْصُل لَهُ بِهِ النَّشَاطُ لِلْعِبَادَةِ، وَاعْتِدَال الْبَدَنِ (2) .
وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: الأَْكْل عَلَى مَرَاتِبَ: فَرْضٍ: وَهُوَ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلاَكُ، فَإِنْ تَرَكَ الأَْكْل وَالشُّرْبَ حَتَّى هَلَكَ فَقَدْ عَصَى.
وَمَأْجُورٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الصَّلاَةِ قَائِمًا، وَيُسَهِّل عَلَيْهِ الصَّوْمَ.
وَمُبَاحٌ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الشِّبَعِ لِتَزْدَادَ قُوَّةُ الْبَدَنِ وَلاَ أَجْرَ فِيهِ وَلاَ وِزْرَ وَيُحَاسَبُ عَلَيْهِ حِسَابًا يَسِيرًا إِنْ كَانَ مِنْ حِلٍّ.
وَحَرَامٌ، وَهُوَ الأَْكْل فَوْقَ الشِّبَعِ إِلاَّ إِذَا
__________
(1) حديث: " ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن ". أخرجه الترمذي (4 / 590 - ط الحلبي) من حديث المقدام بن معدي يكرب وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) الآداب الشرعية 3 / 199.(25/332)
قَصَدَ بِهِ التَّقَوِّيَ عَلَى صَوْمِ الْغَدِ، أَوْ لِئَلاَّ يَسْتَحْيِ الضَّيْفُ فَلاَ بَأْسَ بِأَكْلِهِ فَوْقَ الشِّبَعِ (1) .
وَقَال ابْنُ الْحَاجِّ: الأَْكْل فِي نَفْسِهِ عَلَى مَرَاتِبَ، وَاجِبٌ، وَمَنْدُوبٌ، وَمُبَاحٌ، وَمَكْرُوهٌ. وَمُحَرَّمٌ. فَالْوَاجِبُ: مَا يُقِيمُ بِهِ صُلْبَهُ لأَِدَاءِ فَرْضِ رَبِّهِ؛ لأَِنَّ مَا لاَ يُتَوَصَّل إِلَى الْوَاجِبِ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
وَالْمَنْدُوبُ: مَا يُعِينُهُ عَلَى تَحْصِيل النَّوَافِل وَعَلَى تَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَاتِ.
وَالْمُبَاحُ: الشِّبَعُ الشَّرْعِيُّ. وَالْمَكْرُوهُ: مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ قَلِيلاً وَلَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ، وَالْمُحَرَّمُ: الْبِطْنَةُ. وَهُوَ الأَْكْل الْكَثِيرُ الْمُضِرُّ لِلْبَدَنِ (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: يُكْرَهُ أَنْ يَأْكُل مِنَ الطَّعَامِ الْحَلاَل فَوْقَ شِبَعِهِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ أَكْلُهُ كَثِيرًا بِحَيْثُ لاَ يُؤْذِيهِ (4) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 336 وانظر الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 210.
(2) المدخل 1 / 212.
(3) روضة الطالبين 3 / 291.
(4) الآداب الشرعية 3 / 199، والفروع 5 / 302.(25/333)
وَفِي الْفُتْيَةِ: يُكْرَهُ مَعَ خَوْفِ تُخَمَةٍ. وَنُقِل عَنِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ كَرَاهَةُ الأَْكْل الْمُؤَدِّي إِلَى التُّخَمَةِ كَمَا نُقِل عَنْهُ تَحْرِيمُهُ (1) .
شِبَعُ الْمُضْطَرِّ مِنَ الْمَيْتَةِ:
4 - إِذَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ مَرْجُوَّةَ الزَّوَال، فَيُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُل مِنَ الْمَيْتَةِ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ وَيَأْمَنُ مَعَهُ الْمَوْتَ، بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ، وَيَحْرُمُ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ بِالإِْجْمَاعِ (2) .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الشِّبَعِ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَابْنُ حَبِيبٍ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّ لِلْمُضْطَرِّ أَكْل مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ فَقَطْ. وَلَيْسَ لَهُ الشِّبَعُ لأَِنَّهُ بَعْدَ سَدِّ الرَّمَقِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَكْل الْمَيْتَةِ كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالأَْكْل وَهُوَ غَيْرُ مُضْطَرٍّ (3) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ - وَاخْتَارَهَا
__________
(1) الفروع 5 / 302، الاختيارات 245.
(2) المغني مع الشرح الكبير 11 / 73، ومغني المحتاج 4 / 307.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 95 تحقيق محمد مطيع الحافظ، والمجموع 9 / 40، 52، ومغني المحتاج 4 / 307، ومطالب أولي النهى 6 / 318، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 55.(25/333)
أَبُو بَكْرٍ - أَنَّ الْمُضْطَرَّ يَجُوزُ لَهُ أَكْل الْمَيْتَةِ حَتَّى يَشْبَعَ؛ لأَِنَّ الضَّرُورَةَ تَرْفَعُ التَّحْرِيمَ فَيَعُودُ مُبَاحًا، وَمِقْدَارُ الضَّرُورَةِ هُوَ مِنْ حَالَةِ عَدَمِ الْقُوتِ إِلَى حَالَةِ وُجُودِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ إِنْ تَوَقَّعَ حَلاَلاً قَرِيبًا لَمْ يَجُزْ غَيْرُ سَدِّ الرَّمَقِ، وَإِلاَّ فَفِي قَوْلٍ: يَشْبَعُ، وَالأَْظْهَرُ سَدُّ الرَّمَقِ إِلاَّ أَنْ يَخَافَ تَلَفًا إِنِ اقْتَصَرَ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ فَتُبَاحُ لَهُ الزِّيَادَةُ بَل تَلْزَمُهُ لِئَلاَّ يُهْلِكَ نَفْسَهُ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ: (أَكْل، سَدُّ الرَّمَقِ، ضَرُورَة) .
__________
(1) الدسوقي 2 / 115، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 55 - 56، والمجموع 9 / 40، ومغني المحتاج 4 / 307، والمغني مع الشرح الكبير 11 / 73.(25/334)
شَبَه
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّبَهُ فِي اللُّغَةِ: الْمِثْل. وَكَذَلِكَ الشَّبَهُ وَالشَّبِيهُ، يُقَال: شَبَّهَهُ فُلاَنًا وَبِهِ: مَثَّلَهُ. وَأَشْبَهَ الشَّيْءُ الشَّيْءَ: صَارَ شَبِيهًا بِهِ وَمَاثَلَهُ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَجَمْعُ الشَّبَهِ أَشْبَاهٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
أَمَّا الأُْصُولِيُّونَ فَاسْتَعْمَلُوا الشَّبَهَ فِي مَعْنًى خَاصٍّ فَعَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ: بِأَنَّهُ الْوَصْفُ الَّذِي لاَ يُعْقَل مُنَاسَبَتُهُ لِحُكْمِ الأَْصْل فِي الْقِيَاسِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ فِي ذَاتِهِ، وَتُظَنُّ فِيهِ الْمُنَاسَبَةُ لاِلْتِفَاتِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ (2) .
وَعَرَّفَهُ آخَرُونَ بِأَنَّهُ مَا لاَ يَكُونُ مُنَاسِبًا
__________
(1) متن اللغة واللسان والمصباح المنير.
(2) حاشية الشربيني على جمع الجوامع وشرحه 2 / 286.(25/334)
لِذَاتِهِ، بَل يُوهِمُ الْمُنَاسَبَةَ. فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى مَسْلَكٌ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ.
يَقُول الْبُنَانِيُّ: وَالشَّبَهُ كَمَا يُسَمَّى بِهِ نَفْسُ الْمَسْلَكِ يُسَمَّى بِهِ الْوَصْفُ الْمُشْتَمِل عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَسْلَكُ (1) وَتَخْرِيجُ الْحُكْمِ بِهَذَا الْمَسْلَكِ يُسَمَّى بِقِيَاسِ الشَّبَهِ. مِثَال ذَلِكَ أَنْ يُقَال فِي إِزَالَةِ الْخَبَثِ: هِيَ طَهَارَةٌ تُرَادُ لِلصَّلاَةِ فَيَتَعَيَّنُ فِيهَا الْمَاءُ وَلاَ تَجُوزُ بِمَائِعٍ آخَرَ كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ، فَإِنَّ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ كَوْنِهَا طَهَارَةً تُرَادُ لِلصَّلاَةِ وَبَيْنَ تَعَيُّنِ الْمَاءِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ، فَإِنَّ الْحَدَثَ لاَ يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ إِلاَّ بِالتَّعَبُّدِ وَذَلِكَ بِالْمَاءِ، وَفِي الْخَبَثِ بِإِزَالَةِ عَيْنِهِ، لَكِنْ إِذَا اجْتَمَعَتْ أَوْصَافٌ، مِنْهَا مَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ كَكَوْنِهَا طَهَارَةً تُرَادُ لِلصَّلاَةِ، وَمِنْهَا مَا أَلْغَاهُ كَكَوْنِهَا طَهَارَةً عَنِ الْخَبَثِ تَوَهَّمْنَا مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي اعْتَبَرَهُ مُنَاسِبٌ لِلْحُكْمِ، وَأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُنَاسِبُ:
2 - الْمُنَاسِبُ: هُوَ الْمُلاَئِمُ لأَِفْعَال الْعُقَلاَءِ عَادَةً، كَمَا يُقَال: هَذِهِ اللُّؤْلُؤَةُ مُنَاسِبَةٌ بِهَذِهِ
__________
(1) حاشية البناني على جمع الجوامع 2 / 287.
(2) مسلم الثبوت 2 / 302، وحاشية الشربيني على جمع الجوامع وشرحه 2 / 287.(25/335)
اللُّؤْلُؤَةِ، بِمَعْنَى أَنَّ جَمْعَهَا مَعَهَا فِي سِلْكٍ مُوَافِقٌ لِعَادَةِ الْعُقَلاَءِ.
فَمُنَاسَبَةُ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ مُوَافِقَةٌ لِعَادَةِ الْعُقَلاَءِ فِي ضَمِّ الشَّيْءِ إِلَى مَا يُلاَئِمُهُ. وَتَخْرِيجُ الْمُنَاسَبَةِ يُسَمَّى بِتَخْرِيجِ الْمَنَاطِ؛ أَيْ تَعْيِينِ الْعِلَّةِ بِإِبْدَاءِ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ الْمُعَيَّنِ وَالْحُكْمِ مَعَ الاِقْتِرَانِ بَيْنَهُمَا، كَالإِْسْكَارِ فِي حَدِيثِ: كُل مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُل خَمْرٍ حَرَامٌ (1) فَهُوَ لإِِزَالَتِهِ الْعَقْل مُنَاسِبٌ لِلْحُرْمَةِ (2) .
ب - الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ وَالدَّوَرَانُ:
3 - الطَّرْدُ: هُوَ مُقَارَنَةُ الْحُكْمِ لِلْوَصْفِ مِنْ غَيْرِ مُنَاسَبَةٍ، كَقَوْل بَعْضِهِمْ فِي الْخَل: مَائِعٌ لاَ تُبْنَى الْقَنْطَرَةُ عَلَى جِنْسِهِ فَلاَ تُزَال بِهِ النَّجَاسَةُ كَالدُّهْنِ، بِخِلاَفِ الْمَاءِ فَتُبْنَى الْقَنْطَرَةُ عَلَى جِنْسِهِ فَتُزَال بِهِ النَّجَاسَةُ، فَبِنَاءُ الْقَنْطَرَةِ وَعَدَمُهُ لاَ مُنَاسَبَةَ فِيهِ لِلْحُكْمِ أَصْلاً، وَإِنْ كَانَ مُطَّرِدًا لاَ نَقْضَ عَلَيْهِ، وَأَكْثَرُ الأُْصُولِيِّينَ عَلَى عَدَمِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِ.
وَمُقَابِل الطَّرْدِ هُوَ الْعَكْسُ، وَهُوَ انْتِفَاءُ
__________
(1) حديث: " كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ". أخرجه مسلم (3 / 1588 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر.
(2) جمع الجوامع مع الشرح 2 / 273 - 274.(25/335)
الْحُكْمِ لاِنْتِفَاءِ الْوَصْفِ وَالْعِلَّةِ. وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّ الشَّبَهَ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْمُنَاسِبِ وَالطَّرْدِ، فَإِنَّهُ يُشْبِهُ الطَّرْدَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ بِالذَّاتِ وَيُشْبِهُ الْمُنَاسِبَ بِالذَّاتِ مِنْ حَيْثُ الْتِفَاتُ الشَّارِعِ إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَيُوهِمُ الْمُنَاسَبَةَ (1) .
وَالدَّوَرَانُ: هُوَ الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ مَعًا؛ أَيْ: كُلَّمَا وُجِدَ الْوَصْفُ وُجِدَ الْحُكْمُ، وَكُلَّمَا انْتَفَى الْوَصْفُ انْتَفَى الْحُكْمُ. وَهَذَا الْمَسْلَكُ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ فِي الْقِيَاسِ نَفَاهُ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَالْغَزَالِيِّ وَالآْمِدِيِّ.
وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ ظَنًّا أَوْ قَطْعًا عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ (2) . (ر: دَوَرَان)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي بَحْثِ اللَّقِيطِ أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى نَسَبَ اللَّقِيطِ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ، وَلَمْ تَكُنْ لأَِحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، أَوْ تَعَارَضَتْ فِيهِ بَيِّنَتَانِ وَسَقَطَتَا، يُعْرَضُ اللَّقِيطُ عَلَى الْقَافَةِ (3) .
__________
(1) جمع الجوامع 2 / 286، 291 - 292، 302 - 305.
(2) مسلم الثبوت 2 / 302.
(3) القافة جمع قائف: وهو من يعرف النسب بالشبه، ولا يختص بقوم، لأن المراعى فيها إنما هو إدراك الشبه فكل من عرف ذلك وتكررت منه الإصابة فهو قائف. وقيل: هي مختصة ببني مدلج من العرب لأن لهم في ذلك قوة ليست لغيرهم. (القليوبي 4 / 349، الزرقاني 6 / 110، والمغني 5 / 769 وما بعدها) .(25/336)
وَتَعْتَمِدُ الْقَافَةُ فِي مَعْرِفَتِهَا الأَْنْسَابَ بِالشَّبَهِ، فَيَلْحَقُ اللَّقِيطُ بِمَنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِ. وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل أَنَسٍ وَعَطَاءٍ، وَالأَْوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى الأَْخْذِ بِقَوْل الْقَائِفِ وَالاِعْتِمَادِ عَلَى الشَّبَهِ بِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَيْهَا مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَال: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدٍ وَأُسَامَةَ وَقَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَال: إِنَّ هَذِهِ الأَْقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَثْبُتُ نَسَبُ اللَّقِيطِ مِنْ وَاحِدٍ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، كَمَا يَثْبُتُ مِنَ اثْنَيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ إِذَا ادَّعَيَاهُ مَعًا. فَلَوْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا فَهُوَ ابْنُهُ مَا لَمْ يُبَرْهِنِ الآْخَرُ. وَلَمْ يَأْخُذُوا بِالشَّبَهِ وَقَوْل الْقَافَةِ لأَِنَّهُ مُجَرَّدُ ظَنٍّ وَتَخْمِينٍ، فَقَدْ يُوجَدُ الشَّبَهُ بَيْنَ الأَْجَانِبِ أَحْيَانًا، وَيَنْتَفِي بَيْنَ الأَْقَارِبِ (2) . وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ
__________
(1) القليوبي وعميرة 3 / 129، 4 / 349، والمغني 5 / 766، 769 وما بعدها، وحديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها مسرورا ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 56 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1082 ط. الحلبي) . واللفظ لمسلم.
(2) ابن عابدين 3 / 315، والمغني لابن قدامة 5 / 767.(25/336)
أَعْرَابِيًّا أَتَاهُ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلاَمًا أَسْوَدَ، فَقَال: هَل لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَال: نَعَمْ، قَال: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَال حُمْرٌ، قَال: فَهَل فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَال: نَعَمْ، قَال: فَأَنَّى كَانَ ذَلِكَ؟ قَال: أُرَاهُ عِرْقٌ نَزَعَهُ، قَال: فَلَعَل ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَلْحَقُ نَسَبُ اللَّقِيطِ بِمُلْتَقِطِهِ وَلاَ بِغَيْرِهِ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ أَوْ قَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى دَعْوَاهُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ الأَْخْذَ بِقَوْل الْقَائِفِ وَالاِعْتِمَادَ عَلَى الشَّبَهِ. لَكِنَّهُمْ أَخَذُوا بِالشَّبَهِ فِي مَسَائِل، مِنْهَا: إِذَا وَلَدَتْ زَوْجَةُ رَجُلٍ وَأَمَةُ آخَرَ وَاخْتَلَطَ الْوَلَدَانِ، وَلَمْ تَعْرِفْ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدَهَا، عَيَّنَتْهُ الْقَافَةُ، وَتَعْتَمِدُ الْقَافَةُ فِي مَعْرِفَتِهَا الأَْنْسَابَ بِالشَّبَهِ عَلَى أَبٍ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ لَمْ يُدْفَنْ، لاَ عَلَى شَبَهِ عَصَبَةِ الأَْبِ الْمَدْفُونِ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكْفِيَ قَائِفٌ وَاحِدٌ (2) . وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي
__________
(1) حديث: " أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 175 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1137 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) جواهر الإكليل 2 / 139، والزرقاني 6 / 110، والحطاب مع المواق 5 / 247 وحاشية الدسوقي 3 / 417، وتبصرة الحكام 2 / 108، 109.(25/337)
مُصْطَلَحَاتِ (قَافَة، لُقَطَة، نَسَب) .
5 - ثَانِيًا: قَرَّرَ الأُْصُولِيُّونَ أَنَّهُ لاَ بُدَّ لِلْحُكْمِ مِنْ عِلَّةٍ نَاطَهُ بِهَا الشَّرْعُ، رِعَايَةً لِلْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالأُْخْرَوِيَّةِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ طَرِيقٍ لإِِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ وَهُوَ الْمَسْلَكُ. وَهُنَاكَ مَسَالِكُ لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ، كَالنَّصِّ وَالإِْجْمَاعِ، وَالسَّبْرِ، وَالتَّقْسِيمِ، وَالْمُنَاسَبَةِ، مَعَ تَفْصِيلٍ فِيهَا (1) . وَمَسَالِكُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، كَالشَّبَهِ وَقِيَاسِهِ، وَالطَّرْدِ وَالدَّوَرَانِ وَنَحْوِهَا. وَقَدْ قَرَّرُوا أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ قِيَاسُ الْعِلَّةِ الْمُشْتَمِل عَلَى الْمُنَاسِبِ بِالذَّاتِ فَالشَّبَهُ لاَ اعْتِبَارَ لَهُ، وَلاَ يُصَارُ إِلَى قِيَاسِهِ اتِّفَاقًا، فَإِنْ تَعَدَّدَتِ الْعِلَّةُ يَتَعَذَّرُ الْمُنَاسِبُ بِالذَّاتِ، بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُ قِيَاسِ الشَّبَهِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل الْبَاقِلاَّنِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَلِكَ لِشَبَهِهِ بِالطَّرْدِ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: هُوَ حُجَّةٌ لِشَبَهِهِ بِالْمُنَاسِبِ، وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ قَالُوا: إِنَّ الشَّبَهَ عِلَّةٌ وَلَيْسَ بِمَسْلَكٍ، بَل إِنْ ثَبَتَ بِمَسْلَكٍ مِنَ الْمَسَالِكِ الأُْخَرِ يُقْبَل، وَإِلاَّ فَلاَ
__________
(1) مسلم الثبوت 2 / 294، 295 وما بعدها.(25/337)
وَعَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
شِبْه الْعَمْدِ
انْظُرْ: قَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ
__________
(1) مسلم الثبوت 2 / 301، 302، وجمع الجوامع مع الشرح 2 / 287 وما بعدها.(25/338)
شُبْهَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الشُّبْهَةُ لُغَةً: مِنْ أَشْبَهَ الشَّيْءُ الشَّيْءَ؛ أَيْ مَاثَلَهُ فِي صِفَاتِهِ. وَالشِّبْهُ، وَالشَّبَهُ، وَالشَّبِيهُ: الْمِثْل. وَالْجَمْعُ: أَشْبَاهٌ، وَالتَّشْبِيهُ التَّمْثِيل. وَالشُّبْهَةُ: الْمَأْخَذُ الْمُلَبِّسُ وَالأُْمُورُ الْمُشْتَبِهَةُ أَيْ: الْمُشْكِلَةُ لِشَبَهِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ (1) .
وَاصْطِلاَحًا هِيَ: مَا لَمْ يُتَيَقَّنْ كَوْنُهُ حَرَامًا أَوْ حَلاَلاً. أَوْ مَا جُهِل تَحْلِيلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَتَحْرِيمُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ. أَوْ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ (2) .
مَا تَتَنَاوَلُهُ الشُّبْهَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ:
2 - فَسَّرَ الْعُلَمَاءُ الشُّبْهَةَ بِأَرْبَعَةِ تَفْسِيرَاتٍ:
الأَْوَّل: مَا تَعَارَضَتْ فِيهِ الأَْدِلَّةُ.
الثَّانِي: مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَهُوَ مُتَفَرِّعٌ مِنَ الأَْوَّل.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة (شبه) .
(2) مصطلح (اشتباه) الموسوعة 4 / 290.(25/338)
الثَّالِثُ: الْمَكْرُوهُ.
الرَّابِعُ: الْمُبَاحُ الَّذِي تَرْكُهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ.
وَيَدُل لِلتَّفْسِيرِ الأَْوَّل وَالثَّانِي مَا جَاءَ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْحَلاَل بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْل الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُل مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ (1) .
وَوَجْهُ الدَّلِيل قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ لاَ يَدْرِي كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَمِنَ الْحَلاَل هِيَ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ.
وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: " كَثِيرٌ " أَنَّ مَعْرِفَةَ حُكْمِهَا مُمْكِنٌ لِلْقَلِيل مِنَ النَّاسِ وَهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ.
__________
(1) حديث: " الحلال بيّن والحرام بيّن. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 126 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1219 - 1220 - ط الحلبي) والترمذي (3 / 502 - ط الحلبي) ، واللفظ للبخاري.(25/339)
فَالشُّبَهُ تَكُونُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لاَ يَظْهَرُ لَهُمْ تَرْجِيحُ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ، أَوْ مَعْرِفَةُ الرَّاجِحِ مِنْ أَقْوَال الْعُلَمَاءِ. مَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الْحَال لاَ يُقَال: إِنَّهُ مِنَ الْحَلاَل الْبَيِّنِ وَلاَ مِنَ الْحَرَامِ الْبَيِّنِ، وَالْمُتَبَيِّنُ: هُوَ مَا لاَ إِشْكَال فِيهِ وَهُوَ مَا يَدُل عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فِي قَوْلِهِ: الْحَلاَل بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ.
وَيَدُل لِلتَّفْسِيرِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ أَنَّ الْمَكْرُوهَ يَتَجَاذَبُهُ جَانِبَا الْفِعْل وَالتَّرْكِ، وَكَذَلِكَ الْمُبَاحُ الَّذِي لاَ يُقْصَدُ بِهِ هُنَا مَا اسْتَوَى فِيهِ الْفِعْل وَالتَّرْكُ، بَل يُقْصَدُ بِهِ مَا كَانَ خِلاَفَ الأَْوْلَى، بِأَنْ يَكُونَ مُتَسَاوِيَ الطَّرَفَيْنِ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ، رَاجِحَ التَّرْكِ عَلَى الْفِعْل بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ لأَِنَّ مَنِ اسْتَكْثَرَ مِنَ الْمَكْرُوهِ اجْتَرَأَ عَلَى الْحَرَامِ، وَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنَ الْمُبَاحِ اجْتَرَأَ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَقَدْ يَحْمِل اعْتِيَادُ تَعَاطِي الْمَكْرُوهِ - وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ غَيْرُ الْمُحَرَّمِ - عَلَى ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الْمُحَرَّمِ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ.
وَيَدُل لَهُ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الْحَلاَل، مَنْ فَعَل اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَلِدِينِهِ (1) . وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَلاَل حَيْثُ يُخْشَى أَنْ يُؤَوَّل فِعْلُهُ مُطْلَقًا
__________
(1) حديث: " اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة. . . . ". أخرجه ابن حبان (الإحسان 7 / 437 - ط دار الكتب العلمية) .(25/339)
إِلَى مَكْرُوهٍ أَوْ مُحَرَّمٍ، يَنْبَغِي اجْتِنَابُهُ، كَالإِْكْثَارِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، فَإِنَّهُ يُحْوِجُ إِلَى كَثْرَةِ الاِكْتِسَابِ الْمُوقِعِ فِي أَخْذِ مَا لاَ يَسْتَحِقُّ أَوْ يُفْضِي إِلَى بَطَرِ النَّفْسِ.
وَيُرَاجَعُ كَذَلِكَ مُصْطَلَحَاتُ: (إِبَاحَة، حَلاَل، سَدّ الذَّرَائِعِ) (1) .
أَقْسَامُ الشُّبْهَةِ:
3 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الشُّبْهَةَ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ، اتَّفَقَا فِي اثْنَيْنِ مِنْهَا وَانْفَرَدَ كُل مَذْهَبٍ بِقَسَمٍ ثَالِثٍ.
فَاتَّفَقَ الْمَذْهَبَانِ فِي الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَشُبْهَةِ الْفَاعِل.
أَمَّا الْقِسْمُ الأَْوَّل فَهُوَ الشُّبْهَةُ الْحُكْمِيَّةُ، وَتُسَمَّى شُبْهَةَ الْمَحَل؛ أَيِ الْمِلْكِ.
وَسُمِّيَتْ حُكْمِيَّةً لأَِنَّ حِل الْمَحَل ثَبَتَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ. أَوْ شُبْهَةُ حُكْمِ الشَّرْعِ بِحِل الْمَحَل، لأَِنَّ نَفْسَ حُكْمِ الشَّرْعِ وَمَحَلَّهُ لَمْ يَثْبُتْ وَإِنَّمَا الثَّابِتُ شُبْهَتُهُ لِكَوْنِ دَلِيل الْحِل عَارَضَهُ مَانِعٌ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: وَطْءُ مُعْتَدَّةِ الْكِنَايَاتِ وَالْوَطْءِ فِي الْخُلْعِ الْخَالِي عَنِ الْمَال. وَسُمِّيَتْ
__________
(1) كشف الشبهات عن المشتبهات للشوكاني ص 3 - 11 نشر مكتبة الحرمين بالدمام، فتح الباري 1 / 127، فتح المبين ص 112، 113.(25/340)
هَذِهِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةَ الْمِلْكِ لأَِنَّ الشُّبْهَةَ وَارِدَةٌ عَلَى كَوْنِ الْمَحَل مَمْلُوكًا.
أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ شُبْهَةُ الْفِعْل: وَتُسَمَّى شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ؛ أَيْ شُبْهَةً فِي حَقِّ مَنْ حَصَل لَهُ اشْتِبَاهٌ، وَذَلِكَ إِذَا ظَنَّ الْحِل؛ لأَِنَّ الظَّنَّ هُوَ الشُّبْهَةُ لِعَدَمِ دَلِيلٍ قَائِمٍ تَثْبُتُ بِهِ الشُّبْهَةُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ شُبْهَةِ الْفِعْل وَشُبْهَةِ الْمَحَل أَنَّ الشُّبْهَةَ فِي شُبْهَةِ الْمَحَل جَاءَتْ مِنْ دَلِيل حِل الْمَحَل فَلاَ حَاجَةَ فِيهِ إِلَى ظَنِّ الْحِل.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ شُبْهَةِ الْفِعْل: وَطْءُ مُعْتَدَّةِ الثَّلاَثِ، وَوَطْءُ مُعْتَدَّةِ الطَّلاَقِ عَلَى مَالٍ، وَوَطْءُ الْمُخْتَلِعَةِ عَلَى مَالٍ.
وَانْفَرَدَ الْحَنَفِيَّةُ بِقِسْمِ شُبْهَةِ الْعَقْدِ: وَهُوَ مَا وُجِدَ فِيهِ صُورَةُ الْعَقْدِ لاَ حَقِيقَتُهُ وَمَثَّلُوا لَهُ بِمَنْ وَطِئَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ نِكَاحُهَا بِعَقْدٍ. وَلاَ تُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ يُوجِبُهُ إِنْ عَلِمَ الْحُرْمَةَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
وَانْفَرَدَ الشَّافِعِيَّةُ بِقِسْمِ شُبْهَةِ الطَّرِيقِ، أَوْ شُبْهَةِ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ الشُّبْهَةُ النَّاشِئَةُ عَنِ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمُجْتَهِدِينَ قَال بِالْحِل. وَمَثَّلُوا لَهُ بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ بِدُونِ وَلِيٍّ. وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ هَذَا(25/340)
الْقِسْمُ دَاخِلاً فِي الْقِسْمِ الأَْوَّل وَهُوَ مَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ (الشُّبْهَةَ الْحُكْمِيَّةَ) . (1)
حُكْمُ تَعَاطِي الشُّبُهَاتِ:
4 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى حُرْمَةِ تَعَاطِي شُبْهَةِ الْمَحَل، وَمَثَّلُوا لَهَا بِوَطْءِ الأَْمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ لِلإِْجْمَاعِ عَلَى حُرْمَتِهِ.
أَمَّا شُبْهَةُ الْفِعْل. فَلاَ تُوصَفُ بِحِلٍّ وَلاَ بِحُرْمَةٍ، كَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً يَظُنُّهَا حَلِيلَتَهُ لأَِنَّهُ فِي حَالَةِ الْغَفْلَةِ عَنِ الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مُكَلَّفٍ اتِّفَاقًا، وَمِنْ ثَمَّ حُكِيَ الإِْجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ إِثْمِهِ، وَإِذَا انْتَفَى التَّكْلِيفُ انْتَفَى وَصْفُ فِعْلِهِ بِالْحِل وَالْحُرْمَةِ، وَهَذَا مَحْمَل قَوْلِهِمْ: وَطْءُ الشُّبْهَةِ لاَ يُوصَفُ بِحِلٍّ وَلاَ حُرْمَةٍ.
أَمَّا شُبْهَةُ الطَّرِيقِ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِحَسَبِ مَنْ قُلِّدَ، فَإِنْ قَلَّدَ مَنْ قَال بِالتَّحْرِيمِ حَرُمَتْ، وَإِلاَّ لَمْ تَحْرُمْ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: حُرْمَةُ تَعَاطِي شُبْهَةِ الْمَحَل إِذَا كَانَ تَحْرِيمُهَا مُجْمَعًا عَلَيْهِ كَوَطْءِ الْمُخْتَلِعَةِ عَلَى مَالٍ، حَيْثُ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَنَّ الْخُلْعَ عَلَى مَالٍ يَقَعُ بَائِنًا، وَفِيمَا مَثَّل بِهِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 151 - 153، الإقناع 2 / 81 تحفة المحتاج 7 / 304، الاختيار 4 / 90.(25/341)
الشَّافِعِيَّةُ لِحُرْمَةِ تَعَاطِي شُبْهَةِ الْمَحِل مِنَ الْمُجْمَعِ عَلَى حُرْمَتِهِ، وَهُوَ وَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ مُوَافَقَةً لِلْحَنَفِيَّةِ. أَمَّا شُبْهَةُ الْفِعْل فَيُعْتَدُّ بِهَا شَرِيطَةَ أَنْ يَظُنَّ الْحِل، كَمَنْ وَطِئَ الْمُخْتَلِعَةَ عَلَى مَالٍ ظَانًّا الْحِل.
أَمَّا شُبْهَةُ الْعَقْدِ؛ فَالْمُفْتَى بِهِ عَدَمُ الاِعْتِدَادِ بِهَا فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ، وَهُوَ قَوْل الصَّاحِبَيْنِ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ.
وَقَدْ حَضَّتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى تَجَنُّبِ الشُّبُهَاتِ وَوُجُوبِ الاِسْتِبْرَاءِ مِنْهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الاِحْتِيَاطِ فِي الدِّينِ. يَدُل لَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ (1) وَفِي رِوَايَةٍ: فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِْثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِْثْمِ أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ (2) .
وَفِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قُسِّمَتِ الأَْحْكَامُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: الأَْوَّل: الْحَلاَل الْبَيِّنُ، وَالثَّانِي: الْحَرَامُ الْبَيِّنُ، وَالثَّالِثُ: مُشْتَبَهٌ لِخَفَائِهِ فَلاَ يُدْرَى هَل هُوَ حَلاَلٌ أَوْ حَرَامٌ، وَلِذَا يَنْبَغِي اجْتِنَابُهُ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ حَرَامًا فَقَدْ
__________
(1) حديث: " فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ". تقدم تخريجه ف 2.
(2) رواية: " فمن ترك ما شبه عليه. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 290 - ط السلفية) .(25/341)
بَرِئَ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ حَلاَلاً فَقَدْ أُجِرَ لِتَرْكِهِ الْحَلاَل بِنِيَّةِ تَجَنُّبِ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ.
وَاجْتِنَابُ الشُّبُهَاتِ عَلَى مَرَاتِبَ:
5 - الأُْولَى: مَا يَنْبَغِي اجْتِنَابُهُ لأَِنَّ ارْتِكَابَهُ يَسْتَلْزِمُ ارْتِكَابَ الْحَرَامِ وَهُوَ مَا يَكُونُ أَصْلُهُ التَّحْرِيمَ كَالصَّيْدِ الْمَشْكُوكِ فِي حِل اصْطِيَادِهِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ قَبْل ذَكَاتِهِ، فَإِذَا شَكَّ فِيهِ بَقِيَ عَلَى أَصْل التَّحْرِيمِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ الْحِل.
يَدُل لِهَذَا حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمِعْرَاضِ، فَقَال: إِذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُل وَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَل فَلاَ تَأْكُل، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ أُرْسِل كَلْبِي وَأُسَمِّي فَأَجِدُ مَعَهُ عَلَى الصَّيْدِ كَلْبًا آخَرَ لَمْ أُسَمِّ عَلَيْهِ وَلاَ أَدْرِي أَيُّهُمَا أَخَذَ، قَال: لاَ تَأْكُل إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الآْخَرِ. (1)
وَيَدُل لَهُ كَذَلِكَ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَال: إِنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ جَاءَتْ فَزَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا فَذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَتَبَسَّمَ
__________
(1) حديث عدي بن حاتم: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعراض. . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 92 - ط السلفية) .(25/342)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كَيْفَ وَقَدْ قِيل؟ وَقَدْ كَانَتْ تَحْتَهُ ابْنَةُ أَبِي إِهَابٍ التَّمِيمِيِّ (1) . وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ مِنَ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ وَقَدْ قِيل؟ مُشْعِرٌ بِأَنَّ أَمْرَهُ بِفِرَاقِ امْرَأَتِهِ إِنَّمَا كَانَ لأَِجْل قَوْل الْمَرْأَةِ: إِنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا، فَاحْتَمَل أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فَيَرْتَكِبُ الْحَرَامَ، فَأَمَرَهُ بِفِرَاقِهَا احْتِيَاطًا.
الثَّانِيَةُ: مَا أَصْلُهُ الإِْبَاحَةُ كَالطَّهَارَةِ إِذَا اسْتُوْفِيَتْ لاَ تُرْفَعُ إِلاَّ بِتَيَقُّنِ الْحَدَثِ. يَدُل لَهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُل يَجِدُ فِي الصَّلاَةِ شَيْئًا أَيَقْطَعُ الصَّلاَةَ؟ قَال: لاَ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا (2) . وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَنْ لَهُ زَوْجَةٌ وَشَكَّ هَل طَلَّقَ، فَلاَ عِبْرَةَ لِذَلِكَ وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى عِصْمَتِهِ.
الثَّالِثَةُ: مَا لاَ يَتَحَقَّقُ أَصْلُهُ وَيَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ، فَالأَْوْلَى تَرْكُهُ. يَدُل لَهُ حَدِيثُ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال -: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرَةٍ مَسْقُوطَةٍ فَقَال: لَوْلاَ أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً لأََكَلْتُهَا. (3) وَإِنَّمَا تَرَكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلَهَا تَوَرُّعًا
__________
(1) حديث عقبة بن الحارث: " كيف وقد قيل. . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 292 - ط السلفية) .
(2) حديث عبد الله بن زيد: " شُكي إلى النبي الرجل يجد في. . . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 294 - ط السلفية) .
(3) حديث أنس " مر النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة مسقوطة. . . . . ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 293 - ط السلفية) .(25/342)
وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ لأَِنَّ الأَْصْل أَنَّ كُل شَيْءٍ فِي بَيْتِ الإِْنْسَانِ عَلَى الإِْبَاحَةِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى التَّحْرِيمِ.
الرَّابِعَةُ: مَا يُنْدَبُ اجْتِنَابُهُ. وَمِثَالُهُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ اجْتِنَابُ مُعَامَلَةِ مَنِ الأَْقَل مِنْ مَالِهِ حَرَامٌ.
الْخَامِسَةُ: مَا يُكْرَهُ اجْتِنَابُهُ، وَمِثَالُهُ: اجْتِنَابُ الرُّخَصِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى سَبِيل التَّنَطُّعِ (1) . وَيُرَاجَعُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمُصْطَلَحِ (شُبْهَة) مُصْطَلَحُ " اشْتِبَاه " " وَإِبَاحَة " " وَتَعَارُض " " وَحَلاَل " " وَسَدّ الذَّرَائِعِ ". وَتُنْظَرُ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِبَحْثِ الشُّبْهَةِ فِي أَبْوَابِ " النِّكَاحِ " وَالْحُدُودِ وَالصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ وَالْبُيُوعِ.
شَتْمٌ
انْظُرْ: سَبّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 151 - 153، الإقناع 2 / 81، تحفة المحتاج 7 / 304، الاختيار 4 / 90، فتح المبين 112 - 113، فتح الباري 4 / 290 - 295، مواهب الجليل 2 / 530.(25/343)
شِجَاج
التَّعْرِيفُ:
1 - الشِّجَاجُ فِي اللُّغَةِ. جَمْعُ شَجَّةٍ، وَالشَّجَّةُ الْجِرَاحَةُ فِي الْوَجْهِ أَوِ الرَّأْسِ، وَلاَ تَكُونُ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْجَسَدِ. وَالشَّجَجُ: أَثَرُ الشَّجَّةِ فِي الْجَبِينِ (1) . وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ الشِّجَاجِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجِرَاحَةُ:
2 - الْجِرَاحَةُ أَعَمُّ مِنَ الشَّجَّةِ؛ إِذِ الشَّجَّةُ مَا كَانَتْ خَاصَّةً بِالرَّأْسِ أَوِ الْوَجْهِ، أَمَّا الْجِرَاحَةُ فَتُطْلَقُ عَلَى مَا أَصَابَ الْبَدَنَ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ طَعْنٍ فِي أَيِّ جُزْءٍ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الرَّأْسِ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) ابن عابدين 5 / 372 والبدائع 7 / 296، والدسوقي 4 / 250 - 251، ومغني المحتاج 4 / 26.(25/343)
أَمْ فِي الْوَجْهِ أَمْ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ أَجْزَاءِ الْجِسْمِ (1) .
ب - الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:
3 - الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ: كُل فِعْلٍ مُحَرَّمٍ وَقَعَ عَلَى الأَْطْرَافِ أَوِ الأَْعْضَاءِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْقَطْعِ أَمْ بِالْجَرْحِ أَمْ بِإِزَالَةِ الْمَنَافِعِ
(ر: جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ) .
فَالْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ أَعَمُّ مِنَ الشِّجَاجِ؛ لأَِنَّ الشِّجَاجَ جِنَايَةٌ عَلَى أَجْزَاءٍ خَاصَّةٍ مِنَ الْجِسْمِ وَهِيَ الرَّأْسُ وَالْوَجْهُ.
أَنْوَاعُ الشِّجَاجِ:
4 - تَتَنَوَّعُ الشِّجَاجُ بِحَسَبِ مَا تُحْدِثُهُ فِي الْجِسْمِ وَهِيَ عَشَرَةُ أَنْوَاعٍ أَوْ أَحَدَ عَشَرَ نَوْعًا مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي تَسْمِيَةِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الشِّجَاجِ وَفِي تَرْتِيبِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
(1) الْحَارِصَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَحْرِصُ الْجِلْدَ - أَيْ تَخْدِشُهُ - وَلاَ تُخْرِجُ الدَّمَ، وَتُسَمَّى أَيْضًا الْخَارِصَةَ.
(2) الدَّامِعَةُ: وَهِيَ الَّتِي تُظْهِرُ الدَّمَ وَلاَ تُسِيلُهُ كَالدَّمْعِ فِي الْعَيْنِ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير والبدائع 7 / 296.(25/344)
(3) الدَّامِيَةُ: وَهِيَ الَّتِي يَسِيل مِنْهَا الدَّمُ، وَقِيل: الدَّامِيَةُ هِيَ الَّتِي تُدْمِي دُونَ أَنْ يَسِيل مِنْهَا دَمٌ، وَالدَّامِعَةُ هِيَ الَّتِي يَسِيل مِنْهَا الدَّمُ.
وَيُسَمِّي الْحَنَابِلَةُ الدَّامِيَةَ وَالدَّامِعَةَ: بَازِلَةً، فَهِيَ عِنْدَهُمْ شَجَّةٌ وَاحِدَةٌ.
(4) الْبَاضِعَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ اللَّحْمَ بَعْدَ الْجِلْدِ شَقًّا خَفِيفًا.
(5) الْمُتَلاَحِمَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَغُوصُ فِي اللَّحْمِ فَتَذْهَبُ فِيهِ أَكْثَرَ مِمَّا تَذْهَبُ الْبَاضِعَةُ وَلاَ تَبْلُغُ السِّمْحَاقَ.
(6) السِّمْحَاقُ: وَهِيَ الَّتِي تَصِل إِلَى الْجِلْدَةِ الرَّقِيقَةِ الَّتِي بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ، وَهَذِهِ الْجِلْدَةُ تُسَمَّى السِّمْحَاقَ، فَسُمِّيَتِ الشَّجَّةُ بِاسْمِهَا لأَِنَّهَا تَصِل إِلَيْهَا.
(7) الْمُوضِحَةُ: وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ وَتَكْشِفُهُ.
(8) الْهَاشِمَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَهْشِمُ الْعَظْمَ وَتَكْسِرُهُ.
(9) الْمُنَقِّلَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَنْقُل الْعَظْمَ بَعْدَ كَسْرِهِ؛ أَيْ تُحَوِّلُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ.
(10) الآْمَّةُ: وَتُسَمَّى أَيْضًا الْمَأْمُومَةَ وَهِيَ الَّتِي تَصِل إِلَى أُمِّ الدِّمَاغِ وَهِيَ الْجِلْدَةُ الرَّقِيقَةُ(25/344)
الَّتِي تَجْمَعُ الدِّمَاغَ وَتُسَمَّى خَرِيطَةَ الدِّمَاغِ.
11 - الدَّامِغَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَخْرِقُ الْجِلْدَةَ الَّتِي تَجْمَعُ الدِّمَاغَ وَتَصِل إِلَى الدِّمَاغِ.
وَلاَ يَعِيشُ الإِْنْسَانُ مَعَهَا غَالِبًا، وَلِذَلِكَ يَسْتَبْعِدُهَا مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الشِّجَاجِ لأَِنَّهَا تُعْتَبَرُ قَتْلاً لِلنَّفْسِ لاَ شَجًّا. كَذَلِكَ اسْتَبْعَدَ مُحَمَّدٌ الْخَارِصَةَ لأَِنَّهُ لاَ يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ غَالِبًا. هَذِهِ هِيَ الشِّجَاجُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ كَالْجُمْهُورِ إِلاَّ أَنَّهُمْ سَمَّوْا السِّمْحَاقَ (الْمِلْطَاةَ) وَعَرَّفُوهَا: بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي قَرُبَتْ لِلْعَظْمِ وَلَمْ تَصِل إِلَيْهِ، وَأَطْلَقُوا السِّمْحَاقَ عَلَى مَا كَشَطَ الْجِلْدَ وَزَالَهُ عَنْ مَحَلِّهِ.
وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ الْجُمْهُورَ فِي تَرْتِيبِ الشِّجَاجِ فَهِيَ عِنْدَهُمْ: الدَّامِيَةُ، فَالْخَارِصَةُ، فَالسِّمْحَاقُ، فَالْبَاضِعَةُ، فَالْمُتَلاَحِمَةُ، فَالْمِلْطَاةُ، فَالْمُوضِحَةُ، فَالْمُنَقِّلَةُ، فَالآْمَّةُ، فَالدَّامِغَةُ (1) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالشِّجَاجِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً - مَا يَجِبُ فِي الشِّجَاجِ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ أَرْشٍ:
__________
(1) ابن عابدين 5 / 372، البدائع 7 / 296، والدسوقي 4 / 251 - 252، ومغني المحتاج 4 / 26، وكشاف القناع 6 / 51 - 52، الزاهر ص 362 - 364.(25/345)
5 - الْجِنَايَةُ فِي الشِّجَاجِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَمْدًا وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ خَطَأً. فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً فَفِيهَا قَبْل الْمُوضِحَةِ مِنَ الشِّجَاجِ حُكُومَةُ عَدْلٍ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَلاَ يُمْكِنُ إِهْدَارُهَا فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ إِنْ لَمْ تُعْرَفْ نِسْبَةُ الشَّجَّةِ مِنَ الْمُوضِحَةِ، فَإِنْ عُرِفَتْ نِسْبَةُ الشَّجَّةِ مِنَ الْمُوضِحَةِ وَجَبَ قِسْطٌ مِنْ أَرْشِهَا بِالنِّسْبَةِ، وَقِيل: يَجِبُ أَكْثَرُ مِنَ الْحُكُومَةِ وَالْقِسْطِ مِنَ الْمُوضِحَةِ، لأَِنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَإِنِ اسْتَوَيَا وَجَبَ أَحَدُهُمَا.
وَالْقَوْل بِوُجُوبِ الْقِسْطِ مِنْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ إِنْ عُرِفَتْ نِسْبَةُ الشَّجَّةِ مِنْهَا هُوَ قَوْل الْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَاسْتَبْعَدَهُ ابْنُ قُدَامَةَ.
وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ فِي الدَّامِيَةِ بَعِيرًا وَفِي الْبَاضِعَةِ بَعِيرَيْنِ وَفِي الْمُتَلاَحِمَةِ ثَلاَثَةَ أَبْعِرَةٍ وَفِي السِّمْحَاقِ أَرْبَعَةَ أَبْعِرَةٍ، لأَِنَّ هَذَا يُرْوَى عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي السِّمْحَاقِ مِثْل ذَلِكَ، رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْهُمَا، وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِيهَا(25/345)
نِصْفُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالصَّحِيحُ الأَْوَّل (أَيْ عَدَمُ التَّقْدِيرِ فِيمَا قَبْل الْمُوضِحَةِ) لأَِنَّهَا جِرَاحَاتٌ لَمْ يَرِدْ فِيهَا تَوْقِيتٌ فِي الشَّرْعِ فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ كَجِرَاحَاتِ الْبَدَنِ، وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ قَال: قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُوضِحَةِ بِخَمْسٍ مِنَ الإِْبِل وَلَمْ يَقْضِ فِيمَا دُونَهَا (1) .
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْخَطَأِ فِي جِنَايَةِ الشَّجَّةِ الَّتِي قَبْل الْمُوضِحَةِ، فَأَمَّا الْخَطَأُ فِي الْمُوضِحَةِ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الشِّجَاجِ فَفِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، فَفِي الْمُوضِحَةِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ وَهُوَ خَمْسٌ مِنْ الإِْبِل فِي الْحُرِّ الْمُسْلِمِ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الإِْبِل (2) .
وَقَدْ وَرَدَ تَفْصِيل دِيَاتِ الشِّجَاجِ فِي بَحْثِ (دِيَات) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ 21 83 ف 64 وَمَا بَعْدَهَا.
6 - وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ فِي الشِّجَاجِ عَمْدًا،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 373، الزيلعي 6 / 133، والفواكه الدواني 2 / 263، والدسوقي 4 / 270 - 271، ومغني المحتاج 4 / 59، كشاف القناع 5 / 558 و 6 / 52، والمغني 8 / 55 - 56.
(2) حديث: " في الموضحة خمس من الإبل ". أخرجه النسائي (8 / 58 - 59 - ط المكتبة التجارية) وخرجه ابن حجر في التلخيص (4 / 17 - 18 - ط شركة الطباعة الفنية) وتكلم على أسانيده، ونقل تصحيحه عن جماعة من العلماء.(25/346)
فَإِنْ كَانَتْ مُوضِحَةً فَفِيهَا الْقِصَاصُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (1) وَلأَِنَّهُ يُمْكِنُ الاِسْتِيفَاءُ فِيهَا بِغَيْرِ حَيْفٍ وَلاَ زِيَادَةٍ، لأَِنَّ لَهَا حَدًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ السِّكِّينُ وَهُوَ الْعَظْمُ، وَإِنْ كَانَتِ الشَّجَّةُ فَوْقَ الْمُوضِحَةِ كَالْمُنَقِّلَةِ وَالآْمَّةِ فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا، لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِيهَا فَلاَ يُوثَقُ بِاسْتِيفَاءِ الْمِثْل مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ بِخِلاَفِ الْمُوضِحَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ وَجَبَ الدِّيَةُ. لَكِنْ قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ جِنَايَةً فَوْقَ الْمُوضِحَةِ أَنْ يُقْتَصَّ مُوضِحَةً؛ لأَِنَّهُ يَقْتَصُّ بَعْضُ حَقِّهِ، وَيَقْتَصُّ مِنْ مَحَل جِنَايَتِهِ، وَإِذَا اقْتَصَّ مُوضِحَةً كَانَ لَهُ أَرْشُ مَا زَادَ عَلَى الْمُوضِحَةِ؛ لأَِنَّهُ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ فِيهِ فَانْتَقَل إِلَى الْبَدَل، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَرْشُ مَا زَادَ عَلَى الْمُوضِحَةِ؛ لأَِنَّهُ جَرْحٌ وَاحِدٌ فَلاَ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ قِصَاصٍ وَدِيَةٍ (2) .
وَأَمَّا الشِّجَاجُ الَّتِي قَبْل الْمُوضِحَةِ كَالدَّامِيَةِ وَالْبَاضِعَةِ وَالْمُتَلاَحِمَةِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي ظَاهِرِ
__________
(1) سورة المائدة / 45.
(2) البدائع 7 / 309 وابن عابدين 5 / 373 والفواكه الدواني 2 / 264، والدسوقي 4 / 251 - 252، ومغني المحتاج 4 / 28، والمهذب 2 / 179، والمغني 7 / 710.(25/346)
الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهَا لإِِمْكَانِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقِصَاصِ بِالْوُقُوفِ عَلَى نِسْبَةِ الشَّجَّةِ فَيُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْل. وَاسْتُثْنِيَ مِنَ الْقَوْل بِالْقِصَاصِ الْحَارِصَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالسِّمْحَاقُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الشُّرُنْبُلاَلِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيهَا دُونَ الْمُوضِحَةِ لِعَدَمِ تَيَسُّرِ ضَبْطِهَا وَاسْتِيفَاءِ الْمِثْل دُونَ حَيْفٍ، وَلأَِنَّهُ لاَ تَقْدِيرَ فِيهَا فَيَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ كَالْخَطَأِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي الشِّجَاجِ إِلاَّ فِي الْمُوضِحَةِ وَالسِّمْحَاقِ إِنْ أَمْكَنَ الْقِصَاصُ فِي السِّمْحَاقِ.
وَكَذَا رُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَال: مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ خُدُوشٌ، وَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَال: مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ فِيهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ (1) .
__________
(1) البدائع 7 / 309، وابن عابدين 5 / 373، والدسوقي 4 / 250 - 252، ومغني المحتاج 4 / 26، والمغني 7 / 710.(25/347)
ثَانِيًا: وَقْتُ الْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ فِي الشِّجَاجِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ بِالْقِصَاصِ فِي جِنَايَاتِ الشِّجَاجِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الْبُرْءِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَجُلاً جَرَحَ رَجُلاً وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَقِيدَ، فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسْتَقَادَ مِنَ الْجَارِحِ حَتَّى يَبْرَأَ الْمَجْرُوحُ (1) . وَلأَِنَّ الْجُرْحَ يَحْتَمِل السِّرَايَةَ فَتَصِيرُ قَتْلاً فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ اسْتَوْفَى غَيْرَ حَقِّهِ وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمْ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ يَرَى الاِنْتِظَارَ بِالْجُرْحِ حَتَّى يَبْرَأَ.
لَكِنْ يَتَخَرَّجُ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الاِقْتِصَاصُ قَبْل الْبُرْءِ فَإِنِ اقْتَصَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَبْل بُرْءِ جُرْحِهِ فَسِرَايَةُ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ هَدَرٌ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ رَجُلاً طَعَنَ رَجُلاً بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أَقِدْنِي، فَقَال: حَتَّى تَبْرَأَ، ثُمَّ جَاءَ
__________
(1) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح ". أخرجه الدارقطني (3 / 88 - 89 - ط دار المحاسن) ورجح إرساله ولكنه يتقوى بالذي بعده.(25/347)
إِلَيْهِ فَقَال: أَقِدْنِي، فَأَقَادَهُ ثُمَّ جَاءَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ: عَرَجْتُ، فَقَال: قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنِي فَأَبْعَدَكَ اللَّهُ وَبَطَل عَرَجُكَ (1) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ عَلَى الْفَوْرِ، وَالتَّأْخِيرُ أَوْلَى وَهُوَ الْمُسْتَحَبُّ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ.
8 - وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِوَقْتِ الْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِوَقْتِ الْحُكْمِ بِالدِّيَةِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْحُكْمَ بِالدِّيَةِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الْبُرْءِ أَيْضًا كَالْقِصَاصِ؛ لأَِنَّ الأَْرْشَ لاَ يَسْتَقِرُّ قَبْل الاِنْدِمَال، لأَِنَّهُ قَدْ يَسْرِي إِلَى النَّفْسِ وَيَدْخُل فِي دِيَةِ النَّفْسِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الأَْرْشِ قَبْل الاِنْدِمَال كَاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ قَبْل الاِنْدِمَال؛ لأَِنَّ الْجِنَايَةَ إِنِ اقْتَصَرَتْ فَظَاهِرٌ وَإِنْ سَرَتْ فَقَدْ أَخَذَ بَعْضَ الدِّيَةِ فَيَأْخُذُ الْبَاقِيَ (2) .
__________
(1) حديث " أن رجلا طعن رجلا بقرن. . . . ". أخرجه أحمد (2 / 217 - ط الميمنية) والبيهقي (8 / 67 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وأعل بالإرسال، ولكن ذكر ابن التركماني في الجوهر النقي (8 / 67 - بهامش السنن للبيهقي) مما يقويه، ثم قال: " هذا أمر قد روي من عدة طرق يشد بعضها بعضا ".
(2) الاختيار 5 / 43، والبدائع 7 / 310 - 311 وابن عابدين 5 / 376، وجواهر الإكليل 2 / 263، والدسوقي 4 / 259 - 260، وأسهل المدارك 3 / 122 - 123، ومغني المحتاج 4 / 43، 61، والمهذب 2 / 186، وأسنى المطالب 4 / 30، 38، وكشاف القناع 5 / 561، و6 / 51، والمغني 7 / 729، وشرح منتهى الإرادات 3 / 298.(25/348)
9 - وَإِنْ سَرَتْ الْجِرَاحَةُ فَأَدَّتْ إِلَى الْمَوْتِ فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا فَفِيهَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ لأَِنَّ الْجُرْحَ لَمَّا سَرَى بَطَل حُكْمُ مَا دُونَ النَّفْسِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجُرْحَ وَقَعَ قَتْلاً مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَلِوَلِيِّ الدَّمِ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَل بِهِ مِثْل مَا فَعَل وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَل بِهِ مِثْل مَا فَعَل فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُوضِحَةً فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُوضِحَ رَأْسَ الْجَانِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (1) فَإِنْ مَاتَ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ قَتَلَهُ الْوَلِيُّ بِالسَّيْفِ.
10 - وَإِنْ كَانَتِ الشَّجَّةُ خَطَأً فَسَرَتْ إِلَى النَّفْسِ فَفِيهَا دِيَةُ النَّفْسِ (2) . وَإِنْ بَرِئَتِ الشَّجَّةُ، فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَالْقِصَاصُ فِيمَا فِيهِ الْقِصَاصُ، وَالأَْرْشُ الْمُقَدَّرُ أَوْ حُكُومَةُ الْعَدْل فِيمَا لاَ قِصَاصَ فِيهِ (3) وَإِنْ كَانَتِ
__________
(1) سورة المائدة / 45.
(2) البدائع 7 / 304، 320، والاختيار 5 / 43، وابن عابدين 5 / 361، وأسهل المدارك 3 / 123، والدسوقي 4 / 260، والمهذب 2 / 186 - 187 وشرح منتهى الإرادات 3 / 297 - 298، وكشاف القناع 5 / 561، و6 / 51.
(3) البدائع 7 / 304، 310 - 311 ومنح الجليل 4 / 370 - 384، ومغني المحتاج 4 / 36، والمغني 7 / 706.(25/348)
الشَّجَّةُ خَطَأً وَبَرِئَتْ عَلَى شَيْنٍ وَعَيْبٍ فِيهَا، فَفِيهَا الْمُقَدَّرُ مِنَ الأَْرْشِ أَوِ الْحُكُومَةِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَإِنْ بَرِئَتْ عَلَى غَيْرِ شَيْنٍ بِأَنِ الْتَحَمَتْ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَتِ الشِّجَاجُ مِمَّا قَرَّرَ الشَّارِعُ لَهَا أَرْشًا مُقَدَّرًا كَالْمُوضِحَةِ وَمَا فَوْقَهَا فَفِيهَا مَا قَدَّرَهُ الشَّارِعُ مِنَ الدِّيَاتِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ هَذِهِ الدِّيَاتِ فِي كِتَابِهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَلَمْ يُفَصِّل.
أَمَّا مَا قَبْل الْمُوضِحَةِ وَهِيَ الشِّجَاجُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مُقَدَّرٌ إِذَا بَرِئَتْ عَلَى غَيْرِ شَيْنٍ فَلاَ شَيْءَ فِيهَا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ فِيهَا حُكُومَةَ عَدْلٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْتَبَرَ أَقْرَبُ نَقْصٍ إِلَى الاِنْدِمَال، وَقِيل: يُقَدِّرُ الْقَاضِي النَّقْصَ لِئَلاَّ تَخْلُوَ الْجِنَايَةُ عَنْ غُرْمِ التَّعْزِيرِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدْ قَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ بَرِئَتِ الشِّجَاجُ عَلَى غَيْرِ شَيْنٍ بِأَنِ الْتَحَمَتْ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ فَلاَ شَيْءَ فِيهَا؛ لأَِنَّ الأَْرْشَ إِنَّمَا يَجِبُ بِالشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ بِالأَْثَرِ، وَقَدْ زَال فَسَقَطَ الأَْرْشُ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ حُكُومَةُ الأَْلَمِ، لأَِنَّ الشَّجَّةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَلاَ سَبِيل إِلَى إِهْدَارِهَا وَقَدْ تَعَذَّرَ إِيجَابُ أَرْشِ الشَّجَّةِ فَيَجِبُ أَرْشُ الأَْلَمِ، وَقَال مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ بِسَبَبِ هَذِهِ(25/349)
الشَّجَّةِ، فَكَأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْمَال (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهُ يَجِبُ التَّعْزِيرُ فِيمَا لَوْ بَرِئَتِ الْجِنَايَةُ وَلَمْ يَبْقَ أَثَرٌ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ (الْجِنَايَة عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ - تَدَاخُل - دِيَات) .
ثَالِثًا - كَيْفِيَّةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي الشِّجَاجِ:
11 - لاِسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي الشَّجَّةِ لاَ بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِ الْجُرْحِ بِالْمِسَاحَةِ طُولاً وَعَرْضًا، فَلَوْ كَانَتِ الشَّجَّةُ مُوضِحَةً (وَهِيَ الشَّجَّةُ الَّتِي اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِهَا فِي الْعَمْدِ) فَإِنَّهُ يُعْرَفُ قَدْرُهَا بِالْمِسَاحَةِ طُولاً وَعَرْضًا دُونَ النَّظَرِ إِلَى كَثَافَةِ اللَّحْمِ؛ لأَِنَّ حَدَّ الْمُوضِحَةِ الْعَظْمُ، وَالنَّاسُ يَخْتَلِفُونَ فِي قِلَّةِ اللَّحْمِ وَكَثْرَتِهِ (2) .
__________
(1) البدائع 7 / 316، وابن عابدين 5 / 379، والزيلعي 6 / 138، والدسوقي 4 / 260، والفواكه الدواني 2 / 263، وجواهر الإكليل 2 / 267، ومغني المحتاج 4 / 61، 78، وكشاف القناع 6 / 51، 58، وشرح منتهى الإرادات 3 / 326 - 327.
(2) البدائع 7 / 309، ومغني المحتاج 4 / 31 - 32، وكشاف القناع 5 / 559، والمغني 7 / 705، والفواكه الدواني 2 / 263، والدسوقي 4 / 251، والمواق 6 / 246.(25/349)
وَإِنْ أَوْضَحَ الْجَانِي كُل الرَّأْسِ، وَرَأْسُ الْجَانِي أَكْبَرُ مِنْ رَأْسِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَانَ لِلْمَشْجُوجِ أَنْ يَقْتَصَّ قَدْرَ شَجَّتِهِ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ وَلاَ يَسْتَوْعِبُ رَأْسَ الشَّاجِّ لأَِنَّ فِي الاِسْتِيعَابِ اسْتِيفَاءَ الزِّيَادَةِ وَفِيهِ زِيَادَةُ شَيْنٍ وَهَذَا لاَ يَجُوزُ. لَكِنْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُخَيَّرُ الْمَشْجُوجُ بَيْنَ هَذَا - أَيْ بَيْنَ الْقِصَاصِ مِنَ الشَّاجِّ حَتَّى يَبْلُغَ مِقْدَارَ شَجَّتِهِ فِي الطُّول ثُمَّ يَكُفَّ - وَبَيْنَ الْعُدُول إِلَى الأَْرْشِ؛ لأَِنَّهُ وَجَدَ حَقَّهُ نَاقِصًا، لأَِنَّ الشَّجَّةَ الأُْولَى وَقَعَتْ مُسْتَوْعِبَةً، وَالثَّانِيَةُ لاَ يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهَا فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، فَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى حَقَّهُ نَاقِصًا تَشَفِّيًا لِلصَّدْرِ، وَإِنْ شَاءَ عَدَل إِلَى الأَْرْشِ (1) .
__________
(1) البدائع 7 / 309، وكشاف القناع 5 / 559، ومغني المحتاج 4 / 32.(25/350)
شَجَر
التَّعْرِيفُ:
1 - جَاءَ فِي الْقَامُوسِ: الشَّجَرُ مِنَ النَّبَاتِ مَا قَامَ عَلَى سَاقٍ أَوْ مَا سَمَا بِنَفْسِهِ، دَقَّ أَوْ جَل قَاوَمَ الشِّتَاءَ أَوْ عَجَزَ عَنْهُ. وَفِي الْمِصْبَاحِ: الشَّجَرُ النَّبَاتُ هُوَ مَا لَهُ سَاقٌ صُلْبٌ يَقُومُ بِهِ، كَالنَّخْل وَغَيْرِهِ، وَالْوَاحِدَةُ شَجَرَةٌ، وَتُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أَشْجَارٍ وَشَجَرَاتٍ (1) .
وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَهُ سَاقٌ، أَوْ هُوَ كُل مَا لَهُ سَاقٌ وَلاَ يُقْطَعُ أَصْلُهُ.
وَعَرَّفَهُ الأَْبِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي الْمُسَاقَاةِ بِمَا كَانَ ذَا أَصْلٍ ثَابِتٍ تُجْنَى ثَمَرَتُهُ وَتَبْقَى أُصُولُهُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتِ الصِّلَةِ:
أ - الزَّرْعُ وَالنَّبَاتُ:
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب ومتن اللغة.
(2) ابن عابدين 4 / 35، 5 / 283، والقليوبي 2 / 141، وجواهر الإكليل 2 / 178.(25/350)
2 - النَّبَاتُ: اسْمٌ لِمَا يَنْبُتُ مِنَ الأَْرْضِ، وَالزَّرْعُ مَا اسْتُنِبْتَ مِنَ الأَْرْضِ بِالْبَذْرِ، قَال بَعْضُهُمْ: وَلاَ يُسَمَّى زَرْعًا إِلاَّ وَهُوَ غَضٌّ طَرِيٌّ (1) . فَالنَّبَاتُ أَعَمُّ مِنَ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ.
ب - الْكَلأَُ:
الْكَلأَُ: الْعُشْبُ رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: هُوَ مَا يَنْبَسِطُ وَيُنْشَرُ لاَ سَاقَ لَهُ، كَالإِْذْخِرِ وَنَحْوِهِ، وَالشَّجَرُ مَا لَهُ سَاقٌ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّجَرِ:
أَوَّلاً: قَطْعُ أَشْجَارِ الْحَرَمِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ قَطْعِ أَوْ قَلْعِ نَبَاتِ الْحَرَمِ، شَجَرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يَسْتَنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً وَهُوَ رَطْبٌ (3) . لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا (4) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) المصباح المنير وابن عابدين 5 / 283.
(3) البدائع 2 / 200 وما بعدها، والزيلعي 2 / 270، جواهر الإكليل 1 / 198، 199، والحطاب 3 / 178، ومغني المحتاج 1 / 527، والمغني لابن قدامة 3 / 350 وما بعدها.
(4) حديث: " لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 46 - ط الحلبي) ومسلم (2 / 986 - 987 - ط. الحلبي) من حديث ابن عباس.(25/351)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَرَم) .
ثَانِيًا: دُخُول الشَّجَرِ فِي بَيْعِ الأَْرْضِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ تَدْخُل الأَْشْجَارُ فِي بَيْعِ الأَْرْضِ وَلَوْ بِلاَ ذِكْرٍ، مُثْمِرَةً كَانَتْ أَوْ لاَ، صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً، وَهَذَا إِذَا كَانَ رَطْبًا ثَابِتًا لاَ مَقْلُوعًا وَلاَ يَابِسًا؛ لأَِنَّ الْمَقْلُوعَ وَالْيَابِسَ يُشْبِهَانِ مَتَاعَ الدَّارِ، وَمَتَاعُ الدَّارِ لاَ يَدْخُل فِي بَيْعِ الدَّارِ إِلاَّ بِنَصٍّ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا إِنْ لَمْ يَكُنْ عُرْفٌ بِخِلاَفِهِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تَدْخُل الشَّجَرَةُ وَالْبِنَاءُ فِي بَيْعِ الأَْرْضِ إِذَا بَاعَهَا بِحُقُوقِهَا.
وَإِنْ لَمْ يَقُل: بِحُقُوقِهَا، فَفِي دُخُولِهَا فِي بَيْعِ الأَْرْضِ عِنْدَهُمْ وَجْهَانِ.
أَمَّا إِذَا قَال: بِعْتُكَ هَذَا الْبُسْتَانَ، دَخَل فِيهِ الشَّجَرُ قَطْعًا؛ لأَِنَّ الْبُسْتَانَ اسْمٌ لِلأَْرْضِ وَالشَّجَرِ وَالْحَائِطِ. وَلِذَلِكَ لاَ تُسَمَّى الأَْرْضُ الْمَكْشُوفَةُ بُسْتَانًا (2) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 35، الدسوقي 3 / 171، ونهاية المحتاج 4 / 116، 117، والقليوبي 2 / 229.
(2) المغني لابن قدامة 4 / 86، 87.(25/351)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بَيْع ف 37) .
ثَالِثًا: الشُّفْعَةُ فِي الشَّجَرِ:
5 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) - أَنَّهُ لاَ شُفْعَةَ فِي الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ إِذَا بِيعَا بِلاَ عَرْصَةٍ. وَلَوْ بِيعَتِ الْعَرْصَةُ الْمَمْلُوكَةُ مَعَ مَا عَلَيْهَا مِنَ الأَْشْجَارِ وَالأَْبْنِيَةِ تَجْرِي الشُّفْعَةُ فِي الأَْشْجَارِ وَالأَْبْنِيَةِ أَيْضًا تَبَعًا لِلْعَرْصَةِ. أَيْ تَثْبُتُ فِي الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ إِذَا بِيعَا مَعَ مَا حَوْلَهُمَا مِنَ الأَْرْضِ، فَلَوْ بَاعَ أَشْجَارًا وَمَغَارِسَهَا فَقَطْ فَلاَ شُفْعَةَ فِيهَا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي عَقَارٍ وَهُوَ الأَْرْضُ وَمَا اتَّصَل بِهَا مِنْ بِنَاءٍ وَشَجَرٍ، وَلَوْ كَانَ الْعَقَارُ شَجَرًا أَوْ بِنَاءً مَمْلُوكًا. فَالشُّفْعَةُ عِنْدَهُمْ فِيمَا لَمْ يَنْقَسِمْ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ مِنَ الدُّورِ وَالأَْرَضِينَ وَالنَّخْل وَالشَّجَرِ وَمَا يَتَّصِل بِذَلِكَ مِنْ بِنَاءٍ وَثَمَرَةٍ، إِذَا كَانَ قَابِلاً لِلْقِسْمَةِ وَلاَ شُفْعَةَ فِيمَا لاَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ. فَإِذَا كَانَتْ نَخْلَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنْهَا فَلاَ شُفْعَةَ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م (1020) ، وابن عابدين 4 / 421، 5 / 134، 163، الزيلعي 5 / 252، نهاية المحتاج 5 / 164، مغني المحتاج 2 / 296، 297، ومطالب أولي النهى 4 / 108، 109.(25/352)
لِصَاحِبِهِ فِيهَا، كَمَا نُقِل عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ (1) .
وَلِتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (شُفْعَة) .
رَابِعًا: حَرِيمُ الشَّجَرِ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَرِيمَ الشَّجَرِ فِي الأَْرْضِ الْمَوَاتِ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ مِنْ كُل جِهَةٍ، حَتَّى لاَ يَمْلِكَ غَيْرُهُ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرًا فِي حَرِيمِهِ؛ لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْحَرِيمِ لِجِذَاذِ ثَمَرِهِ، وَلِلْوَضْعِ فِيهِ. وَقَال بَعْضُهُمْ: الاِعْتِبَارُ لِلْحَاجَةِ لاَ لِلتَّقْدِيرِ؛ لأَِنَّهُ يَخْتَلِفُ الْحَال بِكَبِيرِ الشَّجَرَةِ وَصَغِيرِهَا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَكُونُ الْحَرِيمُ لِكُل شَجَرَةٍ بِقَدْرِ مَصْلَحَتِهَا، وَيُسْأَل عَنْ كُل شَجَرَةٍ أَهْل الْعِلْمِ.
وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى أَهْل الْعُرْفِ (أَهْل الاِخْتِصَاصِ) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: حَرِيمُ الشَّجَرِ مَا تَمُدُّ إِلَيْهِ
__________
( x661 ;) الشرح الصغير 3 / 634، والحطاب مع المواق 5 / 318، وجواهر الإكليل 2 / 158.(25/352)
أَغْصَانُهَا حَوَالَيْهَا، وَفِي النَّخْلَةِ مَدُّ جَرِيدِهَا (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَرِيم ف 10)
خَامِسًا: الْمُسَاقَاةُ فِي الشَّجَرِ:
7 - الْمُسَاقَاةُ: هِيَ أَنْ يَدْفَعَ شَخْصٌ شَجَرًا إِلَى آخَرَ لِيَقُومَ بِسَقْيِهِ وَعَمَل سَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ لَهُ مِنْ ثَمَرِهِ. فَهِيَ عَقْدٌ عَلَى خِدْمَةِ شَجَرٍ بِجُزْءٍ مِنْ غَلَّتِهِ.
وَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْل الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ) فِي كُل شَجَرٍ مُثْمِرٍ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: عَامَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْل خَيْبَرَ نَخْلَهَا وَأَرْضَهَا بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ. (2)
وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهَا، لأَِنَّ مَالِكَ الأَْشْجَارِ قَدْ لاَ يُحْسِنُ تَعَهُّدَهَا أَوْ لاَ يَتَفَرَّغُ لَهُ،
__________
(1) الزيلعي 6 / 38، ابن عابدين 5 / 280، والمواق على هامش الحطاب 6 / 3، المهذب 1 / 431، المغني 5 / 595.
