وَيَقْبَل الْوَدِيعَةَ وَلاَ يَقْبَل التَّوْكِيل، وَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا يُوهَبُ لَهُ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ لاَ بِصَدَقَةٍ وَنَحْوِهَا وَلاَ بِهِبَةٍ إِلاَّ هِبَةَ الثَّوَابِ (الْهِبَةُ بِعِوَضٍ) . وَيَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ لِلإِْفْلاَسِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالْحُرِّ (1) .
اكْتِسَابُ الرَّقِيقِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ وَالْتِقَاطُهُ:
112 - لِلرَّقِيقِ الاِكْتِسَابُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ كَالاِصْطِيَادِ وَالاِحْتِطَابِ، وَيَكُونُ مَا يُحَصِّلُهُ لِسَيِّدِهِ (2) . وَكَذَا لَوْ وَجَدَ رِكَازًا (3) .
وَإِنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلَهُ أَخْذُهَا وَهُوَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، وَالْتِقَاطُهُ صَحِيحٌ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ اللُّقَطَةِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ. بِدَلاَلَةِ عُمُومِ أَحَادِيثِ اللُّقَطَةِ، وَقِيَاسًا عَلَى الْتِقَاطِ الصَّبِيِّ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ؛ وَلأَِنَّ الاِلْتِقَاطَ تَخْلِيصُ مَالٍ مِنَ الْهَلاَكِ فَجَازَ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، كَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ وَالْمَغْصُوبِ. وَإِذَا الْتَقَطَ كَانَتِ اللُّقَطَةُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، وَإِنْ عَرَّفَهَا حَوْلاً صَحَّ تَعْرِيفُهُ فَإِذَا تَمَّ الْحَوْل مَلَكَهَا سَيِّدُهُ، وَلِلسَّيِّدِ انْتِزَاعُهَا مِنْهُ أَثْنَاءَ الْحَوْل وَيُتَمِّمُ تَعْرِيفَهَا.
وَإِنْ تَمَلَّكَهَا الْعَبْدُ أَثْنَاءَ الْحَوْل أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا ضَمِنَهَا لِصَاحِبِهَا فِي رَقَبَتِهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الأَْظْهَرُ، لاَ يَصِحُّ
__________
(1) شرح الزرقاني 5 / 303.
(2) روضة الطالبين 5 / 393، والمغني 5 / 666، وشرح الأشباه 2 / 156.
(3) كشاف القناع 2 / 227.(23/70)
الْتِقَاطُ الْعَبْدِ لأَِنَّ اللُّقَطَةَ فِي الْحَوْل أَمَانَةٌ وَوِلاَيَةٌ وَبَعْدَهُ تَمَلُّكٌ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَةِ وَلاَ مِنْ أَهْل الْمِلْكِ (1) .
الرَّقِيقُ وَالْجِنَايَاتُ:
الْقِصَاصُ بَيْنَ الأَْحْرَارِ وَالرَّقِيقِ:
113 - أ - إِذَا قَتَل الْحُرُّ الْمُسْلِمُ رَقِيقًا فَلاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ بَل يُعَزَّرُ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِل سَيِّدًا لِلرَّقِيقِ أَوْ أَجْنَبِيًّا، لِمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يُقَادُ مَمْلُوكٌ مِنْ مَالِكٍ (2) . وَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يُقْتَل حُرٌّ بِعَبْدٍ (3) .
وَيُجْلَدُ الْحُرُّ إِذَا قَتَل عَبْدًا مِائَةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لِمَا رَوَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلاً قَتَل عَبْدَهُ فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَنَفَاهُ عَامًا وَمَحَا اسْمَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْ مِنَ الْعَطَاءِ (4) ". وَلِمَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 393 - 397، والمغني 5 / 666، وكشاف القناع 4 / 225، وجواهر الإكليل1 / 218، وشرح الأشباه 2 / 156.
(2) حديث: " لا يقاد مملوك من مالك ". أخرجه الحاكم (4 / 368 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عمر بن الخطاب وضعفه الذهبي.
(3) حديث: " لا يقتل حر بعبد ". أخرجه البيهقي (8 / 35 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس، وقال البيهقي: " في هذا الإسناد ضعف ".
(4) حديث: " أن رجلاً قتل عبده فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ". ذكره ابن قدامة في المغني (7 / 659 - ط الرياض) وقال: " رواه سعيد والخلال وقال أحمد: ليس بشيء من قبل إسحاق بن أبي فروة ".(23/71)
: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (1) وَلأَِنَّ الْعَبْدَ مَنْقُوصٌ بِالرِّقِّ فَلاَ يُكَافِئُ الْحُرَّ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَل بِالْعَبْدِ - إِلاَّ عَبْدَ نَفْسِهِ فَلاَ يُقْتَل بِهِ، وَكَذَا عَبْدُ وَلَدِهِ - لِعُمُومِ آيَاتِ الْقِصَاصِ نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (2) وَقَوْلِهِ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (3) ، وَلِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ نَحْوِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ (4) . وَقَوْلِهِ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ (5) .
وَنَقَل ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ النَّخَعِيَّ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَل بِعَبْدِ نَفْسِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَل عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ (6) .
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) سورة البقرة / 178.
(3) سورة المائدة / 45.
(4) حديث: " المسلمون تتكافأ دماؤهم ". أخرجه أحمد (2 / 192 - ط الميمنية) من حديث عبد الله بن عمر، وإسناده حسن.
(5) حديث: " النفس بالنفس ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 201 - ط السلفية) من حديث ابن مسعود.
(6) المغني 7 / 658، 659، والزرقاني 8 / 3، وجواهر الإكليل 2 / 272، وبداية المجتهد 2 / 364، 372، وحاشية ابن عابدين 5 / 343، 344. وحديث: " من قتل عبده قتلناه ". أخرجه الترمذي (4 / 26 - ط الحلبي) من حديث الحسن عن سمرة، وقال ابن حجر: " الحسن مختلف في سماعه من سمرة "، كذا في التلخيص (3 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية) .(23/71)
وَأَمَّا فِي الأَْطْرَافِ فَلاَ يُقْتَصُّ مِنَ الْحُرِّ إِذَا قَطَعَ طَرَفَ رَقِيقٍ. وَنَقَل ابْنُ رُشْدٍ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا.
وَحَيْثُ وَجَبَ الْقِصَاصُ فَالْحَقُّ لِلسَّيِّدِ، لَهُ طَلَبُهُ، وَلَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ.
وَحَيْثُ لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ، يَجِبُ التَّعْزِيرُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ (1) .
114 - ب - وَأَمَّا إِذَا قَتَل الرَّقِيقُ حُرًّا سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُول سَيِّدَهُ أَوْ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يُقْتَل بِهِ اتِّفَاقًا إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُ الْقِصَاصِ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ آيَاتِ الْقِصَاصِ، وَلأَِنَّهُ يُقْتَل بِالْعَبْدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (2) فَقَتْلُهُ بِالْحُرِّ أَوْلَى لأَِنَّ الْحُرَّ أَكْمَل مِنَ الْعَبْدِ.
وَكَذَا يُؤْخَذُ طَرَفُ الْعَبْدِ بِطَرَفِ الْحُرِّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنَ الْعَبْدِ لِلْحُرِّ فِي الْجِرَاحِ وَالأَْعْضَاءِ، قَال الزَّرْقَانِيُّ: لأَِنَّهُ كَجِنَايَةِ الْيَدِ الشَّلاَّءِ عَلَى الْيَدِ الصَّحِيحَةِ. وَنَقَل ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ فِي ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَيْنِ (4) .
__________
(1) المغني 7 / 658، 659، والزرقاني 8 / 3، وجواهر الإكليل 2 / 272، وبداية المجتهد 2 / 364، 372، وحاشية ابن عابدين 5 / 343، 344.
(2) سورة البقرة / 178.
(3) المغني 7 / 659، والزرقاني 8 / 2، 7.
(4) الزرقاني 8 / 14، وبداية المجتهد 2 / 372، وحاشية ابن عابدين 5 / 356، والهداية مع العناية 8 / 355.(23/72)
115 - ج - وَكَذَلِكَ يُقْتَل الرَّقِيقُ بِالرَّقِيقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، سَوَاءٌ اتَّحَدَتْ قِيمَةُ الْقَاتِل وَقِيمَةُ الْمَقْتُول أَوِ اخْتَلَفَتَا، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ آيَاتِ الْقِصَاصِ، وَبِالنَّصِّ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (1) وَلأَِنَّ تَفَاوُتَ الْقِيمَةِ فِي الرَّقِيقِ كَتَفَاوُتِ الْفَضَائِل فِي الأَْحْرَارِ، كَالْعِلْمِ وَالشَّرَفِ وَالذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ، فَكَمَا أُهْدِرَ هَذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَ الأَْحْرَارِ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ مَعَ وُجُودِهِ، فَكَذَا تَفَاوُتُ الْقِيَمِ فِي الرَّقِيقِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِصَاصِ أَنْ لاَ تَكُونَ قِيمَةُ الْقَاتِل أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْمَقْتُول.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ بَيْنَ الْعَبِيدِ قِصَاصٌ فِي نَفْسٍ وَلاَ جُرْحٍ لأَِنَّهُمْ أَمْوَالٌ، وَنَقَلَهُ ابْنُ رُشْدٍ عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَجَمَاعَةٍ.
وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الْعَبِيدِ فِي الأَْطْرَافِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - نَقَلَهُ ابْنُ رُشْدٍ - وَقَوْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَْنْفَ بِالأَْنْفِ وَالأُْذُنَ بِالأُْذُنِ} الآْيَةَ (2) .
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) سورة المائدة / 45.(23/72)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: لاَ يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. وَهُوَ قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ؛ لأَِنَّ الأَْطْرَافَ مِنَ الْعَبِيدِ مَالٌ فَلاَ يَجْرِي الْقِصَاصُ فِيهَا؛ وَلأَِنَّ التَّسَاوِيَ فِي الأَْطْرَافِ مُعْتَبَرٌ، فَلاَ تُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِالشَّلاَّءِ، وَلاَ كَامِلَةُ الأَْصَابِعِ بِنَاقِصَتِهَا، وَأَطْرَافُ الْعَبِيدِ لاَ تَتَسَاوَى.
وَحَيْثُ يَجْرِي الْقِصَاصُ فِي طَرَفِ الْعَبْدِ فَاسْتِيفَاؤُهُ لَهُ وَلَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ (1) .
الدِّيَةُ وَالأَْرْشُ:
116 - أ - إِذَا قَتَل الْحُرُّ عَبْدًا، أَوْ عَكْسُهُ، أَوْ قَطَعَهُ، أَوْ فَعَل ذَلِكَ عَبْدٌ بِعَبْدٍ، خَطَأً، أَوْ عَمْدًا وَلَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ، ثَبَتَ الْمَال، وَهُوَ فِي الْحُرِّ دِيَةُ النَّفْسِ أَوِ الْعُضْوِ أَوِ الْحُكُومَةِ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي بَابِ الدِّيَاتِ.
وَفِي الْعَبْدِ قِيمَتُهُ إِذَا قَتَل، مَهْمَا كَانَتْ، قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً، حَتَّى لَوْ كَانَتْ تَبْلُغُ دِيَةَ الْحُرِّ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا أَضْعَافًا، وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ قَالُوا: لأَِنَّهُ مَالٌ
__________
(1) المغني 7 / 660، 761، والزرقاني 8 / 7، وبداية المجتهد 2 / 372، نشر المكتبة التجارية الكبرى، وحاشية ابن عابدين 5 / 356.(23/73)
مُتَقَوِّمٌ أَتْلَفَهُ - سَوَاءٌ عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ - فَيَضْمَنُهُ بِكَمَال قِيمَتِهِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَلاَ مَدْخَل لِلتَّغْلِيظِ فِي بَدَل الرَّقِيقِ. اهـ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: إِنْ ضَمِنَ بِالْجِنَايَةِ يَضْمَنُ بِقِيمَتِهِ، لَكِنْ لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ دِيَةِ حُرٍّ أَوْ مِثْلَهَا يَنْتَقِصُ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ دِينَارًا أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَعَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْعَبْدِ، إِلاَّ نِصْفَ دِينَارٍ.
وَإِنْ ضَمِنَ بِالْيَدِ، بِأَنْ غَصَبَهُ فَمَاتَ فِي يَدِهِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ قِيمَتُهُ وَإِنْ زَادَ عَنْ دِيَةٍ أَوْ دِيَاتٍ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا بِأَنَّ فِي الْعَبْدِ الآْدَمِيَّةَ وَالْمَالِيَّةَ، وَالآْدَمِيَّةُ أَعْلاَهُمَا، فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا بِإِهْدَارِ الأَْدْنَى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ فِي حَال الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ بِدَلِيل ثُبُوتِ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ، وَالْكَفَّارَةِ فِي الْخَطَأِ، وَالْقِيمَةُ بَدَلٌ عَنِ الدِّيَةِ فِي قَلِيل الْقِيمَةِ بِالرَّأْيِ، وَتَنْقُصُ فِيمَا زَادَ عَنِ الدِّيَةِ لِنَقْصِ رُتْبَةِ الْعَبْدِ عَنِ الْحُرِّ، وَضَمَانُ الْغَصْبِ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ، فَيَضْمَنُ بِكَامِل قِيمَتِهِ فِي حَالَةِ تَلَفِهِ مَغْصُوبًا إِذِ الْغَصْبُ لاَ يَرِدُ إِلاَّ عَلَى الْمَال.
وَإِنَّمَا حَدَّدُوا النَّقْصَ فِي الْحَالَةِ الأُْولَى بِدِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ لأَِثَرٍ وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَنَقَل ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْل الْكُوفَةِ(23/73)
قَالُوا: فِي نَفْسِ الْعَبْدِ الدِّيَةُ كَالْحُرِّ، لَكِنْ يُنْقَصُ مِنْهَا شَيْءٌ (1) .
الْعَاقِلَةُ وَجِنَايَةُ الْعَبْدِ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ:
117 - لاَ تَحْمِل الْعَاقِلَةُ جِنَايَةَ الْعَبْدِ لأَِنَّهُ لاَ عَاقِلَةَ لَهُ.
وَأَمَّا الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْل الشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَاللَّيْثِ إِلَى أَنَّ الَّذِي يَتَحَمَّل قِيمَةَ الْعَبْدِ هُوَ الْقَاتِل نَفْسُهُ إِنْ كَانَ حُرًّا وَلَيْسَ عَاقِلَتُهُ وَلَوْ كَانَ الْقَتْل خَطَأً، لِحَدِيثِ: لاَ تَحْمِل الْعَاقِلَةُ لاَ عَمْدًا وَلاَ صُلْحًا وَلاَ اعْتِرَافًا وَلاَ مَا جَنَى الْمَمْلُوكُ (2) وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ الْقِيمَةُ لاَ الدِّيَةُ إِذِ الْعَبْدُ مَالٌ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَقَوْل عَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ: تَحْمِل الْعَاقِلَةُ نَفْسَ الْعَبْدِ كَمَا تَحْمِل الْحُرَّ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلاَ تَحْمِل مَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْعَبْدِ لأَِنَّ الأَْطْرَافَ
__________
(1) المغني 7 / 682، وكشاف القناع 6 / 21، وبداية المجتهد 2 / 378، والزرقاني 8 / 31 و6 / 163، والدسوقي 4 / 268، وروضة الطالبين 9 / 257، 311، والهداية مع العناية وتكملة فتح القدير 8 / 369.
(2) حديث: " لا تحمل العاقلة عمدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا ولا ما جنى المملوك ". أخرجه البيهقي (8 / 104 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس موقوفًا عليه، وإسناده حسن.(23/74)
تُعَامَل كَالْمَال (1) .
118 - ب - وَأَمَّا أُرُوشُ جِرَاحِ الْعَبْدِ وَأَعْضَائِهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ (هُوَ قَدِيمُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ) وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، قَوَّاهَا ابْنُ قُدَامَةَ إِلَى أَنَّ السَّيِّدَ يَسْتَحِقُّ عَلَى الْجَانِي مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، فَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا، فَلَمَّا قَطَعَ يَدَهُ أَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً أَوْ غَيْرَهَا صَارَتْ قِيمَتُهُ ثَمَانَمِائَةٍ فَإِنَّ الأَْرْشَ يَكُونُ مِائَتَيْنِ، وَلَوْ جَبَّهُ وَخَصَاهُ فَلَمْ تَنْقُصْ قِيمَتُهُ أَوْ زَادَتْ، فَلاَ شَيْءَ لِلسَّيِّدِ. وَاحْتَجُّوا لِهَذَا الْقَوْل بِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ، فَيُجْرَى فِي ضَمَانِ الإِْتْلاَفِ فِيهِ عَلَى قَاعِدَةِ إِتْلاَفِ الأَْمْوَال الأُْخْرَى.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ جِنَايَةٍ لَيْسَ لَهَا فِي الْحُرِّ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، فَيَكُونُ أَرْشُهَا مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبَيْنَ جِنَايَةٍ لَهَا فِي الْحُرِّ دِيَةٌ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا، فَيَكُونُ أَرْشُهَا بِنِسْبَةِ ذَلِكَ مِنْ قِيمَتِهِ، فَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا فَقَطَعَ يَدَهُ فَفِيهَا خَمْسُمِائَةٍ، أَوْ قَطَعَ أَنْفَهُ فَفِيهِ قِيمَتُهُ كَامِلَةٌ، مَعَ بَقَاءِ الْعَبْدِ عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ، وَلَوْ جَبَّهُ ثُمَّ خَصَاهُ فَفِيهِ قِيمَتُهُ مَرَّتَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، مَعَ بَقَاءِ مِلْكِيَّتِهِ لِلسَّيِّدِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ
__________
(1) المغني 7 / 775، وروضة الطالبين 9 / 359، والزرقاني 8 / 44، وتكملة فتح القدير مع الهداية 8 / 413.(23/74)
فِي مِثْل الْحَالَةِ الأَْخِيرَةِ: لَهُ قِيمَتُهُ كَامِلَةً لِلْجَبِّ، وَقِيمَتُهُ بَعْدَ الْجَبِّ لِلْخِصَاءِ.
وَاحْتُجَّ لِهَذَا الْقَوْل بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ سَعِيدٍ، وَابْنِ سِيرِينَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى التَّقْدِيرِ فِي الْحُرِّ، لأَِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِمَالٍ مِنْ كُل وَجْهٍ، بِدَلِيل أَنَّ فِي قَتْلِهِ الْقِصَاصَ وَالْكَفَّارَةَ بِخِلاَفِ سَائِرِ الأَْمْوَال (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى اعْتِبَارِ التَّقْدِيرِ بِالنِّسْبَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْقَوْل الثَّانِي، لَكِنْ قَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُزَادُ عَنْ دِيَةِ مِثْل ذَلِكَ الْعُضْوِ مِنَ الْحُرِّ، فَلَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ فَفِيهَا نِصْفُ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ، كَدِيَةِ الْحُرِّ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مَهْمَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ، فَإِنَّ أَرْشَ يَدِهِ خَمْسَةُ آلاَفٍ إِلاَّ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ لاَ يُزَادُ عَلَيْهَا.
قَالُوا: لأَِنَّ الْيَدَ مِنَ الآْدَمِيِّ نِصْفُهُ فَتُعْتَبَرُ بِكُلِّهِ، وَيَنْقُصُ هَذَا الْمِقْدَارُ إِظْهَارًا لاِنْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ عَنْ رُتْبَةِ الْحُرِّ. وَكُل مَا يُقَدَّرُ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ فَهُوَ مُقَدَّرٌ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لأَِنَّ الْقِيمَةَ فِي الْعَبْدِ كَالدِّيَةِ فِي الْحُرِّ إِذْ هُوَ بَدَل الدَّمِ.
قَالُوا: وَمَنْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ فَقَدْ فَوَّتَ جِنْسَ الْمَنْفَعَةِ فَإِنْ شَاءَ الْوَلِيُّ دَفَعَ عَبْدَهُ إِلَى الْجَانِي وَأَخَذَ قِيمَتَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ وَلاَ شَيْءَ لَهُ مِنَ
__________
(1) المغني 8 / 60، وكشاف القناع 6 / 22، وشرح المنهاج 4 / 144، 145، وروضة الطالبين 9 / 312.(23/75)
النُّقْصَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَال الصَّاحِبَانِ: بَل يَكُونُ لَهُ إِنْ أَمْسَكَهُ أَخْذُ مَا نَقَصَهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ فِي الضَّمَانِ بَيْنَ جِرَاحَاتِ الْعَبْدِ وَبَيْنَ قَطْعِ طَرَفٍ أَوْ عُضْوٍ، فَفِي الْجِرَاحَاتِ الَّتِي لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فِي الْحُرِّ يَضْمَنُ بِنِسْبَتِهَا مِنْ كَامِل قِيمَتِهِ، فَفِي الْجَائِفَةِ أَوِ الآْمَّةِ ثُلُثُ قِيمَتِهِ، وَفِي مُوضِحَتِهِ نِصْفُ عُشُرِ قِيمَتِهِ، وَفِي مُنَقِّلَتِهِ عُشُرُ قِيمَتِهِ وَنِصْفُ عُشُرِهَا. وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْجِرَاحِ وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ مُقَدَّرٌ، يُقَدَّرُ نَقْصُ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَيُدْفَعُ كَامِلاً مَهْمَا بَلَغَ. فَإِنْ بَرِئَ بِلاَ شَيْنٍ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ سِوَى الأَْدَبِ فِي الْعَمْدِ.
وَكَذَا قَطْعُ الأَْعْضَاءِ فِيهَا مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ بِسَبَبِ ذَلِكَ (2) . وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ مَتْنِ خَلِيلٍ وَشُرَّاحِهِ أَنَّ الضَّمَانَ فِي الأَْعْضَاءِ بِنِسْبَتِهَا مِنَ الْقِيمَةِ (3) .
الْجِنَايَةُ عَلَى جَنِينِ الأَْمَةِ:
119 - لَوْ جَنَى عَلَى أَمَةٍ فَأَسْقَطَتْ جَنِينًا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ، وَكَانَ مَحْكُومًا بِرِقِّهِ، فَفِيهِ قِيمَتُهُ عَلَى
__________
(1) الهداية وتكملة فتح القدير 8 / 370، 374.
(2) المدونة 6 / 333، والمغني لابن قدامة 8 / 60، والزرقاني 8 / 37، 35 و6 / 147.
(3) الدسوقي 4 / 271، والحطاب 6 / 261، والزرقاني 8 / 35، والفواكه الدواني 2 / 272، والعدوي على كفاية الطالب 2 / 283.(23/75)
مَا تَقَدَّمَ. أَمَّا إِنْ أَسْقَطَتْهُ مَيِّتًا بَعْدَ تَخَلُّقِهِ أَوْ نَفْخِ الرُّوحِ، فَفِيهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عُشُرُ قِيمَةِ أُمِّهِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْجِنَايَةِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ أُنْثَى فَفِيهِ عُشُرُ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَفِيهِ نِصْفُ عُشُرِ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: فِيهِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ أُمِّهِ (1) .
جِنَايَاتُ الرَّقِيقِ:
120 - إِنْ كَانَ الْقَاتِل رَقِيقًا فَمَا وَجَبَ بِجِنَايَتِهِ مِنَ الْمَال سَوَاءٌ أَكَانَ دِيَةَ نَفْسِ حُرٍّ أَوْ طَرَفَهُ، أَوْ قِيمَةَ عَبْدٍ أَوْ قِيمَةَ طَرَفِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا فَلَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ، أَوْ كَانَتْ خَطَأً فَعُفِيَ عَنْهَا عَلَى مَالٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَجِبُ فِي رَقَبَتِهِ، وَلاَ تَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ وَلاَ بِذِمَّةِ سَيِّدِهِ وَهَكَذَا جَمِيعُ الدُّيُونِ الَّتِي تَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الإِْتْلاَفَاتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَأْذُونًا لَهُ بِالتِّجَارَةِ أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ. وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
قَالُوا: وَلَمْ تَتَعَلَّقْ هَذِهِ الدُّيُونُ بِذِمَّتِهِ لأَِنَّهُ يُفْضِي إِلَى إِلْغَائِهَا أَوْ تَأْخِيرِ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ، وَلَمْ تَتَعَلَّقْ بِذِمَّةِ السَّيِّدِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَجْنِ،
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 378، وبداية المجتهد 2 / 380 وفيه بعض اختلاف عما ذكره الدر عن أبي حنيفة.(23/76)
فَتَعَيَّنَ تَعَلُّقُهَا بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ لأَِنَّ الضَّمَانَ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ فَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ كَالْقِصَاصِ.
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَتَعَلَّقُ أَيْضًا بِذِمَّةِ الْعَبْدِ.
ثُمَّ إنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي أَوْ أَقَل، فَالسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ أَوْ يُسَلِّمَ الْعَبْدَ إِلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لِلْبَيْعِ؛ لأَِنَّهُ إِنْ دَفَعَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ فَقَدْ تَأَدَّى الْحَقُّ، وَإِنْ سَلَّمَ الْعَبْدَ فَقَدْ أَدَّى الْمَحَل الَّذِي تَعَلَّقَ الْحَقُّ بِهِ، وَحَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لاَ يَتَعَلَّقُ بِأَكْثَرَ مِنَ الرَّقَبَةِ، وَقَدْ أَدَّاهَا، فَلاَ يَكُونُ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ. وَالْخِيَارُ إِلَى السَّيِّدِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الْعَبْدِ إِنْ أَدَّى الأَْرْشَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الأَْرْشُ إِنْ سَلَّمَ الْعَبْدَ.
وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: يُخَيَّرُ سَيِّدُهُ بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِقِيمَتِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَهُ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ مَا لَمْ يَفْدِهِ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْغَبَ فِيهِ رَاغِبٌ فَيَشْتَرِيَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ، فَإِذَا مَنَعَ تَسْلِيمَهُ لِلْبَيْعِ لَزِمَهُ جَمِيعُ الأَْرْشِ لِتَفْوِيتِهِ ذَلِكَ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةَ خَطَأٍ بِقَتْل نَفْسٍ قِيل لِمَوْلاَهُ: إِمَّا أَنْ تَدْفَعَهُ بَدَلَهَا أَوْ
__________
(1) المغني 7 / 781 و4 / 248، وكشاف القناع 6 / 34، 473، والزرقاني 8 / 5، وروضة الطالبين 9 / 362، وشرح المنهاج 4 / 158.(23/76)
تَفْدِيَهُ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: إِذَا جَنَى الْعَبْدُ فَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ. وَلأَِنَّ الأَْصْل فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الآْدَمِيِّ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ أَنْ تَتَبَاعَدَ عَنِ الْجَانِي تَحَرُّزًا عَنِ اسْتِئْصَالِهِ وَالإِْجْحَافِ بِهِ، إِذْ هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَتَعَمَّدِ الْجِنَايَةَ، وَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي إِذَا كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ، وَالسَّيِّدُ عَاقِلَةُ عَبْدِهِ؛ لأَِنَّ الْعَبْدَ يَسْتَنْصِرُ بِهِ - وَالأَْصْل فِي الْعَاقِلَةِ النُّصْرَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - فَتَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ صِيَانَةً لِلدَّمِ عَنِ الإِْهْدَارِ.
وَهَذَا عِنْدَهُمْ بِخِلاَفِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمَال لأَِنَّ الْعَوَاقِل لاَ تَحْمِل الْمَال. وَالْوَاجِبُ الأَْصْلِيُّ مِنَ الأَْمْرَيْنِ عِنْدَهُمْ دَفْعُ الْعَبْدِ الْجَانِي إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ لِفَوَاتِ مَحَل الْوَاجِبِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ النَّقْل إِلَى الأَْمْرِ الثَّانِي وَهُوَ الْفِدَاءُ بِالأَْرْشِ.
قَالُوا: فَإِنْ دَفَعَهُ مَالِكُهُ مَلَكَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ، وَإِنْ فَدَاهُ فَدَاهُ بِأَرْشِهَا، وَكُلٌّ مِنَ الأَْمْرَيْنِ يَلْزَمُ حَالاً، أَمَّا الدَّفْعُ فَلأَِنَّ التَّأْجِيل فِي الأَْعْيَانِ بَاطِلٌ، وَأَمَّا الْفِدَاءُ فَلأَِنَّهُ جُعِل بَدَلاً، فَيَقُومُ مَقَامَهُ وَيَأْخُذُ حُكْمَهُ فَيَجِبُ حَالاً. وَأَيُّهُمَا اخْتَارَهُ وَفَعَلَهُ فَلاَ شَيْءَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ غَيْرُهُ.
فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا حَتَّى مَاتَ الْعَبْدُ بَطَل حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ مَحَل الْحَقِّ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَمَا اخْتَارَ الْوَلِيُّ الْفِدَاءَ لَمْ يَبْرَأْ لِتَحَوُّل الْحَقِّ مِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ إِلَى ذِمَّةِ الْمَوْلَى.(23/77)
وَالاِخْتِيَارُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْل، وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْل فَلَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ مَعَ عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ لَزِمَهُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ وَكَذَا كُل مَا يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ كُلًّا أَوْ بَعْضًا، كَأَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ أَوْ يَهَبَهُ أَوْ يُدَبِّرَهُ، أَوْ يَسْتَوْلِدَ الأَْمَةَ الثَّيِّبَ، أَوْ يَطَأَ الْبِكْرَ.
وَأَمَّا إِذَا قَتَل الْعَبْدُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا فَالْوَاجِبُ عِنْدَهُمُ الْقِصَاصُ كَمَا تَقَدَّمَ (1) .
الْكَفَّارَةُ فِي قَتْل الرَّقِيقِ:
121 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِي قَتْل الرَّقِيقِ - بِالإِْضَافَةِ إِلَى قِيمَتِهِ الْوَاجِبَةِ لِسَيِّدِهِ - الْكَفَّارَةَ وَلَوْ قَتَل عَبْدَ نَفْسِهِ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ كَذَلِكَ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (2) . الآْيَةَ، وَلأَِنَّهُ مُؤْمِنٌ فَأَشْبَهَ الْحُرَّ، وَهِيَ كَكَفَّارَةِ قَتْل الْحُرِّ سَوَاءٌ، عَلَى التَّفْصِيل وَالْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ (ر: كَفَّارَة) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ كَفَّارَةٌ فِي قَتْل الْعَبْدِ لأَِنَّهُ مَالٌ، وَيُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ، فَلاَ كَفَّارَةَ فِيهِ، كَمَا لاَ كَفَّارَةَ فِي إِتْلاَفِ سَائِرِ الْمُمْتَلَكَاتِ. وَالتَّكْفِيرُ مَعَ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ. قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَحُكْمُ الرَّقِيقِ فِي التَّكْفِيرِ إِذَا قَتَل حُرًّا أَوْ عَبْدًا حُكْمُ الْحُرِّ مِنْ حَيْثُ أَصْل التَّكْفِيرِ (3) .
__________
(1) الهداية 8 / 355 - 360 وتكملة فتح القدير.
(2) سورة النساء / 92.
(3) المغني 8 / 93، وجواهر الإكليل 2 / 272، والقليوبي وعميرة 4 / 162.(23/77)
وَأَمَّا مَا يُكَفِّرُ بِهِ الْعَبْدُ فَقَدْ ذُكِرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
غَصْبُ الرَّقِيقِ:
122 - مَنْ غَصَبَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْغَصْبِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ (ر: غَصْب) .
وَذَلِكَ لأَِنَّ الرَّقِيقَ مَالٌ فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ غَصْبِ سَائِرِ الأَْمْوَال مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً لَمْ تَثْبُتْ يَدُهُ عَلَى بُضْعِهَا وَهُوَ الْجِمَاعُ، فَيَصِحُّ تَزْوِيجُ السَّيِّدِ لَهَا، وَلاَ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ مَهْرَهَا لَوْ حَبَسَهَا عَنِ النِّكَاحِ حَتَّى فَاتَ نِكَاحُهَا بِالْكِبَرِ.
وَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ الْغَصْبِ فَهُوَ زِنًا لأَِنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَتَهُ وَلاَ مِلْكَ يَمِينِهِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِشُرُوطِهِ، وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ مِثْلِهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ مُطَاوِعَةً اتِّفَاقًا.
أَمَّا إِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّهُ لاَ مَهْرَ لَهَا، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ (1) . وَقَال الْبُخَارِيُّ: وَلَيْسَ فِي الأَْمَةِ الثَّيِّبِ فِي قَضَاءِ الأَْئِمَّةِ غُرْمٌ وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ الْمَهْرُ وَيَكُونُ لِسَيِّدِهَا
__________
(1) حديث: " نهى عن مهر البغي ". أخرجه مسلم (3 / 1198 - ط الحلبي) من حديث أبي مسعود الأنصاري.(23/78)
لأَِنَّهُ حَقُّهُ، فَلاَ يَسْقُطُ بِمُطَاوَعَتِهَا كَأَجْرِ مَنَافِعِهَا (1) .
الرَّقِيقُ وَالْحُدُودُ:
حَدُّ الزِّنَا:
123 - إِذَا زَنَى الرَّقِيقُ يُجْلَدُ خَمْسِينَ جَلْدَةً ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَلاَ يُرْجَمُ، اتِّفَاقًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (2) فَيَنْصَرِفُ التَّنْصِيفُ إِلَى الْجَلْدِ دُونَ الرَّجْمِ لِوَجْهَيْنِ: أَنَّ الْجَلْدَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ دُونَ الرَّجْمِ، وَأَنَّ الرَّجْمَ لاَ يَتَنَصَّفُ بَل الَّذِي يَتَنَصَّفُ هُوَ الْجَلْدُ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الأَْمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنُ فَقَال إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ (3) وَالْعَبْدُ كَالأَْمَةِ لِعَدَمِ الْفَرْقِ. قَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ،
__________
(1) المغني 5 / 247، 248، وكشاف القناع 4 / 77، 97، والقليوبي 3 / 33، 41، وفتح القدير 7 / 390، 392، والعناية 7 / 371، والدر المختار وابن عابدين 5 / 130، والزرقاني 6 / 151.
(2) سورة النساء / 25.
(3) حديث: " إذا زنت فاجلدوها ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 162 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1329 - ط الحلبي) .(23/78)
مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ (1) .
السَّرِقَةُ:
الْمَمْلُوكُ السَّارِقُ:
124 - ذَهَبَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ سَرَقَ الْمَمْلُوكُ مَا فِيهِ الْحَدُّ وَتَمَّتْ شُرُوطُ الْحَدِّ وَجَبَ قَطْعُهُ، لِعُمُومِ آيَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ رَقِيقًا لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ سَرَقُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَنَحَرُوهَا، فَأَمَرَ بِهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ تُقْطَعَ أَيْدِيهِمْ. ثُمَّ قَال عُمَرُ: وَاَللَّهِ إِنِّي لأََرَاكَ تُجِيعُهُمْ، وَلَكِنْ لأَُغَرِّمَنَّكَ غُرْمًا يَشُقُّ عَلَيْكَ. ثُمَّ قَال لِلْمُزَنِيِّ: كَمْ ثَمَنُ نَاقَتِكَ؟ قَال: أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ. قَال: أَعْطِهِ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدًا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَطَعَهُ (2) .
وَإِنْ سَرَقَ الرَّقِيقُ مَال سَيِّدِهِ أَوْ مَال رَقِيقٍ آخَرَ لِسَيِّدِهِ لَمْ يُقْطَعْ لِخَبَرِ عُمَرَ: عَبْدُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ؛ وَلِشُبْهَةِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ؛ وَلأَِنَّ الْعَبْدَ وَمَا مَلَكَتْ يَدَاهُ لِسَيِّدِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ حِرْزِهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يُقْطَعُ الْعَبْدُ بِسَرِقَتِهِ مِمَّنْ لَوْ سَرَقَ مِنْهُ السَّيِّدُ لَمْ يُقْطَعْ، وَذَلِكَ كَزَوْجِ
__________
(1) مقالة علي: " يا أيها الناس، أقيموا على أرقائكم الحد ". أخرجها مسلم (3 / 1330 - ط الحلبي) .
(2) المغني 8 / 267، 268، وابن عابدين 3 / 192، والزرقاني 8 / 92.(23/79)
السَّيِّدَةِ أَوْ زَوْجَةِ السَّيِّدِ، أَوْ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ أَوِ ابْنِهِ أَوْ بِنْتِهِ (1) .
حَدُّ الْقَذْفِ:
أ - إِيقَاعُ الْحَدِّ عَلَى الرَّقِيقِ إِذَا قَذَفَ مُحْصَنًا أَوْ مُحْصَنَةً:
125 - إِذَا قَذَفَ الرَّقِيقُ الْمُكَلَّفُ مُحْصَنًا أَوْ مُحْصَنَةً بِالزِّنَا وَلَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِجْمَاعًا إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُهُ لِعُمُومِ آيَةِ الْقَذْفِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ الْجَلْدَ فَهُوَ يَتَنَصَّفُ، فَوَجَبَ تَنْصِيفُهُ، كَحَدِّ الْجَلْدِ فِي الزِّنَا، وَقَدْ قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: أَدْرَكْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْخُلَفَاءِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَمْلُوكَ إِذَا قَذَفَ إِلاَّ أَرْبَعِينَ (2) .
ب - قَذْفُ الرَّقِيقِ:
126 - مَنْ قَذَفَ رَقِيقًا فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ سَيِّدَ الرَّقِيقِ أَوْ غَيْرَ سَيِّدِهِ.
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 4 / 188، وروضة الطالبين 10 / 12، وابن عابدين 3 / 202، والدسوقي 4 / 345، والزرقاني 8 / 106، 108، وكشاف القناع 6 / 141.
(2) المغني 8 / 219، وشرح المنهاج 4 / 184، روضة الطالبين 8 / 321، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 3 / 167، والزرقاني 8 / 88.(23/79)
وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ مَنْ قَذَفَ أَمَةً حَامِلاً مِنْ سَيِّدِهَا الْحُرِّ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَنَّهَا حَامِلٌ مِنْ زِنًا. وَدَلِيل عَدَمِ حَدِّ قَاذِفِ الرَّقِيقِ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) فَجَعَلَتِ الآْيَةُ: الْحَدَّ لِقَاذِفِ الْمُحْصَنَةِ، وَشَرْطُ الإِْحْصَانِ الْحُرِّيَّةُ (2) . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَال جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَال (3) . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ كَانَ لِلَّهِ فِي ظَهْرِهِ حَدٌّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (4) قَال ابْنُ حَجَرٍ: فَدَل الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَى السَّيِّدِ الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الآْخِرَةِ (5) .
وَحَيْثُ انْتَفَى الْحَدُّ شُرِعَ التَّعْزِيرُ (6) ، وَلِلْعَبْدِ إِنْ قَذَفَهُ سَيِّدُهُ أَوْ غَيْرُهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ
__________
(1) سورة النور / 4.
(2) المغني 8 / 216، والزرقاني 8 / 85، 86.
(3) حديث: " من قذف مملوكه وهو بريء ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 185 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1282 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.
(4) حديث: " من قذف مملوكه كان لله. . . " أورده ابن حجر في الفتح (12 / 185 - ط السلفية) وعزاه إلى النسائي، وسكت عليه.
(5) فتح الباري 12 / 185 (ك الحدود - ب 45 قذف العبيد) .
(6) كشف القناع 6 / 104، 105، والدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين 3 / 168.(23/80)
لِيُعَزِّرَهُ، وَالْحَقُّ فِي الْعَفْوِ لِلْعَبْدِ لاَ لِلسَّيِّدِ، فَإِنْ مَاتَ فَلِلسَّيِّدِ الْمُطَالَبَةُ (1) .
حَدُّ شُرْبِ الْمُسْكِرِ:
127 - يُحَدُّ الرَّقِيقُ إِذَا شَرِبَ الْمُسْكِرَ بِالتَّفْصِيل الَّذِي يُذْكَرُ فِي حَدِّ الْحُرِّ، إِلاَّ أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، فَمَنْ قَال: إِنَّ الْحُرَّ يُحَدُّ ثَمَانِينَ جَلْدَةً جَعَل حَدَّ الْعَبْدِ أَرْبَعِينَ، وَمَنْ قَال حَدُّ الْحُرِّ أَرْبَعُونَ قَال: إِنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ عِشْرُونَ جَلْدَةً (2) .
الرَّقِيقُ وَالْوِلاَيَاتُ:
128 - الرَّقِيقُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْوِلاَيَاتِ، مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ؛ لأَِنَّ الرِّقَّ عَجْزٌ حُكْمِيٌّ سَبَبُهُ فِي الأَْصْل الْكُفْرُ؛ وَلأَِنَّ الرَّقِيقَ مُوَلًّى عَلَيْهِ مَشْغُولٌ بِحُقُوقِ سَيِّدِهِ وَتَلْزَمُهُ طَاعَتُهُ فَلاَ يَكُونُ وَالِيًا.
قَال ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّ الإِْمَامَةَ الْعُظْمَى لاَ تَكُونُ فِي الْعَبِيدِ إِذَا كَانَ بِطَرِيقِ الاِخْتِيَارِ. قَال ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَ أَنْ نَقَل ذَلِكَ: أَمَّا لَوْ تَغَلَّبَ عَبْدٌ حَقِيقَةً بِطَرِيقِ الشَّوْكَةِ فَإِنَّ طَاعَتَهُ تَجِبُ إِخْمَادًا لِلْفِتْنَةِ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِمَعْصِيَةٍ. اهـ.
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 327، 10 / 105.
(2) بدائع الصنائع 7 / 40، رد المختار 3 / 164، والزرقاني 8 / 113، مغني المحتاج 4 / 189، والمغني 8 / 316، وكشاف القناع 6 / 118.(23/80)
قَال ابْنُ حَجَرٍ: أَمَّا لَوِ اسْتُعْمِل الْعَبْدُ عَلَى إِمَارَةِ بَلَدٍ مَثَلاً وَجَبَتْ طَاعَتُهُ.
وَحُمِل عَلَى ذَلِكَ مَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِل عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ. (1)
وَفُسِّرَ اسْتِعْمَال الْعَبْدِ فِي الْحَدِيثِ بِأَنْ يُجْعَل عَامِلاً فَيُؤَمَّرُ إِمَارَةً عَامَّةً عَلَى بَلَدٍ مَثَلاً، أَوْ يُوَلَّى فِيهَا وِلاَيَةً خَاصَّةً كَإِمَامَةِ الصَّلاَةِ، أَوْ جِبَايَةِ الْخَرَاجِ أَوْ مُبَاشَرَةِ الْحَرْبِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْعَبْدُ لاَ يَلِي أَمْرًا عَامًّا، إِلاَّ نِيَابَةً عَنِ الإِْمَامِ الأَْعْظَمِ فَلَهُ نَصْبُ الْقَاضِي نِيَابَةً عَنِ السُّلْطَانِ وَلَكِنْ لاَ يَقْضِي هُوَ (3) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يُوَلَّى تَقْرِيرَ الْفَيْءِ وَلاَ جِبَايَةَ أَمْوَالِهِ بَعْدَ تَقْرِيرِهَا.
وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَجُوزُ شَرْعًا أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا لِنَقْصِهِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: الْعَبْدُ لاَ يَكُونُ قَاضِيًا، وَلاَ قَاسِمًا، وَلاَ مُقَوِّمًا، وَلاَ قَائِفًا وَلاَ مُتَرْجِمًا، وَلاَ كَاتِبَ حَاكِمٍ، وَلاَ أَمِينًا لِحَاكِمٍ،
__________
(1) حديث: " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي ". أخرجه البخاري (الفتح 13 / 121 - ط السلفية) .
(2) فتح الباري 13 / 122 (ك الأحكام ب4: السمع والطاعة للإمام) .
(3) شرح الأشباه 2 / 153.(23/81)
وَلاَ وَلِيًّا فِي نِكَاحٍ أَوْ قَوَدٍ، وَأَضَافَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلاَ مُزَكِّيًا عَلاَنِيَةً، وَلاَ عَاشِرًا، وَأَضَافَ السُّيُوطِيُّ: وَلاَ خَارِصًا، وَلاَ يَكُونُ عَامِلاً فِي الزَّكَاةِ إِلاَّ إِذَا عَيَّنَ لَهُ الإِْمَامُ قَوْمًا يَأْخُذُ مِنْهُمْ قَدْرًا مُعَيَّنًا (1) .
شَهَادَةُ الرَّقِيقِ:
128 م - مِنْ شَرْطِ الشَّاهِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا، فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْعَبْدِ. قَال عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ: لأَِنَّ الْمُخَاطَبَ بِالآْيَةِ (يَعْنِي آيَةَ الدَّيْنِ) الأَْحْرَارَ، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ} لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (2) وَإِنَّمَا يُرْتَضَى الأَْحْرَارُ، قَال: وَأَيْضًا نُفُوذُ الْقَوْل عَلَى الْغَيْرِ نَوْعُ وِلاَيَةٍ. يَعْنِي وَالرَّقِيقُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَمَال ابْنُ الْهُمَامِ إِلَى قَبُول شَهَادَتِهِ لأَِنَّ عَدَمَ وِلاَيَتِهِ هُوَ لِحَقِّ الْمَوْلَى لاَ لِنَقْصٍ فِي الْعَبْدِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ عَلَى الأَْحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ وَابْنُ الْهُمَامِ عَنْ أَنَسٍ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ الْهُمَامِ قَال إِنَّ عَلِيًّا
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 4 / 296، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 193، 195، وجواهر الإكليل 2 / 221، وشرح الأشباه 2 / 153، والمغني 9 / 39، والدر المختار وابن عابدين 4 / 299، وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 21.
(2) سورة البقرة / 282.(23/81)
كَانَ يَقُول: تُقْبَل عَلَى الْعَبِيدِ دُونَ الأَْحْرَارِ.
وَمِمَّنْ نُقِل عَنْهُ قَبُول شَهَادَةِ الْعَبِيدِ عُرْوَةُ وَشُرَيْحٌ وَإِيَاسٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
قَال أَنَسٌ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ. وَوَجَّهَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّ الْعَبِيدَ مِنْ رِجَالِنَا فَدَخَل فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (1) وَلأَِنَّهُ إِنْ كَانَ عَدْلاً غَيْرَ مُتَّهَمٍ تُقْبَل رِوَايَتُهُ وَفُتْيَاهُ وَأَخْبَارُهُ الدِّينِيَّةُ، فَتُقْبَل شَهَادَتُهُ كَالْحُرِّ، وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ تَعْتَمِدُ الْمُرُوءَةَ، وَالْعَبِيدُ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ مُرُوءَةٌ وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُمُ الأُْمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَالأَْتْقِيَاءُ. وَلأَِنَّ مَنْ أُعْتِقَ مِنْهُمْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ اتِّفَاقًا، وَالْحُرِّيَّةُ لاَ تُغَيِّرُ طَبْعًا وَلاَ تُحْدِثُ عِلْمًا وَلاَ مُرُوءَةً (2) .
وَأَمَّا شَهَادَةُ الْعَبْدِ فِي الْحُدُودِ فَلاَ تَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لأَِنَّ الْحُدُودَ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالاِخْتِلاَفُ فِي قَبُول رِوَايَتِهِ فِي الأَْمْوَال يُورِثُ شُبْهَةً.
وَأَمَّا فِي الْقِصَاصِ فَتُقْبَل شَهَادَتُهُ عِنْدَهُمْ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لأَِنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ فَأَشْبَهَ الأَْمْوَال.
قَالُوا: وَتُقْبَل شَهَادَةُ الأَْمَةِ فِيمَا تُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) الدر وحاشية ابن عابدين 4 / 370، والمغني 9 / 195، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي وعميرة 4 / 318، وفتح القدير 6 / 28، وجواهر الإكليل 2 / 232.(23/82)
الْحُرَّةِ، وَذَلِكَ فِي الْمَال (1) .
وَهَذَا إِنْ شَهِدَ الْعَبْدُ أَوِ الأَْمَةُ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ. أَمَّا لَوْ شَهِدَ لِسَيِّدِهِ فَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ اتِّفَاقًا لأَِنَّهُ يَتَبَسَّطُ فِي مَال سَيِّدِهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَتَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنْهُ، وَلاَ يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ مِنْهُ فَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ، كَالاِبْنِ مَعَ أَبِيهِ.
وَكَذَا لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ اتِّفَاقًا كَمَا لاَ يُقْبَل قَضَاؤُهُ لَهُ لأَِنَّ مَال الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، فَشَهَادَتُهُ لَهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ فِي الْمَال. وَكَذَا لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ لَهُ بِنِكَاحٍ، وَلاَ لأَِمَتِهِ بِطَلاَقٍ لأَِنَّ فِي طَلاَقِ أَمَتِهِ تَخْلِيصَهَا مِنْ زَوْجِهَا وَإِبَاحَتَهَا لِلسَّيِّدِ، وَفِي نِكَاحِ الْعَبْدِ نَفْعٌ لَهُ (2) .
وَبَعْضُ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا شَهَادَةَ الْعَبْدِ اسْتَثْنَوْا الشَّهَادَةَ عَلَى رُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ مِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. فَقَالُوا: تُقْبَل شَهَادَةُ الْعَبْدِ وَالأَْمَةِ عَلَى ذَلِكَ كَالأَْحْرَارِ لأَِنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ فَأَشْبَهَ رِوَايَةَ الأَْخْبَارِ، وَلِهَذَا لاَ يَخْتَصُّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ (3) .
رِوَايَةُ الْعَبْدِ وَأَخْبَارُهُ:
129 - رِوَايَةُ الْعَبْدِ وَالأَْمَةِ لِلْحَدِيثِ وَأَخْبَارُهُمَا مَقْبُولَةٌ اتِّفَاقًا حَتَّى فِي أُمُورِ الدِّينِ كَالْقِبْلَةِ،
__________
(1) المغني 9 / 196، وفتح الباري 5 / 267، وروضة الطالبين 11 / 234.
(2) المغني 9 / 193، والقليوبي 4 / 303.
(3) فتح الباري 5 / 257، وروضة الطالبين 2 / 345، وفتح القدير 2 / 59.(23/82)
وَالطَّهَارَةِ، أَوِ النَّجَاسَةِ، وَكَحِل اللَّحْمِ وَحُرْمَتِهِ إِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ وَاسِعٌ بِخِلاَفِ الشَّهَادَةِ (1) . وَيُقْبَل قَوْل الْعَبْدِ وَالأَْمَةِ فِي الْهَدِيَّةِ وَالإِْذْنِ، لأَِنَّ الْهَدَايَا تُبْعَثُ عَادَةً عَلَى أَيْدِي هَؤُلاَءِ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُمْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْحَرَجِ، حَتَّى لَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَالَتْ جَارِيَةٌ لِرَجُلٍ: بَعَثَنِي مَوْلاَيَ هَدِيَّةً إِلَيْكَ، وَسِعَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا، لأَِنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ مَا إِذَا أَخْبَرَتْ بِإِهْدَاءِ الْمَوْلَى غَيْرَهَا أَوْ نَفْسَهَا (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي التَّقْرِيبِ: يُقْبَل تَعْدِيل الْعَبْدِ الْعَارِفِ. وَنَقَل السُّيُوطِيُّ مِثْل ذَلِكَ عَنِ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ وَالرَّازِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيِّ (3) .
الرَّقِيقُ وَالْجِهَادُ:
130 - الْجِهَادُ لاَ يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُبَايِعُ الْحُرَّ عَلَى الإِْسْلاَمِ وَالْجِهَادِ، وَيُبَايِعُ الْعَبْدَ عَلَى الإِْسْلاَمِ دُونَ الْجِهَادِ (4) . وَلأَِنَّ الْجِهَادَ عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 294.
(2) الهداية وفتح القدير والعناية 8 / 84، 86.
(3) تدريب الراوي ص 213، 214، المدينة المنورة ط المكتبة العلمية محمد نمنكاني، 1379 هـ.
(4) حديث: " كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد، ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد ". يؤخذ من حديث جابر بن عبد الله: جاء عبد فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة، ولم يشعر أنه عبد، فجاء سيده يريده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بعنيه، فاشتر(23/83)
مَسَافَةٍ فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْعَبْدِ كَالْحَجِّ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: لاَ جِهَادَ عَلَى رَقِيقٍ وَإِنْ أَمَرَهُ سَيِّدُهُ، إِذْ لَيْسَ الْقِتَال مِنْ الاِسْتِخْدَامِ الْمُسْتَحَقِّ لِلسَّيِّدِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الذَّبُّ عَنْ سَيِّدِهِ عِنْدَ خَوْفِهِ عَلَى رُوحِهِ إِذَا لَمْ نُوجِبِ الدَّفْعَ عَنِ الْغَيْرِ، بَل السَّيِّدُ فِي ذَلِكَ كَالأَْجْنَبِيِّ، وَلِلسَّيِّدِ اسْتِصْحَابُهُ فِي سَفَرِ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ لِيَخْدُمَهُ وَيَسُوسَ دَوَابَّهُ. اهـ (2) .
لَكِنْ إِنْ فَاجَأَ الْعَدُوُّ بَلَدًا بِنُزُولِهِ عَلَيْهَا بَغْتَةً، فَيَلْزَمُ كُل أَحَدٍ بِهِ طَاقَةٌ عَلَى الْقِتَال الْخُرُوجُ لِدَفْعِ الْعَدُوِّ حَتَّى الْمَرْأَةَ وَالْعَبْدَ، وَلَوْ لَمْ يَأْذَنِ الزَّوْجُ أَوِ السَّيِّدُ، وَكَذَا يَلْزَمُ الْخُرُوجُ الصَّبِيَّ وَالْمُطِيقَ لِلْقِتَال، وَمِنْ هُنَا قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُسْهَمُ لِهَؤُلاَءِ مِمَّا يُغْنَمُ مِنَ الْعَدُوِّ فِي هَذِهِ الْحَال، لِكَوْنِ الْقِتَال وَاجِبًا عَلَيْهِمْ (3) .
وَلاَ يُسْهَمُ لِلْعَبْدِ إِذَا حَضَرَ الْوَقْعَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، لِمَا رَوَى عُمَيْرٌ مَوْلَى أَبِي اللَّحْمِ أَنَّهُ قَال: شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَنِي، فَقُلِّدْتُ سَيْفًا، فَإِذَا أَنَا
__________
(1) المغني 8 / 347، وروضة الطالبين 10 / 214.
(2) روضة الطالبين 10 / 210.
(3) الزرقاني والبناني 3 / 1110.(23/83)
أَجُرُّهُ، فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ (1) الْمَتَاعِ (2) . وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَمْلُوكُ وَالْمَرْأَةُ يَحْذِيَانِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ سَهْمٌ.
وَقَال أَبُو ثَوْرٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: يُسْهَمُ لِلْعَبِيدِ كَالأَْحْرَارِ، لِمَا رَوَى الأَْسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ شَهِدَ فَتْحَ الْقَادِسِيَّةِ عَبِيدٌ فَضُرِبَتْ لَهُمْ سِهَامُهُمْ، وَلأَِنَّ حُرْمَةَ الْعَبْدِ فِي الدِّينِ كَحُرْمَةِ الْحُرِّ.
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِلْقَوْل الأَْوَّل أَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ الْعَبِيدُ بِالاِغْتِنَامِ قُسِمَتْ عَلَيْهِمُ الْغَنِيمَةُ بَعْدَ تَخْمِيسِهَا (3) .
وَلَوْ قَتَل الْعَبْدُ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (4) .
وَلَوْ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ رَقِيقِ الْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ إِلَيْنَا مُسْلِمًا مُرَاغِمًا لَهُمْ فَهُوَ حُرٌّ إِنْ فَارَقَهُمْ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَإِنْ كَانَتْ رَقِيقَةً لَمْ تُرَدَّ عَلَى سَيِّدِهَا وَلاَ زَوْجِهَا وَتَكُونُ حُرَّةً؛ لأَِنَّهَا مَلَكَتْ نَفْسَهَا بِقَهْرِهَا لَهُمْ عَلَى نَفْسِهَا (5) .
__________
(1) الخرثّي: أردأ الغنيمة.
(2) حديث عمير مولى أبي اللحم: " شهدت خيبر مع سادتي. . " أخرجه أبو داود (3 / 171 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (4 / 127 - ط الحلبي) والسياق لأبي داود، ورواية الترمذي مختصرة، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) المغني 8 / 411، وروضة الطالبين 6 / 370، 371.
(4) روضة الطالبين 6 / 374.
(5) روضة الطالبين 10 / 342.(23/84)
حَقُّ الْعَبِيدِ فِي الْفَيْءِ:
131 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ الْيَوْمَ خِلاَفًا فِي أَنَّ الْعَبِيدَ لاَ حَقَّ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ. اهـ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ فَقَدْ قَال: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ لَهُ فِي هَذَا الْمَال نَصِيبٌ إِلاَّ الْعَبِيدَ فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ شَيْءٌ (1) .
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَوَّى بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ وَأَدْخَل فِيهِ الْعَبِيدَ. . فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاضَل بَيْنَهُمْ وَأَخْرَجَ الْعَبِيدَ، فَلَمَّا وَلِيَ عَلِيٌّ سَوَّى بَيْنَهُمْ وَأَخْرَجَ الْعَبِيدَ (2) .
وَمِنْ هُنَا قَال النَّوَوِيُّ: لاَ تُثْبَتُ فِي الدِّيوَانِ أَسْمَاءُ الْعَبِيدِ، وَإِنَّمَا هُمْ تَبَعٌ لِلْمُقَاتِل، يُعْطِي لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يُثْبَتُ فِي الدِّيوَانِ أَسْمَاءُ الرِّجَال الْمُكَلَّفِينَ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْغَزْوِ (3) .
نَظَرُ الْعَبْدِ إِلَى سَيِّدَتِهِ:
132 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَوْرَةَ الْحُرَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَبْدِهَا لاَ تَخْتَلِفُ عَنْ عَوْرَتِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَال الأَْجَانِبِ، وَهِيَ مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَلَكِنْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَدْخُل الْعَبْدُ عَلَى مَوْلاَتِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ (4) .
__________
(1) المغني 6 / 414.
(2) المغني 6 / 416.
(3) روضة الطالبين 6 / 362.
(4) الفتاوى الخانية 3 / 407.(23/84)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: عَبْدُ الْمَرْأَةِ مَحْرَمٌ لَهَا عَلَى الأَْصَحِّ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَال النَّوَوِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (1) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ (2) } . وَحَدِيثَ: إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلاَمُكِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ مَوْلاَتِهِ الرَّأْسَ وَالرَّقَبَةَ وَالذِّرَاعَ وَالسَّاقَ، وَلاَ يَكُونُ مَحْرَمًا لَهَا فِي السَّفَرِ (4) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا سَفَرُ الْمَرْأَةِ مَعَ عَبْدِهَا ضَيْعَةٌ (5) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ: فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَهُ مَنْظَرٌ، كُرِهَ لَهُ أَنْ يَرَى مِنْ سَيِّدَتِهِ مَا عَدَا وَجْهَهَا، فَإِنْ كَانَ وَغْدًا (أَيْ بِخِلاَفِ ذَلِكَ) جَازَ أَنْ يَرَى مِنْهَا مَا يَرَاهُ الْمَحْرَمُ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا (6) .
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 23.
(2) سورة الأحزاب / 55.
(3) حديث: " إنما هو أبوك وغلامك ". أخرجه أبو داود (4 / 359 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أنس بن مالك، وإسناده صحيح.
(4) كشاف القناع 2 / 395، 5 / 12.
(5) حديث: " سفر المرأة مع عبدها ضيعة ". أورده الهيثمي في المجمع (3 / 214 - ط القدسي) وقال: رواه البزار والطبراني في الأوسط وفيه بزيع بن عبد الرحمن، وضعفه أبو حاتم، وبقية رجاله ثقات.
(6) الزرقاني والبناني بهامشه 3 / 221.(23/85)
ذَبِيحَةُ الرَّقِيقِ وَتَضْحِيَتُهُ:
133 - يَمْلِكُ الرَّقِيقُ أَنْ يَذْبَحَ، وَذَبِيحَتُهُ حَلاَلٌ، لِمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسِلَعٍ، فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا، فَأَدْرَكَتْهَا فَذَبَحَتْهَا بِحَجَرٍ، فَسُئِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: كُلُوهَا (1) .
قَال عُبَيْدُ اللَّهِ رَاوِي الْحَدِيثِ: فَيُعْجِبُنِي أَنَّهَا أَمَةٌ وَأَنَّهَا ذَبَحَتْ.
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ رَوَى عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَتَهُ أَيْ مِنْ حَيْثُ هِيَ امْرَأَةٌ، وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ يُكْرَهُ ذَبْحُ الْمَرْأَةِ الأُْضْحِيَّةَ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُهُ (2) .
(ر: ذَبَائِح) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَالْعَبْدُ لاَ يَجُوزُ لَهُ التَّضْحِيَةُ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ فَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ، وَقَعَتِ التَّضْحِيَةُ عَنِ السَّيِّدِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ يَمْلِكُونَ بِالتَّمْلِيكِ وَإِذْنِ السَّيِّدِ وَقَعَتِ التَّضْحِيَةُ عَنِ الْعَبْدِ (3) . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ مَسْأَلَةِ مِلْكِ الْعَبْدِ بِالتَّمْلِيكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ.
__________
(1) حديث: " إن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنمًا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 482، 9 / 632 - ط السلفية) .
(2) فتح الباري 4 / 482، 9 / 632، وكشاف القناع 6 / 204.
(3) روضة الطالبين 3 / 201.(23/85)
النَّوْعُ الثَّانِي
أَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْقِنِّ الْمُشْتَرَكِ
134 - قَدْ يَكُونُ الرَّقِيقُ مَمْلُوكًا لأَِكْثَرَ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ. وَيَنْشَأُ الاِشْتِرَاكُ كَمَا فِي سَائِرِ الأَْمْوَال، نَحْوُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ شَخْصَانِ فَأَكْثَرُ، أَوْ يَرِثَاهُ أَوْ يَقْبَلاَهُ هِبَةً أَوْ وَصِيَّةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، أَوْ أَنْ يَبِيعَ السَّيِّدُ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ.
وَقَدْ يَشْتَرِي الشُّرَكَاءُ فِي شَرِكَةِ الْعُقُودِ عَبْدًا لِلتِّجَارَةِ، فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا أَيْضًا.
وَأَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ هِيَ أَحْكَامُ الرَّقِيقِ غَيْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لأَِنَّهُ قِنٌّ مِثْلُهُ، لَكِنْ يَخْتَصُّ الرَّقِيقُ الْمُشْتَرَكُ بِأَحْكَامٍ تَقْتَضِيهَا الشَّرِكَةُ مِنْهَا:
135 - لَيْسَ لأَِيِّ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ وَطْءُ الأَْمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ لاَ يَحِل إِلاَّ أَنْ يَمْلِكَهَا الْوَاطِئُ مِلْكًا تَامًّا (ر: تَسَرٍّ) لَكِنْ إِنْ وَطِئَهَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فَيُعَزَّرُ وَلاَ يُحَدُّ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ إِجْمَاعًا، إِلاَّ مَا نُقِل عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، فَإِنْ لَمْ تَلِدْ مِنْهُ كَانَ لَهُمْ بِقَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ فِيهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْل وَأَرْشِ الْبَكَارَةِ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا عَلَى الْخِلاَفِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَيَضْمَنُ لِشُرَكَائِهِ قِيمَةَ أَنْصِبَائِهِمْ مِنْهَا؛ لأَِنَّهُ أَخْرَجَهَا عَنْ مِلْكِهِمْ، فَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا.(23/86)
وَيَكُونُ وَلَدُهُ حُرًّا، وَاخْتُلِفَ هَل يَلْزَمُهُ لِشُرَكَائِهِ قِيمَةُ نَصِيبِهِمْ مِنْهُ أَمْ لاَ. (1)
وَأَمَّا فِي النَّظَرِ وَالْعَوْرَةِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، بِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَكَ مَعَ سَيِّدَتِهِ كَالأَْجْنَبِيِّ، وَالأَْمَةَ الْمُشْتَرَكَةَ مَعَ سَيِّدِهَا كَالْمَحْرَمِ، وَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا (2) .
136 - وَمِنْهَا أَنَّ الإِْنْفَاقَ عَلَى الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ وَاجِبٌ عَلَى الشُّرَكَاءِ جَمِيعًا بِنِسْبَةِ أَنْصِبَائِهِمْ فِي مِلْكِيَّتِهِ، وَكَذَا فِطْرَتُهُ (3) .
137 - وَمِنْهَا الْوِلاَيَةُ عَلَى الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ، وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمَالِكِينَ، فَإِنْ كَانَ الرَّقِيقُ أَمَةً فَلَيْسَ لأَِحَدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الآْخَرِينَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَأَتَّى تَزْوِيجُ نَصِيبِهِ وَحْدَهُ.
ثُمَّ إِنِ اشْتَجَرَ الْمَالِكُونَ فِي تَزْوِيجِهَا لَمْ يَكُنْ لِلسُّلْطَانِ وِلاَيَةُ تَزْوِيجِهَا؛ لأَِنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِمُكَلَّفٍ رَشِيدٍ بَالِغٍ حَاضِرٍ لاَ وِلاَيَةَ عَلَيْهِ لأَِحَدٍ، وَهَذَا بِخِلاَفِ أَوْلِيَاءِ الْحُرَّةِ إِنِ اشْتَجَرُوا (4) .
وَالاِشْتِجَارُ فِي شُؤُونِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ فِي تَزْوِيجِهِ، أَوِ الإِْذْنِ لَهُ بِتِجَارَةٍ، أَوْ عَمَلٍ، أَوْ سَفَرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَجْعَلُهُ فِي نَصَبٍ وَلاَ يَرْضَى مِنْهُ الْمُشْتَرِكُونَ غَالِبًا، لاِخْتِلاَفِ أَهْوَائِهِمْ
__________
(1) المغني 9 / 352، 353، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 3 / 210.
(2) شرح المنهاج 3 / 210.
(3) كشاف القناع 2 / 250.
(4) كشاف القناع5 / 52.(23/86)
وَإِرَادَاتِهِمْ، وَلِذَا ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَل بِهِ لِلْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ فَقَال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَل يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَل أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (1) } . وَقُرِئَ فِي السَّبْعِ (سَالِمًا لِرَجُلٍ) .
وَالْمُهَايَأَةُ طَرِيقَةٌ لِتَقْلِيل نِزَاعِ الشُّرَكَاءِ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ كَمَا يَأْتِي.
138 - وَمِنْهَا الاِنْتِفَاعُ بِالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَاسْتِخْدَامُهُ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِطُرُقٍ مِنْهَا، الْمُهَايَأَةُ عَلَى الاِسْتِخْدَامِ فِي الزَّمَانِ، بِأَنْ يَسْتَخْدِمَهُ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ أَنْصِبَائِهِمْ فِيهِ، فَإِذَا تَهَايَآهُ اخْتَصَّ كُلٌّ مِنَ الشُّرَكَاءِ بِنَفَقَتِهِ الْعَامَّةِ وَكَسْبِهِ الْعَامِّ فِي مُدَّتِهِ لِيَحْصُل مَقْصُودُ الْقِسْمَةِ.
أَمَّا النَّفَقَاتُ النَّادِرَةُ كَأُجْرَةِ الْحَجَّامِ وَالطَّبِيبِ وَالأَْكْسَابِ النَّادِرَةِ كَاللُّقَطَةِ وَالْهِبَةِ وَالرِّكَازِ، أَيْ إِذَا وَجَدَهُ الْعَبْدُ فَلاَ يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ هُوَ فِي نَوْبَتِهِ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْوَجْهُ الآْخَرُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ تَكُونُ مُشْتَرَكَةً كَالنَّفَقَةِ الْعَامَّةِ وَالْكَسْبِ الْعَامِّ (2) .
وَكَذَا تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ فِي خِدْمَةِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ عِنْدَ
__________
(1) سورة الزمر / 29.
(2) روضة الطالبين 11 / 219، وشرح المنهاج 3 / 117، وكشاف القناع 6 / 374.(23/87)
الْحَنَفِيَّةِ فِي الزَّمَانِ اتِّفَاقًا لِلضَّرُورَةِ، وَقَالُوا: يُقْرَعُ فِي الْبِدَايَةِ، أَيْ يُعَيَّنُ بِالْقُرْعَةِ مِنْ يَكُونُ لَهُ الْيَوْمُ الأَْوَّل مِنَ الْخِدْمَةِ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ عَبْدَانِ بَيْنَ اثْنَيْنِ جَازَ أَنْ يَتَهَايَآ عَلَى الْخِدْمَةِ فِيهِمَا، عَلَى أَنْ يَخْدُمَ هَذَا الشَّرِيكَ هَذَا الْعَبْدُ، وَالآْخَرَ الآْخَرُ. وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَبْرًا إِذَا طَلَبَهُ أَحَدُهُمَا؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ قَلَّمَا تَتَفَاوَتُ بِخِلاَفِ الأَْعْيَانِ. قَالُوا: وَلَوْ تَهَايَآ فِيهِمَا عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ كُل عَبْدٍ عَلَى مَنْ يَأْخُذُهُ جَازَ اسْتِحْسَانًا لِلْمُسَامَحَةِ فِي إِطْعَامِ الْمَمَالِيكِ بِخِلاَفِ شَرْطِ الْكِسْوَةِ فَإِنَّهَا لاَ يُسَامَحُ فِيهَا.
وَأَمَّا التَّهَايُؤُ فِي اسْتِغْلاَل الْعَبْدِ الْوَاحِدِ فَقَدْ مَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ، بِخِلاَفِ التَّهَايُؤِ فِي اسْتِغْلاَل الدَّارِ مَثَلاً، قَالُوا: لأَِنَّ الاِسْتِغْلاَل إِنَّمَا يَكُونُ بِالاِسْتِعْمَال، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَمَلَهُ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي لاَ يَكُونُ كَمَا كَانَ فِي الزَّمَانِ الأَْوَّل. فَلَوْ فَعَلاَ فَزَادَتِ الْغَلَّةُ لأَِحَدِهِمَا عَنِ الآْخَرِ يَشْتَرِكَانِ فِي الزِّيَادَةِ لِيَتَحَقَّقَ التَّعْدِيل، وَلأَِنَّ الْغَلَّةَ يُمْكِنُ بِهِ قِسْمَتُهَا فَلاَ ضَرُورَةَ إِلَى التَّهَايُؤِ فِيهَا، بِخِلاَفِ الْخِدْمَةِ، وَأَمَّا فِي الْعَبْدَيْنِ فِي الاِسْتِغْلاَل فَجَائِزٌ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الإِْفْرَازِ وَالتَّمْيِيزِ، خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ الَّذِي رَأَى أَنَّ الْمَنْعَ فِي صُورَةِ الْعَبْدَيْنِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ فِي صُورَةِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ، وَلأَِنَّ التَّفَاوُتَ فِي الاِسْتِغْلاَل يَكْثُرُ؛ وَلأَِنَّ الظَّاهِرَ التَّسَامُحُ فِي الْخِدْمَةِ وَالاِسْتِقْصَاءُ فِي(23/87)
الاِسْتِغْلاَل (1) .
وَكَذَا قَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ تَهَايُؤُ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَتَهَايُؤُ الْعَبْدَيْنِ (عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) عَلَى سَبِيل الاِنْتِفَاعِ وَالاِسْتِخْدَامِ، وَلاَ يَجُوزُ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَالْعَبْدَيْنِ عَلَى سَبِيل الاِسْتِغْلاَل. وَحَيْثُ جَازَ قَيَّدُوا بِأَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عِنْدَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ يَوْمًا فَأَكْثَرَ إِلَى شَهْرٍ لاَ أَكْثَرَ، ثُمَّ يَكُونُ عِنْدَ الآْخَرِ كَذَلِكَ (2) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ
الرَّقِيقُ الْمُبَعَّضُ
وَهُوَ الَّذِي بَعْضُهُ رَقِيقٌ وَبَعْضُهُ حُرٌّ.
وَيَنْشَأُ التَّبْعِيضُ فِي الرَّقِيقِ فِي صُوَرٍ، مِنْهَا:
139 - أ - أَنْ يُعْتِقَ مَالِكُ الرَّقِيقِ جُزْءًا مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ شَائِعًا كَرُبُعِهِ، أَوْ مُعَيَّنًا كَيَدِهِ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَا أَعْتَقَهُ يَكُونُ حُرًّا، وَمَا لَمْ يُعْتِقْهُ يَبْقَى عَلَى الرِّقِّ، وَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ جُزْئِهِ الَّذِي لَمْ يُعْتَقْ، كَالْمُكَاتَبِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُرَدُّ إِلَى الرِّقِّ لَوْ عَجَزَ عَنِ الأَْدَاءِ، وَمَا لَمْ يُؤَدِّ فَهُوَ مُبَعَّضٌ، فَإِنْ أَدَّى عَتَقَ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ عَبْدِهِ مُعَيَّنًا كَيَدِهِ أَوْ شَائِعًا كَرُبُعِهِ سَرَى الْعِتْقُ إِلَى بَاقِيهِ فَيَعْتِقُ كُلُّهُ، قَالُوا:
__________
(1) الهداية وشروحها 8 / 29 - 32.
(2) الزرقاني والبناني 6 / 194.(23/88)
لأَِنَّ زَوَال الرِّقِّ لاَ يَتَجَزَّأُ، وَقِيَاسًا عَلَى سِرَايَةِ الْعِتْقِ فِيمَا لَوْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي الْعَبْدِ، كَمَا يَأْتِي (وَانْظُرْ: تَبْعِيض ف 40) .
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ الْمُعْتِقُ غَيْرَ سَفِيهٍ (1) .
ب - أَنْ يَكُونَ الرَّقِيقُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَالِكَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَيُعْتِقُ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ، فَإِنَّ بَاقِيَهُ يَبْقَى رَقِيقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، وَلِشَرِيكِ الْمُعْتِقِ إِمَّا أَنْ يُحَرِّرَ نَصِيبَهُ، أَوْ يُدَبِّرَهُ، أَوْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ إِنْ كَانَ الْعِتْقُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِي تَحْصِيل قِيمَةِ بَاقِيهِ لِيَتَحَرَّرَ، فَإِنِ امْتَنَعَ آجَرَهُ جَبْرًا.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ الصَّاحِبَانِ، إِلَى أَنَّ الشَّرِيكَ إِنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَكَانَ مُوسِرًا سَرَى الْعِتْقُ إِلَى الْبَاقِي فَصَارَ كُل الْعَبْدِ حُرًّا، وَيَكُونُ عَلَى مَنْ بَدَأَ بِالْعِتْقِ قِيمَةُ أَنْصِبَاءِ شُرَكَائِهِ، وَالْوَلاَءُ لَهُ دُونَهُمْ، فَإِنْ أَعْتَقَ الثَّانِيَ بَعْدَ الأَْوَّل وَقَبْل أَخْذِ الْقِيمَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ لِلثَّانِي عِتْقٌ، لأَِنَّ الْعَبْدَ قَدْ صَارَ حُرًّا بِعِتْقِ الأَْوَّل. وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ آخَرَ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَعْتِقُ بِعِتْقِ الأَْوَّل مَا لَمْ يَأْخُذِ الْقِيمَةَ، أَمَّا قَبْل أَخْذِ الْقِيمَةِ فَبَاقِي الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِالْعِتْقِ، وَلاَ يَنْفُذُ بِغَيْرِهِ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 15، وشرح المنهاج 4 / 351، وروضة الطالبين 12 / 110، والزرقاني 8 / 132.(23/88)
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْعِتْقَ مُرَاعًى، فَإِنْ دَفَعَ الْقِيمَةَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ عَتَقَ مِنْ حِينَ أَعْتَقَ الأَْوَّل نَصِيبَهُ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَتَقَ.
أَمَّا إِنْ كَانَ مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مُعْسِرًا فَلاَ يَسْرِي الْعِتْقُ، وَيَكُونُ الْعَبْدُ مُبَعَّضًا.
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ (1) . وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ (2) . (وَانْظُرْ تَبْعِيض ف 41) .
وَعَلَى مِثْل هَذَا التَّفْصِيل مَا لَوْ عَتَقَ عَلَى الْمَالِكِ سَهْمُهُ مِنْ عَبْدٍ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، كَمَنْ مَلَكَ سَهْمًا مِنْ ذِي مَحْرَمٍ بِاخْتِيَارِهِ، أَمَّا إِنْ مَلَكَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، كَمَنْ وَرِثَ جُزْءًا مِنِ ابْنِهِ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ وَلاَ يَسْرِي إِلَى بَاقِيهِ اتِّفَاقًا، بَل يَبْقَى مُبَعَّضًا؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ مَا يُتْلِفُ بِهِ نَصِيبَ شَرِيكِهِ (3) .
ج - أَنْ تَلِدَ الْمُبَعَّضَةُ وَلَدًا مِنْ زَوْجٍ أَوْ زِنًا، فَمُقْتَضَى تَبَعِيَّةِ الْوَلَدِ لأُِمِّهِ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ أَنْ
__________
(1) حديث: " من أعتق شركًا له في عبد فكان له. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 151 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1139 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر.
(2) المغني 9 / 334 - 338، وابن عابدين 3 / 15، 16 والزرقاني 8 / 132، وشرح المنهاج 4 / 352.
(3) المغني 9 / 355، وشرح المنهاج 4 / 354.(23/89)
يَكُونَ وَلَدُهَا مُبَعَّضًا كَذَلِكَ (1) .
د - وَلَدُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ وَطْءِ الشَّرِيكِ الْمُعْسِرِ، فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2)
هـ - أَنْ يَضْرِبَ الإِْمَامُ الرِّقَّ عَلَى بَعْضِ الأَْسِيرِ لِعِتْقِ بَعْضِهِ، فَيَكُونُ مُبَعَّضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ (3) .
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ صُوَرًا أُخْرَى نَادِرَةً.
أَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْمُبَعَّضِ:
140 - لَمَّا كَانَ الْمُبَعَّضُ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ مَمْلُوكٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ شَبِيهًا بِالرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ وَجْهٍ؛ لأَِنَّ سَيِّدَهُ لاَ يَمْلِكُ كُلَّهُ بَل يَمْلِكُ جُزْءًا مِنْهُ، وَشَبِيهًا بِالْحُرِّ مِنْ وَجْهٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَدَ لأَِحَدٍ عَلَى ذَلِكَ الْجُزْءِ الْحُرِّ مِنْهُ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ أَحْكَامَ الْمُبَعَّضِ كَأَحْكَامِ الْقِنِّ فِيمَا عَدَا وَطْءَ السَّيِّدِ أَمَتَهُ الْمُبَعَّضَةَ فَلاَ يَجُوزُ (4) .
وَفِي تُحْفَةِ الطُّلاَّبِ لِزَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُبَعَّضَ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ كَالْقِنِّ، وَفِي بَعْضِهَا كَالْحُرِّ، وَفِي بَعْضٍ آخَرَ هُوَ كَالْحُرِّ
__________
(1) الأشباه للسيوطي 199.
(2) الأشباه للسيوطي 199.
(3) الأشباه للسيوطي 200، والدر المختار 3 / 15.
(4) الزرقاني 8 / 135، 4 / 260.(23/89)
وَكَالْعَبْدِ بِاعْتِبَارَيْنِ (1) .
وَبِاسْتِقْرَاءِ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ فِي فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ كَالشَّافِعِيَّةِ وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ.
التَّصَرُّفُ فِيهِ:
141 - لِلسَّيِّدِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْجُزْءِ الْمَمْلُوكِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَالْمُشْتَرَكِ، فَلَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ، أَوْ يَقِفَهُ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ رَهْنَ الْمَشَاعِ أَوْ وَقْفَهُ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يُبَاعُ الْمُبَعَّضُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ لِسَيِّدِهِ أَنْ يُؤَجِّرَهُ لِيَأْخُذَ قِيمَةَ بَاقِيهِ مِنْ أُجْرَتِهِ (2) .
كَسْبُ الْمُبَعَّضِ
142 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُبَعَّضَ لَوْ كَسَبَ شَيْئًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ كَالاِحْتِشَاشِ وَالاِحْتِطَابِ وَالاِلْتِقَاطِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ، فَلِسَيِّدِهِ نِسْبَةُ مِلْكِهِ فِيهِ، وَالْبَاقِي لَهُ، كَمَا فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، وَهَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ مُهَايَأَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ فَلِصَاحِبِ النَّوْبَةِ مِنْهُ أَوْ مِنْ سَيِّدِهِ، عَلَى التَّفْصِيل وَالْخِلاَفِ الْمُتَقَدِّمِ فِي مَسَائِل الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ (3) .
__________
(1) شرح المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 270، وابن عابدين 3 / 15.
(2) حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب بشرح تحرير تنقيح اللباب 2 / 530 - 532.
(3) شرح المنهاج 3 / 117، وروضة الطالبين 11 / 219، وكشاف القناع 6 / 374.(23/90)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُبَعَّضَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ كُلِّهِ إِلَى أَنْ يُؤَدِّيَ قِيمَةَ بَاقِيهِ الْمَمْلُوكِ مِنْ مَكَاسِبِهِ أَوْ يَعْتِقَ (1) .
الْحُدُودُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُبَعَّضِ:
143 - لاَ يُرْجَمُ الْمُبَعَّضُ فِي الزِّنَا لِعَدَمِ تَمَامِ إِحْصَانِهِ، وَحَدُّ الْمُبَعَّضِ كَحَدِّ الرَّقِيقِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ، فَهُوَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ فِي الزِّنَا، وَالْقَذْفِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُحَدُّ بِنِسْبَةِ حُرِّيَّتِهِ وَرِقِّهِ، فَالْمُنَصَّفُ يُجْلَدُ فِي الزِّنَا خَمْسًا وَسَبْعِينَ جَلْدَةً، وَلاَ يُحَدُّ قَاذِفُ الْمُبَعَّضِ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَمَا لاَ يُحَدُّ قَاذِفُ الرَّقِيقِ، بَل يُعَزَّرُ (2) .
وَلاَ يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ مَال سَيِّدِهِ، كَمَا لاَ يُقْطَعُ سَيِّدُهُ بِسَرِقَتِهِ مِنْ مَال الْمُبَعَّضِ، وَلَوْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِمَّا مَلَكَهُ الْمُبَعَّضُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
جِنَايَاتُ الْمُبَعَّضِ:
144 - لَوْ قَتَل الْمُبَعَّضُ حُرًّا فَيَجِبُ الْقِصَاصُ إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُهُ؛ لأَِنَّهُ يُقْتَل بِالْحُرِّ الْحُرُّ الْكَامِل الْحُرِّيَّةِ، فَلأََنْ يُقْتَل بِهِ الْمُبَعَّضُ الَّذِي حُرِّيَّتُهُ نَاقِصَةٌ أَوْلَى.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 15.
(2) الشرقاوي على شرح التحرير 2 / 530 القاهرة، مصطفى الحلبي 1360 هـ، والأشباه ص 198، وكشاف القناع 6 / 93.(23/90)
وَلَوْ قَتَل الْمُبَعَّضُ مُبَعَّضًا آخَرَ فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الْقَوْل الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقْتَل جُزْءُ الرِّقِّ بِجُزْءِ الرِّقِّ، بَل يُقْتَل جَمِيعُهُ بِجَمِيعِهِ حُرِّيَّةً وَرِقًّا شَائِعًا، فَلَوْ قُتِل بِهِ يَلْزَمُ قَتْل جُزْءِ حُرِّيَّةٍ بِجُزْءِ رِقٍّ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ يُقْتَل بِهِ إِنْ لَمْ تَزِدْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِل عَلَى حُرِّيَّةِ الْمَقْتُول، بِأَنْ كَانَتْ بِقَدْرِهَا أَوْ أَقَل؛ لأَِنَّ الْمَقْتُول حِينَئِذٍ مُسَاوٍ لِلْقَاتِل أَوْ يَزِيدُ عَنْهُ حُرِّيَّةً، فَلَمْ يَفْضُل الْقَاتِل الْمَقْتُول بِشَيْءٍ، فَلاَ يَمْتَنِعُ الْقِصَاصُ.
وَلَوْ قَتَل الْحُرُّ مُبَعَّضًا لَمْ يُقْتَل بِهِ عِنْدَ مَنْ لاَ يَقْتُل الْحُرَّ بِالْعَبْدِ - وَهُمْ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ - لِنَقْصِهِ بِرِقِّ بَعْضِهِ، وَكَذَا لَوْ قَتَل الْمُبَعَّضُ قِنًّا لَمْ يُقْتَل بِهِ، وَلَوْ قَتَل الْقِنُّ مُبَعَّضًا قُتِل بِهِ. (2)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلَوْ قَتَل الْمُبَعَّضُ عَمْدًا، فَإِنْ كَانَ تَرَكَ مَالاً يَفِي بِبَاقِي قِيمَتِهِ فَهُوَ حُرٌّ وَيَثْبُتُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَلاَ قِصَاصَ لِلاِخْتِلاَفِ فِي أَنَّهُ يَعْتِقُ كُلُّهُ أَوْ لاَ، فَالسَّبَبُ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ جَهْل الْمُسْتَحِقِّ، إِذْ هُوَ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ السَّيِّدَ أَوِ الْقَرِيبَ (3) .
__________
(1) الأشباه ص 197.
(2) شرح المنهاج 4 / 106، وشرح الشرقاوي على شرح التحرير 2 / 531.
(3) ابن عابدين 3 / 15.(23/91)
الدِّيَاتُ
145 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُبَعَّضَ إِذَا قَتَل وَوَجَبَ ضَمَانُهُ، فَإِنَّ فِيهِ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ بِنِسْبَةِ حُرِّيَّتِهِ، وَمِنْ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ كُلُّهُ رَقِيقًا بِنِسْبَةِ رِقِّهِ. فَمُبَعَّضٌ نِصْفُهُ حُرٌّ نِصْفُ دِيَةِ حُرٍّ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَنِصْفُ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ عَبْدًا، فِي مَال الْجَانِي (1) . وَإِنْ قَطَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ فَرُبُعُ الدِّيَةِ وَرُبُعُ الْقِيمَةِ، وَكُلُّهَا فِي مَال الْجَانِي. وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ مِمَّا لاَ مُقَدَّرَ لَهُ يُقَوَّمُ كُلُّهُ رَقِيقًا سَلِيمًا بِلاَ جُرْحٍ، ثُمَّ رَقِيقًا وَبِهِ الْجُرْحُ، وَيَضْمَنُ الْجَانِي النَّقْصَ، لَكِنْ يَكُونُ نِصْفُ ذَلِكَ النَّقْصِ (أَيْ فِي الرَّقِيقِ الْمُنَصَّفِ) دِيَةً (أَيْ أَرْشًا) لِجُزْئِهِ الْحُرِّ.
وَالنِّصْفُ الآْخَرُ قِيمَةً لِمَا نَقَصَ مِنْ جُزْئِهِ الرَّقِيقِ (2) .
إِرْثُ مَال الْمُبَعَّضِ عَنْهُ:
146 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الْمُبَعَّضَ لاَ يُورَثُ عَنْهُ مَالُهُ بَل يَكُونُ كُل مَا تَرَكَهُ لِمَالِكِ جُزْئِهِ الْمَمْلُوكِ. وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْقَدِيمِ: يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَال.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الْجَدِيدِ - وَهُوَ الأَْظْهَرُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ مَا كَسَبَهُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ
__________
(1) القليوبي 4 / 145، والشرقاوي 2 / 532، وكشاف القناع 6 / 22.
(2) القليوبي 4 / 145.(23/91)
وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَاَلَّذِي كَسَبَهُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ مِثْل أَنْ يَكُونَ قَدْ وَرِثَ شَيْئًا عَنْ قَرِيبٍ لَهُ مَثَلاً؛ لأَِنَّهُ لاَ يَرِثُ إِلاَّ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ، أَوْ يَكُونَ قَدْ هَايَأَ سَيِّدَهُ فَكَسَبَ ذَلِكَ الْمَال فِي الأَْيَّامِ الْمُخَصَّصَةِ لَهُ (أَيْ لِلْمُبَعَّضِ) أَوْ كَانَ قَدْ قَاسَمَ سَيِّدَهُ قَبْل الْمَوْتِ وَأَخَذَ السَّيِّدُ حَقَّهُ، فَيَكُونُ الَّذِي بَقِيَ لِجُزْئِهِ الْحُرِّ. قَالُوا: فَيُورَثُ عَنْهُ ذَلِكَ، يَرِثُهُ قَرِيبُهُ وَزَوْجَتُهُ وَمُعْتَقُهُ. وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ كَسَبَهُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ، وَلاَ قَاسَمَ سَيِّدَهُ فِي حَيَاتِهِ، فَمَا تَرَكَهُ مِنَ الْمَال يَكُونُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ، فَلِسَيِّدِهِ بِنِسْبَةِ مِلْكِهِ. وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ (1) .
إِرْثُ الْمُبَعَّضِ مِنْ غَيْرِهِ:
147 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، إِلَى أَنَّ الْمُبَعَّضَ كَالْقِنِّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ، فَلاَ يَرِثُ، كَمَا لاَ يُورَثُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَكَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ الْمَنْصُوصِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الأَْصْحَابُ: لاَ يَرِثُ الْمُبَعَّضُ مِنْ أَقَارِبِهِ وَغَيْرِهِمْ شَيْئًا، وَلاَ يَحْجُبُ أَحَدًا مِنَ الْوَرَثَةِ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 489، والزرقاني 8 / 227، 135، وشرح المنهاج 3 / 148، والروضة 6 / 30، والمغني 6 / 269، والعذب الفائض 1 / 24.
(2) بيّن صاحب العذب الفائض طريقة العمل وضرب أمثلة أخرى فليرجع إليه من أراد التوسع.(23/92)
وَقَال أَحْمَدُ، وَالْمُزَنِيُّ، وَابْنُ سُرَيْجٍ، مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ: يَرِثُ، وَيَحْجُبُ بِقَدْرِ جُزْئِهِ الْحُرِّ، فَجُزْؤُهُ الْحُرُّ يُعَامَل مُعَامَلَةَ الأَْحْرَارِ، وَجُزْؤُهُ الْمَمْلُوكُ يُعَامَل مُعَامَلَةَ الْعَبِيدِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي الْعَبْدِ يَعْتِقُ بَعْضُهُ: يَرِثُ وَيُورَثُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ (1) .
وَمَثَّل لَهُ فِي الْعَذْبِ الْفَائِضِ بِامْرَأَةٍ مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ، وَأَخٍ شَقِيقٍ حُرَّيْنِ، وَابْنٍ لَهَا نِصْفُهُ حُرٌّ، فَيَكُونُ لِلاِبْنِ الرُّبُعُ وَالثُّمُنُ، وَهُوَ نِصْفُ مَا يَأْخُذُهُ لَوْ كَانَ كَامِل الْحُرِّيَّةِ، وَلِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَالثُّمُنُ كَذَلِكَ، وَلِلأَْخِ الرُّبُعُ، لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ الاِبْنُ رَقِيقًا كَانَ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلأَْخِ النِّصْفُ وَلاَ شَيْءَ لِلاِبْنِ، وَلَوْ كَانَ كَامِل الْحُرِّيَّةِ كَانَ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَالْبَاقِي لِلاِبْنِ وَهُوَ نِصْفٌ وَرُبُعٌ، وَلاَ شَيْءَ لِلأَْخِ، فَيَأْخُذُ كُلٌّ مِنْهُمْ نِصْفَ مَا يَأْخُذُهُ فِي مَجْمُوعِ الْمَسْأَلَتَيْنِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ وَجَابِرٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالثَّوْرِيُّ: هُوَ كَالْحُرِّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ فَيَرِثُ وَيَحْجُبُ كَالْحُرِّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: هُوَ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ حُرٌّ مَدْيُونٌ - أَيْ لأَِنَّهُ
__________
(1) حديث ابن عباس: " في العبد يعتق بعضه " أورده ابن قدامة في المغني (6 / 270 - ط الرياض) وعزاه إلى عبد الله بن أحمد، وفيه انقطاع في سنده.(23/92)
يُسْتَسْعَى فِي فِكَاكِ بَاقِيهِ - فَيَرِثُ وَيَحْجُبُ (1) .
انْقِضَاءُ الرِّقِّ:
148 - يَنْقَضِي الرِّقُّ فِي الرَّقِيقِ بِأُمُورٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يُعْتِقَهُ مَالِكُهُ، سَوَاءٌ بَادَرَ بِعِتْقِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، أَوْ أَعْتَقَهُ عَنْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ، أَوْ ظِهَارٍ، أَوْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ كَانَ عِتْقُهُ عَلَى مَالٍ يَلْتَزِمُهُ الْعَبْدُ كَمَا فِي الْكِتَابَةِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ (ر: عِتْق) .
الثَّانِي: أَنْ يَعْتِقَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ السَّيِّدُ، أَوْ خَصَاهُ، أَوْ ضَرَبَهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ، وَكَمَا لَوْ وَلَدَتِ الأَْمَةُ مِنْ سَيِّدِهَا ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ (ر: اسْتِيلاَد) وَكَمَا لَوِ اشْتَرَى الرَّجُل قَرِيبَهُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُوصِيَ بِعِتْقِهِ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
الرَّابِعُ: أَنْ يُدَبِّرَهُ: أَيْ يُعَلِّقَ السَّيِّدُ عِتْقَ الْعَبْدِ عَلَى مَوْتِهِ أَيْ مَوْتِ السَّيِّدِ، فَإِنْ مَاتَ السَّيِّدُ يَكُونُ الْعَبْدُ عَتِيقًا، وَكَذَا لَوْ كَاتَبَهُ وَأَدَّى الْكِتَابَةَ (ر: تَدْبِير، عِتْق) .
__________
(1) شرح المنهاج 3 / 148، والروضة 6 / 30، والعذب الفائض 1 / 23، 24، والمغني 6 / 269 وما بعدها، والزرقاني 8 / 227، 135، وابن عابدين 5 / 489، 3 / 15.(23/93)
رَقْم
التَّعْرِيفِ:
1 - لُغَةً: الرَّقْمُ فِي الأَْصْل مَصْدَرٌ، يُقَال: رَقَمْتُ الثَّوْبَ رَقْمًا أَيْ وَشَّيْتُهُ، فَهُوَ مَرْقُومٌ، وَرَقَمْتُ الْكِتَابَ: كَتَبْتُهُ فَهُوَ مَرْقُومٌ.
وَالرَّقْمُ: الْخَطُّ وَالْكِتَابَةُ وَالْخَتْمُ. وَالرَّقْمُ: خَزٌّ مُوَشًّى، وَكُل ثَوْبٍ وُشِّيَ فَهُوَ رَقْمٌ.
وَرَقَمْتُ الشَّيْءَ: أَعْلَمْتُهُ بِعَلاَمَةٍ تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ كَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِهَا (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَلاَمَةٌ يُعْرَفُ بِهَا مِقْدَارُ مَا يَقَعُ بِهِ الْبَيْعُ، أَوْ هُوَ الثَّمَنُ الْمَكْتُوبُ عَلَى الثَّوْبِ (2) . وَفِي الْحَدِيثِ: كَانَ يَزِيدُ فِي الرَّقْمِ (3) أَيْ مَا يُكْتَبُ عَلَى الثِّيَابِ مِنْ أَثْمَانِهَا لِتَقَعَ الْمُرَابَحَةُ عَلَيْهِ، أَوْ يَغْتَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير والمقاييس في اللغة 2 / 425.
(2) كشاف اصطلاحات الفنون 3 / 590، وابن عابدين 4 / 29، والمغني 4 / 207، والمجموع 9 / 323 - 324 تحقيق المطيعي، والموسوعة 7 / 70، 8 / 79.
(3) حديث: " كان يزيد في الرقم " أورده ابن الأثير في النهاية (2 / 253 - ط الحلبي) .(23/93)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَرْنَامَجُ:
2 - الْبَرْنَامَجُ: الْوَرَقَةُ الْجَامِعَةُ لِلْحِسَابِ، وَهُوَ مُعَرَّبُ (برنامه) .
وَفِي الْمُغْرِبِ: هِيَ النُّسْخَةُ الْمَكْتُوبُ فِيهَا عَدَدُ الثِّيَابِ وَالأَْمْتِعَةِ وَأَنْوَاعِهَا الْمَبْعُوثِ بِهَا مِنْ إِنْسَانٍ لآِخَرَ، فَتِلْكَ النُّسْخَةُ الَّتِي فِيهَا مِقْدَارُ الْمَبْعُوثِ هِيَ الْبَرْنَامَجُ (1) .
وَنَصَّ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْبَرْنَامَجَ هُوَ الدَّفْتَرُ الْمَكْتُوبُ فِيهِ أَوْصَافُ مَا فِي الْعَدْل مِنَ الثِّيَابِ الْمَبِيعَةِ لِتُشْتَرَى عَلَى تِلْكَ الصَّنْعَةِ لِلضَّرُورَةِ (2) .
ب - الأُْنْمُوذَجُ:
3 - الأُْنْمُوذَجُ: مَا يَدُل عَلَى صِفَةِ الشَّيْءِ، وَهُوَ مُعَرَّبٌ، وَفِي لُغَةٍ: نَمُوذَجٌ، قَال الصَّغَانِيُّ: النَّمُوذَجُ: مِثَال الشَّيْءِ الَّذِي يُعْمَل عَلَيْهِ (3) .
ج - النَّقْشُ، وَالْوَشْيُ، وَالنَّمْنَمَةُ، وَالتَّزْوِيقُ:
4 - هَذِهِ الأَْلْفَاظُ تَكَادُ تَكُونُ مُتَّفِقَةَ الْمَعْنَى وَهِيَ تَشْتَرِكُ مَعَ (الرَّقْمِ) فِي مَعْنَى التَّجْمِيل، وَالتَّزْيِينِ (4) .
__________
(1) تاج العروس والمغرب مادة (برنامج) .
(2) الدسوقي 3 / 24.
(3) المصباح المنير.
(4) لسان العرب المواد (زوق - نقش - نمنم - وشي) .(23/94)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّقْمِ مِنْ أَحْكَامٍ:
الْبَيْعُ بِالرَّقْمِ:
5 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ الْعِلْمُ بِالثَّمَنِ، فَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ مَرْقُومًا عَلَى السِّلْعَةِ (أَيْ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا) ، وَتَمَّ الْبَيْعُ بِالرَّقْمِ بِأَنْ قَال الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِرَقْمِهَا، أَيْ بِالثَّمَنِ الَّذِي هُوَ مَرْقُومٌ عَلَيْهَا. فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَالِمَيْنِ بِقَدْرِهِ صَحَّ الْبَيْعُ بِاتِّفَاقٍ.
وَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا جَاهِلاً وَتَمَّ الْبَيْعُ عَلَى ذَلِكَ وَافْتَرَقَا فَسَدَ الْبَيْعُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ) وَذَلِكَ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ، وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ وَاخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَهُوَ وَجْهٌ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ مَعْرِفَةِ الثَّمَنِ، نَظِيرُهُ مَا لَوْ قَال: بِعْتُ هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُل صَاعٍ بِدِرْهَمٍ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَإِنْ كَانَتْ جُمْلَةُ الثَّمَنِ فِي الْحَال مَجْهُولَةً، لَكِنْ قَال النَّوَوِيُّ عَمَّا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ: هَذَا ضَعِيفٌ شَاذٌّ.
وَإِنْ عَلِمَ الْجَاهِل بِالثَّمَنِ - قَدْرَ الرَّقْمِ - فِي الْمَجْلِسِ (أَيْ قَبْل الاِفْتِرَاقِ) فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ؛ لأَِنَّ الْمَانِعَ كَانَ هُوَ جَهَالَةُ الثَّمَنِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَقَدْ زَالَتْ فِي الْمَجْلِسِ، وَيَصِيرُ كَتَأْخِيرِ الْقَبُول إِلَى(23/94)
آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ حَكَاهُ الْفُورَانِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ، وَهُوَ مَفْهُومُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَال الْبَعْضُ الآْخَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّ فِيهِ زِيَادَةَ جَهَالَةٍ تَمَكَّنَتْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَهِيَ جَهَالَةُ الثَّمَنِ بِسَبَبِ الرَّقْمِ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْقِمَارِ لِلْخَطَرِ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ كَذَا وَكَذَا لأَِنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يُبَيِّنَ الْبَائِعُ قَدْرَ الرَّقْمِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل.
لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَجُوزُ الْبَيْعُ مَعَ الْعِلْمِ فِي الْمَجْلِسِ لَكِنْ بِعَقْدٍ آخَرَ هُوَ التَّعَاطِي أَوِ التَّرَاضِي. وَعَنْ هَذَا قَال شَمْسُ الأَْئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: وَإِنْ عَلِمَ بِالرَّقْمِ فِي الْمَجْلِسِ لاَ يَنْقَلِبُ ذَلِكَ الْعَقْدُ جَائِزًا، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ الْبَائِعُ دَائِمًا عَلَى الرِّضَا فَرَضِيَ بِهِ الْمُشْتَرِي يَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا عَقْدَ ابْتِدَاءٍ بِالتَّرَاضِي (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ (ثَمَن ج 15 ص 35)
الرَّقْمُ بِمَعْنَى النَّقْشِ وَالتَّصْوِيرِ:
6 - الأَْصْل فِي هَذَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 11 - 12، 29، وفتح القدير مع الكفاية والعناية 5 / 472 - 473 - 474، وبدائع الصنائع 5 / 158، والدسوقي 3 / 15 - 16، والمجموع 9 / 323 - 324 تحقيق المطيعي، والمغني 4 / 207، 211، والإنصاف 4 / 310 والاختيارات الفقهية لابن تيمية ص 121.(23/95)
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَدْخُل عَلَيْهَا، وَجَاءَ عَلِيٌّ فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنِّي رَأَيْتُ عَلَى بَابِهَا سِتْرًا مَوْشِيًّا، فَقَال: مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، فَأَتَاهَا عَلِيٌّ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا فَقَالَتْ: لِيَأْمُرْنِي فِيهِ بِمَا شَاءَ، قَال: تُرْسِلِي بِهِ إِلَى فُلاَنٍ، أَهْل بَيْتٍ فِيهِمْ حَاجَةٌ (1) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ: مَا لِي وَلِلرَّقْمِ (2) .
وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ صَاحِبِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُل بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ قَال بُسْرٌ: ثُمَّ اشْتَكَى زَيْدٌ بَعْدُ فَعُدْنَاهُ، فَإِذَا عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ فِيهِ صُورَةٌ، قَال: فَقُلْتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ الْخَوْلاَنِيِّ رَبِيبِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ يُخْبِرْنَا زَيْدٌ عَنِ الصُّوَرِ يَوْمَ الأَْوَّل؟ فَقَال عُبَيْدُ اللَّهِ: أَلَمْ تَسْمَعْهُ حِينَ قَال: إِلاَّ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ (3) .
__________
(1) حديث ابن عمر: " أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 228 - ط السلفية) .
(2) فتح الباري 5 / 228 - 229 وينظر 10 / 384 وما بعدها.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 14 / 85، والأبي 5 / 394 وحديث: " إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة ". أخرجه مسلم (3 / 1665 - ط الحلبي) .(23/95)
أَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ التَّصْوِيرُ وَالاِسْتِعْمَال فَيُنْظَرُ فِي بَحْثِ تَصْوِير (12 / 92) وَمُصْطَلَحِ (نَقْش) .
رَقِيب
انْظُرْ: حِرَاسَة، رَبِيئَة(23/96)
رُقْيَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّقْيَةُ لُغَةً: اسْمٌ مِنَ الرَّقْيِ يُقَال رَقَى الرَّاقِي الْمَرِيضَ يَرْقِيهِ.
قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: الرُّقْيَةُ الْعَوْذَةُ الَّتِي يُرْقَى بِهَا صَاحِبُ الآْفَةِ كَالْحُمَّى وَالصَّرْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآْفَاتِ لأَِنَّهُ يُعَاذُ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَقِيل مَنْ رَاقٍ (1) } أَيْ مَنْ يَرْقِيهِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لاَ رَاقِيَ يَرْقِيهِ فَيَحْمِيهِ، وَرَقَيْتُهُ رُقْيَةً أَيْ عَوَّذْتُهُ بِاَللَّهِ، وَالاِسْمُ الرُّقْيَا، وَالْمَرَّةُ رُقْيَةٌ، وَالْجَمْعُ: رُقًى (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ لِلرُّقْيَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالرُّقْيَةُ قَدْ تَكُونُ بِكِتَابَةِ شَيْءٍ وَتَعْلِيقِهِ، وَقَدْ تَكُونُ بِقِرَاءَةِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْمُعَوِّذَاتِ وَالأَْدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ (3) .
__________
(1) سورة القيامة / 27.
(2) لسان العرب، المصباح المنير، المفردات لغريب القرآن مادة: (رقى) ، حاشية العدوي 2 / 2 - 453، الفواكه الدواني 2 / 439 - 442، حاشية ابن عابدين 5 / 232، دليل الفالحين 3 / 370.
(3) قواعد الفقه للمجددي.(23/96)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرُّقَى.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ الرَّقْيِ مِنْ كُل دَاءٍ يُصِيبُ الإِْنْسَانَ بِشُرُوطٍ ثَلاَثَةٍ:
أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ بِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ أَوْ بِمَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِهِ.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الرُّقْيَةَ لاَ تُؤَثِّرُ بِذَاتِهَا بَل بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ لِمَا رَوَى عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا: يَا رَسُول اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ؟ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ (1) .
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّقَى فَجَاءَ آل عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى، قَال: فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ. فَقَال: مَا أَرَى بَأْسًا، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ (2) .
وَقَال الرَّبِيعُ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنِ الرُّقَى
__________
(1) حديث عوف بن مالك: " كنا نرقي في الجاهلية ". أخرجه مسلم (4 / 1727 - ط الحلبي) .
(2) حديث جابر: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى ". أخرجه مسلم (4 / 1726 - 1727 - ط الحلبي) .(23/97)
فَقَال: لاَ بَأْسَ إِنْ رُقِيَ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ بِمَا يُعْرَفُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
وَسُئِل مَالِكٌ عَنِ الرُّقَى بِالأَْسْمَاءِ الْعَجَمِيَّةِ فَقَال: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا كُفْرٌ؟ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ مَا جُهِل مَعْنَاهُ لاَ يَجُوزُ الرُّقْيَةُ بِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ كُفْرٌ أَوْ سِحْرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَال قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: لاَ تَجُوزُ الرُّقْيَةُ إِلاَّ مِنَ الْعَيْنِ وَاللَّدْغَةِ لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الرُّقَى حَتَّى وَإِنْ كَانَتْ بِكِتَابِ اللَّهِ أَوْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ لأَِنَّهَا قَادِحَةٌ فِي التَّوَكُّل عَلَى اللَّهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا ذَكَرَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ: هُمُ الَّذِينَ لاَ يَتَطَيَّرُونَ وَلاَ يَكْتَوُونَ وَلاَ يَسْتَرْقُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) .
وَمِنْ هَؤُلاَءِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى كَرَاهَةِ الرَّقْيِ إِلاَّ بِالْمُعَوِّذَاتِ.
وَفَرَّقَ قَوْمٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ الرَّقْيِ قَبْل وُقُوعِ الْبَلاَءِ وَبَعْدَ وُقُوعِهِ، فَقَالُوا: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنَ الرَّقْيِ
__________
(1) حديث: " لا رقية إلا من عين أو حمة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 155 - ط السلفية) .
(2) حديث: " هم الذين لا يتطيرون ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 211 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.(23/97)
هُوَ مَا يَكُونُ قَبْل وُقُوعِ الْبَلاَءِ، وَالْمَأْذُونُ فِيهِ مَا كَانَ بَعْدَ وُقُوعِهِ (1) .
أَخْذُ الْجُعْل عَلَى الرَّقْيِ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْجُعْل عَلَى الرَّقْيِ عَلَى تَفْصِيلٍ (سَبَقَ فِي بَحْثِ تَعْوِيذ مِنَ الْمَوْسُوعَةِ 13 / 34) .
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 10 / 156، 195، 211، دليل الفالحين 3 / 372، القوانين الفقهية ص 453، الفواكه الدواني 2 / 442، حاشية العدوي 2 / 453، مغني المحتاج 1 / 37، المغني لابن قدامة 2 / 449، حاشية ابن عابدين 5 / 232، والموسوعة 11 / 123 - 124 فقرة 13 و13 / 21 وما بعدها.(23/98)
رِكَاز
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّكَازُ لُغَةً بِمَعْنَى الْمَرْكُوزِ وَهُوَ مِنَ الرَّكْزِ أَيِ: الإِْثْبَاتِ، وَهُوَ الْمَدْفُونُ فِي الأَْرْضِ إِذَا خَفِيَ.
يُقَال: رَكَزَ الرُّمْحَ إِذَا غَرَزَ أَسْفَلَهُ فِي الأَْرْضِ، وَشَيْءٌ رَاكِزٌ أَيْ: ثَابِتٌ.
وَالرِّكْزُ هُوَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ (1) . قَال اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (2) } .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ هُوَ مَا دَفَنَهُ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ.
وَيُطْلَقُ عَلَى كُل مَا كَانَ مَالاً عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهِ. إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ خَصُّوا إِطْلاَقَهُ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الأَْمْوَال.
وَأَمَّا الرِّكَازُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيُطْلَقُ عَلَى أَعَمَّ مِنْ كَوْنِ رَاكِزِهِ الْخَالِقَ أَوِ الْمَخْلُوقَ فَيَشْمَل عَلَى هَذَا الْمَعَادِنَ وَالْكُنُوزَ (3) . عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي.
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب، والمفردات للراغب.
(2) سورة مريم / 98.
(3) ابن عابدين 2 / 43 - 44، والمجموع 6 / 38، والحطاب 2 / 339، والمغني 3 / 18.(23/98)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَعْدِنُ:
2 - الْمَعْدِنُ لُغَةً: هُوَ بِفَتْحِ الدَّال وَكَسْرِهَا اسْمٌ لِلْمَحَل وَلِمَا يَخْرُجُ، مُشْتَقٌّ مِنْ عَدَنَ بِالْمَكَانِ يَعْدِنُ إِذَا أَقَامَ بِهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ جَنَّةُ عَدْنٍ لأَِنَّهَا دَارُ إِقَامَةٍ وَخُلُودٍ. وَمِنْهُ الْمَعْدِنُ لِمُسْتَقَرِّ الْجَوَاهِرِ (1) .
وَأَصْل الْمَعْدِنِ الْمَكَانُ بِقَيْدِ الاِسْتِقْرَارِ فِيهِ، ثُمَّ اشْتُهِرَ فِي نَفْسِ الأَْجْزَاءِ الْمُسْتَقِرَّةِ الَّتِي رَكَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الأَْرْضِ يَوْمَ خَلَقَ الأَْرْضَ، حَتَّى صَارَ الاِنْتِقَال مِنَ اللَّفْظِ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً بِلاَ قَرِينَةٍ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ كُل مَا خَرَجَ مِنَ الأَْرْضِ مِمَّا يُخْلَقُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ وَيُحْتَاجُ فِي إِخْرَاجِهِ إِلَى اسْتِنْبَاطٍ.
قَال أَحْمَدُ: الْمَعَادِنُ هِيَ الَّتِي تُسْتَنْبَطُ، لَيْسَ هُوَ شَيْءٌ دُفِنَ.
وَالْمَعَادِنُ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
1 - جَامِدٌ يَذُوبُ وَيَنْطَبِعُ بِالنَّارِ كَالنَّقْدَيْنِ (الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) ، وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالصُّفْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
2 - جَامِدٌ لاَ يَنْطَبِعُ بِالنَّارِ كَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَالزِّرْنِيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
3 - مَا لَيْسَ بِجَامِدٍ كَالْمَاءِ وَالْقِيرِ وَالنَّفْطِ وَالزِّئْبَقِ.
وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الرِّكَازَ مُبَايِنٌ لِلْمَعْدِنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
__________
(1) المصباح المنير، والمفردات للراغب.
(2) ابن عابدين 2 / 44.(23/99)
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّ الرِّكَازَ أَعَمُّ مِنَ الْمَعْدِنِ، حَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْكَنْزِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (مَعْدِن)
ب - الْكَنْزُ:
3 - الْكَنْزُ لُغَةً: الْمَال الْمَجْمُوعُ الْمُدَّخَرُ، يُقَال: كَنَزْتُ الْمَال كَنْزًا إِذَا جَمَعْتَهُ وَادَّخَرْتَهُ، وَالْكَنْزُ فِي بَابِ الزَّكَاةِ: الْمَال الْمَدْفُونُ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَالْجَمْعُ كُنُوزٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْكَنْزُ فِي الأَْصْل اسْمٌ لِلْمُثْبَتِ فِي الأَْرْضِ بِفِعْل إِنْسَانٍ، وَالإِْنْسَانُ يَشْمَل الْمُؤْمِنَ أَيْضًا لَكِنْ خَصَّهُ الشَّارِعُ بِالْكَافِرِ لأَِنَّ كَنْزَهُ هُوَ الَّذِي يُخَمَّسُ، وَأَمَّا كَنْزُ الْمُسْلِمِ فَلُقَطَةٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ (2) ، وَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ (كَنْز) .
وَالْكَنْزُ أَعَمُّ مِنَ الرِّكَازِ؛ لأَِنَّ الرِّكَازَ دَفِينُ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَطْ، وَالْكَنْزُ دَفِينُ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَهْل الإِْسْلاَمِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الأَْحْكَامِ.
ج - الدَّفِينُ:
4 - الدَّفِينُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ مَا أُخْفِيَ تَحْتَ أَطْبَاقِ
__________
(1) المصباح المنير مادة (كنز) .
(2) ابن عابدين 2 / 44، والفواكه الدواني 1 / 349، والمجموع 6 / 43، والمغني 3 / 19.(23/99)
التُّرَابِ، وَنَحْوِهِ مَدْفُونٌ (1) وَدَفِينٌ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فَالدَّفِينُ أَعَمُّ مِنَ الرِّكَازِ.
أَحْكَامُ الرِّكَازِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّكَازَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ (2) يَتَنَاوَل دَفِينَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَوَاءٌ كَانَ مَضْرُوبًا أَوْ غَيْرَهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ النَّقْدَيْنِ مِنْ دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ يَتَنَاوَل كُل مَا كَانَ مَالاً مَدْفُونًا عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهِ، كَالْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ، وَالصُّفْرِ، وَالرُّخَامِ وَالأَْعْمِدَةِ، وَالآْنِيَةِ وَالْعُرُوضِ وَالْمِسْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ حَدِيثِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ إِذِ الْحَدِيثُ لاَ يَخُصُّ مَدْفُونًا دُونَ غَيْرِهِ، بَل هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَا دَفَنَهُ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ خَالَفُوا جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ فَعَمَّمُوا إِطْلاَقَ الرِّكَازِ عَلَى الْمَعَادِنِ الْخِلْقِيَّةِ أَيْضًا لَكِنْ لَيْسَ جَمِيعَهَا، بَل قَصَرُوا ذَلِكَ عَلَى كُل مَعْدِنٍ جَامِدٍ يَنْطَبِعُ - أَيْ يَلِينُ - بِالنَّارِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
__________
(1) المصباح المنير مادة (دفن) .
(2) حديث: " وفي الركاز الخمس ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 364 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.(23/100)
وَأَلْحَقُوا بِمَا تَقَدَّمَ الْمَعَادِنَ السَّائِلَةَ الزِّئْبَقَ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لأَِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِالْعِلاَجِ مِنْ عَيْنِهِ وَطُبِعَ مَعَ غَيْرِهِ فَكَانَ كَالْفِضَّةِ، فَإِنَّ الْفِضَّةَ لاَ تَنْطَبِعُ مَا لَمْ يُخَالِطْهَا شَيْءٌ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ النَّهْرِ: وَالْخِلاَفُ - أَيْ: فِي الزِّئْبَقِ - فِي الْمُصَابِ فِي مَعْدِنِهِ، أَمَّا الْمَوْجُودُ فِي خَزَائِنِ الْكُفَّارِ فَفِيهِ الْخُمُسُ اتِّفَاقًا لأَِنَّهُ مَالٌ.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا فَإِنَّ الرِّكَازَ أَعَمُّ مِنَ الْمَعْدِنِ وَمِنَ الْكَنْزِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْ: يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ حَدِيثِ: وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الْمَعْدِنِ وَالْكَنْزِ مَرْكُوزٌ فِي الأَْرْضِ إِنِ اخْتَلَفَ الرَّاكِزُ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّ الرِّكَازَ حَقِيقَةً فِيهِمَا مُشْتَرَكٌ اشْتِرَاكًا مَعْنَوِيًّا وَلَيْسَ خَاصًّا بِالدَّفِينِ (1) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَصَرُوا إِطْلاَقَ الرِّكَازِ عَلَى مَا وُجِدَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الأَْمْوَال وَالْمَعَادِنِ؛ لأَِنَّ الرِّكَازَ مَالٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الأَْرْضِ فَاخْتُصَّ بِمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَدْرًا وَنَوْعًا (2) .
دَفِينُ الْجَاهِلِيَّةِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ دَفِينَ الْجَاهِلِيَّةِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 44، والشرح الصغير 1 / 486، والدسوقي 1 / 489، والمغني 3 / 21.
(2) المجموع 6 / 44 - 47، ومغني المحتاج 1 / 395 - 396.(23/100)
رِكَازٌ، وَيُسْتَدَل عَلَى كَوْنِهِ مِنْ دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ بِوُجُودِهِ فِي قُبُورِهِمْ أَوْ خَزَائِنِهِمْ أَوْ قِلاَعِهِمْ. فَإِنْ وُجِدَ فِي مَوَاتٍ فَيُعْرَفُ بِأَنْ تُرَى عَلَيْهِ عَلاَمَاتُهُمْ كَأَسْمَاءِ مُلُوكِهِمْ وَصُوَرِهِمْ وَصُلُبِهِمْ وَصُوَرِ أَصْنَامِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ عَلَى بَعْضِهِ عَلاَمَةُ كُفْرٍ وَبَعْضُهُ لاَ عَلاَمَةَ فِيهِ فَرِكَازٌ. أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ بِالْكَنْزِ عَلاَمَةٌ يُسْتَدَل بِهَا عَلَى كَوْنِهِ مِنْ دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوِ الإِْسْلاَمِ أَوِ اشْتَبَهَ، فَالْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ) عَلَى أَنَّهُ رِكَازٌ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ فِي الدَّفْنِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ - إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِرِكَازٍ بَل هُوَ لُقَطَةٌ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلاَ يُسْتَبَاحُ إِلاَّ بِيَقِينٍ.
وَفِي الْمَجْمُوعِ: قَال الرَّافِعِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ مُدَارٌ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ دَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ لاَ أَنَّهُ مِنْ ضَرْبِهِمْ، فَقَدْ يَكُونُ مِنْ ضَرْبِهِمْ وَيَدْفِنُهُ مُسْلِمٌ بَعْدَ أَنْ وَجَدَهُ وَأَخَذَهُ وَمَلَكَهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الرَّافِعِيُّ تَفْرِيعٌ عَلَى الأَْصَحِّ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ الْكَنْزَ الَّذِي لاَ عَلاَمَةَ فِيهِ يَكُونُ لُقَطَةً. فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِالْقَوْل الآْخَرِ أَنَّهُ رِكَازٌ، فَالْحُكْمُ مُدَارٌ عَلَى ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ (1)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 47، والخرشي 2 / 210، والمجموع 6 / 44، والقليوبي 2 / 27، والمغني 3 / 19، وشرح منتهى الإرادات 1 / 399 - 400.(23/101)
الْمُرَادُ بِالْجَاهِلِيَّةِ:
7 - الْمُرَادُ بِالْجَاهِلِيَّةِ: مَا قَبْل الإِْسْلاَمِ، أَيْ قَبْل مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ جَهَالاَتِهِمْ، أَوْ مَنْ كَانَ بَعْدَ مَبْعَثِهِ وَلَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ.
وَعَلَى هَذَا فَلَفْظُ الْجَاهِلِيَّةِ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ لاَ دِينَ لَهُ قَبْل الإِْسْلاَمِ أَوْ كَانَ لَهُ دِينٌ كَأَهْل الْكِتَابِ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ: وَيُعْتَبَرُ فِي كَوْنِ الدَّفِينِ الْجَاهِلِيِّ رِكَازًا كَمَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنْ لاَ يُعْلَمَ أَنَّ مَالِكَهُ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ بَلَغَتْهُ وَعَانَدَ وَوُجِدَ فِي بِنَائِهِ أَوْ بَلَدِهِ الَّتِي أَنْشَأَهَا كَنْزٌ فَلَيْسَ بِرِكَازٍ بَل فَيْءٌ، حَكَاهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ جَمَاعَةٍ وَأَقَرَّهُ.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَنْ كَانَ لَهُ كِتَابٌ هَل يُقَال: إِنَّهُ جَاهِلِيٌّ؟
قَال الدُّسُوقِيُّ: الْجَاهِلِيَّةُ كَمَا فِي التَّوْضِيحِ مَا عَدَا الإِْسْلاَمَ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ أَمْ لاَ.
وَقَال أَبُو الْحَسَنِ: اصْطِلاَحُهُمْ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ أَهْل الْفَتْرَةِ الَّذِينَ لاَ كِتَابَ لَهُمْ. وَأَمَّا أَهْل الْكِتَابِ قَبْل الإِْسْلاَمِ فَلاَ يُقَال لَهُمْ: جَاهِلِيَّةٌ. وَعَلَى كُل حَالٍ دَفْنُهُمْ جَمِيعِهِمْ رِكَازٌ (1) .
هَذَا وَأَخْرَجَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الرِّكَازِ دَفِينَ أَهْل الذِّمَّةِ.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 44، 46، والدسوقي 1 / 489، والشرح الصغير 1 / 486 - 487، ومغني المحتاج 1 / 396، والمغني 3 / 18، 20.(23/101)
فَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: إِنَّمَا كَانَ مَال الذِّمِّيِّ كَالْمُسْلِمِ لأَِنَّهُ مُحْتَرَمٌ بِحُرْمَةِ الإِْسْلاَمِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ (1) .
اشْتِرَاطُ الدَّفْنِ فِي الرِّكَازِ:
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ كُل مَا دَفَنَهُ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ يُعْتَبَرُ رِكَازًا. وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الدَّفْنِ فِي الرِّكَازِ.
فَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مَا وُجِدَ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ مِنْ أَمْوَال الْجَاهِلِيَّةِ يُعْتَبَرُ رِكَازًا أَيْضًا، جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: مَا وُجِدَ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ مِنْ مَالٍ جَاهِلِيٍّ، أَوْ بِسَاحِل الْبَحْرِ مِنْ تَصَاوِيرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلِوَاجِدِهِ مُخَمَّسًا. قَال الصَّاوِيُّ: وَاقْتَصَرَ عَلَى الدَّفْنِ لأَِنَّهُ الْغَالِبُ، هَذَا إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ مَالٌ جَاهِلِيٌّ. وَفِي مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: وَيَلْحَقُ بِالدَّفْنِ مَا وُجِدَ عَلَى وَجْهِ أَرْضٍ.
وَقَدْ فَصَّل الشَّافِعِيَّةُ هُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ مَتَى يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ رِكَازًا؟ فَقِيل: بِدَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقِيل: بِضَرْبِهِمْ.
قَال السُّبْكِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مِنْ دَفْنِهِمْ فَإِنَّهُ لاَ سَبِيل إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُكْتَفَى بِعَلاَمَةٍ تَدُل عَلَيْهِ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ. اهـ. وَهَذَا أَوْلَى، وَالتَّقْيِيدُ بِدَفْنِ الْجَاهِلِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ مَا وُجِدَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 44، 46، والدسوقي 1 / 489، والشرح الصغير 1 / 486 - 487، ومغني المحتاج 1 / 396، والمغني 3 / 18، 20، والفواكه الدواني 1 / 349.(23/102)
فِي الصَّحَارَى مِنْ دَفِينِ الْحَرْبِيِّينَ الَّذِينَ عَاصَرُوا الإِْسْلاَمَ لاَ يَكُونُ رِكَازًا بَل فَيْئًا، وَيُشْتَرَطُ فِي كَوْنِهِ رِكَازًا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَدْفُونًا، فَإِنْ وَجَدَهُ ظَاهِرًا فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ السَّيْل أَظْهَرَهُ فَرِكَازٌ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ ظَاهِرًا فَلُقَطَةٌ، وَإِنْ شَكَّ فَكَمَا لَوْ شَكَّ فِي أَنَّهُ ضَرْبُ الْجَاهِلِيَّةِ أَوِ الإِْسْلاَمِ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ (1) .
وَلَمْ نَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ تَصْرِيحًا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ.
دَفِينُ أَهْل الإِْسْلاَمِ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ دَفِينَ أَهْل الإِْسْلاَمِ لُقَطَةٌ.
وَيُعْرَفُ بِأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ عَلاَمَةُ الإِْسْلاَمِ أَوِ اسْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَحَدُ خُلَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ وَالٍ لَهُمْ، أَوْ آيَةٌ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَتَفْصِيل حُكْمِ اللُّقَطَةِ فِي مُصْطَلَحِ (لُقَطَة) .
قَال فِي الْمُغْنِي: وَإِنْ كَانَ عَلَى بَعْضِهِ عَلاَمَةُ الإِْسْلاَمِ، وَعَلَى بَعْضِهِ عَلاَمَةُ الْكُفْرِ فَكَذَلِكَ (أَيْ: لُقَطَةٌ) ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ صَارَ إِلَى مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ زَوَالُهُ عَنْ مِلْكِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ عَلَى جَمِيعِهِ عَلاَمَةُ الْمُسْلِمِينَ.
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ وَحْدَهُمْ بَل هُوَ قَوْل بَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا كَمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ.
__________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 486، ومغني المحتاج 1 / 396، وشرح منتهى الإرادات. 1 / 399(23/102)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ عَلِيٍّ الْقَارِيِّ: وَأَمَّا مَعَ اخْتِلاَطِ دَرَاهِمِ الْكُفَّارِ مَعَ دَرَاهِمِ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُشَخَّصِ الْمُسْتَعْمَل فِي زَمَانِنَا، فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خِلاَفٌ فِي كَوْنِهِ إِسْلاَمِيًّا (1) .
الْوَاجِبُ فِي الرِّكَازِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ (2) .
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِلاَّ الْحَسَنَ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ وَأَرْضِ الْعَرَبِ، فَقَال: فِيمَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ الْخُمُسُ، وَفِيمَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ الزَّكَاةُ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: مَحَل تَخْمِيسِهِ مَا لَمْ يَحْتَجْ لِنَفَقَةٍ كَبِيرَةٍ وَإِلاَّ فَيُزَكَّى.
قَال مَالِكٌ: الأَْمْرُ الَّذِي لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَاَلَّذِي سَمِعْتُهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إِنَّ الرِّكَازَ إِنَّمَا هُوَ دَفْنٌ يُوجَدُ مِنْ دَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا لَمْ يُطْلَبْ بِمَالٍ. وَأَمَّا مَا طُلِبَ بِمَالٍ كَثِيرٍ فَلَيْسَ بِرِكَازٍ، إِنَّمَا فِيهِ الزَّكَاةُ بَعْدَ وُجُودِ شُرُوطِ الزَّكَاةِ حَيْثُ اسْتَأْجَرَ عَلَى الْعَمَل، لاَ إِنْ عَمِل بِنَفْسِهِ أَوْ عَبِيدِهِ فَلاَ يَخْرُجُ عَنِ الرِّكَازِ.
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) حديث: " العجماء جبار، وفي الركاز الخمس ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 364 - ط السلفية) .(23/103)
وَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فَلِوَاجِدِهِ (1) . وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَصْرِفِ الْخُمُسِ الْوَاجِبِ إِخْرَاجُهُ ف 22
مَا يَلْحَقُ بِمَا يُخَمَّسُ:
11 - أَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ بِالرِّكَازِ النَّدْرَةَ: وَهِيَ قِطْعَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ الَّتِي لاَ تَحْتَاجُ إِلَى تَصْفِيَةٍ، وَاَلَّتِي تُوجَدُ فِي الأَْرْضِ مِنْ أَصْل خِلْقَتِهَا لاَ بِوَضْعِ وَاضِعٍ لَهَا فِي الأَْرْضِ. وَفِيهَا الْخُمُسُ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلاَّ الزَّكَاةُ وَإِنَّمَا الْخُمُسُ فِي الرِّكَازِ (2) .
نَبْشُ الْقَبْرِ لاِسْتِخْرَاجِ الْمَال:
12 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مَا يُوجَدُ فِي قَبْرِ الْجَاهِلِيِّ رِكَازٌ. وَأَمَّا مَا يُوجَدُ فِي قَبْرِ الْمُسْلِمِ فَفِي حُكْمِ اللُّقَطَةِ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قَبْر، وَلُقَطَة) .
النِّصَابُ فِي الرِّكَازِ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ النِّصَابُ فِي الرِّكَازِ، بَل يَجِبُ الْخُمُسُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ.
وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ إِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقَال: وَبِهِ قَال أَكْثَرُ أَهْل
__________
(1) ابن عابدين 2 / 46، والفواكه الدواني 1 / 395، والمجموع 6 / 45، والمغني 3 / 21 - 22.
(2) الدسوقي 1 / 489، والخرشي مع حاشية العدوي 2 / 209.
(3) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 486 - 487.(23/103)
الْعِلْمِ، وَهُوَ أَوْلَى بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الْمَذْهَبِ - إِلَى اشْتِرَاطِ النِّصَابِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ الْمَأْخُوذَ مِنَ الرِّكَازِ زَكَاةٌ.
قَال النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالأَْصْحَابِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ مِنَ الرِّكَازِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ وَجَدَ مِائَةً أُخْرَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْخُمُسُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، بَل يَنْعَقِدُ الْحَوْل عَلَيْهِمَا مِنْ حِينِ كَمُل النِّصَابُ، فَإِذَا تَمَّ لَزِمَهُ رُبُعُ الْعُشْرِ كَسَائِرِ النُّقُودِ الَّتِي يَمْلِكُهَا، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ النِّصَابِ فِي الرِّكَازِ.
ثُمَّ قَال: إِذَا وَجَدَ مِنَ الرِّكَازِ دُونَ النِّصَابِ، وَلَهُ دَيْنٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ يَبْلُغُ بِهِ نِصَابًا، وَجَبَ خُمُسُ الرِّكَازِ فِي الْحَال. فَإِنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا أَوْ مَدْفُونًا أَوْ وَدِيعَةً أَوْ دَيْنًا - وَالرِّكَازُ نَاقِصٌ - لَمْ يُخَمِّسْ حَتَّى يَعْلَمَ سَلاَمَةَ مَالِهِ، وَحِينَئِذٍ يُخَمِّسُ الرِّكَازَ النَّاقِصَ عَنِ النِّصَابِ سَوَاءٌ أَبَقِيَ الْمَال أَمْ تَلِفَ إِذَا عَلِمَ وُجُودَهُ يَوْمَ حُصُول الرِّكَازِ (1) .
الْحَوْل فِي الرِّكَازِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْحَوْل فِي الرِّكَازِ؛ لأَِنَّ الْحَوْل يُعْتَبَرُ لِتَكَامُل النَّمَاءِ وَهَذَا
__________
(1) ابن عابدين 2 / 44 ومابعدها، والخرشي 2 / 210، والمجموع مع المهذب 6 / 33، 45 - 47، ومغني المحتاج 1 / 394 - 395، والمغني 3 / 18 - 19، وشرح منتهى الإرادات. 1 / 400(23/104)
لاَ يَتَوَجَّهُ فِي الرِّكَازِ.
قَال النَّوَوِيُّ: وَنَقَل الْمَاوَرْدِيُّ فِيهِ الإِْجْمَاعَ (1)
مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُمُسُ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُمُسُ هُوَ كُل مَنْ وَجَدَ الرِّكَازَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، عَاقِلٍ أَوْ مَجْنُونٍ. فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَهُوَ لَهُمَا، وَيُخْرِجُ الْخُمُسَ عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا. وَهَذَا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي الرِّكَازِ يَجِدُهُ: الْخُمُسَ، قَالَهُ أَهْل الْمَدِينَةِ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَأَهْل الْعِرَاقِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَغَيْرُهُمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْخُمُسُ إِلاَّ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً، رَشِيدًا أَوْ سَفِيهًا، أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا.
وَيُمْنَعُ الذِّمِّيُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَخْذِ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ، كَمَا يُمْنَعُ مِنَ الإِْحْيَاءِ بِهَا؛ لأَِنَّ الدَّارَ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ دَخِيلٌ فِيهَا (2) .
وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُسْتَرَدُّ مِنْهُ مَا أَخَذَ إِلاَّ إِذَا عَمِل بِإِذْنِ الإِْمَامِ عَلَى شَرْطٍ فَلَهُ الْمَشْرُوطُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ عَمِل
__________
(1) المجموع مع المهذب 6 / 45، وانظر المراجع السابقة.
(2) مغني المحتاج 1 / 395.(23/104)
رَجُلاَنِ فِي طَلَبِ الرِّكَازِ فَهُوَ لِلْوَاجِدِ، وَإِنْ كَانَا مُسْتَأْجَرَيْنِ لِطَلَبِهِ فَهُوَ لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ لأَِنَّ الْوَاجِدَ نَائِبُهُ فِيهِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حَرْبِيّ، شَرِكَة، إِجَارَة، خُمُس) .
مَوْضِعُ الرِّكَازِ:
أَوَّلاً: فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ:
16 - أ - أَنْ يَجِدَهُ فِي مَوَاتٍ أَوْ مَا لاَ يُعْلَمُ لَهُ مَالِكٌ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِي عَهْدٍ، كَالأَْبْنِيَةِ الْقَدِيمَةِ، وَالتُّلُول، وَجُدْرَانِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقُبُورِهِمْ، فَهَذَا فِيهِ الْخُمُسُ بِلاَ خِلاَفٍ سِوَى مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ.
وَعِبَارَةُ الْحَنَفِيَّةِ: فِي أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ أَوْ عُشْرِيَّةٍ، وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لأَِحَدٍ أَوْ لاَ، صَالِحَةٍ لِلزِّرَاعَةِ أَوْ لاَ. فَيَدْخُل فِيهِ الْمَفَاوِزُ وَأَرْضُ الْمَوَاتِ، فَإِنَّهَا إِذَا جُعِلَتْ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ كَانَتْ عُشْرِيَّةً أَوْ خَرَاجِيَّةً (2) .
وَقَال فِي الْمُغْنِي: لَوْ وَجَدَهُ فِي هَذِهِ الأَْرْضِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكٍ، أَوْ قَرْيَةٍ خَرَابٍ فَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ، لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: سُئِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللُّقَطَةِ؟ فَقَال: مَا كَانَ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ أَوْ قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ فَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَلَكَ، وَمَا لَمْ يَكُنْ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ وَلاَ فِي قَرْيَةٍ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 44، 47، والخرشي 2 / 210، والمغني 3 / 23، وشرح منتهى الإرادات. 1 / 400
(2) ابن عابدين 2 / 44 - 45.(23/105)
عَامِرَةٍ فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَخْرُجُ خُمُسُ الرِّكَازِ وَالْبَاقِي لِوَاجِدِهِ حَيْثُ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ لاَ مَالِكَ لَهَا، كَمَوَاتِ أَرْضِ الإِْسْلاَمِ، أَوْ فَيَافِي الْعَرَبِ الَّتِي لَمْ تُفْتَحْ عَنْوَةً وَلاَ أَسْلَمَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، وَأَمَّا لَوْ وُجِدَ الرِّكَازُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَيَكُونُ مَا فِيهِ لِمَالِكِ الأَْرْضِ.
وَشَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَجِدَهُ فِي أَرْضٍ لَمْ تَبْلُغْهَا الدَّعْوَةُ.
قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا بَنَى كَافِرٌ بِنَاءً وَكَنَزَ فِيهِ كَنْزًا وَبَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ وَعَانَدَ فَلَمْ يُسْلِمْ ثُمَّ هَلَكَ وَبَادَ أَهْلُهُ فَوُجِدَ ذَلِكَ الْكَنْزُ كَانَ فَيْئًا لاَ رِكَازًا، لأَِنَّ الرِّكَازَ إِنَّمَا هُوَ أَمْوَال الْجَاهِلِيَّةِ الْعَادِيَّةُ الَّذِينَ لاَ يُعْرَفُ هَل بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةٌ أَمْ لاَ؟ فَأَمَّا مَنْ بَلَغَتْهُمْ فَمَا لَهُمْ فَيْءٌ، فَخُمُسُهُ لأَِهْل الْخُمُسِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ (2)
فَإِنْ وُجِدَ الرِّكَازُ فِي شَارِعٍ أَوْ طَرِيقٍ مَسْلُوكٍ فَلُقَطَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رِكَازٌ (3) .
__________
(1) حديث: " ما كان في طريق مأتي أو في قرية عامرة. . . " أخرجه النسائي (5 / 44 - ط المكتبة التجارية) وإسناده حسن.
(2) الفواكه الدواني 1 / 395، والقوانين الفقهية ص 102، والمجموع 6 / 38، 41، والمغني 3 / 19، وشرح منتهى الإرادات. 1 / 400
(3) المجموع 6 / 38 - 39، وشرح منتهى الإرادات 1 / 400، والفواكه الدواني 1 / 349.(23/105)
ب - أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ فِي مِلْكِهِ:
17 - الْمِلْكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْيَاهُ أَوِ انْتَقَل إِلَيْهِ.
1 - أَنْ يَكُونَ مَالِكُهُ هُوَ الَّذِي أَحْيَاهُ، فَإِذَا وَجَدَ فِيهِ رِكَازًا فَهُوَ لَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُخَمِّسَهُ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الإِْحْيَاءِ الإِْرْثَ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ إِقْطَاعَ السُّلْطَانِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَعْنُونَ بِمَالِك الأَْرْضِ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَلَكَهَا أَوَّل الْفَتْحِ، وَهُوَ مَنْ خَصَّهُ الإِْمَامُ بِتَمْلِيكِ الأَْرْضِ حِينَ فَتْحِ الْبَلَدِ.
2 - أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ فِي مِلْكِهِ الْمُنْتَقِل إِلَيْهِ:
18 - إِذَا انْتَقَل الْمِلْكُ عَنْ طَرِيقِ الإِْرْثِ وَوَجَدَ فِيهِ رِكَازًا فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لِوَرَثَتِهِ.
أَمَّا لَوِ انْتَقَل إِلَيْهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ وَوَجَدَ فِيهِ رِكَازًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَنْ يَكُونُ لَهُ الرِّكَازُ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ) إِلَى أَنَّهُ لِلْمَالِكِ الأَْوَّل أَوْ لِوَارِثِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا؛ لأَِنَّهُ كَانَتْ يَدُهُ عَلَى الدَّارِ فَكَانَتْ عَلَى مَا فِيهَا.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَحْرِ: إِنَّ الْكَنْزَ مُودَعٌ فِي الأَْرْضِ فَلَمَّا مَلَكَهَا الأَْوَّل مَلَكَ مَا فِيهَا، وَلاَ يَخْرُجُ مَا فِيهَا عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعِهَا كَالسَّمَكَةِ فِي جَوْفِهَا دُرَّةٌ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْرَفِ الْمَالِكُ الأَْوَّل وَلاَ وَرَثَتُهُ فَيُوضَعُ الرِّكَازُ فِي بَيْتِ الْمَال عَلَى الأَْوْجَهِ. وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ.(23/106)
قَال فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: وَهُوَ الظَّاهِرُ بَل الْمُتَعَيِّنُ. وَالْقَوْل الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لُقَطَةٌ. وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ - وَأَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْخُمُسِ لِلْمَالِكِ الأَْخِيرِ، لأَِنَّهُ مَال كَافِرٍ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ فِي الإِْسْلاَمِ، فَكَانَ لِمَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ كَالْغَنَائِمِ؛ وَلأَِنَّ الرِّكَازَ لاَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الأَْرْضِ لأَِنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا، وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِالظُّهُورِ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَهُ.
وَقَدْ صَحَّحَ فِي الْمُغْنِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ، ثُمَّ قَال: لأَِنَّ الرِّكَازَ لاَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الدَّارِ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ مُودَعٌ فِيهَا، فَيُنَزَّل مَنْزِلَةَ الْمُبَاحَاتِ مِنَ الْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ وَالصَّيْدِ يَجِدُهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَيَأْخُذُهُ فَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَال أَبُو يُوسُفَ: الْبَاقِي لِلْوَاجِدِ كَمَا فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَبِهِ قَال أَبُو ثَوْرٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الْوَرَثَةُ فَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ لِمُورِثِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ الْبَاقُونَ، فَحُكْمُ مَنْ أَنْكَرَ فِي نَصِيبِهِ حُكْمُ الْمَالِكِ الَّذِي لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ، وَحُكْمُ الْمُعْتَرِفِينَ حُكْمُ الْمَالِكِ الْمُعْتَرِفِ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 45 - 47، والخرشي 2 / 211، والصاوي على الشرح الصغير 1 / 487، والمجموع 6 / 40 - 42، 47، والمغني 3 / 19، 20، وشرح منتهى الإرادات. 1 / 400(23/106)
ج - أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ:
19 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ الْمَوْجُودَ فِي دَارٍ أَوْ أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ يَكُونُ لِصَاحِبِ الدَّارِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لِوَاجِدِهِ.
وَنُقِل عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل أَنَّهُ لِوَاجِدِهِ. لأَِنَّهُ قَال فِي مَسْأَلَةِ مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَحْفِرَ لَهُ فِي دَارِهِ فَأَصَابَ فِي الدَّارِ كَنْزًا: فَهُوَ لِلأَْجِيرِ. نَقَل ذَلِكَ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّال، قَال الْقَاضِي: هُوَ الصَّحِيحُ، وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الرِّكَازَ لِوَاجِدِهِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْرٍ، وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْكَنْزَ لاَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الدَّارِ، فَيَكُونُ لِمَنْ وَجَدَهُ، لَكِنْ إِنِ ادَّعَاهُ الْمَالِكُ فَالْقَوْل قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ فَهُوَ لِوَاجِدِهِ (1) .
ثَانِيًا: أَنْ يُوجَدُ الرِّكَازُ فِي دَارِ الصُّلْحِ:
20 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ دَفِينَ الْمُصَالَحِينَ لَهُمْ وَلَوْ كَانَ الدَّافِنُ غَيْرَهُمْ، فَمَا وُجِدَ مِنَ الرِّكَازِ مَدْفُونًا فِي أَرْضِ الصُّلْحِ، سَوَاءٌ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ دَفَنُوهُ أَوْ دَفَنَهُ غَيْرُهُمْ فَهُوَ لِلَّذِينَ صَالَحُوا عَلَى تِلْكَ الأَْرْضِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لاَ يُخَمَّسُ، فَإِنْ وَجَدَهُ أَحَدُ الْمُصَالَحِينَ فِي دَارِهِ فَهُوَ لَهُ بِمُفْرَدِهِ سَوَاءٌ وَجَدَهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ الْمَوْجُودَ فِي
__________
(1) المصادر السابقة، والمغني 3 / 20 - 21.(23/107)
مَوَاتِ دَارِ أَهْل الْعَهْدِ يَمْلِكُهُ وَاجِدُهُ كَمَوَاتِ دَارِ الإِْسْلاَمِ (1) .
ثَالِثًا: أَنْ يُوجَدَ الرِّكَازُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
21 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرِّكَازِ الْمَوْجُودِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ الْمَوْجُودَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِغَيْرِ مُسْتَأْمَنٍ فَالْكُل لِلْوَاجِدِ وَإِلاَّ وَجَبَ رَدُّهُ لِلْمَالِكِ، وَأَمَّا الْمَوْجُودُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَصْلاً فَالْكُل لِلْوَاجِدِ بِلاَ فَرْقٍ بَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِ وَغَيْرِهِ؛ لأَِنَّ مَا فِي صَحْرَائِهِمْ لَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ عَلَى الْخُصُوصِ فَلاَ يُعَدُّ غَدْرًا.
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْرْضِ الْمَمْلُوكَةِ بَيْنَ أَنْ يُؤْخَذَ الرِّكَازُ بِقَهْرٍ وَقِتَالٍ فَهُوَ غَنِيمَةٌ، كَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَنُقُودِهِمْ مِنْ بُيُوتِهِمْ فَيَكُونُ خُمُسُهُ لأَِهْل خُمُسِ الْغَنِيمَةِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِوَاجِدِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُؤْخَذَ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلاَ قَهْرٍ فَهُوَ فَيْءٌ وَمُسْتَحِقُّهُ أَهْل الْفَيْءِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَذُبُّوا عَنْهُ فَهُوَ كَمَوَاتِ دَارِ الإِْسْلاَمِ - بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ - وَهُوَ رِكَازٌ.
وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَا إِذَا دَخَل دَارَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ أَمَانٍ. أَمَّا إِذَا دَخَل بِأَمَانٍ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْكَنْزِ لاَ بِقِتَالٍ وَلاَ بِغَيْرِهِ.
__________
(1) الخرشي 2 / 211 - 212، والمجموع 6 / 47.(23/107)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَهُوَ لِوَاجِدِهِ، حُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ وَجَدَهُ فِي مَوَاتِ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَوَاتِ بَيْنَ مَا يُذَبُّ عَنْهُ وَبَيْنَ مَا لاَ يُذَبُّ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ لِمَوْضِعِهِ مَالِكٌ مُحْتَرَمٌ أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ (1) .
مَصْرِفُ خُمُسِ الرِّكَازِ:
22 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبِهِ قَال الْمُزَنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّ خُمُسَ الرِّكَازِ يُصْرَفُ مَصَارِفَ الْغَنِيمَةِ وَلَيْسَ زَكَاةً.
وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّهُ حَلاَلٌ لِلأَْغْنِيَاءِ وَلاَ يَخْتَصُّ بِالْفُقَرَاءِ، وَهُوَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ يَخْتَصُّ بِالأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَصْرِفُهُ مَصْرِفُ الْفَيْءِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَصَحُّ مِمَّا سَيَأْتِي وَأَقْيَسُ عَلَى مَذْهَبِهِ، لِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ رَجُلاً وَجَدَ أَلْفَ دِينَارٍ مَدْفُونَةً خَارِجًا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَتَى بِهَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَأَخَذَ مِنْهَا الْخُمُسَ مِائَتَيْ دِينَارٍ، وَدَفَعَ إِلَى الرَّجُل بَقِيَّتَهَا، وَجَعَل عُمَرُ يَقْسِمُ الْمِائَتَيْنِ بَيْنَ مَنْ حَضَرَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَى أَنْ أَفْضَل مِنْهَا فَضْلَةً، فَقَال: أَيْنَ صَاحِبُ الدَّنَانِيرِ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ، فَقَال عُمَرُ:
__________
(1) ابن عابدين 2 / 47 - 48، والقوانين الفقهية ص 102، والمجموع 6 / 40 - 41، والمغني 3 / 21.(23/108)
خُذْ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ فَهِيَ لَكَ.
وَلَوْ كَانَ الْمَأْخُوذُ زَكَاةً لَخَصَّ بِهِ أَهْلَهَا وَلَمْ يَرُدَّهُ عَلَى وَاجِدِهِ؛ وَلأَِنَّهُ مَالٌ مَخْمُوسٌ زَالَتْ عَنْهُ يَدُ الْكَافِرِ، أَشْبَهَ خُمُسَ الْغَنِيمَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ صَرْفُ خُمُسِ الرِّكَازِ مَصْرِفَ الزَّكَاةِ.
قَال النَّوَوِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ (1) .
وَلِتَفْصِيل تَوْزِيعِ الْخُمُسِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (خَمَس، غَنِيمَة، فَيْء) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 43، 48، والخرشي مع حاشية العدوي 2 / 209، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 485 - 486، والمجموع 6 / 47، ومغني المحتاج 1 / 395، والمغني 3 / 22 - 24، وشرح منتهى الإرادات 1 / 400.(23/108)
رُكْن
التَّعْرِيفِ:
1 - الرُّكْنُ فِي اللُّغَةِ: الْجَانِبُ الأَْقْوَى وَالأَْمْرُ الْعَظِيمُ، وَمَا يُقْوَّى بِهِ مِنْ مَلِكٍ وَجُنْدٍ وَغَيْرِهِمَا، وَالْعِزُّ، وَالْمَنَعَةُ.
وَالأَْرْكَانُ: الْجَوَارِحُ، وَفِي حَدِيثِ الْحِسَابِ: يُقَال لأَِرْكَانِهِ: انْطِقِي (1) أَيْ جَوَارِحِهِ، وَأَرْكَانُ كُل شَيْءٍ جَوَانِبُهُ الَّتِي يَسْتَنِدُ إِلَيْهَا وَيَقُومُ بِهَا (2) .
وَرُكْنُ الشَّيْءِ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا لاَ وُجُودَ لِذَلِكَ الشَّيْءِ إِلاَّ بِهِ.
وَهُوَ " الْجُزْءُ الذَّاتِيُّ الَّذِي تَتَرَكَّبُ الْمَاهِيَّةُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يَتَوَقَّفُ تَقَوُّمُهَا عَلَيْهِ (3) ".
__________
(1) حديث: " الحساب: يقال. . . " أخرجه مسلم (4 / 2280 - 2281 ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(2) القاموس المحيط ولسان العرب مادة: (ركن) .
(3) التعريفات 99 - ط مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الكليات 2 / 395 منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق الطبعة الثانية، حاشية ابن عابدين 1 / 61 - 64، دار إحياء التراث العربي، الكفاية على الهداية بذيل شرح فتح القدير 1 / 239 دار إحياء التراث العربي، حاشية الجمل 1 / 328 دار إحياء التراث العربي، شرح روض الطالب 1 / 140 المكتبة الإسلامية.(23/109)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أ - الشَّرْطُ:
2 - الشَّرْطُ فِي اللُّغَةِ إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ، وَكَذَلِكَ الشَّرِيطَةُ، وَالْجَمْعُ شُرُوطٌ وَشَرَائِطُ وَبِالتَّحْرِيكِ الْعَلاَمَةُ، وَجَمْعُهُ أَشْرَاطٌ (1) .
وَاصْطِلاَحًا عَرَّفَهُ ابْنُ السُّبْكِيِّ بِقَوْلِهِ: مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلاَ عَدَمٌ لِذَاتِهِ ".
وَاخْتَارَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّ الشَّرْطَ " مَا اسْتَلْزَمَ نَفْيُهُ نَفْيَ أَمْرٍ عَلَى غَيْرِ جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ ".
وَهُوَ اخْتِيَارُ شَارِحِ التَّحْرِيرِ الْعَلاَّمَةِ أَمِيرِ بَادْ شَاهْ (2) .
قَال الإِْمَامُ الْكَاسَانِيُّ مُفَرِّقًا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالشَّرْطِ: وَالأَْصْل أَنَّ كُل مُتَرَكِّبٍ مِنْ مَعَانٍ مُتَغَايِرَةٍ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْمُرَكَّبِ عَلَيْهَا عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا، كَانَ كُل مَعْنًى مِنْهَا رُكْنًا لِلْمُرَكَّبِ،
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط والمصباح المنير مادة: (شرط) .
(2) حاشية البناني على جمع الجوامع 2 / 20 ط مصطفى البابي الحلبي، الفروق 1 / 62 مطبعة دار إحياء الكتب العربية الطبعة الأولى 1344 هـ، فتح الغفار شرح المنار 3 / 73 مصطفى البابي الحلبي، التلويح على التوضيح 1 / 120، 145 ط محمد علي صبيح وأولاده، حاشية التفتازاني على شرح مختصر المنتهى 2 / 12 الناشر جامعة السيد محمد بن علي السنوسي الإسلامية، ليبيا 1968م، تيسير التحرير 2 / 120، 148، مصطفى البابي الحلبي 1350 هـ، وحاشية الحموي على الأشباه 2 / 224، والمنثور في القواعد 1 / 370.(23/109)
كَأَرْكَانِ الْبَيْتِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ، وَالإِْيجَابِ وَالْقَبُول فِي بَابِ الْبَيْعِ فِي الْمَشْرُوعَاتِ، وَكُل مَا يَتَغَيَّرُ الشَّيْءُ بِهِ وَلاَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ كَانَ شَرْطًا، كَالشُّهُودِ فِي بَابِ النِّكَاحِ (1) .
وَعَلَى هَذَا فَكُلٌّ مِنَ الرُّكْنِ وَالشَّرْطِ لاَ بُدَّ مِنْهُ لِتَحَقُّقِ الْمُسَمَّى شَرْعًا، غَيْرَ أَنَّ الرُّكْنَ يَكُونُ دَاخِلاً فِي حَقِيقَةِ الْمُسَمَّى، فَهُوَ جُزْؤُهُ، بِخِلاَفِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ يَكُونُ خَارِجًا عَنِ الْمُسَمَّى.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّيْخُ مُحِبُّ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الشَّكُورِ بِأَنَّ الأَْرْكَانَ تَوْقِيفِيَّةٌ، قَال: وَإِنَّ جَعْل بَعْضِ الأُْمُورِ رُكْنًا وَبَعْضِهَا شَرْطًا تَوْقِيفِيٌّ لاَ يُدْرَكُ بِالْعَقْل (2) .
ب - الْفَرْضُ:
3 - الْفَرْضُ فِي اللُّغَةِ: الْقَطْعُ وَالتَّوْقِيتُ، وَالْحَزُّ فِي الشَّيْءِ، وَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالسُّنَّةُ، يُقَال: فَرَضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ: سَنَّ (3) .
وَاصْطِلاَحًا: خِطَابُ اللَّهِ الْمُقْتَضِي لِلْفِعْل اقْتِضَاءً جَازِمًا. وَهُوَ تَعْرِيفُ الْوَاجِبِ أَيْضًا،
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 105 دار الكتاب العربي.
(2) التلويح على التوضيح 2 / 130 ط محمد علي صبيح وأولاده، فتح الغفار بشرح المنار 3 / 73 مصطفى البابي الحلبي، شرح المنار لابن ملك ص 921 المطبعة العثمانية 1315 هـ، فواتح الرحموت بذيل المستصفى 1 / 400، 402 دار صادر.
(3) لسان العرب والقاموس المحيط مادة: (فرض) .(23/110)
حَيْثُ إِنَّ الْجُمْهُورَ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا، فَهُمَا مِنَ التَّرَادُفِ عِنْدَهُمْ.
وَقَال الْعَضُدُ فِي تَعْرِيفِ الإِْيجَابِ: هُوَ خِطَابٌ بِطَلَبِ فِعْلٍ غَيْرِ كَفٍّ يَنْتَهِضُ تَرْكُهُ فِي جَمِيعِ وَقْتِهِ سَبَبًا لِلْعِقَابِ. وَالْوَاجِبُ هُوَ الْفِعْل الْمُتَعَلِّقُ بِالإِْيجَابِ، فَهُوَ فِعْلٌ غَيْرُ كَفٍّ تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابٌ بِطَلَبٍ بِحَيْثُ يَنْتَهِضُ تَرْكُهُ فِي جَمِيعِ وَقْتِهِ سَبَبًا لِلْعِقَابِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَفْتَرِقُ الْفَرْضُ وَالْوَاجِبُ بِالظَّنِّ وَالْقَطْعِ، فَإِنْ كَانَ مَا ذُكِرَ ثَبَتَ بِقَطْعِيٍّ فَفَرْضٌ، وَإِنْ ثَبَتَ بِظَنِّيٍّ فَهُوَ الْوَاجِبُ (1) .
ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ يُطْلِقُونَ الْفَرْضَ عَلَى الرُّكْنِ، كَمَا صَنَعَ التُّمُرْتَاشِيُّ فِي تَنْوِيرِ الأَْبْصَارِ، فَقَال فِي بَابِ صِفَةِ الصَّلاَةِ: مِنْ فَرَائِضِهَا التَّحْرِيمَةُ. وَقَال خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ: فَرَائِضُ الْوُضُوءِ. . وَقَال فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ: فَرَائِضُ الصَّلاَةِ. . قَال الدَّرْدِيرُ: أَيْ: أَرْكَانُهَا وَأَجْزَاؤُهَا الْمُتَرَكِّبَةُ هِيَ مِنْهَا. وَالنَّوَوِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ. فَقَال فِي بَابِ الْوُضُوءِ: فَرْضُهُ سِتَّةٌ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: الْفَرْضُ وَالْوَاجِبُ
__________
(1) حاشية البناني على جمع الجوامع 1 / 86 مصطفى البابي الحلبي، شرح العضد على مختصر المنتهى بهامش حاشية التفتازاني 1 / 232، جامعة السنوسي الإسلامية، ليبيا 1968م، التلويح على التوضيح 2 / 123 محمد علي صبيح وأولاده، فتح الغفار شرح المنار 2 / 62، مصطفى البابي الحلبي 1936م، المستصفى 1 / 28 دار صادر.(23/110)
بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا الرُّكْنُ لاَ الْمَحْدُودُ فِي كُتُبِ أُصُول الْفِقْهِ.
وَالشَّيْخُ أَبُو النَّجَا الْحَجَّاوِيُّ فِي الإِْقْنَاعِ، فَقَال فِي بَابِ الْوُضُوءِ: فَرْضُهُ سِتَّةٌ (1) . . لَكِنَّ الْفَرْضَ عِنْدَهُمْ أَعَمُّ مِنَ الرُّكْنِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَصْكَفِيُّ فَقَال: ثُمَّ الرُّكْنُ مَا يَكُونُ فَرْضًا دَاخِل الْمَاهِيَّةِ، وَأَمَّا الشَّرْطُ فَمَا يَكُونُ خَارِجَهَا، فَالْفَرْضُ أَعَمُّ مِنْهَا وَهُوَ مَا قُطِعَ بِلُزُومِهِ حَتَّى يَكْفُرَ جَاحِدُهُ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - الرُّكْنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جُزْءَ مَاهِيَّةِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ، كَالْقِيَامِ فِي الصَّلاَةِ وَالإِْمْسَاكِ فِي الصَّوْمِ، وَفِي الْعُقُودِ كَالإِْيجَابِ وَالْقَبُول فِي عَقْدِ الْبَيْعِ. أَوْ جُزْءَ مَاهِيَّةِ الأَْشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ كَأَرْكَانِ الْبَيْتِ.
الرُّكْنُ وَالْوَاجِبُ:
5 - يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْوَاجِبِ فِي بَابَيِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَالصَّلاَةِ، أَمَّا بَابُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 297، دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 1 / 85، 231 دار الفكر، مغني المحتاج 1 / 47 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 1 / 83 عالم الكتب.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 64، 297، دار إحياء التراث العربي.(23/111)
فَبِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ فَيَنُصُّونَ أَنَّ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَرْكَانًا، وَوَاجِبَاتٍ، وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فِي التَّرْكِ، فَمَنْ تَرَكَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَتِمَّ نُسُكُهُ إِلاَّ بِهِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الإِْتْيَانُ أَتَى بِهِ، وَذَلِكَ كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الإِْتْيَانُ بِهِ كَمَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ بِأَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ فَجْرُ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَمْ يَقِفْ فَإِنَّهُ يَفُوتُهُ الْحَجُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَيَتَحَلَّل بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ. وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَاهِيَّةَ لاَ تَحْصُل إِلاَّ بِجَمِيعِ الأَْرْكَانِ. وَانْظُرْ (حَجّ: ف 123)
وَمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَيَكُونُ حَجُّهُ تَامًّا صَحِيحًا، فَالْوَاجِبُ يُمْكِنُ جَبْرُهُ بِالدَّمِ بِخِلاَفِ الرُّكْنِ (1) .
وَأَمَّا بَابُ الصَّلاَةِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَقَطْ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِلصَّلاَةِ أَرْكَانًا وَوَاجِبَاتٍ.
وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فِي التَّرْكِ أَيْضًا.
فَتَرْكُ الرُّكْنِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بُطْلاَنُ الصَّلاَةِ إِنْ كَانَ تَرْكُهُ عَمْدًا. أَمَّا إِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً فَلاَ تَصِحُّ صَلاَتُهُ إِلاَّ إِنْ أَمْكَنَ التَّدَارُكُ، وَفِي كَيْفِيَّتِهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (سُجُودِ السَّهْوِ) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 219، 237 المطبعة الأميرية الطبعة الثانية، الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية 1 / 298، المطبعة الأميرية الطبعة الثانية، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 398 المطبعة العثمانية، حاشية الدسوقي 2 / 21 دار الفكر، مغني المحتاج 1 / 513 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 2 / 521 عالم الكتب.(23/111)
وَأَمَّا تَرْكُ الْوَاجِبِ فَإِنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَبْطُل بِتَرْكِهِ سَهْوًا، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ جَبْرًا لَهُ، وَتَرْكُهُ عَمْدًا يُبْطِل الصَّلاَةَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: عَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّلاَةِ وُجُوبًا إِنْ تَرَكَهُ عَمْدًا جَبْرًا لِنُقْصَانِهِ، وَكَذَا لَوْ تَرَكَهُ سَهْوًا وَلَمْ يَسْجُدْ لِلسَّهْوِ (1) .
الرُّكْنُ فِي الْعِبَادَاتِ:
تَخْتَلِفُ أَرْكَانُ الْعِبَادَاتِ بِاخْتِلاَفِهَا:
أ - أَرْكَانُ الْوُضُوءِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَرْكَانِ الْوُضُوءِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ، غَسْل الْوَجْهِ، وَغَسْل الْيَدَيْنِ، وَمَسْحُ رُبُعِ الرَّأْسِ وَغَسْل الرِّجْلَيْنِ. وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَيْهَا النِّيَّةَ وَالتَّرْتِيبَ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ الْمُوَالاَةَ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اعْتَبَرُوا النِّيَّةَ شَرْطًا لاَ رُكْنًا. وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ الدَّلْكَ (2) .
ب - أَرْكَانُ التَّيَمُّمِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَرْكَانِ التَّيَمُّمِ.
7 - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلتَّيَمُّمِ رُكْنَيْنِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 297، 306 دار إحياء التراث العربي، الفتاوى الهندية 1 / 126 المطبعة الأميرية، الطبعة الثانية، كشاف القناع 1 / 385، 389 عالم الكتب.
(2) بدائع الصنائع 1 / 3 وما بعدها، حاشية الدسوقي 1 / 85 وما بعدها، مغني المحتاج 1 / 47، وما بعدها، كشاف القناع 1 / 83.(23/112)
الضَّرْبَتَانِ، وَالْمَسْحُ، وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ عِنْدَهُمْ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: أَرْكَانُهُ خَمْسَةٌ: النِّيَّةُ، وَضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَتَعْمِيمُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْكُوعَيْنِ بِالْمَسْحِ، وَالصَّعِيدُ الطَّاهِرُ، وَالْمُوَالاَةُ.
كَمَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَهُ خَمْسَةٌ وَهِيَ: نَقْل التُّرَابِ، وَنِيَّةُ اسْتِبَاحَةِ الصَّلاَةِ، وَمَسْحُ الْوَجْهِ، وَمَسْحُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: أَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ: مَسْحُ جَمِيعِ الْوَجْهِ، وَمَسْحُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْكُوعَيْنِ، وَالتَّرْتِيبُ، وَالْمُوَالاَةُ فِي غَيْرِ الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ، وَأَمَّا النِّيَّةُ فَهِيَ شَرْطٌ عِنْدَهُمْ (1) .
ج - أَرْكَانُ الصَّلاَةِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَرْكَانِ الصَّلاَةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الصَّلاَةِ هِيَ: النِّيَّةُ، وَاعْتَبَرَهَا الْحَنَابِلَةُ شَرْطًا، وَتَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ، وَالْقِيَامُ، وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي كُل رَكْعَةٍ، وَالرُّكُوعُ، وَالاِعْتِدَال بَعْدَهُ، وَالسُّجُودُ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَالْجُلُوسُ لِلتَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ، وَالتَّشَهُّدُ الأَْخِيرُ. (وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: التَّشَهُّدُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 153، 154 - الشرح الصغير 1 / 193 ط دار المعارف بمصر، مغني المحتاج 1 / 97 وما بعدها، كشاف القناع 1 / 174.(23/112)
الأَْخِيرُ لَيْسَ بِرُكْنٍ وَأَمَّا الْجُلُوسُ فَإِنَّهُ رُكْنٌ لَكِنَّهُ لِلسَّلاَمِ) وَالسَّلاَمُ، وَالتَّرْتِيبُ، وَالطُّمَأْنِينَةُ. وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ الرَّفْعَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَالرَّفْعَ مِنَ السُّجُودِ، قَال الدَّرْدِيرُ: الصَّلاَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ فَجَمِيعُ أَقْوَالِهَا لَيْسَتْ بِفَرَائِضَ إِلاَّ ثَلاَثَةً: تَكْبِيرَةَ الإِْحْرَامِ، وَالْفَاتِحَةَ، وَالسَّلاَمَ، وَجَمِيعُ أَفْعَالِهَا فَرَائِضُ إِلاَّ ثَلاَثَةً رَفْعَ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، وَالْجُلُوسَ لِلتَّشَهُّدِ، وَالتَّيَامُنَ بِالسَّلاَمِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الصَّلاَةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ، كَمَا قَال الْحَنَابِلَةُ بِرُكْنِيَّةِ التَّسْلِيمَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الصَّلاَةِ هِيَ: الْقِيَامُ، وَالرُّكُوعُ، وَالسُّجُودُ، وَالْقِرَاءَةُ، وَالْقَعْدَةُ الأَْخِيرَةُ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ، وَتَرْتِيبُ الأَْرْكَانِ، وَإِتْمَامُ الصَّلاَةِ، وَالاِنْتِقَال مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ. وَالنِّيَّةُ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ وَكَذَا التَّحْرِيمَةُ (1) .
د - أَرْكَانُ الصِّيَامِ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلصَّوْمِ رُكْنًا وَاحِدًا وَهُوَ الإِْمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ، وَأَمَّا النِّيَّةُ فَهِيَ شَرْطٌ عِنْدَهُمْ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 277، 297، بدائع الصنائع 1 / 105، حاشية الدسوقي 1 / 231، مغني المحتاج 1 / 148، كشاف القناع 1 / 313، 385.(23/113)
وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ النِّيَّةَ رُكْنًا، فَلِلصَّوْمِ رُكْنَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هُمَا النِّيَّةُ وَالإِْمْسَاكُ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ ثَالِثًا وَهُوَ الصَّائِمُ (1) .
هـ - أَرْكَانُ الاِعْتِكَافِ:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلاِعْتِكَافِ رُكْنًا وَاحِدًا وَهُوَ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: أَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ: النِّيَّةُ، وَالْمُعْتَكِفُ، وَاللُّبْثُ، وَالْمَسْجِدُ (2) .
و أَرْكَانُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ:
11 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْحَجِّ رُكْنَيْنِ، الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَمُعْظَمُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ (أَرْبَعَةُ أَشْوَاطٍ) . وَأَمَّا الإِْحْرَامُ فَهُوَ شَرْطٌ ابْتِدَاءً، رُكْنٌ انْتِهَاءً.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الْحَجِّ أَرْبَعَةٌ: الإِْحْرَامُ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَالطَّوَافُ اتِّفَاقًا وَالسَّعْيُ عَلَى الْمَشْهُورِ خِلاَفًا لاِبْنِ الْقَصَّارِ. وَزَادَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الأَْرْكَانِ: الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَرَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلاً بِرُكْنِيَّةِ طَوَافِ الْقُدُومِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 80، 81، حاشية الدسوقي 1 / 509، مغني المحتاج 1 / 420، 423، نيل المآرب 1 / 273، 274، مكتبة الفلاح 1983م.
(2) ابن عابدين 2 / 129، مغني المحتاج 1 / 450.(23/113)
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَرَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ غَيْرُ رُكْنَيْنِ، بَل الأَْوَّل مُسْتَحَبٌّ، وَالثَّانِي وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِالدَّمِ. وَأَمَّا الْقَوْل بِرُكْنِيَّةِ طَوَافِ الْقُدُومِ فَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ بَل الْمَذْهَبُ أَنَّهُ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِالدَّمِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: أَرْكَانُ الْحَجِّ سِتَّةٌ: الإِْحْرَامُ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ، وَالْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ الأَْرْكَانِ.
كَمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ. فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَهَا رُكْنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الطَّوَافُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَرْكَانُهَا ثَلاَثَةٌ: الإِْحْرَامُ، وَالطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: الْحَلْقَ أَوِ التَّقْصِيرَ، وَالتَّرْتِيبَ (1) .
الرُّكْنُ فِي الْعُقُودِ:
12 - هُنَاكَ اتِّجَاهَانِ فِي تَحْدِيدِ الرُّكْنِ فِي الْعُقُودِ:
الأَْوَّل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ لِكُل عَقْدٍ ثَلاَثَةَ أَرْكَانٍ هِيَ: الصِّيغَةُ، وَالْعَاقِدَانِ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الثَّلاَثَةُ تَئُول فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى سِتَّةٍ، فَمَثَلاً فِي الْبَيْعِ: الصِّيغَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 147، بدائع الصنائع 2 / 125، 227، حاشية الدسوقي 2 / 21، مغني المحتاج 1 / 513، كشاف القناع 2 / 521.(23/114)
وَالْعَاقِدَانِ هُمَا الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي. وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ.
الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِكُل عَقْدٍ رُكْنًا وَاحِدًا فَقَطْ وَهُوَ الصِّيغَةُ (الإِْيجَابُ وَالْقَبُول (1)) .
أَقْسَامُ الرُّكْنِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَقْسِيمِ الرُّكْنِ فِي الصَّلاَةِ إِلَى فِعْلِيٍّ وَقَوْلِيٍّ (2) . وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ هَذَا التَّقْسِيمِ فِي التَّكْرَارِ.
وَانْفَرَدَ الْحَنَفِيَّةُ بِتَقْسِيمِ الرُّكْنِ فِي الصَّلاَةِ إِلَى رُكْنٍ أَصْلِيٍّ وَرُكْنٍ زَائِدٍ، فَالْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ أَرْكَانٌ أَصْلِيَّةٌ، وَالْقِرَاءَةُ وَالْقُعُودُ الأَْخِيرُ رُكْنَانِ زَائِدَانِ.
وَالرُّكْنُ الزَّائِدُ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا يَسْقُطُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مِنْ غَيْرِ تَحَقُّقِ ضَرُورَةٍ بِلاَ خَلَفٍ، كَسُقُوطِ الْقِرَاءَةِ بِالاِقْتِدَاءِ. وَالرُّكْنُ الأَْصْلِيُّ مَا لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.
وَمَعْنَى كَوْنِ الرُّكْنِ زَائِدًا أَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ حَيْثُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 5، بدائع الصنائع 5 / 133، فتح القدير 5 / 455، حاشية الدسوقي 3 / 2، مغني المحتاج 2 / 3، 117، 128، كشاف القناع 3 / 146.
(2) بدائع الصنائع 1 / 167 دار الكتاب العربي، حاشية الدسوقي 1 / 231 دار الفكر، شرح روض الطالب 1 / 187 المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 1 / 332 عالم الكتب.(23/114)
قِيَامِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِهِ فِي حَالَةٍ، وَانْتِفَاؤُهُ بِانْتِفَائِهِ، وَزَائِدٌ مِنْ حَيْثُ قِيَامُهُ بِدُونِهِ فِي حَالَةٍ أُخْرَى، فَالصَّلاَةُ مَاهِيَّةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَعْتَبِرَهَا الشَّارِعُ تَارَةً بِأَرْكَانٍ وَأُخْرَى بِأَقَل مِنْهَا. ثُمَّ إِنَّ اعْتِبَارَ الْقِرَاءَةِ، وَالْقُعُودِ الأَْخِيرِ رُكْنَيْنِ زَائِدَيْنِ لَيْسَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحَل خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ. أَمَّا الْقِرَاءَةُ فَالأَْكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا رُكْنٌ زَائِدٌ.
كَمَا انْفَرَدَ الشَّافِعِيَّةُ بِتَقْسِيمِ الرُّكْنِ فِي الصَّلاَةِ إِلَى رُكْنٍ طَوِيلٍ وَرُكْنٍ قَصِيرٍ، فَالْقَصِيرُ عِنْدَهُمْ رُكْنَانِ: الاِعْتِدَال بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَمَا عَدَاهُمَا طَوِيلٌ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ عِنْدَهُمْ أَنَّ تَطْوِيل الرُّكْنِ الْقَصِيرِ عَمْدًا بِسُكُوتٍ أَوْ ذِكْرٍ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ يُبْطِل الصَّلاَةَ؛ لأَِنَّ تَطْوِيلَهُ تَغْيِيرٌ لِوَضْعِهِ، وَيُخِل بِالْمُوَالاَةِ؛ وَلأَِنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ بَل لِلْفَصْل بَيْنَ الأَْرْكَانِ، وَأَمَّا تَطْوِيلُهُ سَهْوًا فَلاَ يُبْطِل الصَّلاَةَ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ.
وَمِقْدَارُ التَّطْوِيل عِنْدَهُمْ أَنْ يُلْحَقَ الاِعْتِدَال بَعْدَ الرُّكُوعِ بِالْقِيَامِ لِلْقِرَاءَةِ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ بِالْجُلُوسِ لِلتَّشَهُّدِ، وَالْمُرَادُ قِرَاءَةُ الْوَاجِبِ فَقَطْ لاَ قِرَاءَتُهُ مَعَ الْمَنْدُوبِ أَيِ الْفَاتِحَةِ وَأَقَل التَّشَهُّدِ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 113 دار الكتاب العربي، حاشية ابن عابدين 1 / 300 دار إحياء التراث العربي، تيسير التحرير 2 / 129، مصطفى البابي الحلبي 1350 هـ، ونهاية المحتاج 2 / 71 ط مصطفى البابي الحلبي 1967م - 1386 هـ، ومغني المحتاج 1 / 206 دار إحياء التراث العربي.(23/115)
أَقَل الرُّكْنِ وَأَكْمَلُهُ:
14 - قَدْ يَكُونُ لِلرُّكْنِ كَيْفِيَّتَانِ يَتَحَقَّقُ بِهِمَا، إِحْدَاهُمَا: كَيْفِيَّةُ الإِْجْزَاءِ وَيُطْلِقُ عَلَيْهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَالشَّافِعِيَّةِ أَقَل الرُّكْنِ، وَالثَّانِيَةُ: كَيْفِيَّةُ الْكَمَال، وَهِيَ الْكَيْفِيَّةُ الَّتِي تُوَافِقُ السُّنَّةَ.
وَمِنْ تِلْكَ الأَْرْكَانِ فِي بَابِ الصَّلاَةِ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، فَيَنُصُّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لَهُمَا كَيْفِيَّتَيْنِ فَأَقَل الرُّكُوعِ وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُجْزِئُ مِنْهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَنْحَنِيَ حَتَّى تَقْتَرِبَ فِيهِ رَاحَتَا كَفَّيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: هُوَ خَفْضُ الرَّأْسِ مَعَ انْحِنَاءِ الظَّهْرِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ الْمَفْهُومُ مِنْ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {ارْكَعُوا} ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ الاِقْتِصَارِ عَلَى الأَْقَل. وَأَكْمَل الرُّكُوعِ أَنْ يُسَوِّيَ ظَهْرَهُ وَعُنُقَهُ، وَيُمَكِّنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ مُفَرِّقًا أَصَابِعَهُ وَنَاصِبًا لِرُكْبَتَيْهِ. وَأَقَل السُّجُودِ مُبَاشَرَةُ بَعْضِ جَبْهَتِهِ مُصَلاَّهُ، وَهُنَاكَ خِلاَفٌ فِي بَقِيَّةِ الأَْعْضَاءِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا: (رُكُوع، سُجُود) .
وَأَكْمَل السُّجُودِ أَنْ يَضَعَ رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ، وَيَضَعَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَيَنْشُرَ أَصَابِعَهُ مَضْمُومَةً لِلْقِبْلَةِ، وَيُفَرِّقَ رُكْبَتَيْهِ، وَيَرْفَعَ(23/115)
بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَمِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَهَذَا فِي الرَّجُل. أَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَضُمُّ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ (1) .
وَفِي بَابِ الْحَجِّ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَأَقَلُّهُ أَنْ يَحْصُل بِعَرَفَةَ فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ وَلَوْ لَحْظَةً، وَلَوْ مَارًّا بِهَا، أَوْ نَائِمًا أَوْ جَاهِلاً بِهَا، فَمَنْ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ اللَّحْظَةُ فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ صَارَ مُدْرِكًا لِلْحَجِّ، وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ الْفَسَادُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَوَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ زَوَال يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَمِنَ الْغُرُوبِ إِلَى طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ مَالِكٍ، فَالرُّكْنُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الاِسْتِقْرَارُ لَحْظَةً فِي عَرَفَةَ بَعْدَ الْغُرُوبِ، أَمَّا الْوُقُوفُ نَهَارًا بَعْدَ الزَّوَال فَوَاجِبٌ يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ.
وَأَكْمَلُهُ أَنْ يَجْمَعَ فِي الْوُقُوفِ بَيْنَ اللَّيْل وَالنَّهَارِ لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ (2) .
وَقَدْ عَدَّ الْحَنَابِلَةُ الْجَمْعَ بَيْنَ اللَّيْل وَالنَّهَارِ وَاجِبًا يَجِبُ فِي تَرْكِهِ دَمٌ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 300 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 1 / 239 دار الفكر، مواهب الجليل 1 / 519، 520 دار الفكر، مغني المحتاج 1 / 164، 168، 170 دار إحياء التراث العربي، شرح روض الطالب 1 / 156، 160 وما بعدها المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 1 / 347، 350 عالم الكتب.
(2) حديث: " لتأخذوا مناسككم ". أخرجه مسلم (2 / 943 - الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.(23/116)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَكُونُ الْجَمْعُ وَاجِبًا فِيمَا إِذَا وَقَفَ نَهَارًا، أَمَّا إِذَا وَقَفَ لَيْلاً فَلاَ وَاجِبَ عَلَيْهِ.
وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ إِرَاقَةَ الدَّمِ حِينَئِذٍ خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ (1) .
تَرْكُ الرُّكْنِ وَتَكْرَارُهُ:
15 - لِتَرْكِ الرُّكْنِ آثَارٌ وَصُوَرٌ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ كَيْفِيَّةِ التَّرْكِ عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً، وَفِي كُل حَالَةٍ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مَظَانِّهِ مِنَ الْمَوْسُوعَةِ. كَمَا أَنَّ تَكْرَارَ الرُّكْنِ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا يَجْرِي عَلَى التَّرْكِ مَعَ ضَوَابِطَ وَتَفْصِيلاَتٍ تُنْظَرُ فِي مَظَانِّهَا.
تَرْكُ الرُّكْنِ فِي الْعُقُودِ:
16 - تَرْكُ الرُّكْنِ فِي الْعُقُودِ يُوجِبُ بُطْلاَنَهَا، وَذَلِكَ لاِنْعِدَامِ الأُْمُورِ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا لِيَتَحَقَّقَ الْعَقْدُ فِي الْخَارِجِ.
فَمَنْ تَرَكَ الإِْيجَابَ أَوِ الْقَبُول فِي جَمِيعِ صُوَرِهِمَا فِي أَيِّ عَقْدٍ مِنَ الْعُقُودِ فَعَقْدُهُ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ كَمَنْ بَاعَ أَوِ اشْتَرَى مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ أَوْ قَبُولٍ وَلَمْ
__________
(1) فتح القدير 2 / 373 دار إحياء التراث العربي، الفتاوى الهندية 1 / 229 المطبعة الأميرية ببولاق الطبعة الثانية، حاشية الدسوقي 2 / 36 دار الفكر، مغني المحتاج 1 / 498 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 2 / 494 عالم الكتب.(23/116)
يَقَعْ عَلَى سَبِيل التَّعَاطِي فَيَكُونُ بَيْعُهُ حِينَئِذٍ بَاطِلاً (1) .
ثُمَّ إِنْ تَخَلَّفَ الرُّكْنُ فِي الْعُقُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَدْخُل فِي حَالَةِ الْبُطْلاَنِ، وَاَلَّتِي يُفَرِّقُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَالَةِ الْفَسَادِ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (بُطْلاَن (2)) .
وَأَمَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى بُطْلاَنِ الْعُقُودِ فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (بُطْلاَن (3)) .
الرُّكْنُ بِمَعْنَى جُزْءِ الْمَاهِيَّةِ الْمَحْسُوسَةِ:
اسْتِلاَمُ الأَْرْكَانِ فِي الطَّوَافِ:
17 - اسْتَحَبَّ الْفُقَهَاءُ اسْتِلاَمَ رُكْنَيْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْبَيْتِ.
الأَْوَّل: الْحَجَرُ الأَْسْوَدُ، وَيُسَنُّ تَقْبِيلُهُ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اسْتَقْبَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَرَ، ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ يَبْكِي طَوِيلاً، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَبْكِي، فَقَال: يَا عُمَرُ، هَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 5، 99، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 2 / 3 ط مصطفى الحلبي، شرح المحلي بهامش قليوبي وعميرة 2 / 152 ط عيسى البابي الحلبي، حاشية الجمل 3 / 5 ط دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 3 / 146 ط عالم الكتب.
(2) الموسوعة الفقهية 8 / 110.
(3) الموسوعة الفقهية 8 / 119.
(4) حديث: " يا عمر، هاهنا تسكب العبرات ". أخرجه ابن ماجه (2 / 982 - ط الحلبي) ، وضعف إسناده البوصيري كما في مصباح الزجاجة (2 / 134 - ط دار الجنان) .(23/117)
وَعَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، وَقَال: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ (1) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنْ تَكُونَ الْقُبْلَةُ بِلاَ صَوْتٍ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الصَّوْتِ بِالتَّقْبِيل قَوْلاَنِ: الْكَرَاهَةُ وَالإِْبَاحَةُ. قَال الشَّيْخُ الْحَطَّابُ نَقْلاً عَنِ الشَّيْخِ زَرُّوقٍ فِي شَرْحِ الإِْرْشَادِ: وَرَجَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْجَوَازَ، وَنَقَلَهُ أَيْضًا الشَّيْخُ دُسُوقِيٌّ عَنِ الْحَطَّابِ. وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنْ يَسْجُدَ عَلَيْهِ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَنْكَرَ الإِْمَامُ مَالِكٌ وَضْعَ الْخَدَّيْنِ عَلَى الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ، قَال فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَهُوَ بِدْعَةٌ، قَال الشَّيْخُ الدَّرْدِيرُ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: وَكَرِهَ مَالِكٌ السُّجُودَ وَتَمْرِيغَ الْوَجْهِ عَلَيْهِ، قَال الْحَطَّابُ: قَال بَعْضُ شُيُوخِنَا: وَكَانَ مَالِكٌ يَفْعَلُهُ إِذَا خَلاَ بِهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يُسَنُّ أَنْ يَكُونَ التَّقْبِيل وَالسُّجُودُ ثَلاَثًا. فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَقْبِيلِهِ اسْتَلَمَهُ بِيَدِهِ وَقَبَّل يَدَهُ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَهُ وَقَبَّل يَدَهُ (2) . وَلِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ نَافِعٍ قَال: رَأَيْتُ
__________
(1) حديث عابس بن ربيعة: " في تقبيل عمر للحجر ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 462 - ط السلفية) .
(2) حديث ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الحجر الأسود وقبل يده. . . " أخرجه مسلم (2 / 924 - ط الحلبي) .(23/117)
ابْنَ عُمَرَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِيَدِهِ ثُمَّ قَبَّل يَدَهُ. وَقَال: مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ (1) وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُقَبِّل يَدَهُ بَل يَضَعُهَا عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ، وَعِنْدَهُمْ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يُقَبِّل يَدَهُ كَمَا يُقَبِّل الْحَجَرَ، وَالأَْوَّل هُوَ الْمَشْهُورُ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ التَّقْبِيل فِي الْحَجَرِ تَعَبُّدٌ وَلَيْسَتِ الْيَدُ بِالْحَجَرِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: وَيُسَنُّ أَنْ تَكُونَ يَدَهُ الْيُمْنَى، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَيْهِ ثُمَّ يُقَبِّلُهَا أَوْ يَضَعُ إِحْدَاهُمَا، وَالأَْوْلَى أَنْ تَكُونَ الْيُمْنَى لأَِنَّهَا الْمُسْتَعْمَلَةُ فِيمَا فِيهِ شَرَفٌ.
فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنِ اسْتِلاَمِهِ بِيَدِهِ اسْتَلَمَهُ بِشَيْءٍ كَعَصًا، ثُمَّ يُقَبِّل مَا اسْتَلَمَهُ بِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2) وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَضَعُ الْعَصَا عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ.
18 - فَإِنْ عَجَزَ عَنْ كُل ذَلِكَ لِشِدَّةِ الزِّحَامِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَوْ شَيْءٍ فِيهَا مِنْ بَعِيدٍ وَلاَ يُزَاحِمُ النَّاسَ فَيُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعُمَرَ: يَا عُمَرُ إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ، لاَ تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ
__________
(1) حديث نافع قال: " رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ". أخرجه مسلم (2 / 924 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم ". أخرجه البخاري (الفتح 13 / 251 - ط السلفية) ومسلم (2 / 975 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(23/118)
فَتُؤْذِي الضَّعِيفَ، إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلاَّ فَاسْتَقْبِلْهُ فَهَلِّل وَكَبِّرْ (1) . وَلأَِنَّ الاِسْتِلاَمَ سُنَّةٌ، وَإِيذَاءُ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، وَتَرْكُ الْحَرَامِ أَوْلَى مِنَ الإِْتْيَانِ بِالسُّنَّةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ (2) . قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُشِيرُ إِلَيْهِ بِبَاطِنِ كَفَّيْهِ كَأَنَّهُ وَاضِعُهَا عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ وَيَجْعَل بَاطِنَهُمَا نَحْوَ الْحَجَرِ مُشِيرًا بِهِمَا إِلَيْهِ وَظَاهِرَهُمَا نَحْوَ وَجْهِهِ، وَصَرَّحُوا بِتَقْبِيل كَفَّيْهِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي التَّقْبِيل كَمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ إِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِتَقْبِيل مَا أَشَارَ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الإِْشَارَةُ بِيَدِهِ أَوْ غَيْرِهَا. وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يُقَبِّل الْمُشَارَ بِهِ قَالُوا: لِعَدَمِ وُرُودِهِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ اسْتِلاَمُهُ يُكَبِّرُ فَقَطْ إِذَا حَاذَاهُ مِنْ غَيْرِ إِشَارَةٍ بِيَدِهِ وَلاَ رَفْعٍ، وَصِفَةُ الاِسْتِلاَمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى الْحَجَرِ وَيَضَعَ فَمَه بَيْنَ كَفَّيْهِ وَيُقَبِّلَهُ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) حديث: " يا عمر إنك رجل قوي ". أخرجه أحمد (1 / 28 - ط الميمنية) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 241 - ط القدسي) وقال: " رواه أحمد وفيه راو لم يسم " وبين الشافعي في روايته لهذا الحديث أن المبهم هو عبد الرحمن بن نافع بن الحارث، وهذا لم يسمع من عمر بن الخطاب ففيه انقطاع، لكن رواه البيهقي بإسناد آخر عن سعيد بن المسيب مرسلاً، فهو مما يقوي هذا الطريق، يراجع سنن البيهقي (5 / 80 - ط دائرة المعارف العثمانية) .
(2) حديث ابن عباس: " طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير كلما أتى. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 476 - ط السلفية) .(23/118)
أَنْ يَلْمِسَهُ بِيَدِهِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَمْسَحُهُ بِيَدِهِ.
الثَّانِي: الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ، فَيُسَنُّ اسْتِلاَمُ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ فِي الطَّوَافِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَسْتَلِمُ إِلاَّ الْحَجَرَ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ (1) .
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ تَقْبِيلُهُ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا اسْتَلَمَهُ بِيَدِهِ وَضَعَهَا عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُقَبِّل مَا اسْتَلَمَهُ بِهِ.
وَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنِ اسْتِلاَمِهِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: لأَِنَّهَا بَدَلٌ عَنْهُ لِتَرَتُّبِهَا عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ فِي الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ فَكَذَا هُنَا، وَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنَّهُ يُقَبِّل مَا أَشَارَ بِهِ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهُوَ كَذَلِكَ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشِيرُ عِنْدَ الزِّحَامِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُكَبِّرُ إِذَا حَاذَاهُ.
19 - وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَحْكَامِ اسْتِلاَمِ الرُّكْنَيْنِ يُرَاعَى فِي كُل طَوْفَةٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَدَعُ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَالْحَجَرَ الأَْسْوَدَ فِي كُل طَوْفَةٍ (2) . وَهَذَا مِمَّا لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَأَمَّا اسْتِلاَمُ الرُّكْنَيْنِ
__________
(1) حديث ابن عمر: " أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني ". أخرجه مسلم (2 / 924 - ط الحلبي) .
(2) حديث ابن عمر: " أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أن يستلم الركن اليماني في كل طوفة ". أخرجه أبو داود (2 / 440 - 441 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .(23/119)
الآْخَرَيْنِ - الشَّامِيِّ وَالْعِرَاقِيِّ - فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فِي الْجُمْلَةِ. قَال الْبُهُوتِيُّ: وَلاَ يَسْتَلِمُ وَلاَ يُقَبِّل الرُّكْنَيْنِ الآْخَرَيْنِ، لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ مِنَ الْبَيْتِ إِلاَّ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ (1) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِكَرَاهَةِ اسْتِلاَمِ الرُّكْنَيْنِ الْعِرَاقِيِّ وَالشَّامِيِّ - وَهِيَ كَرَاهَةٌ تَنْزِيهِيَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - قَالُوا: لأَِنَّهُمَا لَيْسَا رُكْنَيْنِ حَقِيقَةً بَل مِنْ وَسَطِ الْبَيْتِ؛ لأَِنَّ بَعْضَ الْحَطِيمِ مِنَ الْبَيْتِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُسَنُّ اسْتِلاَمُ الرُّكْنَيْنِ وَلاَ تَقْبِيلُهُمَا. قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ تَقْبِيل الأَْرْكَانِ الثَّلاَثَةِ إِنَّمَا هُوَ نَفْيُ كَوْنِهِ سُنَّةً، فَلَوْ قَبَّلَهُنَّ أَوْ غَيْرَهُنَّ مِنَ الْبَيْتِ لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا وَلاَ خِلاَفَ الأَْوْلَى، بَل يَكُونُ حَسَنًا، كَمَا نَقَلَهُ فِي الاِسْتِقْصَاءِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ قَال: وَأَيُّ الْبَيْتِ قَبَّل فَحَسَنٌ غَيْرَ أَنَّا نُؤْمَرُ بِالاِتِّبَاعِ. قَال الإِْسْنَوِيُّ: فَتَفَطَّنْ لَهُ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ مُهِمٌّ.
20 - وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلاَفِ الأَْرْكَانِ فِي هَذِهِ الأَْحْكَامِ أَنَّ الرُّكْنَ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الأَْسْوَدُ فِيهِ فَضِيلَتَانِ: كَوْنُ الْحَجَرِ فِيهِ، وَكَوْنُهُ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْيَمَانِيُّ فِيهِ فَضِيلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ كَوْنُهُ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
__________
(1) حديث ابن عمر: " لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يمسح من البيت إلا الركنين اليمانيين ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 473 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 924 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.(23/119)
وَأَمَّا الشَّامِيَّانِ فَلَيْسَ لَهُمَا شَيْءٌ مِنَ الْفَضِيلَتَيْنِ (1) . قَال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا أَرَاهُ - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحَجَرَ إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَتِمَّ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَلاَ طَافَ النَّاسُ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ إِلاَّ لِذَلِكَ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 166، 169 دار إحياء التراث العربي، بدائع الصنائع 2 / 146 دار الكتاب العربي، حاشية الدسوقي 2 / 40، 42 دار الفكر، مواهب الجليل 3 / 107 دار الفكر، حاشية العدوي على الرسالة 1 / 465، 469 دار المعرفة، مغني المحتاج 1 / 487 دار إحياء التراث العربي، شرح روض الطالب 1 / 480 المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 2 / 478، 479، 485 عالم الكتب.
(2) أثر ابن عمر: " ما أراه صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 407 - ط السلفية) دون قوله: " ولا طاف الناس. . . " الخ. فقد أخرجه أبو داود (2 / 440 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .(23/120)
رُكُوب
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّكُوبُ لُغَةً: مَصْدَرُ رَكِبَ.
يُقَال: رَكِبَ الدَّابَّةَ يَرْكَبُهَا أَيْ عَلاَ عَلَيْهَا، وَكُل مَا عُلِيَ عَلَيْهِ فَقَدْ رُكِبَ. وَقِيل: هُوَ خَاصٌّ بِالإِْبِل (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الرُّكُوبُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنْ ذَلِكَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
أ - صَلاَةُ التَّطَوُّعِ رَاكِبًا:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي إِبَاحَةِ صَلاَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فِي السَّفَرِ الطَّوِيل - وَهُوَ مَا يَجُوزُ فِيهِ قَصْرُ الصَّلاَةِ - وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِكُل مَنْ سَافَرَ سَفَرًا يَقْصُرُ فِيهِ الصَّلاَةَ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَلَى دَابَّتِهِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ، أَمَّا السَّفَرُ الْقَصِيرُ وَهُوَ مَا لاَ يُبَاحُ فِيهِ الْقَصْرُ فَإِنَّهُ يُبَاحُ فِيهِ الصَّلاَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (2) وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
__________
(1) لسان العرب ومتن اللغة.
(2) ابن عابدين 1 / 470، ونهاية المحتاج 1 / 429، والمغني 1 / 434.(23/120)
اللَّهِ (1) } وَبِالصَّلاَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فُسِّرَتِ الآْيَةُ، وَقَال ابْنُ عُمَرَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ فِي التَّطَوُّعِ خَاصَّةً، أَيْ حَيْثُ تَوَجَّهَ بِكَ بَعِيرُكَ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَال: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ يُومِئُ، وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُهُ (2) .
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ يُومِئُ إِيمَاءَ صَلاَةِ اللَّيْل إِلاَّ الْفَرَائِضَ وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ (3) .
وَلِمُسْلِمٍ: غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَصِيرِ السَّفَرِ وَطَوِيلِهِ؛ وَلأَِنَّ إِبَاحَةَ الصَّلاَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ تَخْفِيفٌ فِي التَّطَوُّعِ كَيْ لاَ يُؤَدِّيَ إِلَى قَطْعِهَا وَتَقْلِيلِهَا، وَهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الطَّوِيل وَالْقَصِيرُ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ سَفَرَ قَصْرٍ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ سَفَرَ قَصْرٍ فَلاَ يَتَنَفَّل عَلَى الدَّابَّةِ (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 115.
(2) حديث: " كان يصلي في السفر على راحلته أينما توجهت يومئ ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 574 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 486 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر.
(3) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 489 - ط السلفية) .
(4) ابن عابدين 1 / 470، ومواهب الجليل 1 / 509، ونهاية المحتاج 1 / 429، والمغني 1 / 434.(23/121)
شُرُوطُ جَوَازِ التَّنَفُّل عَلَى الرَّاحِلَةِ:
3 - يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ التَّنَفُّل عَلَى الرَّاحِلَةِ مَا يَأْتِي:
1 - تَرْكُ الأَْفْعَال الْكَثِيرَةِ بِلاَ عُذْرٍ كَالرَّكْضِ.
2 - دَوَامُ السَّفَرِ إِلَى انْتِهَاءِ الصَّلاَةِ.
فَلَوْ صَارَ مُقِيمًا فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ عَلَيْهَا وَجَبَ إِتْمَامُهَا عَلَى الأَْرْضِ مُسْتَقْبِلاً الْقِبْلَةَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُتِمَّ الصَّلاَةَ عَلَيْهَا (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي الصَّلاَةِ، وَصَلاَةِ التَّطَوُّعِ.
اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي صَلاَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ:
4 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَمْكَنَ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَإِتْمَامُ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ كَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَلاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَافَرَ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ اسْتَقْبَل بِنَاقَتِهِ الْقِبْلَةَ فَكَبَّرَ ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ وَجَّهَهُ رِكَابُهُ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 470، نهاية المحتاج 1 / 433، ومواهب الجليل 1 / 509، المغني 1 / 438.
(2) حديث أنس: " كان إذا سافر فأراد أن يتطوع. . . " أخرجه أبو داود (2 / 21 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وحسنه المنذري كما في مختصره لأبي داود (2 / 59 - نشر دار المعرفة) .(23/121)
وَيَخْتَصُّ وُجُوبُ الاِسْتِقْبَال بِتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، فَلاَ يَجِبُ فِيمَا سِوَاهُ؛ لِوُقُوعِ أَوَّل الصَّلاَةِ بِالشَّرْطِ، ثُمَّ يُجْعَل مَا بَعْدَهُ تَابِعًا لَهُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَلْزَمُهُ الاِسْتِقْبَال وَإِنْ أَمْكَنَهُ، وَلَوْ فِي تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ (2)
أَمَّا رَاكِبُ السَّفِينَةِ وَنَحْوِهَا كَالْعِمَارِيَّةِ وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ السُّفُنِ يَدُورُ فِيهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَيَتَمَكَّنُ مِنَ الصَّلاَةِ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي صَلاَتِهِ (3) .
قِبْلَةُ الرَّاكِبِ وَجِهَتُهُ:
5 - قِبْلَةُ الْمُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ حَيْثُ وَجَّهَتْهُ، فَإِنْ عَدَل عَنْهَا لاَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ، لأَِنَّهُ تَرَكَ قِبْلَتَهُ عَمْدًا.
فَإِنْ عَدَل إِلَى الْقِبْلَةِ فَلاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ، لأَِنَّهَا الأَْصْل، وَإِنَّمَا جَازَ تَرْكُهَا لِلْعُذْرِ (4) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِقْبَال) .
أَدَاءُ صَلاَةِ الْفَرْضِ رَاكِبًا:
6 - يَجُوزُ أَدَاءُ صَلاَةِ الْفَرْضِ رَاكِبًا فِي السَّفِينَةِ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 430، والمغني 1 / 436.
(2) ابن عابدين 1 / 469، ومواهب الجليل 1 / 509.
(3) المصادر السابقة.
(4) المصادر السابقة.(23/122)
وَنَحْوِهَا كَالْمِحَفَّةِ وَالْعِمَارِيَّةِ مِمَّا يُمْكِنُ مَعَهُ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَإِتْمَامُ أَرْكَانِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّاحِلَةِ: فَقَال الْجُمْهُورُ: لاَ يَجُوزُ أَدَاؤُهَا عَلَى دَابَّةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ وَاقِفَةً أَمْ سَائِرَةً إِلاَّ لِعُذْرٍ كَخَوْفٍ (1) . فَإِنْ صَلَّى عَلَى رَاحِلَتِهِ لِعُذْرٍ لَمْ تَلْزَمْهُ الإِْعَادَةُ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَتْ وَاقِفَةً وَتَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَأَتَمَّ الْفَرْضَ جَازَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْقُولَةً، لاِسْتِقْرَارِهِ فِي نَفْسِهِ. أَمَّا إِنْ كَانَتْ سَائِرَةً، أَوْ لَمْ يَتَوَجَّهْ إِلَى الْقِبْلَةِ، أَوْ لَمْ يُتِمَّ أَرْكَانَهَا فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ لِعُذْرٍ؛ لأَِنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ، وَيُعِيدُ الصَّلاَةَ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ (2) .
اتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ رَاكِبًا:
7 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمُشَيِّعِ الْجِنَازَةِ أَنْ لاَ يَتْبَعَهَا رَاكِبًا إِلاَّ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ أَوْ ضَعْفٍ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أُنَاسًا رُكْبَانًا فِي جِنَازَةٍ فَقَال: أَلاَ تَسْتَحْيُونَ؟ إِنَّ مَلاَئِكَةَ اللَّهِ يَمْشُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَأَنْتُمْ عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ (3) . وَإِذَا اتَّبَعَهَا رَاكِبًا يَكُونُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 470، ومواهب الجليل 1 / 509، وكشاف القناع 1 / 304.
(2) الجمل على شرح المنهج 1 / 319، ونهاية المحتاج 1 / 434.
(3) حديث: " ألا تستحيون؟ إن ملائكة الله يمشون على أقدامهم ". أخرجه الترمذي (3 / 324 - ط الحلبي) من حديث ثوبان، ثم نقل عن البخاري أنه صحح وقفه.(23/122)
خَلْفَ الْجِنَازَةِ. أَمَّا الرُّكُوبُ فِي الرُّجُوعِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ (1) .
وَلاَ بَأْسَ بِاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ رَاكِبًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْمَشْيَ أَفْضَل مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْخُشُوعِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الرَّاكِبُ الْجِنَازَةَ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَخْلُو عَنْ إِضْرَارٍ بِالنَّاسِ (2) .
صَلاَةُ الْمُجَاهِدِ رَاكِبًا:
8 - يَجُوزُ لِلْمُجَاهِدِ أَنْ يُصَلِّيَ رَاكِبًا إِذَا الْتَحَمَ الْقِتَال وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَرْكِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا (3) } .
وَالتَّفْصِيل فِي (صَلاَةِ الْخَوْفِ) .
الْحَجُّ رَاكِبًا:
9 - الْحَجُّ رَاكِبًا عَلَى الدَّوَابِّ، وَنَحْوِهَا أَفْضَل مِنَ الْحَجِّ مَاشِيًا، لأَِنَّ ذَلِكَ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) ، وَلأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الشُّكْرِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (5) ، وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَابِلَةِ تَصْرِيحًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
__________
(1) قليوبي 1 / 330، المغني 2 / 474 - 475، روضة الطالبين 2 / 116.
(2) بدائع الصنائع 1 / 315، وأسنى المطالب 1 / 134، ورد المحتار 1 / 469، والفروع 1 / 380.
(3) سورة البقرة / 239.
(4) حديث: " حجه صلى الله عليه وسلم راكبًا ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 380 - ط السلفية) .
(5) مواهب الجليل 2 / 540، وابن عابدين 2 / 143، وأسنى المطالب 1 / 445.(23/123)
الطَّوَافُ رَاكِبًا:
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ طَوَافِ الرَّاكِبِ إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَشْتَكِي فَقَال: طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الطَّوَافِ رَاكِبًا بِلاَ عُذْرٍ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ (2) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ (3) . وَقَال جَابِر: طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ (4) ". وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ مُطْلَقًا فَكَيْفَمَا أَتَى بِهِ أَجْزَأَهُ، وَلاَ يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، إِلَى أَنَّ
__________
(1) حديث: " طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 480 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 927 - ط الحلبي) .
(2) قليوبي 2 / 105، نهاية المحتاج 2 / 283، وأسنى المطالب 1 / 480.
(3) حديث ابن عباس: " طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 472 - 473 - ط السلفية) ومسلم (2 / 926 - ط الحلبي)
(4) حديث: " طاف النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة " أخرجه مسلم (2 / 927 - ط الحلبي) .(23/123)
الْمَشْيَ فِي الطَّوَافِ مِنْ وَاجِبَاتِ الطَّوَافِ، فَإِنْ طَافَ رَاكِبًا بِلاَ عُذْرٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَشْيِ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ: بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ الصَّلاَةِ (1) . وَلأَِنَّ الطَّوَافَ عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُهَا رَاكِبًا لِغَيْرِ عُذْرٍ كَالصَّلاَةِ، وَلأَِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِقَوْلِهِ: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2) ، وَالرَّاكِبُ لَيْسَ بِطَائِفٍ حَقِيقَةً، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نَقْصًا فِيهِ فَوَجَبَ جَبْرُهُ بِالدَّمِ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ، وَإِنْ عَادَ إِلَى بِلاَدِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (طَوَاف) .
أَمَّا السَّعْيُ رَاكِبًا فَيُجْزِئُهُ لِعُذْرٍ، وَلِغَيْرِ عُذْرٍ بِالاِتِّفَاقِ (3) .
ضَمَانُ الرَّاكِبِ مَا تَجْنِيهِ الدَّابَّةُ:
11 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ الرَّاكِبَ يَضْمَنُ مَا تُتْلِفُهُ الدَّابَّةُ بِيَدِهَا حَال رُكُوبِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي ضَمَانِ مَا تَجْنِيهِ بِرِجْلِهَا، فَقَال
__________
(1) حديث: " الطواف بالبيت بمنزلة الصلاة ". أخرجه الحاكم (2 / 267 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) سورة الحج / 29.
(3) بدائع الصنائع 2 / 128، والمغني 3 / 397، ومواهب الجليل 2 / 540.(23/124)
الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّ الرَّاكِبَ لاَ يَضْمَنُ مَا جَنَتْهُ دَابَّتُهُ بِرِجْلِهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ حِفْظُ رِجْلِهَا عَنِ الْجِنَايَةِ فَلاَ يَضْمَنُهَا كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ يَدُهُ عَلَيْهَا، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: يَضْمَنُ الرَّاكِبُ مَا تَجْنِيهِ الدَّابَّةُ فِي حَال رُكُوبِهِ مُطْلَقًا. سَوَاءٌ جَنَتْ بِيَدِهَا، أَمْ بِرِجْلِهَا، أَمْ بِرَأْسِهَا، لأَِنَّهَا فِي يَدِهِ، وَعَلَيْهِ تَعَهُّدُهَا وَحِفْظُهَا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَضْمَنُ الرَّاكِبُ مَا تُعْطِبُهُ الدَّابَّةُ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَعَلَهُ بِهَا (2) . وَالتَّفْصِيل فِي (ضَمَان، وَإِتْلاَف) .
مَا يَقُولُهُ الرَّاكِبُ إِذَا رَكِبَ دَابَّتَهُ:
12 - يُسَنُّ لِلرَّاكِبِ إِذَا اسْتَوَى عَلَى دَابَّتِهِ أَنْ يُكَبِّرَ ثَلاَثًا ثُمَّ يَقْرَأَ آيَةَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} (3) .
وَيَدْعُوَ بِالدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَال: شَهِدْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 204، وابن عابدين 5 / 386 - 387، والمغني لابن قدامة 8 / 338 - 339.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 357 - 358.
(3) سورة الزخرف / 13 و14.(23/124)
قَال: بِسْمِ اللَّهِ، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} . ثُمَّ قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَال: اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَال: سُبْحَانَكَ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقِيل: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ؟ قَال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَل مِثْل مَا فَعَلْتُ ثُمَّ ضَحِكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ؟ قَال: إِنَّ رَبَّكَ سُبْحَانَهُ يَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَال: اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي (1) .
وَإِذَا رَكِبَ لِلسَّفَرِ دَعَا بِمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلاَثًا ثُمَّ قَال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَل مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَْهْل. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ
__________
(1) حديث: " علي بن أبي طالب مع علي بن ربيعة. . . " أخرجه أبو داود (3 / 77 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . والترمذي (5 / 501 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".(23/125)
وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَال وَالأَْهْل (1) .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا رَكِبَ أَيَّ نَوْعٍ مِنْ وَسَائِل الرُّكُوبِ.
__________
(1) حديث: " كان إذا استوى على بعيره خارجًا إلى سفر ". أخرجه مسلم (2 / 978 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.(23/125)
رُكُوع
التَّعْرِيفُ
1 - الرُّكُوعُ لُغَةً: الاِنْحِنَاءُ، يُقَال: رَكَعَ يَرْكَعُ رُكُوعًا وَرَكْعًا، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ أَوْ حَنَى ظَهْرَهُ، وَقَال بَعْضُهُمُ: الرُّكُوعُ هُوَ الْخُضُوعُ، وَيُقَال: رَكَعَ الرَّجُل إِذَا افْتَقَرَ بَعْدَ غِنًى وَانْحَطَّتْ حَالُهُ، وَرَكَعَ الشَّيْخُ: انْحَنَى ظَهْرُهُ مِنَ الْكِبَرِ.
وَالرَّاكِعُ: الْمُنْحَنِي، وَكُل شَيْءٍ يَنْكَبُّ لِوَجْهِهِ فَتَمَسُّ رُكْبَتُهُ الأَْرْضَ أَوْ لاَ تَمَسُّهَا بَعْدَ أَنْ يَنْخَفِضَ رَأْسُهُ فَهُوَ رَاكِعٌ، وَجَمْعُ الرَّاكِعِ رُكَّعٌ وَرُكُوعٌ (1) .
وَرُكُوعُ الصَّلاَةِ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ طَأْطَأَةُ الرَّأْسِ أَيْ خَفْضُهُ، لَكِنْ مَعَ انْحِنَاءٍ فِي الظَّهْرِ عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِي الصَّلاَةِ. وَهِيَ أَنْ يَنْحَنِيَ الْمُصَلِّي بِحَيْثُ تَنَال رَاحَتَاهُ رُكْبَتَيْهِ مَعَ اعْتِدَال
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، غريب القرآن للأصفهاني مادة: (ركع) .(23/126)
خِلْقَتِهِ وَسَلاَمَةِ يَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْقَوْمَةِ الَّتِي فِيهَا الْقِرَاءَةُ (1) .
أَمَّا فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ فَهُوَ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخُضُوعُ.
2 - الْخُضُوعُ لُغَةً: الذُّل وَالاِسْتِكَانَةُ وَالاِنْقِيَادُ وَالْمُطَاوَعَةُ، وَيُقَال: رَجُلٌ أَخْضَعُ، وَامْرَأَةٌ خَضْعَاءُ وَهُمَا: الرَّاضِيَانِ بِالذُّل.
وَخَضَعَ الإِْنْسَانُ: أَمَال رَأْسَهُ إِلَى الأَْرْضِ أَوْ دَنَا مِنْهَا، وَهُوَ تَطَامُنُ الْعُنُقِ وَدُنُوُّ الرَّأْسِ مِنَ الأَْرْضِ، وَالْخُضُوعُ: التَّوَاضُعُ وَالتَّطَامُنُ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْخُشُوعِ يُسْتَعْمَل فِي الصَّوْتِ، وَالْخُضُوعُ يُسْتَعْمَل لِلأَْعْنَاقِ (2) .
وَالْخُضُوعُ أَعَمُّ مِنَ الرُّكُوعِ، إِذِ الرُّكُوعُ هَيْئَةٌ خَاصَّةٌ.
ب - السُّجُودُ:
3 - السُّجُودُ لُغَةً: مَصْدَرُ سَجَدَ، وَأَصْل السُّجُودِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 300، الفواكه الدواني 1 / 207، حاشية العدوي 1 / 231، حاشية الجمل على شرح المنهاج 1 / 370، تحفة المحتاج 2 / 58، روضة الطالبين 1 / 249، مغني المحتاج 1 / 164، نهاية المحتاج 1 / 448، والمغني لابن قدامة 1 / 499، كشاف القناع 1 / 346.
(2) لسان العرب والمصباح المنير، مادة: (خضع) .(23/126)
التَّطَامُنُ وَالْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّل، يُقَال: سَجَدَ الْبَعِيرُ إِذَا خَفَضَ رَأْسَهُ عِنْدَ رُكُوبِهِ، وَسَجَدَ الرَّجُل إِذَا وَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَى الأَْرْضِ (1) .
وَالسُّجُودُ فِي الاِصْطِلاَحِ: وَضْعُ الْجَبْهَةِ أَوْ بَعْضِهَا عَلَى الأَْرْضِ، أَوْ مَا اتَّصَل بِهَا مِنْ ثَابِتٍ مُسْتَقِرٍّ عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِي الصَّلاَةِ (2) .
فَفِي كُلٍّ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ نُزُولٌ مِنْ قِيَامٍ، لَكِنَّ النُّزُول فِي السُّجُودِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الرُّكُوعِ.
أَوَّلاً: الرُّكُوعُ فِي الصَّلاَةِ:
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّ الرُّكُوعَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (3) الآْيَةَ، وَلِلأَْحَادِيثِ الثَّابِتَةِ، مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل الْمَسْجِدَ، فَدَخَل رَجُلٌ فَصَلَّى، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ، وَقَال: ارْجِعْ فَصَل، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَل، فَرَجَعَ يُصَلِّي كَمَا صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: ارْجِعْ فَصَل فَإِنَّكَ لَمْ تُصَل - ثَلاَثًا - فَقَال: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، فَقَال: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) رد المحتار 1 / 300، وجواهر الإكليل 1 / 48.
(3) سورة الحج / 77.(23/127)
مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْدِل قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَل ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا (1) .
الطُّمَأْنِينَةُ فِي الرُّكُوعِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ فِي الرُّكُوعِ بِقَدْرِ تَسْبِيحَةِ فَرْضٍ، لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ بِدُونِهَا.
وَمِنْ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ عَلَى وُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْمُسِيءِ صَلاَتَهُ: ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا (2) . الْحَدِيثَ.
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ؟ قَال: لاَ يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلاَ سُجُودَهَا (3) . وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَكَعَ اسْتَوَى، فَلَوْ صُبَّ عَلَى ظَهْرِهِ الْمَاءُ لاَسْتَقَرَّ،
__________
(1) حديث: " المسيء صلاته ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 237 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 298 - ط الحلبي) .
(2) سبق تخريجه ف / 4.
(3) حدث: " أسوأ الناس سرقة الذي يسرق. . . " أخرجه أحمد (5 / 310 ط الميمنية) ، والحاكم (1 / 229 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي قتادة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(23/127)
وَذَلِكَ لاِسْتِوَاءِ ظَهْرِهِ وَلاِطْمِئْنَانِهِ فِيهِ (1) .
وَحَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُجْزِئُ صَلاَةُ الرَّجُل حَتَّى يُقِيمَ ظَهْرَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لاَ تُجْزِئُ صَلاَةٌ لاَ يُقِيمُ الرَّجُل فِيهَا صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ (2) .
قَال التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْل الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَقَدْ رَأَى أَبُو حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلاً لاَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَقَال: مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مِتَّ مِتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ ثُمَّ شَكَّ هَل أَتَى بِقَدْرِ الإِْجْزَاءِ أَوْ لاَ، لاَ يَعْتَدُّ بِهِ وَيَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الرُّكُوعِ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ مَا شَكَّ فِيهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ فِي الرُّكُوعِ
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع استوى، فلو صب على ظهره الماء لاستقر ". أورده الهيثمي في المجمع (2 / 123 - ط القدسي) وقال: " رواه الطبراني في الكبير وأبو يعلى، ورجاله موثقون ".
(2) حديث: " لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود ". أخرجه أبو داود (1 / 534 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . وحديث: لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود ". أخرجه الترمذي (2 / 51 - ط الحلبي) ، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) حديث حذيفة: " رأى رجلاً لا يتم الركوع والسجود ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 274 - 275 ط السلفية) .(23/128)
لَيْسَتْ فَرْضًا، وَأَنَّ الصَّلاَةَ تَصِحُّ بِدُونِهَا؛ لأَِنَّ الْمَفْرُوضَ مِنَ الرُّكُوعِ أَصْل الاِنْحِنَاءِ وَالْمَيْل، فَإِذَا أَتَى بِأَصْل الاِنْحِنَاءِ فَقَدِ امْتَثَل، لإِِتْيَانِهِ بِمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الاِسْمُ الْوَارِدُ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} (1) . الآْيَةَ.
أَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ فَدَوَامٌ عَلَى أَصْل الْفِعْل، وَالأَْمْرُ بِالْفِعْل لاَ يَقْتَضِي الدَّوَامَ.
وَهِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ، وَلِهَذَا يُكْرَهُ تَرْكُهَا عَمْدًا، وَيَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ إِذَا تَرَكَهَا سَاهِيًا، وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ أَنَّهَا سُنَّةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلاَ يَلْزَمُ بِتَرْكِهَا سُجُودُ السَّهْوِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ، إِنْ كَانَ إِلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى تَمَامِ الرُّكُوعِ لَمْ يَجْزِهِ، وَإِنْ كَانَ إِلَى تَمَامِ الرُّكُوعِ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى الْقِيَامِ أَجْزَأَهُ، إِقَامَةً لِلأَْكْثَرِ مَقَامَ الْكُل (2) .
هَيْئَةُ الرُّكُوعِ:
6 - الْهَيْئَةُ الْمُجْزِئَةُ فِي الرُّكُوعِ أَنْ يَنْحَنِيَ انْحِنَاءً
__________
(1) سورة الحج / 77.
(2) البدائع 1 / 105، 162، حاشية ابن عابدين 1 / 300، 312، الفواكه الدواني 1 / 207، حاشية العدوي 1 / 231، 234، روضة الطالبين 1 / 249، المجموع للإمام النووي 3 / 406 - 411، مغني المحتاج 1 / 163، المغني لابن قدامة 1 / 497، كشاف القناع 1 / 346، الفروع 1 / 432، الإنصاف 2 / 59.(23/128)
خَالِصًا قَدْرَ بُلُوغِ رَاحَتَيْهِ رُكْبَتَيْهِ بِطُمَأْنِينَةٍ، بِحَيْثُ يَنْفَصِل رَفْعُهُ مِنَ الرُّكُوعِ عَنْ هُوِيِّهِ، عَلَى أَنْ يَقْصِدَ مِنْ هُوِيِّهِ الرُّكُوعَ، وَهَذَا فِي مُعْتَدِل الْخِلْقَةِ مِنَ النَّاسِ لاَ طَوِيل الْيَدَيْنِ وَلاَ قَصِيرِهِمَا، فَلَوْ طَالَتْ يَدَاهُ أَوْ قَصُرَتَا أَوْ قُطِعَ شَيْءٌ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى تَسْوِيَةِ ظَهْرِهِ، فَإِنْ لَمْ تَقْرُبْ رَاحَتَاهُ مِنْ رُكْبَتَيْهِ بِالْحَيْثِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رُكُوعًا، وَلَمْ تُخْرِجْهُ عَنْ حَدِّ الْقِيَامِ إِلَى الرُّكُوعِ، وَكَذَا إِنْ قَصَدَ مِنْ هُبُوطِهِ غَيْرَ الرُّكُوعِ. وَالْعَاجِزُ يَنْحَنِي قَدْرَ إِمْكَانِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الاِنْحِنَاءِ أَصْلاً أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ بِطَرَفِهِ، وَلَوْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ وَصَلَّى قَاعِدًا يَنْحَنِي لِرُكُوعِهِ بِحَيْثُ تُحَاذِي جَبْهَتُهُ مَا قُدَّامَ رُكْبَتَيْهِ مِنَ الأَْرْضِ، وَالأَْكْمَل أَنْ تُحَاذِيَ جَبْهَتُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَكْمَل هَيْئَاتِ الرُّكُوعِ أَنْ يَنْحَنِيَ الْمُصَلِّي بِحَيْثُ يَسْتَوِي ظَهْرُهُ وَعُنُقُهُ، وَيَمُدَّهُمَا كَالصَّحِيفَةِ، وَلاَ يَخْفِضُ ظَهْرَهُ عَنْ عُنُقِهِ وَلاَ يَرْفَعُهُ، وَيَنْصِبُ سَاقَيْهِ إِلَى الْحَقْوِ، وَلاَ يَثْنِي رُكْبَتَيْهِ، وَيَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيَأْخُذُ رُكْبَتَيْهِ بِيَدَيْهِ، وَيُفَرِّقُ أَصَابِعَهُ حِينَئِذٍ، فَإِنْ كَانَتْ إِحْدَى يَدَيْهِ مَقْطُوعَةً أَوْ عَلِيلَةً، فَعَل بِالأُْخْرَى مَا ذَكَرْنَا، وَفَعَل بِالْعَلِيلَةِ الْمُمْكِنَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ وَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ أَرْسَلَهُمَا، وَيُجَافِي الرَّجُل مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَضُمُّ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَوْ لَمْ يَضَعْ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ(23/129)
وَلَكِنْ بَلَغَ ذَلِكَ الْقَدْرَ أَجْزَأَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّطْبِيقُ فِي الرُّكُوعِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَل الْمُصَلِّي إِحْدَى كَفَّيْهِ عَلَى الأُْخْرَى ثُمَّ يَجْعَلَهُمَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ أَوْ فَخِذَيْهِ إِذَا رَكَعَ.
وَالتَّطْبِيقُ كَانَ مَشْرُوعًا فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ ثُمَّ نُسِخَ، قَال مُصْعَبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: صَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي فَطَبَّقْتُ بَيْنَ كَفَّيَّ، ثُمَّ وَضَعْتُهُمَا بَيْنَ فَخِذَيَّ، فَنَهَانِي أَبِي وَقَال: كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا عَنْهُ، وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الرُّكَبِ (1) .
وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلاَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: فَاعْرِضْ، فَقَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ اعْتَدَل قَائِمًا وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ قَال: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَرَكَعَ، ثُمَّ اعْتَدَل، فَلَمْ يُصَوِّبْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُقْنِعْ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ (2) . الْحَدِيثَ. قَالُوا - أَيِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: صَدَقْتَ، هَكَذَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَكَرَ أَبُو حُمَيْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ
__________
(1) حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص: " صليت إلى جنب أبي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 273 - ط السلفية) .
(2) حديث أبي حميد الساعدي. أخرجه الترمذي (2 / 105 - 106 ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح " والشطر الثاني منه عنده (2 / 46) ، وبعضه في صحيح البخاري (الفتح 2 / 305 - ط السلفية) .(23/129)
يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَأَنَّهُ قَابِضٌ عَلَيْهِمَا.
وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّ التَّطْبِيقَ فِي الرُّكُوعِ سُنَّةٌ لِمَا رَوَاهُ مِنْ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ (1) .
رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرِ الرُّكُوعِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ إِلَى أَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ، فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلَى حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ كَفِعْلِهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، أَيْ يَبْدَأُ رَفْعَ يَدَيْهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ وَيَنْتَهِي عِنْدَ انْتِهَائِهَا، لِتَضَافُرِ الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ، مِنْهَا مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا حُمَيْدٍ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدُهُمْ أَبُو قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلاَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ صِفَةَ صَلاَتِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ.
وَقَال الْبُخَارِيُّ: قَال الْحَسَنُ وَحُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُونَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 499، المجموع للإمام النووي 3 / 407، 411، كشاف القناع 1 / 346، حاشية ابن عابدين 1 / 320، البدائع 1 / 208، الفواكه الدواني 1 / 208، حاشية العدوي 1 / 231، جواهر الإكليل 1 / 48.(23/130)
أَيْدِيَهُمْ - يَعْنِي عِنْدَ الرُّكُوعِ - (1) .
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ وَعُلَمَاءُ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ: إِنَّ الْمُصَلِّيَ لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلاَّ لِتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ (2) .
لأَِدِلَّةٍ مِنْهَا: قَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لأَُصَلِّيَنَّ بِكُمْ صَلاَةَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إِلاَّ فِي أَوَّل مَرَّةٍ (3) .
وَقَوْل الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ أُذُنَيْهِ ثُمَّ لاَ يَعُودُ (4) .
__________
(1) جزء رفع اليدين للبخاري (ص 26 ط. دائرة العلوم الأثرية) .
(2) المجموع للإمام النووي 3 / 399 - 401، المغني لابن قدامة 1 / 497، حاشية ابن عابدين 1 / 324، البدائع 1 / 207، حاشية العدوي 1 / 228.
(3) (3) حديث ابن مسعود: " لأصلين بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أخرجه الترمذي (2 / 40 - ط الحلبي) وأبو داود (1 / 477 - 478 تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال: " ليس هو بصحيح على هذا اللفظ ". وذكر ابن حجر في التلخيص (1 / 222 - ط شركة الطباعة الفنية) تضعيفه عن ابن المبارك وأبي حاتم والبخاري وغيرهم.
(4) حديث البراء: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة ". أخرجه أبو داود (1 / 478 - 479 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال: " هذا الحديث ليس بصحيح ". وقال ابن حجر في التلخيص: (1 / 221 - ط شركة الطباعة الفنية) : اتفق الحفاظ على أن قوله: " ثم لم يعد " مدرج في الخبر.(23/130)
وَقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمْ يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ إِلاَّ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلاَةِ (1) .
التَّكْبِيرُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الرُّكُوعِ:
8 - ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَبْتَدِئَ الرُّكُوعَ بِالتَّكْبِيرِ لِلأَْحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مِنْهَا:
(1) مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُول: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ (2) . الْحَدِيثَ.
(2) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ فَكَبَّرَ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، فَإِذَا انْصَرَفَ قَال: إِنِّي لأََشْبَهُكُمْ صَلاَةً بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
(3) وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُ فِي كُل خَفْضٍ، وَرَفْعٍ،
__________
(1) حديث ابن مسعود: " صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم ". أخرجه الدارقطني (1 / 295 - ط دار المحاسن) وقال: " تفرد به محمد بن جابر وكان ضعيفًا.
(2) حديث أبي هريرة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 272 - ط السلفية) .
(3) حديث أبي هريرة: كان يصلي بهم. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 269 - ط السلفية) .(23/131)
وَقِيَامٍ، وَقُعُودٍ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (1) .
(4) وَلأَِنَّهُ شُرُوعٌ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ فَشُرِعَ فِيهِ التَّكْبِيرُ كَحَالَةِ ابْتِدَاءِ الصَّلاَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ كَغَيْرِهَا مِنْ تَكْبِيرَاتِ الاِنْتِقَال مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلاَةِ الَّتِي تَبْطُل الصَّلاَةُ بِتَرْكِهَا عَمْدًا، وَتَسْقُطُ إِذَا تُرِكَتْ سَهْوًا أَوْ جَهْلاً، وَلَكِنَّهَا تُجْبَرُ بِسُجُودِ السَّهْوِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (2) وَثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَانَ يَبْتَدِئُ الرُّكُوعَ بِالتَّكْبِيرِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.
وَيُسَنُّ لِلإِْمَامِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَابِلَةِ مَعًا أَنْ يَجْهَرَ بِهَذِهِ التَّكْبِيرَةِ، لِيَعْلَمَ الْمَأْمُومُ انْتِقَالَهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ بَلَّغَ عَنْهُ الْمُؤَذِّنُ أَوْ غَيْرُهُ (3) .
__________
(1) حديث ابن مسعود: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في كل خفض ". أخرجه الطحاوي في شرح المعاني (1 / 220 - ط مطبعة الأنوار المحمدية) .
(2) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 111 - ط السلفية) من حديث مالك بن الحويرث.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 330، حاشية العدوي 1 / 230، المجموع للإمام النووي 3 / 397، 414، مغني المحتاج 1 / 164، المغني لابن قدامة 1 / 495، 502، كشاف القناع 1 / 346، الفروع 1 / 465، روضة الطالبين 1 / 250، الفواكه الدواني 1 / 358، الإنصاف 2 / 59.(23/131)
التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَال: لَمَّا نَزَلَتْ {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (1) قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ (2) . وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الأَْحْكَامِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ سُنَّةٌ، وَأَقَلُّهُ ثَلاَثٌ، فَإِنْ تُرِكَ التَّسْبِيحُ أَوْ نَقَصَ عَنِ الثَّلاَثِ كُرِهَ تَنْزِيهًا. وَالزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلاَثِ لِلْمُفْرَدِ أَفْضَل بَعْدَ أَنْ يَخْتِمَ عَلَى وِتْرٍ، وَلاَ يَزِيدُ الإِْمَامُ عَلَى وَجْهٍ يَمَل بِهِ الْقَوْمُ.
وَقِيل: إِنَّ تَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَاجِبَاتٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ فِي الرُّكُوعِ مَنْدُوبٌ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ، وَالأَْوْلَى سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، وَقِيل: إِنَّهُ سُنَّةٌ، وَالتَّسْبِيحُ لاَ يَتَحَدَّدُ بِعَدَدٍ بِحَيْثُ إِذَا نَقَصَ عَنْهُ يَفُوتُهُ الثَّوَابُ، بَل إِذَا سَبَّحَ مَرَّةً يَحْصُل لَهُ الثَّوَابُ، وَإِنْ كَانَ يُزَادُ الثَّوَابُ بِزِيَادَتِهِ.
وَيُنْهَى عَنِ الطُّول الْمُفْرِطِ فِي الْفَرِيضَةِ،
__________
(1) سورة الواقعة / 96.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 330، حاشية العدوي 1 / 230، المجموع للإمام النووي 3 / 397، 414، مغني المحتاج 1 / 164، المغني لابن قدامة 1 / 495، 502، كشاف القناع 1 / 346، الفروع 1 / 465، روضة الطالبين 1 / 250، الفواكه الدواني 1 / 358، الإنصاف 2 / 59.(23/132)
بِخِلاَفِ النَّفْل؛ لأَِنَّ الْمَطْلُوبَ فِي حَقِّ الإِْمَامِ التَّخْفِيفُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ، وَيَحْصُل أَصْل السُّنَّةِ بِتَسْبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَقَلُّهُ سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ سُبْحَانَ رَبِّي، وَأَدْنَى الْكَمَال سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ ثَلاَثًا، وَلِلْكَمَال دَرَجَاتٌ. فَبَعْدَ الثَّلاَثِ خَمْسٌ، ثُمَّ سَبْعٌ، ثُمَّ تِسْعٌ، ثُمَّ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَهُوَ الأَْكْمَل، وَلاَ يَزِيدُ الإِْمَامُ عَلَى الثَّلاَثِ، أَيْ يُكْرَه لَهُ ذَلِكَ؛ تَخْفِيفًا عَلَى الْمَأْمُومِينَ.
وَيَزِيدُ الْمُنْفَرِدُ وَإِمَامُ قَوْمٍ مَحْصُورِينَ رَاضِينَ بِالتَّطْوِيل: اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي، وَمَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ قَدَمِي.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقُول فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَدْنَى الْكَمَال، وَالْوَاجِبُ مَرَّةٌ، وَالسُّنَّةُ ثَلاَثٌ، وَهُوَ أَدْنَى الْكَمَال، وَالأَْفْضَل الاِقْتِصَارُ عَلَى سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ (وَبِحَمْدِهِ) .
وَلاَ يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ التَّطْوِيل، وَلاَ الزِّيَادَةُ عَلَى ثَلاَثٍ كَيْ لاَ يَشُقَّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ.
وَهَذَا إِذَا لَمْ يَرْضَوْا بِالتَّطْوِيل (1) .
__________
(1) الدر المختار 1 / 332، ومراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه 144 و145، وجواهر الإكليل 1 / 51، والفواكه الدواني 1 / 209، ومغني المحتاج 1 / 164، 165، والمجموع 3 / 411، 412، وكشاف القناع 1 / 347، والمغني 1 / 501، 503.(23/132)
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ (1) لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَانِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَأَنَا رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ (2) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَلاَ وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ (3) وَلأَِنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ حَال ذُلٍّ وَانْخِفَاضٍ، وَالْقُرْآنُ أَشْرَفُ الْكَلاَمِ.
الدُّعَاءُ فِي الرُّكُوعِ:
11 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَكْثُرُ أَنْ يَقُول فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي (4) .
__________
(1) المجموع للإمام النووي 3 / 414، المغني لابن قدامة 1 / 503، مغني المحتاج 1 / 165، البدائع 1 / 218.
(2) حديث علي: " نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد ". أخرجه مسلم (1 / 349 - ط الحلبي) .
(3) حديث ابن عباس: " ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا ". أخرجه مسلم (1 / 348 - ط الحلبي) .
(4) حديث: " كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 281 - ط السلفية) ومسلم (1 / 350 - ط الحلبي) من حديث عائشة.(23/133)
وَلِمَا رَوَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَكَعَ قَال: اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَلَكَ خَشَعْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي (1) .
إِدْرَاكُ الرَّكْعَةِ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ مَعَ الإِْمَامِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الإِْمَامَ فِي الرُّكُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ (2) وَلأَِنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ مِنَ الأَْرْكَانِ إِلاَّ الْقِيَامُ، وَهُوَ يَأْتِي بِهِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، ثُمَّ يُدْرِكُ مَعَ الإِْمَامِ بَقِيَّةَ الرَّكْعَةِ، وَهَذَا إِذَا أَدْرَكَ فِي طُمَأْنِينَةٍ الرُّكُوعَ أَوِ انْتَهَى إِلَى قَدْرِ الإِْجْزَاءِ مِنَ الرُّكُوعِ قَبْل أَنْ يَزُول الإِْمَامُ عَنْ قَدْرِ الإِْجْزَاءِ.
وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالتَّكْبِيرَةِ مُنْتَصِبًا، فَإِنْ أَتَى بِهَا بَعْدَ أَنِ انْتَهَى فِي الاِنْحِنَاءِ إِلَى قَدْرِ الرُّكُوعِ أَوْ بِبَعْضِهَا لاَ تَنْعَقِدُ؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا
__________
(1) (1) المجموع للإمام النووي 3 / 411، مغني المحتاج 1 / 165، البدائع 1 / 208. وحديث علي: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع قال: اللهم لك ركعت ". أخرجه مسلم (1 / 535 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة ". ورد بلفظ " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 57 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري، ومسلم (1 / 424 - ط الحلبي) .(23/133)
قَال بَعْضُهُمْ: إِلاَّ النَّافِلَةَ - ثُمَّ يَأْتِي بِتَكْبِيرَةٍ أُخْرَى لِلرُّكُوعِ فِي انْحِطَاطٍ إِلَيْهِ، فَالأُْولَى رُكْنٌ لاَ تَسْقُطُ بِحَالٍ، وَالثَّانِيَةُ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ، وَقَدْ تَسْقُطُ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَالَةِ (1) .
إِطَالَةُ الرُّكُوعِ لِيُدْرِكَ الدَّاخِل الرَّكْعَةَ:
13 - لَوْ أَحَسَّ الإِْمَامُ وَهُوَ فِي الرُّكُوعِ بِدَاخِلٍ يُرِيدُ الصَّلاَةَ مَعَهُ هَل يَجُوزُ لَهُ الاِنْتِظَارُ بِتَطْوِيل الرُّكُوعِ لِيَلْحَقَهُ أَمْ لاَ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَنْتَظِرُهُ؛ لأَِنَّ انْتِظَارَهُ فِيهِ تَشْرِيكٌ فِي الْعِبَادَةِ بَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل وَبَيْنَ الْخَلْقِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (2) .
وَلأَِنَّ الإِْمَامَ مَأْمُورٌ بِالتَّخْفِيفِ رِفْقًا بِالْمُصَلِّينَ. فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّل مَا شَاءَ (3) .
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 323، والفواكه الدواني 1 / 240، والمجموع 4 / 229، والمغني 1 / 504.
(2) سورة الكهف / 110.
(3) حديث: " إذا صلى أحدكم للناس فليخفف ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 199 - ط السلفية) . وأخرجه مسلم (1 / 341 - ط الحلبي) دون قوله: " وإذا صلى أحدكم. . الخ " وزاد: " وذا الحاجة ".(23/134)
الْمُنْذِرِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ يَعْرِفُ الدَّاخِل، أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ فَلاَ بَأْسَ بِالاِنْتِظَارِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ أَرَادَ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَخَالَجَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ سِوَى اللَّهِ لَمْ يُكْرَهِ اتِّفَاقًا لَكِنَّهُ نَادِرٌ، وَتُسَمَّى مَسْأَلَةَ الرِّيَاءِ، فَيَنْبَغِي التَّحَرُّزُ عَنْهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ أَحَدُ الأَْقْوَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الاِنْتِظَارُ إِذَا كَانَ يَشُقُّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ، لأَِنَّ الَّذِينَ مَعَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنَ الدَّاخِل، وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِمْ لِكَوْنِهِ يَسِيرًا يَنْتَظِرُهُ، لأَِنَّهُ يَنْفَعُ الدَّاخِل وَلاَ يَشُقُّ عَلَى الْمَأْمُومِينَ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو مِجْلَزٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى اسْتِحْبَابِ الاِنْتِظَارِ بِشُرُوطٍ هِيَ:
أ - أَنْ يَكُونَ الْمَسْبُوقُ دَاخِل الْمَسْجِدِ حِينَ الاِنْتِظَارِ.
ب - أَنْ لاَ يَفْحُشَ طُول الاِنْتِظَارِ.
ج - أَنْ يَقْصِدَ بِهِ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ لاَ التَّوَدُّدَ إِلَى الدَّاخِل أَوِ اسْتِمَالَةَ قَلْبِهِ.
د - أَنْ لاَ يُمَيِّزَ بَيْنَ دَاخِلٍ وَدَاخِلٍ، لِشَرَفِ الْمُنْتَظَرِ، أَوْ صَدَاقَتِهِ، أَوْ سِيَادَتِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، لأَِنَّ الاِنْتِظَارَ بِدُونِ تَمْيِيزٍ إِعَانَةٌ لِلدَّاخِل عَلَى إِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ.
أَمَّا إِذَا أَحَسَّ بِقَادِمٍ لِلصَّلاَةِ خَارِجٍ عَنْ مَحَلِّهَا، أَوْ بَالَغَ فِي الاِنْتِظَارَ كَأَنْ يُطَوِّلَهُ تَطْوِيلاً لَوْ(23/134)
وُزِّعَ عَلَى جَمِيعِ الصَّلاَةِ لَظَهَرَ أَثَرُهُ، أَوْ لَمْ يَكُنِ انْتِظَارُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ فَرَّقَ بَيْنَ الدَّاخِلِينَ لِلأَْسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ، فَلاَ يُسْتَحَبُّ الاِنْتِظَارُ قَطْعًا بَل يُكْرَهُ، فَإِنِ انْتَظَرَ لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ بُطْلاَنُ الصَّلاَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ غَرِيبٌ (1) .
ثَانِيًا - الرُّكُوعُ لِغَيْرِ اللَّهِ:
14 - قَال الْعُلَمَاءُ: مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ خَفْضِ الرَّأْسِ وَالاِنْحِنَاءِ إِلَى حَدٍّ لاَ يَصِل بِهِ إِلَى أَقَل الرُّكُوعِ - عِنْدَ اللِّقَاءِ - لاَ كُفْرَ بِهِ وَلاَ حُرْمَةَ كَذَلِكَ، لَكِنْ يَنْبَغِي كَرَاهَتُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَنْ قَال لَهُ: يَا رَسُول اللَّهِ، الرَّجُل مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَال: لاَ، قَال: أَفَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ؟ قَال: لاَ، قَال: أَفَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ؟ قَال: نَعَمْ (2) . الْحَدِيثَ.
أَمَّا إِذَا انْحَنَى وَوَصَل انْحِنَاؤُهُ إِلَى حَدِّ الرُّكُوعِ فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْصِدْ تَعْظِيمَ ذَلِكَ الْغَيْرِ كَتَعْظِيمِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ كُفْرًا وَلاَ حَرَامًا، وَلَكِنْ يُكْرَهُ أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ لأَِنَّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 332، البدائع 1 / 218، والفواكه الدواني 1 / 240، مغني المحتاج 1 / 233، المجموع للإمام النووي 4 / 229، المغني لابن قدامة 1 / 504، 2 / 236.
(2) حديث: " سؤال الصحابي: يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه ". أخرجه الترمذي (5 / 75 ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك، وقال: " حديث حسن ".(23/135)
صُورَتَهُ تَقَعُ فِي الْعَادَةِ لِلْمَخْلُوقِ كَثِيرًا.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى حُرْمَةِ ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِتَعْظِيمِ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ، لأَِنَّ صُورَةَ هَيْئَةِ الرُّكُوعِ لَمْ تُعْهَدْ إِلاَّ لِعِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. قَال ابْنُ عَلاَّنَ الصِّدِّيقِيُّ: مِنَ الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ الاِنْحِنَاءُ عِنْدَ اللِّقَاءِ بِهَيْئَةِ الرُّكُوعِ، أَمَّا إِذَا وَصَل انْحِنَاؤُهُ لِلْمَخْلُوقِ إِلَى حَدِّ الرُّكُوعِ قَاصِدًا بِهِ تَعْظِيمَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ كَمَا يُعَظِّمُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلاَ شَكَّ أَنَّ صَاحِبَهُ يَرْتَدُّ عَنِ الإِْسْلاَمِ وَيَكُونُ كَافِرًا بِذَلِكَ، كَمَا لَوْ سَجَدَ لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ (1) .
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 425، دليل الفالحين 3 / 356، تحفة المحتاج 9 / 90، نهاية المحتاج 7 / 396، مغني المحتاج 3 / 135، الجمل على شرح المنهاج 5 / 124.(23/135)
رُكُون
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّكُونُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ رَكَنَ إِلَى الشَّيْءِ يَرْكَنُ، وَيَرْكُنُ: مَال وَسَكَنَ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: الْمَيْل إِلَى الْخَاطِبِ، وَظُهُورُ الرِّضَا بِهِ مِنَ الْمَرْأَةِ أَوْ مِنْ ذَوِيهَا (2) .
وَالرُّكُونُ يَشْمَل الْمُوَافَقَةَ الصَّرِيحَةَ وَظُهُورَ الرِّضَا بِوَجْهٍ يُفْهَمُ مِنْهُ إِذْعَانُ كُل وَاحِدٍ لِشَرْطِ صَاحِبِهِ وَإِرَادَةُ الْعَقْدِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - يُبَاحُ لِلْوَلِيِّ وَلِلْمَرْأَةِ الرُّجُوعُ عَنِ الرُّكُونِ فِي الْخِطْبَةِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ؛ لأَِنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلزَّوَاجِ الَّذِي هُوَ عَقْدٌ عُمْرِيٌّ يَدُومُ ضَرَرُهُ، فَكَانَ لَهَا الاِحْتِيَاطُ لِنَفْسِهَا، وَالنَّظَرُ فِي حَظِّهَا، وَالْوَلِيُّ قَائِمٌ مَقَامَهَا فِي ذَلِكَ.
أَمَّا الرُّجُوعُ عَنِ الرُّكُونِ بِلاَ غَرَضٍ صَحِيحٍ
__________
(1) لسان العرب المحيط.
(2) مواهب الجليل 3 / 410 - 411، والفواكه الدواني 2 / 31.(23/136)
فَهُوَ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْلاَفِ الْوَعْدِ، وَالرُّجُوعِ عَنِ الْقَوْل، وَلَمْ يَحْرُمْ لأَِنَّ الْحَقَّ لَمْ يَلْزَمْ بَعْدُ، كَمَنْ سَاوَمَ لِسِلْعَةٍ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ لاَ يَبِيعَهَا.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (خِطْبَة ج 19 ص 195)(23/136)
رَمَاد
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّمَادُ فِي اللُّغَةِ: دُقَاقُ الْفَحْمِ مِنْ حُرَاقَةِ النَّارِ، وَالْجَمْعُ: أَرْمِدَةٌ وَأَرْمِدَاءُ، وَأَصْل الْمَادَّةِ يُنْبِئُ عَنِ الْهَلاَكِ وَالْمَحْقِ، يُقَال: رَمِدَ رَمَدًا وَرَمَادَةً وَرُمُودَةً: هَلَكَ، وَلَمْ تَبْقَ فِيهِ بَقِيَّةٌ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {مَثَل الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} (1) . ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لأَِعْمَال الْكُفَّارِ فِي أَنَّهُ يَمْحَقُهَا كَمَا تَمْحَقُ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ الرَّمَادَ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ (2) .
وَيُقَال: فُلاَنٌ " عَظِيمُ الرَّمَادِ "، كِنَايَةً عَنِ الْكَرَمِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ (3) .
وَالرَّمَادُ فِي الاِصْطِلاَحِ يُسْتَعْمَل فِي الْمَعْنَى
__________
(1) سورة إبراهيم / 18.
(2) متن اللغة، ولسان العرب، والمعجم الوسيط مادة: (رمد) ، والقرطبي 9 / 353.
(3) قوله: " عظيم الرماد ". ورد من حديث عائشة في حديث أم زرع. أخرجه البخاري (الفتح 9 / 255 ط السلفية) . وانظر فتح الباري 9 / 265.(23/137)
اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ، وَهُوَ مَا بَقِيَ بَعْدَ احْتِرَاقِ الشَّيْءِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التُّرَابُ وَالصَّعِيدُ:
2 - التُّرَابُ مَا نَعُمَ مِنْ أَدِيمِ الأَْرْضِ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَالطَّائِفَةُ مِنْهُ تُرْبَةٌ، وَهِيَ ظَاهِرُ الأَْرْضِ، وَجَمْعُ التُّرَابِ أَتْرِبَةٌ وَتِرْبَانٌ (2) .
وَالصَّعِيدُ وَجْهُ الأَْرْضِ تُرَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الصَّعِيدَ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (3) هُوَ التُّرَابُ الطَّاهِرُ الَّذِي عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ (4) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرَّمَادِ:
طَهَارَةُ الرَّمَادِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الرَّمَادَ الْحَاصِل مِنِ احْتِرَاقِ الشَّيْءِ الطَّاهِرِ طَاهِرٌ مَا لَمْ تَعْتَرِهِ النَّجَاسَةُ؛ لأَِنَّ حَرْقَ الشَّيْءِ لاَ يُنَجِّسُهُ، بَل هُوَ سَبَبُ التَّطْهِيرِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمَّا جُرِحَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ،
__________
(1) القرطبي 9 / 353.
(2) المصباح المنير، ولسان العرب، والمعجم الوسيط مادة (ترب) .
(3) سورة النساء / 43.
(4) المصباح المنير ولسان العرب في مادة (صعد) ، وابن عابدين 1 / 161، والدسوقي 1 / 155.(23/137)
أَخَذَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَصِيرًا فَأَحْرَقَتْهُ حَتَّى صَارَ رَمَادًا، ثُمَّ أَلْزَقَتْهُ فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ (1) . مَعَ مَنْعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّدَاوِي بِالنَّجِسِ وَالْحَرَامِ.
أَمَّا الرَّمَادُ الْحَاصِل مِنْ أَصْلٍ نَجِسٍ بَعْدَ احْتِرَاقِهِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُخْتَارُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ اللَّخْمِيِّ وَالتُّونُسِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَخِلاَفُ الظَّاهِرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الرَّمَادَ الْحَاصِل مِنِ احْتِرَاقِ شَيْءٍ نَجِسٍ أَوْ مُتَنَجِّسٍ طَاهِرٌ، وَالْحَرْقُ كَالْغَسْل فِي التَّطْهِيرِ (2) . قَال فِي الدُّرِّ: (وَإِلاَّ لَزِمَ نَجَاسَةُ الْخُبْزِ فِي سَائِرِ الأَْمْصَارِ) أَيْ لأَِنَّهُ كَانَ يُخْبَزُ بِالرَّوْثِ النَّجِسِ، وَيَعْلَقُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الرَّمَادِ، وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَطَّابُ (3) .
وَلأَِنَّ النَّارَ تَأْكُل مَا فِيهِ مِنَ النَّجَاسَةِ، أَوْ تُحِيلُهُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، فَيَطْهُرُ بِالاِسْتِحَالَةِ وَالاِنْقِلاَبِ، كَالْخَمْرِ إِذَا تَخَلَّلَتْ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْمَخْبُوزُ بِالرَّوْثِ النَّجِسِ طَاهِرٌ
__________
(1) حديث: " لما جرح وجه النبي صلى الله عليه وسلم ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 97 - ط السلفية) من حديث سهل بن سعد.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 217، وبدائع الصنائع للكاساني 1 / 85، وحاشية الدسوقي 1 / 57، 58، ونهاية المحتاج 1 / 230، وأسنى المطالب 1 / 19، والمغني 1 / 72، وكشاف القناع 1 / 186، 187.
(3) الدر المختار 1 / 217، ومواهب الجليل للحطاب 1 / 107.(23/138)
وَلَوْ تَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ رَمَادِهِ، وَتَصِحُّ الصَّلاَةُ بِهِ قَبْل غَسْل الْفَمِ مِنْ أَكْلِهِ، وَيَجُوزُ حَمْلُهُ فِي الصَّلاَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ الدُّسُوقِيُّ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِل الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَقَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِِلَى أَنَّ الرَّمَادَ الْحَاصِل مِنِ احْتِرَاقِ النَّجِسِ نَجِسٌ؛ لأَِنَّ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ قَائِمَةٌ، وَالإِْحْرَاقُ لاَ يَجْعَل مَا يَتَخَلَّفُ مِنْهُ شَيْئًا آخَرَ، فَلاَ تَثْبُتُ الطَّهَارَةُ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ النَّجِسَةِ (2) .
قَال الْبُهُوتِيُّ: لاَ تَطْهُرُ نَجَاسَةٌ بِاسْتِحَالَةٍ، وَلاَ بِنَارٍ، فَالرَّمَادُ مِنَ الرَّوْثِ النَّجِسِ نَجِسٌ (3) .
التَّيَمُّمُ بِالرَّمَادِ:
4 - الأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ قَوْله تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (4) قَال الْحَنَفِيَّةُ (عَدَا أَبِي يُوسُفَ) وَالْمَالِكِيَّةُ: الصَّعِيدُ مَا صَعِدَ أَيْ ظَهَرَ مِنْ أَجْزَاءِ الأَْرْضِ، فَهُوَ ظَاهِرُ الأَْرْضِ، فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُل مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ، كَمَا يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: جُعِلَتْ لِيَ الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا (5) . وَكُل مَا يَحْتَرِقُ بِالنَّارِ فَيَصِيرُ رَمَادًا،
__________
(1) المراجع السابقة، وحاشية ابن عابدين 5 / 469.
(2) المراجع السابقة.
(3) كشاف القناع 1 / 186.
(4) سورة النساء / 43.
(5) حديث: " جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ". أخرجه البخاري (1 / 533 - ط السلفية) من حديث جابر بن عبد الله.(23/138)
كَالشَّجَرِ وَالْحَشِيشِ فَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الصَّعِيدُ هُوَ التُّرَابُ، كَمَا نُقِل عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: (الصَّعِيدُ: تُرَابُ الْحَرْثِ، وَالطَّيِّبُ: الطَّاهِرُ) وَالْمُرَادُ بِالْحَرْثِ أَرْضُ الزِّرَاعَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالرَّمَادِ وَلَوْ كَانَ طَاهِرًا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِتُرَابٍ وَلاَ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ (1) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ إِنْ دُقَّ الْخَزَفُ أَوِ الطِّينُ الْمُحْرَقُ لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ بِهِ كَذَلِكَ، كَمَا لاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِأَجْزَاءِ الأَْرْضِ الْمَحْرُوقَةِ لأَِنَّ الطَّبْخَ أَخْرَجَهَا عَنْ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ التُّرَابِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أُحْرِقَ تُرَابُ الأَْرْضِ مِنْ غَيْرِ مُخَالِطٍ حَتَّى صَارَ أَسْوَدَ جَازَ التَّيَمُّمُ بِهِ، لأَِنَّ الْمُتَغَيِّرَ لَوْنُ التُّرَابِ لاَ ذَاتُهُ، كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّ الرَّمَادَ إِذَا كَانَ مِنَ الْحَطَبِ لاَ يَجُوزُ بِهِ التَّيَمُّمُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْحَجَرِ يَجُوزُ (3) .
مَالِيَّةُ الرَّمَادِ وَتَقَوُّمُهُ:
5 - الْمَال مَا يَمِيل إِلَيْهِ الطَّبْعُ، وَيَجْرِي فِيهِ الْبَذْل
__________
(1) ابن عابدين 1 / 159، 161، والدسوقي 1 / 155، ومغني المحتاج 1 / 96، والمغني لابن قدامة 1 / 249، وكشاف القناع 1 / 172.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 156، والمغني لابن قدامة 1 / 249، ومغني المحتاج 1 / 96.
(3) مراقي الفلاح 1 / 64، وحاشية ابن عابدين 1 / 161.(23/139)
وَالْمَنْعُ، وَالْمُتَقَوِّمُ مَا يُبَاحُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا (1) . وَكُل طَاهِرٍ ذِي نَفْعٍ غَيْرُ مُحَرَّمٍ شَرْعًا مَالٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ مُتَقَوِّمٌ بِتَعْبِيرِ الْحَنَفِيَّةِ (2) . وَعَلَى ذَلِكَ فَالرَّمَادُ الطَّاهِرُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ مِمَّا يُبَاحُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا، وَقَدْ ثَبَتَ الاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي التَّدَاوِي فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الْمُتَقَدِّمِ ف / 3.
فَالْعُرْفُ جَارٍ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ خَالِصًا وَمَخْلُوطًا بِإِلْقَائِهِ فِي الأَْرْضِ لاِسْتِكْثَارِ الرِّيعِ فِي الزِّرَاعَةِ، وَنَحْوِهَا. وَلَمْ يَرِدِ النَّصُّ بِالنَّهْيِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ، فَكَانَ مُتَمَوَّلاً مُنْتَفَعًا بِهِ عِنْدَ النَّاسِ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ.
كَذَلِكَ الرَّمَادُ الْحَاصِل مِنْ حَرْقِ النَّجِسِ أَوِ الْمُتَنَجِّسِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِطَهَارَتِهِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّ الرَّمَادَ الْحَاصِل مِنِ احْتِرَاقِ النَّجِسِ طَاهِرٌ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ عِنْدَهُمْ (3) .
أَمَّا مَنْ يَقُول بِبَقَائِهِ نَجِسًا، وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِاخْتِلاَفِ أَصْل الرَّمَادِ. فَإِنْ كَانَ أَصْل الرَّمَادِ قَبْل احْتِرَاقِهِ نَجِسًا بِحَيْثُ لاَ يُعْتَبَرُ مَالاً مُتَقَوِّمًا فِي الشَّرْعِ، كَالْخَمْرِ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م126، 127، وابن عابدين 4 / 100.
(2) الزيلعي 4 / 126، والدسوقي 3 / 10، والقليوبي 2 / 157، وكشاف القناع 3 / 152.
(3) المراجع السابقة، والبناية على الهداية 9 / 328.(23/139)
وَالْخِنْزِيرِ، وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَرَجِيعِ الآْدَمِيِّ وَنَحْوِهَا، وَكَالْكَلْبِ وَالْحَشَرَاتِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ الَّتِي لاَ نَفْعَ فِيهَا عِنْدَ الْبَعْضِ مَعَ تَفْصِيلٍ فِيهَا، فَمَا يَتَخَلَّفُ مِنْ حَرْقِ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ مِنَ الرَّمَادِ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ مَالاً مُتَقَوِّمًا عِنْدَهُمْ لأَِنَّ الْمُتَخَلِّفَ مِنَ النَّجَاسَةِ جُزْءٌ مِنْهَا، وَالْحَرْقُ لاَ يَجْعَلُهُ شَيْئًا آخَرَ (1) .
قَال الدَّرْدِيرُ: النَّجَاسَةُ إِذَا تَغَيَّرَتْ أَعْرَاضُهَا لاَ تَتَغَيَّرُ عَنِ الْحُكْمِ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ عَمَلاً بِالاِسْتِصْحَابِ (2) . (ر: بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ف 7 - 12) .
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 230، وابن عابدين 4 / 103، والبدائع 1 / 85، 5 / 140، وجواهر الإكليل 1 / 9، والدسوقي 1 / 57، 58، وحاشية القليوبي 2 / 257، والمغني لابن قدامة 1 / 72، وكشاف القناع 1 / 186، 3 / 156.
(2) الشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 57، 58.(23/140)
رَمَضَان
التَّعْرِيفُ:
1 - رَمَضَانُ اسْمٌ لِلشَّهْرِ الْمَعْرُوفِ، قِيل فِي تَسْمِيَتِهِ: إِنَّهُمْ لَمَّا نَقَلُوا أَسْمَاءَ الشُّهُورِ مِنَ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ سَمَّوْهَا بِالأَْزْمِنَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا، فَوَافَقَ هَذَا الشَّهْرُ أَيَّامَ رَمْضِ الْحَرِّ، فَسُمِّيَ بِذَلِكَ (1) .
ثُبُوتُ شَهْرِ رَمَضَانَ:
2 - يَثْبُتُ شَهْرُ رَمَضَانَ بِرُؤْيَةِ هِلاَلِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ يَثْبُتُ بِإِكْمَال عِدَّةِ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَقَل مَنْ تَثْبُتُ الرُّؤْيَةُ بِشَهَادَتِهِمْ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى ثُبُوتِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِرُؤْيَةِ عَدْلٍ وَاحِدٍ.
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ اعْتِبَارَ رُؤْيَةِ عَدْلٍ وَاحِدٍ بِكَوْنِ السَّمَاءِ غَيْرَ مُصْحِيَةٍ، بِأَنْ يَكُونَ فِيهَا عِلَّةٌ مِنْ غَيْمٍ أَوْ غُبَارٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ فَلاَ تَثْبُتُ الرُّؤْيَةُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ جَمْعٍ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ.
__________
(1) المصباح المنير، مختار الصحاح مادة (رمض) .(23/140)
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِثُبُوتِ الشَّهْرِ بِرُؤْيَةِ الْعَدْل، بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلاَل، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنِّي رَأَيْتُ الْهِلاَل - يَعْنِي رَمَضَانَ - قَال: أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟ أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: نَعَمْ. قَال: يَا بِلاَل، أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنْ يَصُومُوا غَدًا (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ شَهْرُ رَمَضَانَ إِلاَّ بِرُؤْيَةِ عَدْلَيْنِ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَارِثِ الْجَدَلِيِّ قَال: إِنَّ أَمِيرَ مَكَّةَ - الْحَارِثَ بْنَ حَاطِبٍ - قَال: عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَنْسُكَ لِلرُّؤْيَةِ، فَإِنْ لَمْ نَرَهُ وَشَهِدَ شَاهِدَا عَدْلٍ نَسَكْنَا بِشَهَادَتِهِمَا (3) . وَالإِْخْبَارُ بِرُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ كَوْنِهِ
__________
(1) حديث ابن عمر: " تراءى الناس الهلال ". أخرجه أبو داود (2 / 756 - 757 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 423 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه، ووافقه الذهبي. .
(2) حديث ابن عباس: " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم " أخرجه الترمذي (3 / 65 - ط الحلبي) والنسائي (4 / 132 - ط المكتبة التجارية) ورجحا إرساله.
(3) حديث: " الحارث بن حاطب ". أخرجه الدارقطني (2 / 167 - ط دار المحاسن) وصححه.(23/141)
رِوَايَةً أَوْ شَهَادَةً، فَمَنِ اعْتَبَرَهُ رِوَايَةً وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قُبِل فِيهِ قَوْل الْمَرْأَةِ. وَمَنِ اعْتَبَرَهُ شَهَادَةً وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَمْ يُقْبَل فِيهِ قَوْل الْمَرْأَةِ.
فَإِنْ لَمْ تُمْكِنْ رُؤْيَةُ الْهِلاَل وَجَبَ اسْتِكْمَال عِدَّةِ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا، وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَرِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ - وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ حَال بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سَحَابَةٌ، فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ اسْتِقْبَالاً (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ: لاَ تَصُومُوا قَبْل رَمَضَانَ، صُومُوا لِلرُّؤْيَةِ وَأَفْطِرُوا لِلرُّؤْيَةِ، فَإِنْ حَالَتْ دُونَهُ غَيَايَةٌ فَأَكْمِلُوا ثَلاَثِينَ (2) .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى هِيَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَلَمْ يُرَ الْهِلاَل لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ أُكْمِلَتْ عِدَّةُ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا، فَإِذَا كَانَ فِي السَّمَاءِ قَتَرٌ أَوْ غَيْمٌ وَلَمْ يُرَ الْهِلاَل، قُدِّرَ شَعْبَانُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَصِيمَ يَوْمُ الثَّلاَثِينَ (يَوْمُ الشَّكِّ) احْتِيَاطًا بِنِيَّةِ رَمَضَانَ، وَاسْتَدَلُّوا
__________
(1) حديث ابن عباس: " صوموا لرؤيته ". أخرجه النسائي (4 / 136 - ط المكتبة التجارية) والحاكم (1 / 425 - ط دائرة المعارف العثمانية) واللفظ للنسائي، وصححه الحاكم. ووافقه الذهبي.
(2) حديث: " لا تصوموا قبل رمضان، صوموا للرؤية. . " أخرجه النسائي (4 / 136 - ط المكتبة التجارية) والترمذي (3 / 63 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".(23/141)
بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ (1) وَفَسَّرُوا قَوْلَهُ: فَاقْدُرُوا لَهُ أَيْ ضَيِّقُوا لَهُ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَل شَعْبَانُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْحِسَابِ فِي إِثْبَاتِ شَهْرِ رَمَضَانَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّنَا لَمْ نُتَعَبَّدْ إِلاَّ بِالرُّؤْيَةِ.
وَخَالَفَ فِي هَذَا بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (رُؤْيَةُ الْهِلاَل، وَتَنْجِيم) .
اخْتِلاَفُ مَطَالِعِ هِلاَل رَمَضَانَ:
3 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ فِي إِثْبَاتِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِذَا ثَبَتَ رُؤْيَةُ هِلاَل رَمَضَانَ فِي بَلَدٍ لَزِمَ الصَّوْمُ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْبِلاَدِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ (2) وَهُوَ خِطَابٌ لِلأُْمَّةِ كَافَّةً.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اعْتِبَارُ اخْتِلاَفِ
__________
(1) حديث: " إذا رأيتموه فصوموا ". أخرجه مسلم (2 / 760 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " صوموا لرؤيته ". تقدم تخريجه ف2.(23/142)
الْمَطَالِعِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (رُؤْيَةِ الْهِلاَل، وَمَطَالِعَ) .
4 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ فِي رُؤْيَةِ هِلاَل شَوَّالٍ، وَبِهِ يَنْتَهِي رَمَضَانُ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا إِلاَّ أَبُو ثَوْرٍ، فَقَال: يُقْبَل قَوْل الْوَاحِدِ. وَدَلِيل اعْتِبَارِ شَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلاَل - هِلاَل رَمَضَانَ - وَكَانَ لاَ يُجِيزُ عَلَى شَهَادَةِ الإِْفْطَارِ إِلاَّ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ (1) .
وَقِيَاسًا عَلَى بَاقِي الشَّهَادَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مَالاً، وَلاَ يُقْصَدُ مِنْهَا الْمَال، كَالْقِصَاصِ وَاَلَّتِي يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَال غَالِبًا، وَلأَِنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى هِلاَلٍ لاَ يَدْخُل بِهَا فِي الْعِبَادَةِ، فَلَمْ تُقْبَل فِيهَا إِلاَّ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ كَسَائِرِ الشُّهُودِ (2) .
خَصَائِصُ شَهْرِ رَمَضَانَ:
يَخْتَصُّ شَهْرُ رَمَضَانَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ بِجُمْلَةٍ مِنَ الأَْحْكَامِ وَالْفَضَائِل:
__________
(1) حديث ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة رجل واحد ". أخرجه الدارقطني (2 / 156 - ط دار المحاسن) وقال: تفرد به حفص بن عمر الأبلي أبو إسماعيل، وهو ضعيف الحديث.
(2) الاختيار 1 / 129 - 130، كشاف القناع 2 / 301 - 305، المغني 3 / 159، المجموع 6 / 273، 277 - 280، حاشية ابن عابدين 2 / 92، حاشية الدسوقي 1 / 509 - 512، الخرشي 2 / 234.(23/142)
الأُْولَى: نُزُول الْقُرْآنِ فِيهِ:
5 - نَزَل الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَفِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْهُ عَلَى التَّعْيِينِ. ثُمَّ نَزَل مُفَصَّلاً بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ فِي ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (1) وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (2) .
وَقَدْ جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ مُجَاهِدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلُهُ: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ، لَيْسَ فِي تِلْكَ الشُّهُورِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ ". وَوَرَدَ مِثْلُهُ عَنْ قَتَادَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ كَثِيرٍ (3) .
الثَّانِيَةُ: وُجُوبُ صَوْمِهِ:
6 - صَوْمُ رَمَضَانَ أَحَدُ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ الْخَمْسَةِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: بُنِيَ الإِْسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ،
__________
(1) سورة البقرة / 185.
(2) سورة القدر / 1.
(3) تفسير ابن كثير 1 / 380، 7 / 332 - ط دار الأندلسي / بيروت.(23/143)
وَصَوْمِ رَمَضَانَ (1) . وَدَل الْكِتَابُ الْكَرِيمُ عَلَى وُجُوبِ صَوْمِهِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وقَوْله تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (3) . الآْيَةَ. وَفَرْضِيَّةُ صَوْمِهِ مِمَّا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الأُْمَّةُ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْم) .
الثَّالِثَةُ: فَضْل الصَّدَقَةِ فِيهِ:
7 - دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ فِي رَمَضَانَ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ، مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيل، وَكَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ يَلْقَاهُ كُل لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ (4) . قَال ابْنُ حَجَرٍ
__________
(1) حديث: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 49 - ط السلفية) ومسلم (1 / 45 - ط الحلبي) .
(2) سورة البقرة / 183
(3) سورة البقرة / 185.
(4) حديث: " كان أجود الناس بالخير ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 116 - ط السلفية) .(23/143)
وَالْجُودُ فِي الشَّرْعِ إِعْطَاءُ مَا يَنْبَغِي لِمَنْ يَنْبَغِي، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَأَيْضًا رَمَضَانُ مَوْسِمُ الْخَيْرَاتِ، لأَِنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِيهِ زَائِدَةٌ عَلَى غَيْرِهِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْثِرُ مُتَابَعَةَ سُنَّةِ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ (1) .
الرَّابِعَةُ: أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ:
8 - فَضَّل اللَّهُ تَعَالَى رَمَضَانَ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَفِي بَيَانِ مَنْزِلَةِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ نَزَلَتْ سُورَةُ الْقَدْرِ وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَل فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ.
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (2) ".
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ) .
__________
(1) فتح الباري 1 / 31، 4 / 116.
(2) حديث: " من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 115 - ط السلفية) .(23/144)
الْخَامِسَةُ: صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ:
9 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى سُنِّيَّةِ قِيَامِ لَيَالِيِ رَمَضَانَ، وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقِيَامِ رَمَضَانَ صَلاَةُ التَّرَاوِيحِ يَعْنِي أَنَّهُ يَحْصُل الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِيَامِ بِصَلاَةِ التَّرَاوِيحِ (1) . وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْل قِيَامِ لَيَالِيِ رَمَضَانَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْيَاءِ اللَّيْل) وَمُصْطَلَحِ: (صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ) .
السَّادِسَةُ: الاِعْتِكَافُ فِيهِ:
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الاِعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَْوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ (3) .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَْوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ، فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إِذَا
__________
(1) فتح الباري 4 / 251.
(2) حديث: " من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 250 - ط السلفية) ومسلم (1 / 523 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 271 - ط السلفية) ومسلم (2 / 831 - ط الحلبي) .(23/144)
كَانَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنِ اعْتِكَافِهِ قَال: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الأَْوَاخِرَ. الْحَدِيثَ (1) .
وَيُرَاجَعُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (اعْتِكَاف 5 / 207) .
السَّابِعَةُ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي رَمَضَانَ وَالذِّكْرُ:
11 - يُسْتَحَبُّ فِي رَمَضَانَ اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا مُدَارَسَةُ الْقُرْآنِ وَكَثْرَةُ تِلاَوَتِهِ، وَتَكُونُ مُدَارَسَةُ الْقُرْآنِ بِأَنْ يَقْرَأَ عَلَى غَيْرِهِ وَيَقْرَأَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ، وَدَلِيل الاِسْتِحْبَابِ أَنَّ جِبْرِيل كَانَ يَلْقَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُل لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ (2) .
وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مُسْتَحَبَّةٌ مُطْلَقًا، وَلَكِنَّهَا فِي رَمَضَانَ آكَدُ (3) .
الثَّامِنَةُ: مُضَاعَفَةُ ثَوَابِ الأَْعْمَال الصَّالِحَةِ فِي رَمَضَانَ:
12 - تَتَأَكَّدُ الصَّدَقَةُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، لِحَدِيثِ
__________
(1) حديث أبي سعيد: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأوسط من رمضان ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 271 - ط السلفية) .
(2) حديث: " أن جبريل كان يلقى النبي صلى الله عليه وسلم في كل ليلة من رمضان ". تقدم تخريجه ف / 7.
(3) روضة الطالبين 2 / 368، أسنى المطالب 1 / 420، كشاف القناع 2 / 332.(23/145)
ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ؛ لأَِنَّهُ أَفْضَل الشُّهُورِ؛ وَلأَِنَّ النَّاسَ فِيهِ مَشْغُولُونَ بِالطَّاعَةِ فَلاَ يَتَفَرَّغُونَ لِمَكَاسِبِهِمْ، فَتَكُونُ الْحَاجَةُ فِيهِ أَشَدَّ، وَلِتَضَاعُفِ الْحَسَنَاتِ بِهِ.
قَال إِبْرَاهِيمُ: تَسْبِيحَةٌ فِي رَمَضَانَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ تَسْبِيحَةٍ فِيمَا سِوَاهُ (1) .
التَّاسِعَةُ: تَفْطِيرُ الصَّائِمِ:
13 - لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْل أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا (2) .
الْعَاشِرَةُ: فَضْل الْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ:
14 - الْعُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ (3) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِل حَجَّةً (4) .
__________
(1) كشاف القناع 2 / 332، أسنى المطالب 1 / 406
(2) حديث: " من فطر صائمًا. . . " أخرجه الترمذي (3 / 162 - ط الحلبي) من حديث زيد بن خالد الجهني، وقال: " حسن صحيح ".
(3) كشاف القناع 2 / 520، حاشية ابن عابدين 2 / 151، أسنى المطالب 1 / 458.
(4) حديث: " عمرة في رمضان تعدل حجة ". أخرجه أحمد (1 / 308 ط المكتب الإسلامي) عن ابن عباس وأصله في الصحيحين.(23/145)
تَرْكُ التَّكَسُّبِ فِي رَمَضَانَ لِلتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الاِكْتِسَابَ فَرْضٌ لِلْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ بِقَدْرِ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيُّهُمَا أَفْضَل: الاِشْتِغَال بِالْكَسْبِ أَفْضَل، أَمِ التَّفَرُّغُ لِلْعِبَادَةِ؟ .
فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّ الاِشْتِغَال بِالْكَسْبِ أَفْضَل؛ لأَِنَّ مَنْفَعَةَ الاِكْتِسَابِ أَعَمُّ، فَمَنِ اشْتَغَل بِالزِّرَاعَةِ - مَثَلاً - عَمَّ نَفْعُ عَمَلِهِ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنِ اشْتَغَل بِالْعِبَادَةِ نَفَعَ نَفْسَهُ فَقَطْ.
وَبِالْكَسْبِ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ كَالْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الأَْرْحَامِ وَالإِْحْسَانِ إِلَى الأَْقَارِبِ وَالأَْجَانِبِ، وَفِي التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ لاَ يَتَمَكَّنُ إِلاَّ مِنْ أَدَاءِ بَعْضِ الأَْنْوَاعِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ.
وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الاِشْتِغَال بِالْعِبَادَةِ أَفْضَل احْتَجَّ بِأَنَّ الأَْنْبِيَاءَ وَالرُّسُل عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا اشْتَغَلُوا بِالْكَسْبِ فِي عَامَّةِ الأَْوْقَاتِ، وَكَانَ اشْتِغَالُهُمْ بِالْعِبَادَةِ أَكْثَرُ، فَيَدُل هَذَا عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الاِشْتِغَال بِالْعِبَادَةِ؛ لأَِنَّهُمْ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانُوا يَخْتَارُونَ لأَِنْفُسِهِمْ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ.
وَعَلَيْهِ فَمَنْ مَلَكَ مَا يَكْفِي حَاجَتَهُ فِي رَمَضَانَ كَانَ الأَْفْضَل فِي حَقِّهِ التَّفَرُّغَ لِلْعِبَادَةِ طَلَبًا لِلْفَضْل فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَإِلاَّ كَانَ الأَْفْضَل فِي حَقِّهِ التَّكَسُّبَ حَتَّى لاَ يَتْرُكَ مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْصِيل مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ.(23/146)
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ جَابِرٍ الْخَيْوَانِيِّ قَال: شَهِدْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَتَاهُ مَوْلًى لَهُ فَقَال: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُقِيمَ هَذَا الشَّهْرَ هَاهُنَا - يَعْنِي رَمَضَانَ - قَال لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: هَل تَرَكْتَ لأَِهْلِكَ مَا يَقُوتُهُمْ؟ قَال: لاَ، قَال: أَمَا لاَ، فَارْجِعْ فَدَعْ لَهُمْ مَا يَقُوتُهُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ (1) وَقَدْ تَرْجَمَ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِهِ الْجَامِعِ لأَِخْلاَقِ الرَّاوِي وَآدَابِ السَّامِعِ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: ذِكْرُ مَا يَجِبُ عَلَى طَالِبِ الْحَدِيثِ مِنْ الاِحْتِرَافِ لِلْعِيَال وَاكْتِسَابِ الْحَلاَل (2) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اكْتِسَاب) .