(2) حديث: " عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر نخلها وأرضها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 10 - ط السلفية) .(25/353)
وَمَنْ يُحْسِنُ التَّعَهُّدَ وَيَتَفَرَّغُ قَدْ لاَ يَمْلِكُ الأَْشْجَارَ، فَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى الاِسْتِعْمَال، وَهَذَا لِلْعَمَل (1) .
وَالْمُرَادُ بِالشَّجَرِ فِي بَابِ الْمُسَاقَاةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَاقٌ وَأَنْ يَكُونَ مُثْمِرًا، (وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي النَّخْل) وَمَا لاَ سَاقَ لَهُ كَالْبِطِّيخِ وَنَحْوِهِ أَوْ لاَ يَكُونُ مُثْمِرًا كَالتُّوتِ الذَّكَرِ وَنَحْوِهِ لاَ تَجُوزُ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُسَاقَاةُ عَقْدٌ فَاسِدٌ، لأَِنَّهُ اسْتِئْجَارٌ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ مَعْدُومَةٍ وَاسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ مَا يَحْصُل مِنْ عَمَلِهِ، كَقَفِيزِ الطَّحَّانِ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ.
قَال الْمُوصِلِيُّ: وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا - أَيْ بِالْجَوَازِ - لِحَاجَةِ النَّاسِ، وَقَدْ تَعَامَل بِهَا السَّلَفُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ: لاَ تَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ إِلاَّ فِي النَّخْل؛ لأَِنَّهَا رُخْصَةٌ فَتَخْتَصُّ بِمَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ
__________
(1) فتح القدير مع الهداية 8 / 399 وما بعدها، وجواهر الإكليل 2 / 178، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 3 / 539، ومغني المحتاج 2 / 322، 323، والمغني لابن قدامة 5 / 391 وما بعدها، ومطالب أولي النهى 3 / 555.(25/353)
مَغْرُوسًا مُعَيَّنًا مَرْئِيًّا. وَمِثْل النَّخْل الْعِنَبُ بِجَامِعِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا (1) .
وَلِبَيَانِ سَائِرِ شُرُوطِ الْمُسَاقَاةِ وَأَحْكَامِهَا يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (مُسَاقَاة) .
التَّخَلِّي تَحْتَ الشَّجَرِ:
8 - يُكْرَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) التَّخَلِّي تَحْتَ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ مُبَاحًا وَفِي غَيْرِ وَقْتِ الثَّمَرَةِ؛ صِيَانَةً لَهَا عَنِ التَّلَوُّثِ عِنْدَ الْوُقُوعِ فَتَعَافُهَا الأَْنْفُسُ، وَلَمْ يَقُولُوا بِالتَّحْرِيمِ لأَِنَّ التَّنَجُّسَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: أَوْ فِي ظِلٍّ يُنْتَفَعُ بِالْجُلُوسِ فِيهِ أَوْ مَا مِنْ شَأْنِهِ الاِسْتِظْلاَل بِهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ التَّبَوُّل أَوِ التَّغَوُّطُ فِي ظِلٍّ نَافِعٍ وَتَحْتَ شَجَرَةٍ عَلَيْهَا ثَمَرَةٌ مَقْصُودَةٌ مَأْكُولَةٌ؛ لأَِنَّهُ يُفْسِدُهَا وَتَعَافُهَا الأَْنْفُسُ. فَأَمَّا فِي غَيْرِ حَال الثَّمَرَةِ فَلاَ بَأْسَ (2) .
__________
(1) الاختيار 3 / 75، مغني المحتاج 5 / 323.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 50، وجواهر الإكليل 1 / 17، 18، والحطاب مع المواق 1 / 227، وأسنى المطالب1 / 47، وكشاف القناع 1 / 64، ومطالب أولي النهى 1 / 72، والمغني 1 / 165.(25/354)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاء الْحَاجَةِ) .
شِحَاذَة
انْظُرْ: سُؤَال(25/354)
شَحْم
التَّعْرِيفُ اللُّغَوِيُّ:
1 - الشَّحْمُ فِي الْحَيَوَانِ: هُوَ جَوْهَرُ السِّمَنِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي سَنَامَ الْبَعِيرِ شَحْمًا وَبَيَاضَ الْبَطْنِ شَحْمًا. وَالْجَمْعُ شُحُومٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالشَّحْمُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي الْجَوْفِ مِنْ شَحْمِ الْكُلَى أَوْ غَيْرِهِ.
وَيَقُول الْبَعْضُ: الشَّحْمُ كُل مَا يَذُوبُ بِالنَّارِ مِمَّا فِي الْحَيَوَانِ (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدُّهْنُ:
2 - الدُّهْنُ: مَا يُدْهَنُ بِهِ مِنْ زَيْتٍ وَغَيْرِهِ، وَجَمْعُهُ دِهَانٌ (3) .
__________
(1) المصباح المنير ومتن اللغة ولسان العرب.
(2) المغني 8 / 810 وفتح القدير 4 / 399، 400 نشر دار إحياء التراث العربي، وحاشية الجمل 5 / 307.
(3) المصباح المنير.(25/355)
وَالدُّهْنُ أَعَمُّ مِنَ الشَّحْمِ لأَِنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، وَالشَّحْمُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنَ الْحَيَوَانِ (1) .
ب - الدَّسَمُ:
3 - الدَّسَمُ: هُوَ الْوَدَكُ، وَيَتَنَاوَل الأَْلْيَةَ وَالسَّنَامَ وَشَحْمَ الْبَطْنِ وَالظَّهْرِ وَالْجَنْبِ كَمَا يَتَنَاوَل الدُّهْنَ الْمَأْكُول. فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الشَّحْمِ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّحْمِ:
4 - شَحْمُ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّى حَلاَلٌ مِنْ أَيِّ مَكَانٍ أُخِذَ. وَأَمَّا الْحَيَوَانَاتُ غَيْرُ الْمَأْكُولَةِ كَالْخِنْزِيرِ فَشَحْمُهَا حَرَامٌ كَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ أَكْل شُحُومِ الْمَيْتَةِ فَلاَ تُؤَثِّرُ التَّذْكِيَةُ فِيهِ.
أَمَّا الاِنْتِفَاعُ بِشَحْمِ الْمَيْتَةِ فِي غَيْرِ الأَْكْل فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِهِ فِي شَيْءٍ أَصْلاً لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ، قِيل: يَا رَسُول اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ
__________
(1) المعجم الوسيط مادة (دهن) .
(2) لسان العرب وحاشية الجمل 5 / 307، 308.(25/355)
الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَال: لاَ، هُوَ حَرَامٌ (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ جَوَازَ الاِنْتِفَاعِ بِشَحْمِ الْمَيْتَةِ فِي طَلْيِ السُّفُنِ وَالاِسْتِصْبَاحِ بِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِأَكْلٍ وَلاَ فِي بَدَنِ الآْدَمِيِّ. وَبِهَذَا قَال أَيْضًا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (2) وَرَأَوْا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي هُوَ حَرَامٌ يَرْجِعُ إِلَى الْبَيْعِ لاَ إِلَى مُطْلَقِ الاِنْتِفَاعِ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: اسْتِصْبَاح وَمَيْتَة) .
شُحُومُ ذَبَائِحِ أَهْل الْكِتَابِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شُحُومِ ذَبَائِحِ أَهْل الْكِتَابِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِمْ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُل ذِي ظُفُرٍ. . .} (3) الآْيَةَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 11 / 6 والمغني 8 / 610 وابن عابدين 4 / 114، والحطاب 1 / 120. وحديث: " إن الله حرم بيع الخمر والميتة. . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 424 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1207 - ط الحلبي) .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 12 / 6 وأسنى المطالب 1 / 278.
(3) سورة الأنعام / 146.(25/356)
الْمَذْهَبِ، وَمَالِكٌ فِي قَوْلٍ: إِلَى حِل هَذِهِ الشُّحُومِ وَيَقُولُونَ: إِنَّهَا حَلاَلٌ لَيْسَتْ مَكْرُوهَةً ( x661 ;) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2) ، فَقَدْ أَحَل اللَّهُ تَعَالَى طَعَامَ أَهْل الْكِتَابِ وَهُوَ ذَبَائِحُهُمْ لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهَا شَيْئًا لاَ شَحْمًا وَلاَ غَيْرَهُ فَدَل عَلَى جَوَازِ أَكْل جَمِيعِ الشُّحُومِ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ وَذَبَائِحِ الْمُسْلِمِينَ (3) .
وَبِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ دُلِّيَ مِنَ الْحِصْنِ فَأَخَذَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ وَقَال: وَاَللَّهِ لاَ أُعْطِي أَحَدًا مِنْهُ شَيْئًا. فَضَحِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ (4) .
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا ثَبَتَ أَنَّ يَهُودِيَّةً أَهْدَتْ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً فَأَكَل مِنْهَا وَلَمْ يُحَرِّمْ شَحْمَ بَطْنِهَا وَلاَ غَيْرَهُ (5) .
__________
(1) المجموع 9 / 71 والمغني 8 / 582 وكشاف القناع 6 / 211 - 212 والمنتقى 3 / 112.
(2) سورة المائدة / 5.
(3) المجموع 9 / 71.
(4) أحكام أهل الذمة 1 / 259. وحديث عبد الله بن مغفل أن جرابا من شحم. . أخرجه البخاري (الفتح 9 / 636 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1393 - ط الحلبي) بألفاظ متقاربة.
(5) أحكام أهل الذمة 1 / 159. وحديث أن يهودية أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة. . . . أخرجه البخاري (الفتح 5 / 230 - ط السلفية) .(25/356)
وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَأَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ وَحَكَاهُ التَّمِيمِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ وَسَوَّارٍ - إِلَى تَحْرِيمِ شُحُومِ ذَبَائِحِ أَهْل الْكِتَابِ (1) ، لأَِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَبَاحَ لَنَا طَعَامَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَالشُّحُومُ الْمُحَرَّمَةُ عَلَيْهِمْ لَيْسَتْ مِنْ طَعَامِهِمْ فَلاَ تَكُونُ لَنَا مُبَاحَةً (2) .
وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةَ شُحُومِ الْيَهُودِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِمْ وَهِيَ عِنْدَهُ مَرْتَبَةٌ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ (3) .
__________
(1) المنتقى 3 / 112، والمجموع 9 / 71 والمغني 8 / 583 وأحكام أهل الذمة 1 / 258.
(2) أحكام أهل الذمة 1 / 260.
(3) المنتقى 3 / 112 وأحكام أهل الذمة 1 / 258.(25/357)
شُذُوذ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشُّذُوذُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ شَذَّ يَشِذُّ شُذُوذًا: إِذَا انْفَرَدَ عَنْ غَيْرِهِ.
وَالشَّاذُّ: الْمُنْفَرِدُ عَنْ غَيْرِهِ، أَوِ الْخَارِجُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَمِنَ النَّاسِ خِلاَفُ السَّوِيِّ، وَعَنِ اللَّيْثِ: شَذَّ الرَّجُل: إِذَا انْفَرَدَ عَنْ أَصْحَابِهِ. وَكَذَا كُل شَيْءٍ مُنْفَرِدٍ فَهُوَ شَاذٌّ (1) .
وَالشَّاذُّ فِي اصْطِلاَحِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ هُوَ مَا كَانَ مُقَابِلاً لِلْمَشْهُورِ أَوِ الرَّاجِحِ أَوِ الصَّحِيحِ، أَيْ أَنَّهُ الرَّأْيُ الْمَرْجُوحُ أَوِ الضَّعِيفُ أَوِ الْغَرِيبُ. جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: الأَْصَحُّ مُقَابِلٌ لِلصَّحِيحِ، وَالصَّحِيحُ مُقَابِلٌ لِلضَّعِيفِ، لَكِنْ فِي حَوَاشِي الأَْشْبَاهِ لِبِيرِيٍّ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ ذَلِكَ بِالْغَالِبِ؛ لأَِنَّا
__________
(1) لسان العرب والمعجم الوسيط والمصباح المنير.(25/357)
وَجَدْنَا مُقَابِل الأَْصَحِّ الرِّوَايَةَ الشَّاذَّةَ كَمَا فِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ (1) .
وَفِي فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ: خُرُوجُ الْمُقَلِّدِ مِنَ الْعَمَل بِالْمَشْهُورِ إِلَى الْعَمَل بِالشَّاذِّ الَّذِي فِيهِ رُخْصَةٌ مِنْ غَيْرِ تَتَبُّعٍ لِلرُّخَصِ، صَحِيحٌ عِنْدَ كُل مَنْ قَال بِعَدَمِ لُزُومِ تَقْلِيدٍ أَرْجَحَ (2) .
وَلَمْ نَجِدْ تَعْرِيفًا لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَمْ يُعَبِّرِ الْحَنَابِلَةُ فِيمَا نَعْلَمُ بِالشَّاذِّ، فَيَشْمَلُهُ كَلاَمُهُمْ عَنِ الضَّعِيفِ وَمَنْعُهُمُ الْعَمَل بِهِ دُونَ تَرْجِيحٍ.
قَال النَّوَوِيُّ: قَدْ يَجْزِمُ نَحْوُ عَشَرَةٍ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ بِشَيْءٍ وَهُوَ شَاذٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّاجِحِ فِي الْمَذْهَبِ وَمُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ (3) .
أَمَّا الشَّاذُّ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَال الشَّافِعِيُّ: هُوَ أَنْ يَرْوِيَ الثِّقَةُ حَدِيثًا يُخَالِفُ مَا رَوَى النَّاسُ، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَرْوِيَ مَا لَمْ يَرْوِ غَيْرُهُ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْحِجَازِيِّينَ.
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ حُفَّاظُ الْحَدِيثِ أَنَّ الشَّاذَّ مَا
__________
(1) ابن عابدين 1 / 50.
(2) فتح العلي المالك 1 / 61 - 62، وينظر الخرشي 1 / 35 - 36، والعدوي عليه.
(3) المجموع للنووي 1 / 83.(25/358)
لَيْسَ لَهُ إِلاَّ إِسْنَادٌ وَاحِدٌ، يَشِذُّ بِهِ ثِقَةٌ أَوْ غَيْرُ ثِقَةٍ وَيُتَوَقَّفُ فِيمَا شَذَّ بِهِ الثِّقَةُ وَلاَ يُحْتَجُّ بِهِ وَيُرَدُّ مَا شَذَّ بِهِ غَيْرُ الثِّقَةِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّاذِّ مِنْ أَحْكَامٍ:
2 - الْعَمَل أَوِ الْفُتْيَا أَوِ الْقَضَاءُ بِالْقَوْل الشَّاذِّ يَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُجْتَهِدِ وَالْمُقَلِّدِ وَالْعَامِّيِّ.
أَمَّا الْمُجْتَهِدُ: فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ فِي الْجُمْلَةِ. وَإِنَّمَا عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي الأَْدِلَّةِ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَهَا، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَمَل فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَوْ فِي الإِْفْتَاءِ وَالْقَضَاءِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (اجْتِهَاد - تَقْلِيد - قَضَاء - فَتْوَى) .
3 - هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ، أَمَّا
__________
(1) الباعث الحثيث ص 34 ط دار الفكر بيروت، والمجموع للنووي 1 / 101 تحقيق المطبعي.
(2) فتح القدير 7 / 301، 305، نشر دار الفكر بيروت، والزيلعي وحاشية الشلبي 4 / 189 - 190، وابن عابدين 4 / 329 - 330، ومنح الجليل 2 / 58، والتبصرة بهامش فتح العلي 1 / 56 - 57، والقوانين الفقهية / 292، والمجموع 1 / 76، ومغني المحتاج 4 / 396، والمغني 7 / 274 - 275، 9 / 52، 56، ومطالب أولي النهى 6 / 478، وكشاف القناع 6 / 315، والأشباه لابن نجيم ص 108.(25/358)
الْمُجْتَهِدُ فِي الْمَذْهَبِ فَعَلَيْهِ النَّظَرُ وَالاِجْتِهَادُ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ إِمَامُ الْمَذْهَبِ وَأَصْحَابُهُ فَيَعْمَل بِمَا يَرَاهُ أَرْجَحَ أَوْ أَصَحَّ فِي نَظَرِهِ لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الرَّأْيُ شَاذًّا مَرْجُوعًا عَنْهُ. وَمِنْ ذَلِكَ مَثَلاً أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَيْنِ، الْقَدِيمَ وَالْجَدِيدَ، وَالْجَدِيدُ هُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْعَمَل؛ لأَِنَّ الْقَدِيمَ إِذَا خَالَفَهُ الْجَدِيدُ مَرْجُوعٌ عَنْهُ إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ مِنَ الْقَدِيمِ. وَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ بِالْقَدِيمِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل، فَلاَ يُعْتَبَرُ هَذَا مَذْهَبًا لِلشَّافِعِيِّ وَإِنَّمَا يُحْمَل عَلَى أَنَّ الَّذِينَ أَفْتَوْا بِالْقَدِيمِ أَدَّاهُمُ اجْتِهَادُهُمْ إِلَيْهِ لِظُهُورِ دَلِيلِهِ عِنْدَهُمْ، قَال أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلاَحِ: فَيَكُونُ اخْتِيَارُ أَحَدِهِمْ لِلْقَدِيمِ فِيهَا مِنْ قَبِيل اخْتِيَارِهِ مَذْهَبَ غَيْرِ الشَّافِعِيِّ إِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ ذَا اجْتِهَادٍ اتُّبِعَ اجْتِهَادُهُ، وَإِنْ كَانَ اجْتِهَادًا مُقَيَّدًا مَشُوبًا بِتَقْلِيدٍ، نُقِل ذَلِكَ الشَّوْبُ مِنَ التَّقْلِيدِ عَنْ ذَلِكَ الإِْمَامِ، وَإِنْ أَفْتَى بَيَّنَ ذَلِكَ فِي فَتْوَاهُ، قَال النَّوَوِيُّ: مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّخْرِيجِ وَالاِجْتِهَادِ فِي الْمَذْهَبِ يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُ مَا اقْتَضَاهُ الدَّلِيل فِي الْعَمَل وَالْفُتْيَا، وَأَنْ يُبَيِّنَ فِي فَتْوَاهُ أَنَّ هَذَا رَأْيُهُ وَأَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ كَذَا وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ (1) .
وَكَذَلِكَ كَانَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ
__________
(1) المجموع 1 / 113 - 114.(25/359)
يَأْخُذُونَ بِمَا قَوِيَ دَلِيلُهُ فِي نَظَرِهِمْ وَلَوْ كَانَ مَرْجُوعًا عَنْهُ، قَال أَبُو يُوسُفَ: مَا قُلْتُ قَوْلاً خَالَفْتُ فِيهِ أَبَا حَنِيفَةَ إِلاَّ قَوْلاً قَدْ كَانَ قَالَهُ، وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ أَنَّهُ قَال: مَا خَالَفْتُ أَبَا حَنِيفَةَ فِي شَيْءٍ إِلاَّ قَدْ قَالَهُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ مَا سَلَكُوا طَرِيقَ الْخِلاَفِ بَل قَالُوا مَا قَالُوا عَنِ اجْتِهَادٍ وَرَأْيٍ (1) .
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: أَنَّ فَائِدَةَ تَدْوِينِ الأَْئِمَّةِ لِلأَْقْوَال الَّتِي رَجَعَ عَنْهَا إِمَامُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهَا الْمُجْتَهِدُ أَوْ مَنْ بَلَغَ رُتْبَةَ التَّرْجِيحِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ شُيُوخِ أَهْل الْمَذْهَبِ، وَفَعَلَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي ثَلاَثَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا مِنَ الْكِتَابِ، وَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُول أَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ (2) .
4 - وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ لِمَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ، فَإِنَّ الأَْصْل الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّ الْعَمَل أَوِ الإِْفْتَاءَ أَوِ الْقَضَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقَوْل الْمَشْهُورِ أَوِ الرَّاجِحِ أَوِ الصَّحِيحِ فِي الْمَذْهَبِ دُونَ الْقَوْل الشَّاذِّ (3) .
ذَكَرَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ الْخِلاَفَ بِالنِّسْبَةِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 46، 48، 52 - 53.
(2) فتح العلي المالك 1 / 65.
(3) ابن عابدين 1 / 51 - 52، 4 / 335.(25/359)
لِلْمُقَلِّدِ - وَهُوَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الاِجْتِهَادِ - وَالْعَامِّيِّ هَل يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْتِزَامُ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ أَوْ لاَ؟ وَهَل يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْهُ أَوْ لاَ؟ وَهَل يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ الْمَفْضُول أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنِ الأَْرْجَحِ عِلْمًا؟ قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ بَعْدَ ذَلِكَ: إِذَا عَرَفْتَ هَذَا اسْتَبَانَ لَكَ أَنَّ خُرُوجَ الْمُقَلِّدِ مِنَ الْعَمَل بِالْمَشْهُورِ إِلَى الْعَمَل بِالشَّاذِّ الَّذِي فِيهِ رُخْصَةٌ مِنْ غَيْرِ تَتَبُّعٍ لِلرُّخَصِ صَحِيحٌ عِنْدَ كُل مَنْ قَال بِعَدَمِ لُزُومِ تَقْلِيدِ أَرْجَحَ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاَتٌ فِي ذَلِكَ، يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (اجْتِهَاد وَتَقْلِيد) .
وَقَال ابْنُ أَبِي زَيْدٍ لاَ يَصِحُّ تَخْيِيرُ الْمُقَلِّدِ بَل يَتَعَيَّنُ الْقَوْل الرَّاجِحُ، فَإِنْ تَأَهَّل لِلتَّرْجِيحِ وَجَبَ الأَْرْجَحُ بِرُجْحَانِ الْقَائِل، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُصِيبَ فِي الاِجْتِهَادِيَّاتِ وَاحِدٌ، وَأَنَّ تَقْلِيدَ الْمَفْضُول مَعَ وُجُودِ الْفَاضِل مَمْنُوعٌ وَهَذَا الْقَوْل تُعَضِّدُهُ الْقَوَاعِدُ الأُْصُولِيَّةُ، وَعَلَيْهِ بَنَى حُجَّةُ الإِْسْلاَمِ الْغَزَالِيُّ وَالإِْمَامُ الْمَازِرِيُّ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ وَالتَّحْقِيقُ، وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلاً غَيْرَ ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا، فَقَدِ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَهَلَكَ فِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ، فَالْعَمَل بِالرَّاجِحِ مُتَعَيِّنٌ عِنْدَ
__________
(1) فتح العلي المالك 1 / 60 - 61 نشر دار المعرفة أو 1 / 51 - 52 الطبعة التجارية.(25/360)
كُل عَالِمٍ مُتَمَكِّنٍ، وَإِذَا اطَّلَعَ الْمُقَلِّدُ عَلَى خِلاَفٍ فِي مَسْأَلَةٍ تَخُصُّهُ وَفِيهَا قَوْلٌ رَاجِحٌ بِشُهْرَةٍ أَوْ عَمَلٍ، أَوْ غَيْرِهِمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْعَمَل عَلَى الرَّاجِحِ وَلاَ يُفْتِي بِغَيْرِهِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ فَادِحَةٍ وَالْتِزَامِ مَفْسَدَةٍ وَاضِحَةٍ (1) .
وَقَال أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ: الْمُقَلِّدُ أَوِ الْمُفْتِي لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُفْتِيَ إِلاَّ بِالْمَشْهُورِ (2) .
وَقَال أَبُو الْفَضْل قَاسِمُ الْعُقْبَانِيُّ: إِنْ حَكَمَ الْقَاضِي بِالشَّاذِّ يُنْظَرُ فِي الْحُكْمِ الَّذِي عَدَل بِهِ عَنِ الْمَشْهُورِ إِلَى الشَّاذِّ، فَإِنْ حَكَمَ بِهِ لِمَظِنَّةِ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ نُقِضَ حُكْمُهُ، وَإِنْ حَكَمَ بِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ الشَّاذُّ إِلاَّ أَنَّهُ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْل النَّظَرِ مِمَّنْ يُدْرِكُ الرَّاجِحَ وَالْمَرْجُوحَ مَضَى حُكْمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ زُجِرَ عَنْ مُوَافَقَةِ مِثْل هَذَا، أَيْ وَلَمْ يَمْضِ حُكْمُهُ.
وَقَدْ كَانَ الْمَازِرِيُّ - وَهُوَ فِي طَبَقَةِ الْمُجْتَهِدِينَ - لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْفَتْوَى بِالْمَشْهُورِ وَلاَ يَرْضَى حَمْل النَّاسِ عَلَى خِلاَفِهِ - لَكِنَّهُ أَفْتَى مَرَّةً بِالشَّاذِّ وَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الدَّاوُدِيِّ عَنْ مَالِكٍ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِضَعْفِهَا وَشُذُوذِهَا فِي مَسْأَلَةِ اسْتِحْقَاقِ الأَْرْضِ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ بَعْدَ
__________
(1) فتح العلي 1 / 62 - 63 نشر دار المعرفة.
(2) فتح العلي 1 / 55 - 56، 64 - 65.(25/360)
الزِّرَاعَةِ وَخُرُوجِ الإِْبَّانِ، وَخَالَفَ الْمَعْهُودَ مِنْ عَادَتِهِ مِنَ الْوُقُوفِ مَعَ الْمَشْهُورِ وَمَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ وَالْجُمْهُورُ لِلتَّشْدِيدِ عَلَى الظَّلَمَةِ وَالْمُتَعَدِّينَ مِنْ أَهْل الْبَغْيِ وَالْفَسَادِ، وَهُوَ مَأْلُوفٌ فِي الشَّرْعِ وَقَوَاعِدِ الْمَذْهَبِ (1) .
5 - وَقَال السُّبْكِيُّ: إِذَا كَانَ لِلْحَاكِمِ أَهْلِيَّةُ التَّرْجِيحِ وَرَجَّحَ قَوْلاً مَنْقُولاً بِدَلِيلٍ جَيِّدٍ، جَازَ وَنَفَذَ حُكْمُهُ وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا عِنْدَ أَكْثَرِ الأَْصْحَابِ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مَذْهَبِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالشَّاذِّ الْغَرِيبِ فِي مَذْهَبِهِ - أَيْ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَذْهَبِ - وَإِنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ، لأَِنَّهُ كَالْخَارِجِ عَنْ مَذْهَبِهِ، فَلَوْ حَكَمَ بِقَوْلٍ خَارِجٍ عَنْ مَذْهَبِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ لَهُ رُجْحَانُهُ، فَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ عَلَيْهِ الإِْمَامُ فِي التَّوْلِيَةِ الْتِزَامَ مَذْهَبٍ جَازَ، وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ أَوِ الْعُرْفِ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّ التَّوْلِيَةَ لَمْ تَشْمَلْهُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجُوزُ لِمَنِ انْتَسَبَ لِمَذْهَبِ إِمَامٍ مُعَيَّنٍ أَنْ يَتَخَيَّرَ فِي مَسْأَلَةٍ ذَاتِ قَوْلَيْنِ لإِِمَامِهِ أَوْ وَجْهَيْنِ لأَِحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيُفْتِيَ أَوْ يَحْكُمَ بِحَسَبِ مَا يَخْتَارُهُ مِنْهُمَا، بَل
__________
(1) فتح العلي المالك 1 / 64 - 65 ط مصطفى محمد.
(2) الأشباه للسيوطي ص 104 - 105 - ط دار الكتب العلمية.(25/361)
عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ أَيَّهُمَا أَقْرَبُ مِنَ الأَْدِلَّةِ أَوْ قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ فَيَعْمَل بِهِ لِقُوَّتِهِ (1) .
شِرَاء
انْظُرْ: بَيْع
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 458، ومطالب أولي النهى 6 / 447.(25/361)
شُرْب
التَّعْرِيفُ:
1 - الشُّرْبُ - بِالضَّمِّ - لُغَةً: تَنَاوُل كُل مَائِعٍ، مَاءً كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. (1)
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِنَفْسِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الأَْصْل جَوَازُ شُرْبِ الْمَشْرُوبَاتِ كُلِّهَا إِلاَّ مَا قَامَتْ دَلاَلَةُ تَحْرِيمِهِ (2) .
وَإِذَا كَانَ تَرْكُ الشُّرْبِ يُتْلِفُ نَفْسَ الإِْنْسَانِ أَوْ بَعْضَ أَعْضَائِهِ أَوْ يُضْعِفُهُ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَشْرَبَ مَا يَزُول مَعَهُ خَوْفُ الضَّرَرِ (3) .
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: أَمَّا مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ
__________
(1) المفردات للراغب الأصفهاني، والتعريفات للجرجاني، وطلبة الطلبة ص319 نشر دار القلم.
(2) الجصاص 3 / 41 ط المطبعة البهية المصرية.
(3) الجصاص 3 / 41، وابن عابدين 5 / 215.(25/362)
وَهُوَ مَا سَكَّنَ الظَّمَأَ فَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ عَقْلاً وَشَرْعًا لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ النَّفْسِ وَحِرَاسَةِ الْحَوَاسِّ (1) .
وَقَال الْجَصَّاصُ: أَمَّا الْحَال الَّتِي لاَ يَخَافُ الإِْنْسَانُ ضَرَرًا فِيهَا بِتَرْكِ الشُّرْبِ فَالشُّرْبُ مُبَاحٌ (2) .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي شُرْبِ الزَّائِدِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقِيل حَرَامٌ. وَقِيل مَكْرُوهٌ، قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ (3) .
آدَابُ الشُّرْبِ:
1) التَّسْمِيَةُ عَلَى الشُّرْبِ:
3 - تُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ فِي أَوَّل الشُّرْبِ.
قَال صَاحِبُ غَايَةِ الْمُنْتَهَى: يُسَمِّي الشَّارِبُ عِنْدَ كُل ابْتِدَاءٍ وَيَحْمَدُ عِنْدَ كُل قَطْعٍ.
وَقَال الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّسْمِيَةِ لِيُسْمِعَ غَيْرَهُ وَيُنَبِّهَهُ عَلَيْهَا. وَلَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ فِي أَوَّل الشُّرْبِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً أَوْ مُكْرَهًا أَوْ عَاجِزًا لِعَارِضٍ آخَرَ، ثُمَّ تَمَكَّنَ أَثْنَاءَ شُرْبِهِ أَوْ بَعْدَهُ مِنْهَا، يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَمِّيَ
__________
(1) القرطبي 7 / 191.
(2) الجصاص 3 / 41.
(3) القرطبي 7 / 191 وابن العربي 2 / 771.(25/362)
وَيَقُول: " بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ " لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَكَل أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُل: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ (1) .
وَتَحْصُل التَّسْمِيَةُ بِقَوْلِهِ: " بِسْمِ اللَّهِ " فَإِنْ قَال: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " كَانَ حَسَنًا (2) .
(2) الشُّرْبُ بِالْيَمِينِ:
4 - يُسْتَحَبُّ الشُّرْبُ بِالْيَمِينِ، وَيُكْرَهُ الشُّرْبُ بِالشِّمَال إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ؛ لِخَبَرِ إِذَا أَكَل أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُل بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُل بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ (3) . فَإِنْ كَانَ عُذْرٌ يَمْنَعُ الشُّرْبَ بِالْيَمِينِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلاَ كَرَاهَةَ فِي الشِّمَال (4) .
__________
(1) حديث: " إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله ". أخرجه أبو داود (4 / 140 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (4 / 288 - ط الحلبي) من حديث عائشة، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح) .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 13 / 189 والمنتقى 5 / 135 والشرح الصغير 4 / 750، ومطالب أولي النهى 5 / 241، 244 والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 178 - 179.
(3) حديث: " إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1598 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 13 / 191 - 192، والشرح الصغير 4 / 755، ومطالب أولي النهى 5 / 249.(25/363)
(3) الشُّرْبُ ثَلاَثَةُ أَنْفَاسٍ:
5 - السُّنَّةُ: أَنْ يَشْرَبَ الْمَاءَ فِي ثَلاَثَةِ أَنْفَاسٍ، فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الإِْنَاءِ ثَلاَثًا وَفِي لَفْظٍ كَانَ يَتَنَفَّسُ ثَلاَثًا، وَيَقُول: إِنَّهُ أَرْوَى وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ (1) . وَمَعْنَى أَرْوَى: أَيْ أَكْثَرُ رَيًّا، وَأَبْرَأُ: أَيْ أَسْلَمُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ أَذًى يَحْصُل بِسَبَبِ الشُّرْبِ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ، وَأَمْرَأُ: أَيْ أَكْمَل انْسِيَاغًا.
قَال الشَّوْكَانِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْحَدِيثِ: هَذِهِ الأُْمُورُ الثَّلاَثَةُ إِنَّمَا تَحْصُل بِأَنْ يَشْرَبَ ثَلاَثَةَ أَنْفَاسٍ خَارِجَ الْقَدَحِ (2) .
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الشُّرْبِ بِنَفْسٍ وَاحِدٍ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُمَا أَجَازَاهُ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ كَرَاهَةُ الشُّرْبِ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ، وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ شُرْبُ الشَّيْطَانِ (3) .
__________
(1) حديث: " كان يتنفس في الإناء ثلاثا ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 92 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1602 - 1603 - ط الحلبي) ، وقوله: " إنه أروى وأبرأ وأمرأ " تفرد به مسلم.
(2) عمدة القاري 2 / 295، نيل الأوطار 8 / 192 - ط العثمانية.
(3) عمدة القاري 21 / 201.(25/363)
(4) عَدَمُ التَّنَفُّسِ فِي الإِْنَاءِ:
6 - يُنْدَبُ إِبْعَادُ الْقَدَحِ حِينَ التَّنَفُّسِ حَالَةَ الشُّرْبِ، وَيُكْرَهُ التَّنَفُّسُ فِي الإِْنَاءِ كَمَا يُكْرَهُ النَّفْخُ فِيهِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَتَنَفَّسَ فِي الإِْنَاءِ أَوْ يَنْفُخَ فِيهِ (1) .
قَال أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ فِي حِكْمَةِ النَّهْيِ عَنِ النَّفْخِ فِي الإِْنَاءِ: نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ حَمْلاً لأُِمَّتِهِ عَلَى مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ، لأَِنَّ النَّافِخَ فِي آنِيَةِ الْمَاءِ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنْ رِيقِهِ فِيهَا شَيْءٌ مَعَ النَّفْخِ فَيَتَقَذَّرَهُ النَّاظِرُ وَيُفْسِدَهُ عَلَيْهِ (2) .
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: النَّهْيُ عَنِ التَّنَفُّسِ فِي (الإِْنَاءِ) الَّذِي يُشْرَبُ مِنْهُ لِئَلاَّ يَخْرُجَ مِنَ الْفَمِ بُزَاقٌ يَسْتَقْذِرُهُ مَنْ شَرِبَ بَعْدَهُ مِنْهُ، أَوْ تَحْصُل فِيهِ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَاءِ أَوْ بِالإِْنَاءِ (3) .
(5) عَدَمُ الشُّرْبِ قَائِمًا:
7 - كَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّرْبُ قَاعِدًا، هَذَا
__________
(1) حديث: " نهى أن يتنفس في الإناء ". أخرجه الترمذي (4 / 304 - الحلبي) وقال: (حديث حسن صحيح) .
(2) المنتقى 7 / 236، وانظر الآداب الشرعية 3 / 180 ومطالب أولي النهى 5 / 248.
(3) الشرح الصغير 4 / 754، 755، ونيل الأوطار 8 / 192.(25/364)
كَانَ هَدْيُهُ الْمُعْتَادُ، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا (1) ، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ الَّذِي شَرِبَ قَائِمًا أَنْ يَسْتَقِيءَ (2) ، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ شَرِبَ قَائِمًا (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ. أَمَّا شُرْبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا فَبَيَانٌ لِلْجَوَازِ، فَلاَ إِشْكَال وَلاَ تَعَارُضَ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.
ثُمَّ قَال: فَإِنْ قِيل: كَيْفَ يَكُونُ الشُّرْبُ قَائِمًا مَكْرُوهًا وَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ فِعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ بَيَانًا لِلْجَوَازِ لاَ يَكُونُ مَكْرُوهًا بَل الْبَيَانُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، وَطَافَ عَلَى بَعِيرٍ، مَعَ أَنَّ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ ثَلاَثًا ثَلاَثًا وَالطَّوَافَ مَاشِيًا أَكْمَل. وَنَظَائِرُ هَذَا غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ، فَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَبِّهُ عَلَى جَوَازِ الشَّيْءِ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ وَيُوَاظِبُ عَلَى الأَْفْضَل
__________
(1) حديث: " نهى عن الشرب قائما ". أخرجه مسلم (3 / 1600 - ط الحلبي) من حديث أنس.
(2) حديث: " أمر الذي شرب قائما أن يستقئ ". أخرجه مسلم (3 / 1601 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " صح عنه أنه شرب قائما ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 81 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1601 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس.(25/364)
مِنْهُ. وَهَكَذَا كَانَ أَكْثَرُ وُضُوئِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثًا ثَلاَثًا وَالطَّوَافُ مَاشِيًا وَأَكْثَرُ شُرْبِهِ جَالِسًا.
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِلرَّافِعِيِّ: لاَ يُكْرَهُ الشُّرْبُ قَائِمًا. وَأَضَافَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الشُّرْبَ قَائِمًا بِلاَ عُذْرٍ خِلاَفُ الأَْوْلَى لِلأَْحَادِيثِ الصَّرِيحَةِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. وَقَدْ ضَعَّفَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَحَادِيثَ النَّهْيِ، وَقِيل: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ (1) .
(6) مَصُّ الْمَاءِ:
8 - يُنْدَبُ مَصُّ الْمَاءِ وَيُكْرَهُ عَبُّهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمُصَّ مَصًّا وَلاَ يَعُبُّ عَبًّا فَإِنَّ الْكُبَادَ مِنَ الْعَبِّ (2) .
وَالْكُبَادُ وَجَعُ الْكَبِدِ، وَمِثْل الْمَاءِ كُل مَائِعٍ كَاللَّبَنِ (3) .
وَقَال الرَّحِيبَانِيُّ: يَعُبُّ اللَّبَنَ لأَِنَّهُ طَعَامٌ (4) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 13 / 195، روضة الطالبين 7 / 340، وعمدة القاري 21 / 193، وزاد المعاد 4 / 229.
(2) حديث: " إذا شرب أحدكم فليمص مصا. . . ". أخرجه عبد الرزاق (10 / 428 - ط المجلس العلمي) وعنه البيهقي (7 / 284 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن أبي حسين مرسلا، وكذا أعله البيهقي بالإرسال.
(3) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 180، والشرح الصغير 4 / 754.
(4) مطالب أولي النهى 5 / 243.(25/365)
(7) تَقْلِيل الشَّرَابِ:
9 - يُطْلَبُ تَخْفِيفَ الْمَعِدَةِ بِتَقْلِيل الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَلَى قَدْرٍ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ وَلاَ كَسَلٌ عَنِ الْعِبَادَةِ (1) .
قَال ابْنُ مُفْلِحٍ: اعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى بَالَغَ فِي تَقْلِيل الْغِذَاءِ أَوِ الشَّرَابِ فَأَضَرَّ بِبَدَنِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ، أَوْ قَصَّرَ عَنْ فِعْل وَاجِبٍ لِحَقِّ اللَّهِ أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، كَالتَّكَسُّبِ لِمَنْ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ، وَإِلاَّ كُرِهَ ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ عَنِ الأَْمْرِ الشَّرْعِيِّ (2) .
(8) الشُّرْبُ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ:
10 - يُكْرَهُ الشُّرْبُ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ، وَكَذَا اخْتِنَاثُ الأَْسْقِيَةِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فِي السِّقَاءِ (3) . وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: {نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اخْتِنَاثِ الأَْسْقِيَةِ (4)
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 752، 753.
(2) الآداب الشرعية 3 / 200.
(3) حديث: " نهى عن الشراب من فيّ السقاء ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 90 - ط السلفية) .
(4) حديث: " نهى عن اختناث الأسقية ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 89 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1600 - ط الحلبي) .(25/365)
يَعْنِي أَنْ تُكْسَرَ أَفْوَاهُهَا فَيُشْرَبَ مِنْهَا (1) .
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الْكَرَاهَةَ هُنَا لِلتَّنْزِيهِ، لاَ لِلتَّحْرِيمِ. وَنَقَل النَّوَوِيُّ الاِتِّفَاقَ عَلَى هَذَا (2) . وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ تَدُل عَلَى جَوَازِ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ. قَال الْعِرَاقِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الأَْحَادِيثِ الَّتِي تَدُل عَلَى الْجَوَازِ وَبَيْنَ الأَْحَادِيثِ الَّتِي تَدُل عَلَى الْمَنْعِ: إِنَّهُ لَوْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يَكُونُ لِعُذْرٍ كَأَنْ تَكُونَ الْقِرْبَةُ مُعَلَّقَةً وَلَمْ يَجِدِ الْمُحْتَاجُ إِلَى الشُّرْبِ إِنَاءً مُتَيَسِّرًا وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّنَاوُل بِكَفِّهِ فَلاَ كَرَاهَةَ حِينَئِذٍ، وَعَلَى هَذَا تُحْمَل الأَْحَادِيثُ الَّتِي تَدُل عَلَى جَوَازِ الشُّرْبِ مِنْ فِي السِّقَاءِ، وَبَيْنَ مَا يَكُونُ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَتُحْمَل عَلَيْهِ أَحَادِيثُ النَّهْيِ (3) .
وَقِيل: لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ مِنَ الأَْحَادِيثِ الَّتِي تَدُل عَلَى الْجَوَازِ إِلاَّ بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ كُلُّهَا مِنْ قَوْلِهِ، فَهِيَ أَرْجَحُ (4) .
وَوَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي النَّهْيِ مَا قَالَهُ الْبَعْضُ مِنْ أَنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مِنْ دُخُول شَيْءٍ مِنَ الْهَوَامِّ مَعَ الْمَاءِ فِي جَوْفِ السِّقَاءِ، فَيَدْخُل فَمَ الشَّارِبِ
__________
(1) مطالب أولي النهى 5 / 248، والآداب الشرعية 3 / 182، وروضة الطالبين 7 / 340.
(2) عمدة القاري 21 / 199.
(3) نيل الأوطار 8 / 197 - ط العثمانية.
(4) عمدة القاري 21 / 199.(25/366)
وَلاَ يَدْرِي. فَعَلَى هَذَا لَوْ مَلأََ السِّقَاءَ وَهُوَ يُشَاهِدُ الْمَاءَ الَّذِي يَدْخُل فِيهِ ثُمَّ رَبَطَهُ رَبْطًا مُحْكَمًا، ثُمَّ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ حَلَّهُ فَشَرِبَ مِنْهُ، لاَ يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ، وَقِيل: مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِلَفْظِ: نَهَى أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِيِّ السِّقَاءِ لأَِنَّ ذَلِكَ يُنْتِنُهُ (1) وَهَذَا عَامٌّ. وَقِيل: إِنَّ الَّذِي يَشْرَبُ مَنْ فِي السِّقَاءِ قَدْ يَغْلِبُهُ الْمَاءُ فَيَنْصَبُّ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَتِهِ فَلاَ يَأْمَنُ أَنْ يَشْرَقَ بِهِ أَوْ تَبْتَل ثِيَابُهُ (2) .
(9) الشُّرْبُ مِنْ ثُلْمَةِ الإِْنَاءِ:
11 - يُكْرَهُ الشُّرْبُ مِنْ ثُلْمَةِ الإِْنَاءِ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ وَأَنْ يَنْفُخَ فِي الشَّرَابِ (3) .
قَال الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا نَهَى عَنِ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ لأَِنَّهُ إِذَا شَرِبَ مِنْهَا تَصَبَّبَ الْمَاءُ
__________
(1) حديث: " نهى أن يشرب من فيّ السقاء، لأن ذلك ينتنه ". أخرجه الحاكم (4 / 140 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة وقواه ابن حجر في الفتح (10 / 91 - ط السلفية) .
(2) عمدة القاري 21 / 199 - 200، والآداب الشرعية 3 / 182.
(3) حديث: " نهى عن الشرب من ثلمة القدح ". أخرجه أبو داود (4 / 111 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وإسناده حسن لغيره، وله شواهد ذكرها الهيثمي في المجمع (5 / 78 - ط القدسي) .(25/366)
وَسَال قَطْرُهُ عَلَى وَجْهِهِ وَثَوْبِهِ، لأَِنَّ الثُّلْمَةَ لاَ تَتَمَاسَكُ عَلَيْهَا شَفَةُ الشَّارِبِ، كَمَا تَتَمَاسَكُ عَلَى الْمَوْضِعِ الصَّحِيحِ مِنَ الْكُوزِ وَالْقَدَحِ (1) .
(10) الْحَمْدُ عَقِبَ الشُّرْبِ:
12 - يُسَنُّ لِلشَّارِبِ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ عَقِبَ الشُّرْبِ (2) ؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُل الأَْكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا (3) .
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَكَل أَوْ شَرِبَ قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى وَسَوَّغَهُ وَجَعَل لَهُ مَخْرَجًا (4) .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَال:
__________
(1) الآداب الشرعية 3 / 183 ومطالب أولي النهى 5 / 248، ومعالم السنن للخطابي 4 / 274 - ط المطبعة العلمية بحلب.
(2) الفتوحات الربانية 5 / 288، 229، والإقناع للشربيني الخطيب 2 / 239.
(3) حديث: " إن الله ليرضى عن العبد. . . ". أخرجه مسلم (4 / 2095 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(4) حديث: " كان إذا أكل أو شرب قال: الحمد لله الذي أطعم وسقى ". أخرجه أبو داود (4 / 187 - 188 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.(25/367)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ (1) .
قَال زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ: " يُنْدَبُ أَنْ يَشْرَبَ فِي ثَلاَثَةِ أَنْفَاسٍ، بِالتَّسْمِيَةِ فِي أَوَائِلِهَا وَبِالْحَمْدِ فِي أَوَاخِرِهَا (2) ".
(11) التَّيَامُنُ فِي مُنَاوَلَةِ الشَّرَابِ:
13 - يُسَنُّ التَّيَامُنُ فِي مُنَاوَلَةِ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمَا. قَال الرَّحِيبَانِيُّ: إِذَا شَرِبَ لَبَنًا أَوْ غَيْرَهُ سُنَّ أَنْ يُنَاوِل الأَْيْمَنَ وَلَوْ صَغِيرًا أَوْ مَفْضُولاً، وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَهُ فِي مُنَاوَلَتِهِ الأَْكْبَرَ فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ نَاوَلَهُ لَهُ (3) .
فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ وَعَنْ شِمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَشَرِبَ ثُمَّ أَعْطَى الأَْعْرَابِيَّ، وَقَال: الأَْيْمَنَ الأَْيْمَنَ (4) . وَمِنْ حَدِيثِ سَهْل بْنِ سَعْدٍ الأَْنْصَارِيِّ:
__________
(1) حديث: " كان إذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله الذي. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 187 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وأعله الذهبي بالاضطراب وبجهالة أحد رواته، كذا في " الميزان " (1 / 228 - ط الحلبي) .
(2) أسنى المطالب 3 / 228.
(3) مطالب أولي النهى 5 / 251.
(4) حديث أنس: أن رسول الله (ص) أتى بلبن. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 86 - ط السلفية) . ومسلم (3 / 1603 - ط الحلبي) .(25/367)
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الأَْشْيَاخُ، فَقَال لِلْغُلاَمِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ؟ فَقَال: وَاَللَّهِ يَا رَسُول اللَّهِ لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا. قَال: فَتَلَّهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ (1) . قَال الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ حُكْمَ التَّيَامُنِ فِي الْمُنَاوَلَةِ آكَدُ مِنْ حُكْمِ السِّنِّ (2) .
الشُّرْبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
14 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ تَحْرِيمَ الأَْكْل وَالشُّرْبِ فِي إِنَاءِ الذَّهَبِ وَإِنَاءِ الْفِضَّةِ، وَيَسْتَوِي فِي التَّحْرِيمِ الرَّجُل وَالْمَرْأَةُ. (3)
وَنَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ الإِْجْمَاعَ عَلَيْهِ، إِلاَّ مَا نُقِل عَنِ التَّابِعِيِّ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، وَنُقِل عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي سَمَاعِ حَرْمَلَةَ أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِلتَّنْزِيهِ لأَِنَّ فِيهِ تَشَبُّهًا بِالأَْعَاجِمِ (4) .
0
__________
(1) حديث سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتى بشراب. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 86 - ط السلفية) .
(2) مطالب أولي النهى 5 / 247، والمنتقى 7 / 237 - 238.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 14، والمغني لابن قدامة 1 / 75 وما بعدها والدسوقي 1 / 64، والمجموع 1 / 250 والمنتقى 7 / 235 والهداية وشروحها 8 / 81.
(4) المجموع 1 / 249 وفتح الباري 10 / 94.(25/368)
شُرْبُ الْجُنُبِ:
15 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُسَنُّ لِمَنْ عَلَيْهِ غُسْلٌ أَنْ يَتَوَضَّأَ لإِِرَادَةِ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: رَخَّصَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجُنُبِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُل أَوْ يَشْرَبَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ (1) .
قَال أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: وَلاَ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْحَائِضِ لأَِنَّ الْوُضُوءَ لاَ يُؤَثِّرُ فِي حَدَثِهَا، وَيُؤَثِّرُ فِي حَدَثِ الْجَنَابَةِ؛ لأَِنَّهُ يُخَفِّفُهُ وَيُزِيلُهُ عَنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ (2) .
وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْجُنُبَ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْوُضُوءِ لِلأَْكْل وَالشُّرْبِ.
قَال مَالِكٌ: لاَ يَتَوَضَّأُ إِلاَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ فَقَطْ وَهُوَ جُنُبٌ، وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَطْعَمَ أَوْ يُعَاوِدَ الْجِمَاعَ فَلَمْ يُؤْمَرْ بِالْوُضُوءِ (3) .
الشُّرْبُ فِي الصَّلاَةِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ مَمْنُوعٌ مِنْ
__________
(1) حديث: " رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للجنب. . . ". أورده صاحب مطالب أولي النهى (1 / 186 - ط المكتب الإسلامي) وعزاه إلى أحمد وقال: " بإسناد صحيح ".
(2) مطالب أولي النهى 1 / 186 والمغني 1 / 229 والإقناع للشربيني الخطيب 1 / 61 والمجموع 2 / 155.
(3) المنتقى 1 / 98.(25/368)
الشُّرْبِ، وَأَنَّهُ إِذَا شَرِبَ فِي صَلاَةِ الْفَرْضِ عَامِدًا لَزِمَهُ الإِْعَادَةُ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ سَاهِيًا: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ وَيُشْرَعُ لَهُ سُجُودُ السَّهْوِ. وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَدَمَ بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَا إِذَا كَانَ الشُّرْبُ يَسِيرًا، أَمَّا كَثِيرُ الشُّرْبِ فَيُبْطِل الصَّلاَةَ مُطْلَقًا (2) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالأَْوْزَاعِيُّ أَنَّ الصَّلاَةَ يُفْسِدُهَا الشُّرْبُ مُطْلَقًا وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ، لأَِنَّهُ فِعْلٌ مُبْطِلٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلاَةِ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ كَالْعَمَل الْكَثِيرِ (3) .
وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَيُبْطِلُهُ الشُّرْبُ الْمُتَعَمَّدُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ مَا أَبْطَل الْفَرْضَ أَبْطَل التَّطَوُّعَ كَسَائِرِ مُبْطِلاَتِهِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ لاَ يُبْطِلُهُ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا شَرِبَا فِي
__________
(1) المجموع 4 / 89، 90 المغني 2 / 61، الشرح الصغير 1 / 343، والزرقاني 1 / 251، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص177.
(2) المغني 2 / 63 ومطالب أولي النهى 1 / 538 والمجموع 4 / 90 والزرقاني 1 / 252.
(3) بدائع الصنائع 1 / 242 وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص177 والمجموع 4 / 90 والمغني 2 / 62.(25/369)
التَّطَوُّعِ. وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ، وَكَذَلِكَ قَال إِسْحَاقُ، لأَِنَّهُ عَمَلٌ يَسِيرٌ فَأَشْبَهَ غَيْرَ الأَْكْل.
فَأَمَّا إِنْ كَثُرَ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ يُفْسِدُهَا، لأَِنَّ غَيْرَ الأَْكْل مِنَ الأَْعْمَال يُفْسِدُ إِذَا كَثُرَ، فَالأَْكْل وَالشُّرْبُ أَوْلَى (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: صَلاَة) .
شُرْبُ الصَّائِمِ:
17 - يَحْرُمُ عَلَى الصَّائِمِ الأَْكْل وَالشُّرْبُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَْسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} (2) . فَإِنْ شَرِبَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلصَّوْمِ عَالِمٌ بِتَحْرِيمِهِ مُخْتَارٌ بَطَل صَوْمُهُ، لِمَا رَوَى لَقِيطُ بْنُ صَبِرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَسْبِغِ الْوُضُوءَ، وَخَلِّل بَيْنَ الأَْصَابِعِ وَبَالِغْ فِي الاِسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا (3) . فَدَل عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَصَل إِلَى الدِّمَاغِ شَيْءٌ بَطَل صَوْمُهُ.
__________
(1) المغني 2 / 61 - 62.
(2) سورة البقرة / 187.
(3) حديث: " أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع. . . ". أخرجه الترمذي (3 / 146 - ط الحلبي) من حديث لقيط بن صبرة، وقال: " حديث حسن صحيح ".(25/369)
وَنَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ الإِْجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَلَى الصَّائِمِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: صَوْم) .
الشُّرْبُ مِنْ زَمْزَمَ:
18 - يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَأَنْ يَتَضَلَّعَ مِنْهُ. وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي بَحْثِ زَمْزَم مِنَ الْمَوْسُوعَةِ ج 24 ف 3
__________
(1) المجموع / 312 وانظر بدائع الصنائع 2 / 91 ومطالب أولي النهى 2 / 191، وبداية المجتهد 1 / 290 نشر دار المعرفة.(25/370)
شِرْب
التَّعْرِيفُ:
1 - الشِّرْبُ فِي اللُّغَةِ: الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ مِنَ الْمَاءِ.
قَال تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ صَالِحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {قَال هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (1) .
وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَاءِ عَيْنِهِ، وَعَلَى النَّوْبَةِ. وَهِيَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لاِسْتِحْقَاقِ الشُّرْبِ، وَعَلَى الْمَوْرِدِ، وَالْجَمْعُ أَشْرَابٌ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ: نَوْبَةُ الاِنْتِفَاعِ، أَوْ زَمَنُ الاِنْتِفَاعِ بِالشِّرْبِ لِسَقْيِ الشَّجَرِ أَوِ الزَّرْعِ (3) .
__________
(1) سورة الشعراء / 155.
(2) لسان العرب، ابن عابدين 5 / 281، وبدائع الصنائع 6 / 188.
(3) المصادر السابقة.(25/370)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الشَّفَةُ:
2 - وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُهُ الإِْنْسَانُ مِنَ الْمَاءِ لِدَفْعِ عَطَشٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ لِلطَّبْخِ أَوِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِسَقْيِ الْمَوَاشِي وَالدَّوَابِّ لِدَفْعِ الْعَطَشِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُنَاسِبُهَا (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَنْوَاعُ الْمِيَاهِ بِالنِّسْبَةِ لِحَقَّيِ الشِّرْبِ وَالشَّفَةِ:
تَنْقَسِمُ الْمِيَاهُ بِالنَّظَرِ إِلَى تَمَلُّكِهَا وَالاِنْتِفَاعِ بِهَا إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: الْمَاءُ الْعَامُّ:
3 - وَهُوَ النَّابِعُ فِي مَوْضِعٍ لاَ يَخْتَصُّ بِأَحَدٍ وَلاَ صُنْعَ لِلآْدَمِيِّينَ فِي إِنْبَاطِهِ وَإِجْرَائِهِ كَالأَْنْهَارِ الْكَبِيرَةِ كَالنِّيل وَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ وَسَائِرِ أَوْدِيَةِ الْعَالَمِ وَالْعُيُونِ فِي الْجِبَال، فَهَذَا النَّوْعُ حَقٌّ لِلنَّاسِ جَمِيعًا وَلَيْسَ لأَِحَدٍ مِلْكٌ فِي الْمَاءِ وَلاَ فِي الْمَجْرَى.
وَلِكُل وَاحِدٍ حَقُّ الاِنْتِفَاعِ بِهِ بِالشَّفَةِ وَالشِّرْبِ، وَلَهُ شَقُّ الْجَدَاوِل مِنَ الأَْنْهَارِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 281.(25/371)
وَنَحْوِهَا، وَنَصْبُ آلاَتِ السَّقْيِ عَلَيْهَا لإِِجْرَاءِ الْمِيَاهِ لأَِرْضِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ وَسَائِل الاِنْتِفَاعِ بِالْمَاءِ.
وَلَيْسَ لِحَاكِمٍ وَلاَ لِغَيْرِهِ مَنْعُ أَحَدٍ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهِ بِكُل الْوُجُوهِ، إِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى فِعْلِهِ ضَرَرٌ عَلَى النَّهْرِ أَوِ الْجَمَاعَةِ (1) .
لِخَبَرِ الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثَةٍ فِي الْكَلأَِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ (2) . فَإِنْ أَضَرَّ فِعْلُهُ بِالْعَامَّةِ فَلِلْحَاكِمِ إِزَالَةُ الْقَدْرِ الضَّارِّ مِنْ فِعْلِهِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِبَاحَةُ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّهِمْ مَشْرُوطَةٌ بِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ لِحَدِيثِ لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (3) وَلِلْعَامَّةِ أَيْضًا مَنْعُهُ مِنَ الإِْضْرَارِ بِحَقِّهِمْ (4) .
وَإِنْ حَضَرَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ أَخَذَ كُل وَاحِدٍ مَا شَاءَ.
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 304، نهاية المحتاج 6 / 351، البدائع 6 / 192، تبيين الحقائق 6 / 39، حاشية الدسوقي 4 / 74، شرح الزرقاني 7 / 72 - 73.
(2) حديث: " المسلمون شركاء في ثلاثة. . . ". أخرجه أبو داود (3 / 751 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث رجل من المهاجرين. وإسناده صحيح.
(3) حديث: " لا ضرر ولا ضرار ". أخرجه مالك في الموطأ (2 / 745 - ط الحلبي) من حديث يحيى المازني مرسلا. ولكن له طرق أخرى موصولة يتقوى بها، ذكرها ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص286 - 287 - ط الحلبي) .
(4) المصادر السابقة.(25/371)
وَإِنْ قَل الْمَاءُ أَوْ ضَاقَ الْمَشْرَعُ قُدِّمَ السَّابِقُ، فَإِنْ جَاءَا مَعًا أَقُرِعَ بَيْنَهُمَا، وَإِنِ احْتَاجَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمَاءِ لِسَقْيِ الأَْرْضِ، وَالْبَعْضُ الآْخَرُ لِلشُّرْبِ لِدَفْعِ الْعَطَشِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ دَوَابِّهِ قُدِّمَ الْمُحْتَاجُ لِلشُّرْبِ.
قِسْمَةُ الْمِيَاهِ الْعَامَّةِ:
4 - إِذَا أَرَادَ قَوْمٌ سَقْيَ أَرَاضِيهِمْ مِنْ مِثْل هَذِهِ الْمِيَاهِ، فَإِنْ كَانَ النَّهْرُ عَظِيمًا وَالْمَشْرَعُ وَاسِعًا يَفِي بِالْجَمِيعِ سَقَى مَنْ شَاءَ مَتَى شَاءَ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ.
وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلاً أَوْ ضَاقَ الْمَشْرَعُ، سَقَى الأَْوَّل أَرْضَهُ ثُمَّ يُرْسِلُهُ إِلَى الثَّانِي، ثُمَّ الثَّانِي إِلَى الثَّالِثِ، وَهَكَذَا.
هَذَا إِذَا كَانَ الأَْوَّل قَدْ تَقَدَّمَ فِي الإِْحْيَاءِ عَلَى الأَْسْفَل، أَوْ تَسَاوَيَا فِي الإِْحْيَاءِ، أَمَّا إِنْ تَقَدَّمَ الأَْسْفَل فَيُقَدَّمُ هُوَ (1) .
فَإِنْ لَمْ يَفْضُل عَنِ الأَْوَّل شَيْءٌ أَوْ عَنِ الثَّانِي أَوْ عَنْ مَنْ يَلِيهِمْ فَلاَ شَيْءَ لِلْبَاقِينَ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلاَّ مَا فَضَل فَلَمْ يَفْضُل شَيْءٌ كَالْعَصَبَةِ فِي الْمِيرَاثِ (2) . وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 305، أسنى المطالب 3 / 454، المغني 5 / 583، حاشية الدسوقي 4 / 74، رد المحتار 5 / 282.
(2) المغني 5 / 583 والمصادر السابقة.(25/372)
مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: إِنَّ رَجُلاً مِنَ الأَْنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِل الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ فَغَضِبَ الأَْنْصَارِيُّ وَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَال: يَا زُبَيْرُ اسْقِ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجُدُرِ (1) وَقَال الزُّبَيْرُ فَوَاَللَّهِ إِنِّي لأََحْسِبُ هَذِهِ الآْيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (2) . وَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَظَرْنَا فِي قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الْجُدُرِ فَكَانَ ذَلِكَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ (3) .
5 - وَإِنِ اسْتَوَى اثْنَانِ فِي الْقُرْبِ مِنْ أَوَّل النَّهْرِ اقْتَسَمَا الْمَاءَ بَيْنَهُمَا إِنْ أَمْكَنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا فَيُقَدَّمُ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ، فَإِنْ كَانَ لاَ يَفْضُل عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَى مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ تَرَكَهُ لِلآْخَرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَهْلِكَ جَمِيعَ الْمَاءِ؛ لأَِنَّ الآْخَرَ يُسَاوِيهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا الْقُرْعَةُ لِلتَّقْدِيمِ فِي
__________
(1) حديث: " اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 39 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1829 - 1830 - ط الحلبي) .
(2) سورة النساء - 65.
(3) المغني 5 / 585.(25/372)
الاِسْتِيفَاءِ أَوَّلاً. لاَ فِي أَصْل الْحَقِّ بِخِلاَفِ الأَْعْلَى مَعَ الأَْسْفَل.
فَإِنْ كَانَتْ أَرْضُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْضِ الآْخَرِ قُسِمَ الْمَاءُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الأَْرْضِ، لأَِنَّ الزَّائِدَ مِنْ أَرْضِ أَحَدِهِمَا مُسَاوٍ فِي الْقُرْبِ، فَاسْتَحَقَّ جُزْءًا مِنَ الْمَاءِ كَمَا لَوْ كَانَ لِشَخْصٍ ثَالِثٍ (1) .
6 - وَإِنْ كَانَ لِجَمَاعَةٍ حَقُّ الشُّرْبِ فِي نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ أَوْ سَيْلٍ وَأَحْيَا غَيْرُهُمْ أَرْضًا مَوَاتًا أَقْرَبَ إِلَى رَأْسِ النَّهْرِ مِنْ أَرْضِهِمْ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ قَبْلَهُمْ لأَِنَّهُمْ أَسْبَقُ مِنْهُ إِلَى النَّهْرِ، وَلأَِنَّ مَنْ مَلَكَ أَرْضًا مَلَكَهَا بِحُقُوقِهَا وَمَرَافِقِهَا، وَالْمَاءُ أَهَمُّ الْمَرَافِقِ، فَلاَ يَمْلِكُ إِبْطَال حُقُوقِهَا، وَالشُّرْبُ مِنْ حُقُوقِهَا (2) .
كَرْيُ الأَْنْهَارِ الْعَامَّةِ:
7 - الْكَرْيُ: إِخْرَاجُ الطِّينِ مِنْ أَرْضِ النَّهْرِ وَحَفْرُهُ وَإِصْلاَحُ ضِفَّتَيْهِ، وَمُؤْنَةُ الْكَرْيِ وَجَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الإِْصْلاَحِ مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ، لأَِنَّهُ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَال شَيْءٌ، أَجْبَرَ الْحَاكِمُ
__________
(1) المغني 5 / 584 - 585، أسنى المطالب 2 / 454، روضة الطالبين 5 / 306.
(2) روضة الطالبين 5 / 306، المغني 5 / 585 أسنى المطالب 2 / 454، ابن عابدين 5 / 284.(25/373)
النَّاسَ عَلَى إِصْلاَحِ النَّهْرِ إِنِ امْتَنَعُوا عَنْهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَتَحْقِيقًا لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ (1) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمِيَاهُ الْجَارِيَةُ فِي أَنْهَارٍ وَسَوَاقِي مَمْلُوكَةٍ:
8 - مَنْ يَحْفِرُ نَهْرًا يَدْخُل فِيهِ الْمَاءُ مِنَ النَّهْرِ الْعَظِيمِ أَوْ مِنْ نَهْرٍ مُتَفَرِّعٍ مِنْهُ، فَالْمَاءُ فِي هَذَا بَاقٍ عَلَى إِبَاحَتِهِ، وَلَكِنْ مَالِكُ النَّهْرِ أَحَقُّ بِهِ كَالسَّيْل يَدْخُل فِي مِلْكِهِ، وَلِغَيْرِهِ حَقُّ الشِّرْبِ مِنْهُ وَالاِسْتِعْمَال، وَسَقْيِ الدَّوَابِّ لاَ سَقْيِ أَرْضِهِ وَشَجَرِهِ، فَإِنْ أَبَى صَاحِبُهُ كَانَ لِلْمُضْطَرِّ أَخْذُهُ جَبْرًا، وَلَهُ إِنْ مَنَعَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ وَلَوْ بِالسِّلاَحِ لأَِنَّ الْمَاءَ فِي النَّهْرِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ بِشَرْطِ أَلاَّ يَجِدَ الْمُضْطَرُّ مَاءً مُبَاحًا (2) . لأَِثَرِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " رَوَى أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ، فَلَمْ يَدُلُّوهُمْ عَلَيْهَا فَقَالُوا: إِنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا قَدْ كَادَتْ تَتَقَطَّعُ مِنَ الْعَطَشِ، فَدُلُّونَا عَلَى الْبِئْرِ، وَأَعْطُونَا دَلْوًا نَسْتَقِي، فَلَمْ يَفْعَلُوا فَذُكِرَ ذَلِكَ - لِعُمَرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَال: هَلاَّ وَضَعْتُمِ السِّلاَحَ فِيهِمْ.
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 306، أسنى المطالب 2 / 454 ابن عابدين 5 / 284.
(2) روضة الطالبين 5 / 307، أسنى المطالب 2 / 455، رد المحتار 5 / 282، بدائع الصنائع 6 / 189، المغني 5 / 587 - 589.(25/373)
وَيَجُوزُ لِغَيْرِ مَالِكِ النَّهْرِ أَنْ يَحْفِرَ فَوْقَ نَهْرِهِ نَهْرًا إِنْ لَمْ يُضَيِّقْ عَلَيْهِ، فَإِنْ ضَيَّقَ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
فَإِنِ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي الْحَفْرِ اشْتَرَكُوا فِي الْمِلْكِ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِمْ، فَإِنِ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ النَّهْرُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمْ مِنَ الأَْرْضِ يَكُونُ عَمَل كُل وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ أَرْضِهِ، فَإِنْ زَادَ أَحَدُهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرْضِهِ مُتَطَوِّعًا فَلاَ شَيْءَ لَهُ عَلَى الْبَاقِينَ. فَإِنْ أُكْرِهَ أَوْ شَرَطُوا لَهُ عِوَضًا رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِأُجْرَةِ مَا زَادَ، وَلَيْسَ لِلأَْعْلَى حَبْسُ الْمَاءِ عَنِ الأَْسْفَل.
وَإِذَا اقْتَسَمُوا الْمَاءَ بِالأَْيَّامِ وَالسَّاعَاتِ جَازَ؛ لأَِنَّهُ حَقَّهُمْ لاَ يَخْرُجُ عَنْهُمْ، وَإِنْ تَشَاحُّوا فِي قِسْمَتِهِ قَسَمَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَمْلاَكِهِمْ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمْلِكُ مِنَ النَّهْرِ بِقَدْرِ ذَلِكَ (1) ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْصِبَ خَشَبَةً فِي عَرْضِ النَّهْرِ فِيهَا ثُقُوبٌ مُتَسَاوِيَةٌ أَوْ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ. وَلَيْسَ لأَِحَدِهِمُ التَّصَرُّفُ فِي النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمْ بِتَوْسِيعِ فَمِ النَّهْرِ أَوْ تَضْيِيقِهِ وَلاَ بِنَاءِ قَنْطَرَةٍ عَلَيْهِ إِلاَّ بِرِضَاهُمْ. وَعِمَارَتُهُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ الْمِلْكِ لاِشْتِرَاكِهِمْ فِي الْمِلْكِ وَالاِنْتِفَاعِ، وَلَهُمْ أَنْ
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 307، المغني 5 / 585 - 586، ابن عابدين 5 / 284 - 285، المصادر السابقة.(25/374)
يَقْتَسِمُوا مُهَايَأَةً بِأَنْ يَسْقِيَ كُل وَاحِدٍ يَوْمًا أَوْ بَعْضُهُمْ يَوْمًا فَأَكْثَرَ بِحَسَبِ حِصَّتِهِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمُ الرُّجُوعُ عَنِ الْمُهَايَأَةِ مَتَى شَاءَ، وَلَهُمْ أَنْ يَقْتَسِمُوا بِكُل مَا يُتَوَصَّل بِهِ لإِِعْطَاءِ كُل ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنَ الْمَاءِ (1) .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَنْبَعُ مَمْلُوكًا:
9 - كَأَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مَوَاتٍ لِلتَّمَلُّكِ، أَوِ انْفَجَرَتْ فِي مِلْكِهِ عَيْنٌ. فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْمَاءَ لأَِنَّهُ نَمَاءٌ مَلَكَهُ كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْل الْفَاضِل مِنَ الْمَاءِ عَنْ شُرْبِهِ لِشُرْبِ غَيْرِهِ، وَبَذْل مَا فَضَل عَنْ مَاشِيَتِهِ لِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ لِحَدِيثِ: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ: فِي الْكَلأَِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ (2) بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ كَلأٌَ تَرْعَى الْمَاشِيَةُ مِنْهُ، وَلاَ يَجِدُ مَاءً مُبَاحًا أَوْ مَمْلُوكًا يَبْذُلُهُ صَاحِبُهُ لَهُ مَجَّانًا.
وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، لِلنَّهْيِ عَنْ
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 455، روضة الطالبين 5 / 307، المحلي على القيوبي 3 / 96 - 97، المغني 5 / 585، 586، ابن عابدين 5 / 285، بدائع الصنائع 6 / 190 - 191، تبيين الحقائق 6 / 42، القوانين الفقهية 331، حاشية الدسوقي 4 / 74.
(2) حديث: " الناس شركاء في ثلاث. . . ". تقدم تخريجه ف2.(25/374)
بَيْعِ فَضْل الْمَاءِ، وَلاَ يَجِبُ بَذْل فَضْل الْمَاءِ لِزَرْعِهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَهُ مَنْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَبَيْعُهُ، وَهِبَتُهُ، وَالتَّصَدُّقُ بِهِ، إِلاَّ مَنْ خِيفَ عَلَيْهِ هَلاَكٌ أَوْ ضَرَرٌ شَدِيدٌ، وَلاَ ثَمَنَ مَعَهُ حِينَ الْخَوْفِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ، فَلَيْسَ لِلْمَالِكِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَنْعُهُ وَلاَ بَيْعُهُ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُهُ لَهُ مَجَّانًا، وَلاَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ مَالٌ فَلاَ يَبْذُل لَهُ إِلاَّ بِالثَّمَنِ. وَكَذَا يَجِبُ عَلَى مَالِكِ الْمَاءِ بَذْل الْفَاضِل مِنَ الْمَاءِ لِزَرْعِ جَارِهِ، بِشَرْطِ أَنْ يَظُنَّ هَلاَكَ الزَّرْعِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَاءُ فَاضِلاً عَنْ زَرْعِ مَالِكِ الْمَاءِ، وَأَنْ يَزْرَعَ الْجَارُ زَرْعَهُ عَلَى مَاءٍ لَهُ، وَأَنْ يَشْرَعَ فِي إِصْلاَحِ بِئْرِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَفْضُل عَنْ زَرْعِهِ شَيْءٌ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْل الْمَاءِ لِغَيْرِهِ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَزْرَعِ الْجَارُ زَرْعَهُ عَلَى مَاءِ لِمُخَاطَرَتِهِ وَتَعْرِيضِهِ زَرْعَهُ لِلْهَلاَكِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ قَدْ زَرَعَ عَلَى مَاءٍ فَعَطِبَ وَلَمْ يَشْرَعْ فِي إِصْلاَحِهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَاءَ الآْبَارِ وَالْحِيَاضِ وَالْعُيُونِ لاَ يُمْلَكُ، بَل هُوَ مُبَاحٌ فِي(25/375)
نَفْسِهِ، سَوَاءٌ حُفِرَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَوْ أَرْضٍ مُبَاحَةٍ، وَلَكِنْ لِحَافِرِ الْبِئْرِ فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي مَوَاتٍ لِلتَّمَلُّكِ، وَلِمَنْ نَبَعَتِ الْعَيْنُ فِي أَرْضٍ يَمْلِكُهَا حَقُّ الاِخْتِصَاصِ؛ لأَِنَّ الْمَاءَ فِي الأَْصْل خُلِقَ مُبَاحًا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ: الْكَلأَِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ وَالشَّرِكَةُ تَقْتَضِي الإِْبَاحَةَ لِجَمِيعِ الشُّرَكَاءِ إِلاَّ إِذَا حَصَل فِي إِنَاءٍ وَأَحْرَزَهُ بِهِ، فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا، لأَِنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لأَِحَدٍ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بَقِيَ عَلَى أَصْل الإِْبَاحَةِ الثَّابِتَةِ بِالشَّرْعِ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لأَِنَّ الْبَيْعَ لاَ يَصِحُّ فِي مَالٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنَ الشُّرْبِ بِأَنْفُسِهِمْ وَسَقْيِ دَوَابِّهِمْ مِنْهُ لأَِنَّهُ مُبَاحٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَمْنَعَ نَقْعَ الْبِئْرِ وَهُوَ فَضْل مَائِهَا الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهَا، فَلِلنَّاسِ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهَا وَيَسْقُوا مِنْهَا دَوَابَّهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ(25/375)
فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الدُّخُول فِي مِلْكِهِ؛ لأَِنَّ فِي الدُّخُول فِي مِلْكِهِ إِضْرَارًا بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ. وَإِنِ اضْطُرُّوا إِلَيْهِ بِأَنْ لَمْ يَجِدُوا مَاءً غَيْرَهُ وَخَافُوا الْهَلاَكَ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الدُّخُول فِي مِلْكِهِ أَوْ يُخْرِجَ الْمَاءَ لَهُمْ، وَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُ عَلَى ذَلِكَ بِالسِّلاَحِ لِيَأْخُذُوهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ.
حَفْرُ بِئْرٍ لِلاِرْتِفَاقِ لاَ لِلتَّمَلُّكِ:
10 - إِنْ حَفَرَ بِئْرًا لِلاِرْتِفَاقِ فِي مَوَاتٍ اخْتَصَّ بِهِ وَبِمَائِهِ كَالْمَالِكِ مَا دَامَ مُقِيمًا عَلَيْهِ، لِخَبَرِ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ وَلَكِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ مَنْعَ مَا فَضَل مِنْهُ عَنِ الْمُحْتَاجِ لِشُرْبٍ وَسَقْيِ دَوَابَّ وَمَوَاشِي، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. فَإِنِ ارْتَحَل عَنْهَا بَطَل اخْتِصَاصُهُ. فَإِنْ عَادَ مَرَّةً أُخْرَى فَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَعُودُ لَهُ الاِخْتِصَاصُ.
وَإِنْ حَفَرَهَا لِلْمَارَّةِ فَهُوَ فِيهَا كَأَحَدِهِمْ.
وَإِنْ حَفَرَهَا بِلاَ قَصْدِ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ فَكَذَلِكَ.(25/376)
وَالْقَنَاةُ الْمَمْلُوكَةُ كَالْبِئْرِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْكَامٍ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: الْمَاءُ الْمُحْرَزُ بِالأَْوَانِي وَالظُّرُوفِ:
11 - وَهَذَا مَمْلُوكٌ لِمُحْرِزِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَلاَ حَقَّ لأَِحَدٍ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْمَاءَ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فِي الأَْصْل فَإِنَّ الْمُبَاحَ يُمْلَكُ بِالاِسْتِيلاَءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِلْغَيْرِ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالصَّيْدِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ. وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ فِي جَمِيعِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي سَائِرِ الأَْعْصَارِ عَلَى بَيْعِ السَّقَّائِينَ الْمِيَاهَ الْمُحْرَزَةَ فِي الظُّرُوفِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَلاَ يَحِل لأَِحَدٍ أَخْذُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ مُحْرِزِهِ، إِلاَّ أَنْ يَخَافَ الْهَلاَكَ، وَعِنْدَهُ فَضْلٌ عَنْ حَاجَتِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ لَهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يُقَدِّمَهُ لَهُ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَيْهِ.
شَرْطُ وُجُوبِ الاِنْتِفَاعِ بِالأَْنْهَارِ الْخَاصَّةِ وَنَحْوِهَا:
12 - يَجِبُ عَلَى الْمُنْتَفِعِ بِالأَْنْهَارِ وَالسَّوَّاقِي وَالآْبَارِ الْخَاصَّةِ أَلاَّ يَضُرَّ الْمَالِكَ فِي مِلْكِهِ، بِأَنْ يُحَافِظَ عَلَى حَافَّةِ النَّهْرِ وَالسَّاقِيَّةِ، وَالْبِئْرِ مِنَ(25/376)
التَّخْرِيبِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ فَلِصَاحِبِ الْمَجْرَى الْمَنْعُ مِنْهُ؛ إِذْ لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ.
رَفْعُ الدَّعْوَى لِلشِّرْبِ:
13 - مَنْ كَانَ لَهُ شِرْبٌ فِي مَاءٍ فَلَهُ رَفْعُ الدَّعْوَى عَلَى مَنْ حَال بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ؛ لأَِنَّ الشِّرْبَ مَرْغُوبٌ فِيهِ مُنْتَفَعٌ بِهِ وَيُمْكِنُ اسْتِحْقَاقُهُ بِغَيْرِ أَرْضٍ بِالإِْرْثِ وَالْوَصِيَّةِ؛ وَلأَِنَّهُ قَدِ ابْتَاعَ الأَْرْضَ دُونَ حَقِّ الشِّرْبِ، فَيَبْقَى الشِّرْبُ وَحْدَهُ، فَإِنِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ، صَرَّحَ بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَهُمْ لاَ يُجِيزُونَ التَّصَرُّفَ فِي الشِّرْبِ بِالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعُقُودِ وَغَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ أَوْلَى بِإِجَازَةِ رَفْعِ الدَّعْوَى لِكَوْنِهِمْ يُجِيزُونَ بَيْعَ حَقِّ الشِّرْبِ. كَمَا سَيَأْتِي.
التَّصَرُّفُ فِي الشِّرْبِ:
14 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الشِّرْبِ بِالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالصُّلْحِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.
فَإِنْ صَالَحَ رَجُلاً عَلَى مَوْضِعِ قَنَاةٍ فِي أَرْضِهِ(25/377)
يَجْرِي فِيهَا مَاءٌ وَبَيَّنَا مَوْضِعَهَا وَعَرْضَهَا وَطُولَهَا جَازَ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ بَيْعُ مَوْضِعٍ مِنْ أَرْضِهِ، وَلاَ حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ عُمْقِهِ لأَِنَّهُ إِذَا مَلَكَ الْمَوْضِعَ كَانَ لَهُ إِلَى تُخُومِهِ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى إجْرَاءِ الْمَاءِ فِي سَاقِيَةٍ مِنْ أَرْضِ رَبِّ الأَْرْضِ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا، جَازَ، وَهُوَ إجَارَةٌ لِلأَْرْضِ فَيُشْتَرَطُ تَقْدِيرُ الْمُدَّةِ؛ لأَِنَّ هَذَا شَأْنُ الإِْجَارَةِ.
أَمَّا الشِّرْبُ بِمَعْنَى الْمَاءِ فَقَدْ جَوَّزَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْعَهُ مُطْلَقًا فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ شِرْبَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ بِغَيْرِ أَصْل الْمَاءِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اشْتَرَى شِرْبَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مِنْ نَهْرِ رَجُلٍ أَوْ صَالَحَ عَلَيْهِ وَقُدِّرَ بِشَيْءٍ يُعْلَمُ بِهِ. قَال الْقَاضِي: لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ الْمَاءَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلاَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ. وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى سَهْمٍ مِنَ الْعَيْنِ أَوِ النَّهْرِ كَالرُّبُعِ وَالثُّلُثِ جَازَ، وَكَانَ بَيْعًا لِلْقَرَارِ وَالْمَاءُ تَابِعٌ لَهُ. قَال ذَلِكَ الْقَاضِي. وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُحْتَمَل أَنْ يَجُوزَ الصُّلْحُ عَلَى الشِّرْبِ مِنْ نَهْرِهِ أَوْ قَنَاتِهِ، لأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ. وَالْمَاءُ مِمَّا يَجُوزُ الْعِوَضُ(25/377)
عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ بِدَلِيل مَا لَوْ أَخَذَهُ فِي إِنَاءٍ أَوْ قِرْبَةٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى مَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْقِصَاصِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَاءِ إِنْ وَجَبَ بَذْلُهُ. وَإِنْ لَمْ يَجِبْ بَذْلُهُ بِأَنْ وَجَدَ مُحْتَاجُ الشُّرْبِ مَاءً آخَرَ فَلَهُ بَيْعُ الْمَاءِ، مُقَدَّرًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ، وَلاَ يَجُوزُ مُقَدَّرًا بِرَيِّ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الشِّرْبِ مُنْفَرِدًا بِأَنْ بَاعَ شِرْبَ يَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ لأَِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ حَقِّ الشِّرْبِ وَالسَّقْيِ، وَالْحُقُوقُ لاَ تَحْتَمِل الإِْفْرَادَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَلَوْ اشْتَرَى الشِّرْبَ بِدَارٍ وَقَبَضَهَا لَزِمَهُ رَدُّ الدَّارِ لأَِنَّهَا مَقْبُوضَةٌ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، فَكَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا انْتَفَعَ بِهِ مِنَ الشِّرْبِ، وَإِنْ بَاعَ الشِّرْبَ مَعَ الأَْرْضِ جَازَ تَبَعًا لِلأَْرْضِ؛ لِجَوَازِ كَوْنِ الشَّيْءِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ تَجْعَلْهُ التَّبَعِيَّةُ مَقْصُودًا بِذَاتِهِ، وَلاَ يَجُوزُ جَعْلُهُ أُجْرَةً لِدَارٍ، وَلاَ إجَارَتُهُ مُنْفَرِدًا لأَِنَّ الْحُقُوقَ لاَ تَحْتَمِل الإِْجَارَةَ كَمَا لاَ تَحْتَمِل الْبَيْعَ.(25/378)
وَإِنْ بَاعَ الأَْرْضَ وَلَمْ يَذْكُرِ الشِّرْبَ لَمْ يَدْخُل فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ أَجَّرَهَا وَلَمْ يَذْكُرِ الشِّرْبَ لَمْ يَدْخُل قِيَاسًا وَيَدْخُل اسْتِحْسَانًا لِوُجُودِ الذِّكْرِ دَلاَلَةً؛ لأَِنَّ الإِْجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وَلاَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِالأَْرْضِ بِدُونِ الشِّرْبِ فَيَكُونُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الأَْرْضِ دَلاَلَةً بِخِلاَفِ الْبَيْعِ، لأَِنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ تَحْتَمِل الْمِلْكَ بِدُونِ الْمَنْفَعَةِ، وَلاَ تَجُوزُ هِبَةُ الشِّرْبِ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَمْلِيكٌ وَالْحُقُوقُ الْمُفْرَدَةُ لاَ تَحْتَمِل التَّمْلِيكَ، وَلاَ يَجُوزُ الصُّلْحُ لأَِنَّ الصُّلْحَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ وَلاَ يَصْلُحُ مَهْرًا وَلاَ بَدَل خُلْعٍ.
النِّزَاعُ فِي اسْتِحْقَاقِ الشِّرْبِ:
15 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا وُجِدَتْ أَرْضٌ لَمْ يَكُنْ سَقْيُهَا مِنَ النَّهْرِ الْعَامِّ، وَوُجِدَتْ سَاقِيَةٌ لَهَا مِنَ النَّهْرِ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهَا شِرْبٌ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، حَكَمْنَا عِنْدَ التَّنَازُعِ بِأَنَّ لَهَا شِرْبًا مِنْهُ. وَلَوْ تَنَازَعَ الشُّرَكَاءُ فِي النَّهْرِ فِي قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ يُجْعَل عَلَى قَدْرِ الأَْرْضِينَ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّرِكَةَ بِحَسَبِ الْمِلْكِ.(25/378)
شَرْطٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّرْطُ بِسُكُونِ الرَّاءِ لُغَةً: إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ، وَيُجْمَعُ عَلَى شُرُوطٍ، وَبِمَعْنَى الشَّرْطِ الشَّرِيطَةُ وَجَمْعُهَا الشَّرَائِطُ. وَالشَّرَطُ بِفَتْحِ الرَّاءِ مَعْنَاهُ الْعَلاَمَةُ وَيُجْمَعُ عَلَى أَشْرَاطٍ وَمِنْهُ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ أَيْ عَلاَمَاتُهَا (1) .
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلاَ عَدَمٌ لِذَاتِهِ (2) .
وَعَرَّفَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ بِأَنَّهُ: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ تَأْثِيرُ الْمُؤَثِّرِ لاَ وُجُودُهُ، وَمَثَّل لَهُ بِالإِْحْصَانِ، فَإِنَّ تَأْثِيرَ الزِّنَا فِي الرَّجْمِ مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَ الإِْسْنَوِيُّ، وَأَمَّا نَفْسُ الزِّنَا فَلاَ؛ لأَِنَّ الْبِكْرَ قَدْ تَزْنِي (3) .
__________
(1) الصحاح والقاموس واللسان والمصباح مادة (شرط) والتعريفات للجرجاني / 166 (ط. صبيح) .
(2) حاشية البناني على جمع الجوامع 2 / 20 (ط. حلب) .
(3) شرح البدخشي 2 / 108 - 109 (ط صبيح) .(26/5)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرُّكْنُ:
2 - رُكْنُ الشَّيْءِ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا لاَ وُجُودَ لِذَلِكَ الشَّيْءِ إِلاَّ بِهِ، وَهُوَ الْجُزْءُ الذَّاتِيُّ الَّذِي تَتَرَكَّبُ الْمَاهِيَّةُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يَتَوَقَّفُ قِيَامُهَا عَلَيْهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرْطِ: هُوَ أَنَّ الشَّرْطَ يَكُونُ خَارِجًا عَنِ الْمَاهِيَّةِ، وَالرُّكْنُ يَكُونُ دَاخِلاً فِيهَا فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ (1) .
ب - السَّبَبُ:
3 - السَّبَبُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ لِذَاتِهِ. فَالسَّبَبُ وَالشَّرْطُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِمَا الْعَدَمُ. وَلَكِنَّ السَّبَبَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الشَّرْطِ الْوُجُودُ، كَصَلاَةِ الظُّهْرِ سَبَبُهَا زَوَال الشَّمْسِ وَشَرْطُهَا الطَّهَارَةُ (2) .
ج - الْمَانِعُ:
4 - وَمَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ كَمَا ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي
__________
(1) التعريفات / 149 (ط. دار الكتاب العربي) ، والكليات 2 / 395 - 396 (ط. الثانية) ، وحاشية ابن عابدين 1 / 61 - 64 ط. المصرية، وحاشية الجمل 1 / 328 ط. دار إحياء التراث.
(2) أصول السرخسي 2 / 301، 304 (ط. دار الكتاب العربي) ، والفروق للقرافي (1 / 61 - 62 ف الثالث (ط المعرفة) ، وحاشية البناني على جمع الجوامع 1 / 94 (ط. الحلبي) .(26/5)
الْفُرُوقِ: هُوَ مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ وُجُودٌ وَلاَ عَدَمٌ لِذَاتِهِ، فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى عَكْسُ الشَّرْطِ لأَِنَّ الشَّرْطَ مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلاَ عَدَمٌ لِذَاتِهِ.
وَقَال ابْنُ السُّبْكِيِّ: الْمَانِعُ: هُوَ الْوَصْفُ الْوُجُودِيُّ الظَّاهِرُ الْمُنْضَبِطُ الْمُعَرِّفُ نَقِيضَ الْحُكْمِ كَالأُْبُوَّةِ فِي الْقِصَاصِ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَانِعٌ) .
تَقْسِيمَاتُ الشَّرْطِ:
يَنْقَسِمُ الشَّرْطُ إِلَى مَا يَلِي:
5 - الأَْوَّل - الشَّرْطُ الْمَحْضُ: وَهُوَ مَا يَمْتَنِعُ بِتَخَلُّفِهِ وُجُودُ الْعِلَّةِ فَإِذَا وُجِدَ وُجِدَتِ الْعِلَّةُ فَيَصِيرُ الْوُجُودُ مُضَافًا إِلَى الشَّرْطِ دُونَ الْوُجُوبِ، مِثَالُهُ اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ لِلصَّلاَةِ وَاشْتِرَاطُ الرَّهْنِ فِي الْبَيْعِ.
ثُمَّ يَنْقَسِمُ الشَّرْطُ الْمَحْضُ إِلَى قِسْمَيْنِ: شُرُوطٌ شَرْعِيَّةٌ، وَشُرُوطٌ جَعْلِيَّةٌ.
فَالشُّرُوطُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ الَّتِي اشْتَرَطَهَا الشَّارِعُ إِمَّا لِلْوُجُوبِ كَالْبُلُوغِ لِوُجُوبِ الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الأُْمُورِ التَّكْلِيفِيَّةِ، وَإِمَّا لِلصِّحَّةِ كَاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ لِلصَّلاَةِ.
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 62 (ط. المعرفة) ، جمع الجوامع مع حاشية البناني (1 / 98 ط. الحلبي) .(26/6)
وَإِمَّا لِلاِنْعِقَادِ كَاشْتِرَاطِ الأَْهْلِيَّةِ لاِنْعِقَادِ التَّصَرُّفِ وَصَلاَحِيَّةِ الْمَحَل وَلِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ.
وَإِمَّا لِلُّزُومِ كَاشْتِرَاطِ عَدَمِ الْخِيَارِ فِي لُزُومِ الْبَيْعِ، وَإِمَّا لِنَفَاذِ اشْتِرَاطِ الْوِلاَيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا لِنَفَاذِ التَّصَرُّفِ.
وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ أَيِّ شَرْطٍ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ عَدَمُ الْحُكْمِ الْمَشْرُوطِ لَهُ فَإِذَا فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْوُجُوبِ لَزِمَ عَدَمُ وُجُوبِ الْفِعْل عَلَى الْمُكَلَّفِ وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ عَدَمُ صِحَّةِ الْفِعْل وَهَكَذَا، وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الاِنْعِقَادِ بُطْلاَنُ التَّصَرُّفِ بِحَيْثُ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَيْ حُكْمٍ.
6 - وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْجَعْلِيَّةُ فَهِيَ الشُّرُوطُ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا الْمُكَلَّفُ فِي الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا كَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالْوَصِيَّةِ وَهُوَ نَوْعَانِ شَرْطٌ تَعْلِيقِيٌّ مِثْل إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (تَعْلِيقٌ) ، وَشَرْطٌ تَقْيِيدِيٌّ مِثْل وَقَفْتُ عَلَى أَوْلاَدِي مَنْ كَانَ مِنْهُمْ طَالِبًا لِلْعِلْمِ.
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ الْجَعْلِيَّةُ تَنْقَسِمُ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُهَا إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:
(1) شَرْطٌ لاَ يُنَافِي الشَّرْعَ: بَل هُوَ مُكَمِّلٌ لِلشُّرُوطِ وَذَلِكَ كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ الْمُقْرِضُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ رَهْنًا أَوْ كَفِيلاً.(26/6)
(2) شَرْطٌ غَيْرُ مُلاَئِمٍ لِلْمَشْرُوطِ: بَل هُوَ مَنَافٍ لِمُقْتَضَاهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ الزَّوْجُ فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ أَنْ لاَ يُنْفِقَ عَلَى الزَّوْجَةِ.
(3) شَرْطٌ لاَ يُنَافِي الشَّرْعَ مَا شُرِطَ فِيهِ وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا وَلَكِنَّ الْعَقْدَ لاَ يَقْتَضِيهِ فَلاَ تُعْرَفُ مُلاَءَمَتُهُ أَوْ عَدَمُ مُلاَءَمَتِهِ لِلْعَقْدِ وَذَلِكَ كَمَا لَوْ بَاعَ مَنْزِلاً عَلَى أَنْ يَسْكُنَهُ الْبَائِعُ مَثَلاً فَتْرَةً مَعْلُومَةً أَوْ يَسْكُنَهُ فُلاَنٌ الأَْجْنَبِيُّ.
وَهَذَا الشَّرْطُ مَحَل خِلاَفٍ (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: شَرْطٌ هُوَ فِي حُكْمِ الْعِلَل:
7 - وَهُوَ شَرْطٌ لاَ تُعَارِضُهُ عِلَّةٌ تَصْلُحُ أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إِلَيْهَا فَيُضَافَ الْحُكْمُ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُودُ دُونَ الْوُجُوبِ فَصَارَ شَبِيهًا بِالْعِلَل، وَالْعِلَل أُصُولٌ لَكِنَّهَا لَمَّا لَمْ تَكُنْ عِلَلاً بِذَوَاتِهَا اسْتَقَامَ أَنْ تَخْلُفَهَا الشُّرُوطُ، وَمِثَالُهُ حَفْرُ الْبِئْرِ، فَعِلَّةُ السُّقُوطِ هِيَ الثِّقَل لَكِنَّ الأَْرْضَ مَانِعٌ مِنَ السُّقُوطِ فَإِزَالَةُ الْمَانِعِ بِالْحَفْرِ صَارَ شَرْطًا وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لاَ تَصْلُحُ لإِِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَيْهَا (وَهُوَ الضَّمَانُ) لأَِنَّ الثِّقَل أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ فَلاَ يَصْلُحَانِ لإِِضَافَةِ الضَّمَانِ إِلَيْهِمَا، فَيُضَافُ
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 202 - 203، وفتح الغفار 3 / 74، والتلويح على التوضيح 1 / 120.(26/7)
إِلَى الشَّرْطِ لأَِنَّ صَاحِبَهُ مُتَعَدٍّ لأَِنَّ الضَّمَانَ فِيمَا إِذَا حَفَرَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ بِخِلاَفِ مَا إِذَا أَوْقَعَ نَفْسَهُ (1) .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: شَرْطٌ لَهُ حُكْمُ الأَْسْبَابِ:
8 - وَهُوَ شَرْطٌ حَصَل بَعْدَ حُصُولِهِ فِعْل فَاعِلٍ مُخْتَارٍ غَيْرُ مَنْسُوبٍ ذَلِكَ الْفِعْل إِلَى الشَّرْطِ كَمَا إِذَا حَل قَيْدَ صَيْدٍ حَتَّى نَفَرَ لاَ يَضْمَنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ، فَإِنَّ الْحَل لَمَّا سَبَقَ النُّفُورَ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ التَّلَفِ صَارَ كَالسَّبَبِ فَإِنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَى صُورَةِ الْعِلَّةِ وَالشَّرْطُ يَتَأَخَّرُ عَنْهَا (2) .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: شَرْطٌ اسْمًا لاَ حُكْمًا:
9 - وَهُوَ مَا يَفْتَقِرُ الْحُكْمُ إِلَى وُجُودِهِ وَلاَ يُوجَدُ عِنْدَ وُجُودِهِ، فَمِنْ حَيْثُ التَّوَقُّفُ عَلَيْهِ سُمِّيَ شَرْطًا، وَمِنْ حَيْثُ عَدَمُ وُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَهُ لاَ يَكُونُ شَرْطًا حُكْمًا.
وَيُفْهَمُ مِمَّا ذَكَرَهُ فَخْرُ الإِْسْلاَمِ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَوَّل الشَّرْطَيْنِ اللَّذَيْنِ يُضَافُ إِلَى آخِرِهِمَا الْحُكْمُ فَإِنَّ كُل حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِشَرْطَيْنِ فَإِنَّ أَوَّلَهُمَا شَرْطٌ اسْمًا لاَ حُكْمًا؛ لأَِنَّ حُكْمَ الشَّرْطِ أَنْ يُضَافَ الْوُجُودُ إِلَيْهِ وَذَلِكَ مُضَافٌ إِلَى آخِرِهِمَا
__________
(1) فتح الغفار 3 / 74 (ط. الحلبي) ، كشف الأسرار 4 / 206 - 208 (ط. دار الكتاب العربي) ، أصول السرخسي 2 / 323 - 324.
(2) فتح الغفار 3 / 74 - 75 (ط. الحلبي) ، كشف الأسرار 4 / 212 (ط. دار الكتاب العربي) .(26/7)
فَلَمْ يَكُنِ الأَْوَّل شَرْطًا حُكْمًا بَل اسْمًا.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: شَرْطٌ هُوَ بِمَعْنَى الْعَلاَمَةِ الْخَالِصَةِ:
10 - وَذَلِكَ كَالإِْحْصَانِ فِي بَابِ الزِّنَا وَإِنَّمَا كَانَ الإِْحْصَانُ عَلاَمَةً لأَِنَّ حُكْمَ الشَّرْطِ أَنْ يَمْنَعَ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ إِلَى أَنْ يُوجَدَ الشَّرْطُ وَهَذَا لاَ يَكُونُ فِي الزِّنَا بِحَالٍ.
لأَِنَّ الزِّنَا إِذَا وُجِدَ لَمْ يَتَوَقَّفْ حُكْمُهُ عَلَى إِحْصَانٍ يَحْدُثُ بَعْدَهُ، لَكِنَّ الإِْحْصَانَ إِذَا ثَبَتَ كَانَ مُعَرِّفًا لِحُكْمِ الزِّنَا فَأَمَّا أَنْ يُوجَدَ الزِّنَا بِصُورَتِهِ فَيَتَوَقَّفَ انْعِقَادُ عِلَّةٍ عَلَى وُجُودِ الإِْحْصَانِ فَلاَ يَثْبُتُ أَنَّهُ عَلاَمَةٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَلَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً لِلْوُجُودِ وَلاَ لِلْوُجُوبِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَل لَهُ حُكْمُ الْعِلَل بِحَالٍ.
وَلِذَلِكَ لاَ يَضْمَنُ شُهُودُ الإِْحْصَانِ إِذَا رَجَعُوا عَلَى حَالٍ أَيْ سَوَاءٌ رَجَعُوا وَحْدَهُمْ أَمْ رَجَعُوا مَعَ شُهُودِ الزِّنَا (1) .
مَا يَخْتَصُّ بِهِ الشَّرْطُ الْجَعْلِيُّ بِقِسْمَيْهِ الْمُعَلَّقِ وَالْمُقَيَّدِ:
11 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ أُمُورٌ مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ أَمْرًا مَعْدُومًا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ أَيْ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ
__________
(1) فتح الغفار 3 / 75 (ط. الحلبي) ، كشف الأسرار 4 / 219 (ط. دار الكتاب العربي) .(26/8)
لاَ يَكُونَ، وَأَنْ يَكُونَ أَمْرًا يُرْجَى الْوُقُوفُ عَلَى وُجُودِهِ، وَأَنْ لاَ يُوجَدَ فَاصِلٌ أَجْنَبِيٌّ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ (1) . وَأَنْ يَكُونَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ أَمْرًا مُسْتَقْبَلاً بِخِلاَفِ الْمَاضِي فَإِنَّهُ لاَ مَدْخَل لَهُ فِي التَّعْلِيقِ (2) . وَأَنْ لاَ يَقْصِدَ بِالتَّعْلِيقِ الْمُجَازَاةَ فَلَوْ سَبَّتْهُ بِمَا يُؤْذِيهِ فَقَال إِنْ كُنْتُ كَمَا قُلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ تَنَجَّزَ الطَّلاَقُ سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ كَمَا قَالَتْ أَوْ لَمْ يَكُنْ لأَِنَّ الزَّوْجَ فِي الْغَالِبِ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ إِيذَاءَهَا بِالطَّلاَقِ، وَأَنْ يُوجَدَ رَابِطٌ حَيْثُ كَانَ الْجَزَاءُ مُؤَخَّرًا وَإِلاَّ تَنَجَّزَ، وَأَنْ يَكُونَ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْهُ التَّعْلِيقُ مَالِكًا لِلتَّنْجِيزِ أَيْ قَادِرًا عَلَى التَّنْجِيزِ وَهَذَا الأَْمْرُ فِيهِ خِلاَفٌ (3) .
يُنْظَرُ فِي (تَعْلِيقٌ ف 28 - 29 ج 12) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 493 ط. المصرية، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 367 (ط. الهلال) ، تبيين الحقائق 2 / 243 (ط. بولاق) ، جواهر الإكليل 1 / 243 - 244 (ط المعرفة) ، حاشية القليوبي 3 / 342 (ط. الحلبي) ، الإنصاف 9 / 104 (ط. الأولى) .
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي / 376 (ط. الحلبي) .
(3) ابن عابدين 2 / 494 (ط. المصرية) ، الأشباه والنظائر لابن نجيم / 367 (ط. الهلال) ، فتح القدير 3 / 127 (ط. بولاق) ، الدسوقي 2 / 370 (ط. الفكر) ، الخرشي 4 / 37 - 38 (ط. بولاق) .(26/8)
مَا يَخْتَصُّ بِهِ الشَّرْطُ الْمُقَيَّدُ:
يَخْتَصُّ الشَّرْطُ الْمُقَيَّدُ بِأَمْرَيْنِ:
12 - الأَْوَّل: كَوْنُهُ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى أَصْل التَّصَرُّفِ. فَقَدْ صَرَّحَ الزَّرْكَشِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ بِأَنَّ الشَّرْطَ مَا جُزِمَ فِيهِ بِالأَْصْل - أَيْ أَصْل الْفِعْل - وَشَرَطَ فِيهِ أَمْرًا آخَرَ (1) .
الثَّانِي: كَوْنُهُ أَمْرًا مُسْتَقْبَلاً وَيَظْهَرُ ذَلِكَ مِمَّا قَالَهُ الْحَمَوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى ابْنِ نُجَيْمٍ: أَنَّ الشَّرْطَ الْتِزَامُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ فِي أَمْرٍ وُجِدَ بِصِيغَةٍ مَخْصُوصَةٍ (2) .
هَذَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ شَرْطِ التَّعْلِيقِ وَشَرْطِ التَّقْيِيدِ كَمَا ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ التَّعْلِيقَ مَا دَخَل عَلَى أَصْل الْفِعْل بِأَدَاتِهِ كَإِنْ وَإِذَا، وَالشَّرْطُ مَا جَزَمَ فِيهِ بِالأَْصْل وَشَرَطَ فِيهِ أَمْرًا آخَرَ (3) .
وَقَال الْحَمَوِيُّ: وَإِنْ شِئْتَ فَقُل فِي الْفَرْقِ إِنَّ التَّعْلِيقَ تَرْتِيبُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ عَلَى أَمْرٍ يُوجَدُ بِإِنْ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا وَالشَّرْطُ الْتِزَامُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ فِي أَمْرٍ وُجِدَ بِصِيغَةٍ مَخْصُوصَةٍ (4) .
مَا يُعْرَفُ بِهِ الشَّرْطُ:
13 - يُعْرَفُ الشَّرْطُ بِصِيغَتِهِ بِأَنْ دَخَل فِي
__________
(1) المنثور 1 / 370 (ط. الأولى) ، الحموي على ابن نجيم 2 / 224 (ط. العامرة) .
(2) الحموي على ابن نجيم 2 / 225 (ط. العامرة) .
(3) المنثور 1 / 370 (ط. الأولى) .
(4) الحموي على ابن نجيم 2 / 225 (ط. العامرة) .(26/9)
الْكَلاَمِ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ فَكَانَ الْفِعْل الَّذِي دَخَل عَلَيْهِ شَرْطًا، وَصِيَغُهُ كَمَا ذَكَرَ الآْمِدِيُّ فِي الإِْحْكَامِ كَثِيرَةٌ وَهِيَ إِنِ الْخَفِيفَةُ، وَإِذَا، وَمَنْ، وَمَا، وَمَهْمَا، وَحَيْثُمَا، وَأَيْنَمَا، وَإِذْ مَا، وَأُمُّ هَذِهِ الصِّيَغِ " إِنْ " الشَّرْطِيَّةُ (1) .
وَيُعْرَفُ الشَّرْطُ أَيْضًا بِدَلاَلَتِهِ أَيْ بِالْمَعْنَى بِأَنْ يَكُونَ الأَْوَّل أَيْ مِنَ الْكَلاَمِ سَبَبًا لِلثَّانِي كَقَوْلِهِ: الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُ طَالِقٌ ثَلاَثًا، فَإِنَّهُ مُبْتَدَأٌ مُتَضَمِّنٌ لِمَعْنَى الشَّرْطِ. وَالأَْوَّل يَسْتَلْزِمُ الثَّانِيَ أَلْبَتَّةَ دُونَ الْعَكْسِ؛ لِوُقُوعِ الْوَصْفِ - وَهُوَ وَصْفُ التَّزَوُّجِ - فِي النَّكِرَةِ فَيَعُمُّ.
وَلَوْ وَقَعَ الْوَصْفُ فِي الْمُعَيَّنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ لَمَا صَلَحَ دَلاَلَةً عَلَى الشَّرْطِ؛ لأَِنَّ الْوَصْفَ فِي الْمُعَيَّنِ لَغْوٌ فَبَقِيَ قَوْلُهُ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ طَالِقٌ فَيَلْغُو فِي الأَْجْنَبِيَّةِ، وَنَصُّ الشَّرْطِ يَجْمَعُ الْمُعَيَّنَ وَغَيْرَهُ حَتَّى لَوْ قَال إِنْ تَزَوَّجْتُ هَذِهِ الْمَرْأَةَ أَوِ امْرَأَةً طَلُقَتْ إِذَا تَزَوَّجَ بِهَا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ مَحَلُّهُ كُتُبُ الأُْصُول (2) .
الأَْثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالشَّرْطِ:
14 - يَذْكُرُ الأُْصُولِيُّونَ مَسْأَلَةً هَامَةً وَهِيَ أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالشَّرْطِ هَل يَمْنَعُ السَّبَبَ عَنِ
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2 / 309 - 310 (ط. المكتب الإسلامي) .
(2) فتح الغفار 3 / 75 (ط. الحلبي) ، كشف الأسرار للبزدوي 4 / 203 - 206 (ط. دار الكتاب العربي) .(26/9)
السَّبَبِيَّةِ أَوْ يَمْنَعُ الْحُكْمَ عَنِ الثُّبُوتِ فَقَطْ لاَ السَّبَبَ عَنِ الاِنْعِقَادِ.
وَيُنْظَرُ الْخِلاَفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحِ (تَعْلِيقٌ ف 30) .
وَلاَ يَقَعُ شَيْءٌ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
التَّخْصِيصُ بِالشَّرْطِ:
15 - الشَّرْطُ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ وَمِنْ أَحْكَامِهِ أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلاَمِ، مَا لَوْلاَهُ لَدَخَل فِيهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ (1) .
الاِسْتِدْلاَل بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ:
16 - تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى الشَّرْطِ بِكَلِمَةِ (إِنْ) أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الشُّرُوطِ اللُّغَوِيَّةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2) .
فِيهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ:
الأَْوَّل: ثُبُوتُ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ ثُبُوتِ الشَّرْطِ.
الثَّانِي: دَلاَلَةُ (إِنْ) عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ: عَدَمُ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ.
الرَّابِعُ: دَلاَلَةُ (إِنْ) عَلَيْهِ.
__________
(1) مسلم الثبوت 1 / 423 - 432 (ط. بولاق) .
(2) سورة الطلاق / 6.(26/10)
فَالثَّلاَثَةُ الأُْوَل لاَ خِلاَفَ فِيهَا، وَأَمَّا الأَْمْرُ الرَّابِعُ وَهُوَ دَلاَلَةُ (إِنْ) عَلَى عَدَمِ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ فَهُوَ مَحَل الْخِلاَفِ وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
وَالأَْمْرُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (1) يَقْتَضِي تَكَرُّرَ الْمَأْمُورِ بِهِ عِنْدَ تَكَرُّرِ شَرْطِهِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الأَْمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الأَْمْرَ الْمُطْلَقَ لاَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَلاَ يَدْفَعُهُ فَفِي كَوْنِهِ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ هُنَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ لاَ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَوْ لاَ يَقْتَضِيهِ لاَ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَلاَ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَوْ لاَ يَقْتَضِيهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَيَقْتَضِيهِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ خِلاَفٌ وَيُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
أَثَرُ الشَّرْطِ الْجَعْلِيِّ التَّعْلِيقِيِّ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ:
17 - يَظْهَرُ أَثَرُ الشَّرْطِ الْجَعْلِيِّ التَّعْلِيقِيِّ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِثْل الإِْجَارَةِ وَالْبَيْعِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وَالْقِسْمَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْمُضَارَبَةِ وَالنِّكَاحِ، وَالإِْبْرَاءِ وَالْوَقْفِ، وَالْحَجْرِ وَالرَّجْعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ " تَعْلِيقٌ ".
__________
(1) سورة المائدة / 6.(26/10)
أَثَرُ الشَّرْطِ التَّقْيِيدِيِّ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ:
18 - إِذَا قُيِّدَ التَّصَرُّفُ بِشَرْطٍ فَلاَ يَخْلُو هَذَا الشَّرْطُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا أَوْ بَاطِلاً.
فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ صَحِيحًا كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ فِي الْبَقَرَةِ كَوْنَهَا حَلُوبًا فَالْعَقْدُ جَائِزٌ لأَِنَّ الْمَشْرُوطَ صِفَةٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوِ الثَّمَنِ، وَهِيَ صِفَةٌ مَحْضَةٌ لاَ يُتَصَوَّرُ انْقِلاَبُهَا أَصْلاً وَلاَ يَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ بِحَالٍ (1) . وَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلاً أَوْ فَاسِدًا كَمَا لَوِ اشْتَرَى نَاقَةً عَلَى أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا بَعْدَ شَهْرَيْنِ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا.
قَال فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَجُمْلَةُ مَا لاَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ وَيَبْطُل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ثَلاَثَةَ عَشَرَ. الْبَيْعُ وَالْقِسْمَةُ وَالإِْجَارَةُ وَالرَّجْعَةُ وَالصُّلْحُ عَنْ مَالٍ وَالإِْبْرَاءُ عَنِ الدَّيْنِ وَالْحَجْرُ عَنِ الْمَأْذُونِ وَعَزْل الْوَكِيل فِي رِوَايَةِ شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَتَعْلِيقُ إِيجَابِ الاِعْتِكَافِ بِالشُّرُوطِ وَالْمُزَارَعَةُ وَالْمُعَامَلَةُ وَالإِْقْرَارُ وَالْوَقْفُ فِي رِوَايَةٍ (2) .
هَذَا وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُمُ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ إِلَى أَنَّ الشَّرْطَ التَّقْيِيدِيَّ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ. صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ وَبَاطِلٌ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 169 (ط. جمالية) .
(2) الفتاوى الهندية 4 / 396.(26/11)
وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الَّذِينَ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْفَسَادِ وَالْبُطْلاَنِ وَيَقُولُونَ: إِنَّهُمَا وَاحِدٌ إِلَى أَنَّهُ قِسْمَانِ: صَحِيحٌ وَبَاطِلٌ أَوْ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ.
الشَّرْطُ الصَّحِيحُ:
أ - ضَابِطُهُ:
19 - ضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: اشْتِرَاطُ صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِمَحَل الْعَقْدِ وَقْتَ صُدُورِهِ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ أَوْ مَا يُلاَئِمُ مُقْتَضَاهُ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ بِجَوَازِ اشْتِرَاطِهِ أَوِ اشْتِرَاطِ مَا جَرَى عَلَيْهِ التَّعَامُل.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: اشْتِرَاطُ صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِمَحَل الْعَقْدِ وَقْتَ صُدُورِهِ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلاَ يُنَافِيهِ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: اشْتِرَاطُ صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِمَحَل الْعَقْدِ وَقْتَ صُدُورِهِ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةً مَشْرُوعَةً لِلْعَاقِدِ أَوِ اشْتِرَاطُ الْعِتْقِ لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: اشْتِرَاطُ صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِمَحَل الْعَقْدِ وَقْتَ صُدُورِهِ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ أَوْ يُؤَكِّدُ مُقْتَضَاهُ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا أَجَازَ الشَّارِعُ اشْتِرَاطَهُ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةً لِلْعَاقِدِ، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل ذَلِكَ:(26/11)
ب - أَنْوَاعُهُ:
20 - النَّوْعُ الأَْوَّل: اشْتِرَاطُ صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِمَحَل التَّصَرُّفِ وَقْتَ صُدُورِهِ وَهَذَا النَّوْعُ مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَإِنْ فَاتَ هَذَا الشَّرْطُ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لِفَوَاتِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ كَاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْبَقَرَةِ الْمُشْتَرَاةِ حَلُوبًا (1)
النَّوْعُ الثَّانِي: اشْتِرَاطُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَجَوَازُهُ أَيْضًا مَحَل اتِّفَاقٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لأَِنَّهُ بِمَثَابَةِ تَأْكِيدٍ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا لَوْ اشْتَرَطَ فِي الشِّرَاءِ التَّسْلِيمَ إِلَى الْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ لأَِنَّ هَذَا الشَّرْطَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ، وَمِنْهَا أَيْضًا اشْتِرَاطُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَرَدِّ الْعِوَضِ فَإِنَّهَا أُمُورٌ لاَزِمَةٌ لاَ تُنَافِي الْعَقْدَ بَل هِيَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ ( x662 ;) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ: اشْتِرَاطُ مَا يُلاَئِمُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهَذِهِ عِبَارَةُ الْحَنَفِيَّةِ.
قَال صَاحِبُ الْبَدَائِعِ فَهَذَا لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَكِنَّهُ يُلاَئِمُ مُقْتَضَاهُ فَهُوَ لاَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَإِنَّمَا هُوَ مُقَرِّرٌ لِحُكْمِ الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ
__________
(1) بدائع الصنائع (5 / 172 ط. الجمالية) ، الدسوقي (3 / 108 ط. الفكر) ، مغني المحتاج (2 / 34 ط. حلب) ، كشاف القناع (3 / 188 ط. النصر) .
(2) البدائع (5 / 172 ط. الجمالية) ، الدسوقي (3 / 65 ط. الفكر) ، المجموع (5 / 362 ط. السلفية) ، كشاف القناع (3 / 189 ط. النصر) .(26/12)
الْمَعْنَى مُؤَكِّدٌ إِيَّاهُ فَيُلْحَقُ بِالشَّرْطِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ. وَعِبَارَةُ الْمَالِكِيَّةِ اشْتِرَاطُ مَا يُلاَئِمُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلاَ يُنَافِيهِ. وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ اشْتِرَاطُ مَا لاَ يَقْتَضِيهِ إِطْلاَقُ الْعَقْدِ لَكِنَّهُ يُلاَئِمُهُ وَمُحَقِّقٌ مَصْلَحَةً لِلْعَاقِدِ وَمِثَالُهُ مَا لَوْ بَاعَ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ رَهْنًا أَوْ كَفِيلاً وَالرَّهْنُ مَعْلُومٌ وَالْكَفِيل حَاضِرٌ جَازَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
النَّوْعُ الرَّابِعُ: اشْتِرَاطُ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ بِجَوَازِهِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ: اشْتِرَاطُ مَا جَرَى عَلَيْهِ التَّعَامُل بَيْنَ النَّاسِ وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا النَّوْعَ الْحَنَفِيَّةُ سِوَى زُفَرَ، وَهُوَ مِمَّا لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلاَ يُلاَئِمُ مُقْتَضَاهُ لَكِنْ لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ (2) .
وَمِثَالُهُ إِذَا اشْتَرَى نَعْلاً عَلَى أَنْ يَحْذُوَهَا الْبَائِعُ أَوْ جِرَابًا عَلَى أَنْ يَخْرُزَهُ لَهُ خُفًّا فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ جَائِزٌ لأَِنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا بِهِ فِي الْبَيْعِ كَمَا تَعَامَلُوا بِالاِسْتِصْنَاعِ فَسَقَطَ الْقِيَاسُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ بِتَعَامُل النَّاسِ (3) .
__________
(1) البدائع 5 / 171 (ط. الجمالية) ، الدسوقي 3 / 65 (ط. الفكر) ، المجموع 9 / 364 (ط. السلفية) ، كشاف القناع 3 / 189 (ط. النصر) .
(2) البدائع (5 / 174 ط، الجمالية) .
(3) البدائع 5 / 172 (ط. الجمالية) .(26/12)
النَّوْعُ السَّادِسُ: اشْتِرَاطُ الْبَائِعِ نَفْعًا مُبَاحًا مَعْلُومًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا لَوْ بَاعَ دَارًا وَاشْتَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَسْكُنَهَا شَهْرًا (1) .
الشَّرْطُ الْفَاسِدُ أَوِ الْبَاطِل:
21 - هُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَيُبْطِلُهُ، وَثَانِيهِمَا: مَا يَبْقَى التَّصَرُّفُ مَعَهُ صَحِيحًا.
الضَّرْبُ الأَْوَّل: مَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَيُبْطِلُهُ.
أ - ضَابِطُهُ:
22 - ضَابِطُ هَذَا الضَّرْبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ غَيْرِ يَسِيرٍ أَوِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ مَحْظُورٍ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلاَ يُلاَئِمُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلاَ مِمَّا جَرَى عَلَيْهِ التَّعَامُل بَيْنَ النَّاسِ وَلاَ مِمَّا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ بِجَوَازِهِ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ مَحْظُورٍ أَوْ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ لَمْ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 33 ط. حلب، وكشاف القناع 3 / 190 ط. النصر، وفتح الباري 4 / 299 (ط. البهية) ، وصحيح مسلم (2 / 1143 ط. حلب) .(26/13)
يَرِدْ فِي الشَّرْعِ أَوِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ أَوِ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةٍ.
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: اشْتِرَاطُ عَقْدَيْنِ فِي عَقْدٍ أَوِ اشْتِرَاطُ شَرْطَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ أَوِ اشْتِرَاطُ مَا يُخَالِفُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعَقْدِ.
أَنْوَاعُهُ:
23 - لِهَذَا الضَّرْبِ سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ تُؤْخَذُ مِنْ ضَوَابِطِهِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ غَيْرِ يَسِيرٍ، وَهَذَا النَّوْعُ ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ. وَمِثَالُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا لَوِ اشْتَرَى نَاقَةً عَلَى أَنَّهَا حَامِلٌ لأَِنَّهُ يَحْتَمِل الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَلاَ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لِلْحَال فَكَانَ فِي وُجُودِهِ غَرَرٌ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ.
وَمَثَّل لَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِعَسْبِ فَحْلٍ يُسْتَأْجَرُ عَلَى إِعْقَاقِ الأُْنْثَى حَتَّى تَحْمِل فَلاَ يَصِحُّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ وَلأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى غَبْنِ صَاحِبِ الأُْنْثَى إِنْ تَعَجَّل حَمْلَهَا وَإِلَى غَبْنِ صَاحِبِ الْفَحْل إِنْ تَأَخَّرَ الْحَمْل (1) .
النَّوْعُ الثَّانِي: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ مَحْظُورٍ (2) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُخَالِفُ الشَّرْعَ (3) .
__________
(1) البدائع 5 / 168 ط. الجمالية، الدسوقي 3 / 58 (ط. الفكر) .
(2) البدائع (5 / 169 ط. الجمالية) .
(3) مغني المحتاج 2 / 33 (ط. حلب) .(26/13)
النَّوْعُ الرَّابِعُ: اشْتِرَاطُ مَا يُخَالِفُ أَوْ يُنَاقِضُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ أَوْ يُنَافِي الْمَقْصُودَ مِنْهُ وَمِثَالُهُ مَا لَوْ بَاعَ دَارًا بِشَرْطِ أَنْ يَسْكُنَهَا مُدَّةً بَطَل الْبَيْعُ، أَوْ شَرَطَ أَنْ لاَ يَبِيعَهَا. لَمْ يَصِحَّ، أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنْ لاَ تَحِل لَهُ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ لاِشْتِرَاطِ مَا يُنَافِيهِ (1) .
النَّوْعُ الْخَامِسُ: اشْتِرَاطُ مَا يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةٍ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا النَّوْعِ مَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا بِثَمَنٍ إِلَى نِتَاجِ النِّتَاجِ فَهَذَا الْبَيْعُ لاَ يَصِحُّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ فِي الأَْجَل (2) .
النَّوْعُ السَّادِسُ: اشْتِرَاطُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ عَقْدًا آخَرَ أَوِ اشْتِرَاطُ الْبَائِعِ شَرْطًا يُعَلِّقُ عَلَيْهِ الْبَيْعَ وَمِثَالُهُ كَمَا فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ مَا لَوِ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ سَلَفًا أَيْ سَلَمًا أَوْ قَرْضًا بَيْعًا أَوْ إِجَارَةً أَوْ شَرِكَةً أَوْ صَرْفَ الثَّمَنِ أَوْ صَرْفَ غَيْرِهِ أَوْ غَيْرَ الثَّمَنِ فَاشْتِرَاطُ هَذَا الشَّرْطِ يُبْطِل الْبَيْعَ كَمَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ لِكَوْنِهِ مِنْ قَبِيل بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَكَقَوْلِهِ بِعْتُكَ إِنْ جِئْتَنِي بِكَذَا أَوْ بِعْتُكَ إِنْ رَضِيَ فُلاَنٌ فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ لأَِنَّ مُقْتَضَى الْبَيْعِ نَقْل الْمِلْكِ
__________
(1) الدسوقي 3 / 309 - 310 (ط. الفكر) ، المهذب 1 / 275 (ط. حلب) ، كشاف القناع (5 / 97 ط. النصر) .
(2) مغني المحتاج (2 / 20 ط. حلب) .(26/14)
حَال التَّبَايُعِ وَالشَّرْطُ هُنَا يَمْنَعُهُ (1) .
النَّوْعُ السَّابِعُ: اشْتِرَاطُ مَا لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي وَلَيْسَ مِمَّا جَرَى بِهِ التَّعَامُل بَيْنَ النَّاسِ نَحْوُ مَا إِذَا بَاعَ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْبَائِعُ شَهْرًا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَةً أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا شَهْرًا أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ أُسْبُوعًا أَوْ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ الْمُشْتَرِي قَرْضًا أَوْ عَلَى أَنْ يَهَبَ لَهُ هِبَةً أَوْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ مِنْهُ أَوْ يَبِيعَ مِنْهُ كَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ أَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ قَمِيصًا أَوْ حِنْطَةً عَلَى أَنْ يَطْحَنَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ.
فَالْبَيْعُ فِي هَذَا كُلِّهِ فَاسِدٌ كَمَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ لأَِنَّ زِيَادَةَ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ فِي الْبَيْعِ تَكُونُ رِبًا لأَِنَّهَا زِيَادَةٌ لاَ يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الرِّبَا وَالْبَيْعُ الَّذِي فِيهِ الرِّبَا أَوِ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةُ الرِّبَا فَاسِدٌ (2) .
الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ ضَرْبَيِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ:
24 - هُوَ مَا يَبْقَى التَّصَرُّفُ مَعَهُ صَحِيحًا
إِمَّا لأَِنَّ الْمُشْتَرِطَ أَسْقَطَهُ أَوْ يَبْقَى التَّصَرُّفُ مَعَهُ صَحِيحًا سَوَاءٌ أَسْقَطَهُ الْمُشْتَرِطُ أَوْ لَمْ يُسْقِطْهُ.
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ قِسْمَانِ.
25 - أَحَدُهُمَا: مَا يُحْكَمُ مَعَهُ بِصِحَّةِ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 193 (ط. النصر) .
(2) البدائع 5 / 169 - 170 (ط. جمالية) ، مغني المحتاج (2 / 33 ط. حلب) ، المغني 4 / 93 - 95.(26/14)
التَّصَرُّفِ إِذَا أَسْقَطَهُ الْمُشْتَرِطُ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ فِي أَقْسَامِ الشَّرْطِ الْبَاطِل. وَضَابِطُهُ عِنْدَهُمُ اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ أَوْ يُخِل بِالثَّمَنِ فِيهِ أَوْ يُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ فِي الْهِبَةِ، فَأَنْوَاعُهُ عَلَى هَذَا ثَلاَثَةٌ.
النَّوْعُ الأَْوَّل: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُنَافِي الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ كَأَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ لاَ يَبِيعَ أَوْ لاَ يَهَبَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ إِذَا أَسْقَطَهُ الْمُشْتَرِطُ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ (1) .
النَّوْعُ الثَّانِي: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُخِل بِالثَّمَنِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى جَهَالَةٍ فِيهِ بِزِيَادَةٍ إِنْ كَانَ شَرْطُ السَّلَفِ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوْ نَقْصٍ إِنْ كَانَ مِنَ الْبَائِعِ كَبَيْعٍ وَشَرْطِ سَلَفٍ مِنْ أَحَدِهِمَا لأَِنَّ الاِنْتِفَاعَ بِالسَّلَفِ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ وَهُوَ مَجْهُولٌ فَهَذَا الشَّرْطُ إِنْ حَذَفَهُ الْمُشْتَرِطُ صَحَّ الْعَقْدُ (2) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى غَرَرٍ وَمِثَالُهُ فِي الْهِبَةِ مَا لَوْ دَفَعَ إِلَى آخَرَ فَرَسًا لِيَغْزُوَ عَلَيْهِ سِنِينَ وَشَرَطَ الْوَاهِبُ أَنْ يُنْفِقَ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَلَيْهِ أَيِ الْفَرَسِ فِي تِلْكَ السِّنِينَ ثُمَّ تَكُونَ الْفَرَسُ مِلْكًا لِلْمَدْفُوعِ لَهُ فَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْغَرَرِ (3) .
__________
(1) الدسوقي 3 / 59 - 66 (ط. الفكر) .
(2) الدسوقي 3 / 66 - 67 (ط. الفكر) .
(3) جواهر الإكليل 2 / 215 (ط. المعرفة) ، التاج والإكليل هامش مواهب الجليل (6 / 61 - 62 ط. النجاح) .(26/15)
26 - الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يُحْكَمُ مَعَهُ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ سَوَاءٌ أَسْقَطَهُ الْمُشْتَرِطُ أَوْ لَمْ يُسْقِطْهُ. وَهَذَا الْقِسْمُ يَتَنَاوَل الشُّرُوطَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي تَسْقُطُ وَيَصِحُّ مَعَهَا التَّصَرُّفُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشُّرُوطَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي يَصِحُّ مَعَهَا التَّصَرُّفُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ الَّتِي يَصِحُّ مَعَهَا التَّصَرُّفُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ سَبَقَتْ ضَوَابِطُ ذَلِكَ.
وَأَنْوَاعُهُ مَا يَأْتِي:
27 - النَّوْعُ الأَْوَّل: ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ اشْتِرَاطُ مَا لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلاَ يُلاَئِمُ مُقْتَضَاهُ وَلَمْ يَرِدْ شَرْعٌ وَلاَ عُرْفٌ بِجَوَازِهِ وَلَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ أَهْل الاِسْتِحْقَاقِ.
وَمِثَالُهُ كَمَا فِي الْبَدَائِعِ لَوْ شَرَطَ أَحَدُ الْمُزَارِعَيْنِ فِي الْمُزَارَعَةِ عَلَى أَنْ لاَ يَبِيعَ الآْخَرُ نَصِيبَهُ وَلاَ يَهَبَهُ فَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ.
لأَِنَّ هَذَا الشَّرْطَ لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لأَِحَدٍ فَلاَ يُوجِبُ الْفَسَادَ وَهَذَا لأَِنَّ فَسَادَ الْبَيْعِ فِي مِثْل هَذِهِ الشُّرُوطِ لِتَضَمُّنِهَا الرِّبَا وَذَلِكَ بِزِيَادَةِ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ فِي الْعَقْدِ لاَ يُقَابِلُهَا عِوَضٌ وَلَمْ يُوجَدْ فِي هَذَا الشَّرْطِ لأَِنَّهُ لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لأَِحَدٍ إِلاَّ أَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ(26/15)
فَالْعَقْدُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ (1) .
النَّوْعُ الثَّانِي. ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ أَوْ مِنَ الاِسْتِحْقَاقِ، فَإِذَا بَاعَ عَرْضًا أَوْ حَيَوَانًا عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ ثُمَّ اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ فِيهِ كَانَ لَهُ رَدُّهُ وَلاَ عِبْرَةَ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ (2) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ: اشْتِرَاطُ مَا يُخَالِفُ أَوْ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ دُونَ الإِْخْلاَل بِمَقْصُودِهِ وَهَذَا النَّوْعُ ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا لَوِ اشْتَرَطَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُودَعِ ضَمَانَهَا فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذَا تَلِفَتْ فِي مَحَلٍّ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لأَِنَّ يَدَ الْمُودَعِ يَدُ أَمَانَةٍ فَلاَ يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي الْوَدِيعَةُ مِنَ الأَْمَانَاتِ فَلاَ يَضْمَنُ إِذَا تَلِفَتْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَيُلْغَى الشَّرْطُ وَتَصِحُّ الْوَدِيعَةُ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَا لَوْ قَال: أَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ سَنَةً فَعَلَى الْجَدِيدِ لَوْ قَال مَعَ قَوْلِهِ: أَعْمَرْتُكَهَا فَإِذَا مِتُّ عَادَتْ إِلَيَّ أَوْ إِلَى وَارِثِي فَكَذَا هِيَ هِبَةٌ وَإِعْمَارٌ صَحِيحٌ فِي الأَْصَحِّ وَبِهِ قَطَعَ الأَْكْثَرُونَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ فَيَلْغُو ذِكْرُ الشَّرْطِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَا لَوِ اشْتَرَطَ أَنْ لاَ خَسَارَةَ عَلَيْهِ أَوْ شَرَطَ أَنَّهُ
__________
(1) البدائع (5 / 170 ط. جمالية) .
(2) الدسوقي 3 / 112.(26/16)
مَتَى نَفَقَ الْمَبِيعُ وَإِلاَّ رَدَّهُ فَهَذَا الشَّرْطُ لاَ يُبْطِل الْبَيْعَ (1) .
النَّوْعُ الرَّابِعُ: اشْتِرَاطُ أَمْرٍ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةٍ أَوْ أَمْرٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ كَمَا لَوْ بَاعَ بَقَرَةً وَشَرَطَ أَنْ تُدِرَّ كُل يَوْمٍ صَاعًا فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصِحُّ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَلِعَدَمِ انْضِبَاطِهِ (2) .
__________
(1) الخرشي 4 / 328 (ط. بولاق) ، مغني المحتاج 2 / 308 (ط. حلب) ، (كشاف القناع 3 / 193 ط. النصر) .
(2) مغني المحتاج 2 / 33 - 34.(26/16)
شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّرْعُ، وَالشَّرِيعَةُ، وَالشِّرْعَةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقُ الظَّاهِرُ الَّذِي يُوصَل مِنْهُ إِلَى الْمَاءِ، يُقَال: شَرَعَتِ الإِْبِل شَرْعًا وَشُرُوعًا: إِذَا وَرَدَتِ الْمَاءَ (1) . وَالشَّرْعُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا سَنَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ مِنَ الدِّينِ وَأَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ (2) .
" وَمَنْ قَبْلَنَا " هُمُ الأَْنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ قَبْل نَبِيِّنَا إِلَى الأُْمَمِ السَّابِقَةِ.
فَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا هُوَ: مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُل مِنَ الشَّرَائِعِ إِلَى الأُْمَمِ الَّتِي أُرْسِلُوا إِلَيْهَا قَبْل مَبْعَثِ النَّبِيِّ (3) .
وَحْدَةُ الشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ:
2 - الشَّرَائِعُ السَّمَاوِيَّةُ كُلُّهَا مِنْ مَصْدَرٍ
__________
(1) لسان العرب، تاج العروس.
(2) روح المعاني في تفسير قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة منهاجًا) إلخ الآية (48) من سورة المائدة. وحاشية الشيخ زادة على تفسير البيضاوي في تفسير الآية المذكورة.
(3) تحفة المحتاج لابن حجر الهيثمي شرح المنهاج 1 / 22، نهاية المحتاج 1 / 32.(26/17)
وَاحِدٍ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَهِيَ لِهَذَا مُتَّحِدَةُ الأُْصُول. فَلاَ تَخْتَلِفُ فِي أُصُول الدِّينِ، كَوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَوُجُوبِ إِخْلاَصِ الْعِبَادَةِ لَهُ. وَالإِْيمَانِ بِالْبَعْثِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، وَالْمَلاَئِكَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُصُول الدِّينِ.
قَال اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (1) .
اخْتِلاَفُ الشَّرَائِعِ فِي الْفُرُوعِ:
3 - الشَّرَائِعُ السَّمَاوِيَّةُ قَدْ تَخْتَلِفُ فِي الأَْحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ حَسَبَ اخْتِلاَفِ الزَّمَنِ وَالْبِيئَاتِ، وَبِسَبَبِ ظُرُوفٍ وَمُلاَبَسَاتٍ خَاصَّةٍ بِأُمَّةٍ مِنَ الأُْمَمِ فَتُحَرَّمُ بَعْضُ أُمُورٍ عَلَى أُمَّةٍ لأَِسْبَابٍ خَاصَّةٍ بِهَا.
كَمَا حُرِّمَ عَلَى الْيَهُودِ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ، قَال تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُل ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} (2) .
وَلَكِنْ هَل نَحْنُ مُتَعَبَّدُونَ بِفُرُوعِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الأُْمَمِ؟ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الأُْصُول
__________
(1) سورة الشورى / 13.
(2) سورة الأنعام / 146.(26/17)
وَالْفِقْهِ فِي ذَلِكَ.
وَهَل كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَبَّدُ قَبْل الْمَبْعَثِ بِشَرْعِ أَحَدٍ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ؟ مِنْهُمْ مَنْ قَال: كَانَ يَتَعَبَّدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَى ذَلِكَ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الاِخْتِلاَفِ الأُْصُولِيِّ وَالْكَلاَمِيِّ فَإِنَّ مَا هُوَ مِنَ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ وَإِنْ وَرَدَ مَا يَدُل عَلَى إِقْرَارِهِ فَهُوَ شَرْعٌ لَنَا وَإِنْ وَرَدَ مَا يَدُل عَلَى نَسْخِهِ فَلَيْسَ شَرْعًا لَنَا بِالاِتِّفَاقِ.
وَإِنْ سَكَتَ شَرْعُنَا عَنْ إِقْرَارِهِ وَنَسْخِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا، ثَابِتُ الْحُكْمِ عَلَيْنَا، إِذَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، وَلاَ تَقْرِيرٍ، فَلاَ نَأْخُذُ مِنْ أَحْبَارِهِمْ وَلاَ مِنْ كُتُبِهِمْ (1) .
وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} ، إِلَى قَوْلِهِ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (2) .
وقَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (3) .
وَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الآْيَاتِ وَغَيْرَهَا تَدُل عَلَى
__________
(1) رد المحتار 1 / 62، شرح العناية على الهداية مع فتح القدير 1 / 437، الفصول في الأصول 1 / 19، تبصرة الحكام 2 / 93، مطالب أولي النهى 4 / 206.
(2) سورة الأنعام الآيات 83 - 90.
(3) سورة النحل / 123.(26/18)
أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الأَْنْبِيَاءِ شَرْعٌ لَنَا، وَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لاَزِمَةً لَنَا بِنَفْسِ وُرُودِهَا فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ قَبْل مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا قَدْ صَارَتْ شَرِيعَةً لَنَا بِوُرُودِهَا عَلَى شَرِيعَتِنَا وَلَزِمَنَا أَحْكَامُهَا. بِنَاءً عَلَى هَذَا اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى آرَاءٍ فِقْهِيَّةٍ ذَهَبُوا إِلَيْهَا.
فَقَدِ اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (1) عَلَى وُجُوبِ قَتْل الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {قَال هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} (2) . عَلَى جَوَازِ قَسْمِ الشِّرْبِ بِالأَْيَّامِ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ نَبِيِّهِ صَالِحٍ بِذَلِكَ وَلَمْ يُعْقِبْهُ بِالنَّسْخِ فَصَارَتْ شَرِيعَةً لَنَا مُبْتَدَأَةً (3) .
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ بِالأَْمَارَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَل سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} (4) . حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَدًّا عَلَى قَوْل إِخْوَةِ يُوسُفَ {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} (5) .
__________
(1) سورة المائدة / 45.
(2) سورة الشعراء / 155.
(3) بدائع الصنائع 6 / 188، ابن عابدين 5 / 343.
(4) سورة يوسف / 18.
(5) سورة يوسف / 17.(26/18)
وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَحْكَامًا كَثِيرَةً: مِنْهَا: لَوْ وُجِدَ مَيِّتٌ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُونٍ وَعَلَيْهِ زُنَّارٌ فَلاَ يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، اسْتِنَادًا إِلَى هَذِهِ الأَْمَارَةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا، وَإِنْ وَرَدَ فِي شَرْعِنَا مَا يُقَرِّرُهُ، وَقَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَال لَهُ: كَيْفَ تَقْضِي؟ فَأَجَابَهُ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَال: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَال: فَبِسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَال: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَال: أَجْتَهِدُ رَأْيِي (2) .
وَلَمْ يَذْكُرْ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا فَزَكَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَوَّبَهُ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَدَارِكِ الأَْحْكَامِ لَمَا جَازَ الْعُدُول إِلَى الاِجْتِهَادِ إِلاَّ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ (3) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ وَأَدِلَّةُ الْمُخْتَلِفِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 93 تفسير القرطبي في تفسير الآية المذكورة.
(2) حديث معاذ لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، أخرجه الترمذي (3 / 607 - ط الحلبي) وأعله جمع من العلماء بجهالة راو فيه، وأعلوه كذلك بالإرسال. كذا في التلخيص لابن حجر (4 / 182 - 183 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) المستصفى 1 / 250 وما بعدها.(26/19)
شَرْقَاءُ
.
انْظُرْ: أُضْحِيَّةٌ
شِرْكٌ
.
انْظُرْ: إِشْرَاكٌ، اشْتِرَاكٌ(26/19)
الشَّرِكَةُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشِّرْكَةُ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، كَنِعْمَةٍ أَوْ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، كَكَلِمَةٍ - وَيَجُوزُ مَعَ الْفَتْحِ أَيْضًا إِسْكَانُ الرَّاءِ - اسْمٌ مَصْدَرُ شَرِكَ، كَعَلِمَ: يُقَال: شَرِكَ الرَّجُل الرَّجُل فِي الْبَيْعِ وَالْمِيرَاثِ يَشْرَكُهُ شِرْكًا وَشَرِكَةً، خَلَطَ نَصِيبَهُ بِنَصِيبِهِ، أَوِ اخْتَلَطَ نَصِيبَاهُمَا. فَالشَّرِكَةُ إِذَنْ: خَلْطُ النَّصِيبَيْنِ وَاخْتِلاَطُهُمَا، وَالْعَقْدُ الَّذِي يَتِمُّ بِسَبَبِهِ خَلْطُ الْمَالَيْنِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا - لِصِحَّةِ تَصَرُّفِ كُل خَلِيطٍ فِي مَال صَاحِبِهِ - يُسَمَّى شَرِكَةً تَجَوُّزًا، مِنْ إِطْلاَقِ اسْمِ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةِ السَّبَبِ.
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: فَالشَّرِكَةُ قِسْمَانِ: شَرِكَةُ مِلْكٍ وَشَرِكَةُ عَقْدٍ (1) .
أَمَّا شَرِكَةُ الْعَقْدِ فَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ عَلَيْهَا فِي قِسْمِهَا الْخَاصِّ بِهَا:
وَأَمَّا شَرِكَةُ الْمِلْكِ فَهِيَ أَنْ يَخْتَصَّ اثْنَانِ فَصَاعِدًا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِهِ.
__________
(1) رد المحتار 2 / 343. والمغني 5 / 3.(26/20)
وَالَّذِي فِي حُكْمِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ هُوَ الْمُتَعَدِّدُ الْمُخْتَلِطُ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَتَعَسَّرُ تَفْرِيقُهُ لِتَتَمَيَّزَ أَنْصِبَاؤُهُ. سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَيْنُ وَالدَّيْنُ وَغَيْرُهُمَا. فَالدَّارُ الْوَاحِدَةُ، أَوِ الأَْرْضُ الْوَاحِدَةُ، مَثَلاً تَثْبُتُ فِيهَا شَرِكَةُ الْمِلْكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِذَا اشْتَرَيَاهَا أَوْ وَرِثَاهَا أَوِ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِمَا بِأَيِّ سَبَبٍ آخَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ، كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ. وَكَذَلِكَ الإِْرْدَبَّانِ مِنَ الْقَمْحِ أَوْ أَحَدُهُمَا مِنَ الْقَمْحِ وَالآْخَرُ مِنَ الشَّعِيرِ، أَوِ الْكِيسَانِ مِنَ الدَّنَانِيرِ ذَاتِ السِّكَّةِ الْوَاحِدَةِ، يُخْلَطَانِ مَعًا طَوَاعِيَةً أَوِ اضْطِرَارًا - كَإِنِ انْفَتَقَ الْكِيسَانِ الْمُتَجَاوِرَانِ.
وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ وُقُوعَ شَرِكَةِ الْمِلْكِ فِي الدُّيُونِ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ فِي الذِّمَّةِ، فَلاَ يُمْلَكُ - وَتَمْلِيكُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، هُوَ فِي حَقِيقَةِ الأَْمْرِ، إِسْقَاطٌ لاَ تَمْلِيكٌ.
وَلَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ يُمْلَكُ، قَالُوا: بِدَلِيل أَنَّ مَا يَقْبِضُهُ أَحَدُ الدَّائِنِينَ عَنْ حِصَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الدَّائِنِينَ، حَتَّى لَيَتَعَذَّرُ التَّخَلُّصُ مِنْ هَذِهِ الشَّرِكَةِ إِلاَّ بِإِعْمَال الْحِيلَةِ - كَأَنْ يَهَبَ الْمَدِينُ لِقَابِضِ قَدْرِ نَصِيبِهِ مَا قَبَضَهُ، وَيُبْرِئَهُ الْقَابِضُ مِنْ حِصَّتِهِ فِي الدَّيْنِ.
أَمَّا غَيْرُ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ، فَكَحَقِّ صَاحِبَيِ الدَّارِ فِي حِفْظِ نَحْوِ الثَّوْبِ تُلْقِيهِ فِيهَا الرِّيحُ(26/20)
فَإِنَّهُ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ مِلْكٍ، إِذْ يَمْلِكُهُ كِلاَهُمَا.
وَلَيْسَ يُخَالِفُ أَحَدٌ مِنْ أَهْل الْفِقْهِ خِلاَفًا يُذْكَرُ فِي ثُبُوتِ شَرِكَةِ الْمِلْكِ، عَلَى هَذَا النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بَعْضُهُمْ بِاسْمِهَا بَل يَتَعَمَّدُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنْ يَجْمَعُوهَا فِي تَعْرِيفٍ وَاحِدٍ مَعَ شَرِكَةِ الْعَقْدِ، كَمَا فَعَل بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، إِذْ عَرَّفَ الشَّرِكَةَ مُطْلَقًا بِأَنَّهَا: (ثُبُوتُ الْحَقِّ فِي شَيْءٍ لاِثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى جِهَةِ الشُّيُوعِ) . وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِذْ عَرَّفَهَا كَذَلِكَ بِأَنَّهَا: (تَقَرُّرُ مُتَمَوَّلٍ بَيْنَ مَالِكَيْنِ فَأَكْثَرَ) .