__________
(1) حديث: " كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت ". أخرجه أحمد (2 / 195 - ط الميمنية) والخطيب البغدادي في الجامع (1 / 97 - ط مكتبة المعارف) والسياق للخطيب، وذكر الذهبي في الميزان (4 / 350 - ط الحلبي) أن راويه عن عبد الله بن عمرو فيه جهالة، ولكن الحديث صحيح بلفظ: " كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته ". أخرجه مسلم (2 / 692 - ط الحلبي) .
(2) الجامع للخطيب البغدادي 1 / 97، الكسب للشيباني ص44، 48.(23/146)
رَمَق
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّمَقُ: لُغَةً بَقِيَّةُ الرُّوحِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ الْقُوَّةُ، وَقِيل: هُوَ آخِرُ النَّفَسِ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَتَيْتُ أَبَا جَهْلٍ وَبِهِ رَمَقٌ (1) .
وَرَمَقَهُ يَرْمُقُهُ رَمَقًا: أَيْ أَطَال النَّظَرَ إِلَيْهِ، وَالرُّمْقَةُ الْقَلِيل مِنَ الْعَيْشِ الَّذِي يَمْسِكُ الرَّمَقَ، وَعَيْشٌ مُرْمَقٌ أَيْ قَلِيلٌ، وَأَرْمَقَ الْعَيْشُ أَيْ ضَعُفَ، وَمِنْ كَلاَمِهِمْ: مَوْتٌ لاَ يَجُرُّ إِلَى عَارٍ خَيْرٌ مِنْ عَيْشٍ فِي رَمَاقٍ، وَيُطْلَقُ الرَّمَقُ عَلَى الْقُوَّةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: يَأْكُل الْمُضْطَرُّ مِنْ لَحْمِ الْمَيْتَةِ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ أَيْ مَا يَمْسِكُ بِهِ قُوَّتَهُ وَيَحْفَظُهَا، وَالْمُرَامِقُ: الَّذِي لَمْ يَبْقَ فِيهِ إِلاَّ الرَّمَقُ (2) .
وَلاَ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) حديث: " أتيت أبا جهل وبه رمق ". أخرجه البخاري (الفتح 7 / 293 - ط السلفية) .
(2) لسان العرب والمصباح المنير، مادة (رمق) .(23/147)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرَّمَقِ:
أ - التَّوْبَةُ فِي الرَّمَقِ الأَْخِيرِ:
2 - بَحَثَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ تَوْبَةِ مَنْ كَانَ فِي الرَّمَقِ الأَْخِيرِ مِنْ حَيَاتِهِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل تَوْبَةُ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، وَشَاهَدَ الأَْحْوَال الَّتِي لاَ يُمْكِنُ مَعَهَا الرُّجُوعُ إِلَى الدُّنْيَا، وَعَايَنَ مَلَكَ الْمَوْتِ وَانْقَطَعَ حَبْل الرَّجَاءِ مِنْهُ؛ لأَِنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالآْخِرَةِ.
وَلأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّوْبَةِ عَزْمُهُ عَلَى أَلاَّ يَعُودَ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ تَمَكُّنِ التَّائِبِ مِنَ الذَّنْبِ وَبَقَاءِ أَوَانِ الاِخْتِيَارِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَال إِنِّي تُبْتُ الآْنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} (1) .
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل يَقْبَل تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ (2) . وَقَال بَعْضُهُمْ: تَصْلُحُ تَوْبَتُهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ لأَِنَّ الرَّجَاءَ بَاقٍ وَيَصِحُّ مِنْهُ النَّدَمُ وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْفِعْل (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ
__________
(1) سورة النساء / 18.
(2) حديث: " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ". أخرجه الترمذي (5 / 547 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر، وقال: " حديث حسن غريب ".
(3) انظر تفسير القرطبي 5 / 93، 7 / 148، وروح المعاني 2 / 239، 3 / 63، والفواكه الدواني 1 / 88، ودليل الفالحين 1 / 88، مغني المحتاج 4 / 12.(23/147)
الَّذِي يَقْبَل التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (1) الآْيَةَ وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَوْبَة، إِيَاس)
ب - الْقَوَدُ عَلَى مَنْ قَتَل شَخْصًا فِي الرَّمَقِ الأَْخِيرِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَتْ جِنَايَةٌ مِنْ شَخْصٍ، فَأَوْصَل إِنْسَانًا إِلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ إِبْصَارٌ وَنُطْقٌ وَحَرَكَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ، ثُمَّ جَنَى عَلَيْهِ آخَرُ بِفِعْلٍ مُزْهِقٍ، فَالْقَاتِل هُوَ الأَْوَّل، وَيُعَزَّرُ الثَّانِي لأَِنَّهُ اعْتَدَى عَلَى حُرْمَةِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ جَنَى الثَّانِي قَبْل وُصُول الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ بِفِعْلٍ مُزْهِقٍ كَحَزِّ رَقَبَةٍ، فَالْقَاتِل هُوَ الثَّانِي، وَعَلَى الأَْوَّل قِصَاصُ الْعُضْوِ أَوْ دِيَتُهُ.
وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَرْحُ الأَْوَّل يُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ لاَ مَحَالَةَ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَصِل إِلَى الرَّمَقِ الأَْخِيرِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ، فَضَرَبَ الثَّانِي عُنُقَهُ، فَالْقَاتِل هُوَ الثَّانِي أَيْضًا لأَِنَّهُ فَوَّتَ حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً، بِدَلِيل: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا جُرِحَ دَخَل عَلَيْهِ الطَّبِيبُ فَسَقَاهُ لَبَنًا فَخَرَجَ صَلْدًا أَبْيَضَ (أَيْ يَنْصَبُّ) فَعَلِمَ الطَّبِيبُ أَنَّهُ مَيِّتٌ فَقَال: اعْهَدْ إِلَى النَّاسِ، فَعَهِدَ إِلَيْهِمْ وَأَوْصَى وَجَعَل الْخِلاَفَةَ إِلَى أَهْل الشُّورَى، فَقَبِل الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَهْدَهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى قَبُول وَصَايَاهُ (2) .
__________
(1) سورة الشورى / 25.
(2) حديث: " مقتل عمر " أخرجه البخاري (الفتح 7 / 61 - ط السلفية) ، وأحمد (1 / 42 ط الميمنية) وهو ملفق منهما.(23/148)
أَمَّا لَوْ كَانَ وُصُول الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِلَى الرَّمَقِ الأَْخِيرِ بِسَبَبِ مَرَضٍ لاَ بِسَبَبِ جِنَايَةٍ، بِأَنْ كَانَ فِي حَالَةِ النَّزْعِ وَعَيْشُهُ عَيْشُ مَذْبُوحٍ، أَوْ بَدَتْ عَلَيْهِ مَخَايِل الْمَوْتِ، أَوْ قُتِل مَرِيضًا لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِل لأَِنَّ هَذِهِ الأُْمُورَ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهَا، وَقَدْ يُظَنُّ ذَلِكَ ثُمَّ يُشْفَى. وَلأَِنَّ الْمَرِيضَ لَمْ يَسْبِقْ فِيهِ فِعْلٌ يُحَال الْقَتْل وَأَحْكَامُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يُهْدَرَ الْفِعْل الثَّانِي (1) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص، دِيَة، وَقَتْل)
ج - سَدُّ الرَّمَقِ بِأَكْل مَا هُوَ مُحَرَّمٌ:
4 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُل مِنْ لَحْمِ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ، وَيَحْفَظُ بِهِ قُوَّتَهُ وَصِحَّتَهُ وَحَيَاتَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) وقَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَل السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} - إِلَى أَنْ قَال - {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3)
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 12، والمغني لابن قدامة 7 / 683.
(2) سورة البقرة / 173.
(3) سورة المائدة / 3.(23/148)
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ أَكْل هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مَوْتًا أَوْ ضَرَرًا كَبِيرًا مِنْ عَدَمِ الأَْكْل، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَأْكُل مِنْهُ هَل يَكْتَفِي بِسَدِّ الرَّمَقِ أَمْ يَشْبَعُ مِنْهُ، وَهَل هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ أَمْ لاَ؟ (1)
وَتَفَاصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَرُورَة) .
د - ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الَّذِي وَصَل إِلَى الرَّمَقِ الأَْخِيرِ:
5 - الْحَيَاةُ الْمُسْتَقِرَّةُ عِنْدَ الذَّبْحِ شَرْطٌ لِحِل أَكْل الْمَذْبُوحِ سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْحَيَاةُ حَقِيقِيَّةً أَوْ مَظْنُونَةً بِعَلاَمَاتٍ وَقَرَائِنَ.
فَإِنْ مَرِضَ الْحَيَوَانُ أَوْ جَاعَ فَذُبِحَ وَقَدْ صَارَ فِي آخِرِ رَمَقٍ مِنَ الْحَيَاةِ حَل أَكْلُهُ لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ يُحَال عَلَيْهِ الْهَلاَكُ، وَلَوْ مَرِضَ بِأَكْل نَبَاتٍ مُضِرٍّ حَتَّى صَارَ فِي آخِرِ رَمَقٍ فَذَبَحَهُ لَمْ يَحِل أَكْلُهُ لِكَوْنِ هَذَا سَبَبًا يُحَال عَلَيْهِ الْهَلاَكُ (2) .
وَتَفَاصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ذَبَائِح) .
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 277، ومغني المحتاج 4 / 306، والمغني لابن قدامة 8 / 595.
(2) البدائع 5 / 50، ومغني المحتاج 4 / 271.(23/149)
رَمَل
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّمَل - بِتَحْرِيكِ الْمِيمِ -: الْهَرْوَلَةُ. رَمَل يَرْمُل رَمَلاً وَرَمَلاَنًا. كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ.
وَأَحْسَنُ بَيَانٍ لِمَعْنَى الرَّمَل قَوْل صَاحِبِ النِّهَايَةِ: رَمَل يَرْمُل رَمَلاً وَرَمَلاَنًا: إِذَا أَسْرَعَ فِي الْمَشْيِ وَهَزَّ كَتِفَيْهِ (1) ".
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الرَّمَل سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ، يُسَنُّ فِي الأَْشْوَاطِ الثَّلاَثَةِ الأُْولَى مِنْ كُل طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَسُنِّيَّةُ الرَّمَل هَذِهِ خَاصَّةٌ بِالرِّجَال فَقَطْ دُونَ النِّسَاءِ (2) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (طَوَاف) .
رَمْي
__________
(1) انظر مادة (رمل) في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير الجزري، والقاموس المحيط للفيروزآبادي، ومختار الصحاح للرازي وغيرها.
(2) انظر المراجع الفقهية والمسلك المتقسط للقاري شرح لباب المناسك للسندي طبع مصر ص 108، ومختصر خليل بشرحه منح الجليل للشيخ محمد عليش تصوير بيروت 1 / 484، ومغني المحتاج شرح المنهاج للشربيني الخطيب تصوير بيروت 1 / 487، والمغني لابن قدامة طبع دار المنار سنة 1367 هـ ج3 ص 374 - 376.(23/149)
رَمْي
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّمْيُ لُغَةً: يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْقَذْفِ، وَبِمَعْنَى الإِْلْقَاءِ، يُقَال: رَمَيْتُ الشَّيْءَ وَبِالشَّيْءِ، إِذَا قَذَفْتَهُ، وَرَمَيْتُ الشَّيْءَ مِنْ يَدَيَّ أَيْ: أَلْقَيْتُهُ فَارْتَمَى، وَرَمَى بِالشَّيْءِ أَيْضًا أَلْقَاهُ، كَأَرْمَى، يُقَال: أَرْمَى الْفَرَسُ بِرَاكِبِهِ إِذَا أَلْقَاهُ.
وَرَمَى السَّهْمَ عَنِ الْقَوْسِ وَعَلَيْهَا، لاَ بِهَا، رَمْيًا وَرِمَايَةً. وَلاَ يُقَال: رَمَيْتُ بِالْقَوْسِ إِلاَّ إِذَا أَلْقَيْتَهَا مِنْ يَدِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ بِمَعْنَى رَمَيْتُ عَنْهَا. وَرَمَى فُلاَنٌ فُلاَنًا، أَيْ قَذَفَهُ بِالْفَاحِشَةِ (1)
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} (2) .
الرَّمْيُ اصْطِلاَحًا:
2 - اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ الرَّمْيَ فِي الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ السَّابِقَةِ وَمِنْهَا رَمْيُ الْجِمَارِ الَّذِي هُوَ مَنْسَكٌ وَاجِبٌ
__________
(1) تهذيب اللغة للأزهري، والصحاح للجوهري، والقاموس المحيط للفيروزآبادي، ولسان العرب لابن منظور.
(2) سورة النور / 4.(23/150)
مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ. وَالرَّمْيُ بِالسِّهَامِ وَنَحْوِهَا، وَالرَّمْيُ بِمَعْنَى الْقَذْفِ.
(أَوَّلاً)
رَمْيُ الْجِمَارِ
3 - رَمْيُ الْجِمَارِ، هُوَ رَمْيُ الْحَصَيَاتِ الْمُعَيَّنَةِ الْعَدَدِ فِي الأَْمَاكِنِ الْخَاصَّةِ بِالرَّمْيِ فِي مِنًى (الْجَمَرَاتِ) .
وَلَيْسَتِ الْجَمْرَةُ هِيَ الشَّاخِصُ (الْعَمُودُ) الَّذِي يُوجَدُ فِي مُنْتَصَفِ الْمَرْمَى، بَل الْجَمْرَةُ هِيَ الْمَرْمَى الْمُحِيطُ بِذَلِكَ الشَّاخِصِ، فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ.
4 - وَالْجَمَرَاتُ الَّتِي تُرْمَى ثَلاَثَةٌ، هِيَ:
أ - الْجَمْرَةُ الأُْولَى: وَتُسَمَّى الصُّغْرَى، أَوِ الدُّنْيَا، وَهِيَ أَوَّل جَمْرَةٍ بَعْدَ مَسْجِدِ الْخَيْفِ بِمِنًى، سُمِّيَتْ " دُنْيَا " مِنَ الدُّنُوِّ؛ لأَِنَّهَا أَقْرَبُ الْجَمَرَاتِ إِلَى مَسْجِدِ الْخَيْفِ.
ب - الْجَمْرَةُ الثَّانِيَةُ: وَتُسَمَّى الْوُسْطَى، بَعْدَ الْجَمْرَةِ الأُْولَى، وَقَبْل جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ.
ج - جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ: وَهِيَ الثَّالِثَةُ، وَتُسَمَّى أَيْضًا " الْجَمْرَةُ الْكُبْرَى " وَتَقَعُ فِي آخِرِ مِنًى تُجَاهَ مَكَّةَ، وَلَيْسَتْ مِنْ مِنًى. (ر: مِنًى) .
وَتُرْمَى هَذِهِ الْجَمَرَاتُ كُلُّهَا مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِرَمْيِ الْجِمَارِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ وَاجِبٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ. (ر: حَجّ ف 153 - 165) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.(23/150)
أَمَّا السُّنَّةُ فَالأَْحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:
حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَال: لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْل أَنْ أَذْبَحَ؟ قَال: اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ فَجَاءَ آخَرُ فَقَال: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْل أَنْ أَرْمِيَ؟ قَال: ارْمِ وَلاَ حَرَجَ (1) الْحَدِيثَ، فَقَدْ أَمَرَ بِالرَّمْيِ، وَالأَْمْرُ لِلْوُجُوبِ.
وَكَذَلِكَ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الأَْحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الصَّحِيحَةِ (2) ، وَقَدْ قَال: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ (3) .
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَوْل الْكَاسَانِيِّ: إِنَّ الأُْمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى وُجُوبِهِ، فَيَكُونُ وَاجِبًا (4) .
وَمَا رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ أَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لإِِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ الْعُلَمَاءُ بُطْلاَنَهُ.
شُرُوطُ صِحَّةِ رَمْيِ الْجِمَارِ:
6 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ رَمْيِ الْجِمَارِ شُرُوطٌ هِيَ:
__________
(1) حديث: " ارم ولا حرج ". أخرجه البخاري (الفتح1 / 180 - ط السلفية) . ومسلم (2 / 948 - ط الحلبي) .
(2) منها حديث جابر الطويل: " في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم ". أخرجه مسلم في الحج (باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم) (2 / 886 - 892 - ط الحلبي) ومنها حديث ابن عمر المتفق عليه الآتي.
(3) حديث: " خذوا عني مناسككم ". أخرجه مسلم (2 / 943 - ط الحلبي) بلفظ: " لتأخذوا مناسككم ".
(4) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين الكاساني 2 / 136 طبع شركة المطبوعات العلمية سنة 1327 هـ.(23/151)
أ - سَبْقُ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ:
لأَِنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ كُل أَعْمَال الْحَجِّ.
ب - سَبْقُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ:
لأَِنَّهُ رُكْنٌ إِذَا فَاتَ فَاتَ الْحَجُّ، وَالرَّمْيُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ.
ج - أَنْ يَكُون الْمَرْمِيُّ حَجَرًا:
فَلاَ يَصِحُّ الرَّمْيُ بِالطِّينِ، وَالْمَعَادِنِ، وَالتُّرَابِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَيَصِحُّ بِالْمَرْمَرِ، وَحَجَرِ النُّورَةِ أَيِ الْجِصِّ قَبْل طَبْخِهِ، وَيُجْزِئُ حَجَرُ الْحَدِيدِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّهُ حَجَرٌ فِي هَذِهِ الْحَال، إِلاَّ أَنَّ فِيهِ حَدِيدًا كَامِنًا يُسْتَخْرَجُ بِالْعِلاَجِ، وَفِيمَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الْفُصُوصُ كَالْفَيْرُوزَجِ، وَالْيَاقُوتِ، وَالْعَقِيقِ، وَالزُّمُرُّدِ، وَالْبِلَّوْرِ، وَالزَّبَرْجَدِ وَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَصَحُّهُمَا الإِْجْزَاءُ لأَِنَّهَا أَحْجَارٌ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْمَرْمِيِّ أَنْ
__________
(1) الإيضاح في مناسك الحج للنووي بحاشية الهيثمي ص 360 طبع دار بنه للطباعة بمصر، والمجموع شرح المهذب للنووي 8 / 143 طبع مطبعة العاصمة وصرح ص 145 بكراهة الرمي بالحجر المأخوذ من الحلي، ونهاية المحتاج 2 / 433 - 434، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 50، وشرح الرسالة لأبي الحسن وحاشية العدوي 1 / 478 طبع دار إحياء الكتب العربية، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب والتاج والإكليل للمواق بهامشه 3 / 133 - 134، والمغني لابن قدامة 3 / 425 طبع دار المنار، والفروع لابن مفلح 3 / 510 - 511 تصوير عالم الكتب بيروت.(23/151)
يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمُ الرَّمْيُ بِالتُّرَابِ، وَالطِّينِ، وَالْجِصِّ، وَالْكُحْل، وَالْكِبْرِيتِ، وَالزَّبَرْجَدِ، وَالزُّمُرُّدِ، وَالْبِلَّوْرِ، وَالْعَقِيقِ، وَلاَ يَصِحُّ بِالْمَعَادِنِ، وَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الرَّمْيِ بِالْفَيْرُوزَجِ وَالْيَاقُوتِ: مَنَعَهُ الشَّارِحُونَ وَغَيْرُهُمْ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الرَّمْيِ بِالرَّمْيِ بِهِ اسْتِهَانَةً.
وَأَجَازَهُ غَيْرُهُمْ بِنَاءً عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ الاِشْتِرَاطِ (1) .
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِمَا ثَبَتَ مِنْ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ يَصِفُ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ: فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ - يُكَبِّرُ مَعَ كُل حَصَاةٍ مِنْهَا - مِثْل حَصَى الْخَذْفِ (2) .
__________
(1) الهداية وفتح القدير للكمال بن الهمام والعناية للبابرتي2 / 177 طبع مصطفى محمد، والبدائع 2 / 157 - 158، وشرح اللباب ص 166، والدر المختار وشروحه 2 / 246 - 247 طبع إستانبول دار الطباعة العامرة. أما ما ذكره بعض الحنفية من جواز الرمي بالبعرة إهانة للشيطان فهو خلاف المذهب كما نبهوا عليه. انظر شرح اللباب والدر بشرحه والحاشية ص 247، فهذا القول مخالف للإجماع، كذلك ما تفعله العامة من قذف النعال والأحذية وما شابه ذلك باطل مخالف للإجماع.
(2) حديث جابر: " في صفة رمي جمرة العقبة ". أخرجه مسلم (2 / 892 - ط الحلبي) .(23/152)
وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ: ارْمُوا الْجِمَارَ بِمِثْل حَصَى الْخَذْفِ وَفِي عَدَدٍ مِنْهَا أَنَّهُ قَال ذَلِكَ وَهُوَ وَاضِعٌ أُصْبُعَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى (1) .
قَال النَّوَوِيُّ: فَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَصَى، فَلاَ يَجُوزُ الْعُدُول عَنْهُ، وَالأَْحَادِيثُ الْمُطْلَقَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى (2) ".
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِالأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الأَْمْرِ بِالرَّمْيِ مُطْلَقَةً عَنْ صِفَةٍ مُقَيِّدَةٍ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْمِ وَلاَ حَرَجَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (3) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَالرَّمْيُ بِالْحَصَى مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الأَْفْضَلِيَّةِ، تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلاَئِل، لِمَا صَحَّ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمُطْلَقَ لاَ يُحْمَل عَلَى الْمُقَيَّدِ، بَل يَجْرِي الْمُطْلَقُ عَلَى إِطْلاَقِهِ، وَالْمُقَيَّدُ عَلَى تَقْيِيدِهِ مَا أَمْكَنَ، وَهَاهُنَا أَمْكَنَ بِأَنْ يُحْمَل الْمُطْلَقُ عَلَى الْجَوَازِ، وَالْمُقَيَّدُ عَلَى الأَْفْضَلِيَّةِ (4) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا: إِنَّ الْمَقْصُودَ فِعْل الرَّمْيِ، وَذَلِكَ يَحْصُل بِالطِّينِ، كَمَا يَحْصُل بِالْحَجَرِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا رَمَى بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ؛ لأَِنَّهُ يُسَمَّى نَثْرًا لاَ رَمْيًا (5) .
__________
(1) حديث: " ارموا الجمار بمثل حصى الخذف ". أخرجه أحمد (4 / 343 - ط الميمنية) من سنان بن سنة، وقال الهيثمي: " رجاله ثقات " مجمع الزوائد (3 / 258 - ط القدسي) .
(2) المجموع 8 / 151.
(3) حديث: " ارم ولا حرج ". سبق تخريجه ف / 5.
(4) بدائع الصنائع 2 / 158.
(5) الهداية 2 / 177.(23/152)
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ الأَْحْوَطَ فِي ذَلِكَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: إِنَّ أَكْثَرَ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّهَا أُمُورٌ تَعَبُّدِيَّةٌ، لاَ يُشْتَغَل بِالْمَعْنَى فِيهَا - أَيْ بِالْعِلَّةِ - وَالْحَاصِل أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُلاَحَظَ مُجَرَّدُ الرَّمْيِ، أَوْ مَعَ الاِسْتِهَانَةِ، أَوْ خُصُوصُ مَا وَقَعَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالأَْوَّل يَسْتَلْزِمُ الْجَوَازَ بِالْجَوَاهِرِ، وَالثَّانِي بِالْبَعْرَةِ وَالْخَشَبَةِ الَّتِي لاَ قِيمَةَ لَهَا، وَالثَّالِثُ بِالْحَجَرِ خُصُوصًا، فَلْيَكُنْ هَذَا أَوْلَى، لِكَوْنِهِ أَسْلَمَ، وَلِكَوْنِهِ الأَْصْل فِي أَعْمَال هَذِهِ الْمَوَاطِنِ، إِلاَّ مَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَعْيِينِهِ (1) .
أَمَّا صِفَةُ الْمَرْمِيِّ بِهِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الأَْحَادِيثِ أَنَّهُ مِثْل حَصَى الْخَذْفِ وَحَصَى الْخَذْفِ هِيَ الَّتِي يُخْذَفُ بِهَا، أَيْ تُرْمَى بِهَا الطُّيُورُ وَالْعَصَافِيرُ، بِوَضْعِ الْحَصَاةِ بَيْنَ أُصْبُعَيِ السَّبَّابَةِ وَالإِْبْهَامِ وَقَذْفِهَا.
وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي الرَّمْيِ أَنْ يَكُونَ بِمِثْل حَصَى الْخَذْفِ، فَوْقَ الْحِمَّصَةِ، وَدُونَ الْبُنْدُقَةِ، وَكَرِهُوا الرَّمْيَ بِالْحَجَرِ الْكَبِيرِ، وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - الرَّمْيَ بِالْحَجَرِ الصَّغِيرِ الَّذِي كَالْحِمَّصَةِ، مَعَ مُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ؛ لأَِنَّهُ رَمْيٌ بِالْحَجَرِ فَيُجْزِئُهُ. وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، بَل لاَ بُدَّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ.
__________
(1) فتح القدير الموضع السابق، وفيه توسع في مدلول الرمي والنثر.(23/153)
وَقِيل: لاَ يُجْزِئُ الرَّمْيُ إِلاَّ بِحَصًى كَحَصَى الْخَذْفِ، لاَ أَصْغَرَ وَلاَ أَكْبَرَ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَحْمَدَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهَذَا الْقَدْرِ، وَنَهَى عَنْ تَجَاوُزِهِ، وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ (1) .
د - أَنْ يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ بِالْحَصَيَاتِ السَّبْعِ مُتَفَرِّقَاتٍ:
وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً، فَلَوْ رَمَى حَصَاتَيْنِ مَعًا أَوِ السَّبْعَ جُمْلَةً، فَهِيَ حَصَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَرْمِيَ بِسِتٍّ سِوَاهَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذَاهِبِ.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ تَفْرِيقُ الأَْفْعَال فَيَتَقَيَّدُ بِالتَّفْرِيقِ الْوَارِدِ فِي السُّنَّةِ (2) .
هـ - وُقُوعُ الْحَصَى فِي الْجَمْرَةِ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا الْحَصَى:
وَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) قَال الشَّافِعِيُّ: الْجَمْرَةُ مُجْتَمَعُ الْحَصَى، لاَ مَا سَال مِنَ الْحَصَى، فَمَنْ أَصَابَ مُجْتَمَعَهُ أَجْزَأَهُ، وَمَنْ أَصَابَ سَائِلَهُ لَمْ يُجْزِهِ (3) .
__________
(1) المغني 3 / 425.
(2) شروح الهداية 2 / 176، ولباب المناسك وشرحه ص 164، ورد المحتار 2 / 246، وحاشية الدسوقي 2 / 50، وشرح الرسالة 1 / 478، والمغني 3 / 430، والفروع 3 / 512.
(3) المجموع 8 / 147، ونهاية المحتاج 2 / 434، ومغني المحتاج 1 / 507، والشرح الكبير 2 / 50، ومواهب الجليل 3 / 133 - 134، والمغني 3 / 429، والفروع 3 / 512.(23/153)
وَتَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: لَوْ رَمَاهَا فَوَقَعَتْ قَرِيبًا مِنَ الْجَمْرَةِ يَكْفِيهِ؛ لأَِنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، وَلَوْ وَقَعَتْ بَعِيدًا مِنْهَا لاَ يُجْزِيهِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ قُرْبُهُ إِلاَّ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ. قَال الْكَاسَانِيُّ: لأَِنَّ مَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ كَانَ فِي حُكْمِهِ، لِكَوْنِهِ تَبَعًا لَهُ (1) .
وَأَمَّا مِقْدَارُ الْمَسَافَةِ الْقَرِيبَةِ، فَقِيل: ثَلاَثَةُ أَذْرُعٍ فَمَا دُونَ، وَقِيل: ذِرَاعٌ فَأَقَل، وَهُوَ الَّذِي فَسَّرَهُ بِهِ الْمُحَقِّقُ كَمَال الدِّينِ بْنُ الْهُمَامِ، وَهُوَ أَحْوَطُ (2) .
و أَنْ يَقْصِدَ الْمَرْمَى وَيَقَعَ الْحَصَى فِيهِ بِفِعْلِهِ اتِّفَاقًا فِي ذَلِكَ:
فَلَوْ ضَرَبَ شَخْصٌ يَدَهُ فَطَارَتْ الْحَصَاةُ إِلَى الْمَرْمَى وَأَصَابَتْهُ لَمْ يَصِحَّ. كَذَلِكَ لَوْ رَمَى فِي الْهَوَاءِ فَوَقَعَ الْحَجَرُ فِي الْمَرْمَى لَمْ يَصِحَّ.
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ رَمَى الْحَصَاةَ فَانْصَدَمَتْ بِالأَْرْضِ خَارِجَ الْجَمْرَةِ، أَوْ بِمَحْمَلٍ فِي الطَّرِيقِ أَوْ ثَوْبِ إِنْسَانٍ مَثَلاً ثُمَّ ارْتَدَّتْ فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى اعْتَدَّ بِهَا لِوُقُوعِهَا فِي الْمَرْمَى بِفِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَنَةٍ. وَلَوْ حَرَّكَ صَاحِبُ الْمَحْمِل أَوِ الثَّوْبِ
__________
(1) الهداية 2 / 176، وشرح اللباب ص 164، والبدائع 2 / 138.
(2) فتح القدير 2 / 176، وانظر شرح اللباب الصفحة السابقة.(23/154)
فَنَفَضَهَا فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى لَمْ يَعْتَدَّ بِهَا (1) .
وَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (2) : لَيْسَ لَهَا إِلاَّ وَجْهٌ وَاحِدٌ، وَرَمْيُ كَثِيرِينَ مِنْ أَعْلاَهَا بَاطِلٌ، هُوَ خِلاَفُ كَلاَمِ الشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ، وَنَصُّهُ فِي الأُْمِّ: وَيَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَمِنْ حَيْثُ رَمَاهَا أَجْزَأَهُ (3) .
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ رَمْيُ خَلْقٍ كَثِيرٍ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَعْلاَهَا، وَلَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِالإِْعَادَةِ، وَلاَ أَعْلَنُوا بِالنِّدَاءِ بِذَلِكَ فِي النَّاسِ، وَكَأَنَّ وَجْهَ اخْتِيَارِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلرَّمْيِ مِنَ الْوَادِي أَنَّهُ يَتَوَقَّعُ الأَْذَى لِمَنْ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا رَمَوْا مِنْ أَعْلاَهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنَ النَّاسِ، فَيُصِيبُهُمُ الْحَصَى (4) .
__________
(1) على ذلك فلا معنى لتحرج البعض من الرمي من الطابق العلوي فإنه أولى بالجواز من هذه الصور التي ذكروها. كذلك الشأن في جمرة العقبة، فقد كانت ترمى من بطن الوادي المواجه لها اتباعًا للوارد، وكان كثير من الناس يرميها من فوق العقبة أي المرتفع الصخري الذي تستند إ والشرح الكبير وحاشيته 2 / 50، والإيضاح ص 357 - 358، والمجموع 8 / 146، والمغني 3 / 430، والفروع 3 / 511 و512، والهداية 1 / 174، وشرح الرسالة 1 / 478.
(2) كما نقل عنهم في نهاية المحتاج 2 / 434، ومغني المحتاج 1 / 508.
(3) الأم 2 / 213.
(4) فتح القدير 2 / 175.(23/154)
ز - تَرْتِيبُ الْجَمَرَاتِ فِي رَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْجَمْرَةِ الصُّغْرَى الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ.
وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) فَهَذَا التَّرْتِيبُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الرَّمْيِ.
فَلَوْ عَكَسَ التَّرْتِيبَ فَبَدَأَ مِنَ الْعَقَبَةِ ثُمَّ الْوُسْطَى ثُمَّ الصُّغْرَى وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَةُ رَمْيِ الْوُسْطَى وَالْعَقَبَةِ عِنْدَهُمْ لِيَتَحَقَّقَ التَّرْتِيبُ (1) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ، إِذَا أَخَل بِهِ يُسَنُّ لَهُ الإِْعَادَةُ. وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ (2) .
اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَتَّبَهَا كَذَلِكَ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُل حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يُسْهِل (3) ، فَيَقُومَ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلاً وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَال فَيَسْتَهِل وَيَقُومُ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلاً، وَيَدْعُو، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُومُ طَوِيلاً، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشيته 2 / 51، ومواهب الجليل 3 / 134، والإيضاح ص 405، ونهاية المحتاج 2 / 433، والمغني 3 / 452 - 453، والفروع 3 / 518.
(2) على ما اختاره أكثرهم ومحققوهم، بدائع الصنائع 2 / 139، وفتح القدير 2 / 183، وشرح اللباب ص 167، وانظر رواية القول بالوجوب في المبسوط 4 / 65 - 66، والمغني 3 / 452.
(3) . فَاسْتَدَل بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِ تَرْتِيبِ الْجَمَرَاتِ، كَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفَسَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ عَلَى سَبِيل السُّنِّيَّةِ، لاَ الْوُجُوبِ، وَاسْتَدَل لَهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ قَدَّمَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا أَوْ أَخَّرَهُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ (1) .
ح - الْوَقْتُ:
فَلِلرَّمْيِ أَوْقَاتٌ يُشْتَرَطُ مُرَاعَاتُهَا، فِي رَمْيِ الْعَدَدِ الْوَاجِبِ فِي كُلٍّ مِنْهَا. تَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:
وَقْتُ الرَّمْيِ وَعَدَدُهُ:
7 - وَقْتُ رَمْيِ الْجِمَارِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ لِمَنْ لَمْ يَتَعَجَّل هِيَ: يَوْمُ النَّحْرِ " وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ، وَتُسَمَّى " أَيَّامَ التَّشْرِيقِ ". سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّ لُحُومَ الْهَدَايَا تُشَرَّقُ فِيهَا، أَيْ تُعَرَّضُ لِلشَّمْسِ لِتَجْفِيفِهَا.
أ - الرَّمْيُ يَوْمَ النَّحْرِ:
8 - يَجِبُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا فَقَطْ، يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ.
__________
(1) حديث: " من قدم من نسكه شيئًا ". أخرجه البيهقي في السنن (5 / 143 - 144 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس.(23/155)
وَأَوَّل وَقْتِ الرَّمْيِ لِيَوْمِ النَّحْرِ يَبْدَأُ مِنْ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ (1) .
وَهَذَا الْوَقْتُ عِنْدَهُمْ أَقْسَامٌ: مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقْتَ الْجَوَازِ مَعَ الإِْسَاءَةِ، وَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الزَّوَال وَقْتٌ مَسْنُونٌ، وَمَا بَعْدَ الزَّوَال إِلَى الْغُرُوبِ وَقْتُ الْجَوَازِ بِلاَ إِسَاءَةٍ، وَاللَّيْل وَقْتُ الْجَوَازِ مَعَ الإِْسَاءَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَطْ وَلاَ جَزَاءَ فِيهِ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَيَنْتَهِي الْوَقْتُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، وَمَا بَعْدَهُ قَضَاءٌ يَلْزَمُ فِيهِ الدَّمُ.
وَتَحْدِيدُ الْوَقْتِ الْمَسْنُونِ مَأْخُوذٌ مِنْ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ رَمَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِ جَوَازِ الرَّمْيِ يَوْمُ النَّحْرِ إِذَا انْتَصَفَتْ لَيْلَةُ يَوْمِ النَّحْرِ لِمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَهُ.
وَهَذَا الْوَقْتُ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: وَقْتُ فَضِيلَةٍ إِلَى الزَّوَال، وَوَقْتُ اخْتِيَارٍ إِلَى الْغُرُوبِ، وَوَقْتُ جَوَازٍ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (2) .
__________
(1) الهداية 2 / 185، والبدائع 2 / 137، وشرح اللباب ص 157 - 158، والشرح الكبير 2 / 48، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 477 و480، والمغني 3 / 429 والفروع 3 / 513.
(2) الإيضاح ص 354، والنهاية 2 / 429، والمغني والفروع ونهاية المحتاج عن الرافعي 2 / 430، وقوله " إلى الزوال " أي من بعد طلوع الشمس.(23/156)
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ فِي الثَّقَل وَقَال: لاَ تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تُصْبِحُوا (1) .
فَأَثْبَتُوا جَوَازَ الرَّمْيِ ابْتِدَاءً مِنَ الْفَجْرِ بِهَذَا الْحَدِيثِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَدِّمُ ضُعَفَاءَ أَهْلِهِ بِغَلَسٍ، وَيَأْمُرُهُمْ يَعْنِي لاَ يَرْمُونَ الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ (2) .
فَأَثْبَتُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ الْوَقْتَ الْمَسْنُونَ.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَل بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، فَرَمَتْ قَبْل الْفَجْرِ، ثُمَّ مَضَتْ فَأَفَاضَتْ (3) .
وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّهُ عَلَّقَ الرَّمْيَ بِمَا قَبْل الْفَجْرِ، وَهُوَ تَعْبِيرٌ صَالِحٌ لِجَمِيعِ اللَّيْل، فَجَعَل
__________
(1) حديث: " لا ترموا الجمرة حتى تصبحوا ". أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (2 / 217 - ط مطبعة الأنوار المحمدية) .
(2) حديث ابن عباس: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم ضعفاء. . . " أخرجه أبو داود (2 / 4781 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (3 / 231 - ط الحلبي) وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".
(3) حديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة ليلة النحر ". أخرجه أبو داود (2 / 481 تحقيق عزت عبيد دعاس) . وقال ابن حجر: " إسناده على شرط مسلم ". كما في بلوغ المرام (2 / 417 - شرحه سبل السلام ط دار الكتب العلمية) .(23/156)
النِّصْفَ ضَابِطًا لَهُ؛ لأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ مِمَّا قَبْل النِّصْفِ.
أَمَّا آخِرُ وَقْتِ الرَّمْيِ يَوْمَ النَّحْرِ فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى فَجْرِ الْيَوْمِ التَّالِي، فَإِذَا أَخَّرَهُ عَنْهُ بِلاَ عُذْرٍ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ فِي الْيَوْمِ التَّالِي، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلتَّأْخِيرِ، وَيَمْتَدُّ وَقْتُ الْقَضَاءِ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: آخِرُ وَقْتِ الرَّمْيِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَمَا بَعْدَهُ قَضَاءٌ، وَيَجِبُ الدَّمُ إِنْ أَخَّرَهُ إِلَى الْمَغْرِبِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ (2) .
وَآخِرُ وَقْتِ الرَّمْيِ أَدَاءً عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ لأَِنَّهَا كُلُّهَا أَيَّامُ رَمْيٍ (3) .
وَاسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلٌ قَال: رَمَيْتُ بَعْدَمَا أَمْسَيْتُ؟ فَقَال: لاَ حَرَجَ (4) .
وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلرُّعَاةِ أَنْ يَرْمُوا لَيْلاً (5) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 137، وشرح اللباب ص 161.
(2) الشرح الكبير 2 / 50، وشرح الرسالة 1 / 477.
(3) المراجع الشافعية والحنابلة السابقة.
(4) حديث ابن عباس: " سأله رجل قال: رميت بعدما أمسيت. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 568 - ط السلفية) .
(5) حديث ابن عباس: " رخص للرعاة أن يرموا ليلاً ". أورده الهيثمي في المجمع (3 / 260 - ط القدسي) وقال: " رواه الطبراني في الكبير وفيه إسحاق بن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهو متروك ".(23/157)
وَهُوَ يَدُل عَلَى أَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ فِي اللَّيْل جَائِزٌ، وَفَائِدَةُ الرُّخْصَةِ زَوَال الإِْسَاءَةِ عَنْهُمْ تَيْسِيرًا عَلَيْهِمْ، وَلَوْ كَانَ الرَّمْيُ وَاجِبًا قَبْل الْمَغْرِبِ لأََلْزَمَهُمْ بِهِ؛ لأَِنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ إِنَابَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى الرَّعْيِ.
ب - الرَّمْيُ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
9 - وَهُمَا الْيَوْمَانِ الثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ: يَجِبُ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلاَثِ عَلَى التَّرْتِيبِ: يَرْمِي أَوَّلاً الْجَمْرَةَ الصُّغْرَى الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، يَرْمِي كُل جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ.
1 - يَبْدَأُ وَقْتُ الرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الزَّوَال، وَلاَ يَجُوزُ الرَّمْيُ فِيهِمَا قَبْل الزَّوَال عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهُمُ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ الظَّاهِرَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 137 - 138 والهداية وشرحها 2 / 183 ولم يذكرا غير هذه الرواية في اليوم الأول من أيام التشريق، وقارن بشرح اللباب ص 158 - 159 ورد المحتار 2 / 253 - 254، وانظر الشرح الكبير 2 / 48 و50، وشرح الرسالة 1 / 480، والإيضاح ص 405، ونهاية المحتاج 2 / 433، ومغني المحتاج 1 / 507، والمغني 3 / 452، والفروع 3 / 518.(23/157)
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الأَْفْضَل أَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ - أَيْ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ - بَعْدَ الزَّوَال فَإِنْ رَمَى قَبْلَهُ جَازَ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يَتَعَجَّل فِي النَّفْرِ الأَْوَّل فَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْل الزَّوَال، وَإِنْ رَمَى بَعْدَهُ فَهُوَ أَفْضَل، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ قَصْدِهِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَ إِلاَّ بَعْدَ الزَّوَال، وَذَلِكَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا نَفَرَ بَعْدَ الزَّوَال لاَ يَصِل إِلَى مَكَّةَ إِلاَّ بِاللَّيْل فَيَحْرَجُ فِي تَحْصِيل مَوْضِعِ النُّزُول (2) .
وَهَذَا رِوَايَةٌ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ، لَكِنَّهُ قَال: يَنْفِرُ بَعْدَ الزَّوَال (3) .
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ.
فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنَّا
__________
(1) الهداية وشرحها 2 / 184، والبدائع 2 / 137 - 138، وشرح اللباب ص 158 - 161 وفيه وفي التعليق عليه تحقيق مطول حول هذه الرواية، وانظر النقل عن بعض الحنابلة في الفروع 3 / 518.
(2) المراجع السابقة في الفقه الحنفي.
(3) الفروع 3 / 518 - 520.(23/158)
نَتَحَيَّنُ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا (1) .
وَعَنْ جَابِرٍ قَال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ (2) .
وَهَذَا بَابٌ لاَ يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ، بَل بِالتَّوْقِيتِ مِنَ الشَّارِعِ، فَلاَ يَجُوزُ الْعُدُول عَنْهُ.
وَاسْتُدِل لِلرِّوَايَةِ بِجَوَازِ الرَّمْيِ قَبْل الزَّوَال بِقِيَاسِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ؛ لأَِنَّ الْكُل أَيَّامُ نَحْرٍ، وَيَكُونُ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْمُولاً عَلَى السُّنِّيَّةِ.
وَاسْتُدِل لِجَوَازِ الرَّمْيِ ثَانِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ قَبْل الزَّوَال لِمَنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ النَّفْرُ إِلَى مَكَّةَ بِمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَصِل إِلاَّ بِاللَّيْل، وَقَدْ قَوَّى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَالأَْخْذُ بِهَذَا مُنَاسِبٌ لِمَنْ خَشِيَ الزِّحَامَ وَدَعَتْهُ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، لاَ سِيَّمَا فِي زَمَنِنَا (3) .
2 - وَأَمَّا نِهَايَةُ وَقْتِ الرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
__________
(1) حديث ابن عمر: " كنا نتحين فإذا زالت الشمس. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 579 - ط السلفية) .
(2) حديث جابر: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر ضحى ". أخرجه مسلم (2 / 945 - ط الحلبي) .
(3) قال في البحر العميق: " فهو قول مختار يعمل به بلا ريب، وعليه عمل الناس، وبه جزم بعض الشافعي حتى زعم الأسنوي أنه المذهب ". كذا في إرشاد الساري إلى مناسك الملا علي قاري ص 161.(23/158)
فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ آخِرَ الْوَقْتِ بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلاَثِ، فَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ تَدَارَكَهُ فِيمَا يَلِيهِ مِنَ الزَّمَنِ، وَالْمُتَدَارَكُ أَدَاءٌ عَلَى الْقَوْل الأَْصَحِّ الَّذِي اخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ وَاقْتَضَاهُ نَصُّ الشَّافِعِيَّةِ
وَهَكَذَا لَوْ تَرَكَ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَتَدَارَكُهُ فِي اللَّيْل وَفِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّرْتِيبُ فَيُقَدِّمُهُ عَلَى رَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. كَذَلِكَ أَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ التَّرْتِيبَ فِي الْقَضَاءِ. وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِوُجُوبِ تَرْتِيبِهِ فِي الْقَضَاءِ بِالنِّيَّةِ.
وَإِنْ لَمْ يَتَدَارَكِ الرَّمْيَ حَتَّى غَرَبَتْ شَمْسُ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَقَدْ فَاتَهُ الرَّمْيُ وَعَلَيْهِ الْفِدَاءُ (1) .
وَدَلِيلُهُمْ: أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَقْتٌ لِلرَّمْيِ، فَإِذَا أَخَّرَهُ مِنْ أَوَّل وَقْتِهِ إِلَى آخِرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَقَيَّدُوا رَمْيَ كُل يَوْمٍ بِيَوْمِهِ، ثُمَّ فَصَّلُوا: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَنْتَهِي رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ بِطُلُوعِ فَجْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَرَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ. فَمَنْ أَخَّرَ الرَّمْيَ إِلَى مَا بَعْدَ وَقْتِهِ
__________
(1) الأم 2 / 214، والإيضاح ص 407، ونهاية المحتاج 2 / 435، 436 ومغني المحتاج 1 / 508 - 509، والمغني 3 / 455 - 456، والفروع 3 / 518 - 519.(23/159)
فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَهُمْ (1) .
وَالدَّلِيل عَلَى جَوَازِ الرَّمْيِ بَعْدَ مَغْرِبِ نَهَارِ الرَّمْيِ حَدِيثُ الإِْذْنِ لِلرِّعَاءِ بِالرَّمْيِ لَيْلاً.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَنْتَهِي الأَْدَاءُ إِلَى غُرُوبِ كُل يَوْمٍ، وَمَا بَعْدَهُ قَضَاءٌ لَهُ، وَيَفُوتُ الرَّمْيُ بِغُرُوبِ الرَّابِعِ، وَيَلْزَمُهُ دَمٌ فِي تَرْكِ حَصَاةٍ أَوْ فِي تَرْكِ الْجَمِيعِ، وَكَذَا يَلْزَمُهُ دَمٌ إِذَا أَخَّرَ شَيْئًا مِنْهَا إِلَى اللَّيْل (2) .
ج - الرَّمْيُ ثَالِثَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
10 - يَجِبُ هَذَا الرَّمْيُ عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ وَلَمْ يَنْفِرْ مِنْ مِنًى بَعْدَ رَمْيِ ثَانِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى مَا نُفَصِّلُهُ وَهَذَا الرَّمْيُ آخِرُ مَنَاسِكِ مِنًى.
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّمْيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ بَعْدَ الزَّوَال رَمْيٌ فِي الْوَقْتِ، كَمَا رَمَى فِي الْيَوْمَيْنِ قَبْلَهُ، اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَقْدِيمِهِ:
فَذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ وَالصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الرَّمْيُ قَبْل الزَّوَال، اسْتِدْلاَلاً بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيَاسًا لِرَمْيِ هَذَا الْيَوْمِ عَلَى الْيَوْمَيْنِ السَّابِقَيْنِ، فَكَمَا لاَ يَصِحُّ الرَّمْيُ فِيهِمَا قَبْل
__________
(1) شرح اللباب ص 161، وانظر المبسوط 4 / 68 ولفظه: " الليالي هنا تابعة للأيام الماضية ".
(2) الشرح الكبير 2 / 51، وانظر شرح الرسالة بحاشيته 1 / 477 و480 - 481.(23/159)
الزَّوَال، كَذَلِكَ لاَ يَصِحُّ قَبْل زَوَال الْيَوْمِ الأَْخِيرِ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: الْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ لِلرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ بَعْدَ الزَّوَال، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ الرَّمْيُ فِي هَذَا الْيَوْمِ قَبْل الزَّوَال، بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.
قَال فِي الْهِدَايَةِ: وَمَذْهَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ وَلأَِنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَثَرُ التَّخْفِيفِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي حَقِّ التَّرْكِ، فَلأََنْ يَظْهَرَ فِي جَوَازِهِ - أَيِ الرَّمْيِ - فِي الأَْوْقَاتِ كُلِّهَا أَوْلَى (2) .
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ غُرُوبُ الشَّمْسِ، كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ لِهَذَا الْيَوْمِ وَلِلأَْيَّامِ الْمَاضِيَةِ لَوْ أَخَّرَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ يَخْرُجُ بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، فَلاَ قَضَاءَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَجِبُ فِي تَرْكِهِ الْفِدَاءُ. وَذَلِكَ " لِخُرُوجِ وَقْتِ الْمَنَاسِكِ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ (3) .
شُرُوطُ الرَّمْيِ:
10 م - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ رَمْيِ الْجِمَارِ مَا يَلِي:
__________
(1) المراجع السابقة في رمي أيام التشريق.
(2) الهداية 2 / 185، وانظر الاستدلال بأوسع من هذا في البدائع 2 / 138، والفتوى في المذهب الحنفي على قول الإمام، وقد اقتصر عليه صاحب البدائع في بيانه صفة الرمي ص 159.
(3) كما قال الرملي في نهاية المحتاج 2 / 433، ووقع في شرح الكنز للهروي ص (74) التعبير بقوله: " قبل الزوال بعد طلوع الشمس " وهو موهم خلاف المعروف في المذهب الحنفي: أنه يبدأ الرمي آخر يوم بعد الفجر.(23/160)
أ - أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قَذْفٌ لِلْحَصَاةِ وَلَوْ خَفِيفًا.
فَكَيْفَمَا حَصَل أَجْزَأَهُ، حَتَّى قَال النَّوَوِيُّ: وَلاَ يُشْتَرَطُ وُقُوفُ الرَّامِي خَارِجَ الْمَرْمَى، فَلَوْ وَقَفَ فِي طَرَفِ الْمَرْمَى وَرَمَى إِلَى طَرَفِهِ الآْخَرِ أَجْزَأَهُ ".
وَلَوْ طَرَحَ الْحَصَيَاتِ طَرْحًا أَجْزَأَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ الرَّمْيَ قَدْ وُجِدَ بِهَذَا الطَّرْحِ، إِلاَّ أَنَّهُ رَمْيٌ خَفِيفٌ، فَيُجْزِئُ مَعَ الإِْسَاءَةِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ الطَّرْحُ بَتَاتًا.
أَمَّا لَوْ وَضَعَهَا وَضْعًا فَلاَ يَصِحُّ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِرَمْيٍ.
ب - الْعَدَدُ الْمَخْصُوصُ:
وَهُوَ سَبْعُ حَصَيَاتٍ لِكُل جَمْرَةٍ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ رَمْيَ حَصَاةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ كَمَنْ تَرَكَ السَّبْعَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ تَيْسِيرٌ بِقَبُول صَدَقَةٍ فِي تَرْكِ الْقَلِيل مِنَ الْحَصَيَاتِ، اخْتَلَفَتْ فِيهِ اجْتِهَادَاتُهُمْ (ر: حَجّ ف / 273)
وَاجِبُ الرَّمْيِ:
11 - يَجِبُ تَرْتِيبُ رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ بِحَسَبِ تَرْتِيبِ أَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ، وَهِيَ هَكَذَا: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَالذَّبْحُ، فَالْحَلْقُ، فَطَوَافُ الإِْفَاضَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّ تَرْتِيبَهَا سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلاَفٌ فِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: حَجّ(23/160)
ف 195 - 196) وَسَبَقَ الْحُكْمُ فِي تَرْتِيبِ رَمْيِ الْجَمَرَاتِ الثَّلاَثِ (ف 6)
سُنَنُ الرَّمْيِ:
12 - يُسَنُّ فِي الرَّمْيِ مَا يَلِي:
أ - أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الرَّامِي وَبَيْنَ الْجَمْرَةِ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ فَأَكْثَرُ، كَمَا نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ؛ لأَِنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ يَكُونُ طَرْحًا، وَلَوْ طَرَحَهَا طَرْحًا أَجْزَأَهُ إِلاَّ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ.
ب - الْمُوَالاَةُ بَيْنَ الرَّمَيَاتِ السَّبْعِ، بِحَيْثُ لاَ يَزِيدُ الْفَصْل بَيْنَهَا عَنِ الذِّكْرِ الْوَارِدِ.
ج - لَقْطُ الْحَصَيَاتِ دُونَ كَسْرِهَا، وَلَهُ أَخْذُهَا مِنْ مَنْزِلِهِ بِمِنًى.
د - طَهَارَةُ الْحَصَيَاتِ، فَيُكْرَهُ الرَّمْيُ بِحَصًى نَجِسٍ، وَيُنْدَبُ إِعَادَتُهُ بِطَاهِرٍ، وَفِي وَجْهٍ اخْتَارَهُ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يُجْزِئُ الرَّمْيُ بِنَجِسٍ، وَيَجِبُ إِعَادَتُهُ بِطَاهِرٍ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِهِمْ الإِْجْزَاءُ مَعَ الْكَرَاهَةِ (1) .
هـ - أَلاَّ يَكُونَ الْحَصَى مِمَّا رُمِيَ بِهِ، فَلَوْ خَالَفَ وَرَمَى بِهَا كُرِهَ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا رَمَى بِهِ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ (2) : لاَ يُجْزِئُ، وَمَذْهَبُ
__________
(1) الفروع وحاشية تصحيح الفروع 3 / 511.
(2) وهواللخمي كما نقل عنه الحطاب 3 / 139، وجعله الكاساني في البدائع 2 / 156 قول مالك: وهو خلاف المنصوص في المصادر أنه يكره، وانظر الشرح الكبير 2 / 54.(23/161)
الْحَنَابِلَةِ: إِنْ رَمَى بِحَجَرٍ أَخَذَهُ مِنَ الْمَرْمَى لَمْ يَجْزِهِ (1) .
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِعُمُومِ لَفْظِ الْحَصَى الْوَارِدِ فِي الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّمْيَ، وَذَلِكَ يُفِيدُ صِحَّةَ الرَّمْيِ بِمَا رُمِيَ بِهِ وَلَوْ أُخِذَ مِنَ الْمَرْمَى.
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مِنْ غَيْرِ الْمَرْمَى، وَقَال: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ وَلأَِنَّهُ لَوْ جَازَ الرَّمْيُ بِمَا رُمِيَ بِهِ، لَمَا احْتَاجَ أَحَدٌ إِلَى أَخْذِ الْحَصَى مِنْ غَيْرِ مَكَانِهِ وَلاَ تَكْسِيرِهِ، وَالإِْجْمَاعُ عَلَى خِلاَفِهِ.
و التَّكْبِيرُ مَعَ كُل حَصَاةٍ، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّل حَصَاةٍ يَرْمِي بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (2) .
وَيُنْظَرُ الْخِلاَفُ وَالتَّفْصِيل فِي بَحْثِ: (تَلْبِيَة) .
ز - الْوُقُوفُ لِلدُّعَاءِ: وَذَلِكَ إِثْرَ كُل رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ آخَرُ، فَيَقِفُ بَيْنَ الرَّمْيَيْنِ مُدَّةً وَيُطِيل الْوُقُوفَ يَدْعُو، وَقُدِّرَ ذَلِكَ بِمُدَّةِ ثَلاَثَةِ أَرْبَاعِ الْجُزْءِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَدْنَاهُ قَدْرُ عِشْرِينَ آيَةً. فَيُسَنُّ أَنْ يَقِفَ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ الصُّغْرَى وَبَعْدَ الْوُسْطَى،
__________
(1) انظر المغني 3 / 426، والفروع 3 / 511.
(2) الهداية 2 / 175، والبدائع 2 / 156، والأم 2 / 205، ومغني المحتاج 1 / 501، والفروع 3 / 347، والمغني 3 / 430.(23/161)
لأَِنَّهُ فِي وَسَطِ الْعِبَادَةِ، فَيَأْتِي بِالدُّعَاءِ فِيهِ، وَكُل رَمْيٍ لَيْسَ بَعْدَهُ رَمْيٌ لاَ يَقِفُ فِيهِ لِلدُّعَاءِ؛ لأَِنَّ الْعِبَادَةَ قَدِ انْتَهَتْ، فَلاَ يَقِفُ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَلاَ بَعْدَ رَمْيِهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ أَيْضًا.
وَدَلِيل هَذِهِ السُّنَّةِ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ (1) .
مَكْرُوهَاتُ الرَّمْيِ:
13 - يُكْرَهُ فِي الرَّمْيِ مَا يَلِي:
أ - الرَّمْيُ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبَعْدَ زَوَالِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، قَال السَّرَخْسِيُّ: فَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَقْتُهُ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلَكِنَّهُ لَوْ رَمَى بِاللَّيْل لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ (2) ".
ب - الرَّمْيُ بِالْحَجَرِ الْكَبِيرِ، سَوَاءٌ رَمَى بِهِ كَبِيرًا، أَوْ رَمَى بِهِ مَكْسُورًا.
ج - الرَّمْيُ بِحَصَى الْمَسْجِدِ، فَلاَ يَأْخُذُهُ مِنْ
__________
(1) الهداية وشروحها 2 / 174 - 176، 183 - 185، وشرح اللباب 158 - 159، 162 - 163، ونهاية المحتاج 2 / 426 - 434، ومغني المحتاج 1 / 500، و501 و506، و508، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 478، وعبر عنها بشروط الكمال، وأدرج بعض المندوبات فيها وانظر ص 480، والمغني 3 / 426، 450.
(2) المبسوط 4 / 64، شرح اللباب ص 167، ومواهب الجليل 3 / 136، وقال الشلبي في حاشيته على الزيلعي: 2 / 31: " ولو أخر الرمي إلى الليل رماها ولا شيء عليه ".(23/162)
مَسْجِدِ الْخَيْفِ؛ لأَِنَّ الْحَصَى تَابِعٌ لِلْمَسْجِدِ، فَلاَ يَخْرُجُ مِنْهُ.
د - الرَّمْيُ بِالْحَصَى النَّجِسِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيل: لاَ يُجْزِئُ الرَّمْيُ بِالْحَصَى النَّجِسِ.
هـ - الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَدَدِ، أَيِ السَّبْعِ، فِي رَمْيِ كُل جَمْرَةٍ مِنَ الْجَمَرَاتِ (1) .
صِفَةُ الرَّمْيِ الْمُسْتَحَبَّةُ:
14 - يَسْتَعِدُّ الْحَاجُّ لِرَمْيِ الْجَمَرَاتِ فَيَرْفَعُ الْحَصَى قَبْل الْوُصُول إِلَى الْجَمْرَةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ سَبْعَ حَصَيَاتٍ مِثْل حَصَى الْخَذْفِ، فَوْقَ الْحِمَّصَةِ وَدُونَ الْبُنْدُقَةِ لِيَرْمِيَ بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ، وَهُوَ يَوْمُ عِيدِ النَّحْرِ، وَإِنْ رَفَعَ سَبْعِينَ حَصَاةً مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ أَوْ مِنْ طَرِيقِ مُزْدَلِفَةَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَقِيل: مُسْتَحَبٌّ، وَهَذَا هُوَ عَدَدُ الْحَصَى الَّذِي يُرْمَى فِي كُل أَيَّامِ الرَّمْيِ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الْحَصَيَاتِ مِنْ كُل مَوْضِعٍ بِلاَ كَرَاهَةٍ، إِلاَّ مِنْ عِنْدِ الْجَمْرَةِ، فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَيُكْرَهُ أَخْذُهَا مِنْ مَسْجِدِ الْخَيْفِ، لأَِنَّ حَصَى الْمَسْجِدِ تَابِعٌ لَهُ فَيَصِيرُ مُحْتَرَمًا، وَيُنْدَبُ غَسْل الْحَصَى مُطْلَقًا، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَجِسَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
ثُمَّ يَأْتِي الْحَاجُّ مِنًى يَوْمَ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي
__________
(1) انظر عن مكروهات الرمي في شرح اللباب ص 167، وانظر الأم 2 / 213 - 214.(23/162)
الْحِجَّةِ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَعَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَرْبَعَةُ أَعْمَالٍ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ ذَبْحُ الْهَدْيِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ، ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ، ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدَّمَ السَّعْيَ عِنْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ فَإِنَّهُ يَسْعَى بَعْدَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ، وَيَتَوَجَّهُ الْحَاجُّ فَوْرَ وُصُولِهِ مِنًى إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَتَقَعُ آخِرَ مِنًى تُجَاهَ مَكَّةَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَغِل بِشَيْءٍ آخَرَ قَبْل رَمْيِهَا، فَيَرْمِيهَا بَعْدَ دُخُول وَقْتِهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ يَرْمِيهَا وَاحِدَةً فَوَاحِدَةً يُكَبِّرُ مَعَ كُل حَصَاةٍ وَيَدْعُو، وَكَيْفَمَا أَمْسَكَ الْحَصَاةَ وَرَمَاهَا صَحَّ، دُونَ تَقْيِيدٍ بِهَيْئَةٍ، لَكِنْ لاَ يَجُوزُ وَضْعُ الْحَصَاةِ فِي الْمَرْمَى وَضْعًا، وَيُسَنُّ أَنْ يَرْمِيَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَيَمْتَدُّ وَقْتُ السُّنَّةِ إِلَى الزَّوَال، وَيُبَاحُ بَعْدَهُ إِلَى الْمَغْرِبِ.
15 - أَمَّا كَيْفِيَّةُ الرَّمْيِ فَهِيَ أَنْ يَبْعُدَ عَنِ الْجَمْرَةِ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا الْحَصَى قَدْرَ خَمْسَةِ أَذْرُعٍ فَأَكْثَرَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَيُمْسِكَ بِالْحَصَاةِ بِطَرَفَيْ إِبْهَامِ وَمُسَبِّحَةِ يَدِهِ الْيُمْنَى، وَيَرْفَعَ يَدَهُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطَيْهِ، وَيَقْذِفَهَا وَيُكَبِّرَ. وَقِيل: يَضَعُ الْحَصَاةَ عَلَى ظَهْرِ إِبْهَامِهِ الْيُمْنَى وَيَسْتَعِينُ بِالْمُسَبِّحَةِ، وَقِيل: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَ الْحَصَاةَ بَيْنَ سَبَّابَتَيْ يَدَيْهِ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى وَيَرْمِيَ بِهَا (1) .
16 - أَمَّا صِيغَةُ التَّكْبِيرِ فَقَدْ جَاءَتْ فِي الْحَدِيثِ
__________
(1) ولتفصيل من أين يلتقط الحصى، تنظر الموسوعة 5 / 218.(23/163)
مُطْلَقَةً " يُكَبِّرُ مَعَ كُل حَصَاةٍ " (1) . فَيَجُوزُ بِأَيِّ صِيغَةٍ مِنْ صِيَغِ التَّكْبِيرِ.
وَاخْتَارَ الْعُلَمَاءُ نَحْوَ هَذِهِ الصِّيغَةِ: بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، رَغْمًا لِلشَّيْطَانِ وَرِضًا لِلرَّحْمَنِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَسَعْيًا مَشْكُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا وَالْمُسْتَنَدُ فِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الآْثَارِ الْكَثِيرَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ (2) .
وَلَوْ رَمَى وَتَرَكَ الذِّكْرَ فَلَمْ يُكَبِّرْ وَلَمْ يَأْتِ بِأَيِّ ذِكْرٍ جَازَ، وَقَدْ أَسَاءَ لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ.
وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّل حَصَاةٍ يَرْمِيهَا وَيَشْتَغِل بِالتَّكْبِيرِ.
وَيَنْصَرِفُ مِنَ الرَّمْيِ وَهُوَ يَقُول: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَسَعْيًا مَشْكُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا.
وَوَقْتُ الرَّمْيِ فِي هَذِهِ الأَْيَّامِ بَعْدَ الزَّوَال، وَيُنْدَبُ تَقْدِيمُ الرَّمْيِ قَبْل صَلاَةِ الظُّهْرِ فِي الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُقَدِّمُ صَلاَةَ الظُّهْرِ عَلَى الرَّمْيِ (3) .
__________
(1) حديث: " يكبر مع كل حصاة ". تقدم تخريجه ف / 6. وانظر فتح القدير 2 / 174.
(2) انظر طائفة منها في المغني 3 / 427 - 428، وقال الحنفية: " لو سبح مكان التكبير أو ذكر الله أو حمده أو وحده أجزأه، لأن المقصود من تكبيره صلى الله عليه وسلم الذكر ". الهداية 2 / 75، وانظر تحقيق الكمال بن الهمام وتعليقه على هذا في شرحه عليها.
(3) الشرح الكبير 2 / 52، والمجموع 8 / 179 (وقارن بمغني المحتاج 1 / 507) ، والفروع 8 / 518، ولباب المناسك بشرحه ص 162.(23/163)
17 - وَقَدْ بَحَثُوا فِي أَفْضَلِيَّةِ الرُّكُوبِ أَوِ الْمَشْيِ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ وَكَانُوا يَرْكَبُونَ الدَّوَابَّ فَكَانَ الرَّمْيُ لِلرَّاكِبِ مُمْكِنًا.
فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ رَاكِبًا وَغَيْرَهَا مَاشِيًا فِي جَمِيعِ أَيَّامِ الرَّمْيِ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: الرَّمْيُ كُلُّهُ رَاكِبًا أَفْضَل.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ كَيْفَمَا كَانَ وَغَيْرَهَا مَاشِيًا.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ رَاكِبًا، وَكَذَلِكَ يَرْمِيهَا يَوْمَ النَّفْرِ رَاكِبًا، وَيَمْشِي فِي الْيَوْمَيْنِ الآْخَرَيْنِ أَحَبُّ إِلَيَّ "، وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةَ الْحَنَفِيُّ اسْتِحْبَابَ الْمَشْيِ إِلَى الْجِمَارِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الأَْكْثَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي الْجِمَارَ فِي الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ مَاشِيًا ذَاهِبًا وَرَاجِعًا، وَيُخْبِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَل ذَلِكَ.
ثُمَّ إِذَا فَرَغَ مِنَ الرَّمْيِ ثَانِيَ أَيَّامِ الْعِيدِ وَهُوَ أَوَّل أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فِي مِنًى، وَيَبِيتُ
__________
(1) شرح اللباب ص163، الأم 2 / 213، وانظر المجموع 8 / 183، الفروع 3 / 512، وقارن بالمغني 3 / 428.(23/164)
تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِيهَا، فَإِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ ثَانِيَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَثَالِثُ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلاَثَةَ بَعْدَ الزَّوَال عَلَى كَيْفِيَّةِ رَمْيِ الْيَوْمِ السَّابِقِ.
ثُمَّ إِذَا رَمَى فِي هَذَا الْيَوْمِ فَلَهُ أَنْ يَنْفِرَ أَيْ يَرْحَل، بِلاَ كَرَاهَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّل فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (1) .
وَيَسْقُطُ عَنْهُ رَمْيُ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، لِذَلِكَ يُسَمَّى هَذَا الْيَوْمُ يَوْمَ النَّفْرِ الأَْوَّل.
18 - وَإِنْ لَمْ يَنْفِرْ لَزِمَهُ رَمْيُ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَهُوَ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، ثَالِثُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يَرْمِي فِيهِ الْجَمَرَاتِ الثَّلاَثَ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ السَّابِقَةِ فِي ثَانِي يَوْمٍ أَيْضًا، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِحُّ الرَّمْيُ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِنَ الْفَجْرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ، وَيَنْتَهِي وَقْتُ الرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ أَدَاءً وَقَضَاءً، فَإِنْ لَمْ يَرْمِ حَتَّى غَرَبَتْ شَمْسُ الْيَوْمِ فَاتَ الرَّمْيُ وَتَعَيَّنَ الدَّمُ فِدَاءً عَنِ الْوَاجِبِ الَّذِي تَرَكَهُ، وَيَرْحَل بَعْدَ الرَّمْيِ، وَلاَ يُسَنُّ الْمُكْثُ فِي مِنًى بَعْدَهُ، وَيُسَمَّى هَذَا النَّفْرَ الثَّانِيَ، وَهَذَا الْيَوْمُ يَوْمَ النَّفْرِ الثَّانِي.
وَالأَْفْضَل أَنْ يَتَأَخَّرَ بِمِنًى وَيَرْمِيَ الْيَوْمَ الرَّابِعَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} (2) وَاتِّبَاعًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكْمِيلاً لِلْعِبَادَةِ.
__________
(1) سورة البقرة / 203.
(2) سورة البقرة / 203.(23/164)
أَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ رُكُوبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّمْيِ فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ " مَحْمُولٌ عَلَى رَمْيٍ لاَ رَمْيَ بَعْدَهُ، أَوْ عَلَى التَّعْلِيمِ لِيَرَاهُ النَّاسُ فَيَتَعَلَّمُوا مِنْهُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ " وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَوْلَى وَأَقْوَى، يَدُل عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل وَهُوَ رَاكِبٌ: لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ.
آثَارُ الرَّمْيِ:
يَتَرَتَّبُ عَلَى رَمْيِ الْجِمَارِ أَحْكَامٌ هَامَّةٌ فِي الْحَجِّ، سِوَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ وُجُوبِهِ، وَهَذِهِ الآْثَارُ هِيَ:
أ - أَثَرُ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ:
19 - يَتَرَتَّبُ عَلَى رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ التَّحَلُّل الأَْوَّل مِنْ إِحْرَامِ الْحَجِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ التَّحَلُّل الأَْوَّل يَكُونُ بِالْحَلْقِ، وَعَلَى تَفْصِيلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (ر: مُصْطَلَحَ إحْرَام ف 122 - 125) .
ب - أَثَرُ رَمْيِ الْجِمَارِ يَوْمَيِ التَّشْرِيقِ: النَّفْرُ الأَْوَّل:
20 - إِذَا رَمَى الْحَاجُّ الْجِمَارَ أَوَّل وَثَانِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ، أَيْ يَرْحَل إِنْ أَحَبَّ التَّعَجُّل فِي الاِنْصِرَافِ مِنْ مِنًى، هَذَا هُوَ النَّفْرُ الأَْوَّل، وَبِهَذَا النَّفْرِ يَسْقُطُ رَمْيُ الْيَوْمِ الأَْخِيرِ،(23/165)
وَهُوَ قَوْل عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّل فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} (1) .
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ الصَّحِيحِ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَّامُ مِنًى ثَلاَثَةٌ: فَمَنْ تَعَجَّل فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ (2) .
ج - أَثَرُ الرَّمْيِ ثَالِثَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: النَّفْرُ الثَّانِي:
21 - إِذَا رَمَى الْحَاجُّ الْجِمَارَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ انْصَرَفَ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ، وَلاَ يُقِيمُ بِمِنًى بَعْدَ رَمْيِهِ هَذَا الْيَوْمَ، وَيُسَمَّى هَذَا النَّفْرُ النَّفْرَ الثَّانِيَ، وَالْيَوْمُ يَوْمَ النَّفْرِ الثَّانِي، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَبِهِ يَنْتَهِي وَقْتُ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَيَفُوتُ عَلَى مَنْ لاَ يَتَدَارَكُهُ قَبْل غُرُوبِ شَمْسِ هَذَا الْيَوْمِ، وَبِهِ تَنْتَهِي مَنَاسِكُ مِنًى.
حُكْمُ تَرْكِ الرَّمْيِ:
22 - يَلْزَمُ مَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بِغَيْرِ عُذْرٍ الإِْثْمُ وَوُجُوبُ الدَّمِ، وَإِنْ تَرَكَهُ بِعُذْرٍ لاَ يَأْثَمُ، لَكِنْ لاَ يَسْقُطُ الدَّمُ عَنْهُ، وَلَوْ تَرَكَ حَصَاةً وَاحِدَةً عِنْدَ
__________
(1) سورة البقرة / 203.
(2) حديث: " أيام منى ثلاثة " أخرجه أحمد (4 / 309 - ط الميمنية) والحاكم (1 / 464 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الذهبي.(23/165)
الْمَالِكِيَّةِ، وَيُجْزِئُهُ شَاةٌ عَنْ تَرْكِ الرَّمْيِ كُلِّهِ، أَوْ عَنْ تَرْكِ رَمْيِ يَوْمٍ.
وَتَسَامَحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي حَصَاةٍ وَحَصَاتَيْنِ فَجَعَلُوا فِي ذَلِكَ صَدَقَةً، وَأَنْزَل الْحَنَفِيَّةُ الأَْكْثَرَ مَنْزِلَةَ الْكُل مَعَ وُجُوبِ جَزَاءٍ عَنِ النَّاقِصِ.
(انْظُرْ تَفْصِيل أَحْوَال تَرْكِ الرَّمْيِ فِي مُصْطَلَحِ: حَجّ ف / 273) .
النِّيَابَةُ فِي الرَّمْيِ:
23 - وَهِيَ رُخْصَةٌ خَاصَّةٌ بِالْمَعْذُورِ، تَفْصِيل حُكْمِهَا فِيمَا يَلِي:
أ - الْمَعْذُورُ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الرَّمْيَ بِنَفْسِهِ، كَالْمَرِيضِ، يَجِبُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَرْمِيَ عَنْهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النَّائِبُ قَدْ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ فَلْيَرْمِ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلاً الرَّمْيَ كُلَّهُ، ثُمَّ يَرْمِي عَمَّنِ اسْتَنَابَهُ، وَيُجْزِئُ هَذَا الرَّمْيُ عَنِ الأَْصِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: لَوْ رَمَى حَصَاةً عَنْ نَفْسِهِ وَأُخْرَى عَنِ الآْخَرِ جَازَ وَيُكْرَهُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الإِْنَابَةَ خَاصَّةٌ بِمَنْ بِهِ عِلَّةٌ لاَ يُرْجَى زَوَالُهَا قَبْل انْتِهَاءِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ كَمَرِيضٍ أَوْ مَحْبُوسٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ: أَنَّهُ يَرْمِي حَصَيَاتِ كُل جَمْرَةٍ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلاً، ثُمَّ يَرْمِيهَا عَنِ الْمَرِيضِ(23/166)
الَّذِي أَنَابَهُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ مِنَ الرَّمْيِ، وَهُوَ مَخْلَصٌ حَسَنٌ لِمَنْ خَشِيَ خَطَرَ الزِّحَامِ.
ب - مَنْ عَجَزَ عَنْ الاِسْتِنَابَةِ كَالصَّبِيِّ الصَّغِيرِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَيَرْمِي عَنِ الصَّبِيِّ وَلِيُّهُ اتِّفَاقًا، وَعَنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ رِفَاقُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَرْمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فَائِدَةُ الاِسْتِنَابَةِ أَنْ يَسْقُطَ الإِْثْمُ عَنْهُ إِنِ اسْتَنَابَ وَقْتَ الأَْدَاءِ وَإِلاَّ فَالدَّمُ عَلَيْهِ، اسْتَنَابَ، أَمْ لاَ، إِلاَّ الصَّغِيرَ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ دُونَ الصَّغِيرِ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِسَائِرِ الأَْرْكَانِ (1) .
(ثَانِيًا)
الرَّمْيُ فِي الصَّيْدِ الصَّيْدُ بِالرَّمْيِ بِالْمُحَدَّدِ:
24 - يَجُوزُ الصَّيْدُ بِالرَّمْيِ بِالسِّهَامِ الْمُحَدَّدَةِ لِلأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالإِْجْمَاعِ، فَإِنْ رَمَى
__________
(1) انظر مذهب الحنفية في المبسوط 4 / 69، وبدائع الصنائع 2 / 132، وحاشية شلبي على شرح الكنز 4 / 34، والمسلك المتقسط شرح اللباب ص 166، والفتاوى الهندية 1 / 221، ومذهب الشافعية في الأم 2 / 214، والمجموع 8 / 184 - 186، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 2 / 122 - 123، ونهاية المحتاج 2 / 435، ومغني المحتاج 1 / 508، وانظر المغني في فقه الحنابلة 3 / 491، وانظر شرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني 3 / 282، والشرح الكبير بحاشيته 2 / 47 - 48 و52.(23/166)
الصَّيْدَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّذْكِيَةِ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ كِتَابِيٍّ فَقَتَلَهُ بِحَدِّ مَا رَمَاهُ بِهِ كَالسَّهْمِ الَّذِي لَهُ نَصْلٌ مُحَدَّدٌ، وَالسَّيْفِ، وَالسِّكِّينِ، وَالسِّنَانِ، وَالْحَجَرِ الْمُحَدَّدِ وَالْخَشَبَةِ الْمُحَدَّدَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَدَّدَاتِ حَل أَكْلُهُ بِشُرُوطٍ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ لِحِل مَا يُصَادُ بِالرَّمْيِ (1) .
الصَّيْدُ بِالرَّمْيِ بِالْمُثَقَّل:
25 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ يَحِل مَا صِيدَ بِالْمُثَقَّل وَيُعْتَبَرُ وَقِيذًا (2) . فَلاَ يَحِل مَا أَصَابَهُ الرَّامِي بِمَا لاَ حَدَّ لَهُ فَقَتَلَهُ كَالْحَجَرِ، وَخَشَبَةٍ لاَ حَدَّ لَهَا، أَوْ رَمَاهُ بِمُحَدِّدٍ فَقَتَلَهُ بِعُرْضِهِ لاَ بِحَدِّهِ لِمَا رَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ قَال: إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُل، فَإِذَا أَصَابَ بِعُرْضِهِ فَقَتَل فَلاَ تَأْكُل فَإِنَّهُ وَقِيذٌ (3) . وَلِمَا وَرَدَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 56، وابن عابدين 5 / 301 وما بعدها، والمنتقى 3 / 118، 119، والمجموع 9 / 110، 111، والمغني 8 / 559، تبيين الحقائق 6 / 56، وابن عابدين 5 / 301 وما بعدها، والمنتقى 3 / 118، 119، والمجموع 9 / 110، 111، والمغني 8 / 559، 569 لقد اشترط الحنفية لحل الصيد بالرمي التسمية والجرح، وعدم القعود عن طلب الصيد عند غيابه. (ابن عابدين 5 / 301، 302)
(2) ابن عابدين 5 / 304، والزيلعي 6 / 58، والمغني 8 / 558، 559، 569، والمجموع 9 / 110، 111، والمنتقى 3 / 118، وسبل السلام 4 / 130، 131 نشر المكتبة التجارية
(3) حديث: " إذا حسدت فاستغفر، وإذا ظننت. . . " أورده الهيثمي في المجمع (8 / 78 - ط القدسي) وقال: رواه الطبراني وفيه إسماعيل بن قيس الأنصاري، وهو ضعيف(23/167)
نَهَى عَنِ الْخَذْفِ وَقَال: إِنَّهُ لاَ يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ وَلاَ يُنْكَأُ بِهِ عَدُوٌّ، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ (1) . وَالْخَذْفُ: الرَّمْيُ بِحَصًى صِغَارٍ بِطَرِيقَةٍ مَخْصُوصَةٍ بَيْنَ الأَْصَابِعِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ (خَذْف) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ الصَّيْدَ بِمَا لاَ حَدَّ لَهُ لاَ يَحِل وَإِنْ جَرَحَهُ (2) .
وَذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ وَمَكْحُولٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ عُلَمَاءِ الشَّامِ إِلَى أَنَّهُ يَحِل صَيْدُ الْمِعْرَاضِ مُطْلَقًا فَيُبَاحُ مَا قَتَلَهُ بِحَدِّهِ وَعُرْضِهِ (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ إِذَا كَانَ الرَّمْيُ بِالْبَنَادِقِ وَبِالْخَذْفِ (بِالْمُثَقَّل) إِنَّمَا هُوَ لِتَحْصِيل الصَّيْدِ، وَكَانَ الْغَالِبُ فِيهِ عَدَمَ قَتْلِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ إِذَا أَدْرَكَهُ الصَّائِدُ وَذَكَّاهُ، كَرَمْيِ الطُّيُورِ الْكِبَارِ بِالْبَنَادِقِ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: صَيْد) وَالْمُرَادُ بِالْبُنْدُقِ فِي كَلاَمِ النَّوَوِيِّ وَمَنْ عَهِدَهُ: كُرَاتٌ مِنَ الطِّينِ بِحَجْمِ حَبَّةِ الْبُنْدُقَةِ.
__________
(1) حديث: " نهى عن الخذف ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 607 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1547، 1548 ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مغفل، واللفظ للبخاري
(2) ابن عابدين 5 / 304، والمجموع 9 / 111، والزيلعي6 / 58، 59
(3) سبل السلام 4 / 131 ط المكتبة التجارية، والمغني 8 / 559
(4) سبل السلام 4 / 133، وصحيح مسلم بشرح النووي 13 / 106(23/167)
اتِّخَاذُ الْحَيَوَانِ هَدَفًا يُرْمَى إِلَيْهِ:
26 - يَحْرُمُ اتِّخَاذُ شَيْءٍ فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا. فَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا (1) . أَيْ لاَ تَتَّخِذُوا الْحَيَوَانَ الْحَيَّ غَرَضًا تَرْمُونَ إِلَيْهِ كَالْغَرَضِ مِنَ الْجُلُودِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ لأَِنَّهُ أَصْلُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ مَرَّ بِنَفَرٍ قَدْ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَتَرَامَوْنَهَا، فَلَمَّا رَأَوُا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا عَنْهَا. فَقَال ابْنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَل هَذَا؟ إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنْ فَعَل هَذَا (2)
وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَال: دَخَلْتُ مَعَ جَدِّي أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ دَارَ الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ فَإِذَا قَوْمٌ قَدْ نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا. قَال: فَقَال أَنَسٌ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ (3) .
قَال الْعُلَمَاءُ: صَبْرُ الْبَهَائِمِ أَنْ تُحْبَسَ وَهِيَ حَيَّةٌ لِتُقْتَل بِالرَّمْيِ وَنَحْوِهِ.
__________
(1) حديث: " لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا ". أخرجه مسلم (2 / 1549 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس
(2) حديث ابن عمر: " أنه مر بنفر قد نصبوا دجاجة يترامونها، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا عنها. فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من فعل هذا ". أخرجه مسلم (3 / 1550 - ط الحلبي)
(3) حديث: " نهى أن تصبر البهائم ". أخرجه مسلم (3 / 1549 - ط الحلبي)(23/168)
قَال الصَّنْعَانِيُّ وَغَيْرُهُ فِي وَجْهِ حِكْمَةِ النَّهْيِ: إِنَّ فِيهِ إِيلاَمًا لِلْحَيَوَانِ، وَتَضْيِيعًا لِمَالِيَّتِهِ، وَتَفْوِيتًا لِذَكَاتِهِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُذَكَّى، وَلِمَنْفَعَتِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُذَكًّى (1) .
وَيُنْظَرُ بَحْثُ: (تَعْذِيب) .
(ثَالِثًا)
الرَّمْيُ فِي الْجِهَادِ
تَعَلُّمُ الرَّمْيِ:
27 - حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ عَلَى الرَّمْيِ وَحَضَّهُمْ عَلَى مُوَاصَلَةِ التَّدَرُّبِ عَلَيْهِ، وَحَذَّرَ مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ فَتَرَكَهُ، رَوَى سَلَمَةُ بْنُ الأَْكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مَرَّ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيل فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلاَنٍ. قَال: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَكُمْ لاَ تَرْمُونَ؟ قَالُوا: كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْمُوا فَأَنَا مَعَكُمْ كُلُّكُمْ (2) .
وَفَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُوَّةَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 13 / 107، 108، وسبل السلام 4 / 133، ونيل الأوطار 8 / 249 نشر دار الجيل، وعمدة القاري 21 / 124
(2) حديث: " ارموا بني إسماعيل ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 91 - ط السلفية)(23/168)
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) بِالرَّمْيِ، كَمَا فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُول: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلاَ إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ (2) .
وَعَنْ خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ قَال: كُنْتُ رَامِيًا أُرَامِي عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ، فَمَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَال يَا خَالِدُ: اخْرُجْ بِنَا نَرْمِي، فَأَبْطَأْتُ عَلَيْهِ فَقَال: يَا خَالِدُ: تَعَال أُحَدِّثُكَ مَا حَدَّثَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقُول لَكَ كَمَا قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِل بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلاَثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ الَّذِي احْتَسَبَ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَمُنَبِّلَهُ، وَالرَّامِيَ بِهِ، ارْمُوا وَارْكَبُوا، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا، وَلَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ إِلاَّ ثَلاَثٌ: تَأْدِيبُ الرَّجُل فَرَسَهُ، وَمُلاَعَبَتُهُ زَوْجَتَهُ، وَرَمْيُهُ بِنَبْلِهِ عَنْ قَوْسِهِ، وَمَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَهِيَ نِعْمَةٌ كَفَرَهَا (3) .
وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى تَدُل عَلَى فَضْل الرَّمْيِ وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهِ (4) مِنْهَا مَا رَوَى أَبُو نَجِيحٍ
__________
(1) سورة الأنفال / 60
(2) حديث: " ألا إن القوة الرمي ". أخرجه مسلم (3 / 1522 - ط الحلبي)
(3) حديث: " إن الله يدخل بالسهم الواحد ". أخرجه الحاكم (2 / 95 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي
(4) المغني 8 / 652، وعمدة القاري 14 / 182(23/169)
أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيل اللَّهِ فَهُوَ لَهُ عَدْل مُحَرَّرٍ.
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الأَْحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ فِي فَضْل الرَّمْيِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ: فِي هَذِهِ الأَْحَادِيثِ فَضِيلَةُ الرَّمْيِ وَالْمُنَاضَلَةِ، وَالاِعْتِنَاءُ بِذَلِكَ بِنِيَّةِ الْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ الْمُشَاجَعَةُ، وَسَائِرُ أَنْوَاعِ اسْتِعْمَال السِّلاَحِ، وَكَذَا الْمُسَابَقَةُ بِالْخَيْل وَغَيْرِهَا، وَالْمُرَادُ بِهَذَا كُلِّهِ التَّمَرُّنُ عَلَى الْقِتَال، وَالتَّدَرُّبُ، وَالتَّحَذُّقُ فِيهِ، وَرِيَاضَةُ الأَْعْضَاءِ بِذَلِكَ (1) .
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: فَضْل الرَّمْيِ عَظِيمٌ، وَمَنْفَعَتُهُ عَظِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَنِكَايَتُهُ شَدِيدَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بَنِي إِسْمَاعِيل ارْمُوا فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا (2) وَتَعَلُّمُ الْفُرُوسِيَّةِ وَاسْتِعْمَال الأَْسْلِحَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَقَدْ يَتَعَيَّنُ (3) .
الْمُنَاضَلَةُ:
28 - الْمُنَاضَلَةُ هِيَ الْمُسَابِقَةُ فِي الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ، وَالْمُنَاضَلَةُ مَصْدَرُ نَاضَلْتُهُ نِضَالاً وَمُنَاضَلَةً، وَسُمِّيَ الرَّمْيُ نِضَالاً لأَِنَّ السَّهْمَ التَّامَّ يُسَمَّى
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 13 / 64
(2) حديث: " يا بني إسماعيل ارموا. . . " سبق تخريجه ف / 26
(3) تفسير القرطبي 8 / 36(23/169)
نَضْلاً، فَالرَّمْيُ بِهِ عَمَلٌ بِالنَّضْل فَسُمِّيَ نِضَالاً وَمُنَاضَلَةً (1) .
وَتَصِحُّ الْمُنَاضَلَةُ عَلَى الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ بِالاِتِّفَاقِ (2) . وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ الْمُنَاضَلَةَ - بِجَانِبِ مَا تَقَدَّمَ - عَلَى رِمَاحٍ، وَعَلَى رَمْيٍ بِأَحْجَارٍ بِمِقْلاَعٍ، أَوْ بِيَدٍ، وَرَمْيٍ بِمَنْجَنِيقٍ، وَكُل نَافِعٍ فِي الْحَرْبِ بِمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ كَالرَّمْيِ بِالْمِسَلاَّتِ، وَالإِْبَرِ، وَالتَّرَدُّدِ بِالسُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ.
وَقَدْ تَجِبُ الْمُنَاضَلَةُ إِذَا تَعَيَّنَتْ طَرِيقًا لِقِتَال الْكُفَّارِ، وَقَدْ يُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمُ - حَسَبَ اخْتِلاَفِ الْمَذَاهِبِ - إِذَا كَانَ سَبَبًا فِي قِتَال قَرِيبٍ كَافِرٍ لَمْ يَسُبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَبِذَلِكَ تَعْتَرِي الْمُنَاضَلَةَ الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ (3) .
(رَابِعًا)
الرَّمْيُ فِي الْقَذْفِ
الرَّمْيُ بِالزِّنَا:
29 - الرَّمْيُ بِالزِّنَا لاَ فِي مَعْرِضِ الشَّهَادَةِ يُوجِبُ حَدَّ الْقَذْفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ
__________
(1) المغني 8 / 661
(2) ابن عابدين 5 / 257، وبدائع الصنائع 6 / 206، والمغني 8 / 652 - 653 والإقناع 2 / 247، وجواهر الإكليل 1 / 271
(3) الإقناع وحاشية الباجوري عليه 2 / 247، والموسوعة الفقهية 16 / 150(23/170)
ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) وَالْمُرَادُ: الرَّمْيُ بِالزِّنَا بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا الرَّمْيُ فِي مَعْرِضِ الشَّهَادَةِ فَيُنْظَرُ: إِنْ تَمَّ عَدَدُ الشُّهُودِ أَرْبَعَةً وَثَبَتُوا عَلَى شَهَادَتِهِمْ أُقِيمَ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْمَرْمِيِّ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ، بِأَنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ فَعَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: أَنَّ الشُّهُودَ - عِنْدَ عَدَمِ تَمَامِ الْعَدَدِ - لاَ حَدَّ عَلَيْهِمْ لأَِنَّهُمْ شُهُودٌ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ كَمَا لَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً أَحَدُهُمْ فَاسِقٌ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: قَذْف) .
رَمْيُ الْجِمَارِ
انْظُرْ: رَمْي
__________
(1) سورة النور / 4
(2) البناية 5 / 443، وروضة الطالبين 10 / 107، 108، والمغني مع الشرح الكبير 10 / 179، والشرح الصغير 4 / 265(23/170)
رِهَان
التَّعْرِيفُ:
يَأْتِي الرِّهَانُ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا:
1 - الْمُخَاطَرَةُ: جَاءَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الرِّهَانُ وَالْمُرَاهَنَةُ: الْمُخَاطَرَةُ. يُقَال: رَاهَنَهُ فِي كَذَا، وَهُمْ يَتَرَاهَنُونَ، وَأَرْهَنُوا بَيْنَهُمْ خَطَرًا، وَصُورَةُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ مَعَانِي الرِّهَانِ: أَنْ يَتَرَاهَنَ شَخْصَانِ أَوْ حِزْبَانِ عَلَى شَيْءٍ يُمْكِنُ حُصُولُهُ كَمَا يُمْكِنُ عَدَمُ حُصُولِهِ بِدُونِهِ، كَأَنْ يَقُولاَ مَثَلاً: إِنْ لَمْ تُمْطِرِ السَّمَاءُ غَدًا فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا مِنَ الْمَال، وَإِلاَّ فَلِي عَلَيْكَ مِثْلُهُ مِنَ الْمَال، وَالرِّهَانُ بِهَذَا الْمَعْنَى حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْمُلْتَزِمِينَ بِأَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَغْنَمَ أَوْ يَغْرَمَ، وَهُوَ صُورَةُ الْقِمَارِ الْمُحَرَّمِ (1) .
وَأَمَّا الرِّهَانُ بَيْنَ الْمُلْتَزِمِ وَبَيْنَ الْحَرْبِيِّ فَقَدِ
__________
(1) القليوبي 4 / 266، نهاية المحتاج 8 / 168، المغني 8 / 654، فتح القدير 6 / 178(23/171)
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاء فِي تَحْرِيمِهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ (ر: مَيْسِر، رِبًا) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: الرِّهَانُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُلْتَزِمِ وَالْحَرْبِيِّ، لأَِنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ فِي دَارِهِمْ، فَبِأَيِّ طَرِيقَةٍ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُ أَخَذَ مَالاً مُبَاحًا إِذَا لَمْ يَكُنْ غَدْرًا، وَاسْتَدَل بِقِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ مَعَ قُرَيْشٍ فِي مَكَّةَ قَبْل الْهِجْرَةِ، لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ {أَلَمْ غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَْرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَْمْرُ مِنْ قَبْل وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فَقَالَتْ قُرَيْشٌ لأَِبِي بَكْرٍ: تَرَوْنَ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ فَارِسًا قَال: نَعَمْ، فَقَالُوا: أَتُخَاطِرُنَا عَلَى ذَلِكَ؟ فَخَاطَرَهُمْ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اذْهَبْ إِلَيْهِمْ فَزِدْ فِي الْخَطَرِ فَفَعَل، وَغَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسًا، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ خَطَرَهُ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ (1) . قَال ابْنُ الْهُمَامِ: وَهَذَا هُوَ الْقِمَارُ بِعَيْنِهِ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (مَيْسِر) .
2 - وَيَأْتِي الرِّهَانُ بِمَعْنَى الْمُسَابَقَةِ بِالْخَيْل أَوِ الرَّمْيِ، وَهَذَا جَائِزٌ بِشُرُوطِهِ - (ر: مُسَابَقَة) .
__________
(1) حديث: " نزول آية الروم ورهان أبي بكر مع قريش ". أخرجه الترمذي (5 / 344 - ط الحلبي) بلفظ مقارب، وقال: " حديث حسن صحيح "
(2) فتح القدير 6 / 178(23/171)
3 - وَيَأْتِي بِمَعْنَى: رَهْنٍ، وَالرِّهَانُ جَمْعُهُ، وَهُوَ جَعْل مَالٍ وَثِيقَةً بِدَيْنٍ يُسْتَوْفَى مِنْهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ وَفَائِهِ. (ر: رَهْن) .
4 - وَيُطْلَقُ الرِّهَانُ عَلَى الْمَال الْمَشْرُوطِ فِي سِبَاقِ الْخَيْل وَنَحْوِهِ، جَاءَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: السَّبَقُ - بِفَتْحِ الْبَاءِ - الْخَطَرُ الَّذِي يُوضَعُ فِي الرِّهَانِ عَلَى الْخَيْل وَالنِّضَال، وَالرِّهَانُ بِهَذَا الْمَعْنَى مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، بَل هُوَ مُسْتَحَبٌّ إِذَا قُصِدَ بِهِ التَّأَهُّبُ لِلْجِهَادِ.
5 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ الرِّهَانُ مِنَ الْحَيَوَانِ فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَكُونُ فِي الْخَيْل، وَالإِْبِل، وَالْفِيل، وَالْبَغْل، وَالْحِمَارِ فِي الْقَوْل الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ إِلاَّ فِي الْخَيْل وَالإِْبِل، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ فِي الْخَيْل وَالإِْبِل وَعَلَى الأَْرْجُل.
شُرُوطُ جَوَازِ الرِّهَانِ فِي السِّبَاقِ:
6 - يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الرِّهَانِ عَلَى مَا ذُكِرَ: عِلْمُ الْمَوْقِفِ الَّذِي يَجْرِيَانِ مِنْهُ، وَالْغَايَةِ الَّتِي يَجْرِيَانِ إِلَيْهَا، وَتَسَاوِيهِمَا فِيهِمَا، وَالْعِلْمُ بِالْمَشْرُوطِ، وَتَعْيِينُ الْفَرَسَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، وَإِمْكَانُ سَبْقِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيَجُوزُ الْمَال مِنْ غَيْرِهِمَا وَمِنْ أَحَدِهِمَا، فَيَقُول: إِنْ سَبَقْتَنِي فَلَكَ عَلَيَّ كَذَا، وَإِنْ سَبَقْتُكَ فَلاَ شَيْءَ لِي عَلَيْكَ، وَإِنْ شَرَطَ أَنَّ مَنْ سَبَقَ مِنْهُمَا فَلَهُ عَلَى الآْخَرِ كَذَا لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّ(23/172)
كُلًّا مِنْهُمَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَغْنَمَ وَأَنْ يَغْرَمَ، وَهُوَ صُورَةُ الْقِمَارِ الْمُحَرَّمِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مُحَلِّلٌ فَرَسُهُ كُفْءٌ لِفَرَسَيْهِمَا، إِنْ سَبَقَ أَخَذَ مَالَهُمَا، وَإِنْ سَبَقَ لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا (1) .
وَالتَّفْصِيل وَأَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي (مُسَابَقَة) .
__________
(1) القليوبي 4 / 265 - 266، مواهب الجليل 3 / 390، ابن عابدين 5 / 479(23/172)
رَهْبَانِيَّة
. التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّهْبَانِيَّةُ لُغَةً: مِنَ الرَّهْبَةِ، وَهِيَ الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ مَعَ تَحَرُّزٍ وَاضْطِرَابٍ، وَمِنْهَا الرَّاهِبُ: وَهُوَ الْمُتَعَبِّدُ فِي صَوْمَعَةٍ مِنَ النَّصَارَى يَتَخَلَّى عَنْ أَشْغَال الدُّنْيَا وَمَلاَذِّهَا زَاهِدًا فِيهَا مُعْتَزِلاً أَهْلَهَا، وَالْجَمْعُ: رُهْبَانٌ، وَقَدْ يَكُونُ الرُّهْبَانُ وَاحِدًا، وَالْجَمْعُ رَهَابِينُ وَتَرَهَّبَ الرَّجُل إِذَا صَارَ رَاهِبًا.
وَالرَّهْبَانِيَّةُ: - بِفَتْحِ الْيَاءِ - مَنْسُوبَةٌ إِلَى الرُّهْبَانِ وَهُوَ الْخَائِفُ، فَعْلاَنُ مِنْ رَهِبَ، كَخَشْيَانِ مِنْ خَشِيَ. وَتَكُونُ أَيْضًا - بِضَمِّ الرَّاءِ - نِسْبَةً إِلَى الرُّهْبَانِ وَهُوَ جَمْعُ رَاهِبٍ كَرَاكِبٍ وَرُكْبَانٍ (1) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وغريب القرآن للأصفهاني مادة (رهب) ، وروح المعاني 9 / 190، وأحكام القرآن لابن العربي 4 / 1732، والتفسير الكبير 29 / 244، تفسير الزمخشري 4 / 67(23/173)
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعُزْلَةُ:
2 - الْعُزْلَةُ لُغَةً: التَّجَنُّبُ وَهِيَ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَهِيَ ضِدُّ الْمُخَالَطَةِ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّهْبَانِيَّةِ: أَنَّ الْعُزْلَةَ مِنْ وَسَائِل الرَّهْبَانِيَّةِ، وَهِيَ عَلَى خِلاَفِ الأَْصْل، وَقَدْ تَقَعُ عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ لِغَيْرِ التَّرَهُّبِ فَلاَ تَحْرُمُ.
ب - السِّيَاحَةُ:
3 - مِنْ مَعَانِي السِّيَاحَةِ فِي اللُّغَةِ: الذَّهَابُ فِي الأَْرْضِ لِلتَّعَبُّدِ وَالتَّرَهُّبِ، وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.
وَكَانَتِ السِّيَاحَةُ هَكَذَا مِمَّا يَتَعَبَّدُ بِهِ رُهْبَانُ النَّصَارَى، وَلِذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: سِيَاحَةُ أُمَّتِي الْجِهَادُ (1) ، وَتَأْتِي السِّيَاحَةُ بِمَعْنَى إِدَامَةِ الصَّوْمِ.
فَالسِّيَاحَةُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل قَرِيبَةٌ مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ.
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (سِيَاحَة) .
__________
(1) حديث: " سياحة أمتي الجهاد ". أخرجه أبو داود (3 / 12 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 73 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي أمامة وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.(23/173)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - نَهَتِ الشَّرِيعَةُ عَنِ الرَّهْبَانِيَّةِ - بِمَعْنَاهَا الَّذِي كَانَ يُمَارِسُهُ رُهْبَانُ النَّصَارَى - وَهُوَ الْغُلُوُّ فِي الْعِبَادَاتِ، وَالتَّخَلِّي عَنْ أَشْغَال الدُّنْيَا وَتَرْكُ مَلاَذِّهَا، وَاعْتِزَال النِّسَاءِ، وَالْفِرَارُ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ، وَلُزُومُ الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ أَوِ التَّعَبُّدُ فِي الْغِيرَانِ وَالْكُهُوفِ، وَالسِّيَاحَةُ فِي الأَْرْضِ عَلَى غَيْرِ هُدًى بِلُحُوقِهِمْ بِالْبَرَارِيِّ وَالْجِبَال، وَحَمْل أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْمَشَقَّاتِ فِي الاِمْتِنَاعِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَنْكَحِ، وَتَعْذِيبُ النَّفْسِ بِالأَْعْمَال التَّعَبُّدِيَّةِ الشَّاقَّةِ كَأَنْ يَخْصِيَ نَفْسَهُ أَوْ يَضَعَ سَلْسَلَةً فِي عُنُقِهِ.
وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {قُل يَا أَهْل الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْل وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل} (1) .
وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكَ بِالْجِهَادِ، فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الإِْسْلاَمِ (2) . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ (3) . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَغِبَ
__________
(1) سورة المائدة / 77
(2) حديث: " عليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام ". أخرجه أحمد (3 / 82 - ط الميمنية) من حديث أبي سعيد الخدري، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 215 - ط القدسي) وقال: " رواه أحمد وأبو يعلى، ورجال أحمد ثقات "
(3) حديث: " ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 93 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة(23/174)
عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي (1) .
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْفْضَل لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَخْتَلِطَ بِالنَّاسِ، وَيَحْضُرَ جَمَاعَاتِهِمْ وَمَشَاهِدَ الْخَيْرِ وَمَجَالِسَ الْعِلْمِ، وَأَنْ يَعُودَ مَرِيضَهُمْ، وَيَحْضُرَ جَنَائِزَهُمْ، وَيُوَاسِيَ مُحْتَاجَهُمْ، وَيُرْشِدَ جَاهِلَهُمْ، وَيَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَدْعُوَ لِلْخَيْرِ، وَيَنْشُرَ الْحَقَّ وَالْفَضِيلَةَ، وَيُجَاهِدَ فِي سَبِيل اللَّهِ لإِِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَإِعْزَازِ دِينِهِ مَعَ قَمْعِ نَفْسِهِ عَنْ إِيذَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ.
قَال النَّوَوِيُّ: إِنَّ الاِخْتِلاَطَ بِالنَّاسِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُوَ الْمُخْتَارُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرُ الأَْنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْيَارِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (2) وقَوْله تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (4) .
__________
(1) حديث: " من رغب عن سنتي فليس مني ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 104 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1020 - ط الحلبي) من حديث أنس
(2) سورة المائدة / 2
(3) سورة آل عمران / 110
(4) سورة الصف / 4(23/174)
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعِبَادَةُ فِي الْهَرَجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ (1) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الَّذِي لاَ يُخَالِطُهُمْ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ (2) .
هَذَا إِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ فِتْنَةٌ عَامَّةٌ أَوْ فَسَادٌ سَائِدٌ لاَ يَسْتَطِيعُ إِصْلاَحَهُ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وُقُوعُهُ فِي الْحَرَامِ بِسَبَبِ الْمُخَالَطَةِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْعُزْلَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (3) .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ النَّاسِ رَجُلٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَرَجُلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ (4) .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَال الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَغَفَ الْجِبَال وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ (5) .
__________
(1) حديث: " العبادة في الهرج كهجرة إليّ ". أخرجه مسلم (4 / 2268 - ط الحلبي) من حديث معقل بن يسار
(2) حديث: " المؤمن الذي يخالط الناس. . . " أخرجه أحمد (2 / 43 - ط الميمنية) من حديث أبي هريرة، وإسناده صحيح.
(3) سورة الأنفال / 25
(4) حديث: " خير الناس رجل جاهد بنفسه وماله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 331 - ط السلفية) من حديث أبي سعيد الخدري
(5) تفسير القرطبي 17 / 263، أحكام القرآن لابن العربي 4 / 1732، الاعتصام للشاطبي ص 233، دليل الفالحين 3 / 37، 45. وحديث: " يوشك أن يكون خير مال المسلم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 40 - ط السلفية) من حديث أبي سعيد الخدري(23/175)
رَهْن
. التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّهْنُ فِي اللُّغَةِ: الثُّبُوتُ وَالدَّوَامُ، يُقَال: مَاءٌ رَاهِنٌ أَيْ: رَاكِدٌ وَدَائِمٌ، وَنِعْمَةٌ رَاهِنَةٌ أَيْ: ثَابِتَةٌ دَائِمَةٌ.
وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْحَبْسِ (1) . وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى: قَوْله تَعَالَى: {كُل امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (2) وَحَدِيثُ: نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مَرْهُونَةٌ - أَيْ مَحْبُوسَةٌ - بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ (3) .
وَشَرْعًا: جَعْل عَيْنٍ مَالِيَّةٍ وَثِيقَةً بِدَيْنٍ يُسْتَوْفَى مِنْهَا أَوْ مِنْ ثَمَنِهَا إِذَا تَعَذَّرَ الْوَفَاءُ (4) .
__________
(1) لسان العرب، وأسنى المطالب 2 / 144، وابن عابدين 5 / 307، وحاشية الدسوقي 3 / 231، والمغني 4 / 361، ونهاية المحتاج 4 / 233
(2) سورة الطور / 21
(3) حديث: " نفس المؤمن مرهونة بدينه حتى يقضى عنه دينه ". ورد بلفظ: " معلقة " بدلاً من " مرهونة " أخرجه الترمذي (3 / 380 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن "
(4) المصادر السابقة مع اختلافات لفظية بين تعريفاتهم(23/175)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الضَّمَانُ:
2 - وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الاِلْتِزَامُ (1) .
وَشَرْعًا هُوَ الْتِزَامٌ بِحَقٍّ ثَابِتٍ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ، أَوْ بِإِحْضَارِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَيُسَمَّى الْمُلْتَزِمُ ضَامِنًا، وَكَفِيلاً، وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِاسْتِعْمَال لَفْظِ الضَّمَانِ فِي الأَْمْوَال وَالْكَفَالَةِ فِي النُّفُوسِ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ كُلًّا مِنَ الرَّهْنِ وَالضَّمَانِ عَقْدُ وَثِيقَةٍ لِلدَّيْنِ، لَكِنَّ الضَّمَانَ يَكُونُ ضَمُّ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ فِي الْمُطَالَبَةِ، أَمَّا الرَّهْنُ فَلاَ بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ عَيْنٍ مَالِيَّةٍ يُسْتَوْفَى مِنْهَا الدَّيْنُ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوَفَاءِ.
مَشْرُوعِيَّةُ الرَّهْنِ:
3 - الأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّةِ الرَّهْنِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (3) ، وَالْمَعْنَى: فَارْهَنُوا، وَاقْبِضُوا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (4) .
وَخَبَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ (5) .
__________
(1) المصباح المنير
(2) أسنى المطالب 2 / 235
(3) سورة البقرة / 283
(4) سورة النساء / 92
(5) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى طعامًا من يهودي " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 53 - ط السلفية) من حديث عائشة(23/176)
وَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الرَّهْنِ، وَتَعَامَلَتْ بِهِ مِنْ لَدُنْ عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الرَّهْنُ جَائِزٌ وَلَيْسَ وَاجِبًا. وَقَال صَاحِبُ الْمُغْنِي: لاَ نَعْلَمُ خِلاَفًا فِي ذَلِكَ، لأَِنَّهُ وَثِيقَةٌ بِدَيْنٍ، فَلَمْ يَجِبْ كَالضَّمَانِ، وَالْكَفَالَةِ. وَالأَْمْرُ الْوَارِدُ بِهِ أَمْرُ إِرْشَادٍ، لاَ أَمْرُ إِيجَابٍ، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (2) وَلأَِنَّهُ أَمْرٌ بَعْدَ تَعَذُّرِ الْكِتَابَةِ، وَالْكِتَابَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَكَذَلِكَ بَدَلُهَا (3) .
جَوَازُ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ:
5 - الرَّهْنُ فِي الْحَضَرِ جَائِزٌ جَوَازُهُ فِي السَّفَرِ، وَنَقَل صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَال: لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ ذَلِكَ إِلاَّ مُجَاهِدًا، وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: وَخَالَفَ فِيهِ الضَّحَّاكُ أَيْضًا (4) .
__________
(1) المغني 4 / 362، المجموع 13 / 177، نيل الأوطار 5 / 352
(2) سورة البقرة / 283
( x663 ;) المصادر السابقة
(4) المغني 4 / 362، نيل الأوطار 5 / 352، المجموع 13 / 177(23/176)
وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلاَثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ (1) " وَلأَِنَّهَا وَثِيقَةٌ تَجُوزُ فِي السَّفَرِ، فَجَازَتْ فِي الْحَضَرِ كَالضَّمَانِ، وَقَدْ تَتَرَتَّبُ الأَْعْذَارُ فِي الْحَضَرِ أَيْضًا فَيُقَاسُ عَلَى السَّفَرِ.
وَالتَّقْيِيدُ بِالسَّفَرِ فِي الآْيَةِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلاَ مَفْهُومَ لَهُ، لِدَلاَلَةِ الأَْحَادِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي الْحَضَرِ، وَأَيْضًا السَّفَرُ مَظِنَّةُ فَقْدِ الْكَاتِبِ، فَلاَ يُحْتَاجُ إِلَى الرَّهْنِ غَالِبًا إِلاَّ فِيهِ (2) .
أَرْكَانُ الرَّهْنِ:
أ - مَا يَنْعَقِدُ بِهِ الرَّهْنُ:
6 - يَنْعَقِدُ الرَّهْنُ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِهِ بِالْمُعَاطَاةِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ لاَ يَنْعَقِدُ إِلاَّ بِإِيجَابِ وَقَبُول قَوْلِيَّيْنِ كَالْبَيْعِ. وَقَالُوا: لأَِنَّهُ عَقْدٌ مَالِيٌّ فَافْتَقَرَ إِلَيْهِمَا.
وَلأَِنَّ الرِّضَا أَمْرٌ خَفِيٌّ لاَ اطِّلاَعَ لَنَا عَلَيْهِ فَجُعِلَتِ الصِّيغَةُ دَلِيلاً عَلَى الرِّضَا، فَلاَ يَنْعَقِدُ بِالْمُعَاطَاةِ، وَنَحْوِهِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الرَّهْنَ يَنْعَقِدُ بِكُل مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا عُرْفًا فَيَصِحُّ بِالْمُعَاطَاةِ،
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 99 - ط السلفية)
(2) المصادر السابقة
(3) نهاية المحتاج 3 / 375، 4 / 234، وحاشية ابن عابدين 5 / 307(23/177)
وَالإِْشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ، وَالْكِتَابَةِ، لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَلأَِنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ اسْتِعْمَال إِيجَابٍ وَقَبُولٍ فِي مُعَامَلاَتِهِمْ، وَلَوِ اسْتَعْمَلُوا ذَلِكَ لَنُقِل إِلَيْنَا شَائِعًا، وَلَمْ يَزَل الْمُسْلِمُونَ يَتَعَامَلُونَ فِي عُقُودِهِمْ بِالْمُعَاطَاةِ (1) .
وَيُشْتَرَطُ فِي الصِّيغَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِي صِيغَةِ الْبَيْعِ. (ر: بَيْع) .
ب - الْعَاقِدُ:
7 - شُرِطَ فِي كُلٍّ مِنَ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال بِأَنْ يَكُونَ عَاقِلاً بَالِغًا رَشِيدًا، غَيْرَ مَحْجُورٍ مِنَ التَّصَرُّفِ، فَأَمَّا الصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ، وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ فَلاَ يَصِحُّ مِنْهُ الرَّهْنُ، وَلاَ الاِرْتِهَانُ لأَِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْمَال فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُمْ (2) .
وَالرَّهْنُ نَوْعُ تَبَرُّعٍ؛ لأَِنَّهُ حَبْسُ مَالٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَمْ يَصِحَّ إِلاَّ مِنْ أَهْل التَّبَرُّعِ، فَيَصِحُّ رَهْنُ الْبَالِغِ الْعَاقِل الرَّشِيدِ مَالَهُ، أَوْ مَال مُوَلِّيهِ بِشَرْطِ وُقُوعِهِ عَلَى وَجْهِ الْغِبْطَةِ الظَّاهِرَةِ، فَيَكُونُ بِهَا مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِي مَال مُوَلِّيهِ، بِأَنْ تَكُونَ فِي
__________
(1) شرح الزرقاني 5 / 3 - 4، 232، الإنصاف 5 / 137، كشاف القناع 3 / 148 - 322
(2) المجموع 13 / 179، الإنصاف 5 / 139، الزرقاني 5 / 233(23/177)
رَهْنِهِ إِيَّاهُ غِبْطَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ ضَرُورَةٌ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ يَجُوزُ لَهُ الرَّهْنُ وَالاِرْتِهَانُ؛ لأَِنَّ الرَّهْنَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فَيَمْلِكُهُ مَنْ يَمْلِكُ التِّجَارَةَ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ وَالسَّفِيهَ يَصِحُّ رَهْنُهُمَا وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ (2) .
ج - الْمَرْهُونُ بِهِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِكُل حَقٍّ لاَزِمٍ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ آيِلٍ إِلَى اللُّزُومِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيل.
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِيمَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ ثَلاَثَةُ شُرُوطٍ:
1 - أَنْ يَكُونُ دَيْنًا، فَلاَ يَصِحُّ أَخْذُ الرَّهْنِ بِالأَْعْيَانِ مَضْمُونَةً كَانَتْ أَوْ أَمَانَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ ضَمَانُ الْعَيْنِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ أَوْ بِحُكْمِ الْيَدِ، كَالْمُسْتَعَارِ، وَالْمَأْخُوذِ بِالسَّوْمِ، وَالْمَغْصُوبِ، وَالأَْمَانَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْوَدِيعَةِ وَنَحْوِهَا، وَقَالُوا: لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الرَّهْنَ فِي الْمُدَايَنَةِ فَلاَ يَثْبُتُ فِي غَيْرِهَا؛ وَلأَِنَّ الأَْعْيَانَ لاَ تُسْتَوْفَى مِنْ ثَمَنِ الْمَرْهُونِ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِقَرْضِ الرَّهْنِ عِنْدَ بَيْعِهِ.
2 - أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ ثَابِتًا، فَلاَ يَصِحُّ أَخْذُ الرَّهْنِ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 236، المغني 4 / 364، كشاف القناع 3 / 322
(2) البدائع 5 / 135، والخرشي 5 / 236(23/178)
بِمَا لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَإِنْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ، فَلاَ يَصِحُّ بِمَا سَيُقْرِضُهُ غَدًا، أَوْ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ غَدًا؛ لأَِنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةُ حَقٍّ فَلاَ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ.
3 - أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ لاَزِمًا أَوْ آيِلاً إِلَى اللُّزُومِ، فَلاَ يَصِحُّ بِجَعْل الْجِعَالَةِ قَبْل الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَل؛ لأَِنَّهُ لاَ فَائِدَةَ فِي الْوَثِيقَةِ مَعَ تَمَكُّنِ الْمَدْيُونِ مِنْ إِسْقَاطِهَا.
فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ أَخْذُ الرَّهْنِ بِكُل حَقٍّ لاَزِمٍ فِي الذِّمَّةِ ثَابِتٍ غَيْرِ مُعَرَّضٍ لِلإِْسْقَاطِ مِنَ الرَّاهِنِ، كَدَيْنِ السَّلَمِ، وَعِوَضِ الْقَرْضِ، وَثَمَنِ الْمَبِيعَاتِ، وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَالْمَهْرِ، وَعِوَضِ الْخُلْعِ غَيْرِ الْمُعَيَّنَيْنِ، وَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ بَعْدَ حُلُول الْحَوْل، وَالأُْجْرَةِ فِي إِجَارَةِ الْعَيْنِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِجَمِيعِ الأَْثْمَانِ الْوَاقِعَةِ فِي جَمِيعِ الْبُيُوعَاتِ، إِلاَّ الصَّرْفَ، وَرَأْسَ مَال السَّلَمِ؛ لأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِدَيْنِ السَّلَمِ وَالْقَرْضِ، وَالْمَغْصُوبِ، وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَأَرْشِ الْجِنَايَاتِ فِي الأَْمْوَال، وَجِرَاحِ الْعَمْدِ الَّذِي لاَ قَوَدَ فِيهِ كَالْمَأْمُومَةِ، وَالْجَائِفَةِ، وَارْتِهَانٌ قَبْل الدَّيْنِ مِنْ قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ، وَمَا يَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ مِنَ الأُْجْرَةِ بِسَبَبِ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الأَْجِيرُ لَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ دَابَّتِهِ،
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 53، أسنى المطالب 2 / 150، نهاية المحتاج 4 / 248(23/178)
وَمَا يَلْزَمُ بِسَبَبِ جِعَالَةِ مَا يَلْزَمُ بِالْعَارِيَّةِ الْمَضْمُونَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِعِوَضِ الْقَرْضِ وَإِنْ كَانَ قَبْل ثُبُوتِهِ، بِأَنْ يَرْهَنَهُ لِيُقْرِضَهُ مَبْلَغًا مِنَ النُّقُودِ فِي الشَّهْرِ الْقَادِمِ، فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ كَانَ مَضْمُونًا بِمَا وَعَدَ مِنَ الدَّيْنِ، وَبِرَأْسِ مَال السَّلَمِ، وَثَمَنِ الصَّرْفِ، وَالْمُسَلَّمِ فِيهِ، فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي الْمَجْلِسِ تَمَّ الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ، وَصَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ حُكْمًا، وَإِنِ افْتَرَقَا قَبْل نَقْدٍ (قَبْضٍ) أَوْ هَلاَكٍ بَطَلاَ.
وَيَجُوزُ الرَّهْنُ بِالأَْعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِعَيْنِهَا كَالْمَغْصُوبَةِ، وَبَدَل الْخُلْعِ، وَالصَّدَاقِ، وَبَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ؛ لأَِنَّ الضَّمَانَ مُتَقَرِّرٌ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ قَائِمًا وَجَبَ تَسْلِيمُهُ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا تَجِبُ قِيمَتُهُ، فَكَانَ رَهْنًا بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ.
أَمَّا الأَْعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ بِغَيْرِهَا كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَالأَْمَانَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْوَدَائِعِ، وَالْعَوَارِيِّ، وَالْمُضَارَبَاتِ، وَمَال الشَّرِكَةِ، فَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهَا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ الرَّهْنُ بِكُل دَيْنٍ وَاجِبٍ أَوْ مَآلُهُ إِلَى الْوُجُوبِ، كَقَرْضٍ، وَقِيمَةِ مُتْلَفٍ، وَثَمَنٍ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَعَلَى الْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 244، بلغة السالك 2 / 116
(2) حاشية الطحطاوي 4 / 240، الهداية 4 / 133(23/179)
كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَوَارِيِّ، وَالْمَقْبُوضِ عَلَى وَجْهِ السَّوْمِ، وَالْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ.
لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الرَّهْنِ الْوَثِيقَةُ بِالْحَقِّ، وَهُوَ حَاصِلٌ، فَإِنَّ الرَّهْنَ بِهَذِهِ الأَْعْيَانِ يَحْمِل الرَّاهِنَ عَلَى أَدَائِهَا، فَإِنْ تَعَذَّرَ أَدَاؤُهَا اسْتَوْفَى بَدَلَهَا مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ، فَأَشْبَهَتْ مَا فِي الذِّمَّةِ.
وَيَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ عَلَى مَنْفَعَةٍ إِجَارَةً فِي الذِّمَّةِ، كَمَنِ اسْتُؤْجِرَ لِبِنَاءِ دَارٍ، وَحَمْل شَيْءٍ مَعْلُومٍ إِلَى مَحَلٍّ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ لَمْ يَعْمَل الأَْجِيرُ الْعَمَل بِيعَ الرَّهْنُ، وَاسْتُؤْجِرَ مِنْهُ مَنْ يَعْمَلُهُ. وَيَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِدِيَةٍ عَلَى عَاقِلَةٍ بَعْدَ حُلُول الْحَوْل لِوُجُوبِهَا، أَمَّا قَبْل حُلُول الْحَوْل فَلاَ يَصِحُّ لِعَدَمِ وُجُوبِهَا. وَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ عَلَى جُعْل الْجِعَالَةِ قَبْل الْعَمَل، وَلاَ عَلَى عِوَضِ مُسَابَقَةٍ قَبْل الْعَمَل لِعَدَمِ وُجُوبِ ذَلِكَ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ يَئُول إِلَى الْوُجُوبِ. وَبَعْدَ الْعَمَل جَازَ فِيهِمَا.
وَلاَ يَصِحُّ أَخْذُ الرَّهْنِ بِعِوَضٍ غَيْرِ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ كَالثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ كَقِطْعَةٍ مِنَ الذَّهَبِ جُعِلَتْ بِعَيْنِهَا ثَمَنًا، وَالأُْجْرَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي الإِْجَارَةِ، وَالْمَنْفَعَةِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا فِي الإِْجَارَةِ، كَدَارٍ مُعَيَّنَةٍ، وَدَابَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، لِحَمْل شَيْءٍ مُعَيَّنٍ إِلَى مَكَانٍ مَعْلُومٍ؛ لأَِنَّ الذِّمَّةَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ حَقٌّ وَاجِبٌ، وَلاَ يَئُول إِلَى الْوُجُوبِ؛ وَلأَِنَّ الْحَقَّ يَتَعَلَّقُ بِأَعْيَانِ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ (1) .
__________
(1) كشاف القناع 3 / 324، الإنصاف 5 / 137 - 138(23/179)
د - الْمَرْهُونُ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ رَهْنُ كُل مُتَمَوَّلٍ يُمْكِنُ أَخْذُ الدَّيْنِ مِنْهُ، أَوْ مِنْ ثَمَنِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ وَفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفَاصِيل. فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ كُل عَيْنٍ جَازَ بَيْعُهَا جَازَ رَهْنُهَا، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الرَّهْنِ أَنْ يُبَاعَ وَيُسْتَوْفَى الْحَقُّ مِنْهُ إِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي كُل عَيْنٍ جَازَ بَيْعُهَا، وَلأَِنَّ مَا كَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَانَ مَحَلًّا لِحِكْمَةِ الرَّهْنِ، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ بَيْعُ الْمَشَاعِ سَوَاءٌ رَهَنَ عِنْدَ شَرِيكِهِ أَمْ عِنْدَ غَيْرِهِ قَبِل الْقِسْمَةَ أَمْ لَمْ يَقْبَلْهَا، وَمَا لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ لاَ يَصِحُّ رَهْنُهُ، فَلاَ يَصِحُّ رَهْنُ الْمُسْلِمِ، أَوِ ارْتِهَانُهُ كَلْبًا، أَوْ خِنْزِيرًا، أَوْ خَمْرًا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ رَهْنُ مَا فِيهِ غَرَرٌ يَسِيرٌ، كَبَعِيرٍ شَارِدٍ، وَثَمَرٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ، لأَِنَّ لِلْمُرْتَهِنِ دَفْعُ مَالِهِ بِغَيْرِ وَثِيقَةٍ، فَسَاغَ أَخْذُهُ بِمَا فِيهِ غَرَرٌ، لأَِنَّهُ شَيْءٌ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ لاَ شَيْءٍ، بِخِلاَفِ مَا فِيهِ غَرَرٌ شَدِيدٌ كَالْجَنِينِ، وَزَرْعٍ لَمْ يُخْلَقْ (1) .
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَرْهُونِ مَا يَلِي:
1 - أَنْ يَكُونَ مَحُوزًا أَيْ مَقْسُومًا، فَلاَ يَجُوزُ رَهْنُ الْمَشَاعِ.
__________
(1) المغني 4 / 374، المجموع 13 / 198، نهاية المحتاج 4 / 238، بلغة السالك 2 / 109، وشرح الزرقاني 5 / 237(23/180)
2 - وَأَنْ يَكُونَ مُفْرَغًا عَنْ مِلْكِ الرَّاهِنِ، فَلاَ يَجُوزُ رَهْنٌ مَشْغُولٌ بِحَقِّ الرَّاهِنِ، كَدَارٍ فِيهَا مَتَاعُهُ.
3 - وَأَنْ يَكُونَ مُمَيَّزًا، فَلاَ يَجُوزُ رَهْنُ الْمُتَّصِل بِغَيْرِهِ اتِّصَال خِلْقَةٍ كَالثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ بِدُونِ الشَّجَرِ، لأَِنَّ الْمَرْهُونَ مُتَّصِلٌ بِغَيْرِ الْمَرْهُونِ خِلْقَةً فَصَارَ كَالشَّائِعِ (1) .
رَهْنُ الْمُسْتَعَارِ:
10 - لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ، فَيَصِحُّ رَهْنُ الْمُسْتَعَارِ بِإِذْنِ الْمُعِيرِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَنَقَل صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ الاِسْتِعَارَةِ لِلرَّهْنِ، لأَِنَّهُ تَوَثُّقٌ، وَهُوَ يَحْصُل بِمَا لاَ يَمْلِكُهُ الرَّاهِنُ بِدَلِيل صِحَّةِ الإِْشْهَادِ وَالْكَفَالَةِ، وَلأَِنَّ لِلْمُعِيرِ أَنْ يُلْزِمَ ذِمَّتَهُ دَيْنَ غَيْرِهِ، فَيَمْلِكُ أَنْ يُلْزِمَ عَيْنَ مَالِهِ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَحَل حَقِّهِ، وَتَصَرُّفِهِ (2) .
شُرُوطُ صِحَّةِ رَهْنِ الْمُسْتَعَارِ لِلرَّهْنِ:
11 - يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الْعَارِيَّةِ لِلرَّهْنِ: ذِكْرُ قَدْرِ الدَّيْنِ، وَجِنْسِهِ وَصِفَتِهِ، وَحُلُولِهِ وَتَأْجِيلِهِ، وَالشَّخْصِ الْمَرْهُونِ عِنْدَهُ، وَمُدَّةِ الرَّهْنِ لأَِنَّ الْغَرَرَ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ فَاحْتِيجَ إِلَيْهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ
__________
(1) حاشية الطحطاوي 4 / 235، والهداية 4 / 126، وفتح الباري 9 / 69 - 70
(2) المغني 4 / 380، روضة الطالبين 4 / 50، ابن عابدين 5 / 330، شرح الزرقاني 5 / 240(23/180)
الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) . وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَجِبُ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، فَإِنْ أَطْلَقَ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِشَيْءٍ صَحَّ الْعَقْدُ، وَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَرْهَنَ بِمَا شَاءَ؛ لأَِنَّ الإِْطْلاَقَ وَاجِبُ الاِعْتِبَارِ خُصُوصًا فِي الإِْعَارَةِ؛ لأَِنَّ الْجَهَالَةَ لاَ تُفْضِي فِيهَا إِلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لأَِنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَالْمَالِكُ قَدْ رَضِيَ بِتَعَلُّقِ دَيْنِ الْمُسْتَعِيرِ بِمَالِهِ، وَهُوَ يَمْلِكُ ذَلِكَ كَمَا يَمْلِكُ تَعَلُّقَهُ بِذِمَّتِهِ بِالْكَفَالَةِ (2) .
وَإِنْ شَرَطَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ فَخَالَفَ الْمُسْتَعِيرَ لَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي هَذَا الرَّهْنِ، فَأَشْبَهَ مَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي أَصْل الرَّهْنِ.
إِلاَّ أَنْ يُخَالِفَ إِلَى خَيْرٍ مِنْهُ، كَأَنْ يُؤْذَنَ لَهُ بِقَدْرٍ، وَيَرْهَنَ بِأَقَل مِنْهُ فَيَصِحُّ؛ لأَِنَّ مَنْ رَضِيَ بِقَدْرٍ فَقَدْ رَضِيَ بِمَا دُونَهُ (3) .
ضَمَانُ الْمُسْتَعَارِ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ الْعَيْنِ الْمُسْتَعَارَةِ لِلرَّهْنِ، وَفِيمَنْ يَضْمَنُهَا.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الأَْصْل فِي الْعَيْنِ الْمُسْتَعَارَةِ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 245، والقليوبي 2 / 265
(2) المغني 4 / 380، ابن عابدين 5 / 330، بلغة السالك 2 / 111
(3) المصادر السابقة(23/181)
لِلرَّهْنِ الضَّمَانُ، ثُمَّ قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا هَلَكَتْ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ قَبْل أَنْ يَرْهَنَهَا ضَمِنَ؛ لأَِنَّهُ مُسْتَعِيرٌ، وَالْعَارِيَّةُ مَضْمُونَةٌ. وَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ بِلاَ تَعَدٍّ وَلاَ تَفْرِيطٍ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِمَا، وَلاَ يَسْقُطُ الْحَقُّ عَنْ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ. لأَِنَّ الْمُرْتَهِنَ أَمِينٌ؛ وَلأَِنَّ الْعَقْدَ عَقْدُ ضَمَانٍ أَيْ ضَمَانِ الدَّيْنِ عَلَى رَقَبَةِ الْمَرْهُونِ، فَتَكُونُ يَدُ الْمُرْتَهِنِ يَدَ أَمَانَةٍ بَعْدَ الرَّهْنِ، فَلاَ ضَمَانَ بِالتَّعَدِّي (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الاِسْتِعَارَةَ لِلرَّهْنِ عَقْدُ ضَمَانٍ، فَيَضْمَنُ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ إِنْ هَلَكَتْ، بِتَفْرِيطٍ أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ لاَ يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ عَقْدَ عَارِيَّةٍ وَالْعَارِيَّةُ مَضْمُونَةٌ، فَيَضْمَنُ الْمُسْتَعِيرُ وَهُوَ الرَّاهِنُ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ لِلرَّهْنِ يَدُ أَمَانَةٍ، فَلاَ يَضْمَنُ الْعَيْنَ الْمُسْتَعَارَةَ لِلرَّهْنِ إِنْ هَلَكَتْ قَبْل رَهْنِهِ أَوْ بَعْدَ فَكِّهِ، وَإِنِ اسْتَخْدَمَهُ أَوْ رَكِبَهُ مِنْ قَبْل؛ لأَِنَّهُ أَمِينٌ خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْوِفَاقِ، أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَيَدُهُ يَدُ ضَمَانٍ، فَإِذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ الْمُسْتَعَارَةُ لِلرَّهْنِ فِي يَدِهِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ وَوَجَبَ لِلْمُعِيرِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ الرَّاهِنِ مِثْل الدَّيْنِ (3) .
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 245، أسنى المطالب 2 / 249، حاشية الدسوقي 3 / 239، وجواهر الإكليل 2 / 79.
(2) المغني 4 / 383
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 331، حاشية الطحطاوي 4 / 250(23/181)
لُزُومُ الرَّهْنِ:
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَلْزَمُ بِهِ الرَّهْنُ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لاَ يَلْزَمُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ وَالإِْقْبَاضِ مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ، وَلِلرَّاهِنِ الرُّجُوعُ عَنْهُ قَبْل الْقَبْضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (1) .
فَلَوْ لَزِمَ عَقْدُ الرَّهْنِ بِدُونِ قَبْضٍ لَمَا كَانَ لِلتَّقْيِيدِ بِهِ فَائِدَةٌ؛ وَلأَِنَّهُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُول فَافْتَقَرَ إِلَى الْقَبْضِ (2) .
وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ: إِنْ كَانَ الْمَرْهُونُ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا لاَ يَلْزَمُ رَهْنُهُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، وَفِيمَا عَدَاهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ إِحْدَاهُمَا: لاَ يَلْزَمُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، وَالأُْخْرَى: يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَلْزَمُ عَقْدُ الرَّهْنِ بِالْعَقْدِ، ثُمَّ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى التَّسْلِيمِ لِلْمُرْتَهِنِ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ يَلْزَمُ بِالْقَبْضِ، فَيَلْزَمُ بِالْعَقْدِ قَبْلَهُ كَالْبَيْعِ (4) .
هَذَا، وَإِذَا شُرِطَ الرَّهْنُ أَوِ الْكَفِيل فِي عَقْدٍ مَا ثُمَّ لَمْ يَفِ الْمُلْتَزِمُ بِالشَّرْطِ فَلِلآْخَرِ الْفَسْخُ.
__________
(1) سورة البقرة / 283
(2) أسنى المطالب 2 / 155، نهاية المحتاج 4 / 253، المغني 4 / 364، وحاشية ابن عابدين 5 / 308
(3) المغني 4 / 364
(4) بداية المجتهد 2 / 245، وحاشية البناني على شرح الزرقاني 5 / 233(23/182)
رَهْنُ الْعَيْنِ عِنْدَ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ:
14 - إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ الْمَرْهُونَةُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ عَارِيَّةً أَوْ وَدِيعَةً، أَوْ مَغْصُوبَةً، فَرَهَنَهَا مِنْهُ صَحَّ الرَّهْنُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ مَالُهُ، لَهُ أَخْذُهُ فَصَحَّ رَهْنُهُ كَمَا لَوْ كَانَ بِيَدِهِ (1) .
وَيَلْزَمُ الرَّهْنُ فِي الصُّوَرِ السَّابِقَةِ بِالْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى أَمْرٍ زَائِدٍ؛ لأَِنَّ الْيَدَ ثَابِتَةٌ، وَالْقَبْضَ حَاصِلٌ، فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى إِقْبَاضٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الإِْقْبَاضُ، أَوِ الإِْذْنُ بِهِ إِنْ كَانَ الْمَرْهُونُ حَاضِرًا، وَإِنْ كَانَ الْمَرْهُونُ غَائِبًا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ يُشْتَرَطُ مَعَ إِذْنِ الْقَبْضِ مُضِيُّ مُدَّةِ إِمْكَانِ الْقَبْضِ، وَقَالُوا: لأَِنَّ الْيَدَ كَانَتْ عَنْ غَيْرِ جِهَةِ الرَّهْنِ، فَلَمْ يَحْصُل الْقَبْضُ بِهَا (3) .
ثُمَّ عَلَى قَوْل الْجُمْهُورِ بِعَدَمِ الْحَاجَةِ لِتَجْدِيدِ الْقَبْضِ يَزُول الضَّمَانُ بِالرَّهْنِ؛ لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِي إِمْسَاكِهِ رَهْنًا، وَلَمْ يَتَجَدَّدْ مِنْهُ عُدْوَانٌ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ الرَّاهِنُ مِنْهُ، ثُمَّ أَقْبَضَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ ضَمَانِهِ؛ وَلأَِنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ: الْغَصْبُ، وَالإِْعَارَةُ، وَلَمْ يُعَدَّ الْمُرْتَهِنُ غَاصِبًا أَوْ
__________
(1) المغني 4 / 370، وحاشية الدسوقي 3 / 236، وحاشية الطحطاوي 4 / 235، وأسنى المطالب 2 / 155، ونهاية المحتاج 4 / 250
(2) المصادر السابقة
(3) أسنى المطالب 2 / 155، نهاية المحتاج 4 / 255(23/182)
مُسْتَعِيرًا (1) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَبْرَأُ الْغَاصِبُ الْمُرْتَهِنُ، وَلاَ الْمُسْتَعِيرُ عَنِ الضَّمَانِ وَإِنْ لَزِمَ الْعَقْدُ، لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَقْدَ أَمَانَةٍ: الْغَرَضُ مِنْهُ التَّوَثُّقُ - وَهُوَ لاَ يُنَافِي الضَّمَانَ - فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوْ تَعَدَّى فِي الْمَرْهُونِ ضَمِنَهُ مَعَ بَقَاءِ الرَّهْنِ، فَإِذَا كَانَ لاَ يَرْفَعُ الضَّمَانَ فَلأََنْ لاَ يَدْفَعَهُ ابْتِدَاءً أَوْلَى، وَلِلْغَاصِبِ إِجْبَارُ الرَّاهِنِ عَلَى إِيقَاعِ يَدِهِ عَلَى الْمَرْهُونِ (أَيْ وَضْعِ يَدِهِ عَلَيْهِ) لِيَبْرَأَ مِنَ الضَّمَانِ، ثُمَّ يَسْتَعِيدُهُ مِنْهُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَل رُفِعَ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَأْمُرَهُ بِالْقَبْضِ، فَإِنِ امْتَنَعَ قَبَضَهُ الْحَاكِمُ أَوْ مَأْذُونُهُ، وَيَرُدُّهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ (2) .