تَقْسِيمُ شَرِكَةِ الْمِلْكِ
: أَوَّلاً: إِلَى شَرِكَةِ دَيْنٍ، وَشَرِكَةِ غَيْرِهِ.
2 - أ - فَشَرِكَةُ الدَّيْنِ: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مُسْتَحَقًّا لاِثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ: كَمِائَةِ دِينَارٍ فِي ذِمَّةِ تَاجِرٍ تَجْزِئَةً لأَِصْحَابِ (الشَّرِكَةِ) الَّتِي يُعَامِلُهَا.
ب - وَشَرِكَةُ غَيْرِ الدَّيْنِ: هِيَ الشَّرِكَةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْعَيْنِ أَوِ الْحَقِّ أَوِ الْمَنْفَعَةِ: كَمَا هُوَ الْحَال بِالنِّسْبَةِ لِلسَّيَّارَاتِ أَوِ الْمَنْسُوجَاتِ(26/21)
أَوِ. . . الْمَأْكُولاَتِ فِي الْمَتْجَرِ الْمُشْتَرَكِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِحَقِّ شُفْعَةِ الشَّرِيكَيْنِ فِيمَا بَاعَهُ ثَالِثُهُمَا، وَحَقِّ سُكْنَى الدَّارِ أَوْ زِرَاعَةِ الأَْرْضِ لِمُسْتَأْجِرِيهَا عَلَى الشُّيُوعِ وَلاَ خِلاَفَ لأَِحَدٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي صِحَّةِ هَذَا التَّقْسِيمِ (1) .
ثَانِيًا - إِلَى اخْتِيَارِيَّةٍ، وَاضْطِرَارِيَّةٍ (جَبْرِيَّةٍ) :
3 - أ - فَالاِخْتِيَارِيَّةُ: هِيَ الَّتِي تَكُونُ بِإِرَادَةِ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ: سَوَاءٌ بِوَاسِطَةِ عَقْدٍ أَمْ بِدُونِهِ، وَسَوَاءٌ وَقَعَ الْعَقْدُ مُشْتَرَكًا مُنْذُ بِدَايَتِهِ، أَمْ طَرَأَ عَلَيْهِ اشْتِرَاكُهُمَا، أَمْ طَرَأَ الاِشْتِرَاكُ فِي الْمَال بَعْدَ الْعَقْدِ.
فَمِثَال مَا كَانَ بِوَاسِطَةِ عَقْدٍ مُشْتَرَكٍ مُنْذُ الْبَدْءِ، مَا لَوِ اشْتَرَى اثْنَانِ دَابَّةً لِلْجَرِّ أَوِ الرُّكُوبِ، أَوْ بِضَاعَةً يَتَّجِرَانِ فِيهَا. وَكَالشِّرَاءِ قَبُول هِبَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوِ الْوَصِيَّةُ أَوِ التَّصَدُّقُ بِهِ.
وَمِثَال مَا كَانَ بِوَاسِطَةِ عَقْدٍ طَرَأَ اشْتِرَاكُهُ أَوِ اشْتِرَاكُهُ فِي الْمَال بَعْدَهُ، أَنْ يَقَعَ الشِّرَاءُ أَوْ قَبُول الْهِبَةِ أَوِ الْوَصِيَّةِ مِنْ وَاحِدٍ، ثُمَّ يُشْرِكَ مَعَهُ آخَرَ، فَيَقْبَل الآْخَرُ الشَّرِكَةَ - بِعِوَضٍ أَوْ بِدُونِهِ.
وَمِثَال مَا كَانَ بِدُونِ عَقْدٍ مَا لَوْ خَلَطَ اثْنَانِ
__________
(1) رد المحتار 3 / 343، وفتح القدير 5 / 12 - 14، وتنوير الأبصار وشروحه 3 / 362 - 363، والفواكه الدواني 2 / 171، ونهاية المحتاج 5 / 14، ومطالب أولي النهى 3 / 509.(26/21)
مَالَيْهِمَا، وَمَا لَوِ اصْطَادَ اثْنَانِ صَيْدًا بِشَرَكٍ نَصَبَاهُ، أَوْ أَحْيَيَا أَرْضًا مَوَاتًا.
ب - وَالاِضْطِرَارِيَّةُ، أَوِ الْجَبْرِيَّةُ: هِيَ الَّتِي تَكُونُ دُونَ إِرَادَةِ أَحَدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ: كَمَا لَوِ انْفَتَقَتِ الأَْكْيَاسُ، وَاخْتَلَطَ مَا فِيهَا مِمَّا يَعْسُرُ - إِنْ لَمْ يَتَعَذَّرْ - فَصْل بَعْضِهِ عَنْ بَعْضٍ لِتَتَمَيَّزَ أَنْصِبَاؤُهُ، كَبَعْضِ الْحُبُوبِ. أَمَّا إِذَا وَقَعَ الْخَلْطُ بِفِعْل أَحَدِ الشُّرَكَاءِ، دُونَ إِذْنِ بَاقِيهِمْ، فَقَدْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْخَالِطَ يَمْلِكُ مَا خَلَطَهُ بِمَال نَفْسِهِ، وَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْمِثْل لِتَعَدِّيهِ، أَيْ فَلاَ شَرِكَةَ (1) .
وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ لاَ خِلاَفَ فِيهِ إِلاَّ فِي مِثْل مَسْأَلَةِ: تَمَلُّكِ شَخْصٍ: مَال غَيْرِهِ بِمُجَرَّدِ الاِسْتِبْدَادِ بِخَلْطِهِ بِمَال نَفْسِهِ، بِحَيْثُ لاَ يَتَمَيَّزَانِ، أَوْ يَشُقُّ وَيَعْسُرُ تَمْيِيزُهُمَا، فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ يَمْلِكُهُ بِذَلِكَ وَيَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ لِلآْخَرِ بَدَلُهُ، وَقَال بِذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَمَعَهُ جَمَاهِيرُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَال: إِنَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَال الشَّافِعِيِّ اعْتَمَدَهُ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، بَعْدَ أَنْ قَيَّدُوهُ فِي الأَْوْجَهِ بِامْتِنَاعِ التَّصَرُّفِ فِيمَا مَلَكَ بِالْخَلْطِ، حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهُ لِصَاحِبِهِ؛ لأَِنَّ الَّذِي مَلَكَهُ
__________
(1) رد المحتار 3 / 344، والإتحاف بأشباه ابن نجيم 448.(26/22)
كَذَلِكَ، لَوْ كَانَ مَلَكَهُ بِمُعَاوَضَةٍ رِضَائِيَّةٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ حَتَّى يَرْضَى صَاحِبُهُ بِذِمَّتِهِ، فَأَوْلَى إِذَا مَلَكَهُ بِدُونِ رِضَاهُ.
وَمِنْ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ، مَنْ يُنْكِرُ هَذَا التَّمَلُّكَ الْقَسْرِيَّ، وَيَجْعَل الْمَال مُشْتَرَكًا: كَمَا هُوَ أَحَدُ أَقْوَال الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ، وَأَطَال فِي الاِنْتِصَارِ لَهُ، وَعَلَيْهِ أَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَجَمَاهِيرُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ (1) .
أَحْكَامُ شَرِكَةِ الْمِلْكِ:
4 - الأَْصْل أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ فِي شَرِكَةِ الْمِلْكِ أَجْنَبِيٌّ بِالنِّسْبَةِ لِنَصِيبِ الآْخَرِ. لأَِنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ لاَ تَتَضَمَّنُ وَكَالَةً مَا، ثُمَّ لاَ مِلْكَ لِشَرِيكٍ مَا فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَلاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ أَيِّ طَرِيقٍ آخَرَ. وَالْمُسَوِّغُ لِلتَّصَرُّفِ إِنَّمَا هُوَ الْمِلْكُ أَوِ الْوِلاَيَةُ (2) وَهَذَا مَا لاَ يُمْكِنُ تَطَرُّقُ الْخِلاَفِ إِلَيْهِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مَا يَلِي:
5 - 1 - لَيْسَ لِشَرِيكِ الْمِلْكِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ شَيْءٌ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ التَّعَاقُدِيَّةِ:
__________
(1) نهاية المحتاج وحواشيها 5 / 14، 184 و 187، وبلغة السالك 2 / 165 و 213، 319، 320، وبداية المجتهد 2 / 319، ومغني المحتاج 2 / 292، والشرقاوي على التحرير 2 / 109، والمغني لابن قدامة 5 / 410، ومطالب أولي النهى 3 / 494.
(2) بدائع الصنائع 6 / 65، ورد المحتار 3 / 343.(26/22)
كَالْبَيْعِ، وَالإِْجَارَةِ، وَالإِْعَارَةِ وَغَيْرِهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ هَذَا. فَإِذَا تَعَدَّى فَآجَرَ، مَثَلاً، أَوْ أَعَارَ الْعَيْنَ الْمُشْتَرَكَةَ فَتَلِفَتْ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ، فَلِشَرِيكِهِ تَضْمِينُهُ حِصَّتَهُ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ (1) .
6 - 2 - لِكُل شَرِيكٍ فِي شَرِكَةِ الْمِلْكِ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ لِشَرِيكِهِ، أَوْ يُخْرِجَهُ إِلَيْهِ عَنْ مِلْكِهِ عَلَى أَيِّ نَحْوٍ، وَلَوْ بِوَصِيَّةٍ، إِلاَّ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ لاَ يُوهَبُ دُونَ قِسْمَةٍ، مَا لَمْ يَكُنْ غَيْرَ قَابِلٍ لَهَا. وَسَيَأْتِي اسْتِثْنَاءُ حَالَةِ الضَّرَرِ. هَكَذَا قَرَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ. وَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ مَحَل وِفَاقٍ - إِلاَّ أَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ سَائِغَةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْل الْعِلْمِ بِإِطْلاَقٍ: كَمَا قَرَّرَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ لاَ تَجُوزُ - بِمَعْنَى عَدَمِ إِثْبَاتِ مِلْكٍ نَاجِزٍ - فَالْهِبَةُ صَحِيحَةٌ، وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ عَلَى الإِْفْرَازِ ثُمَّ التَّسْلِيمِ (2) .
7 - 3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ لِغَيْرِ شَرِيكِهِ - فِي غَيْرِ
__________
(1) المادة 1075 من المجلة، وحواشي تحفة ابن عاصم 2 / 216، ونهاية المحتاج 5 / 2، 185، ومطالب أولي النهى 3 / 494.
(2) رد المحتار 3 / 346، وفتح القدير 7 / 123، والعناية على الهداية 7 / 121، بداية المجتهد 2 / 329، البجيرمي على المنهج 3 / 216.(26/23)
حَالَةِ الضَّرَرِ الآْتِيَةِ - بِدُونِ إِذْنٍ مِنْهُ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ حَالَةً وَاحِدَةً: هِيَ حَالَةُ اخْتِلاَطِ الْمَالَيْنِ دُونَ شُيُوعٍ - لِبَقَاءِ كُل مَالٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ، وَإِنْ عَسُرَ تَمْيِيزُهُ، أَوْ تَعَذَّرَ: سَوَاءٌ كَانَ اخْتِلاَطًا عَفْوِيًّا، أَمْ نَتِيجَةَ خَلْطٍ مَقْصُودٍ مِنْ جَانِبِ الشُّرَكَاءِ.
فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: أَيْ حَالَةِ اخْتِلاَطِ الْمَالَيْنِ دُونَ شُيُوعٍ: لاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ لِيَصِحَّ بَيْعُهُ لِغَيْرِهِ، مَا دَامَ الْمَال شَرِكَةً بَيْنَهُمَا لَمْ يُقْسَمْ بَعْدُ (1) .
وَسِرُّ التَّفْرِقَةِ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ هَذِهِ الْحَالَةِ، حَيْثُ تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْبَيْعِ لِغَيْرِ الشَّرِيكِ عَلَى إِذْنِهِ، وَبَيْنَ غَيْرِهَا، حَيْثُ لاَ يُوجَدُ هَذَا التَّوَقُّفُ، أَنَّهُ فِي حَالَةِ شُيُوعِ الْمَال بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ - بِسَبَبِ إِرْثِهِمَا إِيَّاهُ، أَوْ وُقُوعِ شَرِكَتِهِمَا فِيهِ بِسَبَبٍ آخَرَ يَقْتَضِي هَذَا الشُّيُوعَ: كَشِرَائِهِمَا إِيَّاهُ مَعًا، أَوْ إِشْرَاكِ أَحَدِهِمَا صَاحِبَهُ فِيهِ بِحِصَّةٍ شَائِعَةٍ - يَكُونُ كُل جُزْءٍ فِي الْمَال الْمُشْتَرَكِ - مَهْمَا دَقَّ وَصَغُرَ - مُشْتَرَكًا بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، وَبَيْعُ النَّصِيبِ الشَّائِعِ جَائِزٌ لِلشَّرِيكِ وَلِغَيْرِهِ، إِذْ لاَ مَانِعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ وَتَسَلُّمِهِ فَإِنَّ الإِْفْرَازَ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ التَّسْلِيمِ - وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ نِزَاعَ فِي صِحَّةِ
__________
(1) رد المحتار 3 / 346، 367، ومغني المحتاج 2 / 13، وحاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 5 / 83.(26/23)
بَيْعِ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ فِيمَا لاَ يَقْبَل الْقِسْمَةَ ذَاتًا كَالدَّابَّةِ، وَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ الْبَائِعُ الْعَيْنَ الْمُشْتَرَكَةَ كُلَّهَا، دُونَ إِذْنِ شَرِيكِهِ، كَانَ كَالْغَاصِبِ، وَالْمُشْتَرِي مِنْهُ كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ، بِالنِّسْبَةِ لِحِصَّةِ الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ: حَتَّى إِذَا تَلِفَتِ الْعَيْنُ كَانَ لِلَّذِي لَمْ يَبِعْ حَقُّ الرُّجُوعِ بِضَمَانِ حِصَّتِهِ عَلَى أَيِّ الشَّخْصَيْنِ شَاءَ: الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ إِذَا رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي، يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ.
أَمَّا النَّصِيبُ غَيْرُ الشَّائِعِ فِي شَرِكَةِ الْمِلْكِ، فَبَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ - إِلاَّ أَنَّهُ الْتَبَسَ بِغَيْرِهِ أَوْ تَعَسَّرَ فَصْلُهُ. وَهَذَا الاِلْتِبَاسُ أَوِ التَّعَسُّرُ لاَ يَمْنَعُ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِهِ إِلَى الشَّرِيكِ، إِذَا بَاعَهُ إِيَّاهُ، وَلَكِنَّهُ يَمْنَعُ هَذِهِ الْقُدْرَةَ وَيُنَافِيهَا إِذَا بَاعَ النَّصِيبَ لأَِجْنَبِيٍّ عَنِ الشَّرِكَةِ، دُونَ إِذْنِ شَرِيكِهِ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ أَوْ تَسَلُّمُهُ، إِلاَّ مَخْلُوطًا بِنَصِيبِ هَذَا الشَّرِيكِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنِهِ (1) .
وَقَال الْقَرَافِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ: (إِذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي حَيَوَانٍ مَثَلاً بِمِيرَاثٍ أَوْ غَيْرِهِ لاَ يَجُوزُ لأَِحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ إِلاَّ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ: فَلَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ وَسَلَّمَ الْجَمِيعَ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ، كَانَ ضَامِنًا عَلَى
__________
(1) البهجة على التحفة 2 / 216.(26/24)
مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ. لأَِنَّ أَحْسَنَ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ كَالْمُودَعِ فِي الأَْمَانَةِ، وَهَذَا إِذَا وَضَعَ يَدَ الأَْجْنَبِيِّ يَضْمَنُ لِتَعَدِّيهِ، وَلاَ يَلْزَمُ عَدَمُ صِحَّةِ الْبَيْعِ؛ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّسْلِيمِ: لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ شَرِيكُهُ حَاضِرًا، سَلِمَ الْبَيْعُ لَهُ، وَتَقَعُ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي، أَوْ غَائِبًا، رَفَعَ أَمْرَهُ إِلَى الْحَاكِمِ، وَيَأْذَنُ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَوَضْعِ مَال الْغَائِبِ تَحْتَ يَدِهِ) . (1)
حَالَةُ الضَّرَرِ:
8 - بَيْعُ الْحِصَّةِ الشَّائِعَةِ فِي الْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ، أَوِ الثَّمَرِ أَوِ الزَّرْعِ، لاَ يَجُوزُ. وَيَعْنُونَ بَيْعَ الْحِصَّةِ فِي ذَلِكَ مُنْفَرِدَةً عَنِ الأَْرْضِ الَّتِي هِيَ فِيهَا.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ: فَإِنَّهُ إِنْ شَرَطَ هَدْمَ الْبِنَاءِ، وَقَلْعَ الْغِرَاسِ، فَلاَ يَتَأَتَّى دُونَ هَدْمِ وَقَلْعِ حِصَّةِ الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ - لِمَكَانِ الشُّيُوعِ - وَذَلِكَ ضَرَرٌ لاَ يَجُوزُ. وَلأَِنَّ شَرْطَ بَقَائِهِمَا إِنَّمَا هُوَ شَرْطُ مَنْفَعَةٍ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ زَائِدَةٍ عَنْ مُقْتَضَى الْبَيْعِ، فَيَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا فِي نَفْسِهِ، مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ أَيْضًا، لِمَكَانِ الرِّبَا، إِذْ هِيَ زِيَادَةٌ عَرِيَّةٌ عَنِ الْعِوَضِ (2) .
__________
(1) حواشي نهاية المحتاج 5 / 83، ومغني المحتاج 2 / 13، وحواشي تحفة ابن عاصم 2 / 216.
(2) الدر المختار مع ابن عابدين 3 / 345.(26/24)
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلثَّمَرِ أَوِ الزَّرْعِ: فَإِذَا لَمْ يَبْلُغْ أَوَانَ قَطْعِهِ فَبِدُونِ إِذْنِ الشَّرِيكِ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْحِصَّةِ لأَِجْنَبِيٍّ؛ لِلُحُوقِ الضَّرَرِ بِهِ حِينَئِذٍ، إِذْ سَيُطَالِبُ الْمُشْتَرِي بِقَطْعِ مَا اشْتَرَاهُ، وَلاَ سَبِيل إِلَيْهِ إِلاَّ بِقَطْعِ حِصَّةِ هَذَا الشَّرِيكِ (1) .
9 - (4) ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ فِي حُضُورِ الشَّرِيكِ، لاَ يَنْتَفِعُ شَرِيكُهُ الآْخَرُ بِالْمَال الْمُشْتَرَكِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ؛ لأَِنَّهُ بِدُونِ الإِْذْنِ يَكُونُ غَصْبًا، وَيَدْخُل فِي الإِْذْنِ: الإِْذْنُ الْعُرْفِيُّ.
فَإِذَا رَكِبَ الشَّرِيكُ الدَّابَّةَ الْمُشْتَرَكَةَ، أَوْ حَمَل عَلَيْهَا، بِدُونِ إِذْنِ شَرِيكِهِ فَتَلِفَتْ أَوْ هَزِلَتْ وَنَقَصَتْ قِيمَتُهَا، ضَمِنَ حِصَّةَ. شَرِيكِهِ فِي حَال التَّلَفِ، وَضَمِنَ نَقْصَ قِيمَتِهَا فِي حَالَةِ الْهُزَال.
وَإِذَا زَرَعَ الأَْرْضَ الْمُشْتَرَكَةَ، أَوْ بَنَى فِيهَا، وَشَرِيكُهُ حَاضِرٌ، دُونَ إِذْنٍ مِنْهُ، طُبِّقَتْ أَحْكَامُ الْغَصْبِ: فَتَنْقَسِمُ الأَْرْضُ بَيْنَهُمَا، وَعَلَيْهِ قَلْعُ مَا وَقَعَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَضَمَانُ نَقْصِ أَرْضِهِ. إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ قَدْ أَدْرَكَ أَوْ كَادَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ إِلاَّ ضَمَانُ نُقْصَانِ الأَْرْضِ، دُونَ قَلْعِ الزَّرْعِ وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ الآْخَرِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى الَّذِي زَرَعَ الأَْرْضَ الْمُشْتَرَكَةَ نِصْفَ الْبَذْرِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ
__________
(1) رد المحتار 3 / 346، ومغني المحتاج 2 / 189، والبهجة على التحفة 2 / 209، 216.(26/25)
الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا لأَِنَّهُ بَيْعُ مَعْدُومٍ إِنْ كَانَ الزَّرْعُ لَمْ يَنْبُتْ بَعْدُ، وَإِلاَّ فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَيْضًا أَنْ يُصِرَّ عَلَى قَلْعِ الزَّرْعِ مَتَى كَانَتِ الْقِسْمَةُ مُمْكِنَةً.
وَهُنَا لِلشَّافِعِيَّةِ ضَابِطٌ حَسَنٌ: الشَّرِيكُ أَمِينٌ إِنْ لَمْ يَسْتَعْمِل الْمُشْتَرَكَ، أَوِ اسْتَعْمَلَهُ مُنَاوَبَةً - لأَِنَّهَا إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ - وَإِلاَّ: فَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَعَارِيَّةٌ، أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ فَغَصْبٌ. وَمِنَ الاِسْتِعْمَال حَلْبُ الدَّابَّةِ اللَّبُونِ (1) .
10 - (5) فِي حَالَةِ غَيْبَةِ الشَّرِيكِ أَوْ مَوْتِهِ، يَكُونُ لِشَرِيكِهِ الْحَاضِرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْمُشْتَرَكِ انْتِفَاعًا لاَ يَضُرُّ بِهِ (2) .
11 - (6) ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا احْتَاجَ الْمَال الْمُشْتَرَكُ إِلَى النَّفَقَةِ - سَوَاءٌ لِلتَّعْمِيرِ، أَمْ لِغَيْرِهِ - كَبِنَاءِ مَا تَخَرَّبَ، وَإِصْلاَحِ مَا وَهَى، وَإِطْعَامِ الْحَيَوَانَاتِ، وَلَكِنْ نَشِبَ النِّزَاعُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ: فَأَرَادَ بَعْضُهُمُ الإِْنْفَاقَ، وَأَبَى الآْخَرُونَ - فَفِي الْحُكْمِ تَفْصِيلٌ؛ لأَِنَّ الْمَال إِمَّا قَابِلٌ لِلْقِسْمَةِ أَوْ غَيْرُ قَابِلٍ:
أ - فَفِي الْقَابِل لِلْقِسْمَةِ: كَالدَّارِ
__________
(1) المراجع السابقة، والشرقاوي على التحرير 2 / 113.
(2) ملا مسكين على الكنز 2 / 208، والعناية على الهداية 8 / 380 ومغني المحتاج 2 / 189. والبجيرمي على المنهج 3 / 15، الخرشي 4 / 278، والمغني 5 / 36.(26/25)
الْفَسِيحَةِ، وَالْحَوَانِيتِ الْمُعَدَّةِ لِلاِسْتِغْلاَل وَالْحَيَوَانَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ، لاَ إِجْبَارَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ، وَلَكِنْ يُقْسَمُ الْمَال لِيَقُومَ بِإِصْلاَحِ مَالِهِ وَالإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ - اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُمْتَنِعُ، عَلَى خِلاَفِ الْمَصْلَحَةِ، وَصِيًّا أَوْ نَاظِرَ وَقْفٍ (كَمَا فِي دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ وَقْفَيْنِ مَثَلاً) فَإِنَّهُ يُجْبَرُ؛ لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ.
ب - وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَال الْمُشْتَرَكُ قَابِلاً لِلْقِسْمَةِ، أُجْبِرَ الشَّرِيكُ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي النَّفَقَةِ؛ لأَِنَّ امْتِنَاعَهُ مُفَوِّتٌ لِحَقِّ شَرِيكِهِ فِي الاِنْتِفَاعِ بِمَالِهِ وَذَلِكَ كَمَا فِي نَفَقَةِ دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ كَرْيِ نَهْرٍ، أَوْ مَرَمَّةِ قَنَاةٍ أَوْ بِئْرٍ، أَوْ إِصْلاَحِ آلَةِ رَيٍّ، أَوْ سَفِينَةٍ، أَوْ حَائِطٍ لاَ يَنْقَسِمُ لِضِيقِ عَرْصَتِهِ (مَوْضِعِ بِنَائِهِ) أَوْ لِحُمُولَةٍ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْحُمُولَةُ كُلُّهَا لِغَيْرِ طَالِبِ الْعِمَارَةِ إِلاَّ أَنَّ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ مَالُوا إِلَى الْقَوْل: بِأَنَّ الْجِدَارَ الْوَاسِعَ الْعَرْصَةِ مُلْحَقٌ هُنَا بِمَا لاَ يَنْقَسِمُ؛ لِتَضَرُّرِ الشَّرِيكِ فِيهِ بِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي إِصْلاَحِهِ وَتَرْمِيمِهِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ مُوَافَقَةً تَكَادُ تَكُونُ تَامَّةً، وَيَزِيدُونَ أَنَّ الشَّرِيكَ إِذَا أَصَرَّ عَلَى الاِمْتِنَاعِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُ عَلَيْهِ حِصَّتَهُ كُلَّهَا لِمَنْ يَقُومُ بِالنَّفَقَةِ اللاَّزِمَةِ. وَلَمْ يَجْتَزِئُوا بِبَيْعِ مَا يَكْفِي لِسَدَادِ هَذِهِ النَّفَقَةِ، مَنْعًا لِضَرَرِ تَكْثِيرِ الشُّرَكَاءِ، وَلاَ بِإِجْبَارِ الشَّرِيكِ الْقَادِرِ عَلَى النَّفَقَةِ وَحْدَهُ، دُونَ لُجُوءٍ إِلَى الْبَيْعِ (كَمَا(26/26)
لَمْ يَلْجَئُوا إِلَيْهِ فِي الْحِصَّةِ الَّتِي هِيَ وَقْفٌ، وَمَنَعُوهُ إِذَا كَانَ ثَمَّتَ مَا يُغْنِي عَنْهُ: مِنْ رِيعٍ لَهَا مُتَجَمِّعٍ، أَوْ أُجْرَةٍ مُتَاحَةٍ بِسَبَبِ وُجُودِ رَاغِبٍ فِي الاِسْتِئْجَارِ بِأُجْرَةٍ مُعَجَّلَةٍ مَثَلاً) مَعَ أَنَّهُ قَدْ قِيل عِنْدَهُمْ بِكُلٍّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ. أَمَّا حَيْثُ لاَ يُوجَدُ مَا يُغْنِي فِي الْحِصَّةِ الْمَوْقُوفَةِ عَنِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهَا تُبَاعُ كُلُّهَا - كَغَيْرِ الْمَوْقُوفَةِ - مَنْعًا لِكَثْرَةِ الأَْيْدِي، كَمَا اسْتَدْرَكَهُ النَّفْرَاوِيُّ عَلَى بَعْضِ شُرَّاحِ خَلِيلٍ، وَلَمْ يَجْعَلُوا الْوَقْفَ مَانِعًا مِنَ الْبَيْعِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُشْتَرَكُ جَمِيعُهُ وَقْفًا، وَحِينَئِذٍ يَقُومُ الطَّالِبُ بِالنَّفَقَةِ اللاَّزِمَةِ، ثُمَّ يَسْتَوْفِي مَا يَخُصُّ الْحِصَّةَ الأُْخْرَى مِنْ غَلَّتِهَا.
وَمَعَ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ لاَ يَرَوْنَ إِجْبَارَ الشَّرِيكِ إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الإِْصْلاَحِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ نَفْعٌ مُحَقَّقٌ: وَقَدْ مَثَّلُوهُ بِإِصْلاَحِ الْعُيُونِ وَالآْبَارِ - حَتَّى لَقَدْ رَفَضُوا قَوْل مَنْ قَال مِنْهُمْ بِالإِْجْبَارِ إِذَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الْعُيُونِ أَوِ الآْبَارِ زَرْعٌ، أَوْ شَجَرٌ فِيهِ ثَمَرٌ مُؤَبَّرٌ. وَرَأَوْا أَنْ يَقُومَ بِالإِْصْلاَحِ الشَّرِيكُ الَّذِي يُرِيدُهُ، ثُمَّ يَحُول بَيْنَ الشَّرِيكِ الْمُمْتَنِعِ وَبَيْنَ كَمِّيَّةِ الْمَاءِ الزَّائِدَةِ - الَّتِي نَتَجَتْ مِنْ عَمَلِيَّةِ الإِْصْلاَحِ إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ مَا يَخُصُّهُ مِنَ النَّفَقَاتِ، وَلَوْ ظَل كَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ.
نَعَمْ سِيَاقُ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ هُنَا فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ، (لَكِنَّهُمْ نَصُّوا - فِي مَوْضِعِهِ - عَلَى مَا يُفِيدُ أَنَّ الْحَيَوَانَ لاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ) : ذَلِكَ(26/26)
أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلْقَاضِي السُّلْطَةَ نَفْسَهَا إِذَا كَانَ الْحَيَوَانُ مِلْكًا خَاصًّا، وَامْتَنَعَ مَالِكُهُ عَنِ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ - غَايَةُ الأَْمْرِ أَنَّهُمْ زَادُوا إِعْطَاءَ الْمَالِكِ خِيَارَ ذَبْحِ مَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ حَتَّى إِذَا رَفَضَ هَذَا وَذَاكَ أَيْضًا نَابَ عَنْهُ الْقَاضِي (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي نَفَقَةِ الْحَيَوَانِ الْمُشْتَرَكِ إِلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
أَمَّا فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ، فَلِكُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ قَوْلاَنِ: قَوْلٌ بِإِجْبَارِ الشَّرِيكِ عَلَى التَّعْمِيرِ وَالإِْنْفَاقِ مَعَ شَرِيكِهِ؛ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَصِيَانَةً لِلأَْمْلاَكِ عَنِ التَّعْطِيل، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْحَنَابِلَةُ وَكَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: كَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ الصَّلاَحِ. وَقَوْلٌ بِعَدَمِ الإِْجْبَارِ لأَِنَّ الْمُمْتَنِعَ يَتَضَرَّرُ بِالنَّفَقَةِ أَيْضًا، وَالضَّرَرُ لاَ يُزَال بِالضَّرَرِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ عُذْرٌ، أَوْ وُجْهَةُ نَظَرٍ، ثُمَّ كُل مَا لَيْسَتْ لَهُ رَوْحٌ. . فَلَيْسَتْ لَهُ فِي نَفْسِهِ حُرْمَةٌ يَسْتَحِقُّ الإِْنْفَاقَ مِنْ أَجْلِهَا، وَلاَ فِي تَعْطِيلِهِ إِضَاعَةُ مَالٍ مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا، إِذْ لاَ يَعُدُّونَ التَّرْكَ مِنْ هَذِهِ الإِْضَاعَةِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ فِعْلٍ إِيجَابِيٍّ: كَأَنْ يَقْذِفَ الشَّخْصُ بِمَتَاعِهِ إِلَى الْبَحْرِ. وَهَذَا هُوَ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 366، والخرشي 4 / 372، وبلغة السالك 2 / 173 - 174، والفواكه الدواني 2 / 108 - 109.(26/27)
الَّذِي اعْتَمَدَهُ الشَّافِعِيَّةُ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّهُ أَقْوَى دَلِيلاً، وَإِنْ كَانَ الْجُورِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ يَسْتَثْنِي النَّبَاتَ وَيُلْحِقُهُ بِالْحَيَوَانِ. وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، بِأَنَّ الأَْمْرَ يُوَكَّل إِلَى الْقَاضِي: فَإِنْ لَمْ يَرَ مِنَ الشَّرِيكِ الْمُمْتَنِعِ إِلاَّ الْعِنَادَ أَجْبَرَهُ، وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
رُجُوعُ الشَّرِيكِ عَلَى شَرِيكِهِ بِمَا أَنْفَقَ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَقَل بِالنَّفَقَةِ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِيمَا يَنْقَسِمُ، دُونَ إِذْنِ شَرِيكِهِ، فَمُتَبَرِّعٌ لاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى شَرِيكِهِ بِمَا أَنْفَقَ - لاَ مِثْلاً وَلاَ قِيمَةً؛ لأَِنَّ لَهُ بِالْقِسْمَةِ مَنْدُوحَةً عَنْ ذَلِكَ. إِلاَّ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَوْ خَافَ تَلَفَ الْمَال الْمُشْتَرَكِ، أَوْ نُقْصَانَهُ، إِذَا لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهِ لِنَقْلِهِ مِنْ مَكَانِهِ - كَمَا لَوْ تَعَطَّلَتِ الشَّاحِنَةُ بِالْمَال الْمُشْتَرَكِ فِي مَكَانٍ مَخُوفٍ، كَبَادِيَةٍ مَثَلاً - فَإِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَى نَقْلِهِ، وَيَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى شَرِيكِهِ.
أَمَّا فِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ: فَقَدْ أَطْلَقَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي " الأَْشْبَاهِ " الْقَوْل بِرُجُوعِ الْمُنْفِقِ عَلَى شَرِيكِهِ، وَأَنَّهُ - إِنْ أَمْكَنَ - يُؤَجِّرُ الْعَيْنَ وَيَسْتَوْفِي مِنْ أُجْرَتِهَا مِثْل النَّفَقَةِ الَّتِي أَنْفَقَهَا - إِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ بِإِذْنِ الْقَاضِي - أَوْ قِيمَةَ
__________
(1) الشرقاوي على التحرير 2 / 347، 348 دليل الطالب 250 - 251، ومغني المحتاج 2 / 190، والمغني لابن قدامة 5 / 45، 49، 50.(26/27)
مَا أَجْرَاهُ مِنْ أَوْجُهِ الإِْصْلاَحِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِ الْقَاضِي (1) .
وَالشَّرِيكُ الَّذِي يَسْتَقِل بِالإِْنْفَاقِ عَلَى الْمُشْتَرَكِ، دُونَ إِذْنِ شَرِيكِهِ وَدُونَ إِذْنٍ مِنَ الْقَاضِي، لاَ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَنْفَقَ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ مُتَبَرِّعٌ، حَتَّى فِي مَوْضِعِ الإِْجْبَارِ عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي النَّفَقَةِ، قِيَاسًا عَلَى الَّذِي يَقْضِي دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ فِي حَالَةِ الإِْجْبَارِ عَلَى الْمُشَارَكَةِ، إِذَا أَنْفَقَ الشَّرِيكُ بِقَصْدِ الرُّجُوعِ عَلَى شَرِيكِهِ، بِنَاءً عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَهُمْ فِي الَّذِي يَقْضِي دُونَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ - أَعَنَى رِوَايَةَ اسْتِحْقَاقِهِ الرُّجُوعَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ عَمَّرَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ الرَّحَى الْمُشْتَرَكَةَ بِإِذْنِ شُرَكَائِهِ أَوْ مَعَ سُكُوتِهِمُ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِحِصَصِهِمْ مِمَّا أَنْفَقَهُ فِي ذِمَمِهِمْ، وَإِنْ كَانَ إِنْفَاقُهُ مَعَ إِبَائِهِمْ فَلاَ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِشَيْءٍ فِي ذِمَمِهِمْ وَلَكِنْ يَسْتَوْفِي مِنَ الْغَلَّةِ ثُمَّ مَا يَفْضُل مِنَ الْغَلَّةِ فَهُوَ لَهُمْ جَمِيعًا (2) .
__________
(1) رد المحتار 3 / 364 - 366 - 367.
(2) رد المحتار 3 / 367 - 368، والخرشي 4 / 273 - 274، ومغني المحتاج 2 / 210، والمغني لابن قدامة 5 / 47، 88.(26/28)
الدَّيْنُ الْمُشْتَرَكُ:
13 - هُوَ كُل دَيْنٍ وَجَبَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ لِشَرِيكَيْنِ فَأَكْثَرَ. كَمَا لَوْ بَاعَ الشَّرِيكَانِ دَارًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا بِعَقْدٍ وَاحِدٍ دُونَ تَحْدِيدِ ثَمَنٍ لِكُلٍّ مِنْهُمَا؛ أَمَّا لَوْ تَعَدَّدَتِ الصَّفْقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلدَّيْنِ حَقِيقَةً، أَوْ حُكْمًا اخْتَلَفَ السَّبَبُ، وَانْتَفَى الاِشْتِرَاكُ فِي الدَّيْنِ: وَذَلِكَ كَالدَّيْنِ الَّذِي اسْتُحِقَّ عَلَى مُشْتَرٍ وَاحِدٍ ثَمَنًا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ كَدَارٍ، أَوْ قِطْعَةِ أَرْضٍ يَمْلِكُهَا اثْنَانِ مَا دَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ بَاعَ نَصِيبَهُ بِعَقْدٍ مُسْتَقِلٍّ، وَإِنْ أَخَذَ عَلَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ صَكًّا وَاحِدًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ. فَهَذَا دَيْنٌ غَيْرُ مُشْتَرَكٍ؛ لأَِنَّهُ وَجَبَ بِسَبَبَيْنِ. لاَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، بِرَغْمِ اتِّحَادِ الْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي وَالصَّكِّ. فَلاَ سَبِيل لأَِحَدِ الْبَائِعَيْنِ عَلَى الآْخَرِ، إِذَا تَقَاضَى مِنَ الدَّيْنِ شَيْئًا.
وَمِنَ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ أَيْضًا كُل دَيْنٍ وَجَبَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ لِشَرِيكَيْنِ فَأَكْثَرَ. وَهُوَ مَا كَانَ عِوَضًا عَنْ مَالَيْنِ غَيْرِ مُشْتَرَكَيْنِ، إِلاَّ أَنَّهُ اسْتُحِقَّ عَنْهُمَا بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ: كَدَارٍ لِهَذَا وَدَارٍ لِذَاكَ، بَاعَاهُمَا مَعًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بِثَمَنٍ إِجْمَالِيٍّ لَهُمَا، دُونَ أَنْ يُمَيَّزَ فِيهِ ثَمَنُ كُلٍّ عَلَى حِدَةٍ، لاَ بِبَيَانِ مِقْدَارٍ - كَسِتِّمِائَةٍ لِهَذَا وَأَرْبَعُمِائَةٍ لِذَاكَ - وَلاَ بِتَحْدِيدِ صِفَةٍ، كَنُقُودٍ فِضِّيَّةٍ لِهَذَا وَذَهَبِيَّةٍ لِذَاكَ؛ لأَِنَّ مِثْل هَذَا(26/28)
التَّمْيِيزِ يُنَافِي اتِّحَادَ الصَّفْقَةِ: بِدَلِيل أَنَّ لِلْمُشْتَرِي حِينَئِذٍ أَنْ يَقْبَل الْبَيْعَ فِي نَصِيبِ وَاحِدٍ، وَيَرْفُضَهُ فِي نَصِيبِ الآْخَرِ، مُعْتَذِرًا بِأَنَّ هَذَا الثَّمَنَ أَوْ ذَاكَ الْوَصْفَ لاَ يُنَاسِبُهُ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ الدَّيْنُ مُشْتَرَكًا. إِلاَّ أَنَّهُ فِي حَالَةِ التَّمْيِيزِ بِبَيَانِ تَفَاضُل الاِسْتِحْقَاقَيْنِ، إِذَا زَال التَّفَاضُل بِاسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ عَادَ الدَّيْنُ مُشْتَرَكًا.
وَزَادَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَنَّهُ يَنْبَغِي اشْتِرَاطُ أَنْ لاَ يَكُونَ التَّمْيِيزُ فِي الْمِقْدَارِ أَوِ الصِّفَةِ قَائِمًا أَصْلاً، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي الْعَقْدِ (1) .
قَبْضُ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ:
14 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ كُل دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ مَثَلاً، إِذَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا - وَلَوْ كَانَ الْمُؤَدِّي كَفِيل الْمَدِينِ، أَوْ مُحَالاً عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِهِ فَهُوَ مَقْبُوضٌ عَنِ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا، وَلِلَّذِي لَمْ يَقْبِضْ - وَيُسَمُّونَهُ الشَّرِيكَ السَّاكِتَ - أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَابِضِ، بِنِسْبَةِ حِصَّتِهِ فِي الدَّيْنِ، كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ لِلْقَابِضِ مَا قَبَضَ لِيَتَمَلَّكَهُ، وَيَرْجِعَ هُوَ بِحِصَّتِهِ فِيهِ عَلَى الْمَدِينِ رُجُوعًا مُقَيَّدًا بِعَدَمِ التَّوَى، حَتَّى
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 45، والعناية على الهداية مع فتح القدير 7 / 47.(26/29)
إِذَا تَوِيَتْ عَلَى الْمَدِينِ، كَأَنْ مَاتَ مُفَلِّسًا، عَادَ بِهَا عَلَى الْقَابِضِ، إِذْ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا كَانَ يَرْجُو سَلاَمَتَهُ، وَشَرْطُ السَّلاَمَةِ فِي مِثْلِهِ مَفْهُومٌ عُرْفًا.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَ الدَّيْنُ دَيْنَ مُعَاوَضَةٍ كَأَلْفٍ هِيَ ثَمَنُ دَارٍ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ، أَمْ دَيْنَ إِتْلاَفٍ، كَمَا لَوْ كَانَتِ الأَْلْفُ قِيمَةَ زَرْعٍ لَهُمَا ضَمِنَهُ قَالِعُهُ أَوْ مُحْرِقُهُ، أَمْ غَيْرُهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ مِيرَاثًا وَرِثَاهُ عَنْ مُوَرِّثٍ وَاحِدٍ، أَوْ بَدَل قَرْضٍ أَقْرَضَاهُ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا.
أَمَّا أَنَّ مَا يَقْبِضُهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ يُعْتَبَرُ مَقْبُوضًا عَنِ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، فَذَلِكَ أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا عَنْ حِصَّةِ الْقَابِضِ وَحْدَهُ، إِلاَّ إِذَا وَقَعَتْ قِسْمَةُ الدَّيْنِ بَيْنَ الدَّائِنَيْنِ، وَهَذَا لَمْ يَحْصُل، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُل، لِمَعْنَيَيْنِ:
15 - أَوَّلُهُمَا: أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لاَ يُمْكِنُ تَمْيِيزُ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ. وَهَذِهِ هِيَ حَقِيقَةُ الْقِسْمَةِ، فَلاَ تُتَصَوَّرُ فِي الدَّيْنِ إِذَنْ.
ثَانِيهِمَا: أَنَّ الْقِسْمَةَ لاَ تَخْلُو مِنْ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ؛ لأَِنَّ كُل جُزْءٍ فَرَضْنَاهُ فِي الْمَال الْمُشْتَرَكِ، مَهْمَا صَغُرَ، فَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ. فَلَوْ صَحَّحْنَاهَا بِالنِّسْبَةِ لِلدَّيْنِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ، لَكَانَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الشَّرِيكَيْنِ اشْتَرَى مَا وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ مِنْ(26/29)
مِلْكِ صَاحِبِهِ فِي الدَّيْنِ، بِمَا تَرَكَهُ لَهُ مِنْ مِلْكِهِ هُوَ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ؛ لأَِنَّهُ مِنْ قَبِيل بَيْعِ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا أَنَّ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ (الَّذِي لَمْ يَقْبِضْ) أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَدِينِ؛ فَلأَِنَّ دَيْنَهُ فِي ذِمَّةِ هَذَا الْمَدِينِ، وَلَيْسَتْ لِهَذَا الْمَدِينِ وِلاَيَةُ دَفْعِهِ لِغَيْرِهِ، فَلاَ يَسْقُطُ بِهَذَا الدَّفْعِ (1) .
إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا رَجَعَ الشَّرِيكُ عَلَى الْقَابِضِ ابْتِدَاءً، كَانَ عَيْنُ حَقِّهِ فِيمَا قَبَضَهُ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ لاَ يَتَعَيَّنُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ: فَلَيْسَ لِلْقَابِضِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ، وَيُعْطِيَهُ مِنْ غَيْرِهِ - سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْبُوضُ مِثْل الدَّيْنِ أَمْ أَجْوَدَ أَمْ أَرْدَأَ؛ لأَِنَّهُ مَا دَامَ الْجِنْسُ وَاحِدًا فَاخْتِلاَفُ الْوَصْفِ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ لاَ يُنَافِي أَنَّ الْقَبْضَ عَنِ الدَّيْنِ: وَلِذَا يُجْبَرُ الدَّائِنُ عَلَى قَبُول الأَْجْوَدِ، فَإِذَا فَاتَ الْمَقْبُوضُ عِنْدَ الْقَابِضِ بِسَبَبٍ مَا كَضَيَاعٍ، أَوْ تَلَفٍ، أَوْ دَفَعَهُ لِلْغَيْرِ فِي مُعَاوَضَةٍ، أَوْ ضَمَانٍ، أَوْ تَبَرُّعٍ، فَإِنَّهُ - فِي غَيْرِ حَالَةِ تَلَفِهِ بِيَدِ الْقَابِضِ دُونَ تَعَدٍّ مِنْهُ - يَكُونُ قَدْ فَوَّتَ عَلَى شَرِيكِهِ حِصَّتَهُ فِيهِ، وَمِنْ حَقِّ هَذَا الشَّرِيكِ إِذَنْ أَنْ يُضَمِّنَهُ إِيَّاهَا. وَفِي حَالَةِ عَدَمِ التَّعَدِّي لاَ تَضْمِينَ، وَلَكِنْ يَكُونُ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 65، وتبيين الحقائق 5 / 46، والفتاوى الهندية 2 / 340، ونهاية المحتاج 5 / 14، والخرشي على خليل 4 / 404، ومغني المحتاج 4 / 426، والشرح الكبير مع المغني 5 / 124.(26/30)
الْفَوَاتُ كُلُّهُ عَلَى الْقَابِضِ، وَنَصِيبُ الشَّرِيكِ السَّاكِتِ فِي الدَّيْنِ يَظَل كَامِلاً فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ.
أَمَّا إِذَا رَجَعَ الشَّرِيكُ عَلَى الْقَابِضِ بَعْدَ تَوَاءِ حَقِّهِ عِنْدَ الْغَرِيمِ (الْمَدِينِ) فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ مِثْل هَذَا الْحَقِّ فِي ذِمَّةِ الْقَابِضِ، دَيْنًا كَسَائِرِ الدُّيُونِ؛ لأَِنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْقَطَ تَعَلُّقَ حَقِّهِ بِعَيْنِ الْمَقْبُوضِ، إِذْ خَلَّى بَيْنَ الْقَابِضِ وَبَيْنَ تَمَلُّكِهِ، وَعَدَل إِلَى مُطَالَبَةِ الْغَرِيمِ (1) .
ثُمَّ بَعْدَ أَنْ يَقْبِضَ الشَّرِيكُ حِصَّتَهُ فِي الْمَقْبُوضِ مِنَ الْقَابِضِ، يَكُونُ مَا بَقِيَ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ بَيْنَهُمَا - كُلٌّ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ لَهُ، وَهِيَ نَفْسُ نِسْبَةِ حَقَّيْهِمَا فِي الدَّيْنِ الأَْصْلِيِّ.
هَذَا الْحُكْمُ، أَعْنِي كَوْنَ مَا يَقْبِضُهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنَ الدَّيْنِ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا أَطْلَقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ: سَوَاءٌ أَجَّل أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ حِصَّتَهُ فِي الدَّيْنِ أَمْ لَمْ يُؤَجِّل؛ لأَِنَّ هَذَا التَّأْجِيل مِنْ أَحَدِهِمَا لَغْوٌ عِنْدَهُ، إِذْ هُوَ يَتَضَمَّنُ الْقِسْمَةَ - بِدَلِيل أَنَّ الْحَال غَيْرُ الْمُؤَجَّل، وَصْفًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَحُكْمًا؛ لاِمْتِنَاعِ الْمُطَالَبَةِ بِالْمُؤَجَّل دُونَ الْحَال.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ إِلَى أَنَّ التَّأْجِيل يَمْنَعُ الْمُطَالَبَةَ فَإِنْ أَجَّل أَحَدُهُمَا
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 337، والأتاسي على المجلة 4 / 42، وبدائع الصنائع 6 / 65 - 66.(26/30)
نَصِيبَهُ اسْتَقَل الْقَابِضُ بِمَا قَبَضَ خِلاَل الأَْجَل إِلَى أَنْ يَحِل؛ لأَِنَّ الأَْجَل يَمْنَعُ الْمُطَالَبَةَ. ذَلِكَ أَنَّ هَذَا التَّأْجِيل صَحِيحٌ عِنْدَهُمَا، إِذْ هُوَ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، فَيَنْفُذُ قِيَاسًا عَلَى الإِْبْرَاءِ، بَل لَيْسَ هُوَ إِلاَّ إِبْرَاءً مُؤَقَّتًا، فَيُعْتَبَرُ بِالْمُطْلَقِ. فَإِذَا حَل الأَْجَل، اعْتُبِرَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الشَّرِيكُ الآْخِرُ قَدْ قَبَضَ مِنَ الدَّيْنِ شَيْئًا رَجَعَ عَلَيْهِ هَذَا بِحِصَّتِهِ فِيهِ، إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، وَإِلاَّ ضَمَّنَهُ إِيَّاهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِمَنْ أَخَّرَ حِصَّتَهُ مِنَ الدَّيْنِ الْحَال أَنْ يُشَارِكَ مَنْ لَمْ يُؤَخِّرْ فِيمَا يَقْبِضُهُ مِنَ الدَّيْنِ، وَاسْتَثْنَوْا مَا إِذَا كَانَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ، وَتَلِفَ الْمَقْبُوضُ، وَلَمْ يَحِل الأَْجَل بَعْدُ (1) .
وَالَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ تَقْرِيرِ ابْنِ رَجَبٍ فِي قَوَاعِدِهِ لِمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَا يَقْبِضُهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لَهُ خَاصَّةً، بَل مِنْهُمْ مَنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بِصَرِيحِ الْعِبَارَةِ، كَمَا فَعَل الْقَاضِي (2) .
مَا يَقُومُ مَقَامَ الْقَبْضِ: (مَا يُعَادِل الْوَفَاءَ) :
16 - هُنَاكَ أَشْيَاءُ تُعَادِل الْوَفَاءَ بِالدَّيْنِ، كُلًّا أَوْ بَعْضًا. إِلاَّ أَنَّ هَذِهِ مِنْهَا مَا يَقُومُ مَقَامَ
__________
(1) المراجع السابقة وتبيين الحقائق 5 / 47، 48، ومطالب أولي النهى 3 / 507.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 509.(26/31)
الْقَبْضِ مِنْ دَائِنٍ بِعَيْنِهِ؛ لأَِنَّهُ اقْتِضَاءٌ لِلدَّيْنِ مَعْنًى: كَمَا لَوْ سَقَطَ الدَّيْنُ عَنْ ذِمَّةِ مَدِينِهِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ بِدَيْنٍ لَهُ لاَحِقٍ - كَأَنْ بَاعَ الْمَدِينُ الدَّائِنَ، أَوْ آجَرَهُ، أَوْ أَقْرَضَهُ شَيْئًا، صَالَحَهُ عَنْ دَيْنِهِ بِشَيْءٍ مَا، أَوْ رَهَنَهُ بِهِ رَهْنًا فَتَلِفَ عِنْدَهُ، أَوْ أَتْلَفَ لَهُ الدَّائِنُ شَيْئًا، أَوْ غَصَبَهُ إِيَّاهُ فَهَلَكَ عِنْدَهُ، أَوْ فَوَّتَ عَلَيْهِ عَيْنًا اشْتَرَاهَا مِنْهُ شِرَاءً فَاسِدًا، بِتَلَفِهَا أَوْ خُرُوجِهَا مِنْ يَدِهِ.
وَمِنْهَا مَا يَقُومُ مَقَامَ الإِْقْبَاضِ وَالْقَضَاءِ، لاَ الْقَبْضِ وَالاِقْتِضَاءِ: كَمَا لَوْ سَقَطَ الدَّيْنُ عَنْ ذِمَّةِ الْمَدِينِ بِدَيْنٍ لَهُ سَابِقٍ، إِذِ الْقَاعِدَةُ: أَنَّ. الدَّيْنَيْنِ إِذَا الْتَقَيَا قِصَاصًا يَكُونُ الثَّانِي قَضَاءً لِلأَْوَّل؛ لأَِنَّ الأَْوَّل كَانَ وَاجِبَ الْقَضَاءِ قَبْلَهُ - كَمَا لَوْ اشْتَرَيْتَ مِنْهُ شَيْئًا وَقَبَضْتَهُ، ثُمَّ أَتْلَفَهُ عَلَيْكَ قَبْل أَنْ يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهُ.
وَمِنْهَا مَا لاَ مُقَاصَّةَ فِيهِ أَصْلاً، بَل هُوَ بِمَثَابَةِ الإِْتْلاَفِ: كَهِبَةِ الدَّيْنِ وَالإِْبْرَاءِ مِنْهُ، أَوْ لَيْسَ بِإِتْلاَفٍ، وَلَكِنْ لاَ يُسَلَّمُ لِلْمُوفِي بِهِ مَا يَحْتَمِل الشَّرِكَةَ فِيهِ: كَمَا لَوْ سَقَطَ الدَّيْنُ عَنْ ذِمَّةِ الْمَرْأَةِ بِجَعْلِهِ مَهْرًا لَهَا، أَوْ عَنْ ذِمَّةِ مُسْتَحِقِّ الْقِصَاصِ بِجَعْلِهِ بَدَل صُلْحٍ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ - قَتْلاً أَوْ غَيْرَهُ، كَمَا لَوْ شَجَّ الْمَدِينُ مُوضِحَةً: لأَِنَّ الْعَقْدَ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ وَقَعَ عَلَى نَفْسِ الدَّيْنِ - فَمُلِكَ(26/31)
بِعَيْنِهِ، ثُمَّ سَقَطَ - لاَ عَلَى شَيْءٍ فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ أَوِ الْجَانِي، حَتَّى تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ، وَيَصْدُقُ أَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَقْبَل الشَّرِكَةَ، وَهُوَ مَا الْتَزَمَاهُ فِي ذِمَّتَيْهِمَا: وَمِنَ الْبَيِّنِ أَنَّ بِضْعَ الْمَرْأَةِ، وَسُقُوطَ الْقِصَاصِ عَنِ الْجَانِي، كِلاَهُمَا لاَ يَقْبَل الشَّرِكَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مِثْل ذَلِكَ فِي الإِْجَارَةِ إِذَا قُيِّدَتْ بِنَفْسِ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ مِنْ قَبِيل الْمَال الْمُطْلَقِ (1) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا اسْتَوْفَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ، بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَإِنَّ شَرِيكَهُ لاَ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ - بِمَعْنَى أَنْ يُخَيَّرَ بَيْنَ هَذَا الرُّجُوعِ وَالرُّجُوعِ عَلَى الدَّيْنِ - إِلاَّ فِيمَا هُوَ لَوِ اقْتَضَاهُ وَقَبَضَ فِي الْمَعْنَى، حَيْثُ يُسَلَّمُ لِلْقَابِضِ شَيْءٌ يَقْبَل الشَّرِكَةَ، لاَ فِيمَا هُوَ قَضَاءٌ أَوْ إِتْلاَفٌ.
إِلاَّ أَنَّ الرُّجُوعَ فِي حَالَةِ الصُّلْحِ - وَقِوَامُهُ الْمُسَامَحَةُ وَالتَّغَاضِي - يَخْتَلِفُ عَنْهُ فِيمَا عَدَاهُ مِمَّا يَعْتَمِدُ الْمُمَاكَسَةَ وَالتَّشَاحَّ: كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ: فَإِنَّ فِي حَالَةِ الْبَيْعِ مَثَلاً، يَكُونُ لِلشَّرِيكِ بِالنِّصْفِ أَنْ يَرْجِعَ بِالرُّبُعِ عَلَى شَرِيكِهِ الَّذِي اشْتَرَى بِنَصِيبِهِ شَيْئًا مِنَ الْمَدِينِ، وَأَنْ يُلْزِمَهُ بِذَلِكَ، إِذْ لاَ غَبْنَ فِيهِ عَلَى الْمُشْتَرِي، نَظَرًا
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 47.(26/32)
إِلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، فَإِنَّ شَأْنَ الْمُشْتَرِي أَنْ لاَ يَدَّخِرَ وُسْعًا فِي الْحُصُول عَلَى مَا يُعَادِل أَوْ يَفُوقُ الثَّمَنَ الَّذِي يَدْفَعُهُ. وَلاَ شَأْنَ لِلشَّرِيكِ الرَّاجِعِ بِمَا اشْتَرَاهُ شَرِيكُهُ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا اشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ وَقَعَ التَّقَاصُّ بَيْنَ هَذَا الثَّمَنِ وَمَا يُسَاوِيهِ مِنَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ الْبَائِعِ - نَعَمْ إِذَا تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَجْعَلاَ هَذَا الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا فَذَلِكَ لَهُمَا، وَهِيَ صَفْقَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ: كَأَنَّ الشَّرِيكَ الرَّاجِعَ اشْتَرَى نِصْفَهُ بِرُبُعِ الدَّيْنِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي.
أَمَّا فِي حَالَةِ الصُّلْحِ، فَإِنَّهُ إِذَا رَجَعَ الشَّرِيكُ عَلَى شَرِيكِهِ الَّذِي صَالَحَ عَنْ نَصِيبِهِ بِشَيْءٍ مَا، لَمْ يَمْلِكْ إِلْزَامَهُ بِرُبُعِ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِمَّا حَصَل عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ، لِبِنَائِهِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ كَمَا قُلْنَا. بَل يَكُونُ لِلشَّرِيكِ الصَّالِحِ الْخِيَارُ بَيْنَ إِعْطَائِهِ رُبُعَ الدَّيْنِ، وَإِعْطَائِهِ نِصْفَ الشَّيْءِ الَّذِي صَالَحَ عَلَيْهِ (1) .
إِذَا أَبْرَأَ أَحَدُ الدَّائِنَيْنِ مَدِينَهُمَا مِنْ بَعْضِ حِصَّتِهِ فِي الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، لَمْ يَبْقَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ إِلاَّ بَاقِي حِصَّتِهِ، وَلِلآْخَرِ حِصَّتُهُ كَامِلَةً: فَإِذَا وَقَعَ لَهُمَا قَبْضُ شَيْءٍ مِنَ الدَّيْنِ، فَإِنَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 66 - 68، ومجمع الأنهر 2 / 317 - 318، وتبيين الحقائق 5 / 45 - 48.(26/32)
قِسْمَتَهُ بَيْنَهُمَا - إِذَا تَأَخَّرَتْ عَنِ الإِْبْرَاءِ - تَكُونُ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ: أَيْ نِسْبَةِ مَا بَقِيَ لِلْمُبْرِئِ إِلَى تَمَامِ حِصَّةِ الآْخَرِ، أَوْ كَمَا يَقُولُونَ " تَكُونُ الْقِسْمَةُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ السِّهَامِ ". وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الإِْبْرَاءُ قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ - لِصِحَّةِ الإِْبْرَاءِ بَعْدَ الْقَبْضِ. فَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ أَلْفًا مَثَلاً، لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ، فَأَبْرَأَ أَحَدُهُمَا الْمَدِينَ مِنْ مِائَةٍ، فَمَا بَقِيَ لِلْمُبْرِئِ إِنَّمَا هُوَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ مَا لِصَاحِبِهِ، فَتَكُونُ قِسْمَةُ مَا يَقْبِضُهُ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ.
أَمَّا إِذَا وَقَعَ هَذَا الإِْبْرَاءُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ عَلَى التَّسَاوِي، فَالْقِسْمَةُ مَاضِيَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ؛ لأَِنَّ حَقَّيْهِمَا عِنْدَهَا كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَدِينُ عَلَى مُبْرِئِهِ بِالْمِائَةِ الَّتِي أُبْرِئَ مِنْهَا وَهَذَا مَوْضِعُ وِفَاقٍ، إِلاَّ أَنَّ صِحَّةَ الإِْبْرَاءِ بَعْدَ الْقَبْضِ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ (1) .
__________
(1) المراجع السابقة.(26/33)
شَرِكَةُ الْعَقْدِ
:
تَعْرِيفُهَا
1 - عَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ شَرِكَةَ الْعَقْدِ بِأَنَّهَا: " عَقْدٌ بَيْنَ الْمُتَشَارِكِينَ فِي الأَْصْل وَالرِّبْحِ " كَذَا نَقَلُوهُ عَنْ صَاحِبِ الْجَوْهَرَةِ.
وَقَيْدُ " الْمُتَشَارِكِينَ فِي الأَْصْل " يُخْرِجُ الْمُضَارَبَةَ؛ لأَِنَّ التَّشَارُكَ فِيهَا بَيْنَ الْعَامِل وَرَبِّ الْمَال إِنَّمَا هُوَ فِي الرِّبْحِ، دُونَ الأَْصْل، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ (1) .
وَعَرَّفَ الْحَنَابِلَةُ شَرِكَةَ الْعَقْدِ بِأَنَّهَا. " اجْتِمَاعٌ فِي تَصَرُّفٍ "، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لاَ يَشْمَل الْمُضَارَبَةَ، الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَقْسَامِ الشَّرِكَةِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ تَعْرِيفُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا: " عَقْدٌ يَثْبُتُ بِهِ حَقٌّ شَائِعٌ فِي شَيْءٍ لِمُتَعَدِّدٍ ".
وَعَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: بَيْعُ مَالِكِ كُلٍّ بَعْضَهُ بِبَعْضِ كُل الآْخَرِ، مُوجِبُ صِحَّةِ تَصَرُّفِهِمَا فِي الْجَمِيعِ (2) .
وَشَرِكَةُ الْعَقْدِ بِأَنْوَاعِهَا الثَّلاَثَةِ (أَمْوَالٌ وَأَعْمَالٌ وَوُجُوهٌ) جَائِزَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَنَانًا أَمْ مُفَاوَضَةً.
__________
(1) رد المحتار 2 / 301، 3 / 343.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 494، والمغني لابن قدامة 5 / 109، والشرقاوي على التحرير 2 / 109. الخرشي على خليل 4 / 254، 271، والفواكه الدواني 2 / 271، والحواشي على تحفة ابن عاصم.(26/33)
دَلِيل مَشْرُوعِيَّةِ الشَّرِكَةِ:
2 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ شَرِكَةِ الْعَنَانِ: بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالإِْجْمَاعِ، وَالْمَعْقُول:
أ - الْكِتَابُ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} . (1)
وَالْخُلَطَاءُ هُمُ الشُّرَكَاءُ. وَلَكِنَّ هَذَا إِلَى شَرِكَةِ الْمِلْكِ أَدْنَى. ثُمَّ هُوَ قَوْل دَاوُدَ لِبَيَانِ شَرِيعَتِهِ، وَلاَ يَلْزَمُ اسْتِمْرَارُهَا. كَذَا قَال ابْنُ الْهُمَامِ - عَلَى خِلاَفِ قَاعِدَةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا: فَلَعَلَّهُ تَسَاهَل فِيهِ لأَِنَّهُ عِلاَوَةٌ فِي الرَّدِّ.
ب - (السُّنَّةُ) :
1 - الْحَدِيثُ الْقُدْسِيُّ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَقُول: أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ، مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا (2) .
(2) حَدِيثُ السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ
__________
(1) سورة ص 24، انظر فتح القدير 5 / 30، نيل الأوطار 5 / 264، تلخيص الحبير 3 / 49.
(2) حديث: " إن الله يقول: (أنا ثالث الشريكين) أخرجه أبو داود 3 / 677 - تحقيق عزت عبيد دعاس، ونقل ابن حجر عن ابن القطان أنه أعله بجهالة راو فيه وعن الدارقطني أنه أعله بالإرسال، كذا في التلخيص الحبير 3 / 49 - ط شركة الطباعة الفنية.(26/34)
الْمَخْزُومِيِّ، أَنَّهُ كَانَ شَرِيكَ النَّبِيِّ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ فِي التِّجَارَةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَرْحَبًا بِأَخِي وَشَرِيكِي، لاَ يُدَارِي وَلاَ يُمَارِي. (1)
(3) حَدِيثُ أَبِي الْمِنْهَال عِنْدَ أَحْمَدَ: أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، كَانَا شَرِيكَيْنِ، فَاشْتَرَيَا فِضَّةً بِنَقْدٍ وَنَسِيئَةٍ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمَا أَنَّ مَا كَانَ بِنَقْدٍ فَأَجِيزُوهُ، وَمَا كَانَ بِنَسِيئَةٍ فَرُدُّوهُ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَفِي لَفْظِهِ: مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَخُذُوهُ وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَرُدُّوهُ. (2)
وَفِيهِ تَقْرِيرٌ صَرِيحٌ. وَهَذَا مِثْل وَاحِدٍ مِنْ تَقْرِيرَاتٍ كَثِيرَةٍ لاَ مِرْيَةَ فِيهَا عَلَى الْجُمْلَةِ؛ لأَِنَّ أَكْثَرَ عَمَل الْقَوْمِ، فِي صَدْرِ الدَّعْوَةِ، كَانَ التِّجَارَةَ وَالْمُشَارَكَةَ فِيهَا، وَلِذَا يَقُول الْكَمَال: إِنَّ التَّعَامُل بِالشَّرِكَةِ مِنْ لَدُنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلُمَّ جَرَّا، مُتَّصِلٌ لاَ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِثْبَاتِ حَدِيثٍ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ قَوْل صَاحِبِ الْهِدَايَةِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهَا (3) .
__________
(1) حديث: (مرحبًا بأخي وشريكي) . أخرجه الحاكم 2 / 61 (ط. دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) حديث أبي المنهال: أخرجه أحمد 4 / 371 - ط الميمنية وأصله في البخاري (الفتح 5 / 143 ط. السلفية) .
(3) فتح القدير 5 / 3.(26/34)
ج - الإِْجْمَاعُ: فَقَدْ كَانَ النَّاسُ وَمَا زَالُوا، يَتَعَامَلُونَ بِهَا فِي كُل زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَفُقَهَاءُ الأَْمْصَارِ شُهُودٌ، فَلاَ يَرْتَفِعُ صَوْتٌ بِنَكِيرٍ (1) .
د - الْمَعْقُول: فَإِنَّ شَرِكَةَ الْعَنَانِ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ اسْتِثْمَارِ الْمَال وَتَنْمِيَتِهِ، تَمَسُّ إِلَيْهِ حَاجَةُ النَّاسِ، قَلَّتْ أَمْوَالُهُمْ أَوْ كَثُرَتْ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَلْمُوسٌ، حَتَّى لَقَدْ كَادَتِ الشَّرِكَاتُ التِّجَارِيَّةُ الْكُبْرَى، الَّتِي يَسْتَحِيل عَادَةً عَلَى تَاجِرٍ وَاحِدٍ تَكْوِينُهَا، أَنْ تَكُونَ طَابِعَ هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي نَعِيشُ فِيهِ. هَذَا مِنْ جَانِبٍ، وَمِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ، لَيْسَ فِي تَطْبِيقِ شَرِكَةِ الْعَنَانِ شَيْءٌ يَنْبُو بِشَرْعِيَّتِهَا: فَمَا هِيَ فِي حَقِيقَةِ الأَْمْرِ سِوَى ضَرْبٍ مِنَ الْوَكَالَةِ إِذْ حَل شَرِيكٌ وَكِيلٌ عَنْ شَرِيكِهِ. وَالْوَكَالَةُ لاَ نِزَاعَ فِي شَرْعِيَّتِهَا إِذَا انْفَرَدَتْ، فَكَانَتْ مِنْ وَاحِدٍ لآِخَرَ، فَكَذَا إِذَا تَعَدَّدَتْ، فَكَانَتْ مِنْ كُل وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ: أَعْنِي أَنَّهُ وُجِدَ الْمُقْتَضِي وَانْتَفَى الْمَانِعُ - كَمَا يَقُولُونَ، وَإِذَا كَانَتْ تَتَضَمَّنُ وَكَالَةً فِي مَجْهُولٍ، فَهَذَا شَيْءٌ يُغْتَفَرُ فِي ضِمْنِ الشَّرِكَةِ؛ لأَِنَّهُ تَبَعٌ لاَ مَقْصُودٌ، وَالشَّيْءُ يُغْتَفَرُ فِيهِ تَبَعًا مَا لاَ يُغْتَفَرُ اسْتِقْلاَلاً.
وَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ مِنْ شَرِكَةِ الأَْمْوَال فَلَيْسَ فِي جَوَازِهَا نَصٌّ ثَابِتٌ وَإِنَّمَا أَجَازَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: فَاوِضُوا،
__________
(1) بلغة السالك 2 / 165، ومغني المحتاج 2 / 211، والمغني لابن قدامة 5 / 124.(26/35)
فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ (1) وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ يُحْتَجُّ فِي جَوَازِهَا بِالْبَرَاءَةِ الأَْصْلِيَّةِ: فَالأَْصْل الْجَوَازُ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيل الْمَنْعِ - وَلاَ دَلِيل (2) .
3 - وَمَنَعَهَا الشَّافِعِيَّةُ لِتَضَمُّنِهَا الْوَكَالَةَ فِي مَجْهُولٍ، وَالْكَفَالَةَ بِمَجْهُولٍ لِمَجْهُولٍ، وَكِلاَهُمَا بَاطِلٌ عَلَى انْفِرَادٍ، فَمَا تَضَمَّنَهُمَا مَعًا أَشَدُّ بُطْلاَنًا.
4 - وَأَمَّا شَرِكَتَا الأَْعْمَال وَالْوُجُوهِ فَتَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَكَذَا الْمَالِكِيَّةُ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ خَاصَّةً.
وَيُسْتَدَل لِلْجَوَازِ بِمَا يَلِي:
أَوَّلاً - بِالْبَرَاءَةِ الأَْصْلِيَّةِ: فَالأَْصْل فِي الْعُقُودِ كُلِّهَا الصِّحَّةُ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيل الْفَسَادِ، وَلاَ دَلِيل.
ثَانِيًا - أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِمَا، وَتَصْحِيحُهُمَا مُمْكِنٌ بِطَرِيقِ التَّوْكِيل الضِّمْنِيِّ مِنْ كُل شَرِيكٍ لِشَرِيكِهِ، لِيَقَعَ تَصَرُّفُ كُل وَاحِدٍ وَالرِّبْحُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ لِلْجَمِيعِ، فَلاَ مَعْنَى لِلْحُكْمِ بِبُطْلاَنِهِمَا.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 85، الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2 / 144، ونيل الأوطار 5 / 265.(26/35)
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّ شَرِكَةَ الأَْعْمَال: وَشَرِكَةَ الْوُجُوهِ؛ بَاطِلَتَانِ لِعَدَمِ الْمَال الْمُشْتَرَكِ فِيهِمَا وَلِلْغَرَرِ فِي شَرِكَةِ الأَْعْمَال وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى بُطْلاَنِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ لأَِنَّهَا مِنْ بَابِ الضَّمَانِ بِجُعْلٍ وَمِنْ بَابِ السَّلَفِ الَّذِي يَجُرُّ نَفْعًا وَسَمَّوْهَا شَرِكَةَ الذِّمَمِ (1) .
تَقْسِيمُ شَرِكَةِ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهَا:
5 - تَنْقَسِمُ الشَّرِكَةُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
(1) - شَرِكَةُ أَمْوَالٍ.
(2) - شَرِكَةُ أَعْمَالٍ.
(3) - شَرِكَةُ وُجُوهٍ.
ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ رَأْسُ مَال الشَّرِكَةِ نُقُودًا، كَانَتْ شَرِكَةَ أَمْوَالٍ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَل لِلْغَيْرِ كَانَتْ شَرِكَةَ أَعْمَالٍ، (شَرِكَةَ صَنَائِعَ) ، وَتُسَمَّى أَيْضًا شَرِكَةَ أَبْدَانٍ (2) .
وَتُسَمَّى كَذَلِكَ شَرِكَةَ التَّقَبُّل: لأَِنَّ التَّقَبُّل قَدْ يَكُونُ مِمَّنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِأَيِّ عَمَلٍ لِلْغَيْرِ سِوَى التَّقَبُّل نَفْسِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ تَحْصُل بِهِ هَذِهِ الشَّرِكَةُ؛ لأَِنَّهُ مُلْزِمٌ لِشَرِيكِهِ الْقَادِرِ،
__________
(1) فتح القدير 5 / 7، 24، 28، 30، ومغني المحتاج 2 / 212، والخرشي 4 / 371، وبدائع الصنائع 6 / 58.
(2) لعل ابن عابدين يستبعد عد العمل العقلي بدنيا، فلذا تراه يقول في تعليل التسمية: لأن العمل يكون منهما (أي: الشريكين) غالبًا بأبدانهما: رد المحتار 3 / 359 وبدائع الصنائع 6 / 63.(26/36)
فَهُمَا شَرِيكَانِ بِالتَّقَبُّل.
أَمَّا إِذَا كَانَ مَا تَقُومُ الشَّرِكَةُ عَلَيْهِ مَا لِلشَّرِيكَيْنِ أَوْ لِلشُّرَكَاءِ مِنْ وَجَاهَةٍ عِنْدَ النَّاسِ وَمَنْزِلَةٍ تَصْلُحُ لِلاِسْتِغْلاَل، فَالشَّرِكَةُ شَرِكَةُ وُجُوهٍ. وَلِعَدَمِ رَأْسِ الْمَال فِيهَا، وَغَلَبَةِ وُقُوعِهَا بَيْنَ الْمُعْدِمِينَ - تُسَمَّى: شَرِكَةَ الْمَفَالِيسِ.
هَذَا عَلَى الإِْجْمَال. أَمَّا التَّفْصِيل:
6 - فَشَرِكَةُ الأَْمْوَال: عَقْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ، عَلَى أَنْ يَتَّجِرُوا فِي رَأْسِ مَالٍ لَهُمْ، وَيَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمْ بِنِسْبَةٍ مَعْلُومَةٍ. سَوَاءٌ عُلِمَ مِقْدَارُ رَأْسِ الْمَال عِنْدَ الْعَقْدِ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّهُ يُعْلَمُ عِنْدَ الشِّرَاءِ، وَسَوَاءٌ شَرَطُوا أَنْ يُشْرَكُوا جَمِيعًا فِي كُل شِرَاءٍ وَبَيْعٍ، أَمْ شَرَطُوا أَنْ يَنْفَرِدَ كُل وَاحِدٍ بِصَفَقَاتِهِ، أَمْ أَطْلَقُوا. وَلَيْسَ حَتْمًا أَنْ يَقَعَ الْعَقْدُ بِلَفْظِ التِّجَارَةِ، بَل يَكْفِي مَعْنَاهَا: كَأَنْ يَقُول الشَّرِيكَانِ: اشْتَرَكْنَا فِي مَالِنَا هَذَا، عَلَى أَنْ نَشْتَرِيَ وَنَبِيعَ، وَنَقْسِمَ الرِّبْحَ مُنَاصَفَةً.
7 - وَأَمَّا شَرِكَةُ الأَْعْمَال: فَهِيَ: أَنْ يَتَعَاقَدَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلُوا نَوْعًا مُعَيَّنًا (1) مِنَ الْعَمَل أَوْ أَكْثَرَ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ لَكِنَّهُ عَامٌّ، وَأَنْ
__________
(1) أي: معينًا نوعًا ومحلاً: كخياطة الثياب، وتنجيد الأثاث، وتعليم الكتابة والحساب، وتحفيظ القرآن، وما إلى ذلك مما تنشأ له المدارس وغيرها، رد المحتار 3 / 358، والهندية 2 / 331.(26/36)
تَكُونَ الأُْجْرَةُ بَيْنَهُمْ بِنِسْبَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَذَلِكَ كَالْخِيَاطَةِ، وَالصِّبَاغَةِ، وَالْبِنَاءِ، وَتَرْكِيبِ الأَْدَوَاتِ الصِّحِّيَّةِ أَوْ كُل مَا يُتَقَبَّل، فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّعَاقُدِ قَبْل التَّقَبُّل فَلَوْ تَقَبَّل ثَلاَثَةُ أَشْخَاصٍ عَمَلاً، دُونَ تَعَاقُدٍ سَابِقٍ عَلَى الشَّرِكَةِ، لَمْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ: وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ ثُلُثُ الْعَمَل، فَإِنْ قَامَ بِالْعَمَل كُلِّهِ أَحَدُهُمْ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ - قَضَاءً - سِوَى ثُلُثِ الأُْجْرَةِ.
وَلاَ بُدَّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ التَّقَبُّل حَقًّا لِكُل شَرِيكٍ وَإِنْ وَقَعَ الاِتِّفَاقُ عَلَى أَنْ يُبَاشِرَهُ مِنْهُمْ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ، وَيَعْمَل الآْخَرُ. وَلِذَا يَقُول السَّرَخْسِيُّ فِي الْمُحِيطِ: " لَوْ قَال صَاحِبُ الدُّكَّانِ أَنَا أَتَقَبَّل، وَلاَ تَتَقَبَّل أَنْتَ، وَأَطْرَحُ عَلَيْكَ تَعْمَل بِالنِّصْفِ، لاَ يَجُوزُ " وَمِنْ هُنَا يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: الشَّرْطُ عَدَمُ نَفْيِ التَّقَبُّل عَنْ أَحَدِهِمَا، لاَ التَّنْصِيصُ عَلَى تَقَبُّل كُلٍّ مِنْهُمَا، وَلاَ عَلَى عَمَلِهِمَا؛ لأَِنَّهُ إِذَا اشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَتَقَبَّل أَحَدُهُمَا وَيَعْمَل الآْخَرُ، بِلاَ نَفْيٍ، كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا التَّقَبُّل وَالْعَمَل، لِتَضَمُّنِ الشَّرِكَةِ الْوَكَالَةَ. هَذَا قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، وَمِثْلُهُ فِي الْجُمْلَةِ لِلْحَنَابِلَةِ، لَكِنَّهُمْ أَضَافُوا الاِشْتِرَاكَ فِي تَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ (1) .
__________
(1) فتح القدير، وتبعه ابن عابدين، وفي البدائع خلافه فتح القدير 5 / 28 - 33، ورد المحتار 3 / 358، 361، وبدائع الصنائع 6 / 64، والفتاوى الهندية 3 / 231، 334، والمغني لابن قدامة 5 / 113، ومطالب أولي النهى 5 / 545، 546.(26/37)
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ شَرِكَةَ الأَْبْدَانِ نَوْعَانِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: شَرِكَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِبَعْضِ الأَْعْمَال، دُونَ بَعْضٍ، كَنِجَارَةٍ، أَوْ حِدَادَةٍ، اتَّفَقَ الْعَمَلاَنِ أَمِ اخْتَلَفَا.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: شَرِكَةٌ مُطْلَقَةٌ، لَمْ تُقَيَّدْ بِذَلِكَ: كَأَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الاِشْتِرَاكِ فِي أُجْرَةِ مَا يَعْمَلاَنِهِ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ (1) .
8 - وَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ: فَهِيَ أَنْ يَتَعَاقَدَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ، بِدُونِ ذِكْرِ رَأْسِ مَالٍ، عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا نَسِيئَةً وَيَبِيعَا نَقْدًا، وَيَقْتَسِمَا الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ ضَمَانِهِمَا لِلثَّمَنِ (2) .
وَكَذَلِكَ هِيَ عِنْدَ الْقَاضِي، وَابْنِ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، إِذْ جَعَلاَ الرِّبْحَ فِيهَا عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ، لِئَلاَّ يَلْزَمَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ. وَلَكِنَّ جَمَاهِيرَهُمْ جَعَلُوا الرِّبْحَ فِيهَا عَلَى مَا تَشَارَطَ الشَّرِيكَانِ، كَشَرِكَةِ الْعَنَانِ: لأَِنَّ فِيهَا مِثْلَهَا عَمَلاً وَغَيْرَهُ، سِيَّمَا مَعَ مُلاَحَظَةِ تَفَاوُتِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَهَارَةِ التِّجَارِيَّةِ، وَالْوَجَاهَةِ عِنْدَ النَّاسِ. بَل نَظَرَ ابْنُ قُدَامَةَ إِلَى مَآل أَمْرِهَا، فَأَنْكَرَ خُلُوَّهَا مِنَ الْمَال.
__________
(1) الخانية مع الهندية 3 / 624، الخرشي على خليل 4 / 267.
(2) فتح القدير 5 / 30.(26/37)
9 - وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ: فَسَيَأْتِي تَعْرِيفُهَا وَأَحْكَامُهَا فِي بَحْثِهَا الْخَاصِّ بِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. (انْظُرْ: مُضَارَبَةٌ) .
تَقْسِيمُ شَرِكَةِ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ التَّسَاوِي وَالتَّفَاوُتِ
10 - وَالْمُرَادُ التَّسَاوِي وَالتَّفَاوُتُ فِي أُمُورٍ خَمْسَةٍ:
(1) رَأْسُ مَال الشَّرِكَةِ: الشَّامِل لِكُل مَالٍ لِلشَّرِيكَيْنِ صَالِحٌ لِلشَّرِكَةِ (نُقُودٌ) .
(2) كُل تَصَرُّفٍ تِجَارِيٍّ فِي رَأْسِ مَال الشَّرِكَةِ.
(3) الرِّبْحُ. (4) كَفَالَةُ مَا يَلْزَمُ كُلًّا مِنَ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ دَيْنِ التِّجَارَةِ.
(5) أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ (1) .
وَتَنْقَسِمُ شَرِكَةُ الْعَقْدِ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ إِلَى قِسْمَيْنِ: (1) شَرِكَةُ مُفَاوَضَةٍ. (2) شَرِكَةُ عَنَانٍ.
(27) - وَشَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ: الَّتِي يَتَوَافَرُ فِيهَا تَسَاوِي الشُّرَكَاءِ فِي هَذِهِ الأُْمُورِ
__________
(1) وظاهر في صياغة هذه الأمور الخمسة ملاحظة شركة الأموال. ولا يخفى ما يلزم من التحوير بالنسبة لسائر الشركات: ففي شركة الأعمال، يقوم التقبل مقام رأس المال، وتعهد العمل مقام التصرف فيه، وكفالة ما يلزم بسبب الشركة مقام كفالة دين التجارة. وفي شركة الوجوه،(26/38)
الْخَمْسَةِ (1) ، مِنْ ابْتِدَاءِ الشَّرِكَةِ إِلَى انْتِهَائِهَا؛ لأَِنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، لِكُلٍّ مِنْهُمَا فَسْخُهَا مَتَى شَاءَ، فَأُعْطِيَ دَوَامُهَا حُكْمَ ابْتِدَائِهَا، وَشُرِطَتْ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ أَيْضًا (2) .
وَسَيَأْتِي فِي الشَّرَائِطِ شَرْحُ هَذِهِ الأُْمُورِ الْخَمْسَةِ فِي بَيَانٍ وَافٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَشَرِكَةُ الْعَنَانِ (بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا) هِيَ الَّتِي لاَ يُوجَدُ فِيهَا هَذَا التَّسَاوِي: بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ أَصْلاً، أَوْ وُجِدَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَزَال بَعْدَهُ: كَأَنْ كَانَ الْمَالاَنِ مُتَسَاوِيَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ ارْتَفَعَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا قَبْل الشِّرَاءِ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ تَنْقَلِبُ عَنَانًا بِمُجَرَّدِ [هَذَا الاِرْتِفَاعِ] (3) ،
__________
(1) ومن أجل التساوي في هذه الأمور سميت هذه الشركة مفاوضة؛ إذ المفاوضة في السلفة هي المساواة - كما في محيط المحيط. ومن مادتها جاء قول الأفوه الأودي: (لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم) أي: متساوين لا سادة لهم يفصلون خصوماتهم، ويأخذون للضعيف من القوي.
(2) فتح القدير 5 / 6.
(3) فتح القدير 5 / 6. والعنان من عن إذا عرض: تقول عن لي هذا الرأي، أي: عرض لي، فلم تتساو حالات قبل العروض وبعده - وكذلك المشارك شركة عنان، عن له في بعض - أو كل - ما يشترط تساويه في شركة المفاوضة، فاختل تساويه. وقد زعم الكسائي والأصمعي أنه مأخوذ من عنان الفرس؛ لأن الفا فتح القدير 5 / 20.(26/38)
وَهَل تَبْطُل الْكَفَالَةُ؟ . . الظَّاهِرُ نَعَمْ؛ لأَِنَّهَا كَفَالَةٌ لِمَجْهُولٍ، فَلاَ تَصِحُّ إِلاَّ ضِمْنًا، وَالْعَنَانُ لاَ تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ، فَتَكُونُ فِيهَا مَقْصُودَةً وَهِيَ مَقْصُودَةٌ لاَ تَصِحُّ لِمَجْهُولٍ، لَكِنَّ الَّذِي فِي الْخَانِيَّةِ هُوَ الصِّحَّةُ، وَلَعَل وَجْهَهُ أَنَّهَا فِي الشَّرِكَةِ تَبَعٌ عَلَى كُل حَالٍ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَا (1) .
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ الْمُسَاوَاةَ فِي هَذِهِ الأُْمُورِ الْخَمْسَةِ لِصِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ. بَل كُل مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ طَبِيعَتَيْ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ وَشَرِكَةِ الْعَنَانِ، أَنَّ كُلًّا مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ يُطْلِقُ التَّصَرُّفَ لِشَرِيكِهِ وَلاَ يُحْوِجُهُ إِلَى مُرَاجَعَتِهِ وَأَخْذِ مُوَافَقَتِهِ فِي كُل تَصَرُّفٍ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ لِلشَّرِكَةِ، بِخِلاَفِ الْعَنَانِ، فَإِنَّهَا لاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ ذَلِكَ (2) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلِلْمُفَاوَضَةِ عِنْدَهُمْ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: الشَّرِكَاتُ الأَْرْبَعُ مُجْتَمِعَةً: الْعَنَانُ، وَالْمُضَارَبَةُ، وَالأَْبْدَانُ، وَالْوُجُوهُ: فَإِذَا فَوَّضَ كُلٌّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ الْمُضَارَبَةَ وَتَصَرُّفَاتِ سَائِرِ هَذِهِ الشَّرِكَاتِ صَحَّتِ الشَّرِكَةُ؛ لأَِنَّهَا مَجْمُوعُ شَرِكَاتٍ
__________
(1) فتح القدير 5 / 20، رد المحتار 3 / 35.
(2) الخرشي على خليل 4 / 258 - 265، بلغة السالك 2 / 171، الفواكه الدواني 2 / 174.(26/39)
صَحِيحَةٍ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَاهُ، وَالْخَسَارَةُ بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ.
ثَانِيهُمَا: أَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا فِي كُل مَا يَثْبُتُ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا. وَهَذَا صَحِيحٌ أَيْضًا لَكِنْ بِشَرِيطَةِ أَنْ لاَ يُدْخِلاَ فِيهِ كَسْبًا نَادِرًا وَلاَ غَرَامَةً - وَإِلاَّ اخْتُصَّ كُل شَرِيكٍ بِمَا يَسْتَفِيدُهُ مِنْ مَال نَفْسِهِ أَوْ عَمَلِهِ، وَبِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ ضَمَانَاتٍ فَكُل نَفْسٍ {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} . (1)
مِثَال الْكَسْبِ النَّادِرِ. اللُّقَطَةُ وَالرِّكَازُ وَالْمِيرَاثُ.
وَمِثَال الْغَرَامَاتِ: مَا يَلْزَمُ بِكَفَالَةٍ، أَوْ غَصْبٍ، أَوْ جِنَايَةٍ، أَوْ تَلَفِ عَارِيَّةً (2) .
وَهَذَا النَّوْعُ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ الْحَنَابِلَةُ تَسَاوِيَ الْمَالَيْنِ، وَلاَ تَسَاوِيَ الشَّرِيكَيْنِ فِي أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ.
تَقْسِيمُ شَرِكَةِ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ
الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ
11 - يَقْسِمُ الْحَنَفِيَّةُ الشَّرِكَةَ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ إِلَى:
(1) مُطْلَقَةٌ.
(2) مُقَيَّدَةٌ.
__________
(1) سورة البقرة / 286.
(2) الشرح الكبير 5 / 198، مطالب أولي النهى 3 / 553، الإنصاف 5 / 464 - 465.(26/39)
فَالْمُطْلَقَةُ: هِيَ الَّتِي لَمْ تُقَيَّدْ بِشَرْطٍ جَعْلِيٍّ أَمْلَتْهُ إِرَادَةُ شَرِيكٍ أَوْ أَكْثَرَ: بِأَنْ تُقَيَّدَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَتَاجِرِ دُونَ شَيْءٍ، وَلاَ زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَلاَ مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَلاَ بِبَعْضِ الأَْشْخَاصِ دُونَ بَعْضٍ إِلَخْ. . كَأَنِ اشْتَرَكَ الشَّرِيكَانِ فِي كُل أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ وَأَطْلَقَا فَلَمْ يَتَعَرَّضَا لأَِكْثَرَ مِنْ هَذَا الإِْطْلاَقِ بِشِقَّيْهِ: الزَّمَانِيِّ وَغَيْرِهِ يَكُونُ فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ. أَمَّا فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فَلاَ بُدَّ مِنَ الإِْطْلاَقِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْهِدَايَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مُقَيَّدَةً بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ (1) . وَالإِْطْلاَقُ الزَّمَانِيُّ احْتِمَالٌ مِنَ احْتِمَالاَتِهَا، وَلَيْسَ بِحَتْمٍ.
وَالْمُقَيَّدَةُ: هِيَ الَّتِي قُيِّدَتْ بِذَلِكَ: كَالَّتِي تُقَيَّدُ بِبَعْضِ الأَْشْيَاءِ أَوِ الأَْزْمَانِ أَوِ الأَْمْكِنَةِ، كَأَنْ تُقَيَّدَ بِالْحُبُوبِ أَوِ الْمَنْسُوجَاتِ أَوِ السَّيَّارَاتِ أَوِ الْبِقَالاَتِ، أَوْ تُقَيَّدَ بِمَوْسِمِ قُطْنِ هَذَا الْعَامِ، أَوْ بِبِلاَدِ هَذِهِ الْمُحَافَظَةِ. وَالتَّقْيِيدُ بِبَعْضِ الْمَتَاجِرِ دُونَ بَعْضٍ، لاَ يَتَأَتَّى فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ، أَمَّا التَّقْيِيدُ بِبَعْضِ الأَْوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ فَيَكُونُ فِيهَا وَفِي الْعَنَانِ.
وَتَنَوُّعُ الشَّرِكَةِ إِلَى مُطْلَقَةٍ وَمُقَيَّدَةٍ، بِمَا فِيهَا الْمُقَيَّدَةُ بِالزَّمَانِ، يُوجَدُ فِي سَائِرِ الْمَذَاهِبِ
__________
(1) رد المحتار 3 / 351.(26/40)
الْفِقْهِيَّةِ، وَمِمَّا يَنُصُّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْيِيدُ تَصَرُّفِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، وَإِطْلاَقُ تَصَرُّفِ الآْخَرِ. إِلاَّ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْل الْفِقْهِ أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يُعَيَّنَ لِكُل شَرِيكٍ نِطَاقُ تَصَرُّفِهِ، وَيَحْتَمِل كَلاَمُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ إِبْطَال الشَّرِكَةِ بِالتَّأْقِيتِ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا صِحَّةُ الشَّرِكَةِ مَعَ عَدَمِ لُزُومِ الأَْجَل (1) .
شَرِكَةُ الْجَبْرِ:
12 - هَذَا نَوْعٌ انْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ بِإِثْبَاتِهِ، وَتَمَسَّكُوا فِيهِ بِقَضَاءِ عُمَرَ. وَحَدَّهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا: " اسْتِحْقَاقُ شَخْصٍ الدُّخُول مَعَ مُشْتَرِي سِلْعَةٍ لِنَفْسِهِ مِنْ سُوقِهَا الْمُعَدِّ لَهَا، عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ " وَسَيَتَّضِحُ بِاسْتِعْرَاضِ شَرَائِطِهَا: فَقَدْ ذَكَرُوا لَهَا سَبْعَ شَرَائِطَ:
ثَلاَثَةً خَاصَّةً بِالسِّلْعَةِ وَهِيَ:
(1) أَنْ تُشْتَرَى بِسُوقِهَا الْمُعَدِّ لِبَيْعِهَا - لاَ بِدَارٍ اتِّفَاقًا، وَلاَ بِزُقَاقٍ، نَافِذٍ أَوْ غَيْرِ نَافِذٍ، عَلَى الْمُعْتَمَدِ.
(2) أَنْ يَكُونَ شِرَاؤُهَا لِلتِّجَارَةِ، وَيُصَدَّقُ الْمُشْتَرِي فِي نَفْيِ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ - إِلاَّ أَنْ تُكَذِّبَهُ قَرَائِنُ الأَْحْوَال: كَكَثْرَةِ مَا يَدَّعِي شِرَاءَهُ لِلْقِنْيَةِ أَوِ الْعُرْسِ مَثَلاً.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 213، حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 210.(26/40)
(3) أَنْ تَكُونَ التِّجَارَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالشِّرَاءِ فِي نَفْسِ بَلَدِ الشِّرَاءِ، لاَ فِي مَكَانٍ آخَرَ، وَلَوْ جِدُّ قَرِيبٍ (1) .
وَثَلاَثَةً خَاصَّةً بِالشَّرِيكِ الْمُقْحَمِ:
(1) أَنْ يَحْضُرَ الشِّرَاءَ.
(2) أَنْ لاَ يُزَايِدَ عَلَى الْمُشْتَرِي.
(3) أَنْ يَكُونَ مِنْ تُجَّارِ السِّلْعَةِ الْمُشْتَرَاةِ.
وَاعْتَمَدُوا أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تُجَّارِ هَذَا السُّوقِ.
وَشَرِيطَةً وَاحِدَةً فِي الشَّارِيَ: أَنْ لاَ يُبَيِّنَ لِمَنْ حَضَرَ مِنَ التُّجَّارِ أَنَّهُ يُرِيدُ الاِسْتِئْثَارَ بِالسِّلْعَةِ، وَلاَ يَقْبَل الشَّرِكَةَ فِيهَا، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُزَايِدَ فَلْيَفْعَل.
فَإِذَا تَوَافَرَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ جَمِيعُهَا ثَبَتَ حَقُّ الإِْجْبَارِ عَلَى الشَّرِكَةِ لِمَنْ حَضَرَ مِنَ التُّجَّارِ، مَهْمَا طَال الأَْمَدُ - مَا دَامَتِ السِّلْعَةُ الْمُشْتَرَاةُ بَاقِيَةً. وَيُسْجَنُ الشَّارِي حَتَّى يَقْبَل الشَّرِكَةَ إِذَا امْتَنَعَ مِنْهَا. وَهُنَاكَ احْتِمَالٌ آخَرُ بِسُقُوطِ هَذَا الْحَقِّ بِمُضِيِّ سَنَةٍ كَالشُّفْعَةِ.
أَمَّا الشَّارِي، فَلَيْسَ لَهُ مَعَ تَوَافُرِ الشَّرَائِطِ إِجْبَارُ مَنْ حَضَرَ مِنَ التُّجَّارِ عَلَى مُشَارَكَتِهِ فِي السِّلْعَةِ لِسَبَبٍ مَا - كَتَحَقُّقِ الْخَسَارَةِ أَوْ تَوَقُّعِهَا - إِلاَّ إِذَا قَالُوا لَهُ أَثْنَاءَ السَّوْمِ:
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 174، الخرشي على خليل 4 / 266، 367.(26/41)
أَشْرِكْنَا، فَأَجَابَ: بِنَعَمْ أَوْ سَكَتَ.
وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ تَنْزِيل قَوْل التُّجَّارِ: أَشْرِكْنَا - مَعَ إِجَابَةٍ بِنَعَمْ - مَنْزِلَةَ حُضُورِهِمُ الشِّرَاءَ: فَلاَ يَضِيرُ إِذَنِ انْصِرَافُهُمْ قَبْل إِتْمَامِ الصَّفْقَةِ. بِخِلاَفِ مَا إِذَا خَرَجَ بِالصَّمْتِ عَنْ " لاَ وَنَعَمْ " إِلاَّ أَنَّ مِنْ حَقِّهِمْ حِينَئِذٍ أَنْ يُحَلِّفُوهُ: مَا اشْتَرَى عَلَيْهِمْ (1) .
صِيغَةُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ:
13 - تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول: مِثَال ذَلِكَ فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ فِي الأَْمْوَال: أَنْ يَقُول شَخْصٌ لآِخَرَ: شَارَكْتُكَ فِي أَلْفِ دِينَارٍ مُنَاصَفَةً، عَلَى أَنْ نَتَّجِرَ بِهَا وَيَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَنَا مُنَاصَفَةً كَذَلِكَ: وَيُطْلِقُ، أَوْ يُقَيِّدُ الاِتِّجَارَ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ - كَتِجَارَةِ الْمَنْسُوجَاتِ الصُّوفِيَّةِ، أَوِ الْمَنْسُوجَاتِ مُطْلَقًا، فَيَقْبَل الآْخَرُ.
وَمِثَالُهُ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فِي الأَْمْوَال: أَنْ يَقُول شَخْصٌ لآِخَرَ - وَهُمَا حُرَّانِ بَالِغَانِ مُسْلِمَانِ أَوْ ذِمِّيَّانِ - شَارَكْتُكَ فِي كُل نُقُودِي وَنَقْدِكَ (وَنَقُودُ هَذَا تُسَاوِي نُقُودَ ذَاكَ) عَلَى أَنْ نَتَّجِرَ بِهَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ، وَكُل وَاحِدٍ مِنَّا كَفِيلٌ عَنِ الآْخَرِ بِدُيُونِ التِّجَارَةِ، فَيَقْبَل الآْخَرُ.
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 266، 267، الفواكه الدواني 2 / 174، بلغة السالك 2 / 172.(26/41)
14 - وَتَقُومُ دَلاَلَةُ الْفِعْل مَقَامَ دَلاَلَةِ اللَّفْظِ (1) . فَلَوْ أَنَّ شَخْصًا مَا أَخْرَجَ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُ مِنْ نَقْدٍ، وَقَال لآِخَرَ: أَخْرِجْ مِثْل هَذَا وَاشْتَرِ، وَمَا رَزَقَ اللَّهُ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا عَلَى التَّسَاوِي أَوْ لَكَ فِيهِ الثُّلُثَانِ وَلِيَ الثُّلُثُ، فَلَمْ يَتَكَلَّمِ الآْخَرُ، وَلَكِنَّهُ أَخَذَ وَأَعْطَى وَفَعَل كَمَا أَشَارَ صَاحِبُهُ - فَهَذِهِ شَرِكَةُ عَنَانٍ صَحِيحَةٌ. وَمِثْل ذَلِكَ يَجِيءُ أَيْضًا فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ: كَأَنْ يُخْرِجَ هَذَا كُل مَا يَمْلِكُ مِنَ النُّقُودِ، وَيَقُول لِصَاحِبِهِ الَّذِي لاَ يَمْلِكُ مِنَ النُّقُودِ إِلاَّ مِثْل هَذَا الْقَدْرِ: أَخْرِجْ مِثْل هَذَا، عَلَى أَنْ نَتَّجِرَ بِمَجْمُوعِ الْمَالَيْنِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَنَا عَلَى سَوَاءٍ، وَكُل وَاحِدٍ مِنَّا كَفِيلٌ عَنِ الآْخَرِ بِدُيُونِ التِّجَارَةِ، فَلاَ يَتَكَلَّمُ صَاحِبُهُ هَذَا، وَإِنَّمَا يَفْعَل مِثْل مَا أَشَارَ. هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
15 - وَالاِكْتِفَاءُ بِدَلاَلَةِ الْفِعْل، هُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. إِذْ هُمْ لاَ يَعْتَبِرُونَ فِي الصِّيغَةِ هُنَا إِلاَّ مَا يَدُل عَلَى الإِْذْنِ عُرْفًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبِيل الأَْلْفَاظِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهَا - كَالْكِتَابَةِ وَإِشَارَةِ الأَْخْرَسِ الْمُفْهِمَةِ.
__________
(1) فتح القدير 5 / 7، رد المحتار 3 / 348، الخرشي على خليل 4 / 255، الفواكه الدواني 2 / 172، مطالب أولي النهى 3 / 501، وهذا من آثار عدم التقيد بالألفاظ، والتعديل على المعنى، كما سلف (ر: ف / 22) .(26/42)
وَلِذَا يَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَال أَحَدُ اثْنَيْنِ لِلآْخَرِ: شَارِكْنِي، فَرَضِيَ بِالسُّكُوتِ، كَفَى، وَأَنَّهُ يَكْفِي خَلْطُ الْمَالَيْنِ، أَوِ الشُّرُوعُ فِي أَعْمَال التِّجَارَةِ لِلشَّرِكَةِ. كَمَا يَنُصُّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يَتَكَلَّمَا فِي الشَّرِكَةِ، ثُمَّ يُحْضِرَا الْمَال عَنْ قُرْبٍ، وَيَشْرَعَا فِي الْعَمَل.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تُغْنِي دَلاَلَةُ الْفِعْل عَنِ اللَّفْظِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، لأَِنَّ الأَْصْل حِفْظُ الأَْمْوَال عَلَى أَرْبَابِهَا، فَلاَ يَنْتَقِل عَنْهُ إِلاَّ بِدَلاَلَةٍ لَهَا فَضْل قُوَّةٍ - حَتَّى لَقَدْ ضَعَّفَ الشَّافِعِيَّةُ وَجْهًا عِنْدَهُمْ بِانْعِقَادِ الشَّرِكَةِ بِلَفْظِ: اشْتَرَكْنَا - لِدَلاَلَتِهِ عُرْفًا عَلَى الإِْذْنِ فِي التَّصَرُّفِ، وَرَأَوْا أَنْ لاَ كِفَايَةَ فِيهِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِالإِْذْنِ فِي التَّصَرُّفِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ - لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَنْ شَرِكَةٍ مَاضِيَةٍ، أَوْ عَنْ شَرِكَةِ مِلْكٍ قَائِمَةٍ لاَ تَصَرُّفَ فِيهَا. وَهُمْ يُصَحِّحُونَ انْعِقَادَهَا شَرِكَةَ عَنَانٍ بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ، إِذَا اقْتَرَنَ بِنِيَّةِ الْعَنَانِ، وَإِلاَّ فَلَغْوٌ، إِذْ لاَ مُفَاوَضَةَ عِنْدَهُمْ: وَغَايَةُ مَا يَصْلُحُ لَهُ لَفْظُهَا عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةَ عَنَانٍ - بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ بِالْكِنَايَاتِ (1) .
وَمِثَال شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فِي التَّقَبُّل: أَنْ يَقُول شَخْصٌ لآِخَرَ وَكِلاَهُمَا مِنْ أَهْل الْكَفَالَةِ - شَارَكْتُكَ فِي تَقَبُّل جَمِيعِ الأَْعْمَال، أَوْ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 212، 213.(26/42)
فِي هَذِهِ الْحِرْفَةِ (خِيَاطَةً، أَوْ نِجَارَةً، أَوْ حِدَادَةً، مَثَلاً) (1) عَلَى أَنْ يَتَقَبَّل كُلٌّ مِنَّا الأَْعْمَال، وَأَنْ أَكُونَ أَنَا وَأَنْتَ سَوَاءً فِي ضَمَانِ الْعَمَل وَفِي الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ، وَفِي أَنَّ كُلًّا كَفِيلٌ عَنِ الآْخَرِ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ، فَيَقْبَل الآْخَرُ. فَإِذَا وَقَعَ التَّعَاقُدُ مَعَ اخْتِلاَل قَيْدٍ مِمَّا وَرَدَ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ، فَالشَّرِكَةُ شَرِكَةُ عَنَانٍ - إِلاَّ أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكَانِ مِنْ أَهْل الْوَكَالَةِ كَمَا لاَ يَخْفَى (2) .
16 - وَمِثَال شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فِي الْوُجُوهِ: أَنْ يَقُول شَخْصٌ لآِخَرَ - وَكِلاَهُمَا مِنْ أَهْل الْكَفَالَةِ - شَارَكْتُكَ عَلَى أَنْ نَتَّجِرَ أَنَا وَأَنْتَ بِالشِّرَاءِ نَسِيئَةً وَالْبَيْعِ نَقْدًا، مَعَ التَّسَاوِي فِي كُل شَيْءٍ نَشْتَرِيهِ وَفِي ثَمَنِهِ وَرِبْحِهِ، وَكَفَالَةِ كُل مَا يَلْزَمُ الآْخَرَ مِنْ دُيُونِ التِّجَارَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا، فَيَقْبَل الآْخَرُ.
وَإِذَا اخْتَل شَيْءٌ مِمَّا وَرَدَ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ مِنْ قُيُودٍ، فَالشَّرِكَةُ شَرِكَةُ عَنَانٍ - إِلاَّ أَنَّهُ لاَ بُدَّ
__________
(1) هذا الأخير يؤخذ من قول الكاساني - دون فصل بين مفاوضة عنان - (وأما شركة الأعمال فهي أن يشتركا على عمل من الخياطة أو القصارة أو غيرهما) (بدائع الصنائع 6 / 57) وإن كان القياس على المفاوضة في غيرها يقتضي التعميم في جميع الصنائع والأعمال، أو بالحري الإطلاق، بحيث لا يكون على أحد الشريكين حجر ما في تقبل أي عمل صالح لتقبل. وهذا هو الذي جروا عليه في المجلة (م 1359) .
(2) رد المحتار 3 / 359، بدائع الصنائع 6 / 57، 63، 65.(26/43)
فِيهَا عَلَى كُل حَالٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكَانِ مِنْ أَهْل الْوَكَالَةِ، وَأَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ ضَمَانِهِمَا الثَّمَنَ، كَمَا سَيَجِيءُ فِي الشَّرَائِطِ بَيَانُهُ.
وَإِنْ قَال أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ فَاوَضْتُكَ فَقَبِل كَفَى؛ لأَِنَّ لَفْظَهَا عَلَمٌ عَلَى تَمَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي أَمْرِ الشَّرِكَةِ، فَإِذَا ذَكَرَاهُ تَثْبُتُ أَحْكَامُهَا إِقَامَةً لِلَّفْظِ مَقَامَ الْمَعْنَى (1) .
شُرُوطُ شَرِكَةِ الْعَقْدِ:
الشُّرُوطُ الْعَامَّةُ:
17 - وَهِيَ تِلْكَ الَّتِي لاَ تَخُصُّ نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ الرَّئِيسِيَّةِ الثَّلاَثَةِ (شَرِكَةِ الأَْمْوَال، وَشَرِكَةِ الأَْعْمَال، وَشَرِكَةِ الْوُجُوهِ) .
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ الْعَامَّةُ تَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا:
النَّوْعُ الأَْوَّل: فِي كُلٍّ مِنْ شَرِكَتَيِ الْمُفَاوَضَةِ وَالْعَنَانِ.
أَوَّلاً - قَابِلِيَّةُ الْوَكَالَةِ:
18 - وَيُمْكِنُ تَفْسِيرُهَا بِأَمْرَيْنِ:
(1) قَابِلِيَّةُ التَّصَرُّفِ الْمُتَعَاقَدِ عَلَيْهِ لِلْوَكَالَةِ، لِيَتَحَقَّقَ مَقْصُودُ الشَّرِكَةِ، وَهُوَ الاِشْتِرَاكُ فِي الرِّبْحِ؛ لأَِنَّ سَبِيل ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ وَكِيلاً عَنْ صَاحِبِهِ فِي نِصْفِ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ، وَأَصِيلاً فِي
__________
(1) رد المحتار 3 / 359، بدائع الصنائع 6 / 57، 63، 65.(26/43)
نِصْفِهِ الآْخَرِ - وَإِلاَّ فَالأَْصِيل فِي الْكُل يَخْتَصُّ بِكُل رِبْحِهِ، وَالْمُتَصَرِّفُ عَنِ الْغَيْرِ لاَ يَتَصَرَّفُ إِلاَّ بِوِلاَيَةٍ أَوْ وَكَالَةٍ، وَالْفَرْضُ أَنْ لاَ وِلاَيَةَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ الْوَكَالَةُ (1) . فَالاِحْتِشَاشُ وَالاِحْتِطَابُ وَالاِصْطِيَادُ وَالتَّكَدِّي، أَعْمَالٌ لاَ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِيهَا، لِعَدَمِ قَبُولِهَا الْوَكَالَةَ، إِذِ الْمِلْكُ فِيهَا يَقَعُ لِمَنْ بَاشَرَ السَّبَبَ - وَهُوَ الآْخِذُ: شَأْنَ الْمُبَاحَاتِ كُلِّهَا، فَقَدْ جَعَل الشَّارِعُ سَبَبَ الْمِلْكِ فِيهَا هُوَ سَبْقَ الْيَدِ (2) .
(2) أَهْلِيَّةُ كُل شَرِيكٍ لِلتَّوْكِيل وَالتَّوَكُّل؛ لأَِنَّهُ وَكِيلٌ فِي أَحَدِ النِّصْفَيْنِ، أَصِيلٌ فِي الآْخَرِ، فَلاَ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ مِنَ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِي التِّجَارَةِ، وَالْمَعْتُوهِ الَّذِي لاَ يَعْقِل (3) .
19 - وَهَذَا الشَّرْطُ بِشِقَّيْهِ مَوْضِعُ وِفَاقٍ (4) . لأَِنَّ الْجَمِيعَ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ الشَّرِكَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ. وَلَكِنَّ الْخِلاَفَ يَقَعُ فِي طَرِيقِ التَّطْبِيقِ: فَمَثَلاً:
أ - الْمُبَاحَاتُ: لاَ يَرَاهَا الْحَنَفِيَّةُ مِمَّا يَقْبَل الْوَكَالَةَ، بَيْنَمَا هِيَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِمَّا يَقْبَلُهَا. وَلِذَا مَثَّل الْمَالِكِيَّةُ لِشَرِكَةِ الأَْبْدَانِ بِشَرِكَةِ الصَّيَّادِينَ فِي الصَّيْدِ، وَالْحَفَّارِينَ فِي الْبَحْثِ عَنِ الْمَعَادِنِ - كَشَرِكَاتِ النَّفْطِ الْقَائِمَةِ الآْنَ،
__________
(1) فتح القدير 5 / 30.
(2) فتح القدير 5 / 5، وتمامه في بدائع الصنائع 6 / 63.
(3) بدائع الصنائع 6 / 58.
(4) المغني لابن قدامة 5 / 109.(26/44)
وَأَبْرَزَ الْحَنَابِلَةُ الشَّرِكَةَ فِي تَحْصِيل الْمُبَاحَاتِ، حَتَّى جَعَلُوهَا نَوْعًا مُتَمَيِّزًا مِنْ شَرِكَةِ الأَْعْمَال (1) .
ب - شَرِكَةُ وَلِيِّ الْمَحْجُورِ: وَيَنُصُّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ لِوَلِيِّ الْمَحْجُورِ الشَّرِكَةَ فِي مَال مَحْجُورِهِ، لأَِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُضَارِبَ بِهَذَا الْمَال، مَعَ أَنَّ الْمُضَارِبَ يَذْهَبُ بِجُزْءٍ مِنْ نَمَائِهِ، فَأَوْلَى أَنْ تَجُوزَ الشَّرِكَةُ حَيْثُ يَكُونُ رِبْحُهُ كُلُّهُ مُوَفَّرًا عَلَيْهِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل تَقْرِيرُهُمْ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، وَوَرِثَهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي الشَّرِكَةِ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ - وَمِنْ شَرِيطَتِهَا أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكُ الْمُتَصَرِّفُ أَمِينًا: فَلَوْ تَبَيَّنَ عَدَمُ هَذِهِ الأَْمَانَةِ، وَضَاعَ الْمَال، كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْوَلِيِّ، لِتَقْصِيرِهِ بِعَدَمِ الْبَحْثِ (2) .
ثُمَّ لاَ يَخْفَى أَنَّ اعْتِبَارَ الأَْهْلِيَّتَيْنِ: أَهْلِيَّةِ التَّوْكِيل، وَأَهْلِيَّةِ التَّوَكُّل، إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ يَكُونُ الْعَمَل لِكِلاَ الشَّرِيكَيْنِ. أَمَّا إِذَا كَانَ لأَِحَدِهِمَا فَحَسْبُ - وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ - فَالشَّرِيطَةُ هِيَ
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 225، 269، الفواكه الدواني 2 / 171، 172، ومطالب أولي النهى 3 / 545، دليل الطالب 127.
(2) مغني المحتاج 2 / 213، نهاية المحتاج وحواشيها 5 / 5، المغني لابن قدامة 5 / 134.(26/44)
أَهْلِيَّةُ الآْذِنِ لِلتَّوْكِيل، وَأَهْلِيَّةُ الْمَأْذُونِ لِلتَّوَكُّل: وَلِذَا يَنُصُّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الآْذِنُ أَعْمَى، وَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ أَنْ يُوَكِّل فِي خَلْطِ الْمَالَيْنِ، أَمَّا الْمَأْذُونُ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا (1) .
ثَانِيًا - أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مَعْلُومًا بِالنِّسْبَةِ:
20 - أَيْ أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كُل شَرِيكٍ مِنَ الرِّبْحِ مُحَدَّدَةً بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْهُ مَعْلُومِ النِّسْبَةِ إِلَى جُمْلَتِهِ: كَنِصْفِهِ. فَإِذَا تَمَّ الْعَقْدُ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلشَّرِيكِ حِصَّةٌ فِي الرِّبْحِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ مِقْدَارٍ، كَانَ عَقْدًا فَاسِدًا، لأَِنَّ الرِّبْحَ هُوَ مَقْصُودُ الشَّرِكَةِ فَتَفْسُدُ بِجَهَالَتِهِ، كَالْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ فِي الْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ. وَكَذَلِكَ إِذَا عُلِمَ مِقْدَارُ حِصَّةِ الشَّرِيكِ فِي الرِّبْحِ، وَلَكِنْ جُهِلَتْ نِسْبَتُهَا إِلَى جُمْلَتِهِ: كَمِائَةٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل؛ لأَِنَّ هَذَا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى خِلاَفِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ - أَعْنِي الاِشْتِرَاكَ فِي الرِّبْحِ، فَقَدْ لاَ يَحْصُل مِنْهُ إِلاَّ مَا جُعِل لأَِحَدِ الشُّرَكَاءِ، فَيَقَعُ مِلْكًا خَاصًّا لِوَاحِدٍ، لاَ شَرِكَةَ فِيهِ لِسِوَاهُ. بَل قَالُوا إِنَّ هَذَا يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ لأَِنَّ الْمَشْرُوطَ إِذَا كَانَ هُوَ كُل الْمُتَحَصِّل مِنَ الرِّبْحِ، تَحَوَّلَتِ الشَّرِكَةُ إِلَى قَرْضٍ مِمَّنْ لَمْ يُصِبْ شَيْئًا مِنَ الرِّبْحِ، أَوْ إِبْضَاعٍ مِنَ الآْخَرِ.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 213.(26/45)
فَإِذَا جُعِل لِلشَّرِيكِ أَجْرٌ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ مِنْ خَارِجِ مَال الشَّرِكَةِ: كَخَمْسِينَ أَوْ مِائَةِ دِينَارٍ كُل شَهْرٍ، فَقَدْ نَقَلُوا فِي الْهِنْدِيَّةِ عَنِ الْمُحِيطِ أَنَّ الشَّرِكَةَ صَحِيحَةٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ (1) .
21 - وَهَذَا الشَّرْطُ مَوْضِعُ وِفَاقٍ. وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنْ لاَ شَرِكَةَ مَعَ اشْتِرَاطِ مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الرِّبْحِ - كَمِائَةٍ - لأَِحَدِ الشَّرِيكَيْنِ سَوَاءٌ اقْتَصَرَ عَلَى اشْتِرَاطِ هَذَا الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ لأَِحَدِهِمَا، أَمْ جُعِل زِيَادَةً عَلَى النِّسْبَةِ الْمَشْرُوطَةِ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ، أَمِ انْتَقَصَ مِنْ هَذِهِ النِّسْبَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ فِي الأَْحْوَال كُلِّهَا قَدْ يُفْضِي إِلَى اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِالرِّبْحِ، وَهُوَ خِلاَفُ مَوْضُوعِ الشَّرِكَةِ، أَوْ - كَمَا عَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ - قَاطِعٌ لَهَا.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل، مَا لَوْ شُرِطَ لأَِحَدِهِمَا رِبْحُ عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ مُبْهَمَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الشَّرِكَةِ - كَهَذَا الثَّوْبِ أَوْ أَحَدِ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ - أَوْ رِبْحُ سَفْرَةٍ كَذَلِكَ - كَهَذِهِ السَّفْرَةِ إِلَى بَارِيسَ، أَوْ هِيَ أَوِ الَّتِي تَلِيهَا إِلَى لَنْدَنَ - أَوْ رِبْحُ هَذَا الشَّهْرِ أَوْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مِنْ هَذَا الْقَبِيل أَيْضًا، أَنْ يَقُول أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِلآْخَرِ: لَكَ رِبْحُ النِّصْفِ؛ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَسْتَأْثِرَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 59، 81، فتح القدير 5 / 25، الفتاوى الهندية 2 / 350، رد المحتار 3 / 354.(26/45)
وَاحِدٌ بِشَيْءٍ مِنَ الرِّبْحِ، زَاعِمًا أَنَّهُ مِنْ عَمَلِهِ فِي النِّصْفِ الآْخَرِ. خِلاَفًا لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ رِبْحَ النِّصْفِ هُوَ نِصْفُ الرِّبْحِ (1)
النَّوْعُ الثَّانِي: فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ خَاصَّةً:
فَتَنْعَقِدُ عَنَانًا إِذَا اخْتَل شَرْطٌ مِنْهُ:
أَوَّلاً: أَهْلِيَّةُ الْكَفَالَةِ:
22 - وَهَذَا شَرْطُ الْحَنَفِيَّةِ فِي كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيل عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ دَيْنِ التِّجَارَةِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهَا، كَالاِقْتِرَاضِ إِذْ كُل مَا يَلْزَمُ أَحَدَهُمَا مِنْ هَذَا الْقَبِيل يَلْزَمُ الآْخَرَ.
فَمَنْ لَمْ تَتَوَافَرْ فِيهِ شُرُوطُ هَذِهِ الأَْهْلِيَّةِ - مِنْ بُلُوغٍ وَعَقْلٍ - لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ: وَلَوْ فَعَلَهَا الصَّغِيرُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ؛ لأَِنَّ الْمَانِعَ ذَاتِيٌّ، إِذْ هُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْل التَّبَرُّعَاتِ وَلأَِنَّ الْكَفَالَةَ الْمَقْصُودَةَ هُنَا هِيَ كَفَالَةُ كُل شَرِيكٍ جَمِيعَ مَا يَلْزَمُ الآْخَرَ مِنَ الدُّيُونِ الآْنِفَةِ الذِّكْرِ. وَمِنْ هُنَا يَمْنَعُ مُحَمَّدٌ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ مِنَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ - كَالْمُرْتَدِّ - لأَِنَّ كَفَالَتَهُ إِنَّمَا تَكُونُ فِي حُدُودِ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ، وَالْكَفَالَةُ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ.
وَأَمَّا الَّذِينَ وَافَقُوا الْحَنَفِيَّةَ فِي أَصْل الْقَوْل
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 124، 148، 149، مطالب أولي النهى 3 / 500.(26/46)
بِشَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ، وَخَالَفُوهُمْ فِي التَّفْصِيل - وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فَلَمْ يَبْنُوهَا عَلَى الْكَفَالَةِ، وَاكْتَفَوْا بِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْوَكَالَةِ: فَلَيْسَ عَلَى الشَّرِيكِ فِيهَا عِنْدَهُمْ ضَمَانُ غَرَامَاتٍ لَزِمَتْ شَرِيكَهُ دُونَ أَنْ يَأْذَنَ هُوَ فِي أَسْبَابِهَا (1) .
23 - ثَانِيًا - يَشْتَرِطُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ التَّسَاوِيَ فِي أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ: فَتَصِحُّ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ الْكَبِيرَيْنِ، اللَّذَيْنِ يَعْتَنِقَانِ دِينًا وَاحِدًا - كَمُسْلِمَيْنِ وَنَصْرَانِيَّيْنِ - أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الدِّينِ الْوَاحِدِ - كَذِمِّيَّيْنِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالآْخَرُ مَجُوسِيًّا، إِذِ الْكُفْرُ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ (2) .
وَلاَ تَصِحُّ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ حُرٍّ وَمَمْلُوكٍ، وَلَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ، وَلاَ بَيْنَ بَالِغٍ وَصَبِيٍّ، وَلاَ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، لاِخْتِلاَل هَذِهِ الشَّرِيطَةِ - إِذِ الْمَمْلُوكُ وَالصَّبِيُّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِمَا، بِخِلاَفِ الْحُرِّ الْبَالِغِ، وَالْكَافِرُ يَسَعُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ وَيَبِيعَهَا، وَلاَ كَذَلِكَ الْمُسْلِمُ.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 60، 61، رد المحتار 3 / 348، 349، الخرشي على خليل 4 / 261، الشرح الكبير مع المغني 5 / 198.
(2) هذا هو تعليل صاحب فتح القدير. وتعليل صاحب العناية يوهم خلافه، إذ يقول: لتحقق التساوي في كونهما ذميين (العناية على الهداية مع فتح القدير 5 / 7) .(26/46)
أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَيَكْتَفِي بِالتَّسَاوِي فِي أَهْلِيَّةِ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ، وَلاَ يَعْتَدُّ بِتَفَاوُتِ الأَْهْلِيَّةِ فِيمَا عَدَاهُمَا، وَلِذَا فَهُوَ يُصَحِّحُ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ - قِيَاسًا عَلَى الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِرَغْمِ التَّفَاوُتِ فِي أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، بَعْدَ التَّسَاوِي فِي أَهْلِيَّةِ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ، وَلاَ يَرَى أَبُو يُوسُفَ فَرْقًا، إِلاَّ مِنْ حَيْثُ الْكَرَاهَةُ، فَإِنَّهُ يَكْرَهُ الشَّرِكَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ؛ لأَِنَّ الْكَافِرَ لاَ يَهْتَدِي إِلَى وُجُوهِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الإِْسْلاَمِ، وَإِنِ اهْتَدَى فَإِنَّهُ لاَ يَتَحَرَّزُ مِنْ غَيْرِهَا كَالرِّبَا وَمَا إِلَيْهِ، فَيَتَوَرَّطُ الْمُسْلِمُ بِمُشَارَكَتِهِ فِي كُل مَا لاَ يَحِل (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ كَرَاهَةَ الشَّرِكَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَنَفَوْا الْكَرَاهَةَ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَتَصَرَّفَ الْكَافِرُ إِلاَّ بِحُضُورِ شَرِيكِهِ الْمُسْلِمِ؛ لأَِنَّ ارْتِكَابَهُ الْمَحْظُورَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ لِلشَّرِكَةِ يُؤْمَنُ حِينَئِذٍ. ثُمَّ مَا لاَ يَحْضُرُهُ مِنْهَا شَرِيكُهُ الْمُسْلِمُ، وَتَبَيَّنَ وُقُوعُهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ مِنَ الْوُجْهَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ - كَعُقُودِ الرِّبَا، وَشِرَاءِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ - فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ - مَعَ فَسَادِهِ - يَكُونُ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى الْكَافِرِ. وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فَالأَْصْل فِيهِ
__________
(1) فتح القدير 5 / 7، 8، رد المحتار 3 / 348.(26/47)
الْحِل. وَاحْتَجُّوا لِلْجَوَازِ بِأَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَامَل أَهْل خَيْبَرَ - وَهُمْ يَهُودٌ - بِنِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَهَذِهِ شَرِكَةٌ، وَابْتَاعَ طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ بِالْمَدِينَةِ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ، وَمَاتَ وَهِيَ مَرْهُونَةٌ (1) - وَهَذِهِ مُعَامَلَةٌ. وَلاَ يَبْدُو فِي كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ خِلاَفٌ عَنْ هَذَا، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا شَكَّ الشَّرِيكُ الْمُسْلِمُ فِي عَمَل شَرِيكِهِ الْكَافِرِ بِالرِّبَا اسْتُحِبَّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِالرِّبْحِ، وَإِذَا شَكَّ فِي عَمَلِهِ بِالْخَمْرِ اسْتُحِبَّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِالْجَمِيعِ (2) .
ثَالِثًا - أَنْ لاَ يُشْتَرَطَ الْعَمَل عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ:
24 - فَلَوْ شُرِطَ الْعَمَل عَلَى أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) . لأَِنَّ هَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا يُنَافِي طَبِيعَةَ الْمُفَاوَضَةِ مِنَ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا يُمْكِنُ الاِشْتِرَاكُ فِيهِ مِنْ أُصُول التَّصَرُّفَاتِ. وَلِلْمَالِكِيَّةِ شَيْءٌ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا، إِذْ شَرَطُوا - فِي شَرِكَةِ الأَْمْوَال مُطْلَقًا - أَنْ يَكُونَ
__________
(1) حديث: (أنه عامل أهل خيبر) ، أخرجه البخاري (الفتح 5 / 13 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1186 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر، وحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة) أخرجه البخاري (الفتح 6 / 99 - ط السلفية) .
(2) المغني لابن قدامة 5 / 110، مطالب أولي النهى 3 / 245، الفواكه الدواني 2 / 172، بدائع الصنائع 6 / 61، رد المحتار 3 / 348.
(3) الفتاوى الهندية 2 / 350.(26/47)
الْعَمَل بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ، أَيْ عَمَل كُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ بِقَدْرِ مَالِهِ: إِنْ كَانَ لَهُ النِّصْفُ فِي رَأْسِ الْمَال فَعَلَيْهِ النِّصْفُ فِي الْعَمَل، أَوِ الثُّلُثَانِ فَعَلَيْهِ الثُّلُثَانِ، وَهَكَذَا بِحَيْثُ إِذَا شَرَطَ خِلاَفَ ذَلِكَ: كَأَنْ جُعِل ثُلُثَا الْعَمَل أَوْ ثُلُثُهُ عَلَى الشَّرِيكِ بِالنِّصْفِ، كَانَتِ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةً، وَالرِّبْحُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ: وَيَرْجِعُ كُلٌّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الآْخَرِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ عِنْدَهُ مِنْ أُجْرَةٍ. أَمَّا إِذَا وَقَعَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْعَمَل تَبَرُّعًا مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ دُونَ أَنْ تَكُونَ مَشْرُوطَةً عَلَيْهِ، فَلاَ بَأْسَ، إِذْ ذَلِكَ تَفَضُّلٌ مِنْهُ وَإِحْسَانٌ.
شُرُوطٌ خَاصَّةٌ بِشَرِكَةِ الأَْمْوَال مُطْلَقًا:
أَيْ سَوَاءٌ كَانَتْ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ أَمْ شَرِكَةَ عَنَانٍ:
25 - الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال عَيْنًا، لاَ دَيْنًا: لأَِنَّ التِّجَارَةَ الَّتِي بِهَا يَحْصُل مَقْصُودُ الشَّرِكَةِ وَهُوَ الرِّبْحُ، لاَ تَكُونُ بِالدَّيْنِ. فَجَعْلُهُ رَأْسَ مَال الشَّرِكَةِ مَنَافٍ لِمَقْصُودِهَا (1) .
26 - الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَال مِنَ الأَْثْمَانِ:
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 60، رد المحتار 3 / 351، والمغني 5 / 127.(26/48)
سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ النَّقْدَيْنِ، أَعْنِي الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الْمَضْرُوبَيْنِ، أَمِ الْفُلُوسِ النَّافِقَةِ أَمِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ غَيْرِ الْمَضْرُوبَيْنِ (1) . إِذَا جَرَى بِهَا التَّعَامُل وَعَلَى هَذَا اسْتَقَرَّ الْفِقْهُ الْحَنَفِيُّ.
وَالْعُرُوضُ كُلُّهَا - وَهِيَ مَا عَدَا النَّقْدَيْنِ مِنَ الأَْعْيَانِ - لاَ تَصْلُحُ رَأْسَ مَال شَرِكَةٍ وَلاَ حِصَّةَ فِيهِ لِشَرِيكٍ (2) . وَلَوْ كَانَتْ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا أَوْ عَدَدِيًّا مُتَقَارِبًا، فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَعَهُ أَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ وَجَمَاهِيرُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنَ الْعُرُوضِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: الْمَكِيل وَالْمَوْزُونُ وَالْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ.
وَالثَّانِي: سَائِرُ الْعُرُوضِ.
وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: فَرَّقُوا بَيْنَ الْمِثْلِيِّ، وَالْمُتَقَوَّمِ: فَمَنَعُوا انْعِقَادَ الشَّرِكَةِ فِي النَّوْعِ الثَّانِي بِإِطْلاَقٍ، وَأَجَازُوهَا فِي النَّوْعِ الأَْوَّل، بَعْدَ الْخَلْطِ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، ذَهَابًا إِلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ لَيْسَ مِنَ الْعُرُوضِ الْمَحْضَةِ، وَإِنَّمَا
__________
(1) ويسميان لغة باسم التبر، ما لم يذابا على النار (أي: قبل تخليصهما من تراب المعدن) وإلا فهما النقرة، كما في المغرب، والذي في المصباح قصر النقرة على الفضة التي أذيبت وخلصت.
(2) رد المحتار 3 / 350، بدائع الصنائع 6 / 59، 361، فتح القدير 5 / 15، 16، الفتاوى الهندية 2 / 306، الفروع 2 / 417.(26/48)
هُوَ عَرْضٌ مِنْ وَجْهٍ - لأَِنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ - لأَِنَّهُ يَصِحُّ الشِّرَاءُ بِهِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، شَأْنَ الأَْثْمَانِ: فَنَاسَبَ أَنْ يُعْمَل فِيهِ بِكِلاَ الشَّبَهَيْنِ، كُلٌّ فِي حَالٍ - فَأُعْمِل الشَّبَهُ بِالْعُرُوضِ قَبْل الْخَلْطِ، وَمُنِعَ انْعِقَادُ الشَّرِكَةِ فِيهِ حِينَئِذٍ، وَالشَّبَهُ بِالأَْثْمَانِ بَعْدَهُ، فَصُحِّحَتْ إِذْ ذَاكَ الشَّرِكَةُ فِيهِ؛ لأَِنَّ شَرِكَةَ الْمِلْكِ تَتَحَقَّقُ بِالْخَلْطِ، فَيُعْتَضَدُ بِهَا جَانِبُ شَرِكَةِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا قُصِرَ التَّصْحِيحُ عَلَى حَالَةِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ؛ لأَِنَّ الْخَلْطَ بِغَيْرِ الْجِنْسِ - كَخَلْطِ الْقَمْحِ بِالشَّعِيرِ، وَالزَّيْتِ بِالسَّمْنِ - يُخْرِجُ الْمِثْلِيَّ عَنْ مِثْلِيَّتِهِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةِ الأَْصْل وَالرِّبْحِ وَالْمُنَازَعَةِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ، لِمَكَانِ الْحَاجَةِ إِلَى تَقْوِيمِهِ إِذْ ذَاكَ لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِهِ وَالتَّقْوِيمُ حَزْرٌ وَتَخْمِينٌ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمُقَوِّمِينَ، بِخِلاَفِ الْمِثْلِيِّ فَإِنَّهُ يَحْصُل مِثْلُهُ.
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال مِنَ النَّقْدِ الْمَضْرُوبِ. بِأَيَّةِ سِكَّةٍ، وَيُصَرِّحُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنْ لاَ تَسَامُحَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْغِشِّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي حُدُودِ الْقَدْرِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي لاَ غِنَى لِصِنَاعَةِ النَّقْدِ عَنْهُ (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَتَصِحُّ الشَّرِكَةُ عِنْدَهُمْ إِذَا
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 6، المغني لابن قدامة 5 / 126، مطالب أولي النهى 3 / 497.(26/49)
أَخْرَجَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً.
كَمَا تَصِحُّ إِذَا أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا ذَهَبًا وَفِضَّةً وَأَخْرَجَ الثَّانِي مِثْل ذَلِكَ. وَتَصِحُّ أَيْضًا عِنْدَهُمْ بِعَيْنٍ مِنْ جَانِبٍ وَعَرْضٍ مِنَ الآْخَرِ، أَوْ بِعَرْضٍ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا سَوَاءٌ اتَّفَقَا فِي الْجِنْسِ أَوِ اخْتَلَفَا. وَلاَ تَصِحُّ عِنْدَهُمْ بِذَهَبٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَفِضَّةٍ مِنَ الْجَانِبِ الآْخَرِ، وَلَوْ عَجَّل كُلٌّ مِنْهُمَا مَا أَخْرَجَهُ لِصَاحِبِهِ، وَذَلِكَ لاِجْتِمَاعِ شَرِكَةٍ وَصَرْفٍ، وَلاَ تَصِحُّ بِطَعَامَيْنِ وَإِنِ اتَّفَقَا فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ (1) .
وَذَهَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى تَصْحِيحِ الشَّرِكَةِ بِالْعُرُوضِ مُطْلَقًا، وَيَعْتَمِدُ فِي الْقِسْمَةِ قِيمَتَهَا عِنْدَ الْعَقْدِ. وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، اعْتَمَدَهَا مِنْ أَصْحَابِهِ أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ، إِذْ لَيْسَ فِي تَصْحِيحِهَا بِالْعُرُوضِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ إِخْلاَلٌ بِمَقْصُودِ الشَّرِكَةِ - فَلَيْسَ مَقْصُودُهَا إِلاَّ جَوَازَ تَصَرُّفِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَالَيْنِ، ثُمَّ اقْتِسَامَ الرِّبْحِ، وَهَذَا كَمَا يَكُونُ بِالأَْثْمَانِ، يَكُونُ بِغَيْرِهَا. وَاسْتَأْنَسُوا لِذَلِكَ بِاعْتِبَارِ قِيمَةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ عِنْدَ تَقْدِيرِ نِصَابِ زَكَاتِهَا (2) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال حَاضِرًا:
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 458 - 461، الخرشي على خليل 4 / 256، البهجة شرح التحفة 2 / 212.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 125.(26/49)
27 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال حَاضِرًا، قَال الْكَاسَانِيُّ: إِنَّمَا يُشْتَرَطُ الْحُضُورُ عِنْدَ الشِّرَاءِ لاَ عِنْدَ الْعَقْدِ لأَِنَّ هَذَا كَافٍ فِي حُصُول الْمَقْصُودِ، وَهُوَ الاِتِّجَارُ ابْتِغَاءَ الرِّبْحِ: وَلِذَا فَالَّذِي يَدْفَعُ أَلْفًا إِلَى آخَرَ، عَلَى أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهَا مِثْلَهَا، وَيَتَّجِرَ وَيَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا، يَكُونُ قَدْ عَاقَدَهُ عَقْدَ شَرِكَةٍ صَحِيحَةٍ، إِذَا فَعَل الآْخَرُ ذَلِكَ - وَإِنْ كَانَ هَذَا الآْخَرُ لاَ يَسْتَطِيعُ إِشْرَاكَهُ فِي الْخَسَارَةِ إِلاَّ إِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ فَعَل مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ.
هَكَذَا قَرَّرَهُ الْكَاسَانِيُّ، وَالْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ، وَجَارَاهُمَا ابْنُ عَابِدِينَ وَعِبَارَةُ الْهِنْدِيَّةِ، عَنِ الْخَانِيَّةِ وَخِزَانَةِ الْمُفْتِينَ، أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَال حَاضِرًا عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ عِنْدَ الشِّرَاءِ. فَلاَ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِمَالٍ غَائِبٍ فِي الْحَالَيْنِ: عِنْدَ الْعَقْدِ وَعِنْدَ الشِّرَاءِ (1) .
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ حُضُورَ الْمَالَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ قِيَاسًا لِذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ حُضُورَ الْمَالَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ هُوَ الَّذِي يُقَرِّرُ مَعْنَى الشَّرِكَةِ، إِذْ يُتِيحُ الشُّرُوعَ فِي تَصْرِيفِ أَعْمَالِهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَلاَ يَتَرَاخَى بِمَقْصُودِهَا، لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِذَا عُقِدَتِ الشَّرِكَةُ بِمَالٍ غَائِبٍ أَوْ دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ، وَأُحْضِرَ الْمَال وَشَرَعَ الشَّرِيكَانِ فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 60، فتح القدير 5 / 14، 22، رد المحتار 3 / 351، الفتاوى الهندية 2 / 306.(26/50)
التَّصَرُّفِ فِيهِ تَصَرُّفَ الشُّرَكَاءِ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ تَنْعَقِدُ بِهَذَا التَّصَرُّفِ نَفْسِهِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَسَّرَ الْخَرَشِيُّ كَلاَمَ خَلِيلٍ بِمَا يُفِيدُ اشْتِرَاطَ حُضُورِ رَأْسِ الْمَال، أَوْ مَا هُوَ بِمَثَابَةِ حُضُورِهِ - إِلاَّ أَنَّهُ قَصَرَ ذَلِكَ عَلَى رَأْسِ مَالٍ هُوَ نَقْدٌ: فَذَكَرَ أَنَّهُ إِذَا غَابَ نَقْدُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ لاَ تَصِحُّ، إِلاَّ إِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ قَرِيبَةً، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقَعِ الاِتِّفَاقُ عَلَى الْبَدْءِ فِي أَعْمَال التِّجَارَةِ قَبْل حُضُورِهِ. فَإِذَا كَانَتْ غَيْبَتُهُ بَعِيدَةً، أَوْ قَرِيبَةً وَاتَّفَقَ عَلَى الشُّرُوعِ فِي التِّجَارَةِ قَبْل حُضُورِهِ، أَوْ غَابَ النَّقْدَانِ كِلاَهُمَا (نَقْدَا الشَّرِيكَيْنِ) وَلَوْ غَيْبَةً قَرِيبَةً، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ حِينَئِذٍ لاَ تَكُونُ صَحِيحَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ حَدَّ الْبُعْدَ بِمَسِيرَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَدَّهُ بِمَسِيرَةِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَاسْتَقَرَّ بِهِ الْخَرَشِيُّ. وَلَكِنَّ الْخَرَشِيَّ أَشَارَ إِلَى تَفْسِيرٍ آخَرَ، يَجْعَل هَذَا الشَّرْطَ شَرْطَ لُزُومٍ، لاَ شَرْطَ صِحَّةٍ (1) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْخَلْطُ
28 - لاَ يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ وَلاَ الْحَنَابِلَةُ فِي شَرِكَةِ الأَْمْوَال خَلْطَ الْمَالَيْنِ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِشَرْطِ صِحَّةٍ أَصْلاً، بَل وَلاَ بِشَرْطِ لُزُومٍ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 127، مطالب أولي النهى 3 / 497، 499، 501، الخرشي 4 / 58.(26/50)
وَمَعَهُ أَكْثَرُهُمْ؛ لأَِنَّ الشَّرِكَةَ تَلْزَمُ عِنْدَهُمْ - خِلاَفًا لاِبْنِ رُشْدٍ - بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، أَيْ بِمُجَرَّدِ تَمَامِ الصِّيغَةِ، وَلَوْ بِلَفْظِ: " اشْتَرَكْنَا " أَوْ مَا يَدُل عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيَّةَ دَلاَلَةٍ: قَوْلِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً. وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطُ ضَمَانِ الْمَال عَلَى الشَّرِيكَيْنِ: فَمَا تَلِفَ قَبْلَهُ، إِنَّمَا يَتْلَفُ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِهِ. وَالشَّرِكَةُ مَاضِيَةٌ فِي الْبَاقِي - فَمَا اشْتُرِيَ بِهِ فَلِلشَّرِكَةِ وَفْقَ شُرُوطِ عَقْدِهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْمَال الْبَاقِي هُوَ الَّذِي اشْتَرَاهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِتَلَفِ مَال شَرِيكِهِ، وَلَمْ يُرِدْ شَرِيكُهُ مُشَارَكَتَهُ، أَوِ ادَّعَى هُوَ أَنَّهُ إِنَّمَا اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ - فَإِنَّهُ يَكُونُ لِشَارِيهِ خَاصَّةً، عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْخَلْطِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خَاصٌّ بِالْمِثْلِيَّاتِ أَمَّا الْعُرُوضُ الْقِيَمِيَّةُ، فَلاَ يَتَوَقَّفُ ضَمَانُهَا عَلَى خَلْطِهَا، كَمَا أَنَّ الْخَلْطَ، لَيْسَ حَتْمًا أَنْ يَكُونَ حَقِيقِيًّا بِحَيْثُ لاَ يَتَمَيَّزُ الْمَالاَنِ - فِيمَا قَرَّرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الأَْكْثَرُونَ، بَل يَكْفِي الْخَلْطُ الْحُكْمِيُّ: بِأَنْ يُجْعَل الْمَالاَنِ فِي حَوْزِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، أَوْ فِي حَوْزِ الشَّرِيكَيْنِ مَعًا - كَأَنْ يُوضَعَ الْمَالاَنِ مُنْفَصِلَيْنِ فِي دُكَّانٍ وَبِيَدِ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ مِفْتَاحٌ لَهُ أَوْ يُوضَعَ كُل مَالٍ فِي حَافِظَةٍ عَلَى حِدَةٍ، وَتُسَلَّمَ الْحَافِظَتَانِ إِلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَوْ إِلَى صَرَّافِ مَحَلِّهِمَا أَوْ أَيِّ أَمِينٍ يَخْتَارَانِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا لَمْ يُخْلَطِ الْمَالاَنِ فَلاَ(26/51)
شَرِكَةَ. وَكَذَلِكَ إِذَا خُلِطَا وَبَقِيَا مُتَمَيِّزَيْنِ - لاِخْتِلاَفِ الْجِنْسِ كَنُقُودِ بَلَدَيْنِ بِسِكَّتَيْنِ أَوْ نُقُودٍ ذَهَبِيَّةٍ وَفِضِّيَّةٍ، أَوِ الْوَصْفِ كَنُقُودٍ قَدِيمَةٍ وَجَدِيدَةٍ لأَِنَّ بَقَاءَ التَّمَايُزِ يَجْعَل الْخَلْطَ كَلاَ خَلْطَ. وَإِذَنْ يَكُونُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْ وَالشَّرِيكَيْنِ رِبْحُ مَالِهِ وَوَضِيعَتُهُ، أَيْ خَسَارَتُهُ، وَإِذَا هَلَكَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ قَبْل الْخَلْطِ هَلَكَ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِهِ فَحَسْبُ، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى الآْخَرِ بِشَيْءٍ، وَهُمْ لاَ يَعْتَدُّونَ بِالْخَلْطِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَتَسَامَحُ إِذَا وَقَعَ الْخَلْطُ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْل انْفِضَاضِ مَجْلِسِهِ: فَيَحْتَاجُ الشَّرِيكَانِ إِلَى تَجْدِيدِ الإِْذْنِ فِي التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْخَلْطِ الْمُتَرَاخِي وَمِنَ الْبَيِّنِ بِنَفْسِهِ أَنَّ الْمَال يَرِثُهُ اثْنَانِ أَوْ يَشْتَرِيَانِهِ أَوْ يُوهَبُ لَهُمَا، يَكُونُ بِطَبِيعَتِهِ مَخْلُوطًا أَبْلَغَ خَلْطٍ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الْعُرُوضِ الْقِيَمِيَّةِ (1) .
شُرُوطٌ خَاصَّةٌ بِشَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فِي الأَْمْوَال:
وَهِيَ شُرُوطٌ إِذَا اخْتَلَّتْ كَانَتِ الشَّرِكَةُ عَنَانًا
29 - الشَّرْطُ الأَْوَّل: اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ الْمُسَاوَاةَ فِي رَأْسِ الْمَال وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً فَلاَ بُدَّ مِنْ قِيَامِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 60، بلغة السالك 2 / 168، حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 213، بداية المجتهد 2 / 253، الخرشي على خليل 4 / 257، نهاية المحتاج 6 / 5، مغني المحتاج 2 / 213.(26/51)
الْمُسَاوَاةِ مَا دَامَتِ الشَّرِكَةُ فِي رَأْسِ الْمَال قَائِمَةً كَأَلْفِ دِينَارٍ مِنْ هَذَا، وَأَلْفِ دِينَارٍ مِنْ ذَاكَ؛ لأَِنَّ الشَّرِكَةَ عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فَسْخُهُ مَتَى شَاءَ، فَصَارَتْ كَالْمُتَجَدِّدَةِ كُل سَاعَةٍ، وَالْتَحَقَ اسْتِمْرَارُهَا بِابْتِدَائِهَا فِي اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ بِمُقْتَضَى اسْمِهَا (مُفَاوَضَةٌ) فَإِذَا اتَّفَقَ، بَعْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ عَلَى التَّسَاوِي، أَنْ مَلَكَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، بِإِرْثٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَوِ صَدَقَةً، مَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ - وَهُوَ الأَْثْمَانُ - وَقَبَضَهُ، فَإِنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَبْطُل، وَتَنْقَلِبُ عَنَانًا لِفَوَاتِ الْمُسَاوَاةِ. أَمَّا إِذَا مَلَكَ مَا لاَ تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ كَالْعُرُوضِ، عَقَارِيَّةً أَوْ غَيْرَهَا، وَكَالدُّيُونِ فَإِنَّ هَذَا لاَ يُنَافِي الْمُسَاوَاةَ فِيمَا يَصْلُحُ رَأْسَ مَالٍ لِلشَّرِكَةِ، فَلاَ يُنَافِي اسْتِمْرَارَ الْمُفَاوَضَةِ إِلاَّ إِذَا قَبَضَ الدُّيُونَ أَثْمَانًا فَحِينَئِذٍ تَحْصُل الْمُنَافَاةُ وَتَبْطُل الْمُفَاوَضَةُ. وَتَتَحَوَّل عَنَانًا (1) .