زَوَائِدُ الْمَرْهُونِ، وَنَمَاؤُهُ:
15 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ زِيَادَةَ الْمَرْهُونِ الْمُتَّصِلَةَ كَالسِّمَنِ وَكِبَرِ الشَّجَرِ تَتْبَعُ الأَْصْل. أَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهَا.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ بِأَنْوَاعِهَا لاَ يَسْرِي عَلَيْهَا الرَّهْنُ؛ لأَِنَّ الرَّهْنَ لاَ يُزِيل الْمِلْكَ فَلَمْ يَسْرِ عَلَيْهَا كَالإِْجَارَةِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ نَمَاءَ الْمَرْهُونِ كَالْوَلَدِ، وَالثَّمَرِ، وَاللَّبَنِ، وَالصُّوفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ رَهْنٌ مَعَ الأَْصْل، بِخِلاَفِ مَا هُوَ بَدَلٌ عَنِ الْمَنْفَعَةِ
__________
(1) المغني 4 / 371، حاشية الدسوقي 3 / 236، حاشية الطحطاوي 4 / 235
(2) نهاية المحتاج 4 / 255، روضة الطالبين 4 / 68، أسنى المطالب 2 / 156
(3) نهاية المحتاج 4 / 289، أسنى المطالب 2 / 173(23/183)
كَالأُْجْرَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْهِبَةِ، فَلاَ تَدْخُل فِي الرَّهْنِ، وَهِيَ لِلرَّاهِنِ (1) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَا تَنَاسَل مِنَ الرَّهْنِ، أَوْ نَتَجَ مِنْهُ كَالْوَلَدِ يَسْرِي إِلَيْهِ الرَّهْنُ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الزَّوَائِدِ كَالصُّوفِ وَاللَّبَنِ، وَثِمَارِ الأَْشْجَارِ وَسَائِرِ الْغَلاَّتِ فَلاَ يَسْرِي عَلَيْهَا الرَّهْنُ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ زَوَائِدَ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ الْمُنْفَصِلَةِ رَهْنٌ كَالأَْصْل، لاَ فَرْقَ بَيْنَ مَا تَنَاسَل مِنْهَا أَوْ نَتَجَ مِنْهَا كَالْوَلَدِ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَالأُْجْرَةِ، وَالثَّمَرِ، وَاللَّبَنِ، وَالصُّوفِ، وَقَالُوا: لأَِنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ فِي الْعَيْنِ بِعَقْدِ الْمَالِكِ، فَيَدْخُل فِيهِ النَّمَاءُ وَالْمَنَافِعُ بِأَنْوَاعِهَا، كَالْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ؛ وَلأَِنَّ النَّمَاءَ حَادِثٌ مِنْ عَيْنِ الرَّهْنِ فَيَدْخُل فِيهَا كَالْمُتَّصِل. وَقَالُوا فِي سِرَايَةِ الرَّهْنِ عَلَى الْوَلَدِ: إِنَّهُ حُكْمٌ مُسْتَقِرٌّ فِي الأُْمِّ ثَبَتَ بِرِضَا الْمَالِكِ فَيَسْرِي إِلَى الْوَلَدِ كَالتَّدْبِيرِ، وَالاِسْتِيلاَدِ (3) .
الاِنْتِفَاعُ بِالْمَرْهُونِ:
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِالْمَرْهُونِ، وَفِيمَنْ لَهُ ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّاهِنِ وَلاَ لِلْمُرْتَهِنِ الاِنْتِفَاعُ بِالْمَرْهُونِ مُطْلَقًا،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 335، وفتح القدير 9 / 129.
(2) بداية المجتهد 2 / 246، القوانين الفقهية ص319
(3) المغني 4 / 430، الإنصاف 5 / 158، كشاف القناع 3 / 338(23/183)
لاَ بِالسُّكْنَى وَلاَ بِالرُّكُوبِ، وَلاَ غَيْرِهِمَا، إِلاَّ بِإِذْنِ الآْخَرِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: لاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ لِلْمُرْتَهِنِ وَلَوْ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ؛ لأَِنَّهُ رِبًا، وَفِي قَوْلٍ: إِنْ شَرَطَهُ فِي الْعَقْدِ كَانَ رِبًا، وَإِلاَّ جَازَ انْتِفَاعُهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: غَلاَّتُ الْمَرْهُونِ لِلرَّاهِنِ، وَيَنُوبُ فِي تَحْصِيلِهَا الْمُرْتَهِنُ، حَتَّى لاَ تَجُول يَدُ الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ، وَيَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ الاِنْتِفَاعُ بِالْمَرْهُونِ بِشُرُوطٍ هِيَ:
1 - أَنْ يُشْتَرَطَ ذَلِكَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ.
2 - وَأَنْ تَكُونُ الْمُدَّةُ مُعَيَّنَةً.
3 - أَلاَّ يَكُونَ الْمَرْهُونُ بِهِ دَيْنُ قَرْضٍ.
فَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ فِي الْعَقْدِ وَأَبَاحَ لَهُ الرَّاهِنُ الاِنْتِفَاعَ بِهِ مَجَّانًا لَمْ يَجُزْ؛ لأَِنَّهُ هَدِيَّةُ مِدْيَانٍ، وَهِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَكَذَا إِنْ شَرَطَ مُطْلَقًا وَلَمْ يُعَيِّنْ مُدَّةً لِلْجَهَالَةِ، أَوْ كَانَ الْمَرْهُونُ بِهِ دَيْنُ قَرْضٍ، لأَِنَّهُ سَلَفٌ جَرَّ نَفْعًا (2) .
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الْمَرْهُونِ الْمَرْكُوبِ أَوِ الْمَحْلُوبِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْمَرْهُونُ غَيْرَ مَرْكُوبٍ أَوْ مَحْلُوبٍ، فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ وَلاَ لِلرَّاهِنِ الاِنْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بِإِذْنِ الآْخَرِ.
أَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلأَِنَّ الْمَرْهُونَ وَنَمَاءَهُ وَمَنَافِعَهُ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ، فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَخْذُهَا بِدُونِ إِذْنِهِ، وَأَمَّا
__________
(1) حاشية الطحطاوي 4 / 236، ابن عابدين 5 / 310
(2) بلغة السالك على الشرح الصغير 2 / 112، حاشية الدسوقي 3 / 246، والقوانين الفقهية ص 319(23/184)
الرَّاهِنُ فَلأَِنَّهُ لاَ يَنْفَرِدُ بِالْحَقِّ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الاِنْتِفَاعُ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ.
فَإِنْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ بِالاِنْتِفَاعِ بِالْمَرْهُونِ جَازَ، وَكَذَا إِنْ أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ بِشَرْطِ:
1 - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَرْهُونُ بِهِ دَيْنُ قَرْضٍ.
2 - وَأَنْ لاَ يَأْذَنَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنْ أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ بِالاِنْتِفَاعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَكَانَ الْمَرْهُونُ بِهِ دَيْنُ قَرْضٍ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ؛ لأَِنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ نَفْعًا، وَهُوَ حَرَامٌ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَرْهُونُ بِثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ أُجْرَةِ دَارٍ، أَوْ دَيْنِ غَيْرِ الْقَرْضِ جَازَ لِلْمُرْتَهِنِ الاِنْتِفَاعُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ الاِنْتِفَاعُ بِعِوَضٍ، كَأَنْ يَسْتَأْجِرَ الدَّارَ الْمَرْهُونَةَ مِنَ الرَّاهِنِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا فِي غَيْرِ مُحَابَاةٍ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْقَرْضِ بَل بِالإِْجَارَةِ، وَإِنْ شَرَطَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا الْمُرْتَهِنُ فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ.
أَمَّا الْمَرْكُوبُ، وَالْمَحْلُوبُ، فَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ، وَيَرْكَبَ، وَيَحْلُبَ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ مُتَحَرِّيًا الْعَدْل - مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ مِنَ الرَّاهِنِ بِالإِْنْفَاقِ، أَوْ الاِنْتِفَاعِ - سَوَاءٌ تَعَذَّرَ إِنْفَاقُ الرَّاهِنِ أَمْ لَمْ يَتَعَذَّرْ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ (1) .
__________
(1) حديث: " الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 143 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة(23/184)
وَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِنَفَقَتِهِ يُشِيرُ إِلَى الاِنْتِفَاعِ بِعِوَضِ النَّفَقَةِ، وَيَكُونُ هَذَا فِي حَقِّ الْمُرْتَهِن، أَمَّا الرَّاهِنُ فَإِنْفَاقُهُ وَانْتِفَاعُهُ لَيْسَا بِسَبَبِ الرُّكُوبِ وَشُرْبِ الدَّرِّ، بَل بِسَبَبِ الْمِلْكِ. فَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى الاِنْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ فِي غَيْرِهِمَا لَمْ يَجُزْ الاِنْتِفَاعُ بِهَا، فَإِنْ كَانَ دَارًا أُغْلِقَتْ، وَإِنْ كَانَتْ حَيَوَانًا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُ حَتَّى يُفَكَّ الرَّهْنُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْمَرْهُونِ إِلاَّ حَقُّ الاِسْتِيثَاقِ فَيُمْنَعُ مِنْ كُل تَصَرُّفٍ أَوِ انْتِفَاعٍ بِالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، أَمَّا الرَّاهِنُ فَلَهُ عَلَيْهَا كُل انْتِفَاعٍ لاَ يُنْقِصُ الْقِيمَةَ كَالرُّكُوبِ وَدَرِّ اللَّبُونِ، وَالسُّكْنَى وَالاِسْتِخْدَامِ، لِحَدِيثِ: الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَحَدِيثِ: الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ (2) .
وَقِيسَ عَلَى ذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ مِنْ الاِنْتِفَاعَاتِ.
أَمَّا مَا يُنْقِصُ الْقِيمَةَ كَالْبِنَاءِ عَلَى الأَْرْضِ الْمَرْهُونَةِ وَالْغَرْسِ فِيهَا فَلاَ يَجُوزُ لَهُ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ؛ لأَِنَّ الرَّغْبَةَ تَقِل بِذَلِكَ عِنْدَ الْبَيْعِ (3) .
__________
(1) المغني 4 / 426 - 432
(2) حديث: " الرهن مركوب محلوب ". أخرجه البيهقي (6 / 38 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة، ورجح البيهقي وقفه على أبي هريرة، ولكن يشهد له الحديث المتقدم
(3) روضة الطالبين 4 / 79 - 99، أسنى المطالب 2 / 161(23/185)
تَصَرُّفُ الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ:
17 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّاهِنِ التَّصَرُّفُ فِي الْمَرْهُونِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ بِمَا يُزِيل الْمِلْكَ كَالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ وَالْوَقْفِ، أَوْ يَزْحَمُ الْمُرْتَهِنَ فِي مَقْصُودِ الرَّهْنِ، كَالرَّهْنِ عِنْدَ آخَرَ، أَوْ يُقَلِّل الرَّغْبَةَ فِي الْمَرْهُونِ، إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ (1) .
فَإِنْ تَصَرَّفَ بِمَا ذُكِرَ فَتَصَرُّفُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ، لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ يُبْطِل حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْوَثِيقَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ صَحَّ التَّصَرُّفُ، وَبَطَل الرَّهْنُ إِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ لِلْمَرْهُونِ بَدَلٌ كَالْوَقْفِ، وَالْهِبَةِ، وَيَسْقُطُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي حَبْسِ الْمَرْهُونِ. لأَِنَّ الْمَنْعَ كَانَ لِحَقِّهِ وَقَدْ زَال بِإِذْنِهِ (2) .
وَإِنْ كَانَ لِلْمَرْهُونِ بَدَلٌ كَالْبَيْعِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ: فَإِنْ كَانَ الإِْذْنُ مُطْلَقًا، وَالدَّيْنُ مُؤَجَّلاً صَحَّ الْبَيْعُ وَبَطَل الرَّهْنُ لِخُرُوجِ الْمَرْهُونِ مِنْ مِلْكِ الرَّاهِنِ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَلاَ يَحِل ثَمَنُ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ مَحَلَّهَا لِعَدَمِ حُلُول الدَّيْنِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ حَالًّا عِنْدَ الإِْذْنِ قَضَى حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ ثَمَنِ الْمَرْهُونِ، وَحُمِل إِذْنُهُ عَلَى الْبَيْعِ مِنْ غَرَضِهِ لِمَجِيءِ وَقْتِهِ؛ وَلأَِنَّ مُقْتَضَى الرَّهْنِ
__________
(1) المغني 4 / 401، أسنى المطالب 2 / 158، وكشاف القناع 3 / 334، القوانين الفقهية 319، حاشية الطحطاوي 4 / 247
(2) كشاف القناع 3 / 334 - 335، نهاية المحتاج 4 / 259 - 268(23/185)
بَيْعُهُ وَالاِسْتِيفَاءُ مِنْهُ، وَلاَ يَبْطُل الرَّهْنُ، فَيَكُونُ الرَّاهِنُ مَحْجُورًا فِي ثَمَنِ الْمَرْهُونِ إِلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ (1) . وَإِنْ شَرَطَ فِي الإِْذْنِ أَنْ يُقْضَى الدَّيْنُ مِنْ ثَمَنِ الْمَرْهُونِ صَحَّ الْبَيْعُ لِلإِْذْنِ، وَلَغَا الشَّرْطُ؛ لأَِنَّ التَّأْجِيل أَخَذَ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ وَهُوَ لاَ يَجُوزُ، وَيَكُونُ الثَّمَنُ رَهْنًا مَكَانَ الْمَرْهُونِ؛ لأَِنَّ الْمُرْتَهِنَ لَمْ يَأْذَنْ فِي الْبَيْعِ إِلاَّ طَامِعًا فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْهُ مُطْلَقًا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ شَرَطَ فِي إِذْنِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ رَهْنًا لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَمْ مُؤَجَّلاً لِفَسَادِ الإِْذْنِ بِفَسَادِ الشَّرْطِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا بَاعَ الرَّاهِنُ وَأَجَازَ الْمُرْتَهِنُ الْبَيْعَ جَازَ؛ لأَِنَّ تَوْقِيفَ الْبَيْعِ لِحَقِّهِ، وَقَدْ رَضِيَ بِسُقُوطِهِ، وَإِنْ نَفَذَ الْبَيْعُ بِإِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ يَنْتَقِل حَقُّهُ إِلَى بَدَلِهِ لأَِنَّ حَقَّهُ بِالْمَالِيَّةِ، وَلِلْبَدَل حُكْمُ الْبَدَل، وَإِنْ لَمْ يُجِزِ الْمُرْتَهِنُ الْبَيْعَ يَبْقَى مَوْقُوفًا فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَفُكَّ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ، وَبَيْنَ أَنْ يَرْفَعَ الأَْمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ فَيَفْسَخَ الْبَيْعَ لِفَوَاتِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ لأَِنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ لِلْمُرْتَهِنِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 337، نهاية المحتاج 4 / 269، المجموع 3 / 240
(2) كشاف القناع 3 / 338
(3) أسنى المطالب 2 / 163، نهاية المحتاج 4 / 269(23/186)
فَصَارَ كَالْمَالِكِ، لَهُ أَنْ يَفْسَخَ أَوْ يُجِيزَ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنْ شَرَطَ الْمُرْتَهِنُ فِي الإِْجَازَةِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ رَهْنًا فَهُوَ رَهْنٌ، لأَِنَّهُ إِذَا أَجَازَ بِهَذَا الشَّرْطِ لَمْ يَرْضَ بِبُطْلاَنِ حَقِّهِ عَنِ الْعَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْبَدَل، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُ عَنِ الْمَرْهُونِ، وَالثَّمَنُ لَيْسَ بِمَرْهُونٍ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ بِالْبَيْعِ بَطَل الرَّهْنُ عَنِ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، وَحَل مَكَانَهَا الثَّمَنُ رَهْنًا إِنْ لَمْ يَأْتِ الرَّاهِنُ بِرَهْنٍ كَالأَْوَّل (2) .
الْيَدُ عَلَى الْمَرْهُونِ:
18 - الْيَدُ عَلَى الْمَرْهُونِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ لِلْمُرْتَهِنِ؛ لأَِنَّ الرَّهْنَ الرُّكْنُ الأَْعْظَمُ لِلتَّوْثِيقِ، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ اسْتِرْدَادُهُ إِلاَّ بِرِضَا الْمُرْتَهِنِ أَوْ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَجْعَلاَهُ فِي يَدِ ثَالِثٍ جَازَ، وَكَانَ وَكِيلاً لِلْمُرْتَهِنِ فِي قَبْضِهِ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ لاَ يَثِقُ بِصَاحِبِهِ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ يَدُ أَمَانَةٍ، فَلاَ يَضْمَنُ إِنْ
__________
(1) تكملة فتح القدير وحاشية سعدي جلبي 9 / 111، وابن عابدين 5 / 327
(2) حاشية الدسوقي 3 / 243، وشرح الزرقاني 5 / 243
(3) القليوبي 2 / 272، الإنصاف 5 / 149، أسنى المطالب 2 / 162 - 165، وبلغة السالك 2 / 151، الهداية 4 / 141، حاشية الطحطاوي 4 / 245(23/186)
تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ لِحَدِيثِ: لاَ يَغْلَقُ الرَّهْنُ لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ (1) . لأَِنَّنَا لَوْ ضَمَّنَّاهُ لاَمْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ فِعْلِهِ خَوْفًا مِنَ الضَّمَانِ، وَلَتَعَطَّلَتِ الْمُدَايَنَاتُ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، وَلأَِنَّهُ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ فَلاَ يُضْمَنُ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الدَّيْنِ، إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهَا يَدُ ضَمَانٍ، فَيَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ إِنْ هَلَكَ بِيَدِهِ بِالأَْقَل مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنَ الدَّيْنِ، فَإِنْ تَسَاوَيَا كَانَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ، وَإِنْ زَادَتْ قِيمَةُ الْمَرْهُونِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ أَمَانَةً بِيَدِهِ، وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْهَا سَقَطَ بِقَدْرِهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَرَجَعَ الْمُرْتَهِنُ بِالْفَضْل عَلَى الرَّاهِنِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ رَجُلاً رَهَنَ فَرَسًا، فَنَفَقَ فِي يَدِهِ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُرْتَهِنِ: ذَهَبَ حَقُّكَ (3) .
__________
(1) حديث: " لا يغلق الرهن لصاحبه غنمه ". أخرجه البيهقي (6 / 39 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة، ورجح إرساله من حديث سعيد بن المسيب، وكذا نقل ابن حجر في التلخيص (3 / 36 - ط شركة الطباعة الفنية) عن أبي داود والبزار والدارقطني وغيرهم أنهم رجحوا إرساله
(2) القليوبي 2 / 275، كشاف القناع 3 / 341، الإنصاف 5 / 155، نهاية المحتاج 4 / 181
(3) حديث: " ذهب حقك ". أخرجه أبو داود في المراسيل (ص 172 - ط الرسالة) من حديث عطاء بن أبي رباح مرسلاً، ونقل كذلك الزيلعي في نصب الراية (4 / 321 - ط المجلس العلمي) عن ابن القطان أنه ضعف الراوي عن عطاء، وهو مصعب بن ثابت بن عبد الله(23/187)
وَقَالُوا أَيْضًا: أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهِ.
وَلاَ فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ مَالاً ظَاهِرًا كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَالاً بَاطِنًا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ كَالْحُلِيِّ وَالْعُرُوضِ، وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ شَهَادَةً بِهَلاَكِهَا بِلاَ تَفْرِيطٍ، وَبَيْنَ أَلاَّ يُقِيمَ عَلَى ذَلِكَ شَهَادَةً.
أَمَّا إِنْ هَلَكَ الْمَرْهُونُ بِتَعَدٍّ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ ضَمَانَ الْغَصْبِ (1) .
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ كَالْحُلِيِّ وَالْعُرُوضِ، وَبَيْنَ مَا لاَ يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ، فَيَضْمَنُ الأَْوَّل إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَرْهُونُ عِنْدَ أَمِينٍ، أَوْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً عَلَى هَلاَكِهِ بِلاَ تَفْرِيطٍ مِنْهُ، وَلاَ يَضْمَنُ الثَّانِيَ إِلاَّ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ (2) .
مُؤْنَةُ الْمَرْهُونِ:
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مُؤْنَةَ الْمَرْهُونِ عَلَى الرَّاهِنِ كَعَلَفِ الْحَيَوَانِ، وَسَقْيِ الأَْشْجَارِ، وَجُذَاذِ الثِّمَارِ وَتَجْفِيفِهَا، وَأُجْرَةِ مَكَانِ الْحِفْظِ، وَالْحَارِسِ، وَرَعِي الْمَاشِيَةِ وَأُجْرَةِ الرَّاعِي وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ رَاهِنِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، عَلَيْهِ غُرْمُهُ، وَلَهُ غُنْمُهُ (3) .
__________
(1) حاشية الطحطاوي 4 / 235، فتح القدير 9 / 70
(2) بداية المجتهد 2 / 247، حاشية الدسوقي 3 / 253
(3) حديث: " لا يغلق الرهن من راهنه الذي رهنه. . . " تقدم تخريجه (ف / 18)(23/187)
وَلأَِنَّهُ مِلْكُهُ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ مَا يَحْتَاجُ لِبَقَاءِ الرَّهْنِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ الرَّهْنِ بِنَفْسِهِ أَوْ تَبَعِيَّتِهِ كَعَلَفِ الدَّابَّةِ، وَأُجْرَةِ الرَّاعِي، وَسَقْيِ الْبُسْتَانِ فَعَلَى الرَّاهِنِ، وَمَا يُحْتَاجُ لِحِفْظِ الْمَرْهُونِ كَمَأْوَى الْمَاشِيَةِ، وَأُجْرَةِ الْحِفْظِ فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ، لأَِنَّ حَبْسَ الْمَرْهُونِ لَهُ (2) .
الاِمْتِنَاعُ مِنْ بَذْل مَا وَجَبَ:
20 - إِذَا امْتَنَعَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ الْمَرْهُونِ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَصَرَّ فَعَلَهُ الْحَاكِمُ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَإِنْ قَامَ الْمُرْتَهِنُ بِالْمُؤْنَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْحَاكِمِ صَارَ مُتَطَوِّعًا فَلاَ يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ قَامَ بِالْمُؤْنَةِ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، أَوْ أَشْهَدَ عَلَى الإِْنْفَاقِ عِنْدَ فَقْدِ الْحَاكِمِ وَامْتِنَاعِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُؤْنَةُ أَوْ كَانَ غَائِبًا عَنِ الْبَلَدِ رَجَعَ بِمَا أَنْفَقَهُ عَلَيْهِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا أَنْفَقَهُ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْحَاكِمُ أَوِ الرَّاهِنُ (4) .
__________
(1) كشاف القناع 3 / 333، نهاية المحتاج 4 / 279، القليوبي 2 / 275، حاشية الدسوقي 3 / 251، بلغة السالك 2 / 120
(2) الطحطاوي 4 / 238، وابن عابدين 5 / 316
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 313، أسنى المطالب 2 / 169، المغني 4 / 438
(4) بلغة السالك 2 / 120(23/188)
مَا يَبْطُل بِهِ عَقْدُ الرَّهْنِ قَبْل اللُّزُومِ:
21 - يَبْطُل الرَّهْنُ قَبْل الْقَبْضِ بِرُجُوعِ الرَّاهِنِ عَنِ الرَّهْنِ بِالْقَوْل وَبِتَصَرُّفٍ يُزِيل الْمِلْكَ كَالْبَيْعِ وَالإِْصْدَاقِ، وَجَعْلِهِ أُجْرَةً وَرَهْنِهِ عِنْدَ آخَرَ مَعَ الْقَبْضِ، وَهِبَةٍ، وَوَقْفٍ؛ لأَِنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ إِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، أَمَّا مَوْتُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَبْل الْقَبْضِ وَجُنُونُهُ، وَتَخَمُّرُ الْعَصِيرِ، وَشُرُودُ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ قَبْل اللُّزُومِ فَلاَ يُبْطِل، أَمَّا فِي الْمَوْتِ: فَلأَِنَّ مَصِيرَ الرَّهْنِ إِلَى اللُّزُومِ فَلاَ يَتَأَثَّرُ بِمَوْتِهِ كَالْبَيْعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، فَيَقُومُ وَارِثُ الرَّاهِنِ مَقَامَهُ فِي الإِْقْبَاضِ، وَوَارِثُ الْمُرْتَهِنِ فِي الْقَبْضِ، أَمَّا الْمَجْنُونُ وَنَحْوُهُ فَكَالْمَوْتِ بَل أَوْلَى فَيَعْمَل الْوَلِيُّ بِمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ لَهُ، مِنَ الإِْجَازَةِ أَوِ الْفَسْخِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الْعَقْدِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَبْطُل الْعَقْدُ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ، وَفَلَسِهِ وَمَرَضِهِ وَجُنُونِهِ الْمُتَّصِلَيْنِ بِالْمَوْتِ قَبْل الْحَوْزِ، وَإِذْنِهِ بِسُكْنَى الدَّارِ أَوْ إِجَارَةِ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، وَلَوْ لَمْ يَسْكُنْ (2) .
مَا يَبْطُل بِهِ الرَّهْنُ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ:
22 - يَبْطُل الْعَقْدُ بَعْدَ لُزُومِهِ: بِتَلَفِ الْمَرْهُونِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْل مَنْ لاَ يَضْمَنُ كَحَرْبِيٍّ،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 308، الهداية 2 / 126، المغني 4 / 366، روضة الطالبين 4 / 69، نهاية المحتاج 4 / 156
(2) شرح الزرقاني 5 / 242 - 243، بلغة السالك 2 / 113(23/188)
لِفَوَاتِهِ بِلاَ بَدَلٍ، وَبِفَسْخِ الْمُرْتَهِنِ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُ، وَالْعَقْدَ جَائِزٌ مِنْ جِهَتِهِ، وَبِالْبَرَاءَةِ مِنَ الدَّيْنِ بِأَدَاءٍ أَوْ إِبْرَاءٍ أَوْ حَوَالَةٍ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ، وَبِتَصَرُّفِ الرَّاهِنِ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ بِمَا يُزِيل الْمِلْكَ، كَالْهِبَةِ، وَالْوَقْفِ، وَالْبَيْعِ، أَوْ إِجَارَةٍ يَحِل الدَّيْنُ قَبْل انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا، وَرَهْنٍ عِنْدَ غَيْرِ الْمُرْتَهِنِ بِإِذْنِهِ أَيْضًا (1) .
الشَّرْطُ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ:
23 - الشَّرْطُ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ كَالشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ كَتَقَدُّمِ الْمُرْتَهِنِ بِالْمَرْهُونِ عِنْدَ تَزَاحُمِ الْغُرَمَاءِ وَكَوْنِ الْمَرْهُونِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، صَحَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ شُرِطَ فِيهِ مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، كَأَنْ لاَ يُبَاعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الْبَيْعِ أَوْ لاَ يُبَاعُ إِلاَّ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ بِيَدِ الرَّاهِنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَضُرُّ الْمُرْتَهِنَ أَوِ الرَّاهِنَ بَطَل الشَّرْطُ لِمُنَافَاتِهِ مَقْصُودَ الرَّهْنِ وَمُقْتَضَاهُ، وَيَبْطُل الْعَقْدُ لِفَسَادِ الشَّرْطِ (2) .
اسْتِحْقَاقُ بَيْعِ الْمَرْهُونِ:
24 - إِذَا حَل الدَّيْنُ لَزِمَ الرَّاهِنَ بِطَلَبِ الْمُرْتَهِنِ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 254 - 259 و268 - 269، روضة الطالبين 4 / 82 - 83، المغني 4 / 366، الهداية 2 / 147، 157، بلغة السالك 2 / 113
(2) شرح الزرقاني 5 / 241، أسنى المطالب 2 / 153، المغني 4 / 421 - 423، نهاية المحتاج 4 / 235(23/189)
إِيفَاءُ الدَّيْنِ لأَِنَّهُ دَيْنٌ حَالٌّ فَلَزِمَ إِيفَاؤُهُ كَاَلَّذِي لاَ رَهْنَ بِهِ، فَإِنْ وَفَى الدَّيْنَ جَمِيعَهُ فِي مَالِهِ غَيْرِ الْمَرْهُونِ انْفَكَّ الْمَرْهُونُ، فَإِنْ لَمْ يُوفِ كُل الدَّيْنِ أَوْ بَعْضَهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ بَيْعُ الْمَرْهُونِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَكِيلِهِ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ؛ لأَِنَّ لَهُ حَقًّا فِيهِ، وَيُقَدِّمُ فِي ثَمَنِهِ الْمُرْتَهِنَ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) . فَإِنِ امْتَنَعَ عَنْ وَفَاءِ الدَّيْنِ وَبَيْعِ الْمَرْهُونِ لأَِدَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِوَفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَالِهِ، أَوْ بَيْعِ الْمَرْهُونِ، وَأَدَائِهِ مِنْ ثَمَنِهِ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الاِمْتِنَاعِ مِنْ كِلاَ الأَْمْرَيْنِ عَزَّرَهُ الْحَاكِمُ بِالْحَبْسِ أَوِ الضَّرْبِ لِيَبِيعَ الْمَرْهُونَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل بَاعَ الْحَاكِمُ الْمَرْهُونَ، وَقَضَى الدَّيْنَ مِنْ ثَمَنِهِ لأَِنَّهُ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لأَِدَاءِ الْوَاجِبِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُضْرَبُ، وَلاَ يُحْبَسُ، وَلاَ يُهَدَّدُ بِهِمَا، بَل يَقْتَصِرُ الْحَاكِمُ عَلَى بَيْعِ الْمَرْهُونِ وَأَدَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لِلْمُرْتَهِنِ مُطَالَبَةُ الرَّاهِنِ بِدَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ بِيَدِهِ، وَأَنْ يُطَالِبَ بِحَبْسِهِ لِدَيْنِهِ لأَِنَّ حَقَّهُ بَاقٍ بَعْدَ الرَّهْنِ، وَالرَّهْنُ
__________
(1) الهداية 4 / 128، كشاف القناع 3 / 342، المغني 4 / 447، نهاية المحتاج 4 / 274، روضة الطالبين 4 / 88
(2) حاشية البجيرمي 2 / 380، نهاية المحتاج 4 / 274، القليوبي 2 / 274، كشاف القناع 3 / 342، المغني 4 / 447
(3) شرح الزرقاني 5 / 153(23/189)
لِزِيَادَةِ التَّوْثِيقِ وَالصِّيَانَةِ فَلاَ تَمْتَنِعُ بِهِ الْمُطَالَبَةُ، وَالْحَبْسُ جَزَاءُ الظُّلْمِ، وَحَبَسَهُ الْقَاضِي إِنْ ظَهَرَ مَطْلُهُ، وَلاَ يَبِيعُ الْقَاضِي الْمَرْهُونَ لأَِنَّهُ نَوْعُ حَجْرٍ، وَفِي الْحَجْرِ إِهْدَارُ أَهْلِيَّتِهِ، فَلاَ يَجُوزُ، وَلَكِنَّهُ يُدِيمُ الْحَبْسَ عَلَيْهِ حَتَّى يَبِيعَهُ دَفْعًا لِلظُّلْمِ (1) . (ر: حَجْر) .
رَوَاتِبُ
انْظُرْ: رَاتِب.
__________
(1) الهداية 4 / 128، 3 / 285، ابن عابدين 5 / 95 - 310(23/190)
رَوَاج
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّوَاجُ اسْمٌ مِنْ رَاجَ يَرُوجُ رَوْجًا وَرَوَاجًا بِمَعْنَى أَسْرَعَ. وَيُقَال: رَاجَ الشَّيْءُ أَيْ نَفَقَ وَكَثُرَ طُلاَّبُهُ. وَرَاجَتِ الدَّرَاهِمُ رَوَاجًا: كَثُرَ تَعَامُل النَّاسِ بِهَا (1) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ
: 2 - لِلرَّوَاجِ أَثَرٌ فِي تَعْيِينِ النُّقُودِ وَالثَّمَنِ فِي الْعُقُودِ، وَهُوَ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى إِرَادَةِ الطَّرَفَيْنِ حَال إِطْلاَقِ الثَّمَنِ فِي الْبُيُوعِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَعْلُومًا، وَإِلاَّ فَسَدَ الْعَقْدُ؛ لأَِنَّ الْجَهَالَةَ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ فَلاَ يَحْصُل الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْعَقْدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى التَّرَاضِي.
__________
(1) المصباح المنير، ومتن اللغة مادة (روج)
(2) الزيلعي 4 / 5، والزرقاني 5 / 24، ومغني المحتاج 2 / 17، وكشاف القناع 3 / 174(23/190)
وَإِذَا ذَكَرَ مِقْدَارَ الثَّمَنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ نَوْعَهُ وَصِفَتَهُ، كَأَنْ قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِأَلْفِ دِينَارٍ مَثَلاً، فَإِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ الْمَعْقُودِ فِيهِ نَقْدٌ وَاحِدٌ يَتَعَامَل النَّاسُ بِهِ صَحَّ الْعَقْدُ، وَانْصَرَفَ إِلَى ذَلِكَ النَّقْدِ الرَّائِجِ فِي الْبَلَدِ؛ لأَِنَّهُ تَعَيَّنَ بِانْفِرَادِهِ وَعَدَمِ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ لَهُ، فَلاَ جَهَالَةَ.
كَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُتَعَدِّدَةٌ - مُخْتَلِفَةٌ فِي الْمَالِيَّةِ أَوْ مُتَسَاوِيَةٌ فِيهَا - لَكِنَّ أَحَدَهَا غَالِبٌ رَوَاجًا صَحَّ الْبَيْعُ وَانْصَرَفَ الإِْطْلاَقُ إِلَى النَّقْدِ الرَّائِجِ؛ لِدَلاَلَةِ الْقَرِينَةِ الْحَالِيَّةِ عَلَى إِرَادَتِهِ، فَكَأَنَّهُ مُعَيَّنٌ، لأَِنَّ الْمَعْلُومَ بِالْعُرْفِ كَالْمَعْلُومِ بِالنَّصِّ (1) .
3 - كَمَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إِذَا أَطْلَقَ الثَّمَنَ وَكَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُتَعَدِّدَةٌ مُسْتَوِيَةٌ فِي الْقِيمَةِ الْمَالِيَّةِ وَالرَّوَاجِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي فِي أَنْ يُؤَدِّيَ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَجُبِرَ الْبَائِعُ عَلَى قَبُول مَا يَدْفَعُ لَهُ مِنْهَا؛ لأَِنَّ الْجَهَالَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ تُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ (2) .
أَمَّا إِذَا أَطْلَقَ الثَّمَنَ وَلَمْ يُبَيِّنْ نَوْعَهُ وَلاَ صِفَتَهُ، وَكَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْقِيمَةِ وَالْمَالِيَّةِ وَمُتَسَاوِيَةٌ فِي الرَّوَاجِ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّ جَهَالَةَ وَصْفِ الثَّمَنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تُفْضِي إِلَى
__________
(1) الزيلعي 4 / 5، وفتح القدير 5 / 469، والزرقاني 5 / 24، وكشاف القناع 3 / 174، ومغني المحتاج 2 / 17
(2) المراجع السابقة(23/191)
الْمُنَازَعَةِ، فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ دَفْعَ الأَْدْوَنِ وَالْبَائِعُ يَطْلُبُ الأَْرْفَعَ؛ وَلِعَدَمِ إِمْكَانِ الصَّرْفِ إِلَى أَحَدِهَا دُونَ الآْخَرِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّحَكُّمِ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الرَّوَاجِ. وَإِذَا لَمْ يُمْكِنِ الصَّرْفُ إِلَى أَحَدِهَا وَالْحَالَةُ أَنَّهَا مُتَفَاوِتَةُ الْمَالِيَّةِ جَاءَتِ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إِلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ، وَهَذَا عِنْدَ الْجَمِيعِ. ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنِ ارْتَفَعَتِ الْجَهَالَةُ بِبَيَانِ أَحَدِهَا فِي الْمَجْلِسِ وَبِرِضَا الآْخَرِ صَحَّ، لاِرْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ قَبْل تَقَرُّرِهِ (1) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ: (نُقُود) .
__________
(1) فتح القدير على الهداية 5 / 469، وشرح المجلة للأتاسي 1 / 79، وابن عابدين 4 / 26، والزرقاني 4 / 24، والبهجة على التحفة 2 / 11، ومغني المحتاج 2 / 17، وكشاف القناع 3 / 174، والقليوبي 2 / 162(23/191)
رَوْث
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّوْثُ لُغَةً: رَجِيعُ (فَضْلَةُ) ذِي الْحَافِرِ، وَاحِدُهُ رَوْثَةٌ وَالْجَمْعُ أَرْوَاثٌ (1) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِأَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ فَيُطْلَقُ عِنْدَهُمْ عَلَى رَجِيعِ ذِي الْحَافِرِ وَغَيْرِهِ كَالإِْبِل وَالْغَنَمِ (2) .
وَقَرِيبٌ مِنْهُ الْخِثْيُ، وَالْخِثْيُ لِلْبَقَرِ، وَالْبَعْرُ لِلإِْبِل وَالْغَنَمِ، وَالذَّرْقُ لِلطُّيُورِ (3) . وَالْعَذِرَةُ لِلآْدَمِيِّ (4) ، وَالْخُرْءُ لِلطَّيْرِ وَالْكَلْبِ وَالْجُرَذِ وَالإِْنْسَانِ (5) .
وَالسِّرْجِينُ أَوِ السِّرْقِينُ هُوَ رَجِيعُ مَا سِوَى الإِْنْسَانِ.
حُكْمُ الرَّوْثِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ:
2 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ أَنَّ
__________
(1) متن اللغة والقاموس المحيط مادة: (روث)
(2) البناية 1 / 741، والشرح الصغير 1 / 78
(3) الكليات لأبي البقاء 2 / 395
(4) ابن عابدين 5 / 246.
(5) القاموس المحيط وتاج العروس، وابن عابدين 5 / 246(23/192)
رَوْثَ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ طَاهِرٌ.
وَبِهَذَا قَال عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ. وَقَال: صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ (1) . وَصَلَّى أَبُو مُوسَى فِي مَوْضِعٍ فِيهِ أَبْعَارُ الْغَنَمِ فَقِيل لَهُ: لَوْ تَقَدَّمْتَ إِلَى هَاهُنَا. قَال: هَذَا وَذَاكَ وَاحِدٌ.
وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مَا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ مِنَ الأَْوْطِئَةِ وَالْمُصَلَّيَاتِ وَإِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الأَْرْضِ، وَمَرَابِضُ الْغَنَمِ لاَ تَخْلُو مِنْ أَبْعَارِهَا وَأَبْوَالِهَا؛ وَلأَِنَّهُ مُتَحَلِّلٌ مُعْتَادٌ مِنْ حَيَوَانٍ يُؤْكَل لَحْمُهُ فَكَانَ طَاهِرًا (2) .
أَمَّا رَوْثُ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ فَنَجِسٌ عِنْدَ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِنَجَاسَةِ رَوْثِ مَكْرُوهِ الأَْكْل كَمُحَرَّمِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِل النَّجَاسَةَ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الْمَذْهَبِ - بِنَجَاسَةِ الرَّوْثِ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ وَغَيْرِهَا (4) .
__________
(1) حديث: " صلوا في مرابض الغنم ". أخرجه الترمذي (2 / 181 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة وقال: " حديث حسن صحيح "
(2) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي عليه 1 / 47، وجواهر الإكليل 1 / 9
(3) المراجع السابقة والشرح الصغير 1 / 53 - 54
(4) روضة الطالبين 1 / 16، وبدائع الصنائع 1 / 80، والفتاوى الخانية بهامش الهندية 1 / 19، والفتاوى الهندية 1 / 46(23/192)
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِفَةِ نَجَاسَةِ الأَْرْوَاثِ: فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هِيَ نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ نَجَاسَةً خَفِيفَةً.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ النَّجَاسَةَ الْغَلِيظَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا وَرَدَ نَصٌّ يَدُل عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ مُعَارِضٌ لَهُ يَدُل عَلَى طَهَارَتِهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ. وَالْخَفِيفَةُ مَا تَعَارَضَ نَصَّانِ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْغَلِيظَةُ مَا وَقَعَ الاِتِّفَاقُ عَلَى نَجَاسَتِهِ. وَالْخَفِيفَةُ مَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَجَاسَتِهِ وَطَهَارَتِهِ (1) .
3 - بِنَاءً عَلَى هَذَا الأَْصْل فَالأَْرْوَاثُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لأَِنَّهُ وَرَدَ نَصٌّ يَدُل عَلَى نَجَاسَتِهَا وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبَ مِنْهُ أَحْجَارَ الاِسْتِنْجَاءِ فَأَتَى بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَمَى بِالرَّوْثَةِ وَقَال: هَذَا رِكْسٌ (2) أَيْ: نَجِسٌ. وَلَيْسَ لَهُ نَصٌّ مُعَارِضٌ، وَإِنَّمَا قَال بَعْضُ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 80، والفتاوى الخانية 1 / 19، وعمدة القارئ 2 / 304.
(2) حديث ابن مسعود: " أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه أحجار الاستنجاء " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 256 - ط السلفية)(23/193)
الْعُلَمَاءِ بِطَهَارَتِهَا بِالرَّأْيِ وَالاِجْتِهَادِ، وَالاِجْتِهَادُ لاَ يُعَارِضُ النَّصَّ فَكَانَتْ نَجَاسَتُهَا غَلِيظَةً.
وَعَلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ نَجَاسَةُ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ خَفِيفَةٌ لأَِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا.
كَمَا أَنَّ فِي الأَْرْوَاثِ ضَرُورَةً، وَعُمُومُ الْبَلِيَّةِ لِكَثْرَتِهَا فِي الطَّرَقَاتِ فَتَتَعَذَّرُ صِيَانَةُ الْخِفَافِ وَالنِّعَال عَنْهَا، وَمَا عَمَّتْ بَلِيَّتُهُ خَفَّتْ قَضِيَّتُهُ.
وَيَتَفَرَّعُ عَنِ اخْتِلاَفِ الأَْصْلَيْنِ أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنَ الرَّوْثِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ دِرْهَمٍ لَمْ تَجُزِ الصَّلاَةُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَال الصَّاحِبَانِ: يُجْزِئُهُ حَتَّى يَفْحُشَ، وَلاَ فَرْقَ عِنْدَهُمَا بَيْنَ الْمَأْكُول وَغَيْرِ الْمَأْكُول.
وَفِي كُل مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْفَاحِشُ فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِالرُّبُعِ فِي قَوْل مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: شِبْرٌ فِي شِبْرٍ. وَفِي رِوَايَةٍ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ (1) .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الرَّوْثِ أَنَّهُ لاَ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلاَةِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَاحِشًا. وَقِيل: إِنَّ هَذَا آخِرُ أَقَاوِيلِهِ حِينَ كَانَ بِالرَّيِّ وَكَانَ الْخَلِيفَةُ بِهَا، فَرَأَى الطُّرُقَ وَالْخَانَاتِ مَمْلُوءَةً مِنَ الأَْرْوَاثِ وَلِلنَّاسِ فِيهَا بَلْوًى عَظِيمَةٌ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ الْخُفَّ وَالنَّعْل
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 80 - 81، والبناية 1 / 741، والفتاوى الخانية بهامش الهندية 1 / 19.
(2) بدائع الصنائع 1 / 81(23/193)
مِنْ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا فِي الطُّرُقِ وَالأَْمَاكِنِ الَّتِي تَطْرُقُهَا الدَّوَابُّ كَثِيرًا؛ لِعُسْرِ الاِحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ، بِخِلاَفِ مَا أَصَابَ غَيْرَ الْخُفِّ وَالنَّعْل كَالثَّوْبِ وَالْبَدَنِ فَلاَ عَفْوَ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَنَجَاسَةُ الرَّوْثِ عِنْدَهُمْ لاَ يُعْفَى عَنْهَا إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مِمَّا لاَ يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ فَيُعْفَى عَنْهَا فِي قَوْلٍ (2) .
وَعِنْدَ الإِْمَامِ أَحْمَدَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ فَضَلاَتِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَالْبَغْل وَالْحِمَارِ.
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ الْيَسِيرَ مَا لاَ يَفْحُشُ فِي الْقَلْبِ. وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ (3) .
وَقَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى: السِّرْقِينُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ لاَ يَمْنَعُ الصَّلاَةَ؛ لأَِنَّهُ وُقُودُ أَهْل الْحَرَمَيْنِ وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا اسْتَعْمَلُوهُ، كَمَا لَمْ يَسْتَعْمِلُوا الْعَذِرَةَ (4) .
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَجَاسَة) .
الاِسْتِنْجَاءُ بِالرَّوْثِ:
4 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الاِسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ (5) .
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 78 - 79
(2) المهذب 1 / 67 نشر دار المعرفة
(3) المغني 2 / 79، 90.
(4) البناية 1 / 742
(5) المجموع 2 / 114 - 115، والمغني 1 / 157، وعمدة القارئ 2 / 301.(23/194)
وَاسْتَدَل هَذَا الْفَرِيقُ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِمَا يَأْتِي:
1 - حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: اتَّبَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَقَال: أَبْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا أَوْ نَحْوَهُ وَلاَ تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلاَ رَوْثٍ (1) .
2 - حَدِيثُ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّوْثِ وَالْعِظَامِ (2) .
وَلأَِنَّ الرَّوْثَ نَجِسٌ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ مَنْ قَال بِنَجَاسَتِهِ وَالنَّجِسُ لاَ يُزِيل النَّجَاسَةَ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ الاِسْتِنْجَاءُ بِالرَّوْثِ النَّجِسِ وَيَجُوزُ بِالطَّاهِرِ مِنْهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ؛ لأَِنَّ الرَّوْثَ طَعَامُ دَوَابِّ الْجِنِّ يَرْجِعُ عَلَفًا كَمَا كَانَ عَلَيْهِ (4) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ كَرَاهَةَ الاِسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ لأَِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي الاِسْتِنْجَاءِ بِالأَْحْجَارِ مَعْلُولٌ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ، وَقَدْ حَصَلَتْ بِالرَّوْثِ كَمَا
__________
(1) حديث أبي هريرة: " أبغني أحجارًا أستنفض بها ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 255 - ط السلفية)
(2) حديث سلمان: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروث والعظام " أخرجه مسلم (1 / 224 - ط الحلبي)
(3) بدائع الصنائع 1 / 18، والمجموع 2 / 113، 116، والحطاب 1 / 288، والمغني 1 / 157، ونيل الأوطار 1 / 118 نشر دار الجيل
(4) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 155 نشر دار المعرفة، والدسوقي 1 / 114، نشر دار الفكر والشرح الصغير 1 / 101، والحطاب 1 / 288(23/194)
تَحْصُل بِالأَْحْجَارِ، إِلاَّ أَنَّهُ كَرِهَهُ بِالرَّوْثِ لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِعْمَال النَّجِسِ وَإِفْسَادِ عَلَفِ دَوَابِّ الْجِنِّ (1) .
5 - ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الاِعْتِدَادِ بِالاِسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى أَنَّ مَنْ خَالَفَ وَاسْتَنْجَى بِالرَّوْثِ يَعْتَدُّ بِهِ إِنْ حَصَل بِهِ الإِْنْقَاءُ (2) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ (اسْتَنْجَى بِالرَّوْثِ) يَعْتَدُّ بِهِ عِنْدَنَا، فَيَكُونُ مُقِيمًا سُنَّةً (سُنَّةَ الاِسْتِنْجَاءِ) وَمُرْتَكِبًا كَرَاهَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ جِهَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ فَيَكُونُ بِجِهَةٍ كَذَا وَبِجِهَةٍ كَذَا (3) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَنْ خَالَفَ وَاسْتَنْجَى بِالرَّوْثِ لَمْ يَصِحَّ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سُؤَال الْجِنِّ الزَّادَ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: لَكُمْ كُل عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ، أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُل بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلاَ تَسْتَنْجُوا بِهِمَا، فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 18.
(2) بدائع الصنائع 1 / 18، والدسوقي 1 / 114، والشرح الصغير 1 / 102، والفروع 1 / 123
(3) بدائع الصنائع 1 / 18، وعمدة القارئ 2 / 301
(4) حديث ابن مسعود: " في سؤال الجن الزاد. . . " أخرجه مسلم (1 / 332 - ط الحلبي) .(23/195)
وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَعَدَمَ الإِْجْزَاءِ (1) .
6 - أَمَّا مَنِ اسْتَنْجَى بِالرَّوْثِ ثُمَّ اسْتَنْجَى بَعْدَهُ بِمُبَاحٍ كَحَجَرٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ مَنْ يَرَى عَدَمَ الصِّحَّةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ عَلَى الاِتِّجَاهَاتِ التَّالِيَةِ:
1 - عَدَمُ الإِْجْزَاءِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الاِتِّجَاهِ يَتَعَيَّنُ الاِسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ بَعْدَهُ.
2 - الإِْجْزَاءُ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
3 - الإِْجْزَاءُ إِنْ أَزَال شَيْئًا، وَهُوَ قَوْلٌ ذَكَرَهُ ابْنُ حَمْدَانَ الْحَنْبَلِيُّ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَاخْتَارَهُ.
وَأَجَازَ ابْنُ جَرِيرٍ الاِسْتِنْجَاءَ بِكُل طَاهِرٍ وَنَجِسٍ مِنَ الْجَمَادَاتِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: اسْتِجْمَار، اسْتِنْجَاء) .
بَيْعُ الرَّوْثِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ بَيْعِ الرَّوْثِ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي بَحْثِ (زِبْل) .
__________
(1) المجموع 2 / 114 - 115، وكشاف القناع 1 / 69، ومطالب أولي النهى 1 / 76، ونيل الأوطار 1 / 118
(2) المجموع 2 / 114 - 115 والفروع 1 / 123(23/195)
رِيبَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّيبَةُ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّيْبِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الشَّكُّ وَالتُّهْمَةُ، وَجَمْعُهَا رِيَبٌ كَسِدْرَةٍ وَسِدَرٍ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلرِّيبَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - يُنْدَبُ تَرْكُ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوقِعَ فِي الرِّيبَةِ، وَالأَْخْذُ بِمَا لاَ يُوقِعُ فِيهَا، لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ (2) . فَإِنَّ الأَْمْرَ فِيهِ لِلنَّدْبِ؛ لأَِنَّ تَوَقِّيَ الشُّبُهَاتِ مَنْدُوبٌ لاَ وَاجِبٌ عَلَى الأَْصَحِّ. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ اتْرُكْ مَا تَشُكُّ فِيهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَاعْدِل إِلَى مَا لاَ تَشُكُّ فِيهِ مِنَ الْحَلاَل، لأَِنَّ مَنِ اتَّقَى
__________
(1) الصحاح والقاموس المحيط والمصباح مادة: (ريب) .
(2) حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ". أخرجه الترمذي (4 / 668 - ط الحلبي) والحاكم (4 / 99 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال الذهبي: سنده قوي(23/196)
الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ (1) . كَمَا فِي الْحَدِيثِ.
فَمَنْ أَشْكَل عَلَيْهِ شَيْءٌ وَالْتَبَسَ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ الْقَبِيلَيْنِ هُوَ، فَلْيَتَأَمَّل فِيهِ فَإِنْ وَجَدَ مَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَيَطْمَئِنُّ بِهِ قَلْبُهُ وَيَنْشَرِحُ لَهُ صَدْرُهُ فَلْيَأْخُذْ بِهِ وَإِلاَّ فَلْيَدَعْهُ، وَلْيَأْخُذْ بِمَا لاَ شُبْهَةَ فِيهِ وَلاَ رِيبَةَ، وَيَسْأَل الْمُجْتَهِدِينَ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ وَهَذَا هُوَ طَرِيقُ الْوَرَعِ وَالاِحْتِيَاطِ (2) .
وَيَنْبَغِي لِلإِْمَامِ اجْتِنَابُ الرِّيبَةِ فِي الرَّعِيَّةِ، وَعَدَمُ تَتَبُّعِ الْعَوْرَاتِ؛ لأَِنَّهُ إِنْ فَعَل ذَلِكَ أَفْسَدَهُمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الأَْمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ (3) .
وَمَقْصُودُ الْحَدِيثِ حَثُّ الإِْمَامِ عَلَى التَّغَافُل، وَعَدَمِ تَتَبُّعِ الْعَوْرَاتِ. فَإِنَّ بِذَلِكَ يَقُومُ النِّظَامُ وَيَحْصُل الاِنْتِظَامُ. وَالإِْنْسَانُ قَلَّمَا يَسْلَمُ مِنْ عَيْبِهِ فَلَوْ عَامَلَهُمْ بِكُل مَا قَالُوهُ أَوْ فَعَلُوهُ اشْتَدَّتْ عَلَيْهِمُ الأَْوْجَاعُ وَاتَّسَعَ الْمَجَال، بَل يَسْتُرُ عُيُوبَهُمْ
__________
(1) حديث: " من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 126 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1220 - ط الحلبي) من حديث النعمان بن بشير. واللفظ لمسلم.
(2) فيض القدير 3 / 528 - ط الأولى
(3) حديث: " إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم ". أخرجه أبو داود (5 / 200 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وإسناده صحيح(23/196)
وَيَتَغَافَل وَيَصْفَحُ وَلاَ يَتَّبِعُ عَوْرَاتِهِمْ وَلاَ يَتَجَسَّسُ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا ظَنُّ السُّوءِ وَالْخِيَانَةُ بِمَنْ شُوهِدَ مِنْهُ السَّتْرُ وَالصَّلاَحُ فَحَرَامٌ شَرْعًا، بِخِلاَفِ مَنِ اشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ بِتَعَاطِي الرِّيَبِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِالْخَبَائِثِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (1) . وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ (2) .
وَلِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ (3) .
وَالظَّنُّ فِي الشَّرِيعَةِ قِسْمَانِ: مَحْمُودٌ وَمَذْمُومٌ، فَالْمَحْمُودُ مِنْهُ مَا سَلِمَ مَعَهُ دِينُ الظَّانِّ، وَسَلِمَ أَيْضًا الْمَظْنُونُ بِهِ عِنْدَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ الظَّنِّ.
وَالْمَذْمُومُ ضِدُّهُ بِدَلاَلَةِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ، وقَوْله تَعَالَى: {لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} (4) ، وَقَوْلُهُ: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} (5) .
__________
(1) سورة الحجرات / 12
(2) حديث: " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ". أخرجه مسلم (4 / 1985 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " كل المسلم على المسلم حرام: دمه. . . " أخرجه مسلم (4 / 1986 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(4) سورة النور / 12
(5) سورة الفتح / 12(23/197)
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لاَ مَحَالَةَ فَلْيَقُل أَحْسَبُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلاَ يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا (1) . وَقَال: إِذَا حَسَدْتَ فَاسْتَغْفِرْ، وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلاَ تُحَقِّقْ، وَإِذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ. قَال الْمَهْدَوِيُّ: وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الظَّنَّ الْقَبِيحَ بِمَنْ ظَاهِرُهُ الْخَيْرُ لاَ يَجُوزُ، وَأَنَّهُ لاَ حَرَجَ فِي الظَّنِّ الْقَبِيحِ بِمَنْ ظَاهِرُهُ الْقُبْحُ.
آثَارُ الرِّيبَةِ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يَظْهَرُ أَثَرُ الرِّيبَةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِل الْفِقْهِ، فَيَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ كَمَا لَوْ كَانَ ظَاهِرُ مَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ مُخَالِفًا لِدَعْوَاهُمَا فَتِلْكَ رِيبَةٌ تُكَذِّبُ دَعْوَاهُمَا فَلاَ تُقْبَل إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ.
- وَيَظْهَرُ أَثَرُهَا أَيْضًا فِي الْوَصِيَّةِ بِمَعْنَى الإِْيصَاءِ كَمَا لَوْ ظَهَرَ لِلْحَاكِمِ رِيبَةٌ فِي الْوَصِيِّ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ مُعَيَّنًا بِمُجَرَّدِ الرِّيبَةِ كَمَا أَفْتَى السُّبْكِيُّ.
- وَتُؤَثِّرُ الرِّيبَةُ أَيْضًا فِي الْعِدَّةِ فَإِنَّهَا أَيِ الْعِدَّةَ
__________
(1) حديث: " إذا كان أحدكم مادحًا لا محالة فليقل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 476 - ط السلفية) من حديث أبي بكرة.(23/197)
تَثْبُتُ بِالشَّكِّ كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ إِذَا لَمْ تُمَيِّزْ دَمَ الْمَرَضِ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ، أَوْ تَأَخَّرَ الْحَيْضُ بِلاَ سَبَبٍ ظَاهِرٍ مِنْ رَضَاعٍ أَوِ اسْتِحَاضَةٍ، أَوْ مَرِضَتِ الْمُطَلَّقَةُ فَتَأَخَّرَ حَيْضُهَا بِسَبَبِهِ قَبْل الطَّلاَقِ أَوْ بَعْدَهُ، تَرَبَّصَتْ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ اسْتِبْرَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ لِزَوَال الرِّيبَةِ لأَِنَّهَا مُدَّةُ الْحَمْل غَالِبًا. وَفِي كَوْنِهَا تُعْتَبَرُ مِنْ يَوْمِ الطَّلاَقِ أَوْ مِنْ يَوْمِ ارْتِفَاعِ حَيْضِهَا قَوْلاَنِ، وَقَالُوا فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ أَوْ وَفَاةٍ إِنِ ارْتَابَتْ فِي الْحَمْل، أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ إِلَى أَقْصَى أَمَدِ الْحَمْل، وَفِي كَوْنِهَا تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ أَوْ خَمْسًا خِلاَفٌ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ - كَمَا جَاءَ فِي الْمِنْهَاجِ - أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ فِي عِدَّةِ أَقْرَاءٍ أَوْ أَشْهُرٍ حَمْلٌ مِنَ الزَّوْجِ اعْتَدَّتْ بِوَضْعِهِ، وَلاَ اعْتِبَارَ بِمَا مَضَى مِنَ الأَْقْرَاءِ أَوِ الأَْشْهُرِ لِوُجُودِ الْحَمْل، وَلَوِ ارْتَابَتْ فِي الْعِدَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِثِقَلٍ وَحَرَكَةٍ تَجِدُهُمَا، لَمْ تَنْكِحْ آخَرَ بَعْدَ تَمَامِهَا حَتَّى تَزُول الرِّيبَةُ.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ إِذَا ارْتَابَتْ بِأَنْ تَرَى أَمَارَاتِ الْحَمْل مِنْ حَرَكَةٍ أَوْ نَفْخَةٍ وَنَحْوِهِمَا وَشَكَّتْ. هَل هُوَ حَمْلٌ أَمْ لاَ؟ فَلاَ يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ ثَلاَثِهِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَحْدُثَ بِهَا الرِّيبَةُ قَبْل انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَبْقَى فِي حُكْمِ الاِعْتِدَادِ حَتَّى تَزُول الرِّيبَةُ، فَإِنْ بَانَ حَمْلاً انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ، فَإِنْ زَالَتْ وَبَانَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَمْلٍ تَبَيَّنَّا أَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ بِالْقُرُوءِ أَوِ الأَْشْهُرِ، فَإِنْ زُوِّجَتْ(23/198)
قَبْل زَوَال الرِّيبَةِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّهَا تَزَوَّجَتْ وَهِيَ فِي حُكْمِ الْمُعْتَدَّاتِ فِي الظَّاهِرِ، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ إِذَا تَبَيَّنَ عَدَمُ الْحَمْل أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ، لأَِنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا.
الثَّانِي: أَنْ تَظْهَرَ بِهَا الرِّيبَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَزَوَاجِهَا، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ لِوُجُودِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ظَاهِرًا، وَالْحَمْل مَعَ الرِّيبَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلاَ يَزُول بِهِ مَا حُكِمَ بِصِحَّتِهِ، لَكِنْ لاَ يَحِل لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا لِلشَّكِّ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، وَلأَِنَّهُ لاَ يَحِل لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ. ثُمَّ نَنْظُرُ فَإِنْ وَضَعَتِ الْوَلَدَ لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوُّجِهَا الثَّانِيَ وَوَطْئِهَا فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ لأَِنَّهُ نَكَحَهَا وَهِيَ حَامِلٌ، وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لأَِكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَالْوَلَدُ لاَحِقٌ بِهِ وَنِكَاحُهُ صَحِيحٌ.
الثَّالِثُ: أَنْ تَحْدُثَ بِهَا الرِّيبَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَقَبْل النِّكَاحِ فَفِي حِل النِّكَاحِ لَهَا وَجْهَانِ
أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الْحِل، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ لأَِنَّهَا تَتَزَوَّجُ مَعَ الشَّكِّ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ وُجِدَتِ الرِّيبَةُ فِي الْعِدَّةِ، وَلأَِنَّنَا لَوْ صَحَّحْنَا النِّكَاحَ لَوَقَعَ مَوْقُوفًا، وَلاَ يَجُوزُ كَوْنُ النِّكَاحِ مَوْقُوفًا.
وَالثَّانِي: يَحِل لَهَا النِّكَاحُ وَيَصِحُّ لأَِنَّنَا حَكَمْنَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَحِل النِّكَاحِ، وَسُقُوطِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، فَلاَ يَجُوزُ زَوَال مَا حُكِمَ بِهِ لِلشَّكِّ الطَّارِئِ، وَلِهَذَا لاَ يَنْقُضُ الْحَاكِمُ مَا حَكَمَ بِهِ بِتَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ وَرُجُوعِ الشُّهُودِ.(23/198)
وَتُؤَثِّرُ الرِّيبَةُ أَيْضًا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الدَّمِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْل عَلَى رَجُلَيْنِ، وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ فَبَادَرَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمَا وَشَهِدَا عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِأَنَّهُمَا الْقَاتِلاَنِ، وَذَلِكَ يُورِثُ رِيبَةً لِلْحَاكِمِ فَيُرَاجِعُ الْوَلِيَّ وَيَسْأَلُهُ احْتِيَاطًا.
- وَيُنْدَبُ لِلْحَاكِمِ تَفْرِقَةُ الشُّهُودِ عِنْدَ ارْتِيَابِهِ فِيهِمْ، كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَيَسْأَل كُلًّا وَيَسْتَقْصِي، ثُمَّ يَسْأَل الثَّانِيَ كَذَلِكَ قَبْل اجْتِمَاعِهِ بِالأَْوَّل وَيَعْمَل بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ.
وَالأَْوْلَى كَوْنُ ذَلِكَ قَبْل التَّزْكِيَةِ. ثُمَّ إِنَّ أَصْل الرَّدِّ فِي الشَّهَادَةِ مَبْنَاهُ التُّهْمَةُ (1) .
هَذَا، وَيُبْحَثُ عَنِ الْمَسَائِل الْخَاصَّةِ بِمُصْطَلَحِ رِيبَةٍ فِي: الزَّكَاةِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالْعِدَّةِ، وَالْقَضَاءِ، وَالشَّهَادَةِ، وَيُبْحَثُ عَنْهَا أَيْضًا فِي مُصْطَلَحِ: (شَكّ) وَمُصْطَلَحِ: (تُهْمَة) .
__________
(1) فتح القدير 3 / 287 - ط الأميرية، الدسوقي 1 / 492، 2 / 470، 474 - ط الفكر، جواهر الإكليل 1 / 385 - 387 - ط المعرفة، نهاية المحتاج 6 / 102، 8 / 254 - ط المكتبة الإسلامية، حاشية القليوبي 4 / 44 - ط الحلبي، روضة الطالبين 10 / 35 - ط المكتب الإسلامي، الإنصاف 9 / 277 - ط التراث، المغني 7 / 468 - 469 - ط الرياض(23/199)
رِيح
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّيحُ فِي اللُّغَةِ: الْهَوَاءُ الْمُسَيَّرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَْرْضِ، وَالرِّيحُ بِمَعْنَى الرَّائِحَةِ: عَرَضٌ يُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الشَّمِّ، يُقَال: رِيحٌ زَكِيَّةٌ.
وَقِيل: لاَ يُطْلَقُ اسْمُ الرِّيحِ إِلاَّ عَلَى الطَّيِّبِ مِنَ النَّسِيمِ.
أَمَّا الرَّائِحَةُ فَهِيَ النَّسِيمُ طَيِّبًا كَانَ أَمْ نَتِنًا.
وَجَمْعُهَا: رِيَاحٌ، وَأَرْوَاحٌ، وَأَرَاوِيحُ (1) .
وَيُسْتَخْدَمُ لَفْظُ (الرِّيَاحِ) فِي الرَّحْمَةِ، وَلَفْظُ (الرِّيحِ) فِي الْعَذَابِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلاَ تَجْعَلْهَا رِيحًا (2) .
وَالرِّيحُ: الْهَوَاءُ الْخَارِجُ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ.
__________
(1) لسان العرب، تاج العروس، مفردات القرآن للأصفهاني مادة: (روح)
(2) حديث: " اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا ". هو شطر من حديث أخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس كما في مجمع الزوائد (10 / 135 ط القدسي) وقال الهيثمي: فيه حسين بن قيس الملقب بحنش وهو متروك، وقد وثقه حصين بن نمير، وبقية رجاله رجال الصحيح(23/199)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرِّيحِ:
الدُّعَاءُ عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيحِ:
2 - يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْءِ عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيحِ أَنْ يَسْأَل اللَّهَ خَيْرَهَا وَيَتَعَوَّذَ مِنْ شَرِّهَا، وَيُكْرَهُ سَبُّهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرِّيحُ مِنْ رُوحِ اللَّهِ تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَبِالْعَذَابِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَلاَ تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا اللَّهَ خَيْرَهَا، وَاسْتَعِيذُوا بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّهَا (1) .
وَيَقُول فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ (2) . وَيَقُول: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً، وَلاَ تَجْعَلْهَا عَذَابًا، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا، وَلاَ تَجْعَلْهَا رِيحًا (3) .
الرِّيحُ الْخَارِجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ خُرُوجَ رِيحٍ مِنْ
__________
(1) حديث: الريح من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب ". أخرجه أبو داود (5 / 329 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة والحاكم (4 / 285 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه، ووافقه الذهبي
(2) حديث: " اللهم إني أسألك خيرها ". أخرجه مسلم (2 / 616 - ط الحلبي) من حديث عائشة
(3) كشاف القناع 2 / 75، وحاشية الجمل 2 / 127، وأسنى المطالب 1 / 294، ونهاية المحتاج 2 / 417. وحديث: " اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابًا "، هو شطر من حديث ابن عباس، السابق تخريجه ف /(23/200)
دُبُرِ الإِْنْسَانِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ وُضُوءَ إِلاَّ مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي نَقْضِهِ إِذَا خَرَجَ مِنْ قُبُل الْمَرْأَةِ أَوْ مِنْ ذَكَرِ الرَّجُل.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ خُرُوجَ الرِّيحِ مِنْ قُبُل الْمَرْأَةِ أَوْ ذَكَرِ الرَّجُل نَاقِضٌ لِلطَّهَارَةِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ وُضُوءَ إِلاَّ مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الرِّيحَ الْخَارِجَ مِنَ الْقُبُل أَوِ الذَّكَرِ لَيْسَ بِنَاقِضٍ، لأَِنَّهَا لاَ تَنْبَعِثُ عَنْ مَحَل النَّجَاسَةِ فَهُوَ كَالْجُشَاءِ. وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (حَدَث) .
الاِسْتِنْجَاءُ مِنَ الرِّيحِ:
4 - الرِّيحُ الْخَارِجَةُ مِنَ الدُّبُرِ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ، فَلاَ يُسْتَنْجَى مِنْهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اسْتَنْجَى مِنَ الرِّيحِ فَلَيْسَ مِنَّا (3) وَقَال أَحْمَدُ: لَيْسَ فِي الرِّيحِ
__________
(1) حديث: " لا وضوء إلا من صوت أو ريح ". أخرجه الترمذي (1 / 109 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن صحيح "
(2) أسنى المطالب 1 / 54، وفتح القدير 1 / 33، 47 - 48، وبدائع الصنائع 1 / 25، وابن عابدين 1 / 92، ومواهب الجليل 1 / 291، وكشاف القناع 1 / 123، والمغني 1 / 169، وحاشية الدسوقي 1 / 118
(3) حديث: " من استنجى من الريح فليس منا ". أخرجه ابن عدي في الكامل (4 / 1352 - ط دار الفكر) من حديث جابر بن عبد الله، واستنكره ابن عدي(23/200)
اسْتِنْجَاءٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلاَ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ، فَهِيَ طَاهِرَةٌ فَلاَ تُنَجِّسُ سَرَاوِيلَهُ الْمُبْتَلَّةَ إِذَا خَرَجَتْ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (اسْتِنْجَاء) .
وُجُوبُ إِزَالَةِ رِيحِ النَّجَاسَةِ:
5 - يَجِبُ إِزَالَةُ رِيحِ النَّجَاسَةِ عِنْدَ تَطْهِيرِ الشَّيْءِ الْمُتَنَجِّسِ، وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَة) .
إِخْرَاجُ الرِّيحِ فِي الْمَسْجِدِ:
6 - يُكْرَهُ إِخْرَاجُ الرِّيحِ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ لِحَدِيثِ: إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ (2) . وَيَخْرُجُ مَنْ يَفْعَل ذَلِكَ، كَمَا يُكْرَهُ حُضُورُ الْمَسْجِدِ لِمَنْ أَكَل شَيْئًا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ كَالْبَصَل النِّيءِ وَنَحْوِهِ، وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْجَمَاعَةُ إِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ إِزَالَةُ رِيحِهَا، وَمِثْل ذَلِكَ مَنْ لَهُ صُنَانٌ، أَوْ بَخْرٌ (3) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَكَل مِنْ هَذِهِ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 70، ابن عدي 1 / 92، وحاشية الدسوقي 1 / 122.
(2) حديث: " إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ". أخرجه مسلم (1 / 95 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله
(3) كشاف القناع 3 / 365، أسنى المطالب 1 / 215، جواهر الإكليل 1 / 203.(23/201)
الشَّجَرَةِ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا (1) .
ثُبُوتُ حَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ بِفَوْحِ رِيحِهَا مِنْ فَمِهِ:
7 - لاَ يَثْبُتُ حَدُّ شُرْبِ الْخَمْرِ بِوُجُودِ رِيحِهَا فِي فَمِهِ لاِحْتِمَال أَنَّهُ تَمَضْمَضَ بِهَا، أَوْ ظَنَّهَا مَاءً فَلَمَّا ذَاقَهَا مَجَّهَا، أَوْ أَنَّهُ تَنَاوَل شَيْئًا آخَرَ تُشْبِهُ رِيحُهُ رِيحَ الْخَمْرِ، وَالاِحْتِمَال شُبْهَةٌ يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ (2) ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَثْبُتُ حَدُّ شُرْبِ الْخَمْرِ بِوُجُودِ الرِّيحِ، وَهِيَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، لأَِنَّ الرِّيحَ تَدُل عَلَى شُرْبِهِ لِلْخَمْرِ فَأُجْرِيَ مَجْرَى الإِْقْرَارِ، وَأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ رَجُلاً وَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ (4) .
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (سُكْر) .
الْبَوْل فِي مَهَبِّ الرِّيحِ:
8 - يُكْرَهُ التَّبَوُّل وَالتَّغَوُّطُ فِي مَهَبِّ الرِّيحِ؛ لِئَلاَّ
__________
(1) حديث: " من أكل من هذه الشجرة ". أخرجه مسلم (1 / 394 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة
(2) حديث: " ادرءوا الحدود بالشبهات ". أخرجه ابن السمعاني كما في المقاصد الحسنة للسخاوي (ص 30 - ط السعادة) ونقل عن ابن حجر أنه قال: في سنده من لا يعرف
(3) أسنى المطالب 4 / 159، المغني 8 / 317، ابن عابدين 3 / 164
(4) شرح الزرقاني 8 / 113، ومواهب الجليل 6 / 317، والمغني 8 / 309(23/201)
يُصِيبَهُ رَشَاشُ النَّجَاسَةِ، وَلاَ يُكْرَهُ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ عِنْدَ إِخْرَاجِ الرِّيحِ؛ لأَِنَّ النَّهْيَ عَنِ اسْتِقْبَالِهَا وَاسْتِدْبَارِهَا مُقَيَّدٌ بِحَالَةِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الرِّيحِ (1) .
التَّخَلُّفُ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ لِشِدَّةِ الرِّيحِ:
9 - يَجُوزُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ لاِشْتِدَادِ الرِّيحِ، وَهُوَ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ لِلْمَشَقَّةِ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَذَاتِ الرِّيحِ (2) : أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَال (3) .
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) .
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 47 - 49، وكشاف القناع 1 / 60 - 61، وشرح الزرقاني 1 / 79، 80، نهاية المحتاج 1 / 125
(2) أسنى المطالب 1 / 213، روضة الطالبين 1 / 345، مواهب الجليل 2 / 184
(3) حديث: " ألا صلوا في الرحال ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 157 - ط السلفية) ومسلم (1 / 484 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر(23/202)
رِيش
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّيشُ لُغَةً: كِسْوَةُ الطَّائِرِ، وَالْوَاحِدَةُ رِيشَةٌ، وَهُوَ يُقَابِل الشَّعْرَ فِي الإِْنْسَانِ وَنَحْوِهِ، وَالصُّوفَ لِلْغَنَمِ، وَالْوَبَرَ لِلإِْبِل، وَالْحَرَاشِفَ لِلزَّوَاحِفِ، وَالْقُشُورَ لِلأَْسْمَاكِ، وَالرِّيشُ أَيْضًا اللِّبَاسُ الْفَاخِرُ، وَالأَْثَاثُ، وَالْمَال، وَالْخِصْبُ، وَالْحَالَةُ الْجَمِيلَةُ. وَجَمْعُهُ أَرْيَاشٌ وَرِيَاشٌ (1) . وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلْكَلِمَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الشَّعْرُ وَالْوَبَرُ وَالصُّوفُ:
2 - الشَّعْرُ: مَا يَنْبُتُ عَلَى الْجِسْمِ مِمَّا لَيْسَ بِصُوفٍ وَلاَ وَبَرٍ لِلإِْنْسَانِ وَغَيْرِهِ.
وَالشَّعْرُ يُقَابِلُهُ الرِّيشُ فِي الطُّيُورِ فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ.
__________
(1) المفردات، المعجم الوسيط مادة: (ريش) .(23/202)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرِّيشِ:
أ - طَهَارَةُ الرِّيشِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّيشَ يُوَافِقُ الشَّعْرَ فِي أَحْكَامِهِ، وَمَقِيسٌ عَلَيْهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى طَهَارَةِ رِيشِ الطَّيْرِ الْمَأْكُول حَال حَيَاتِهِ إِذَا كَانَ مُتَّصِلاً بِالطَّيْرِ، أَمَّا إِذَا نُتِفَ أَوْ تَسَاقَطَ فَيَرَى الْجُمْهُورُ - أَيْضًا - طَهَارَتَهُ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ الطَّاهِرَ مِنْهُ هُوَ الزَّغَبُ، وَهُوَ مَا يُحِيطُ بِقَصَبِ الرِّيشِ، أَمَّا الْقَصَبُ فَنَجِسٌ، وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ الرِّيشَ الْمُتَسَاقِطَ وَالْمَنْتُوفَ نَجِسٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ (1) وَدَلِيل الْجُمْهُورِ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (2) وَالرِّيشُ مَقِيسٌ عَلَيْهَا، وَلَوْ قُصِرَ الاِنْتِفَاعُ عَلَى مَا يَكُونُ عَلَى الْمُذَكَّى لَضَاعَ مُعْظَمُ الشُّعُورِ وَالأَْصْوَافِ، قَال بَعْضُهُمْ: وَهَذَا. أَحَدُ مَوْضِعَيْنِ خُصِّصَتِ السُّنَّةُ فِيهِمَا بِالْكِتَابِ، فَإِنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ. خُصَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} . الآْيَةَ.
وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ - فِي الْجُمْلَةِ - طَهَارَةُ
__________
(1) حديث: " ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة ". أخرجه الترمذي (4 / 74 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن غريب
(2) سورة النحل / 80(23/203)
رِيشِ الطَّيْرِ الْمَأْكُول إِذَا مَاتَ (1) .
وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ: قَال صَاحِبُ الاِخْتِيَارِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: شَعْرُ الْمَيْتَةِ وَعَظْمُهَا طَاهِرٌ، لأَِنَّ الْحَيَاةَ لاَ يُحِلُّهُمَا، حَتَّى لاَ يَتَأَلَّمَ الْحَيَوَانُ بِقَطْعِهِمَا، فَلاَ يُحِلُّهُمَا الْمَوْتُ، وَهُوَ الْمُنَجِّسُ، وَكَذَلِكَ الْعَصَبُ وَالْحَافِرُ وَالْخُفُّ وَالظِّلْفُ وَالْقَرْنُ وَالصُّوفُ وَالْوَبَرُ وَالرِّيشُ وَالسِّنُّ وَالْمِنْقَارُ وَالْمِخْلَبُ لِمَا ذَكَرْنَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} امْتَنَّ بِهَا عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْحَيِّ أَوِ الْمَيِّتِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا وَفِي رِوَايَةٍ لَحْمُهَا (3) فَدَل عَلَى أَنَّ مَا عَدَا اللَّحْمَ لاَ يَحْرُمُ، فَدَخَلَتِ الأَْجْزَاءُ الْمَذْكُورَةُ، وَفِيهَا أَحَادِيثُ أُخَرُ صَرِيحَةٌ؛ وَلأَِنَّ الْمَعْهُودَ فِيهَا قَبْل الْمَوْتِ الطَّهَارَةُ فَكَذَا بَعْدَهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُحِلُّهَا (4) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 138، الاختيار 1 / 16، الروضة 1 / 15، شرح روض الطالب 1 / 11، الشرح الصغير 1 / 44، 49، شرح منح الجليل 1 / 26، 29، جواهر الإكليل 1 / 8، 9، كشاف القناع 1 / 56، المغني 1 / 80، 81، مطالب أولي النهى 1 / 61
(2) الاختيار 1 / 16، والبدائع 1 / 63
(3) حديث: " إنما حرم أكلها. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 413 - ط السلفية) ومسلم (1 / 276 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس، ورواية " لحمها " أخرجها الدارقطني (1 / 43 - ط دار المحاسن) وصححها
(4) ابن عابدين 1 / 137(23/203)
وَقَيَّدَهَا فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: بِأَنْ تَكُونَ خَالِيَةً مِنَ الدُّسُومَةِ (1) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِرِيشِ الْمَيْتَةِ كَمَذْهَبِهِمْ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّيشِ الْمَنْتُوفِ وَالْمُنْفَصِل، وَهُوَ أَنَّ الزَّغَبَ طَاهِرٌ دُونَ الْقَصَبِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِجَزِّ الزَّغَبِ وَلَوْ بَعْدَ نَتْفِ الرِّيشِ، وَيُسْتَحَبُّ غَسْلُهُ بَعْدَ جَزِّهِ (2) .
وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ يُوَافِقُونَ الْجُمْهُورَ فِي طَهَارَةِ رِيشِ الْمَيْتَةِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَسْتَثْنُونَ مِنْ ذَلِكَ أُصُول الرِّيشِ إِذَا نُتِفَ سَوَاءٌ أَكَانَ رَطْبًا أَمْ يَابِسًا؛ لأَِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ، أَشْبَهَ سَائِرَهَا؛ وَلأَِنَّ أُصُول الشَّعْرِ وَالرِّيشِ جُزْءٌ مِنَ اللَّحْمِ، لَمْ يَسْتَكْمِل شَعْرًا وَلاَ رِيشًا (3) .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ أَصْل الرِّيشِ إِذَا كَانَ رَطْبًا، وَنُتِفَ مِنَ الْمَيْتَةِ، فَهُوَ نَجِسٌ؛ لأَِنَّهُ رَطْبٌ فِي مَحَلٍّ نَجِسٍ، وَهَل يَكُونُ طَاهِرًا بَعْدَ غَسْلِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ كَرُءُوسِ الشَّعْرِ إِذَا تَنَجَّسَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَجِسٌ لأَِنَّهُ جُزْءٌ مِنَ اللَّحْمِ لَمْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 138
(2) الخرشي 1 / 83
(3) كشاف القناع 1 / 57(23/204)
يَسْتَكْمِل شَعْرًا وَلاَ رِيشًا (1) ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا سَبَقَ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ - فِي الصَّحِيحِ - أَنَّ رِيشَ الْمَيْتَةِ نَجِسٌ، لأَِنَّهُ جُزْءٌ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ اتِّصَال خِلْقَةٍ فَنَجُسَ بِالْمَوْتِ كَالأَْعْضَاءِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (2) وَهَذَا عَامٌّ يَشْمَل الشَّعْرَ وَالرِّيشَ وَغَيْرَهُمَا.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الرِّيشَ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، وَلَكِنَّهُ يَطْهُرُ بِالْغَسْل، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ: لاَ بَأْسَ بِمَسْكِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ، وَلاَ بَأْسَ بِصُوفِهَا وَشَعْرِهَا وَقُرُونِهَا إِذَا غُسِل بِالْمَاءِ (3) .
أَمَّا الطَّيْرُ غَيْرُ الْمَأْكُول فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي رِيشِهِ كَمَذْهَبِهِمْ فِي رِيشِ الطَّيْرِ الْمَأْكُول أَنَّهُ طَاهِرٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَجَاسَةِ رِيشِ الطَّيْرِ الْمَيِّتِ غَيْرِ الْمَأْكُول، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ لَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ.
قَال فِي الْمُغْنِي: وَكُل حَيَوَانٍ فَشَعْرُهُ - أَيْ وَرِيشُهُ - مِثْل بَقِيَّةِ أَجْزَائِهِ، مَا كَانَ طَاهِرًا فَشَعْرُهُ
__________
(1) المغني 1 / 80
(2) سورة المائدة / 3
(3) حديث: " لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ ولا بأس بصوفها وشعرها وقرونها إذا غسل بالماء ". أخرجه الدارقطني (1 / 47 - ط دار المحاسن) وقال: يوسف بن السفر متروك، ولم يأت به غيره(23/204)
وَرِيشُهُ طَاهِرٌ، وَمَا كَانَ نَجِسًا فَشَعْرُهُ - رِيشُهُ - كَذَلِكَ، وَلاَ فَرْقَ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَحَالَةِ الْمَوْتِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهَا لِمَشَقَّةِ الاِحْتِرَازِ مِنْهَا، كَالسِّنَّوْرِ وَمَا دُونَهُ فِي الْخِلْقَةِ، فِيهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا نَجِسَةٌ، لأَِنَّهَا كَانَتْ طَاهِرَةً مَعَ وُجُودِ عِلَّةِ التَّنْجِيسِ لِمُعَارِضٍ، وَهُوَ الْحَاجَةُ إِلَى الْعَفْوِ عَنْهَا لِلْمَشَقَّةِ، وَقَدِ انْتَفَتِ الْحَاجَةُ، فَتَنْتَفِي الطَّهَارَةُ.
وَالثَّانِي: هِيَ طَاهِرَةٌ، وَهَذَا أَصَحُّ؛ لأَِنَّهَا كَانَتْ طَاهِرَةً فِي الْحَيَاةِ، وَالْمَوْتُ لاَ يَقْتَضِي تَنْجِيسَهَا، فَتَبْقَى الطَّهَارَةُ (1) .
حُكْمُ الرِّيشِ عَلَى عُضْوٍ مُبَانٍ مِنْ حَيٍّ:
4 - قَال الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ قُطِعَ جَنَاحُ طَائِرٍ مَأْكُولٍ فِي حَيَاتِهِ فَمَا عَلَيْهِ مِنَ الرِّيشِ نَجِسٌ تَبَعًا لِمَيْتَتِهِ (2) . وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي: (شَعْر)
. حُكْمُ الرِّيشِ عَلَى الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ:
5 - إِذَا دُبِغَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ وَعَلَيْهِ شَعْرٌ (أَوْ رِيش) قَال فِي الأُْمِّ: لاَ يَطْهُرُ لأَِنَّ الدِّبَاغَ لاَ يُؤَثِّرُ فِي تَطْهِيرِهِ. وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْجِيزِيُّ عَنِ
__________
(1) المغني 1 / 81، وانظر: كشاف القناع 1 / 57، ابن عابدين 1 / 138، الاختيار 1 / 16، الخرشي 1 / 83، الإقناع للخطيب 2 / 233، المجموع 2 / 547
(2) المجموع 1 / 241(23/205)
الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَطْهُرُ؛ لأَِنَّهُ شَعْرٌ - رِيشٌ - نَابِتٌ عَلَى جِلْدٍ طَاهِرٍ فَكَانَ كَالْجِلْدِ فِي الطَّهَارَةِ، كَشَعْرِ الْحَيَوَانِ حَال الْحَيَاةِ، وَالأَْوَّل أَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل: فِي (دِبَاغ) ، (شَعْر) .
حُكْمُ الْجِنَايَةِ عَلَى رِيشِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ أَوْ فِي الْحَرَمِ:
6 - إِنْ نَتَفَ الْمُحْرِمُ رِيشَ الصَّيْدِ أَوْ شَعْرَهُ أَوْ وَبَرَهُ فَعَادَ مَا نَتَفَهُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ النَّقْصَ زَال، أَشْبَهَ مَا لَوِ انْدَمَل الْجُرْحُ، فَإِنْ صَارَ الصَّيْدُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ بِنَتْفِ رِيشِهِ وَنَحْوِهِ فَكَمَا لَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا صَارَ بِهِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ - أَيْ عَلَيْهِ جَزَاءُ جَمِيعِهِ - وَإِنْ نَتَفَهُ فَغَابَ وَلَمْ يَعْلَمْ خَبَرَهُ فَعَلَيْهِ نَقْصُهُ (2) . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (حَرَم) ، (صَيْد) .
الاِسْتِنْجَاءُ بِالرِّيشِ:
7 - لاَ يَحْرُمُ الاِسْتِنْجَاءُ بِالرِّيشِ إِذَا كَانَ طَاهِرًا قَالِعًا، وَلَوِ اسْتَنْجَى بِشَيْءٍ مِنْهُ وَشَكَّ هَل وُجِدَتْ فِيهِ تِلْكَ الشُّرُوطُ أَوْ لاَ؟ فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الإِْجْزَاءُ (3) . وَيُنْظَرُ (اسْتِنْجَاء) ، (شَعْر) .
__________
(1) المجموع 1 / 238
(2) كشاف القناع 2 / 467، مطالب أولي النهى 2 / 374
(3) الشرقاوي 1 / 127(23/205)
السَّلَمُ فِي الرِّيشِ:
8 - يَصِحُّ السَّلَمُ فِي الْوَبَرِ وَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالرِّيشِ مَا لَمْ يُعَيَّنْ حَيَوَانُهَا (1) .
انْظُرِ التَّفْصِيل فِي: (سَلَم) ، (شَعْر) ، (صُوف) .
نَتْفُ الرِّيشِ بِالْمَاءِ الْحَارِّ:
9 - فِي فَتَاوَى الأَْنْقِرْوِيِّ (نَقْلاً عَنْ فَتَاوَى ابْنِ نُجَيْمٍ فِي الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ) : سُئِل عَنِ الدَّجَاجِ إِذَا أُلْقِيَ فِي الْمَاءِ حَال الْغَلَيَانِ لِيُنْتَفَ رِيشُهُ، قَبْل شَقِّ بَطْنِهِ هَل يَتَنَجَّسُ؟ فَأَجَابَ: يَتَنَجَّسُ، وَلَكِنْ يُغْسَل بِالْمَاءِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَيَطْهُرُ (2) . وَجَاءَ فِي شَرْحِ الزَّرْقَانِيِّ عَلَى مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: لَيْسَ مِنَ اللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ بِالنَّجَاسَةِ الدَّجَاجُ الْمَذْبُوحُ، يُوضَعُ فِي مَاءٍ حَارٍّ لإِِخْرَاجِ رِيشِهِ مِنْ غَيْرِ غَسْل الْمَذْبَحِ؛ لأَِنَّ هَذَا لَيْسَ بِطَبْخٍ حَتَّى تَدْخُل النَّجَاسَةُ فِي أَعْمَاقِهِ، بَل يُغْسَل وَيُؤْكَل (3) .
__________
(1) القليوبي 2 / 252، وانظر مطالب أولي النهى 3 / 216
(2) فتاوى الأنقروي 1 / 168، وانظر فتح القدير لابن الهمام 1 / 146
(3) الزرقاني 1 / 32(23/206)
رِيع
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّيعُ لُغَةً: النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ، وَرَيَّعَ: زَكَا وَزَادَ وَيُقَال: أَرَاعَتِ الشَّجَرَةُ: كَثُرَ حَمْلُهَا.
وَيُقَال: أَخْرَجَتِ الأَْرْضُ الْمَرْهُونَةُ رِيعًا، أَيْ غَلَّةً لأَِنَّهَا زِيَادَةٌ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يُفَسِّرُونَ الرِّيعَ بِالْغَلَّةِ وَيُفَسِّرُونَ الْغَلَّةَ بِالرِّيعِ، وَيَسْتَعْمِلُونَ اللَّفْظَيْنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَيُعَبِّرُونَ تَارَةً بِالرِّيعِ وَتَارَةً بِالْغَلَّةِ، وَالْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَالْفَائِدَةُ وَالدَّخْل الَّذِي يَحْصُل كَالزَّرْعِ وَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ وَكِرَاءِ الأَْرْضِ وَأُجْرَةِ الدَّابَّةِ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرِّبْحُ:
2 - الرِّبْحُ نَمَاءُ الْمَال نَتِيجَةَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير والمغرب، والكليات 2 / 389
(2) ابن عابدين 3 / 421، و5 / 444، ومنح الجليل 4 / 41 - 62، والشرح الصغير 2 / 305 ط الحلبي وشرح منتهى الإرادات 2 / 490، 506، وكشاف القناع 4 /(23/206)
وَالْمُرَابَحَةُ بَيْعُ السِّلْعَةِ بِالثَّمَنِ الأَْوَّل مَعَ زِيَادَةٍ (1) . أَمَّا الرِّيعُ فَهُوَ مَا يَكُونُ مِمَّا تُخْرِجُهُ الأَْرْضُ مِنْ زَرْعٍ، أَوِ الشَّجَرُ مِنْ ثَمَرٍ، أَوْ مَا يَكُونُ مِنْ كِرَاءِ الْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّيعِ مِنْ أَحْكَامٍ:
3 - يَتَعَلَّقُ بِالرِّيعِ بَعْضُ الأَْحْكَامِ وَمِنْ ذَلِكَ:
أَوَّلاً: إِيرَادُ بَعْضِ الْعُقُودِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ مَوْجُودًا أَمْ مَعْدُومًا وَذَلِكَ كَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أ - الْوَقْفُ:
4 - الْوَقْفُ عِبَارَةٌ عَنْ تَحْبِيسِ الأَْصْل وَالتَّصَدُّقِ بِالرِّيعِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا. قَال: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَال: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا. قَال: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلاَ يُبْتَاعُ، وَلاَ يُورَثُ، وَلاَ يُوهَبُ. قَال: فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيل اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيل،
__________
(1) لسان العرب والكليات 1 / 416، والمهذب 1 / 353(23/207)
وَالضَّيْفِ، لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُل مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ (1) . وَإِذَا لَزِمَ الْوَقْفُ أَصْبَحَ رِيعُهُ - إِنْ كَانَ لَهُ رِيعٌ - مِنْ حَقِّ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَمِلْكًا لَهُمْ، سَوَاءٌ أَكَانُوا مُعَيَّنِينَ، أَمْ غَيْرَ مُعَيَّنِينَ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ (2) . وَيُتَّبَعُ فِي صَرْفِ الرِّيعِ لِلْمُسْتَحِقِّينَ شَرْطُ الْوَاقِفِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْف) .
اشْتِرَاطُ الْوَاقِفِ الْغَلَّةَ لِنَفْسِهِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْوَاقِفِ الْغَلَّةَ أَوْ بَعْضَهَا لِنَفْسِهِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ يَقْتَضِي حَبْسَ الْعَيْنِ وَتَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ، وَالْعَيْنُ مَحْبُوسَةٌ وَمَنْفَعَتُهَا تَكُونُ مَمْلُوكَةً لَهُ فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَقْفِ مَعْنًى.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ وَالصَّوَابُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَاقِفُ غَلَّةَ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ، أَوْ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ لِمَا رَوَى أَحْمَدُ قَال: سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ عَنِ
__________
(1) حديث: " إن شئت حبست أصلها. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 355 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1255 - ط الحلبي) . واللفظ لمسلم
(2) الاختيار 3 / 41، منح الجليل 4 / 35، ومغني المحتاج 2 / 376، 389 - 390، والمهذب 1 / 450، وشرح منتهى الإرادات 2 / 489، 490، والمغني 5 / 598.(23/207)
ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَجَرٍ الْمَدَرِيِّ أَنَّ فِي صَدَقَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْكُل مِنْهَا أَهْلُهُ بِالْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ (1) ، وَلاَ يَحِل ذَلِكَ إِلاَّ بِالشَّرْطِ فَدَل ذَلِكَ عَلَى جَوَازِهِ؛ وَلأَِنَّ الْوَقْفَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، وَلأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا وَقَفَ قَال: وَلاَ بَأْسَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُل مِنْهَا أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ، وَكَانَ الْوَقْفُ فِي يَدِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَلأَِنَّهُ إِذَا وَقَفَ وَقْفًا عَامًّا كَالْمَسَاجِدِ وَالسِّقَايَاتِ وَالرِّبَاطَاتِ وَالْمَقَابِرِ كَانَ لَهُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا (2) . وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْف) .
هَل يُزَكَّى رِيعُ الْوَقْفِ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ زَكَاتُهُ؟
6 - غَلَّةُ الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ وَثِمَارُ الْبَسَاتِينِ، إِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَحَصَل لِبَعْضِهِمْ مِنَ الثَّمَرَةِ أَوِ الْحَبِّ نِصَابٌ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، لأَِنَّهُ اسْتَغَل مِنْ أَرْضِ الْوَقْفِ أَوْ شَجَرِهِ نِصَابًا فَلَزِمَتْهُ زَكَاتُهُ كَغَيْرِ الْوَقْفِ، وَالْمِلْكُ فِيهَا تَامٌّ وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا
__________
(1) حديث حجر المدري رواه الأثرم كما في المغني لابن قدامة (5 / 604 - 605 - ط الرياض) وهو مرسل، لأن حجرا المدري تابعي
(2) ابن عابدين 3 / 387، والهداية 3 / 17 - 18، والزيلعي 3 / 328، ومنح الجليل 4 / 47، وجواهر الإكليل 2 / 206، والمهذب 1 / 448، ومنتهى الإرادات 2 / 494، والمغني 5 / 604 - 605.(23/208)
بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ وَتُورَثُ عَنْهُ. وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَمَكْحُولٍ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي ذَلِكَ، لأَِنَّ الأَْرْضَ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لَهُمْ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ زَكَاةٌ فِي الْخَارِجِ مِنْهَا كَالْمَسَاكِينِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ تَقْدِيمَ الْعُشْرِ أَوِ الْخَرَاجِ وَسَائِرِ الْمُؤَنِ، وَجَعَل لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْفَاضِل، عُمِل بِشَرْطِ الْوَاقِفِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا؛ لأَِنَّهُ لَوْ جَازَ كَانَ كُل الأَْجْرِ لَهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَيَفُوتُ شَرْطُ الْوَاقِفِ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطِ الْوَاقِفُ شَيْئًا كَانَ الْعُشُرُ أَوِ الْخَرَاجُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ (1) .
وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْمَسَاجِدِ وَالرُّبُطِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا، وَلاَ فِيمَا يَحْصُل فِي أَيْدِي الْمَسَاكِينِ، سَوَاءٌ حَصَل فِي يَدِ بَعْضِهِمْ نِصَابٌ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ أَوْ لَمْ يَحْصُل؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْمَسَاكِينِ لاَ يَتَعَيَّنُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، بِدَلِيل أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ حِرْمَانُهُ وَالدَّفْعُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْمِلْكُ فِيهِ بِالدَّفْعِ وَالْقَبْضِ لِمَا أُعْطِيَهُ مِنْ غَلَّتِهِ مِلْكًا مُسْتَأْنَفًا، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ فِيهِ زَكَاةٌ كَاَلَّذِي يُدْفَعُ إِلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ مِنْ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 400، 2 / 49، ومنح الجليل 4 / 77، والمجموع 5 / 292، 457، والمغني 5 / 639(23/208)
نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ إِذَا بَلَغَتْ نِصَابًا؛ لأَِنَّ الْمَالِكَ لِلأَْرْضِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْعُشْرِ وَالثِّمَارِ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ. وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الزَّكَاةَ تُخْرَجُ أَوَّلاً بِمَعْرِفَةِ مَنْ يَلِي الْوَقْفَ، ثُمَّ يُفَرَّقُ الْبَاقِي عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ بِالاِجْتِهَادِ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ (1) .
وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ مَاشِيَةً لِتَفْرِقَةِ لَبَنِهَا أَوْ صُوفِهَا أَوْ نَسْلِهَا، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ مُعَيَّنِينَ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنِينَ. وَلاَ زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَتْ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى مُعَيَّنٍ فَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ لِضَعْفِ الْمِلْكِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (وَقْف) .
ب - الْوَصِيَّةُ:
7 - تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِغَلَّةِ الْعَبْدِ وَالدَّارِ وَالأَْرْضِ وَالشَّجَرِ لِمُعَيَّنٍ أَوْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَسَوَاءٌ أَوْصَى
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير 2 / 243، والبدائع 2 / 61، ومنح الجليل 4 / 77، والمجموع شرح المهذب 5 / 292، 457، والمغني 5 / 639
(2) الشرح الصغير وحاشية الصاوي 1 / 229 ط الحلبي، والمجموع 5 / 292، وشرح منتهى الإرادات 2 / 499(23/209)
بِذَلِكَ مَعَ الرَّقَبَةِ أَوْ أَوْصَى بِالْغَلَّةِ فَقَطْ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْغَلَّةُ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، أَوْ كَانَتْ مَعْدُومَةً كَالْوَصِيَّةِ بِمَا تَحْمِل الشَّجَرَةُ مِنْ ثِمَارٍ، لأَِنَّ الْمَعْدُومَ يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ بِعَقْدِ السَّلَمِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالإِْجَارَةِ وَالْوَقْفِ، فَكَذَا يَجُوزُ بِالْوَصِيَّةِ. وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّة) .
ج - الْمُسَاقَاةُ:
8 - الْمُسَاقَاةُ هِيَ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُل شَجَرَهُ إِلَى آخَرَ لِيَقُومَ بِسَقْيِهِ وَعَمَل سَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ لَهُ مِنْ ثَمَرِهِ.
وَالأَْصْل فِي جَوَازِهَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: عَامَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْل خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ (2) .
وَأَجَازَهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ اسْتِدْلاَلاً بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فَلَمْ يُجِزْهَا، وَاسْتَدَل بِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَال: وَطَوَاعِيَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا، نَهَانَا أَنْ نُحَاقِل بِالأَْرْضِ فَنُكْرِيهَا عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى. وَأَمَرَ رَبَّ الأَْرْضِ أَنْ
__________
(1) الهداية 4 / 254 - 255 وجواهر الإكليل 2 / 317 ومغني المحتاج 3 / 45، والمغني 6 / 59.
(2) حديث: " عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 10 - ط السلفية) .(23/209)
يَزْرَعَهَا أَوْ يُزْرِعَهَا وَكَرِهَ كِرَاءَهَا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ.
وَفِي رِوَايَةٍ لأَِبِي دَاوُدَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ فَلْيُزْرِعْهَا أَخَاهُ، وَلاَ يُكَارِيهَا بِثُلُثٍ وَلاَ بِرُبُعٍ، وَلاَ بِطَعَامٍ مُسَمًّى (1) .
وَهَذَا مُتَأَخِّرٌ عَمَّا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مِنَ الإِْبَاحَةِ وَيَعْمَلُونَهُ فَاقْتَضَى نَسْخَهُ؛ لأَِنَّهُ اسْتِئْجَارٌ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ مَعْدُومَةٍ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ؛ وَلأَِنَّهُ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ مَا يَحْصُل مِنْ عَمَلِهِ فَلاَ يَجُوزُ كَقَفِيزِ الطَّحَّانِ.
لَكِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ اخْتَلَفُوا فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مُسَاقَاة)
د - الْمُزَارَعَةُ:
9 - الْمُزَارَعَةُ عَقْدٌ عَلَى الزَّرْعِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ غَيْرِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالاِسْتِدْلاَل فِيهَا كَالاِسْتِدْلاَل فِي الْمُسَاقَاةِ (2) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (مُزَارَعَة) .
ضَمَانُ الرِّيعِ:
10 - يَظْهَرُ ضَمَانُ الرِّيعِ فِي حَالَةِ الْغَصْبِ، وَهُوَ
__________
(1) حديث رافع بن خديج أخرجه مسلم (3 / 1181 - ط الحلبي) ، وأخرج الرواية الأخرى أبو داود (3 / 689 - تحقيق عزت عبيد الدعاس) .
(2) الاختيار 3 / 74، والهداية 4 / 53، وجواهر الإكليل 2 / 182، والمغني 5 / 416.(23/210)
الاِسْتِيلاَءُ عَلَى مَال الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1)
. وَيَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْمَغْصُوبِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (2) .
كَمَا أَنَّ غَلَّةَ الْمَغْصُوبِ مِنْ ثَمَرِ نَخْلٍ أَوْ شَجَرٍ، أَوْ تَنَاسُل حَيَوَانٍ أَوْ صُوفٍ جُزَّ، أَوْ لَبَنٍ حُلِبَ يَجِبُ رَدُّ ذَلِكَ كُلِّهِ مَعَ الْمَغْصُوبِ، فَإِنْ أَكَلَهُ الْغَاصِبُ أَوْ تَلِفَ مِنْهُ شَيْءٌ عِنْدَهُ ضَمِنَهُ، لأَِنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَكَانَ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، وَبَدَلُهُ إِنْ كَانَ تَالِفًا. وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: زَوَائِدُ الْغَصْبِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لاَ تُضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوْ بِالْمَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ. (3) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (غَصْب) .
__________
(1) سورة النساء / 29.
(2) حديث: على اليد ما أخذت حتى تؤدي ". أخرجه أبو داود (3 / 822 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث الحسن عن سمرة، وقال ابن حجر: " الحسن مختلف في سماعه من سمرة ". التلخيص (3 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) الاختيار 3 / 59، 64، والهداية 4 / 19، والشرح الصغير 2 / 214 ط الحلبي، والدسوقي 3 / 448، والمهذب 1 / 377، والمغني 5 / 256، 260، ومنتهى الإرادات 2 / 405 - 406.(23/210)
زَكَاةُ الرِّيعِ:
11 - مَا تُخْرِجُهُ الأَْرْضُ مِنْ زَرْعٍ وَمَا تَحْمِلُهُ الأَْشْجَارُ مِنْ ثِمَارٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ عَلَى التَّفْصِيل الَّذِي ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ.
وَزَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ فَرْضٌ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ} (1) ، وقَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (2) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيمَا سَقَتِ الأَْنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشُورُ وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ (3) .
وَسَبَبُ فَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ فِي الزُّرُوعِ: الأَْرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً، حَتَّى إِنَّ الأَْرْضَ لَوْ لَمْ تُخْرِجْ شَيْئًا لَمْ تَجِبْ زَكَاةٌ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنَ الْخَارِجِ، وَإِيجَابُ جُزْءٍ مِنَ الْخَارِجِ وَلاَ خَارِجَ مُحَالٌ، كَمَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ مِنَ الأَْرْضِ مِمَّا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهِ نَمَاءُ الأَْرْضِ وَتُسْتَغَل بِهِ الأَْرْضُ عَادَةً، فَلاَ عُشْرَ فِي الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ لاَ تُسْتَنْمَى بِهَا الأَْرْضُ
__________
(1) سورة البقرة / 267.
(2) سورة الأنعام / 141.
(3) حديث: " فيما سقت الأنهار والغيم. . . " أخرجه مسلم (2 / 675 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.(23/211)
وَلاَ تُسْتَغَل بِهَا عَادَةً؛ لأَِنَّ الأَْرْضَ لاَ تَنْمُو بِهَا، بَل تَفْسُدُ، فَلَمْ تَكُنْ نَمَاءَ الأَْرْضِ.
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاة) . (1)
رِيق
انْظُرْ: صَوْم، سُؤْر
زَاغ
انْظُرْ: أَطْعِمَة.
__________
(1) البدائع 2 / 58 - 59، والكافي لابن عبد البر 1 / 304، 307، 308، والمهذب 1 / 160 - 163، والمغني 2 / 690 - 691.(23/211)
زِبْل
التَّعْرِيفُ:
1 - الزِّبْل لُغَةً: السِّرْقِينُ، وَهُمَا فَضْلَةُ الْحَيَوَانِ الْخَارِجَةُ مِنَ الدُّبُرِ، وَالْمَزْبَلَةُ مَكَانُ طَرْحِ الزِّبْل وَمَوْضِعُهُ، وَالْجَمْعُ مَزَابِل. (1) وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِنَفْسِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (2)
وَفَسَّرَ الْحَصْكَفِيُّ وَالْبُهُوتِيُّ السِّرْقِينَ بِالزِّبْل، وَفِي الشُّرُنْبُلاَلِيَّةِ: هُوَ رَجِيعُ (فَضْلَةُ) مَا سِوَى الإِْنْسَانِ. (3)
وَالسِّرْقِينُ أَصْلُهَا: (سِرْكِينُ) بِالْكَافِ فَعُرِّبَتْ إِلَى الْجِيمِ وَالْقَافِ، فَيُقَال سِرْجِينٌ وَسِرْقِينٌ، وَالرَّوْثُ وَالسِّرْقِينُ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ. وَعَنِ الأَْصْمَعِيِّ أَنَّ السِّرْقِينَ الرَّوْثُ (4) . وَنَقَل ابْنُ
__________
(1) تاج العروس ولسان العرب، والقاموس المحيط مادة: (زبل) .
(2) كشاف القناع 3 / 156، وانظر المدونة 4 / 160.
(3) ابن عابدين 5 / 246، وكشاف القناع 3 / 156.
(4) القاموس المحيط ومتن اللغة مادة (سرق) والمصباح المنير مادة (سرج) وكشاف القناع 3 / 156.(23/212)
عَابِدِينَ أَنَّ السِّرْقِينَ هُوَ رَجِيعُ مَا سِوَى الإِْنْسَانِ. وَيَخْتَلِفُ الزِّبْل عَنْ كُلٍّ مِنَ الرَّوْثِ، وَالْخِثْيِ، وَالْبَعْرِ، وَالْخُرْءِ، وَالنَّجْوِ، وَالْعَذِرَةِ.
فَالرَّوْثُ لِلْفَرَسِ وَالْبَغْل وَالْحِمَارِ، وَالْخِثْيُ لِلْبَقَرِ وَالْفِيل، وَالْبَعْرُ لِلإِْبِل وَالْغَنَمِ، وَالذَّرْقُ لِلطُّيُورِ، وَالنَّجْوُ لِلْكَلْبِ، وَالْعَذِرَةُ لِلإِْنْسَانِ، وَالْخُرْءُ لِلطَّيْرِ وَالْكَلْبِ وَالْجُرَذِ وَالإِْنْسَانِ. (1)
وَقَدْ يُسْتَعْمَل بَعْضُ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ مَكَانَ بَعْضٍ تَوَسُّعًا.
حُكْمُ الزِّبْل مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَهَارَتِهِ وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رَوْث) .
الصَّلاَةُ فِي الْمَزْبَلَةِ:
2 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ كَرَاهَةَ الصَّلاَةِ فِي الْمَزْبَلَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ بِهَا نَجَاسَةٌ.
وَجَازَتِ الصَّلاَةُ بِمَزْبَلَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا أُمِنَتْ مِنَ النَّجِسِ - بِأَنْ جَزَمَ أَوْ ظَنَّ طَهَارَتَهَا - أَمَّا إِذَا تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهَا أَوْ ظُنَّتْ فَلاَ تَجُوزُ الصَّلاَةُ فِيهَا، وَإِذَا صَلَّى أَعَادَ أَبَدًا، وَإِنْ شَكَّ فِي نَجَاسَتِهَا أَعَادَ فِي الْوَقْتِ عَلَى الرَّاجِحِ بِنَاءً عَلَى تَرْجِيحِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 147، والكليات لأبي البقاء 2 / 395، والشرح الصغير 1 / 47، وروضة الطالبين 1 / 16، والمغني 2 / 88 وتاج العروس مادة (سرج) .(23/212)
الأَْصْل عَلَى الْغَالِبِ وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ، وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: يُعِيدُ أَبَدًا تَرْجِيحًا لِلْغَالِبِ عَلَى الأَْصْل.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ فِي الْمَزْبَلَةِ وَلَوْ طَاهِرَةً. (1)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: صَلاَة) .
الصَّلاَةُ بِالثَّوْبِ الْمُصَابِ بِالزِّبْل:
3 - الزِّبْل مِنْهُ مَا هُوَ طَاهِرٌ، كَذَرْقِ الطُّيُورِ مِمَّا يُؤْكَل لَحْمُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَفَضْلَةِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُؤْكَل لَحْمُهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِذَا أَصَابَ شَيْءٌ مِنْهَا بَدَنَ الإِْنْسَانِ أَوْ ثَوْبَهُ لاَ يُنَجِّسُهُ، وَلاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ عِنْدَهُمْ. (2)
أَمَّا الزِّبْل النَّجِسُ، كَفَضْلَةِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لاَ يُؤْكَل لَحْمُهَا، وَكَذَلِكَ فَضْلَةُ الْحَيَوَانَاتِ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِنَجَاسَتِهَا فَفِيهِ مَا يَأْتِي مِنَ التَّفْصِيل:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: النَّجَاسَةُ الْغَلِيظَةُ يُعْفَى عَنْهَا فِي الصَّلاَةِ قَدْرَ الدِّرْهَمِ فَأَقَل، وَالْخَفِيفَةُ يُعْفَى عَنْهَا قَدْرَ رُبُعِ الثَّوْبِ فَأَقَل، وَلِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا (ر: نَجَاسَة) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 63، والمجموع 3 / 158، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي عليه 1 / 267، وكشاف القناع 1 / 295.
(2) الاختيار 1 / 34، والدسوقي 1 / 51، وجواهر الإكليل 1 / 9، وكشاف القناع 1 / 194.(23/213)
فَإِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنَ الرَّوْثِ أَوْ مِنْ أَخْثَاءِ الْبَقَرِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَمْ تَجُزِ الصَّلاَةُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا رِجْسٌ أَوْ رِكْسٌ (1) لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ، فَيَكُونُ مِنَ النَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُجْزِئُهُ الصَّلاَةُ حَتَّى يَفْحُشَ، أَيْ يَصِل رُبُعَ الثَّوْبِ؛ لأَِنَّ لِلاِجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغًا فَيَثْبُتُ التَّخْفِيفُ فِي نَجَاسَتِهَا. وَلأَِنَّ فِيهِ ضَرُورَةً لِعَدَمِ خُلُوِّ الطُّرُقِ فِيهِ. (2)
وَإِنْ أَصَابَهُ خُرْءُ مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي وَالْحِدَأَةِ وَكَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ جَازَتِ الصَّلاَةُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لأَِنَّهَا تَذْرِقُ مِنَ الْهَوَاءِ وَالتَّحَامِي عَنْهَا مُتَعَذِّرٌ فَتَحَقَّقَتِ الضَّرُورَةُ. وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ تَجُوزُ؛ لأَِنَّ التَّخْفِيفَ لِلضَّرُورَةِ، وَلاَ ضَرُورَةَ هُنَا لِعَدَمِ الْمُخَالَطَةِ. (3)
اقْتِنَاءُ الزِّبْل وَاسْتِعْمَالُهُ.
4 - الزِّبْل الطَّاهِرُ يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي
__________
(1) حديث: " هذا رجس أو ركس ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 256 - ط السلفية) بلفظ " ركس " فقط، وابن ماجه (1 / 114 - ط عيسى الحلبي) بلفظ " رجس " عن عبد الله بن مسعود.
(2) العناية على الهداية 1 / 742، وفتح القدير مع الهداية 1 / 143.
(3) نفس المرجعين. وانظر الهداية مع الفتح 1 / 144.(23/213)
الزِّرَاعَةِ وَالتَّسْخِينِ وَإِنْضَاجِ الْخُبْزِ وَنَحْوِهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي الزِّبْل النَّجِسِ. فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ فِي تَنْمِيَةِ الزَّرْعِ وَإِنْضَاجِ الْخُبْزِ وَنَحْوِهِمَا.
كَذَلِكَ يَجُوزُ الاِسْتِفَادَةُ مِنَ الزِّبْل وَاقْتِنَاؤُهُ لِلزِّرَاعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ.
وَقَالُوا: الزَّرْعُ النَّابِتُ عَلَى الزِّبْل لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، لَكِنْ يَنْجُسُ بِمُلاَقَاةِ النَّجَاسَةِ فَإِذَا غُسِل طَهُرَ، وَإِذَا سَنْبَل فَحَبَّاتُهُ الْخَارِجَةُ طَاهِرَةٌ.
وَالأَْصْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِنَجِسٍ، لَكِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْهُ أَشْيَاءَ مِنْهَا: جَعْل عَذِرَةٍ بِمَاءِ سَقْيِ الزَّرْعِ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْخُبْزَ الْمَخْبُوزَ عَلَى نَارِ الرَّوْثِ النَّجِسِ طَاهِرٌ وَلَوْ تَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الرَّمَادِ.
وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْحَنَابِلَةِ عَلَى كَلاَمٍ فِي اسْتِعْمَال الزِّبْل، لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الزِّبْل النَّجِسِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفِقْرَةِ التَّالِيَةِ. (1)
بَيْعُ الزِّبْل:
5 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ بَيْعِ الزِّبْل لاِتِّفَاقِ أَهْل
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 133، والهداية 8 / 122، وابن عابدين 5 / 246، وأسنى المطالب 2 / 9، والروضة 1 / 17، ونهاية المحتاج 1 / 87، و3 / 382، والدسوقي 1 / 57، 60، وكشاف القناع 3 / 156، والمغني 4 / 283.(23/214)
الأَْمْصَارِ فِي جَمِيعِ الأَْعْصَارِ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، وَلأَِنَّهُ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ، فَجَازَ بَيْعُهُ كَسَائِرِ الأَْشْيَاءِ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي بَيْعِ الزِّبْل ثَلاَثَةَ أَقْوَالٍ لِلْمَالِكِيَّةِ:
أ - الْمَنْعُ، وَهُوَ قِيَاسُ ابْنِ الْقَاسِمِ لِلزِّبْل عَلَى الْعَذِرَةِ فِي الْمَنْعِ عِنْدَ مَالِكٍ.
ب - الْجَوَازُ، وَهُوَ قَوْلٌ لاِبْنِ الْقَاسِمِ.
ج - الْجَوَازُ لِلضَّرُورَةِ، وَهُوَ قَوْل أَشْهَبَ. وَتُزَادُ الْكَرَاهَةُ عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ وَفَهْمِ أَبِي الْحَسَنِ. هَذَا وَالْعَمَل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الزِّبْل دُونَ الْعَذِرَةِ لِلضَّرُورَةِ. (1)
قَال الْحَطَّابُ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْل بِالْمَنْعِ هُوَ الْجَارِي عَلَى أَصْل الْمَذْهَبِ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ النَّجَاسَاتِ، وَالْقَوْل بِالْجَوَازِ لِمُرَاعَاةِ الضَّرُورَةِ. وَمَنْ قَال بِالْكَرَاهَةِ تَعَارَضَ عِنْدَهُ الأَْمْرَانِ، وَرَأَى أَنَّ أَخْذَ الثَّمَنِ عَنْ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ رَأَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْجَوَازِ إِنَّمَا هِيَ الاِضْطِرَارُ، فَلاَ بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهَا بِوُجُودِ الاِضْطِرَارِ إِلَيْهِ. (2)
__________
(1) الفتاوى الخانية بهامش الهندية 2 / 133، ونتائج الأفكار 8 / 122، والمجموع 9 / 230، والدسوقي 3 / 10، والحطاب 4 / 260.
(2) الحطاب 4 / 261.(23/214)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: بَيْعُ زِبْل الْبَهَائِمِ الْمَأْكُولَةِ وَغَيْرِهَا بَاطِلٌ وَثَمَنُهُ حَرَامٌ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ شَيْئًا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ (1) . وَلأَِنَّ الزِّبْل نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَالْعَذِرَةِ (2) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ صِحَّةِ بَيْعِ الزِّبْل النَّجِسِ بِخِلاَفِ الطَّاهِرِ مِنْهُ، كَرَوْثِ الْحَمَامِ، وَبَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ. (3)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: نَجَاسَة، وَبَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ) .
__________
(1) حديث: " إن الله إذا حرم على قوم. . . " أخرجه أحمد (4 / 347 - ط دار المعارف) وصححه أحمد شاكر.
(2) المجموع 9 / 230 - 231.
(3) كشاف القناع 3 / 156، والشرح الكبير بذيل المغني 4 / 14.(23/215)
زَبُور
التَّعْرِيفُ:
1 - الزَّبُورُ: فَعُولٌ مِنَ الزَّبْرِ، وَهُوَ الْكِتَابَةُ، بِمَعْنَى الْمَزْبُورِ أَيِ: الْمَكْتُوبِ. وَجَمْعُهُ: زُبُرٌ.
وَالزَّبُورُ: كِتَابُ دَاوُدَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، كَمَا أَنَّ التَّوْرَاةَ هِيَ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالإِْنْجِيل هُوَ الْمُنَزَّل عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَالْقُرْآنُ الْمُنَزَّل عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} (1) . وَكَانَ مِائَةً وَخَمْسِينَ سُورَةً، لَيْسَ فِيهَا حُكْمٌ، وَلاَ حَلاَلٌ، وَلاَ حَرَامٌ، وَإِنَّمَا هِيَ حِكَمٌ وَمَوَاعِظُ، وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّمْجِيدُ وَالثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَال الْقُرْطُبِيُّ (2) .
__________
(1) سورة النساء / 163.
(2) المصباح المنير ولسان العرب مادة (زبر) وتفسير القرطبي 6 / 17، وتفسير الآلوسي 6 / 17، وفخر الرازي 11 / 109.(23/215)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً: مَسُّ الزَّبُورِ لِلْمُحْدِثِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ مَسُّ الْقُرْآنِ لِلْمُحْدِثِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} (1) . وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ (2) .
وَأَلْحَقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِهِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ فِيهِ أَكْثَرَ. (3) (ر: مُصْحَف) .
أَمَّا الْكُتُبُ السَّمَاوِيَّةُ الأُْخْرَى، كَالتَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل وَالزَّبُورِ فَاخْتَلَفُوا فِيهَا:
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يُكْرَهُ مَسُّ التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل وَالزَّبُورِ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَشِيثٍ إِنْ وُجِدَتْ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ قُرْآنًا، وَالنَّصُّ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ. (4)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ ظَنَّ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ وَنَحْوِهَا غَيْرَ مُبَدَّلٍ كُرِهَ مَسُّهُ، وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُبَدَّل مِنْهَا - وَهُوَ الْغَالِبُ - لاَ يُكْرَهُ مَسُّهُ عِنْدَهُمْ. (5)
__________
(1) سورة الواقعة / 79.
(2) حديث: " لا يمس القرآن إلا طاهر ". أخرجه الدارقطني (1 / 122 - ط دار المحاسن) من حديث عمرو بن حزم، وفي إسناده ضعف، وروي من حديث صحابة آخرين كما في التلخيص لابن حجر (1 / 131 - 132 - ط شركة الطباعة الفنية) يصح بها الحديث، وصححه الإمام أحمد كما في مسائل إسحاق المروزي (ص5) .
(3) البدائع 1 / 33، وحاشية ابن عابدين على الدر 1 / 118، 119، وجواهر الإكليل 1 / 21، ومغني المحتاج 1 / 37، وكشاف القناع 1 / 134، 135.
(4) الحطاب 1 / 304، وكشاف القناع 1 / 135.
(5) مغني المحتاج 1 / 37.(23/216)
ثَانِيًا: وُجُوبُ الإِْيمَانِ بِالزَّبُورِ:
3 - الإِْيمَانُ بِمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ وَاجِبٌ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ، وَالزَّبُورُ كِتَابٌ أُنْزِل عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَجِبُ الإِْيمَانُ بِهِ، كَمَا وَجَبَ الإِْيمَانُ عَلَى مَا أُنْزِل إِلَى سَائِرِ الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِل إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِل إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَْسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} . (1)
يَعْنِي لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ بِأَنْ نُؤْمِنَ بِبَعْضِ الأَْنْبِيَاءِ وَنَكْفُرَ بِبَعْضٍ كَمَا فَعَل الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، بَل نَشْهَدُ لِجَمِيعِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا رُسُل اللَّهِ وَأَنْبِيَاءَهُ بُعِثُوا بِالْحَقِّ وَالْهُدَى.
وَالإِْيمَانُ الْوَاجِبُ بِالزَّبُورِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ قَبْل الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ هُوَ الإِْيمَانُ بِهَا عَلَى مَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ قَبْل أَنْ يَدْخُل عَلَيْهَا التَّحْرِيفُ. (2)
__________
(1) سورة البقرة / 136.
(2) القرطبي 2 / 141، والرازي 2 / 93، والطبري 3 / 110.(23/216)
زَخْرَفَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الزَّخْرَفَةُ لُغَةً الزِّينَةُ وَكَمَال حُسْنِ الشَّيْءِ، وَالزُّخْرُفُ فِي الأَْصْل الذَّهَبُ، ثُمَّ سُمِّيَتْ كُل زِينَةٍ زُخْرُفًا.
وَالْمُزَخْرَفُ الْمُزَيَّنُ، وَتَزَخْرَفَ الرَّجُل إِذَا تَزَيَّنَ وَزَخْرَفَ الْبَيْتَ أَيْ زَيَّنَهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا. . .} (1) وَكُل مَا زُوِّقَ أَوْ زُيِّنَ فَقَدْ زُخْرِفَ، وَزُخْرُفُ الْقَوْل، أَيِ الْمُزَوِّقَاتُ مِنَ الْكَلاَمِ. (2)
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) سورة الزخرف / 34، 35.
(2) لسان العرب، غريب القرآن للأصفهاني مادة (زخرف) .(23/217)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّزْوِيقُ:
2 - الزَّوْقُ لُغَةً الزِّينَةُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الزَّاوُوقِ، وَالْمُزَوَّقُ الْمُزَيَّنُ بِهِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى سُمِّيَ كُل مُزَيَّنٍ بِشَيْءٍ مُزَوَّقًا، وَزَوَّقْتُ الْكَلاَمَ وَالْكِتَابَ إِذَا أَحْسَنْتَهُ وَقَوَّمْتَهُ، (1) وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّهُ لَيْسَ لِي أَوْ لِنَبِيٍّ أَنْ يَدْخُل بَيْتًا مُزَوَّقًا (2) . أَيْ مُزَيَّنًا "
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ زَخْرَفَةُ الْمَسْجِدِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ نَقْشٍ، أَوْ صَبْغٍ، أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُلْهِي الْمُصَلِّيَ عَنْ صَلاَتِهِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ.
فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ (3) وَالتَّشْيِيدُ: الطِّلاَءُ بِالشِّيدِ أَيِ الْجِصِّ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير مادة: زوق.
(2) حديث: " إنه ليس لي أو لنبي أن يدخل بيتا مزوقًا ". أخرجه أبو داود (4 / 133 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وأحمد (5 / 221 - ط الميمنية) من حديث سفينة رضي الله عنه. وإسناده حسن.
(3) حديث: " ما أمرت بتشييد المساجد ". أخرجه أبو داود (1 / 310 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه ابن حبان (الإحسان 3 / 70 - ط دار الكتب العلمية) .(23/217)
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ (1) .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ مَسْجِدٍ وَقَال: أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ (2) .
وَقَال أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا حَلَّيْتُمْ مَصَاحِفَكُمْ وَزَخْرَفْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ فَالدَّبَارُ عَلَيْكُمْ.
وَلأَِنَّ ذَلِكَ يُلْهِي الْمُصَلِّيَ عَنِ الصَّلاَةِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ فَيُخِل بِخُشُوعِهِ؛ وَلأَِنَّ هَذَا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ زَخْرَفَةُ الْمَسْجِدِ أَوْ نَقْشُهُ مِنْ مَال الْوَقْفِ، وَأَنَّ الْفَاعِل يَضْمَنُ ذَلِكَ وَيَغْرَمُ الْقِيمَةَ؛ لأَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلاَ مَصْلَحَةَ فِيهِ وَلَيْسَ بِبِنَاءٍ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِلاَّ إِذَا خِيفَ طَمَعُ الظَّلَمَةِ، كَأَنِ اجْتَمَعَتْ عِنْدَهُ أَمْوَال الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعِمَارَةِ فَلاَ بَأْسَ بِزَخْرَفَتِهِ. وَكَذَلِكَ مَا لَوْ كَانَتِ الزَّخْرَفَةُ لإِِحْكَامِ
__________
(1) حديث: " لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد ". أخرجه أبو داود (1 / 311 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه ابن حبان (الإحسان 3 / 70 - ط دار الكتب العلمية) .
(2) قول عمر: " أكن الناس من المطر ". علقه البخاري في صحيحه (الفتح 1 / 539 - ط السلفية) .(23/218)
الْبِنَاءِ، أَوْ كَانَ الْوَاقِفُ قَدْ فَعَل مِثْلَهُ، لِقَوْلِهِمْ: إِنَّهُ يَعْمُرُ الْوَقْفَ كَمَا كَانَ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ كَذَلِكَ.
4 - وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمُ الْحَنَابِلَةُ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ زَخْرَفَةُ الْمَسْجِدِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَتَجِبُ إِزَالَتُهُ كَسَائِرِ الْمُنْكَرَاتِ؛ لأَِنَّهُ إِسْرَافٌ، وَيُفْضِي إِلَى كَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ، كَمَا يَحْرُمُ تَمْوِيهُ سَقْفِهِ أَوْ حَائِلِهِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَتَجِبُ إِزَالَتُهُ إِنْ تَحَصَّل مِنْهُ شَيْءٌ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ، فَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ فَلَهُ اسْتِدَامَتُهُ حِينَئِذٍ لِعَدَمِ الْمَالِيَّةِ، فَلاَ فَائِدَةَ فِي إِتْلاَفِهِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وَلِيَ الْخِلاَفَةَ أَرَادَ جَمْعَ مَا فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ مِمَّا مُوِّهَ بِهِ مِنَ الذَّهَبِ فَقِيل لَهُ: إِنَّهُ لاَ يَجْتَمِعُ مِنْهُ شَيْءٌ فَتَرَكَهُ، وَأَوَّل مَنْ ذَهَّبَ الْكَعْبَةَ فِي الإِْسْلاَمِ وَزَخْرَفَهَا وَزَخْرَفَ الْمَسَاجِدَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَلِذَلِكَ عَدَّهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَقْسَامِ الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِلَى اسْتِحْبَابِ زَخْرَفَةِ الْمَسْجِدِ بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ نَقْشٍ، أَوْ صَبْغٍ، أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ وَإِحْيَاءِ الشَّعَائِرِ الإِْسْلاَمِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِزَخْرَفَةِ الْمَسْجِدِ أَوْ نَقْشِهِ بِجِصٍّ أَوْ مَاءِ ذَهَبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا مِنَ الأَْشْيَاءِ الثَّمِينَةِ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الْمِحْرَابِ أَوْ جِدَارِ الْقِبْلَةِ؛ لأَِنَّهُ يَشْغَل قَلْبَ(23/218)
الْمُصَلِّي، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي حَائِطِ الْمَيْمَنَةِ أَوِ الْمَيْسَرَةِ، لأَِنَّهُ أَيْضًا يُلْهِي الْمُصَلِّيَ الْقَرِيبَ مِنْهُ، أَمَّا زَخْرَفَةُ هَذِهِ الأَْمَاكِنِ مِنَ الْمَسْجِدِ فَمَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُمْ أَيْضًا. (1)
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ (مَسَاجِد، وَقْف، ذَهَب) .
ب - زَخْرَفَةُ الْمُصْحَفِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَحَدُ الأَْقْوَال لَدَى الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ زَخْرَفَةِ الْمَصَاحِفِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِهِمَا تَعْظِيمًا لِلْقُرْآنِ وَإِعْزَازًا لِلدِّينِ.
وَاتَّفَقَ هَؤُلاَءِ عَلَى حُرْمَةِ الزَّخْرَفَةِ بِالذَّهَبِ لِمَا عَدَا الْمُصْحَفَ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ الأُْخْرَى. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ زَخْرَفَتِهِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ لِتَضْيِيقِ النَّقْدَيْنِ، وَإِلَى حُرْمَةِ كِتَابَتِهِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَيُؤْمَرُ بِحَكِّهِ، فَإِنْ كَانَ يَجْتَمِعُ مِنْهُ شَيْءٌ يُتَمَوَّل بِهِ زَكَّاهُ إِنْ بَلَغَ نِصَابًا أَوْ بِانْضِمَامِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 442، 5 / 247، 1 / 376، إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي ص 335، 337، مغني المحتاج 1 / 29، 2 / 381، 393، روضة الطالبين 5 / 360، كشاف القناع 2 / 238، 2 / 366، الآداب الشرعية 3 / 393، القليوبي 3 / 108، مطالب أولي النهى 2 / 255، 4 / 299، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 173، المجموع 6 / 42.(23/219)
مَالٍ آخَرَ لَهُ، قَال أَبُو الْخَطَّابِ: يُزَكِّيهِ إِنْ بَلَغَ نِصَابًا، وَلَهُ حَكُّهُ وَأَخْذُهُ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالْقَوْل الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: جَوَازُ زَخْرَفَتِهِ بِالذَّهَبِ لِلْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ بِخِلاَفِ الرَّجُل فَلاَ يَجُوزُ لَهُ، وَتَجُوزُ زَخْرَفَتُهُ بِالْفِضَّةِ لِلرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةِ، وَقِيل: لاَ يَجُوزُ زَخْرَفَةُ الْمُصْحَفِ بِالذَّهَبِ لاَ لِلرَّجُل وَلاَ لِلْمَرْأَةِ. (1)
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مُصْحَف، ذَهَب)
ج - زَخْرَفَةُ الْبُيُوتِ:
6 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى حُرْمَةِ زَخْرَفَةِ الْبُيُوتِ وَالْحَوَانِيتِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، أَمَّا الزَّخْرَفَةُ بِغَيْرِهَا فَلاَ بَأْسَ بِهَا مَا لَمْ تَخْرُجْ إِلَى حَدِّ الإِْسْرَافِ. وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ تَمْوِيهُ السَّقْفِ وَالْحَائِطِ وَالْجِدَارِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْسْرَافِ وَالْخُيَلاَءِ، وَكَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ.
وَتَجِبُ إِزَالَتُهُ؛ لأَِنَّهُ مُنْكَرٌ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، كَمَا تَجِبُ زَكَاتُهُ إِنْ بَلَغَ نِصَابًا بِنَفْسِهِ أَوْ ضَمِّهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعْ مِنْهُ شَيْءٌ بِعَرْضِهِ عَلَى النَّارِ فَلَهُ اسْتِدَامَتُهُ، وَلاَ زَكَاةَ فِيهِ لِعَدَمِ الْمَالِيَّةِ. (2)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 247، الفواكه الدواني 2 / 404، مغني المحتاج 1 / 37، المجموع للإمام النووي 6 / 43، كشاف القناع 1 / 136، 137، الآداب الشرعية 2 / 343، القليوبي 2 / 25.
(2) المجموع للإمام النووي 6 / 43، كشاف القناع 2 / 238، روضة الطالبين 1 / 44، مواهب الجليل 1 / 130.(23/219)
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَقْش) .
7 - هَذَا وَتَجُوزُ الزَّخْرَفَةُ بِغَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الأَْقْمِشَةِ وَالْخَشَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَسَائِرِ الأَْمْتِعَةِ مَا لَمْ يَصِل إِلَى دَرَجَةِ الإِْسْرَافِ.
زَرَافَة
انْظُرْ: أَطْعِمَة(23/220)
زَرْع
التَّعْرِيفُ:
1 - الزَّرْعُ فِي اللُّغَةِ: مَا اسْتُنْبِتَ بِالْبَذْرِ - تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ - وَمِنْهُ يُقَال: حَصَدْتُ الزَّرْعَ أَيِ: النَّبَاتَ، وَالْجَمْعُ: زُرُوعٌ.
قَال بَعْضُهُمْ: وَلاَ يُسَمَّى زَرْعًا إِلاَّ وَهُوَ غَضٌّ طَرِيٌّ.
وَقَدْ غَلَبَ عَلَى الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، وَقِيل: الزَّرْعُ: نَبَاتُ كُل شَيْءٍ يُحْرَثُ، وَقِيل: الزَّرْعُ: طَرْحُ الْبَذْرِ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغَرْسُ:
2 - الْغَرْسُ مَصْدَرُ غَرَسَ يُقَال: غَرَسْتُ الشَّجَرَةَ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.(23/220)
غَرْسًا فَالشَّجَرُ مَغْرُوسٌ وَغَرْسٌ وَغِرَاسٌ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّرْعِ، أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالشَّجَرِ.
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالزَّرْعِ:
إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَحْيَا بِهِ الأَْرْضُ زَرْعَهَا أَوِ الْغَرْسَ فِيهَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ) (2 248 - 249) .
زَكَاةُ الزُّرُوعِ:
4 - أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ فِي الزُّرُوعِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة) .
بَيْعُ الزُّرُوعِ:
5 - إِذَا بَاعَ الأَْرْضَ وَأَطْلَقَ، دَخَل مَا فِيهَا مِنَ الزَّرْعِ سَوَاءٌ اشْتَدَّ وَأَمِنَ الْعَاهَةَ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ الزَّرْعَ تَابِعٌ وَلَوْ بِيعَ وَحْدَهُ لَمْ يَجُزْ إِلاَّ بَعْدَ اشْتِدَادِهِ لِيَأْمَنَ الْعَاهَةَ.
وَإِذَا بَاعَ الزَّرْعَ لَمْ تُدَخِّل الأَْرْضُ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الأَْرْضِ وَاسْتِثْنَاءُ مَا فِيهَا مِنَ الزَّرْعِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي (بَيْع) .
بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ:
6 - الْمُحَاقَلَةُ: هِيَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ مِثْل كَيْلِهَا خَرْصًا.(23/221)
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ بَيْعَ الْمُحَاقَلَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ هُوَ فَاسِدٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بَاطِلٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (بَيْع) (9 138، 168) .
بَيْعُ مَا يَكْمُنُ فِي الأَْرْضِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ مَا يَكْمُنُ فِي الأَْرْضِ مِنَ الزَّرْعِ قَبْل قَلْعِهِ، كَالْبَصَل، وَالثُّومِ، وَنَحْوِهِمَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْجَوَازِ بِشَرْطٍ. وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (جَهَالَة 9 170 - 171) .
إِتْلاَفُ الزَّرْعِ:
8 - فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ مَا تُتْلِفُهُ الدَّوَابُّ مِنَ الزُّرُوعِ نَهَارًا وَبَيْنَ مَا تُتْلِفُهُ لَيْلاً، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الإِْتْلاَفَ إِذَا كَانَ لَيْلاً ضَمِنَ صَاحِبُ الدَّوَابِّ؛ لأَِنَّ فِعْلَهَا مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا إِذَا وَقَعَ الإِْتْلاَفُ نَهَارًا، وَكَانَتِ الدَّوَابُّ وَحْدَهَا فَلاَ ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لأَِنَّ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ حِفْظُ الزَّرْعِ نَهَارًا مِنْ قِبَل صَاحِبِهِ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَلَى هَذَا فِي مُصْطَلَحِ (إِتْلاَف 1 224) .