وَلاَ يُخِل بِهَذِهِ الْمُسَاوَاةِ - فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - اخْتِلاَفُ النَّوْعِ: كَنُقُودٍ ذَهَبِيَّةٍ لِهَذَا وَفِضِّيَّةٍ لِذَاكَ، إِذَا اسْتَوَيَا فِي الْقِيمَةِ، فَإِذَا زَادَتْ قِيمَةُ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا خَرَجَتِ الشَّرِكَةُ عَنِ الْمُفَاوَضَةِ إِلَى الْعَنَانِ - إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ قَدْ طَرَأَتْ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْحِصَّتَيْنِ، أَوْ إِحْدَاهُمَا. لأَِنَّ الشَّرِكَةَ فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 78، رد المحتار 3 / 350.(26/52)
الْحَالَةِ الأُْولَى: قَدِ انْتَقَلَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَال إِلَى مَا اشْتُرِيَ بِهِ، فَلَمْ يَجْتَمِعْ فِي رَأْسِ الْمَال شَرِكَةٌ وَتَفَاوُتٌ، وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ تَكُونُ الْحِصَّةُ الْبَاقِيَةُ كَأَنَّهَا بَيْنَهُمَا؛ لأَِنَّ نِصْفَ ثَمَنِ مَا اشْتُرِيَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى صَاحِبِهَا، وَقَلَّمَا يَتَّفِقُ الشِّرَاءُ بِالْحِصَّتَيْنِ جَمِيعًا، فَاقْتَضَى الاِسْتِحْسَانُ، تَفَادِيًا لِلْحَرَجِ، إِلْحَاقَهَا بِالْحَالَةِ الأُْولَى: وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ فَسَادَ الْمُفَاوَضَةِ فِيهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ (1) أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ لاَ يَشْتَرِطُونَ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فِي رَأْسِ الْمَال لِصِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ (2) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: شُمُول رَأْسِ الْمَال لِكُل مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ مَال الشَّرِيكَيْنِ:
30 - وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الأَْثْمَانَ وَحْدَهَا هِيَ الصَّالِحَةُ لِذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِذَا كَانَتْ عَيْنًا لاَ دَيْنًا، حَاضِرَةً لاَ غَائِبَةً - سَوَاءٌ أَكَانَتْ أَثْمَانًا بِأَصْل الْخِلْقَةِ أَمْ بِجَرَيَانِ التَّعَامُل.
فَإِذَا كَانَ لأَِحَدِ الشَّرِيكَيْنِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ آثَرَ بَقَاءَهُ خَارِجَ رَأْسِ الْمَال - وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ، كَأَنْ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَ غَيْرِهِ - فَالشَّرِكَةُ عَنَانٌ، لاَ مُفَاوَضَةَ لِعَدَمِ صِدْقِ اسْمِهَا إِذْ ذَاكَ.
أَمَّا مَا خَرَجَ عَنْ هَذَا النَّمَطِ، فَلاَ يَضِيرُ
__________
(1) ر: ف / 27.
(2) فتح القدير 5 / 6، بدائع الصنائع 6 / 61.(26/52)
الْمُفَاوَضَةَ أَنْ يَخْتَصَّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْهُ بِمَا شَاءَ لأَِنَّهُ لاَ يَقْبَل الشَّرِكَةَ، فَأَشْبَهَ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمَا بِزَوْجَةٍ أَوْ أَوْلاَدٍ، فَلْيَحْتَفِظْ لِنَفْسِهِ بِمَا أَحَبَّ مِنَ الْعُرُوضِ (بِالْمَعْنَى الشَّامِل لِلْمِثْلِيِّ - عَلَى مَا فِيهِ مِنْ نِزَاعِ مُحَمَّدٍ - وَالْعَقَارِ) ، أَوِ الدُّيُونِ أَوِ النُّقُودِ الْغَائِبَةِ - مَا دَامَتْ كَذَلِكَ. فَإِذَا قَبَضَ الدَّيْنَ نُقُودًا، أَوْ حَضَرَتِ النُّقُودُ الْغَائِبَةُ - تَحَوَّلَتِ الْمُفَاوَضَةُ إِلَى عَنَانٍ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ اشْتِرَاطِ اسْتِمْرَارِ الْمُسَاوَاةِ (1) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: إِطْلاَقُ التَّصَرُّفِ لِكُل شَرِيكٍ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ:
31 - وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. فَيَتَّجِرُ كُل شَرِيكٍ فِي أَيِّ نَوْعٍ أَرَادَ، قَل أَوْ كَثُرَ، سَهُل أَوْ عَسُرَ، رَخُصَ أَوْ غَلاَ. حَتَّى لَوْ أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ تَشَارَطَا عَلَى أَنْ يَتَقَيَّدَا هُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا بِبَعْضِ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ - كَأَنْ لاَ يَتَّجِرَا فِي الْحَاصِلاَتِ الزِّرَاعِيَّةِ، أَوِ الآْلاَتِ الْمِيكَانِيكِيَّةِ، أَوْ أَنْ يَتَّجِرَ أَحَدُهُمَا فِي هَذِهِ دُونَ تِلْكَ، وَالآْخَرُ بِالْعَكْسِ - لَمْ تَكُنِ الشَّرِكَةُ مُفَاوَضَةً، بَل عَنَانًا؛ لأَِنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَقْتَضِي تَفْوِيضَ الرَّأْيِ فِي كُل مَا يَصْلُحُ لِلاِتِّجَارِ فِيهِ، وَعَدَمَ التَّقْيِيدِ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 61، فتح القدير والعناية على الهداية 5 / 6، رد المحتار 3 / 348.(26/53)
وَشَرْطُ إِطْلاَقِ التَّصَرُّفِ لِكِلاَ الشَّرِيكَيْنِ غَيْرُ مُقَرَّرٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُنَوِّعُونَ الْمُفَاوَضَةَ إِلَى عَامَّةٍ لَمْ تُقَيَّدْ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَتَاجِرِ دُونَ نَوْعٍ، وَخَاصَّةٍ - بِخِلاَفِهَا. كَمَا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَئُول كَلاَمُهُمْ إِلَى مِثْل هَذَا، لأَِنَّهُمْ - وَإِنْ كَانُوا يُقِرُّونَ مِنْهَا نَوْعًا شَامِلاً لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ - فَإِنَّهُمْ يُقَرِّرُونَ نَوْعًا آخَرَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَيِّدَ فِيهِ الشُّرَكَاءُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِقُيُودٍ بِعَيْنِهَا (1) .
شُرُوطٌ خَاصَّةٌ بِشَرِكَةِ الأَْعْمَال:
32 - الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهَا عَمَلاً: لأَِنَّ الْعَمَل هُوَ رَأْسُ الْمَال فِي شَرِكَةِ الأَْعْمَال - فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَمَلٌ، لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ. وَلَكِنْ يَكْفِي لِتَحَقُّقِ هَذَا الْعَمَل أَنْ يَتَعَاقَدَا عَلَى التَّقَبُّل: سَوَاءٌ أَجَعَلاَ التَّقَبُّل لِكِلَيْهِمَا أَمْ لأَِحَدِهِمَا عَمَلِيًّا، وَإِنْ كَانَ لِلآْخَرِ أَيْضًا نَظَرِيًّا أَيْ مِنْ حَقِّهِ (بِمُقْتَضَى عَقْدِ الشَّرِكَةِ) أَنْ يَتَقَبَّل الأَْعْمَال الْمُتَّفَقَ عَلَى تَقَبُّل نَوْعِهَا - إِذْ كُل شَرِيكٍ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الشَّرِكَةِ وَكِيلٌ عَنْ شَرِيكِهِ فِي هَذَا التَّقَبُّل، وَإِنْ لَمْ يُحْسِنِ الْعَمَل الْمُتَقَبَّل - لَكِنَّهُ، لأَِمْرٍ مَا، تَرَكَ التَّقَبُّل لِشَرِيكِهِ، فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ
__________
(1) فتح القدير 5 / 5، 6، الفتاوى الهندية 2 / 308، ومن قبلهم ابن نجيم، ومن بعدهم ابن عابدين رد المحتار 3 / 351، الخرشي على خليل 4 / 259، مطالب أولي النهى 3 / 553.(26/53)
أَجْدَى عَلَى الشَّرِكَةِ وَالشَّرِيكَيْنِ. حَتَّى لَوْ أَنَّهُ شَاءَ بَعْدَ هَذَا التَّرْكِ، أَنْ يُمَارِسَ حَقَّهُ فِي التَّقَبُّل، لَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ، فَإِذَا تَقَبَّل الْعَمَل أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بَعْدَ قِيَامِ الشَّرِكَةِ وَقَامَ بِهِ وَحْدَهُ - كَأَنْ تَقَبَّل الثَّوْبَ لِلْخِيَاطَةِ، وَقَطَعَهُ وَخَاطَهُ - فَالأَْجْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ مُنَاصَفَةً، إِنْ كَانَتِ الشَّرِكَةُ مُفَاوَضَةً، وَعَلَى مَا اتَّفَقَا إِنْ كَانَتْ عَنَانًا. ذَلِكَ أَنَّ التَّقَبُّل وَقَعَ عَنْهُمَا - إِذْ شَطْرُهُ عَنِ الشَّرِيكِ الآْخَرِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ - وَصَارَ الْعَمَل مَضْمُونًا عَلَيْهِمَا بَعْدَ التَّقَبُّل: فَانْفِرَادُ أَحَدِهِمَا بِهِ إِعَانَةُ مُتَبَرِّعٍ بِهَا بِالنِّسْبَةِ لِمَا كَانَ مِنْهُ عَلَى شَرِيكِهِ، وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (1) .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي خَلَتْ مِنْ عَمَل أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ: شَرِكَةُ قِصَارَةٍ (2) يَتَّفِقُ فِيهَا الشَّرِيكَانِ أَنْ يُقَدِّمَ أَحَدُهُمَا آلَةَ الْقِصَارَةِ، وَيَقُومَ الآْخَرُ بِالْعَمَل كُلِّهِ: تَقَبُّلاً وَإِنْجَازًا - وَلاَ شَأْنَ لِلأَْوَّل بَعْدُ، إِلاَّ فِي اقْتِسَامِ الرِّبْحِ. وَلِفَسَادِ هَذِهِ الشَّرِكَةِ، تَكُونُ الأُْجْرَةُ لِلْعَامِل؛ لأَِنَّهَا اسْتُحِقَّتْ بِعَمَلِهِ، وَعَلَيْهِ لِصَاحِبِ الآْلَةِ أُجْرَةُ مِثْل آلَتِهِ.
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الصُّورَةِ
__________
(1) رد المحتار 3 / 358، الفتاوى الهندية 2 / 329.
(2) هي المعروفة الآن بالمنجلة: فقد جاء في المصباح: قصرت الثوب قصرًا بيضته، والقصارة - بالكسر - الصناعة، والفاعل قصار.(26/54)
مَعَ تَصْرِيحِهِمْ - كَالْحَنَابِلَةِ - بِصِحَّةِ شَرِكَةِ الْقِصَارَةِ - وَغَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الصِّنَاعَاتِ - عَلَى أَنْ يَعْمَل الشَّرِيكَانِ بِآلَةِ أَحَدِهِمَا، فِي بَيْتِ الآْخَرِ - وَتَكُونَ الأُْجْرَةُ بَيْنَهُمَا؛ لأَِنَّهَا بَدَلٌ عَنِ الْعَمَل، لاَ عَنْ آلَتِهِ وَمَكَانِهِ: وَكُل مَا فِي الأَْمْرِ، أَنَّ أَحَدَهُمَا أَعَانَ مُتَبَرِّعًا بِنِصْفِ الآْلَةِ، وَأَعَانَ الآْخَرُ بِنِصْفِ الْمَكَانِ، نَعَمْ إِنْ فَسَدَتِ الشَّرِكَةُ قُسِمَ مَا حَصَل لَهُمَا عَلَى قَدْرِ أَجْرِ عَمَلِهِمَا، وَأَجْرِ الدَّارِ وَالآْلَةِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا قَدَّمَهُ كُل شَرِيكٍ، نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ (1) .
33 - وَكَوْنُ الشَّرِيكِ فِي شَرِكَةِ الأَْعْمَال، يَسْتَحِقُّ حِصَّتَهُ فِي الرِّبْحِ، وَلَوْ لَمْ يَعْمَل، هُوَ مَبْدَأٌ مُقَرَّرٌ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. عَلَى أَنَّ مِنْهُمْ - كَابْنِ قُدَامَةَ - مَنْ يُبْدِي احْتِمَال أَنْ يُحْرَمَ مِنْ حِصَّتِهِ فِي الرِّبْحِ مَنْ يَتْرُكُ الْعَمَل بِلاَ عُذْرٍ، لإِِخْلاَلِهِ بِمَا شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ.
وَمِمَّا قَرَّرَهُ الْمَالِكِيَّةُ - وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِأَنَّ فِيهِ فَسْخًا لِلشَّرِكَةِ - أَنَّ الشَّرِيكَ يَخْتَصُّ بِمَا يَتَقَبَّلُهُ مِنْ أَعْمَال الشَّرِكَةِ - بَعْدَ طُول مَرَضِ شَرِيكِهِ، أَوْ طُول غَيْبَتِهِ - ضَمَانًا، وَعَمَلاً، وَأُجْرَةَ عَمَلٍ. بِخِلاَفِ مَا تَقَبَّلَهُ فِي حُضُورِهِ صَحِيحًا أَوْ بَعْدَ غَيْبَتِهِ أَوْ مَرَضِهِ لِفَتْرَةٍ وَجِيزَةٍ (2) .
__________
(1) رد المحتار 3 / 358، بدائع الصنائع 6 / 64، مطالب أولي النهى 3 / 550.
(2) فتح القدير 5 / 33، رد المحتار 3 / 361، المغني لابن قدامة 5 / 115.(26/54)
34 - أَمَّا الآْلَةُ، فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَعْتَبِرُونَهَا مُتَمِّمَةً لِلْعَمَل. فَلاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لِحِصَّةِ الشَّرِيكِ فِي الْعَمَل: بِحَيْثُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْرِطَ عَلَيْهِ تَقْدِيمَ ثُلُثَيِ الآْلَةِ عَلَى حِينِ أَنَّ حِصَّتَهُ فِي الْعَمَل هِيَ الثُّلُثُ أَوِ النِّصْفُ، دُونَ أَنْ يَحْسِبَ حِسَابَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ - فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ الشَّرِكَةَ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ الرِّبْحِ وَالْعَمَل نَظَرًا إِلَى تَكْمِلَةِ الاِعْتِبَارِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ التَّجَاوُزُ عَنْ فَرْقٍ يَسِيرٍ يَتَبَرَّعُ بِهِ فِي الْعَقْدِ، أَمَّا التَّبَرُّعُ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَلاَ حَدَّ لَهُ. فَكَيْفَ إِذَا قَدَّمَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ آلَةَ الْعَمَل كُلَّهَا مَجَّانًا فِي الْعَقْدِ؟ عَلَى أَنَّ غَيْرَ سَحْنُونٍ وَصَحْبِهِ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - لاَ يَكْتَفُونَ بِهَذَا. بَل يَشْتَرِطُونَ أَنْ تَكُونَ الآْلَةُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ شَرِكَةَ مِلْكٍ: إِمَّا مِلْكَ عَيْنٍ، أَوْ مِلْكَ مَنْفَعَةٍ، أَوْ مِلْكَ عَيْنٍ مِنْ جَانِبٍ وَمِلْكَ مَنْفَعَةٍ مِنَ الآْخَرِ - كَمَا إِذَا كَانَتْ مِلْكًا لأَِحَدِهِمَا وَلَكِنَّهُ أَجَّرَ لِشَرِيكِهِ حِصَّةً مِنْهَا تُسَاوِي حِصَّتَهُ فِي الْعَمَل، أَوْ كَانَتْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا آلَةٌ هِيَ مِلْكٌ لَهُ خَاصٌّ، إِلاَّ أَنَّهُمَا تَكَارَيَا بَعْضَ هَذِهِ بِبَعْضِ تِلْكَ فِي حُدُودِ النِّسْبَةِ الْمَطْلُوبَةِ. بَل إِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ لَيُحَتِّمُ أَنْ يَكُونَا فِي ضَمَانِ الآْلَةِ سَوَاءً: فَلاَ يَسُوغُ أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمَا بِمِلْكِ رَقَبَةٍ لأَِحَدِهِمَا، وَمِلْكِ مَنْفَعَةٍ لِلآْخَرِ.
وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةُ يُوَافِقُونَ عَلَى الْحُكْمِ بِالْفَسَادِ(26/55)
فِي حَالَةِ اشْتِرَاطِ الْعَمَل عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ. لَكِنِ اخْتَارَ ابْنُ قُدَامَةَ الصِّحَّةَ، وَقَال: إِنَّهُ قِيَاسُ نَصِّ أَحْمَدَ وَالأَْوْزَاعِيِّ فِيمَنْ دَفَعَ دَابَّتَهُ إِلَى آخَرَ لِيَعْمَل عَلَيْهَا وَالْكَسْبُ بَيْنَهُمَا. وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ (1) .
وَالشَّافِعِيَّةُ يُطْلِقُونَ الْقَوْل بِالْفَسَادِ: سَوَاءٌ اشْتُرِطَ الْعَمَل عَلَى الْجَمِيعِ أَمْ عَلَى بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ؛ لأَِنَّ هَذِهِ أَمْوَالٌ مُتَمَايِزَةٌ فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ تَجْمَعَهَا شَرِكَةٌ صَحِيحَةٌ. فَتُطَبَّقُ أَحْكَامُ الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ (2) .
35 - الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَمَل الْمُشْتَرَكُ فِيهِ يُمْكِنُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ الإِْجَارَةِ: كَالنِّسَاجَةِ وَالصِّبَاغَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَكَالصِّيَاغَةِ وَالْحِدَادَةِ وَالنِّجَارَةِ، وَكَتَعْلِيمِ الْكِتَابَةِ أَوِ الْحِسَابِ أَوِ الطِّبِّ أَوِ الْهَنْدَسَةِ أَوِ الْعُلُومِ الأَْدَبِيَّةِ - وَكَذَلِكَ، عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ اسْتِحْسَانًا تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ - وَإِنْ كَانَ الأَْصْل فِيهَا عَدَمُ صِحَّةِ الإِْجَارَةِ عَلَيْهَا كَسَائِرِ الْقُرَبِ.
أَمَّا مَا لاَ يُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الإِْجَارَةِ، فَلاَ تَصِحُّ فِيهِ شَرِكَةُ الأَْعْمَال. وَهَذَا يَنْتَظِمُ جَمِيعَ الْمَحْظُورَاتِ الشَّرْعِيَّةِ: كَالنِّيَاحَةِ عَلَى الْمَوْتَى،
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 268، 270 - 271، بلغة السالك 2 / 172، مطالب أولي النهى 3 / 550، المغني 5 / 17.
(2) بداية المجتهد 2 / 226، مغني المحتاج 2 / 216.(26/55)
وَالأَْغَانِي الْخَلِيعَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالأَْنْغَامِ الْمُخِلَّةِ بِصِحَّةِ الأَْدَاءِ - كَمَا يَنْتَظِمُ جَمِيعَ الْقُرَبِ - عَدَا مَا اسْتَثْنَاهُ الْمُتَأَخِّرُونَ لِلضَّرُورَةِ، لِئَلاَّ تَضِيعَ الْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ، أَوْ تَتَعَطَّل الشَّعَائِرُ الدِّينِيَّةُ: كَالإِْمَامَةِ وَالأَْذَانِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ (1) . فَلاَ يَصِحُّ التَّعَاقُدُ عَلَى إِنْشَاءِ شَرِكَةِ وُعَّاظٍ تَعِظُ النَّاسَ وَتُذَكِّرُهُمْ بِالأُْجْرَةِ، وَكَذَلِكَ لاَ تَصِحُّ شَرِكَةُ الشُّهُودِ؛ لأَِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الشَّرْعِ إِنْ كَانَتْ زُورًا، وَمِنَ الْقُرُبَاتِ أَوِ الْفَرَائِضِ إِنْ كَانَتْ حَقًّا - سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ التَّحَمُّل وَالأَْدَاءُ، عَلَى مَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مَوْضِعِهِ (2) .
شَرْطٌ خَاصٌّ بِشَرِكَةِ الْوُجُوهِ:
36 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَكَذَلِكَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ بِنِسْبَةِ ضَمَانِهِمَا الثَّمَنَ: وَضَمَانُهُمَا الثَّمَنَ إِنَّمَا هُوَ بِنِسْبَةِ حِصَصِهِمَا فِيمَا يَشْتَرِيَانِهِ مَعًا، أَوْ كُلٌّ عَلَى انْفِرَادٍ. وَمِقْدَارُ هَذِهِ الْحِصَصِ يَتْبَعُ الشَّرْطَ الَّذِي وَقَعَ التَّشَارُطُ عَلَيْهِ عِنْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ. فَمِنَ الْجَائِزِ الْمَشْرُوعِ أَنْ يَتَعَاقَدَا فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ كُل مَا يَشْتَرِيَانِهِ أَوْ يَشْتَرِيهِ أَحَدُهُمَا بَيْنَهُمَا
__________
(1) مجمع الأنهر 2 / 369، رد المحتار 3 / 358، 359.
(2) مجمع الأنهر 2 / 177، 178، الفواكه الدواني 2 / 172، حواشي التحفة لابن عاصم 2 / 215، الفروع 2 / 729.(26/56)
مُنَاصَفَةً، أَوْ عَلَى التَّفَاوُتِ الْمَعْلُومِ أَيَّمَا كَانَ - كَأَنْ يَكُونَ لأَِحَدِهِمَا الثُّلُثُ أَوِ الرُّبُعُ، أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَل، وَلِلآْخَرِ الثُّلُثَانِ أَوِ الثَّلاَثَةُ الأَْرْبَاعُ إِلَخْ. وَإِذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ لاَ تَكُونُ إِلاَّ عَلَى التَّسَاوِي فِي الرِّبْحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ هُنَا أَنْ تَكُونَ عَلَى التَّسَاوِي فِي حِصَصِ الْمُشْتَرِي وَثَمَنِهِ أَيْضًا.
فَإِذَا شُرِطَ لأَِحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الرِّبْحِ أَكْثَرُ أَوْ أَقَل مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ الضَّمَانِ فَهُوَ شَرْطٌ بَاطِلٌ لاَ أَثَرَ لَهُ، وَيَظَل الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ ضَمَانِهِمَا؛ لأَِنَّهُ لاَ يُوجَدُ فِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ سَبَبٌ لاِسْتِحْقَاقِ الرِّبْحِ سِوَى الضَّمَانِ، فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ. ذَلِكَ أَنَّ الرِّبْحَ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالْمَال أَوِ الْعَمَل أَوِ الضَّمَانِ، كَمَا سَيَجِيءُ فِي الأَْحْكَامِ، وَلاَ مَال هُنَا وَلاَ عَمَل، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بِسَبَبِ الضَّمَانِ، وَإِذَنْ تَكُونُ قِسْمَتُهُ بِحَسَبِهِ. لِئَلاَّ يَلْزَمَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الرِّبْحَ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الشَّرِيكَيْنِ شَرِكَةَ وُجُوهٍ يَتَّجِرَانِ، وَالتِّجَارَةُ عَمَلٌ يَتَفَاوَتُ كَيْفًا، كَمَا يَتَفَاوَتُ كَمًّا، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْقَائِمِينَ بِهِ نَشَاطًا وَخِبْرَةً - فَالْعَدَالَةُ أَنْ تُتْرَكَ الْحُرِّيَّةُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ لِيُقَدِّرَا كُل حَالَةٍ بِحَسَبِهَا: حَتَّى إِذَا اقْتَضَتِ التَّفَاوُتَ فِي الرِّبْحِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا مِنْ حَرَجٍ(26/56)
فِي التَّشَارُطِ عَلَيْهِ وَفْقَ مَا يَرَيَانِ. نَظِيرُهُ، لِنَفْسِ هَذَا الْمُدْرَكِ، شَرِكَاتُ الْعَنَانِ الأُْخْرَى، وَالْمُضَارَبَةِ، إِذْ يَكْفِي فِيهِمَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ بِنِسْبَةٍ مَعْلُومَةٍ، عَلَى التَّسَاوِي أَوِ التَّفَاوُتِ - بَالِغًا مَا بَلَغَ هَذَا التَّفَاوُتُ (1) .
أَحْكَامُ الشَّرِكَةِ وَالآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهَا:
أَوَّلاً - أَحْكَامٌ عَامَّةٌ
أ - الاِشْتِرَاكُ فِي الأَْصْل وَالْغَلَّةِ:
37 - حُكْمُ شَرِكَةِ الْعَقْدِ صَيْرُورَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَمَا يُسْتَفَادُ بِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا (أَيِ الْعَاقِدَيْنِ) (2) .
ب - عَدَمُ لُزُومِ الْعَقْدِ:
38 - وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ. فَلِكُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَسْتَقِل بِفَسْخِ الشَّرِكَةِ، رَضِيَ الآْخَرُ أَمْ أَبَى، حَضَرَ أَمْ غَابَ، كَانَ نُقُودًا أَمْ عُرُوضًا.
لَكِنَّ الْفَسْخَ لاَ يَنْفَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ مِنْ حِينِ عِلْمِ الآْخَرِ بِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ عَزْلِهِ عَمَّا كَانَ لَهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَهُوَ عَزْلٌ قَصْدِيٌّ آثَرَهُ الْفَاسِخُ بِاخْتِيَارِهِ، فَلاَ يُسَلَّطُ عَلَى الإِْضْرَارِ بِغَيْرِهِ.
__________
(1) الفروع 2 / 731، والمغني لابن قدامة 5 / 123، 141.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 302.(26/57)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَلَمْ يَشْتَرِطُوا عِلْمَ الشَّرِيكِ بِالْفَسْخِ، كَمَا فِي عَزْل الْوَكِيل (1) .
نَعَمْ شَرَطَ الطَّحَاوِيُّ، وَأَيَّدَهُ الزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَمَعَهُمَا ابْنُ رُشْدٍ الْمَالِكِيُّ وَحَفِيدُهُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ (2) - أَنْ يَكُونَ الْمَال نَاضًّا لاَ عُرُوضًا، وَإِلاَّ فَالشَّرِكَةُ بَاقِيَةٌ، وَالْفَسْخُ لاَغٍ. إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْبَعْضَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يُلْغُونَ الْفَسْخَ، وَإِنَّمَا يُوقِفُونَهُ إِلَى النُّضُوضِ: فَيَظَل لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عِنْدَهُمُ التَّصَرُّفُ فِي مَال الشَّرِكَةِ مِنْ أَجْل نُضُوضِهِ - حَتَّى يَتِمَّ، وَلَيْسَ لَهُمَا أَيْ تَصَرُّفٍ آخَرَ، كَالرَّهْنِ أَوِ الْحَوَالَةِ أَوِ الْبَيْعِ بِغَيْرِ النَّقْدِ الَّذِي يَنِضُّ بِهِ الْمَال (3) .
وَيُعَدُّ مِنْ قَبِيل الْفَسْخِ، أَنْ يَقُول الشَّرِيكُ لِشَرِيكِهِ: لاَ أَعْمَل مَعَكَ فِي الشَّرِكَةِ. فَإِذَا تَصَرَّفَ الآْخَرُ فِي مَال الشَّرِكَةِ بَعْدَ هَذَا، فَهُوَ ضَامِنٌ لِحِصَّةِ شَرِيكِهِ فِي هَذَا الْمَال عِنْدَ الْفَسْخِ: مِثْلاً فِي الْمِثْلِيِّ، وَقِيمَةً فِي الْمُتَقَوِّمِ (4) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 215، مطالب أولي النهى 3 / 502.
(2) بلغة السالك 2 / 168، بداية المجتهد 2 / 255، الفروع 2 / 727.
(3) المغني لابن قدامة 5 / 33، الفروع 2 / 727، بدائع الصنائع، فتح القدير 5 / 34، رد المحتار 3 / 362.
(4) فتح القدير 5 / 34، مجمع الأنهر 2 / 439.(26/57)
39 - وَبِنَاءً عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ النَّضُوضِ، إِذَا اتَّفَقَ أَنْ كَانَ الْمَال عُرُوضًا عِنْدَمَا انْتَهَتِ الشَّرِكَةُ، فَإِنَّ لِلشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَفْعَلاَ مَا يَرَيَانِهِ: مِنْ قِسْمَتِهِ، أَوْ بَيْعِهِ وَقِسْمَةِ ثَمَنِهِ. فَإِنِ اخْتَلَفَا، فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ، وَآثَرَ الآْخَرُ الْبَيْعَ، أُجِيبَ طَالِبُ الْقِسْمَةِ؛ لأَِنَّهَا تُحَقِّقُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَسْتَحِقُّهُ أَصْلاً وَرِبْحًا، دُونَ حَاجَةٍ إِلَى تَكَلُّفِ مَزِيدٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ. وَمِنْ هُنَا يُفَارِقُ الشَّرِيكُ الْمُضَارِبَ، إِذِ الْمُضَارِبُ إِنَّمَا يَظْهَرُ حَقُّهُ بِالْبَيْعِ. فَإِذَا طَلَبَهُ أُجِيبَ إِلَيْهِ. هَكَذَا قَرَّرَهُ الْحَنَابِلَةُ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ - عَدَا ابْنَ رُشْدٍ وَحَفِيدَهُ وَمَنْ تَابَعَهُمَا - فَعِنْدَهُمْ أَنَّ عَقْدَ الشَّرِكَةِ عَقْدٌ لاَزِمٌ.
وَيَسْتَمِرُّ هَذَا اللُّزُومُ إِلَى أَنْ يَنِضَّ الْمَال، أَوْ يَتِمَّ الْعَمَل الَّذِي تُقُبِّل، وَقَدِ اسْتَظْهَرَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ الْقَوْل عِنْدَهُمْ أَيْضًا بِلُزُومِ شَرِكَةِ الأَْعْمَال بَعْدَ التَّقَبُّل (2) .
ج - يَدُ الشَّرِيكِ يَدُ أَمَانَةٍ:
40 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ يَدَ الشَّرِيكِ يَدُ أَمَانَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِمَال الشَّرِكَةِ، أَيًّا كَانَ نَوْعُهَا.
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 133، 134.
(2) فتح القدير 5 / 27، مجمع الأنهر 2 / 580 بلغة السالك 2 / 165، الفواكه الدواني 2 / 182، الخرشي على خليل 4 / 255، 267، مطالب أولي النهى 3 / 547.(26/58)
لأَِنَّهُ كَالْوَدِيعَةِ مَالٌ مَقْبُوضٌ بِإِذْنِ مَالِكِهِ، لاَ لِيَسْتَوْفِيَ بَدَلَهُ، وَلاَ يَسْتَوْثِقَ بِهِ (1) .
وَالْقَاعِدَةُ فِي الأَْمَانَاتِ أَنَّهَا لاَ تُضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّقْصِيرِ، وَإِذَنْ فَمَا لَمْ يَتَعَدَّ الشَّرِيكُ أَوْ يُقَصِّرْ، فَإِنَّهُ لاَ يَضْمَنُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ، وَلَوْ ضَاعَ مَال الشَّرِكَةِ أَوْ تَلِفَ. وَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ وَالْخَسَارَةِ، وَضَيَاعِ الْمَال أَوْ تَلَفِهِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا، وَدَعْوَى دَفْعِهِ إِلَى شَرِيكِهِ (2) .
41 - وَمِنَ النَّتَائِجِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى أَمَانَةِ الشَّرِيكِ، وَقَبُول قَوْلِهِ بِيَمِينِهِ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ وَالْخَسَارَةِ، وَالذَّاهِبِ وَالْمُتَبَقِّي، أَنَّهُ - كَسَائِرِ الأُْمَنَاءِ، مِثْل الْوَصِيِّ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ - لاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَدِّمَ حِسَابًا مُفَصَّلاً. فَحَسْبُهُ أَنْ يَقُول عَلَى الإِْجْمَال: لَمْ يَبْقَ عِنْدِي مِنْ رَأْسِ مَال الشَّرِكَةِ إِلاَّ كَذَا، أَوْ تَجَشَّمْتُ مِنَ الْخَسَارَةِ كَذَا، أَوْ لَمْ أُصِبْ مِنَ الرِّبْحِ إِلاَّ كَذَا. فَإِنْ قُبِل مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلاَّ حَلَفَ، وَلاَ مَزِيدَ.
هَكَذَا أَفْتَى قَارِئُ الْهِدَايَةِ، وَأَطْلَقَ
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 64، الخرشي على خليل 4 / 262، مطالب أولي النهى 3 / 503، أشباه السيوطي 283، قواعد ابن رجب 67، رد المحتار 4 / 505، بلغة السالك 2 / 169، 170، دليل الطالب 143، الفروع 2 / 727، نهاية المحتاج 5 / 12، مغني المحتاج 2 / 216، البجيرمي على المنهج 3 / 297.
(2) رد المحتار 3 / 356، 357، الإتحاف بأشباه ابن نجيم 338.(26/58)
الْفَتْوَى وَلَكِنَّهُمْ قَيَّدُوهَا مِنَ النَّاحِيَةِ الْقَضَائِيَّةِ - بِمَا إِذَا كَانَ الأَْمِينُ مَعْرُوفًا بِالأَْمَانَةِ فِي وَاقِعِ الأَْمْرِ، وَإِلاَّ فَإِنَّهُ يُطَالَبُ بِالتَّفْصِيل وَيُهَدِّدُهُ الْقَاضِي إِنْ لَمْ يَفْعَل. بَيْدَ أَنَّهُ إِنْ أَصَرَّ عَلَى الإِْجْمَال فَلاَ سَبِيل عَلَيْهِ وَرَاءَ يَمِينِهِ (1) .
وَهَكَذَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ، إِذْ يَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ الشَّرِيكَ إِذَا ادُّعِيَتْ عَلَيْهِ خِيَانَةٌ فَالأَْصْل عَدَمُهَا (2) .
وَمِنَ التَّعَدِّي: مُخَالَفَةُ نَهْيِ شَرِيكِهِ: فَإِنَّ كُل مَا لِلشَّرِيكِ فِعْلُهُ مِنْ كَيْفِيَّاتِ التَّصَرُّفِ إِذَا نَهَاهُ عَنْهُ شَرِيكُهُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ - فَإِذَا خَالَفَهُ ضَمِنَ حِصَّةَ شَرِيكِهِ: كَمَا لَوْ قَال لَهُ: لاَ تَرْكَبِ الْبَحْرَ بِمَال التِّجَارَةِ، فَرَكِبَ، أَوْ لاَ تَبِعْ إِلاَّ نَقْدًا، فَبَاعَ نَسِيئَةً (3) .
وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَرَّرَهُ الْحَنَابِلَةُ: إِذْ يَقُولُونَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلشَّرِيكِ بَيْعُ النَّسِيئَةِ فَبَاعَهُ، كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلاً؛ لأَِنَّهُ وَقَعَ بِلاَ إِذْنٍ - إِلاَّ إِذَا جَرَيْنَا عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ مَوْقُوفٌ، فَيَكُونُ مَوْقُوفًا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ - مِنْهُمُ الصِّحَّةَ مَعَ الضَّمَانِ - إِلاَّ أَنَّهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ، بِخِلاَفِهِ فِي قَوْل الْبُطْلاَنِ،
__________
(1) رد المحتار 3 / 357، 438، الإتحاف بأشباه ابن نجيم 337، رد المحتار 3 / 357.
(2) المهذب 1 / 345، بداية المجتهد 2 / 280، المغني والشرح الكبير 5 / 129.
(3) وانظر استدراك ابن عابدين عليه في المسألة الأولى، دون جدوى (رد المحتار 3 / 357) .(26/59)
فَإِنَّهُ ضَمَانُ الْقِيمَةِ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ هُوَ ضَمَانَ الْقِيمَةِ عَلَى كُل حَالٍ - لأَِنَّهُ لَمْ يَفُتْ مِنَ الْمَال سِوَاهَا (1) .
وَمِنَ التَّعَدِّي أَنْ يَحْمِل نَصِيبَ شَرِيكِهِ حَتَّى يَمُوتَ، فَإِنْ مَاتَ دُونَ أَنْ يُبَيِّنَ حَال نَصِيبِ شَرِيكِهِ: هَل اسْتَوْفَاهُ شَرِيكُهُ، أَوْ ضَاعَ، أَوْ تَلِفَ بِتَعَدٍّ، أَوْ بِدُونِهِ، أَمْ لاَ؟ وَهَل هُوَ عَيْنٌ عِنْدَهُ أَمْ عِنْدَ غَيْرِهِ أَمْ دُيُونٌ عَلَى النَّاسِ؟ فَإِنَّهُ إِذَنْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فِي مَال تَرِكَتِهِ - إِلاَّ إِذَا عَرَفَهُ الْوَارِثُ، وَبَرْهَنَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ إِيَّاهُ، وَبَيَّنَ بِمَا يَنْفِي ضَمَانَهُ. وَهَذَا هُوَ مُفَادُ قَوْل ابْنِ نُجَيْمٍ فِي الأَْشْبَاهِ: " وَمَعْنَى مَوْتِهِ مُجَهِّلاً، أَنْ لاَ يُبَيِّنَ حَال الأَْمَانَةِ، وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ وَارِثَهُ لاَ يَعْلَمُهَا ". (2)
وَقَدْ عَبَّرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَنِ التَّجْهِيل الْمَذْكُورِ بِتَرْكِ الإِْيصَاءِ. لَكِنَّهُمْ فِيهِ أَشَدُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِذْ لاَ يُعْفِي الشَّرِيكَ مِنَ الضَّمَانِ عِنْدَهُمْ أَنْ يُوصِيَ إِلَى وَارِثِهِ بِمَا لَدَيْهِ لِشَرِيكِهِ، بَل لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ إِلَى الْقَاضِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِلَى أَمِينٍ مَعَ الإِْشْهَادِ عَلَيْهَا (3) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَكَالْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ يُسْقِطُونَ الضَّمَانَ بِمُضِيِّ عَشْرِ سِنِينَ، وَيَقُولُونَ يُحْمَل
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 150، 151.
(2) الإتحاف بأشباه ابن نجيم 415.
(3) البجيرمي على المنهج 3 / 293، الفروع 2 / 787.(26/59)
عَلَى أَنَّهُ رَدَّ الْمَال، إِذَا كَانَ أَخَذَهُ بِدُونِ بَيِّنَةِ تَوْثِيقٍ (1)
د - اسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ:
42 - لاَ يُسْتَحَقُّ الرِّبْحُ إِلاَّ بِالْمَال أَوِ الْعَمَل أَوِ الضَّمَانِ؛ فَهُوَ يُسْتَحَقُّ بِالْمَال، لأَِنَّهُ نَمَاؤُهُ فَيَكُونُ لِمَالِكِهِ. وَمِنْ هُنَا اسْتَحَقَّهُ رَبُّ الْمَال فِي رِبْحِ الْمُضَارَبَةِ. وَهُوَ يُسْتَحَقُّ بِالْعَمَل حِينَ يَكُونُ الْعَمَل: سَبَبَهُ: كَنَصِيبِ الْمُضَارِبِ فِي رِبْحِ الْمُضَارَبَةِ، اعْتِبَارًا بِالإِْجَارَةِ.
وَيُسْتَحَقُّ بِالضَّمَانِ كَمَا فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ. لِقَوْلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ أَوِ الْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ (2) أَيْ مَنْ ضَمِنَ شَيْئًا فَلَهُ غَلَّتُهُ. وَلِذَا سَاغَ لِلشَّخْصِ أَنْ يَتَقَبَّل الْعَمَل مِنَ الأَْعْمَال كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ - وَيَتَعَهَّدَ بِإِنْجَازِهِ لِقَاءَ أَجْرٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ يَتَّفِقَ مَعَ آخَرَ عَلَى الْقِيَامِ بِهَذَا الْعَمَل بِأَجْرٍ أَقَل مِنَ الأَْجْرِ الأَْوَّل، وَيَرْبَحَ هُوَ فَرْقَ مَا بَيْنَهُمَا حَلاَلاً طَيِّبًا - لِمُجَرَّدِ أَنَّهُ ضَمِنَ الْعَمَل، دُونَ أَنْ يَقُومَ بِهِ: وَعَسَى أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ مَالٌ أَصْلاً.
فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدُ هَذِهِ الأَْسْبَابِ الثَّلاَثَةِ، الَّتِي لاَ يُسْتَحَقُّ الرِّبْحُ إِلاَّ بِوَاحِدٍ مِنْهَا، لَمْ
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 329، بلغة السالك 2 / 203.
(2) حديث: (الخراج بالضمان) أخرجه أبو داود (3 / 780 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3 / 22 - ط شركة الطباعة الفنية) .(26/60)
يَكُنْ ثَمَّ سَبِيلٌ إِلَيْهِ. وَلِذَا لاَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقُول شَخْصٌ لآِخَرَ: تَصَرَّفْ فِي مَالِكِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ لِي، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَنَا - فَإِنَّ هَذَا عَبَثٌ مِنَ الْعَبَثِ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْل الْفِقْهِ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَال دُونَ مُزَاحِمٍ (1) .
43 - وَفِي شَرِكَتَيِ الأَْمْوَال (الْمُفَاوَضَةِ وَالْعَنَانِ) مَالٌ وَعَمَلٌ عَادَةً. وَالرِّبْحُ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ دَائِمًا عَلَى التَّسَاوِي كَمَا عَلِمْنَاهُ. أَمَّا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ: فَالرِّبْحُ بِحَسَبِ الْمَالَيْنِ، إِذَا رَأَى الشَّرِيكَانِ إِغْفَال النَّظَرِ إِلَى الْعَمَل، وَلَهُمَا أَنْ يَجْعَلاَ لِشَرْطِ الْعَمَل قِسْطًا مِنَ الرِّبْحِ يَسْتَأْثِرُ بِهِ - زَائِدًا عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ فِي الرِّبْحِ بِمُقْتَضَى حِصَّتِهِ فِي رَأْسِ الْمَال - مَنْ شُرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَل فِي الشَّرِكَةِ: لِئَلاَّ يَكُونَ قَدِ اسْتَحَقَّهُ بِلاَ مَالٍ وَلاَ عَمَلٍ وَلاَ ضَمَانٍ: سَوَاءٌ أَشَرَطَ عَلَى شَرِيكِهِ أَنْ يَعْمَل أَيْضًا أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ عَمِل هُوَ بِمُقْتَضَى الشَّرْطِ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ الْمَنَاطَ هُوَ اشْتِرَاطُ الْعَمَل، لاَ وُجُودُهُ.
وَمِنْ هُنَا كَانَ سَائِغًا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ أَنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 62، فتح القدير 5 / 31، حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 214، نهاية المحتاج 6 / 8، رد المحتار 3 / 352، بلغة السالك 2 / 70، الفواكه الدواني 2 / 173، مغني المحتاج 2 / 215، الشرقاوي على التحرير 2 / 112، الباجوري على ابن قاسم 1 / 400، المغني لابن قدامة 5 / 140.(26/60)
يَتَسَاوَى الْمَالاَنِ وَيَتَفَاضَل الشَّرِيكَانِ فِي الرِّبْحِ، وَأَنْ يَتَفَاضَل الْمَالاَنِ وَيَتَسَاوَى الرِّبْحَانِ - عَلَى نَحْوِ مَا وَضَعْنَا لاَ بِإِطْلاَقٍ، وَلاَ حِينَ لاَ يُتَعَرَّضُ لِشَرْطِ الْعَمَل: وَإِلاَّ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَالرِّبْحُ بِحَسَبِ الْمَالَيْنِ. أَمَّا الْخَسَارَةُ فَهِيَ أَبَدًا بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ لأَِنَّهَا جُزْءٌ ذَاهِبٌ مِنَ الْمَال، فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ.
وَقَال صَاحِبُ النَّهْرِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: " اعْلَمْ أَنَّهُمَا إِذَا شَرَطَا الْعَمَل عَلَيْهِمَا: إِنْ تَسَاوَيَا مَالاً وَتَفَاوَتَا رِبْحًا، جَازَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلاَثَةِ، خِلاَفًا لِزُفَرَ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا، وَإِنْ عَمِل أَحَدُهُمَا فَقَطْ. وَإِنْ شَرَطَاهُ عَلَى أَحَدِهِمَا: فَإِنْ شَرَطَا الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ رَأْسِ مَالِهِمَا جَازَ، وَيَكُونُ مَال الَّذِي لاَ عَمَل لَهُ بِضَاعَةٌ عِنْدَ الْعَامِل، لَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ، وَإِنْ شَرَطَا الرِّبْحَ لِلْعَامِل - أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ - جَازَ أَيْضًا عَلَى الشَّرْطِ. وَيَكُونُ مَال الدَّافِعِ عِنْدَ الْعَامِل مُضَارَبَةً، وَلَوْ شَرَطَا الرِّبْحَ لِلدَّافِعِ - أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ - لاَ يَصِحُّ الشَّرْطُ، وَيَكُونُ مَال الدَّافِعِ عِنْدَ الْعَامِل بِضَاعَةً: لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِبْحُ مَالِهِ - وَالْوَضِيعَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ مَالِهِمَا أَبَدًا ( x661 ;) .
44 - وَقَاعِدَةُ الرِّبْحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ - كَالْخَسَارَةِ - لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ -
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 62، رد المحتار 3 / 352.(26/61)
فَلَوْ وَقَعَ التَّشَارُطُ عَلَى خِلاَفِ ذَلِكَ كَانَ الْعَقْدُ نَفْسُهُ بَاطِلاً (1) .
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَالرِّبْحُ بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ مَا لَمْ يُشْتَرَطْ خِلاَفُهُ، فَيُعْمَل بِمُقْتَضَى الشَّرْطِ (2) . وَتَفَرَّدَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ بِمُوَافَقَةِ الْحَنَفِيَّةِ تَمَامَ الْمُوَافَقَةِ: فَالرِّبْحُ عِنْدَهُمْ بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ إِلاَّ أَنْ تُشْتَرَطَ الزِّيَادَةُ لِعَامِلٍ فَيَصِحُّ الشَّرْطُ حِينَئِذٍ (3) .
وَيُضِيفُ الْمَالِكِيَّةُ اشْتِرَاطَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَل أَيْضًا بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ. وَإِلاَّ فَسَدَتِ الشَّرِكَةُ: كَمَا لَوْ كَانَتْ حِصَّةُ أَحَدِهِمَا فِي رَأْسِ الْمَال مِائَةً، وَحِصَّةُ الآْخَرِ مِائَتَيْنِ، وَتَعَاقَدَا عَلَى التَّسَاوِي فِي الْعَمَل. فَإِنْ وَضَعَا هَذِهِ الشَّرِكَةَ مَوْضِعَ التَّنْفِيذِ، اسْتَحَقَّ الشَّرِيكُ بِالثُّلُثِ الرُّجُوعَ عَلَى الآْخَرِ بِسُدُسِ عَمَلِهِ، أَيْ بِأُجْرَةِ مِثْل ذَلِكَ. نَعَمْ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ يَجُوزُ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِشَيْءٍ مِنَ الْعَمَل، أَوْ بِالْعَمَل كُلِّهِ (4) .
أَمَّا فِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى، فَهُمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّ الْعَمَل فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ
__________
(1) بلغة السالك 2 / 70، الفواكه الدواني 2 / 173 - مغني المحتاج 2 / 215.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 140.
(3) ومعلوم أن هذا عندهم في غير شركة المفاوضة، رد المحتار 3 / 352، مطالب أولي النهى 3 / 499.
(4) الخرشي على خليل 4 / 261، والفواكه الدواني 2 / 173.(26/61)
مِنْ وَاحِدٍ: عَلَى مَعْنَى أَنْ يَأْذَنَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِلآْخَرِ فِي التَّصَرُّفِ، دُونَ الْعَكْسِ - فَيَتَصَرَّفَ الْمَأْذُونُ فِي جَمِيعِ مَال الشَّرِكَةِ، وَلاَ يَتَصَرَّفَ الآْذِنُ إِلاَّ فِي مَال نَفْسِهِ - إِنْ شَاءَ - وَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ عَدَمَ التَّصَرُّفِ فِي مَال نَفْسِهِ، بَل إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَيُبْطِل الْعَقْدَ نَفْسَهُ - لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَجْرِ عَلَى الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ. أَمَّا أَنْ يَتَعَهَّدَ هُوَ بِأَنْ لاَ يَعْمَل وَيَشْرِطَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ فَالْحَنَابِلَةُ يُصَحِّحُونَ اشْتِرَاطَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَل مَقْصُورًا عَلَى أَحَدِهِمَا: ثُمَّ إِنْ جُعِلَتْ لَهُ لِقَاءَ عَمَلِهِ زِيَادَةٌ فِي الرِّبْحِ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ بِحِصَّتِهِ فِي الْمَال، فَإِنَّهَا تَكُونُ شَرِكَةَ عَنَانٍ وَمُضَارَبَةٍ، وَإِنْ جُعِل الرِّبْحُ بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ، دُونَ زِيَادَةٍ، لَمْ تَكُنْ شَرِكَةً، بَل تَكُونُ إِبْضَاعًا، وَإِنْ جُعِلَتِ الزِّيَادَةُ لِغَيْرِ الْعَامِل، بَطَل الشَّرْطُ فِي الأَْصَحِّ - أَيْ وَكَانَتْ إِبْضَاعًا أَيْضًا، كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلاَمِهِمْ إِلاَّ أَنَّ فِي كَلاَمِ ابْنِ قُدَامَةَ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ شَرِكَةَ الْعَنَانِ تَقْتَضِي الاِشْتِرَاكَ فِي الْعَمَل (1) .
أَحْكَامٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمُفَاوَضَةِ وَالْعَنَانِ:
45 - أَوَّلاً: صِحَّتُهُمَا مَعَ اخْتِلاَفِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَال وَوَصْفِهِ:
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 213، الفروع 2 / 725، مطالب أولي النهى 3 / 499.(26/62)
وَمَتَى اتَّفَقَ فِي تَقْدِيرِ بَعْضِ أَهْل الْخِبْرَةِ تَسَاوِي الْمَالَيْنِ، فَهَذَا كَافٍ لِتَتَحَقَّقَ الشَّرِيطَةُ الْمَطْلُوبَةُ.
وَلاَ يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُفَاوَضَةِ وَلاَ فِي الْعَنَانِ اتِّحَادَ جِنْسِ رَأْسِ الْمَال وَلاَ وَصْفِهِ. فَتَصِحَّانِ مَعَ اخْتِلاَفِ جِنْسِ الْمَالَيْنِ - سَوَاءٌ قَدَّرَا عَلَى التَّسَاوِي أَمْ عَلَى التَّفَاوُتِ، مَهْمَا تَكُنْ دَرَجَةُ هَذَا التَّفَاوُتِ، أَمْ لَمْ يُقَدِّرَا عِنْدَ الْعَقْدِ (1) (وَتَصِحُّ) بِخِلاَفِ الْجِنْسِ: كَدَنَانِيرَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَدَرَاهِمَ مِنَ الآْخَرِ، وَبِخِلاَفِ الْوَصْفِ: كَبِيضٍ وَسُودٍ - وَإِنْ تَفَاوَتَتْ قِيمَتُهَا (2) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ - دُونَ الْوَصْفِ، فِي النُّقُودِ خَاصَّةً، وَهَذَا عِنْدَ جَمَاهِيرِهِمْ خِلاَفًا لأَِشْهَبَ وَسَحْنُونٍ.
46 - ثَانِيًا: صِحَّتُهُمَا مَعَ عَدَمِ خَلْطِ الْمَالَيْنِ:
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
47 - ثَالِثًا: صِحَّتُهُمَا مَعَ عَدَمِ تَسْلِيمِ الْمَالَيْنِ:
لاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ أَوِ الْعَنَانِ، أَنْ يُخَلِّيَ كُل شَرِيكٍ بَيْنَ مَالِهِ وَشَرِيكِهِ، بِخِلاَفِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 61، فتح القدير 5 / 6.
(2) رد المحتار 3 / 351، 352.(26/62)
الْمُضَارَبَةِ - إِذْ تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهَا عَلَى تَسْلِيمِ الْمَال إِلَى الْمُضَارِبِ كَمَا سَيَجِيءُ.
48 - رَابِعًا: لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَبِيعَ نَقْدًا وَنَسِيئَةً.
لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ مُسَاوَمَةً وَمُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً وَمُوَاضَعَةً، وَكَيْفَ رَأَى الْمَصْلَحَةَ لأَِنَّ هَذَا عَادَةُ التُّجَّارِ، وَلَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ وَيَقْبِضَهُمَا وَيُخَاصِمَ بِالدَّيْنِ وَيُطَالِبَ بِهِ وَيُحِيلَهُ وَيَحْتَال وَيَرُدَّ بِالْعَيْبِ فِيمَا وَلِيَهُ هُوَ، وَفِيمَا وَلِيَ صَاحِبُهُ، وَأَمَّا الْبَيْعُ نَسِيئَةً فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ نَسِيئَةً لِجَرَيَانِ عَادَةِ التُّجَّارِ بِهَذَا وَذَاكَ كَيْفَمَا اتَّفَقَ، وَلَيْسَ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ مَا يَمْنَعُ مِنْ تَحْكِيمِ هَذِهِ الْعَادَةِ. ذَلِكَ أَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْعَقْدُ مِنَ الإِْذْنِ فِي التَّصَرُّفِ، وَقَعَ مُطْلَقًا، كَمَا هُوَ الْمَفْرُوضُ. وَلَوْ تَشَارَطَا فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ عَلَى أَنْ يَبِيعَا نَقْدًا لاَ نَسِيئَةً، أَوْ نَسِيئَةً لاَ نَقْدًا، أَوْ - فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ - أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا نَقْدًا وَالآْخَرُ نَسِيئَةً، كَانَا عَلَى شَرْطِهِمَا. بَل لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى مِثْل هَذِهِ الْقُيُودِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَجَبَ الاِلْتِزَامُ بِذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ نَهَى أَحَدُهُمَا شَرِيكَهُ - فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ - أَنْ يَبِيعَ عَلَى نَحْوٍ مِنَ الأَْنْحَاءِ بِعَيْنِهِ - كَأَنْ نَهَاهُ أَنْ يَبِيعَ نَسِيئَةً، أَوْ عَنْ أَنْ يَبِيعَ نَقْدًا، لاَمْتَنَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَل مَا نُهِيَ(26/63)
عَنْهُ - حَتَّى لَوْ أَنَّهُ خَالَفَ، لَكَانَ ضَامِنًا حِصَّةَ شَرِيكِهِ. وَلِذَا أَفْتَى ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الَّذِي يَبِيعُ نَسِيئَةً بَعْدَ مَا نَهَاهُ شَرِيكُهُ، بِأَنَّ بَيْعَهُ هَذَا نَافِذٌ فِي حِصَّةِ نَفْسِهِ، مَوْقُوفٌ عَلَى الإِْجَازَةِ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ: بِحَيْثُ يَبْطُل إِنْ لَمْ يُجِزْ. أَيْ ثُمَّ يَكُونُ فِي الْفَوَاتِ الضَّمَانُ (1) .
وَعَلَى وِزَانِ الْبَيْعِ نَقْدًا وَنَسِيئَةً، يُقَال فِي الشِّرَاءِ نَقْدًا وَنَسِيئَةً، فَإِنَّهُمَا لاَ يَخْتَلِفَانِ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى: إِذْ إِنَّهُ فِي الْمُفَاوَضَةِ يَكُونُ الشِّرَاءُ دَائِمًا لِلشَّرِكَةِ - فِيمَا عَدَا الْحَاجَاتِ الْخَاصَّةَ لِكِلاَ الشَّرِيكَيْنِ.
أَمَّا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ، فَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ دَائِمًا، كَمَا سَيَجِيءُ. نَعَمْ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى أَحَدُ شَرِيكَيِ الْمُفَاوَضَةِ طَعَامًا نَسِيئَةً - أَيْ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ - فَإِنَّ الثَّمَنَ يَكُونُ عَلَيْهِمَا، بِخِلاَفِ مَا لَوْ فَعَل ذَلِكَ أَحَدُ شَرِيكَيِ الْعَنَانِ - إِذْ يَكُونُ الثَّمَنُ عَلَيْهِ خَاصَّةً، وَأَنَّهُ لَوْ بَاعَ أَحَدُ شَرِيكَيِ الْمُفَاوَضَةِ طَعَامَهُ بِعَقْدِ سَلَمٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَقْدًا جَائِزًا عَلَى شَرِيكِهِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - كَالْحَنَفِيَّةِ، فِي أَنَّ
__________
(1) رد المحتار 3 / 354، 355، 357، بدائع الصنائع 6 / 68 - 71، والمغني 5 / 129، وبلغة السالك 2 / 168، فتح القدير 5 / 26، الفتاوى الهندية 3 / 323.(26/63)
لِكُل شَرِيكٍ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ نَقْدًا وَنَسِيئَةً - إِلاَّ أَنَّهُمْ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مُفَاوَضَةٍ وَعَنَانٍ (1) . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ نَسِيئَةً؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ، وَتَعْرِيضِ أَمْوَال الشَّرِكَةِ لِلضَّيَاعِ - مَا لَمْ يَأْذَنْ سَائِرُ الشُّرَكَاءِ (2) وَأَقْوَى الاِحْتِمَالَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِذَا وَقَعَ الإِْذْنُ فِي مُطْلَقِ نَسِيئَةٍ أَوْ بِصِيغَةِ عُمُومٍ: كَبِعْ كَيْفَ شِئْتَ - أَنْ يُحْمَل عَلَى الأَْجَل الْمُتَعَارَفِ، لاَ غَيْرِهِ كَعَشْرِ سِنِينَ (3) .
49 - خَامِسًا: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُوَكِّل فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ: كَاسْتِئْجَارِ أَجِيرٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ عَرَبَةٍ أَوْ صَانِعٍ أَوْ بَيْطَارٍ - لِشَيْءٍ مِنْ تِجَارَتِهِمَا، وَكَالإِْنْفَاقِ فِي مَصَالِحِ الشَّرِكَةِ.
عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلشَّرِيكِ الآْخَرِ أَنْ يَعْزِل الْوَكِيل الَّذِي وَكَّلَهُ شَرِيكُهُ، مَتَى مَا شَاءَ، شَأْنَ وَكِيل الْوَكِيل (4) .
__________
(1) حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 209، بلغة السالك 2 / 169، المغني لابن قدامة 5 / 150.
(2) مغني المحتاج 2 / 214، 215، نهاية المحتاج 5 / 8، 9.
(3) حواشي نهاية المحتاج 5 / 9.
(4) بدائع الصنائع 6 / 69، فتح القدير 5 / 26، رد المحتار 3 / 355، المغني لابن قدامة 5 / 129، 132، الإنصاف 5 / 417، الخرشي على خليل 4 / 259.(26/64)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّرِيكِ حَقُّ التَّوْكِيل بِدُونِ إِذْنِ شَرِيكِهِ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا ارْتَضَى تَصَرُّفَهُ هُوَ. وَقَاعِدَتُهُمْ: " أَنَّ مَنْ لاَ يَعْمَل إِلاَّ بِإِذْنٍ لاَ يُوَكِّل إِلاَّ بِإِذْنٍ ".
50 - سَادِسًا: لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَعْمَل لِلشَّرِكَةِ: سَوَاءٌ فِي إِصْلاَحِ مَالِهَا - كَعِلاَجِ دَوَابِّهَا، وَتَرْكِيبِ آلاَتِهَا - أَمْ فِي حِرَاسَتِهِ وَحِفْظِهِ، أَمْ فِي الاِتِّجَارِ بِهِ، أَمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَيَمْضِي ذَلِكَ عَلَى شَرِيكِهِ؛ لأَِنَّ عَادَةَ التُّجَّارِ قَدْ جَرَتْ بِالاِسْتِئْجَارِ - فِي كُل مَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى تِجَارَاتِهِمْ (1) .
51 - سَابِعًا: الشَّرِيكُ الَّذِي يُؤَجِّرُ نَفْسَهُ لِمَنْ تَكُونُ أُجْرَتُهُ؟ تَكُونُ أُجْرَتُهُ لِلشَّرِكَةِ، مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ أَجَّرَ نَفْسَهُ لِلْخِدْمَةِ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ بِهِ خَاصَّةً. وَكَالْخَدْمَةِ فِي الْعَنَانِ مَا هُوَ بِمَعْنَاهَا.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِشَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ، فَهَذَا هُوَ صَرِيحُ مَا نَقَلُوهُ عَنِ التتارخانية - إِذْ تَقُول: " وَلَوْ أَجَّرَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ نَفْسَهُ، لِحِفْظِ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 60، 70، مغني المحتاج 2 / 214.(26/64)
شَيْءٍ، أَوْ خِيَاطَةِ ثَوْبٍ، أَوْ عَمَلٍ مِنَ الأَْعْمَال، فَالأَْجْرُ بَيْنَهُمَا. وَكَذَلِكَ كُل كَسْبٍ اكْتَسَبَهُ أَحَدُهُمَا، فَالأَْجْرُ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ آجَرَ نَفْسَهُ لِلْخِدْمَةِ. فَالأَْجْرُ لَهُ خَاصَّةً (1) ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَدَائِعِ، وَقَدْ عَلَّل الْكَاسَانِيُّ اسْتِثْنَاءَ الْخِدْمَةِ بِأَنَّ: الشَّرِيكَ فِيهَا إِنَّمَا يَمْلِكُ التَّقَبُّل عَلَى نَفْسِهِ، دُونَ شَرِيكِهِ، بِخِلاَفِهِ فِيمَا عَدَاهَا - فَإِذَا الْتَزَمَ بِالْخِدْمَةِ وَقَامَ بِهَا، فَقَدْ وَفَّى بِمَا لَزِمَهُ خَاصَّةً، فَتَكُونُ الأُْجْرَةُ كَذَلِكَ لَهُ خَاصَّةً، وَإِذَا تَقَبَّل عَمَلاً مَا غَيْرَ الْخِدْمَةِ، وَالْتَزَمَ بِهِ، فَإِنَّ هَذَا التَّقَبُّل وَالاِلْتِزَامَ يَكُونُ عَلَى كِلاَ الشَّرِيكَيْنِ؛ لأَِنَّهُ يَقْبَل الشَّرِكَةَ - فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْعَمَل الْمُلْتَزَمِ، وَقَعَ الْعَمَل عَنْهُمَا: وَكَانَ الَّذِي عَمِل مُتَبَرِّعًا بِحِصَّةِ شَرِيكِهِ فِيهِ، فَتَكُونُ الأُْجْرَةُ بَيْنَهُمَا ". (2)
وَلَيْسَ لِشَرِيكِ الْمُفَاوَضَةِ وَلاَ لِشَرِيكِ الْعَنَانِ، أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ لِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَال تِجَارَتِهِمَا، ثُمَّ يَخْتَصَّ بِأُجْرَتِهِ - إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي ذَلِكَ إِذْنًا صَرِيحًا؛ لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ أَنْ يُغَيِّرَ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ، دُونَ صَرِيحِ الرِّضَا مِنْ شَرِيكِهِ - كَمَا قَرَّرَهُ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ وَغَيْرُهُ.
وَالْمُقَرَّرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَنَّ الشَّرِيكَ يَخْتَصُّ بِأُجْرَةِ عَمَلِهِ خَارِجَ الشَّرِكَةِ،
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 310.
(2) بدائع الصنائع 6 / 75.(26/65)
وَلَوْ كَانَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهَا - كَمَا لَوْ أَخَذَ مَالاً يُضَارِبُ بِهِ فِي نَفْسِ نَوْعِ تِجَارَةِ الشَّرِكَةِ (الْمَنْسُوجَاتُ مَثَلاً) غَايَةُ مَا هُنَاكَ، أَنَّهُ إِذَا شُغِل بِذَلِكَ عَنِ الْعَمَل فِي الشَّرِكَةِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ إِذْنِ شَرِيكِهِ - حَتَّى يَكُونَ هَذَا الإِْذْنُ بِمَثَابَةِ التَّبَرُّعِ لَهُ بِعَمَلِهِ ذَاكَ. وَإِلاَّ كَانَ لِهَذَا الشَّرِيكِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِأُجْرَةِ مِثْل مَا عَمِل عَنْهُ (1) .
52 - ثَامِنًا: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَدْفَعَ مَال الشَّرِكَةِ إِلَى أَجْنَبِيٍّ مُضَارَبَةً؛ لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ أَضْعَفُ مِنَ الشَّرِكَةِ، وَالأَْقْوَى يَسْتَتْبِعُ الأَْضْعَفَ. وَإِنَّمَا كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ أَضْعَفَ. لأَِنَّ الْخَسَارَةَ فِيهَا يَخْتَصُّ بِهَا رَبُّ الْمَال، وَهِيَ فِي الشَّرِكَةِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ، وَفِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ لَيْسَ لِلْمُضَارِبِ شَيْءٌ مِنَ الرِّبْحِ، أَمَّا فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ فَالرِّبْحُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ بِقَدْرِ مَالَيْهِمَا، ثُمَّ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ الاِشْتِرَاكُ فِي الأَْصْل وَالرِّبْحِ، وَمُقْتَضَى الْمُضَارَبَةِ الاِشْتِرَاكُ فِي الرِّبْحِ دُونَ الأَْصْل (2) .
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 260، بلغة السالك 2 / 169، حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 214، المغني لابن قدامة 5 / 133.
(2) بدائع الصنائع 6 / 69، العناية على الهداية مع فتح القدير 5 / 25، بلغة السالك 2 / 168، الإنصاف 5 / 414.(26/65)
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَزِيدُونَ لِجَوَازِ الْمُضَارَبَةِ قَيْدَ اتِّسَاعِ الْمَال. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الَّذِينَ لاَ يُجِيزُونَ لِلشَّرِيكِ التَّوْكِيل وَالاِسْتِئْجَارَ لِلتِّجَارَةِ بِدُونِ إِذْنِ شَرِيكِهِ إِلَى مَنْعِهِ مِنْ دَفْعِ مَال الشَّرِكَةِ إِلَى أَجْنَبِيٍّ مُضَارَبَةً.
53 - تَاسِعًا: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُودِعَ مَال الشَّرِكَةِ؛ لأَِنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ فِي عُهْدَةِ حَارِسٍ يَسْتَأْجِرُهُ لِحِفْظِهِ، فَلأََنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ بِدُونِ أَجْرٍ أَجْدَرُ وَأَوْلَى. عَلَى أَنَّ الإِْيدَاعَ مِنْ مَصَالِحِ التِّجَارَةِ، إِذْ تُتَّقَى بِهِ السَّرِقَاتُ، وَأَخْطَارُ الطَّرِيقِ وَغَيْرِ الطَّرِيقِ (1) .
أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ يَرَوْنَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يُودِعَ - إِلاَّ إِذَا دَعَتْ إِلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ بِهِ، إِذِ الْمَال قَدْ يَضِيعُ بِالإِْيدَاعِ. حَتَّى لَوْ أَنَّهُ أَوْدَعَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، فَضَاعَ الْمَال ضَمِنَهُ (2) .
54 - عَاشِرًا: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُسَافِرَ بِمَال الشَّرِكَةِ دُونَ إِذْنِ شَرِيكِهِ إِذَا أَمِنَ الطَّرِيقَ لأَِنَّ الْمَفْرُوضَ أَنَّ الشَّرِكَةَ أُطْلِقَتْ، وَلَمْ تُقَيَّدْ بِمَكَانٍ. فَالإِْذْنُ بِالتَّصَرُّفِ الصَّادِرُ فِي ضِمْنِهَا
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 68، 69، فتح القدير 5 / 25، رد المحتار 3 / 355.
(2) بلغة السالك 2 / 168، المغني لابن قدامة 5 / 132.(26/66)
لِكُل شَرِيكٍ هُوَ عَلَى هَذَا الإِْطْلاَقِ، إِذْ لاَ يَخْرُجُ الْمُطْلَقُ عَنْ إِطْلاَقِهِ إِلاَّ بِدَلِيلٍ، وَلاَ دَلِيل، وَيَسْتَوِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ قَرِيبَ الشُّقَّةِ أَوْ بَعِيدَهَا، وَأَنْ يَكُونَ الْمَال خَفِيفَ الْمَحْمَل أَوْ ثَقِيلَهُ - عَلَى خِلاَفٍ فِي كُلٍّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يُسَافِرَ بِمَال الشَّرِكَةِ إِلاَّ بِإِذْنٍ صَرِيحٍ أَوْ عُرْفِيٍّ أَوْ ضَرُورَةٍ. وَمِنَ الإِْذْنِ الْعُرْفِيِّ، مَا لَوْ عُقِدَتِ الشَّرِكَةُ عَلَى ظَهْرِ سَفِينَةٍ، ثُمَّ اسْتَمَرَّتِ الرِّحْلَةُ إِلَى الْمَقْصِدِ. وَمِنَ الضَّرُورَةِ، جَلاَءُ أَهْل الْبَلَدِ عَنْهُ لِكَارِثَةٍ، أَوْ فِرَارًا مِنْ زَحْفِ الْعَدُوِّ الْقَاهِرِ. فَإِذَا خَالَفَ الشَّرِيكُ، فَسَافَرَ سَفَرًا غَيْرَ مَسْمُوحٍ بِهِ، كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ حِصَّةِ شَرِيكِهِ، لَوْ ضَاعَ الْمَال - لَكِنَّهُ لَوْ بَاعَ شَيْئًا مَضَى بَيْعُهُ: دُونَ أَيِّ تَنَافٍ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ ثُبُوتِ ضَمَانِهِ (2) . وَكَذَا الْمَالِكِيَّةُ فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ. أَمَّا شَرِيكُ الْمُفَاوَضَةِ فَلَيْسَ مُقَيَّدًا إِلاَّ بِرِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ (3) .
55 - حَادِيَ عَشَرَ: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُقَايِل فِيمَا بِيعَ مِنْ مَال
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 71، مطالب أولي النهى 3 / 504.
(2) مغني المحتاج 2 / 215.
(3) الفواكه الدواني 2 / 174.(26/66)
الشَّرِكَةِ: سَوَاءٌ أَكَانَ هُوَ الْبَائِعَ أَمْ شَرِيكَهُ. لأَِنَّ الإِْقَالَةَ شِرَاءٌ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ يَمْلِكُ شِرَاءَ مَا بَاعَهُ، أَوْ بَاعَهُ شَرِيكُهُ (1) .
وَهَذَا أَيْضًا هُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَلَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الإِْقَالَةَ فَسْخٌ: عَلَى أَحَدِ احْتِمَالَيْنِ - اعْتِبَارًا بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ. إِلاَّ أَنَّهُمْ قَيَّدُوهُ بِالْمَصْلَحَةِ - كَمَا لَوْ خِيفَ عَجْزُ الْمُشْتَرِي عَنِ الْوَفَاءِ بِالثَّمَنِ، أَوْ تَبَيَّنَ وُقُوعُ غَبْنٍ عَلَى الشَّرِكَةِ (2) .
56 - ثَانِيَ عَشَرَ: لَيْسَ لأَِحَدِ الشَّرِيكَيْنِ إِتْلاَفُ مَال الشَّرِكَةِ أَوِ التَّبَرُّعُ بِهِ: لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّرِكَةِ التَّوَصُّل إِلَى الرِّبْحِ. فَمَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ إِذْنٌ صَرِيحٌ مِنَ الشَّرِيكِ الآْخَرِ، لاَ يَمْلِكُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَهَبَ، أَوْ يُقْرِضَ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ، قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا (3) . إِذِ الْهِبَةُ مَحْضُ تَبَرُّعٍ، وَالإِْقْرَاضُ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً؛ لأَِنَّهُ إِعْطَاءُ الْمَال دُونَ تَنَجُّزِ عِوَضٍ فِي الْحَال. فَإِذَا فَعَل، فَلاَ جَوَازَ لِفِعْلِهِ عَلَى شَرِيكِهِ إِلاَّ بِإِذْنٍ صَرِيحٍ، وَإِنَّمَا يَنْفُذُ فِي حِصَّةِ نَفْسِهِ لاَ غَيْرُ.
57 - إِلاَّ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ أَدْخَلُوا بَعْضَ الْمُسْتَثْنَيَاتِ عَلَى امْتِنَاعِ الْهِبَةِ: إِذْ أَجَازُوهَا فِي اللَّحْمِ وَالْخُبْزِ وَالْفَاكِهَةِ، وَمَا يَجْرِي هَذَا
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 71.
(2) الخرشي على خليل 4 / 259، مطالب أولي النهى 3 / 503.
(3) رد المحتار 3 / 356.(26/67)
الْمَجْرَى مِمَّا يَتَهَادَاهُ النَّاسُ، وَيَتَسَامَحُونَ فِيهِ. جَاءَ فِي الْهِنْدِيَّةِ: " لَهُ أَنْ يُهْدِيَ مِنْ مَال الْمُفَاوَضَةِ، وَيَتَّخِذَ دَعْوَةً مِنْهُ. وَلَمْ يُقَدَّرْ بِشَيْءٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إِلَى الْمُتَعَارَفِ: وَهُوَ مَا لاَ يَعُدُّهُ التُّجَّارُ سَرَفًا (1) ".
كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَمِدُوا طَرِيقَةَ أَبِي يُوسُفَ فِي عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ هِبَةِ الشَّرِيكِ الَّذِي تَوَلَّى الْبَيْعَ، لِثَمَنِ مَا بَاعَ. أَوْ إِبْرَائِهِ مِنْهُ، وَبَيْنَ هِبَةِ الشَّرِيكِ الآْخَرِ أَوْ إِبْرَائِهِ. وَرَأَوْا خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ أَنَّ الَّذِي تَوَلَّى الْبَيْعَ، لَوْ وَهَبَ الْمُشْتَرِيَ ثَمَنَ مَا بَاعَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ، نَفَذَ عَلَى شَرِيكِهِ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ بِحِصَّتِهِ، كَوَكِيل الْبَيْعِ إِذَا فَعَل ذَلِكَ حَيْثُ يَنْفُذُ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ مُوَكِّلُهُ (2) .
58 - وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا. إِلاَّ أَنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ الإِْبْرَاءَ الْمَسْمُوحَ بِهِ بِكَوْنِهِ حَطًّا مِنْ بَعْضِ الثَّمَنِ، وَيُطْلِقُونَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَسْتَوِي أَنْ يَقَعَ مِنْ مُتَوَلِّي الْعَقْدِ أَوْ مِنَ الشَّرِيكِ الآْخَرِ. كَمَا أَنَّهُمْ يَضْبِطُونَ التَّبَرُّعَاتِ الْمَسْمُوحَ بِهَا لِلشَّرِيكِ عَلَى الْعُمُومِ بِمَا يُقِرُّهُ الْعُرْفُ وَفْقَ مَا يَتَنَاسَبُ مَعَ الْمَرْكَزِ الْمَالِيِّ لِلشَّرِكَةِ. وَهَذَا مَبْدَأٌ عَامٌّ يَنْتَظِمُ الْهَدَايَا،
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 312.
(2) فتح القدير 5 / 27، رد المحتار 3 / 355، 356.(26/67)
وَالْمَآدِبَ، وَالْعَوَارِيَّ إِذَا اسْتَأْلَفَ النَّاسَ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي التَّعَامُل مَعَ الشَّرِكَةِ. وَلِلْحَنَابِلَةِ نَحْوٌ مِنْهُ. إِلاَّ أَنَّهُمْ أَقَل تَوَسُّعًا فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَكْثَرُ تَقَيُّدًا بِمُرَاعَاةِ فَائِدَةِ الشَّرِكَةِ (1) .
59 - ثَالِثَ عَشَرَ: لَيْسَ لأَِحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَال الآْخَرِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ: لأَِنَّ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا عَلَى التِّجَارَةِ، وَالزَّكَاةُ لَيْسَتْ مِنْهَا. ثُمَّ إِنَّهَا بِدُونِ إِذْنِ رَبِّ الْمَال لاَ تَقَعُ الْمَوْقِعَ، لِعَدَمِ صِحَّتِهَا بِدُونِ نِيَّةٍ، فَتُلْتَحَقُ بِالتَّبَرُّعَاتِ، وَهُوَ لاَ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ بِمَال شَرِيكِهِ. فَإِذَا أَذِنَ لَهُ شَرِيكُهُ فَذَاكَ (2) .
60 - رَابِعَ عَشَرَ: لَيْسَ لأَِحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَخْلِطَ مَال الشَّرِكَةِ بِمَالٍ لَهُ خَاصٍّ دُونَ إِذْنِ شَرِيكِهِ: لأَِنَّ الْخَلْطَ يَسْتَتْبِعُ إِيجَابَ حُقُوقٍ، وَقُيُودًا عَلَى حُرِّيَّةِ التَّصَرُّفِ. فَلاَ يُسَلَّطُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَلَيْهِ، لِئَلاَّ يَتَجَاوَزَ حُدُودَ مَا رَضِيَ بِهِ صَاحِبُ الْمَال نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
61 - تَنْبِيهٌ: الإِْذْنُ الْعَامُّ مِنَ الشَّرِيكِ - كَقَوْلِهِ لِشَرِيكِهِ: تَصَرَّفْ كَمَا تَرَى - يُغْنِي غَنَاءَ الإِْذْنِ الْخَاصِّ فِي كُل مَا هُوَ مِنْ قَبِيل مَا يَقَعُ فِي التِّجَارَةِ كَالرَّهْنِ وَالاِرْتِهَانِ وَالسَّفَرِ، وَالْخَلْطِ
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 259، 260، بلغة السالك 2 / 168، 169، مطالب أولي النهى 3 / 595.
(2) رد المحتار 3 / 362.
(3) البدائع 6 / 69، ومطالب أولي النهى 3 / 506، 508.(26/68)
بِالْمَال الْخَاصِّ، وَشَرِكَةِ الْمَال مَعَ أَجْنَبِيٍّ. فَمَنْ مَنَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِالإِْذْنِ، كَفَى فِيهِ عِنْدَهُ الإِْذْنُ الْعَامُّ.
وَلَكِنَّ هَذَا الإِْذْنَ الْعَامَّ لاَ غَنَاءَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْهِبَةِ، وَالْقَرْضِ، وَكُل مَا يُعَدُّ إِتْلاَفًا لِلْمَال، أَوْ تَمْلِيكًا لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ. بَل لاَ بُدَّ مِنَ الإِْذْنِ الصَّرِيحِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، لِيَنْفُذَ عَلَى الشَّرِكَةِ. صَرَّحَ بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1)
أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِشَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ:
62 - تَتَلَخَّصُ هَذِهِ الأَْحْكَامُ فِي أَنَّ شَرِيكَيِ الْمُفَاوَضَةِ شَخْصٌ وَاحِدٌ حُكْمًا فِي أَحْكَامِ التِّجَارَةِ وَتَوَابِعِهَا - وَإِنْ كَانَا اثْنَيْنِ حَقِيقَةً (2) وَالسِّرُّ فِي هَذَا، أَنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ تَتَضَمَّنُ وَكَالَةً وَكَفَالَةً، إِذْ كُلٌّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فِيهَا وَكِيلٌ عَنِ الآْخَرِ فِيمَا يَجِبُ لَهُ، وَكَفِيلٌ عَنْهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ (3) . وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الأَْصْل الْعَامِّ، فُرُوعٌ وَنَتَائِجُ شَتَّى:
63 - أَوَّلاً: كُل مَا اشْتَرَاهُ أَحَدُهُمَا فَهُوَ لِلشَّرِكَةِ إِلاَّ حَوَائِجَهُ وَحَوَائِجَ أَهْلِهِ الأَْسَاسِيَّةَ: أَمَّا أَنَّ كُل مَا اشْتَرَاهُ فَهُوَ لِلشَّرِكَةِ، فَذَلِكَ أَنَّ مُقْتَضَى عَقْدِ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ الْمُسَاوَاةُ فِي كُل مَا يَصِحُّ
__________
(1) رد المحتار 3 / 356، ونهاية المحتاج 5 / 10، مطالب أولي النهى 3 / 508، المغني لابن قدامة 5 / 132.
(2) بدائع الصنائع 6 / 73.
(3) رد المحتار 3 / 347.(26/68)
الاِشْتِرَاكُ فِيهِ، وَتَدْخُلُهُ عُقُودُ التِّجَارَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ الإِْجَارَةُ؛ لأَِنَّهَا شِرَاءُ مَنْفَعَةٍ: فَمَا اسْتَأْجَرَهُ أَحَدُهُمَا فَهُوَ لِلشَّرِكَةِ أَيْضًا. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ (1) .
وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْحَوَائِجِ الأَْسَاسِيَّةِ؛ فَلأَِنَّ الْعُرْفَ قَاضٍ بِاسْتِثْنَائِهَا. إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ تَبِعَةٌ تَقَعُ عَلَى عَاتِقِ كُل شَرِيكٍ لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، دُونَ أَنْ يَتَحَمَّل مَعَهُ شَرِيكُهُ فِي ذَلِكَ غُرْمًا، وَالْمَشْرُوطُ عُرْفًا، كَالْمَشْرُوطِ بِصَرِيحِ الْعِبَارَةِ. فَيَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْحَوَائِجِ الأَْسَاسِيَّةِ مُشْتَرِيهَا - وَإِنْ كَانَتْ، عِنْدَ غَضِّ النَّظَرِ عَنْ هَذِهِ الْقَرِينَةِ، مِمَّا يَنْتَظِمُهُ عَقْدُ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ، إِذْ هِيَ مِنْ نَوْعِ مَا يُتَّجَرُ فِيهِ، وَيَقْبَل الشَّرِكَةَ. وَمِنَ الْحَاجَاتِ الأَْسَاسِيَّةِ - وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلشَّرِكَةِ، إِذْ شِرَاءُ الْمَنَافِعِ مِمَّا يَقْبَلُهَا - بَيْتٌ يُسْتَأْجَرُ لِلسُّكْنَى، وَعَرَبَةٌ أَوْ سَفِينَةٌ أَوْ طَائِرَةٌ أَوْ دَابَّةٌ تُسْتَأْجَرُ لِلرُّكُوبِ أَوِ الْحَمْل مِنْ أَجْل الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ: كَالْحَجِّ، وَقَضَاءِ وَقْتِ الإِْجَازَاتِ بَعِيدًا عَنِ الْعَمَل، وَحَمْل الأَْمْتِعَةِ الْخَاصَّةِ. وَفَرْقٌ آخَرُ فَإِنَّ الْحَاجَاتِ الأَْسَاسِيَّةَ يَتَحَمَّل مُشْتَرِيهَا ثَمَنَهَا كُلَّهُ، لِمَكَانِ اخْتِصَاصِهِ بِهَا - وَلِذَا، لَوْ أَدَّى ثَمَنَهَا مِنْ مَال الشَّرِكَةِ كَانَ
__________
(1) فتح القدير 5 / 9، رد المحتار 3 / 348، 349، بدائع الصنائع 6 / 73، 74.(26/69)
لِشَرِيكِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ فِي هَذَا الثَّمَنِ.
64 - وَيَرَى مُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ نَفَقَةَ الشَّرِيكِ الْمُفَاوِضِ الْخَاصَّةَ بِهِ شَخْصِيًّا - مِنْ أَجْل طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَلِبَاسِهِ، وَتَنَقُّلاَتِهِ - تُلْغَى مُطْلَقًا، وَلاَ تَدْخُل فِي الْحِسَابِ إِذَا أَنْفَقَهَا مِنْ مَال الشَّرِكَةِ. سَوَاءٌ تَسَاوَتْ حِصَّتَا الشَّرِيكَيْنِ، وَنَفَقَاتُهُمَا، وَسِعْرُ بَلَدَيْهِمَا - إِنِ اخْتَلَفَا - أَمْ لاَ. ثُمَّ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهَا نَفَقَاتٌ يَسِيرَةٌ عَادَةً، أَوْ دَاخِلَةٌ فِي التِّجَارَةِ (1) .
أَمَّا نَفَقَةُ أُسْرَةِ الشَّرِيكِ فَيُشْتَرَطُ لإِِلْغَاءِ حِسَابِهَا أَنْ تَتَقَارَبَ الأُْسْرَتَانِ عَدَدَ أَفْرَادٍ، وَمُسْتَوًى اجْتِمَاعِيًّا، وَإِلاَّ دَخَلَتْ فِي الْحِسَابِ: فَأَيُّهُمَا أَخَذَ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ فَوْقَ نِسْبَةِ حِصَّتِهِ، رَجَعَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ بِحِصَّتِهِ فِيمَا أَنْفَقَ (2) وَالشَّرِيكُ الْمُفَاوِضُ مُصَدَّقٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ وَلِعِيَالِهِ. فِيمَا يَلِيقُ، مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكِسْوَةِ، دُونَ سَائِرِ الْعُرُوضِ وَالْعَقَارِ (3) .
إِقْرَارُ الشَّرِيكِ بِدَيْنٍ عَلَى شَرِيكِ الْمُفَاوَضَةِ
65 - ثَانِيًا: مَا لَزِمَ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمُفَاوَضَةِ مِنْ دَيْنِ التِّجَارَةِ، أَوْ مَا يَجْرِي
__________
(1) الخرشي على خليل وحواشيه 4 / 264.
(2) الخرشي على خليل 4 / 264، بلغة السالك 2 / 170، 171.
(3) بلغة السالك 2 / 171.(26/69)
مَجْرَاهَا. يَلْزَمُ الآْخَرَ، وَيَكْفِي إِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ لُزُومُهُ لِلْمُقِرِّ بِمُقْتَضَى إِقْرَارِهِ، ثُمَّ لُزُومُهُ لِشَرِيكِهِ بِمُقْتَضَى كَفَالَتِهِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
66 - وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالإِْقْرَارِ بِالدَّيْنِ أَثْنَاءَ قِيَامِ الشَّرِكَةِ. أَمَّا فِي الإِْقْرَارِ بِعَيْنٍ - كَوَدِيعَةٍ وَرَهْنٍ - أَوْ بِدَيْنٍ لَكِنْ بَعْدَ انْتِهَاءِ الشَّرِكَةِ، فَإِنَّمَا تَلْزَمُ الْمُقِرَّ حِصَّتُهُ مِنَ الْعَيْنِ أَوِ الدَّيْنِ: ثُمَّ هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِحِصَّةِ شَرِيكِهِ مُجَرَّدُ شَاهِدٍ. وَلِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ هَذَا الشَّاهِدِ، وَيَسْتَحِقُّ حِصَّةَ الشَّرِيكِ أَيْضًا (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ، قَوْلٌ بِقَبُول إِقْرَارِ الشَّرِيكِ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ عَلَى الشَّرِكَةِ، مَا دَامَتْ قَائِمَةً، وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَارَهُ فَيَجِيءُ بِالأَْوْلَى فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ (3) .
67 - ثَالِثًا: حُقُوقُ الْعَقْدِ الَّذِي يَتَوَلاَّهُ أَحَدُهُمَا فِي مَال الشَّرِكَةِ، مُسْتَوِيَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا. بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْمُفَاوَضَةِ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 72، والفتاوى الهندية 2 / 309، ورد المحتار 3 / 349، مجمع الأنهر 2 / 188.
(2) الخرشي على خليل 4 / 263.
(3) الفروع 2 / 726
(4) الخرشي على خليل 4 / 261، 262.(26/70)
مِثَال ذَلِكَ: الرَّدُّ بِالْعَيْبِ (1) ، وَالرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عِنْدَ الاِسْتِحْقَاقِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ، وَقَبْضُهُمَا وَإِقْبَاضُهُمَا: سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ لَهُمَا أَمْ عَلَيْهِمَا. فَإِذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا لِلشَّرِكَةِ، وَأَرَادَ أَنْ يُمَارِسَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ، لِقِيَامِ سَبَبِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، بَل لِشَرِيكِهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الشِّرَاءِ (2) .
وَالَّذِي يَشْتَرِي سِلْعَةً مِنْ سِلَعِ الشَّرِكَةِ ثُمَّ يَجِدُ بِهَا عَيْبًا، يَكُونُ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى أَيِّ الشَّرِيكَيْنِ شَاءَ، وَإِذَا اسْتَحَقَّتْ عِنْدَهُ لآِخَرَ - كَأَنْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ أَوْ مَسْرُوقَةٌ - كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِثَمَنِهَا، الَّذِي دَفَعَهُ، أَيَّهُمَا شَاءَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ عَقْدَ الْبَيْعِ، أَوْ تَوَلَّى قَبْضَ الثَّمَنِ. كَمَا أَنَّ لَهُ عِنْدَ بِدَايَةِ الصَّفْقَةِ أَنْ يُطَالِبَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا بِتَسْلِيمِ السِّلْعَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي بَاعَهَا. وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ، وَيَقُومَ بِالتَّسْلِيمِ الْمَطْلُوبِ، أَوْ يَقْبِضَهُ أَحَدُهُمَا وَيُسَلِّمَ الآْخَرُ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَمَّا لَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ أَشْيَائِهِ الْخَاصَّةِ وَآجَرَهُ، فَحُقُوقُ الْعَقْدِ خَاصَّةٌ بِهِ. فَلَيْسَ لِلَّذِي
__________
(1) حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 209، مطالب أولي النهى 3 / 553، بلغة السالك 2 / 168.
(2) فتح القدير 5 / 26.(26/70)
يَشْتَرِي مِنْهُ مَثَلاً أَنْ يُطَالِبَ شَرِيكَهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَلاَ لِهَذَا الشَّرِيكِ أَنْ يُطَالِبَ الْمُشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ (1) .
68 - رَابِعًا: تَصَرُّفُ الْمُفَاوِضِ نَافِذٌ عَلَيْهِ وَعَلَى شَرِيكِهِ فِي كُل مَا يَعُودُ عَلَى مَال الشَّرِكَةِ نَفْعُهُ: سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَعْمَال التِّجَارَةِ وَمُلْحَقَاتِهَا أَمْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْحُكْمُ مَوْضِعُ وِفَاقٍ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْمُفَاوَضَةِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ كُل تَصَرُّفٍ يُجَافِي الْمَصْلَحَةَ يَقُومُ بِهِ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، بِلاَ إِذْنٍ سَابِقٍ مِنْ شَرِيكِهِ، يَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى الشَّرِكَةِ، عَلَى إِجَازَتِهِ اللاَّحِقَةِ. فَإِنْ لَمْ يُجِزْ، نَفَذَ عَلَى الْمُتَصَرِّفِ وَحْدَهُ، وَضَمِنَ حَقَّ شَرِيكِهِ. فَلَوْ أَنَّهُ مَثَلاً وَلَّى بِأَصْل الثَّمَنِ شَخْصًا أَجْنَبِيًّا صَفْقَةً عَقَدَهَا هُوَ أَوْ شَرِيكُهُ يُقَدَّرُ رِبْحُهَا بِخَمْسِينَ فِي الْمِائَةِ: فَإِنَّ شَرِيكَهُ إِنْ لَمْ يُجِزْهُ، يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ بِالْمِائَةِ - إِنْ كَانَتِ الشَّرِكَةُ بِالنِّصْفِ - لأَِنَّ الْمُحَابَاةَ كَالتَّبَرُّعِ. إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ إِلَى هَذِهِ الْمُحَابَاةِ تَأَلُّفَ عَمِيلٍ ذِي خَطَرٍ لِمُصْلِحَةِ الشَّرِكَةِ (2) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 310.
(2) بدائع الصنائع 6 / 72، 73، رد المحتار 3 / 356، والفواكه الدواني 2 / 174، والخرشي على خليل وحواشيه 4 / 259.(26/71)
69 - خَامِسًا: بَيْعُ الْمُفَاوِضِ مِمَّنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لَهُ صَحِيحٌ نَافِذٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْ عَلَى الشَّرِكَةِ. وَلاَ تَأْثِيرَ هُنَا لِتُهْمَةِ الْمُحَابَاةِ؛ لأَِنَّ الْمُتَفَاوِضِينَ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ. بِخِلاَفِ شَرِيكَيِ الْعَنَانِ، فَإِنَّ غَايَتَهَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَكِيلٌ عَنِ الآْخَرِ - وَمَوَاضِعُ التُّهْمَةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الْوَكَالاَتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِلاَّ إِذَا قِيل لِلْوَكِيل: عَامِل مَنْ شِئْتَ، فَيَصِحُّ التَّعَامُل بِمِثْل الْقِيمَةِ. وَيَكْتَفِي الصَّاحِبَانِ بِإِيجَابِ مِثْل الْقِيمَةِ لِتَصْحِيحِ التَّعَامُل الَّذِي لَمْ يَبْلُغْهُ، بِكُل حَالٍ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الشَّرِيكِ الْمُفَاوِضِ يَنْفُذُ بِلاَ إِذْنِ شَرِيكِهِ إِذَا كَانَ فِي حُدُودِ مَصْلَحَةِ الشَّرِكَةِ فَلاَ بَأْسَ لَدَيْهِمْ إِذَنْ بِالْبَيْعِ فِي مَوْضِعِ تُهْمَةِ الْمُحَابَاةِ. مَا دَامَتِ الْمُحَابَاةُ لَمْ تَثْبُتْ فِعْلاً (2) .
مُشَارَكَةُ الْمُفَاوِضِ لِشَخْصٍ ثَالِثٍ
70 - لِلْمُفَاوِضِ أَنْ يُشَارِكَ شَرِكَةَ عَنَانٍ: وَيَنْفُذَ ذَلِكَ عَلَى شَرِيكِهِ، أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ. لأَِنَّ شَرِكَةَ الْعَنَانِ دُونَ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ، فَلاَ مَحْذُورَ فِي أَنْ تَصِحَّ فِي ضِمْنِهَا، وَتَقَعُ تَبَعًا لَهَا - كَمَا صَحَّتِ الْمُضَارَبَةُ تَبَعًا لِلشَّرِكَةِ مُطْلَقًا: بِأَنْ يُضَارِبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ ثَالِثًا
__________
(1) رد المحتار 3 / 356، مجمع الأنهر 2 / 225، الأتاسي على المجلة 4 / 297.
(2) الفواكه الدواني 2 / 174.(26/71)
بِمَال الشَّرِكَةِ. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الصَّاحِبَيْنِ.
وَمُقْتَضَى تَعْلِيلِهِ هَذَا أَنْ لاَ تَصِحَّ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ تَبَعًا لِشَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ: أَيْ أَلاَّ يَصِحَّ لأَِحَدِ شَرِيكَيِ الْمُفَاوَضَةِ - بِدُونِ إِذْنِ شَرِيكِهِ - أَنْ يُفَاوِضَ ثَالِثًا؛ لأَِنَّ الشَّيْءَ لاَ يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ (1) . وَاعْتَمَدَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ - إِلاَّ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا عَدَمَ صِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ مِنَ الْمُفَاوِضِ بِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَنَانًا، وَمَا يَخُصُّ الَّذِي أَحْدَثَهَا - وَلَوْ مَعَ مَنْ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لَهُ - مِنْ رِبْحِهَا، يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ الأَْوَّل (2) .
وَلَمْ يَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يُفَاوِضَ الْمُفَاوِضُ أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ فَلَمْ يَجْعَل لِلْمُفَاوِضِ أَنْ يُفَاوِضَ، وَلاَ أَنْ يُشَارِكَ شَرِكَةَ عَنَانٍ؛ لأَِنَّهُ فِي كِلَيْهِمَا تَغْيِيرُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الَّذِي تَمَّتْ بِهِ الشَّرِكَةُ الأُْولَى - إِذْ يُوجِبُ لِلشَّرِيكِ الْجَدِيدِ حَقًّا فِي مَال الشَّرِكَةِ لَمْ يَكُنْ، وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ بِدُونِ تَرَاضِي الشُّرَكَاءِ (3) .
وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ وِفَاقُ أَبِي حَنِيفَةَ (4) . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ جَعَلُوا لِلْمُفَاوِضِ أَنْ يُفَاوِضَ، أَوْ يَعْقِدَ أَيَّةَ شَرِكَةٍ أُخْرَى - فِي
__________
(1) فتح القدير 5 / 26، بدائع الصنائع 6 / 74.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 313، رد المحتار 3 / 356.
(3) بدائع الصنائع 6 / 74، فتح القدير 5 / 27.
(4) مطالب أولي النهى 3 / 506.(26/72)
بَعْضِ مَال الشَّرِكَةِ، لاَ فِي جَمِيعِهِ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبَعْضُ عَلَى التَّعْيِينِ لاَ عَلَى الشُّيُوعِ: كَمَا لَوْ أَفْرَدَ مِائَةَ دِينَارٍ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ، وَجَاءَ الأَْجْنَبِيُّ بِمِائَةِ دِينَارٍ مِثْلِهَا، وَجَعَلاَ يَتَّجِرَانِ فِي الْمِائَتَيْنِ جَمِيعًا، وَلاَ شَأْنَ لِهَذَا الأَْجْنَبِيِّ بِسَائِرِ مَال الشَّرِكَةِ الأُْولَى (1) .
أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِشَرِكَةِ الْعَنَانِ:
71 - أَوَّلاً - لَيْسَ كُل مَا يَشْتَرِيهِ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ يَكُونُ لِلشَّرِكَةِ: لأَِنَّ الشَّرِيكَ الَّذِي لَيْسَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ رَأْسِ مَال الشَّرِكَةِ، لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا شَيْئًا مَا بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ. بَل يَكُونُ مَا يَشْتَرِيهِ حِينَئِذٍ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ خَارِجَ الشَّرِكَةِ. وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّرِكَةِ لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الاِسْتِدَانَةِ، وَاسْتِدَانَةُ شَرِيكِ الْعَنَانِ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَجَاوُزِ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَال الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ (2) .
كَذَلِكَ الشَّرِيكُ الَّذِي كُل مَا بِيَدِهِ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ عُرُوضٌ (غَيْرُ نَقْدٍ) أَوْ مَعَهَا نَاضٌّ لاَ يَفِي بِالثَّمَنِ، لاَ تَمْضِي لِلشَّرِكَةِ صَفْقَتُهُ الْمُشْتَرَاةُ بِالنَّقْدِ (أَعْنِي الأَْثْمَانَ) وَأَيْضًا الشَّرِيكُ الَّذِي يَشْتَرِي لِلشَّرِكَةِ نَوْعًا آخَرَ غَيْرَ النَّوْعِ الَّذِي انْحَصَرَتْ فِيهِ تِجَارَةُ الشَّرِكَةِ
__________
(1) الخرشي على خليل وحواشيه 4 / 259.
(2) بدائع الصنائع 6 / 68، 72، رد المحتار 3 / 355.(26/72)
بِمُقْتَضَى عَقْدِهَا - لاَ يَكُونُ لِلشَّرِكَةِ شَيْءٌ مِمَّا اشْتَرَاهُ: كَالَّذِي يَشْتَرِي أُرْزًا، وَتِجَارَةُ الشَّرِكَةِ إِنَّمَا هِيَ فِي الْقُطْنِ، أَوْ بِالْعَكْسِ (1) .
وَمَعْنَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ مَا يَشْتَرِيهِ شَرِيكُ الْعَنَانِ (2) بِلاَ إِذْنٍ خَاصٍّ مِنْ شَرِيكِهِ لاَ يَكُونُ لِلشَّرِكَةِ إِلاَّ بِثَلاَثِ شَرَائِطَ (3) :
(1) أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ مَا يَكْفِي لِسَدَادِ ثَمَنِ مَا اشْتَرَاهُ.
(2) أَنْ يَكُونَ هَذَا الَّذِي بِيَدِهِ نَاضًّا، لاَ عُرُوضًا، إِذَا اشْتَرَى بِنُقُودٍ.
(3) أَنْ يَكُونَ مَا اشْتَرَاهُ مِنْ جِنْسِ تِجَارَةِ الشَّرِكَةِ. وَيُؤْخَذُ مِمَّا أَسْلَفْنَا شَرِيطَةٌ رَابِعَةٌ.
(4) أَنْ لاَ يَكُونَ شَرِيكُهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ صَرَاحَةً فِي الاِخْتِصَاصِ بِالسِّلْعَةِ.
فَإِذَا تَوَافَرَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الأَْرْبَعُ، وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلشَّرِكَةِ، وَلَوِ ادَّعَى الشَّرِيكُ أَنَّهُ إِنَّمَا اشْتَرَى لِنَفْسِهِ، أَوْ حَتَّى أَشْهَدَ بِذَلِكَ عِنْدَ شِرَائِهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ إِخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 68، رد المحتار 3 / 353، 362.
(2) في بعض ما نقلوه في الهندية - وهم لا يبالون بحكاية المتناقضات - دون تنبيه - مخالفة لهذا التخصيص، لا يعول عليها 2 / 311، ففي الخانية التصريح بافتراق المفاوضة والعنان هنا، رد المحتار 3 / 355.
(3) الظاهر أن الذي لا يكون للشركة، هو ما زاد عما بيده من ناض مال الشركة، أما الباقي فلها، وقد استظهر ابن عابدين مثله في المضاربة، رد المحتار 4 / 507.(26/73)
الْوَكَالَةِ دُونَ عِلْمِ شَرِيكِهِ. هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
72 - وَلاَ تُوجَدُ مِثْل هَذِهِ الشَّرَائِطِ فِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى، عَدَا قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ، هُنَا وَفِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ، يَرْفُضُ ادِّعَاءَ الشَّرِيكِ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ - وَلَكِنَّهُمُ اعْتَمَدُوا فِيهِمَا تَصْدِيقَهُ بِيَمِينِهِ (2) وَهُوَ فِي الْعَنَانِ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ (3) وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ أَمِينٌ يَدَّعِي مُمْكِنًا لاَ يُعْلَمُ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِ، وَلَوْلاَ إِمْكَانُ تَصْرِيحِهِ بِنِيَّتِهِ عِنْدَ الشِّرَاءِ وَالإِْشْهَادِ عَلَى ذَلِكَ، لَصُدِّقَ بِلاَ يَمِينٍ، بَل عِبَارَةُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ - وَلَوْ رَابِحًا، وَفِي دَعْوَى الشِّرَاءِ لِلشَّرِكَةِ - وَلَوْ خَاسِرًا. إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُصَدَّقُ عِنْدَهُمْ فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ لِلشَّرِكَةِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ حِصَّتَهُ وَحْدَهَا بِعَيْبٍ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ، فَلاَ يُمَكَّنُ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ. نَعَمْ إِنْ صَدَّقَهُ الْبَائِعُ فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ لِلشَّرِكَةِ، كَانَ لَهُ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، وَرَدُّ حِصَّتِهِ وَحْدَهَا؛ لأَِنَّهُ - بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا - أَصِيلٌ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى حِصَّةِ شَرِيكِهِ وَكِيلٌ، فَكَانَ عَقْدُهُ الْوَاحِدُ بِمَثَابَةِ عَقْدَيْنِ (4) أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ
__________
(1) رد المحتار 3 / 353.
(2) الفروع 2 / 729.
(3) مغني المحتاج 2 / 216.
(4) البجيرمي على المنهج 3 / 46، مغني المحتاج 2 / 216.(26/73)
فَإِنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ الشَّرِيكَ فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ فِي الشَّرِكَاتِ عَدَا شَرِكَةِ الْجَبْرِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ. وَإِنَّمَا نَصُّوا عَلَيْهِ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ - وَقَصَرُوهُ فِيهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِالشَّرِيكِ وَأَهْلِهِ: مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ، دُونَ سَائِرِ الْعُرُوضِ وَالْعَقَارِ وَالْحَيَوَانِ (1) .
73 - ثَانِيًا: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي يَلْزَمُ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ لاَ يُؤْخَذُ بِهِ الآْخَرُ: لأَِنَّ شَرِكَةَ الْعَنَانِ تَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ لاَ غَيْرُ، إِلاَّ إِذَا صُرِّحَ فِيهَا بِالتَّضَامُنِ - كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْخَانِيَّةِ، وَإِنْ اسْتَظْهَرَ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ بُطْلاَنَ الْكَفَالَةِ حِينَئِذٍ؛ لأَِنَّهَا كَفَالَةٌ لِمَجْهُولٍ، وَالْكَفَالَةُ الصَّرِيحَةُ لاَ تَصِحُّ لَهُ (2) .
74 - وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ عَدَمُ قَبُول إِقْرَارِ شَرِيكِ الْعَنَانِ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ عَلَى الشَّرِكَةِ؛ لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِي التِّجَارَةِ لاَ غَيْرُ، وَالإِْقْرَارُ لَيْسَ مِنَ التِّجَارَةِ فِي شَيْءٍ - وَإِنَّمَا يُقْبَل عَلَى نَفْسِهِ فِي حِصَّتِهِ هُوَ وَحْدَهُ (3) . هَكَذَا أَطْلَقُوهُ، مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَال بِيَدِهِ أَوْ لاَ - إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ، كَثَمَنِ شَيْءٍ اشْتُرِيَ لِلشَّرِكَةِ، وَكَأُجْرَةِ دَلاَّلٍ وَحَمَّالٍ وَمُخَزِّنٍ وَحَارِسٍ، لأَِنَّهُ إِذْنٌ كَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، أَوْ
__________
(1) بلغة السالك 2 / 171.
(2) فتح القدير 5 / 209، رد المحتار 3 / 351، 356، 363.
(3) المغني لابن قدامة 5 / 131، مطالب أولي النهى 3 / 50.(26/74)
إِقْبَاضِ الثَّمَنِ. وَهَذَا التَّفْصِيل - لَيْسَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ رُبَّمَا لِلإِْجَابَةِ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ - فِي ذَهَابِهِ إِلَى قَبُول إِقْرَارِ الشَّرِيكِ عَلَى الشَّرِكَةِ مُطْلَقًا - إِذْ يَقُول: " إِنَّ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَشْتَرِيَ وَلاَ يُسَلِّمَ الثَّمَنَ فِي الْمَجْلِسِ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَل إِقْرَارُهُ بِالثَّمَنِ لَضَاعَتْ أَمْوَال النَّاسِ، وَامْتَنَعُوا مِنْ مُعَامَلَتِهِ " وَحَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُ الإِْنْصَافِ، وَقَال إِنَّهُ الصَّوَابُ (1) .
75 - ثَالِثًا - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ الَّذِي يَتَوَلاَّهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، قَاصِرَةٌ عَلَيْهِ: لأَِنَّهُ مَا دَامَ الْفَرْضُ أَنْ لاَ كَفَالَةَ، فَإِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ إِنَّمَا تَكُونُ لِلْعَاقِدِ. فَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ مَال الشَّرِكَةِ أَوْ آجَرَهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ الثَّمَنَ أَوِ الأُْجْرَةَ، وَيُطَالِبُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَوِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ، وَيُخَاصِمُ عِنْدَ الْخِلاَفِ: فَتُقَامُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَوْ يُقِيمُهَا. وَتُطْلَبُ مِنْهُ الْيَمِينُ أَوْ يَطْلُبُهَا. أَمَّا شَرِيكُهُ فَهُوَ وَالأَْجْنَبِيُّ سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْحُقُوقِ: لَيْسَ لَهُ وَلاَ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ.
وَكَذَلِكَ فِي حَالَةِ مَا إِذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا لِلشَّرِكَةِ أَوِ اسْتَأْجَرَهُ: فَإِنَّهُ، دُونَ شَرِيكِهِ، هُوَ الَّذِي تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِالثَّمَنِ أَوِ الأُْجْرَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُطَالِبُ
__________
(1) الشرح الكبير 5 / 124، الإنصاف 5 / 421.(26/74)
بِالتَّسْلِيمِ وَيَتَوَلَّى الْقَبْضَ، وَتَقَعُ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ لَهُ وَعَلَيْهِ. ثُمَّ إِذَا دَفَعَ مِنْ مَال نَفْسِهِ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ فِيمَا دَفَعَ؛ لأَِنَّهُ وَكِيل هَذَا الشَّرِيكِ فِيمَا يَخُصُّهُ مِنَ الصَّفْقَةِ.
وَهَكَذَا عِنْدَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَعِنْدَ الرُّجُوعِ بِالاِسْتِحْقَاقِ: إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلَّذِي تَوَلَّى الْعَقْدَ أَوْ عَلَيْهِ. وَلاَ شَأْنَ لِلشَّرِيكِ الآْخَرِ فِيهِ (1) .
76 - وَالرَّهْنُ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ، وَالاِرْتِهَانُ بِهِ، مِنْ تَوَابِعِ حُقُوقِ الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ الرَّهْنَ بِمَثَابَةِ الإِْقْبَاضِ، وَالاِرْتِهَانَ بِمَثَابَةِ الْقَبْضِ. فَبِدُونِ إِذْنِ الْعَاقِدِ - كَالْمُشْتَرِي فِي حَالَةِ الرَّهْنِ، وَالْبَائِعِ فِي حَالَةِ الاِرْتِهَانِ - لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَرْهَنَ أَوْ يَرْتَهِنَ، وَلَوْ كَانَ قَدْ شَارَكَ فِي الْعَقْدِ الَّذِي أَوْجَبَ الدَّيْنَ. ذَلِكَ لأَِنَّ فِي الرَّهْنِ تَوْفِيَةَ دَيْنِ الشَّرِيكِ الآْخَرِ مِنْ مَالِهِ - إِذْ فَرْضُ الْكَلاَمِ فِي رَهْنِ عَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ الشَّرِكَةِ - وَلاَ يَمْلِكُ أَحَدٌ أَنْ يُوَفِّيَ دَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ مَال ذَلِكَ الْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَفِي الاِرْتِهَانِ اسْتِيفَاءُ حِصَّةِ الشَّرِيكِ الآْخَرِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ بِمُقْتَضَى عَقْدِهِ هُوَ - اسْتِقْلاَلاً أَوْ مُشَارَكَةً - وَذَلِكَ لاَ يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ بِدُونِ إِذْنِهِ أَيْضًا (2) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنْ لَيْسَ لأَِحَدِ شَرِيكَيِ الْعَنَانِ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِفِعْل شَيْءٍ فِي الشَّرِكَةِ إِلاَّ
__________
(1) فتح القدير 5 / 22، رد المحتار 3 / 353.
(2) بدائع الصنائع 6 / 70.(26/75)
بِإِذْنِ شَرِيكِهِ وَمَعْرِفَتِهِ (1) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَقُول ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: " وَلَهُ (أَيْ: لِكُلٍّ مِنْ شَرِيكَيِ الْعَنَانِ) أَنْ يَقْبِضَ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ، وَيَقْبِضَهُمَا، وَيُخَاصِمَ فِي الدَّيْنِ، وَيُطَالِبَ بِهِ، وَيُحِيل وَيَحْتَال، وَيَرُدَّ بِالْعَيْبِ: فِيمَا وَلِيَهُ هُوَ، وَفِيمَا وَلِيَ صَاحِبُهُ. . لأَِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لاَ تَخُصُّ الْعَاقِدَ ". (2)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى جَوَازِ انْفِرَادِ أَحَدِ شَرِيكَيِ الْعَنَانِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ (3) .
77 - مَا يَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُ شَرِيكِ الْعَنَانِ عَلَى شَرِيكِهِ:
رَابِعًا - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ نَفَاذَ تَصَرُّفِ شَرِيكِ الْعَنَانِ عَلَى شَرِيكِهِ يَخْتَصُّ بِالتِّجَارَةِ: فَإِذَا غَصَبَ شَرِيكُ الْعَنَانِ شَيْئًا أَوْ أَتْلَفَهُ، فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِضَمَانِهِ، وَلاَ يَشْرَكُهُ فِيهِ شَرِيكُهُ. بِخِلاَفِ مَا إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِلشَّرِكَةِ - شِرَاءً صَحِيحًا - وَهُوَ يَمْلِكُ الْحَقَّ فِي شِرَائِهِ بِمُقْتَضَى عَقْدِهَا، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ شِرَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى شَرِيكِهِ: وَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى هَذَا الشَّرِيكِ بِحِصَّتِهِ فِي الثَّمَنِ لَوْ أَدَّاهُ مِنْ مَال نَفْسِهِ. بَل لَوْ كَانَ الشِّرَاءُ فَاسِدًا، فَتَلِفَ عِنْدَهُ مَا اشْتَرَاهُ، فَإِنَّهُ لاَ يَتَحَمَّل ضَمَانَهُ
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 265.
(2) المغني 5 / 129، 130.
(3) مغني المحتاج 2 / 215، نهاية المحتاج 5 / 10.(26/75)
وَحْدَهُ، بَل يَشْرَكُهُ فِيهِ شَرِيكُهُ، عَلَى النِّسْبَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا فِي رَأْسِ مَال تِجَارَتِهِمَا.
أَمَّا أَبُو يُوسُفَ، فَإِنَّهُ يَكْتَفِي، لِنَفَاذِ تَصَرُّفِ شَرِيكِ الْعَنَانِ عَلَى شَرِيكِهِ بِعَوْدِ نَفْعِهِ عَلَى مَال الشَّرِكَةِ، كَشَرِيكِ الْمُفَاوَضَةِ.
وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ: أَنَّ الْعَارِيَّةَ يَسْتَعِيرُهَا أَحَدُ شَرِيكَيِ الْعَنَانِ لِغَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِهِ الْخَاصَّةِ - كَحَمْل طَعَامِ أَهْلِهِ - تَكُونُ خَاصَّةً بِهِ (1) . فَيَضْمَنُ شَرِيكُهُ لَوِ اسْتَعْمَلَهَا. بِخِلاَفِ مَا لَوِ اسْتَعَارَهَا مِنْ أَجْل الشَّرِكَةِ - كَحَمْل سِلْعَةٍ مِنْ سِلَعِهَا - فَإِنَّهَا تَكُونُ عَارِيَّةً مُشْتَرَكَةً، كَمَا لَوْ كَانَا اسْتَعَارَاهَا مَعًا: حَتَّى لَوْ حَمَل عَلَيْهَا الآْخَرُ مِثْل تِلْكَ السِّلْعَةِ فَتَلِفَتْ، فَلاَ ضَمَانَ (2) .
78 - بَيْعُ شَرِيكِ الْعَنَانِ بِأَقَل مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل:
نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الشَّرِيكَ لاَ يَبِيعُ وَلاَ يَشْتَرِي بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ. فَإِنْ فَعَل صَحَّ الْعَقْدُ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً، وَلِلْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعِ الْخِيَارُ. إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكُ قَدِ اشْتَرَى بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ، وَيَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْمُشْتَرِي خَاصَّةً،
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 326، وبدائع الصنائع 6 / 74، رد المحتار 3 / 356.
(2) الخرشي على خليل 4 / 260، بلغة السالك 2 / 165، المهذب 1 / 353، ومطالب أولي النهى 3 / 502، والمغني لابن قدامة 5 / 130.(26/76)
لاَ لِلشَّرِكَةِ (1) . وَقَالُوا لَيْسَ لِلشَّرِيكِ الْبَيْعُ بِثَمَنِ الْمِثْل إِذَا كَانَ ثَمَّ رَاغِبٌ بِأَكْثَرَ - حَتَّى إِنَّهُ لَوْ بَاعَ فِعْلاً، ثُمَّ ظَهَرَ هَذَا الرَّاغِبُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَإِلاَّ انْفَسَخَ تِلْقَائِيًّا (2) .
79 - مُشَارَكَةُ شَرِيكِ الْعَنَانِ لِغَيْرِ شَرِيكِهِ:
لَيْسَ لأَِحَدِ شَرِيكَيِ الْعَنَانِ أَنْ يُشَارِكَ بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ: لاَ مُفَاوَضَةً وَلاَ عَنَانًا. لأَِنَّ الشَّيْءَ لاَ يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ، فَكَيْفَ بِمَا هُوَ فَوْقَهُ. لَكِنَّهُ إِذَا كَانَ لاَ يَمْلِكُ أَنْ يُشَارِكَ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّل: فَإِذَا شَارَكَ بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ، وَلَكِنْ لاَ يَلْزَمُ مِنْ بُطْلاَنِ الشَّرِكَةِ بُطْلاَنُ الْوَكَالَةِ الَّتِي فِي ضِمْنِهَا، إِذْ لاَ يَلْزَمُ مِنْ بُطْلاَنِ الأَْخَصِّ بُطْلاَنُ الأَْعَمِّ. هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
80 - وَكَلاَمُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَامٌّ فِي مَنْعِ دَفْعِ شَيْءٍ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ إِلَى أَجْنَبِيٍّ لِيَعْمَل فِيهِ، دُونَ إِذْنِ سَائِرِ الشُّرَكَاءِ - وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ خِدْمَةً لِلشَّرِكَةِ وَلَوْ بِلاَ مُقَابِلٍ: وَهُوَ الإِْبْضَاعُ؛ لأَِنَّ الرِّضَا فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ إِنَّمَا وَقَعَ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 215.
(2) نهاية المحتاج 6 / 8.
(3) كذا قالوا: ويلوح في تعليله: أنه أصيل في نصف ما صار بيده من ماله ومال الشركة، وكيل في نصفه الآخر، وعبارات الكتب لا تكاد تختلف، وينقصها الوضوح. وانظر بدائع الصنائع 6 / 69، والفتاوى الهندية 2 / 322.(26/76)
قَاصِرًا عَلَى يَدِ الشَّرِيكِ وَتَصَرُّفِهِ هُوَ، دُونَ تَصَرُّفِ أَحَدٍ سِوَاهُ (1) . فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّرِكَةِ وَيُحِل غَيْرَهُ مَحَلَّهُ.
أَحْكَامُ شَرِكَتَيِ الأَْعْمَال وَالْوُجُوهِ:
81 - هَاتَانِ الشَّرِكَتَانِ لاَ تَخْرُجَانِ عَنْ أَنْ تَكُونَا مُفَاوَضَةً أَوْ عَنَانًا. فَتُطَبَّقُ فِيهِمَا أَحْكَامُ الْمُفَاوَضَةِ فِي الأَْمْوَال - إِنْ كَانَتَا مِنْ قَبِيل الْمُفَاوَضَةِ، وَأَحْكَامُ الْعَنَانِ فِي الأَْمْوَال - إِنْ كَانَتَا مِنْ قَبِيل الْعَنَانِ. وَإِذَا أُطْلِقَتْ أَيَّتُهُمَا فَهِيَ عَنَانٌ، كَمَا هُوَ الأَْصْل دَائِمًا (2) .
إِلاَّ أَنَّ شَرِكَةَ الْعَنَانِ فِي الأَْعْمَال تَأْخُذُ دَائِمًا حُكْمَ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ:
الْمَسْأَلَةُ الأُْولَى: تَقَبُّل أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مُلْزِمٌ لَهُمَا عَلَى التَّضَامُنِ كَمَا لَوْ كَانَا شَخْصًا وَاحِدًا - وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ أَحَدًا مِنْهُمَا أَنْ يَعْمَل بِنَفْسِهِ، مَا لَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ صَاحِبُ الْعَمَل. فَبِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ يَسْتَوِي أَنْ يَعْمَلَهُ هُوَ، أَوْ يَعْمَلَهُ شَرِيكُهُ، أَوْ غَيْرُهُمَا - كَأَنْ يَسْتَأْجِرَا، هُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا، مَنْ يَقُومُ بِهِ. إِذِ الْمَشْرُوطُ مُطْلَقُ الْعَمَل (3) أَمَّا مَعَ هَذَا الشَّرْطِ مِنْ صَاحِبِ الْعَمَل فَيُتْبَعُ الشَّرْطُ، لَكِنْ تَظَل الْمَسْأَلَةُ كَمَا هِيَ مِنْ حَيْثُ إِلْزَامُ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 9، المغني لابن قدامة 5 / 132، مطالب أولي النهى 3 / 506.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 329.
(3) فتح القدير 5 / 28.(26/77)
التَّضَامُنِ: فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ لاَ يُعْفِي مَنْ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُطَالَبَةِ، بِحُكْمِ الضَّمَانِ. نَعَمْ هُوَ يُفِيدُ تَقْيِيدَ حَقِّ مُطَالَبَتِهِ - مَا دَامَ لَيْسَ هُوَ الْمُتَقَبِّل - بِمُدَّةِ اسْتِمْرَارِ الشَّرِكَةِ، وَأَمَّا إِذَا خَلاَ التَّقَبُّل مِنْ هَذَا الشَّرْطِ، فَإِنَّ الضَّمَانَ يَسْتَمِرُّ بَعْدَ انْحِلاَل الشَّرِكَةِ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الأَْصْل أَنَّ:
(1) لِصَاحِبِ الْعَمَل أَنْ يُطَالِبَ بِهِ كَامِلاً أَيَّ الشَّرِيكَيْنِ شَاءَ.
(2) لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُطَالِبَ صَاحِبَ الْعَمَل بِالأُْجْرَةِ كَامِلَةً.
(3) تَبْرَأُ ذِمَّةُ صَاحِبِ الْعَمَل مِنَ الأُْجْرَةِ بِدَفْعِهَا إِلَى أَيِّ الشَّرِيكَيْنِ شَاءَ. وَهَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا تَلِفَ، أَوْ تَعَيَّبَ، مِمَّا يَعْمَل فِيهِ الشَّرِيكَانِ، بِسَبَبِ أَحَدِهِمَا - فَضَمَانُهُ عَلَيْهِمَا. وَلِصَاحِبِ الْعَمَل أَنْ يُطَالِبَ بِهَذَا الضَّمَانِ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الضَّمَانَ الْمُشْتَرَكَ مُقَيَّدٌ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 330، وبدائع الصنائع 6 / 76، رد المحتار 3 / 359، والخرشي على خليل 4 / 269، 270، بلغة السالك 2 / 173، مطالب أولي النهى، 3 / 547.
(2) بدائع الصنائع 6 / 76، الفتاوى الهندية 2 / 329، المغني لابن قدامة 5 / 114، مطالب أولي النهى 3 / 547، الخرشي على خليل 4 / 269، 270، بلغة السالك 2 / 173.(26/77)
بِكَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطِ الْمُتَسَبِّبِ فِيهِ، وَإِلاَّ اقْتَصَرَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ (1) .
82 - أَمَّا فِيمَا عَدَا هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَعَنَانُ شَرِكَةِ الأَْعْمَال كَعَنَانِ غَيْرِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِذَا يَنُصُّونَ عَلَى اخْتِلاَفِ حُكْمِ الإِْقْرَارِ فِي شَرِكَةِ الأَْعْمَال بِاخْتِلاَفِ نَوْعَيْهَا مِنْ مُفَاوَضَةٍ وَعَنَانٍ. ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ شَرِيكُ الأَْعْمَال بِدَيْنٍ مَا مِنْ ثَمَنِ شَيْءٍ مُسْتَهْلَكٍ - كَصَابُونٍ أَوْ أَيِّ مُنَظِّفٍ آخَرَ أَوْ غَيْرِ مُنَظِّفٍ - أَوْ مِنْ أَجْرِ عُمَّالٍ أَوْ أُجْرَةِ دُكَّانٍ عَنْ مُدَّةٍ مَضَتْ، وَكَذَّبَهُ شَرِيكُهُ، فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ عَلَى شَرِيكِهِ إِذَا كَانَتْ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ، وَلاَ يُصَدَّقُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ إِذَا كَانَتْ شَرِكَةَ عَنَانٍ. ذَلِكَ أَنَّ الْمُقِرَّ يَلْزَمُهُ إِقْرَارُهُ، ثُمَّ لاَ يُؤْخَذُ شَرِيكُهُ بِهَذَا الإِْقْرَارِ إِلاَّ إِذَا كَانَ كَفِيلاً لَهُ: وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْمُفَاوَضَةِ، وَلاَ كَفَالَةَ فِي الْعَنَانِ، إِذَا أُطْلِقَتْ عَنِ التَّقْيِيدِ بِهَا. أَمَّا الإِْقْرَارُ بِالدَّيْنِ قَبْل اسْتِهْلاَكِ الْمَبِيعِ أَوْ قَبْل انْقِضَاءِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ، فَمَاضٍ عَلَى الشَّرِكَةِ بِإِطْلاَقٍ لاَ فَرْقَ بَيْنَ عَنَانٍ وَمُفَاوَضَةٍ.
كَذَلِكَ لَوِ ادَّعَى مُدَّعٍ شَيْئًا مِمَّا يَعْمَلاَنِ فِيهِ، كَثَوْبٍ، فَأَقَرَّ بِهِ أَحَدُهُمَا وَأَنْكَرَ الآْخَرُ - لاَ يُصَدَّقُ الْمُقِرُّ عَلَى صَاحِبِهِ إِلاَّ فِي الْمُفَاوَضَةِ، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ الَّذِي تَرَكَ هُنَا الْقِيَاسَ إِلَى الاِسْتِحْسَانِ وَقَال: إِنَّ إِقْرَارَهُ مَاضٍ عَلَى
__________
(1) المغني 5 / 114.(26/78)
الشَّرِكَةِ فِي الْعَنَانِ أَيْضًا، إِلْحَاقًا لَهَا بِالْمُفَاوَضَةِ فِي مَحَل الْعَمَل، كَمَا أُلْحِقَتْ بِهَا فِي التَّضَامُنِ وَالأُْجْرَةِ (1) .
وَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ: فِي شَرِيكَيِ الأَْعْمَال: إِنَّهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ (2) . فَمُقْتَضَى هَذَا الأَْصْل الْعَامِّ قَبُول أَقَارِيرِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَنَفَاذُهَا عَلَيْهِمَا بِإِطْلاَقٍ: لاَ فَرْقَ بَيْنَ عَنَانٍ وَمُفَاوَضَةٍ، وَلاَ بَيْنَ دَيْنٍ وَعَيْنٍ، وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَإِنَّمَا يُمْضُونَ عَلَيْهِمَا إِقْرَارَ أَحَدِهِمَا إِذَا كَانَ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ؛ لأَِنَّ الْيَدَ لَهُ، وَإِلاَّ فَلاَ؛ لاِنْتِفَاءِ الْيَدِ (3) .
قِسْمَةُ الْكَسْبِ بَيْنَ شَرِيكَيِ الْعَمَل وَتَحَمُّلُهُمَا الْخَسَارَةَ:
83 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ كَسْبَ الشَّرِكَةِ يَكُونُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى مَا شَرَطَا فِي عَنَانِ شَرِكَةِ الأَْعْمَال، دُونَ نَظَرٍ إِلَى اتِّسَاقِ الشَّرْطِ أَوْ عَدَمِ اتِّسَاقِهِ مَعَ شَرْطِ الْعَمَل عَلَى كِلاَ الشَّرِيكَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَعْلِيل ذَلِكَ، وَتَوْجِيهُ مُخَالَفَتِهِ لِقِسْمَةِ الرِّبْحِ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ.
وَهَذَا أَصْلٌ مُطَّرِدٌ سَوَاءٌ عَمِل الشَّرِيكَانِ أَمْ
__________
(1) أي: مطالبة صاحب العمل بها، وبراءة ذمته بدفعها إلى أي الشريكين شاء، بدائع الصنائع 6 / 76، 77، رد المحتار 3 / 389.
(2) بلغة السالك 2 / 173.
(3) المغني لابن قدامة 5 / 114، مطالب أولي النهى 3 / 547.(26/78)
أَحَدُهُمَا، وَسَوَاءٌ كَانَ امْتِنَاعُ الْمُمْتَنِعِ عَنِ الْعَمَل لِعُذْرٍ - كَسَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ - أَمْ لِغَيْرِهِ، كَكَسَلٍ وَتَعَالٍ؛ لأَِنَّ الْعَامِل مُعِينٌ لِلآْخَرِ، وَالشَّرْطُ مُطْلَقُ الْعَمَل. وَلِذَا لاَ مَانِعَ مِنَ الاِسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ، أَوْ حَتَّى الاِسْتِعَانَةِ الْمَجَّانِيَّةِ (1) . فَإِذَا لَمْ يَتَعَرَّضَا لِشَرْطِ الْعَمَل بِنِسْبَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَهُوَ عَلَى نِسْبَةِ الرِّبْحِ الَّتِي تَشَارَطَاهَا؛ لأَِنَّ هَذَا هُوَ الأَْصْل، فَلاَ يُعْدَل عَنْهُ إِلاَّ بِنَصٍّ صَرِيحٍ: أَمَّا الْخَسَارَةُ (الْوَضْعِيَّةُ) فِي شَرِكَةِ الأَْعْمَال، فَلاَ تَكُونُ إِلاَّ بِقَدْرِ ضَمَانِ الْعَمَل: أَيْ بِقَدْرِ مَا شُرِطَ عَلَى كِلاَ الشَّرِيكَيْنِ مِنَ الْعَمَل، كَمَا أَنَّ الْخَسَارَةَ فِي شَرِكَةِ الأَْمْوَال دَائِمًا بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ، إِذِ الْعَمَل هُنَا كَالْمَال هُنَاكَ. وَلِذَا لَوْ تَشَارَطَا عَلَى أَنْ يَكُونَ عَلَى أَحَدِهِمَا ثُلُثَا الْعَمَل وَعَلَى الآْخَرِ الثُّلُثُ فَحَسْبُ، وَالْخَسَارَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ - فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَسَارَةِ، وَهِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى النِّسْبَةِ الَّتِي تَشَارَطَاهَا فِي الْعَمَل نَفْسِهِ (2) .
وَيَنُصُّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ حَالَةَ الإِْطْلاَقِ تُحْمَل عَلَى التَّسَاوِي فِي الْعَمَل وَالأُْجْرَةِ: كَالْجِعَالَةِ، إِذْ لاَ مُرَجِّحَ (3) .
__________
(1) رد المحتار 3 / 359.
(2) بدائع الصنائع 6 / 77.
(3) مطالب أولي النهى 3 / 548، والمغني 5 / 111 وما بعدها، والإنصاف 5 / 61.(26/79)
أَمَّا جَمَاهِيرُ الْمَالِكِيَّةِ، فَيَتَحَتَّمُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَ شَرِيكَيِ الأَْعْمَال بِقَدْرِ عَمَلَيْهِمَا، وَلاَ يُتَجَاوَزُ إِلاَّ عَنْ فَرْقٍ يَسِيرٍ. هَذَا فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ - أَمَّا بَعْدَهُ، فَلاَ حَرَجَ عَلَى مُتَبَرِّعٍ إِنْ تَبَرَّعَ، وَلَوْ بِالْعَمَل كُلِّهِ. فَإِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى تَفَاوُتِ النِّسْبَةِ بَيْنَ الْعَمَلَيْنِ وَالنِّسْبَةِ بَيْنَ الرِّبْحَيْنِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَقْدًا فَاسِدًا - عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: وَيَرْجِعُ كِلاَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا عَمِل عَنْهُ (1) . لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقْرِنُونَ هَذَا التَّشَدُّدَ بِالتَّسَامُحِ فِي رِبْحِ مَا يَعْمَلُهُ الشَّرِيكُ، فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ عَمَل الشَّرِكَةِ - إِذْ يَجْعَلُونَهُ لَهُ خَاصَّةً، كَمَا فَعَلُوا فِي شَرِكَةِ الأَْمْوَال (2) .
84 - تَنْبِيهٌ: لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ شَرِكَةِ الأَْعْمَال اتِّحَادُ نَوْعِ الْعَمَل وَلاَ مَكَانُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، خِلاَفًا لِزُفَرَ - فِي رِوَايَةِ تَصْحِيحِهِ شَرِكَةَ التَّقَبُّل. لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّرِكَةِ وَهُوَ تَحْصِيل الرِّبْحِ، يَتَأَتَّى مَعَ اتِّحَادِ نَوْعِ الْعَمَل وَمَعَ اخْتِلاَفِهِ كَمَا يَتَأَتَّى مَعَ وَحْدَةِ الْمَكَانِ وَمَعَ تَعَدُّدِهِ (3) .
85 - وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو الْخَطَّابِ، مِنَ الْحَنَابِلَةِ، يَشْتَرِطُونَ اتِّحَادَ نَوْعِ الْعَمَل وَإِنْ
__________
(1) حواشي التحفة 2 / 215، بلغة السالك 2 / 172.
(2) حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 216.
(3) العناية على الهداية مع فتح القدير 5 / 28، بدائع الصنائع 6 / 65، رد المحتار 3 / 358، والإنصاف 5 / 460.(26/79)
كَانَ الْمَالِكِيَّةُ يُنَزِّلُونَ تَلاَزُمَ الْعَمَلَيْنِ وَتَوَقُّفَ أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ، مَنْزِلَةَ اتِّحَادِهِمَا: كَإِعْدَادِ الْخُيُوطِ وَنَسْجِهَا، وَسَبْكِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَصِيَاغَتِهِمَا. بَل مِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ تَسَاوِيَ الشَّرِيكَيْنِ فِي دَرَجَةِ إِجَادَةِ الصَّنْعَةِ أَوِ الْعَمَل. وَالسِّرُّ فِي هَذَا التَّشَدُّدِ كُلِّهِ، هُوَ الْفِرَارُ مِنْ أَنْ يَأْكُل أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ ثَمَرَةَ كَدِّ الآْخَرِ وَنِتَاجَ عَمَلِهِ. وَقَدْ أَلْزَمَهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهُ لَوْ قَال أَحَدُهُمَا: أَنَا أَتَقَبَّل وَأَنْتَ تَعْمَل، صَحَّتِ الشَّرِكَةُ، مَعَ اخْتِلاَفِ الْعَمَلَيْنِ (1) .
86 - أَمَّا اتِّحَادُ الْمَكَانِ فَإِنَّ اشْتِرَاطَهُ هُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ. وَلَكِنَّ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ اعْتَمَدُوا خِلاَفَهُ، وَأَوَّلُوا مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ رَوَاجُ الْعَمَل فِي الْمَكَانَيْنِ لَيْسَ وَاحِدًا - حَذَرًا مِنْ أَنْ يَأْكُل أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ كَسْبَ الآْخَرِ، أَوْ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْعَمَل فِي أَحَدِ الْمَكَانَيْنِ مُسْتَقِلًّا عَنْهُ فِي الآْخَرِ: بِمَعْنَى أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ لاَ يَتَعَاوَنَانِ فِيمَا يَتَقَبَّلُهُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَكَانِ عَمَلِهِ، أَوْ كَمَا يَقُولُونَ: " إِذَا لَمْ تُجْل يَدُ أَحَدِهِمَا فِيمَا هُوَ بِيَدِ الآْخَرِ " وَنَصُّوا عَلَى إِهْدَارِ النَّظَرِ إِلَى الصَّنْعَةِ إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ التِّجَارَةَ (2) .
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 267، حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 215، بلغة السالك 2 / 172، والمغني لابن قدامة 5 / 113.
(2) الخرشي على خليل 4 / 268، الفواكه الدواني 2 / 172.(26/80)
الشَّرِكَةُ الْفَاسِدَةُ:
87 - الشَّرِكَةُ الْفَاسِدَةُ: هِيَ الَّتِي لَمْ تَتَوَافَرْ فِيهَا إِحْدَى شَرَائِطِ الصِّحَّةِ - كَأَهْلِيَّةِ التَّوْكِيل وَالتَّوَكُّل، وَقَابِلِيَّةِ الْمَحَل لِلْوَكَالَةِ، وَكَوْنِ الرِّبْحِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ بِنِسْبَةٍ مَعْلُومَةٍ (1) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَمْثِلَةً لِلشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ. فَمِنْ ذَلِكَ:
88 - أَوَّلاً: الشَّرِكَةُ فِي تَحْصِيل الْمُبَاحَاتِ الْعَامَّةِ: كَالشَّرِكَةِ فِي الاِحْتِطَابِ، وَالاِحْتِشَاشِ، وَالاِصْطِيَادِ، وَاسْتِقَاءِ الْمَاءِ، وَاجْتِنَاءِ الثِّمَارِ الْجَبَلِيَّةِ، وَاسْتِخْرَاجِ مَا فِي بَطْنِ الأَْرْضِ الْمُبَاحَةِ مِنْ نَفْطٍ، أَوْ مَعْدِنٍ خِلْقِيٍّ كَالذَّهَبِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ أَوْ كَنْزٍ جَاهِلِيٍّ، وَصُنْعِ لَبِنٍ أَوْ آجُرٍّ مِنْ طِينٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، فَهَذِهِ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ، وَالْمَحَل هُنَا غَيْرُ قَابِلٍ لِلْوَكَالَةِ: فَإِنَّ الَّذِي تَسْبِقُ يَدُهُ إِلَى الْمُبَاحِ يَمْلِكُهُ، مَهْمَا يَكُنْ قَصْدُهُ، فَلاَ يُمْكِنُ تَوْكِيلُهُ فِي أَخْذِهِ لِغَيْرِهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الطِّينُ - وَمِثْلُهُ سَهْلَةُ الزُّجَاجِ (2)
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 268، الفواكه الدواني 2 / 172. (1) وبقية شرائط الصحة تقدم بيانها هي: 1 - أن يكون رأس مال شركة الأموال عينًا، لا دينًا، 2 - أن يكون رأس المال في شركة الأموال من الأثمان، 3 - أن يكون حاضرًا عند العقد أو عند الشراء، 4 - أن يكون محلها في شركة الأعمال عملاً
(2) طمي يحمله الماء معه، ويدخل في صناعة الزجاج، وعبارة محيط المحيط: تراب كالرمل يجيء به الماء.(26/80)
مَمْلُوكًا، فَاشْتَرَكَ اثْنَانِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَاهُ، وَيَطْبُخَاهُ وَيَبِيعَاهُ - فَهَذِهِ شَرِكَةٌ صَحِيحَةٌ.
89 - وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَقَدْ صَحَّحُوا الشَّرِكَةَ فِي تَحْصِيل الْمُبَاحَاتِ بِإِطْلاَقٍ (1) .
90 - ثَانِيًا: يَقَعُ كَثِيرًا أَنْ تَكُونَ دَابَّةٌ أَوْ عَرَبَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَيُسَلِّمَهَا أَحَدُهُمَا إِلَى الآْخَرِ، عَلَى أَنْ يُؤَجِّرَهَا وَيَعْمَل عَلَيْهَا، وَيَكُونَ لَهُ ثُلُثَا الرِّبْحِ، وَلِلَّذِي لاَ يَعْمَل الثُّلُثُ فَحَسْبُ. وَهِيَ شَرِكَةٌ فَاسِدَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ رَأْسَ مَالِهَا مَنْفَعَةٌ، وَالْمَنْفَعَةُ مُلْحَقَةٌ بِالْعُرُوضِ (2) . فَيَكُونُ الدَّخْل بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ مِلْكِهِمَا، وَلِلَّذِي كَانَ يَعْمَل أُجْرَةُ مِثْل عَمَلِهِ، بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلاَ يُشْبِهُ الْعَمَل فِي الْمُشْتَرَكِ حَتَّى نَقُول: لاَ أَجْرَ لَهُ لأَِنَّ الْعَمَل فِيمَا يُحْمَل وَهُوَ لِغَيْرِهِمَا.
91 - وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ شَبِيهَةٌ بِمَسْأَلَةِ الدَّابَّةِ أَوِ الْعَرَبَةِ تَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ، فَيَدْفَعُهَا إِلَى آخَرَ لِيَعْمَل عَلَيْهَا، وَالأُْجْرَةُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةٍ مَعْلُومَةٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهَا، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ
__________
(1) فتح القدير 5 / 31، 32، رد المحتار 3 / 360، والخرشي على خليل 4 / 267، 269، مطالب أولي النهى 3 / 545، حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 210، 215.
(2) رد المحتار 3 / 361.(26/81)
وَالأَْوْزَاعِيُّ عَلَى صِحَّتِهَا، اعْتِبَارًا بِصِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ عِنْدَهُمَا. وَهَكَذَا كُل عَيْنٍ تَنْمِي بِالْعَمَل فِيهَا يَصِحُّ دَفْعُهَا بِبَعْضِ نَمَائِهَا. وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْل الْعِلْمِ فَاسِدٌ؛ لِشِدَّةِ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ: فَمَعَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى فَسَادِ هَذَا كُلِّهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ، ابْنُ عَقِيلٍ، دُونَ تَرَدُّدٍ، وَالْقَاضِي فِي بَعْضِ احْتِمَالاَتِهِ (1) . وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لَهُمْ بِحَدِيثِ النَّهْيِ " عَنْ قَفِيزِ (2) الطَّحَّانِ " يَعْنِي: طَحْنَ كَمِّيَّةٍ مِنَ الْحَبِّ بِشَيْءٍ مِنْ طَحِينِهَا (3) وَإِذَنْ فَمِثْل ذَلِكَ إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ، لاَ مَحْمَل لَهُ سِوَى ذَلِكَ: فَيَكُونُ الرِّبْحُ فِي مَسْأَلَةِ الدَّابَّةِ أَوِ الْعَرَبَةِ لِصَاحِبِهِمَا؛ لأَِنَّ الْعِوَضَ إِنَّمَا اسْتُحِقَّ بِالْحَمْل الَّذِي وَقَعَ مِنْهُمَا، وَلَيْسَ لِلْعَامِل إِلاَّ أُجْرَةُ مِثْلِهِ. وَقَدْ كَانَ أَقْرَبُ مَا يَخْطِرُ بِالْبَال لِتَصْحِيحِهِ إِلْحَاقَهُ
__________
(1) لا يخفى ما هو اليوم ذائع شائع من النزاع في مجيء شيء من تشريعات الإسلام على خلاف القياس، وانظر كلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم مبسوطًا في هذا الموضوع في (إعلام الموقعين) . على أن المعدول عن سنن القياس هو الذي لا يعقل معناه، فكل ما عقل معناه، ولم يقم
(2) القفيز: مكيال - وهو ثمانية مكاكيك (والمكوك ثلاث كيلجات) . ولكن ليس المراد بالقفيز هنا معناه المطابقي هذا، بل كيل معين يجعل للطحان، كرطل. انظر المصباح المنير.
(3) الحديث: أخرجه الدارقطني 70 / 47 ط. دار المحاسن من حديث أبي سعيد الخدري وإسناده صحيح تلخيص الحبير 3 / 60.(26/81)
بِالْمُضَارَبَةِ - وَلَكِنَّ الْمُضَارَبَةَ لاَ تَكُونُ فِي الْعُرُوضِ ثُمَّ هِيَ تِجَارَةٌ، وَالْعَمَل هُنَا لَيْسَ مِنَ التِّجَارَةِ فِي شَيْءٍ.
92 - رَابِعًا: وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ أَيْضًا فِي شَرِكَاتِ الْبَهَائِمِ، أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ بَقَرَةٌ، فَيَدْفَعَهَا إِلَى آخَرَ لِيَتَعَهَّدَهَا بِالْعَلَفِ وَالرِّعَايَةِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْكَسْبُ الْحَاصِل بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةٍ مَا كَنِصْفَيْنِ. وَهَذِهِ أَيْضًا شَرِكَةٌ فَاسِدَةٌ: لاَ تَدْخُل فِي شَرِكَةِ الأَْمْوَال، إِذْ لَيْسَ فِيهَا أَثْمَانٌ يُتَّجَرُ بِهَا، وَلاَ فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّل، أَوِ الْوُجُوهِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَالْكَسْبُ الْحَاصِل إِنَّمَا هُوَ نَمَاءُ مِلْكِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ - وَهُوَ صَاحِبُ الْبَقَرِ. - فَيَكُونُ لَهُ، وَلَيْسَ لِلآْخَرِ إِلاَّ قِيمَةُ عَلَفِهِ وَأُجْرَةُ مِثْل عَمَلِهِ.
وَمِثْل ذَلِكَ دُودُ الْقَزِّ، يَدْفَعُهُ مَالِكُهُ إِلَى شَخْصٍ آخَرَ، لِيَتَعَهَّدَهُ عَلَفًا وَخِدْمَةً، وَالْكَسْبُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ الدَّجَاجَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَيْضُهَا نِصْفَيْنِ - مَثَلاً - قَالُوا: وَالْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَ نِصْفَ الأَْصْل أَوْ ثُلُثَهُ مَثَلاً بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، مَهْمَا قَل، فَمَا حَصَل مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ.