زَعَامَة
انْظُرْ: إِمَارَة، إِمَامَة، خِلاَفَة، كَفَالَة(23/221)
زَعْفَرَان
التَّعْرِيفُ:
1 - الزَّعْفَرَانُ نَبَاتٌ بَصَلِيٌّ مُقْمِرٌ مِنَ الْفَصِيلَةِ السَّوْسَنِيَّةِ مِنْهُ أَنْوَاعٌ بَرِّيٌّ وَنَوْعٌ صَيْفِيٌّ طِبِّيٌّ مَشْهُورٌ.
وَزَعْفَرْتُ الثَّوْبَ صَبَغْتُهُ فَهُوَ مُزَعْفَرٌ. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ لاِسْتِعْمَال الزَّعْفَرَانِ:
أ - حُكْمُ الْمِيَاهِ الَّتِي خَالَطَهَا طَاهِرٌ كَالزَّعْفَرَانِ:
2 - اتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي خَالَطَهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الأَْشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ الَّتِي تَنْفَكُّ عَنِ الْمَاءِ غَالِبًا مَتَى غَيَّرَتْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ الثَّلاَثَةِ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي طَهُورِيَّتِهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ لأَِنَّهُ لاَ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
__________
(1) لسان العرب مادة: (زعفر) .(23/222)
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (1) . فَالْمَاءُ هُنَا عَلَى إِطْلاَقِهِ، وَأَمَّا الْمُخَالِطُ فَيُضَافُ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي خَالَطَهُ، فَيُقَال مَثَلاً: مَاءُ زَعْفَرَانٍ، أَوْ رَيْحَانٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مُطَهِّرٌ مَا لَمْ يَكُنِ التَّغَيُّرُ عَنْ طَبْخٍ.
أَمَّا الْمُتَغَيِّرُ بِالطَّبْخِ مَعَ شَيْءٍ طَاهِرٍ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْوُضُوءُ وَلاَ التَّطَهُّرُ بِهِ. (2) (ر: مِيَاه) .
ب - الاِخْتِضَابُ بِالزَّعْفَرَانِ:
3 - يُسْتَحَبُّ الاِخْتِضَابُ بِالزَّعْفَرَانِ لِحَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الأَْشْجَعِيِّ عَنْ أَبِيهِ، قَال: كَانَ خِضَابُنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ (3) وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ وَرَفَعَهُ إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ الشَّيْبَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ (4) . قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْحَدِيثُ
__________
(1) سورة النساء / 43.
(2) الاختيار 1 / 14 ط دار المعرفة، المنتقى 1 / 59 ط دار الكتاب العربي، مغني المحتاج 1 / 18 ط دار الفكر، كشاف القناع 1 / 27 ط عالم الكتب.
(3) حديث: " كان خضابنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الورس والزعفران ". أخرجه أحمد (3 / 472 - ط الميمنية) وأورده الهيثمي في المجمع (5 / 159 - ط القدسي) وقال: " رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح خلا بكر بن عيسى وهو ثقة ".
(4) حديث: " إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم ". أخرجه أبو داود (4 / 416 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (4 / 232 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".(23/222)
يَدُل عَلَى أَنَّ الْخِضَابَ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْهِمَا بَل يُشَارِكُهُمَا غَيْرُهُمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْخِضَابِ فِي أَصْل الْحُسْنِ.
وَلِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَال: خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شِيخَةٍ مِنَ الأَْنْصَارِ بِيضٌ لِحَاهُمْ فَقَال: يَا مَعْشَرَ الأَْنْصَارِ حَمِّرُوا وَصَفِّرُوا وَخَالِفُوا أَهْل الْكِتَابِ (1) ، وَالصُّفْرَةُ هِيَ أَثَرُ الزَّعْفَرَانِ.
وَاتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ عَلَى جَوَازِ خَضْبِ رَأْسِ الصَّبِيِّ بِالزَّعْفَرَانِ وَبِالْخَلُوقِ (قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: هُوَ طِيبٌ مَائِعٌ فِيهِ صُفْرَةٌ) وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: الْخَلُوقُ طِيبٌ يُصْنَعُ مِنْ زَعْفَرَانٍ وَغَيْرِهِ. (2)
وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا وُلِدَ لأَِحَدِنَا غُلاَمٌ ذَبَحَ شَاةً وَلَطَّخَ رَأْسَهُ بِدَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالإِْسْلاَمِ كُنَّا نَذْبَحُ شَاةً وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ وَنُلَطِّخُهُ بِزَعْفَرَانٍ (3)
جـ -
__________
(1) حديث: " يا معشر الأنصار حمروا وصفروا ". أخرجه أحمد (5 / 264 - ط الميمنية) وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5 / 160 - ط القدسي) . وقال: " رجاله رجال الصحيح خلا القاسم وهو ثقة، وفيه كلام لا يضر ".
(2) ابن عابدين 5 / 271، البجيرمي على الخطيب 4 / 291، نهاية المحتاج 8 / 141، المصباح المنير (مادة: خلق) ، فتح الباري 9 / 333.
(3) حديث بريدة: " كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام. . . " أخرجه أبو داود (3 / 264 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (4 / 238 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(23/223)
تَزَعْفُرُ الرَّجُل:
4 - الأَْصْل جَوَازُ التَّزَعْفُرِ لِلْمَرْأَةِ. أَمَّا الرَّجُل فَقَدْ نَقَل الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَال: أَنْهَى الرَّجُل الْحَلاَل بِكُل حَالٍ أَنْ يَتَزَعْفَرَ، وَآمُرُهُ إِذَا تَزَعْفَرَ أَنْ يَغْسِلَهُ، وَأُرَخِّصُ فِي الْمُعَصْفَرِ، لأَِنَّنِي لَمْ أَجِدْ أَحَدًا يَحْكِي عَنْهُ إِلاَّ مَا قَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَهَانِي وَلاَ أَقُول نَهَاكُمْ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: بِكَرَاهَةِ لُبْسِ الثِّيَابِ الْمَصْبُوغَةِ بِالزَّعْفَرَانِ وَالْمُعَصْفَرِ لِلرِّجَال لِلأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ، (2) مِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: رَأَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فَقَال: إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلاَ تَلْبَسْهَا (3) .
وَقَدْ حَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ لاَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ، لِقَوْل أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ فَقَال: مَا هَذَا؟ قَال: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَال: بَارَكَ اللَّهُ
__________
(1) حديث علي: " نهاني ولا أقول نهاكم ". مقالة الشافعي التي نقلها عنه البيهقي ذكرها ابن حجر في الفتح (10 / 306 - ط السلفية) . والحديث أخرجه البيهقي (5 / 60 - ط دائرة المعارف العثمانية) وأصله في صحيح مسلم (1 / 349 - ط الحلبي) وغيره في المواضع مفرقًا.
(2) الفتاوى الهندية 5 / 332، المغني 1 / 585، شرح الموطأ 5 / 270.
(3) حديث عبد الله بن عمرو: " إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها ". أخرجه مسلم (3 / 1647 - ط الحلبي) .(23/223)
لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ. (1) .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي لُبْسِ الْمُزَعْفَرِ وَالْمُعَصْفَرِ فِي الْبُيُوتِ وَكَرِهَهُ فِي الْمَحَافِل وَالأَْسْوَاقِ.
وَعَنْ أَنَسٍ قَال: دَخَل رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَقَلَّمَا كَانَ يُوَاجِهُ أَحَدًا بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ، فَلَمَّا قَامَ قَال: لَوْ أَمَرْتُمْ هَذَا أَنْ يَتْرُكَ هَذِهِ الصُّفْرَةَ (2) .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لُبْسَ هَذَيْنِ لاَ يَعْدُو الْكَرَاهَةَ، فَلَوْ كَانَ مُحَرَّمًا لأََمَرَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْسِلَهُ وَلَمَا سَكَتَ عَنْ نُصْحِهِ وَإِرْشَادِهِ. هَذَا وَالْكَرَاهَةُ لِمَنْ تَزَعْفَرَ فِي بَدَنِهِ أَشَدُّ مِنَ الْكَرَاهَةِ لِمَنْ تَزَعْفَرَ فِي ثَوْبِهِ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُل (3) . وَلأَِبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ قَال: قَدِمْتُ عَلَى أَهْلِي لَيْلاً وَقَدْ تَشَقَّقَتْ يَدَايَ، فَخَلَقُونِي بِالزَّعْفَرَانِ، فَغَدَوْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ
__________
(1) حديث أنس: " رأى النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 221 - ط السلفية) .
(2) حديث أنس: " لو أمرتم هذا أن يترك الصفرة ". أخرجه أبو داود (4 / 404 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وأورده ابن حجر في الفتح (10 / 304 - ط السلفية) وذكر تليينا في أحد رواته.
(3) حديث أنس: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 304 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1663 - ط الحلبي) .(23/224)
عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ وَلَمْ يُرَحِّبْ بِي. وَقَال: اذْهَبْ فَاغْسِل هَذَا عَنْكَ، ثُمَّ قَال: لاَ تَحْضُرِ الْمَلاَئِكَةُ جِنَازَةَ الْكَافِرِ بِخَيْرٍ، وَلاَ الْمُتَضَمِّخِ بِالزَّعْفَرَانِ، وَلاَ الْجُنُبِ (1) . وَلِلتَّفْصِيل (ر: أَلْبِسَة)
د - أَكْل الزَّعْفَرَانِ:
5 - يَحْرُمُ أَكْل كَثِيرِ الزَّعْفَرَانِ لأَِنَّهُ يُزِيل الْعَقْل، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِذَلِكَ وَعَدُّوهُ مِنَ الْمُسْكِرَاتِ الْجَامِدَةِ الَّتِي تَحْرُمُ، وَلاَ حَدَّ فِيهَا، بَل فِيهَا التَّعْزِيرُ.
وَهِيَ طَاهِرَةٌ فِي ذَاتِهَا بِخِلاَفِ الْمَائِعَاتِ مِنَ الْمُسْكِرَاتِ. (2)
هـ - أَكْل الزَّعْفَرَانِ فِي الإِْحْرَامِ:
6 - يُحْظَرُ أَكْل الزَّعْفَرَانِ خَالِصًا أَوْ شُرْبُهُ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الطِّيبِ.
أَمَّا إِذَا خُلِطَ بِطَعَامٍ قَبْل الطَّبْخِ وَطَبَخَهُ مَعَهُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيرًا، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَكَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَوْ خَلَطَهُ بِطَعَامٍ مَطْبُوخٍ بَعْدَ الطَّبْخِ فَإِنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي أَكْلِهِ.
أَمَّا إِذَا خَلَطَهُ بِطَعَامٍ غَيْرِ مَطْبُوخٍ، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ غَالِبًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَلاَ فِدْيَةَ إِنْ لَمْ تُوجَدْ
__________
(1) حديث عمار قال: " قدمت على أهلي ليلاً. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 402 - 403 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده حسن.
(2) نهاية المحتاج 8 / 10، الشرقاوي على التحرير 1 / 119.(23/224)
الرَّائِحَةُ، وَإِلاَّ يُكْرَهُ عِنْدَهُمْ عِنْدَ وُجُودِ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ.
وَإِنْ كَانَ الطِّيبُ غَالِبًا وَجَبَ فِي أَكْلِهِ الدَّمُ سَوَاءٌ ظَهَرَتْ رَائِحَتُهُ أَوْ لَمْ تَظْهَرْ، كَخَلْطِ الزَّعْفَرَانِ بِالْمِلْحِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَكُل طَعَامٍ خُلِطَ بَعْدَ الطَّبْخِ بِالزَّعْفَرَانِ فَهُوَ مَحْظُورٌ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي كُل الصُّوَرِ وَفِيهِ الْفِدْيَةُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِنْ خُلِطَ الزَّعْفَرَانُ بِمَشْرُوبٍ، وَجَبَ فِيهِ الْجَزَاءُ قَلِيلاً كَانَ الطِّيبُ أَوْ كَثِيرًا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِذَا خُلِطَ الزَّعْفَرَانُ بِغَيْرِهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ رِيحٌ أَوْ طَعْمٌ فَلاَ حُرْمَةَ وَلاَ فِدْيَةَ، وَإِلاَّ فَفِيهِ الْحُرْمَةُ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ. (1)
و حُكْمُ لُبْسِ الْمُزَعْفَرِ مِنَ الثِّيَابِ أَثْنَاءَ الإِْحْرَامِ:
7 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِيمَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ: وَلاَ تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 191، حاشية الدسوقي 2 / 61 - 62، ونهاية المحتاج 3 / 323، وكشاف القناع 2 / 429 - 431 - 457.
(2) حديث ابن عمر: " ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 401 - ط السلفية) .(23/225)
وَيَلْتَحِقُ بِالثِّيَابِ الْجُلُوسُ عَلَى فِرَاشٍ مُزَعْفَرٍ أَوْ مُطَيَّبٍ بِزَعْفَرَانٍ. وَلاَ يَضَعُ عَلَيْهِ ثَوْبًا مُزَعْفَرًا، وَلَوْ عَلِقَ بِنِعَالِهِ زَعْفَرَانٌ أَوْ طِيبٌ وَجَبَ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى نَزْعِهِ. (1)
(ر: أَلْبِسَة - ب فِقْرَةُ 14 وَإِحْرَام) .
ي - التَّدَاوِي بِالزَّعْفَرَانِ فِي الإِْحْرَامِ:
8 - التَّدَاوِي مُلْتَحِقَةٌ أَحْكَامُهُ بِالطَّعَامِ، وَقَدْ فَصَّل الأَْحْنَافُ فِي الطِّيبِ الَّذِي لاَ يُؤْكَل بِأَنَّ عَلَى الْمُتَدَاوِي إِحْدَى الْكَفَّارَاتِ الثَّلاَثِ أَيُّهَا شَاءَ، إِذَا فَعَلَهُ الْمُحْرِمُ لِضَرُورَةٍ وَعُذْرٍ. (ر: إِحْرَام) .
زَعِيم
انْظُرْ: كَفَالَة، إِمَامَة، إِمَارَة.
زِفَاف
انْظُرْ: عُرْس.
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 189 ط دار الكتاب العربي سنة 1974، القليوبي وعميرة 2 / 133 ط إحياء الكتب العربية، كشاف القناع 2 / 423 - 426 ط دار الكتب.(23/225)
زَكَاة
التَّعْرِيفُ:
1 - الزَّكَاةُ لُغَةً: النَّمَاءُ وَالرِّيعُ وَالزِّيَادَةُ، مِنْ زَكَا يَزْكُو زَكَاةً وَزَكَاءً، وَمِنْهُ قَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْعِلْمُ يَزْكُو بِالإِْنْفَاقِ.
وَالزَّكَاةُ أَيْضًا الصَّلاَحُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً} (1) . قَال الْفَرَّاءُ: أَيْ صَلاَحًا، وَقَال تَعَالَى: {وَلَوْلاَ فَضْل اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} (2) أَيْ مَا صَلُحَ مِنْكُمْ {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (3) أَيْ يُصْلِحُ مَنْ يَشَاءُ. وَقِيل لِمَا يُخْرَجُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِي الْمَال " زَكَاةٌ "، لأَِنَّهُ تَطْهِيرٌ لِلْمَال مِمَّا فِيهِ مِنْ حَقٍّ، وَتَثْمِيرٌ لَهُ، وَإِصْلاَحٌ وَنَمَاءٌ بِالإِْخْلاَفِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَزَكَاةُ الْفِطْرِ طُهْرَةٌ لَلأَْبْدَانِ. (4)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: يُطْلَقُ عَلَى أَدَاءِ حَقٍّ يَجِبُ
__________
(1) سورة الكهف / 81.
(2) سورة النور / 21.
(3) سورة النور / 21.
(4) لسان العرب.(23/226)
فِي أَمْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ، عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَيُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهِ الْحَوْل وَالنِّصَابُ. وَتُطْلَقُ الزَّكَاةُ أَيْضًا عَلَى الْمَال الْمُخْرَجِ نَفْسِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: عَزَل زَكَاةَ مَالِهِ، وَالسَّاعِي يَقْبِضُ الزَّكَاةَ. وَيُقَال: زَكَّى مَالَهُ أَيْ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ، وَالْمُزَكِّي: مَنْ يُخْرِجُ عَنْ مَالِهِ الزَّكَاةَ. وَالْمُزَكِّي أَيْضًا: مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ جَمْعِ الزَّكَاةِ. (1)
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ الزَّكَاةَ تُطْلَقُ عَلَى الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ، وَالنَّفَقَةِ وَالْحَقِّ، وَالْعَفْوِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعْرِيفَهَا فِي الشَّرْعِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصَّدَقَةُ:
2 - الصَّدَقَةُ: تُطْلَقُ بِمَعْنَيَيْنِ: الأَْوَّل: مَا أَعْطَيْتَهُ مِنَ الْمَال قَاصِدًا بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَشْمَل مَا كَانَ وَاجِبًا وَهُوَ الزَّكَاةُ، وَمَا كَانَ تَطَوُّعًا.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الزَّكَاةِ، أَيْ فِي الْحَقِّ الْوَاجِبِ خَاصَّةً، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ (3) .
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير 1 / 481 ط بولاق، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 431 نشر عيسى الحلبي بالقاهرة، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 2 القاهرة، عيسى الحلبي.
(2) فتح الباري 3 / 62، القاهرة، المكتبة السلفية 1371 هـ.
(3) حديث: " ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة ". أخرجه البخاري (3 / 323 - ط السلفية) .(23/226)
وَالْمُصَدِّقُ - بِفَتْحِ الصَّادِ مُخَفَّفَةً - هُوَ السَّاعِي الَّذِي يَأْخُذُ الْحَقَّ الْوَاجِبَ فِي الأَْنْعَامِ، يُقَال: جَاءَ السَّاعِي فَصَدَقَ الْقَوْمَ، أَيْ أَخَذَ مِنْهُمْ زَكَاةَ أَنْعَامِهِمْ.
وَالْمُتَصَدِّقُ وَالْمُصَّدِّقُ - بِتَشْدِيدِ الصَّادِ - هُوَ مُعْطِي الصَّدَقَةِ (1) .
ب - الْعَطِيَّةُ:
3 - الْعَطِيَّةُ: هِيَ مَا أَعْطَاهُ الإِْنْسَانُ مِنْ مَالِهِ لِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يُرِيدُ بِهِ التَّوَدُّدَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَهِيَ أَعَمُّ مِنْ كُلٍّ مِنَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الزَّكَاةُ فَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ الإِْسْلاَمِ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ. وَقَدْ دَل عَلَى وُجُوبِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ.
فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (2) . وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (3) وَقَوْلُهُ: {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ
__________
(1) لسان العرب مادة: (صدق) .
(2) سورة النور / 56.
(3) سورة التوبة / 11.(23/227)
وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَِنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (1) . وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ (2)
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُنِيَ الإِْسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ وَذَكَرَ مِنْهَا إِيتَاءَ الزَّكَاةِ (3) وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِل السُّعَاةَ لِيَقْبِضُوا الصَّدَقَاتِ، وَأَرْسَل مُعَاذًا إِلَى أَهْل الْيَمَنِ، وَقَال لَهُ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ (4) . وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّل لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ - يَعْنِي شِدْقَيْهِ - ثُمَّ يَقُول: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ (5) .
__________
(1) سورة التوبة / 34 - 35.
(2) حديث: " ما أديت زكاته فليس بكنز ". أخرجه الحاكم (1 / 390 - ط دائرة المعارف العثمانية) مرفوعًا بلفظ: " إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره " وصححه، وأقره الذهبي، وذكره ابن أبي حاتم في " علل الحديث " (1 / 223 - ط السلفية) بلفظ: " ما أدي زكاته فليس كنزًا " وصوب وقفه على جابر بن عبد الله.
(3) حديث: " بني الإسلام على خمس. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 49 - ط السلفية) ومسلم (1 / 45 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر.
(4) حديث: " أعلمهم أن الله افترض عليهم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 261 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.
(5) حديث: " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 268 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.(23/227)
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي جَمِيعِ الأَْعْصَارِ عَلَى وُجُوبِهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى قِتَال مَانِعِيهَا.
فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَيْفَ تُقَاتِل النَّاسَ وَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ (1) .
فَقَال أَبُو بَكْرٍ: وَاَللَّهِ لأَُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَال. وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا قَال عُمَرُ: فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ (2) .
أَطْوَارُ فَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ:
5 - إِيتَاءُ الزَّكَاةِ كَانَ مَشْرُوعًا فِي مِلَل الأَْنْبِيَاءِ
__________
(1) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 262 - ط السلفية) .
(2) فتح القدير 1 / 481، والمغني لابن قدامة 2 / 572 ط ثالثة، القاهرة، دار المنار 1367 هـ، وفتح الباري 3 / 262 القاهرة، المطبعة السلفية 1371 هـ.(23/228)
السَّابِقِينَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ وَآلِهِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْل الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (1) .
وَشُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ إِيتَاءُ الصَّدَقَةِ لِلْفُقَرَاءِ، مُنْذُ الْعَهْدِ الْمَكِّيِّ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (2) وَبَعْضُ الآْيَاتِ الْمَكِّيَّةِ جَعَلَتْ لِلْفُقَرَاءِ فِي أَمْوَال الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا مَعْلُومًا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِل وَالْمَحْرُومِ} (3) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: اخْتُلِفَ فِي أَوَّل فَرْضِ الزَّكَاةِ فَذَهَبَ الأَْكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَادَّعَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ فَرْضَهَا كَانَ قَبْل الْهِجْرَةِ. وَاحْتَجَّ بِقَوْل جَعْفَرٍ لِلنَّجَاشِيِّ: وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَيُحْمَل عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، وَلاَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هَذِهِ الزَّكَاةَ الْمَخْصُوصَةَ ذَاتَ النِّصَابِ وَالْحَوْل.
قَال: وَمِمَّا يَدُل عَلَى أَنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ وَقَعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ إِنَّمَا فُرِضَ
__________
(1) سورة الأنبياء / 73.
(2) سورة البلد / 11 - 16.
(3) سورة المعارج / 24 - 25.(23/228)
بَعْدَ الْهِجْرَةِ؛ لأَِنَّ الآْيَةَ الدَّالَّةَ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ مَدَنِيَّةٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَال: أَمَرَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْل أَنْ تَنْزِل الزَّكَاةُ، ثُمَّ نَزَلَتْ فَرِيضَةُ الزَّكَاةِ فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا، وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ (1) .
فَضْل إِيتَاءِ الزَّكَاةِ:
6 - يَظْهَرُ فَضْل الزَّكَاةِ مِنْ أَوْجُهٍ:
1 - اقْتِرَانُهَا بِالصَّلاَةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَحَيْثُمَا وَرَدَ الأَْمْرُ بِالصَّلاَةِ اقْتَرَنَ بِهِ الأَْمْرُ بِالزَّكَاةِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} (2) . وَمِنْ هُنَا قَال أَبُو بَكْرٍ فِي قِتَال مَانِعِي الزَّكَاةِ: وَاَللَّهِ لأَُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، إِنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ.
2 - أَنَّهَا ثَالِثُ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ الْخَمْسَةِ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ بُنِيَ الإِْسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ (3) .
__________
(1) حديث قيس بن سعد: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر " أخرجه النسائي (5 / 49 - ط المكتبة التجارية) . وصححه ابن حجر في الفتح (3 / 267 - ط السلفية) . وانظر فتح الباري 3 / 266 (ك الزكاة ب1) القاهرة، المكتبة السلفية، 1373 هـ، وروضة الطالبين للنووي 10 / 206 بيروت، المكتب الإسلامي.
(2) سورة البقرة / 110.
(3) حديث: " بني الإسلام على خمس: شهادة أن. . . " تقدم تخريجه ف / 4.(23/229)
3 - أَنَّهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ فَرِيضَةٌ أَفْضَل مِنْ سَائِرِ الصَّدَقَاتِ لأَِنَّهَا تَطَوُّعِيَّةٌ، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ (1) .
أَمَّا فَضْل إِيتَاءِ الزَّكَاةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ فَيَأْتِي فِي مَبَاحِثِ: (صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ) .
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الزَّكَاةِ:
7 - أ - أَنَّ الصَّدَقَةَ وَإِنْفَاقَ الْمَال فِي سَبِيل اللَّهِ يُطَهِّرَانِ النَّفْسَ مِنَ الشُّحِّ وَالْبُخْل، وَسَيْطَرَةِ حُبِّ الْمَال عَلَى مَشَاعِرِ الإِْنْسَانِ، وَيُزَكِّيهِ بِتَوْلِيدِ مَشَاعِرِ الْمُوَادَّةِ، وَالْمُشَارَكَةِ فِي إِقَالَةِ الْعَثَرَاتِ، وَدَفْعِ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِينَ، أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى.
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (2) ، وَفِيهَا مِنَ الْمَصَالِحِ لِلْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ، فَفَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الصَّدَقَاتِ حَدًّا أَدْنَى أَلْزَمَ الْعِبَادَ بِهِ، وَبَيَّنَ مَقَادِيرَهُ، قَال الدَّهْلَوِيُّ: إِذْ لَوْلاَ التَّقْدِيرُ لَفَرَّطَ الْمُفْرِطُ وَلاَعْتَدَى الْمُعْتَدِي. (3)
__________
(1) الحديث القدسي: " ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 341 - ط السلفية) .
(2) سورة التوبة / 103.
(3) حجة الله البالغة 2 / 39، 40، بيروت، دار المعرفة، بالتصوير عن ط القاهرة.(23/229)
ب - الزَّكَاةُ تَدْفَعُ أَصْحَابَ الأَْمْوَال الْمَكْنُوزَةِ دَفْعًا إِلَى إِخْرَاجِهَا لِتَشْتَرِكَ فِي زِيَادَةِ الْحَرَكَةِ الاِقْتِصَادِيَّةِ، يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ، وَلاَ يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ. (1)
ج - الزَّكَاةُ تَسُدُّ حَاجَةَ جِهَاتِ الْمَصَارِفِ الثَّمَانِيَةِ وَبِذَلِكَ تَنْتَفِي الْمَفَاسِدُ الاِجْتِمَاعِيَّةُ وَالْخُلُقِيَّةُ النَّاشِئَةُ عَنْ بَقَاءِ هَذِهِ الْحَاجَاتِ دُونَ كِفَايَةٍ.
أَحْكَامُ مَانِعِ الزَّكَاةِ:
إِثْمُ مَانِعِ الزَّكَاةِ:
8 - مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ فَقَدِ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا هُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَوَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مَا يُفِيدُ أَنَّ عُقُوبَتَهُ فِي الآْخِرَةِ مِنْ نَوْعٍ خَاصٍّ، كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إِلاَّ أُحْمِيَ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُجْعَل صَفَائِحَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ وَجَبِينُهُ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، وَمَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلاَّ
__________
(1) حديث: " ألا من ولي يتيمًا له مال. . . " أخرجه الترمذي (3 / 14 - ط الحلبي) وضعفه، ولكن أخرج البيهقي (4 / 107 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عمر موقوفًا عليه: " ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة ". وقال: وهذا إسناد صحيح.(23/230)
بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ كَأَوْفَرَ مَا كَانَتْ تَسْتَنُّ عَلَيْهِ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولاَهَا، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، وَمَا مِنْ صَاحِبِ غَنَمٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا، إِلاَّ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، كَأَوْفَرَ مَا كَانَتْ، فَتَطَؤُهُ بِأَظْلاَفِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلاَ جَلْحَاءُ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّتْ عَلَيْهِ أُولاَهَا، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ (1) .
الْعُقُوبَةُ لِمَانِعِ الزَّكَاةِ:
9 - مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ وَهُوَ فِي قَبْضَةِ الإِْمَامِ تُؤْخَذُ مِنْهُ قَهْرًا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ (2) وَمِنْ حَقِّهَا الزَّكَاةُ، قَال أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ: الزَّكَاةُ حَقُّ الْمَال " وَقَال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ. وَأَقَرَّهُ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ.
__________
(1) حديث: " ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته ". أخرجه مسلم (2 / 682 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا. . . " تقدم تخريجه ف / 4.(23/230)
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَانِعَ الزَّكَاةِ إِذَا أُخِذَتْ مِنْهُ قَهْرًا لاَ يُؤْخَذُ مَعَهَا مِنْ مَالِهِ شَيْءٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ مَانِعَ الزَّكَاةِ يُؤْخَذُ شَطْرُ مَالِهِ عُقُوبَةً لَهُ، مَعَ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُ.
وَاحْتَجُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي كُل سَائِمَةِ إِبِلٍ فِي كُل أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، لاَ تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا، مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لاَ يَحِل لآِل مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ (1) .
وَيُسْتَدَل لِقَوْل الْجُمْهُورِ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ فِي الْمَال حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ (2) .
وَبِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا نِصْفَ أَمْوَال الأَْعْرَابِ الَّذِينَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ.
فَأَمَّا مَنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ قَبْضَةِ الإِْمَامِ وَمَنَعَ الزَّكَاةَ، فَعَلَى الإِْمَامِ أَنْ يُقَاتِلَهُ؛ لأَِنَّ الصَّحَابَةَ
__________
(1) حديث: " في كل سائمة إبل في كل أربعين بنت لبون " أخرجه أبو داود (2 / 233 - 234 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده حسن.
(2) حديث: " ليس في المال حق سوى الزكاة ". أخرجه ابن ماجه (1 / 570 - ط الحلبي) من حديث فاطمة بنت قيس، وذكره ابن حجر في التلخيص الحبير (2 / 160 - ط شركة الطباعة الفنية) وضعف أحد رواته.(23/231)
قَاتَلُوا الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ أَدَائِهَا، فَإِنْ ظَفِرَ بِهِ أَخَذَهَا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى قَوْل الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَهَذَا فِيمَنْ كَانَ مُقِرًّا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ لَكِنْ مَنَعَهَا بُخْلاً أَوْ تَأَوُّلاً، وَلاَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، وَلِذَا فَإِنْ مَاتَ فِي قِتَالِهِ عَلَيْهَا وَرِثَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ وَلاَ يُورَثُ وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا قَاتَل مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَعَضَّتْهُمُ الْحَرْبُ قَالُوا: نُؤَدِّيهَا، قَال: لاَ أَقْبَلُهَا حَتَّى تَشْهَدُوا أَنَّ قَتْلاَنَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلاَكُمْ فِي النَّارِ، وَوَافَقَهُ عُمَرُ. وَلَمْ يُنْقَل إِنْكَارُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَدَل عَلَى كُفْرِهِمْ.
وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ مُنْكِرًا لِوُجُوبِهَا، فَإِنْ كَانَ جَاهِلاً وَمِثْلُهُ يَجْهَل ذَلِكَ لِحَدَاثَةِ عَهْدِهِ بِالإِْسْلاَمِ، أَوْ لأَِنَّهُ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الأَْمْصَارِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ وُجُوبَهَا وَلاَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لأَِنَّهُ مَعْذُورٌ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا نَاشِئًا بِبِلاَدِ الإِْسْلاَمِ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ فَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، وَيَكُونُ مُرْتَدًّا، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ، لِكَوْنِهِ أَنْكَرَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ. (1)
مَنْ تَجِبُ فِي مَالِهِ الزَّكَاةُ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَالِغَ الْعَاقِل الْمُسْلِمَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 572 - 574، والمجموع شرح المهذب 5 / 334.(23/231)
الْحُرَّ الْعَالِمَ بِكَوْنِ الزَّكَاةِ فَرِيضَةً، رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً تَجِبُ فِي مَالِهِ الزَّكَاةُ إِذَا بَلَغَ نِصَابًا، وَكَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَتَمَّتِ الشُّرُوطُ فِي الْمَال.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ كَمَا يَلِي:
أ - الزَّكَاةُ فِي مَال الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ:
11 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَال كُلٍّ مِنَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ، وَعَلِيٍّ وَابْنِهِ الْحَسَنِ، وَعَائِشَةَ، وَجَابِرٍ، وَبِهِ قَال ابْنُ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ، وَرَبِيعَةُ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ، وَلاَ يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ (1) وَالْمُرَادُ بِالصَّدَقَةِ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ؛ لأَِنَّ الْيَتِيمَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ مَالِهِ صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ، إِذْ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَتَبَرَّعَ مِنْ مَال الْيَتِيمِ بِشَيْءٍ؛ وَلأَِنَّ الزَّكَاةَ تُرَادُ لِثَوَابِ الْمُزَكِّي وَمُوَاسَاةِ الْفَقِيرِ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ مِنْ أَهْل الثَّوَابِ وَأَهْل الْمُوَاسَاةِ عَلَى مَا قَال الشِّيرَازِيُّ، وَبِأَنَّ الزَّكَاةَ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَال، فَأَشْبَهَ نَفَقَةَ الأَْقَارِبِ وَأُرُوشَ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ.
__________
(1) حديث: " ألا من ولي يتيمًا له مال فليتجر فيه ولا يتركه. . . " أخرجه الترمذي (3 / 24 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر، وقال: وفي إسناده مقال، لأن المثنى بن الصباح يضعف في الحديث.(23/232)
وَقَال الدَّرْدِيرُ: إِنَّمَا وَجَبَتْ فِي مَالِهِمَا لأَِنَّهَا مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ.
وَيَتَوَلَّى الْوَلِيُّ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِهِمَا؛ لأَِنَّ الْوَلِيَّ يَقُومُ مَقَامَهُمَا فِي أَدَاءِ مَا عَلَيْهِمَا مِنَ الْحُقُوقِ، كَنَفَقَةِ الْقَرِيبِ، وَعَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا زَكَاةٌ، فَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهَا الْوَلِيُّ وَجَبَ عَلَى الصَّبِيِّ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَالْمَجْنُونِ بَعْدَ الإِْفَاقَةِ، إِخْرَاجُ زَكَاةِ مَا مَضَى.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: تَجِبُ الزَّكَاةُ، وَلاَ تُخْرَجُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ، أَوْ يُفِيقَ الْمَجْنُونُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيَّ لَيْسَ لَهُ وِلاَيَةُ الأَْدَاءِ، قَال ابْنُ مَسْعُودٍ: احْصِ مَا يَجِبُ فِي مَال الْيَتِيمِ مِنَ الزَّكَاةِ، فَإِذَا بَلَغَ فَأَعْلِمْهُ، فَإِنْ شَاءَ زَكَّى وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُزَكِّ، أَيْ لاَ إِثْمَ عَلَى الْوَلِيِّ بَعْدَئِذٍ إِنْ لَمْ يُزَكِّ الصَّبِيُّ. وَذَهَبَ ابْنُ شُبْرُمَةَ إِلَى أَنَّ أَمْوَالَهُ الظَّاهِرَةَ مِنْ نَعَمٍ وَزَرْعٍ وَثَمَرٍ يُزَكَّى، وَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَلاَ.
وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لاَ يُزَكِّي حَتَّى يُصَلِّيَ وَيَصُومَ، وَقَال أَبُو وَائِلٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لاَ زَكَاةَ فِي مَال الصَّبِيِّ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَجِبُ فِي مَال الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي زُرُوعِهِمَا وَثِمَارِهِمَا، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ عَنْهُمَا.
وَاسْتُدِل لِهَذَا الْقَوْل بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى(23/232)
عَقْلِهِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ (1) .
وَلأَِنَّهَا عِبَادَةٌ، فَلاَ تَتَأَدَّى إِلاَّ بِالاِخْتِيَارِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الاِبْتِلاَءِ، وَلاَ اخْتِيَارَ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِعَدَمِ الْعَقْل، وَقِيَاسًا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى الذِّمِّيِّ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْعُشْرُ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْ أَرْضِهِمَا لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى مُؤْنَةِ الأَْرْضِ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ تَابِعٌ (2) . وَمِمَّا يَتَّصِل بِهَذَا زَكَاةُ مَال الْجَنِينِ مِنْ إِرْثٍ أَوْ غَيْرِهِ، ذَكَرَ فِيهِ النَّوَوِيُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ طَرِيقَيْنِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا لاَ تَجِبُ، قَال: وَبِذَلِكَ قَطَعَ الْجُمْهُورُ؛ لأَِنَّ الْجَنِينَ لاَ يُتَيَقَّنُ حَيَاتُهُ وَلاَ يَوْثُقُ بِهَا، فَلاَ يَحْصُل تَمَامُ الْمِلْكِ وَاسْتِقْرَارُهُ، قَال: فَعَلَى هَذَا يَبْتَدِئُ حَوْل مَالِهِ مِنْ حِينِ يَنْفَصِل. (3)
ب - الزَّكَاةُ فِي مَال الْكَافِرِ:
12 - لاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَال الْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ
__________
(1) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله. . . " أخرجه أبو داود (4 / 559 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 59 - ط دائر المعارف العثمانية) من حديث علي بن أبي طالب، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(2) المغني 2 / 622، وفتح القدير والعناية على الهداية 1 / 483 وما بعدها، وبدائع الصنائع 2 / 4، 5 القاهرة، شركة المطبوعات العلمية، 1327 هـ، والدسوقي 1 / 455، والمجموع 5 / 329 - 331.
(3) المجموع 5 / 330.(23/233)
اتِّفَاقًا، حَرْبِيًّا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ لَمْ يَلْتَزِمْهُ؛ وَلأَِنَّهَا وَجَبَتْ طُهْرَةً لِلْمُزَكِّي، وَالْكَافِرُ لاَ طُهْرَةَ لَهُ مَا دَامَ عَلَى كُفْرِهِ.
وَأَخَذَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الزَّكَاةَ مُضَاعَفَةً مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ عِنْدَمَا رَفَضُوا دَفْعَ الْجِزْيَةِ وَرَضُوا بِدَفْعِ الزَّكَاةِ (1) .
وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ يُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ؛ لأَِنَّهُ فِي حَقِيقَتِهِ جِزْيَةٌ، وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الزَّكَاةِ وَهُوَ قَوْل أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْمُرْتَدُّ، فَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ فِي إِسْلاَمِهِ، وَذَلِكَ إِذَا ارْتَدَّ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْل عَلَى النِّصَابِ لاَ يَسْقُطُ فِي قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ حَقُّ مَالٍ فَلاَ يَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ كَالدَّيْنِ، فَيَأْخُذُهُ الإِْمَامُ مِنْ مَالِهِ كَمَا يَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنَ الْمُسْلِمِ الْمُمْتَنِعِ، فَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَدَاؤُهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ تَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ الزَّكَاةُ الَّتِي وَجَبَتْ فِي مَال الْمُرْتَدِّ قَبْل الرِّدَّةِ، لأَِنَّ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةَ عِنْدَ الأَْدَاءِ، وَنِيَّتُهُ الْعِبَادَةَ وَهُوَ كَافِرٌ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، فَتَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ كَالصَّلاَةِ، حَتَّى مَا كَانَ مِنْهَا زَكَاةَ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ. (2)
__________
(1) وبناء على هذا قال الشافعية: لو قال قوم من الكفار: نؤدي الجزية باسم زكاة لا جزية، فللإمام إجابتهم إلى ذلك ويضعف عليهم الزكاة (شرح المنهاج 4 / 333) .
(2) فتح القدير 2 / 13، والمغني 8 / 514.(23/233)
وَأَمَّا إِذَا ارْتَدَّ قَبْل تَمَامِ الْحَوْل عَلَى النِّصَابِ فَلاَ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مِلْكَهُ لِمَالِهِ مَوْقُوفٌ فَإِنْ عَادَ إِلَى الإِْسْلاَمِ تَبَيَّنَ بَقَاءُ مِلْكِهِ وَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ. (1)
ج - مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِفَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ:
13 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الزَّكَاةِ مَفْرُوضَةً لَيْسَ شَرْطًا لِوُجُوبِهَا، فَتَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الْحَرْبِيِّ إِذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَهُ سَوَائِمُ وَمَكَثَ هُنَاكَ سِنِينَ وَلاَ عِلْمَ لَهُ بِالشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ، وَيُخَاطَبُ بِأَدَائِهَا إِذَا خَرَجَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ إِلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ الزَّكَاةِ فَرِيضَةً شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الْحَرْبِيِّ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ. (2)
د - مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الأَْدَاءِ:
14 - ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنَ
__________
(1) المجموع 5 / 328، والمغني 3 / 50، وبدائع الصنائع 2 / 4، 65.
(2) بدائع الصنائع 2 / 4، والمجموع 5 / 337، والمغني 2 / 688.(23/234)
الأَْدَاءِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَلَوْ حَال الْحَوْل ثُمَّ تَلِفَ الْمَال قَبْل أَنْ يَتَمَكَّنَ صَاحِبُهُ مِنَ الأَْدَاءِ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ، حَتَّى لَقَدْ قَال مَالِكٌ: إِنَّ الْمَالِكَ لَوْ أَتْلَفَ الْمَال بَعْدَ الْحَوْل قَبْل إِمْكَانِ الأَْدَاءِ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الْفِرَارَ مِنَ الزَّكَاةِ.
وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْقَوْل بِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ فَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا إِمْكَانُ أَدَائِهَا كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنَ الأَْدَاءِ لَيْسَ شَرْطًا لِوُجُوبِهَا، لِمَفْهُومِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل (1) . فَمَفْهُومُهُ وُجُوبُهَا عَلَيْهِ إِذَا حَال الْحَوْل، وَلأَِنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ، فَيَثْبُتُ وُجُوبُهَا فِي الذِّمَّةِ مَعَ عَدَمِ إِمْكَانِ الأَْدَاءِ، كَثُبُوتِ الدُّيُونِ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ. (2)
الزَّكَاةُ فِي الْمَال الْعَامِّ (أَمْوَال بَيْتِ الْمَال) :
14 م - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَال الْفَيْءِ، وَخُمُسَ الْغَنِيمَةِ، وَكُل مَا هُوَ تَحْتَ يَدِ الإِْمَامِ مِمَّا يَرْجِعُ
__________
(1) حديث: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " أخرجه أبو داود (2 / 230 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث علي بن أبي طالب بلفظ: " ليس في مال زكاة. . . "، وأورده ابن حجر في التلخيص (2 / 156 - ط شركة الطباعة) بلفظ الموسوعة، وقال عن إسناده: لا بأس به.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 503، والمغني 2 / 681، 682، وشرح المنهاج مع حاشية عميرة 2 / 42، ومغني المحتاج 1 / 413.(23/234)
إِلَى الصَّرْفِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لاَ زَكَاةَ فِيهِ. (1)
وَلَمْ نَجِدْ لَدَى غَيْرِهِمْ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مُرَاعَاتِهَا فِي التَّطْبِيقِ، إِذْ لَمْ يُعْهَدْ عِلْمًا وَلاَ عَمَلاً أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنَ الأَْمْوَال الْعَامَّةِ.
الزَّكَاةُ فِي الأَْمْوَال الْمُشْتَرَكَةِ وَالأَْمْوَال الْمُخْتَلِفَةِ وَالأَْمْوَال الْمُتَفَرِّقَةِ:
15 - الَّذِي يُكَلَّفُ بِالزَّكَاةِ هُوَ الشَّخْصُ الْمُسْلِمُ بِالنِّسْبَةِ لِمَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مَا يَمْلِكُهُ نِصَابًا وَحَال عَلَيْهِ الْحَوْل وَتَمَّتِ الشُّرُوطُ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، فَإِنْ كَانَ الْمَال شَرِكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَكَانَ الْمَال نِصَابًا فَأَكْثَرَ فَلاَ زَكَاةَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَتَّى يَكُونَ نَصِيبُهُ نِصَابًا، وَلاَ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَيْءٌ، وَيُسْتَثْنَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ - وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ - السَّائِمَةُ الْمُشْتَرَكَةُ فَإِنَّهَا تُعَامَل مُعَامَلَةَ مَال رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ وَفِي النِّصَابِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَذَا السَّائِمَةُ الْمُخْتَلِطَةُ - أَيِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ حَقُّ كُلٍّ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ فِيهَا لَكِنَّهَا تَشْتَرِكُ فِي الْمَرْعَى وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَرَافِقِ - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْظْهَرِ إِلَى أَنَّ الْمَال الْمُشْتَرَكَ وَالْمَال الْمُخْتَلِطَ يُعَامَل مُعَامَلَةَ مَال رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي النِّصَابِ وَالْقَدْرِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رَجَّحَ
__________
(1) مطالب أولي النهى 2 / 16، وشرح المنتهى 1 / 368.(23/235)
الْعَمَل بِهَا بَعْضُهُمْ كَابْنِ عَقِيلٍ وَالآْجُرِّيِّ. (1) وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ وَلاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ (2) . وَلِمَعْرِفَةِ تَفْصِيل الْقَوْل فِي ذَلِكَ وَالْخِلاَفِ فِيهِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (خُلْطَة) .
هَذَا إِذَا كَانَ الْمَال فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، أَمَّا إِنْ كَانَ مَال الرَّجُل مُفَرَّقًا بَيْن بَلَدَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْمَوَاشِي فَلاَ أَثَرَ لِتَفَرُّقِهِ، بَل يُزَكَّى زَكَاةَ مَالٍ وَاحِدٍ.
وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَوَاشِي وَكَانَ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ مَسَافَةُ قَصْرٍ فَأَكْثَرُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ رَجَّحَهَا صَاحِبُ الْمُغْنِي. وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ كُل مَالٍ مِنْهَا يُزَكَّى مُنْفَرِدًا عَمَّا سِوَاهُ، فَإِنْ كَانَ كِلاَ الْمَالَيْنِ نِصَابًا زَكَّاهُمَا كَنِصَابَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا نِصَابًا وَالآْخَرُ أَقَل مِنْ نِصَابٍ زَكَّى مَا تَمَّ نِصَابًا دُونَ الآْخَرِ. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: لاَ أَعْلَمُ هَذَا الْقَوْل عَنْ غَيْرِ أَحْمَدَ. وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا بِأَنَّهُ لَمَّا أَثَّرَ اجْتِمَاعُ مَال الْجَمَاعَةِ حَال الْخُلْطَةِ فِي مَرَافِقِ الْمِلْكِ وَمَقَاصِدِهِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ حَتَّى جَعَلَهُ كَمَالٍ وَاحِدٍ وَجَبَ تَأْثِيرُ الاِفْتِرَاقِ الْفَاحِشِ فِي الْمَال
__________
(1) فتح القدير 1 / 496، والدسوقي 1 / 439، ونهاية المحتاج 3 / 61، والمغني 2 / 619.
(2) حديث: " لا يفرق بين مجتمع ولا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 314 - ط السلفية) من حديث أنس.(23/235)
الْوَاحِدِ حَتَّى يَجْعَلَهُ كَمَالَيْنِ. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلأَِنَّ كُل مَالٍ تُخْرَجُ زَكَاتُهُ بِبَلَدِهِ. (1)
شُرُوطُ الْمَال الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ:
16 - يُشْتَرَطُ فِي الْمَال الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ شُرُوطٌ:
1 - كَوْنُهُ مَمْلُوكًا لِمُعَيَّنٍ.
2 - وَكَوْنُ مَمْلُوكِيَّتِهِ مُطْلَقَةً (أَيْ كَوْنُهُ مَمْلُوكًا رَقَبَةً وَيَدًا) .
3 - وَكَوْنُهُ نَامِيًا.
4 - وَأَنْ يَكُونَ زَائِدًا عَلَى الْحَاجَاتِ الأَْصْلِيَّةِ.
5 - حَوَلاَنُ الْحَوْل.
6 - وَبُلُوغُهُ نِصَابًا، وَالنِّصَابُ فِي كُل نَوْعٍ مِنَ الْمَال بِحَسَبِهِ.
7 - وَأَنْ يَسْلَمَ مِنْ وُجُودِ الْمَانِعِ، وَالْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَالِكِ دَيْنٌ يُنْقِصُ النِّصَابَ.
17 - الشَّرْطُ الأَْوَّل: كَوْنُ الْمَال مَمْلُوكًا لِمُعَيَّنٍ:
فَلاَ زَكَاةَ فِيمَا لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَجِبُ فِي سَوَائِمِ الْوَقْفِ، وَالْخَيْل الْمُسَبَّلَةِ؛ لأَِنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ.
قَالُوا: لأَِنَّ فِي الزَّكَاةِ تَمْلِيكًا، وَالتَّمْلِيكُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لاَ يُتَصَوَّرُ، قَالُوا: وَلاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْعَدُوُّ، وَأَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ؛
__________
(1) شرح المنتهى 1 / 385، والمغني 2 / 617.(23/236)
لأَِنَّهُمْ مَلَكُوهُ بِالإِْحْرَازِ، فَزَال مِلْكُ الْمُسْلِمِ عَنْهُ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ زَكَاةَ فِي الْمُوصَى بِهِ لِغَيْرِ مُعَيَّنِينَ. وَتَجِبُ فِي الْمَوْقُوفِ وَلَوْ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَمَسَاجِدَ، أَوْ بَنِي تَمِيمٍ؛ لأَِنَّ الْوَقْفَ عِنْدَهُمْ لاَ يُخْرِجُهُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ، فَلَوْ وَقَفَ نُقُودًا لِلسَّلَفِ يُزَكِّيهَا الْوَاقِفُ أَوِ الْمُتَوَلِّي عَلَيْهَا مِنْهَا كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهَا حَوْلٌ مِنْ يَوْمِ مِلْكِهَا، أَوْ زَكَّاهَا إِنْ كَانَتْ نِصَابًا، وَهَذَا إِنْ لَمْ يَتَسَلَّفْهَا أَحَدٌ، فَإِنْ تَسَلَّفَهَا أَحَدٌ زُكِّيَتْ بَعْدَ قَبْضِهَا مِنْهُ لِعَامٍ وَاحِدٍ. (2)
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَالْفُقَرَاءِ، أَوْ كَانَ عَلَى مَسْجِدٍ، أَوْ مَدْرَسَةٍ، أَوْ رِبَاطٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ لَهُ مَالِكٌ لاَ زَكَاةَ فِيهِ. وَكَذَا النَّقْدُ الْمُوصَى بِهِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، أَوْ لِيُشْتَرَى بِهِ وَقْفٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، بِخِلاَفِ الْمَوْقُوفِ عَلَى مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيل عِنْدَهُمْ: لاَ تَجِبُ؛ لأَِنَّ مِلْكَهُ يَنْتَقِل إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لاَ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ. (3)
18 - الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِلْكِيَّةُ الْمَال مُطْلَقَةً:
وَهَذِهِ عِبَارَةُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَبَّرَ غَيْرُهُمْ بِالْمِلْكِ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 9.
(2) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي 1 / 459، 485.
(3) مطالب أولي النهى 2 / 16، والمجموع 5 / 339.(23/236)
التَّامِّ: وَهُوَ مَا كَانَ فِي يَدِ مَالِكِهِ يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ.
وَالْمِلْكُ النَّاقِصُ يَكُونُ فِي أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَال مُعَيَّنَةٍ، مِنْهَا:
1 - مَال الضِّمَارِ: وَهُوَ كُل مَالٍ مَالِكُهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الاِنْتِفَاعِ بِهِ لِكَوْنِ يَدِهِ لَيْسَتْ عَلَيْهِ، فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَصَاحِبَيْهِ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ، كَالْبَعِيرِ الضَّال، وَالْمَال الْمَفْقُودِ، وَالْمَال السَّاقِطِ فِي الْبَحْرِ، وَالْمَال الَّذِي أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مُصَادَرَةً، وَالدَّيْنِ الْمَجْحُودِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِكِ بَيِّنَةٌ، وَالْمَال الْمَغْصُوبِ الَّذِي لاَ يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى أَخْذِهِ، وَالْمَسْرُوقِ الَّذِي لاَ يَدْرِي مَنْ سَرَقَهُ، وَالْمَال الْمَدْفُونِ فِي الصَّحْرَاءِ إِذَا خَفِيَ عَلَى الْمَالِكِ مَكَانُهُ، فَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا فِي الْبَيْتِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَيْ لأَِنَّهُ فِي مَكَانٍ مَحْدُودٍ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: لَيْسَ فِي مَال الضِّمَارِ زَكَاةٌ
وَلأَِنَّ الْمَال إِذَا لَمْ يَكُنْ الاِنْتِفَاعُ بِهِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ مَقْدُورًا لاَ يَكُونُ الْمَالِكُ بِهِ غَنِيًّا. قَالُوا:
وَهَذَا بِخِلاَفِ ابْنِ السَّبِيل (أَيِ الْمُسَافِرِ عَنْ وَطَنِهِ) فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَالِهِ؛ لأَِنَّ مَالِكَهُ يَقْدِرُ عَلَى الاِنْتِفَاعِ بِهِ، وَكَذَا الدَّيْنُ الْمُقَرُّ بِهِ إِذَا كَانَ عَلَى مَلِيءٍ (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 9، والمغني 3 / 48.(23/237)
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْمَال الضَّائِعَ وَنَحْوَهُ كَالْمَدْفُونِ فِي صَحْرَاءَ إِذَا ضَل صَاحِبُهُ عَنْهُ أَوْ كَانَ بِمَحَلٍّ لاَ يُحَاطُ بِهِ، فَإِنَّهُ يُزَكَّى لِعَامٍ وَاحِدٍ إِذَا وَجَدَهُ صَاحِبُهُ وَلَوْ بَقِيَ غَائِبًا عَنْهُ سِنِينَ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْمَال الضَّائِعِ وَلَكِنْ لاَ يَجِبُ دَفْعُهَا حَتَّى يَعُودَ الْمَال. فَإِنْ عَادَ يُخْرِجُهَا صَاحِبُهُ عَنِ السَّنَوَاتِ الْمَاضِيَةِ كُلِّهَا؛ لأَِنَّ السَّبَبَ الْمِلْكُ، وَهُوَ ثَابِتٌ. قَالُوا: لَكِنْ لَوْ تَلِفَ الْمَال، أَوْ ذَهَبَ وَلَمْ يَعُدْ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ. وَكَذَا عِنْدَهُمُ الْمَال الَّذِي لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ لاِنْقِطَاعِ خَبَرِهِ، أَوِ انْقِطَاعِ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ (2) .
وَالْمَال الْمَوْرُوثُ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيهِ إِلاَّ بَعْدَ قَبْضِهِ، يَسْتَقْبِل بِهِ الْوَارِثُ حَوْلاً، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَقَامَ سِنِينَ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ الْوَارِثُ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. (3)
الزَّكَاةُ فِي مَال الأَْسِيرِ، وَالْمَسْجُونِ وَنَحْوِهِ:
19 - مَنْ كَانَ مَأْسُورًا أَوْ مَسْجُونًا قَدْ حِيل بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ وَالاِنْتِفَاعِ بِهِ، ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ فِي مَالِهِ بِبَيْعٍ وَهِبَةٍ وَنَحْوِهِمَا نَفَذَ، وَكَذَا
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 457، 458.
(2) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 39، 40، والمغني 3 / 48.
(3) الدسوقي 1 / 458.(23/237)
لَوْ وَكَّل فِي مَالِهِ نَفَذَتِ الْوَكَالَةُ. (1)
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ كَوْنَ الرَّجُل مَفْقُودًا أَوْ أَسِيرًا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ فِي حَقِّهِ مِنْ أَمْوَالِهِ الْبَاطِنَةِ، لأَِنَّهُ بِذَلِكَ يَكُونُ مَغْلُوبًا عَلَى عَدَمِ التَّنْمِيَةِ فَيَكُونُ مَالُهُ حِينَئِذٍ كَالْمَال الضَّائِعِ، وَلِذَا يُزَكِّيهَا إِذَا أُطْلِقَ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ كَالأَْمْوَال الضَّائِعَةِ. وَفِي قَوْل الأُْجْهُورِيِّ وَالزَّرْقَانِيِّ: لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا أَصْلاً. وَفِي قَوْل الْبُنَانِيِّ: لاَ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنِ الأَْسِيرِ وَالْمَفْقُودِ، بَل تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَيْهِمَا كُل عَامٍ، لَكِنْ لاَ يَجِبُ الإِْخْرَاجُ مِنْ مَالِهِمَا بَل يَتَوَقَّفُ مَخَافَةَ حُدُوثِ الْمَوْتِ. (2)
أَمَّا الْمَال الظَّاهِرُ فَقَدِ اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْفَقْدَ وَالأَْسْرَ لاَ يُسْقِطَانِ زَكَاتَهُ؛ لأَِنَّهُمَا مَحْمُولاَنِ عَلَى الْحَيَاةِ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِهِمَا الظَّاهِرِ وَتُجْزِئُ، وَلاَ يَضُرُّ عَدَمُ النِّيَّةِ؛ لأَِنَّ نِيَّةَ الْمُخْرِجِ تَقُومُ مَقَامَ نِيَّتِهِ. (3)
وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ مَنْ ذُكِرَ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
زَكَاةُ الدَّيْنِ:
20 - الدَّيْنُ مَمْلُوكٌ لِلدَّائِنِ، وَلَكِنَّهُ لِكَوْنِهِ لَيْسَ تَحْتَ يَدِ صَاحِبِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ: فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ، وَعِكْرِمَةُ مَوْلَى
__________
(1) المغني 3 / 50.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 481.
(3) المصدر نفسه 1 / 480.(23/238)
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، إِلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي الدَّيْنِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ غَيْرُ نَامٍ، فَلَمْ تَجِبْ زَكَاتُهُ، كَعُرُوضِ الْقَنِيَّةِ (وَهِيَ الْعُرُوض الَّتِي تُقْتَنَى لأَِجْل الاِنْتِفَاعِ الشَّخْصِيِّ) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ الْحَال قِسْمَانِ: دَيْنٌ حَالٌّ مَرْجُوُّ الأَْدَاءِ، وَدَيْنٌ حَالٌّ غَيْرُ مَرْجُوِّ الأَْدَاءِ.
21 - فَالدَّيْنُ الْحَال الْمَرْجُوُّ الأَْدَاءِ: هُوَ مَا كَانَ عَلَى مُقِرٍّ بِهِ بَاذِلٍ لَهُ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ: فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيِّ: أَنَّ زَكَاتَهُ تَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ كُل عَامٍ لأَِنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ لَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنْهُ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ، فَإِذَا قَبَضَهُ زَكَّاهُ لِكُل مَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْل: أَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الإِْخْرَاجُ قَبْل قَبْضِهِ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الْحَال، وَلَيْسَ مِنَ الْمُوَاسَاةِ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ مَالٍ لاَ يَنْتَفِعُ بِهِ. عَلَى أَنَّ الْوَدِيعَةَ الَّتِي يَقْدِرُ صَاحِبُهَا أَنْ يَأْخُذَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، بَل يَجِبُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهَا عِنْدَ الْحَوْل. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الأَْظْهَرِ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ يَجِبُ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الدَّيْنِ الْمَرْجُوِّ الأَْدَاءِ فِي نِهَايَةِ كُل حَوْلٍ، كَالْمَال الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ، لأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَخْذِهِ(23/238)
وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ. (1)
وَجَعَل الْمَالِكِيَّةُ الدَّيْنَ أَنْوَاعًا: فَبَعْضُ الدُّيُونِ يُزَكَّى كُل عَامٍ وَهِيَ دَيْنُ التَّاجِرِ الْمُدِيرِ عَنْ ثَمَنِ بِضَاعَةٍ تِجَارِيَّةٍ بَاعَهَا، وَبَعْضُهَا يُزَكَّى لِحَوْلٍ مِنْ أَصْلِهِ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ قَبْضِهِ وَلَوْ أَقَامَ عِنْدَ الْمَدِينِ سِنِينَ، وَهُوَ مَا أَقْرَضَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ نَقْدٍ، وَكَذَا ثَمَنُ بِضَاعَةٍ بَاعَهَا مُحْتَكِرٌ، وَبَعْضُ الدُّيُونِ لاَ زَكَاةَ فِيهِ، وَهُوَ مَا لَمْ يُقْبَضْ مِنْ نَحْوِ هِبَةٍ أَوْ مَهْرٍ أَوْ عِوَضِ جِنَايَةٍ. (2)
22 - وَأَمَّا الدَّيْنُ غَيْرُ الْمَرْجُوِّ الأَْدَاءِ، فَهُوَ مَا كَانَ عَلَى مُعْسِرٍ أَوْ جَاحِدٍ أَوْ مُمَاطِلٍ، وَفِيهِ مَذَاهِبُ: فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ قَوْل قَتَادَةَ وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلٌ مُقَابِلٌ لِلأَْظْهَرِ لِلشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيهِ لِعَدَمِ تَمَامِ الْمِلْكِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى الاِنْتِفَاعِ بِهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ هُوَ الأَْظْهَرُ: أَنَّهُ يُزَكِّيهِ إِذَا قَبَضَهُ لِمَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدَّيْنِ الْمَظْنُونِ " إِنْ كَانَ صَادِقًا فَلْيُزَكِّهِ إِذَا قَبَضَهُ لِمَا مَضَى.
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِمَّا فِيهِ الزَّكَاةُ يُزَكِّيهِ إِذَا قَبَضَهُ لِعَامٍ وَاحِدٍ وَإِنْ أَقَامَ عِنْدَ الْمَدِينِ
__________
(1) المغني 3 / 46، وشرح المنهاج 2 / 40.
(2) الدسوقي 1 / 466، والزرقاني 2 / 151، بيروت، دار الفكر، عن طبعة القاهرة.(23/239)
أَعْوَامًا. وَهُوَ قَوْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ وَاللَّيْثِ، وَالأَْوْزَاعِيِّ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَا كَانَ مِنَ الدَّيْنِ مَاشِيَةً فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ؛ لأَِنَّ شَرْطَ الزَّكَاةِ فِي الْمَاشِيَةِ عِنْدَهُمُ السَّوْمُ، وَمَا فِي الذِّمَّةِ لاَ يَتَّصِفُ بِالسَّوْمِ. (1)
الدَّيْنُ الْمُؤَجَّل:
23 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْظْهَرُ مِنْ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّل بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ عَلَى الْمُعْسِرِ؛ لأَِنَّ صَاحِبَهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ قَبْضِهِ فِي الْحَال فَيَجِبُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ إِذَا قَبَضَهُ عَنْ جَمِيعِ السَّنَوَاتِ السَّابِقَةِ.
وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَجِبُ دَفْعُ زَكَاتِهِ عِنْدَ الْحَوْل وَلَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ. (2)
وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ تَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤَجَّل وَالْحَال.
أَقْسَامُ الدَّيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
24 - ذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّ الدُّيُونَ كُلَّهَا نَوْعٌ وَاحِدٌ، فَكُلَّمَا قَبَضَ شَيْئًا مِنْهَا زَكَّاهُ إِنْ كَانَ الدَّيْنُ نِصَابًا أَوْ بَلَغَ بِضَمِّهِ إِلَى مَا عِنْدَهُ نِصَابًا.
__________
(1) المغني 3 / 46، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 20 / 40، والدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 6.
(2) المغني 3 / 47، وشرح المنهاج 2 / 40.(23/239)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
الأَْوَّل: الدَّيْنُ الْقَوِيُّ: وَهُوَ مَا كَانَ بَدَل مَالٍ زَكَوِيٍّ، كَقَرْضِ نَقْدٍ، أَوْ ثَمَنِ مَال سَائِمَةٍ، أَوْ عَرَضِ تِجَارَةٍ. فَهَذَا كُلَّمَا قَبَضَ شَيْئًا مِنْهُ زَكَّاهُ وَلَوْ قَلِيلاً (مَعَ مُلاَحَظَةِ مَذْهَبِهِ فِي الْوَقْصِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَلاَ زَكَاةَ فِي الْمَقْبُوضِ مِنْ دَيْنِ دَرَاهِمَ مَثَلاً إِلاَّ إِذَا بَلَغَتْ 40 دِرْهَمًا وَيَكُونُ فِيهَا دِرْهَمٌ) وَحَوْلُهُ حَوْل أَصْلِهِ؛ لأَِنَّ أَصْلَهُ زَكَوِيٌّ فَيُبْنَى عَلَى حَوْل أَصْلِهِ رِوَايَةً وَاحِدَةً.
الثَّانِي: الدَّيْنُ الضَّعِيفُ: وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَمَنَ مَبِيعٍ وَلاَ بَدَلاً لِقَرْضِ نَقْدٍ، وَمِثَالُهُ الْمَهْرُ وَالدِّيَةُ وَبَدَل الْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ، فَهَذَا مَتَى قَبَضَ مِنْهُ شَيْئًا وَكَانَ عِنْدَهُ نِصَابٌ غَيْرُهُ قَدِ انْعَقَدَ حَوْلُهُ يُزَكِّيهِ مَعَهُ كَالْمَال الْمُسْتَفَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِهِ نِصَابٌ فَإِنَّهُ لاَ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إِلاَّ إِذَا قَبَضَ مِنْهُ نِصَابًا وَحَال عَلَيْهِ الْحَوْل عِنْدَهُ مُنْذُ قَبْضِهِ؛ لأَِنَّهُ بِقَبْضِهِ أَصْبَحَ مَالاً زَكَوِيًّا.
الثَّالِثُ: الدَّيْنُ الْمُتَوَسِّطُ: وَهُوَ مَا كَانَ ثَمَنَ عَرَضِ قُنْيَةٍ مِمَّا لاَ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، كَثَمَنِ دَارِهِ أَوْ مَتَاعِهِ الْمُسْتَغْرَقِ بِالْحَاجَةِ الأَْصْلِيَّةِ.
فَفِي رِوَايَةٍ، يُعْتَبَرُ مَالاً زَكَوِيًّا مِنْ حِينِ بَاعَ مَا بَاعَهُ فَتَثْبُتُ فِيهِ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى مِنَ الْوَقْتِ، وَلاَ يَجِبُ الأَْدَاءُ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَتِمَّ مَا يَقْبِضُهُ مِنْهُ نِصَابًا، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: لاَ يَبْتَدِئُ حَوْلُهُ إِلاَّ(23/240)
مِنْ حِينِ يَقْبِضُ مِنْهُ نِصَابًا، لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ أَصْبَحَ زَكَوِيًّا، فَصَارَ كَالْحَادِثِ ابْتِدَاءً. (1)
الأُْجُورُ الْمَقْبُوضَةُ سَلَفًا:
25 - مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَنَقَلَهُ الْكَاسَانِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْل الْبُخَارِيِّ الْحَنَفِيِّ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الأُْجْرَةَ الْمُعَجَّلَةَ لِسِنِينَ إِذَا حَال عَلَيْهَا الْحَوْل تَجِبُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ زَكَاتُهَا كُلِّهَا، لأَِنَّهُ يَمْلِكُهَا مِلْكًا تَامًّا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ. بِدَلِيل جَوَازِ تَصَرُّفِهِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ رُبَّمَا يَلْحَقُهُ دَيْنٌ بَعْدَ الْحَوْل بِالْفَسْخِ الطَّارِئِ. (2)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ زَكَاةَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ فِيمَا قَبَضَهُ مُقَدَّمًا إِلاَّ بِتَمَامِ مِلْكِهِ، فَلَوْ آجَرَ نَفْسَهُ ثَلاَثَ سِنِينَ بِسِتِّينَ دِينَارًا، كُل سَنَةٍ بِعِشْرِينَ، وَقَبَضَ السِّتِّينَ مُعَجَّلَةً وَلاَ شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا، فَإِذَا مَرَّ عَلَى ذَلِكَ حَوْلٌ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْعِشْرِينَ الَّتِي هِيَ أُجْرَةُ السَّنَةِ الأُْولَى لَمْ يَتَحَقَّقْ مِلْكُهُ لَهَا إِلاَّ بِانْقِضَائِهَا؛ لأَِنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُ بِمَثَابَةِ الْوَدِيعَةِ، فَلَمْ يَمْلِكْهَا حَوْلاً كَامِلاً، فَإِذَا مَرَّ الْحَوْل الثَّانِي زَكَّى عِشْرِينَ، وَإِذَا مَرَّ الثَّالِثُ زَكَّى أَرْبَعِينَ إِلاَّ مَا أَنْقَصَتْهُ الزَّكَاةُ، فَإِذَا مَرَّ الرَّابِعُ زَكَّى الْجَمِيعَ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الأَْظْهَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ: لاَ تَجِبُ إِلاَّ زَكَاةُ مَا اسْتَقَرَّ؛ لأَِنَّ مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مُعَرَّضٌ لِلسُّقُوطِ، فَتَجِبُ زَكَاةُ الْعِشْرِينَ الأُْولَى
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 35، 36.
(2) البدائع 2 / 6، والمغني 3 / 47.(23/240)
بِتَمَامِ الْحَوْل الأَْوَّل، لأَِنَّ الْغَيْبَ كَشَفَ أَنَّهُ مَلَكَهَا مِنْ أَوَّل الْحَوْل. وَإِذَا تَمَّ الْحَوْل الثَّانِي فَعَلَيْهِ زَكَاةُ عِشْرِينَ لِسَنَةٍ وَهِيَ الَّتِي زَكَّاهَا فِي آخِرِ السَّنَةِ الأُْولَى، وَزَكَاةُ عِشْرِينَ لِسَنَتَيْنِ، وَهِيَ الَّتِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا مِلْكُهُ الآْنَ، وَهَكَذَا. (1)
وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
زَكَاةُ الثَّمَنِ الْمَقْبُوضِ عَنْ بَضَائِعَ لَمْ يَجْرِ تَسْلِيمُهَا:
26 - إِذَا اشْتَرَى مَالاً بِنِصَابِ دَرَاهِمَ، أَوْ أَسْلَمَ نِصَابًا فِي شَيْءٍ فَحَال الْحَوْل قَبْل أَنْ يَقْبِضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ، أَوْ يَقْبِضَ الْمُسَلَّمَ فِيهِ، وَالْعَقْدُ بَاقٍ لَمْ يَجْرِ فَسْخُهُ، قَال الْحَنَابِلَةُ: زَكَاةُ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ؛ لأَِنَّ مِلْكَهُ ثَابِتٌ فِيهِ. ثُمَّ لَوْ فُسِخَ الْعَقْدُ لِتَلَفِ الْمَبِيعُ، أَوْ تَعَذَّرَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ، وَجَبَ رَدُّ الثَّمَنِ كَامِلاً.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِمَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ الْبِضَاعَةَ الْمُشْتَرَاةَ إِذَا حَال عَلَيْهَا الْحَوْل مِنْ حِينِ لُزُومِ الْعَقْدِ تَجِبُ زَكَاتُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهَا. (2)
27 - الشَّرْطُ الثَّالِثُ: النَّمَاءُ:
وَوَجْهُ اشْتِرَاطِهِ عَلَى مَا قَال ابْنُ الْهُمَامِ، أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِيَّةِ الزَّكَاةِ بِالإِْضَافَةِ إِلَى الاِبْتِلاَءِ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي1 / 484، والمنهاج وشرحه وحاشية القليوبي 2 / 41.
(2) المغني 3 / 47، وشرح المنهاج 2 / 39.(23/241)
مُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَصِيرُ بِهِ الْمُزَكِّي فَقِيرًا، بِأَنْ يُعْطِيَ مِنْ فَضْل مَالِهِ قَلِيلاً مِنْ كَثِيرٍ، وَالإِْيجَابُ فِي الْمَال الَّذِي لاَ نَمَاءَ لَهُ يُؤَدِّي إِلَى خِلاَفِ ذَلِكَ مَعَ تَكَرُّرِ السِّنِينَ. (1)
قَالُوا: وَالنَّمَاءُ مُتَحَقِّقٌ فِي السَّوَائِمِ بِالدَّرِّ وَالنَّسْل، وَفِي الأَْمْوَال الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ، وَالأَْرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ الْعُشْرِيَّةِ، وَسَائِرِ الأَْمْوَال الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ تَحَقُّقُ النَّمَاءِ بِالْفِعْل بَل تَكْفِي الْقُدْرَةُ عَلَى الاِسْتِنْمَاءِ بِكَوْنِ الْمَال فِي يَدِهِ أَوْ يَدِ نَائِبِهِ.
وَبِهَذَا الشَّرْطِ خَرَجَتِ الثِّيَابُ الَّتِي لاَ تُرَادُ لِتِجَارَةٍ سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُهَا مُحْتَاجًا إِلَيْهَا أَوْ لاَ، وَأَثَاثُ الْمَنْزِل، وَالْحَوَانِيتُ، وَالْعَقَارَاتُ، وَالْكُتُبُ لأَِهْلِهَا أَوْ غَيْرِ أَهْلِهَا، وَخَرَجَتِ الأَْنْعَامُ الَّتِي لَمْ تُعَدَّ لِلدَّرِّ وَالنَّسْل، بَل كَانَتْ مُعَدَّةً لِلْحَرْثِ، أَوِ الرُّكُوبِ، أَوِ اللَّحْمِ. (2)
وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا النَّمَاءُ بِالْفِعْل؛ لأَِنَّهُمَا لِلنَّمَاءِ خِلْقَةٌ، (3) فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِمَا، نَوَى التِّجَارَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ أَصْلاً، أَوْ نَوَى النَّفَقَةَ.
قَالُوا: وَفَقْدُ النَّمَاءِ سَبَبٌ آخَرُ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي أَمْوَال الضِّمَارِ بِأَنْوَاعِهَا الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) فتح القدير 1 / 482.
(2) ابن عابدين 2 / 8، والبدائع 2 / 11.
(3) العناية 1 / 487.(23/241)
لاَ نَمَاءَ إِلاَّ بِالْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ، وَمَال الضِّمَارِ لاَ قُدْرَةَ عَلَيْهِ. (1)
وَهَذَا الشَّرْطُ يُصَرِّحُ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَيُرَاعِيهِ غَيْرُهُمْ فِي تَعْلِيلاَتِهِمْ دُونَ تَصْرِيحٍ بِهِ.
28 - الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الزِّيَادَةُ عَلَى الْحَاجَاتِ الأَْصْلِيَّةِ:
وَهَذَا الشَّرْطُ يَذْكُرُهُ الْحَنَفِيَّةُ. وَبِنَاءً عَلَيْهِ قَالُوا: لاَ زَكَاةَ فِي كُتُبِ الْعِلْمِ الْمُقْتَنَاةِ لأَِهْلِهَا وَغَيْرِ أَهْلِهَا وَلَوْ كَانَتْ تُسَاوِي نُصُبًا، وَكَذَا دَارُ السُّكْنَى وَأَثَاثُ الْمَنْزِل وَدَوَابُّ الرُّكُوبِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
قَالُوا: لأَِنَّ الْمَشْغُول بِالْحَاجَةِ الأَْصْلِيَّةِ كَالْمَعْدُومِ، وَفَسَّرَهُ ابْنُ مَلَكٍ بِمَا يَدْفَعُ عَنْهُ الْهَلاَكَ تَحْقِيقًا كَثِيَابِهِ، أَوْ تَقْدِيرًا كَدِينِهِ.
وَقَدْ جَعَل ابْنُ مَلَكٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يَكُونَ لَدَيْهِ نِصَابُ دَرَاهِمَ أَمْسَكَهَا بِنِيَّةِ صَرْفِهَا إِلَى الْحَاجَةِ الأَْصْلِيَّةِ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا إِذَا حَال عَلَيْهَا الْحَوْل عِنْدَهُ، لَكِنِ اعْتَرَضَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ، بِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي النَّقْدِ كَيْفَمَا أَمْسَكَهُ لِلنَّمَاءِ أَوْ لِلنَّفَقَةِ، وَنَقَلَهُ عَنِ الْمِعْرَاجِ وَالْبَدَائِعِ. (2)
وَلَمْ يَذْكُرْ أَيٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ هَذَا الشَّرْطَ مُسْتَقِلًّا، وَلَعَلَّهُ؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ أَوْجَبَهَا
__________
(1) الهداية 2 / 490، والقوانين الفقهية 107، وكشاف القناع 2 / 167.
(2) الهداية وفتح القدير 1 / 487، والدر المختار ورد المحتار 2 / 6.(23/242)
الشَّرْعُ فِي أَجْنَاسٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْمَال إِذَا حَال الْحَوْل عَلَى نِصَابٍ كَامِلٍ مِنْهَا، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ، وَاسْتِغْنَاءً بِشَرْطِ النَّمَاءِ. وَالنَّتِيجَةُ وَاحِدَةٌ.
29 - الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الْحَوْل:
الْمُرَادُ بِالْحَوْل أَنْ يَتِمَّ عَلَى الْمَال بِيَدِ صَاحِبِهِ سَنَةً كَامِلَةً قَمَرِيَّةً، فَإِنْ لَمْ تَتِمَّ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ مَالٌ آخَرُ بَلَغَ نِصَابًا قَدِ انْعَقَدَ حَوْلُهُ، وَكَانَ الْمَالاَنِ مِمَّا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إِلَى الآْخَرِ، فَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، أَنَّ الثَّانِيَ يُزَكَّى مَعَ الأَْوَّل عِنْدَ تَمَامِ حَوْل الأَْوَّل، (1) كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ تَفْصِيلاً.
وَدَلِيل اعْتِبَارِ الْحَوْل قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل (2) . وَيُسْتَثْنَى مِنِ اشْتِرَاطِ الْحَوْل فِي الأَْمْوَال الزَّكَوِيَّةِ الْخَارِجُ مِنَ الأَْرْضِ مِنَ الْغِلاَل الزِّرَاعِيَّةِ، وَالْمَعَادِنُ، وَالرِّكَازُ، فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ وَلَوْ لَمْ يَحُل الْحَوْل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الزُّرُوعِ {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (3) وَلأَِنَّهَا نَمَاءٌ بِنَفْسِهَا فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الْحَوْل، إِذْ أَنَّهَا تَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى النَّقْصِ، بِخِلاَفِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحَوْل فَهُوَ مُرْصَدٌ لِلنَّمَاءِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ فِي النَّوْعَيْنِ فِي مَوْضِعِهِ.
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 443.
(2) حديث: " ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول ". تقدم تخريجه ف / 14.
(3) سورة الأنعام / 141.(23/242)
وَالْحِكْمَةُ فِي أَنَّ مَا أُرْصِدَ لِلنَّمَاءِ اعْتُبِرَ لَهُ الْحَوْل، لِيَكُونَ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنَ النَّمَاءِ لأَِنَّهُ أَيْسَرُ؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ مُوَاسَاةً، وَلَمْ يُعْتَبَرْ حَقِيقَةُ النَّمَاءِ؛ لأَِنَّهُ لاَ ضَابِطَ لَهُ، وَلاَ بُدَّ مِنْ ضَابِطٍ، فَاعْتُبِرَ الْحَوْل. (1)
الْمَال الْمُسْتَفَادُ أَثْنَاءَ الْحَوْل:
30 - إِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُكَلَّفِ مَالٌ فَاسْتَفَادَ مَالاً زَكَوِيًّا لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ وَلاَ يَنْعَقِدُ حَوْلُهُ، فَإِنْ تَمَّ عِنْدَهُ نِصَابٌ انْعَقَدَ الْحَوْل مِنْ يَوْمَ تَمَّ النِّصَابُ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاتُهُ إِنْ بَقِيَ إِلَى تَمَامِ الْحَوْل.
وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ نِصَابٌ، وَقَبْل أَنْ يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل اسْتَفَادَ مَالاً مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ النِّصَابِ أَوْ مِمَّا يُضَمُّ إِلَيْهِ، فَلَهُ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مِنْ نَمَاءِ الْمَال الأَْوَّل. كَرِبْحِ التِّجَارَةِ، وَنِتَاجِ السَّائِمَةِ، فَهَذَا يُزَكَّى مَعَ الأَْصْل عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْل. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا، لأَِنَّهُ تَبَعٌ لِلنِّصَابِ مِنْ جِنْسِهِ، فَأَشْبَهَ النَّمَاءَ الْمُتَّصِل.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَال الَّذِي عِنْدَهُ، كَأَنْ يَكُونَ مَالُهُ إِبِلاً
__________
(1) المغني 2 / 625، والشرح الكبير للدردير 1 / 456، 457.(23/243)
فَيَسْتَفِيدُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً. فَهَذَا النَّوْعُ لاَ يُزَكَّى عِنْدَ حَوْل الأَْصْل. بَل يَنْعَقِدُ حَوْلُهُ يَوْمَ اسْتِفَادَتِهِ إِنْ كَانَ نِصَابًا، اتِّفَاقًا، مَا عَدَا قَوْلاً شَاذًّا أَنَّهُ يُزَكِّيهِ حِينَ يَسْتَفِيدُهُ.
وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى هَذَا الْقَوْل أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلاَ قَال بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُتْيَا.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَفِيدَ مَالاً مِنْ جِنْسِ نِصَابٍ عِنْدَهُ قَدِ انْعَقَدَ حَوْلُهُ وَلَيْسَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ نَمَاءِ الْمَال الأَْوَّل. كَأَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ عِشْرُونَ مِثْقَالاً ذَهَبًا مَلَكَهَا فِي أَوَّل الْمُحَرَّمِ، ثُمَّ يَسْتَفِيدُ أَلْفَ مِثْقَالٍ فِي أَوَّل ذِي الْحِجَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ يُضَمُّ إِلَى الأَْوَّل فِي النِّصَابِ دُونَ الْحَوْل، فَيُزَكِّي الأَْوَّل عِنْدَ حَوْلِهِ أَيْ فِي أَوَّل الْمُحَرَّمِ فِي الْمِثَال الْمُتَقَدِّمِ، وَيُزَكِّي الثَّانِيَ لِحَوْلِهِ أَيْ فِي أَوَّل ذِي الْحِجَّةِ وَلَوْ كَانَ أَقَل مِنْ نِصَابٍ، لأَِنَّهُ بَلَغَ بِضَمِّهِ إِلَى الأَْوَّل نِصَابًا. وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل (1) . وَبِقَوْلِهِ: مَنِ اسْتَفَادَ مَالاً فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل عِنْدَ رَبِّهِ (2) .
__________
(1) حديث: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ". تقدم تخريجه ف / 14.
(2) حديث: " من استفاد مالاً فلا زكاة عليه حتى. . . " أخرجه الترمذي (3 / 17 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر، وضعف أحد رواته، ثم رواه موقوفًا على ابن عمر. وذكر أن الموقوف أصح من المرفوع.(23/243)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَضُمُّ كُل مَا يَأْتِي فِي الْحَوْل إِلَى النِّصَابِ الَّذِي عِنْدَهُ فَيُزَكِّيهِمَا جَمِيعًا عِنْدَ تَمَامِ حَوْل الأَْوَّل، قَالُوا: لأَِنَّهُ يُضَمُّ إِلَى جِنْسِهِ فِي النِّصَابِ فَوَجَبَ ضَمُّهُ إِلَيْهِ فِي الْحَوْل كَالنِّصَابِ، وَلأَِنَّ النِّصَابَ سَبَبٌ، وَالْحَوْل شَرْطٌ، فَإِذَا ضُمَّ فِي النِّصَابِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ، فَضَمُّهُ إِلَيْهِ فِي الْحَوْل الَّذِي هُوَ شَرْطٌ أَوْلَى؛ وَلأَِنَّ إِفْرَادَ كُل مَالٍ يُسْتَفَادُ بِحَوْلٍ يُفْضِي إِلَى تَشْقِيصِ الْوَاجِبِ فِي السَّائِمَةِ، وَاخْتِلاَفِ أَوْقَاتِ الْوَاجِبِ، وَالْحَاجَةِ إِلَى ضَبْطِ مَوَاقِيتِ التَّمَلُّكِ، وَوُجُوبِ الْقَدْرِ الْيَسِيرِ الَّذِي لاَ يُتَمَكَّنُ مِنْ إِخْرَاجِهِ، وَفِي ذَلِكَ حَرَجٌ، وَإِنَّمَا شُرِعَ الْحَوْل لِلتَّيْسِيرِ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1) وَقِيَاسًا عَلَى نِتَاجِ السَّائِمَةِ وَرِبْحِ التِّجَارَةِ. وَاسْتَثْنَى أَبُو حَنِيفَةَ مَا كَانَ ثَمَنَ مَالٍ قَدْ زُكِّيَ فَلاَ يُضَمُّ، لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ إِلَى الثَّنْيِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ السَّائِمَةِ وَبَيْنَ النُّقُودِ، فَقَالُوا فِي السَّائِمَةِ كَقَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، قَالُوا: لأَِنَّ زَكَاةَ السَّائِمَةِ مَوْكُولَةٌ إِلَى السَّاعِي، فَلَوْ لَمْ تُضَمَّ لأََدَّى ذَلِكَ إِلَى خُرُوجِهِ
__________
(1) سورة الحج / 78.
(2) الثنى بكسر ففتح: تكرار الصدقة في المال الواحد لعام واحد. وروضة الطالبين 3 / 85.(23/244)
أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، بِخِلاَفِ الأَْثْمَانِ فَلاَ تُضَمُّ، فَإِنَّهَا مَوْكُولَةٌ إِلَى أَرْبَابِهَا. (1)
الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يَبْلُغَ الْمَال نِصَابًا:
31 - وَالنِّصَابُ مِقْدَارُ الْمَال الَّذِي لاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي أَقَل مِنْهُ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ أَجْنَاسِ الأَْمْوَال الزَّكَوِيَّةِ، فَنِصَابُ الإِْبِل خَمْسٌ مِنْهَا، وَنِصَابُ الْبَقَرِ ثَلاَثُونَ. وَنِصَابُ الْغَنَمِ أَرْبَعُونَ، وَنِصَابُ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالاً، وَنِصَابُ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَنِصَابُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ.
وَنِصَابُ عُرُوضِ التِّجَارَةِ مُقَدَّرٌ بِنِصَابِ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ. وَفِي بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ تَفْرِيعَاتٌ وَخِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهِ مِمَّا يَلِي مِنْ هَذَا الْبَحْثِ.
وَالْحِكْمَةُ فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ وَاضِحَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ مُوَاسَاةً، وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْمُوَاسَاةُ، بَل تَجِبُ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ إِعَانَتُهُ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ تُؤْخَذُ مِنَ الأَْغْنِيَاءِ لِتُرَدَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَجَعَل الشَّرْعُ النِّصَابَ أَدْنَى حَدِّ الْغِنَى؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ فِي الْعَادَاتِ أَنَّ مَنْ مَلَكَهُ فَهُوَ غَنِيٌّ إِلَى تَمَامِ سَنَتِهِ.
الْوَقْتُ الَّذِي يُعْتَبَرُ وُجُودُ النِّصَابِ فِيهِ:
32 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي
__________
(1) المغني 2 / 626، 3 / 32، وفتح القدير 1 / 510، والشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 432.(23/244)
الْمَذْهَبِ، إِلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وُجُودُ النِّصَابِ فِي جَمِيعِ الْحَوْل مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَلَوْ نَقَصَ فِي بَعْضِهِ وَلَوْ يَسِيرًا انْقَطَعَ الْحَوْل فَلَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ فِي آخِرِهِ. قَالُوا: فَلَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَمَاتَتْ فِي الْحَوْل وَاحِدَةٌ ثُمَّ وَلَدَتْ وَاحِدَةٌ انْقَطَعَ الْحَوْل. فَإِنْ كَانَ الْمَوْتُ وَالنِّتَاجُ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَنْقَطِعْ، كَمَا لَوْ تَقَدَّمَ النِّتَاجُ عَلَى الْمَوْتِ، وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ حَدِيثِ لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ طَرَفَا الْحَوْل، فَإِنْ تَمَّ النِّصَابُ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ وَلَوْ نَقَصَ الْمَال عَنِ النِّصَابِ فِي أَثْنَائِهِ، مَا لَمْ يَنْعَدِمِ الْمَال كُلِّيَّةً، فَإِنِ انْعَدَمَ لَمْ يَنْعَقِدِ الْحَوْل إِلاَّ عِنْدَ تَمَامِ النِّصَابِ، وَسَوَاءٌ انْعَدَمَ لِتَلَفِهِ، أَوْ لِخُرُوجِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلزَّكَاةِ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ نِصَابُ سَائِمَةٍ فَجَعَلَهَا فِي الْحَوْل عَلُوفَةً.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا وُجِدَ النِّصَابُ لِحَوْلٍ كَامِلٍ إِلاَّ أَنَّهُ نَقَصَ نَقْصًا يَسِيرًا كَسَاعَةٍ أَوْ سَاعَتَيْنِ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ. (2) وَلَوْ زَال مِلْكُ الْمَالِكِ لِلنِّصَابِ فِي الْحَوْل بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ عَادَ بِشِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ اسْتَأْنَفَ الْحَوْل
__________
(1) حديث: لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " تقدم تخريجه ف / 14.
(2) المغني 2 / 629، وابن عابدين 2 / 33، والدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 431.(23/245)
لاِنْقِطَاعِ الْحَوْل الأَْوَّل بِمَا فَعَلَهُ، (1) لَكِنْ إِنْ فَعَل ذَلِكَ حِيلَةً فَفِي انْقِطَاعِ الْحَوْل خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مَا سَبَقَ تَحْتَ عِنْوَانِ (الْحِيَل لإِِسْقَاطِهَا) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَحُول الْحَوْل عَلَى مِلْكِ النِّصَابِ أَوْ مِلْكِ أَصْلِهِ، فَالأَْوَّل كَمَا لَوْ كَانَ يَمْلِكُ أَرْبَعِينَ شَاةً تَمَامَ الْحَوْل، وَالثَّانِي كَمَا لَوْ مَلَكَ عِشْرِينَ شَاةً مِنْ أَوَّل الْحَوْل فَحَمَلَتْ وَوَلَدَتْ فَتَمَّتْ بِذَلِكَ أَرْبَعِينَ قَبْل تَمَامِ الْحَوْل، فَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي النَّوْعَيْنِ عِنْدَ حَوْل الأَْصْل.
وَمِثَالُهُ أَيْضًا، أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ دِينَارُ ذَهَبٍ فَيَشْتَرِي بِهِ سِلْعَةً لِلتِّجَارَةِ فَيَبِيعُهَا بِعِشْرِينَ دِينَارًا قَبْل تَمَامِ الْحَوْل، فَفِيهَا الزَّكَاةُ عِنْدَمَا يَحُول الْحَوْل عَلَى مِلْكِهِ لِلدِّينَارِ، وَاَلَّذِي يُضَمُّ إِلَى أَصْلِهِ فَيَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ هُوَ نِتَاجُ السَّائِمَةِ وَرِبْحُ التِّجَارَةِ، بِخِلاَفِ الْمَال الْمُسْتَفَادِ بِطَرِيقٍ آخَرَ كَالْعَطِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِل بِهَا حَوْلَهَا (2)
. الشَّرْطُ السَّابِعُ: الْفَرَاغُ مِنَ الدَّيْنِ:
33 - وَهَذَا الشَّرْطُ مُعْتَبَرٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ فِي قَدِيمِ قَوْلَيْهِ، وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الدَّيْنَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ.
فَإِنْ زَادَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الْمَالِكِ عَمَّا بِيَدِهِ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَبْقَ بِيَدِهِ بَعْدَمَا يَسُدُّ بِهِ
__________
(1) شرح المنهاج 2 / 14.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 431، 461، 462.(23/245)
دَيْنَهُ نِصَابٌ فَأَكْثَرُ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ (1) .
وَقَوْلِهِ: أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ (2) . وَمَنْ عَلَيْهِ أَلْفٌ وَمَعَهُ أَلْفٌ فَلَيْسَ غَنِيًّا، وَلِقَوْل عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ وَلْيُزَكِّ بَقِيَّةَ مَالِهِ.
وَلاَ يُعْتَبَرُ الدَّيْنُ مَانِعًا إِلاَّ إِنِ اسْتَقَرَّ فِي الذِّمَّةِ قَبْل وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَأَمَّا إِنْ وَجَبَ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لَمْ تَسْقُطْ؛ لأَِنَّهَا وَجَبَتْ فِي ذِمَّتِهِ، فَلاَ يُسْقِطُهَا مَا لَحِقَهُ مِنَ الدَّيْنِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَحَمَّادٌ، وَرَبِيعَةُ إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ لاَ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ أَصْلاً؛ لأَِنَّ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ إِذَا مَلَكَ نِصَابًا حَوْلاً وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهِ لإِِطْلاَقِ الأَْدِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلزَّكَاةِ فِي الْمَال الْمَمْلُوكِ (3) .
__________
(1) حديث: " إذا كان لرجل ألف درهم وعليه ألف درهم فلا زكاة عليه " ذكره ابن قدامة في المغني (3 / 41 - ط الرياض) ولم يعزه إلى أي من المصادر الحديثية.
(2) حديث: " أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها على فقرائكم ". لم نره في المصادر الحديثية التي بين أيدينا بهذا اللفظ، وإنما المعروف هو ما أخرجه البخاري (الفتح 3 / 261 - ط السلفية) وغيره من حديث ابن عباس " وأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم ".
(3) المغني 3 / 41، والدسوقي 1 / 431، وابن عابدين 2 / 4، 7، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 40.(23/246)
الأَْمْوَال الَّتِي يَمْنَعُ الدَّيْنُ زَكَاتَهَا وَاَلَّتِي لاَ يَمْنَعُ:
34 - أَمَّا الأَْمْوَال الْبَاطِنَةُ وَهِيَ النُّقُودُ وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِيهَا، وَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ.
وَأَمَّا الأَْمْوَال الظَّاهِرَةُ وَهِيَ السَّائِمَةُ وَالْحُبُوبُ وَالثِّمَارُ وَالْمَعَادِنُ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى قَوْلٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ لاَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهَا، رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: لأَِنَّ الْمُصَدِّقَ إِذَا جَاءَ فَوَجَدَ إِبِلاً أَوْ بَقَرًا أَوْ غَنَمًا لَمْ يَسْأَل: أَيُّ شَيْءٍ عَلَى صَاحِبِهَا مِنَ الدَّيْنِ، وَلَيْسَ الْمَال - يَعْنِي الأَْثْمَانَ - هَكَذَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ أَنَّ تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِالظَّاهِرَةِ آكَدُ؛ لِظُهُورِهَا وَتَعَلُّقِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ بِهَا؛ وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى حِفْظِهَا أَوْفَرُ، فَتَكُونُ الزَّكَاةُ فِيهَا آكُدُ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ الدَّيْنَ الَّذِي اسْتَدَانَهُ الْمُزَكِّي لِلإِْنْفَاقِ عَلَى الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، فَإِنَّهُ يُسْقِطُهُ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: يُخْرِجُ مَا اسْتَدَانَ أَوْ أَنْفَقَ عَلَى ثَمَرَتِهِ وَأَهْلِهِ يُزَكِّي مَا بَقِيَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِي الأَْمْوَال الْبَاطِنَةِ وَفِي السَّوَائِمِ، أَمَّا مَا وَجَبَ فِي الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ فَلاَ يَمْنَعُهُ الدَّيْنُ، كَمَا لاَ يَمْنَعُ الْخَرَاجَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ مُؤْنَةُ(23/246)
الأَْرْضِ، وَلِذَا يَجِبَانِ فِي الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ وَأَرْضِ الْمُكَاتَبِ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ فِيهِمَا الزَّكَاةُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِي الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَاللَّيْثِ وَالنَّخَعِيِّ (1) .
الدُّيُونُ الَّتِي تَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ:
35 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ هُوَ مَا كَانَ لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ سَوَاءٌ كَانَ دَيْنًا لِلَّهِ كَزَكَاةٍ وَخَرَاجٍ، أَوْ كَانَ لِلْعِبَادِ، وَسَوَاءٌ كَانَ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلاً، وَلَوْ صَدَاقَ زَوْجَتِهِ الْمُؤَجَّل لِلْفِرَاقِ، أَوْ نَفَقَةً لِزَوْجَتِهِ، أَوْ لِقَرِيبٍ لَزِمَتْهُ بِقَضَاءٍ أَوْ تَرَاضٍ، وَكَذَا عِنْدَهُمْ دَيْنُ الْكَفَالَةِ، قَالُوا: لأَِنَّ الْكَفِيل مُحْتَاجٌ إِلَى مَا بِيَدِهِ لِيَقْضِيَ عَنْهُ دَفْعًا لِلْمُلاَزَمَةِ أَوِ الْحَبْسِ.
أَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ فَلاَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، قَالُوا: كَدَيْنِ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ وَالْحَجِّ، وَمِثْلُهَا الأُْضْحِيَةُ، وَهَدْيُ الْمُتْعَةِ، وَدَيْنُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ زَكَاةَ الْمَال الْبَاطِنِ يُسْقِطُهَا الدَّيْنُ وَلَوْ كَانَ دَيْنَ زَكَاةٍ، أَوْ زَكَاةَ فِطْرٍ،
__________
(1) المغني 3 / 42، والفروع 2 / 331، وابن عابدين 2 / 6، والدسوقي 1 / 481، وشرح المنهاج 2 / 14.
(2) ابن عابدين 2 / 5 - 6.(23/247)
أَوْ كَانَ لِلْعِبَادِ حَالًّا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلاً، أَوْ كَانَ مَهْرَ زَوْجَةٍ أَوْ نَفَقَةَ زَوْجَةٍ مُطْلَقًا، أَوْ نَفَقَةَ وَلَدٍ أَوْ وَالِدٍ إِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ بِهَا الْقَاضِي.
وَاخْتَلَفَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ فِي مِثْل دَيْنِ الْكَفَّارَةِ وَالْهَدْيِ الْوَاجِبِ فَاخْتَارَ مِنْهَا خَلِيلٌ وَابْنُ رَاشِدٍ الْقَفْصِيُّ أَنَّهُ لاَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ لِعَدَمِ الْمُطَالِبِ مِنَ الْعِبَادِ، وَاخْتَارَ ابْنُ عَتَّابٍ أَنَّهُ يَمْنَعُ لأَِنَّ الإِْمَامَ يُطَالِبُ الْمُمْتَنِعَ بِإِخْرَاجِ مَا عَلَيْهِ مِنْ مِثْل هَذِهِ الدُّيُونِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَيْنَ الآْدَمِيِّ مُطْلَقًا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، أَمَّا دَيْنُ اللَّهِ فَفِي قَوْلٍ: يَمْنَعُ وَفِي قَوْلٍ: لاَ (2) .
شُرُوطُ إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ بِالدَّيْنِ:
36 - الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الدَّيْنَ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ فِي قَدْرِهِ مِنَ الْمَال الزَّكَوِيِّ، اشْتَرَطَ أَكْثَرُهُمْ أَنْ لاَ يَجِدَ الْمُزَكِّي مَالاً يَقْضِي مِنْهُ الدَّيْنَ سِوَى مَا وَجَبَتْ فِيهِ. فَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ آخَرُ فَائِضٌ عَنْ حَاجَاتِهِ الأَْسَاسِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ فِي مُقَابَلَةِ الدَّيْنِ، لِكَيْ يَسْلَمَ الْمَال الزَّكَوِيُّ فَيُخْرِجَ زَكَاتَهُ.
ثُمَّ قَدْ قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ يَعْمَل بِذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ مَا يَقْضِي مِنْهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ أَوْ غَيْرِ جِنْسِهِ. فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَعِنْدَهُ عُرُوضُ قُنْيَةٍ تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَأَكْثَرَ
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 6 / 483.
(2) المغني 3 / 45.(23/247)
وَعِنْدَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، جَعَل الْعُرُوضَ فِي مُقَابَلَةِ الدَّيْنِ لأَِنَّهُ أَحَظُّ لِلْفُقَرَاءِ.
وَكَذَا إِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَهُ مَالاَنِ زَكَوِيَّانِ، لَوْ جَعَل أَحَدَهُمَا فِي مُقَابِل الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ، وَلَوْ جَعَل الآْخَرَ فِي مُقَابَلَةِ الدَّيْنِ كَانَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ، فَإِنَّهُ يَجْعَل فِي مُقَابَلَةِ الدَّيْنِ مَا هُوَ أَحَظُّ لِلْفُقَرَاءِ، كَمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَلَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَتِسْعٌ مِنَ الإِْبِل، فَإِذَا جَعَلْنَا فِي مُقَابَلَةِ الدَّيْنِ الأَْرْبَعَةَ مِنَ الإِْبِل الزَّائِدَةَ عَنِ النِّصَابِ لِكَوْنِ الأَْرْبَعَةِ تُسَاوِي الْمِائَةَ مِنَ الدَّرَاهِمِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا وَجَبَ ذَلِكَ رِعَايَةً لِحَظِّ الْفُقَرَاءِ، لأَِنَّنَا لَوْ جَعَلْنَا مِمَّا مَعَهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ مِائَةً فِي مُقَابَلَةِ الدَّيْنِ سَقَطَتْ زَكَاةُ الدَّرَاهِمِ (1) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَل فِي مُقَابَلَةِ الدَّيْنِ فَيَمْنَعُ سُقُوطَ الزَّكَاةِ: الدَّيْنَ الْحَال الْمَرْجُوَّ، وَالأَْمْوَال الزَّكَوِيَّةَ الأُْخْرَى وَلَوْ جَرَتْ تَزْكِيَتُهَا، وَأَنَّ الْعَرَضَ يُقَوَّمُ وَقْتَ الْوُجُوبِ، وَأَخْرَجُوا مِنْ ذَلِكَ نَحْوَ الْبَعِيرِ الشَّارِدِ، وَالْمَال الضَّائِعِ، وَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّل أَوْ غَيْرِ الْمَرْجُوِّ لِعَدَمِ صَلاَحِيَّةِ جَعْلِهِ فِي مُقَابَلَةِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ (2) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ - وَمِثْلُهُ حُكِيَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَلَى مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ
__________
(1) الدسوقي 1 / 483، وفتح القدير 5 / 506، والمغني 3 / 44.
(2) الشرح الكبير والدسوقي 1 / 484.(23/248)
أَحْمَدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْفُرُوعِ - أَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ زَكَوِيٌّ وَمَالٌ غَيْرُ زَكَوِيٍّ فَائِضٌ عَنْ حَاجَتِهِ الأَْسَاسِيَّةِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ أَنْ يَجْعَل فِي مُقَابَلَةِ الدَّيْنِ الْمَال الزَّكَوِيَّ، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ نِصَابٌ فَأَكْثَرُ زَكَّاهُ وَإِلاَّ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ، قَالُوا: لأَِنَّ غَيْرَ مَال الزَّكَاةِ يُسْتَحَقُّ لِلْحَوَائِجِ، وَمَال الزَّكَاةِ فَاضِلٌ عَنْهَا، فَكَانَ الصَّرْفُ إِلَيْهِ أَيْسَرَ، وَأَنْظَرَ بِأَرْبَابِ الأَْمْوَال.
قَالُوا: وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالاَنِ زَكَوِيَّانِ مِنْ جِنْسَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ لَهُ أَنْ يَجْعَل أَيًّا مِنْهُمَا أَوْ بَعْضَهُ فِي مُقَابَلَةِ الدَّيْنِ وَالْخِيَارُ لَهُ. فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ وَعُرُوضُ تِجَارَةٍ وَسَوَائِمُ يَصْرِفُ الدَّيْنَ لأَِيْسَرِهَا قَضَاءً، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ نِصَابُ بَقَرٍ وَنِصَابُ إِبِلٍ وَعَلَيْهِ شَاةٌ دَيْنًا، جَازَ جَعْلُهَا فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ مِنَ الْبَقَرِ لِئَلاَّ يَجِبَ عَلَيْهِ التَّبِيعُ؛ لأَِنَّ التَّبِيعَ فَوْقَ الشَّاةِ (1) .
زَكَاةُ الْمَال الْحَرَامِ:
37 - الْمَال الْحَرَامُ كَالْمَأْخُوذِ غَصْبًا أَوْ سَرِقَةً أَوْ رِشْوَةً أَوْ رِبًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لَيْسَ مَمْلُوكًا لِمَنْ هُوَ بِيَدِهِ، فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاتُهُ؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ تَمْلِيكٌ، وَغَيْرُ الْمَالِكِ لاَ يَكُونُ مِنْهُ تَمْلِيكٌ؛ وَلأَِنَّ الزَّكَاةَ تُطَهِّرُ الْمُزَكِّيَ وَتُطَهِّرُ الْمَال الْمُزَكَّى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (2) وَقَال
__________
(1) ابن عابدين 2 / 8، والمغني 3 / 44، والفروع 2 / 332، وشرح المنتهى 1 / 385.
(2) سورة التوبة / 103.(23/248)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَقْبَل اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ (1) .
وَالْمَال الْحَرَامُ كُلُّهُ خَبَثٌ لاَ يَطْهُرُ، وَالْوَاجِبُ فِي الْمَال الْحَرَامِ رَدُّهُ إِلَى أَصْحَابِهِ إِنْ أَمْكَنَ مَعْرِفَتُهُمْ وَإِلاَّ وَجَبَ إِخْرَاجُهُ كُلِّهِ عَنْ مِلْكِهِ عَلَى سَبِيل التَّخَلُّصِ مِنْهُ لاَ عَلَى سَبِيل التَّصَدُّقِ بِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ. قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ كَانَ الْمَال الْخَبِيثُ نِصَابًا لاَ يَلْزَمُ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ الزَّكَاةُ؛ لأَِنَّهُ يَجِبُ إِخْرَاجُهُ كُلِّهِ فَلاَ يُفِيدُ إِيجَابَ التَّصَدُّقِ بِبَعْضِهِ.
وَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ لِلدَّرْدِيرِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى مَالِكِ النِّصَابِ فَلاَ تَجِبُ عَلَى غَيْرِ مَالِكٍ كَغَاصِبٍ وَمُودَعٍ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ كَمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الْغَزَالِيِّ وَأَقَرَّهُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ إِلاَّ مَالٌ حَرَامٌ مَحْضٌ فَلاَ حَجَّ عَلَيْهِ وَلاَ زَكَاةَ، وَلاَ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ مَالِيَّةٌ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: التَّصَرُّفَاتُ الْحُكْمِيَّةُ لِلْغَاصِبِ فِي الْمَال الْمَغْصُوبِ تَحْرُمُ وَلاَ تَصِحُّ، وَذَلِكَ كَالْوُضُوءِ مِنْ مَاءٍ مَغْصُوبٍ وَالصَّلاَةِ بِثَوْبٍ مَغْصُوبٍ أَوْ فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ، وَكَإِخْرَاجِ زَكَاةِ الْمَال الْمَغْصُوبِ، وَالْحَجِّ مِنْهُ، وَالْعُقُودِ الْوَارِدَةِ عَلَيْهِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ (2) .
__________
(1) حديث: " لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غُلول ". أخرجه مسلم (1 / 204 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر.
(2) ابن عابدين 2 / 25، والشرح الصغير للدردير 1 / 206، والمجموع للنووي 9 / 353، وكشاف القناع 4 / 115.(23/249)
وَعَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْمَال الْمَغْصُوبَ يَدْخُل فِي مِلْكِ الْغَاصِبِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَأَنِ اخْتَلَطَ بِمَالِهِ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ لِلْغَاصِبِ مَالاً زَكَوِيًّا، إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الدَّيْنُ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ، وَالْغَاصِبُ مَدِينٌ بِمِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِيهِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: مَنْ مَلَكَ أَمْوَالاً غَيْرَ طَيِّبَةٍ أَوْ غَصَبَ أَمْوَالاً وَخَلَطَهَا، مَلَكَهَا بِالْخَلْطِ وَيَصِيرُ ضَامِنًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَاهَا نِصَابٌ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهَا وَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا لأَِنَّهُ مَدْيُونٌ وَأَمْوَال الْمَدِينِ لاَ تَنْعَقِدُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَوُجُوبُ الزَّكَاةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَ لَهُ نِصَابٌ سِوَاهَا، وَلاَ يَخْفَى أَنَّ الزَّكَاةَ حِينَئِذٍ إِنَّمَا تَجِبُ فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا لاَ فِيهَا (1) .
ثُمَّ إِنَّ الْمَال الْمَغْصُوبَ الَّذِي لاَ يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى أَخْذِهِ لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَمَتَى قَدَرَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ فَقِيل: لَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ لِمَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ لأَِنَّهُ كَانَ مَحْجُوزًا عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى اسْتِنْمَائِهِ (تَنْمِيَتِهِ) فَكَانَ مِلْكُهُ نَاقِصًا، وَقِيل: عَلَيْهِ زَكَاتُهُ لِمَا مَضَى، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُخْرِجُ زَكَاتَهُ وَيَعُودُ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مِنْ بَابِ تَزْكِيَةِ الْغَاصِبِ لِلْمَال الْحَرَامِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لأَِنَّهُ نَقْصٌ حَصَل فِي الْمَال وَهُوَ بِيَدِ الْغَاصِبِ أَشْبَهَ مَا لَوْ تَلِفَ بَعْضُهُ. (2)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 25، 26.
(2) المجموع 5 / 341، وشرح منتهى الإرادات 1 / 365.(23/249)
الْقِسْمُ الثَّانِي
الأَْصْنَافُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ وَأَنْصِبَتُهَا
وَمَقَادِيرُ الزَّكَاةِ فِي كُلٍّ مِنْهَا
أَوَّلاً: زَكَاةُ الْحَيَوَانِ:
38 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْبِل وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ هِيَ مِنَ الأَْصْنَافِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمُ فِي مَسْأَلَةِ الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لِلزَّكَاةِ، وَفِي الْخَيْل خِلاَفٌ، وَأَمَّا الْبِغَال وَالْحَمِيرُ وَغَيْرُهَا مِنْ أَصْنَافِ الْحَيَوَانِ فَلَيْسَ فِيهَا زَكَاةٌ مَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ (1) .
شُرُوطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَيَوَانِ:
يُشْتَرَطُ فِي الْمَاشِيَةِ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا تَمَامُ الْحَوْل، وَكَوْنُهَا نِصَابًا فَأَكْثَرَ، بِالإِْضَافَةِ إِلَى سَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمِ بَيَانُهَا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الأَْمْوَال عَامَّةً عَلَى التَّفْصِيل الْمُتَقَدِّمِ.
وَيُشْتَرَطُ هُنَا شَرْطَانِ آخَرَانِ:
39 - الأَْوَّل: السَّوْمُ: وَمَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ غِذَاؤُهَا عَلَى الرَّعْيِ مِنْ نَبَاتِ الْبَرِّ، فَلَوْ كَانَتْ مَعْلُوفَةً لَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ فِي الْمَعْلُوفَةِ تَتَرَاكَمُ الْمَئُونَةُ، فَيَنْعَدِمُ النَّمَاءُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا فِي حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
__________
(1) الهداية على البداية مع فتح القدير 1 / 504.(23/250)
مَرْفُوعًا: فِي كُل سَائِمَةِ إِبِلٍ فِي كُل أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ (1) . وَحَدِيثِ: فِي كُل خَمْسٍ مِنَ الإِْبِل السَّائِمَةِ شَاةٌ (2) .
فَدَل بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الْمَعْلُوفَةَ لاَ زَكَاةَ فِيهَا.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السَّائِمَةَ هِيَ الَّتِي تَكْتَفِي بِالرَّعْيِ فِي أَكْثَرِ الْحَوْل، فَلَوْ عَلَفَهَا صَاحِبُهَا نِصْفَ الْحَوْل أَوْ أَكْثَرَ كَانَتْ مَعْلُوفَةً وَلَمْ تَجِبْ زَكَاتُهَا لأَِنَّ الْقَلِيل تَابِعٌ لِلْكَثِيرِ؛ وَلأَِنَّ أَصْحَابَ السَّوَائِمِ لاَ يَجِدُونَ بُدًّا مِنْ أَنْ يَعْلِفُوا سَوَائِمَهُمْ فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ كَأَيَّامِ الْبَرْدِ وَالثَّلْجِ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ هِيَ الَّتِي تَرْعَى كُل الْحَوْل، وَكَذَا إِنْ عُلِفَتْ قَدْرًا قَلِيلاً تَعِيشُ بِدُونِهِ بِلاَ ضَرَرٍ بَيِّنٍ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، فَإِنْ عُلِفَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا (4) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الأَْنْعَامِ
__________
(1) حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: " في كل سائمة إبل في كل أربعين بنت لبون ". أخرجه أبو داود (2 / 233 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(2) حديث: " في كل خمس من الإبل السائمة شاة ". أخرجه الحاكم (1 / 396 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عمرو بن حزم، وصححه الإمام أحمد كما في نصب الراية (2 / 368 - ط المجلس العلمي) .
(3) الهداية وفتح القدير 1 / 509، والمغني 2 / 577.
(4) شرح المنهاج والقليوبي عليه 2 / 14.(23/250)
غَيْرِ السَّائِمَةِ كَوُجُوبِهَا فِي السَّائِمَةِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ مَعْلُوفَةً كُل الْحَوْل. قَالُوا: وَالتَّقْيِيدُ فِي الْحَدِيثِ بِالسَّائِمَةِ لأَِنَّ السَّوْمَ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى مَوَاشِي الْعَرَبِ، فَهُوَ قَيْدٌ اتِّفَاقِيٌّ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ لاَ مَفْهُومَ لَهُ. نَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} (1) فَإِنَّهَا تَحْرُمُ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِي الْحِجْرِ (2) .
40 - الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لاَ تَكُونَ عَامِلَةً، فَالإِْبِل الْمُعَدَّةُ لِلْحَمْل وَالرُّكُوبِ، وَالنَّوَاضِحُ، وَبَقَرُ الْحَرْثِ وَالسَّقْيِ لاَ زَكَاةَ فِيهَا وَلَوْ كَانَتْ سَائِمَةً.
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ (3) ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: لَيْسَ فِي الْعَوَامِل وَالْحَوَامِل وَالْبَقَرِ الْمُثِيرَةِ شَيْءٌ (4) . وَالْحَوَامِل هِيَ الْمُعَدَّةُ لِحَمْل الأَْثْقَال، وَالْبَقَرُ الْمُثِيرَةُ هِيَ بَقَرُ الْحَرْثِ الَّتِي تُثِيرُ
__________
(1) سورة النساء / 23.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير وتقرير الشيخ عليش 1 / 432.
(3) شرح فتح القدير 1 / 509، وشرح المنهاج مع القليوبي 2 / 15، والمغني 2 / 576.
(4) حديث: " ليس في العوامل والحوامل والبقرة المثيرة شيء ". أورده ابن الهمام في شرح فتح القدير (1 / 509 - ط الميمنية) ولم يعزه لأحد، وذكره الزبيدي في عقود الجواهر المنيفة (ص 106 - ط مطبعة الشبان بمصر) بلفظ: " ليس في العوامل والحوامل صدقة "، وعزاه إلى مسند أبي حنيفة، ونقل عن ابن حجر أنه لم ير لفظة " الحوامل " في الحديث.(23/251)
الأَْرْضَ، وَلِحَدِيثِ: لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِل شَيْءٌ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الْعَمَل لاَ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِي الْمَاشِيَةِ لِعُمُومِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي كُل خَمْسِ ذَوْدٍ شَاةٌ (2) .
وَلأَِنَّ اسْتِعْمَال السَّائِمَةِ زِيَادَةُ رِفْقٍ وَمَنْفَعَةٍ تَحْصُل لِلْمَالِكِ فَلاَ يَقْتَضِي ذَلِكَ مَنْعَ الزَّكَاةِ، بَل تَأْكِيدَ إِيجَابِهَا (3) .
41 - الشَّرْطُ الثَّالِثُ: بُلُوغُ السَّاعِي إِنْ كَانَ هُنَاكَ سَاعٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَاعٍ فَلاَ يُشْتَرَطُ هَذَا الشَّرْطُ بَل يُكْتَفَى بِمُرُورِ الْحَوْل.
وَهَذَا الشَّرْطُ لِلْمَالِكِيَّةِ خَاصَّةً.
وَبَنَوْا عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ شَيْءٌ مِنَ الْمَوَاشِي أَوْ ضَاعَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنَ الْمَالِكِ بَعْدَ الْحَوْل وَقَبْل مَجِيءِ السَّاعِي فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُزَكَّى الْبَاقِي إِنْ كَانَ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ. وَلَوْ مَاتَ رَبُّ الْمَاشِيَةِ قَبْل بُلُوغِ السَّاعِي فَلاَ زَكَاةَ، وَيَسْتَقْبِل الْوَارِثُ
__________
(1) حديث: " ليس في البقر العوامل شيء ". أخرجه أبو داود (2 / 229 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والدارقطني (2 / 103 - ط دار المحاسن) من حديث علي بن أبي طالب، واللفظ للدارقطني وصححه ابن القطان كما في نصب الراية (2 / 353 - ط المجلس العلمي) .
(2) حديث: " في كل خمس ذود شاة ". أخرجه أحمد (1 / 11 - ط الميمنية) من حديث أنس، وإسناده صحيح.
(3) الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 432.(23/251)
حَوْلاً، وَلاَ تُجْزِئُ إِنْ أَخْرَجَهَا قَبْل وُصُول السَّاعِي.
قَالُوا: وَإِنْ سَأَل السَّاعِي رَبَّ الْمَاشِيَةِ عَنْ عَدَدِهَا فَأَخْبَرَهُ بِعَدَدِهَا فَغَابَ عَنْهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَوَجَدَهَا قَدْ زَادَتْ أَوْ نَقَصَتْ بِمَوْتِ شَيْءٍ مِنْهَا - أَوْ بِذَبْحِهِ - فَالْمُعْتَبَرُ الْمَوْجُودُ.
وَإِنْ تَخَلَّفَ السَّاعِي عَنِ الْوُصُول مَعَ إِمْكَانِ وُصُولِهِ وَكَانَ تَخَلُّفُهُ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَأَخْرَجَ الْمَالِكُ الزَّكَاةَ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ مُرُورِ الْحَوْل، وَإِنَّمَا يُصَدَّقُ بِبَيِّنَتِهِ (1) .
الزَّكَاةُ فِي الْوَحْشِيِّ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ وَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الأَْهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ:
42 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمُ الْحَنَابِلَةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، إِلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي الْوَحْشِيِّ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ اسْمَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لاَ يَتَنَاوَلُهَا عِنْدَ الإِْطْلاَقِ؛ وَلأَِنَّهَا لاَ تُجْزِئُ فِي الْهَدْيِ وَالأُْضْحِيَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا الزَّكَاةُ، لأَِنَّ الاِسْمَ يَشْمَلُهَا فَتَدْخُل فِي الأَْخْبَارِ الْوَارِدَةِ (2) .
وَأَمَّا مَا تَوَلَّدَ بَيْنَ الأَْهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلٌ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْوَحْشِيَّةُ أُمَّهُ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 443، 444، 446.
(2) المغني 2 / 594، وابن عابدين على الدر 2 / 18.(23/252)
أَهْلِيَّةً وَالْوَحْشِيُّ أَبَاهُ فَفِيهِ الزَّكَاةُ؛ لأَِنَّ وَلَدَ الْبَهِيمَةِ يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي أَحْكَامِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ الْقَوْل الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ زَكَاةَ فِي الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الأَْهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ مُطْلَقًا، وَمَال إِلَيْهِ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهَا نَصٌّ وَلاَ إِجْمَاعٌ وَلاَ قِيَاسٌ صَحِيحٌ، فَلاَ تَتَنَاوَلُهُ نُصُوصُ الشَّرْعِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ ثَالِثٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمُتَوَلِّدِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَتِ الْوَحْشِيَّةُ الْفُحُول أَوِ الأُْمَّهَاتِ، كَمَا إِنَّ الْمُتَوَلِّدَ بَيْنَ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إِذَا سَامَ (1) .
أ - زَكَاةُ الإِْبِل:
43 - الإِْبِل اسْمُ جَمْعٍ لَيْسَ لَهُ مُفْرَدٌ مِنْ لَفْظِهِ وَوَاحِدُهُ الذَّكَرُ: جَمَلٌ، وَالأُْنْثَى: نَاقَةٌ، وَالصَّغِيرُ حُوَارٌ إِلَى سَنَةٍ، وَإِذَا فُطِمَ فَهُوَ فَصِيلٌ، وَالْبَكْرُ هُوَ الْفَتِيُّ مِنَ الإِْبِل وَالأُْنْثَى بَكْرَةٌ. وَلِلْعَرَبِ تَسْمِيَاتٌ لِلإِْبِل بِحَسَبِ أَسْنَانِهَا وَرَدَ اسْتِعْمَالُهَا فِي السُّنَّةِ وَاسْتَعْمَلَهَا الْفُقَهَاءُ، كَابْنِ الْمَخَاضِ، وَهُوَ مَا أَتَمَّ سَنَةً وَدَخَل فِي الثَّانِيَةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَِنَّ أُمَّهُ تَكُونُ غَالِبًا قَدْ حَمَلَتْ، وَالأُْنْثَى بِنْتُ مَخَاضٍ، وَابْنُ اللَّبُونِ وَهُوَ مَا أَتَمَّ سَنَتَيْنِ وَدَخَل فِي الثَّالِثَةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَِنَّ أُمَّهُ تَكُونُ قَدْ وَلَدَتْ بَعْدَهُ فَهِيَ ذَاتُ لَبَنٍ، وَالأُْنْثَى بِنْتُ لَبُونٍ، وَالْحِقُّ مَا دَخَل
__________
(1) ابن عابدين 2 / 18، والشرح الكبير للدردير 1 / 432، وشرح المنهاج 2 / 3، والمغني 2 / 595.(23/252)
فِي الرَّابِعَةِ، وَالأُْنْثَى حِقَّةٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّهَا اسْتَحَقَّتْ أَنْ يَطْرُقَهَا الْفَحْل، وَالْجَذَعُ هُوَ الَّذِي دَخَل فِي الْخَامِسَةِ؛ لأَِنَّهُ جَذَعَ أَيْ أَسْقَطَ بَعْضَ أَسْنَانِهِ، وَالأُْنْثَى جَذَعَةٌ. وَهَذِهِ الأَْنْوَاعُ الأَْرْبَعَةُ هِيَ الَّتِي تُؤْخَذُ الإِْنَاثُ مِنْهَا فِي الدِّيَةِ، وَقَدْ يُؤْخَذُ الذُّكُورُ مِنْهَا كَابْنِ اللَّبُونِ (1) ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِيمَا يَلِي.
الْمَقَادِيرُ الْوَاجِبَةُ فِي زَكَاةِ الإِْبِل:
44 - بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَقَادِيرَ الْوَاجِبَةَ فِي زَكَاةِ الإِْبِل، وَهِيَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ الْمَذْكُورِ فِيمَا يَلِي بِكَمَالِهِ لِكَثْرَةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي الْمَسَائِل التَّالِيَةِ:
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ هَذَا الْكِتَابَ لَمَّا وَجَّهَهُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ، فَمَنْ سُئِلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِهَا فَلْيُعْطِهَا، وَمَنْ سُئِل فَوْقَهَا فَلاَ يُعْطِ: فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الإِْبِل فَمَا دُونَهَا مِنَ الْغَنَمِ مِنْ كُل خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلاَثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَل، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً
__________
(1) المغني 2 / 579 - 581، وشرح المنهاج 2 / 4.(23/253)
وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ - يَعْنِي سِتًّا وَسَبْعِينَ - إِلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَل. فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُل أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُل خَمْسِينَ حِقَّةٌ. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلاَّ أَرْبَعٌ مِنَ الإِْبِل فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنَ الإِْبِل فَفِيهَا شَاةٌ. وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ شَاةٌ. فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلاَثِمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلاَثٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلاَثِمِائَةٍ فَفِي كُل مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُل نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا. وَفِي الرِّقَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلاَّ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا (1) .
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنَ الإِْبِل صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَل مِنْهُ الْحِقَّةُ، وَيَجْعَل مَعَهَا شَاتَيْنِ إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا.
__________
(1) حديث أنس: " أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 317 - 318 - ط السلفية) .(23/253)
وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْحِقَّةُ وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ فَإِنَّهَا تُقْبَل مِنْهُ الْجَذَعَةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ. وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلاَّ بِنْتُ لَبُونٍ فَإِنَّهَا تُقْبَل مِنْهُ بِنْتُ لَبُونٍ وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا. وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَل مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ. وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنَّهَا تُقْبَل مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَيُعْطِي مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ (1) .
45 - وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنَ الإِْبِل حَسَبَ الْجَدْوَل التَّالِي:
عَدَدُ الإِْبِل
الْقَدْرُ الْوَاجِبُ
مِنْ 1 - إِلَى 4
لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ.
مِنْ 5 - 9
فِيهَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ.
مِنْ 10 - 14
فِيهَا شَاتَانِ
مِنْ 15 - 19
فِيهَا 3 شِيَاهٍ
مِنْ 20 - 24
فِيهَا 4 شِيَاهٍ
مِنْ 25 - 35
فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ (فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ يُجْزِئُ ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ) .
__________
(1) حديث أنس: " من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 316 - ط السلفية) .(23/254)
مِنْ 36 - 45
بِنْتُ لَبُونٍ
مِنْ 46 - 60
حِقَّةٌ
مِنْ 61 - 75
فِيهَا جَذَعَةٌ
مِنْ 76 - 90
فِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ
مِنْ 91 - 120
فِيهَا حِقَّتَانِ
مِنْ 121 - 129
فِيهَا 3 بَنَاتِ لَبُونٍ
مِنْ 130 - 139
فِيهَا حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ
مِنْ 140 - 149
حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ
مِنْ 150 - 159
فِيهَا 3 حِقَاقٍ
مِنْ 160 - 169
فِيهَا 4 بَنَاتِ لَبُونٍ
وَهَكَذَا فِي مَا زَادَ، فِي كُل 40 بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُل 50 حِقَّةٌ.
وَهَذَا الْجَدْوَل جَارٍ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل الأَْوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ، وَأَوَّلُهُ إِلَى 120 مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، لِتَنَاوُل حَدِيثِ أَنَسٍ لَهُ، وَعَدَمِ الاِخْتِلاَفِ فِي تَفْسِيرِهِ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا بَيْنَ 121 - 129 فَقَال مَالِكٌ يَتَخَيَّرُ السَّاعِي بَيْنَ حِقَّتَيْنِ وَثَلاَثِ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ فِيهَا حِقَّتَيْنِ؛ لأَِنَّ الْفَرْضَ لاَ يَتَغَيَّرُ إِلاَّ بِمِائَةٍ وَثَلاَثِينَ (1) .
46 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَرِيضَةَ تُسْتَأْنَفُ بَعْدَ 120، فَفِي كُل خَمْسٍ مِمَّا زَادَ عَلَيْهَا شَاةٌ
__________
(1) المغني 2 / 577 - 586، وشرح المنهاج 2 / 3، والشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 434.(23/254)
بِالإِْضَافَةِ إِلَى الْحِقَّتَيْنِ، فَإِنْ بَلَغَ الزَّائِدُ مَا فِيهِ بِنْتُ مَخَاضٍ أَوْ بِنْتُ لَبُونٍ وَجَبَتْ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الزَّائِدُ مَا فِيهِ حِقَّةٌ فَتَجِبُ، وَيُمَثِّل ذَلِكَ الْجَدْوَل التَّالِي:
عَدَدُ الإِْبِل
الْقَدْرُ الْوَاجِبُ
121 - 124
حِقَّتَانِ
125 - 129
حِقَّتَانِ وَشَاةٌ
130 - 134
حِقَّتَانِ وَشَاتَانِ
135 - 139
حِقَّتَانِ وَ 3 شِيَاهٍ
140 - 144
حِقَّتَانِ وَ 4 شِيَاهٍ
145 - 149
حِقَّتَانِ وَبِنْتُ مَخَاضٍ
150 - 154
3 حِقَاقٍ
155 - 159
3 حِقَاقٍ وَشَاةٌ
160 - 164
3 حِقَاقٍ وَشَاتَانِ
165 - 169
3 حِقَاقٍ وَ 3 شِيَاهٍ
170 - 174
3 حِقَاقٍ وَ 4 شِيَاهٍ
175 - 185
3 حِقَاقٍ وَبِنْتُ مَخَاضٍ
186 - 195
3 حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ
196 - 199
4 حِقَاقٍ
200 - 204
4 حِقَاقٍ أَوْ 5 بَنَاتِ لَبُونٍ
205 - 209
4 حِقَاقٍ أَوْ بَنَاتِ لَبُونٍ وَشَاةٌ
وَهَكَذَا.
وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَال: قُلْتُ لأَِبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ(23/255)
حَزْمٍ: أَخْرِجْ لِي كِتَابَ الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: فَأَخْرَجَ كِتَابًا فِي وَرَقَةٍ وَفِيهِ: فَإِذَا زَادَتِ الإِْبِل عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اسْتُؤْنِفَتِ الْفَرِيضَةُ (1) .
وَفِي زَكَاةِ الإِْبِل مَسَائِل فَرْعِيَّةٌ مِنْهَا:
47 - أ - أَنَّ الَّذِي يُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الإِْبِل الإِْنَاثُ دُونَ الذُّكُورِ، إِلاَّ ابْنَ اللَّبُونِ إِنْ عَدِمَ بِنْتَ الْمَخَاضِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، بِخِلاَفِ الْبَقَرِ فَتُؤْخَذُ مِنْهَا الذُّكُورُ كَمَا يَأْتِي (2) .
فَإِنْ كَانَ الْمَال كُلُّهُ ذُكُورًا أَجْزَأَ الذَّكَرُ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَلْزَمُ الْوَسَطُ وَلَوِ انْفَرَدَ الذُّكُورُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُونَ نَاقَةً وَسَطًا مِنَ السِّنِّ الْمَطْلُوبِ.
48 - ب - أَنَّ الشَّاةَ الَّتِي تُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الإِْبِل إِنْ كَانَتْ أُنْثَى (جَذَعَةٌ مِنَ الضَّأْنِ، أَوْ ثَنِيَّةٌ مِنَ الْمَعْزِ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ) أَجْزَأَتْ بِلاَ نِزَاعٍ.
وَأَمَّا الذَّكَرُ، فَيُحْتَمَل أَنْ يُجْزِئَ لِصِدْقِ اسْمِ الشَّاةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (3) .
__________
(1) العناية بهامش الهداية وفتح القدير 1 / 497، والهداية 1 / 494 - 497. وحديث: عمرو بن حزم في كتاب الصدقات تقدم ف / 5.
(2) الزرقاني 2 / 119، وروضة الطالبين 3 / 166، والفروع 2 / 370.
(3) الزرقاني 2 / 119، والمجموع 5 / 397، والمغني 2 / 578.(23/255)
ج - إِنْ تَطَوَّعَ الْمُزَكِّي فَأَخْرَجَ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ سِنًّا أَعْلَى مِنْ السِّنِّ الْوَاجِبِ جَازَ، مِثْل أَنْ يُخْرِجَ بَدَل بِنْتِ الْمَخَاضِ بِنْتَ لَبُونٍ أَوْ حِقَّةً أَوْ جَذَعَةً، أَوْ عَنْ بِنْتِ اللَّبُونِ حِقَّةً أَوْ جَذَعَةً.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا (1) .
لِمَا فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِمَنْ قَدَّمَ نَاقَةً عَظِيمَةً سَمِينَةً عَنْ بِنْتِ مَخَاضٍ: ذَاكَ الَّذِي عَلَيْكَ. فَإِنْ تَطَوَّعْتَ بِخَيْرٍ آجَرَكَ اللَّهُ فِيهِ، وَقَبِلْنَاهُ مِنْكَ (2) .
- د - إِنْ أَخْرَجَ بَدَل الشَّاةِ نَاقَةً أَجْزَأَهُ، وَكَذَا عَمَّا وَجَبَ مِنَ الشِّيَاهِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ؛ لأَِنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ 25، فَإِجْزَاؤُهُ عَمَّا دُونَهَا أَوْلَى.
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ، لأَِنَّهُ أَخْرَجَ عَنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ غَيْرَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ عَنْ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ بَعِيرًا (3) .
هـ - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي إِبِلِهِ سِنٌّ فَلَمْ
__________
(1) المغني 2 / 582.
(2) حديث أبي بن كعب: " ذاك الذي عليك ". أخرجه أبو داود (2 / 241 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 399 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه، ووافقه الذهبي.
(3) الزرقاني 2 / 117، وروضة الطالبين 2 / 154، والمغني 2 / 578.(23/256)
يَكُنْ فِي إِبِلِهِ ذَلِكَ السِّنُّ فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنَ السِّنِّ الَّذِي فَوْقَهُ مِمَّا يُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الإِْبِل، وَيَأْخُذُ مِنَ السَّاعِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، أَوْ أَنْ يُخْرِجَ مِنَ السِّنِّ الَّذِي تَحْتَهُ مِمَّا يُجْزِئُ فِي الزَّكَاةِ وَيُعْطِي السَّاعِيَ مَعَهَا شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ بَيَانُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُزَكِّيَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ السِّنُّ الْوَاجِبُ، أَوْ كَانَ عِنْدَهُ فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ قِيمَةَ مَا وَجَبَ، أَوْ يَدْفَعَ السِّنَّ الأَْدْوَنَ وَزِيَادَةَ الدَّرَاهِمِ بِقَدْرِ النَّقْصِ، كَمَا لَوْ أَدَّى ثَلاَثَ شِيَاهٍ سِمَانٍ عَنْ أَرْبَعٍ وَسَطٍ، أَوْ بَعْضَ بِنْتِ لَبُونٍ عَنْ بِنْتِ مَخَاضٍ، وَذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي جَوَازِ إِخْرَاجِ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ (1) .
نِصَابُ زَكَاةِ الْبَقَرِ وَالْقَدْرُ الْوَاجِبُ:
51 - بَيَّنَتِ السُّنَّةُ نِصَابَ زَكَاةِ الْبَقَرِ وَالْقَدْرَ الْوَاجِبَ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَى مَسْرُوقٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا، وَمِنَ الْبَقَرِ مِنْ كُل ثَلاَثِينَ تَبِيعًا، وَمِنْ كُل أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً (2) .
وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوُ ذَلِكَ،
__________
(1) ابن عابدين 2 / 22.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كال حالم دينارًا ". أخرجه أبو داود (2 / 234 - 235 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 398 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه، ووافقه الذهبي.(23/256)
وَفِي حَدِيثِهِ وَأَمَرَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لاَ آخُذَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ شَيْئًا إِلاَّ إِنْ بَلَغَ مُسِنَّةً أَوْ جَذَعًا - يَعْنِي تَبِيعًا - وَأَنَّ الأَْوْقَاصَ لاَ شَيْءَ فِيهَا (1) .
52 - وَبِنَاءً عَلَى الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ تُؤْخَذُ زَكَاةُ الْبَقَرِ حَسَبَ الْجَدْوَل التَّالِي:
عَدَدُ الْبَقَرِ
الْقَدْرُ الْوَاجِبُ
1 - 29
لاَ شَيْءَ فِيهَا
30 - 39
تَبِيعٌ (أَوْ تَبِيعَةٌ)
40 - 59
مُسِنَّةٌ
60 - 69
تَبِيعَانِ
70 - 79
تَبِيعٌ وَمُسِنَّةٌ
80 - 89
تَبِيعَانِ
90 - 99
3 أَتْبِعَةٍ
100 - 109
تَبِيعَانِ وَمُسِنَّةٌ
110 - 119
تَبِيعٌ وَمُسِنَّتَانِ
120 - 129
4 أَتْبِعَةٍ أَوْ 3 مُسِنَّاتٍ.
وَهَكَذَا فِي كُل ثَلاَثِينَ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ، وَفِي كُل أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ.
وَعَلَى هَذَا تَجْرِي مَذَاهِبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ،
__________
(1) حديث معاذ: " أمرني رسول الله أن لا آخذ فيما بين ذلك ". أخرجه أحمد (5 / 240 - ط الميمنية) وفي إسناده انقطاع بين معاذ والراوي عنه وهو يحيى بن الحكم كما في " التعجيل " لابن حجر (ص 442 - ط دائرة المعارف العثمانية) .(23/257)
وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، مِنْهَا:
53 - أ - ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيُّ خِلاَفًا لِسَائِرِ الْفُقَهَاءِ، إِلَى أَنَّ فِي الْبَقَرِ مِنْ (5 - 24) فِي كُل خَمْسٍ شَاةٌ قِيَاسًا عَلَى زَكَاةِ الإِْبِل؛ لأَِنَّ الْبَقَرَةَ تَعْدِل نَاقَةً فِي الْهَدْيِ وَالأُْضْحِيَةِ (1) .
54 - ب - وَمِنْهَا: أَخْذُ الذَّكَرِ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ:
أَمَّا التَّبِيعُ الذَّكَرُ فَيُؤْخَذُ اتِّفَاقًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّبِيعَةِ، لِلنَّصِّ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَمَّا الْمُسِنُّ الذَّكَرُ فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُهُ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يُؤْخَذُ إِلاَّ الْمُسِنَّةُ الأُْنْثَى لأَِنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِيهَا (2) .