93 - وَقَدْ عَرَفْنَا نَصَّ أَحْمَدَ وَالأَْوْزَاعِيِّ فِي ذَلِكَ، وَقَضِيَّتُهُ تَصْحِيحُ هَذِهِ الشَّرِكَاتِ كُلِّهَا - شَأْنَ كُل عَيْنٍ تَنْمِي بِالْعَمَل فِيهَا. كَمَا عَرَفْنَا أَنَّ جَمَاهِيرَ أَهْل الْعِلْمِ لاَ يُوَافِقُونَهُمَا -(26/82)
حَتَّى قَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: عَلَى الْقَادِرِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ بَالِغِ الضَّرَرِ (1)
94 - بَيْدَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ ذَكَرُوا هُنَا فَرْعًا يُشْبِهُ الاِتِّجَاهَ الْحَنْبَلِيَّ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُصَحِّحُونَ الشَّرِكَةَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، يَأْتِي أَحَدُهُمَا بِطَائِرٍ ذَكَرٍ، وَيَأْتِي الآْخَرُ بِطَائِرٍ أُنْثَى - كِلاَهُمَا مِنْ نَوْعِ الطُّيُورِ الَّتِي يُشْرَكُ ذُكُورُهَا وَإِنَاثُهَا فِي الْحَضَانَةِ، كَالْحَمَامِ - وَيُزَوِّجَانِ هَذِهِ لِهَذَا، عَلَى أَنْ تَكُونَ فِرَاخُهُمَا بَيْنَهُمَا عَلَى سَوَاءٍ، وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نَفَقَةُ طَائِرِهِ - إِلاَّ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِهَا الآْخَرُ - وَضَمَانُهُ إِذَا هَلَكَ. وَالْعِلَّةُ - كَمَا يُشْعِرُ سِيَاقُهُمْ - أَنَّ هَذِهِ أَعْيَانٌ تَنْمِي مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ التِّجَارَةِ، فَتُنَزَّل مَنْزِلَةَ مَا يَنْمِي بِالتِّجَارَةِ (2) .
أَحْكَامُ الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ:
95 - أَوَّلاً: أَنَّهَا لاَ تُفِيدُ الشَّرِيكَ مَا تُفِيدُهُ الشَّرِكَةُ الصَّحِيحَةُ مِنْ تَصَرُّفَاتٍ هَكَذَا قَرَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ.
وَلَمَّا كَانَتِ الشَّرِكَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَيْسَتْ عَقْدًا مُسْتَقِلًّا، بَل وَكَالَةٌ كَسَائِرِ الْوَكَالاَتِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: تَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُ الشَّرِيكَيْنِ فِي
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 226، الشرقاوي على التحرير 2 / 113، المغني لابن قدامة 5 / 116، 119، مطالب أولي النهى 3 / 543، رد المحتار 3 / 361، الفتاوى الهندية 2 / 335، مغني المحتاج 2 / 216.
(2) الخرشي على خليل 4 / 265، بلغة السالك 2 / 171.(26/82)
الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ؛ لِبَقَاءِ الإِْذْنِ، وَمِثْلُهُ لِلْحَنَابِلَةِ (1) .
96 - ثَانِيًا: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ فِي الشَّرِكَةِ الَّتِي لَهَا مَالٌ يَكُونُ دَخْلُهَا لِلْعَامِل وَحْدَهُ. فَفِي الشَّرِكَةِ لِتَحْصِيل شَيْءٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ الْعَامَّةِ - إِذَا أَخَذَهُ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يَعْمَل الآْخَرُ شَيْئًا لإِِعَانَتِهِ، فَهُوَ لِلَّذِي أَخَذَهُ؛ لأَِنَّهُ الَّذِي بَاشَرَ سَبَبَ الْمِلْكِ، وَلاَ شَيْءَ لِشَرِيكِهِ. وَإِذَا أَخَذَاهُ مَعًا، فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لأَِنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْمِلْكِ، فَإِذَا بَاعَاهُ - وَقَدْ عُلِمَتْ نِسْبَةُ مَا حَصَل لِكُلٍّ مِنْهُمَا، بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فِي الْقِيَمِيِّ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ، وَمِعْيَارِ الْمِثْل فِي الْمِثْلِيِّ كَكَيْل الْمَاءِ وَوَزْنِ الْمَعْدِنِ - فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ، وَإِنْ جُهِلَتِ النِّسْبَةُ، فَدَعْوَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصَدَّقَةٌ فِي حُدُودِ النِّصْفِ؛ لأَِنَّهَا إِذَنْ لاَ تُخَالِفُ الظَّاهِرَ - إِذْ هُمَا حَصَّلاَهُ مَعًا، وَكَانَ بِأَيْدِيهِمَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ. أَمَّا دَعْوَى أَحَدِهِمَا فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، فَلاَ تُقْبَل إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ؛ لأَِنَّهَا خِلاَفُ الظَّاهِرِ.
وَإِذَا أَخَذَ الشَّيْءَ الْمُبَاحَ أَحَدُهُمَا، وَأَعَانَهُ الآْخَرُ بِمَا لاَ يُعْتَبَرُ أَخْذًا - عَمَلاً كَانَ أَمْ غَيْرَهُ - كَأَنْ قَلَعَهُ، وَجَمَعَهُ الآْخَرُ، أَوْ قَلَعَهُ وَجَمَعَهُ وَرَبَطَهُ هُوَ، وَحَمَلَهُ الآْخَرُ، أَوِ اسْتَقَى الْمَاءَ،
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 77، مغني المحتاج 2 / 216، قواعد ابن رجب ص 65.(26/83)
وَقَدَّمَ الآْخَرُ الْمَزَادَةَ أَوِ الْفِنْطَاسَ أَوِ الْبَغْل أَوِ الْعَرَبَةَ لِحَمْلِهِ - فَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَخَذَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِلَّذِي أَعَانَ، بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَا، إِلاَّ أُجْرَةُ مِثْلِهِ أَوْ مِثْل آلَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لأَِنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ (1) .
97 - وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يُوَافِقُونَ فِي حَالَةِ انْفِرَادِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِالْعَمَل. أَمَّا فِي حَالَةِ وُقُوعِ الْعَمَل مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فَإِنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ ثَلاَثِ حَالاَتٍ (2) .
(1) تَمَايُزُ الْعَمَلَيْنِ. فَيَكُونُ لِكُلٍّ كَسْبُهُ.
(2) اخْتِلاَطُ الْعَمَلَيْنِ، لَكِنْ بِحَيْثُ لاَ تَلْتَبِسُ نِسْبَةُ أَحَدِهِمَا إِلَى الآْخَرِ. فَالْكَسْبُ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ.
(3) اخْتِلاَطُ الْعَمَلَيْنِ، بِحَيْثُ تَلْتَبِسُ نِسْبَتُهُمَا. وَهُنَا يُخَالِفُونَ الْحَنَفِيَّةَ، وَيُبْدُونَ احْتِمَالَيْنِ:
الاِحْتِمَال الأَْوَّل: التَّسَاوِي فِي الْكَسْبِ؛ لأَِنَّهُ الأَْصْل. وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ.
الاِحْتِمَال الثَّانِي: تَرْكُهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا.
وَهُنَاكَ مَوْضِعُ خِلاَفٍ آخَرُ: فَإِنَّ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي يُحَصِّلُهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى انْفِرَادٍ - فِي حَالَةِ الشَّرِكَةِ لِتَحْصِيل الْمُبَاحَاتِ - تَكُونُ بَيْنَهُ
__________
(1) فتح القدير والعناية 5 / 32، رد المحتار 3 / 360، 361.
(2) مع ملاحظة حالة رابعة يضيفها المالكية بشركة الوجوه الفاسدة دائمًا عندهم.(26/83)
وَبَيْنَ شَرِيكِهِ، مَا دَامَ الْفَرْضُ أَنَّهُ قَدْ حَصَّلَهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي تَحْصِيل الْمُبَاحَاتِ: وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الرِّبْحَ فِي حَالَةِ عَمَل الشَّرِيكَيْنِ، يُقْسَمُ بِالتَّسَاوِي، إِذِ الْفَرْضُ أَنَّ سَبَبَ الاِسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ الْعَمَل، مُشْتَرَكٌ، ثُمَّ يَرْجِعُ كُل شَرِيكٍ عَلَى شَرِيكِهِ بِأُجْرَةِ مَا عَمِل لَهُ: أَيْ بِنِصْفِ أُجْرَةِ عَمَلِهِ فِي الشَّرِكَةِ الثُّنَائِيَّةِ، وَثُلُثَيْ أُجْرَةِ عَمَلِهِ فِي الشَّرِكَةِ الثُّلاَثِيَّةِ، وَثَلاَثَةِ أَرْبَاعِ أُجْرَةِ عَمَلِهِ فِي الشَّرِكَةِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ. إِلاَّ أَنَّ الشَّرِيفَ أَبَا جَعْفَرٍ، مِنْهُمْ، يَذْهَبُ فِي شَرِكَةِ الأَْمْوَال إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الشَّرِكَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ فِي قِسْمَةِ الرِّبْحِ: فَإِنْ شَرَطَا شَيْئًا فَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ؛ لأَِنَّ عَقْدَ الشَّرِكَةِ يَصِحُّ عَلَى الْجَهَالَةِ، فَيَثْبُتُ الْمُسَمَّى فِي فَاسِدِهِ كَالنِّكَاحِ (2) .
98 - وَشَرِكَةُ الْوُجُوهِ، هِيَ، عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، مِنْ قَبِيل الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لاَ مَال فِيهَا، وَلَهَا عِنْدَهُمْ ثَلاَثُ صُوَرٍ:
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 270، المهذب 1 / 353، نهاية المحتاج 5 / 3، مغني المحتاج 2 / 212، البجيرمي على المنهج 3 / 40، الشرقاوي على التحرير 2 / 11.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 129، ومطالب أولي النهى 3 / 511.(26/84)
الصُّورَةُ الأُْولَى: أَنْ يَتَّفِقَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا عَلَى أَنَّ كُل مَا يَشْتَرِيهِ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ يَكُونُ الآْخَرُ شَرِيكًا لَهُ فِيهِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا.
وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ يُمَيِّزُ هَذِهِ الصُّورَةَ بِاسْمِ شَرِكَةِ الذِّمَمِ (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ مَا يَشْتَرِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَكُونُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً، لَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ (2) وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ مَا يَشْتَرِيَانِهِ مَعًا، يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ مِلْكٍ، حَسَبَ شُرُوطِ الْعَقْدِ.
وَلَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ: بَل - بِرَغْمِ الْفَسَادِ - يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَا يَشْتَرِيَانِهِ مَعًا أَوْ يَشْتَرِيهِ أَحَدُهُمَا - عَلَى مَا شَرَطَاهُ (3) .
وَيُلاَحَظُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، عَلَى هَذَا التَّصْوِيرِ، إِنَّمَا يَبْنِي عَلَى خُلُوِّ الْمَسْأَلَةِ مِنْ تَوْكِيل كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ الآْخَرَ فِي الشِّرَاءِ لَهُ. فَلَوْ وُجِدَ هَذَا التَّوْكِيل، فَقَدْ نَصَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ جِدًّا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ الشَّرِكَةَ تَكُونُ شَرِكَةَ عَنَانٍ صَحِيحَةً بِشَرْطِ بَيَانِ النِّسْبَةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا - إِنْ لَمْ يُعْلَمْ قَدْرُ الْمَالَيْنِ: وَإِذَنْ فَمَا يَخُصُّ الشَّرِيكَ الَّذِي
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 172، الخرشي على خليل 4 / 271.
(2) مغني المحتاج 2 / 212.
(3) حواشي التحفة 2 / 211، بلغة السالك 2 / 169.(26/84)
لَمْ يَتَوَل الشِّرَاءَ مِنَ الثَّمَنِ، يَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ (1) .
أَمَّا التَّوْكِيل - أَوِ الإِْذْنُ - بِشِرَاءِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَهُمَا بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، فَهَذَا صَحِيحٌ، وَيُؤَدِّي إِلَى شَرِكَةِ مِلْكٍ لاَ خَفَاءَ بِهَا عِنْدَ الْجَمِيعِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَيَاهُ مَعًا بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا، قَال الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: وَلاَ يُطَالِبُ الْبَائِعُ كُل شَرِيكٍ إِلاَّ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، مَا لَمْ يَشْرِطْ عَلَيْهِ الضَّمَانَ عَنْ شَرِيكِهِ، وَالَّذِي اعْتَمَدَهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي مِثْلِهِ تَنْزِيل الْوَكِيل مَنْزِلَةَ الضَّامِنِ (2) .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَ وَجِيهٌ وَخَامِلٌ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ الْوَجِيهُ وَيَبِيعَ الْخَامِل. وَفِيهَا يَكُونُ مَا يَشْتَرِيهِ الْوَجِيهُ لَهُ خَاصَّةً. وَالْخَامِل لَيْسَ إِلاَّ عَامِل جِعَالَةٍ فَاسِدَةٍ لِجَهَالَةِ الْعِوَضِ، فَيَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ مِثْل عَمَلِهِ عَلَى الْوَجِيهِ - كَمَا قَرَّرَهُ الشَّافِعِيَّةُ (3) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَلَمْ يَخْتَلِفِ الْحُكْمُ الَّذِي أَعْطَوْهُ لِهَذِهِ الصُّورَةِ عَنِ الَّذِي أَعْطَوْهُ لِلصُّورَةِ الأُْولَى - إِلاَّ بِالنَّصِّ عَلَى رُجُوعِ كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الآْخَرِ بِمَا عَمِل عَنْهُ. وَقَدْ نَازَعَ فِيهِ بَعْضُهُمْ، وَمَال إِلَى تَصْحِيحِ الشَّرِكَةِ.
__________
(1) البجيرمي على المنهج 3 / 40، وما بعدها.
(2) بلغة السالك 2 / 169، مغني المحتاج 2 / 231.
(3) نهاية المحتاج 5 / 3.(26/85)
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْمَل الْوَجِيهُ لِلْخَامِل فِي مَالِهِ، دُونَ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَال إِلَيْهِ، أَوْ تَقْتَصِرَ مُهِمَّةُ الْوَجِيهِ عَلَى أَنْ يَبِيعَ مَال الْخَامِل، وَلَوْ أَسْلَمَهُ إِلَيْهِ،
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ بِشِقَّيْهَا مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ، إِمَّا لِكَوْنِ رَأْسِ الْمَال لَيْسَ نَقْدًا، وَإِمَّا لِعَدَمِ تَسْلِيمِهِ لِلْمُضَارِبِ.
فَيَكُونُ لِلْمُضَارِبِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ لاَ غَيْرُ (1) وَلَمْ يَعْرِضِ الْمَالِكِيَّةُ لِلشِّقِّ الأَْوَّل مِنَ التَّصْوِيرِ، وَهُمْ فِي الشِّقِّ الثَّانِي مُوَافِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لِلْعَامِل أُجْرَةُ مِثْلِهِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ سَمَّوْهَا جُعْلاً وَزَادُوا أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ، لِمَكَانِ الْغِشِّ، إِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً - وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ الأَْقَل مِنْ ثَمَنِهَا، وَقِيمَتِهَا (2) .
99 - ثَالِثًا: حَيْثُ الْمَال مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَفَسَدَتِ الشَّرِكَةُ لأَِيِّ سَبَبٍ فَالدَّخْل لَهُ وَلِلآْخَرِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ: عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الدَّخْل نَمَاءُ الْمِلْكِ، كَمَا قَالُوهُ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ: إِذْ يَتْبَعُ الزَّرْعُ الْبَذْرَ.
فَلَوْ عَهِدَ شَخْصٌ يَمْلِكُ بُيُوتًا أَوْ عَرَبَاتٍ أَوْ دَوَابَّ إِلَى آخَرَ لِيَقُومَ عَلَى تَأْجِيرِهَا، وَتَكُونَ الأُْجْرَةُ بَيْنَهُمَا - فَلَيْسَ لِهَذَا الآْخَرِ إِلاَّ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، وَالدَّخْل كُلُّهُ لِلْمَالِكِ. كَمَا أَنَّهُ لَوِ
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 4، 42، مغني المحتاج 2 / 212.
(2) حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 211، الخرشي على خليل 4 / 271.(26/85)
احْتَاجَ شَخْصٌ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ بِضَاعَتَهُ فِي السُّوقِ إِلَى عَرَبَةٍ أَوْ دَابَّةٍ تَنْقُلُهَا، فَلَمْ يَقْبَل صَاحِبُ الْعَرَبَةِ أَوِ الدَّابَّةِ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا إِلاَّ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِصْفُ الرِّبْحِ فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَكُونُ لَغْوًا، وَالشَّرِكَةُ فَاسِدَةٌ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبِضَاعَةِ؛ لأَِنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ أَوِ الْعَرَبَةِ إِلاَّ أُجْرَةُ مِثْلِهَا، لاِسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ (1) .
100 - وَعِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ الرِّبْحَ تَبَعٌ لِلْمَال (2) . وَلِذَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَنَّ ثَلاَثَةً اشْتَرَكُوا، أَحَدُهُمْ بِمَالِهِ، وَالثَّانِي بِشِرَاءِ سِلْعَةٍ بِهَذَا الْمَال، وَالثَّالِثُ بِبَيْعِ هَذِهِ السِّلْعَةِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمْ يَكُونُ الرِّبْحُ لِصَاحِبِ الْمَال، وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِكُلٍّ مِنْ شَرِيكَيْهِ سِوَى أُجْرَةِ مِثْل عَمَلِهِ (3) .
101 - رَابِعًا: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَال مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فَالدَّخْل بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَتْ حِصَّةُ كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فِي رِبْحِ شَرِكَةِ أَمْوَالٍ حِصَّةً مَجْهُولَةً. وَكَمَا لَوْ كَانَ لأَِحَدِ اثْنَيْنِ شَاحِنَةٌ وَلِلآْخَرِ سَيَّارَةُ رُكُوبٍ، فَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُؤَجِّرَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا يَخُصُّهُ وَمَا يَخُصُّ
__________
(1) فتح القدير 5 / 33، رد المحتار 3 / 361.
(2) حواشي الخرشي على خليل 4 / 284.
(3) الشرقاوي على التحرير 2 / 113.(26/86)
الآْخَرَ، وَمَا حَصَل مِنَ الدَّخْل بَيْنَهُمَا عَلَى سَوَاءٍ، أَوْ بِنِسْبَةٍ مَعْلُومَةٍ - فَإِنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ فَاسِدَةٌ، إِذْ خُلاَصَتُهَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَال لِلآْخَرِ: بِعْ مَنَافِعَ هَذَا الشَّيْءِ الَّذِي تَمْلِكُهُ، وَمَنَافِعَ هَذَا الَّذِي أَمْلِكُهُ، عَلَى أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ هَذِهِ وَتِلْكَ قِسْمَةً بَيْنَنَا بِنِسْبَةِ كَذَا - وَلَيْسَ هَذَا إِلاَّ تَحْصِيل الرِّبْحِ مِنْ مَال الْغَيْرِ، دُونَ عَمَلٍ وَلاَ ضَمَانٍ، وَالرِّبْحُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِمَالٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ ضَمَانٍ: لَكِنْ إِذَا وُضِعَتْ هَذِهِ الشَّرِكَةُ الْفَاسِدَةُ مَوْضِعَ التَّنْفِيذِ فَإِنْ أَجَّرَا السَّيَّارَتَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَجْرُ مِلْكِهِ وَإِنْ أَجَّرَا السَّيَّارَتَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ فِي عَمَلٍ مَعْلُومٍ، فَهِيَ إِجَارَةٌ صَحِيحَةٌ، وَالأُْجْرَةُ الْمُتَحَصِّلَةُ إِنَّمَا تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِثْل أُجْرَةِ مَا يَمْلِكُهُ كُلٌّ مِنْهُمَا - كَمَا يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْمَبِيعَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ (1) . لاَ عَلَى مَا تَشَارَطَا؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ فِي ضِمْنِ الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ لَغْوٌ، لاَ اعْتِدَادَ بِهِ (2) .
102 - وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي أَخَذَهُ هَذَا الْقِسْمُ (حَيْثُ الْمَال مِنَ الشَّرِيكَيْنِ) كَقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ، هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ أَهْل الْعِلْمِ. فَقَدْ أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ،
__________
(1) فتح القدير 5 / 33، مغني المحتاج 2 / 216.
(2) بدائع الصنائع 6 / 77، الخرشي 4 / 271، المغني 5 / 115.(26/86)
وَقَالُوا: يَرْجِعُ كُل شَرِيكٍ عَلَى شَرِيكِهِ الآْخَرِ بِأُجْرَةِ مِثْل مَا عَمِل لَهُ - إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُتَبَرِّعًا.
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَاقِفُونَ أَبَدًا مَعَ أَصْلِهِمُ الَّذِي أَصَّلُوهُ فِي الْمُزَارَعَةِ - كَمَا أَسْلَفْنَاهُ وَجَرَوْا عَلَى سُنَنِهِ كُلَّمَا كَانَ لَهُ مَجَالٌ: وَلِذَا نَجِدُهُمْ يَقُولُونَ - فِيمَا لَوِ اشْتَرَكَ ثَلاَثَةٌ: أَحَدُهُمْ بِدَارِهِ، وَالثَّانِي بِدَابَّتِهِ، وَالثَّالِثُ بِرَحَاهُ، عَلَى أَنْ يَتَوَلَّى عَمَل الطَّحْنِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، وَلْيَكُنْ صَاحِبَ الدَّابَّةِ - أَنَّ الْغَلَّةَ كُلَّهَا تَكُونُ لِلَّذِي انْفَرَدَ بِالْعَمَل، وَعَلَيْهِ لِلآْخَرَيْنِ أُجْرَةُ مِثْل مَا قَدَّمُوا (1) . وَهُوَ مَسْلَكٌ لاَ يَكَادُ يَسْلُكُهُ سِوَاهُمْ. وَمِثَال ذَلِكَ مَسْأَلَةُ الشَّاحِنَةِ وَسَيَّارَةِ الرُّكُوبِ، إِذَا انْفَرَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِالْعَمَل.
ثُمَّ قَدْ يَقَعُ الْخِلاَفُ أَيْضًا مِنَ الآْخَرَيْنِ فِي طَرِيقِ التَّطْبِيقِ: فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي مَسْأَلَةِ الدَّابَّتَيْنِ، عَلَى أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ لَوْ تَقَبَّلاَ عَمَل شَيْءٍ مَعْلُومٍ إِلَى مَكَانٍ مَعْلُومٍ فِي ذِمَّتِهِمَا، ثُمَّ حَمَلاَ عَلَى الدَّابَّتَيْنِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِمَا، فَإِنَّهَا تَكُونُ شَرِكَةً صَحِيحَةً، وَالأُْجْرَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ ( x662 ;) مَعَ أَنَّ أُصُول الْحَنَابِلَةَ لاَ تُسَاعِدُهُ، إِذْ لاَ بُدَّ عِنْدَهُمْ لِلصِّحَّةِ مِنْ عَقْدِ تَقَبُّلٍ عَامٍّ بَيْنَ
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 271، حواشي تحفة ابن عاصم 2 / 211.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 115.(26/87)
الشَّرِيكَيْنِ سَابِقٍ عَلَى هَذَا التَّقَبُّل الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ (1) عَلَى أَنَّ ابْنَ قُدَامَةَ عَادَ فَأَبْدَى احْتِمَال تَصْحِيحِ الشَّرِكَةِ عَلَى شَرْطِهَا - حَتَّى فِي حَالَةِ مَا إِذَا أَجَّرَ الشَّرِيكَانِ الدَّابَّتَيْنِ إِجَارَةَ عَيْنٍ قِيَاسًا عَلَى صِحَّةِ الشَّرِكَةِ عِنْدَهُمْ فِي تَحْصِيل الْمُبَاحَاتِ (2) .
مُلْحَقٌ:
103 - فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ، كَيْفَ يُطَالِبُ الْبَائِعُ بِثَمَنِ مَا بَاعَهُ مِنْ أَحَدِ شَرِيكَيْهَا - إِذَا غَابَ أَحَدُهُمَا وَحَضَرَ الآْخَرُ؟
يَقُول الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الأَْحْوَال ثَلاَثَةٌ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ يَعْلَمُ فَسَادَ الشَّرِكَةِ: فَلاَ يَكُونُ لَهُ حَقُّ مُطَالَبَةِ الشَّرِيكِ الْحَاضِرِ إِلاَّ بِحِصَّتِهِ فِي الثَّمَنِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ يَعْلَمُ بِالشَّرِكَةِ، وَلاَ يَعْلَمُ بِفَسَادِهَا: وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ حَقُّ مُطَالَبَةِ الشَّرِيكِ الْحَاضِرِ، بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ لاَ يَعْلَمُ بِالشَّرِكَةِ نَفْسِهَا: وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِنْ كَانَ الشَّرِيكُ الْحَاضِرُ هُوَ الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ، طَالَبَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَعَاقَدْ مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ وَكِيلٌ لِغَيْرِهِ فِي النِّصْفِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي اشْتَرَى
__________
(1) فتح القدير 5 / 33، رد المحتار 3 / 361.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 116.(26/87)
مِنْهُ، فَإِنَّمَا يُطَالِبُهُ بِحِصَّةٍ فِي الثَّمَنِ لاَ غَيْرُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ إِلاَّ مُقَابِل هَذِهِ الْحِصَّةِ مِنَ السِّلْعَةِ.
هَكَذَا حَكَوْهُ عَنِ اللَّخْمِيِّ وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْخَرَشِيُّ خِلاَفُهُ، فَانْظُرْهُ إِنْ شِئْتَ.
أَسْبَابُ انْتِهَاءِ الشَّرِكَةِ:
الأَْسْبَابُ الْعَامَّةُ:
أَسْبَابُ الاِنْتِهَاءِ الْعَامَّةِ هِيَ الَّتِي لاَ تَخُصُّ شَرِكَةً دُونَ شَرِكَةٍ، بَل تَجِيءُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشَّرِكَاتِ وَهِيَ:
104 - أَوَّلاً - فَسْخُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، وَقَدْ سَلَفَ الْكَلاَمُ عَلَى هَذَا، عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الْعَقْدِ.
105 - ثَانِيًا: نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ إِنْكَارَ أَحَدِهِمَا الشَّرِكَةَ بِمَثَابَةِ فَسْخِهَا، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ وَقَعَ، لاَمْتَنَعَ عَلَى الشَّرِيكِ الآْخَرِ، بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ، وَعَلَى الْمُنْكِرِ نَفْسِهِ التَّصَرُّفُ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ. فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهَا كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا، كَالْغَاصِبِ وَلَهُ رِبْحُهَا وَعَلَيْهِ خَسَارَتُهَا، لأَِنَّهُ تَصَرَّفَ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا - وَإِنْ كَانَ لاَ يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَيَتَصَدَّقُ بِهِ (1) . وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ - خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ عَلَى الْبُطْلاَنِ بِالإِْنْكَارِ فِي الْوَكَالَةِ، إِذَا كَانَ الإِْنْكَارُ مُتَعَمَّدًا
__________
(1) فتح القدير 5 / 34، رد المحتار 357، 362.(26/88)
وَلاَ يَرْمِي بِهِ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ - كَصِيَانَةِ مَال الْوَكَالَةِ مِنْ أَنْ تَنَالَهُ يَدُ ظَالِمٍ غَاشِمٍ - وَالشَّرِكَةُ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ إِلاَّ وَكَالَةً (1) .
106 - ثَالِثًا: جُنُونُ أَحَدِهِمَا جُنُونًا مُطْبِقًا (2) . وَهُوَ لاَ يَصِيرُ مُطْبِقًا إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَسْتَمِرَّ شَهْرًا أَوْ سَنَةً كَامِلَةً - عَلَى خِلاَفٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) . فَلاَ تَنْتَهِي الشَّرِكَةُ إِلاَّ إِذَا مَضَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ بَعْدَ ابْتِدَائِهِ.
وَإِنَّمَا تَبْطُل الشَّرِكَةُ؛ لأَِنَّهَا تَعْتَمِدُ الْوَكَالَةَ وَلاَ تَنْفَكُّ عَنْهَا، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُل بِالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ، لِسَلْبِهِ الأَْهْلِيَّةَ.
وَيَعُودُ هُنَا فِي تَصَرُّفِ الشَّرِيكِ الآْخَرِ فِي حِصَّةِ الْمَجْنُونِ مَا سَلَفَ فِي الإِْنْكَارِ (4) وَنَصَّ عَلَى هَذَا الْمُبْطِل أَيْضًا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ دُونَ تَقْيِيدٍ بِمُدَّةٍ (5) .
107 - رَابِعًا: مَوْتُ أَحَدِهِمَا: لأَِنَّ الْمَوْتَ مُبْطِلٌ لِلْوَكَالَةِ، وَالْوَكَالَةُ الضِّمْنِيَّةُ جُزْءٌ مِنْ مَاهِيَّةِ الشَّرِكَةِ لاَ تَنْفَكُّ عَنْهَا ابْتِدَاءً وَلاَ بَقَاءً،
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 214، 233، ومطالب أولي النهى 3 / 458.
(2) بكسر الباء، والعامة تفتحها، وله وجه في القياس، لكنه غير منقول. كذا في المصباح.
(3) الأول لأبي يوسف، والثاني لمحمد: والترجيح مختلف، فانظره مع تعليلاته في البدائع 6 / 38، ومجمع الأنهر 2 / 237.
(4) بدائع الصنائع 6 / 78، رد المحتار 3 / 362.
(5) مغني المحتاج 2 / 215، المغني لابن قدامة 5 / 133.(26/88)
ضَرُورَةَ الْحَاجَةِ إِلَى ثُبُوتِ وَاسْتِمْرَارِ وِلاَيَةِ التَّصَرُّفِ لِكِلاَ الشَّرِيكَيْنِ عَنِ الآْخَرِ، مُنْذُ قِيَامِ الشَّرِكَةِ إِلَى انْتِهَائِهَا. إِلاَّ أَنَّ بُطْلاَنَ الشَّرِكَةِ فِي الأَْمْوَال بِالْمَوْتِ، لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الشَّرِيكِ بِهِ؛ لأَِنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ غَيْرُ مَقْصُودٍ لاَ يُمْكِنُ تَقْدِيمُهُ وَتَأْخِيرُهُ، إِذْ بِمُجَرَّدِ الْمَوْتِ يَنْتَقِل شَرْعًا مِلْكُ مَال الْمَيِّتِ إِلَى وَرَثَتِهِ، فَلاَ يُمْكِنُ إِيقَافُ مَا نَفَّذَهُ الشَّرْعُ (1) .
وَإِنَّمَا تَبْطُل الشَّرِكَةُ بِالْمَوْتِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى شَرِيكٍ وَاحِدٍ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنَ الشَّرِكَةِ بِالضَّرُورَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ شَرِيكٍ، فَإِنَّ شَرِكَةَ الْبَاقِينَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ بَاقِيَةٌ (2) .
وَنَصَّ عَلَى هَذَا الْمُبْطِل أَيْضًا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
108 - وَيُقَرِّرُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ لِلْوَارِثِ الرَّشِيدِ الْخِيَارَ بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَاسْتِئْنَافِ الشَّرِكَةِ، وَأَنَّ عَلَى وَلِيِّ الْوَارِثِ غَيْرِ الرَّشِيدِ، أَوْ وَلِيِّ الشَّرِيكِ الَّذِي انْتَهَتِ الشَّرِكَةُ بِجُنُونِهِ، أَنْ يَخْتَارَ مِنْ هَذَيْنِ الأَْمْرَيْنِ أَصْلَحَهُمَا لِمَحْجُورِهِ. نَعَمْ إِنْ كَانَ عَلَى التَّرِكَةِ دَيْنٌ، أَوْ فِيهَا وَصِيَّةٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، تَوَقَّفَ جَوَازُ
__________
(1) فتح القدير 5 / 34.
(2) رد المحتار 3 / 361.
(3) مغني المحتاج 2 / 215، المغني لابن قدامة 5 / 133(26/89)
اسْتِئْنَافِ الشَّرِكَةِ عَلَى قَضَائِهِمَا - وَلَوْ مِنْ خَارِجِ التَّرِكَةِ، لأَِنَّهُمَا يَتَعَلَّقَانِ بِالتَّرِكَةِ تَعَلُّقَ الرَّهْنِ، وَالْمَرْهُونُ لاَ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِيهِ.
وَالْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنُ بِمَثَابَةِ الْوَارِثِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيُعْتَبَرُ كَأَحَدِ الْوَرَثَةِ عِنْدَ التَّعَدُّدِ. وَفِي اسْتِئْنَافِ الشَّرِكَةِ يَكْتَفِي الشَّافِعِيَّةُ بِصِيغَةِ التَّقْرِيرِ - وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ عِبَارَاتِهِمْ مَا يُفِيدُ قَصْرَ هَذَا الاِكْتِفَاءِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ مَال الشَّرِكَةِ عُرُوضًا (1) .
109 - خَامِسًا: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِلِحَاقِ أَحَدِهِمَا بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا تَنْتَهِي بِهِ الشَّرِكَةُ لأَِنَّهُ بِهَذَا يَصِيرُ مِنْ أَهْل دَارِ الْحَرْبِ، وَالْقَضَاءُ بِهِ عِنْدَهُمْ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ. بَل يَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ بِالْقَضَاءِ الْمَذْكُورِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا الْمَوْتَ الْحُكْمِيَّ كَانَ مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ (2) فَإِذَا بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ بِهَذَا السَّبَبِ، ثُمَّ عَادَ الشَّرِيكُ مُسْلِمًا، فَلاَ جَدْوَى بِالنِّسْبَةِ لِلشَّرِكَةِ: فَقَدْ بَطَلَتْ وَقُضِيَ الأَْمْرُ.
أَمَّا الرِّدَّةُ بِدُونِ هَذَا الْقَضَاءِ - سَوَاءٌ اقْتَرَنَتْ بِاللِّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ أَمْ لاَ - فَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إِيقَافُ الشَّرِكَةِ: حَتَّى إِذَا رَجَعَ الْمُرْتَدُّ إِلَى
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 215، نهاية المحتاج 5 / 10، المغني لابن قدامة 5 / 134.
(2) بدائع الصنائع 6 / 112، رد المحتار 3 / 309.(26/89)
الإِْسْلاَمِ عَادَتْ سِيرَتَهَا الأُْولَى، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِل، تَبَيَّنَ بُطْلاَنُهَا مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ (1) .
110 - سَادِسًا: مُخَالَفَةُ شُرُوطِ الْعَقْدِ: كَمَا لَوْ تَجَاوَزَ الشَّرِيكُ حُدُودَ الْمَكَانِ الَّذِي قُيِّدَتْ بِهِ (2) إِلاَّ أَنَّ الْبُطْلاَنَ يَكُونُ بِمِقْدَارِ الْمُخَالَفَةِ كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا، فَمِثَال الْمُخَالَفَةِ الْكُلِّيَّةِ مَا لَوْ نَهَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الآْخَرَ عَنِ الْخُرُوجِ بِالْبِضَاعَةِ، فَخَرَجَ بِهَا. وَمِثَال الْمُخَالَفَةِ الْجُزْئِيَّةِ: أَنْ يَبِيعَ نَسِيئَةً وَلاَ يُجِيزَهُ شَرِيكُهُ، فَيَبْطُل الْبَيْعُ فِي حِصَّةِ الشَّرِيكِ، وَيَنْفُذَ فِي حِصَّةِ الْبَائِعِ - وَفِي هَذِهِ الْحِصَّةِ تَبْطُل الشَّرِكَةُ حِينَئِذٍ.
111 - أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يُرَتِّبُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ شُرُوطِ الْعَقْدِ، بَل وَطَبِيعَتِهِ، إِلاَّ إِعْطَاءَ الشَّرِيكِ الآْخَرِ حَقَّ رَدِّ التَّصَرُّفِ الَّذِي وَقَعَتْ بِهِ الْمُخَالَفَةُ، وَتَضْمِينَ الْمُخَالِفِ - إِنْ ضَاعَ الْمَال بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِ. فَقَدْ نَصُّوا عَلَى ذَلِكَ فِيمَا إِذَا اسْتَبَدَّ بِالتَّصَرُّفِ شَرِيكُ الْعَنَانِ؛ لأَِنَّهَا تَقْتَضِي عَدَمَ اسْتِبْدَادِ شَرِيكٍ بِالتَّصَرُّفِ لِلشَّرِكَةِ، دُونَ مُرَاجَعَةِ شَرِيكِهِ (3) وَكَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ تَصَرُّفِ الشَّافِعِيَّةِ (4) بِإِزَاءِ بَيْعِ الشَّرِيكِ نَسِيئَةً دُونَ إِذْنِ شَرِيكِهِ، بِاعْتِبَارِهِ عِنْدَهُمْ لاَ يَسْتَمِدُّ حَقَّ الْبَيْعِ نَسِيئَةً
__________
(1) فتح القدير 5 / 34، رد المحتار 3 / 361، 362.
(2) رد المحتار 3 / 357.
(3) بلغة السالك 2 / 171.
(4) وموقفهم من الإجازة مشهور.(26/90)
مِنْ طَبِيعَةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ (1) .
112 - سَابِعًا: ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنَ الْمُبْطِلاَتِ. طُرُوَّ الْحَجْرِ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِسَفَهٍ. وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ الْحَجْرَ لِلْفَلَسِ إِلاَّ أَنَّهُ مُبْطِلٌ جُزْئِيٌّ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَلَسِ: بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ مِنَ الْمُفَلِّسِ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ أَيُّ تَصَرُّفٍ سَلَبَهُ الْحَجْرُ إِيَّاهُ. وَمِنْ قَوَاعِدِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِي الذِّمَّةِ يَنْفُذَانِ مِنَ الْمُفَلِّسِ. أَمَّا السَّفِيهُ، فَلاَ يَصِحُّ لَهُ تَصَرُّفٌ مَالِيٌّ إِلاَّ فِي الْوَصِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ. فَعَلَى هَذَا إِذَا بَاعَ الْمُفَلِّسُ أَوْ شَرِيكُهُ شَيْئًا مِنْ مَال الشَّرِكَةِ نَفَذَ فِي نَصِيبِ غَيْرِ الْمُفَلِّسِ وَإِذَا اشْتَرَى الْمُفَلِّسُ لِلشَّرِكَةِ فِي ذِمَّتِهِ نَفَذَ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ (2) .
الأَْسْبَابُ الْخَاصَّةُ:
113 - أَوَّلاً: هَلاَكُ الْمَال فِي شَرِكَةِ الأَْمْوَال عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: وَصُورَتُهُ أَنْ يَهْلِكَ الْمَالاَنِ، أَعْنِي مَال كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ: سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْل الشِّرَاءِ بِمَال الشَّرِكَةِ أَمْ بَعْدَهُ، أَوْ يَهْلِكَ مَال أَحَدِهِمَا قَبْل الشِّرَاءِ بِشَيْءٍ مِنْ مَال الشَّرِكَةِ. وَالشِّقُّ الثَّانِي مِنَ التَّرْدِيدِ لاَ يُتَصَوَّرُ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَال هَذَا الأَْحَدِ مُتَمَيِّزًا مِنْ مَال الآْخَرِ؛ لاِخْتِلاَفِ الْجِنْسِ، أَوْ لِعَدَمِ الاِخْتِلاَطِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَالاَنِ مِنْ جِنْسٍ
__________
(1) نهاية المحتاج وحواشيها 5 / 9.
(2) الرشيد على نهاية المحتاج 5 / 10، والمغني لابن قدامة 5 / 123.(26/90)
وَاحِدٍ وَقَدْ خُلِطَا، فَإِنَّ مَا يَهْلِكُ مِنْهُمَا يَهْلِكُ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ كِلَيْهِمَا - إِذْ لاَ يُمْكِنُ الْقَطْعُ بِأَنَّ الَّذِي هَلَكَ هُوَ مَال هَذَا دُونَ ذَاكَ، وَمَا بَقِيَ فَعَلَى الشَّرِكَةِ. وَالسِّرُّ فِي بُطْلاَنِ الشَّرِكَةِ بِهَلاَكِ الْمَال، أَنَّهُ عِنْدَمَا يَهْلِكُ مَال الشَّرِكَةِ كُلُّهُ يَكُونُ قَدْ هَلَكَ مَحَل الْعَقْدِ الْمُتَعَيَّنُ لَهُ، وَالْعَقْدُ يَبْطُل بِفَوَاتِ مَحَلِّهِ، كَالْبَيْعِ إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ. وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ الْهَالِكُ هُنَا مَحَلًّا لِلْعَقْدِ. لأَِنَّ الأَْثْمَانَ - وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَتَعَيَّنُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ لِئَلاَّ تَخْرُجَ عَنْ طَبِيعَةِ الثَّمَنِيَّةِ، وَتَصِيرَ سِلْعَةً مَقْصُودَةً بِذَاتِهَا - فَإِنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي غَيْرِهَا، كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ - مِنْ كُل عَقْدٍ لاَ يَكُونُ بِإِزَائِهَا فِيهِ عِوَضٌ. وَهَذِهِ هِيَ طَبِيعَةُ الشَّرِكَةِ (1) .
فَإِذَا بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ بِهَلاَكِ أَحَدِ الْمَالَيْنِ قَبْل الشِّرَاءِ، فَالْمَال الآْخَرُ خَالِصٌ لِصَاحِبِهِ، وَمَا يَشْتَرِيهِ بِهِ بَعْدُ يَكُونُ لَهُ خَاصَّةً لاَ سَبِيل لِمَنْ هَلَكَ مَالُهُ عَلَيْهِ، لاَ مِنْ طَرِيقِ الشَّرِكَةِ، لِمَا عُلِمَ مِنْ بُطْلاَنِهَا، وَلاَ مِنْ طَرِيقِ الْوَكَالَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي ضِمْنِهَا؛ لأَِنَّ بُطْلاَنَ الشَّرِكَةِ يَسْتَتْبِعُ بُطْلاَنَهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِلَفْظِ الْوَكَالَةِ (2) فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَا يَشْتَرِيهِ صَاحِبُ الْمَال الْبَاقِي مُشْتَرَكًا بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ؛ لأَِنَّ الْوَكَالَةَ الصَّرِيحَةَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 78، وفتح القدير 5 / 354.
(2) كما لو قالا: اتفقنا على أن ما اشتراه كل منا يكون مشتركًا بيننا. رد المحتار 3 / 354.(26/91)
لاَ تَبْطُل بِبُطْلاَنِ الشَّرِكَةِ (1) . وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّةٍ مِنَ الثَّمَنِ. لَكِنَّهَا إِذَنْ شَرِكَةُ مِلْكٍ، إِذْ لاَ عَقْدَ شَرِكَةٍ بَيْنَهُمَا.
114 - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ هَلاَكَ أَحَدِ الْمَالَيْنِ عَلَى الشَّرِكَةِ بِإِطْلاَقٍ، وَالْبَاقِي بِلاَ هَلاَكٍ لِلشَّرِكَةِ كَذَلِكَ؛ لأَِنَّهُمْ يَحْكُمُونَ بِاشْتِرَاكِ الْمَالَيْنِ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَيَقُولُونَ إِنَّ الْمَال يُقْسَمُ بِكَلِمَةٍ، كَمَا فِي الْخَرْصِ، فَلاَ غَرْوَ أَنْ يُشْتَرَكَ فِيهِ بِكَلِمَةٍ، كَمَا فِي الشَّرِكَةِ. فَإِذَا كَانَتِ الشَّرِكَةُ بِالْمَال مُنَاصَفَةً، اقْتَضَى مُجَرَّدُ عَقْدِهَا ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فِي نِصْفِ مَال صَاحِبِهِ (2) وَتَوَسَّطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي مُعْتَمَدِهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّ هَلاَكَ أَحَدِ الْمَالَيْنِ قَبْل خَلْطِهِمَا، وَلَوْ خَلْطًا حُكْمِيًّا، يَكُونُ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِهِ خَاصَّةً، لاَ مِنْ ضَمَانِ الشَّرِكَةِ - وَمَعَ ذَلِكَ تَبْقَى الشَّرِكَةُ: بِحَيْثُ يَكُونُ مَا يُشْتَرَى بِالْمَال الْبَاقِي لَهَا، وَعَلَى الشَّرِيكِ الَّذِي تَلِفَ مَالُهُ حِصَّتُهُ فِي الثَّمَنِ - إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ بَعْدَ عِلْمِ الْمُشْتَرِي بِهَلاَكِ الْمَال الآْخَرِ وَلَمْ يُرِدْهُ لِلشَّرِكَةِ الشَّرِيكُ الَّذِي هَلَكَ مَالُهُ، أَوْ أَرَادَهُ وَلَكِنِ ادَّعَى الآْخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ:
__________
(1) فتح القدير 5 / 23، بدائع الصنائع 6 / 78، رد المحتار 3 / 353 - 354.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 128.(26/91)
فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْمَال الْبَاقِي وَحْدَهُ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ، فَلَمْ أَرَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ كَلاَمًا صَرِيحًا. وَلَكِنَّ مُقْتَضَى جَعْلِهِمُ الْخَلْطَ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الشَّرِكَةِ بُطْلاَنُ الشَّرِكَةِ، بِهَلاَكِ أَحَدِ الْمَالَيْنِ فِيمَا عَدَاهُ أَوْ هَلاَكُ الْمَالَيْنِ جَمِيعًا (2) .
115 - ثَانِيًا: فَوَاتُ التَّسَاوِي فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ: سَوَاءٌ كَانَ الْفَائِتُ هُوَ التَّسَاوِي فِي رَأْسِ الْمَال، أَمْ فِي أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، وَإِذَا بَطَلَتِ الْمُفَاوَضَةُ بِهَذَا أَوْ ذَاكَ، انْقَلَبَتْ عَنَانًا، لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْعَنَانِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
ثَالِثًا: انْتِهَاءُ الْمُدَّةِ فِي الشَّرِكَةِ الْمُؤَقَّتَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّأْقِيتَ صَحِيحٌ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ عَدَا الطَّحَاوِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
__________
(1) بلغة السالك 2 / 168.
(2) نهاية المحتاج وحواشيها 5 / 10، مغني المحتاج 5 / 215.
(3) الفتاوى الهندية 2 / 311.(26/92)
شُرُوعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشُّرُوعُ مَصْدَرُ شَرَعَ. يُقَال: شَرَعْتُ فِي الأَْمْرِ أَشْرَعُ شُرُوعًا، أَخَذْتُ فِيهِ، وَشَرَعْتَ فِي الْمَاءِ شُرُوعًا شَرِبْتَ بِكَفَّيْكَ أَوْ دَخَلْتَ فِيهِ، وَشَرَعْتَ الْمَال (أَيِ الإِْبِل) أَشْرَعُهُ: أَوْرَدْتُهُ الشَّرِيعَةَ، وَشَرَعَ الْبَابُ إِلَى الطَّابَقِ شُرُوعًا: اتَّصَل بِهِ، وَطَرِيقٌ شَارِعٌ يَسْلُكُهُ النَّاسُ عَامَّةً، وَأَشْرَعْتُ الْجَنَاحَ إِلَى الطَّرِيقِ: وَضَعْتُهُ.
وَمِنْهُ: شَرَعَ اللَّهُ الدِّينَ، أَيْ سَنَّهُ وَبَيَّنَهُ، وَمِنْهُ الشَّرِيعَةُ وَهِيَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالأَْحْكَامِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشُّرُوعِ:
الشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَاتِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْعِبَادَاتِ يَتَحَقَّقُ بِالْفِعْل مَقْرُونًا بِالنِّيَّةِ حَقِيقَةً
__________
(1) لسان العرب، والمشوف المعلم 1 / 423، 424، والمصباح والمنير، ومختار الصحاح، والمعجم الوسيط.(26/92)
أَوْ حُكْمًا بِحَسَبِ كُل عِبَادَةٍ، فَعَلَى سَبِيل الْمِثَال يَكُونُ الشُّرُوعُ فِي الصَّلاَةِ بِتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ مَقْرُونَةً بِالنِّيَّةِ، وَالصَّوْمُ يَكُونُ الشُّرُوعُ فِيهِ بِالنِّيَّةِ وَالإِْمْسَاكِ (1) .
(انْظُرْ مُصْطَلَحَ: عِبَادَةٌ - نِيَّةٌ - صَلاَةٌ - صَوْمٌ - حَجٌّ - جِهَادٌ - ذِكْرٌ) .
الشُّرُوعُ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
3 - يَتَحَقَّقُ الشُّرُوعُ فِي الْمُعَامَلاَتِ: بِالْقَوْل، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَنُوبُ عَنْهُ مِنَ: الْمُعَاطَاةِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهَا، أَوِ الْكِتَابَةِ، أَوِ الإِْشَارَةِ.
وَلاَ تُعَدُّ النِّيَّةُ هُنَا شُرُوعًا فِي الْبَيْعِ، أَوِ النِّكَاحِ، أَوِ الإِْجَارَةِ، أَوِ الْهِبَةِ، أَوِ الْوَقْفِ، أَوِ الْوَصِيَّةِ، أَوِ الْعَارِيَّةِ، أَوْ غَيْرِهَا مِنْ أَصْنَافِ الْمُعَامَلاَتِ؛ لأَِنَّنَا لاَ نَعْلَمُ الْقَصْدَ الْمَنْوِيَّ. فَهَذِهِ الْمُعَامَلاَتُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، فَإِيجَابُ الْمُوجِبِ بِقَوْلِهِ: " بِعْتُكَ كَذَا وَكَذَا " شُرُوعٌ فِي الْبَيْعِ، فَإِذَا قَبِل الْبَائِعُ هَذَا الإِْيجَابَ تَمَّ الْبَيْعُ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 19، 199، والهداية شرع بداية المبتدي - للمرغيناني 1 / 30، والكافي لابن عبد البر 1 / 164، 199، 334، والأشباه والنظائر - للسيوطي ص 43، والأم - للإمام الشافعي 1 / 86، وروضة الطالبين للنووي 1 / 224، وشرح التحرير - للأنصاري 1 / 182، 183، والمغني 1 / 110، 264.
(2) الهداية 3 / 16، 17، والمقدمات الزكية ص 250، 251.(26/93)
الشُّرُوعُ فِي الْجِنَايَاتِ:
4 - يَتَحَقَّقُ الشُّرُوعُ فِي الْجِنَايَاتِ وَالْحُدُودِ: بِالْفِعْل لاَ بِالْقَوْل، وَلاَ بِالنِّيَّةِ.
مَا يَجِبُ إِتْمَامُهُ بِالشُّرُوعِ:
4 م مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَى الْمُكَلَّفِ، إِذَا شَرَعَ فِيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ بِاتِّفَاقٍ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ قَطْعُهُ أَوِ الاِنْصِرَافُ عَنْهُ إِلاَّ بَعْدَ إِتْمَامِهِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ حَالَةُ الضَّرُورَةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْ إِتْمَامِهِ، كَأَنْ يُنْتَقَضَ وُضُوءُ الْمُصَلِّي، أَوْ يُغْمَى عَلَيْهِ، أَوْ تَحِيضَ الْمَرْأَةُ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَعُوقُ الْمُكَلَّفَ عَنِ الإِْتْمَامِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (اسْتِئْنَافٌ - حَيْضٌ - صَلاَةٌ) .
وَمِثْل الصَّلاَةِ كُل مَفْرُوضٍ مِنْ: صِيَامٍ أَوْ زَكَاةٍ، أَوْ حَجٍّ، إِذَا شَرَعَ فِيهِ وَجَبَ إِتْمَامُهُ، وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، وَقَدْ يَجْلِبُ عَلَيْهِ الْعِقَابَ فِي الدُّنْيَا، كَالْكَفَّارَةِ لِمَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا فِي رَمَضَانَ بِدُونِ عُذْرٍ، وَلُزُومِ الْهَدْيِ لِمَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ أَوْ عُمْرَتَهُ، وَإِعَادَتُهُمَا فِي الْعَامِ الْقَابِل أَمْرٌ لاَزِمٌ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّتِهِ.
قَال الزَّرْكَشِيُّ: أَمَّا الشَّارِعُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ، إِذَا أَرَادَ قَطْعَهُ فَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ مِنْ قَطْعِهِ بُطْلاَنُ مَا مَضَى مِنَ الْفِعْل حَرُمَ كَصَلاَةِ(26/93)
الْجِنَازَةِ، وَإِلاَّ فَإِنْ لَمْ تَفُتْ بِقَطْعِهِ الْمَصْلَحَةُ الْمَقْصُودَةُ لِلشَّارِعِ، بَل حَصَلَتْ بِتَمَامِهَا، كَمَا إِذَا شَرَعَ فِي إِنْقَاذِ غَرِيقٍ ثُمَّ حَضَرَ آخَرُ لإِِنْقَاذِهِ جَازَ قَطْعًا.
نَعَمْ ذَكَرُوا فِي اللَّقِيطِ أَنَّ مَنِ الْتَقَطَ لَيْسَ لَهُ نَقْلُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ حَصَل الْمَقْصُودُ، لَكِنْ لاَ عَلَى التَّمَامِ، وَالأَْصَحُّ أَنَّ لَهُ الْقَطْعَ أَيْضًا، كَالْمُصَلِّي فِي جَمَاعَةٍ يَنْفَرِدُ، وَإِنْ قُلْنَا الْجَمَاعَةُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَالشَّارِعُ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ قَطْعَهُ لَهُ لاَ يَجِبُ بِهِ بُطْلاَنُ مَا عَرَفَهُ أَوَّلاً؛ لأَِنَّ بَعْضَهُ لاَ يَرْتَبِطُ بِبَعْضٍ، وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ، فَالصُّوَرُ ثَلاَثَةٌ:
قَطْعٌ يُبْطِل الْمَاضِيَ فَيَبْطُل قَطْعًا، وَقَطْعٌ لاَ يُبْطِلُهُ وَلاَ يُفَوِّتُ الشَّاهِدَ فَيَجُوزُ قَطْعًا، وَقَطْعٌ لاَ يُبْطِل أَصْل الْمَقْصُودِ، وَلَكِنْ يُبْطِل أَمْرًا مَقْصُودًا عَلَى الْجُمْلَةِ، فَفِيهِ خِلاَفٌ.
قَال الْفَتُوحِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَتَعَيَّنُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَيَجِبُ إِتْمَامُهُ عَلَى الأَْظْهَرِ وَيُؤْخَذُ لُزُومُهُ بِالشُّرُوعِ مِنْ مَسْأَلَةِ حِفْظِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ تَرْكُ الْحِفْظِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَفِي وَجْهٍ يُكْرَهُ (1) .
__________
(1) جامع الأسرار - للبخاري ص 102، والمجموع للنووي 6 / 394، الفوائد في اختصار المقاصد - للعز بن عبد السلام ص 105، شرح الكوكب المنير - لابن النجار 1 / 378، والمنثور في القواعد للزركشي 2 / 243.(26/94)
5 - أَمَّا مَا نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّارِعُ مِنَ السُّنَنِ فَإِنْ كَانَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً وَشَرَعَ فِيهِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الإِْتْمَامُ بِاتِّفَاقٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (1) . وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا فَإِتْمَامُهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ مَحَل خِلاَفٍ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي نَفْلٍ لَزِمَهُ إِتْمَامُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (2) فَمَا أَدَّاهُ وَجَبَ صِيَانَتُهُ وَحِفْظُهُ عَنِ الإِْبْطَال؛ لأَِنَّ الْعَمَل صَارَ حَقًّا لِلَّهِ، وَلاَ سَبِيل إِلَى حِفْظِهِ إِلاَّ بِالْتِزَامِ الْبَاقِي، فَوَجَبَ الإِْتْمَامُ ضَرُورَةً.
فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ بِدُونِ عُذْرٍ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَعَلَيْهِ الإِْثْمُ، وَالْعِقَابُ عَلَى تَرْكِهِ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ لِعُذْرٍ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ. فَأَصْبَحَتِ النَّافِلَةُ عِنْدَهُمْ وَاجِبًا بَعْدَ الشُّرُوعِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنَ النَّفْل بِعُذْرٍ، فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي النَّفْل لَمْ يَلْزَمْهُ الْمُضِيُّ فِيهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِذَا لَمْ يُتِمَّهُ؛ لأَِنَّ النَّفَل لَمَّا شُرِعَ غَيْرَ لاَزِمٍ قَبْل الشُّرُوعِ، وَجَبَ أَنْ يَبْقَى كَذَلِكَ بَعْدَ الشُّرُوعِ؛ لأَِنَّ حَقِيقَةَ الشَّرْعِ لاَ تَتَغَيَّرُ
__________
(1) سورة البقرة / 196.
(2) سورة محمد / 33.(26/94)
بِالشُّرُوعِ وَلَوْ أَتَمَّهُ صَارَ مُؤَدِّيًا لِلنَّفْل، لاَ مُسْقِطًا لِلْوُجُوبِ. أَمَّا لَوْ شَرَعَ فِي صَوْمِ نَفْلٍ فَنَذَرَ إِتْمَامَهُ، لَزِمَهُ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي النَّفْل يُسْتَحَبُّ لَهُ الْبَقَاءُ فِيهِ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ لاَ إِثْمَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ (1) .
6 - أَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: إِذَا شَرَعَ الْمُكَلَّفُ فِيهَا، فَيُكْرَهُ قَطْعُهَا لِمُكَالَمَةِ النَّاسِ، فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْثِرَ كَلاَمَهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: " أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ (2) .
وَأَمَّا الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ فَإِنَّهُمَا إِذَا شَرَعَتَا فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، نَاسِيَةً إِحْدَاهُمَا أَنَّهَا حَائِضٌ، وَالأُْخْرَى أَنَّهَا نُفَسَاءُ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الاِسْتِمْرَارُ فِي الْقِرَاءَةِ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقَطْعُ.
أَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ، وَمَنْ بِهِ عُذْرٌ، كَسَلَسِ الْبَوْل وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُهُمَا
__________
(1) المجموع للنووي 6 / 394، والهداية لمرغيناني 1 / 128، والمغني لابن قدامة 3 / 151 - 153، والمحصول للرازي 1 / 2 / 357 - 358، وأصول السرخسي 1 / 115، وشرح الجلال المحلي على منهاج الطالبين 4 / 291، 294، ومرآة الأصول للأزميري 2 / 393.
(2) أثر ابن عمر: أنه كان إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه. أخرجه البخاري (الفتح 8 / 189 - ط السلفية) .(26/95)
لِلصَّلاَةِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ، فَإِذَا شَرَعَ فِي قِرَاءَةٍ مُتَوَضِّئًا، فَلاَ يَقْطَعُ نَدْبًا، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُ السُّورَةِ أَوِ الْحِزْبِ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
أَمَّا إِذَا شَرَعَ الْمُكَلَّفُ الَّذِي لاَ يَمْنَعُهُ مَانِعٌ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، ثُمَّ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ لِضَرُورَةٍ طَرَأَتْ عَلَيْهِ - كَخُرُوجِ رِيحٍ، أَوْ حَصْرِ بَوْلٍ، فَلَهُ عَدَمُ إِتْمَامِ مَا قَرَأَ وَيَنْتَهِي إِلَى حَيْثُ يَقِفُ، وَإِذَا تَرَكَهُ لاَ لِضَرُورَةٍ، فَلاَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَتَخَيَّرَ الْوَقْفَ، بِانْتِهَاءِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يَقْرَأُ، فَلَوْ كَانَ يَقْرَأُ فِي قِصَّةِ مُوسَى، أَوْ هُودٍ أَوْ أَهْل الْكَهْفِ، فَلْيُتِمَّهَا نَدْبًا حَتَّى لاَ يَكُونُ كَلاَمُهُ مَبْتُورًا، وَحَتَّى تَكْتَمِل فِي رَأْسِهِ الْمَوْعِظَةُ.
أَمَّا إِذَا شَرَعَ فِي غَيْرِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ - كَوِرْدٍ مِنَ الأَْوْرَادِ، أَوْ مَا يُسَمَّى بِالذِّكْرِ الْجَمَاعِيِّ أَوِ الْفَرْدِيِّ - فَلاَ يُطَالَبُ بِإِتْمَامِهِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُلْزَمٍ بِهِ.
7 - وَأَمَّا الْمُبَاحُ: إِذَا شَرَعَ فِيهِ الْمُكَلَّفُ فَإِتْمَامُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ؛ لأَِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - خَيَّرَ الْمُكَلَّفَ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ.
الشُّرُوعُ فِي الْعُقُودِ:
أَوَّلاً: عَقْدُ الْبَيْعِ:
8 - الْبَيْعُ إِيجَابٌ وَقَبُولٌ، فَإِنْ حَصَل الإِْيجَابُ كَانَ شُرُوعًا فِي الْبَيْعِ، فَإِنْ وَافَقَهُ(26/95)
الْقَبُول كَانَ إِتْمَامًا لِلْبَيْعِ. فَإِنْ رَجَعَ الْمُوجِبُ فِي إِيجَابِهِ، قَبْل صُدُورِ الْقَبُول، يَكُونُ رُجُوعًا عَنِ الشُّرُوعِ فِي الْبَيْعِ فَإِنْ صَدَرَ الْقَبُول قَبْل عَوْدِ الْمُوجِبِ تَمَّ الْبَيْعُ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِيجَابٌ) (وَبَيْعٌ)
ثَانِيًا: الْهِبَةُ:
9 - يَكُونُ الشُّرُوعُ فِي الْهِبَةِ بِلَفْظِ: وَهَبْتُ، وَأَعْطَيْتُ، وَنَحَلْتُ، وَلاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِالْقَبْضِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَلاَ تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ (2) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (هِبَةٌ) .
ثَالِثًا: الْوَقْفُ:
10 - الشُّرُوعُ فِي الْوَقْفِ يَكُونُ بِلَفْظِ: وَقَفْتُ، وَحَبَسْتُ، فَمَنْ أَتَى بِكَلِمَةٍ مِنْهُمَا، كَانَ شَارِعًا فِي الْوَقْفِ، وَلَزِمَهُ لِعَدَمِ احْتِمَال غَيْرِهِمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِهِ، وَلِلْوَاقِفِ الرُّجُوعُ فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَلْزَمَ، أَوْ يَحْكُمَ بِلُزُومِهِ حَاكِمٌ.
وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ، فَقَالاَ بِلُزُومِهِ، وَأَنَّهُ يَنْقُل الْمِلْكَ، وَلاَ يَقِفُ لُزُومُهُ عَلَى الْقَبْضِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، وَإِخْرَاجِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 2 - 6، المغني لابن قدامة 3 / 560 - 566.
(2) مطالب أولي النهى 4 / 378، والمغني لابن قدامة 5 / 649، مغني المحتاج 2 / 396.(26/96)
الْوَقْفِ لَهُ عَنْ يَدِهِ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (وَقْفٌ) .
رَابِعًا: الْوَصِيَّةُ:
11 - الشُّرُوعُ فِي الْوَصِيَّةِ يَقَعُ بِالْقَوْل أَوِ الْكِتَابَةِ، كَأَنْ يُوصِيَ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَتَتِمَّ وَيَلْزَمَ بِقَبُول الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنَ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي (2) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (وَصِيَّةٌ) .
خَامِسًا: الْعَارِيَّةُ:
12 - يَكُونُ الشُّرُوعُ فِيهَا كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْمُنْضَبِطَةِ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول
، فَيَكُونُ الإِْيجَابُ بِقَوْلِهِ: أَعَرْتُكَ كَذَا شُرُوعًا فِي الإِْعَارَةِ، وَيَكُونُ الْقَبُول فِيهَا إِتْمَامًا لِعَقْدِ الْعَارِيَّةُ، فَبِهِ يَتِمُّ الْعَقْدُ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْمُعِيرِ وَالْمُسْتَعِيرِ الرُّجُوعُ قَبْل صُدُورِ الْقَبُول، وَقَبْل الْقَبْضِ أَيْضًا بِرَفْضِ أَخْذِهَا، وَلَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ لأَِنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. (ر: إِعَارَةٌ) .
الشُّرُوعُ بِدُونِ إِذْنٍ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ:
13 - الشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ، إِذْ إِنَّ فَرْضِيَّتَهَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ لاَ يَقْتَضِي إِذْنًا مِنْ أَحَدٍ.
__________
(1) مطالب أولي النهى 4 / 273، والمغني 5 / 597، 598، 649. ومغني المحتاج 2 / 382، 376.
(2) المغني 6 / 1 - 2، 68 - 69، ومغني المحتاج مع المنهاج 3 / 39، 71 - 72.(26/96)
أَمَّا الْعِبَادَاتُ غَيْرُ الْمَفْرُوضَةِ، وَالْمُعَامَلاَتُ، فَقَدْ أَوْجَبَ الشَّارِعُ الإِْذْنَ فِيهَا لِحَقِّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ، كَحَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ، وَحَقِّ الْوَلِيِّ عَلَى الصَّغِيرِ وَالسَّفِيهِ.
فَأَعْطَى لِلزَّوْجِ أَنْ تَسْتَأْذِنَهُ زَوْجَتُهُ فِي فِعْل بَعْضِ النَّوَافِل مِنَ الْعِبَادَاتِ فَإِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهَا، وَلَمْ تُطِعْهُ، كَانَ لَهُ مَنْعُهَا، فَإِذَا شَرَعَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْحَجِّ تَطَوُّعًا، بِدُونِ إِذْنِ زَوْجِهَا، فَلِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا، وَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ.
وَكَذَا إِذَا شَرَعَتْ فِي صِيَامِ نَفْلٍ بِدُونِ إِذْنِهِ، لَهُ أَنْ يُفَطِّرَهَا، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: لاَ يَحِل لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (1) .
شُرُوقٌ
انْظُرْ: طُلُوعٌ
شِطْرَنْجٌ
انْظُرْ: لَعِبٌ
__________
(1) حديث: " لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 295 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 711 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(26/97)
شَعَائِرُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشَّعَائِرُ: جَمْعُ شَعِيرَةٍ: وَهِيَ الْعَلاَمَةُ: مَأْخُوذٌ مِنَ الإِْشْعَارِ الَّذِي هُوَ الإِْعْلاَمُ، وَمِنْهُ شِعَارُ الْحَرْبِ وَهُوَ مَا يَسِمُ الْعَسَاكِرُ عَلاَمَةً يَنْصِبُونَهَا لِيَعْرِفَ الرَّجُل رُفْقَتَهُ (1) .
وَإِذَا أُضِيفَتْ شَعَائِرُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ: " أَعْلاَمُ دِينِهِ الَّتِي شَرَعَهَا، اللَّهُ فَكُل شَيْءٍ كَانَ عَلَمًا مِنْ أَعْلاَمِ طَاعَتِهِ فَهُوَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (2) ".
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ فِي (شَعَائِرِ اللَّهِ) لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
فَكُل مَا كَانَ مِنْ أَعْلاَمِ دِينِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ تَعَالَى فَهُوَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، فَالصَّلاَةُ، وَالصَّوْمُ وَالزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَمَنَاسِكُهُ وَمَوَاقِيتُهُ، وَإِقَامَةُ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ فِي مَجَامِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبُلْدَانِ وَالْقُرَى مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَمِنْ أَعْلاَمِ طَاعَتِهِ. وَالأَْذَانُ وَإِقَامَةُ الْمَسَاجِدِ وَالدِّفَاعُ عَنْ بَيْضَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ مِنْ
__________
(1) لسان العرب
(2) تفسير الفخر الرازي في تفسير آية: " إن الصفا والمروة من شعائر الله "، التعريفات للجرجاني، تفسير البيضاوي في تفسير الآية المذكورة.(26/97)
شَعَائِرِ اللَّهِ (1) . قَال تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (2) . وَالآْيَةُ بَعْدَ الأَْمْرِ بِالصَّلاَةِ، وَالزَّكَاةِ فِي أَكْثَرَ مِنْ آيَةٍ مِنَ السُّورَةِ وَبَعْدَ ذِكْرِ الصَّبْرِ وَالْقَتْل فِي سَبِيل اللَّهِ - وَهُوَ الْجِهَادُ لإِِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ - تُفِيدُ أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ جُمْلَةِ شَعَائِرِ اللَّهِ، أَيْ أَعْلاَمِ دِينِهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (3) .
وَكَذَلِكَ الْمُرَادُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (4) ، أَيْ مَعَالِمِ دِينِ اللَّهِ، وَطَاعَتِهِ. وَتَعْظِيمُهَا: أَدَاؤُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا.
وَقِيل: الْمُرَادُ مِنْهَا الْعِبَادَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَعْمَال النُّسُكِ، وَمَوَاضِعِهَا، وَزَمَنِهَا. وَقِيل: الْمُرَادُ مِنْهَا الْهَدْيُ خَاصَّةً. وَتَعْظِيمُهَا: اسْتِسْمَانُهَا. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالإِْشْعَارُ عَلَيْهَا: جَعْل عَلاَمَةٍ عَلَى سَنَامِهَا؛ بِأَنْ يُعَلِّمَ بِالْمُدْيَةِ لِيُعْرَفَ أَنَّهَا هَدْيٌ فَيَكُونَ ذَلِكَ عَلَمًا
__________
(1) تفسير ابن حبان، وتفسير البيضاوي، وتفسير الفخر الرازي في تفسير آيتي (إن الصفا والمروة) (ومن يعظم شعائر الله) .
(2) سورة البقرة / 158.
(3) سورة الحج / 36.
(4) سورة الحج / 32.(26/98)
عَلَى إِحْرَامِ صَاحِبِهَا وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ جَعَلَهَا هَدْيًا لِبَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَلاَ يُتَعَرَّضُ لَهَا (1) .
قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ} (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِقَامَةُ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ الظَّاهِرَةِ، وَإِظْهَارُهَا، فَرْضًا كَانَتِ الشَّعِيرَةُ أَمْ غَيْرَ فَرْضٍ.
وَعَلَى هَذَا إِنِ اتَّفَقَ أَهْل مَحَلَّةٍ أَوْ بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَرْكِ شَعِيرَةٍ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ الظَّاهِرَةِ قُوتِلُوا، فَرْضًا كَانَتِ الشَّعِيرَةُ أَوْ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً، كَالْجَمَاعَةِ فِي الصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالأَْذَانِ لَهَا. وَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ الظَّاهِرَةِ (3) .
لأَِنَّ تَرْكَ شَعَائِرِ اللَّهِ يَدُل عَلَى التَّهَاوُنِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعِ أَوَامِرِهِ.
هَذَا وَمِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ مَنَاسِكُ الْحَجِّ كَالإِْحْرَامِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَمِنًى وَذَبْحِ الْهَدْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) سورة المائدة / 2.
(3) أسنى المطالب 4 / 174، روضة الطالبين 10 / 217، بدائع الصنائع 1 / 232 و 7 / 98، كشاف القناع 1 / 232، نهاية المحتاج 2 / 36 - 37.(26/98)
أَعْمَال الْحَجِّ الظَّاهِرَةِ، وَمِنَ الشَّعَائِرِ فِي غَيْرِ الْحَجِّ: الأَْذَانُ، وَالإِْقَامَةُ، وَصَلاَةُ الْجَمَاعَةِ، وَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَالْجِهَادُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَتُنْظَرُ أَحْكَامُ كُلٍّ مِنْهَا فِي مُصْطَلَحِهِ مِنَ الْمَوْسُوعَةِ.(26/99)
شِعَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الشِّعَارُ مِنَ الثِّيَابِ هُوَ مَا وَلِيَ جَسَدَ الإِْنْسَانِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الثِّيَابِ. سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمُمَاسَّتِهِ الشَّعْرَ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الأَْنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ (1) . يَصِفُهُمْ بِالْمَوَدَّةِ وَالْقُرْبِ.
وَالشِّعَارُ أَيْضًا مَا يُشْعِرُ الإِْنْسَانُ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْحَرْبِ، وَشِعَارُ الْعَسَاكِرِ، أَنْ يَسِمُوا لَهَا عَلاَمَةً يَنْصِبُونَهَا لِيَعْرِفَ الرَّجُل بِهَا رُفْقَتَهُ، وَالشِّعَارُ أَيْضًا عَلاَمَةُ الْقَوْمِ فِي الْحَرْبِ وَهُوَ مَا يُنَادَوْنَ بِهِ لِيَعْرِفَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ شِعَارَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِتْ أَمِتْ (2) .
وَأَشْعَرَ الْقَوْمُ: نَادَوْا بِشِعَارِهِمْ. وَالشِّعَارُ
__________
(1) حديث: الأنصار شعار والناس دثار. أخرجه البخاري (الفتح 8 / 47 - ط السلفية) . ومسلم (2 / 739 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن زيد.
(2) حديث: " كان شعار النبي صلى الله عليه وسلم: أمت أمت ": أخرجه الحاكم (2 / 107 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث سلمة بن الأكوع وصححه ووافقه الذهبي.(26/99)