55 - ج - وَمِنْهَا فِي الأَْسْنَانِ، فَالتَّبِيعُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَا تَمَّ لَهُ سَنَةٌ وَطَعَنَ فِي الثَّانِيَةِ، وَالْمُسِنَّةُ مَا تَمَّ لَهَا سَنَتَانِ وَطَعَنَتْ فِي الثَّالِثَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّبِيعُ مَا تَمَّ لَهُ سَنَتَانِ وَدَخَل فِي الثَّالِثَةِ، وَالْمُسِنَّةُ مَا تَمَّ لَهَا ثَلاَثُ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ (3) .
56 - د - وَمِنْهَا أَنَّ الْوَقْصَ الَّذِي مِنْ (41 - 59) لاَ شَيْءَ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ
__________
(1) المغني 2 / 592 - 594، والشرح الكبير 1 / 434، وشرح المنهاج 2 / 8.
(2) ابن عابدين 2 / 18، والشرح الكبير 1 / 434، وشرح المنهاج 2 / 9، والمغني 2 / 592.
(3) ابن عابدين 2 / 18، والشرح الكبير 1 / 435، وشرح المنهاج 2 / 9، والمغني 2 / 592، 593.(23/257)
أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْل الصَّاحِبَيْنِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِظَاهِرِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِلَى أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الأَْرْبَعِينَ لَيْسَ عَفْوًا، بَل يَجِبُ فِيهِ بِحِسَابِهِ، فَفِي الْوَاحِدَةِ الزَّائِدَةِ عَنِ الأَْرْبَعِينَ رُبُعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ، وَفِي الثِّنْتَيْنِ نِصْفُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ، وَهَكَذَا، وَإِنَّمَا قَال هَذَا فِرَارًا مِنْ جَعْل الْوَقْصِ (19) وَهُوَ مُخَالِفٌ لِجَمِيعِ أَوْقَاصِ زَكَاةِ الْبَقَرِ، فَإِنَّ جَمِيعَ أَوْقَاصِهَا تِسْعَةٌ تِسْعَةٌ (1) .
زَكَاةُ الْغَنَمِ:
57 - زَكَاةُ الْغَنَمِ وَاجِبَةٌ بِالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ، فَمِمَّا وَرَدَ فِيهَا حَدِيثُ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ فِي زَكَاةِ الإِْبِل. (ف 46) .
وَبِنَاءً عَلَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ تُؤْخَذُ زَكَاةُ الْغَنَمِ طِبْقًا لِلْجَدْوَل التَّالِي:
عَدَدُ الْغَنَمِ
الْقَدْرُ الْوَاجِبُ
1 - 39
لاَ شَيْءَ فِيهَا
40 - 120
شَاةٌ
121 - 200
شَاتَانِ
201 - 399
3 شِيَاهٍ
400 - 499
4 شِيَاهٍ
500 - 599
5 شِيَاهٍ
وَهَكَذَا مَا زَادَ عَنْ ذَلِكَ فِي كُل مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ
__________
(1) المراجع السابقة.(23/258)
مَهْمَا كَانَ قَدْرُ الزَّائِدِ.
وَعَلَى هَذَا تَجْرِي مَذَاهِبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَأَوَّل هَذَا الْجَدْوَل وَآخِرُهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
58 - وَاخْتُلِفَ فِيهِ فِيمَا بَيْنَ (300 - 399) فَقَدْ ذَهَبَ النَّخَعِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ فِيهِ أَرْبَعَ شِيَاهٍ لاَ ثَلاَثَةً، ثُمَّ لاَ يَتَغَيَّرُ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ إِلَى (500) فَيَكُونُ فِيهَا خَمْسُ شِيَاهٍ كَقَوْل الْجُمْهُورِ، وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ جَعَل الثَّلاَثَمِائَةِ حَدًّا لِمَا تَجِبُ فِيهِ الشِّيَاهُ الثَّلاَثَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَتَغَيَّرَ الْفَرْضُ عِنْدَهَا فَيَجِبُ أَرْبَعَةٌ (1) .
وَفِي زَكَاةِ الْغَنَمِ مَسَائِل خَاصَّةٌ بِهَا.
59 - أ - مِنْهَا أَنَّ الشَّاةَ تَصْدُقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ إِخْرَاجِ الذَّكَرِ فِي زَكَاةِ الْغَنَمِ، وَلأَِنَّ الشَّاةَ إِذَا أُمِرَ بِهَا مُطْلَقًا أَجْزَأَ فِيهَا الذَّكَرُ كَالأُْضْحِيَةِ وَالْهَدْيِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْغَنَمَ إِنْ كَانَتْ إِنَاثًا كُلَّهَا أَوْ كَانَ فِيهَا ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ فَيَتَعَيَّنُ إِخْرَاجُ الإِْنَاثِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ كَذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الذَّكَرِ فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ إِذَا كَانَ فِي النِّصَابِ شَيْءٌ مِنَ الإِْنَاثِ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 18، 19، والمغني 2 / 596.
(2) ابن عابدين 2 / 19، والشرح الكبير 1 / 435، والمجموع 5 / 422، والمغني 2 / 598.(23/258)
ب - الَّذِي يُؤْخَذُ فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ هُوَ الثَّنِيَّةُ، وَالثَّنِيُّ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ - خِلاَفًا لِمَا عِنْدَ أَهْل اللُّغَةِ - مَا تَمَّ لَهُ سَنَةٌ فَمَا زَادَ، فَتُجْزِئُ اتِّفَاقًا، فَإِنْ كَانَتْ أَقَل مِنْ ذَلِكَ لَمْ تُجْزِئْ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الضَّأْنِ أَوِ الْمَعْزِ، وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال لِلسَّاعِي: اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ وَلاَ تَأْخُذْهَا مِنْهُمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجَذَعَةَ - وَهِيَ مَا تَمَّ لَهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ - إِنْ كَانَتْ مِنَ الضَّأْنِ - لاَ مِنَ الْمَعْزِ - تُجْزِئُ فِي الزَّكَاةِ، وَقَال الصَّاحِبَانِ: يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْجَذَعُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاخْتَلَفُوا فِي سِنِّ الْجَذَعِ نَحْوًا مِنِ اخْتِلاَفِ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِيهِ، وَقَال مَالِكٌ: تُجْزِئُ الْجَذَعَةُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنَ الضَّأْنِ أَوِ الْمَعْزِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي سِنِّ الْجَذَعِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: أَدْنَاهُ سَنَةٌ، وَقِيل: عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، وَقِيل: ثَمَانِيَةٌ، وَقِيل: سِتَّةٌ (1) .
مَسَائِل عَامَّةٌ فِي زَكَاةِ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ:
61 - أ - كُل جِنْسٍ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ
__________
(1) ابن عابدين على الدر 2 / 9، وفتح القدير 1 / 501، والشرح الكبير 1 / 435، وشرح المنهاج 2 / 9، والمغني 2 / 602.(23/259)
يَنْقَسِمُ إِلَى نَوْعَيْنِ، فَالإِْبِل نَوْعَانِ: الْعِرَابُ وَهِيَ الإِْبِل الْعَرَبِيَّةُ، وَهِيَ ذَاتُ سَنَامٍ وَاحِدٍ، وَالْبَخَاتِيُّ (جَمْعُ بُخْتِيَّةٍ) وَهِيَ إِبِل الْعَجَمِ وَالتُّرْكِ، وَهِيَ ذَاتُ سَنَامَيْنِ.
وَالْبَقَرُ نَوْعَانِ: الْبَقَرُ الْمُعْتَادُ، وَالْجَوَامِيسُ.
وَالْغَنَمُ: إِمَّا ضَأْنٌ، وَهِيَ ذَوَاتُ الصُّوفِ، وَاحِدَتُهَا ضَأْنَةٌ، وَإِمَّا مَعْزٌ، وَهِيَ ذَوَاتُ الشَّعْرِ، وَاحِدَتُهَا عَنْزٌ، وَالذَّكَرُ تَيْسٌ، وَيُقَال لِلذَّكَرِ وَالأُْنْثَى مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ: شَاةٌ.
وَالْمَقَادِيرُ الْوَاجِبَةُ فِي الْجَدَاوِل السَّابِقَةِ تَشْمَل مِنْ كُل جِنْسٍ نَوْعَيْهِ، وَيُضَمُّ أَحَدُهُمَا إِلَى الآْخَرِ فِي تَكْمِيل النِّصَابِ إِجْمَاعًا.
أَمَّا مِنْ أَيِّ النَّوْعَيْنِ تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ.
62 - ب - فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ فَزَكَاتُهُ مِنْهُ تُجْزِئُهُ اتِّفَاقًا، أَمَّا إِنْ أَخْرَجَ عَنِ الإِْبِل الْعِرَابِ مَثَلاً بُخْتِيَّةً بِقِيمَةِ الْعَرَبِيَّةِ فَجَائِزٌ أَيْضًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَكَذَلِكَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنْ لاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ رِعَايَةُ الْقِيمَةِ.
وَقِيل: لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ صِفَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْوَاجِبُ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي عِنْدَهُ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 18، 19، والدسوقي 1 / 435، وشرح المنهاج 2 / 9، والمغني 2 / 583، 594، 607.(23/259)
63 - ج - أَمَّا إِنِ اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ:
فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ وَإِسْحَاقُ: إِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ تَجِبُ الزَّكَاةُ مِنْ أَكْثَرِهِمَا، فَإِنِ اسْتَوَيَا فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجِبُ الْوَسَطُ أَيْ أَعْلَى الأَْدْنَى، أَوْ أَدْنَى الأَْعْلَى، وَإِذَا عُلِمَ الْوَاجِبُ فَالْقَاعِدَةُ عِنْدَهُمْ جَوَازُ شَيْءٍ بِقِيمَتِهِ سَوَاءٌ مِنَ النَّوْعِ الآْخَرِ أَوْ غَيْرِهِ (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُؤْخَذُ مِنْ كُل نَوْعٍ مَا يَخُصُّهُ، فَلَوْ كَانَتْ إِبِلُهُ كُلُّهَا مُهْرِيَّةً أَوْ أَرْحَبِيَّةً أُخِذَ الْفَرْضُ مِنْ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الأَْصْل؛ لأَِنَّهَا أَنْوَاعٌ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، فَتُؤْخَذُ زَكَاةُ كُل نَوْعٍ مِنْهُ، كَأَنْوَاعِ الثَّمَرَةِ وَالْحُبُوبِ، قَالُوا: فَلَوْ أَخَذَ عَنِ الضَّأْنِ مَعْزًا، أَوْ عَكْسَهُ جَازَ فِي الأَْصَحِّ بِشَرْطِ رِعَايَةِ الْقِيمَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُؤْخَذُ الضَّأْنُ عَنِ الْمَعْزِ دُونَ الْعَكْسِ، وَعِرَابُ الْبَقَرِ عَنِ الْجَوَامِيسِ دُونَ الْعَكْسِ؛ لأَِنَّ الضَّأْنَ وَالْعِرَابَ أَشْرَفُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ وَجَبَتْ وَاحِدَةٌ فِي نَوْعَيْنِ فَمِنَ الأَْكْثَرِ، فَإِنْ تَسَاوَيَا خُيِّرَ السَّاعِي، وَإِنْ وَجَبَ ثِنَتَانِ أَخَذَ مِنْ كُل نَوْعٍ وَاحِدَةً إِنْ تَسَاوَيَا، فَإِنْ لَمْ يَتَسَاوَيَا لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الأَْقَل إِلاَّ بِشَرْطَيْنِ: كَوْنُهُ نِصَابًا لَوِ انْفَرَدَ، وَكَوْنُهُ غَيْرَ وَقْصٍ. وَإِذَا
__________
(1) ابن عابدين 2 / 18، 19، والمغني 2 / 605، 606. .
(2) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 9، والمغني 2 / 583، 594، 607.(23/260)
زَادَتْ عَنْ ذَلِكَ وَأَمْكَنَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ كُل نَوْعٍ بِانْفِرَادِهِ أُخِذَ مِنْهُ، وَمَا لَمْ يُمْكِنْ يُضَمُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، فَيَأْخُذُ مِنَ الأَْكْثَرِ، وَيُخَيَّرُ السَّاعِي عِنْدَ التَّسَاوِي فَفِي 340 مِنَ الضَّأْنِ وَ 160 مِنَ الْمَعْزِ يُؤْخَذُ ثَلاَثٌ مِنَ الضَّأْنِ عَنْ ثَلاَثِمِائَةِ ضَأْنَةٍ، وَوَاحِدَةٌ مِنَ الْمَعْزِ عَنِ الْمِائَةِ، وَتُؤْخَذُ عَنْزٌ وَاحِدَةٌ عَنِ الأَْرْبَعِينَ ضَأْنَةً وَالسِّتِّينَ مِنَ الْمَعْزِ؛ لأَِنَّ الْمَعْزَ أَكْثَرُ فَإِنْ كَانَتْ 350 مِنَ الضَّأْنِ وَ 150 مِنَ الْمَعْزِ خُيِّرَ السَّاعِي فِي الْمِائَةِ الْمُجْتَمَعَةِ بَيْنَ ضَأْنَةٍ وَعَنْزٍ (1) .
صِفَةُ الْمَأْخُوذِ فِي زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ:
64 - يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ فِي الزَّكَاةِ مِنَ الْوَسَطِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ طَعِمَ طَعْمَ الإِْيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ رَافِدَةً عَلَيْهِ كُل عَامٍ، لاَ يُعْطِي الْهَرِمَةَ، وَلاَ الدَّرِنَةَ، وَلاَ الْمَرِيضَةَ، وَلاَ الشَّرَطَ اللَّئِيمَةَ، وَلَكِنْ مِنْ وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ (2) . الْحَدِيثَ.
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 436.
(2) حديث: " ثلاث من فعلهن طعم طعم الإيمان. . . " أخرجه أبو داود (2 / 240 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث غاضرة بن قيس، وفي إسناده انقطاع، ولكن وصله الطبراني في معجمه الصغير (1 / 334 - ط المكتب الإسلامي) .(23/260)
وَهَذَا يَقْتَضِي أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَتَجَنَّبَ السَّاعِي طَلَبَ خِيَارِ الْمَال، مَا لَمْ يُخْرِجْهُ الْمَالِكُ طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسَّاعِي: إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ (1) .
قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِسَاعِيهِ: لاَ تَأْخُذِ الرُّبَى، وَلاَ الْمَاخِضَ، وَلاَ الأَْكُولَةَ، وَلاَ فَحْل الْغَنَمِ وَالرُّبَى هِيَ الْقَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْوِلاَدَةِ؛ لأَِنَّهَا تُرَبِّي وَلَدَهَا. وَالْمَاخِضُ الْحَامِل، وَالأَْكُولَةُ الَّتِي تَأْكُل كَثِيرًا؛ لأَِنَّهَا تَكُونُ أَسْمَنَ، وَفَحْل الْغَنَمِ هُوَ الْمُعَدُّ لِلضِّرَابِ.
فَإِنْ كَانَتْ مَاشِيَةُ الرَّجُل كُلُّهَا خِيَارًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فَقِيل: يَأْخُذُ السَّاعِي مِنْ أَوْسَطِ الْمَوْجُودِ، وَقِيل: يُكَلَّفُ شِرَاءَ الْوَسَطِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ.
الأَْمْرُ الثَّانِي: أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْ شِرَارِ الْمَال، وَمِنْهُ الْمَعِيبَةُ، وَالْهَرِمَةُ، وَالْمَرِيضَةُ، لَكِنْ إِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مَعِيبَةً أَوْ هَرِمَةً أَوْ مَرِيضَةً، فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْوَاجِبِ مِنْهَا، وَقِيل: يُكَلَّفُ شِرَاءَ صَحِيحَةٍ أَخْذًا بِظَاهِرِ النَّهْيِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ، وَقِيل: يُخْرِجُ صَحِيحَةً مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ (2) .
__________
(1) حديث: " إياك وكرائم أموالهم ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 357 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.
(2) المغني 2 / 600 - 603، وابن عابدين 2 / 18، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 435، وشرح المنهاج 2 / 10.(23/261)
زَكَاةُ الْخَيْل:
65 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمْ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْخَيْل الَّتِي لَيْسَتْ لِلتِّجَارَةِ لاَ زَكَاةَ فِيهَا وَلَوْ كَانَتْ سَائِمَةً وَاتُّخِذَتْ لِلنَّمَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ عَامِلَةً أَوْ غَيْرَ عَامِلَةٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَغُلاَمِهِ صَدَقَةٌ (1) وَقَوْلِهِ: قَدْ عَفَوْتُ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْل وَالرَّقِيقِ (2) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إِلَى أَنَّ الْخَيْل إِذَا كَانَتْ سَائِمَةً ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَلَيْسَ فِي ذُكُورِهَا مُنْفَرِدَةً زَكَاةٌ، لأَِنَّهَا لاَ تَتَنَاسَل، وَكَذَلِكَ فِي الإِْنَاثِ مُنْفَرِدَاتٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الإِْنَاثِ الْمُنْفَرِدَاتِ زَكَاةٌ لأَِنَّهَا تَتَنَاسَل بِالْفَحْل الْمُسْتَعَارِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهَا تَجِبُ فِي الذُّكُورِ الْمُنْفَرِدَاتِ أَيْضًا.
وَاحْتَجَّ لَهُ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَيْل: هِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ فَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَال فِي الَّذِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ: وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلاَ فِي
__________
(1) حديث: " ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 327 - ط السلفية) ومسلم (2 / 676 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، ولفظ مسلم: " وعبده ".
(2) حديث: " قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق ". أخرجه الترمذي (3 / 16 - ط الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب، ونقل عن البخاري أنه صححه.(23/261)
ظُهُورِهَا (1) فَحَقُّ ظُهُورِهَا الْعَارِيَّةُ، وَحَقُّ رِقَابِهَا الزَّكَاةُ، وَبِمَا وَرَدَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أُمَيَّةَ اشْتَرَى مِنْ أَهْل الْيَمَنِ فَرَسًا أُنْثَى بِمِائَةِ قَلُوصٍ، فَنَدِمَ الْبَائِعُ، فَلَحِقَ بِعُمَرَ، فَقَال: غَصَبَنِي يَعْلَى وَأَخُوهُ فَرَسًا لِي، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى أَنِ الْحَقْ بِي، فَأَتَاهُ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَال: إِنَّ الْخَيْل لَتَبْلُغُ هَذَا عِنْدَكُمْ؟ ، مَا عَلِمْتُ أَنَّ فَرَسًا يَبْلُغُ هَذَا. فَنَأْخُذُ عَنْ كُل أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةً وَلاَ نَأْخُذُ مِنَ الْخَيْل شَيْئًا؟ ، خُذْ مِنْ كُل فَرَسٍ دِينَارًا. فَقَرَّرَ عَلَى الْخَيْل دِينَارًا دِينَارًا. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُصَدِّقُ الْخَيْل، أَيْ يَأْخُذُ زَكَاةً مِنْهَا، ثُمَّ قَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ شَاءَ الْمُزَكِّي أَعْطَى عَنْ كُل فَرَسٍ دِينَارًا، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَ خَيْلَهُ وَأَعْطَى عَنْ كُل مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ (2) .
زَكَاةُ سَائِرِ أَصْنَافِ الْحَيَوَانِ:
66 - ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ، مَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ، فَلَيْسَ
__________
(1) حديث: " الخيل لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 45 - 46 - ط السلفية) ومسلم (2 / 683 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) المغني 2 / 620، وفتح القدير 1 / 502، 503، وشرح المنهاج 2 / 3، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 435 وما بعدها.(23/262)
فِي الْبِغَال وَالْحَمِيرِ وَغَيْرِهَا زَكَاةٌ (1) . وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الْخَيْل فَقَال: هِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ. . . الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ، ثُمَّ سُئِل عَنِ الْحَمِيرِ، فَقَال: لَمْ يَنْزِل عَلَيَّ فِيهَا إِلاَّ هَذِهِ الآْيَةُ الْفَاذَّةُ: {فَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (2) .
ثَانِيًا: زَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْعُمُلاَتِ الْمَعْدِنِيَّةِ وَالْوَرَقِيَّةِ
67 - أ - زَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
زَكَاةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاجِبَةٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَِنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (3) . مَعَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ (4) . وَقَوْلِهِ: مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ لاَ يُؤَدِّي مِنْهَا حَقًّا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ
__________
(1) المغني 2 / 620، والمجموع 5 / 339.
(2) حديث: " سئل عن الخيل "، شطر من الحديث المتقدم في ف / 65.
(3) سورة التوبة / 34، 35.
(4) حديث: " ما أديت زكاته فليس بكنز " تقدم ف / 4.(23/262)
وَظَهْرُهُ. . . الْحَدِيثَ. (1)
فَالْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي الآْيَةِ لِلْكَنْزِ مُطْلَقًا بَيَّنَ الْحَدِيثَ أَنَّهُ لِمَنْ مَنَعَ زَكَاةَ النَّقْدَيْنِ، فَتَقَيَّدَ بِهِ.
مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
68 - تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِذَا تَمَّتِ الشُّرُوطُ الْعَامَّةُ لِلزَّكَاةِ الْمُتَقَدِّمُ بَيَانُهَا مِنَ الْحَوْل وَالنِّصَابِ وَغَيْرِهِمَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَوَاءٌ الْمَضْرُوبُ مِنْهَا دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ (وَقَدْ يُسَمَّى الْعَيْنَ، وَالْمَسْكُوكَ) ، وَفِي التِّبْرِ وَهُوَ غَيْرُ الْمَضْرُوبِ، وَالسَّبَائِكِ، وَفِي الْمَصُوغِ مِنْهَا عَلَى شَكْل آنِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا.
وَلاَ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ شَيْئَانِ:
الأَْوَّل: الْحُلِيُّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّذِي يَعُدُّهُ مَالِكُهُ لاِسْتِعْمَالِهِ فِي التَّحَلِّي اسْتِعْمَالاً مُبَاحًا. قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَلَوْ لإِِعَارَةٍ أَوْ إِجَارَةٍ، فَلاَ يَكُونُ فِيهِ زَكَاةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُقْتَنَى لِلاِسْتِعْمَال كَالْمَلاَبِسِ الْخَاصَّةِ، وَكَالْبَقَرِ الْعَوَامِل.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ مُقَابِلٌ لِلأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ، كَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (2) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل
__________
(1) حديث: " ما من صاحب ذهب ولا فضة ". أخرجه مسلم (2 / 680 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) فتح القدير 1 / 524، والشرح الكبير للدردير 1 / 459، والقليوبي 2 / 22.(23/263)
الْقَوْل فِي وُجُوبِهَا وَبَيَانِ الأَْدِلَّةِ فِي مُصْطَلَحِ (حُلِيّ)
أَمَّا الْمَقَادِيرُ الْوَاجِبَةُ وَالنِّصَابُ فَتَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا مِنْ هَذَا الْبَحْثِ.
الثَّانِي: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ الْمُسْتَخْرَجَانِ مِنَ الْمَعَادِنِ (مِنْ بَاطِنِ الأَْرْضِ) ، فَيَجِبُ فِيهِمَا الزَّكَاةُ بِمُجَرَّدِ الاِسْتِخْرَاجِ إِذَا بَلَغَ الْمُسْتَخْرَجُ نِصَابًا بِدُونِ اشْتِرَاطِ حَوْلٍ، وَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ.
نِصَابُ زَكَاةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْقَدْرُ الْوَاجِبُ فِيهِمَا:
69 - نِصَابُ الذَّهَبِ: نِصَابُ الذَّهَبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عِشْرُونَ مِثْقَالاً، فَلاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي أَقَل مِنْهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِمَالِكِهَا فِضَّةٌ أَوْ عُرُوضُ تِجَارَةٍ يَكْمُل بِهِمَا النِّصَابُ عِنْدَ مَنْ قَال ذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَلَمْ يُنْقَل خِلاَفٌ فِي ذَلِكَ إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ النِّصَابَ أَرْبَعُونَ مِثْقَالاً (1) .
وَمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُوسٍ، وَالزُّهْرِيِّ وَسُلَيْمَانِ بْنِ حَرْبٍ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ أَنَّ نِصَابَ الذَّهَبِ مُعْتَبَرٌ بِالْفِضَّةِ، فَمَا كَانَ مِنَ الذَّهَبِ قِيمَتُهُ 200 دِرْهَمٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، سَوَاءٌ كَانَ أَقَل مِنْ (20) مِثْقَالاً أَوْ مُسَاوِيَةً لَهَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا،
__________
(1) المثقال عيار إسلامي يساوي وزن درهم وثلاثة أسباع درهم أو وزن 100 (مائة) حبة شعير (العناية 1 / 24) أو 4. 25 غرامًا، والدينار اسم للعملة الذهبية التي وزنها مثقال (انظر مصطلح: مقادير) .(23/263)
قَالُوا: لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْدِيرٌ فِي نِصَابِ الذَّهَبِ، فَيُحْمَل نِصَابُهُ عَلَى نِصَابِ الْفِضَّةِ (1) .
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ فِي أَقَل مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالاً مِنَ الذَّهَبِ، وَلاَ فِي أَقَل مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ صَدَقَةٌ (2) .
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُل عِشْرِينَ دِينَارًا فَصَاعِدًا نِصْفَ دِينَارٍ، وَمِنَ الأَْرْبَعِينَ دِينَارًا (3) .
نِصَابُ الْفِضَّةِ:
70 - يُقَال لِلْفِضَّةِ الْمَضْرُوبَةِ (وَرِقٌ) (وَرِقَّةٌ) ، وَقِيل: تُسَمَّى بِذَلِكَ مَضْرُوبَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبَةٍ (4) ، وَنِصَابُ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ (5)
__________
(1) المغني 3 / 4، وفتح القدير 1 / 524، والدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 455، وشرح المنهاج 2 / 2.
(2) حديث: " ليس في أقل من عشرين مثقالاً من الذهب. . . " أخرجه الدارقطني (2 / 93 - ط دار المحاسن) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال ابن حجر: إسناده ضعيف، كذا في التلخيص الحبير (2 / 173 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) حديث: " كان يأخذ من كل عشرين دينارًا فصاعدًا ". أخرجه ابن ماجه (1 / 571 - ط الحلبي) وضعفه البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 316 - ط دائرة الجنان) .
(4) المصباح مادة: (ورق) .
(5) الدرهم الشرعي الذي يقدر به نصاب يساوي 7 / 10 (سبعة أعشار مثقال) فيكون ثلاثة غرامات تقريبًا، (انظر مصطلح: مقادير) .(23/264)
بِالإِْجْمَاعِ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ (1) وَالأُْوقِيَّةُ 40 (أَرْبَعُونَ) دِرْهَمًا، وَفِي كِتَابِ أَنَسٍ الْمَرْفُوعِ وَفِي الرِّقَّةِ رُبُعُ الْعُشْرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا (2) .
ثُمَّ الدِّرْهَمُ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الدِّرْهَمُ الشَّرْعِيُّ، وَمَا زَادَ عَنْهُ أَوْ نَقَصَ فَبِالْوَزْنِ.
وَقِيل عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ كُل أَهْل بَلَدٍ دَرَاهِمُهُمْ بِالْعَدَدِ (3) .
النِّصَابُ فِي الْمَغْشُوشِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
71 - الْمَغْشُوشُ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، وَهُوَ الْمَسْبُوكُ مَعَ غَيْرِهِ.
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ خَالِصُهُ نِصَابًا، لِمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ (4) .
فَإِذَا بَلَغَهُ أَخْرَجَ الْوَاجِبَ خَالِصًا أَوْ أَخْرَجَ مِنَ
__________
(1) حديث: " ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 323 - ط السلفية) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) حديث: " في الرقة ربع العشر ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 318 - ط السلفية) من حديث أنس.
(3) شرح فتح القدير (1 / 524، 522، وابن عابدين 2 / 30، والمغني 3 / 2، والشرح الكبير 1 / 455.
(4) سبق تخريجه ف / 70.(23/264)
الْمَغْشُوشِ مَا يَعْلَمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى خَالِصٍ بِقَدْرِ الْوَاجِبِ مَعَ مُرَاعَاةِ دَرَجَةِ الْجَوْدَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْوَرِقِ الْمَضْرُوبِ الْفِضَّةَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْفِضَّةِ، فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَأَنَّهُ كُلُّهُ فِضَّةً، وَلاَ تُزَكَّى زَكَاةَ الْعُرُوضِ، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ، قَالُوا: لأَِنَّ الدَّرَاهِمَ لاَ تَخْلُو مِنْ قَلِيل الْغِشِّ، لأَِنَّهَا لاَ تَنْطَبِعُ إِلاَّ بِهِ، وَالْغَلَبَةُ أَنْ تَزِيدَ الْفِضَّةُ عَلَى النِّصْفِ. أَمَّا إِنْ كَانَ الْغِشُّ غَالِبًا فَلاَ يَكُونُ لَهَا حُكْمُ الْفِضَّةِ بَل حُكْمُ الْعُرُوضِ، فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا إِلاَّ إِنْ نَوَاهَا لِلتِّجَارَةِ، وَبَلَغَتْ نِصَابًا بِالْقِيمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا لِلتِّجَارَةِ فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ يُخَلِّصُ مِنْهَا فِضَّةً تَبْلُغُ نِصَابًا وَجَبَتْ زَكَاتُهَا، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ الْمَغْشُوشَةُ رَائِجَةً كَرَوَاجِ غَيْرِ الْمَغْشُوشَةِ فَإِنَّهَا تُعَامَل مِثْل الْكَامِلَةِ سَوَاءً، فَتَكُونُ فِيهَا الزَّكَاةُ إِنْ بَلَغَ وَزْنُهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الْغِشِّ نِصَابًا، أَمَّا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ رَائِجَةٍ فَالْعِبْرَةُ بِمَا فِيهَا مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ الْخَالِصَيْنِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّصْفِيَةِ، فَإِنْ بَلَغَ نِصَابًا زُكِّيَ وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ فِيمَا كَانَ الْغِشُّ فِيهِ نُحَاسًا أَوْ غَيْرَهُ، أَمَّا الذَّهَبُ الْمَغْشُوشُ بِالْفِضَّةِ فَيُعْتَبَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كُل جِنْسٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ
__________
(1) فتح القدير 1 / 523، والشرح الكبير والدسوقي 1 / 456، وشرح المنهاج 2 / 22، والمجموع 6 / 8، والمغني 3 / 5، وشرح المنهاج 1 / 402.(23/265)
أَحَدُهُمَا نِصَابًا زُكِّيَ الْجَمِيعُ وَلَوْ لَمْ يَبْلُغِ الآْخَرُ نِصَابًا، وَكَذَا إِنْ كَانَا بِضَمِّ أَحَدِهِمَا إِلَى الآْخَرِ يَكْمُل مِنْهُمَا نِصَابٌ، كَأَنْ يَكُونَ فِيهِ ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِ نِصَابِ ذَهَبٍ وَرُبُعُ نِصَابِ فِضَّةٍ، وَإِلاَّ فَلاَ زَكَاةَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ بَلَغَ الذَّهَبُ الْمَخْلُوطُ بِالْفِضَّةِ نِصَابَ الذَّهَبِ فَفِيهِ زَكَاةُ الذَّهَبِ، وَإِنْ بَلَغَتِ الْفِضَّةُ نِصَابَ الْفِضَّةِ فَفِيهَا زَكَاةُ الْفِضَّةِ إِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْفِضَّةِ، أَمَّا إِنْ كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلذَّهَبِ فَهُوَ كُلُّهُ ذَهَبٌ، لأَِنَّهُ أَعَزُّ وَأَغْلَى قِيمَةً (1) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
الْقَدْرُ الْوَاجِبُ:
72 - تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِمَّا وَجَبَتْ فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِنِسْبَةِ رُبُعِ الْعُشْرِ (5. 2)
وَهَكَذَا بِالإِْجْمَاعِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْصِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ الصَّاحِبَانِ، إِلَى أَنَّهُ لاَ وَقْصَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ (210) دَرَاهِمَ فَفِي الْمِائَتَيْنِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَفِي الزَّائِدِ بِحِسَابِهِ، وَهُوَ فِي الْمِثَال رُبُعُ دِرْهَمٍ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا كَانَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ (2) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 523، وشرح المنهاج 2 / 22، والمغني 3 / 6.
(2) حديث: " إذا كانت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم، فما زاد فبحساب ذلك ". أخرجه أبو داود (2 / 228 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث علي بن أبي طالب، وصححه ابن القطان كما في نصب الراية (3 / 353 - ط المجلس العلمي) .(23/265)
وَلأَِنَّ الْوَقْصَ فِي السَّائِمَةِ لِتَجَنُّبِ التَّشْقِيصِ، وَلاَ يَضُرُّ فِي النَّقْدَيْنِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الزَّائِدَ عَلَى النِّصَابِ عَفْوٌ لاَ شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ خُمُسَ نِصَابٍ. فَإِذَا بَلَغَ الزَّائِدُ فِي الْفِضَّةِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَيَكُونُ فِيهَا دِرْهَمٌ، ثُمَّ لاَ شَيْءَ فِي الزَّائِدِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَهَكَذَا، وَكَذَا فِي الذَّهَبِ لاَ شَيْءَ فِي الزَّائِدِ عَلَى الْعِشْرِينَ مِثْقَالاً حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعَةَ مَثَاقِيل (1) . وَاحْتَجَّ لَهُ ابْنُ الْهُمَامِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مَرْفُوعًا لَيْسَ فِيمَا دُونَ الأَْرْبَعِينَ صَدَقَةٌ (2) .
وَحَدِيثِ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ لاَ يَأْخُذَ مِنَ الْكُسُورِ شَيْئًا (3) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 520، 521، وابن عابدين 2 / 31، والشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 455، وشرح المنهاج 2 / 22، والمغني 3 / 6.
(2) حديث: " ليس فيما دون الأربعين صدقة ". أورده الزيلعي في نصب الراية (2 / 367 - ط المجلس العلمي) وذكر أن عبد الحق الإشبيلي أورده في الأحكام بهذا اللفظ، وأنه لم يعزه إلى أحد، وقال الزيلعي: والموجود في كتاب عمرو بن حزم: " وفي كل خمس أواق من الورق خمسة دراه وهو في المستدرك للحاكم (1 / 396 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الإمام أحمد كما في نصب الراية.
(3) حديث: " أمر معاذًا أن لا يأخذ من الكسور شيئا ". أخرجه الدارقطني (2 / 93 - دار المحاسن) وأعله بضعف راو فيه وبالانقطاع بين معاذ والراوي عنه.(23/266)
ب - الزَّكَاةُ فِي الْفُلُوسِ:
73 - الْفُلُوسُ مَا صُنِعَ مِنَ النُّقُودِ مِنْ مَعْدِنٍ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفُلُوسَ إِنْ كَانَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً أَوْ سِلَعًا لِلتِّجَارَةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهَا، وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
وَحُكْمُ الْفُلُوسِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ حُكْمُ الْعُرُوضِ. نَقَل الْبُنَانِيِّ عَنِ الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ حَال الْحَوْل عَلَى فُلُوسٍ عِنْدَهُ قِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُدِيرًا فَيُقَوِّمَهَا كَالْعُرُوضِ. قَالُوا: وَيُجْزِئُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهَا مِنْهَا (أَيْ فُلُوسًا) عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِي قَوْلٍ: لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهَا مِنَ الْعُرُوضِ، وَالْعُرُوضُ يَجِبُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهَا بِالْقِيمَةِ دَنَانِيرَ مِنَ الذَّهَبِ، أَوْ دَرَاهِمَ مِنَ الْفِضَّةِ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَتِ الْفُلُوسُ لِلنَّفَقَةِ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا، كَعُرُوضِ الْقُنْيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ كَاَلَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ تُزَكَّى زَكَاةَ الْقِيمَةِ، كَسَائِرِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 32، والفتاوى الهندية 1 / 179.
(2) البناني بهامش الزرقاني 2 / 141، والدسوقي 1 / 419 وقد لاحظ الشيخ محمد حسنين مخلوف أن قول المالكية المذكور حين كان التعامل ينفرد بالذهب والفضة، فإن في زكاتهما ما يكفي الفقراء، أما حيث انتهى التعامل بهما أو قل، فحاجة الفقير تقتضي إلحاق الفلوس بها نظرا للفقراء. والله أعلم. (التبيان في زكاة الأثمان للش(23/266)
عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَلاَ يُجْزِئُ إِخْرَاجُ زَكَاتِهَا مِنْهَا بَل تُخْرَجُ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، كَقَوْلِهِمْ فِي الْعُرُوضِ (1) .
زَكَاةُ الْمَوَادِّ الثَّمِينَةِ الأُْخْرَى:
74 - لاَ زَكَاةَ فِي الْمَوَادِّ الثَّمِينَةِ الْمُقْتَنَاةِ إِذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَذَلِكَ كَالْجَوَاهِرِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالزُّمُرُّدِ وَالْفَيْرُوزِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَا مَا صُنِعَ مِنَ التُّحَفِ الثَّمِينَةِ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ صُفْرٍ أَوْ زُجَاجٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ حَسُنَتْ صَنْعَتُهَا وَكَثُرَتْ قِيمَتُهَا، فَإِنْ كَانَتْ عُرُوضَ تِجَارَةٍ فَفِيهَا الزَّكَاةُ عَلَى مَا يَأْتِي (2) .
ج - زَكَاةُ الأَْوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ (وَرَقِ النَّوْطِ) :
75 - إِنَّ مِمَّا لاَ شَكَّ فِيهِ أَنَّ الزَّكَاةَ فِي الأَْوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ وَاجِبَةٌ، نَظَرًا لأَِنَّهَا عَامَّةُ أَمْوَال النَّاسِ وَرُءُوسُ أَمْوَال التِّجَارَاتِ وَالشَّرِكَاتِ وَغَالِبُ الْمُدَّخَرَاتِ، فَلَوْ قِيل بِعَدَمِ الزَّكَاةِ فِيهَا لأََدَّى إِلَى ضَيَاعِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِل وَالْمَحْرُومِ} (3) وَلاَ سِيَّمَا أَنَّهَا أَصْبَحَتْ عُمْلَةً نَقْدِيَّةً مُتَوَاضَعًا عَلَيْهَا فِي
__________
(1) كشاف القناع 2 / 235 الرياض مكتبة النصر الحديثة، ومطالب أولي النهى 2 / 89.
(2) المجموع 6 / 6.
(3) سورة الذاريات / 19.(23/267)
جَمِيعِ أَنْحَاءِ الْعَالَمِ، وَيَنْبَغِي تَقْدِيرُ النِّصَابِ فِيهَا بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ (1) .
ضَمُّ الذَّهَبِ إِلَى الْفِضَّةِ فِي تَكْمِيل النِّصَابِ، وَضَمُّ عُرُوضِ التِّجَارَةِ إِلَيْهِمَا:
76 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْل الثَّوْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ) إِلَى أَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إِلَى الآْخَرِ فِي تَكْمِيل النِّصَابِ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ مِثْقَالاً مِنَ الذَّهَبِ، وَمِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا، فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهِمَا، وَكَذَا إِنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا نِصَابٌ، وَمِنَ الآْخَرِ مَالاً يَبْلُغُ النِّصَابَ يُزَكَّيَانِ جَمِيعًا، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ نَفْعَهُمَا مُتَّحِدٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمَا ثَمَنَانِ، فَمِنْهُمَا الْقِيَمُ وَأُرُوشُ الْجِنَايَاتِ، وَيُتَّخَذَانِ لِلتَّحَلِّي.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْل أَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي ثَوْرٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ فِي أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ الزَّكَاةُ حَتَّى يَكْمُل وَحْدَهُ نِصَابًا، لِعُمُومِ حَدِيثِ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ (2) .
وَالْقَائِلُونَ بِالضَّمِّ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الضَّمَّ يَكُونُ بِالأَْجْزَاءِ فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ مِثْقَالاً ذَهَبًا، وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا لَوَجَبَتِ الزَّكَاةُ؛ لأَِنَّ الأَْوَّل
__________
(1) العقود الياقوتية ص 213.
(2) حديث: " ليس فيما دون. . . " سبق تخريجه ف / 70.(23/267)
نِصَابٌ، وَالثَّانِيَ 25 نِصَابٌ، فَيَكْمُل مِنْهُمَا نِصَابٌ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عِنْدَهُ ثُلُثُ نِصَابٍ مِنْ أَحَدِهِمَا وَثُلُثَانِ مِنَ الآْخَرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إِلَى الآْخَرِ بِالتَّقْوِيمِ فِي أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ بِمَا هُوَ أَحَظُّ لِلْفُقَرَاءِ، أَيْ يُضَمُّ الأَْكْثَرُ إِلَى الأَْقَل، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ نِصْفُ نِصَابِ فِضَّةٍ، وَرُبُعُ نِصَابِ ذَهَبٍ تُسَاوِي قِيمَتُهُ نِصْفَ نِصَابِ فِضَّةٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ.
أَمَّا الْعُرُوض فَتُضَمُّ قِيمَتُهَا إِلَى الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَيَكْمُل بِهَا نِصَابُ كُلٍّ مِنْهُمَا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا (1) . وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْعُمْلَةُ النَّقْدِيَّةُ الْمُتَدَاوَلَةُ.
ثَالِثًا: زَكَاةُ عُرُوضِ التِّجَارَةِ:
77 - التِّجَارَةُ تَقْلِيبُ الْمَال بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِغَرَضِ تَحْصِيل الرِّبْحِ (2) .
وَالْعَرْضُ بِسُكُونِ الرَّاءِ، هُوَ كُل مَالٍ سِوَى النَّقْدَيْنِ، قَال الْجَوْهَرِيُّ: الْعَرْضُ الْمَتَاعُ، وَكُل شَيْءٍ فَهُوَ عَرْضٌ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَإِنَّهُمَا عَيْنٌ، وَقَال أَبُو عُبَيْدٍ: الْعُرُوض الأَْمْتِعَةُ الَّتِي لاَ يَدْخُلُهَا كَيْلٌ وَلاَ وَزْنٌ وَلاَ يَكُونُ حَيَوَانًا وَلاَ عَقَارًا.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 34، والمجموع 6 / 18، والمغني 3 / 2، 3، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 455.
(2) شرح المنهاج 2 / 27.(23/268)
أَمَّا الْعَرَضُ بِفَتْحَتَيْنِ فَهُوَ شَامِلٌ لِكُل أَنْوَاعِ الْمَال، قَل أَوْ كَثُرَ، قَال أَبُو عُبَيْدَةَ: جَمِيعُ مَتَاعِ الدُّنْيَا عَرَضٌ (1) . وَفِي الْحَدِيثِ: لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ (2) .
وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ جَمْعُ الْعَرْضِ بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَهِيَ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ كُل مَا أُعِدَّ لِلتِّجَارَةِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ سَوَاءٌ مِنْ جِنْسٍ تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ كَالإِْبِل وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ، أَوْ لاَ، كَالثِّيَابِ وَالْحَمِيرِ وَالْبِغَال (3) .
حُكْمُ الزَّكَاةِ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ:
78 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُفْتَى بِهِ هُوَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} (4)
وَبِحَدِيثِ سَمُرَةَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الَّذِي نَعُدُّ لِلْبَيْعِ (5) .
__________
(1) لسان العرب.
(2) حديث: " ليس الغنى عن كثرة العرض ". أخرجه البخاري (الفتح11 / 271 - ط السلفية) ومسلم (2 / 726 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) شرح فتح القدير 1 / 526.
(4) سورة البقرة / 267.
(5) حديث سمرة: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع ". أخرجه أبو داود (2 / 212 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال ابن حجر: في إسناده جهالة، كذا في التلخيص (2 / 179 - طبع شركة الطباعة الفنية) .(23/268)
وَحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: فِي الإِْبِل صَدَقَتُهَا، وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهَا (1) وَقَال حَمَاسٌ: مَرَّ بِي عُمَرُ فَقَال: أَدِّ زَكَاةَ مَالِكَ. فَقُلْتُ: مَا لِي إِلاَّ جِعَابُ أُدْمٍ. فَقَال: قَوِّمْهَا ثُمَّ أَدِّ زَكَاتَهَا. وَلأَِنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلنَّمَاءِ بِإِعْدَادِ صَاحِبِهَا فَأَشْبَهَتِ الْمُعَدَّ لِذَلِكَ خِلْقَةً كَالسَّوَائِمِ وَالنَّقْدَيْنِ.
شُرُوطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعُرُوضِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ لاَ يَكُونَ لِزَكَاتِهَا سَبَبٌ آخَرُ غَيْرُ كَوْنِهَا عُرُوضَ تِجَارَةٍ:
أ - السَّوَائِمُ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ:
79 - فَلَوْ كَانَ لَدَيْهِ سَوَائِمُ لِلتِّجَارَةِ بَلَغَتْ نِصَابًا، فَلاَ تَجْتَمِعُ زَكَاتَانِ إِجْمَاعًا، لِحَدِيثِ: لاَ ثَنْيَ فِي الصَّدَقَةِ (2) بَل يَكُونُ فِيهَا زَكَاةُ الْعَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ، كَأَنْ كَانَ عِنْدَهُ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا شَاةٌ، وَلاَ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ، فَإِنْ كَانَتْ أَقَل مِنْ خَمْسٍ فَإِنَّهَا تُقَوَّمُ فَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا مِنَ الأَْثْمَانِ وَجَبَتْ فِيهَا زَكَاةُ الْقِيمَةِ.
وَإِنَّمَا قَدَّمُوا زَكَاةَ الْعَيْنِ عَلَى زَكَاةِ التِّجَارَةِ لأَِنَّ
__________
(1) حديث أبي ذر مرفوعًا: " في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقتها ". أخرجه الدارقطني (2 / 101 طبع دار المحاسن) من حديث أبي ذر وقال ابن حجر: إسناده لا بأس به، كذا في التلخيص (2 / 179 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " لا ثنى في الصدقة " أخرجه ابن أبي شيبة (3 / 218 - ط الدار السلفية) من حديث فاطمة.(23/269)
زَكَاةَ الْعَيْنِ أَقْوَى ثُبُوتًا لاِنْعِقَادِ الإِْجْمَاعِ عَلَيْهَا، وَاخْتِصَاصِ الْعَيْنِ بِهَا، فَكَانَتْ أَوْلَى.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا تُزَكَّى زَكَاةَ التِّجَارَةِ لأَِنَّهَا أَحَظُّ لِلْمَسَاكِينِ؛ لأَِنَّهَا تَجِبُ فِيمَا زَادَ بِالْحِسَابِ، لَكِنْ قَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ نِصَابَ سَائِمَةٍ وَلَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ نِصَابًا مِنَ الأَْثْمَانِ فَلاَ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ، بَل تَجِبُ زَكَاةُ السَّائِمَةِ، كَمَنْ عِنْدَهُ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل لِلتِّجَارَةِ لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَفِيهَا شَاةٌ.
وَنَظِيرُ هَذَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ غَلَّةُ مَال التِّجَارَةِ، كَأَنْ يَكُونَ ثَمَرًا مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إِنْ كَانَ الشَّجَرُ لِلتِّجَارَةِ (1) .
ب - الْحُلِيُّ وَالْمَصْنُوعَاتُ الذَّهَبِيَّةُ وَالْفِضِّيَّةُ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ:
80 - أَمَّا الْمَصُوغَاتُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا زَكَاةٌ إِنْ كَانَتْ أَقَل مِنْ نِصَابٍ بِالْوَزْنِ، وَلَوْ زَادَتْ قِيمَتُهَا عَنْ نِصَابٍ بِسَبَبِ الْجَوْدَةِ أَوِ الصَّنْعَةِ، وَيُزَكَّى عَلَى أَسَاسِ الْقِيمَةِ الشَّامِلَةِ أَيْضًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُرَصَّعَةِ (2) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الصِّنَاعَةَ الْمُحَرَّمَةَ
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 472، والمغني 3 / 34، 35، وشرح المنهاج 2 / 31، والمجموع 6 / 50.
(2) الدسوقي 1 / 472، 461.(23/269)
لاَ تُقَوَّمُ لِعَدَمِ الاِعْتِدَادِ بِهَا شَرْعًا، أَمَّا الصَّنْعَةُ الْمُبَاحَةُ فَتَدْخُل فِي التَّقْوِيمِ إِنْ كَانَ الْحُلِيُّ لِلتِّجَارَةِ، وَيُعْتَبَرُ النِّصَابُ بِالْقِيمَةِ كَسَائِرِ أَمْوَال التِّجَارَةِ، وَيُقَوَّمُ بِنَقْدٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ قُوِّمَ بِفِضَّةٍ، وَبِالْعَكْسِ، إِنْ كَانَ تَقْوِيمُهُ بِنَقْدٍ آخَرَ أَحَظَّ لِلْفُقَرَاءِ، أَوْ نَقَصَ عَنْ نِصَابِهِ، كَخَوَاتِمَ فِضَّةٍ لِتِجَارَةٍ زِنَتُهَا (مِائَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا) وَقِيمَتُهَا (عِشْرُونَ) مِثْقَالاً ذَهَبًا، فَيُزَكِّيهَا بِرُبُعِ عُشْرِ قِيمَتِهَا، فَإِنْ كَانَ وَزْنُهَا (مِائَتَيْ) دِرْهَمٍ، وَقِيمَتُهَا تِسْعَةَ عَشَرَ مِثْقَالاً وَجَبَ أَنْ لاَ تُقَوَّمَ، وَأَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِهَا (1) .
وَيَظْهَرُ مِنْ كَلاَمِ ابْنِ عَابِدِينَ أَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْحُلِيِّ وَالْمَصْنُوعِ مِنَ النَّقْدَيْنِ بِالْوَزْنِ مِنْ حَيْثُ النِّصَابُ وَمِنْ حَيْثُ قَدْرُ الْمُخْرَجِ، وَعِنْدَ زُفَرَ الْمُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الأَْنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي مَصُوغِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّذِي لِلتِّجَارَةِ هَل يُزَكَّى زَكَاةَ الْعَيْنِ أَوْ زَكَاةَ الْقِيمَةِ قَوْلاَنِ (3) .
ج - الأَْرَاضِي الزِّرَاعِيَّةُ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا:
81 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 1 / 404، 405.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 30.
(3) المجموع 6 / 53.(23/270)
الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، وَلاَ يَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَةِ الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ وَلَوْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ قَدْ زَرَعَ الأَْرْضَ الْعُشْرِيَّةَ فِعْلاً وَوَجَبَ فِيهَا الْعُشْرُ؛ لِئَلاَّ يَجْتَمِعَ حَقَّانِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي مَالٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا تَجِبُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ فِيهَا لِعَدَمِ وُجُوبِ الْعُشْرِ، فَلَمْ يُوجَدِ الْمَانِعُ، بِخِلاَفِ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهَا وَلَوْ عُطِّلَتْ أَيْ لأَِنَّهُ كَالأُْجْرَةِ (1) .
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَيَجِبُ زَكَاةُ رَقَبَةِ الأَْرْضِ كَسَائِرِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ بِكُل حَالٍ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِي كَيْفِيَّةِ تَزْكِيَةِ الْغَلَّةِ.
فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ النَّاتِجَ مِنَ الأَْرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ لاَ زَكَاةَ فِي قِيمَتِهِ فِي عَامِهِ اتِّفَاقًا إِنْ كَانَتْ قَدْ وَجَبَتْ فِيهِ زَكَاةُ النَّبَاتِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ لِنَقْصِهِ عَنْ نِصَابِ الزَّرْعِ أَوِ الثَّمَرِ، تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، وَكَذَا فِي عَامِهِ الثَّانِي وَمَا بَعْدَهُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُزَكَّى الْجَمِيعُ زَكَاةَ الْقِيمَةِ، لأَِنَّهُ كُلَّهُ مَال تِجَارَةٍ، فَتَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، كَالسَّائِمَةِ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَيُزَكَّى التِّبْنُ أَيْضًا وَالأَْغْصَانُ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 10، 15.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 475.(23/270)
وَالأَْوْرَاقُ وَغَيْرُهَا إِنْ كَانَ لَهَا قِيمَةٌ، كَسَائِرِ مَال التِّجَارَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِي الْعُشْرِيَّةِ الْعُشْرُ وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ، لأَِنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ فِي الْقِيمَةِ، وَالْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ، فَلَمْ يَجْتَمِعَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ؛ وَلأَِنَّ زَكَاةَ الْعُشْرِ فِي الْغَلَّةِ أَحَظُّ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ زَكَاةِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهَا رُبُعُ الْعُشْرِ، وَمِنْ هُنَا فَارَقَتْ عِنْدَهُمْ زَكَاةَ السَّائِمَةِ الْمُتَّجَرِ بِهَا، فَإِنَّ زَكَاةَ السَّوْمِ أَقَل مِنْ زَكَاةِ التِّجَارَةِ (2) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: تَمَلُّكُ الْعَرْضِ بِمُعَاوَضَةٍ:
82 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَمَلَّكَ الْعَرْضَ بِمُعَاوَضَةٍ كَشِرَاءٍ بِنَقْدٍ أَوْ عَرْضٍ أَوْ بِدَيْنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَهْرًا أَوْ عِوَضَ خُلْعٍ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَمُحَمَّدٍ، فَلَوْ مَلَكَهُ بِإِرْثٍ أَوْ بِهِبَةٍ أَوِ احْتِطَابٍ أَوِ اسْتِرْدَادٍ بِعَيْبٍ وَاسْتِغْلاَل أَرْضِهِ بِالزِّرَاعَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ.
قَالُوا: لأَِنَّ التِّجَارَةَ كَسْبُ الْمَال بِبَدَلٍ هُوَ مَالٌ، وَقَبُول الْهِبَةِ مَثَلاً اكْتِسَابٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ أَصْلاً.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ أَنَّ الْمَهْرَ
__________
(1) المنهاج وشرحه والقليوبي 2 / 30، والمغني 3 / 35.
(2) شرح منتهى الإرادات 1 / 408، (وجرى فيه على قول القاضي، أما المغني فجرى على القول الثاني) .(23/271)
وَعِوَضَ الْخُلْعِ لاَ يُزَكَّيَانِ زَكَاةَ التِّجَارَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ: الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَلَكَهُ بِفِعْلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بِمُعَاوَضَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ أَفْعَالِهِ، كَالاِحْتِطَابِ وَقَبُول الْهِبَةِ، فَإِنْ دَخَل فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، كَالْمَوْرُوثِ، أَوْ مُضِيِّ حَوْل التَّعْرِيفِ فِي اللُّقَطَةِ، فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ يُعْتَبَرُ أَنْ يَمْلِكَ الْعَرْضَ بِفِعْلِهِ، وَلاَ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ، بَل أَيُّ عَرْضٍ نَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لَهَا (1) ، لِحَدِيثِ سَمُرَةَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الَّذِي نَعُدُّ لِلْبَيْعِ (2) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: نِيَّةُ التِّجَارَةِ:
83 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي زَكَاةِ مَال التِّجَارَةِ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَوَى عِنْدَ شِرَائِهِ أَوْ تَمَلُّكِهِ أَنَّهُ لِلتِّجَارَةِ، وَالنِّيَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ هِيَ مَا كَانَتْ مُقَارِنَةً لِدُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ؛ لأَِنَّ التِّجَارَةَ عَمَلٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ مَعَ الْعَمَل، فَلَوْ مَلَكَهُ لِلْقُنْيَةِ ثُمَّ نَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَصِرْ لَهَا، وَلَوْ مَلَكَ لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ نَوَاهُ لِلْقُنْيَةِ وَأَنْ لاَ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ صَارَ لِلْقُنْيَةِ، وَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلزَّكَاةِ وَلَوْ عَادَ فَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ لأَِنَّ تَرْكَ التِّجَارَةِ، مِنْ قَبِيل التُّرُوكِ، وَالتَّرْكُ يُكْتَفَى فِيهِ بِالنِّيَّةِ كَالصَّوْمِ. قَال
__________
(1) ابن عابدين 2 / 13، 14، وشرح المنهاج 2 / 29، والشرح الكبير بحاشية الدسوقي 1 / 472، والمغني 3 / 31، وشرح المنتهى 1 / 407.
(2) حديث: " أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نخرج الصدقة " تقدم تخريجه (ف / 78) .(23/271)
الدُّسُوقِيُّ: وَلأَِنَّ النِّيَّةَ سَبَبٌ ضَعِيفٌ تَنْقُل إِلَى الأَْصْل وَلاَ تَنْقُل عَنْهُ، وَالأَْصْل فِي الْعُرُوضِ الْقُنْيَةُ. وَقَال ابْنُ الْهُمَامِ: لَمَّا لَمْ تَكُنِ الْعُرُوض لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً فَلاَ تَصِيرُ لَهَا إِلاَّ بِقَصْدِهَا فِيهِ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِمَّا يَحْتَاجُ لِلنِّيَّةِ مَا يَشْتَرِيهِ الْمُضَارِبُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ مُطْلَقًا؛ لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ بِمَال الْمُضَارَبَةِ غَيْرَ الْمُتَاجَرَةِ بِهِ.
وَلَوْ أَنَّهُ آجَرَ دَارَهُ الْمُشْتَرَاةَ لِلتِّجَارَةِ بِعَرْضٍ، فَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَكُونُ الْعَرْضُ لِلتِّجَارَةِ إِلاَّ بِنِيَّتِهَا، وَقَال بَعْضُهُمْ: هُوَ لِلتِّجَارَةِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَلَوْ قَرَنَ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ نِيَّةَ اسْتِغْلاَل الْعَرْضِ، بِأَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ شِرَائِهِ أَنْ يُكْرِيَهُ وَإِنْ وَجَدَ رِبْحًا بَاعَهُ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُرَجَّحِ عِنْدَهُمْ، وَكَذَا لَوْ نَوَى مَعَ التِّجَارَةِ الْقُنْيَةَ بِأَنْ يَنْوِيَ الاِنْتِفَاعَ بِالشَّيْءِ كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ أَوْ سُكْنَى الْمَنْزِل ثُمَّ إِنْ وَجَدَ رِبْحًا بَاعَهُ.
قَالُوا: فَإِنْ مَلَكَهُ لِلْقُنْيَةِ فَقَطْ، أَوْ لِلْغَلَّةِ فَقَطْ أَوْ لَهُمَا، أَوْ بِلاَ نِيَّةٍ أَصْلاً فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ (1) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: بُلُوغُ النِّصَابِ:
84 - وَنِصَابُ الْعُرُوضِ بِالْقِيمَةِ، وَيُقَوَّمُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَلاَ زَكَاةَ فِي مَا يَمْلِكُهُ الإِْنْسَانُ مِنَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 10، 13، وفتح القدير 1 / 527، والشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 472، 476، وشرح المنهاج 2 / 28، والمغني 3 / 31.(23/272)
الْعُرُوضِ إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَقَل مِنْ نِصَابِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ نِصَابٌ أَوْ تَكْمِلَةُ نِصَابٍ.
وَتُضَمُّ الْعُرُوضُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فِي تَكْمِيل النِّصَابِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تُقَوَّمُ بِهِ عُرُوضُ التِّجَارَةِ: بِالذَّهَبِ أَمْ بِالْفِضَّةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ، إِلَى أَنَّهَا تُقَوَّمُ بِالأَْحَظِّ لِلْفُقَرَاءِ، فَإِنْ كَانَ إِذَا قَوَّمَهَا بِأَحَدِهِمَا لاَ تَبْلُغُ نِصَابًا وَبِالآْخَرِ تَبْلُغُ نِصَابًا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّقْوِيمُ بِمَا يَبْلُغُ نِصَابًا.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: يُخَيَّرُ الْمَالِكُ فِيمَا يُقَوِّمُ بِهِ لأَِنَّ الثَّمَنَيْنِ فِي تَقْدِيرِ قِيَمِ الأَْشْيَاءِ بِهِمَا سَوَاءٌ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ: يُقَوِّمُهَا بِمَا اشْتَرَى بِهِ مِنَ النَّقْدَيْنِ، وَإِنِ اشْتَرَاهَا بِعَرْضٍ قَوَّمَهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ فِي الْبَلَدِ، وَقَال مُحَمَّدٌ: يُقَوِّمُهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُل حَالٍ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ.
وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَعَرُّضًا لِمَا تُقَوَّمُ بِهِ السِّلَعُ، مَعَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهَا لاَ زَكَاةَ فِيهَا مَا لَمْ تَبْلُغْ نِصَابًا
. نَقْصُ قِيمَةِ التِّجَارَةِ فِي الْحَوْل عَنِ النِّصَابِ:
85 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْقَوْل
__________
(1) الهداية وفتح القدير 1 / 527، وشرح المنهاج 2 / 30، وشرح منتهى الإرادات 1 / 8، والمغني 3 / 33.(23/272)
الْمَنْصُوصِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ الْقِيمَةُ فِي آخِرِ الْحَوْل، فَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعُرُوضِ فِي أَوَّل الْحَوْل أَقَل مِنْ نِصَابٍ ثُمَّ بَلَغَتْ فِي آخِرِ الْحَوْل نِصَابًا وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَهَذَا خِلاَفًا لِزَكَاةِ الْعَيْنِ فَلاَ بُدَّ فِيهَا عِنْدَهُمْ مِنْ وُجُودِ النِّصَابِ فِي الْحَوْل كُلِّهِ. قَالُوا: لأَِنَّ الاِعْتِبَارَ فِي الْعُرُوضِ بِالْقِيمَةِ، وَيَعْسُرُ مُرَاعَاتُهَا كُل وَقْتٍ لاِضْطِرَابِ الأَْسْعَارِ ارْتِفَاعًا وَانْخِفَاضًا فَاكْتُفِيَ بِاعْتِبَارِهَا فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: فَلَوْ تَمَّ الْحَوْل وَقِيمَةُ الْعَرْضِ أَقَل مِنْ نِصَابٍ فَإِنَّهُ يَبْطُل الْحَوْل الأَْوَّل وَيَبْتَدِئُ حَوْلٌ جَدِيدٌ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: الْمُعْتَبَرُ طَرَفَا الْحَوْل، لأَِنَّ التَّقْوِيمَ يَشُقُّ فِي جَمِيعِ الْحَوْل فَاعْتُبِرَ أَوَّلُهُ لِلاِنْعِقَادِ وَتَحَقُّقِ الْغِنَى، وَآخِرُهُ لِلْوُجُوبِ، وَلَوِ انْعَدَمَ بِهَلاَكِ الْكُل فِي أَثْنَاءِ الْحَوْل بَطَل حُكْمُ الْحَوْل.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ ثَالِثٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: الْمُعْتَبَرُ كُل الْحَوْل كَمَا فِي النَّقْدَيْنِ، فَلَوْ نَقَصَتِ الْقِيمَةُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْل لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَرْضِ مِنْ حِينَ مَلَكَهُ أَقَل مِنْ نِصَابٍ فَلاَ يَنْعَقِدُ الْحَوْل عَلَيْهِ حَتَّى تَتِمَّ قِيمَتُهُ نِصَابًا، وَالزِّيَادَةُ مُعْتَبَرَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ بِارْتِفَاعِ الأَْسْعَارِ، أَوْ بِنَمَاءِ الْعَرْضِ، أَوْ بِأَنْ بَاعَهَا بِنِصَابٍ، أَوْ مَلَكَ عَرْضًا آخَرَ أَوْ أَثْمَانًا كَمَّل بِهَا النِّصَابَ (1) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 528، وابن عابدين 2 / 33، والشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 473، وشرح المنهاج 2 / 28، والمغني 3 / 32.(23/273)
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الْحَوْل:
86 - وَالْمُرَادُ أَنْ يَحُول الْحَوْل عَلَى عُرُوضِ التِّجَارَةِ، فَمَا لَمْ يَحُل عَلَيْهَا الْحَوْل فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا، وَهَذَا إِنْ مَلَكَهَا بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ، أَوْ بِمُعَاوَضَةٍ غَيْرِ مَالِيَّةٍ كَالْخُلْعِ، عِنْدَ مَنْ قَال بِذَلِكَ، أَوِ اشْتَرَاهَا بِعَرْضِ قُنْيَةٌ، أَمَّا إِنِ اشْتَرَاهَا بِمَالٍ مِنَ الأَْثْمَانِ أَوْ بِعَرْضِ تِجَارَةٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ يَبْنِي حَوْل الثَّانِي عَلَى حَوْل الأَْوَّل؛ لأَِنَّ مَال التِّجَارَةِ تَتَعَلَّقُ الزَّكَاةُ بِقِيمَتِهِ، وَقِيمَتُهُ هِيَ الأَْثْمَانُ نَفْسُهَا؛ وَلأَِنَّ النَّمَاءَ فِي التِّجَارَةِ يَكُونُ بِالتَّقْلِيبِ.
فَإِنْ أَبْدَل عَرْضَ التِّجَارَةِ بِعَرْضِ قُنْيَةٍ أَوْ بِسَائِمَةٍ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا التِّجَارَةَ فَإِنَّ حَوْل زَكَاةِ التِّجَارَةِ يَنْقَطِعُ.
وَرِبْحَ التِّجَارَةِ فِي الْحَوْل يُضَمُّ إِلَى الأَْصْل فَيُزَكِّي الأَْصْل وَالرِّبْحَ عِنْدَ آخِرِ الْحَوْل (1) . فَإِذَا حَال الْحَوْل وَجَبَ عَلَى الْمَالِكِ تَقْوِيمُ عُرُوضِهِ وَإِخْرَاجُ زَكَاتِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلِمَالِكٍ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْمُحْتَكِرِ لِتِجَارَتِهِ وَالْمُدِيرِ لَهَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي الشَّرْطِ التَّالِي.
الشَّرْطُ السَّادِسُ: تَقْوِيمُ السِّلَعِ:
87 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ التَّاجِرَ إِمَّا
__________
(1) الدسوقي والشرح الكبير 1 / 473، والمغني 2 / 30.(23/273)
أَنْ يَكُونَ مُحْتَكِرًا أَوْ مُدِيرًا، وَالْمُحْتَكِرُ هُوَ الَّذِي يَرْصُدُ بِسِلَعِهِ الأَْسْوَاقَ وَارْتِفَاعَ الأَْسْعَارِ، وَالْمُدِيرُ هُوَ مَنْ يَبِيعُ بِالسِّعْرِ الْحَاضِرِ ثُمَّ يُخْلِفُهُ بِغَيْرِهِ وَهَكَذَا، كَالْبَقَّال وَنَحْوِهِ.
فَالْمُحْتَكِرُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَبْلُغُ نِصَابًا، وَلَوْ فِي مَرَّاتٍ، وَبَعْدَ أَنْ يَكْمُل مَا بَاعَ بِهِ نِصَابًا يُزَكِّيهِ وَيُزَكِّي مَا بَاعَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ قَل، فَلَوْ أَقَامَ الْعَرْضُ عِنْدَهُ سِنِينَ فَلَمْ يَبِعْ ثُمَّ بَاعَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهِ إِلاَّ زَكَاةُ عَامٍ وَاحِدٍ يُزَكِّي ذَلِكَ الْمَال الَّذِي يَقْبِضُهُ. أَمَّا الْمُدِيرُ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَبِيعَ بِشَيْءٍ وَلَوْ قَل، كَدِرْهَمٍ، وَعَلَى الْمُدِيرِ الَّذِي بَاعَ وَلَوْ بِدِرْهَمٍ أَنْ يُقَوِّمَ عُرُوضَ تِجَارَتِهِ آخِرَ كُل حَوْلٍ وَيُزَكِّيَ الْقِيمَةَ، كَمَا يُزَكِّي النَّقْدَ. وَإِنَّمَا فَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ الْمُدِيرِ وَالْمُحْتَكِرِ لأَِنَّ الزَّكَاةَ شُرِعَتْ فِي الأَْمْوَال النَّامِيَةِ، فَلَوْ زَكَّى السِّلْعَةَ كُل عَامٍ - وَقَدْ تَكُونُ كَاسِدَةً - نَقَصَتْ عَنْ شِرَائِهَا، فَيَتَضَرَّرُ، فَإِذَا زُكِّيَتْ عِنْدَ الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَتْ رَبِحَتْ فَالرِّبْحُ كَانَ كَامِنًا فِيهَا فَيُخْرِجُ زَكَاتَهُ؛ وَلأَِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ مَالٍ مِنْ مَالٍ آخَرَ.
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ تَقْوِيمَ السِّلَعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ لِلتَّاجِرِ الْمُدِيرِ خَاصَّةً دُونَ التَّاجِرِ الْمُحْتَكِرِ، وَأَنَّ الْمُحْتَكِرَ لَيْسَ عَلَيْهِ لِكُل حَوْلٍ زَكَاةٌ فِيمَا احْتَكَرَهُ بَل يُزَكِّيهِ لِعَامٍ وَاحِدٍ عِنْدَ بَيْعِهِ وَقَبْضِ ثَمَنِهِ.
أَمَّا عِنْدَ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الْمُحْتَكِرَ كَغَيْرِهِ، عَلَيْهِ(23/274)
لِكُل حَوْلٍ زَكَاةٌ (1) .
كَيْفِيَّةُ التَّقْوِيمِ وَالْحِسَابِ فِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ:
أ - مَا يُقَوَّمُ مِنَ السِّلَعِ وَمَا لاَ يُقَوَّمُ:
88 - الَّذِي يُقَوَّمُ مِنَ الْعُرُوضِ هُوَ مَا يُرَادُ بَيْعُهُ دُونَ مَا لاَ يُعَدُّ لِلْبَيْعِ، فَالرُّفُوفُ الَّتِي يَضَعُ عَلَيْهَا السِّلَعَ لاَ زَكَاةَ فِيهَا.
وَمِمَّا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَاجِرَ الدَّوَابِّ إِنِ اشْتَرَى لَهَا مَقَاوِدَ أَوْ بَرَاذِعَ، فَإِنْ كَانَ يَبِيعُ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ مَعَهَا فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَتْ لِحِفْظِ الدَّوَابِّ بِهَا فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا. وَكَذَلِكَ الْعَطَّارُ لَوِ اشْتَرَى قَوَارِيرَ، فَمَا كَانَ مِنَ الْقَوَارِيرِ لِحِفْظِ الْعِطْرِ عِنْدَ التَّاجِرِ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا، وَمَا كَانَ يُوضَعُ فِيهَا الْعِطْرُ لِلْمُشْتَرِي فَفِيهَا الزَّكَاةُ.
وَمَوَادُّ الْوَقُودِ كَالْحَطَبِ، وَنَحْوِهِ، وَمَوَادُّ التَّنْظِيفِ كَالصَّابُونِ وَنَحْوِهِ الَّتِي أَعَدَّهَا الصَّانِعُ لِيَسْتَهْلِكَهَا فِي صِنَاعَتِهِ لاَ لِيَبِيعَهَا فَلاَ زَكَاةَ فِيمَا لَدَيْهِ مِنْهَا، وَالْمَوَادُّ الَّتِي لِتَغْذِيَةِ دَوَابِّ التِّجَارَةِ لاَ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ (2) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي الأَْوَانِي الَّتِي تُدَارُ فِيهَا الْبَضَائِعُ، وَلاَ الآْلاَتِ الَّتِي تُصْنَعُ بِهَا السِّلَعُ، وَالإِْبِل الَّتِي تَحْمِلُهَا، إِلاَّ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ
__________
(1) الشرح الكبير 1 / 473، 474، والمغني 2 / 30، وبداية المجتهد 1 / 260، 261 مطبعة الاستقامة، والأموال لأبي عبيد ص 426 نشر حامد الفقي، وفتاوى ابن تيمية 25 / 16.
(2) الهندية 1 / 180.(23/274)
فِي عَيْنِهَا.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْمَوَادَّ الَّتِي لِلصِّبَاغَةِ أَوِ الدِّبَاغَةِ، وَالدُّهْنِ لِلْجُلُودِ، فِيهَا الزَّكَاةُ، بِخِلاَفِ الْمِلْحِ لِلْعَجِينِ أَوِ الصَّابُونِ لِلْغَسْل فَلاَ زَكَاةَ فِيهِمَا لِهَلاَكِ الْعَيْنِ، وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ نَحْوَ ذَلِكَ (1) .
ب - تَقْوِيمُ الصَّنْعَةِ فِي الْمَوَادِّ الَّتِي يُقَوِّمُ صَاحِبُهَا بِتَصْنِيعِهَا:
89 - الْمَوَادُّ الْخَامُ الَّتِي اشْتَرَاهَا الْمَالِكُ وَقَامَ بِتَصْنِيعِهَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا تُقَوَّمُ عَلَى الْحَال الَّتِي اشْتَرَاهَا عَلَيْهَا صَاحِبُهَا، أَيْ قَبْل تَصْنِيعِهَا، وَذَلِكَ بَيِّنٌ، عَلَى قَوْل مَنْ يَشْتَرِطُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعُرُوضِ أَنْ يَمْلِكَهَا بِمُعَاوَضَةٍ؛ لأَِنَّ هَذَا قَدْ مَلَكَهَا بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ بَل بِفِعْلِهِ. وَنَصُّ الْبُنَانِيِّ " الْحُكْمُ أَنَّ الصُّنَّاعَ يُزَكُّونَ مَا حَال عَلَى أَصْلِهِ الْحَوْل مِنْ مَصْنُوعَاتِهِمْ إِذَا كَانَ نِصَابًا وَلاَ يُقَوِّمُونَ صِنَاعَتَهُمْ " قَال ابْنُ لُبٍّ: لأَِنَّهَا فَوَائِدُ كَسْبِهِمْ اسْتَفَادُوهَا وَقْتَ بَيْعِهِمْ (2) .
السِّعْرُ الَّذِي تُقَوَّمُ بِهِ السِّلَعُ:
90 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ عُرُوضَ التِّجَارَةِ يُقَوِّمُهَا الْمَالِكُ عَلَى أَسَاسِ سِعْرِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَال، وَلَيْسَ الَّذِي فِيهِ الْمَالِكُ، أَوْ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَهُ بِالْمَال
__________
(1) شرح المنهاج 2 / 27، وتحفة المحتاج 3 / 297، والشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 477، والفروع 2 / 513، وشرح منتهى الإرادات 1 / 89.
(2) الدسوقي 1 / 474، والبناني على الزرقاني 2 / 7.(23/275)
عِلاَقَةٌ، وَلَوْ كَانَ فِي مَفَازَةٍ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي أَقْرَبِ الأَْمْصَارِ (1) .
وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْوُجُوبِ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ لأَِنَّهُ فِي الأَْصْل بِالْخِيَارِ بَيْنَ الإِْخْرَاجِ مِنَ الْعَيْنِ وَأَدَاءِ الْقِيمَةِ، وَيُجْبَرُ الْمُصَدِّقُ عَلَى قَبُولِهَا، فَيَسْتَنِدُ إِلَى وَقْتِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَهُوَ وَقْتُ الْوُجُوبِ.
وَقَال الصَّاحِبَانِ: الْمُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الأَْدَاءِ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَهُمَا جُزْءٌ مِنَ الْعَيْنِ، وَلَهُ وِلاَيَةُ مَنْعِهَا إِلَى الْقِيمَةِ، فَتُعْتَبَرُ يَوْمَ الْمَنْعِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ (2) .
زِيَادَةُ سِعْرِ الْبَيْعِ عَنِ السِّعْرِ الْمُقَدَّرِ:
91 - إِنْ قَوَّمَ سِلْعَةً لأَِجْل الزَّكَاةِ وَأَخْرَجَهَا عَلَى أَسَاسِ ذَلِكَ، فَلَمَّا بَاعَهَا زَادَ ثَمَنُهَا عَلَى الْقِيمَةِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ بَل هِيَ مُلْغَاةٌ؛ لاِحْتِمَال ارْتِفَاعِ سِعْرِ السُّوقِ، أَوْ لِرَغْبَةِ الْمُشْتَرِي، أَمَّا لَوْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ غَلِطَ فِي التَّقْوِيمِ فَإِنَّهَا لاَ تُلْغَى لِظُهُورِ الْخَطَأِ قَطْعًا.
وَكَذَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَنِ التَّقْوِيمِ لاَ زَكَاةَ فِيهَا عَنِ الْحَوْل السَّابِقِ (3) .
التَّقْوِيمُ لِلسِّلَعِ الْبَائِرَةِ:
92 - مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي
__________
(1) فتح القدير 1 / 527.
(2) فتح القدير 1 / 527، وابن عابدين 2 / 31.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 475، والمجموع 6 / 67.(23/275)
التَّقْوِيمِ، بَيْنَ السِّلَعِ الْبَائِرَةِ وَغَيْرِهَا.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ السِّلَعَ الَّتِي لَدَى التَّاجِرِ الْمُدِيرِ إِذَا بَارَتْ فَإِنَّهُ يُدْخِلُهَا فِي التَّقْوِيمِ وَيُؤَدِّي زَكَاتَهَا كُل عَامٍ إِذَا تَمَّتِ الشُّرُوطُ؛ لأَِنَّ بَوَارَهَا لاَ يَنْقُلُهَا لِلْقُنْيَةِ وَلاَ لِلاِحْتِكَارِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ. وَذَهَبَ ابْنُ نَافِعٍ وَسَحْنُونٌ إِلَى أَنَّ السِّلَعَ إِذَا بَارَتْ تَنْتَقِل لِلاِحْتِكَارِ، وَخَصَّ اللَّخْمِيُّ وَابْنُ يُونُسَ الْخِلاَفَ بِمَا إِذَا بَارَ الأَْقَل، أَمَّا إِذَا بَارَ النِّصْفُ أَوِ الأَْكْثَرُ فَلاَ يُقَوَّمُ اتِّفَاقًا عِنْدَهُمْ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لاَ زَكَاةَ فِيهَا إِلاَّ إِذَا بَاعَ قَدْرَ نِصَابٍ فَيُزَكِّيهِ، ثُمَّ كُلَّمَا بَاعَ شَيْئًا زَكَّاهُ كَمَا تَقَدَّمَ (1) .
التَّقْوِيمُ لِلسِّلَعِ الْمُشْتَرَاةِ الَّتِي لَمْ يَدْفَعِ التَّاجِرُ ثَمَنَهَا:
93 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّاجِرَ الْمُدِيرَ لاَ يُقَوِّمُ - لأَِجْل الزَّكَاةِ - مِنْ سِلَعِهِ إِلاَّ مَا دَفَعَ ثَمَنَهُ، أَوْ حَال عَلَيْهِ الْحَوْل عِنْدَهُ وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ ثَمَنَهُ، وَحُكْمُهُ فِي مَا لَمْ يَدْفَعْ ثَمَنَهُ حُكْمُ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَبِيَدِهِ مَالٌ. وَأَمَّا مَا لَمْ يَدْفَعْ ثَمَنَهُ وَلَمْ يَحُل عَلَيْهِ الْحَوْل عِنْدَهُ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ مِنْ زَكَاةِ مَا حَال حَوْلُهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ بِسَبَبِ دَيْنِ ثَمَنِ هَذَا الْعَرْضِ الَّذِي لَمْ يَحُل حَوْلُهُ عِنْدَهُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَجْعَلُهُ فِي مُقَابَلَتِهِ (2) .
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 474.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 474.(23/276)
تَقْوِيمُ دَيْنِ التَّاجِرِ النَّاشِئِ عَنِ التِّجَارَةِ:
94 - مَا كَانَ لِلتَّاجِرِ مِنَ الدَّيْنِ الْمَرْجُوِّ إِنْ كَانَ سِلَعًا عَيْنِيَّةً - أَيْ مِنْ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ - فَإِنَّهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ مُدِيرًا - لاَ مُحْتَكِرًا - يُقَوِّمُهُ بِنَقْدٍ حَالٍّ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ طَعَامَ سَلَمٍ، وَلاَ يَضُرُّ تَقْوِيمُهُ لأَِنَّهُ لَيْسَ بَيْعًا لَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ إِلَى بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ.
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ الْمَرْجُوُّ مِنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ وَكَانَ مُؤَجَّلاً، فَإِنَّهُ يُقَوِّمُهُ بِعَرْضٍ، ثُمَّ يُقَوِّمُ الْعَرْضَ بِنَقْدٍ حَالٍّ، فَيُزَكِّي تِلْكَ الْقِيمَةَ لأَِنَّهَا الَّتِي تُمْلَكُ لَوْ قَامَ عَلَى الْمَدِينِ غُرَمَاؤُهُ.
أَمَّا الدَّيْنُ غَيْرُ الْمَرْجُوِّ فَلاَ يُقَوِّمْهُ لِيُزَكِّيَهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ، فَإِنْ قَبَضَهُ زَكَّاهُ لِعَامٍ وَاحِدٍ (1) .
وَأَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَلَمْ يَذْكُرُوا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، فَالظَّاهِرُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّل يُحْسَبُ لِلزَّكَاةِ بِكَمَالِهِ إِذَا كَانَ عَلَى مَلِيءٍ مُقِرٍّ.
إِخْرَاجُ زَكَاةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ نَقْدًا أَوْ مِنْ أَعْيَانِ الْمَال:
95 - الأَْصْل فِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ أَنْ يُخْرِجَهَا نَقْدًا بِنِسْبَةِ رُبُعِ الْعُشْرِ مِنْ قِيمَتِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ، لِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِحَمَاسٍ: قَوِّمْهَا ثُمَّ أَدِّ زَكَاتَهَا.
فَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاةَ الْقِيمَةِ مِنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ أَجْزَأَ اتِّفَاقًا.
__________
(1) الدسوقي والشرح الكبير 1 / 474، والزرقاني وحاشية البناني 2 / 157.(23/276)
وَإِنْ أَخْرَجَ عُرُوضًا عَنِ الْعُرُوضِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ.
فَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ وَقَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى: لاَ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النِّصَابَ مُعْتَبَرٌ بِالْقِيمَةِ، فَكَانَتِ الزَّكَاةُ مِنَ الْقِيمَةِ، كَمَا إِنَّ الْبَقَرَ لَمَّا كَانَ نِصَابُهَا مُعْتَبَرًا بِأَعْيَانِهَا، وَجَبَتِ الزَّكَاةُ مِنْ أَعْيَانِهَا، وَكَذَا سَائِرُ الأَْمْوَال غَيْرِ التِّجَارَةِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ قَدِيمٌ: يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ الإِْخْرَاجِ مِنَ الْعَرْضِ أَوْ مِنَ الْقِيمَةِ فَيُجْزِئُ إِخْرَاجُ عَرْضٍ بِقِيمَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ زَكَاةِ الْعُرُوضِ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَكَذَلِكَ زَكَاةُ غَيْرِهَا مِنَ الأَْمْوَال حَتَّى النَّقْدَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ وَلَوْ كَانَتْ لِلسَّوْمِ لاَ لِلتِّجَارَةِ، وَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيَّةِ قَدِيمٍ: أَنَّ زَكَاةَ الْعُرُوضِ تُخْرَجُ مِنْهَا لاَ مِنْ ثَمَنِهَا، فَلَوْ أُخْرِجَ مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يُجْزِئْ (1) .
زَكَاةُ مَال التِّجَارَةِ الَّذِي بِيَدِ الْمُضَارِبِ:
96 - مَنْ أَعْطَى مَالَهُ مُضَارَبَةً لإِِنْسَانٍ فَرَبِحَ فَزَكَاةُ رَأْسِ الْمَال عَلَى رَبِّ الْمَال اتِّفَاقًا، أَمَّا الرِّبْحُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ فَظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ عَلَى
__________
(1) فتح القدير 1 / 537، والمغني 3 / 31، والحطاب 2 / 358، والمجموع 6 / 68، وبداية المجتهد 1 / 269 بيروت، دار المعرفة عن طبعة القاهرة.(23/277)
الْمُضَارِبِ زَكَاةَ حِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ إِنْ ظَهَرَ فِي الْمَال رِبْحٌ وَتَمَّ نَصِيبُهُ نِصَابًا (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَال الْقِرَاضِ يُزَكِّي مِنْهُ رَبُّ الْمَال رَأْسَ مَالِهِ وَحِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ كُل عَامٍ، وَهَذَا إِنْ كَانَ تَاجِرًا مُدِيرًا، وَكَذَا إِنْ كَانَ مُحْتَكِرًا وَكَانَ عَامِل الْقِرَاضِ مُدِيرًا، وَكَانَ مَا بِيَدِهِ مِنْ مَال رَبِّ الْمَال الأَْكْثَرَ، وَمَا بِيَدِ رَبِّهِ الْمُحْتَكِرِ الأَْقَل.
وَأَمَّا الْعَامِل فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ حِصَّتِهِ إِلاَّ بَعْدَ الْمُفَاصَلَةِ فَيُزَكِّيهَا إِذَا قَبَضَهَا لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْظْهَرِ إِلَى أَنَّ زَكَاةَ الْمَال وَرِبْحَهُ كُلَّهَا عَلَى صَاحِبِ الْمَال، فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ مَال الْقِرَاضِ حُسِبَتْ مِنَ الرِّبْحِ؛ لأَِنَّهَا مِنْ مَئُونَةِ الْمَال وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَال مِلْكُهُ، وَلاَ يَمْلِكُ الْعَامِل شَيْئًا وَلَوْ ظَهَرَ فِي الْمَال رِبْحٌ حَتَّى تَتِمَّ الْقِسْمَةُ.
هَذَا عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْعَامِل لاَ يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ، أَمَّا عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّ عَلَى الْعَامِل زَكَاةَ حِصَّتِهِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الْمَال زَكَاةَ الْمَال كُلِّهِ مَا عَدَا نَصِيبَ الْعَامِل؛ لأَِنَّ
__________
(1) فتح القدير 1 / 531، 532.
(2) الزرقاني 2 / 160.
(3) المنهاج وشرحه 2 / 31.(23/277)
نَصِيبَ الْعَامِل لَيْسَ لِرَبِّ الْمَال وَلاَ تَجِبُ عَلَى الإِْنْسَانِ زَكَاةُ مَال غَيْرِهِ. وَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنَ الْمَال لأَِنَّهُ مِنْ مَئُونَتِهِ، وَتُحْسَبُ مِنَ الرِّبْحِ؛ لأَِنَّهُ وِقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَال. وَأَمَّا الْعَامِل فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فِي نَصِيبِهِ مَا لَمْ يَقْتَسِمَا، فَإِذَا اقْتَسَمَا اسْتَأْنَفَ الْعَامِل حَوْلاً مِنْ حِينَئِذٍ. وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَحْتَسِبُ مِنْ حِينِ ظُهُورِ الرِّبْحِ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ (1) .
رَابِعًا: زَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ:
مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ أَجْنَاسِ النَّبَاتِ:
97 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ فِي التَّمْرِ (ثَمَرِ النَّخْل) وَالْعِنَبِ (ثَمَرِ الْكَرْمِ) مِنَ الثِّمَارِ، وَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ مِنَ الزُّرُوعِ الزَّكَاةَ إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُهَا. وَإِنَّمَا أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، مِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا: الزَّكَاةُ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ (2) وَفِي لَفْظٍ الْعُشْرُ فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ (3) وَمِنْهَا حَدِيثُ
__________
(1) المغني 3 / 38، 39، والإنصاف 3 / 17 القاهرة، دار إحياء التراث العربي، بتصحيح محمد حامد الفقي.
(2) حديث: " الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب ". أخرجه الدارقطني (2 / 94 - ط دار المحاسن) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وضعفه ابن حجر في التلخيص (2 / 166 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) حديث: " العشر في التمر والزبيب والحنطة والشعير ". أخرجه الدارقطني (2 / 93 - ط دار المحاسن) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وفي إسناده ضعف، ولكن ذكر ابن حجر في التلخيص (2 / 164 - ط شركة الطباعة الفنية) أن البيهقي رواه بمعناه من طرق مرسلة، ونقل عنه أنه قال: " هذه المراسيل طرقها مختلفة، وهي يؤكد بعضها بعضا ".(23/278)
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: إِنَّمَا سَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ فِي هَذِهِ الأَْرْبَعَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ (1) وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى وَمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ أَمْرَ دِينِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لاَ يَأْخُذُوا الصَّدَقَةَ إِلاَّ مِنْ هَذِهِ الأَْرْبَعَةِ: الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ (2) .
98 - ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَا عَدَا هَذِهِ الأَْصْنَافَ الأَْرْبَعَةَ:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي كُل مَا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهِ اسْتِنْمَاءُ الأَْرْضِ، مِنَ الثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ وَالْخَضْرَاوَاتِ وَالأَْبَازِيرِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ اسْتِغْلاَل الأَْرْضِ، دُونَ مَا لاَ يُقْصَدُ بِهِ ذَلِكَ
عَادَةً كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ (أَيِ الْقَصَبِ الْفَارِسِيِّ بِخِلاَفِ قَصَبِ السُّكَّرِ) وَالتِّبْنِ وَشَجَرِ الْقُطْنِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَبَذْرِ الْبِطِّيخِ وَالْبُذُورِ الَّتِي
__________
(1) حديث عمر: " إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الأربعة " أخرجه الدارقطني (2 / 96 - ط دار المحاسن) ، وفيه انقطاع كما في التلخيص لابن حجر (2 / 166 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث أبي موسى ومعاذ: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس ". أخرجه الحاكم (1 / 401 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه، ووافقه الذهبي.(23/278)
لِلأَْدْوِيَةِ كَالْحُلْبَةِ وَالشُّونِيزِ، لَكِنْ لَوْ قَصَدَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ كُلِّهَا أَنْ يَشْغَل أَرْضَهُ بِهَا لأَِجْل الاِسْتِنْمَاءِ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ، فَالْمَدَارُ عَلَى الْقَصْدِ.
وَاحْتُجَّ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ (1) . فَإِنَّهُ عَامٌّ فَيُؤْخَذُ عَلَى عُمُومِهِ، وَلأَِنَّهُ يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهِ نَمَاءُ الأَْرْضِ وَاسْتِغْلاَلُهَا فَأَشْبَهَ الْحَبَّ.
وَذَهَبَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَجِبُ إِلاَّ فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ حَوْلاً (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ، فَأَمَّا الثِّمَارُ فَلاَ يُؤْخَذُ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ مِنْهَا زَكَاةٌ غَيْرُ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ، وَأَمَّا الْحُبُوبُ، فَيُؤْخَذُ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالسُّلْتِ وَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ وَالأُْرْزِ وَالْعَلَسِ، وَمِنَ الْقَطَانِيِّ السَّبْعَةِ الْحِمَّصِ وَالْفُول وَالْعَدَسِ وَاللُّوبِيَا وَالتُّرْمُسِ وَالْجُلُبَّانِ وَالْبَسِيلَةِ، وَذَوَاتِ الزُّيُوتِ الأَْرْبَعِ الزَّيْتُونِ وَالسِّمْسِمِ وَالْقُرْطُمِ وَحَبِّ الْفُجْل. فَهِيَ كُلُّهَا عِشْرُونَ جِنْسًا، لاَ يُؤْخَذُ مِنْ شَيْءٍ سِوَاهَا زَكَاةٌ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لاَ تَجِبُ فِي شَيْءٍ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ إِلاَّ مَا كَانَ قُوتًا.
__________
(1) حديث: " فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًا العشر ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 347 - ط السلفية) من حديث ابن عمر.
(2) ابن عابدين 2 / 49، 50.
(3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 447.(23/279)
وَالْقُوتُ هُوَ مَا بِهِ يَعِيشُ الْبَدَنُ غَالِبًا دُونَ مَا يُؤْكَل تَنَعُّمًا أَوْ تَدَاوِيًا، فَتَجِبُ الزَّكَاةُ مِنَ الثِّمَارِ فِي الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ خَاصَّةً، وَمِنَ الْحُبُوبِ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالأُْرْزِ وَالْعَدَسِ وَسَائِرِ مَا يُقْتَاتُ اخْتِيَارًا كَالذُّرَةِ وَالْحِمَّصِ وَالْبَاقِلاَءِ، وَلاَ تَجِبُ فِي السِّمْسِمِ وَالتِّينِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالرُّمَّانِ وَالتُّفَّاحِ وَنَحْوِهَا وَالزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ وَالْقُرْطُمِ (1) .
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي كُل مَا اسْتَنْبَتَهُ الآْدَمِيُّونَ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، وَكَانَ مِمَّا يَجْمَعُ وَصْفَيْنِ: الْكَيْل، وَالْيُبْسُ مَعَ الْبَقَاءِ (أَيْ إِمْكَانِيَّةِ الاِدِّخَارِ) وَهَذَا يَشْمَل أَنْوَاعًا سَبْعَةً:
الأَْوَّل: مَا كَانَ قُوتًا كَالأُْرْزِ وَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ.
الثَّانِي: الْقُطْنِيَّاتُ كَالْفُول وَالْعَدَسِ وَالْحِمَّصِ وَالْمَاشِّ وَاللُّوبِيَا.
الثَّالِثُ: الأَْبَازِيرُ، كَالْكُسْفَرَةِ وَالْكَمُّونِ وَالْكَرَاوْيَا.
الرَّابِعُ: الْبُذُورُ، وَبَذْرُ الْخِيَارِ، وَبَذْرُ الْبِطِّيخِ، وَبَذْرُ الْقِثَّاءِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا يُؤْكَل، أَوْ لاَ يُؤْكَل كَبُذُورِ الْكَتَّانِ وَبُذُورِ الْقُطْنِ وَبُذُورِ الرَّيَاحِينِ.
الْخَامِسُ: حَبُّ الْبُقُول كَالرَّشَادِ وَحَبِّ الْفُجْل وَالْقُرْطُمِ وَالْحُلْبَةِ وَالْخَرْدَل.
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 16.(23/279)
السَّادِسُ: الثِّمَارُ الَّتِي تُجَفَّفُ، وَتُدَّخَرُ كَاللَّوْزِ وَالْفُسْتُقِ وَالْبُنْدُقِ.
السَّابِعُ: مَا لَمْ يَكُنْ حَبًّا وَلاَ ثَمَرًا لَكِنَّهُ يُكَال وَيُدَّخَرُ كَسَعْتَرٍ وَسُمَّاقٍ، أَوْ وَرَقِ شَجَرٍ يُقْصَدُ كَالسِّدْرِ وَالْخِطْمِيِّ وَالآْسِ.
قَالُوا: وَلاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ كَالْخُضَارِ كُلِّهَا، وَكَثِمَارِ التُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ وَالتِّينِ وَالتُّوتِ وَالْمَوْزِ وَالرُّمَّانِ وَالْبُرْتُقَال وَبَقِيَّةِ الْفَوَاكِهِ، وَلاَ فِي الْجَوْزِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لأَِنَّهُ مَعْدُودٌ، وَلاَ تَجِبُ فِي الْقَصَبِ وَلاَ فِي الْبُقُول كَالْفُجْل وَالْبَصَل وَالْكُرَّاثِ، وَلاَ فِي نَحْوِ الْقُطْنِ وَالْقُنَّبِ وَالْكَتَّانِ وَالْعُصْفُرِ وَالزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِ جَرِيدِ النَّخْل وَخُوصِهِ وَلِيفِهِ (1) . وَفِي الزَّيْتُونِ عِنْدَهُمُ اخْتِلاَفٌ يَأْتِي بَيَانُهُ.
وَاحْتَجَّ الْحَنَابِلَةُ لِذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلاَ حَبٍّ صَدَقَةٌ (2) فَدَل عَلَى اعْتِبَارِ الْكَيْل، وَأَمَّا الاِدِّخَارُ فَلأَِنَّ غَيْرَ الْمُدَّخَرِ لاَ تَكْمُل فِيهِ النِّعْمَةُ لِعَدَمِ النَّفْعِ بِهِ مَآلاً (3) .
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى أَنَّهُ
__________
(1) المغني 2 / 690، وشرح منتهى الإرادات 1 / 388.
(2) حديث: ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة " أخرجه مسلم (2 / 674 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد.
(3) شرح منتهى الإرادات 1 / 388.(23/280)
لاَ زَكَاةَ فِي شَيْءٍ غَيْرِ هَذِهِ الأَْجْنَاسِ الأَْرْبَعَةِ، لأَِنَّ النَّصَّ بِهَا وَرَدَ؛ وَلأَِنَّهَا غَالِبُ الأَْقْوَاتِ وَلاَ يُسَاوِيهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَفِي كَثْرَةِ نَفْعِهَا شَيْءٌ غَيْرُهَا، فَلاَ يُقَاسُ عَلَيْهَا شَيْءٌ (1) .
وَاحْتَجَّ مَنْ عَدَا أَبَا حَنِيفَةَ عَلَى انْتِفَاءِ الزَّكَاةِ فِي الْخُضَرِ وَالْفَوَاكِهِ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ (2) وَعَلَى انْتِفَائِهَا فِي نَحْوِ الرُّمَّانِ وَالتُّفَّاحِ مِنَ الثِّمَارِ بِمَا وَرَدَ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ وَكَانَ عَامِلاً لِعُمَرَ عَلَى الطَّائِفِ: أَنَّ قِبَلَهُ حِيطَانًا فِيهَا مِنَ الفرسك (الْخَوْخِ) وَالرُّمَّانِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ غَلَّةِ الْكُرُومِ أَضْعَافًا فَكَتَبَ يَسْتَأْمِرُ فِي الْعُشْرِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ لَيْسَ عَلَيْهَا عُشْرٌ، وَقَال: هِيَ مِنَ الْعُفَاةِ كُلِّهَا وَلَيْسَ فِيهَا عُشْرٌ (3) .
الزَّكَاةُ فِي الزَّيْتُونِ:
99 - تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الزَّيْتُونِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل الزُّهْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي
__________
(1) المغني 2 / 691.
(2) حديث: " ليس في الخضروات صدقة ". أخرجه الدارقطني (2 / 96 - دار المحاسن) من حديث أنس بن مالك، وضعف أحد رواته، لكن قال البيهقي في سننه (4 / 129 - ط دائرة المعارف العثمانية) بعد أن ذكر بعض طرقه: " هذه الأحاديث كلها مراسيل، إلا أنها من طرق مختلفة فبعضها يؤكد بعضًا ".
(3) شرح منتهى الإرادات 1 / 388، وشرح المنهاج 2 / 16.(23/280)
الْقَدِيمِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (1) بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الزَّيْتُونَ فِي أَوَّل الآْيَةِ. وَلأَِنَّهُ يُمْكِنُ ادِّخَارُ غَلَّتِهِ فَأَشْبَهَ التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى إِلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي الزَّيْتُونِ لأَِنَّهُ لاَ يُدَّخَرُ يَابِسًا، فَهُوَ كَالْخَضْرَاوَاتِ (2) .
شُرُوطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ:
100 - لاَ يُشْتَرَطُ الْحَوْل فِي زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ اتِّفَاقًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (3) وَلأَِنَّ الْخَارِجَ نَمَاءٌ فِي ذَاتِهِ فَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَوْرًا كَالْمَعْدِنِ، بِخِلاَفِ سَائِرِ الأَْمْوَال الزَّكَوِيَّةِ فَإِنَّمَا اشْتُرِطَ فِيهَا الْحَوْل لِيُمْكِنَ فِيهِ الاِسْتِثْمَارُ (4) .
وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ مَا يَلِي:
الشَّرْطُ الأَْوَّل النِّصَابُ: وَنِصَابُهَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ (5) عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَبِهِ قَال صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَا يُوسَقُ، لِمَا فِي حَدِيثِ: لَيْسَ فِيمَا
__________
(1) سورة الأنعام / 141.
(2) المغني 2 / 694، وشرح المنهاج 2 / 16، والشرح الكبير للدردير 1 / 447.
(3) سورة الأنعام / 141.
(4) المغني 6 / 696.
(5) قال الخليل: الوسق: حمل البعير، والوقر: حمل الحمار أو البغل (اللسان) وأوسق البعير ووسقه حمله.(23/281)
دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلاَ حَبٍّ صَدَقَةٌ (1) وَالْوَسْقُ لُغَةً: حِمْل الْبَعِيرِ، وَهُوَ فِي الْحِنْطَةِ وَالْعَدَسِ وَنَحْوِهِمَا سِتُّونَ صَاعًا (2) بِصَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَيُنْظَرُ تَحْرِيرُ مِقْدَارِ الصَّاعِ فِي مُصْطَلَحِ: مَقَادِيرُ) فَالنِّصَابُ ثَلاَثُمِائَةِ صَاعٍ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يُشْتَرَطُ نِصَابٌ لِزَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ بَل هِيَ وَاجِبَةٌ فِي الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ مَا لَمْ يَكُنْ أَقَل مِنْ نِصْفِ صَاعٍ (3) .
النِّصَابُ فِيمَا لاَ يُكَال:
101 - ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ مَا لاَ يُوسَقُ فَنِصَابُهُ بِالْقِيمَةِ، فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ أَدْنَى نِصَابٍ مِمَّا يُوسَقُ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ نِصَابَهُ خَمْسَةُ أَمْثَال مَا يُقَدَّرُ بِهِ، فَفِي الْقُطْنِ خَمْسَةُ أَحْمَالٍ، وَفِي الْعَسَل خَمْسَةُ أَفْرَاقٍ، وَفِي السُّكَّرِ خَمْسَةُ أَمْنَاءٍ (4) .
وَفِي النِّصَابِ مَسَائِل:
أ - مَا يُضَمُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ لِتَكْمِيل النِّصَابِ:
102 - تُضَمُّ أَنْوَاعُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِتَكْمِيل
__________
(1) حديث: " ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة ". تقدم تخريجه ف / 98.
(2) الصاع مكيال يتسع لما مقداره 2. 170 كيلو غراما من القمح ونحوه، فنصاب القمح ونحوه 653 كيلو جرامًا (فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي 1 / 373) .
(3) ابن عابدين 2 / 49.
(4) ابن عابدين 1 / 49.(23/281)
النِّصَابِ، كَأَنْوَاعِ التَّمْرِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا لأَِنَّهَا كُلَّهَا تَمْرٌ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ كُل نَوْعٍ بِقِسْطِهِ، فَإِنْ شَقَّ أُخْرِجَ مِنَ الْوَسَطِ. . وَيُضَمُّ الْجَيِّدُ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ إِلَى الرَّدِيءِ مِنْهُ وَلاَ يُكَمَّل جِنْسٌ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ فَلاَ يُضَمُّ التَّمْرُ إِلَى الزَّبِيبِ وَلاَ أَيٌّ مِنْهُمَا إِلَى الْحِنْطَةِ أَوِ الشَّعِيرِ.
إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الأَْشْيَاءِ أَنَّهَا أَجْنَاسٌ أَوْ أَنْوَاعٌ، كَالْعَلَسِ وَكَانَ قُوتُ صَنْعَاءَ الْيَمَنِ، فَقَدْ قِيل: هُوَ جِنْسٌ مُسْتَقِلٌّ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يُكَمَّل نِصَابًا وَحْدَهُ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغَ وَابْنِ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقِيل: هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْحِنْطَةِ، فَيُضَمُّ إِلَيْهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَقَوْل مَالِكٍ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ، وَالْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ أَجْنَاسٌ ثَلاَثَةٌ لاَ يُضَمُّ أَحَدُهَا إِلَى الآْخَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْقَمْحَ جِنْسٌ وَأَنَّ الشَّعِيرَ وَالسُّلْتَ نَوْعَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الثَّلاَثَةَ جِنْسٌ وَاحِدٌ يُكَمَّل النِّصَابُ مِنْهَا جَمِيعًا. بِخِلاَفِ الأُْرْزِ وَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ فَهِيَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَكَذَلِكَ الْقَطَانِيُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهِيَ سَبْعَةُ أَصْنَافٍ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ يُضَمُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ تُضَمُّ الْقَطَانِيُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
__________
(1) شرح المنهاج 2 / 17، والمغني 2 / 696، 731، وشرح المنتهى 1 / 390، والشرح الكبير 1 / 450، 454.(23/282)
ضَمُّ غَلَّةِ الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ:
103 - لاَ تُضَمُّ ثَمَرَةُ عَامٍ إِلَى ثَمَرَةِ عَامٍ آخَرَ وَلاَ الْحَاصِل مِنَ الْحَبِّ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ، فَقَدْ فَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ بَيْنَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، فَأَمَّا الزَّرْعُ فَيُضَمُّ مَا زُرِعَ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، كَالذُّرَةِ تُزْرَعُ فِي الرَّبِيعِ وَفِي الْخَرِيفِ، وَأَمَّا الثَّمَرُ إِذَا اخْتَلَفَ إِدْرَاكُهُ فَلاَ يُضَمُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوِ اخْتَلَفَ إِدْرَاكُهُ لاِخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهِ وَاخْتِلاَفِ بِلاَدِهِ حَرَارَةً وَبُرُودَةً، وَكَمَا لَوْ أَطْلَعَ النَّخْل فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مَرَّتَيْنِ فَلاَ يُضَمُّ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: إِنْ أَطْلَعَ الثَّانِي بَعْدَ جِدَادِ الأَْوَّل فَلاَ يُضَمُّ وَإِلاَّ فَيُضَمُّ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِلضَّمِّ أَنْ يُزْرَعَ أَحَدُهَا قَبْل اسْتِحْقَاقِ حَصَادِ الآْخَرِ وَهُوَ وَقْتُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَبْقَى مِنْ حَبِّ الأَْوَّل إِلَى اسْتِحْقَاقِ حَصَادِ الثَّانِي وَإِنْ لَمْ يُحْصَدْ مَا يَكْمُل بِهِ النِّصَابُ، أَمَّا لَوْ أُكِل الأَْوَّل قَبْل وَقْتِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الثَّانِي، فَلاَ يُضَمُّ الثَّانِي لِلأَْوَّل بَل إِنْ كَانَ الثَّانِي نِصَابًا زُكِّيَ، وَإِلاَّ فَلاَ. وَكَذَا يُضَمُّ زَرْعٌ ثَانٍ إِلَى أَوَّلٍ، وَثَانٍ إِلَى ثَالِثٍ، إِنْ كَانَ فِيهِ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، وَهَذَا إِنْ لَمْ يُخْرِجْ زَكَاةَ الأَْوَّلَيْنِ حَتَّى يَحْصُدَ
__________
(1) شرح المنهاج 2 / 18.(23/282)
الثَّالِثَ. وَحَيْثُ ضَمَّ أَصْنَافًا بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنْ كُل صِنْفٍ بِحَسَبِهِ.
وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ الْقَوْل أَنَّ زَرْعَ الْعَامِ الْوَاحِدِ يُضَمُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ إِذَا اتَّفَقَ الْجِنْسُ، وَكَذَا ثَمَرَةُ الْعَامِ، سَوَاءٌ كَانَ الأَْصْل مِمَّا يَحْمِل مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ كَالذُّرَةِ، أَوْ لاَ (1) .
104 - وَالْمُعْتَبَرُ فِي قَدْرِ النِّصَابِ اتِّحَادُ الْمَالِكِ، فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ مُشْتَرَكًا، أَوْ مُخْتَلِطًا فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ مَا يَمْلِكُهُ الْمُزَكِّي مِنْهُ وَحْدَهُ نِصَابًا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَال الْمُشْتَرَكَ وَالْمُخْتَلِطَ يُزَكَّى زَكَاةَ مَالٍ وَاحِدٍ فَإِنْ بَلَغَ مَجْمُوعُهُ نِصَابًا زُكِّيَ، وَإِلاَّ فَلاَ. وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (خُلْطَة) .
وَلاَ تَرِدُ هَذِهِ التَّفْرِيعَاتُ كُلُّهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لأَِنَّ النِّصَابَ هُنَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَل تَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُمْ فِي قَلِيل الزُّرُوعِ وَكَثِيرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
ب - نِصَابُ مَا لَهُ قِشْرٌ، وَمَا يَنْقُصُ كَيْلُهُ بِالْيُبْسِ:
105 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الأَْوْسُقُ الْخَمْسَةُ بَعْدَ التَّصْفِيَةِ فِي الْحُبُوبِ، وَبَعْدَ الْجَفَافِ فِي الثِّمَارِ فَلَوْ كَانَ لَهُ عَشَرَةُ أَوْسُقٍ مِنَ الْعِنَبِ لاَ يَجِيءُ مِنْهَا بَعْدَ الْجَفَافِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ مِنَ الزَّبِيبِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهَا زَكَاةٌ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْجَفَافَ هُوَ وَقْتُ وُجُوبِ الإِْخْرَاجِ، فَاعْتُبِرَ
__________
(1) الشرح الكبير 1 / 450، والمغني 2 / 733.(23/283)
النِّصَابُ بِحَال الثِّمَارِ وَقْتَ الْوُجُوبِ.
وَالْمُرَادُ بِتَصْفِيَةِ الْحَبِّ فَصْلُهُ مِنَ التِّبْنِ وَمِنَ الْقِشْرِ الَّذِي لاَ يُؤْكَل مَعَهُ.
وَهَذَا إِنْ كَانَ الْحَبُّ يَيْبَسُ وَيُدَّخَرُ. أَمَّا إِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَصْلُحُ ادِّخَارُهُ إِلاَّ فِي قِشْرِهِ الَّذِي لاَ يُؤْكَل مَعَهُ كَالْعَلَسِ، وَهُوَ حَبٌّ شَبِيهٌ بِالْحِنْطَةِ، وَالأُْرْزِ فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ إِذْ يُخَزِّنُونَهُ بِقِشْرِهِ، فَقَدْ أَطْلَقَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الْقَوْل بِأَنَّ نِصَابَهُ عَشَرَةُ أَوْسُقٍ اعْتِبَارًا لِقِشْرِهِ الَّذِي ادِّخَارُهُ فِيهِ أَصْلَحُ لَهُ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْل الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يُعْتَبَرُ مَا يَكُونُ صَافِيهِ نِصَابًا، وَيُؤْخَذُ الْوَاجِبُ مِنْهُ بِالْقِشْرِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: بَل يُحْسَبُ فِي النِّصَابِ قِشْرُ الأُْرْزِ وَالْعَلَسِ الَّذِي يُخَزَّنَانِ بِهِ كَقِشْرِ الشَّعِيرِ فَلَوْ كَانَ الأُْرْزُ مَقْشُورًا أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ فَإِنْ كَانَ بِقِشْرِهِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ زُكِّيَ، وَإِنْ كَانَ أَقَل فَلاَ زَكَاةَ، وَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْوَاجِبَ مَقْشُورًا أَوْ غَيْرَ مَقْشُورٍ، وَأَمَّا الْقِشْرُ الَّذِي لاَ يُخَزَّنُ الْحَبُّ بِهِ كَقِشْرِ الْفُول الأَْعْلَى فَيَحْتَسِبُ فِيهِ الزَّكَاةَ مُقَدَّرَ الْجَفَافِ (1) .
وَقْتُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَبِّ وَالثَّمَرِ:
106 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ.
__________
(1) شرح المنهاج 2 / 17، والمغني 2 / 698، وشرح المنتهى 1 / 393، والشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 450، 447، 448.(23/283)
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ مَا عَدَا ابْنَ عَرَفَةَ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا تَجِبُ بِإِفْرَاكِ الْحَبِّ، وَطِيبِ الثَّمَرِ وَالأَْمْنِ عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ، وَالْمُرَادُ بِإِفْرَاكِ الْحَبِّ طِيبُهُ وَاسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ السَّقْيِ، وَإِنْ بَقِيَ فِي الأَْرْضِ لِتَمَامِ طِيبِهِ، وَطِيبُ الثَّمَرِ نَحْوُ أَنْ يُزْهِيَ الْبُسْرُ، أَوْ تَظْهَرَ الْحَلاَوَةُ فِي الْعِنَبِ. قَالُوا: لأَِنَّ الْحَبَّ بِاشْتِدَادِهِ يَكُونُ طَعَامًا حَقِيقَةً وَهُوَ قَبْل ذَلِكَ بَقْلٌ، وَالثَّمَرَ قَبْل بُدُوِّ صَلاَحِهِ بَلَحٌ وَحِصْرِمٌ، وَبَعْدَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ ثَمَرَةٌ كَامِلَةٌ، وَلأَِنَّ ذَلِكَ وَقْتُ الْخَرْصِ، وَالْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ هُنَا انْعِقَادُ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَلاَ يَكُونُ الإِْخْرَاجُ إِلاَّ بَعْدَ الْيُبْسِ وَالْجَفَافِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْل ابْنِ أَبِي مُوسَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْل ابْنِ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِالْيُبْسِ وَاسْتِحْقَاقِ الْحَصَادِ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّ الْوُجُوبَ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِحَصَادِ الثَّمَرَةِ وَجَعْلِهَا فِي الْجَرِينِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَثْبُتُ الْوُجُوبُ بِبُدُوِّ الصَّلاَحِ فِي الثَّمَرِ، وَاشْتِدَادِ الْحَبِّ فِي الزَّرْعِ، وَيَسْتَقِرُّ الْوُجُوبُ بِجَعْل الثَّمَرَةِ أَوِ الزَّرْعِ فِي الْجَرِينِ أَوِ الْبَيْدَرِ، فَلَوْ تَلِفَ قَبْل اسْتِقْرَارِ الْحُبُوبِ بِجَائِحَةٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إِجْمَاعًا عَلَى مَا قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ وَنَقَلَهُ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى عَنْهُ، أَمَّا قَبْل ثُبُوتِ الْوُجُوبِ فَلَوْ بِيعَ النَّخْل أَوِ الأَْرْضُ فَلاَ زَكَاةَ عَلَى الْبَائِعِ فِي الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، وَلَوْ مَاتَ الْمَالِكُ قَبْل(23/284)
الْوُجُوبِ فَالزَّكَاةُ عَلَى الْوَرَثَةِ إِنْ بَقِيَ إِلَى وَقْتِ الْوُجُوبِ وَبَلَغَ نَصِيبُ الْوَارِثِ نِصَابًا، وَكَذَا إِنْ أَوْصَى بِهَا وَمَاتَ قَبْل الْوُجُوبِ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا، وَلَوْ أَكَل مِنَ الثَّمَرَةِ قَبْل الْوُجُوبِ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ مَا أَكَل، وَلَوْ نَقَصَتْ عَنِ النِّصَابِ بِمَا أَكَل فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا بَعْدَ الْوُجُوبِ فَتَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ وَإِنْ بَاعَ أَوْ أَوْصَى بِهَا، وَلاَ شَيْءَ عَلَى مَنْ مَلَكَهَا بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ الْوُجُوبُ.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ مِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ عَلَى مَنْ حَصَل عَلَى نِصَابٍ مِنْ لِقَاطِ السُّنْبُل أَوْ أُجْرَةِ الْحَصَادِ، أَوْ مَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ مِنَ الْحَبِّ أَوِ الْعَفْصِ وَالأُْشْنَانِ وَنَحْوِهَا لأَِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا وَقْتَ الْوُجُوبِ (1) .
مَنْ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ فِي حَال اخْتِلاَفِ مَالِكِ الْغَلَّةِ عَنْ مَالِكِ الأَْرْضِ:
107 - إِنْ كَانَ مَالِكُ الزَّرْعِ عِنْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ هُوَ مَالِكُ الأَْرْضِ، فَالأَْمْرُ وَاضِحٌ، فَتَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ. أَمَّا إِنْ كَانَ مَالِكُ الزَّرْعِ غَيْرَ مَالِكِ الأَْرْضِ فَلِذَلِكَ صُوَرٌ:
أ - الأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ:
108 - أَرْضُ الصُّلْحِ الَّتِي أُقِرَّتْ بِأَيْدِي أَصْحَابِهَا
__________
(1) الشرح الكبير 1 / 451، 454، وشرح المنهاج 2 / 20، والمغني 2 / 702، 711، وشرح المنتهى 1 / 390، 392، وابن عابدين 2 / 53.(23/284)
عَلَى أَنَّهَا لَهُمْ وَلَنَا عَلَيْهَا الْخَرَاجُ، مَتَى أَسْلَمُوا سَقَطَ خَرَاجُهَا، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ فِي غَلَّتِهَا الزَّكَاةُ، فَإِنِ اشْتَرَاهَا مِنَ الذِّمِّيِّ مُسْلِمٌ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهَا، وَأَرْضُ الْعَنْوَةِ الَّتِي مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ وَحِيزَتْ لِبَيْتِ الْمَال فَهَذِهِ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ بَقِيَ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ عَلَى دِينِهِ أَوْ أَسْلَمَ أَوْ بَاعَهَا لِمُسْلِمٍ؛ لأَِنَّهُ خَرَاجٌ بِمَعْنَى الأُْجْرَةِ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَل يَجِبُ فِي غَلَّتِهَا إِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مُسْلِمًا الزَّكَاةُ أَيْضًا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْخَرَاجَ يُؤَدَّى أَوَّلاً، ثُمَّ يُزَكَّى مَا بَقِيَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي غَلَّةِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْخَرَاجَ مَئُونَةُ الأَْرْضِ، وَالْعُشْرُ فِيهِ مَعْنَى الْمَئُونَةِ، فَلاَ يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (خَرَاج) .
ب - الأَْرْضُ الْمُسْتَعَارَةُ وَالْمُسْتَأْجَرَةُ:
109 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ) إِلَى أَنَّ مَنِ اسْتَعَارَ أَرْضًا أَوِ اسْتَأْجَرَهَا فَزَرَعَهَا، فَالزَّكَاةُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ لأَِنَّ الْغَلَّةَ مِلْكُهُ، وَالْعِبْرَةُ فِي الزَّكَاةِ بِمِلْكِيَّةِ الثَّمَرَةِ لاَ بِمِلْكِيَّةِ الأَْرْضِ أَوِ الشَّجَرِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ
__________
(1) المغني 2 / 726، 727، وابن عابدين 2 / 49، وشرح منتهى الإرادات 1 / 395.(23/285)
لأَِنَّ الأَْرْضَ كَمَا تُسْتَنْمَى بِالزِّرَاعَةِ تُسْتَنْمَى بِالإِْجَارَةِ (1) .
ج - الأَْرْضُ الَّتِي تُسْتَغَل بِالْمُزَارَعَةِ أَوِ الْمُسَاقَاةِ:
110 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِ وَالْعَامِل كُلٌّ بِحَسَبِ نَصِيبِهِ مِنَ الْغَلَّةِ إِنْ بَلَغَ نَصِيبُهُ نِصَابًا، وَمَنْ كَانَ نَصِيبُهُ مِنْهُمَا أَقَل مِنْ نِصَابٍ فَلاَ عُشْرَ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ أَرْضٍ غَيْرِهَا مَا يُكَمِّل بِهِ النِّصَابَ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لاَ تَجْعَل الْخُلْطَةَ مُؤَثِّرَةً فِي زَكَاةِ الزُّرُوعِ.
أَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَجْعَل الْخُلْطَةَ مُؤَثِّرَةً فِيهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ غَلَّةُ الأَْرْضِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ يَكُونُ فِيهَا الزَّكَاةُ فَيُؤْخَذُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عُشْرُ نَصِيبِهِ، مَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مِمَّنْ لاَ عُشْرَ عَلَيْهِ، كَالذِّمِّيِّ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْعُشْرُ فِي الْمُزَارَعَةِ عَلَى رَبِّ الأَْرْضِ؛ لأَِنَّ الْمُزَارَعَةَ عِنْدَهُ فَاسِدَةٌ، فَالْخَارِجُ مِنْهَا لَهُ، تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا (2) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْحَائِطِ (الْبُسْتَانِ) الْمُسَاقَى عَلَيْهِ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَرَةِ إِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا، أَوْ كَانَ لِرَبِّ الْحَائِطِ مَا إِنْ ضَمَّهُ
__________
(1) الدر وابن عابدين 2 / 55، والدسوقي 1 / 447، والمغني 2 / 726.
(2) المغني 2 / 728، وابن عابدين 2 / 56.(23/285)
إِلَيْهَا بَلَغَتْ نِصَابًا، ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ مَا بَقِيَ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ تُشْتَرَطَ الزَّكَاةُ فِي حَظِّ رَبِّ الْحَائِطِ أَوِ الْعَامِل؛ لأَِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى جُزْءٍ مَعْلُومٍ سَاقَاهُ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطَا شَيْئًا فَشَأْنُ الزَّكَاةِ أَنْ يُبْدَأَ بِهَا ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ مَا بَقِيَ.
وَقَال اللَّخْمِيُّ نَقْلاً عَنْ مَالِكٍ: إِنَّ الْمُسَاقَاةَ تُزَكَّى عَلَى مِلْكِ رَبِّ الْحَائِطِ فَيَجِبُ ضَمُّهَا إِلَى مَالِهِ مِنْ ثَمَرٍ غَيْرِهَا، وَيُزَكِّي جَمِيعَهَا وَلَوْ كَانَ الْعَامِل مِمَّنْ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَتَسْقُطُ إِنْ كَانَ رَبُّ الْحَائِطِ مِمَّنْ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ وَالْعَامِل مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ (1) .
د - الأَْرْضُ الْمَغْصُوبَةُ:
111 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَزَرَعَهَا إِنْ لَمْ تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ فَلاَ عُشْرَ عَلَى رَبِّ الأَْرْضِ، وَإِنْ نَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ كَانَ الْعُشْرُ عَلَى رَبِّ الأَْرْضِ.
وَقَال قَاضِي خَانْ: أَرْضٌ خَرَاجُهَا وَظِيفَةٌ اغْتَصَبَهَا غَاصِبٌ فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ جَاحِدًا وَلاَ بَيِّنَةَ لِلْمَالِكِ إِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا الْغَاصِبُ فَلاَ خَرَاجَ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ زَرَعَهَا الْغَاصِبُ وَلَمْ تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ، فَالْخَرَاجُ عَلَى الْغَاصِبِ، وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ مُقِرًّا بِالْغَصْبِ أَوْ كَانَ لِلْمَالِكِ بَيِّنَةٌ وَلَمْ تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ فَالْخَرَاجُ عَلَى رَبِّ الأَْرْضِ، وَإِنْ
__________
(1) الحطاب والتاج والإكليل 5 / 380 - 381، وانظر المدونة 5 / 12.(23/286)
نَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْخَرَاجُ عَلَى رَبِّ الأَْرْضِ قَل النُّقْصَانُ أَوْ كَثُرَ، كَأَنَّهُ آجَرَهَا مِنَ الْغَاصِبِ بِضَمَانِ النُّقْصَانِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُنْظَرُ إِلَى الْخَرَاجِ وَالنُّقْصَانِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَكْثَرَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ إِنْ كَانَ النُّقْصَانُ أَكْثَرَ مِنَ الْخَرَاجِ، فَمِقْدَارُ الْخَرَاجِ يُؤَدِّيهِ الْغَاصِبُ إِلَى السُّلْطَانِ وَيَدْفَعُ الْفَضْل إِلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ، وَإِنْ كَانَ الْخَرَاجُ أَكْثَرَ يَدْفَعُ الْكُل إِلَى السُّلْطَانِ، وَمِنْ نَصِّهِمْ هَذَا فِي الْخَرَاجِ يُفْهَمُ مُرَادُهُمْ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي الْعُشْرِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّخْل إِذَا غُصِبَتْ ثُمَّ رُدَّتْ بَعْدَ أَعْوَامٍ مَعَ ثَمَرَتِهَا، فَإِنَّهَا تُزَكَّى لِكُل عَامٍ بِلاَ خِلاَفٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ زُكِّيَتْ أَيْ يُزَكَّى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا إِذَا رَدَّ الْغَاصِبُ جَمِيعَهَا. فَإِنْ رَدَّ بَعْضَ ثِمَارِهَا وَكَانَ حَصَل فِي كُل سَنَةٍ نِصَابٌ وَلَمْ يَرُدَّ جَمِيعَهُ بَل رَدَّ مِنْهُ قَدْرَ نِصَابٍ فَأَكْثَرَ وَكَانَ بِحَيْثُ لَوْ قُسِمَ عَلَى سِنِينَ الْغَصْبِ لَمْ يَبْلُغْ كُل سَنَةٍ نِصَابًا فَفِي زَكَاتِهِ قَوْلاَنِ (2) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ زَكَاةَ الزَّرْعِ عَلَى مَالِكِ الأَْرْضِ إِنْ تَمَلَّكَ الزَّرْعَ قَبْل وَقْتِ الْحَصَادِ وَبَعْدَ اشْتِدَادِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ يَتَمَلَّكُهُ بِمِثْل بَذْرِهِ وَعِوَضِ لَوَاحِقِهِ، فَيَسْتَنِدُ مِلْكُهُ إِلَى أَوَّل زَرْعِهِ. أَمَّا إِنْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 187، والفتاوى الخانية بهامش الهندية 1 / 271 - 272.
(2) الخرشي 2 / 180، والدسوقي 1 / 457.(23/286)
حَصَدَ الْغَاصِبُ الزَّرْعَ بِأَنْ لَمْ يَتَمَلَّكْهُ رَبُّهَا قَبْل حَصَادِهِ، فَزَكَاةُ الزَّرْعِ عَلَى الْغَاصِبِ لاِسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ (1) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلشَّافِعِيَّةِ نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
زَكَاةُ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ الْمَأْخُوذَيْنِ مِنَ الأَْرْضِ الْمُبَاحَةِ:
112 - مَنْ أَخَذَ مِنَ الأَْرْضِ الْمُبَاحَةِ مَا فِي جِنْسِهِ الزَّكَاةُ، وَبَلَغَ نِصَابًا. فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ. قَال الْحَنَابِلَةُ: لَكِنْ لَوْ زَرَعَ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ ثَمَرَ الْجِبَال وَالْمَفَاوِزِ فِيهِ الْعُشْرُ، إِنْ حَمَاهُ الإِْمَامُ أَيْ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ وَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَلَوْ كَانَ الشَّجَرُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ وَلَمْ يُعَالِجْهُ أَحَدٌ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ النَّمَاءُ، وَقَدْ حَصَل بِأَخْذِهِ (2) .
خَرْصُ الثِّمَارِ إِذَا بَدَا صَلاَحُهَا:
113 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ إِذَا بَدَا صَلاَحُ الثِّمَارِ أَنْ يُرْسِل سَاعِيًا يَخْرُصُهَا - أَيْ يُقَدِّرُ كَمْ سَيَكُونُ مِقْدَارُهَا بَعْدَ الْجَفَافِ - لِيَعْرِفَ قَدْرَ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى أَصْحَابِهَا، وَذَلِكَ لِمَعْرِفَةِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ وَأَهْل
__________
(1) شرح المنتهى 1 / 395.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 49، والدسوقي 1 / 447، والمغني 2 / 693، وشرح المنتهى 1 / 392.(23/287)
اسْتِحْقَاقِ الزَّكَاةِ، وَلِلتَّوْسِعَةِ عَلَى أَهْل الثِّمَارِ لِيُخَلِّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا فَيَأْكُلُوا مِنْهَا رُطَبًا ثُمَّ يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ بِحِسَابِ الْخَرْصِ الْمُتَقَدِّمِ، وَذَلِكَ عِنْدَ جَفَافِ الثَّمَرِ.
وَلِمَعْرِفَةِ مُؤَهِّلاَتِ الْخَارِصِ، وَمَا يُرَاعِيهِ عِنْدَ الْخَرْصِ، وَمَعْرِفَةِ مَا يُخْرَصُ مِنَ الْغِلاَل وَمَا لاَ يُخْرَصُ، وَسَائِرِ أَحْكَامِ الْخَرْصِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (خَرْص) .
الْحِيَل لإِِسْقَاطِ الزَّكَاةِ:
114 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّحَيُّل لإِِسْقَاطِ الزَّكَاةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَالِكَ إِنْ فَعَل مَا تَسْقُطُ بِهِ الزَّكَاةُ عَنْهُ وَلَوْ بِنِيَّةِ الْفِرَارِ مِنْهَا سَقَطَتْ، وَمَثَّل لَهُ ابْنُ عَابِدِينَ بِمَنْ وَهَبَ النِّصَابَ قَبْل الْحَوْل بِيَوْمٍ، ثُمَّ رَجَعَ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ الْحَوْل، وَكَذَا لَوْ وَهَبَهُ أَثْنَاءَ الْحَوْل ثُمَّ رَجَعَ أَثْنَاءَ الْحَوْل لاِنْقِطَاعِ الْحَوْل بِذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ وَهَبَ النِّصَابَ لاِبْنِهِ، أَوِ اسْتَبْدَل نِصَابَ السَّائِمَةِ بِآخَرَ.
ثُمَّ قَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ لأَِنَّهُ امْتِنَاعٌ عَنِ الْوُجُوبِ، لاَ إِبْطَالٌ لِحَقِّ الْغَيْرِ، وَقَال مُحَمَّدٌ: يُكْرَهُ لأَِنَّ فِيهِ إِضْرَارًا بِالْفُقَرَاءِ وَإِبْطَال حَقِّهِمْ مَآلاً. وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْفِرَارُ مَكْرُوهٌ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَقَال الْغَزَالِيُّ: حَرَامٌ وَلاَ تَبْرَأُ بِهِ الذِّمَّةُ(23/287)
فِي الْبَاطِنِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ - وَهُوَ مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى تَحْرِيمِ التَّحَيُّل لإِِسْقَاطِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ فُعِل لَمْ تَسْقُطْ، كَمَنْ أَبْدَل النِّصَابَ مِنَ الْمَاشِيَةِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ، أَوْ أَتْلَفَ أَوِ اسْتَهْلَكَ جُزْءًا مِنَ النِّصَابِ عِنْدَ قُرْبِ الْحَوْل. . وَلَوْ فَعَل ذَلِكَ فِي أَوَّل الْحَوْل لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَظِنَّةِ الْفِرَارِ مِنَ الزَّكَاةِ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَلَمِ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وَقَوْلِهِ فِيهَا: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} (1) فَعَاقَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى تَحَيُّلِهِمْ لإِِسْقَاطِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ، فَتُؤْخَذُ مُعَاقَبَةً لِلْمُحْتَال بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، قِيَاسًا عَلَى مَنْعِ مِيرَاثِ الْقَاتِل، وَتَوْرِيثِ الْمُطَلَّقَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ. وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَهُ الْمَالِكِيَّةُ هُوَ زَكَاةُ الْمُبْدَل، وَلاَ تُؤْخَذُ مِنْهُ زَكَاةُ الْبَدَل إِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ لأَِنَّهَا لَمْ تَجِبْ (2) .
قَدْرُ الْمَأْخُوذِ فِي زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ:
115 - يُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ عُشْرُ
__________
(1) سورة القلم / 19، 20.
(2) ابن عابدين 2 / 37، و2 / 21 و5 / 156، والدسوقي 1 / 437 وانظر أيضًا تقرير الشيخ عليش على حاشية الدسوقي 1 / 431، ومغني المحتاج 1 / 379، وفتح العزيز 5 / 493، وشرح المنهاج 2 / 14، والمغني 2 / 676.(23/288)
الْخَارِجِ أَوْ نِصْفُ عُشْرِهِ. فَالْعُشْرُ اتِّفَاقًا فِيمَا سُقِيَ بِغَيْرِ كُلْفَةٍ، كَاَلَّذِي يَشْرَبُ بِمَاءِ الْمَطَرِ أَوْ بِمَاءِ الأَْنْهَارِ سَيْحًا، أَوْ بِالسَّوَاقِي دُونَ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى رَفْعِهِ غَرْفًا أَوْ بِآلَةٍ، أَوْ يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ، وَهُوَ مَا يُزْرَعُ فِي الأَْرْضِ الَّتِي مَاؤُهَا قَرِيبٌ مِنْ وَجْهِهَا تَصِل إِلَيْهِ عُرُوقُ الشَّجَرِ فَيَسْتَغْنِي عَنِ السَّقْيِ.
وَيَجِبُ فِيمَا يُسْقَى بِكُلْفَةٍ نِصْفُ الْعُشْرِ، سَوَاءٌ سَقَتْهُ النَّوَاضِحُ أَوْ سُقِيَ بِالدَّوَالِي، أَوِ السَّوَانِي أَوِ الدَّوَالِيبِ أَوِ النَّوَاعِيرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَا لَوْ مَدَّ مِنَ النَّهْرِ سَاقِيَةً إِلَى أَرْضِهِ فَإِذَا بَلَغَهَا الْمَاءُ احْتَاجَ إِلَى رَفْعِهِ بِالْغَرْفِ أَوْ بِآلَةٍ. وَالضَّابِطُ لِذَلِكَ أَنْ يُحْتَاجَ فِي رَفْعِ الْمَاءِ إِلَى وَجْهِ الأَْرْضِ إِلَى آلَةٍ أَوْ عَمَلٍ.
وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ (1) وَالْحِكْمَةُ فِي تَقْلِيل الْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِيمَا فِيهِ عَمَلٌ أَنَّ لِلْكُلْفَةِ أَثَرًا فِي تَقْلِيل النَّمَاءِ.
وَلَوِ احْتَاجَتِ الأَْرْضُ إِلَى سَاقٍ يَسْقِيهَا بِمَاءِ الأَْنْهَارِ أَوِ الأَْمْطَارِ، وَيُحَوِّل الْمَاءَ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ، أَوِ احْتَاجَتْ إِلَى عَمَل سَوَاقٍ أَوْ حَفْرِ أَنْهَارٍ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي تَقْلِيل النِّصَابِ.
__________
(1) حديث: " فيما سقت السماء والعيون. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 347 - ط السلفية) من حديث ابن عمر.(23/288)
وَإِنْ سُقِيَتِ الأَْرْضُ نِصْفَ الْوَقْتِ بِكُلْفَةٍ وَنِصْفَهَا بِغَيْرِ كُلْفَةٍ فَالزَّكَاةُ ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ سُقِيَتْ بِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ الآْخَرِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى اعْتِبَارِ الأَْكْثَرِ، وَيَسْقُطُ حُكْمُ الأَْقَل، وَقِيل: يُعْتَبَرُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِقِسْطِهِ (1) .
مَا يُطْرَحُ مِنَ الْخَارِجِ قَبْل أَخْذِ الْعُشْرِ أَوْ نِصْفِهِ:
116 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ أَوْ نِصْفَهُ عَلَى التَّفْصِيل الْمُتَقَدِّمِ يُؤْخَذُ مِنْ كُل الْخَارِجِ، فَلاَ يُطْرَحُ مِنْهُ الْبَذْرُ الَّذِي بَذَرَهُ وَلاَ أُجْرَةُ الْعُمَّال أَوْ كَرْيُ الأَْنْهَارِ أَوْ أُجْرَةُ الْحَافِظِ وَنَحْوُ ذَلِكَ بَل يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْكُل، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِتَفَاوُتِ الْوَاجِبِ لِتَفَاوُتِ الْمُؤْنَةِ، وَلَوْ رُفِعَتِ الْمُؤْنَةُ لَكَانَ الْوَاجِبُ بِنَفْسِ الْمِقْدَارِ، وَاسْتَظْهَرَ الصَّيْرَفِيُّ أَنَّ الْوَاجِبَ إِنْ كَانَ جُزْءًا مِنَ الْخَارِجِ فَإِنَّهُ يُجْعَل كَالْهَالِكِ وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْبَاقِي (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الزَّرْعِ إِنْ كَانَتْ دَيْنًا يُسْقِطُهَا مَالِكُهُ مِنْهُ قَبْل احْتِسَابِ الْعُشْرِ، قَال أَحْمَدُ: مَنِ اسْتَدَانَ مَا أَنْفَقَ عَلَى زَرْعِهِ وَاسْتَدَانَ مَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ، احْتَسَبَ مَا أَنْفَقَ عَلَى زَرْعِهِ دُونَ مَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ. قَالُوا: وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مِنْ مُؤْنَةِ الزَّرْعِ، فَالْحَاصِل فِي
__________
(1) المغني 2 / 698، و699، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 449، وحاشية ابن عابدين 2 / 49 - 51، وشرح المنهاج 18، 19.
(2) ابن عابدين 2 / 51.(23/289)
مُقَابَلَتِهِ يَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَحْصُل، وَهَذَا بِخِلاَفِ سَائِرِ الدُّيُونِ فَإِنَّهَا لاَ تَسْقُطُ مِنَ الْحَاصِل لأَِنَّهُ مِنَ الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ (1) .
وَشَبِيهٌ بِمُؤْنَةِ الزَّرْعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ خَرَاجُ الأَْرْضِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنَ الْغَلَّةِ قَبْل احْتِسَابِ الزَّكَاةِ فِيهَا.
وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
مَا يَلْزَمُ الْمَالِكَ فِعْلُهُ قَبْل إِخْرَاجِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ:
117 - يُؤْخَذُ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ مِنَ الْغَلَّةِ بَعْدَ التَّجْفِيفِ فِي الثِّمَارِ وَالتَّصْفِيَةِ فِي الْحُبُوبِ؛ لأَِنَّهُ أَوَانُ الْكَمَال وَحَال الاِدِّخَارِ، وَالْمُؤْنَةُ عَلَى الثَّمَرَةِ إِلَى حِينِ الإِْخْرَاجِ لاَزِمَةٌ لِرَبِّ الْمَال، لأَِنَّهُ فِي حَقِّ الْغَلَّةِ، كَالْحِفْظِ فِي حَقِّ الْمَاشِيَةِ، وَلاَ يَحِقُّ لِلسَّاعِي أَخْذُهُ رَطْبًا.
وَلَوْ أَخْرَجَ رَبُّ الْمَال الْعُشْرَ رَطْبًا لَمْ يُجْزِئْهُ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحْوَالٌ:
مِنْهَا: أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى قَطْعِ الثَّمَرَةِ قَبْل كَمَالِهَا خَوْفًا مِنَ الْعَطَشِ، أَوْ إِلَى قَطْعِ بَعْضِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَمِثْل ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَطْعُهَا رَطْبَةً أَنْفَعَ وَأَصْلَحَ.
__________
(1) المغني 2 / 727.(23/289)
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الثَّمَرُ مِمَّا لاَ يَجِفُّ بَل يُؤْكَل رَطْبًا كَبَعْضِ أَنْوَاعِ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْفُول وَنَحْوِهَا، فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ حَتَّى عِنْدَ مَنْ قَال بِأَنَّ مِنْ شَرْطِ مَا يُزَكَّى الاِدِّخَارُ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ يُدَّخَرُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.
وَفِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ: يَجُوزُ أَخْذُ حَقِّ الْفُقَرَاءِ رَطْبًا، وَإِنْ أَتْلَفَهَا رَبُّ الْمَال فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ وَيَجُوزُ إِخْرَاجُ قَدْرِ الزَّكَاةِ مِنَ الْجِنْسِ جَافًّا إِنْ شَاءَ رَبُّ الْمَال.
وَقِيل: يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ الْعُشْرُ جَافًّا وَلَوْ بِأَنْ يَشْتَرِيَهُ (1) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ عُشْرُ الثَّمَنِ إِنْ بِيعَ وَإِلاَّ فَالْقِيمَةُ.
وَالزَّيْتُونُ عِنْدَ مَنْ قَال تُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ، إِنْ كَانَ مِنَ الزَّيْتُونِ الَّذِي يُعْصَرُ مِنْهُ الزَّيْتُ يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ زَيْتِهِ بَعْدَ عَصْرِهِ، وَلَوْ كَانَ زَيْتُهُ قَلِيلاً؛ لأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُدَّخَرُ فَهُوَ بِمَثَابَةِ التَّجْفِيفِ فِي سَائِرِ الثِّمَارِ. وَإِنْ كَانَ يُدَّخَرُ حَبًّا، فَيُؤْخَذُ عُشْرُهُ حَبًّا إِذَا بَلَغَ الْحَبُّ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. قَال مَالِكٌ: إِذَا بَلَغَ الزَّيْتُونُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أُخِذَ الْخُمُسُ مِنْ زَيْتِهِ بَعْدَ أَنْ يُعْصَرَ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يُخْرَجُ الْعُشْرُ مِنْهُ حَبًّا عَلَى كُل حَالٍ (2) .
__________
(1) المغني 2 / 712 والشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 448.
(2) المغني 2 / 713.(23/290)
زَكَاةُ الْعَسَل وَالْمُنْتَجَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ:
118 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعَسَل تُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ، وَاحْتُجَّ لَهُمْ بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْخَذُ فِي زَمَانِهِ مِنْ قِرَبِ الْعَسَل مِنْ عَشْرِ قِرْبَاتٍ قِرْبَةٌ مِنْ أَوْسَطِهَا (1) . وَوَرَدَ أَنَّ أَبَا سَيَّارَةَ الْمُتَعِيَّ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ لِي نَحْلاً، قَال: أَدِّ الْعُشْرَ، قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ: احْمِهَا لِي. فَحَمَاهَا لَهُ (2) . وَأَخَذَ عُمَرُ مِنَ الْعَسَل الْعُشْرَ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَسَل لاَ زَكَاةَ فِيهِ. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ فِي وُجُوبِ الصَّدَقَةِ فِي الْعَسَل خَبَرٌ يَثْبُتُ.
ثُمَّ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَمْرَانِ:
الأَْوَّل: أَنْ لاَ يَكُونَ النَّحْل فِي أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ؛ لأَِنَّ الْخَرَاجِيَّةَ يُؤْخَذُ مِنْهَا الْخَرَاجُ، وَلاَ يَجْتَمِعُ عِنْدَهُمْ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ كَمَا تَقَدَّمَ.
__________
(1) حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤخذ في زمانه من قرب العسل ". أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في الأموال (ص 598 - ط نشر دار الفكر) . وأعل بالإرسال كما في التلخيص لابن حجر (2 / 168 - ط شركة الطباعة) . ولكن أورد له ما يقويه
(2) حديث أبي سيارة أنه قال: " قلت: يا رسول الله، إن لي نحلاً ". أخرجه ابن ماجه (1 / 584 - ط الحلبي) وأعله البوصيري بالانقطاع كما في الزوائد (1 / 320 - ط دار الجنان) .
(3) المغني 2 / 714، وابن عابدين 2 / 49، والأم للشافعي 2 / 33، ط بولاق 1321 هـ.(23/290)
الثَّانِي: إِنْ كَانَ النَّحْل فِي أَرْضِ مَفَازَةٍ أَوْ جَبَلٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ إِلاَّ إِنْ حَفِظَهُ الإِْمَامُ مِنَ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطُّرُقِ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ زَكَاةَ إِلاَّ إِنْ كَانَتِ الأَْرْضُ مَمْلُوكَةً (1) .
نِصَابُ الْعَسَل:
(118 م) - قَال الْحَنَابِلَةُ: نِصَابُهُ عَشَرَةُ أَفْرَاقٍ (وَالْفَرْقُ مِكْيَالٌ يَسَعُ 16 رِطْلاً عِرَاقِيًّا مِنَ الْقَمْحِ) .
وَقِيل: عِنْدَهُمُ النِّصَابُ أَلْفُ رِطْلٍ. وَقَال مُحَمَّدٌ: خَمْسَةُ أَفْرَاقٍ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ (2) .
أَمَّا مَا عَدَا الْعَسَل فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي الْحَرِيرِ وَدُودَةِ الْقَزِّ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ وَلاَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ.
وَأَضَافَ صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى: الصُّوفُ وَالشَّعْرُ وَاللَّبَنُ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مِمَّا لاَ زَكَاةَ فِيهِ أَيْضًا: الْمِسْكَ وَنَحْوَهُ مِنَ الطِّيبِ (3) .
زَكَاةُ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ غَيْرِ النَّبَاتِ:
119 - قَدْ يُسْتَخْرَجُ مِنَ الأَْرْضِ غَيْرَ النَّبَاتِ الذَّهَبُ أَوِ الْفِضَّةُ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنَ الْمَعَادِنِ الَّتِي
__________
(1) فتح القدير 2 / 6، والمغني 2 / 714.
(2) المراجع السابقة.
(3) كشاف القناع 2 / 205، ومطالب أولي النهى 2 / 57، 74، والأم للشافعي 2 / 3، والهداية وفتح القدير 2 / 6.(23/291)
تَنْطَبِعُ كَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَالزِّئْبَقِ أَوْ لاَ تَنْطَبِعُ كَالنِّفْطِ وَالْقَارِ وَالْفَحْمِ وَغَيْرِهَا. وَكُل ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مَخْلُوقًا فِي الأَْرْضِ بِفِعْل اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يَكُونُ مِمَّا وَضَعَهُ فِيهَا الآْدَمِيُّونَ كَالْكُنُوزِ الَّتِي يَضَعُهَا أَهْلُهَا فِي الأَْرْضِ ثُمَّ يَبِيدُونَ وَتَبْقَى فِيهَا. وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ اسْمَ (الرِّكَازِ) شَامِلٌ لِكُل ذَلِكَ، وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ اسْمَ الرِّكَازِ خَاصٌّ بِمَا هُوَ مَرْكُوزٌ فِي الأَْرْضِ خِلْقَةً، وَيُؤْخَذُ الْخُمُسُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ رُبُعُ الْعُشْرِ عَلَى اخْتِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يُؤْخَذُ أَهُوَ زَكَاةٌ تُصْرَفُ فِي مَصَارِفِهَا أَمْ فَيْءٌ يُصْرَفُ فِي مَصَارِفِهِ (1) .
وَلِمَعْرِفَةِ كُل ذَلِكَ تُنْظَرُ الْمُصْطَلَحَاتُ: (رِكَاز، كَنْز، مَعْدِن) .
زَكَاةُ الْمُسْتَخْرَجِ مِنَ الْبِحَارِ:
120 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهِيَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْل أَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَخْرَجَ مِنَ الْبَحْرِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ وَالْمَرْجَانِ وَنَحْوِهَا لاَ شَيْءَ فِيهِ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ خُمُسٍ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الْعَنْبَرِ شَيْءٌ، إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَلْقَاهُ الْبَحْرُ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ جَابِرٍ، وَلأَِنَّهُ قَدْ كَانَ
__________
(1) المغني 3 / 17 - 27، وابن عابدين 2 / 43 - 49، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 486 - 492، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 25.(23/291)
يُسْتَخْرَجُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ فَلَمْ يَأْتِ فِيهِ سُنَّةٌ عَنْهُ وَلاَ عَنْهُمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ: فِيهِ الزَّكَاةُ، لأَِنَّهُ يُشْبِهُ الْخَارِجَ مِنْ مَعْدِنِ الْبَرِّ. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَال فِي الْعَنْبَرِ: إِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ فَفِيهِ الْخُمُسِ، وَكَتَبَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عَنْبَرَةٍ وَجَدَهَا عَلَى سَاحِل الْبَحْرِ فَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ، فَأَشَارُوا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا الْخُمُسَ. فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ. وَرُوِيَ مِثْل ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ أَخَذَ مِنَ الْعَنْبَرِ الْخُمُسَ. وَأَمَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَامِلَهُ بِعُمَانَ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ السَّمَكِ الزَّكَاةَ إِذَا بَلَغَ ثَمَنُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَا خَرَجَ مِنَ الْبَحْرِ كَعَنْبَرٍ إِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ مِلْكٌ فَهُوَ لِوَاجِدِهِ وَلاَ يُخَمَّسُ كَالصَّيْدِ، فَإِنْ كَانَ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مِلْكٌ فَإِنْ كَانَ لِجَاهِلِيٍّ أَوْ شُكَّ فِيهِ فَرِكَازٌ، وَإِنْ كَانَ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَلُقَطَةٌ (2) .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ
إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ:
121 - مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إِمَّا أَنْ يُخْرِجَهَا بِإِعْطَائِهَا مُبَاشَرَةً إِلَى الْفُقَرَاءِ وَسَائِرِ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الإِْمَامِ لِيَصْرِفَهَا فِي
__________
(1) المغني 3 / 27، والأموال لأبي عبيد ص346، والأم للشافعي 2 / 33، وفتح القدير 1 / 542.
(2) الشرح الكبير 1 / 492.(23/292)
مَصَارِفِهَا. وَنَذْكُرُ هُنَا الأَْحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالإِْخْرَاجِ وَخَاصَّةً الإِْخْرَاجَ الْمُبَاشِرَ إِلَى الْفُقَرَاءِ.
النِّيَّةُ عِنْدَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ:
122 - الزَّكَاةُ فَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ الْعِبَادَاتِ، كَالصَّلاَةِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِيهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَرُوِيَ عَنِ الأَْوْزَاعِيِّ عَدَمُ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهَا لأَِنَّهَا دَيْنٌ عَلَى صَاحِبِهَا، وَأَدَاءُ الدَّيْنِ لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى (1) . وَلأَِنَّ إِخْرَاجَ الْمَال لِلَّهِ يَكُونُ فَرْضًا وَيَكُونُ نَفْلاً، فَافْتَقَرَتِ الْفَرِيضَةُ إِلَى النِّيَّةِ لِتَمْيِيزِهَا عَنِ النَّفْل، وَقِيَاسًا عَلَى الصَّلاَةِ.
وَمَعْنَى النِّيَّةِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الزَّكَاةِ أَنْ يَقْصِدَ بِقَلْبِهِ أَنَّ مَا يُخْرِجُهُ هُوَ الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ يُخْرِجُ عَمَّنْ تَحْتَ يَدِهِ مِنْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَنْ يَقْصِدَ أَنَّهَا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِمَا (2) . وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ النَّاوِي مُكَلَّفًا؛ لأَِنَّهَا فَرِيضَةٌ (3) .
__________
(1) حديث: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 - ط السلفية) . ومسلم (3 / 1515 - 1516 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب، واللفظ للبخاري.
(2) ابن عابدين 2 / 4، والمغني 2 / 638، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 500، وشرح المنهاج 2 / 43.
(3) شرح منتهى الإرادات 1 / 419.(23/292)
وَيَنْوِي عِنْدَ دَفْعِهَا إِلَى الإِْمَامِ أَوْ إِلَى مُسْتَحِقِّهَا، أَوْ قَبْل الدَّفْعِ بِقَلِيلٍ. فَإِنْ نَوَى بَعْدَ الدَّفْعِ لَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَالشَّرْطُ مُقَارَنَةُ النِّيَّةِ لِلأَْدَاءِ وَلَوْ حُكْمًا، كَمَا لَوْ دَفَعَ بِلاَ نِيَّةٍ ثُمَّ نَوَى وَالْمَال لاَ يَزَال قَائِمًا فِي مِلْكِ الْفَقِيرِ بِخِلاَفِ مَا إِذَا نَوَى بَعْدَمَا اسْتَهْلَكَهُ الْفَقِيرُ أَوْ بَاعَهُ فَلاَ تُجْزِئُ عَنِ الزَّكَاةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنْ عَزَل الزَّكَاةَ عَنْ مَالِهِ وَنَوَى عِنْدَ الْعَزْل أَنَّهَا زَكَاةٌ كَفَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَنْوِ عِنْدَ الدَّفْعِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّ الدَّفْعَ يَتَفَرَّقُ، فَيَتَحَرَّجُ بِاسْتِحْضَارِ النِّيَّةِ عِنْدَ كُل دَفْعٍ، فَاكْتُفِيَ بِذَلِكَ، لِلْحَرَجِ (1) .
وَإِنْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إِلَى وَكِيلِهِ نَاوِيًا أَنَّهَا زَكَاةٌ كَفَى ذَلِكَ، وَالأَْفْضَل أَنْ يَنْوِيَ الْوَكِيل أَيْضًا عِنْدَ الدَّفْعِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ أَيْضًا وَلاَ تَكْفِي نِيَّةُ الْوَكِيل وَحْدَهُ (2) .
وَلَوْ دَفَعَ الإِْنْسَانُ كُل مَالِهِ إِلَى الْفُقَرَاءِ تَطَوُّعًا بَعْدَ مَا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الزَّكَاةُ، بَل تَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ، وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لأَِنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْفَرْضَ.
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 500، وشرح المنهاج 2 / 43، وابن عابدين 2 / 11.
(2) شرح المنهاج 2 / 43، وابن عابدين 2 / 11، وفتح القدير 1 / 493.(23/293)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ فِي هَذِهِ الْحَال اسْتِحْسَانًا لأَِنَّهُ لَمَّا أَدَّى الْكُل زَالَتْ الْمُزَاحَمَةُ بَيْنَ الْجُزْءِ الْمُؤَدَّى وَسَائِرِ الأَْجْزَاءِ، وَبِأَدَاءِ الْكُل لِلَّهِ تَعَالَى تَحَقَّقَ أَدَاءُ الْجُزْءِ الْوَاجِبِ (1) .
وَلاَ يَجِبُ تَعْيِينُ الْمَال الْمُخْرَجِ عَنْهُ، لَكِنْ لَوْ عَيَّنَهُ تَعَيَّنَ.
فَلَوْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ وَنَوَى عَنْ مَالِهِ الْغَائِبِ الَّذِي لاَ يَعْلَمُ سَلاَمَتَهُ جَازَ، لأَِنَّ الأَْصْل بَقَاؤُهُ ثُمَّ إِنْ تَبَيَّنَتْ سَلاَمَتُهُ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ تَبَيَّنَ تَلَفُهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصْرِفَ الزَّكَاةَ إِلَى مَالٍ آخَرَ، وَإِنْ نَوَى عَنْ مَالَيِ الْغَائِبِ أَوِ الْحَاضِرِ، فَتَبَيَّنَ تَلَفُ الْغَائِبِ أَجْزَأَتْ عَنِ الْحَاضِرِ، وَإِنْ نَوَى بِالْمُخْرَجِ أَنْ يَكُونَ زَكَاةَ الْمَال الْمَوْرُوثِ الَّذِي يَشُكُّ فِي مَوْتِ مُورَثِهِ لَمْ تُجْزِئْهُ، لأَِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ وَالأَْصْل عَدَمُ الْمَوْتِ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ عِلْمُ آخِذِ الزَّكَاةِ أَنَّهَا زَكَاةٌ (2) .
النِّيَّةُ عِنْدَ أَخْذِ السُّلْطَانِ الزَّكَاةَ:
123 - إِنْ أَخَذَ السُّلْطَانُ أَوْ نُوَّابُهُ الزَّكَاةَ مِنَ الْمُمْتَنِعِ عَنْ أَدَائِهَا قَهْرًا، وَبِمَنْزِلَةِ الْمُمْتَنِعِ قَهْرًا مَنْ غَيَّبَ مَالَهُ لِئَلاَّ تُؤْخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةُ، وَالأَْسِيرُ، وَمَنْ يَتَعَذَّرُ الْوُصُول إِلَيْهِ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ شَارِحُ الْمُنْتَهَى، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ. فَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ أَخَذَ السُّلْطَانُ الزَّكَاةَ مِنَ الْمُمْتَنِعِ قَهْرًا وَنَوَى عِنْدَ
__________
(1) المغني 2 / 639، وابن عابدين 2 / 12.
(2) المغني 2 / 640، وشرح المنهاج 2 / 43.(23/293)
الأَْخْذَ أَوْ عِنْدَ التَّفْرِيقِ، أَجْزَأَتْ عَنِ الْمُمْتَنِعِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، لأَِنَّ تَعَذُّرَ النِّيَّةِ فِي حَقِّهِ أَسْقَطَ وُجُوبَهَا عَنْهُ، كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، وَالسُّلْطَانُ لَهُ وِلاَيَةٌ عَلَى الْمَالِكِ.
وَأَطْلَقَ الْمَالِكِيَّةُ الْقَوْل بِإِجْزَائِهَا، وَظَاهِرُهُ إِجْزَاؤُهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
وَقَال الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا أَخَذَهَا السُّلْطَانُ أَجْزَأَتْ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ سَوَاءٌ أَخَذَهَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، لأَِنَّ أَخْذَ الإِْمَامِ لَهَا بِمَنْزِلَةِ الْقَسْمِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، لأَِنَّهُ وَكِيل الْفُقَرَاءِ؛ وَلأَِنَّ لِلسُّلْطَانِ وِلاَيَةً عَامَّةً، وَبِدَلِيل أَنَّهُ يَأْخُذُهَا مِنَ الْمُمْتَنِعِ اتِّفَاقًا، وَلَوْ لَمْ يُجْزِئْهُ لَمَا أَخَذَهَا، أَوْ لأََخَذَهَا ثَانِيَةً وَثَالِثَةً، حَتَّى يَنْفَدَ مَالُهُ.
وَفِي قَوْل أَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ أَخَذَهَا الإِْمَامُ قَهْرًا أَجْزَأَتْ ظَاهِرًا، فَلاَ يُطَالَبُ بِهَا، وَلاَ تُجْزِئُ بَاطِنًا، لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ، فَلاَ تُجْزِئُ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، كَالصَّلاَةِ، وَأَخْذُ الإِْمَامِ لَهَا يُسْقِطُ الْمُطَالَبَةَ بِهَا لاَ غَيْرُ (1) .
تَعْجِيل الزَّكَاةِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ:
124 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقُ، إِلَى أَنَّهُ
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 43، والمغني 2 / 640، 641، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 503.(23/294)
يَجُوزُ لِلْمُزَكِّي تَعْجِيل إِخْرَاجِ زَكَاةِ مَالِهِ قَبْل مِيعَادِ وُجُوبِهَا، لِمَا وَرَدَ أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْجِيل صَدَقَتِهِ قَبْل أَنْ تَحِل، فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ. (1) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: إِنَّا قَدْ أَخَذْنَا زَكَاةَ الْعَبَّاسِ عَامَ الأَْوَّل لِلْعَامِ (2) . إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: يَجُوزُ التَّعْجِيل لِعَامٍ وَاحِدٍ وَلاَ يَجُوزُ لِعَامَيْنِ فِي الأَْصَحِّ لأَِنَّ زَكَاةَ الْعَامِ الثَّانِي لَمْ يَنْعَقِدْ حَوْلُهَا.
وَاشْتَرَطُوا لِجَوَازِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ النِّصَابُ مَوْجُودًا، فَلاَ يَجُوزُ تَعْجِيل الزَّكَاةِ قَبْل وُجُودِ النِّصَابِ، بِغَيْرِ خِلاَفٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّ النِّصَابَ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَالْحَوْل شَرْطُهَا وَلاَ يُقَدَّمُ الْوَاجِبُ قَبْل سَبَبِهِ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهُ قَبْل شَرْطِهِ، كَإِخْرَاجِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَعْدَ الْحَلِفِ وَقَبْل الْحِنْثِ، وَكَفَّارَةِ الْقَتْل بَعْدَ الْجَرْحِ وَقَبْل الزُّهُوقِ.
وَتَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ مَالِكًا لِنِصَابٍ وَاحِدٍ جَازَ أَنْ يُعَجِّل زَكَاةَ نُصُبٍ كَثِيرَةٍ لأَِنَّ اللاَّحِقَ تَابِعٌ لِلْحَاصِل.
__________
(1) حديث: " أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته ". أخرجه الترمذي (3 / 54 - ط الحلبي) والحاكم (3 / 332 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث علي بن أبي طالب، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(2) حديث: " إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام ". أخرجه الترمذي (3 / 54 - ط الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب، وفي إسناده جهالة الراوي عن علي، ولكن قوى متنه ابن حجر لطرقه كما في فتح الباري (3 / 334 - ط السلفية) .(23/294)
وَالشَّافِعِيَّةُ أَجَازُوا ذَلِكَ فِي مَال التِّجَارَةِ لأَِنَّ النِّصَابَ فِيهَا عِنْدَهُمْ مُشْتَرَطٌ فِي آخِرِ الْحَوْل فَقَطْ لاَ فِي أَوَّلِهِ وَلاَ فِي أَثْنَائِهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ مَلَكَ نِصَابًا فَقَدَّمَ زَكَاتَهُ وَزَكَاةَ مَا قَدْ يَسْتَفِيدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَ يُجْزِئُهُ عِنْدَهُمْ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ قَدَّمَ زَكَاتَهُ وَزَكَاةَ مَا قَدْ يَنْتِجُ مِنْهُ، أَوْ يَرْبَحُهُ مِنْهُ، أَجْزَأَهُ لأَِنَّهُ تَابِعٌ لِمَا هُوَ مَالِكُهُ الآْنَ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَخْرَجَ زَكَاةَ الثِّمَارِ أَوِ الزُّرُوعِ قَبْل الْوُجُوبِ، بِأَنْ دَفَعَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهَا لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ تُجْزِئْ عَنْهُ. وَكَذَا لاَ تُجْزِئُ زَكَاةُ الْمَاشِيَةِ إِنْ قَدَّمَهَا وَكَانَ هُنَاكَ سَاعٍ يَأْتِي لِقَبْضِهَا فَأَخْرَجَهَا قَبْل قُدُومِهِ. أَمَّا زَكَاةُ الْعَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا سَاعٍ فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا فِي حُدُودِ شَهْرٍ وَاحِدٍ لاَ أَكْثَرَ، وَهَذَا عَلَى سَبِيل الرُّخْصَةِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ (2) وَالأَْصْل عَدَمُ الإِْجْزَاءِ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ مَوْقُوتَةٌ بِالْحَوْل.
تَأْخِيرُ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهَا:
125 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ (الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ مَتَى
__________
(1) المغني 2 / 629، 631، وفتح القدير 1 / 517، 518، وشرح المنهاج 2 / 44، 45.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 501، 502، و431، وبداية المجتهد 1 / 266.(23/295)
وَجَبَتْ، وَجَبَتِ الْمُبَادَرَةُ بِإِخْرَاجِهَا عَلَى الْفَوْرِ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ الْخَشْيَةِ مِنْ ضَرَرٍ.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَمَتَى تَحَقَّقَ وُجُوبُهَا تَوَجَّهَ الأَْمْرُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِهَا، وَالأَْمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ عِنْدَهُمْ؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ جَازَ التَّأْخِيرُ لَجَازَ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ فَتَنْتَفِي الْعُقُوبَةُ عَلَى التَّرْكِ؛ وَلأَِنَّ حَاجَةَ الْفُقَرَاءِ نَاجِزَةٌ، وَحَقَّهُمْ فِي الزَّكَاةِ ثَابِتٌ، فَيَكُونُ تَأْخِيرُهَا مَنْعًا لِحَقِّهِمْ فِي وَقْتِهِ. وَسُئِل أَحْمَدُ: إِذَا ابْتَدَأَ فِي إِخْرَاجِهَا فَجَعَل يُخْرِجُهَا أَوَّلاً فَأَوَّلاً؟ قَال: لاَ، بَل يُخْرِجُهَا كُلُّهَا إِذَا حَال الْحَوْل. وَقَال: لاَ يُجْرِي عَلَى أَقَارِبِهِ مِنَ الزَّكَاةِ كُل شَهْرٍ، أَيْ مَعَ التَّأْخِيرِ.
ثُمَّ قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: وَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ لِعُذْرٍ. وَمِمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الأَْعْذَارِ: أَنْ يَكُونَ الْمَال غَائِبًا فَيُمْهَل إِلَى مُضِيِّ زَمَنٍ يُمْكِنُ فِيهِ إِحْضَارُهُ، وَأَنْ يَكُونَ بِإِخْرَاجِهَا أَمْرٌ مُهِمٌّ دِينِيٌّ أَوْ دُنْيَوِيٌّ، وَأَنْ يَنْتَظِرَ بِإِخْرَاجِهَا صَالِحًا أَوْ جَارًا.
وَمِمَّا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَضَرَّةٌ فِي تَعْجِيل الإِْخْرَاجِ، مِثْل مَنْ يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل قَبْل مَجِيءِ السَّاعِي، وَيَخْشَى إِنْ أَخْرَجَهَا بِنَفْسِهِ أَخَذَهَا السَّاعِي مِنْهُ مَرَّةً أُخْرَى.
وَكَذَا إِنْ خَشِيَ فِي إِخْرَاجِهَا ضَرَرًا فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالٍ لَهُ سِوَاهَا، لأَِنَّ مِثْل ذَلِكَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ دَيْنِ الآْدَمِيِّ لأَِجْلِهِ، فَدَيْنُ اللَّهِ أَوْلَى.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَاضِرَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ مَا حَضَرَ مِنْ مَالِهِ وَمَا غَابَ دُونَ تَأْخِيرٍ(23/295)
مُطْلَقًا، وَلَوْ دَعَتِ الضَّرُورَةُ لِصَرْفِ مَا حَضَرَ، بِخِلاَفِ الْمُسَافِرِ فَلَهُ التَّأْخِيرُ إِنْ دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ أَوِ الْحَاجَةُ لِصَرْفِ مَا مَعَهُ فِي نَفَقَتِهِ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ مَشَايِخِهِمْ أَنَّ افْتِرَاضَ الزَّكَاةِ عُمْرِيٌّ، أَيْ عَلَى التَّرَاخِي فَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ، وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِلْوُجُوبِ، وَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى آخِرِ عُمْرِهِ يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ حَتَّى لَوْ لَمْ يُؤَدِّ يَأْثَمُ إِذَا مَاتَ. وَاسْتَدَل لَهُ الْجَصَّاصُ بِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ إِذَا هَلَكَ نِصَابُهُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْل وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ لاَ يَضْمَنُ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى الْفَوْرِ لَضَمِنَ، كَمَنْ أَخَّرَ صَوْمَ رَمَضَانَ عَنْ وَقْتِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ (1) .
حُكْمُ مَنْ تَرَكَ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ حَتَّى مَاتَ:
126 - مَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إِخْرَاجِهَا، حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يُوصِ بِإِخْرَاجِهَا أَثِمَ إِجْمَاعًا.
ثُمَّ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ إِلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ زَكَاةٌ لَمْ يُؤَدِّهَا فَإِنَّهَا لاَ تَسْقُطُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ كَسَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّةِ، وَمِنْهَا الْحَجُّ وَالْكَفَّارَاتُ، وَيَجِبُ
__________
(1) المغني 2 / 684، والشرح الكبير 1 / 500، 504، وابن عابدين 2 / 13، وشرح المنهاج والقليوبي 2 / 42.(23/296)
إِخْرَاجُهَا مِنْ مَالِهِ سَوَاءٌ أَوْصَى بِهَا أَوْ لَمْ يُوصِ، وَتُخْرَجُ مِنْ كُل مَالِهِ لأَِنَّهَا دَيْنٌ لِلَّهِ، فَتُعَامَل مُعَامَلَةَ الدَّيْنِ، وَلاَ تُزَاحِمُ الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ؛ لأَِنَّ الثُّلُثَ يَكُونُ فِيمَا بَعْدَ الدَّيْنِ. وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ فِي الْمَال، فَلَمْ تَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ.
ثُمَّ قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا اجْتَمَعَ دَيْنُ اللَّهِ مَعَ دَيْنِ الآْدَمِيِّ يُقَدَّمُ دَيْنُ اللَّهِ لِحَدِيثِ دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى (1) . وَقِيل: يُقَدَّمُ دَيْنُ الآْدَمِيِّ، وَقِيل: يَسْتَوِيَانِ.
وَذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ إِلَى أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنَ الثُّلُثِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَصَايَا وَلاَ يُجَاوَزُ بِهَا الثُّلُثَ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ بِمَعْنَى أَنَّهَا لاَ يَجِبُ إِخْرَاجُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَوْصَى بِهَا فَهِيَ وَصِيَّةٌ تُزَاحِمُ سَائِرَ الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا سَقَطَتْ، لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةُ، فَسَقَطَتْ بِمَوْتِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا الْوَرَثَةُ فَهِيَ صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ مِنْهُمْ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عُشْرُ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ لأَِنَّهُ عِنْدَهُمْ فِي مَعْنَى مَئُونَةِ الأَْرْضِ. وَفِي رِوَايَةٍ: بَل يَسْقُطُ أَيْضًا.
__________
(1) حديث: " دين الله أحق أن يقضى ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 192 - ط السلفية) ومسلم (2 / 804 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس.(23/296)
ثُمَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُخْرَجُ زَكَاةٌ فَرَّطَ فِيهَا مِنْ رَأْسِ مَالِهِ إِنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهَا، أَمَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ إِقْرَارِهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَأَشْهَدَ عَلَى بَقَائِهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَأَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا فَهِيَ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِلاَّ فَلاَ تُخْرَجُ أَصْلاً.
وَأَمَّا زَكَاةُ عَامِ مَوْتِهِ فَإِنِ اعْتَرَفَ بِحُلُولِهَا وَأَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا أُخْرِجَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَال (1) .
تَرَاكُمُ الزَّكَاةِ لِسِنِينَ:
127 - إِذَا أَتَى عَلَى الْمُكَلَّفِ بِالزَّكَاةِ سُنُونَ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ فِيهَا وَقَدْ تَمَّتْ شُرُوطُ الْوُجُوبِ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ مِنْهَا شَيْءٌ اتِّفَاقًا، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ عَنْ كُل السِّنِينَ الَّتِي مَضَتْ وَلَمْ يُخْرِجْ زَكَاتَهُ فِيهَا.
وَلَكِنِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّهُ هَل يُسْقِطُ مِنَ الْمَال قَدْرَ زَكَاتِهِ لِلسَّنَةِ الأُْولَى وَيُزَكِّي فِي الثَّانِيَةِ مَا عَدَاهُ، وَهَكَذَا فِي الثَّالِثَةِ وَمَا بَعْدَهَا، أَمْ يُزَكِّي كُل الْمَال لِكُل السِّنِينَ؟ .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَائِدَةُ الْخِلاَفِ: أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ فَحَال عَلَى مَالِهِ حَوْلاَنِ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُمَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا لِمَا مَضَى، وَلاَ تَنْقَضِي عَنْهُ الزَّكَاةُ فِي الْحَوْل الثَّانِي، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ أَكْثَرَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 28، 54 و5 / 415 القاهرة، مطبعة بولاق، والدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 441، والمجموع 5 / 335، والمغني 2 / 683، وشرح المنهاج 2 / 41.(23/297)
مِنْ نِصَابٍ لَمْ تَنْقُصِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ مَضَى عَلَيْهِ أَحْوَالٌ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً مَضَى عَلَيْهَا ثَلاَثَةُ أَحْوَالٍ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ ثَلاَثُ شِيَاهٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ، فَعَلَيْهِ سَبْعَةُ دَنَانِيرَ وَنِصْفٌ؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي ذِمَّتِهِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي تَنْقِيصِ النِّصَابِ، لَكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ مِنْهُ احْتُمِل أَنْ تَسْقُطَ الزَّكَاةُ فِي قَدْرِهَا؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ.
وَإِنْ قُلْنَا: الزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، وَكَانَ النِّصَابُ مِمَّا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ فَحَالَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالٌ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهَا تَعَلَّقَتِ الزَّكَاةُ فِي الْحَوْل الأَْوَّل مِنَ النِّصَابِ بِقَدْرِهَا، فَإِنْ كَانَ نِصَابًا لاَ زِيَادَةَ عَلَيْهِ فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ فِيمَا بَعْدَ الْحَوْل الأَْوَّل؛ لأَِنَّ النِّصَابَ نَقَصَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ عَزَل قَدْرَ فَرْضِ الْحَوْل الأَْوَّل، وَعَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بَقِيَ. وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ (1) .
حُكْمُ مَنْ شَكَّ هَل أَدَّى الزَّكَاةَ أَمْ لَمْ يُؤَدِّهَا:
128 - تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْحَنَفِيَّةُ: فَقَالُوا: إِنَّ مَنْ شَكَّ هَل أَدَّى زَكَاتَهُ أَوْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ بِخِلاَفِ مَا لَوْ شَكَّ بَعْدَ الْوَقْتِ أَنَّهُ هَل صَلَّى أَمْ لاَ، لاَ يُعِيدُ. قَالُوا: لأَِنَّ وَقْتَ الزَّكَاةِ لاَ آخِرَ
__________
(1) المغني 2 / 679 - 680 و688، والمجموع للنووي 5 / 337 مع فتح العزيز للرافعي القاهرة، المنيرية.(23/297)
لَهُ، بَل هُوَ الْعُمُرُ، فَالشَّكُّ فِيهَا كَالشَّكِّ فِي الصَّلاَةِ فِي الْوَقْتِ (1) .
وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى تَقْتَضِي مِثْل ذَلِكَ فَإِنَّ الْيَقِينَ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ.
(صُوَرُ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ:
129 - الزَّكَاةُ إِمَّا أَنْ تُخْرَجَ مِنْ أَعْيَانِ الْمَال وَهُوَ الأَْصْل فِي غَيْرِ زَكَاةِ الْعُرُوضِ التِّجَارِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَإِمَّا أَنْ تُخْرَجَ الْقِيمَةُ.
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي زَكَاةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ إِخْرَاجُ الْقِيمَةِ، وَلاَ يُجْزِئُ إِخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ أَعْيَانِ الْعُرُوضِ عِنْدَهُمْ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِالْجَوَازِ.
وَيُجْزِئُ إِخْرَاجُ الذَّهَبِ عَنِ الْفِضَّةِ بِالْقِيمَةِ وَعَكْسُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رَجَّحَهَا ابْنُ قُدَامَةَ.
وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ الثَّمَنِيَّةُ، وَالتَّوَسُّل بِهَا إِلَى الْمَقَاصِدِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْجِنْسَيْنِ جَمِيعًا، وَمِنْ هُنَا فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ سَائِرِ الأَْجْنَاسِ، فَإِنَّ لِكُل جِنْسٍ مَقْصُودًا مُخْتَصًّا بِهِ لاَ يَحْصُل بِالْجِنْسِ الآْخَرِ. وَلأَِنَّ إِخْرَاجَ الْقِيمَةِ هُنَا قَدْ يَكُونُ أَرْفَقَ بِالآْخِذِ وَالْمُعْطِي. وَقَدْ يَنْدَرِئُ بِهِ الضَّرَرُ عَنْهُمَا، فَإِنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الدَّنَانِيرِ مِنْهَا شَقَّ عَلَى مَنْ
__________
(1) فتح القدير 1 / 483.(23/298)
يَمْلِكُ أَقَل مِنْ أَرْبَعِينَ دِينَارًا ذَهَبًا إِخْرَاجُ جُزْءٍ مِنْ دِينَارٍ، لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى قَطْعِهِ أَوْ بَيْعِهِ أَوْ مُشَارَكَةِ الْفَقِيرِ لَهُ فِيهِ، وَفِي كُل ذَلِكَ ضَرَرٌ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَعَلَى هَذَا لاَ يَجُوزُ الإِْبْدَال فِي مَوْضِعٍ يَلْحَقُ فِيهِ الْفَقِيرَ ضَرَرٌ.
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ جَوَازَ إِخْرَاجِ الْفُلُوسِ عَنْ كُلٍّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (1) .
130 - وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ كَزَكَاةِ الْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ وَإِخْرَاجِ زَكَاةِ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ عَنْ غَيْرِهِمَا أَوِ الْعَكْسِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِخْرَاجِ الْقِيمَةِ عَلَى مَذَاهِبَ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى قَوْلٍ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ وَهِيَ الْمَذْهَبُ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْل نَحْوَ إِخْرَاجِ بِنْتِ لَبُونٍ عَنْ بِنْتِ مَخَاضٍ.
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ، وَفِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ (2) فَتَكُونُ الشَّاةُ الْمَذْكُورَةُ وَالدَّرَاهِمُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ الْمَأْمُورَ بِهَا، وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا فِي حَدِيثِ كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ
__________
(1) المغني 3 / 8، والدسوقي والشرح الكبير 1 / 499.
(2) حديث: " في مائتي درهم خمسة دراهم وفي أربعين شاة شاة " أخرجه أحمد (3 / 35 - ط الميمنية) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 72 - 73 - ط القدسي) وقال: رجاله رجال الصحيح.(23/298)
هَذِهِ الصَّدَقَةُ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى، وَكَانَ فِيهِ: فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الإِْبِل بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ (1) وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ عَيْنَهَا.
وَبِحَدِيثِ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَقَال خُذِ الْحَبَّ مِنَ الْحَبِّ، وَالشَّاةَ مِنَ الْغَنَمِ، وَالْبَعِيرَ مِنَ الإِْبِل، وَالْبَقَرَةَ مِنَ الْبَقَرِ (2) .
قَالُوا: وَلأَِنَّ الزَّكَاةَ فُرِضَتْ دَفْعًا لِحَاجَةِ الْفَقِيرِ، وَحَاجَاتُهُ مُتَنَوِّعَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَنَوَّعَ الْوَاجِبُ لِيَتَنَوَّعَ مَا يَصِل إِلَيْهِ، وَوَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَال، وَيَحْصُل ذَلِكَ بِالْمُوَاسَاةِ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ (3) . وَلأَِنَّ الزَّكَاةَ قُرْبَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَسَبِيلُهُ الاِتِّبَاعُ، وَلَوْ جَازَتِ الْقِيمَةُ لَبَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْقَوْل الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْل
__________
(1) حديث أبي بكر: " هذه الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم "، أخرجه أبو داود (2 / 218 - 219 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه النووي في المجموع (5 / 429 - ط المنيرية) .
(2) حديث: " خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من. . . " أخرجه أبو داود (2 / 253 - 254 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وأعله ابن حجر بالانقطاع بين معاذ والراوي عنه وهو عطاء بن يسار، كذا في التلخيص الحبير (2 / 170 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) المغني 3 / 65، والمجموع 5 / 428 وما بعدها.(23/299)
الثَّوْرِيِّ إِلَى أَنَّ إِخْرَاجَ الْقِيمَةِ جَائِزٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. لَكِنْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ، وَيُجْزِئُ مَعَ الْكَرَاهَةِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ قَبِيل شِرَاءِ الإِْنْسَانِ الصَّدَقَةَ الَّتِي أَخْرَجَهَا لِلَّهِ تَعَالَى.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِإِجْزَاءِ الْقِيمَةِ، بِمَا رُوِيَ أَنَّ مُعَاذًا قَال لأَِهْل الْيَمَنِ: ائْتُونِي بِعَرْضِ ثِيَابٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ، وَخَيْرٌ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ. وَقَال عَطَاءٌ: " كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْخُذُ الْعُرُوضَ فِي الصَّدَقَةِ مِنَ الدَّرَاهِمِ أَيْ عَنْهَا؛ وَلأَِنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ، وَذَلِكَ مَعْنًى مَعْقُولٌ؛ وَلأَِنَّ حَاجَاتِهِ مُخْتَلِفَةٌ، وَبِالْقِيمَةِ يُحَصِّل مَا شَاءَ مِنْ حَاجَاتِهِ. وَقِيَاسًا عَلَى الْجِزْيَةِ فَإِنَّ الْقِيمَةَ مُجْزِئَةٌ فِيهَا اتِّفَاقًا، وَالْغَرَضُ مِنْهَا كِفَايَةُ الْمُقَاتِلَةِ، وَمِنَ الزَّكَاةِ كِفَايَةُ الْفَقِيرِ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَرْفُوعِ مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنَ الإِْبِل صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْحِقَّةُ، وَيَجْعَل مَعَهَا شَاتَيْنِ إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا
(1) .
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: فَانْتَقَل إِلَى الْقِيمَةِ فِي
__________
(1) حديث: " من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 316 - ط السلفية) .(23/299)
مَوْضِعَيْنِ، فَعَلِمْنَا أَنْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ خُصُوصَ عَيْنِ السِّنِّ الْمُعَيَّنِ وَإِلاَّ لَسَقَطَ إِنْ تَعَذَّرَ، أَوْ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فَيَدْفَعَهُ.
ثُمَّ قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أُكْرِهَ عَلَى دَفْعِ الْقِيمَةِ فَدَفَعَهَا أَجْزَأَتْ، قَوْلاً وَاحِدًا.
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لاَ تُجْزِئُ الْقِيَمُ إِلاَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ، مِثْل مَنْ يَبِيعُ عِنَبَهُ وَرُطَبَهُ قَبْل الْيُبْسِ. قَال: وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ صَرِيحًا، فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْ إِخْرَاجِ الْقِيَمِ وَجَوَّزَهُ فِي مَوَاضِعَ لِلْحَاجَةِ (1) .
الإِْخْرَاجُ بِإِسْقَاطِ الْمُزَكِّي دَيْنَهُ عَنْ مُسْتَحِقٍّ لِلزَّكَاةِ:
131 - لاَ يَجُوزُ لِلدَّائِنِ أَنْ يُسْقِطَ دَيْنَهُ عَنْ مَدِينِهِ الْفَقِيرِ الْمُعْسِرِ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَسُدُّ بِهِ دَيْنَهُ وَيَحْسِبَهُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ. فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ لَمْ يُجْزِئْهُ عَنِ الزَّكَاةِ، وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مَا عَدَا أَشْهَبَ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْل أَبِي عُبَيْدٍ.
وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّ الزَّكَاةَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلاَ يَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَصْرِفَهَا إِلَى نَفْعِ نَفْسِهِ أَوْ إِحْيَاءِ مَالِهِ، وَاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ.
__________
(1) فتح القدير 1 / 495، 507، 508، والشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 502، ومجموع الفتاوى الكبرى 25 / 46 ط الرياض، 1382 هـ.(23/300)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءٍ: إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ زَكَاتَهُ ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْهُ عَنْ دَيْنِهِ جَازَ، فَكَذَا هَذَا.
فَإِنْ دَفَعَ الدَّائِنُ زَكَاةَ مَالِهِ إِلَى مَدِينِهِ فَرَدَّهَا الْمَدِينُ إِلَيْهِ سَدَادًا لِدَيْنِهِ، أَوِ اسْتَقْرَضَ الْمَدِينُ مَا يَسُدُّ بِهِ دَيْنَهُ فَدَفَعَهُ إِلَى الدَّائِنِ فَرَدَّهُ إِلَيْهِ وَاحْتَسَبَهُ مِنَ الزَّكَاةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حِيلَةً، أَوْ تَوَاطُؤًا، أَوْ قَصْدًا لإِِحْيَاءِ مَالِهِ، جَازَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيل الْحِيلَةِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَجَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ شَرْطٍ وَاتِّفَاقٍ، بَل بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
لَكِنْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ جَمِيعَ الدَّيْنِ إِلَى الْمَدِينِ الْفَقِيرِ سَقَطَتْ زَكَاةُ ذَلِكَ الدَّيْنِ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ الزَّكَاةَ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ (1) .
احْتِسَابُ الْمَكْسِ وَنَحْوِهِ عَنِ الزَّكَاةِ:
132 - قَال السَّرَخْسِيُّ الْحَنَفِيُّ: إِذَا نَوَى أَنْ يَكُونَ الْمَكْسُ زَكَاةً فَالصَّحِيحُ - أَيْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - أَنَّهُ لاَ يَقَعُ عَنِ الزَّكَاةِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتَاوَى الْبَزَّازِيَّةِ (2) .
__________
(1) المغني 2 / 653، وحاشية الدسوقي 1 / 494، والمجموع 6 / 211، والفتاوى الخانية 1 / 263 - 264.
(2) ابن عابدين 2 / 39.(23/300)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَفْتَى الشَّيْخُ عُلَيْشٌ فِيمَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا مِنَ الأَْنْعَامِ، فَجَعَل عَلَيْهِ الْحَاكِمُ نَقْدًا مَعْلُومًا كُل سَنَةٍ، يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ اسْمِ الزَّكَاةِ، فَلاَ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الزَّكَاةَ، وَإِنْ نَوَاهَا لاَ تَسْقُطُ عَنْهُ، وَقَال: أَفْتَى بِهِ النَّاصِرُ اللَّقَانِيُّ وَالْحَطَّابُ (1) .
وَفِي الْمَجْمُوعِ لِلنَّوَوِيِّ: اتَّفَقَ الأَْصْحَابُ أَنَّ الْخَرَاجَ الْمَأْخُوذَ ظُلْمًا لاَ يَقُومُ مَقَامَ الْعُشْرِ، فَإِنْ أَخَذَهُ السُّلْطَانُ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَل الْعُشْرِ فَهُوَ كَأَخْذِ الْقِيمَةِ، وَفِي سُقُوطِ الْفَرْضِ بِهِ خِلاَفٌ، وَالصَّحِيحُ السُّقُوطُ بِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يَبْلُغْ قَدْرَ الْعُشْرِ أَخْرَجَ الْبَاقِيَ.
وَأَفْتَى ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ بِأَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنَ التَّاجِرِ مِنَ الْمَكْسِ لاَ يُحْسَبُ عَنْهُ زَكَاةً، وَلَوْ نَوَى بِهِ الزَّكَاةَ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَ لَمْ يَأْخُذْهُ بِاسْمِ الزَّكَاةِ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا يُجْزِئُ وَالأُْخْرَى لاَ يُجْزِئُ، قَال ابْنُ مُفْلِحٍ: وَهِيَ الأَْصَحُّ؛ لأَِنَّهُ أَخَذَهَا غَصْبًا (3) . وَفِي فَتَاوَى ابْنِ تَيْمِيَّةَ: مَا يَأْخُذُهُ وُلاَةُ الأُْمُورِ بِغَيْرِ اسْمِ الزَّكَاةِ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الزَّكَاةِ (4) .
__________
(1) فتاوى عليش 1 / 139، 140.
(2) المجموع 5 / 541، 542، والزواجر لابن حجر 1 / 149 المطبعة الأزهرية.
(3) مطالب أولي النهى 2 / 133، بيروت، المكتب الإسلامي، 1380 هـ.
(4) فتاوى ابن تيمية 25 / 93 طبع الرياض سنة 1382 هـ.(23/301)
مَا يَنْبَغِي لِمُخْرِجِ الزَّكَاةِ مُرَاعَاتُهُ فِي الإِْخْرَاجِ:
133 - أ - يُسْتَحَبُّ لِلْمُزَكِّي إِخْرَاجُ الْجَيِّدِ مِنْ مَالِهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّهِ الْوَسَطُ، وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (1) وَقَوْلِهِ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (2) .
134 - ب - إِظْهَارُ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ وَإِعْلاَنُهُ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَل اللَّهُ صَدَقَةَ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تَفْضُل عَلاَنِيَتَهَا، يُقَال: بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وَجَعَل صَدَقَةَ الْفَرِيضَةِ عَلاَنِيَتَهَا أَفْضَل مِنْ سِرِّهَا، يُقَال: بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، قَال: وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِل فِي الأَْشْيَاءِ كُلِّهَا.
وَقَال الطَّبَرِيُّ: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ إِظْهَارَ الْوَاجِبِ أَفْضَل. اهـ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (3) فَهُوَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، نَظِيرُهَا الصَّلاَةُ، تَطَوُّعُهَا فِي الْبَيْتِ أَفْضَل، وَفَرِيضَتُهَا فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَل (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 267.
(2) سورة آل عمران / 92.
(3) سورة البقرة / 271.
(4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3 / 332 - 334، القاهرة، دار الكتب، والمجموع للنووي 6 / 33.(23/301)
ج - الْحَذَرُ مِنَ الْمَنِّ وَالرِّيَاءِ وَالأَْذَى، وَهَذِهِ الأُْمُورُ مُحَرَّمَةٌ فِي كُل مَا يُخْرَجُ مِنَ الْمَال مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى، وَتُحْبِطُ الأَْجْرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَْذَى} (1) . وَمِنْ هُنَا اسْتَحَبَّ الْمَالِكِيَّةُ لِلْمُزَكِّي أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يُخْرِجُهَا خَوْفَ قَصْدِ الْمَحْمَدَةِ (2) .
ج - اخْتِيَارُ الْمُزَكِّي مَنْ يُعْطِيهِ الزَّكَاةَ:
136 - إِعْطَاءُ الْمُسْتَحِقِّينَ الزَّكَاةَ لَيْسَ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ مِنَ الْفَضْل، بَل يَتَمَايَزُ.
فَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْمُزَكِّي إِيثَارُ الْمُضْطَرِّ أَيِ الْمُحْتَاجِ، عَلَى غَيْرِهِ، بِأَنْ يُزَادَ فِي إِعْطَائِهِ مِنْهَا دُونَ عُمُومِ الأَْصْنَافِ (3) .
د - أَنْ لاَ يُخْبِرَ الْمُزَكِّي الْفَقِيرَ أَنَّهَا زَكَاةٌ:
137 - قِيل لأَِحْمَدَ: يَدْفَعُ الرَّجُل زَكَاتَهُ إِلَى الرَّجُل، فَيَقُول: هَذَا مِنَ الزَّكَاةِ، أَوْ يَسْكُتُ؟ قَال: وَلِمَ يُبَكِّتْهُ بِهَذَا الْقَوْل؟ يُعْطِيهِ وَيَسْكُتُ، مَا حَاجَتُهُ إِلَى أَنْ يُقَرِّعَهُ؟ وَهَذَا يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ وَبِهِ صَرَّحَ اللَّقَانِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (4) ، قَال: لِمَا فِيهِ
__________
(1) سورة البقرة / 264.
(2) الشرح الكبير 1 / 498.
(3) الشرح الكبير 1 / 498.
(4) المغني 2 / 647، والشرح الكبير 1 / 500.(23/302)
مِنْ كَسْرِ قَلْبِ الْفَقِيرِ.
وَقَال ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ بُدَّ أَنْ يَقُول بِلِسَانِهِ شَيْئًا، كَالْهِبَةِ، قَال النَّوَوِيُّ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ. قَال: وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ إِذَا دَفَعَهَا إِلَى الْمُسْتَحِقِّ وَلَمْ يَقُل هِيَ زَكَاةٌ، وَلاَ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ أَصْلاً فَإِنَّهَا تُجْزِئُهُ وَتَقَعُ زَكَاةً. لَكِنْ قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ أَعْطَاهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ أَنَّهَا زَكَاةٌ فَبَانَ الآْخِذُ غَنِيًّا لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ (1) .
التَّوْكِيل فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ:
138 - يَجُوزُ لِلْمُزَكِّي أَنْ يُوَكِّل غَيْرَهُ فِي أَدَاءِ زَكَاتِهِ، سَوَاءٌ فِي إِيصَالِهَا لِلإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، أَوْ فِي أَدَائِهَا إِلَى الْمُسْتَحِقِّ، سَوَاءٌ عَيَّنَ ذَلِكَ الْمُسْتَحِقَّ أَوْ فَوَّضَ تَعْيِينَهُ إِلَى الْوَكِيل.
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ الْمُزَكِّي الزَّكَاةَ بِنَفْسِهِ أَفْضَل مِنَ التَّوْكِيل؛ لأَِنَّهُ بِفِعْل نَفْسِهِ أَوْثَقُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: التَّوْكِيل أَفْضَل خَشْيَةَ قَصْدِ الْمَحْمَدَةِ، وَيَجِبُ لِمَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ الْقَصْدَ، أَوْ يَجْهَل الْمُسْتَحِقِّينَ. قَالُوا: وَلَيْسَ لِلْوَكِيل صَرْفُهَا لِقَرِيبِ الْمُزَكِّي الَّذِي تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، فَإِنْ لَمْ تَلْزَمْهُ نَفَقَتُهُ كُرِهَ.
ثُمَّ قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْوَكِيل بَالِغًا
__________
(1) المجموع 6 / 233.(23/302)
عَاقِلاً، جَازَ التَّفْوِيضُ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ سَفِيهًا لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيل، إِلاَّ إِنْ نَوَى الْمُوَكِّل وَعَيَّنَ لَهُ مَنْ يُعْطِيهِ الْمَال (1) .
تَلَفُ الْمَال كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ:
139 - مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَلَمْ يُخْرِجْهَا ثُمَّ ضَاعَ الْمَال كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ، أَوْ تَلِفَ بِغَيْرِ فِعْل الْمُزَكِّي فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ تَلِفَ الْمَال سَقَطَتِ الزَّكَاةُ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنَ النِّصَابِ فَيَسْقُطُ بِهَلاَكِ مَحَلِّهِ، لَكِنْ إِنْ كَانَ هَلاَكُهُ بَعْدَ طَلَبِ السَّاعِي فَقِيل: يَضْمَنُ، وَقِيل: لاَ يَضْمَنُ.
قَالُوا: وَإِذَا هَلَكَ بَعْضُ الْمَال يَسْقُطُ مِنَ الزَّكَاةِ بِقَدْرِهِ أَيْ بِنِسْبَةِ مَا هَلَكَ.
وَقَالُوا: إِنْ تَلِفَ مِنْ مَال الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْل مَا كَانَ بِهِ الْبَاقِي أَقَل مِنْ نِصَابٍ قَبْل إِمْكَانِ الأَْدَاءِ بِلاَ تَفْرِيطٍ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ، فَإِنْ أَمْكَنَ الأَْدَاءُ وَفَرَّطَ ضَمِنَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ ضَيَاعُهُ بِتَفْرِيطِهِ فِي حِفْظِهِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ كُل الْمَال، وَكَذَا إِنْ فَرَّطَ فِي الإِْخْرَاجِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ، بِأَنْ وَجَدَ الْمُسْتَحِقَّ، سَوَاءٌ طَلَبَ الزَّكَاةَ أَمْ لَمْ يَطْلُبْهَا، لِتَقْصِيرِهِ بِحَبْسِ الْحَقِّ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ. ثُمَّ قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَكُنْ فَرَّطَ زَكَّى الْبَاقِيَ فَقَطْ
__________
(1) الشرح الكبير 1 / 498، شرح المنهاج 2 / 42.(23/303)
بِقِسْطِهِ، وَلَوْ كَانَ أَقَل مِنْ نِصَابٍ، عَلَى الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ، فَلَوْ مَلَكَ خَمْسًا مِنَ الإِْبِل فَتَلِفَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُ قَبْل التَّمَكُّنِ فَفِي الْبَاقِي 5 / 4 شَاةٍ عَلَى الأَْظْهَرِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الثَّانِي.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنْ كَانَ الْبَاقِي أَقَل مِنْ نِصَابٍ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ كُل الْمَال، حَتَّى لَوْ ضَاعَ كُلُّهُ بَعْدَ الْحَوْل فَالزَّكَاةُ فِي ذِمَّتِهِ لاَ تَسْقُطُ إِلاَّ بِالأَْدَاءِ، لأَِنَّهَا حَقٌّ لِلْفُقَرَاءِ وَمَنْ مَعَهُمْ لَمْ يَصِل إِلَيْهِمْ، كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ (1) .
تَلَفُ الزَّكَاةِ بَعْدَ عَزْلِهَا:
140 - لَوْ عَزَل الزَّكَاةَ وَنَوَى أَنَّهَا زَكَاةُ مَالِهِ فَتَلِفَتْ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ صُورَةَ مَا لَوْ عَزَل الزَّكَاةَ فَتَلِفَ الْمَال وَبَقِيَتِ الزَّكَاةُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا وَلاَ تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَال (2) .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: جَمْعُ الإِْمَامِ وَنُوَّابِهِ لِلزَّكَاةِ:
141 - لِلإِْمَامِ حَقُّ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنَ الْمَال الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ (عَلَى خِلاَفٍ فِي بَعْضِ الأَْمْوَال يَأْتِي بَيَانُهُ) . وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَلِيفَتَانِ بَعْدَهُ
__________
(1) فتح القدير 1 / 515، والمغني 2 / 686، والشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 503، وشرح المنهاج والقليوبي 2 / 46.
(2) المغني 2 / 686، والشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 503.(23/303)
يَأْخُذُونَ الزَّكَاةَ مِنْ كُل الأَْمْوَال، إِلَى أَنْ فَوَّضَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلاَفَتِهِ أَدَاءَ الزَّكَاةِ عَنِ الأَْمْوَال الْبَاطِنَةِ إِلَى مُلاَّكِهَا، كَمَا يَأْتِي (1) .
وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (2) وَقَوْل أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ وَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ.
وَيَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَخْذُ الزَّكَاةِ مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ بَعْثُ السُّعَاةِ لأَِخْذِ الصَّدَقَاتِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِهِ كَانُوا يَبْعَثُونَ السُّعَاةَ، وَلأَِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ يَمْلِكُ الْمَال وَلاَ يَعْرِفُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْخَل. وَالْوُجُوبُ هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْمَالِكِيَّةِ (3) ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} .
وَاَلَّذِينَ رَخَّصُوا لِلإِْمَامِ فِي عَدَمِ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ جَمِيعِ الأَْمْوَال أَوْ مِنْ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، إِنَّمَا هُوَ إِذَا عَلِمَ الإِْمَامُ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَأْخُذْهَا مِنْهُمْ أَخْرَجُوهَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، أَمَّا لَوْ عَلِمَ أَنَّ إِنْسَانًا مِنَ النَّاسِ أَوْ جَمَاعَةً مِنْهُمْ لاَ يُخْرِجُونَ الزَّكَاةَ فَيَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَخْذُهَا مِنْهُمْ وَلَوْ قَهْرًا، كَمَا
__________
(1) العناية على الهداية بهامش فتح القدير 1 / 487.
(2) سورة التوبة / 103.
(3) المجموع 6 / 167، 168، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 443.(23/304)
تَقَدَّمَ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَةَ لِحِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَمَنْعُ الزَّكَاةِ هَدْمٌ لِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ (1) .
حُكْمُ دَفْعِ الزَّكَاةِ إِلَى الإِْمَامِ الْعَادِل:
142 - الْمُرَادُ بِالإِْمَامِ الْعَادِل هُنَا مَنْ يَأْخُذُ الزَّكَاةَ بِحَقِّهَا، وَيُعْطِيهَا لِمُسْتَحِقِّهَا، وَلَوْ كَانَ جَائِرًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ.
وَمَنْ دَفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ إِلَى الإِْمَامِ الْعَادِل جَازَ، وَأَجْزَأَتْ عَنْهُ اتِّفَاقًا.
وَلَوْ كَانَ بِإِمْكَانِهِ دَفْعُهَا إِلَى الإِْمَامِ وَتَفْرِيقُهَا بِنَفْسِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ:
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَهُوَ الْقَدِيمُ مِنْ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ، وَهِيَ الزُّرُوعُ، وَالْمَوَاشِي، وَالْمَعَادِنِ، وَنَحْوِهَا، وَبَيْنَ الأَْمْوَال الْبَاطِنَةِ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالتِّجَارَاتُ.
فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَيَجِبُ دَفْعُهَا إِلَى الإِْمَامِ، لأَِنَّ أَبَا بَكْرٍ طَالَبَهُمْ بِالزَّكَاةِ وَقَاتَلَهُمْ عَلَيْهَا، وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ عَلَى هَذَا، فَلَيْسَ لِلْمُزَكِّي إِخْرَاجُهَا بِنَفْسِهِ، حَتَّى لَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا كَذَلِكَ لَمْ تُجْزِئْهُ.
وَلأَِنَّ مَا لِلإِْمَامِ قَبْضُهُ بِحُكْمِ الْوِلاَيَةِ لاَ يَجُوزُ دَفْعُهُ إِلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ.
__________
(1) المغني 2 / 572 - 575، وشرح منتهى الإرادات 1 / 417.(23/304)
وَأَمَّا زَكَاةُ الأَْمْوَال الْبَاطِنَةِ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لِلإِْمَامِ طَلَبُهَا، وَحَقُّهُ ثَابِتٌ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ كُل مَالٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، لِلآْيَةِ. وَمَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَوَّضَ إِلَى الْمُلاَّكِ زَكَاةَ الْمَال الْبَاطِنِ، فَهُمْ نُوَّابُهُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا لاَ يُسْقِطُ طَلَبَ الإِْمَامِ أَصْلاً، وَلِهَذَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ أَهْل بَلْدَةٍ لاَ يُؤَدُّونَ زَكَاتَهُمْ طَالَبَهُمْ بِهَا. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَطْلُبْهَا لَمْ يَجِبِ الدَّفْعُ إِلَيْهِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: زَكَاةُ الأَْمْوَال الْبَاطِنَةِ مُفَوَّضَةٌ لأَِرْبَابِهَا، فَلِرَبِّ الْمَال أَنْ يُوصِلَهَا إِلَى الْفُقَرَاءِ وَسَائِرِ الْمُسْتَحِقِّينَ بِنَفْسِهِ (2) . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْجَدِيدُ الْمُعْتَمَدُ مِنْ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ: إِلَى أَنَّ الدَّفْعَ إِلَى الإِْمَامِ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ عَلَى السَّوَاءِ، فَيَجُوزُ لِلْمَالِكِ صَرْفُهَا إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ مُبَاشَرَةً، قِيَاسًا لِلظَّاهِرَةِ عَلَى الْبَاطِنَةِ، وَلأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِيصَال الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ الْجَائِزِ تَصَرُّفُهُ، فَيُجْزِئُهُ، كَمَا لَوْ دَفَعَ الدَّيْنَ إِلَى غَرِيمِهِ مُبَاشَرَةً، وَأَخْذُ الإِْمَامِ لَهَا إِنَّمَا هُوَ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ عَنْ مُسْتَحِقِّهَا، فَإِذَا دَفَعَهَا إِلَيْهِمْ جَازَ؛ لأَِنَّهُمْ أَهْل رُشْدٍ.
ثُمَّ قَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ: الصَّرْفُ إِلَى
__________
(1) المغني 2 / 641 - 643، وفتح القدير والعناية 1 / 487، 488، والدسوقي 1 / 503.
(2) الدسوقي 1 / 432، والأحكام السلطانية للماوردي ص 113 القاهرة، مطبعة مصطفى الحلبي، 1327 هـ.(23/305)
الإِْمَامِ أَفْضَل مِنْ تَفْرِيقِهَا بِنَفْسِهِ؛ لأَِنَّهُ أَعْرَفُ بِالْمُسْتَحِقِّينَ، وَأَقْدَرُ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ، وَبِهِ يَبْرَأُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (1) .
ثُمَّ قَال الْحَنَابِلَةُ: تَفْرِقَتُهَا بِنَفْسِهِ، أَوْلَى وَأَفْضَل مِنْ دَفْعِهَا إِلَى الإِْمَامِ، لأَِنَّهُ إِيصَالٌ لِلْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَيَسْلَمُ عَنْ خَطَرِ الْخِيَانَةِ مِنَ الإِْمَامِ أَوْ عُمَّالِهِ؛ وَلأَِنَّ فِيهِ مُبَاشَرَةَ تَفْرِيجِ كُرْبَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا، وَفِيهِ تَوْفِيرٌ لأَِجْرِ الْعِمَالَةِ، مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ إِعْطَاءِ مَحَاوِيجِ أَقْرِبَائِهِ، وَذَوِي رَحِمِهِ، وَصِلَتِهِمْ بِهَا، إِلاَّ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَثِقْ بِأَمَانَةِ نَفْسِهِ فَالأَْفْضَل لَهُ دَفْعُهَا إِلَى السَّاعِي، لِئَلاَّ يَمْنَعَهُ الشُّحُّ مِنْ إِخْرَاجِهَا.
أَمَّا لَوْ طَلَبَ الإِْمَامُ الْعَادِل الزَّكَاةَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ اتِّفَاقًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَال ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا، وَالْخِلاَفُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ جَمْعَ زَكَاةِ الْمَال الْبَاطِنِ لاَ يُبِيحُ مَعْصِيَتَهُ فِي ذَلِكَ إِنْ طَلَبَهُ، لأَِنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَأَمْرُ الإِْمَامِ يَرْفَعُ الْخِلاَفَ كَحُكْمِ الْقَاضِي، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الإِْمَامَ الْعَدْل إِنْ طَلَبَهَا فَادَّعَى الْمَالِكُ إِخْرَاجَهَا لَمْ يُصَدَّقْ (2) .
__________
(1) المغني 2 / 644، وشرح المنهاج 2 / 42، وتحفة المحتاج 3 / 344.
(2) الدسوقي 1 / 503.(23/305)
دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَى الأَْئِمَّةِ الْجَائِرِينَ، وَإِلَى الْبُغَاةِ:
143 - إِنْ أَخَذَ الإِْمَامُ الْجَائِرُ الزَّكَاةَ قَهْرًا أَجْزَأَتْ عَنْ صَاحِبِهَا.
وَكَذَا إِنْ أَكْرَهَ الإِْمَامُ الْمُزَكِّيَ فَخَافَ الضَّرَرَ إِنْ لَمْ يَدْفَعْهَا إِلَيْهِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الاِمْتِنَاعِ عَنْ دَفْعِهَا إِلَى الإِْمَامِ الْجَائِرِ، أَوْ عَلَى إِخْفَاءِ مَالِهِ، أَوْ إِنْكَارِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ دَفْعِهَا إِلَى الإِْمَامِ حِينَئِذٍ، وَأَنَّهَا لاَ تُجْزِئُ عَنْ دَافِعِهَا عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَخَذَ الْخَوَارِجُ وَالسَّلاَطِينُ الْجَائِرُونَ زَكَاةَ الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ كَزَكَاةِ السَّوَائِمِ وَالزُّرُوعِ وَمَا يَأْخُذُهُ الْعَاشِرُ، فَإِنْ صَرَفُوهُ فِي مَصَارِفِهِ الْمَشْرُوعَةِ فَلاَ إِعَادَةَ عَلَى الْمُزَكِّي، وَإِلاَّ فَعَلَى الْمُزَكِّي فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إِعَادَةُ إِخْرَاجِهَا. وَفِي حَالَةِ كَوْنِ الآْخِذِ لَهَا الْبُغَاةَ لَيْسَ لِلإِْمَامِ أَنْ يُطَالِبَ أَصْحَابَ الأَْمْوَال بِهَا؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَحْمِهِمْ مِنَ الْبُغَاةِ، وَالْجِبَايَةُ بِالْحِمَايَةِ، وَيُفْتَى الْبُغَاةُ بِأَنْ يُعِيدُوا مَا أَخَذُوهُ مِنَ الزَّكَاةِ.
وَأَمَّا الأَْمْوَال الْبَاطِنَةُ فَلاَ يَصِحُّ دَفْعُهَا إِلَى السُّلْطَانِ الْجَائِرِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ دَفَعَهَا إِلَى السُّلْطَانِ الْجَائِرِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 512، وحاشية ابن عابدين 2 / 24، والفتاوى الهندية 1 / 190.(23/306)
اخْتِيَارًا، فَدَفَعَهَا السُّلْطَانُ لِمُسْتَحِقِّهَا أَجْزَأَتْ عَنْهُ، وَإِلاَّ لَمْ تُجْزِئْهُ. فَإِنْ طَلَبَهَا الْجَائِرُ فَعَلَى رَبِّهَا جَحْدُهَا وَالْهَرَبُ بِهَا مَا أَمْكَنَ، فَإِنْ أَكْرَهَهُ جَازَ.
وَهَذَا إِنْ كَانَ جَائِرًا فِي أَخْذِهَا أَوْ صَرْفِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ أَوِ الْبَاطِنَةِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ عَادِلاً فِيهَا وَجَائِرًا فِي غَيْرِهَا، فَيَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِنْ طَلَبَ الإِْمَامُ الْجَائِرُ زَكَاةَ الْمَال الْبَاطِنِ، فَصَرْفُهَا إِلَيْهِ أَفْضَل، وَكَذَا زَكَاةُ الْمَال الظَّاهِرِ سَوَاءٌ لَمْ يَطْلُبْهَا أَوْ طَلَبَهَا، وَفِي التُّحْفَةِ إِنْ طَلَبَهَا وَجَبَ الدَّفْعُ إِلَيْهِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى الإِْمَامِ الْجَائِرِ وَالْبُغَاةِ وَالْخَوَارِجِ إِذَا غَلَبُوا عَلَى الْبَلَدِ جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ أَوِ الْبَاطِنَةِ.
وَيَبْرَأُ الْمُزَكِّي بِدَفْعِهَا إِلَيْهِمْ، سَوَاءٌ صَرَفَهَا الإِْمَامُ فِي مَصَارِفِهَا أَوْ لاَ. وَاحْتَجُّوا بِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَجَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ (3) .
إِرْسَال الْجُبَاةِ وَالسُّعَاةِ لِجَمْعِ الزَّكَاةِ وَصَرْفِهَا:
144 - يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يُرْسِل السُّعَاةَ لِقَبْضِ الزَّكَاةِ وَتَفْرِيقِهَا عَلَى مُسْتَحَقِّيهَا، وَقَدْ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 502، 504.
(2) القليوبي 2 / 42، 43، وتحفة المحتاج 3 / 344، ومغني المحتاج 1 / 414.
(3) شرح منتهى الإرادات 1 / 419، والمغني 2 / 644.(23/306)
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَلِّي الْعُمَّال ذَلِكَ وَيَبْعَثُهُمْ إِلَى أَصْحَابِ الأَْمْوَال، فَقَدِ اسْتَعْمَل عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهَا، وَوَرَدَ أَنَّهُ اسْتَعْمَل ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ (1) .
وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ كَانُوا يُرْسِلُونَ سُعَاتِهِمْ لِقَبْضِهَا.
وَيُشْتَرَطُ فِي السَّاعِي مَا يَلِي:
1 - أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، فَلاَ يَسْتَعْمِل عَلَيْهَا كَافِرًا لأَِنَّهَا وِلاَيَةٌ، وَفِيهَا تَعْظِيمٌ لِلْوَالِي.
2 - وَأَنْ يَكُونَ عَدْلاً، أَيْ ثِقَةً مَأْمُونًا، لاَ يَخُونُ وَلاَ يَجُورُ فِي الْجَمْعِ، وَلاَ يُحَابِي فِي الْقِسْمَةِ.
3 - وَأَنْ يَكُونَ فَقِيهًا فِي أُمُورِ الزَّكَاةِ، لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يُؤْخَذُ وَمَا لاَ يُؤْخَذُ، وَمُحْتَاجٌ إِلَى الاِجْتِهَادِ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ وَقَائِعِ الزَّكَاةِ.
4 - وَأَنْ يَكُونَ فِيهِ الْكِفَايَةُ، وَهِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْقِيَامِ بِالْعَمَل وَضَبْطِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ.
5 - وَأَنْ لاَ يَكُونَ مِنْ آل الْبَيْتِ، وَفِي هَذَا الشَّرْطِ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَمَعْنَى اشْتِرَاطِهِ هُنَا عَدَمُ اسْتِحْقَاقِهِ لِلأَْخْذِ مِنْهَا مُقَابِل عَمَلِهِ فِيهَا، فَلَوْ عَمِل بِلاَ أَجْرٍ أَوْ أُعْطِيَ أَجْرَهُ مِنْ مَال الْفَيْءِ أَوْ غَيْرِهِ جَازَ، وَ (ر: آل، جِبَايَة) .
وَالسُّعَاةُ عَلَى الزَّكَاةِ أَنْوَاعٌ فَمِنْهُمُ الْجَابِي:
__________
(1) استعماله صلى الله عليه وسلم لابن اللتبية. أخرج حديثه البخاري (الفتح 5 / 220 - ط السلفية) من حديث أبي حميد الساعدي، ومسلم (3 / 1463 - ط الحلبي) .(23/307)
وَهُوَ الْقَابِضُ لِلزَّكَاةِ، وَالْمُفَرِّقُ: وَهُوَ الْقَاسِمُ، وَالْحَاشِرُ: وَهُوَ الَّذِي يَجْمَعُ أَرْبَابَ الأَْمْوَال لِتُؤْخَذَ مِنْهُمُ الزَّكَاةُ، وَالْكَاتِبُ لَهَا (1) .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِمَامٌ، أَوْ كَانَ الإِْمَامُ لاَ يُرْسِل السُّعَاةَ لِجَبْيِ الزَّكَاةِ فَيَجِبُ عَلَى أَهْل الأَْمْوَال إِخْرَاجُهَا وَتَفْرِيقُهَا عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ؛ لأَِنَّهُمْ أَهْل الْحَقِّ فِيهَا وَالإِْمَامُ نَائِبٌ (2) .
مَوْعِدُ إِرْسَال السُّعَاةِ:
145 - الأَْمْوَال قِسْمَانِ: فَمَا كَانَ مِنْهَا لاَ يُشْتَرَطُ لِزَكَاتِهِ الْحَوْل كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْمَعَادِنِ، فَهَذَا يُرْسِل الإِْمَامُ سُعَاتَهُ وَقْتَ وُجُوبِهَا، فَفِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ عِنْدَ إِدْرَاكِهَا بِحَيْثُ يَصِلُهُمْ وَقْتَ الْجُذَاذِ وَالْحَصَادِ.
وَهَذَا فِي غَيْرِ الْخَرْصِ، أَمَّا الْخَارِصُ فَيُرْسَل عِنْدَ بَدْءِ ظُهُورِ الصَّلاَحِ كَمَا تَقَدَّمَ (وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: خَرْص) .
وَمَا كَانَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحَوْل كَالْمَوَاشِي: فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ شَهْرًا مُعَيَّنًا مِنَ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ يُرْسِل إِلَيْهِمْ فِيهِ السَّاعِيَ كُل عَامٍ (3) .
__________
(1) المجموع للنووي 6 / 167 - 169، والقليوبي 3 / 203، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 443، 495، والمغني 2 / 706، وابن عابدين 2 / 38.
(2) المجموع 6 / 178.
(3) المجموع 6 / 170. وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 15 و3 / 203.(23/307)
حُقُوقُ الْعَامِلِينَ عَلَى الزَّكَاةِ:
146 - الْعَامِل عَلَى الزَّكَاةِ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهُ حَقَّهُ مِنَ الزَّكَاةِ نَفْسِهَا بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي السَّاعِي.
وَيَجُوزُ إِعْطَاؤُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال. وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ، كَأَنْ يَكُونَ مِنْ آل الْبَيْتِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ، أَوْ يَكُونَ الْعَمَل مِمَّا لاَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ غَالِبًا كَالرَّاعِي وَالْحَارِسِ وَالسَّائِقِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُعْطَى الرَّاعِي وَالْحَارِسُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الزَّكَاةِ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَامِلِينَ (1) .
وَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا غَيْرَ الأَْجْرِ الَّذِي يُعْطِيهِ إِيَّاهُ الإِْمَامُ، لِمَا فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى يَقُول: مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا (2) فَمَا فَوْقَهُ، كَانَ غُلُولاً يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (3) .
وَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَهْل الأَْمْوَال بِاسْمِ الْهَدِيَّةِ بِسَبَبِ وِلاَيَتِهِ، وَإِنْ أَخَذَهُ لَمْ يَحِل لَهُ أَنْ يَكْتُمَهُ وَيَسْتَأْثِرَ بِهِ، لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: اسْتَعْمَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً مِنَ الأَْزْدِ يُقَال لَهُ ابْنُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 495، وابن عابدين 2 / 38، والمغني 2 / 654.
(2) المخيط: الإبرة.
(3) حديث: " من استعملناه منكم على عمل ". أخرجه مسلم (3 / 1464 - ط الحلبي) .(23/308)
اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَال: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. قَال: فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ - أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ - ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ - اللَّهُمَّ هَل بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَل بَلَّغْتُ، ثَلاَثًا (1) .
دُعَاءُ السَّاعِي لِلْمُزَكِّي:
147 - إِذَا أَخَذَ السَّاعِي الزَّكَاةَ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمَالِكِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَل عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (2) وَلِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَال: اللَّهُمَّ صَل عَلَى آل فُلاَنٍ فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَال: اللَّهُمَّ صَل عَلَى آل أَبِي أَوْفَى (3) . وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ ذَلِكَ، لِظَاهِرِ الآْيَةِ. وَيَقُول: اللَّهُمَّ صَل عَلَى آل فُلاَنٍ. وَإِنْ شَاءَ دَعَا بِغَيْرِ
__________
(1) حديث أبي حميد الساعدي. أخرجه البخاري (الفتح 5 / 220 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1463 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.
(2) سورة التوبة / 103.
(3) حديث: " كان إذا أتاه قوم بصدقتهم ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 361 - ط السلفية) .(23/308)
ذَلِكَ. وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَدْعُو بِالصَّلاَةِ عَلَى آل الْمُزَكِّي، بَل يَدْعُو بِغَيْرِهَا؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ خَاصَّةٌ بِالأَْنْبِيَاءِ (1) .
مَا يَصْنَعُ السَّاعِي بِالْمُمْتَنِعِ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ:
148 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ السَّاعِي جَائِرًا فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ أَوْ صَرْفِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعْزِيرُ مَنِ امْتَنَعَ أَوْ أَخْفَى مَالَهُ أَوْ غَلَبَ بِهِ؛ لأَِنَّ الْمُمْتَنِعَ أَوِ الْمُخْفِيَ يَكُونُ بِذَلِكَ مَعْذُورًا. أَمَّا إِنْ كَانَ السَّاعِي عَادِلاً فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا مِنَ الْمُمْتَنِعِ أَوِ الْمُخْفِي، وَيُعَزِّرُهُ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيمَا فَعَلَهُ شُبْهَةٌ مُعْتَبَرَةٌ (2) .
وَلَوْ خَرَجَ عَلَى الإِْمَامِ قَوْمٌ فَلَمْ يَقْدِرِ السَّاعِي عَلَى أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُمْ حَتَّى مَضَتْ أَعْوَامٌ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَيْهِمْ، يُؤْخَذُونَ بِزَكَاةِ مَا وُجِدَ مَعَهُمْ حَال الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ لِمَاضِي الأَْعْوَامِ وَلِعَامِ الْقُدْرَةِ، وَإِنِ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهَا يُصَدَّقُونَ، لَكِنْ إِنْ كَانَ خُرُوجُهُمْ لِمَنْعِهَا لاَ يُصَدَّقُونَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ (3) .
مَا يَصْنَعُ السَّاعِي عِنْدَ اخْتِلاَفِ الْحَوْل عَلَى الْمُلاَّكِ (4) :
149 - قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا وَصَل السَّاعِي إِلَى
__________
(1) المجموع 6 / 169 - 171، والمغني 2 / 645.
(2) المجموع 6 / 173.
(3) الشرح الكبير للدردير 1 / 447.
(4) ترى اللجنة أن هذه الصور إجرائية تختلف باختلاف الزمان والمكان ووسائل المواصلات والاتصالات وغيرها مما جد ومما سيجد.(23/309)
أَرْبَابِ الأَْمْوَال، فَإِنْ كَانَ حَوْل صَاحِبِ الْمَال قَدْ تَمَّ أَخَذَ مِنْهُ الزَّكَاةَ، وَإِنْ كَانَ حَوْل بَعْضِهِمْ لَمْ يَتِمَّ سَأَلَهُ السَّاعِي تَعْجِيل الزَّكَاةِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَالِكِ إِجَابَتُهُ، فَإِنْ عَجَّلَهَا بِرِضَاهُ أَخَذَهَا مِنْهُ، وَإِلاَّ لَمْ يَجْبُرْهُ، ثُمَّ إِنْ رَأَى السَّاعِي الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يُوَكِّل مَنْ يَأْخُذُهَا عِنْدَ حُلُولِهَا وَيُفَرِّقُهَا عَلَى أَهْلِهَا فَعَل. وَإِنْ رَأَى أَنْ يُؤَخِّرَهَا لِيَأْخُذَهَا مِنْهُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِل فَعَل، وَيَكْتُبُهَا كَيْ لاَ يَنْسَاهَا أَوْ يَمُوتَ فَلاَ يَعْلَمَهَا السَّاعِي الَّذِي بَعْدَهُ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَرْجِعَ فِي وَقْتِ حُلُولِهَا لِيَأْخُذَهَا فَعَل، وَإِنْ وَثِقَ بِصَاحِبِ الْمَال جَازَ أَنْ يُفَوِّضَ إِلَيْهِ تَفْرِيقَهَا (1) .
وَتَقَدَّمَ أَنَّ وُصُول السَّاعِي شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ سَاعٍ، فَهُوَ يُحَاسِبُهُمْ عَلَى مَا يَمْلِكُونَهُ يَوْمَ وُصُولِهِ إِلَيْهِمْ (2) .
حِفْظُ الزَّكَاةِ:
150 - عَلَى السَّاعِي الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَال الزَّكَاةِ. وَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ حَتَّى يُوصِلَهُ إِلَى مُسْتَحَقِّيهِ، أَوْ يُوصِلَهُ إِلَى الإِْمَامِ إِنْ فَضَل مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَهُ فِي سَبِيل ذَلِكَ أَنْ يَتَّخِذَ حَارِسًا أَوْ رَاعِيًا وَنَحْوَهُمَا.
وَمِمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ وَسَائِل الْحِفْظِ وَسْمُ
__________
(1) المجموع 6 / 173.
(2) الدسوقي والشرح الكبير 1 / 447.(23/309)
بَهَائِمِ الصَّدَقَةِ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لِتَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهَا؛ وَلِئَلاَّ تَضِيعَ، وَيَسِمُهَا بِالنَّارِ بِعَلاَمَةٍ خَاصَّةٍ، كَأَنْ تَكُونَ عَلاَمَةُ الْوَسْمِ (لِلَّهِ) لِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: وَافَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِيَدِهِ الْمِيسَمُ يَسِمُ إِبِل الصَّدَقَةِ (1) وَلآِثَارٍ وَرَدَتْ مِنْ فِعْل عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ (2) .
بَيْتُ مَال الزَّكَاةِ:
151 - عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَتَّخِذَ بَيْتًا لأَِمْوَال الزَّكَاةِ تُحْفَظُ فِيهِ وَتُضْبَطُ إِلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ صَرْفِهَا لأَِهْلِهَا (3) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: بَيْتُ الْمَال ".
تَصَرُّفَاتُ السَّاعِي فِي الزَّكَاةِ:
152 - إِذَا قَبَضَ السَّاعِي الزَّكَاةَ يُفَرِّقُهَا عَلَى مُسْتَحَقِّيهَا مِنْ أَهْل الْبَلَدِ الَّتِي جَمَعَهَا فِيهَا إِنْ كَانَ الإِْمَامُ أَذِنَ لَهُ فِي تَفْرِيقِهَا، فَلاَ يَنْقُلُهَا إِلَى أَبْعَدَ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، إِلاَّ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا فُقَرَاءُ
__________
(1) حديث أنس: " وافيت النبي صلى الله عليه وسلم وبيده ميسم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 366 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1909 - ط الحلبي) ورواية مسلم مختصرة ليس فيها " يسم إبل الصدقة ".
(2) المجموع للنووي 6 / 175 - 177.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 57، و3 / 282، والأحكام السلطانية للماوردي ص214 ط 1327 هـ، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص23، 24 نشر حامد الفقي، والدسوقي 1 / 495.(23/310)
الْبَلَدِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الْيَمَنِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَال لَهُ: إِنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ جَابِيًا وَلاَ آخِذَ جِزْيَةٍ وَلَكِنْ بَعَثْتُكَ لِتَأْخُذَ مِنْ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ فَتَرُدَّ فِي فُقَرَائِهِمْ. فَقَال مُعَاذٌ: أَنَا مَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِشَيْءٍ وَأَنَا أَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهُ مِنِّي. (1) فَلَوْ نَقَلَهَا فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَال فَفِيهِ خِلاَفٌ يَأْتِي.
وَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ لِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ أَحَدُ أَصْنَافِ أَهْل الزَّكَاةِ، كَمَا لَوْ كَانَ غَارِمًا أَوْ فَقِيرًا. وَلاَ يَأْخُذُ إِلاَّ مَا أَعْطَاهُ الإِْمَامُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ؛ لأَِنَّهُ يَقْسِمُ فَلاَ يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ.
153 - وَإِذَا تَلِفَ مِنْ مَال الزَّكَاةِ شَيْءٌ فِي يَدِ الإِْمَامِ أَوِ السَّاعِي ضَمِنَهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ بِأَنْ قَصَّرَ فِي حِفْظِهِ، وَكَذَا لَوْ عَرَفَ الْمُسْتَحِقِّينَ وَأَمْكَنَهُ التَّفْرِيقُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَل حَتَّى تَلِفَتْ؛ لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ وَلَمْ يُفَرِّطْ لَمْ يَضْمَنْ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ وَالسَّاعِي وَكُل مَنْ يُفَوَّضُ إِلَيْهِ أَمْرُ تَفْرِيقِ الصَّدَقَاتِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِضَبْطِ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَمَعْرِفَةِ أَعْدَادِهِمْ، وَأَقْدَارِ حَاجَاتِهِمْ، بِحَيْثُ يَقَعُ الْفَرَاغُ مِنْ جَمْعِ
__________
(1) المغني 2 / 672، 673، والمجموع 6 / 174.
(2) المجموع 2 / 175، والشرح الكبير والدسوقي 1 / 495.(23/310)
الصَّدَقَاتِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ أَوْ مَعَهَا، لِيُعَجِّل حُقُوقَهُمْ، وَلِيَأْمَنَ هَلاَكَ الْمَال عِنْدَهُ (1) .
وَتُصْرَفُ الزَّكَاةُ فِي الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَلاَ يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلاَّ لِمَنْ جَمَعَ شُرُوطَ الاِسْتِحْقَاقِ، وَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بِالتَّفْصِيل.
154 - وَإِذَا أَخَذَ الإِْمَامُ أَوِ السَّاعِي الزَّكَاةَ فَاحْتَاجَ إِلَى بَيْعِهَا لِمَصْلَحَةٍ، مِنْ كُلْفَةٍ فِي نَقْلِهَا، أَوْ مَرَضِ الْبَهِيمَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ جَازَ، أَمَّا إِذَا بَاعَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ إِنْ تَلِفَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ أَهْل الزَّكَاةِ أَهْل رُشْدٍ لاَ وِلاَيَةَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ مَالِهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ.
وَفِي احْتِمَالٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ ذَلِكَ، لِمَا وَرَدَ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي إِبِل الصَّدَقَةِ نَاقَةً كَوْمَاءَ، فَسَأَل عَنْهَا، فَقَال الْمُصَدِّقُ: إِنِّي ارْتَجَعْتُهَا بِإِبِلٍ، فَسَكَتَ (2) قَال أَبُو عُبَيْدٍ: الرَّجْعَةُ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا مِثْلَهَا أَوْ غَيْرَهَا (3) .
نَصْبُ الْعَشَّارِينَ:
155 - يَنْصِبُ الإِْمَامُ عَلَى الْمَعَابِرِ فِي طُرُقِ الأَْسْفَارِ عَشَّارِينَ لِلْجِبَايَةِ مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَيْهِمْ بِالْمَال
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 337.
(2) حديث قيس بن أبي حازم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في إبل الصدقة. . . " عزاه ابن قدامة في المغني (2 674 - ط الرياض) إلى أبي عبيد القاسم بن سلام.
(3) المغني 2 / 674، والمجموع 6 / 175 - 178.(23/311)
مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْل الذِّمَّةِ وَأَهْل الْحَرْبِ إِذَا أَتَوْا بِأَمْوَالِهِمْ إِلَى بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ، فَيَأْخُذُ مِنْ أَهْل الإِْسْلاَمِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَكَاةٍ، وَيَأْخُذُ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَيَأْخُذُ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ الْعُشْرَ. وَاَلَّذِي يَأْخُذُهُ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ وَأَهْل الْحَرْبِ فَيْءٌ حُكْمُهُ حُكْمُ الْجِزْيَةِ يُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عُشْر) .
أَمَّا مَا يَأْخُذُهُ مِنْ أَهْل الإِْسْلاَمِ فَهُوَ زَكَاةٌ يُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ فِي سَائِرِ الأَْمْوَال الزَّكَوِيَّةِ وَيُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، إِلاَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْمَال وَإِنْ كَانَ فِي الأَْصْل مَالاً بَاطِنًا لَكِنَّهُ لَمَّا انْتَقَل صَاحِبُهُ بِهِ فِي الْبِلاَدِ أَصْبَحَ فِي حُكْمِ الْمَال الظَّاهِرِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَابِدِينَ، وَلِذَا كَانَتْ وِلاَيَةُ قَبْضِ زَكَاتِهِ إِلَى الإِْمَامِ، كَالسَّوَائِمِ وَالزُّرُوعِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِتَحْلِيفِ مَنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ إِنْ أَنْكَرَ تَمَامَ الْحَوْل عَلَى مَا بِيَدِهِ، أَوِ ادَّعَى أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ، فَإِنْ حَلَفَ فَالْقَوْل قَوْلُهُ، وَكَذَا إِنْ قَال أَدَّيْتُهَا إِلَى عَاشِرٍ آخَرَ وَأَخْرَجَ بَرَاءَةً (إيصَالاً رَسْمِيًّا بِهَا) ، وَكَذَا إِنْ قَال أَدَّيْتُهَا بِنَفْسِي إِلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَا مَعَهُ نِصَابًا فَأَكْثَرَ حَتَّى يَجِبَ الأَْخْذُ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَقَل مِنْ نِصَابٍ وَلَهُ فِي الْمِصْرِ مَا يَكْمُل بِهِ النِّصَابُ فَلاَ وِلاَيَةَ(23/311)
لِلْعَاشِرِ عَلَى الأَْخْذِ مِنْهُ؛ لأَِنَّ وِلاَيَتَهُ عَلَى الظَّاهِرِ فَقَطْ.
وَيُشْتَرَطُ فِي الْعَاشِرِ مَا يُشْتَرَطُ فِي السَّاعِي كَمَا تَقَدَّمَ وَأَنْ يَأْمَنَ الْمُسَافِرُونَ بِحِمَايَتِهِ مِنَ اللُّصُوصِ (1) .
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: مَصَارِفُ الزَّكَاةِ:
156 - مَصَارِفُ الزَّكَاةِ مَحْصُورَةٌ فِي ثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ.
وَالأَْصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ قَدْ نَصَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيل اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيل فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (2) .
وَ " إِنَّمَا " الَّتِي صُدِّرَتْ بِهَا الآْيَةُ أَدَاةُ حَصْرٍ، فَلاَ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ لأَِحَدٍ أَوْ فِي وَجْهٍ غَيْرِ دَاخِلٍ فِي هَذِهِ الأَْصْنَافِ، وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ مَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَال: أَعْطِنِي مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَال: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلاَ غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةً، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الأَْجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ (3) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 530 - 532، وابن عابدين 2 / 38.
(2) سورة التوبة / 60.
(3) حديث: " إن الله لم يرض بحكم نبي. . . " أخرجه أبو داود (2 / 281 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال المنذري: " وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وقد تكلم فيه غير واحد " كذا في مختصر السنن (2 / 231 - نشر دار المعرفة) .(23/312)
وَمَنْ كَانَ دَاخِلاً فِي هَذِهِ الأَْصْنَافِ فَلاَ يَسْتَحِقُّ مِنَ الزَّكَاةِ إِلاَّ بِأَنْ تَنْطَبِقَ عَلَيْهِ شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ تَأْتِي بَعْدَ بَيَانِ الأَْصْنَافِ.
بَيَانُ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ:
الصِّنْفَانِ الأَْوَّل وَالثَّانِي: الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ:
157 - الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ هُمْ أَهْل الْحَاجَةِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يَكْفِيهِمْ، وَإِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ (الْفُقَرَاءِ) وَانْفَرَدَ دَخَل فِيهِمُ (الْمَسَاكِينُ) ، وَكَذَلِكَ عَكْسُهُ، وَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي كَلاَمٍ وَاحِدٍ، كَمَا فِي آيَةِ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، تَمَيَّزَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَعْنًى.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَيُّهُمَا أَشَدُّ حَاجَةً، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَشَدُّ حَاجَةً مِنَ الْمِسْكِينِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَهُمْ فِي الآْيَةِ، وَذَلِكَ يَدُل عَلَى أَنَّهُمْ أَهَمُّ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} (1) . فَأَثْبَتَ لَهُمْ وَصْفَ الْمَسْكَنَةِ مَعَ كَوْنِهِمْ يَمْلِكُونَ سَفِينَةً وَيُحَصِّلُونَ نَوْلاً، وَاسْتَأْنَسُوا لِذَلِكَ أَيْضًا بِالاِشْتِقَاقِ، فَالْفَقِيرُ لُغَةً: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ مَنْ نُزِعَتْ بَعْضُ فَقَارِ صُلْبِهِ، فَانْقَطَعَ ظَهْرُهُ،
__________
(1) سورة الكهف / 79.(23/312)
وَالْمِسْكِينُ مِفْعِيلٌ مِنَ السُّكُونِ، وَمَنْ كُسِرَ صُلْبُهُ أَشَدُّ حَالاً مِنَ السَّاكِنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَشَدُّ حَاجَةً مِنَ الْفَقِيرِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (1) . وَهُوَ الْمَطْرُوحُ عَلَى التُّرَابِ لِشِدَّةِ جُوعِهِ، وَبِأَنَّ أَئِمَّةَ اللُّغَةِ قَالُوا ذَلِكَ، مِنْهُمُ الْفَرَّاءُ وَثَعْلَبٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَبِالاِشْتِقَاقِ أَيْضًا، فَهُوَ مِنَ السُّكُونِ، كَأَنَّهُ عَجَزَ عَنِ الْحَرَكَةِ فَلاَ يَبْرَحُ.
وَنَقَل الدُّسُوقِيُّ قَوْلاً أَنَّ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَنْ لاَ يَمْلِكُ قُوتَ عَامِهِ، سَوَاءٌ كَانَ لاَ يَمْلِكُ شَيْئًا أَوْ يَمْلِكُ أَقَل مِنْ قُوتِ الْعَامِ (2) .
158 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ كُلٍّ مِنَ الصِّنْفَيْنِ:
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الْفَقِيرُ مَنْ لاَ مَال لَهُ وَلاَ كَسْبَ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ حَاجَتِهِ، كَمَنْ حَاجَتُهُ عَشَرَةٌ فَلاَ يَجِدُ شَيْئًا أَصْلاً، أَوْ يَقْدِرُ بِمَالِهِ وَكَسْبِهِ وَمَا يَأْتِيهِ مِنْ غَلَّةٍ وَغَيْرِهَا عَلَى أَقَل مِنْ نِصْفِ كِفَايَتِهِ. فَإِنْ كَانَ يَجِدُ النِّصْفَ أَوْ أَكْثَرَ وَلاَ يَجِدُ كُل الْعَشَرَةِ فَمِسْكِينٌ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: الْمِسْكِينُ مَنْ لاَ يَجِدُ شَيْئًا أَصْلاً فَيَحْتَاجُ لِلْمَسْأَلَةِ وَتَحِل لَهُ.
__________
(1) سورة البلد / 16.
(2) المغني 6 / 420، وفتح القدير 2 / 15، 16، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 492، والمحلي على المنهاج 3 / 196.(23/313)
وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ فِي الْفَقِيرِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْفَقِيرُ مَنْ لَهُ أَدْنَى شَيْءٍ وَهُوَ مَا دُونَ النِّصَابِ، فَإِذَا مَلَكَ نِصَابًا مِنْ أَيِّ مَالٍ زَكَوِيٍّ فَهُوَ غَنِيٌّ لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنَ الزَّكَاةِ، فَإِنْ مَلَكَ أَقَل مِنْ نِصَابٍ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ، وَكَذَا لَوْ مَلَكَ نِصَابًا غَيْرَ نَامٍ وَهُوَ مُسْتَغْرِقٌ فِي الْحَاجَةِ الأَْصْلِيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقًا مُنِعَ، كَمَنْ عِنْدَهُ ثِيَابٌ تُسَاوِي نِصَابًا لاَ يَحْتَاجُهَا، فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَكُونُ حَرَامًا عَلَيْهِ، وَلَوْ بَلَغَتْ قِيمَةُ مَا يَمْلِكُهُ نُصُبًا فَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ كَوْنَهُ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلزَّكَاةِ إِنْ كَانَتْ مُسْتَغْرَقَةً بِالْحَاجَةِ الأَْصْلِيَّةِ كَمَنْ عِنْدَهُ كُتُبٌ يَحْتَاجُهَا لِلتَّدْرِيسِ، أَوْ آلاَتُ حِرْفَةٍ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْفَقِيرُ مَنْ يَمْلِكُ شَيْئًا لاَ يَكْفِيهِ لِقُوتِ عَامِهِ (1) .
الْغِنَى الْمَانِعُ مِنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ بِوَصْفِ الْفَقْرِ أَوِ الْمَسْكَنَةِ:
159 - الأَْصْل أَنَّ الْغَنِيَّ لاَ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَهَذَا اتِّفَاقِيٌّ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ (2) .
وَلَكِنِ اخْتُلِفَ فِي الْغِنَى الْمَانِعِ مِنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ:
__________
(1) فتح القدير 2 / 15، والدسوقي 1 / 493.
(2) حديث: " لا حظ فيها لغني. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 285 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار، وصححه ابن عبد الهادي كما في نصب الراية (2 / 401 - ط دار المجلس العلمي) .(23/313)
فَقَال الْجُمْهُورُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ قَدَّمَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ: إِنَّ الأَْمْرَ مُعْتَبَرٌ بِالْكِفَايَةِ، فَمَنْ وَجَدَ مِنَ الأَْثْمَانِ أَوْ غَيْرِهَا مَا يَكْفِيهِ وَيَكْفِي مَنْ يُمَوِّنُهُ فَهُوَ غَنِيٌّ لاَ تَحِل لَهُ الزَّكَاةُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ حَلَّتْ لَهُ وَلَوْ كَانَ مَا عِنْدَهُ يَبْلُغُ نُصُبًا زَكَوِيَّةً، وَعَلَى هَذَا، فَلاَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُوجَدَ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلزَّكَاةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: هُوَ الْغِنَى الْمُوجِبُ لِلزَّكَاةِ، فَمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الزَّكَاةَ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ (1) .
وَمَنْ مَلَكَ نِصَابًا مِنْ أَيِّ مَالٍ زَكَوِيٍّ كَانَ فَهُوَ غَنِيٌّ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِ الزَّكَاةُ وَلَوْ كَانَ مَا عِنْدَهُ لاَ يَكْفِيهِ لِعَامِهِ، وَمَنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا كَامِلاً فَهُوَ فَقِيرٌ أَوْ مِسْكِينٌ، فَيَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِ الزَّكَاةُ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَيْهَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ: إِنْ وَجَدَ كِفَايَتَهُ، فَهُوَ غَنِيٌّ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ وَكَانَ لَدَيْهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، أَوْ قِيمَتُهَا مِنَ الذَّهَبِ خَاصَّةً، فَهُوَ غَنِيٌّ كَذَلِكَ وَلَوْ كَانَتْ لاَ تَكْفِيهِ،
__________
(1) حديث: " إن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 357 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.(23/314)
لِحَدِيثِ مَنْ سَأَل النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَسْأَلَتُهُ فِي وَجْهِهِ خُمُوشٌ أَوْ خُدُوشٌ أَوْ كُدُوحٌ. قَالُوا يَا رَسُول اللَّهِ وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَال: خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتُهَا مِنَ الذَّهَبِ (1) . وَإِنَّمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الأَْثْمَانِ وَغَيْرِهَا اتِّبَاعًا لِلْحَدِيثِ (2) .
وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ:
إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِمَنْ لاَ يَمْلِكُ مَالاً وَلَهُ مَوْرِدُ رِزْقٍ:
160 - مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أَوْ لَهُ مَالٌ لاَ يَكْفِيهِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنَ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، إِلاَّ أَنَّ مَنْ لَزِمَتْ نَفَقَتُهُ مَلِيئًا مِنْ نَحْوِ وَالِدٍ لاَ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ، وَكَذَا لاَ تُعْطَى الزَّوْجَةُ لاِسْتِغْنَائِهَا بِإِنْفَاقِ زَوْجِهَا عَلَيْهَا. وَمَنْ لَهُ مُرَتَّبٌ يَكْفِيهِ لَمْ يَجُزْ إِعْطَاؤُهُ مِنَ الزَّكَاةِ. وَكَذَا مَنْ كَانَ لَهُ صَنْعَةٌ تَكْفِيهِ وَإِنْ كَانَ لاَ يَمْلِكُ فِي الْحَال مَالاً.
فَإِنْ كَانَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الأَْسْبَابِ يَأْتِيهِ مِنْهُ أَقَل مِنْ كِفَايَتِهِ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهُ تَمَامَ الْكِفَايَةِ (3) .
وَنَقَل النَّوَوِيُّ أَنَّ مَنْ لَهُ ضَيْعَةٌ تَغُل بَعْضَ كِفَايَتِهِ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ بَيْعُهَا لِتَحِل لَهُ الزَّكَاةُ،
__________
(1) حديث: " من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته. . . " أخرجه الترمذي (3 / 32 - ط الحلبي) من حديث ابن مسعود، وقال: " حديث حسن ".
(2) فتح القدير 2 / 27، والإنصاف 3 / 223، وشرح منتهى الإرادات 1 / 424، 425.
(3) الشرح الكبير والدسوقي 1 / 492، 493، وشرح المنهاج 3 / 196، والمجموع 6 / 191، والمغني 6 / 424.(23/314)
وَكَذَلِكَ آلاَتُ الْمُحْتَرَفِينَ وَكَسْبُ الْعَالِمِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَى مَنْ عِنْدَهُ دَخْلٌ سَنَوِيٌّ أَوْ شَهْرِيٌّ أَوْ يَوْمِيٌّ مِنْ عَقَارٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، إِنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا زَكَوِيًّا، وَيَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى الْوَلَدِ الَّذِي أَبُوهُ غَنِيٌّ إِنْ كَانَ الْوَلَدُ كَبِيرًا فَقِيرًا، سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى؛ لأَِنَّهُ لاَ يُعَدُّ غَنِيًّا بِيَسَارِ أَبِيهِ وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، أَمَّا الْوَلَدُ الصَّغِيرُ الَّذِي أَبُوهُ غَنِيٌّ فَلاَ تُدْفَعُ إِلَيْهِ الزَّكَاةُ لأَِنَّهُ يُعَدُّ غَنِيًّا بِيَسَارِ أَبِيهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الصَّغِيرُ فِي عِيَال أَبِيهِ أَمْ لاَ. وَكَذَا قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَى رَجُلٍ فَقِيرٍ لَهُ ابْنٌ مُوسِرٌ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ الأَْبُ فِي عِيَال الاِبْنِ الْمُوسِرِ لاَ يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَازَ.
قَالُوا: وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْفَقِيرَةُ إِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ غَنِيٌّ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهَا مِنَ الزَّكَاةِ، لأَِنَّهَا لاَ تُعَدُّ غَنِيَّةً بِيَسَارِ زَوْجِهَا، وَبِقَدْرِ النَّفَقَةِ لاَ تَصِيرُ مُوسِرَةً، وَاسْتِيجَابُهَا النَّفَقَةَ بِمَنْزِلَةِ الأُْجْرَةِ (2) .
وَمَنْ كَانَ مُسْتَغْنِيًا بِأَنْ تَبَرَّعَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ، فَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَيَجُوزُ لِلْمُتَبَرِّعِ بِنَفَقَتِهِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ وَلَوْ كَانَ فِي عِيَالِهِ، لِدُخُولِهِ فِي أَصْنَافِ الزَّكَاةِ، وَعَدَمِ وُجُودِ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ يُخْرِجُهُ مِنَ الْعُمُومِ (3) .
__________
(1) المجموع 6 / 192.
(2) فتح القدير 2 / 23، 24.
(3) المغني 2 / 651.(23/315)
إِعْطَاءُ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ الْقَادِرَيْنِ عَلَى الْكَسْبِ:
161 - مَنْ كَانَ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ قَادِرًا عَلَى كَسْبِ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ مَنْ يُمَوِّنُهُ، أَوْ تَمَامِ الْكِفَايَةِ، لَمْ يَحِل لَهُ الأَْخْذُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَلاَ يَحِل لِلْمُزَكِّي إِعْطَاؤُهُ مِنْهَا، وَلاَ تُجْزِئُهُ لَوْ أَعْطَاهُ وَهُوَ يَعْلَمُ بِحَالِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ فِي الصَّدَقَةِ: لاَ حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلاَ لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ (1) . وَفِي لَفْظٍ لاَ تَحِل الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلاَ لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ (2) .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَى مَنْ يَمْلِكُ أَقَل مِنْ نِصَابٍ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مُكْتَسِبًا، لأَِنَّهُ فَقِيرٌ أَوْ مِسْكِينٌ، وَهُمَا مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ؛ وَلأَِنَّ حَقِيقَةَ الْحَاجَةِ لاَ يُوقَفُ عَلَيْهَا، فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَى دَلِيلِهَا، وَهُوَ فَقْدُ النِّصَابِ. وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي قِصَّةِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ سَابِقًا، وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْسِمُ الصَّدَقَاتِ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلاَنِ يَسْأَلاَنِهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ فَقَال: إِنَّهُ لاَ حَقَّ لَكُمَا فِيهِ وَإِنْ شِئْتُمَا
__________
(1) قوله صلى الله عليه وسلم في الصدقة: " لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ". أخرجه أبو داود (2 / 285 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار، وصححه ابن عبد الهادي كما في نصب الراية (2 / 401 - ط المجلس العلمي) .
(2) حديث: " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ". أخرجه ابن ماجه (1 / 589 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال ابن عبد الهادي في التنقيح: " رواته ثقات "، كذا في نصب الراية (2 / 399 - ط المجلس العلمي) .(23/315)
أَعْطَيْتُكُمَا (1) . لأَِنَّهُ أَجَازَ إِعْطَاءَهُمَا، وَقَوْلُهُ: لاَ حَقَّ لَكُمَا فِيهِ مَعْنَاهُ لاَ حَقَّ لَكُمَا فِي السُّؤَال (2) .
وَمِثْلُهُ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ، إِلاَّ أَنَّ الْحَدَّ الأَْدْنَى الَّذِي يَمْنَعُ الاِسْتِحْقَاقَ عِنْدَهُمْ هُوَ مِلْكُ الْكِفَايَةِ لاَ مِلْكُ النِّصَابِ، كَمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِمَنْ لَهُ مَالٌ أَوْ كَسْبٌ وَامْتَنَعَ عَنْهُ مَالُهُ أَوْ كَسْبُهُ:
162 - مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ يَكْفِيهِ فَلاَ يَسْتَحِقُّ مِنَ الزَّكَاةِ، لَكِنْ إِنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا أَوْ كَانَ دَيْنًا مُؤَجَّلاً، فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ إِعْطَائِهِ مَا يَكْفِيهِ إِلَى أَنْ يَصِل إِلَى مَالِهِ أَوْ يَحِل الأَْجَل (4) .
وَالْقَادِرُ عَلَى الْكَسْبِ إِنْ شَغَلَهُ عَنِ الْكَسْبِ طَلَبُ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ إِعْطَائِهِ مِنَ الزَّكَاةِ؛ لأَِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِخِلاَفِ التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ. وَاشْتَرَطَ بَعْضُ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم الصدقات فقام إليه رجلان. . . " تقدم تخريجه بهذا المعنى ف / 156.
(2) فتح القدير 2 / 28، والمغني 6 / 423، والمحلي على المنهاج 3 / 196، والمجموع 6 / 190.
(3) الدسوقي 1 / 494.
(4) شرح المحلي على المنهاج 3 / 196.(23/316)
الشَّافِعِيَّةِ فِي طَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ نَجِيبًا يُرْجَى نَفْعُ الْمُسْلِمِينَ بِتَفَقُّهِهِ.
وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى كَسْبٍ لَكِنَّ ذَلِكَ الْكَسْبَ لاَ يَلِيقُ بِهِ، أَوْ يَلِيقُ بِهِ لَكِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ اسْتِحْقَاقَهُ مِنَ الزَّكَاةِ (1) .
جِنْسُ الْكِفَايَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الزَّكَاةِ:
163 - الْكِفَايَةُ الْمُعْتَبَرَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هِيَ لِلْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَسْكَنِ وَسَائِرِ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالْحَال مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ تَقْتِيرٍ، لِلشَّخْصِ نَفْسِهِ وَلِمَنْ هُوَ فِي نَفَقَتِهِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ بِأَنَّ مَال الزَّكَاةِ إِنْ كَانَ فِيهِ سَعَةٌ يَجُوزُ الإِْعَانَةُ بِهِ لِمَنْ أَرَادَ الزَّوَاجَ (2) .
الْقَدْرُ الَّذِي يُعْطَاهُ الْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ مِنَ الزَّكَاةِ:
164 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ أَهْل الْحَاجَةِ الْمُسْتَحِقَّ لِلزَّكَاةِ بِالْفَقْرِ أَوِ الْمَسْكَنَةِ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ الْكِفَايَةَ أَوْ تَمَامَهَا لَهُ وَلِمَنْ يَعُولُهُ عَامًا كَامِلاً، وَلاَ يُزَادُ عَلَيْهِ، إِنَّمَا حَدَّدُوا
__________
(1) شرح المحلي على المنهاج 3 / 196، والمجموع 6 / 191، وشرح منتهى الإرادات 1 / 425، والإنصاف 3 / 219، وحاشية ابن عابدين 2 / 59.
(2) شرح المحلي على المنهاج 3 / 196، والمجموع 6 / 191، والدسوقي 1 / 494.(23/316)
الْعَامَ لأَِنَّ الزَّكَاةَ تَتَكَرَّرُ كُل عَامٍ غَالِبًا، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادَّخَرَ لأَِهْلِهِ قُوتَ سَنَةٍ (1) . وَسَوَاءٌ كَانَ مَا يَكْفِيهِ يُسَاوِي نِصَابًا أَوْ نُصُبًا. وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ أَوْ يَحْصُل لَهُ بَعْضُ الْكِفَايَةِ أُعْطِيَ تَمَامَ الْكِفَايَةِ لِعَامٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ مَنْصُوصٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ يُعْطَيَانِ مَا يُخْرِجُهُمَا مِنَ الْفَاقَةِ إِلَى الْغِنَى وَهُوَ مَا تَحْصُل بِهِ الْكِفَايَةُ عَلَى الدَّوَامِ، لِحَدِيثِ قَبِيصَةَ مَرْفُوعًا إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَحِل إِلاَّ لِثَلاَثَةٍ: رَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَال: سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ. . (2) الْحَدِيثَ.
قَالُوا: فَإِنْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ الاِحْتِرَافُ أُعْطِيَ مَا يَشْتَرِي بِهِ أَدَوَاتِ حِرْفَتِهِ قَلَّتْ قِيمَتُهَا أَوْ كَثُرَتْ بِحَيْثُ يَحْصُل لَهُ مِنْ رِبْحِهِ مَا يَفِي بِكِفَايَتِهِ غَالِبًا تَقْرِيبًا، وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا أُعْطِيَ بِنِسْبَةِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الضِّيَاعِ يُشْتَرَى لَهُ ضَيْعَةٌ تَكْفِيهِ غَلَّتُهَا عَلَى الدَّوَامِ. قَال بَعْضُهُمْ: يَشْتَرِيهَا لَهُ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر لأهله قوت سنة " ورد من حديث عمر بن الخطاب، أخرجه البخاري (الفتح 9 / 501 - 502 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1378 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة. . . " أخرجه مسلم (2 / 722 - ط الحلبي) .(23/317)
الإِْمَامُ وَيُلْزِمُهُ بِعَدَمِ إِخْرَاجِهَا عَنْ مِلْكِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ لاَ يَمْلِكُ نِصَابًا زَكَوِيًّا كَامِلاً يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ أَقَل مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ تَمَامُهَا. وَيُكْرَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَال زُفَرُ لاَ يَجُوزُ تَمَامُ الْمِائَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرُ.
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِيَالٌ وَلاَ دَيْنَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عِيَالٌ فَلِكُلٍّ مِنْهُمْ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَالْمَدِينُ يُعْطَى لِدَيْنِهِ وَلَوْ فَوْقَ الْمِائَتَيْنِ كَمَا يَأْتِي فِي الْغَارِمِينَ (1) .
إِثْبَاتُ الْفَقْرِ:
165 - إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ صَحِيحٌ قَوِيٌّ أَنَّهُ لاَ يَجِدُ مَكْسَبًا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ إِنْ كَانَ مَسْتُورَ الْحَال، وَيُقْبَل قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا (2) لَكِنْ مَنْ عُلِمَ كَذِبُهُ بِيَقِينٍ لَمْ يُصَدَّقْ وَلَمْ يَجُزْ إِعْطَاؤُهُ مِنَ الزَّكَاةِ.
وَإِنِ ادَّعَى أَنَّ لَهُ عِيَالاً وَطَلَبَ مِنَ الزَّكَاةِ لأَِجْلِهِمْ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْعِيَال، وَلاَ تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ.
__________
(1) فتح القدير والعناية 2 / 28، وشرح منتهى الإرادات والإنصاف 3 / 238، والمغني 6 / 665، والدسوقي 1 / 494، والمجموع 6 / 194.
(2) حديث: " إن شئتما أعطيتكما ". تقدكم تخريجه بهذا المعنى ف / 156.(23/317)
وَكَذَا مَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْيَسَارِ لاَ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ، لَكِنِ إِنِ ادَّعَى أَنَّ مَالَهُ تَلِفَ أَوْ فُقِدَ كُلِّفَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ. وَاخْتَلَفَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ فِي عَدَدِ الْبَيِّنَةِ، فَقِيل: لاَ بُدَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ، لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ قَبِيصَةَ أَنَّ النَّبِيَّ قَال لَهُ: أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا. ثُمَّ قَال: يَا قَبِيصَةُ: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَحِل إِلاَّ لأَِحَدِ ثَلاَثَةٍ. . . وَذَكَرَ مِنْهُمْ: رَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ لَهُ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ، لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَال: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ (1) .
وَقِيل عِنْدَهُمْ: يُقْبَل قَوْل اثْنَيْنِ فَقَطْ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَالْحَدِيثُ وَارِدٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، لاَ فِي الإِْعْطَاءِ دُونَ مَسْأَلَةٍ (2) .
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: الْعَامِلُونَ عَلَى الزَّكَاةِ:
166 - يَجُوزُ إِعْطَاءُ الْعَامِلِينَ عَلَى الزَّكَاةِ مِنْهَا. وَيُشْتَرَطُ فِي الْعَامِل الَّذِي يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ شُرُوطٌ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا.
وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَأْخُذُ مِنَ الْعَامِلِينَ مِنَ الزَّكَاةِ الْفَقْرُ؛ لأَِنَّهُ يَأْخُذُ بِعَمَلِهِ لاَ لِفَقْرِهِ.
وَقَدْ قَال النَّبِيُّ: لاَ تَحِل الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلاَّ
__________
(1) حديث: " إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقبيصة: أقم حتى تأتينا. . . " تقدم تخريجه ف / 165.
(2) المغني 2 / 663، 6 / 423، والإنصاف 3 / 245، ونيل المآرب ـ باب الشهادات، والمجموع 6 / 195.(23/318)
لِخَمْسَةٍ. . فَذَكَرَ مِنْهُمُ الْعَامِل عَلَيْهَا (1) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَدْفَعُ إِلَى الْعَامِل بِقَدْرِ عَمَلِهِ فَيُعْطِيهِ مَا يَسَعُهُ وَيَسَعُ أَعْوَانَهُ غَيْرَ مُقَدَّرٍ بِالثَّمَنِ، وَلاَ يُزَادُ عَلَى نِصْفِ الزَّكَاةِ الَّتِي يَجْمَعُهَا وَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ أَكْثَرَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لِلإِْمَامِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْعَامِل إجَارَةً صَحِيحَةً بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ، إِمَّا عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، أَوْ عَمَلٍ مَعْلُومٍ.
ثُمَّ قَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُعْطَى الْعَامِل مِنَ الزَّكَاةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ زَادَ أَجْرُهُ عَلَى الثَّمَنِ أَتَمَّ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال. وَقِيل مِنْ بَاقِي السِّهَامِ.
وَيَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُ أَجْرَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال.
وَلَهُ أَنْ يَبْعَثَهُ بِغَيْرِ إجَارَةٍ ثُمَّ يُعْطِيَهُ أَجْرَ الْمِثْل.
وَإِنْ تَوَلَّى الإِْمَامُ، أَوْ وَالِي الإِْقْلِيمِ أَوِ الْقَاضِي مِنْ قِبَل الإِْمَامِ أَوْ نَحْوِهِمْ أَخْذَ الزَّكَاةِ وَقِسْمَتَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ شَيْئًا؛ لأَِنَّهُ يَأْخُذُ رِزْقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال وَعَمَلُهُ عَامٌّ (2) .
__________
(1) حديث: " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة. . . فذكر منهم العامل عليها ". أخرجه ابن ماجه (1 / 590 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وأورده ابن حجر في التلخيص (3 / 111 - ط شركة الطباعة الفنية) وقال: صححه جماعة.
(2) فتح القدير 2 / 16، والدسوقي 1 / 495، والمغني 6 / 425، 426، 2 / 654، والمجموع 6 / 168، 187، والمنهاج وشرحه وحاشية القليوبي 3 / 196.(23/318)
الصِّنْفُ الرَّابِعُ: الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ:
167 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِنْفِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ: فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ بَاقٍ لَمْ يَسْقُطْ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ سَهْمَهُمُ انْقَطَعَ لِعِزِّ الإِْسْلاَمِ، فَلاَ يُعْطَوْنَ الآْنَ، لَكِنْ إِنِ احْتِيجَ لاِسْتِئْلاَفِهِمْ فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ أُعْطُوا.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لَعَل مَعْنَى قَوْل أَحْمَدَ: انْقَطَعَ سَهْمُهُمْ، أَيْ لاَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِمْ فِي الْغَالِبِ، أَوْ أَرَادَ أَنَّ الأَْئِمَّةَ لاَ يُعْطُونَهُمُ الْيَوْمَ شَيْئًا، فَأَمَّا إِنِ احْتِيجَ إِلَى إِعْطَائِهِمْ جَازَ الدَّفْعُ إِلَيْهِمْ، فَلاَ يَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَيْهِمْ إِلاَّ مَعَ الْحَاجَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى سُقُوطِ سَهْمِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ (1) لِمَا وَرَدَ أَنَّ الأَْقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ جَاءَا يَطْلُبَانِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ أَرْضًا، فَكَتَبَ لَهُمَا بِذَلِكَ، فَمَرَّا عَلَى عُمَرَ، فَرَأَى الْكِتَابَ فَمَزَّقَهُ، وَقَال: هَذَا شَيْءٌ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيكُمُوهُ لِيَتَأَلَّفَكُمْ، وَالآْنَ قَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الإِْسْلاَمَ وَأَغْنَى عَنْكُمْ، فَإِنْ ثَبَتُّمْ عَلَى الإِْسْلاَمِ، وَإِلاَّ فَبَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ السَّيْفُ، فَرَجَعَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالاَ، مَا نَدْرِي: الْخَلِيفَةُ أَنْتَ أَمْ
__________
(1) فتح القدير 2 / 14، والمغني 6 / 427، والدسوقي 1 / 495.(23/319)
عُمَرُ؟ فَقَال: هُوَ إِنْ شَاءَ، وَوَافَقَهُ. وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ (1) .
168 - ثُمَّ اخْتَلَفُوا:
فَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ كُفَّارٌ يُعْطَوْنَ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الإِْسْلاَمِ لأَِجْل أَنْ يُعِينُوا الْمُسْلِمِينَ، فَعَلَيْهِ لاَ تُعْطَى الزَّكَاةُ لِمَنْ أَسْلَمَ فِعْلاً. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُعْطَى مِنْ هَذَا السَّهْمِ لِكَافِرٍ أَصْلاً، لأَِنَّ الزَّكَاةَ لاَ تُعْطَى لِكَافِرٍ، لِلْحَدِيثِ: تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ (2) بَل تُعْطَى لِمَنْ أَسْلَمَ فِعْلاً، وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ الإِْعْطَاءُ مِنَ الزَّكَاةِ لِلْمُؤَلَّفِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا.
وَعِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَقْوَالٌ بِمِثْل هَذَا.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ ضَرْبَانِ: كُفَّارٌ وَمُسْلِمُونَ، وَهُمْ جَمِيعًا السَّادَةُ الْمُطَاعُونَ فِي قَوْمِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ فَجَعَلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَضْرُبٍ:
1 - سَادَةٌ مُطَاعُونَ فِي قَوْمِهِمْ أَسْلَمُوا وَنِيَّتُهُمْ
__________
(1) الأثر: أخرجه البيهقي (7 / 20 - ط دائرة المعارف العثمانية) بلفظ مقارب.
(2) حديث: " تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم ". تقدم تخريجه ف / 33.(23/319)
ضَعِيفَةٌ فَيُعْطَوْنَ تَثْبِيتًا لَهُمْ.
2 - قَوْمٌ لَهُمْ شَرَفٌ وَرِيَاسَةٌ أَسْلَمُوا وَيُعْطَوْنَ لِتَرْغِيبِ نُظَرَائِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ لِيُسْلِمُوا.
3 - صِنْفٌ يُرَادُ بِتَأَلُّفِهِمْ أَنْ يُجَاهِدُوا مَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَيَحْمُوا مَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
4 - صِنْفٌ يُرَادُ بِإِعْطَائِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ أَنْ يَجْبُوا الزَّكَاةَ مِمَّنْ لاَ يُعْطِيهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ الْكُفَّارَ فَجَعَلَهُمْ ضَرْبَيْنِ:
1 - مَنْ يُرْجَى إِسْلاَمُهُ فَيُعْطَى لِتَمِيل نَفْسُهُ إِلَى الإِْسْلاَمِ.
2 - مَنْ يُخْشَى شَرُّهُ وَيُرْجَى بِعَطِيَّتِهِ كَفُّ شَرِّهِ وَكَفُّ غَيْرِهِ مَعَهُ (1) .
الصِّنْفُ الْخَامِسُ: فِي الرِّقَابِ:
169 - وَهُمْ ثَلاَثَةُ أَضْرُبٍ: الأَْوَّل: الْمُكَاتَبُونَ الْمُسْلِمُونَ: فَيَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الصَّرْفُ مِنَ الزَّكَاةِ إِلَيْهِمْ، إعَانَةً لَهُمْ عَلَى فَكِّ رِقَابِهِمْ وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ مَالِكٌ، كَمَا لَمْ يُجِزْ صَرْفَ شَيْءٍ مِنَ الزَّكَاةِ فِي إِعْتَاقِ مَنِ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ حُرِّيَّةٍ بِغَيْرِ الْكِتَابَةِ، كَالتَّدْبِيرِ وَالاِسْتِيلاَدِ وَالتَّبْعِيضِ.
فَعَلَى قَوْل الْجُمْهُورِ: إِنَّمَا يُعَانُ الْمُكَاتَبُ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الأَْدَاءِ لِبَعْضِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ،
__________
(1) المغني 6 / 427 - 429، والقليوبي على شرح المنهاج 3 / 196، 198، والروضة 2 / 314، والأحكام السلطانية ص 122، والدسوقي 1 / 495.(23/320)
فَإِنْ كَانَ لاَ يَجِدُ شَيْئًا أَصْلاً دُفِعَ إِلَيْهِ جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْوَفَاءِ.
الثَّانِي: إِعْتَاقُ الرَّقِيقِ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ الصَّرْفِ مِنَ الزَّكَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَعَلَيْهِ فَإِنْ كَانَتِ الزَّكَاةُ بِيَدِ الإِْمَامِ أَوِ السَّاعِي جَازَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ رَقَبَةً أَوْ رِقَابًا فَيُعْتِقَهُمْ، وَوَلاَؤُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَكَذَا إِنْ كَانَتِ الزَّكَاةُ بِيَدِ رَبِّ الْمَال فَأَرَادَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً تَامَّةً مِنْهَا، فَيَجُوزُ ذَلِكَ لِعُمُومِ الآْيَةِ {وَفِي الرِّقَابِ} (1) وَيَكُونُ وَلاَؤُهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَا رَجَعَ مِنَ الْوَلاَءِ رَدٌّ فِي مِثْلِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُشْتَرَى بِمَا تَرَكَهُ الْمُعْتَقُ وَلاَ وَارِثَ لَهُ رِقَابٌ تَعْتِقُ. وَعِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ: الْوَلاَءُ لِلْمُعْتِقِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى أَنَّهُ لاَ يَعْتِقُ مِنَ الزَّكَاةِ، لأَِنَّ ذَلِكَ كَدَفْعِ الزَّكَاةِ إِلَى الْقِنِّ، وَالْقِنُّ لاَ تُدْفَعُ إِلَيْهِ الزَّكَاةُ؛ وَلأَِنَّهُ دَفْعٌ إِلَى السَّيِّدِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لأَِنَّ الْعِتْقَ إِسْقَاطُ مِلْكٍ، وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ، لَكِنْ إِنْ أَعَانَ مِنْ زَكَاتِهِ فِي إِعْتَاقِ رَقَبَةٍ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْل مِنَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
الثَّالِثُ: أَنْ يَفْتَدِيَ بِالزَّكَاةِ أَسِيرًا مُسْلِمًا مِنْ
__________
(1) سورة التوبة / 60.
(2) فتح القدير 2 / 17، والمغني 6 / 431، 432. والحطاب والمواق 2 / 350، والزرقاني 2 / 178، والدسوقي 1 / 496، والقليوبي على شرح المنهاج 3 / 197، والمجموع 6 / 200، وكشاف القناع 2 / 280.(23/320)
أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَابْنُ حَبِيبٍ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِجَوَازِ هَذَا النَّوْعِ؛ لأَِنَّهُ فَكُّ رَقَبَةٍ مِنَ الأَْسْرِ، فَيَدْخُل فِي الآْيَةِ بَل هُوَ أَوْلَى مِنْ فَكِّ رَقَبَةِ مَنْ بِأَيْدِينَا. وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِمَنْعِهِ (1) .
الصِّنْفُ السَّادِسُ: الْغَارِمُونَ:
وَالْغَارِمُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلزَّكَاةِ ثَلاَثَةُ أَضْرُبٍ:
الضَّرْبُ الأَْوَّل:
مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ.
وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَيُشْتَرَطُ لإِِعْطَائِهِ مِنَ الزَّكَاةِ مَا يَلِي:
1 - أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا.
2 - أَنْ لاَ يَكُونَ مِنْ آل الْبَيْتِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ: بِجَوَازِ إِعْطَاءِ مَدِينِ آل الْبَيْتِ مِنْهَا.
3 - وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ لاَ يَكُونَ قَدِ اسْتَدَانَ لِيَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ، كَأَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ وَتَوَسَّعَ فِي الإِْنْفَاقِ بِالدَّيْنِ لأَِجْل أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا، بِخِلاَفِ فَقِيرٍ اسْتَدَانَ لِلضَّرُورَةِ نَاوِيًا الأَْخْذَ مِنْهَا (2) .
4 - وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مِمَّا يُحْبَسُ فِيهِ، فَيَدْخُل فِيهِ دَيْنُ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ، وَالدَّيْنُ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَخَرَجَ دَيْنُ الْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَاةِ.
__________
(1) نفس المراجع.
(2) المغني 6 / 432، وفتح القدير 2 / 17، وابن عابدين 2 / 60، وروضة الطالبين 2 / 318، والدسوقي 1 / 496، 497.(23/321)
5 - أَنْ لاَ يَكُونَ دَيْنُهُ فِي مَعْصِيَةٍ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، كَأَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ خَمْرٍ، أَوْ قِمَارٍ، أَوْ زِنًا، لَكِنْ إِنْ تَابَ يَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ، وَقِيل: لاَ. وَرَجَّحَ الْمَالِكِيَّةُ الأَْوَّل، وَعَدَّ الشَّافِعِيَّةُ الإِْسْرَافَ فِي النَّفَقَةِ مِنْ بَابِ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي تَمْنَعُ الإِْعْطَاءَ مِنَ الزَّكَاةِ.
6 - أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ حَالًّا، صَرَّحَ بِهَذَا الشَّرْطِ الشَّافِعِيَّةُ، قَالُوا: إِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلاً فَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ الأَْجَل تِلْكَ السَّنَةَ أُعْطِيَ، وَإِلاَّ فَلاَ يُعْطَى مِنْ صَدَقَاتِ تِلْكَ السَّنَةِ.
7 - أَنْ لاَ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى السَّدَادِ مِنْ مَالٍ عِنْدَهُ زَكَوِيٍّ أَوْ غَيْرِ زَكَوِيٍّ زَائِدٍ عَنْ كِفَايَتِهِ، فَلَوْ كَانَ لَهُ دَارٌ يَسْكُنُهَا تُسَاوِي مِائَةً وَعَلَيْهِ مِائَةٌ، وَتَكْفِيهِ دَارٌ بِخَمْسِينَ فَلاَ يُعْطَى حَتَّى تُبَاعَ، وَيَدْفَعَ الزَّائِدَ فِي دَيْنِهِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَلَوْ وَجَدَ مَا يَقْضِي بِهِ بَعْضَ الدَّيْنِ أُعْطِيَ الْبَقِيَّةَ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ بَعْدَ زَمَنٍ بِالاِكْتِسَابِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ فِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ مِنْهَا.
الضَّرْبُ الثَّانِي: الْغَارِمُ لإِِصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ:
171 - الأَْصْل فِيهِ حَدِيثُ قَبِيصَةَ الْمَرْفُوعُ: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَحِل إِلاَّ لِثَلاَثَةٍ. فَذَكَرَ مِنْهُمْ وَرَجُلٍ تَحَمَّل حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ(23/321)
يُمْسِكُ (1) فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْغَارِمِينَ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ سَوَاءٌ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا؛ لأَِنَّهُ لَوِ اُشْتُرِطَ الْفَقْرُ فِيهِ لَقَلَّتِ الرَّغْبَةُ فِي هَذِهِ الْمَكْرُمَةِ، وَصُورَتُهَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ قَبِيلَتَيْنِ أَوْ حَيَّيْنِ فِتْنَةٌ، يَكُونُ فِيهَا قَتْل نَفْسٍ أَوْ إِتْلاَفُ مَالٍ، فَيَتَحَمَّلُهُ لأَِجْل الإِْصْلاَحِ بَيْنَهُمْ، فَيُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ لِتَسْدِيدِ حَمَالَتِهِ، وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ الإِْعْطَاءَ بِمَا قَبْل الأَْدَاءِ الْفِعْلِيِّ، مَا لَمْ يَكُنْ أَدَّى الْحَمَالَةَ مِنْ دَيْنٍ اسْتَدَانَهُ؛ لأَِنَّ الْغُرْمَ يَبْقَى.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُعْطَى الْمُتَحَمِّل مِنَ الزَّكَاةِ إِلاَّ إِنْ كَانَ لاَ يَمْلِكُ نِصَابًا فَاضِلاً عَنْ دَيْنِهِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَدِينِينَ (2) .
وَلَمْ يُصَرِّحِ الْمَالِكِيَّةُ بِحُكْمِ هَذَا الضَّرْبِ فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ:
الْغَارِمُ بِسَبَبِ دَيْنِ ضَمَانٍ وَهَذَا الضَّرْبُ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الضَّامِنِ وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ مُعْسِرَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا فَفِي إِعْطَاءِ الضَّامِنِ مِنَ الزَّكَاةِ خِلاَفٌ عِنْدَهُمْ وَتَفْصِيلٌ.
الدَّيْنُ عَلَى الْمَيِّتِ:
171 م - إِنْ مَاتَ الْمَدِينُ وَلاَ وَفَاءَ فِي تَرِكَتِهِ لَمْ يَجُزْ
__________
(1) حديث: " إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة ". سبق تخريجه ف / 165.
(2) المغني 6 / 433، وروضة الطالبين 2 / 318، والمجموع 6 / 206، وفتح القدير 2 / 17، مغني المحتاج 3 / 111.(23/322)
عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَدَادُ دَيْنِهِ مِنَ الزَّكَاةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُوَفَّى دَيْنُهُ مِنْهَا وَلَوْ مَاتَ، قَال بَعْضُهُمْ: هُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ لِلْيَأْسِ مِنْ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ عَنْهُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَيَأْتِي بَيَانُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَيِّتِ تَفْصِيلاً.
الصِّنْفُ السَّابِعُ: فِي سَبِيل اللَّهِ.
وَهَذَا الصِّنْفُ ثَلاَثَةُ أَضْرُبٍ.
172 - الضَّرْبُ الأَْوَّل: الْغُزَاةُ فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى، وَاَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ فِي الدِّيوَانِ، بَل هُمْ مُتَطَوِّعُونَ لِلْجِهَادِ. وَهَذَا الضَّرْبُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، فَيَجُوزُ إِعْطَاؤُهُمْ مِنَ الزَّكَاةِ قَدْرَ مَا يَتَجَهَّزُونَ بِهِ لِلْغَزْوِ مِنْ مَرْكَبٍ وَسِلاَحٍ وَنَفَقَةٍ وَسَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْغَازِي لِغَزْوِهِ مُدَّةَ الْغَزْوِ وَإِنْ طَالَتْ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي الْغَازِي أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا، بَل يَجُوزُ إِعْطَاءُ الْغَنِيِّ لِذَلِكَ، لأَِنَّهُ لاَ يَأْخُذُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، بَل لِحَاجَةِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الْفَقْرُ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْغَازِي غَنِيًّا، وَهُوَ مَنْ يَمْلِكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتَهَا مِنَ الذَّهَبِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي صِنْفِ الْفُقَرَاءِ فَلاَ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ، وَإِلاَّ فَيُعْطَى، وَإِنْ كَانَ كَاسِبًا؛ لأَِنَّ الْكَسْبَ
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 318، والزرقاني 2 / 178، والمجموع 6 / 211.(23/322)
يُقْعِدُهُ عَنِ الْجِهَادِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْغَازِي مُنْقَطِعُ الْحَاجِّ لاَ مُنْقَطِعُ الْغُزَاةِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْغَازِي أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، لِكَوْنِهِ مُسْلِمًا ذَكَرًا بَالِغًا قَادِرًا، وَأَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ آل الْبَيْتِ.
وَأَمَّا جُنُودُ الْجَيْشِ الَّذِينَ لَهُمْ نَصِيبٌ فِي الدِّيوَانِ فَلاَ يُعْطَوْنَ مِنَ الزَّكَاةِ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنِ امْتَنَعَ إِعْطَاؤُهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَال لِضَعْفِهِ، يَجُوزُ إِعْطَاؤُهُمْ مِنَ الزَّكَاةِ (1) .
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَصَالِحُ الْحَرْبِ
173 - وَهَذَا الضَّرْبُ ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ، فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجُوزُ الصَّرْفُ مِنَ الزَّكَاةِ فِي مَصَالِحِ الْجِهَادِ الأُْخْرَى غَيْرِ إِعْطَاءِ الْغُزَاةِ، نَحْوِ بِنَاءِ أَسْوَارٍ لِلْبَلَدِ لِحِفْظِهَا مِنْ غَزْوِ الْعَدُوِّ، وَنَحْوِ بِنَاءِ الْمَرَاكِبِ الْحَرْبِيَّةِ، وَإِعْطَاءِ جَاسُوسٍ يَتَجَسَّسُ لَنَا عَلَى الْعَدُوِّ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا.
وَأَجَازَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يُشْتَرَى مِنَ الزَّكَاةِ السِّلاَحُ وَآلاَتُ الْحَرْبِ وَتُجْعَل وَقْفًا يَسْتَعْمِلُهَا الْغُزَاةُ ثُمَّ يَرُدُّونَهَا، وَلَمْ يُجِزْهُ الْحَنَابِلَةُ.
__________
(1) المغني 6 / 436، وابن عابدين 2 / 61، وفتح القدير 2 / 17، والشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 497، والمجموع 6 / 212، 213.(23/323)
وَظَاهِرُ صَنِيعِ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ - إِذْ قَصَرُوا سَهْمَ سَبِيل اللَّهِ عَلَى الْغُزَاةِ، أَوِ الْغُزَاةِ وَالْحُجَّاجِ، أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الصَّرْفُ مِنْهُ فِي هَذَا الضَّرْبِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لاَ تَمْلِيكَ فِيهِ، أَوْ فِيهِ تَمْلِيكٌ لِغَيْرِ أَهْل الزَّكَاةِ، أَوْ كَمَا قَال أَحْمَدُ: لأَِنَّهُ لَمْ يُؤْتِ الزَّكَاةَ لأَِحَدٍ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِإِيتَائِهَا (1) .
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: الْحُجَّاجُ:
174 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الصَّرْفُ فِي الْحَجِّ مِنَ الزَّكَاةِ؛ لأَِنَّ سَبِيل اللَّهِ فِي آيَةِ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ مُطْلَقٌ، وَهُوَ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّ الأَْكْثَرَ مِمَّا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قُصِدَ بِهِ الْجِهَادُ، فَتُحْمَل الآْيَةُ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، إِلَى أَنَّ الْحَجَّ فِي سَبِيل اللَّهِ فَيُصْرَفُ فِيهِ مِنَ الزَّكَاةِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً جَعَل نَاقَتَهُ فِي سَبِيل اللَّهِ، فَأَرَادَتِ امْرَأَتُهُ أَنْ تَحُجَّ، فَقَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهَلاَّ خَرَجْتِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيل اللَّهِ (2) فَعَلَى هَذَا
__________
(1) الدسوقي والشرح الكبير 1 / 497، والمجموع 6 / 212، 213، والمغني 6 / 436، 437
(2) حديث: " فهلا خرجت عليه فإن الحج من سبيل الله ". أخرجه أبو داود (2 / 504 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 483 - 484 ط دائرة المعارف العثمانية) وضعف الذهبي أحد رواته، ولكن له شواهد يتقوى بها.(23/323)
الْقَوْل لاَ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَحُجُّ بِهِ سِوَاهَا، وَلاَ يُعْطَى إِلاَّ لِحَجِّ الْفَرِيضَةِ خَاصَّةً، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ حَتَّى فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ.
وَيُنْقَل عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَصْرِفَ فِي سَبِيل اللَّهِ هُوَ لِمُنْقَطِعِ الْحُجَّاجِ (1) .
إِلاَّ أَنَّ مُرِيدَ الْحَجِّ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ ابْنُ سَبِيلٍ كَمَا يَأْتِي.
الصِّنْفُ الثَّامِنُ: ابْنُ السَّبِيل:
سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمُلاَزَمَتِهِ الطَّرِيقَ، إِذْ لَيْسَ هُوَ فِي وَطَنِهِ لِيَأْوِيَ إِلَى سَكَنٍ.
وَهَذَا الصِّنْفُ ضَرْبَانِ:
175 - الضَّرْبُ الأَْوَّل: الْمُتَغَرِّبُ عَنْ وَطَنِهِ الَّذِي لَيْسَ بِيَدِهِ مَا يَرْجِعُ بِهِ إِلَى بَلَدِهِ:
وَهَذَا الضَّرْبُ مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الزَّكَاةِ، فَيُعْطَى مَا يُوصِلُهُ إِلَى بَلَدِهِ، إِلاَّ فِي قَوْلٍ ضَعِيفٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يُعْطَى؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ بَابِ نَقْل الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدِهَا. وَلاَ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ إِلاَّ بِشُرُوطٍ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، مِنْ غَيْرِ آل الْبَيْتِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لاَ يَكُونَ بِيَدِهِ فِي الْحَال مَالٌ
__________
(1) المغني 6 / 738، والمجموع 6 / 212، وابن عابدين 2 / 67.(23/324)
يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنَ الْوُصُول إِلَى بَلَدِهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ، فَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ مُؤَجَّلٌ أَوْ عَلَى غَائِبٍ، أَوْ مُعْسِرٍ، أَوْ جَاحِدٍ، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الأَْخْذَ مِنَ الزَّكَاةِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لاَ يَكُونَ سَفَرُهُ لِمَعْصِيَةٍ، صَرَّحَ بِهَذَا الشَّرْطِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَيَجُوزُ إِعْطَاؤُهُ إِنْ كَانَ سَفَرُهُ لِطَاعَةٍ وَاجِبَةٍ كَحَجِّ الْفَرْضِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، أَوْ مُسْتَحَبَّةٍ كَزِيَارَةِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَوْ كَانَ سَفَرُهُ لِمُبَاحٍ كَالْمَعَاشَاتِ وَالتِّجَارَاتِ، فَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ لِمَعْصِيَةٍ لَمْ يَجُزْ إِعْطَاؤُهُ مِنْهَا لأَِنَّهُ إعَانَةٌ عَلَيْهَا، مَا لَمْ يَتُبْ، وَإِنْ كَانَ لِلنُّزْهَةِ فَقَطْ فَفِيهِ وَجْهَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَقْوَاهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ؛ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ إِلَى هَذَا السَّفَرِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: وَهُوَ لِلْمَالِكِيَّةِ خَاصَّةً: أَنْ لاَ يَجِدَ مَنْ يُقْرِضُهُ إِنْ كَانَ بِبَلَدِهِ غَنِيًّا.
وَلاَ يُعْطَى أَهْل هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الزَّكَاةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَكْفِيهِ لِلرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِ، وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ: إِنْ كَانَ قَاصِدًا بَلَدًا آخَرَ يُعْطَى مَا يُوصِلُهُ إِلَيْهِ ثُمَّ يَرُدُّهُ إِلَى بَلَدِهِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنْ جَلَسَ بِبَلَدِ الْغُرْبَةِ بَعْدَ أَخْذِهِ مِنَ الزَّكَاةِ نُزِعَتْ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ فَقِيرًا بِبَلَدِهِ، وَإِنْ فَضَل مَعَهُ فَضْلٌ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى بَلَدِهِ نُزِعَ مِنْهُ عَلَى قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
ثُمَّ قَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى(23/324)
السَّدَادِ فَالأَْوْلَى لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ وَلاَ يَأْخُذَ مِنَ الزَّكَاةِ (1) .
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ كَانَ فِي بَلَدِهِ وَيُرِيدُ أَنْ يُنْشِئَ سَفَرًا:
176 - فَهَذَا الضَّرْبُ مَنَعَ الْجُمْهُورُ إِعْطَاءَهُ، وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ إِعْطَاءَهُ لِذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ مَعَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي سَفَرِهِ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ فِي مَعْصِيَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ إِعْطَاءُ مَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ مِنَ الزَّكَاةِ إِنْ كَانَ لاَ يَجِدُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي يُنْشِئُ مِنْهُ سَفَرَ الْحَجِّ مَا لاَ يَحُجُّ بِهِ.
وَالْحَنَفِيَّةُ لاَ يَرَوْنَ جَوَازَ الإِْعْطَاءِ فِي هَذَا الضَّرْبِ، إِلاَّ أَنَّ مَنْ كَانَ بِبَلَدِهِ، وَلَيْسَ لَهُ بِيَدِهِ مَالٌ يُنْفِقُ مِنْهُ وَلَهُ مَالٌ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ، لاَ يَصِل إِلَيْهِ، رَأَوْا أَنَّهُ مُلْحَقٌ بِابْنِ السَّبِيل (2) .
أَصْنَافُ الَّذِينَ لاَ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهُمْ مِنَ الزَّكَاةِ:
177 - 1 - آل النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَّ الزَّكَاةَ وَالصَّدَقَةَ مُحَرَّمَتَانِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حُكْمِهِمْ فِي (آل) .
2 - الأَْغْنِيَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَنْ هُمْ فِي صِنْفِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
__________
(1) الفروع 2 / 625، وروضة الطالبين 2 / 321، وابن عابدين 2 / 61، والدسوقي 1 / 497، 498
(2) ابن عابدين 2 / 61، 62، والدسوقي 1 / 497، والمجموع 6 / 215، وروضة الطالبين 2 / 321(23/325)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: خَمْسَةٌ لاَ يُعْطَوْنَ إِلاَّ مَعَ الْحَاجَةِ: الْفَقِيرُ، وَالْمِسْكِينُ، وَالْمُكَاتَبُ، وَالْغَارِمُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، وَابْنُ السَّبِيل، وَخَمْسَةٌ يَأْخُذُونَ مَعَ الْغِنَى: الْعَامِل، وَالْمُؤَلَّفُ قَلْبُهُ، وَالْغَازِي، وَالْغَارِمُ لإِِصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَابْنُ السَّبِيل الَّذِي لَهُ الْيَسَارُ فِي بَلَدِهِ.
وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْغَازِي وَالْغَارِمِ لإِِصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَرَأَوْا أَنَّهُمْ لاَ يَأْخُذُونَ إِلاَّ مَعَ الْحَاجَةِ (1) .
3 - الْكُفَّارُ وَلَوْ كَانُوا أَهْل ذِمَّةٍ: لاَ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهُمْ مِنَ الزَّكَاةِ. نَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ لِحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ (2) وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِعْطَاءَهُمْ مَعَ الْعَامِلِينَ إِنْ عَمِلُوا عَلَى الزَّكَاةِ.
وَيُسْتَثْنَى الْمُؤَلَّفُ قَلْبُهُ أَيْضًا عَلَى التَّفْصِيل وَالْخِلاَفِ الْمُتَقَدِّمِ فِي مَوْضِعِهِ (3) .
وَيَشْمَل الْكَافِرُ هُنَا الْكَافِرَ الأَْصْلِيَّ وَالْمُرْتَدَّ، وَمَنْ كَانَ مُتَسَمِّيًا بِالإِْسْلاَمِ وَأَتَى بِمُكَفِّرٍ نَحْوِ الاِسْتِخْفَافِ بِالْقُرْآنِ، أَوْ سَبِّ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ، أَوْ دِينِ الإِْسْلاَمِ، فَهُوَ كَافِرٌ لاَ يَجُوزُ إِعْطَاؤُهُ مِنَ الزَّكَاةِ اتِّفَاقًا، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رِدَّة) .
__________
(1) المغني 6 / 440، وابن عابدين 2 / 17.
(2) حديث: " إن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم ". سبق تخريجه ف / 33.
(3) المجموع للنووي 6 / 228، والإنصاف 3 / 252.(23/325)
كُل مَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ الْمُزَكِّي أَوِ انْتَسَبَ إِلَى الْمُزَكِّي بِالْوِلاَدَةِ.
وَيَشْمَل ذَلِكَ أُصُولَهُ وَهُمْ أَبَوَاهُ وَأَجْدَادُهُ، وَجَدَّاتُهُ، وَارِثِينَ كَانُوا أَوْ لاَ، وَكَذَا أَوْلاَدُهُ وَأَوْلاَدُ أَوْلاَدِهِ، وَإِنْ نَزَلُوا، قَال الْحَنَفِيَّةُ: لأَِنَّ مَنَافِعَ الأَْمْلاَكِ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا سَائِرُ الأَْقَارِبِ، وَهُمُ الْحَوَاشِي كَالإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ وَالأَْعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالأَْخْوَال وَالْخَالاَتِ، وَأَوْلاَدِهِمْ، فَلاَ يَمْتَنِعُ إِعْطَاؤُهُمْ زَكَاتَهُ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ فِي عِيَالِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ (1) وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْقَوْل الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّ الأَْقَارِبَ الَّذِينَ تَلْزَمُ نَفَقَتُهُمُ الْمُزَكِّيَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنَ الزَّكَاةِ، وَاَلَّذِينَ تَلْزَمُ نَفَقَتُهُمْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الأَْبُ وَالأُْمُّ دُونَ الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ، وَالاِبْنُ وَالْبِنْتُ دُونَ أَوْلاَدِهِمَا، وَاللاَّزِمُ نَفَقَةُ الاِبْنِ مَا دَامَ فِي حَدِّ الصِّغَرِ، وَالْبِنْتُ إِلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ وَيَدْخُل بِهَا زَوْجُهَا.
__________
(1) حديث: " الصدقة على المسكين صدقة. . . " أخرجه الترمذي (3 / 38 - ط الحلبي) من حديث سلمان بن عامر، وقال: " حديث حسن ".(23/326)
وَاَلَّذِينَ تَلْزَمُ نَفَقَتُهُمْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الأُْصُول وَالْفُرُوعُ.
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيِّ: يُفَرَّقُ فِي غَيْرِ الأُْصُول وَالْفُرُوعِ بَيْنَ الْمَوْرُوثِ مِنْهُمْ وَغَيْرِ الْمَوْرُوثِ، فَغَيْرُ الْمَوْرُوثِ يُجْزِئُ إِعْطَاؤُهُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَالْمَوْرُوثُ لاَ يُجْزِئُ، وَعَلَى الْوَارِثِ نَفَقَتُهُ إِنْ كَانَ الْمَوْرُوثُ فَقِيرًا فَيَسْتَغْنِي بِهَا عَنِ الزَّكَاةِ، إِذْ لَوْ أَعْطَاهُ مِنَ الزَّكَاةِ لَعَادَ نَفْعُ زَكَاتِهِ إِلَى نَفْسِهِ، وَيُشْتَرَط هُنَا شُرُوطُ الإِْرْثِ وَمِنْهَا: أَنْ لاَ يَكُونَ الْوَارِثُ مَحْجُوبًا عَنِ الْمِيرَاثِ وَقْتَ إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ (1)
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَنْ فَرَضَ لَهُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ عَلَى الْمُزَكِّي، فَلاَ يُجْزِئُ إِعْطَاؤُهُ الزَّكَاةَ، لأَِنَّهُ أَدَاءُ وَاجِبٍ فِي وَاجِبٍ آخَرَ، عَلَى أَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنْ يَجُوزَ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى زَوْجَةِ أَبِيهِ وَزَوْجَةِ ابْنِهِ وَزَوْجِ ابْنَتِهِ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ الإِْعْطَاءَ الْمَمْنُوعَ بِسَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، أَمَّا لَوْ أَعْطَى وَالِدَهُ أَوْ وَلَدَهُ مِنْ سَهْمِ الْعَامِلِينَ أَوِ الْمُكَاتَبِينَ أَوِ الْغَارِمِينَ أَوِ الْغُزَاةِ فَلاَ بَأْسَ. وَقَالُوا أَيْضًا: إِنْ كَانَ لاَ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ جَازَ إِعْطَاؤُهُ.
__________
(1) المغني 6 / 648، 7 / 585، والمجموع 6 / 229، وابن عابدين 2 / 63، 64، وفتح القدير 2 / 22، ومجموع الفتاوى الكبرى لابن تيمية 25 / 90، 91 - 92، وجواهر الإكليل 1 / 407، والدسوقي 1 / 498، 499.(23/326)
دَفْعُ الزَّوْجِ زَكَاةَ مَالِهِ إِلَى زَوْجَتِهِ وَعَكْسُهُ:
178 - لاَ يُجْزِئُ الرَّجُل إِعْطَاءُ زَكَاةِ مَالِهِ إِلَى زَوْجَتِهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: هُوَ إِجْمَاعٌ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: لأَِنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مُشْتَرَكَةٌ، وَقَال الْجُمْهُورُ: لأَِنَّ نَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجِ، فَيَكُونُ كَالدَّافِعِ إِلَى نَفْسِهِ، وَمَحَل الْمَنْعِ إِعْطَاؤُهَا الزَّكَاةَ لِتُنْفِقَهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَأَمَّا لَوْ أَعْطَاهَا مَا تَدْفَعُهُ فِي دَيْنِهَا، أَوْ لِتُنْفِقَهُ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ، فَلاَ بَأْسَ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْمَمْنُوعَ إِعْطَاؤُهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ، أَمَّا مِنْ سَهْمٍ آخَرَ هِيَ مُسْتَحِقَّةٌ لَهُ فَلاَ بَأْسَ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ أَيْضًا مِنْ كَلاَمِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ.
وَأَمَّا إِعْطَاءُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا زَكَاةَ مَالِهَا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ: فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ لِحَدِيثِ زَيْنَبَ زَوْجَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَفِيهِ أَنَّهَا هِيَ وَامْرَأَةٌ أُخْرَى سَأَلَتَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَل تُجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا، وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حِجْرِهِمَا؟ فَقَال: لَهُمَا أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ (1) .
__________
(1) حديث: " لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 328 - ط السلفية) ومسلم (2 / 695 - ط الحلبي) .(23/327)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلأَِنَّهُ لاَ تَجِبُ عَلَيْهَا نَفَقَةُ الزَّوْجِ، وَلِعُمُومِ آيَةِ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، إِذْ لَيْسَ فِي الزَّوْجِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا نَصٌّ أَوْ إِجْمَاعٌ يَمْنَعُ إِعْطَاءَهُ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: لاَ يُجْزِئُ الْمَرْأَةَ أَنْ تُعْطِيَ زَوْجَهَا زَكَاتَهَا وَلَوْ كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلاَقِهِ الْبَائِنِ وَلَوْ بِثَلاَثِ طَلَقَاتٍ؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الرَّجُل وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ مُشْتَرَكَةٌ، فَهِيَ تَنْتَفِعُ بِتِلْكَ الزَّكَاةِ الَّتِي تُعْطِيهَا لِزَوْجِهَا؛ وَلأَِنَّ الزَّوْجَ لاَ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَال امْرَأَتِهِ، وَلاَ تَصِحُّ شَهَادَتُهُ لَهَا.
وَقَال مَالِكٌ: لاَ تُعْطِي الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا زَكَاةَ مَالِهَا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَعْنَى كَلاَمِهِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: بِأَنَّ مُرَادَهُ عَدَمُ الإِْجْزَاءِ، وَقَال آخَرُونَ: بِإِجْزَائِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ (1) .
6 - الْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ:
179 - ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ: تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى كَافِرٍ (2) أَنَّ فِي إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ لِلْعَاصِي خِلاَفًا، وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الزَّكَاةَ
__________
(1) الدر وحاشية ابن عابدين 2 / 62، ومجموع الفتاوى الكبرى 25 / 90، 91، وفتح القدير 2 / 22، والدسوقي 1 / 499، والمجموع 6 / 192، 230، والمغني 2 / 649.
(2) أخرجه البخاري (الفتح 3 / 290 - ط السلفية) ومسلم (2 / 709 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة(23/327)
لاَ تُعْطَى لأَِهْل الْمَعَاصِي إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُعْطِي أَنَّهُمْ يَصْرِفُونَهَا فِي الْمَعْصِيَةِ، فَإِنْ أَعْطَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تُجْزِئْهُ عَنِ الزَّكَاةِ، وَفِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَال تَجُوزُ، وَتُجْزِئُ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: يَنْبَغِي لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَتَحَرَّى بِزَكَاتِهِ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْ أَهْل الدِّينِ الْمُتَّبِعِينَ لِلشَّرِيعَةِ، فَمَنْ أَظْهَرَ بِدْعَةً أَوْ فُجُورًا فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِالْهَجْرِ وَغَيْرِهِ وَالاِسْتِتَابَةَ فَكَيْفَ يُعَانُ عَلَى ذَلِكَ؟ ، وَقَال: مَنْ كَانَ لاَ يُصَلِّي يُؤْمَرُ بِالصَّلاَةِ، فَإِنْ قَال: أَنَا أُصَلِّي، أُعْطِيَ، وَإِلاَّ لَمْ يُعْطَ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ يُعْطَى مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا بِالنِّفَاقِ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِلْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الإِْسْلاَمِ مِنْ أَهْل الْبِدَعِ إِنْ كَانُوا مِنَ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، مَا لَمْ تَكُنْ بِدْعَتُهُمْ مُكَفِّرَةً مُخْرِجَةً لَهُمْ عَنِ الإِْسْلاَمِ (3) . عَلَى أَنَّ الأَْوْلَى تَقْدِيمُ أَهْل الدِّينِ الْمُسْتَقِيمِينَ عَلَيْهِ فِي الاِعْتِقَادِ، وَالْعَمَل عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ عِنْدَ الإِْعْطَاءِ مِنَ الزَّكَاةِ، لِحَدِيثِ: لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا وَلاَ يَأْكُل طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ (4) .
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 492، وانظر فتح الباري 2 / 291.
(2) مجموع الفتاوى الكبرى 24 / 278، 25 / 87 - 89.
(3) ابن عابدين 2 / 69.
(4) أخرجه أحمد (3 / 38 - ط الميمنية) والترمذي (4 / 519 - ط دار الكتب العلمية) من حديث أبي سعيد الخدري، وعند أحمد: " لا تصحب "، وحسنه الترمذي.(23/328)
7 - الْمَيِّتُ:
180 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (عَلَى الْمَذْهَبِ) وَالنَّخَعِيُّ: إِلَى أَنَّهُ لاَ تُعْطَى الزَّكَاةُ فِي تَجْهِيزِ مَيِّتٍ عِنْدَ مَنْ قَال بِأَنَّ رُكْنَ الزَّكَاةِ تَمْلِيكُهَا لِمَصْرِفِهَا، فَإِنَّ الْمَيِّتَ لاَ يَمْلِكُ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الزَّكَاةِ التَّمْلِيكُ، قَالُوا: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقْضَى بِهَا دَيْنُ الْمَيِّتِ الَّذِي لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً؛ لأَِنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ بِهَا لاَ يَقْتَضِي تَمْلِيكَهُ إِيَّاهَا، قَال أَحْمَدُ: لاَ يُقْضَى مِنَ الزَّكَاةِ دَيْنُ الْمَيِّتِ، وَيُقْضَى مِنْهَا دَيْنُ الْحَيِّ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَنَقَلَهُ فِي الْفُرُوعِ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، وَعَنِ اخْتِيَارِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَأَنَّ فِي ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ بَأْسَ أَنْ يُقْضَى مِنَ الزَّكَاةِ دَيْنُ الْمَيِّتِ الَّذِي لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً إِنْ تَمَّتْ فِيهِ شُرُوطُ الْغَارِمِ، قَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: بَل هُوَ أَوْلَى مِنْ دَيْنِ الْحَيِّ فِي أَخْذِهِ مِنَ الزَّكَاةِ، لأَِنَّهُ لاَ يُرْجَى قَضَاؤُهُ بِخِلاَفِ الْحَيِّ، وَاحْتَجَّ النَّوَوِيُّ لِهَذَا الْقَوْل بِعُمُومِ الْغَارِمِينَ فِي آيَةِ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، وَبِأَنَّهُ يَصِحُّ التَّبَرُّعُ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ كَدَيْنِ الْحَيِّ (1) .
8 - جِهَاتُ الْخَيْرِ مِنْ غَيْرِ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ:
181 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ صَرْفُ
__________
(1) فتح القدير على الهداية 2 / 20، وابن عابدين 2 / 62، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 496، والمجموع 6 / 211، والفروع 2 / 619، والمغني 2 / 667.(23/328)
الزَّكَاةِ فِي جِهَاتِ الْخَيْرِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَلاَ تُنْشَأُ بِهَا طَرِيقٌ، وَلاَ يُبْنَى بِهَا مَسْجِدٌ وَلاَ قَنْطَرَةٌ، وَلاَ تُشَقُّ بِهَا تُرْعَةٌ، وَلاَ يُعْمَل بِهَا سِقَايَةٌ، وَلاَ يُوَسَّعُ بِهَا عَلَى الأَْصْنَافِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ نَقْل خِلاَفٍ عَنْ مُعَيَّنٍ يُعْتَدُّ بِهِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الرَّمْلِيِّ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ لاَ تَمْلِيكَ فِيهَا؛ لأَِنَّ الْمَسْجِدَ وَنَحْوَهُ لاَ يُمْلَكُ، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ فِي الزَّكَاةِ التَّمْلِيكَ.
وَالثَّانِي:
الْحَصْرُ الَّذِي فِي الآْيَةِ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ وَنَحْوَهَا لَيْسَتْ مِنَ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي فِيهِ: إِنَّ اللَّهَ جَعَل الزَّكَاةَ ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ (1) .
وَلاَ يَثْبُتُ مِمَّا نُقِل عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ سِيرِينَ خِلاَفُ ذَلِكَ (2) .
مَا يُرَاعَى فِي قِسْمَةِ الزَّكَاةِ بَيْنَ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ:
أ - تَعْمِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى الأَْصْنَافِ:
182 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْل الثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ تَعْمِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى
__________
(1) حديث: " إن الله جعل الزكاة ثمانية أجزاء. . . " سبق تخريجه ف / 156.
(2) فتح القدير 2 / 20، وابن عابدين 2 / 62، ونهاية المحتاج 6 / 149، والشرح الكبير والدسوقي 1 / 497، والمغني 2 / 667.(23/329)
الأَْصْنَافِ، سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي يُؤَدِّيهَا إِلَيْهَا رَبَّ الْمَال أَوِ السَّاعِيَ أَوِ الإِْمَامَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَال كَثِيرًا أَوْ قَلِيلاً، بَل يَجُوزُ أَنْ تُعْطَى لِصِنْفٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى لِشَخْصٍ وَاحِدٍ إِنْ لَمْ تَزِدْ عَنْ كِفَايَتِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي أَيِّ صِنْفٍ وَضَعْتَهُ أَجْزَأَكَ.
183 - وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ: تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ (1) قَالُوا: وَالْفُقَرَاءُ صِنْفٌ وَاحِدٌ مِنْ أَصْنَافِ أَهْل الزَّكَاةِ الثَّمَانِيَةِ، وَبِوَقَائِعَ أَعْطَى فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ لِفَرْدٍ وَاحِدٍ أَوْ أَفْرَادٍ، مِنْهَا: أَنَّهُ أَعْطَى سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ الْبَيَاضِيَّ صَدَقَةَ قَوْمِهِ (2) . وَقَال لِقَبِيصَةَ: أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا (3) . قَالُوا: وَاللاَّمُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ بِمَعْنَى " أَوْ "، أَوْ هِيَ لِبَيَانِ الْمَصَارِفِ، أَوْ هِيَ لِلاِخْتِصَاصِ، وَمَعْنَى الاِخْتِصَاصِ عَدَمُ خُرُوجِهَا عَنْهُمْ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ التَّعْمِيمَ لاَ يُنْدَبُ إِلاَّ أَنْ يُقْصَدَ الْخُرُوجُ مِنَ الْخِلاَفِ، وَكَذَا اسْتَحَبَّ
__________
(1) حديث: " تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " سبق تخريجه ف / 33.
(2) حديث: " أعطى سلمة بن صخر البياضي صدقة قومه ". أخرجه الترمذي (5 / 405 - 406 - ط الحلبي) ونقل عن البخاري بالانقطاع بين سلمة بن صخر والراوي عنه وهو سليمان بن يسار، وقال قبلها: حديث حسن.
(3) حديث: " أقم يا قبيصة حتى تأتينا بالصدقة فنأمر لك بها ". تقدم تخريجه ف / 165.(23/329)
الْحَنَابِلَةُ التَّعْمِيمَ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلاَفِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْل عِكْرِمَةَ، إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَعْمِيمُ الأَْصْنَافِ، وَإِعْطَاءُ كُل صِنْفٍ مِنْهُمُ الثُّمُنَ مِنَ الزَّكَاةِ الْمُتَجَمِّعَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِآيَةِ الصَّدَقَاتِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الزَّكَاةَ إِلَيْهِمْ فَاللاَّمُ لِلتَّمْلِيكِ، وَأَشْرَكَ بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ، فَدَل عَلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّهُ لَوْ قَال رَبُّ الْمَال: هَذَا الْمَال لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ قُسِمَتْ بَيْنَهُمْ وَوَجَبَتِ التَّسْوِيَةُ، فَكَذَا هَذَا، وَلَوْ أَوْصَى لَهُمْ وَجَبَ التَّعْمِيمُ وَالتَّسْوِيَةُ.
وَتَفْصِيل مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ اسْتِيعَابُ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فِي الْقَسْمِ إِنْ قَسَمَ الإِْمَامُ وَهُنَاكَ عَامِلٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامِلٌ بِأَنْ قَسَمَ الْمَالِكُ، أَوْ حَمَل أَصْحَابُ الأَْمْوَال زَكَاتَهُمْ إِلَى الإِْمَامِ، فَالْقِسْمَةُ عَلَى سَبْعَةِ أَصْنَافٍ، فَإِنْ فُقِدَ بَعْضُهُمْ فَعَلَى الْمَوْجُودِينَ مِنْهُمْ، وَيَسْتَوْعِبُ الإِْمَامُ مِنَ الزَّكَوَاتِ الْمُجْتَمِعَةِ عِنْدَهُ آحَادَ كُل صِنْفٍ وُجُوبًا، إِنْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّونَ فِي الْبَلَدِ، وَوَفَى بِهِمُ الْمَال. وَإِلاَّ فَيَجِبُ إِعْطَاءُ ثَلاَثَةٍ مِنْ كُل صِنْفٍ؛ لأَِنَّ الآْيَةَ ذَكَرَتِ الأَْصْنَافَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.
قَالُوا: وَيَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَوِ السَّاعِي أَنْ يَعْتَنِيَ
__________
(1) المغني 2 / 688، 670، وفتح القدير 2 / 18، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 498.(23/330)
بِضَبْطِ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَمَعْرِفَةِ أَعْدَادِهِمْ، وَقَدْرِ حَاجَاتِهِمْ، وَاسْتِحْقَاقِهِمْ، بِحَيْثُ يَقَعُ الْفَرَاغُ مِنْ جَمْعِ الزَّكَوَاتِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَوْ مَعَهُ لِيَتَعَجَّل وُصُول حَقِّهِمْ إِلَيْهِمْ.
قَالُوا: وَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الأَْصْنَافِ، وَإِنْ كَانَتْ حَاجَةُ بَعْضِهِمْ أَشَدَّ، وَلاَ تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَفْرَادِ كُل صِنْفٍ إِنْ قَسَمَ الْمَالِكُ، بَل يَجُوزُ تَفْضِيل بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، أَمَّا إِنْ قَسَمَ الإِْمَامُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّفْضِيل مَعَ تَسَاوِي الْحَاجَاتِ، فَإِنْ فَقَدَ بَعْضَ الأَْصْنَافِ أَعْطَى سَهْمَهُ لِلأَْصْنَافِ الْبَاقِيَةِ، وَكَذَا إِنِ اكْتَفَى بَعْضُ الأَْصْنَافِ وَفَضَل شَيْءٌ، فَإِنِ اكْتَفَى جَمِيعُ أَفْرَادِ الأَْصْنَافِ جَمِيعًا بِالْبَلَدِ، جَازَ النَّقْل إِلَى أَقْرَبِ الْبِلاَدِ إِلَيْهِ عَلَى الأَْظْهَرِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ.
وَقَال النَّخَعِيُّ: إِنْ كَانَتِ الزَّكَاةُ قَلِيلَةً جَازَ صَرْفُهَا إِلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ، وَإِلاَّ وَجَبَ اسْتِيعَابُ الأَْصْنَافِ، وَقَالاَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ: إِنْ أَخْرَجَهَا الإِْمَامُ وَجَبَ اسْتِيعَابُ الأَْصْنَافِ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا الْمَالِكُ جَازَ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ (1) .
التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْمَصَارِفِ:
184 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْعَامِل عَلَى الزَّكَاةِ يُبْدَأُ بِهِ قَبْل غَيْرِهِ فِي الإِْعْطَاءِ مِنَ
__________
(1) المجموع 6 / 185، 186، والمغني 2 / 668، 669 و6 / 440، شرح المنهاج وحاشيتا القليوبي وعميرة 3 / 201، 202، الأموال لأبي عبيد ف / 1851 ص692 ط دار الفكر.(23/330)
الزَّكَاةِ؛ لأَِنَّهُ يَأْخُذُ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ عَنْ عَمَلِهِ، وَغَيْرُهُ يَأْخُذُ عَلَى سَبِيل الْمُوَاسَاةِ، قَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَإِنْ كَانَ سَهْمُ الْعَامِلِينَ وَهُوَ ثُمُنُ الزَّكَاةِ قَدْرَ حَقِّهِ أَخَذَهُ، وَإِنْ زَادَ عَنْ حَقِّهِ رُدَّ الْفَاضِل عَلَى سَائِرِ السِّهَامِ، وَإِنْ كَانَ أَقَل مِنْ حَقِّهِ تُمِّمَ لَهُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَقِيل: مِنْ بَاقِي السِّهَامِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْعَامِل يُقَدَّمُ بِأُجْرَتِهِ عَلَى سَائِرِ الأَْصْنَافِ، أَيْ مِنْ مَجْمُوعِ الزَّكَاةِ.
أَمَّا مَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُقْسَمُ بَيْنَ بَاقِي الأَْصْنَافِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَنَظَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْحَاجَةِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُقَدَّمُ الْمَدِينُ عَلَى الْفَقِيرِ لأَِنَّ حَاجَةَ الْمَدِينِ أَشَدُّ، وَرَاعَى الْحَنَفِيَّةُ أُمُورًا أُخْرَى تَأْتِي فِي نَقْل الزَّكَاةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ إِيثَارُ الْمُضْطَرِّ عَلَى غَيْرِهِ بِأَنْ يُزَادَ فِي إِعْطَائِهِ مِنْهَا.
وَنَظَرَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى الْحَاجَةِ مَعَ الْقَرَابَةِ فَقَالُوا: يُقَدَّمُ الأَْحْوَجُ فَالأَْحْوَجُ اسْتِحْبَابًا، فَإِنْ تَسَاوَوْا قُدِّمَ الأَْقْرَبُ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ فِي الْجِوَارِ وَأَكْثَرَ دِينًا، وَكَيْفَ فَرَّقَهَا جَازَ، بَعْدَ أَنْ يَضَعَهَا فِي الأَْصْنَافِ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى (1) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 61، 69، والشرح الكبير 1 / 498، والمجموع 6 / 187، والمغني 2 / 689، والإنصاف 3 / 239.(23/331)
نَقْل الزَّكَاةِ:
185 - إِذَا فَاضَتِ الزَّكَاةُ فِي بَلَدٍ عَنْ حَاجَةِ أَهْلِهَا جَازَ نَقْلُهَا اتِّفَاقًا، بَل يَجِبُ، وَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَنْزِيهًا نَقْل الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَإِنَّمَا تُفَرَّقُ صَدَقَةُ كُل أَهْل بَلَدٍ فِيهِمْ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ (1) . وَلأَِنَّ فِيهِ رِعَايَةَ حَقِّ الْجِوَارِ، وَالْمُعْتَبَرُ بَلَدُ الْمَال، لاَ بَلَدُ الْمُزَكِّي.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَنْقُلَهَا الْمُزَكِّي إِلَى قَرَابَتِهِ، لِمَا فِي إيصَال الزَّكَاةِ إِلَيْهِمْ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ. قَالُوا: وَيُقَدَّمُ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ.
وَاسْتَثْنَوْا أَيْضًا أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى قَوْمٍ هُمْ أَحْوَجُ إِلَيْهَا مِنْ أَهْل بَلَدِهِ، وَكَذَا لأَِصْلَحَ، أَوْ أَوْرَعَ، أَوْ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، أَوْ إِلَى طَالِبِ عِلْمٍ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ نَقْل الزَّكَاةِ إِلَى مَا يَزِيدُ عَنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، لِحَدِيثِ مُعَاذٍ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاذٌ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَقَال: لَمْ أَبْعَثْكَ جَابِيًا وَلاَ آخِذَ جِزْيَةٍ، وَلَكِنْ بَعَثْتُكَ لِتَأْخُذَ مِنْ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ فَتَرُدَّ عَلَى
__________
(1) حديث: " تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ". تقدم تخريجه ف / 33.
(2) ابن عابدين 2 / 68، 69، وفتح القدير 2 / 28.(23/331)
فُقَرَائِهِمْ، فَقَال مُعَاذٌ: مَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِشَيْءٍ وَأَنَا أَجِدُ مَنْ يَأْخُذُهُ مِنِّي.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أُتِيَ بِزَكَاةٍ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى الشَّامِ فَرَدَّهَا إِلَى خُرَاسَانَ.
قَالُوا: وَالْمُعْتَبَرُ بَلَدُ الْمَال، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: الْمُعْتَبَرُ فِي الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ الْبَلَدُ الَّذِي فِيهِ الْمَال، وَفِي النَّقْدِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ الْبَلَدُ الَّذِي فِيهِ الْمَالِكُ.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يُوجَدَ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ مِمَّنْ هُوَ فِي الْبَلَدِ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ النَّقْل مِنْهَا وَلَوْ نُقِل أَكْثَرُهَا.
186 - ثُمَّ إِنْ نُقِلَتِ الزَّكَاةُ حَيْثُ لاَ مُسَوِّغَ لِنَقْلِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، إِلَى أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْ صَاحِبِهَا؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ نَقَلَهَا لِمِثْل مَنْ فِي بَلَدِهِ فِي الْحَاجَةِ فَتُجْزِئُهُ مَعَ الْحُرْمَةِ، وَإِنْ نَقَلَهَا لأَِدْوَنَ مِنْهُمْ فِي الْحَاجَةِ لَمْ تُجْزِئْهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ خَلِيلٌ وَالدَّرْدِيرُ، وَقَال الدُّسُوقِيُّ: نَقَل الْمَوَّاقُ أَنَّ الْمَذْهَبَ الإِْجْزَاءُ بِكُل حَالٍ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: لاَ تُجْزِئُهُ بِكُل حَالٍ.
وَحَيْثُ نُقِلَتِ الزَّكَاةُ فَأُجْرَةُ النَّقْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَكُونُ مِنْ بَيْتِ الْمَال لاَ مِنَ الزَّكَاةِ نَفْسِهَا. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تَكُونُ عَلَى الْمُزَكِّي (1) .
__________
(1) فتح القدير 2 / 28، والدسوقي 1 / 500 - 502، وشرح المنهاج 3 / 202، 203، والمغني 2 / 671 - 674، والإنصاف 3 / 202.(23/332)
حُكْمُ مَنْ أُعْطِيَ مِنَ الزَّكَاةِ لِوَصْفٍ فَزَال الْوَصْفُ وَهِيَ فِي يَدِهِ:
187 - مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ مَنْ يَأْخُذُ أَخْذًا مُسْتَقِرًّا فَلاَ يُسْتَرَدُّ مِنْهُ شَيْءٌ إِنْ كَانَ فِيهِ سَبَبُ الاِسْتِحْقَاقِ بِشُرُوطِهِ عِنْدَ الأَْخْذِ، وَهُمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: الْمِسْكِينُ، وَالْفَقِيرُ، وَالْعَامِل، وَالْمُؤَلَّفُ قَلْبُهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ أَخْذًا مُرَاعًى، فَيُسْتَرَدُّ مِنْهُ إِنْ لَمْ يُنْفِقْهُ فِي وَجْهِهِ، أَوْ تَأَدَّى الْغَرَضُ مِنْ بَابٍ آخَرَ، أَوْ زَال الْوَصْفُ وَالزَّكَاةُ فِي يَدِهِ، وَهُمْ أَيْضًا أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ، عَلَى خِلاَفٍ فِي بَعْضِهَا:
1 - الْمُكَاتَبُ، فَيُسْتَرَدُّ مِنَ الْمُعْطَى مَا أَخَذَ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ مَاتَ قَبْل أَنْ يَعْتِقَ، أَوْ عَجَزَ عَنِ الْوَفَاءِ فَلَمْ يَعْتِقْ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَكُونُ مَا أَخَذَهُ لِسَيِّدِهِ وَيَحِل لَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ يُسْتَرَدُّ، وَلاَ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ، بَل يُنْفِقُ فِي الْمُكَاتَبِينَ (1) .
وَلاَ تَرِدُ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يَرَوْنَ صَرْفَ الزَّكَاةِ لِلْمُكَاتَبِينَ كَمَا تَقَدَّمَ.
2 - الْغَارِمُ: فَإِنِ اسْتَغْنَى الْمَدِينُ الَّذِي أَخَذَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 60، والمجموع 6 / 201، والمغني 1 / 440، والفروع وتصحيحه 2 / 613.(23/332)
الزَّكَاةَ قَبْل دَفْعِهَا فِي دَيْنِهِ تُنْزَعُ مِنْهُ، وَكَذَا لَوْ أُبْرِئَ مِنَ الدَّيْنِ، أَوْ قَضَاهُ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ، أَوْ قَضَاهُ عَنْهُ غَيْرُهُ. وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، مَا لَمْ يَكُنْ فَقِيرًا (1) .
3 - الْغَازِي فِي سَبِيل اللَّهِ: وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ أَخَذَ الزَّكَاةَ لِلْغَزْوِ ثُمَّ جَلَسَ فَلَمْ يَخْرُجْ أُخِذَتْ مِنْهُ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: لَوْ خَرَجَ لِلْغَزْوِ وَعَادَ دُونَ أَنْ يُقَاتِل مَعَ قُرْبِ الْعَدُوِّ تُؤْخَذُ مِنْهُ كَذَلِكَ.
وَحَيْثُ وَجَبَ الرَّدُّ تُنْزَعُ مِنْهُ إِنْ كَانَ بَاقِيهِ فِي يَدِهِ، وَإِنْ أَنْفَقَهَا أُتْبِعَ بِهَا، أَيْ طُولِبَ بِبَدَلِهَا إِنْ كَانَ غَنِيًّا؛ لأَِنَّهَا تَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ.
4 - ابْنُ السَّبِيل: وَيُسْتَرَدُّ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ إِنْ لَمْ يَخْرُجْ، مَا لَمْ يَكُنْ فَقِيرًا بِبَلَدِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيُعْتَبَرُ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَفِي قَوْلٍ: تَمَامُ السَّنَةِ. قَالُوا: وَيَرُدُّ مَا أَخَذَ لَوْ سَافَرَ ثُمَّ عَادَ وَلَمْ يَصْرِفْ مَا أَخَذَهُ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّمَا تُنْزَعُ مِنْهُ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، فَإِنْ كَانَ أَنْفَقَهَا لَمْ يُطَالَبْ بِبَدَلِهَا.
وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُلْزَمُ بِالرَّدِّ؛ لأَِنَّهُمْ قَالُوا: لاَ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِمَا فَضَل فِي يَدِهِ (2) .
__________
(1) الدسوقي 1 / 498، والمجموع 6 / 209، والمغني 1 / 440، والفروع 2 / 617، 618.
(2) ابن عابدين 2 / 62، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 498، وشرح المنهاج 3 / 199، والمغني 6 / 436، 440، والفروع 2 / 617.(23/333)
حُكْمُ مَنْ أَخَذَ الزَّكَاةَ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا:
188 - لاَ يَحِل لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ أَخْذُهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا زَكَاةٌ، إِجْمَاعًا. فَإِنْ أَخَذَهَا فَلَمْ تُسْتَرَدَّ مِنْهُ فَلاَ تَطِيبُ لَهُ، بَل يَرُدُّهَا أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهَا؛ لأَِنَّهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَعَلَى دَافِعِ الزَّكَاةِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَعَرُّفِ مُسْتَحَقِّي الزَّكَاةِ، فَإِنْ دَفَعَهَا بِغَيْرِ اجْتِهَادِهِ، أَوْ كَانَ اجْتِهَادُهُ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا وَأَعْطَاهُ لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُ، إِنْ تَبَيَّنَ الآْخِذُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، وَالْمُرَادُ بِالاِجْتِهَادِ النَّظَرُ فِي أَمَارَاتِ الاِسْتِحْقَاقِ، فَلَوْ شَكَّ فِي كَوْنِ الآْخِذِ فَقِيرًا فَعَلَيْهِ الاِجْتِهَادُ كَذَلِكَ (1) .
189 - أَمَّا إِنِ اجْتَهَدَ فَدَفَعَ لِمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ فَتَبَيَّنَ عَدَمُ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَال بَعْضُهُمْ: تُجْزِئُهُ، وَقَال آخَرُونَ: لاَ تُجْزِئُهُ، عَلَى تَفْصِيلٍ يَخْتَلِفُ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ.
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: إِنْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إِلَى مَنْ يَظُنُّهُ فَقِيرًا ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ غَنِيٌّ أَوْ هَاشِمِيٌّ أَوْ كَافِرٌ، أَوْ دَفَعَ فِي ظُلْمَةٍ، فَبَانَ أَنَّ الآْخِذَ أَبُوهُ، أَوِ ابْنُهُ فَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِحَدِيثِ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ قَال: كَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَال: وَاَللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ،
__________
(1) ابن عابدين 2 / 68، والهداية وفتح القدير 2 / 26.(23/333)
وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ (1) .
وَلأَِنَّا لَوْ أَمَرْنَاهُ بِالإِْعَادَةِ أَفْضَى إِلَى الْحَرَجِ؛ لأَِنَّهُ رُبَّمَا تَكَرَّرَ خَطَؤُهُ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا أَنْ يَتَبَيَّنَ الآْخِذُ غَيْرَ أَهْلٍ لِلتَّمْلِيكِ أَصْلاً، نَحْوُ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ الآْخِذَ عَبْدُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ، فَلاَ تُجْزِئُ فِي هَذَا الْحَال.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ تُجْزِئُهُ إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الآْخِذَ لَيْسَ مِنَ الْمَصَارِفِ، لِظُهُورِ خَطَئِهِ بِيَقِينٍ مَعَ إِمْكَانِ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ تَحَرَّى فِي ثِيَابٍ فَبَانَ أَنَّهُ صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ (2) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ حَالَيْنِ:
الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ الإِْمَامَ أَوْ مُقَدَّمَ الْقَاضِي أَوِ الْوَصِيَّ، فَيَجِبُ اسْتِرْدَادُهَا، لَكِنْ إِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا، أَجْزَأَتْ، لأَِنَّ اجْتِهَادَ الإِْمَامِ حُكْمٌ لاَ يَتَعَقَّبُ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ رَبَّ الْمَال فَلاَ تُجْزِئُهُ، فَإِنِ اسْتَرَدَّهَا وَأَعْطَاهَا فِي وَجْهِهَا، وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ الإِْخْرَاجُ مَرَّةً أُخْرَى، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ اسْتِرْدَادَهَا إِنْ فَوَّتَهَا الآْخِذُ بِفِعْلِهِ، بِأَنْ أَكَلَهَا، أَوْ بَاعَهَا، أَوْ وَهَبَهَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
أَمَّا إِنْ فَاتَتْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ بِأَنْ تَلِفَتْ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ، فَإِنْ كَانَ غَرَّ الدَّافِعَ بِأَنْ أَظْهَرَ لَهُ الْفَقْرَ،
__________
(1) حديث: " لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 291 - ط السلفية) .
(2) الهداية وفتح القدير 2 / 26.(23/334)
أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهَا أَيْضًا، أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ غَرَّهُ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ الاِسْتِرْدَادُ، وَعَلَى الآْخِذِ الرَّدُّ، سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهَا زَكَاةٌ أَمْ لاَ، فَإِنِ اسْتُرِدَّتْ صُرِفَتْ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الاِسْتِرْدَادُ فَإِنْ كَانَ الَّذِي دَفَعَهَا الإِْمَامُ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي دَفَعَهَا الْمَالِكُ ضَمِنَ، وَهَذَا هُوَ الْمُقَدَّمُ عِنْدَهُمْ، وَفِي بَعْضِ صُوَرِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَهُمْ أَقْوَالٌ أُخْرَى (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ بَانَ الآْخِذُ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ هَاشِمِيًّا، أَوْ قَرَابَةً لِلْمُعْطِي مِمَّنْ لاَ يَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ، فَلاَ تُجْزِئُ الزَّكَاةُ عَنْ دَافِعِهَا رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ، وَلاَ تَخْفَى حَالُهُ غَالِبًا، فَلَمْ يَجْزِهِ الدَّفْعُ إِلَيْهِ، كَدُيُونِ الآْدَمِيِّينَ.
أَمَّا إِنْ كَانَ ظَنَّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا فَكَذَلِكَ عَلَى رِوَايَةٍ، وَالأُْخْرَى يُجْزِئُهُ، لِحَدِيثِ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ الْمُتَقَدِّمِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: قَال رَجُلٌ: لأََتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ. . . . الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَأُتِيَ فَقِيل لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ، لَعَل الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ (3) . وَلأَِنَّ
__________
(1) الدسوقي والشرح الكبير 1 / 501، 502.
(2) روضة الطالبين 2 / 338.
(3) حديث أبي هريرة: " قال رجل: لأتصدقن بصدقة ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 290 - ط السلفية) ومسلم (2 / 709 - ط الحلبي) .(23/334)
حَالَهُ تَخْفَى غَالِبًا (1) .
مَنْ لَهُ حَقُّ طَلَبِ الزَّكَاةِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا:
190 - فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ مُسْتَحَقِّي الزَّكَاةِ مِنَ الْفُقَرَاءِ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ طَلَبِهِمُ الزَّكَاةَ بِالرَّغْمِ مِنَ اسْتِحْقَاقِهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي يَحِل لَهُ طَلَبُ الزَّكَاةِ هُوَ مَنْ لاَ شَيْءَ لَهُ لِيَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ فَيَحْتَاجُ لِلسُّؤَال لِقُوتِهِ، أَوْ مَا يُوَارِي بَدَنَهُ، وَهُوَ فِي اصْطِلاَحِهِمُ الْمُسَمَّى مِسْكِينًا، وَكَذَا لاَ يَحِل السُّؤَال لِمَنْ لاَ يَمْلِكُ قُوتَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ لَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْكَسْبِ، أَمَّا الْفَقِيرُ وَهُوَ فِي اصْطِلاَحِهِمْ مَنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ لِيَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، فَلاَ يَحِل لَهُ سُؤَال الصَّدَقَةِ، وَإِنْ كَانَ يَحِل لَهُ أَخْذُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِخَمْسِينَ دِرْهَمًا (2) عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ: مَنْ أُبِيحَ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ أُبِيحَ لَهُ طَلَبُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: يَحْرُمُ طَلَبُهَا عَلَى مَنْ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، وَقَال ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَجِدُ مَنْ يَسْأَلُهُ كُل يَوْمٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْأَل أَكْثَرَ مِنْ قُوتِ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، وَإِنْ خَافَ أَنْ لاَ يَجِدَ مَنْ يُعْطِيهِ أُبِيحَ لَهُ السُّؤَال أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ (3) .
__________
(1) المغني 2 / 667.
(2) فتح القدير 2 / 15، 16.
(3) الإنصاف 3 / 223، والمغني 6 / 423، وشرح المنتهى 1 / 425.(23/335)
زَكَاةُ الْفِطْرِ
.
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الزَّكَاةِ فِي اللُّغَةِ: النَّمَاءُ، وَالزِّيَادَةُ، وَالصَّلاَحُ، وَصَفْوَةُ الشَّيْءِ، وَمَا أَخْرَجْتَهُ مِنْ مَالِكِ لِتُطَهِّرَهُ بِهِ.
وَالْفِطْرُ: اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ قَوْلِكَ: أَفْطَرَ الصَّائِمُ إِفْطَارًا (1) .
وَأُضِيفَتِ الزَّكَاةُ إِلَى الْفِطْرِ؛ لأَِنَّهُ سَبَبُ وُجُوبِهَا، وَقِيل لَهَا فِطْرَةٌ، كَأَنَّهَا مِنَ الْفِطْرَةِ الَّتِي هِيَ الْخِلْقَةُ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ: يُقَال لِلْمُخْرَجِ: فِطْرَةٌ. وَالْفِطْرَةُ - بِكَسْرِ الْفَاءِ لاَ غَيْرُ - وَهِيَ لَفْظَةٌ مُوَلَّدَةٌ لاَ عَرَبِيَّةٌ وَلاَ مُعَرَّبَةٌ بَل اصْطِلاَحِيَّةٌ لِلْفُقَهَاءِ، فَتَكُونُ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً عَلَى الْمُخْتَارِ، كَالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ.
وَزَكَاةُ الْفِطْرِ فِي الاِصْطِلاَحِ: صَدَقَةٌ تَجِبُ بِالْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ (3) .
__________
(1) القاموس المحيط والمصباح ولسان العرب مادة: (زكو) .
(2) كشاف القناع 2 / 245، ومغني المحتاج 1 / 401.
(3) راجع حاشية الشبلي على الزيلعي، وشرح الزيلعي 1 / 306، ونيل المآرب 1 / 255 ط الفلاح.(23/335)
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
2 - حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ زَكَاةِ الْفِطْرِ الرِّفْقُ بِالْفُقَرَاءِ بِإِغْنَائِهِمْ عَنِ السُّؤَال فِي يَوْمِ الْعِيدِ، وَإِدْخَال السُّرُورِ عَلَيْهِمْ فِي يَوْمٍ يُسَرُّ الْمُسْلِمُونَ بِقُدُومِ الْعِيدِ عَلَيْهِمْ، وَتَطْهِيرُ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ شَهْرِ الصَّوْمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ (1) . رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: فَرَضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ، طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْل الصَّلاَةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاَةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ (3) . وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: فَرَضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ
__________
(1) المغني 3 / 56.
(2) حديث ابن عباس: " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم ". أخرجه أبو داود (2 / 262 - 263 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسنه النووي في المجموع (6 / 162 - ط المنيرية) .
(3) الزيلعي 1 / 307، وابن عابدين 2 / 110، وفتح القدير 2 / 30، وبلغة السالك 1 / 200، وشرح المنهاج 1 / 628، وكشاف القناع 1 / 471.(23/336)
شَعِيرٍ، عَلَى كُل حُرٍّ، أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ (1) . وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَدُّوا عَنْ كُل حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ (2) وَهُوَ أَمْرٌ، وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.
وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ مُقَابِلٌ لِلْمَشْهُورِ: إِنَّهَا سُنَّةٌ، وَاسْتَبْعَدَهُ الدُّسُوقِيُّ (3) .
شَرَائِطُ وُجُوبِ أَدَاءِ زَكَاةِ الْفِطْرِ:
يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ أَدَائِهَا مَا يَلِي:
4 - أَوَّلاً: الإِْسْلاَمُ: وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا عَنْ أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ الإِْسْلاَمُ شَرْطًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لأَِنَّهَا قُرْبَةٌ مِنَ الْقُرَبِ، وَطُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ مِنَ الرَّفَثِ وَاللَّغْوِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا إِنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا فِي الآْخِرَةِ (4) .
__________
(1) حديث ابن عمر: " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 367 - ط السلفية) ومسلم (2 / 677 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) حديث: " أدوا عن كل حر وعبد صغير أو كبير. . . " أخرجه الدارقطني (2 / 147 - 148 - ط دار المحاسن) وأعله ابن دقيق العيد بالاضطراب في إسناده ومتنه كما في نصب الراية (2 / 408 - ط المجلس العلمي) .
(3) الدسوقي 1 / 504، ومغني المحتاج 1 / 401.
(4) الدر المختار 2 / 72، وشرح الدردير بحاشية الدسوقي 1 / 504، ومغني المحتاج 1 / 402.(23/336)
5 - ثَانِيًا: الْحُرِّيَّةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ الْعَبْدَ لاَ يَمْلِكُ، وَمَنْ لاَ يَمْلِكُ لاَ يُمَلِّكُ (1) .
6 - ثَالِثًا: أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى إِخْرَاجِ زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَعْنَى الْقُدْرَةِ عَلَى إِخْرَاجِهَا: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ مِلْكِ النِّصَابِ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْقُدْرَةِ عَلَى إِخْرَاجِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلنِّصَابِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ أَيِّ مَالٍ كَانَ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، أَوِ السَّوَائِمِ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، أَوْ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ.
وَالنِّصَابُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنَ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ (2) . فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ هَذَا الْقَدْرُ فَاضِلاً عَنْ حَوَائِجِهِ الأَْصْلِيَّةِ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَلْبَسٍ وَمَسْكَنٍ وَسِلاَحٍ وَفَرَسٍ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ.
وَفِي وَجْهٍ آخَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ إِذَا كَانَ لاَ يَمْلِكُ نِصَابًا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ. وَلاَ يَجْتَمِعُ جَوَازُ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ مَعَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمِقْدَارِ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) الدرهم يساوي (2. 975) غرامًا.
(3) راجع الزيلعي 1 / 307 وما بعدها، وبداية المجتهد 1 / 164 وما بعدها.(23/337)
الَّذِي عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ أَقَل مِنْ صَاعٍ وَعِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُهُ، بَل قَالُوا: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَرِضَ لأَِدَاءِ زَكَاةِ الْفِطْرِ إِذَا كَانَ يَرْجُو الْقَضَاءَ؛ لأَِنَّهُ قَادِرٌ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَ لاَ يَرْجُو الْقَضَاءَ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ فَضْلٌ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ مَنْ فِي نَفَقَتِهِ لَيْلَةَ الْعِيدِ وَيَوْمَهُ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ فَاضِلاً عَنْ مَسْكَنٍ وَخَادِمٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الأَْصَحِّ (2) .
وَاتَّفَقَ جَمِيعُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ مِلْكِ النِّصَابِ عَلَى أَنَّ الْمِقْدَارَ الَّذِي عِنْدَهُ إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ (3) .
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ مِلْكِ النِّصَابِ بِأَنَّ مَنْ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَهُوَ غَنِيٌّ، فَمَا زَادَ عَلَى قُوتِ يَوْمِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ مِنْهُ زَكَاةَ الْفِطْرِ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ سَهْل بْنُ الْحَنْظَلِيَّةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ سَأَل وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنَ النَّارِ، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَال: أَنْ يَكُونَ لَهُ شِبَعُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ (4) .
__________
(1) بلغة السالك 1 / 201 وما بعدها.
(2) متن المنهاج مع مغني المحتاج 1 / 403، 628، والمغني 3 / 76 وما بعدها، وكشاف القناع 2 / 247 وما بعدها.
(3) المراجع السابقة.
(4) حديث: " من سأل وعنده ما يغنيه. . . " أخرجه أبو داود (2 / 280 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث سهل بن الحنظلية وإسناده حسن.(23/337)
دَل الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَهُوَ غَنِيٌّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ مِمَّا زَادَ عَلَى قُوتِ يَوْمِهِ.
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى اشْتِرَاطِ مِلْكِ النِّصَابِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَدَقَةَ إِلاَّ عَنْ ظَهْرِ غِنًى (1) . وَالظَّهْرُ هَا هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْقُوَّةِ، فَكَأَنَّ الْمَال لِلْغَنِيِّ بِمَنْزِلَةِ الظَّهْرِ، عَلَيْهِ اعْتِمَادُهُ، وَإِلَيْهِ اسْتِنَادُهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّ التَّصَدُّقَ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ إِذَا كَانَتْ لَهُ قُوَّةٌ مِنْ غِنًى، وَلاَ يُعْتَبَرُ غَنِيًّا إِلاَّ إِذَا مَلَكَ نِصَابًا (2) .
مَنْ تُؤَدَّى عَنْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ يَجِبُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا عَنْ نَفْسِهِ مَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا، وَعَنْ كُل مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَيَلِي عَلَيْهِ وِلاَيَةً كَامِلَةً. وَالْمُرَادُ بِالْوِلاَيَةِ أَنْ يَنْفُذَ قَوْلُهُ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى، فَابْنُهُ الصَّغِيرُ، وَابْنَتُهُ الصَّغِيرَةُ، وَابْنُهُ الْكَبِيرُ الْمَجْنُونُ، كُل أُولَئِكَ لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِمْ بِمَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالنَّفْعِ شَاءُوا أَوْ أَبَوْا.
وَيَنْبَنِي عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ يُخْرِجُهَا الشَّخْصُ عَنْ نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابْدَأْ
__________
(1) حديث: " لا صدقة إلا عن ظهر غنى ". أخرجه أحمد (2 / 230 - ط الميمنية) من حديث أبي هريرة، وإسناده صحيح.
(2) الزيلعي 1 / 307 وما بعدها.(23/338)
بِنَفْسِكَ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُول (1) . وَيُخْرِجُهَا عَنْ أَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ، أَمَّا الأَْغْنِيَاءُ مِنْهُمْ، بِأَنْ أُهْدِيَ إِلَيْهِمْ مَالٌ، أَوْ وَرِثُوا مَالاً، فَيُخْرِجُ الصَّدَقَةَ مِنْ مَالِهِمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، لأَِنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ لَيْسَتْ عِبَادَةً مَحْضَةً، بَل فِيهَا مَعْنَى النَّفَقَةِ، فَتَجِبُ فِي مَال الصَّبِيِّ، كَمَا وَجَبَتِ النَّفَقَةُ فِي مَالِهِ لأَِقَارِبِهِ الْفُقَرَاءِ، وَقَال مُحَمَّدٌ: تَجِبُ فِي مَال الأَْبِ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ.
أَمَّا أَوْلاَدُهُ الْكِبَارُ، فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَعَمَّنْ يَلُونَ عَلَيْهِمْ وِلاَيَةً كَامِلَةً، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ لاَ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ عَنْهُمْ؛ لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُمْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَلِي عَلَيْهِمْ وِلاَيَةً كَامِلَةً فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِمْ إِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ مَجْنُونًا، فَإِنْ كَانَ غَنِيًّا أَخْرَجَ الصَّدَقَةَ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا دَفَعَ عَنْهُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ؛ لأَِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَيَلِي عَلَيْهِ وِلاَيَةً
__________
(1) حديث: " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ". قال ابن حجر في التلخيص (2 / 184 - ط شركة الطباعة الفنية) : لم أره هكذا، بل في الصحيحين من حديث أبي هريرة: " أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول " وهو في البخاري (الفتح 9 / 500 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة، ومسلم (2 / 692 - ط الحلبي) من حديث حكيم بن حزام.(23/338)
كَامِلَةً، فَلَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمُ الْمَذْكُورَةِ: لاَ تَجِبُ عَنْ زَوْجَتِهِ لِقُصُورِ الْوِلاَيَةِ وَالنَّفَقَةِ، أَمَّا قُصُورُ الْوِلاَيَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يَلِي عَلَيْهَا إِلاَّ فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ فَلاَ تُخْرِجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، أَمَّا التَّصَرُّفُ فِي مَالِهَا بِدُونِ إِذْنِهَا فَلاَ يَلِي عَلَيْهِ. وَأَمَّا قُصُورُ النَّفَقَةِ فَلأَِنَّهُ لاَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا إِلاَّ فِي الرَّوَاتِبِ كَالْمَأْكَل وَالْمَسْكَنِ وَالْمَلْبَسِ. وَكَمَا لاَ يُخْرِجُهَا عَنْ زَوْجَتِهِ لاَ يُخْرِجُهَا عَنْ وَالِدَيْهِ وَأَقَارِبِهِ الْفُقَرَاءِ إِنْ كَانُوا كِبَارًا؛ لأَِنَّهُ لاَ يَلِي عَلَيْهِمْ وِلاَيَةً كَامِلَةً (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ يُخْرِجُهَا الشَّخْصُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ كُل مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ. وَهُمُ الْوَالِدَانِ الْفَقِيرَانِ، وَالأَْوْلاَدُ الذُّكُورُ الْفُقَرَاءُ، وَالإِْنَاثُ الْفَقِيرَاتُ، مَا لَمْ يَدْخُل الزَّوْجُ بِهِنَّ. وَالزَّوْجَةُ وَالزَّوْجَاتُ وَإِنْ كُنَّ ذَوَاتَ مَالٍ، وَزَوْجَةُ وَالِدِهِ الْفَقِيرِ (3) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ مِمَّنْ تَمُونُونَ (4) . أَيْ: تُنْفِقُونَ عَلَيْهِمْ.
__________
(1) مراقي الفلاح ص (395) والدر المختار، ورد المحتار 2 / 75.
(2) تحفة الفقهاء ج11 / 682 - 683 في صدقة الفطر، الطبعة الأولى جامعة دمشق سنة 1377 هـ - 1958، ابن عابدين 2 / 77 وما بعدها وفتح القدير 2 / 30.
(3) بلغة السالك 1 / 201 وما بعدها، بداية المجتهد 1 / 165 - 166.
(4) حديث: " أمر رسول الله بصدقة الفطر عن الصغير والكبير. . . " أخرجه الدارقطني (2 / 141 - ط دار المحاسن) ، وصوب وقفه على ابن عمر.(23/339)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ يُخْرِجُهَا الشَّخْصُ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ كُل مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِقَرَابَةٍ، أَوْ زَوْجِيَّةٍ، أَوْ مِلْكٍ، وَهُمْ:
أَوَّلاً: زَوْجَتُهُ غَيْرُ النَّاشِزَةِ وَلَوْ مُطَلَّقَةً رَجْعِيَّةً، سَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلاً أَمْ لاَ، أَمْ بَائِنًا حَامِلاً، لِوُجُوبِ نَفَقَتِهِنَّ عَلَيْهِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (1) وَمِثْلُهَا الْخَادِمُ إِذَا كَانَتْ نَفَقَتُهُ غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِأَنْ كَانَ يُعْطَى أَجْرًا كُل يَوْمٍ، أَوْ كُل شَهْرٍ، لاَ يُخْرِجُ عَنْهُ الصَّدَقَةَ؛ لأَِنَّهُ أَجِيرٌ وَالأَْجِيرُ لاَ يُنْفَقُ عَلَيْهِ.
ثَانِيًا: أَصْلُهُ وَفَرْعُهُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَإِنْ عَلَوْا، كَجَدِّهِ وَجَدَّتِهِ.
ثَالِثًا: فَرْعُهُ وَإِنْ نَزَل ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ وَفَرْعُهُ فُقَرَاءَ.
وَقَالُوا: إِنْ كَانَ وَلَدُهُ الْكَبِيرُ عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ أَخْرَجَ الصَّدَقَةَ عَنْهُ، وَقَالُوا: لاَ يَلْزَمُ الاِبْنَ فِطْرَةُ زَوْجَةِ أَبِيهِ الْفَقِيرِ؛ لأَِنَّهُ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ إِخْرَاجُ الصَّدَقَةِ
__________
(1) سورة الطلاق / 6.
(2) مغني المحتاج 1 / 403.(23/339)
عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ كُل مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يُخْرِجُهُ لِجَمِيعِهِمْ بَدَأَ بِنَفْسِهِ، فَزَوْجَتِهِ، فَأُمِّهِ، فَأَبِيهِ، ثُمَّ الأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ الإِْرْثِ، فَالأَْبُ وَإِنْ عَلاَ مُقَدَّمٌ عَلَى الأَْخِ الشَّقِيقِ، وَالأَْخُ الشَّقِيقُ مُقَدَّمٌ عَلَى الأَْخِ لأَِبٍ. أَمَّا ابْنُهُ الصَّغِيرُ الْغَنِيُّ فَيُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ (1) .
سَبَبُ الْوُجُوبِ وَوَقْتُهُ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ طُلُوعُ فَجْرِ يَوْمِ الْعِيدِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ مُصَحَّحَيْنِ لِلْمَالِكِيَّةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ أَنْ تُؤَدَّى قَبْل خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ (2) . دَل الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ أَدَاءَهَا الَّذِي نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّارِعُ هُوَ قَبْل الْخُرُوجِ إِلَى مُصَلَّى الْعِيدِ، فَعُلِمَ أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِهَا هُوَ يَوْمُ الْفِطْرِ، وَلأَِنَّ تَسْمِيَتَهَا صَدَقَةَ الْفِطْرِ، تَدُل عَلَى أَنَّ وُجُوبَهَا بِطُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ الْفِطْرِ؛ لأَِنَّ الْفِطْرَ إِنَّمَا يَكُونُ بِطُلُوعِ فَجْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَمَّا قَبْلَهُ فَلَيْسَ بِفِطْرٍ؛ لأَِنَّهُ فِي كُل لَيْلَةٍ مِنْ
__________
(1) المغني 1 / 646 وما بعدها، وكشاف القناع 1 / 471.
(2) حديث: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 375 - ط السلفية) ومسلم (2 / 679 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.(23/340)
لَيَالِيِ رَمَضَانَ يَصُومُ وَيُفْطِرُ، فَيُعْتَبَرُ مُفْطِرًا مِنْ صَوْمِهِ بِطُلُوعِ ذَلِكَ الْيَوْمِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ الْوُجُوبَ هُوَ بِغُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْمَالِكِيَّةِ (2) ، لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَرَضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْل الصَّلاَةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاَةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ (3) .
دَل الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تَجِبُ بِغُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَضَافَ الصَّدَقَةَ إِلَى الْفِطْرِ، وَالإِْضَافَةُ تَقْتَضِي الاِخْتِصَاصَ، أَيِ الصَّدَقَةَ الْمُخْتَصَّةَ بِالْفِطْرِ، وَأَوَّل فِطْرٍ يَقَعُ عَنْ جَمِيعِ رَمَضَانَ هُوَ بِغُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ.
وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلاَفِ فِيمَنْ مَاتَ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ: فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ تُخْرَجُ عَنْهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ؛ لأَِنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ وُجُوبِهَا، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ
__________
(1) الزيلعي 1 / 307 وما بعدها، تحفة الفقهاء ج1 في صدقة الفطر، بلغة السالك 1 / 201 وما بعدها، بداية المجتهد 1 / 144 ما بعدها.
(2) شرح المنهاج 1 / 528 وما بعدها، كشاف القناع 1 / 471 وما بعدها.
(3) حديث: " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر طهرة للصائم. . . " تقدم ف / 2.(23/340)
لاَ تُخْرَجُ عَنْهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ لأَِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا، وَمَنْ وُلِدَ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ تُخْرَجُ عَنْهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ؛ لأَِنَّهُ وَقْتَ وُجُوبِهَا كَانَ مَوْجُودًا، وَلاَ تُخْرَجُ عَنْهُ الصَّدَقَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ؛ لأَِنَّهُ كَانَ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَقْتَ وُجُوبِهَا.
وَمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، لاَ تُخْرَجُ عَنْهُ الصَّدَقَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ؛ لأَِنَّهُ وَقْتَ وُجُوبِهَا لَمْ يَكُنْ أَهْلاً، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ تُخْرَجُ عَنْهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ؛ لأَِنَّهُ وَقْتَ وُجُوبِهَا كَانَ أَهْلاً (1) .
وَقْتُ وُجُوبِ الأَْدَاءِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ أَدَاءِ زَكَاةِ الْفِطْرِ مُوَسَّعٌ، لأَِنَّ الأَْمْرَ بِأَدَائِهَا غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِوَقْتٍ، كَالزَّكَاةِ، فَهِيَ تَجِبُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِتَعَيُّنِهِ، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى كَانَ مُؤَدِّيًا لاَ قَاضِيًا، غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ إِخْرَاجُهَا قَبْل الذَّهَابِ إِلَى الْمُصَلَّى (2) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اغْنُوهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ (3) .
__________
(1) راجع المحلى 6 / 142 - 143، والمراجع المذكورة لجميع الفقهاء في هذا الموضوع.
(2) راجع المراجع المذكورة للحنفية في صدقة الفطر.
(3) حديث: " اغنوهم في هذا اليوم ". أخرجه الدارقطني (2 / 153 - ط. دار المحاسن) من حديث ابن عمر، وضعفه ابن حجر في بلوغ المرام (شرحه سبل السلام 2 / 282 - ط دار الكتب العلمية) .(23/341)
وَذَهَبَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الأَْدَاءِ مُضَيَّقٌ كَالأُْضْحِيَّةِ، فَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ يَوْمِ الْعِيدِ بِدُونِ عُذْرٍ كَانَ آثِمًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
وَاتَّفَقَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهَا لاَ تَسْقُطُ بِخُرُوجِ وَقْتِهَا؛ لأَِنَّهَا وَجَبَتْ فِي ذِمَّتِهِ لِمَنْ هِيَ لَهُ، وَهُمْ مُسْتَحِقُّوهَا، فَهِيَ دَيْنٌ لَهُمْ لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بِالأَْدَاءِ؛ لأَِنَّهَا حَقٌّ لِلْعَبْدِ، أَمَّا حَقُّ اللَّهِ فِي التَّأْخِيرِ عَنْ وَقْتِهَا فَلاَ يُجْبَرُ إِلاَّ بِالاِسْتِغْفَارِ وَالنَّدَامَةِ
.
إِخْرَاجُهَا قَبْل وَقْتِهَا:
10 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَنْ وَقْتِهَا يَوْمَيْنِ لِقَوْل ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: كَانُوا يُعْطُونَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَبْل الْعِيدِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ إِخْرَاجُهَا قَبْل صَلاَةِ الْعِيدِ وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا عَنِ الصَّلاَةِ، وَمُحَرَّمٌ تَأْخِيرُهَا عَنْ يَوْمِ الْعِيدِ بِلاَ عُذْرٍ؛ لِفَوَاتِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ إِغْنَاءُ الْفُقَرَاءِ عَنِ الطَّلَبِ فِي يَوْمِ السُّرُورِ، فَلَوْ أَخَّرَهَا بِلاَ عُذْرٍ عَصَى وَقَضَى،
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) بلغة السالك 1 / 201 وما بعدها، كشاف القناع 1 / 471 وما بعدها.(23/341)
لِخُرُوجِ الْوَقْتِ (1) .
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَنْ وَقْتِهَا سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ كَالزَّكَاةِ (2) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا فِي رَمَضَانَ فَقَطْ، وَهُوَ قَوْلٌ مُصَحَّحٌ لِلْحَنَفِيَّةِ.
مِقْدَارُ الْوَاجِبِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إِخْرَاجُهُ فِي الْفِطْرَةِ صَاعٌ مِنْ جَمِيعِ الأَْصْنَافِ الَّتِي يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْفِطْرَةِ مِنْهَا عَدَا الْقَمْحِ وَالزَّبِيبِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمِقْدَارِ فِيهِمَا: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إِخْرَاجُهُ فِي الْقَمْحِ هُوَ صَاعٌ مِنْهُ (3) .
وَسَيَأْتِي بَيَانُ الصَّاعِ وَمِقْدَارُهُ كَيْلاً وَوَزْنًا.
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، فَلاَ أَزَال أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 402.
(2) فتح القدير 2 / 40 وما بعدها.
(3) بداية المجتهد 1 / 64، كشاف القناع 1 / 471 وما بعدها.(23/342)
أُخْرِجُهُ مَا عِشْتُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْقَمْحِ نِصْفُ صَاعٍ، وَكَذَا دَقِيقُ الْقَمْحِ وَسَوِيقُهُ، أَمَّا الزَّبِيبُ فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ نِصْفُ صَاعٍ كَالْبُرِّ، لأَِنَّ الزَّبِيبَ تَزِيدُ قِيمَتُهُ عَلَى قِيمَةِ الْقَمْحِ، وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ - أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ صَاعٌ مِنْ زَبِيبٍ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كُنَّا نُخْرِجُ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ كُل صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ، صَاعًا مِنْ أَقِطٍ (2) ، أَوْ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، فَلَمْ نَزَل نُخْرِجُ، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ النَّاسَ أَنْ قَال: إِنِّي أَرَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ يَعْنِي الْقَمْحَ تَعْدِل صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ، أَمَّا أَنَا فَلاَ أَزَال أُخْرِجُهُ أَبَدًا
__________
(1) حديث أبي سعيد الخدري: " كنا نخرج زكاة الفطر إذا كان فينا رسول الله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 372 - ط السلفية) ومسلم (2 / 678 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) الأقط قال الأزهري: يتخذ من اللبن المخيض يطبخ ثم يترك حتى يمصل - أي يجف - وهو بفتح الهمزة وكسر القاف، ككتف، وقد تسكن القاف للتخفيف مع فتح الهمزة وكسرها، مثل: تخفيف كبد، انظر المصباح المنير ومختار الصحاح (مادة: أقط) وفي القاموس أكثر من ذلك.(23/342)
مَا عِشْتُ، كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ (1) . دَل الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ يُخْرَجُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعٌ مِنَ الزَّبِيبِ.
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ قَبْل الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، فَقَال: أَدُّوا صَاعًا مِنْ بُرٍّ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ، عَنْ كُل حُرٍّ، وَعَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ (2) .
نَوْعُ الْوَاجِبِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ الْقِيمَةُ مِنَ النُّقُودِ وَهُوَ الأَْفْضَل، أَوِ الْعُرُوضِ، لَكِنْ إِنْ أَخْرَجَ مِنَ الْبُرِّ أَوْ دَقِيقِهِ أَوْ سَوِيقِهِ أَجْزَأَهُ نِصْفُ صَاعٍ، وَإِنْ أَخْرَجَ مِنَ الشَّعِيرِ أَوِ التَّمْرِ أَوِ الزَّبِيبِ فَصَاعٌ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَال: كَانَ النَّاسُ يُخْرِجُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ سُلْتٍ (3) أَوْ زَبِيبٍ. قَال ابْنُ عُمَرَ: فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ، وَكَثُرَتِ الْحِنْطَةُ جَعَل عُمَرُ نِصْفَ صَاعِ حِنْطَةٍ، مَكَانَ صَاعٍ مِنْ تِلْكَ الأَْشْيَاءِ.
__________
(1) حديث أبي سعيد الخدري سبق تخريجه ف / 11.
(2) حديث: " أدوا صاعًا من بر بين اثنين. . . " تقدم تخريجه ف / 3.
(3) السلت هو الشعير النبوي، وهو نوع من الشعير ليس له قشر (مختار الصحاح) .(23/343)
ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: مَا سِوَى هَذِهِ الأَْشْيَاءِ الأَْرْبَعَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا مِنَ الْحُبُوبِ كَالْعَدَسِ وَالأُْرْزِ، أَوْ غَيْرِ الْحُبُوبِ كَاللَّبَنِ وَالْجُبْنِ وَاللَّحْمِ وَالْعُرُوضِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِقِيمَةِ الأَْشْيَاءِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، فَإِذَا أَرَادَ الْمُتَصَدِّقُ أَنْ يُخْرِجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ مِنَ الْعَدَسِ مَثَلاً، فَيُقَوِّمُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ نِصْفِ الصَّاعِ ثَمَانِيَةَ قُرُوشٍ مَثَلاً، أَخْرَجَ مِنَ الْعَدَسِ مَا قِيمَتُهُ ثَمَانِيَةُ قُرُوشٍ مَثَلاً، وَمِنَ الأُْرْزِ وَاللَّبَنِ وَالْجُبْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْشْيَاءِ الَّتِي لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا الشَّارِعُ، يُخْرِجُ مِنَ الْعَدَسِ مَا يُعَادِل قِيمَتَهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ كَالْعَدَسِ وَالأُْرْزِ، وَالْفُول وَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَالسُّلْتِ وَالتَّمْرِ وَالأَْقِطِ وَالدُّخْنِ (2) .
وَمَا عَدَا ذَلِكَ لاَ يُجْزِئُ، إِلاَّ إِذَا اقْتَاتَهُ النَّاسُ وَتَرَكُوا الأَْنْوَاعَ السَّابِقَةَ، وَلاَ يَجُوزُ الإِْخْرَاجُ مِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ أَفْضَل، بِأَنِ اقْتَاتَ النَّاسُ الذُّرَةَ فَأَخْرَجَ قَمْحًا. وَإِذَا أَخْرَجَ مِنَ اللَّحْمِ اعْتُبِرَ الشِّبَعُ، فَإِذَا كَانَ الصَّاعُ مِنَ الْبُرِّ يَكْفِي اثْنَيْنِ إِذَا خُبِزَ، أَخْرَجَ مِنَ اللَّحْمِ مَا يُشْبِعُ اثْنَيْنِ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنْ جِنْسِ
__________
(1) تحفة الفقهاء ج1 في صدقة الفطر.
(2) الدخن في حجم الذرة الرفيعة.
(3) بلغة السالك 1 / 201 وما بعدها.(23/343)
مَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ، وَلَوْ وُجِدَتْ أَقْوَاتٌ فَالْوَاجِبُ غَالِبُ قُوتِ بَلَدِهِ، وَقِيل: مِنْ غَالِبِ قُوتِهِ، وَقِيل: مُخَيَّرٌ بَيْنَ الأَْقْوَاتِ، وَيُجْزِئُ الأَْعْلَى مِنَ الأَْدْنَى لاَ الْعَكْسُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنَ الْبُرِّ أَوَ التَّمْرِ أَوِ الزَّبِيبِ أَوِ الشَّعِيرِ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ السَّابِقِ وَفِيهِ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. . . (2) الْحَدِيثَ وَيُخَيَّرُ بَيْنَ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُخْرَجُ قُوتًا.
وَيُجْزِئُ الدَّقِيقُ إِذَا كَانَ مُسَاوِيًا لِلْحَبِّ فِي الْوَزْنِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ أَخْرَجَ مِنْ كُل مَا يَصْلُحُ قُوتًا مِنْ ذُرَةٍ أَوْ أُرْزٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (3) .
13 - وَالصَّاعُ مِكْيَالٌ مُتَوَارَثٌ مِنْ عَهْدِ النُّبُوَّةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيرِهِ كَيْلاً، وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهِ بِالْوَزْنِ (4) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (مَقَادِيرُ) .
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 406، وأسنى المطالب 1 / 391، 392.
(2) حديث: " كنا نخرج زكاة الفطر. . . " الحديث تقدم تخريجه ف / 11.
(3) المغني 1 / 646 وما بعدها، كشاف القناع 1 / 471 وما بعدها.
(4) قدر الصاع بالموازين الحالية بما يتسع لما وزنه 2. 176 جرامًا من القمح، ويراعى فرق المواد الأخرى المختلفة عن القمح كثافة، والأصل في الصاع الكيل وإنما قدر بالوزن استظهارًا، انظر ابن عابدين 2 / 77، بلغة السالك 1 / 201، وما بعدها، ومغني المحتاج 1 / 405، والمغني 3 / 59، والمقادير الشرعية والأحكام الفقهية المتعلقة بها للكردي ص 227.(23/344)
مَصَارِفُ زَكَاةِ الْفِطْرِ:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ تُصْرَفُ إِلَيْهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ قِسْمَتِهَا عَلَى الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي تُصْرَفُ فِيهَا زَكَاةُ الْمَال، وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (زَكَاة) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى تَخْصِيصِ صَرْفِهَا بِالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ قِسْمَتِهَا عَلَى الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، أَوْ مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ (1) .
أَدَاءُ الْقِيمَةِ:
15 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ دَفْعُ الْقِيمَةِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِذَلِكَ، وَلأَِنَّ الْقِيمَةَ فِي حُقُوقِ النَّاسِ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ لِصَدَقَةِ الْفِطْرِ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ حَتَّى يَجُوزَ رِضَاهُ أَوْ إبْرَاؤُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ الْقِيمَةِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، بَل هُوَ أَوْلَى لِيَتَيَسَّرَ لِلْفَقِيرِ أَنْ يَشْتَرِيَ أَيَّ شَيْءٍ يُرِيدُهُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ لاَ يَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى الْحُبُوبِ بَل هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 79، والدسوقي 1 / 508، ومغني المحتاج 3 / 116، والفروع 2 / 540.(23/344)
مَلاَبِسَ، أَوْ لَحْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِعْطَاؤُهُ الْحُبُوبَ، يَضْطَرُّهُ إِلَى أَنْ يَطُوفَ بِالشَّوَارِعِ لِيَجِدَ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ الْحُبُوبَ، وَقَدْ يَبِيعُهَا بِثَمَنٍ بَخْسٍ أَقَل مِنْ قِيمَتِهَا الْحَقِيقِيَّةِ، هَذَا كُلُّهُ فِي حَالَةِ الْيُسْرِ، وَوُجُودِ الْحُبُوبِ بِكَثْرَةٍ فِي الأَْسْوَاقِ، أَمَّا فِي حَالَةِ الشِّدَّةِ وَقِلَّةِ الْحُبُوبِ فِي الأَْسْوَاقِ، فَدَفْعُ الْعَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْقِيمَةِ مُرَاعَاةً لِمَصْلَحَةِ الْفَقِيرِ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي الزَّكَاةِ.(23/345)
مَكَانُ دَفْعِ زَكَاةِ الْفِطْرِ:
16 - تُفَرَّقُ زَكَاةُ الْفِطْرِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَجَبَتْ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِيهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَالُهُ فِيهِ أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لأَِنَّ الَّذِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ هُوَ سَبَبُ وُجُوبِهَا، فَتُفَرَّقُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي سَبَبُهَا فِيهِ.
نَقْل زَكَاةِ الْفِطْرِ:
17 - اخْتُلِفَ فِي نَقْل الزَّكَاةِ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَتَفْصِيلُهُ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاة) .(23/345)
زَلْزَلَةٌ
انْظُرْ: صَلاَةَ الْكُسُوفِ، وَصَلاَةَ الْجَمَاعَةِ.
زَمَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الزَّمَنُ وَالزَّمَانُ يُطْلَقَانِ عَلَى قَلِيل الْوَقْتِ وَكَثِيرِهِ، وَالْجَمْعُ أَزْمَانٌ وَأَزْمِنَةٌ وَأَزْمُنٌ، وَالْعَرَبُ تَقُول: لَقِيتُهُ ذَاتَ الزُّمَيْنِ: يُرِيدُونَ بِذَلِكَ تَرَاخِيَ الْوَقْتِ، كَمَا يُقَال: لَقِيتُهُ ذَاتَ الْعُوَيْمِ، أَيْ بَيْنَ الأَْعْوَامِ، وَيَقُولُونَ أَيْضًا: عَامَلْتُهُ مُزَامَنَةً مِنَ الزَّمَنِ، كَمَا يُقَال: مُشَاهَرَةً مِنَ الشَّهْرِ وَيُسَمَّى الزَّمَانُ: الْعَصْرُ أَيْضًا.
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الزَّمَانَ بِمَعْنَى أَجَل الشَّيْءِ، وَمُدَّتِهِ، وَوَقْتِهِ، كَمَا يَسْتَعْمِلُونَهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
__________
(1) الصحاح والقاموس والمصباح مادة: (زمن) ، التعريفات للجرجاني / 152 ط. الكتاب العربي.(24/5)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْجَل:
2 - الأَْجَل فِي اللُّغَةِ مُدَّةُ الشَّيْءِ وَوَقْتُهُ الَّذِي يَحِل فِيهِ، وَهُوَ مَصْدَرُ أَجِل الشَّيْءَ أَجَلاً مِنْ بَابِ تَعِبَ، أَيْ تَأَخَّرَ فَهُوَ آجِلٌ، وَأَجَّلْتُهُ تَأْجِيلاً جَعَلْتُ لَهُ أَجَلاً، وَالآْجِل عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ خِلاَفُ الْعَاجِل. وَالأَْجَل فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ الَّتِي يُضَافُ إِلَيْهَا أَمْرٌ مِنَ الأُْمُورِ سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الإِْضَافَةُ أَجَلاً لِلْوَفَاءِ بِالْتِزَامٍ، أَوْ أَجَلاً لإِِنْهَاءِ الْتِزَامٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ مُقَرَّرَةً بِالشَّرْعِ، أَمْ بِالْقَضَاءِ، أَمْ بِإِرَادَةِ الْمُلْتَزِمِ، فَرْدًا أَمْ أَكْثَرَ (1) . (انْظُرْ: أَجَلٌ ج 2 ف 5) .
ب - الْحُقْبُ:
3 - الْحُقْبُ فِي اللُّغَةِ الْمُدَّةُ الطَّوِيلَةُ مِنَ الدَّهْرِ، هُوَ بِسُكُونِ الْقَافِ وَضَمِّهَا، وَالْجَمْعُ أَحْقَابٌ مِثْل قُفْلٍ وَأَقْفَالٍ، وَيُقَال الْحُقْبُ ثَمَانُونَ عَامًا، وَالْحِقْبَةُ بِمَعْنَى الْمُدَّةِ، وَالْجَمْعُ حُقُبٌ مِثْل سُورَةٍ وَسُوَرٍ (2) .
ج - الدَّهْرُ:
4 - الدَّهْرُ يُطْلَقُ عَلَى الأَْبَدِ، وَقِيل هُوَ الزَّمَانُ قَل أَوْ كَثُرَ، وَقَال الأَْزْهَرِيُّ: وَالدَّهْرُ عِنْدَ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى الزَّمَانِ وَعَلَى الْفَصْل مِنْ فُصُول السَّنَةِ،
__________
(1) المصباح والقاموس مادة: (أجل) .
(2) المصباح مادة: (حقب) .(24/5)
وَعَلَى أَقَل مِنْ ذَلِكَ، وَيَقَعُ عَلَى مُدَّةِ الدُّنْيَا كُلِّهَا (1) .
د - الْمُدَّةُ:
5 - الْمُدَّةُ فِي اللُّغَةِ: الْبُرْهَةُ مِنَ الزَّمَانِ تَقَعُ عَلَى الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، وَالْجَمْعُ مُدَدٌ مِثْل غُرْفَةٍ وَغُرَفٍ (2) .
هـ - الْوَقْتُ:
6 - الْوَقْتُ فِي اللُّغَةِ مِقْدَارٌ مِنَ الزَّمَانِ مَفْرُوضٌ لأَِمْرٍ مَا، وَكُل شَيْءٍ قَدَّرْتَ لَهُ حِينًا فَقَدْ وَقَّتَّهُ تَوْقِيتًا، وَكَذَلِكَ مَا قَدَّرْتَ لَهُ غَايَةً، وَالْجَمْعُ أَوْقَاتٌ (3) .
مُفْرَدَاتُ الزَّمَانِ وَأَقْسَامُهُ:
7 - الزَّمَنُ يَشْمَل السَّاعَةَ وَالْيَوْمَ وَالأُْسْبُوعَ وَالشَّهْرَ وَالسَّنَةَ وَغَيْرَهَا مِنْ أَقْسَامِ الزَّمَانِ؛ لأَِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى قَلِيل الْوَقْتِ وَكَثِيرِهِ. هَذَا وَقَدْ خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعْضَ الأَْزْمِنَةِ بِأَحْكَامٍ، وَمِثَال ذَلِكَ الزَّمَنُ الْوَاقِعُ بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَهُ وَقْتًا لأَِدَاءِ فَرِيضَةِ الصُّبْحِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ
__________
(1) المصباح مادة: (دهر) .
(2) المصباح مادة: (مدد) .
(3) المصباح مادة: (وقت) .(24/6)
لِلصَّلاَةِ أَوَّلاً وَآخِرًا، وَإِنَّ أَوَّل وَقْتِ الْفَجْرِ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ، وَإِنْ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ (1) وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الزَّمَنُ الْوَاقِعُ بَيْنَ زَوَال الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ وَبَيْنَ بُلُوغِ ظِل الشَّيْءِ مِثْلَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَهُ وَقْتًا لأَِدَاءِ فَرِيضَةِ الظُّهْرِ، لِحَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ صَلَّى بِهِ الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْل الشِّرَاكِ، وَصَلَّى بِهِ الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ. وَيُنْظَرُ فِي بَحْثِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ.
هَذَا وَمِنَ الأَْزْمِنَةِ الَّتِي خَصَّهَا اللَّهُ بِبَعْضِ الأَْحْكَامِ أَيْضًا شَهْرُ رَمَضَانَ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَهُ وَقْتًا لأَِدَاءِ فَرِيضَةِ الصِّيَامِ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِل فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (3) .
وَأَشْهُرُ الْحَجِّ، وَهِيَ الزَّمَنُ الْوَاقِعُ بَعْدَ رَمَضَانَ إِلَى نِهَايَةِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
__________
(1) حديث: " إن للصلاة أولا وآخرا، وإن أول وقت. . . " أخرجه أحمد (12 / 161 ط. دار المعارف) عن أبي هريرة، وصححه محققه أحمد شاكر.
(2) حديث: " إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم حيث صلى به الظهر. . . " أخرجه أحمد (5 / 34 ط. دار المعارف) . عن ابن عباس وصححه أحمد شاكر. وأصله في الصحيحين.
(3)) سورة البقرة / 185.(24/6)
جَعَلَهَا وَقْتًا لأَِدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (1) . وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا زَمَنُ أَدَاءِ زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَالَّذِي يَبْدَأُ مِنْ غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ وَيَمْتَدُّ إِلَى قُبَيْل صَلاَةِ الْعِيدِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا يَوْمُ عَرَفَةَ فَإِنَّ صَوْمَهُ مُسْتَحَبٌّ لِغَيْرِ الْحَاجِّ.
8 - وَهُنَاكَ أَزْمِنَةٌ تَخُصُّ بَعْضَ الْمُكَلَّفِينَ بِحَسَبِ حَالِهِمْ، مِثَال ذَلِكَ زَمَنُ الطُّهْرِ وَزَمَنُ الْحَيْضِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ، وَزَمَنُ الإِْحْرَامِ وَزَمَنُ الْحِل بِالنِّسْبَةِ لِلْحَاجِّ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ يَحْرُمُ عَلَيْهَا أُمُورٌ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهَا فِي زَمَنِ الطُّهْرِ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالطَّوَافِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَيْضٍ) .
وَكَذَا الْمُحْرِمُ فَإِنَّهُ فِي زَمَنِ الإِْحْرَامِ يَمْتَنِعُ عَنْ بَعْضِ مَا كَانَ مُبَاحًا لَهُ فِي زَمَنِ الْحِل، كَلُبْسِ الْمَخِيطِ أَوِ الْمُحِيطِ مِنَ الثِّيَابِ فِي حَقِّ الرِّجَال، وَالْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ لاَ تَنْتَقِبُ وَلاَ تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْحْكَامِ الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٍ) .
9 - وَيُعْتَبَرُ الزَّمَانُ فِي الْمُعَامَلاَتِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ بَاعَ شَجَرَةً أَوْ بِنَاءً فِي أَرْضٍ مُؤَجَّرَةٍ لِغَيْرِ الْمُشْتَرِي، أَوْ مُوصًى لَهُ بِمَنْفَعَتِهَا، أَوْ مَوْقُوفَةٍ
__________
(1) سورة البقرة / 197.(24/7)
عَلَيْهِ اسْتَحَقَّ إِبْقَاءَهَا بَقِيَّةَ الْمُدَّةِ. (1) وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بَيْعٍ) .
وَمِنْ ذَلِكَ الإِْجَارَةُ، فَتَكُونُ الإِْجَارَةُ مُقَيَّدَةً بِمُدَّةٍ مُحَدَّدَةٍ أَوْ غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِهَا، بَل بِالْعَمَل. (2) وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِجَارَةٍ) .
وَكَذَلِكَ الْوَكَالَةُ فِيمَا لَوْ أَمَرَ الْمُوَكِّل الْوَكِيل أَنْ يَبِيعَ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنٍ، كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ فَلَيْسَ لِلْوَكِيل مُخَالَفَتُهُ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي التَّخْصِيصِ. (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وَكَالَةٍ)
وَيُعْتَبَرُ الزَّمَانُ أَيْضًا فِي الطَّلاَقِ، فَإِنَّ الطَّلاَقَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تُضَافُ إِلَى الزَّمَانِ مَاضِيًا كَانَ أَمْ مُسْتَقْبَلاً، وَيُخَصَّصُ بِهِ وَيُعَلَّقُ وُقُوعُهُ عَلَى مَجِيئِهِ. (4)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (طَلاَقٍ) .
وَكَذَلِكَ فِي الإِْيلاَءِ كَمَا إِذَا حَلَفَ أَنْ لاَ يَقْرَبَهَا لِمُدَّةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ (5) .
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِيلاَءٍ) .
وَكَذَلِكَ فِي اللِّعَانِ كَمَا إِذَا جَاءَتِ الْمَرْأَةُ بِوَلَدٍ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 134 - 135 ط. المكتبة الإسلامية.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 416، الاختيار 2 / 85.
(3) نهاية المحتاج 5 / 41، الدسوقي 3 / 383.
(4) بدائع الصنائع 3 / 132 - 134، فتح القدير 3 / 60 - 61، 124، جواهر الإكليل 1 / 350 - 351، حاشية الدسوقي 2 / 390، مغني المحتاج 3 / 313، كشاف النقاع 5 / 373 - 375.
(5) فتح القدير 3 / 192.(24/7)
لاَ يُحْتَمَل كَوْنُهُ مِنَ الزَّوْجِ، كَأَنْ وَلَدَتْهُ لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْعَقْدِ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (لِعَانٍ) .
وَكَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ بِلاَ إِنْفَاقٍ، إِلاَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ وَخَادِمَتِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَسْقُطُ بَل تَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ. (2) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نَفَقَةٍ) .
وَيُعْتَبَرُ الزَّمَانُ أَيْضًا فِي الْيَمِينِ، كَمَا إِذَا حَلَفَ أَنْ لاَ يَفْعَل الشَّيْءَ حِينًا أَوْ زَمَانًا أَوْ دَهْرًا (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (أَيْمَانٍ) .
وَفِي الشَّهَادَاتِ فَإِنَّ الزَّمَانَ يُؤَثِّرُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْقَتْل كَمَا إِذَا اخْتَلَفَ الشُّهُودُ فِي زَمَانِ الْقَتْل أَوْ مَكَانِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَثْبُتُ.
وَيُؤَثِّرُ أَيْضًا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا، كَمَا إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِمَكَانٍ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَشَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِهَا بِمَكَانٍ آخَرَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمْ جَمِيعًا، إِذْ لاَ يُتَصَوَّرُ مِنَ الشَّخْصِ الزِّنَى فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَكَانَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ. (4)
هَذَا وَقَدْ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (أَجَلٍ) وَهُوَ الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ الَّتِي يُضَافُ إِلَيْهَا أَمْرٌ مِنَ الأُْمُورِ أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ مَصْدَرِهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: شَرْعِيٍّ
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 356 - 357.
(2) حاشية الشرقاوي على التحرير 2 / 351.
(3) المدونة الكبرى 2 / 117.
(4)) فتح القدير 4 / 168.(24/8)
وَقَضَائِيٍّ، وَاتِّفَاقِيٍّ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَجَلٍ) .
حُكْمُ سَبِّ الزَّمَانِ:
10 - لَمْ يَرِدِ النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِعِدَّةِ طُرُقٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْهَا: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ. (1)
وَسَبَبُ النَّهْيِ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ هُوَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَ شَأْنُهَا أَنْ تَسُبَّ الدَّهْرَ عِنْدَ النَّوَازِل وَالْحَوَادِثِ وَالْمَصَائِبِ النَّازِلَةِ بِهَا مِنْ مَوْتٍ أَوْ هَرَمٍ أَوْ تَلَفِ مَالٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ وَنَحْوُ هَذَا مِنْ أَلْفَاظِ سَبِّ الدَّهْرِ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ أَيْ لاَ تَسُبُّوا فَاعِل النَّوَازِل، فَإِنَّكُمْ إِذَا سَبَبْتُمْ فَاعِلَهَا وَقَعَ السَّبُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّهُ هُوَ فَاعِلُهَا وَمُنْزِلُهَا، وَأَمَّا الدَّهْرُ الَّذِي هُوَ الزَّمَانُ فَلاَ فِعْل لَهُ بَل هُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ جُمْلَةِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ: أَيْ فَاعِل النَّوَازِل وَالْحَوَادِثِ وَخَالِقُ الْكَائِنَاتِ. (2)
__________
(1) حديث: " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ". أخرجه مسلم (4 / 1763 ط. عيسى الحلبي) عن أبي هريرة.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 15 / 2 - 3 ط المصرية، وفيض القدير 6 / 399 ط. الأولى.(24/8)
أَثَرُ الزَّمَانِ عَلَى الْعِبَادَاتِ وَالْحُقُوقِ:
الْعِبَادَاتُ:
11 - الْعِبَادَاتُ بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ الَّذِي تُؤَدَّى فِيهِ نَوْعَانِ: مُطْلَقَةٌ وَمُؤَقَّتَةٌ. فَالْمُطْلَقَةُ: هِيَ الَّتِي لَمْ يُقَيَّدْ أَدَاؤُهَا بِزَمَنٍ مُحَدَّدٍ لَهُ طَرَفَانِ، لأَِنَّ جَمِيعَ الْعُمْرِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْتِ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعِبَادَةُ وَاجِبَةً كَالْكَفَّارَاتِ أَمْ مَنْدُوبَةً كَالنَّفْل الْمُطْلَقِ.
وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ الْمُقَيَّدَةُ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ فَهِيَ مَا حَدَّدَ الشَّارِعُ زَمَانًا مُعَيَّنًا لأَِدَائِهَا، لاَ يَجِبُ الأَْدَاءُ قَبْلَهُ وَلاَ يَصِحُّ، وَيَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ وَاجِبًا، وَذَلِكَ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ.
وَزَمَنُ الأَْدَاءِ إِمَّا مُوَسَّعٌ: وَهُوَ مَا كَانَ الزَّمَانُ فِيهِ يَفْضُل عَنْ أَدَائِهِ، أَيْ أَنَّهُ يَتَّسِعُ لأَِدَاءِ الْفِعْل وَأَدَاءِ غَيْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ، وَذَلِكَ كَوَقْتِ الظُّهْرِ مَثَلاً فَإِنَّهُ يَسَعُ أَدَاءَ صَلاَةِ الظُّهْرِ وَأَدَاءَ صَلَوَاتٍ أُخْرَى، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى ظَرْفًا.
وَإِمَّا مُضَيَّقٌ: وَهُوَ مَا كَانَ الزَّمَانُ فِيهِ يَسَعُ الْفِعْل وَحْدَهُ وَلاَ يَسَعُ غَيْرَهُ مَعَهُ، وَذَلِكَ كَرَمَضَانَ فَإِنَّ زَمَانَهُ لاَ يَتَّسِعُ لأَِدَاءِ صَوْمٍ آخَرَ فِيهِ، وَيُسَمَّى مِعْيَارًا أَوْ مُسَاوِيًا، وَالْحَجُّ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُشْتَبَهُ زَمَانُ أَدَائِهَا بِالْمُوَسَّعِ وَالْمُضَيَّقِ لأَِنَّ الْمُكَلَّفَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُؤَدِّيَ حَجَّتَيْنِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ بِهَذَا يُشْبِهُ الْمُضَيَّقَ، وَلَكِنَّ أَعْمَال(24/9)
الْحَجِّ لاَ تَسْتَوْعِبُ زَمَانَهُ، فَهُوَ بِهَذَا يُشْبِهُ الْمُوَسَّعَ، هَذَا عَلَى اعْتِبَارِهِ مِنَ الْمُوَقَّتِ، وَقِيل: إِنَّهُ مِنَ الْمُطْلَقِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعُمْرَ زَمَانٌ لِلأَْدَاءِ كَالزَّكَاةِ. (1)
الْحُقُوقُ:
أ - الإِْقْرَارُ بِالْحُدُودِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مُضِيَّ الزَّمَانِ لاَ أَثَرَ لَهُ عَلَى الإِْقْرَارِ بِالْحُدُودِ، بِاسْتِثْنَاءِ الإِْقْرَارِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ (2) .
ب - الشَّهَادَةُ فِي الْحُدُودِ:
13 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَى وَالْقَذْفِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ تُقْبَل وَلَوْ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَانٍ طَوِيلٍ مِنَ الْوَاقِعَةِ، وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلاَ تُقْبَل الشَّهَادَةُ فِيهَا بِالتَّقَادُمِ، بِخِلاَفِ مَا هُوَ حَقٌّ لِلْعِبَادِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي تَقَادُمٍ (ف 13 / 120)
ج - سَمَاعُ الدَّعْوَى:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ لاَ يَسْقُطُ بِالتَّقَادُمِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي سَمَاعِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 51 ط. الجمالية، المغني 8 / 309 ط. الرياض(24/9)
الدَّعْوَى بَيْنَ مَا تَقَادَمَ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَتَقَادَمْ، وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَهُمَا، فَقَالُوا: إِنَّ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ مَنْعَ الْقُضَاةِ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى فِي أَحْوَالٍ بِشُرُوطٍ مَخْصُوصَةٍ لِتَلاَفِي التَّزْوِيرِ وَالتَّحَايُل. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي تَعْيِينِ الْمُدَّةِ الَّتِي لاَ تُسْمَعُ بَعْدَهَا الدَّعْوَى فِي الْوَقْفِ، وَمَال الْيَتِيمِ، وَالْغَائِبِ، وَالإِْرْثِ، فَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ سِتًّا وَثَلاَثِينَ سَنَةً، وَبَعْضُهُمْ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَبَعْضُهُمْ ثَلاَثِينَ فَقَطْ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَدُ طَوِيلَةً اسْتَحْسَنَ أَحَدُ السَّلاَطِينِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ جَعْلَهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَطْ. وَمِنْ ذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّ التَّقَادُمَ بِمُرُورِ الزَّمَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: حُكْمٌ اجْتِهَادِيٌّ نَصَّ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ.
وَالثَّانِي: أَمْرٌ سُلْطَانِيٌّ يَجِبُ عَلَى الْقُضَاةِ فِي زَمَنِهِ اتِّبَاعُهُ؛ لأَِنَّهُمْ بِمُقْتَضَاهُ مَعْزُولُونَ عَنْ سَمَاعِ دَعْوَى مَضَى عَلَيْهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً بِدُونِ عُذْرٍ، وَالْقَاضِي وَكِيلٌ عَنِ السُّلْطَانِ، وَالْوَكِيل يَسْتَمِدُّ التَّصَرُّفَ مِنْ مُوَكِّلِهِ، فَإِذَا خَصَّصَ لَهُ تَخَصَّصَ، وَإِذَا عَمَّمَ تَعَمَّمَ. (1) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَقَادُمٍ) .
وَأَمَّا التَّقَادُمُ فِي وَضْعِ الْيَدِ وَإِثْبَاتِ الْمِلْكِ بِذَلِكَ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حِيَازَةٍ) وَمُصْطَلَحِ: (تَقَادُمٍ ف 9)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 342، 343، ط. الأميرية، شرح المجلة للأتاسي 5 / 168 المادة 166 ط. دمشق.(24/10)
زَمَانَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الزَّمَانَةُ لُغَةً: الْبَلاَءُ وَالْعَاهَةُ، يُقَال: زَمِنَ زَمَنًا وَزَمِنَةً وَزَمَانَةً: مَرِضَ مَرَضًا يَدُومُ زَمَانًا طَوِيلاً، وَضَعُفَ بِكِبَرِ سِنٍّ أَوْ مُطَاوَلَةِ عِلَّةٍ. فَهُوَ زَمِنٌ وَزَمِينٌ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. قَال زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ: الزَّمِنُ هُوَ الْمُبْتَلَى بِآفَةٍ تَمْنَعُهُ مِنَ الْعَمَل (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقِعَادُ:
2 - الْقِعَادُ: دَاءٌ يَأْخُذُ الإِْبِل فِي أَوْرَاكِهَا فَيُمِيلُهَا إِلَى الأَْرْضِ.
وَالْمُقْعَدُ: مَنْ أَصَابَهُ دَاءٌ فِي جَسَدِهِ فَلاَ يَسْتَطِيعُ الْحَرَكَةَ لِلْمَشْيِ. (2)
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط مادة: (زمن) ، والإقناع 1 / 164، وحاشية الجمل 4 / 416.
(2) النهاية لابن الأثير، ومتن اللغة، والمصباح المنير مادة (قعد) .(24/10)
فَالزَّمَانَةُ أَعَمُّ مِنَ الْقِعَادِ؛ لأَِنَّهَا تَحْصُل بِهِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الأَْمْرَاضِ.
وَقِيل: الْمُقْعَدُ هُوَ الْمُتَشَنِّجُ الأَْعْضَاءِ، وَالزَّمِنُ: الَّذِي طَال مَرَضُهُ (1) .
ب - الْعَضْبُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الْعَضْبِ: الشَّلَل وَالْخَبَل وَالْعَرَجُ.
وَالْمَعْضُوبُ: الضَّعِيفُ لاَ يَسْتَمْسِكُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَهُوَ مَعْضُوبُ اللِّسَانِ أَيْ: مَقْطُوعٌ عَيِيٌّ فَدْمٌ، وَالزَّمِنُ الَّذِي لاَ حَرَاكَ بِهِ.
فَالْمَعْضُوبُ أَعَمُّ مِنَ الزَّمِنِ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالزَّمَانَةِ:
حُضُورُ الزَّمِنِ الْجُمُعَةَ:
4 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الشَّيْخَ الزَّمِنَ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ إِنْ وَجَدَ مَرْكَبًا مِلْكًا أَوْ إِجَارَةً أَوْ إِعَارَةً، وَلَمْ يَشُقَّ الرُّكُوبُ عَلَيْهِ كَمَشَقَّةِ الْمَشْيِ فِي الْوَحْل لاِنْتِفَاءِ الضَّرَرِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلاَ يَجِبُ قَبُول الْمَوْهُوبِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمِنَّةِ. (3)
__________
(1) محيط المحيط مادة: (قعد) .
(2) متن اللغة والنهاية مادة: (عضب) وانظر البناية 3 / 432، والإفصاح ص 176، ونهاية المحتاج 3 / 245، وكشاف القناع 2 / 390.
(3) الإقناع 1 / 164، والمجموع 4 / 486، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 2 / 182.(24/11)
وَنَحْوُهُ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، فَالْمَرِيضُ عِنْدَهُمْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ إِنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِإِتْيَانِ الْمَسْجِدِ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولاً، أَوْ بِتَبَرُّعِ أَحَدٍ بِأَنْ يُرْكِبَهُ أَوْ يَحْمِلَهُ. (1)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ الصِّحَّةَ، فَلاَ تَجِبُ عَلَى الزَّمِنِ وَإِنْ وَجَدَ حَامِلاً. (2)
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: صَلاَةُ الْجُمُعَةِ، وَعُذْرٌ) .
حَجُّ الزَّمِنِ:
5 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - إِلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنِ السَّعْيِ إِلَى الْحَجِّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَالٍ يَحُجُّ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، لأَِنَّهُ مُسْتَطِيعٌ بِغَيْرِهِ، إِذِ الاِسْتِطَاعَةُ كَمَا تَكُونُ بِالنَّفْسِ تَكُونُ بِبَذْل الْمَال وَطَاعَةِ الرِّجَال، وَإِذَا صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - وَالصَّاحِبَانِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا: إِنَّ الزَّمِنَ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَإِنْ مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ حَتَّى لاَ يَجِبَ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 495، والفروع 2 / 41.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 144، والفتاوى الخانية بهامش الهندية 1 / 175.
(3) نهاية المحتاج 3 / 245، 246، وكشاف القناع 2 / 390، والإفصاح ص 176، والبناية 3 / 432، والعناية بهامش فتح القدير 2 / 125 ط الأميرية، وابن عابدين 2 / 142.(24/11)
الإِْحْجَاجُ بِمَالِهِ، لأَِنَّ الأَْصْل لَمَّا لَمْ يَجِبْ، لَمْ يَجِبِ الْبَدَل (1) .
قَال الْكَاسَانِيُّ فِي تَعْلِيل عَدَمِ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الزَّمِنِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الاِسْتِطَاعَةَ لِوُجُوبِ الْحَجِّ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا اسْتِطَاعَةُ التَّكْلِيفِ، وَهِيَ سَلاَمَةُ الأَْسْبَابِ وَالآْلاَتِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الأَْسْبَابِ سَلاَمَةُ الْبَدَنِ عَنِ الآْفَاتِ الْمَانِعَةِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا لاَ بُدَّ مِنْهُ فِي سَفَرِ الْحَجِّ؛ لأَِنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَلاَ بُدَّ مِنْ سَلاَمَةِ الْبَدَنِ، وَلاَ سَلاَمَةَ مَعَ الْمَانِعِ. (2)
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّمِنَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ؛ لأَِنَّهُ يَقْدِرُ بِغَيْرِهِ إِنْ كَانَ لاَ يَقْدِرُ بِنَفْسِهِ، وَالْقُدْرَةُ بِالْغَيْرِ كَافِيَةٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ كَالْقُدْرَةِ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَكَذَا فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاِسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ (3) ، وَقَدْ وُجِدَ. (4)
إِعْتَاقُ الزَّمِنِ فِي الْكَفَّارَةِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ فِي
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير 2 / 125، والقرطبي 4 / 150، والإفصاح ص 176.
(2) البدائع 2 / 121.
(3) تفسير النبي صلى الله عليه وسلم " الاستطاعة بالزاد والراحلة ". أخرجه الدارقطني (2 / 216 - ط. دار المحاسن) من حديث أنس بن مالك ورجح البيهقي (4 / 330 - ط. دائرة المعارف العثمانية) إرساله. وقال ابن المنذر: لا يثبت الحديث الذي فيه الزاد والراحلة. كذا في فتح الباري (3 / 379 - ط. السلفية) .
(4) بدائع الصنائع 2 / 121، وفتح القدير 2 / 125 - 126.(24/12)
الْكَفَّارَةِ إِلاَّ رَقَبَةٌ سَالِمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُضِرَّةِ بِالْعَمَل ضَرَرًا بَيِّنًا، فَلاَ يُجْزِئُ الزَّمِنُ لِعَجْزِهِ عَنِ الْعَمَل. (1)
وَلِلتَّفْصِيل (ر: كَفَّارَةٌ) .
قَتْل الزَّمِنِ فِي الْجِهَادِ:
7 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَدَمَ جَوَازِ قَتْل الزَّمِنِ إِلاَّ إِذَا قَاتَل حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى بِالرَّأْيِ وَالطَّاعَةِ وَالتَّحْرِيضِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْظْهَرِ إِلَى جَوَازِ قَتْل زَمِنٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُقَاتِل، وَلاَ رَأْيَ لَهُ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (3)
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: جِهَادٌ) .
أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الزَّمِنِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ إِلَى أَنَّ الزَّمِنَ لاَ جِزْيَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا؛ لأَِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الْقِتَال لَمْ يَكُنْ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 511، وحاشية الجمل 4 / 416، وكشاف القناع 5 / 380، والمغني 7 / 360، والزرقاني 4 / 176، والشرح الصغير 2 / 646.
(2) بدائع الصنائع 7 / 101، وابن عابدين 3 / 224، 225، وكشاف القناع 3 / 50، والشرح الصغير 2 / 275 - 276، وحاشية الجمل 5 / 194.
(3) سورة التوبة / 5.(24/12)
عَلَيْهِ جِزْيَةٌ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. (1)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَأَبُو يُوسُفَ وُجُوبَ الْجِزْيَةِ عَلَى الزَّمِنِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا أُجْرَةُ السَّكَنِ وَأَنَّهُ رَجُلٌ بَالِغٌ مُوسِرٌ، فَلاَ يُقِيمُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ، وَيَدُل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُعَاذٍ بِالْيَمَنِ خُذْ مِنْ كُل حَالِمٍ دِينَارًا (2) . كَمَا يَتَنَاوَلُهُ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِعُمُومِهِ، فَإِنَّهُ أَمَرَ أَنْ تُضْرَبَ الْجِزْيَةُ عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوَاسِي، وَأَنَّ الْجِزْيَةَ إِنْ كَانَتْ أُجْرَةً عَنْ سَكَنِ الدَّارِ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ فَكَذَلِكَ، فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لاَ يُقِرُّ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ. (3) وَلِلتَّفْصِيل: (ر: جِزْيَةٌ) .
زُمُرُّدٌ
انْظُرْ: حُلِيٌّ، زَكَاةٌ
__________
(1) أحكام أهل الذمة 1 / 49 وانظر ص 42 - 43، وفتح القدير 4 / 372 ط. الأميرية، وبدائع الصنائع 7 / 111، ومغني المحتاج 4 / 246 نشر دار الفكر، وكشاف القناع 3 / 120.
(2) حديث: " خذ من كل حالم دينارا ". أخرجه أبو داود (3 / 428 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 398 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث معاذ وصححه، ووافقه الذهبي.
(3) نهاية المحتاج 8 / 85، وحاشية الجمل 5 / 213، ومغني المحتاج 4 / 246، وفتح القدير 4 / 373، وحاشية الدسوقي 2 / 201، وحاشية الزرقاني 3 / 141، وأحكام أهل الذمة 1 / 49.(24/13)
زَمْزَمُ
التَّعْرِيفُ:
1 - زَمْزَمُ - بِزَايَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ - اسْمٌ لِلْبِئْرِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ ثَمَانٍ وَثَلاَثُونَ ذِرَاعًا. (1)
وَسُمِّيَتْ زَمْزَمُ لِكَثْرَةِ مَائِهَا، يُقَال: مَاءُ زَمْزَمَ وَزُمْزُومٍ إِذَا كَانَ كَثِيرًا، وَقِيل: لاِجْتِمَاعِهَا؛ لأَِنَّهُ لَمَّا فَاضَ مِنْهَا الْمَاءُ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ قَالَتْ هَاجَرَ لِلْمَاءِ: زَمَّ زَمَّ، أَيْ: اجْتَمِعْ يَا مُبَارَكُ، فَاجْتَمَعَ فَسُمِّيَتْ زَمْزَمُ، وَقِيل: لأَِنَّهَا زَمَّتْ بِالتُّرَابِ لِئَلاَّ يَأْخُذَ الْمَاءَ يَمِينًا وَشِمَالاً، فَقَدْ ضَمَّتْ هَاجَرُ مَاءَهَا حِينَ انْفَجَرَتْ وَخَرَجَ مِنْهَا الْمَاءُ وَسَاحَ يَمِينًا وَشِمَالاً فَمُنِعَ بِجَمْعِ التُّرَابِ حَوْلَهُ، وَرُوِيَ: لَوْلاَ أُمُّكُمْ هَاجَرُ حَوَّطَتْ عَلَيْهَا لَمَلأََتْ أَوْدِيَةَ مَكَّةَ (2) . وَقِيل: إِنَّ اسْمَهَا غَيْرُ مُشْتَقٍّ. (3)
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات 3 / 138.
(2) حديث: " لولا أمكم هاجر حوطت. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 43 - ط السلفية) من حديث ابن عباس بلفظ: " يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم "، أو قال: " لو لم تغرف من الماء لكانت عينا معينا ".
(3) تهذيب الأسماء واللغات 3 / 138، فتح الباري 3 / 493، السيرة النبوية لابن هشام 1 / 111، حاشية الجمل 2 / 482، ولسان العرب 2 / 48.(24/13)
وَلِزَمْزَمَ أَسْمَاءٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: طَيِّبَةٌ، وَبَرَّةٌ، وَمَضْنُونَةٌ، وَسُقِيَا اللَّهِ إِسْمَاعِيل، وَبَرَكَةٌ، وَحَفِيرَةُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَوُصِفَتْ فِي الْحَدِيثِ " بِأَنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ. (1)
2 - وَزَمْزَمُ هِيَ بِئْرُ إِسْمَاعِيل بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الَّتِي سَقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا حِينَ ظَمِئَ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَالْتَمَسَتْ لَهُ أُمُّهُ مَاءً فَلَمْ تَجِدْهُ، فَقَامَتْ إِلَى الصَّفَا تَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى وَتَسْتَغِيثُهُ لإِِسْمَاعِيل، ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فَفَعَلَتْ مِثْل ذَلِكَ، وَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهَمَزَ لَهُ بِعَقِبِهِ فِي الأَْرْضِ فَظَهَرَ الْمَاءُ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِزَمْزَمَ:
أ - الشُّرْبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ (3) ، وَلِمَا رَوَى مُسْلِمٌ: إِنَّهَا
__________
(1) حديث: " إنها مباركة، وإنها طعام طعم ". أخرجه مسلم (4 / 1922 - ط الحلبي) من حديث أبي ذر، وزيادة " وشفاء سقم " في مسند الطيالسي (ص61 - ط دائرة المعارف العثمانية) .
(2) تهذيب الأسماء واللغات 3 / 138، ولسان العرب 2 / 48، وحاشية الجمل 2 / 482، وفتح القدير 2 / 189، والسيرة النبوية 1 / 111، وفتح الباري 6 / 309.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 492 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.(24/14)
مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ زَادَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: وَشِفَاءُ سُقْمٍ (1) .
وَيُسَنُّ لِلشَّارِبِ أَنْ يَتَضَلَّعَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، أَيْ يُكْثِرَ مِنْ شُرْبِهِ حَتَّى يَمْتَلِئَ، وَيَرْتَوِيَ مِنْهُ حَتَّى يَشْبَعَ رِيًّا، لِخَبَرِ ابْنِ مَاجَهْ: آيَةُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ لاَ يَتَضَلَّعُونَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ (2) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ شُرْبُ مَاءِ زَمْزَمَ فِي سَائِرِ الأَْحْوَال، لاَ عَقِبَ الطَّوَافِ خَاصَّةً، وَأَنَّهُ يُسَنُّ شُرْبُ مَاءِ زَمْزَمَ لِكُل أَحَدٍ وَلَوْ لِغَيْرِ الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ. (3)
ب - آدَابُ الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ:
4 - لِلشُّرْبِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ آدَابٌ، عَدَّهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ السُّنَنِ أَوِ الْمَنْدُوبَاتِ أَوِ الْمُسْتَحَبَّاتِ، مِنْهَا: مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَال: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَالِسًا فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَال: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ قَال:
__________
(1) حديث: " إنها مباركة، إنها طعام طعم ". سبق تخريجه ف / 1.
(2) حديث: " آية ما بيننا وبين المنافقين. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 1017 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس، وفي إسناده اضطراب.
(3) فتح القدير 2 / 189، جواهر الإكليل 1 / 179، قليوبي وعميرة على شرح المحلي 2 / 125، المغني 3 / 445، فتح الباري 3 / 493.(24/14)
مِنْ زَمْزَمَ: قَال: فَشَرِبْتَ مِنْهَا كَمَا يَنْبَغِي؟ قَال: فَكَيْفَ؟ قَال: إِذَا شَرِبْتَ مِنْهَا فَاسْتَقْبِل الْكَعْبَةَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَنَفَّسْ ثَلاَثًا مِنْ زَمْزَمَ، وَتَضَلَّعْ مِنْهَا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَاحْمَدِ اللَّهَ تَعَالَى.
وَمِنْهَا: أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْبَيْتِ فِي كُل مَرَّةٍ يَتَنَفَّسُ مِنْ زَمْزَمَ، وَيَنْضَحُ مِنَ الْمَاءِ عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَصَدْرِهِ، وَيُكْثِرُ مِنَ الدُّعَاءِ عِنْدَ شُرْبِهِ، وَيَشْرَبُهُ لِمَطْلُوبِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَيَقُول عِنْدَ شُرْبِهِ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ (1) وَأَنَا أَشْرَبُهُ لِكَذَا - وَيَذْكُرُ مَا يُرِيدُ دِينًا وَدُنْيَا - اللَّهُمَّ فَافْعَل ذَلِكَ بِفَضْلِكَ، وَيَدْعُو بِالدُّعَاءِ الَّذِي كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَدْعُو بِهِ إِذَا شَرِبَ مَاءَ زَمْزَمَ وَهُوَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، وَشِفَاءً مِنْ كُل دَاءٍ (2) .
وَنَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ شُرْبَ مَاءِ زَمْزَمَ لِنَيْل الْمَطْلُوبِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ شَامِلٌ لِمَا لَوْ شَرِبَهُ بِغَيْرِ مَحَلِّهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ خَاصًّا بِالشَّارِبِ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ كَذَلِكَ، بَل يُحْتَمَل تَعَدِّي ذَلِكَ إِلَى الْغَيْرِ، فَإِذَا شَرِبَهُ إِنْسَانٌ بِقَصْدِ وَلَدِهِ أَوْ أَخِيهِ
__________
(1) حديث: " ماء زمزم لما شرب له ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1018 - ط الحلبي) وفي إسناده ضعف كما قال البوصيري، ولكن له طرق أخرى كما في المقاصد الحسنة للسخاوي (ص 357 - ط السعادة) يكون بها صحيحا.
(2) الاختيار 1 / 155، مواهب الجليل 3 / 110 - 116، ونهاية المحتاج 3 / 309، والمغني 3 / 445.(24/15)
مَثَلاً حَصَل لَهُ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ إِذَا شَرِبَ بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ. (1)
وَنَصَّ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ الْجُلُوسُ عِنْدَ شُرْبِ مَاءِ زَمْزَمَ كَغَيْرِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ مَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: سَقَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَمْزَمَ وَهُوَ قَائِمٌ (2) مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَمُعَارِضٌ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَاصِمٍ قَال: ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعِكْرِمَةَ فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا فَعَل - أَيْ مَا شَرِبَ قَائِمًا - لأَِنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ رَاكِبًا (3) .
ج - نَقْل مَاءِ زَمْزَمَ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّزَوُّدُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَنَقْلُهُ؛ لأَِنَّهُ يُسْتَخْلَفُ، فَهُوَ كَالثَّمَرَةِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ يَزُول فَلاَ يَعُودُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّزَوُّدُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَحَمْلُهُ إِلَى الْبِلاَدِ فَإِنَّهُ شِفَاءٌ لِمَنِ اسْتَشْفَى، (4) وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِل مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَتُخْبِرُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 309، والجمل 2 / 482.
(2) حديث ابن عباس: " سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 492 - ط السلفية) .
(3) فتح الباري 3 / 493، والجمل 2 / 482.
(4) رد المحتار 2 / 256، مواهب الجليل 3 / 115، القليوبي 2 / 143، كشاف القناع 2 / 472، شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1 / 258 - 259.(24/15)
يَحْمِلُهُ، وَرَوَى غَيْرُ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْمِلُهُ وَكَانَ يَصُبُّهُ عَلَى الْمَرْضَى وَيَسْقِيهِمْ (1) ، وَأَنَّهُ حَنَّكَ بِهِ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا (2) ، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَهْدَى سُهَيْل بْنَ عَمْرٍو مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ (3) ، وَفِي تَارِيخِ الأَْزْرَقِيِّ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْجَل سُهَيْلاً فِي إِرْسَال ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ بَعَثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَاوِيَتَيْنِ " (4) .
د - اسْتِعْمَال مَاءِ زَمْزَمَ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّطْهِيرَ بِمَاءِ زَمْزَمَ
__________
(1) حديث عائشة: " أنها كانت تحمل من ماء زمزم ". أخرجه الترمذي (3 / 286 - ط الحلبي) . ورواية: " كان يحمله وكان يصبه على المرضى ويسقيهم ". أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (3 / 189 - ط دائرة المعارف العثمانية) من ترجمة خلاد بن يزيد الجعفي، وقال عن خلاد هذا: " لا يتابع عليه ".
(2) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم حنك بماء زمزم الحسن. . . " ذكره صاحب رد المحتار (2 / 256 - ط الميمنية) ولم نهتد إليه في المراجع الموجودة لدينا.
(3) حديث ابن عباس: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استهدى سهيل بن عمرو. . . " أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 286 - ط القدسي) وقال: " رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه عبد الله بن المؤمل المخزومي، وثقه ابن سعد وابن حبان وقال: يخطئ، وضعفه جماعة
(4) حديث: " استعجال النبي صلى الله عليه وسلم سهيلا في إرسال ماء زمزم " أخرجه الأزرقي في أخبار مكة (1 / 290 - ط ليدن) من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين مرسلا. والرواية: المزادة فيها الماء، والدابة التي يستقى عليها الماء. (المعجم الوسيط) .(24/16)
صَحِيحٌ، وَنَقَل الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي، وَالنَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِي اسْتِعْمَال مَاءِ زَمْزَمَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ وَفِي إِزَالَةِ الْخَبَثِ تَفْصِيلٌ (1) يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (آبَارٍ) الْمَوْسُوعَةُ الْفِقْهِيَّةُ (1 / 91) .
هـ - فَضْل مَاءِ زَمْزَمَ:
7 - فِي فَضْل مَاءِ زَمْزَمَ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ مَاءُ زَمْزَمَ، فِيهِ طَعَامٌ مِنَ الطُّعْمِ وَشِفَاءٌ مِنَ السَّقَمِ (2) أَيْ أَنَّ شُرْبَ مَائِهَا يُغْنِي عَنِ الطَّعَامِ وَيَشْفِي مِنَ السَّقَامِ، لَكِنْ مَعَ الصِّدْقِ، كَمَا وَقَعَ لأَِبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ أَقَامَ شَهْرًا بِمَكَّةَ لاَ قُوتَ لَهُ إِلاَّ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 120 - 121، والفواكه الدواني على كفاية الطالب 1 / 128، ومواهب الجليل 2 / 208، 3 / 115 - 116، وجواهر الإكليل 1 / 106، وحاشية الدسوقي 1 / 407، وحاشية الجمل 2 / 145، ونهاية المحتاج 1 / 129، وأسنى المطالب 1 / 300، وحاشية البيجوري على شرح ابن قاسم 1 / 28، وبجيرمي على الخطيب 1 / 65 - 66، وكشاف القناع 1 / 28، وشفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1 / 258، وفتح القدير 2 / 189.
(2) حديث: " خير ماء على وجه الأرض ". أخرجه الطبراني (11 / 98 - ط وزارة الأوقاف العراقية) وأورده الهيثمي في المجمع (3 / 286 - ط القدسي) وقال: " رواه الطبراني ورجاله ثقات ".(24/16)
مَاءَ زَمْزَمَ، وَرَوَى الأَْزْرَقِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: تَنَافَسَ النَّاسُ فِي زَمْزَمَ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أَنْ كَانَ أَهْل الْعِيَال يَفِدُونَ بِعِيَالِهِمْ فَيَشْرَبُونَ فَيَكُونُ صَبُوحًا لَهُمْ، وَقَدْ كُنَّا نَعُدُّهَا عَوْنًا عَلَى الْعِيَال، قَال الْعَبَّاسُ: وَكَانَتْ زَمْزَمُ تُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ شُبَاعَةَ (1) .
قَال الأَْبِيُّ: هُوَ لِمَا شُرِبَ لَهُ، جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لإِِسْمَاعِيل وَأُمِّهِ هَاجَرَ طَعَامًا وَشَرَابًا، وَحَكَى الدَّيْنَوَرِيُّ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ قَال: كُنَّا عِنْدَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فَحَدَّثَنَا بِحَدِيثِ مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمَجْلِسِ ثُمَّ عَادَ فَقَال: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَلَيْسَ الْحَدِيثُ الَّذِي حَدَّثْتَنَا فِي مَاءِ زَمْزَمَ صَحِيحًا؟ قَال: نَعَمْ، قَال الرَّجُل: فَإِنِّي شَرِبْتُ الآْنَ دَلْوًا مِنْ زَمْزَمَ عَلَى أَنَّكَ تُحَدِّثُنِي بِمِائَةِ حَدِيثٍ، فَقَال لَهُ سُفْيَانُ: اقْعُدْ، فَقَعَدَ فَحَدَّثَهُ بِمِائَةِ حَدِيثٍ. وَدَخَل ابْنُ الْمُبَارَكِ زَمْزَمَ فَقَال: اللَّهُمَّ إِنَّ ابْنَ الْمُؤَمَّل حَدَّثَنِي عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَشْرَبُهُ لِعَطَشِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ (2) .
وَمَاءُ زَمْزَمَ شَرَابُ الأَْبْرَارِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: صَلُّوا فِي مُصَلَّى
__________
(1) حاشية الجمل 2 / 482، تهذيب الأسماء واللغات 3 / 139.
(2) فتح القدير 2 / 189، 190، وجواهر الإكليل 1 / 179.(24/17)
الأَْخْيَارِ وَاشْرَبُوا مِنْ شَرَابِ الأَْبْرَارِ، قِيل: مَا مُصَلَّى الأَْخْيَارِ؟ قَال: تَحْتَ الْمِيزَابِ، قِيل: وَمَا شَرَابُ الأَْبْرَارِ؟ قَال: مَاءُ زَمْزَمَ وَأَكْرِمْ بِهِ مِنْ شَرَابٍ (1) .
وَقَال الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ: إِنَّ حِكْمَةَ غَسْل صَدْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءِ زَمْزَمَ لِيَقْوَى بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُؤْيَةِ مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ خَوَاصِّ مَاءِ زَمْزَمَ أَنَّهُ يُقَوِّي الْقَلْبَ وَيُسْكِنُ الرَّوْعَ. (2) رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: كَانَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: فُرِجَ سَقْفِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَل جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَبَرِحَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا (3) .
زَمَّارَةٌ
انْظُرْ: مَلاَهِي.
__________
(1) حاشية البجيرمي على الخطيب 1 / 66.
(2) شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1 / 247.
(3) حديث: " فرج سقفي وأنا بمكة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 492 - ط السلفية) .(24/17)
زِنَى
التَّعْرِيفُ:
1 - الزِّنَى: الْفُجُورُ (1) .
وَهَذِهِ لُغَةُ أَهْل الْحِجَازِ، وَبَنُو تَمِيمٍ يَقُولُونَ: زَنَى زِنَاءً: وَيُقَال: زَانَى مُزَانَاةً، وَزِنَاءً بِمَعْنَاهُ.
وَشَرْعًا: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِتَعْرِيفَيْنِ: أَعَمُّ، وَأَخَصُّ. فَالأَْعَمُّ: يَشْمَل مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَمَا لاَ يُوجِبُهُ، وَهُوَ وَطْءُ الرَّجُل الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُل فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ.
قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّهُ تَعْرِيفٌ لِلزِّنَى فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ.
فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَخُصَّ اسْمَ الزِّنَى بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ مِنْهُ بَل هُوَ أَعَمُّ. وَالْمُوجِبُ لِلْحَدِّ مِنْهُ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ. وَلِذَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط والمصباح المنير مادة: (زنا) .(24/18)
الْعَيْنِ النَّظَرُ. . . (1) الْحَدِيثُ. وَلَوْ وَطِئَ رَجُلٌ جَارِيَةَ ابْنِهِ لاَ يُحَدُّ لِلزِّنَا، وَلاَ يُحَدُّ قَاذِفُهُ بِالزِّنَا، فَدَل عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ زِنًا وَإِنْ كَانَ لاَ يُحَدُّ بِهِ.
وَالْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ الأَْخَصُّ لِلزِّنَى: هُوَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَهُوَ " وَطْءُ مُكَلَّفٍ طَائِعٍ مُشْتَهَاةً حَالاً أَوْ مَاضِيًا فِي قُبُلٍ خَالٍ مِنْ مِلْكِهِ وَشُبْهَتِهِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، أَوْ تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ تَمْكِينُهَا ". وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهُ وَطْءُ مُكَلَّفٍ مُسْلِمٍ فَرْجَ آدَمِيٍّ لاَ مِلْكَ لَهُ فِيهِ بِلاَ شُبْهَةٍ تَعَمُّدًا.
وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِيلاَجُ حَشَفَةٍ أَوْ قَدْرِهَا فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ لِعَيْنِهِ مُشْتَهًى طَبْعًا بِلاَ شُبْهَةٍ.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ فِعْل الْفَاحِشَةِ فِي قُبُلٍ أَوْ فِي دُبُرٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْوَطْءُ، وَالْجِمَاعُ:
2 - أَصْل الْوَطْءِ فِي اللُّغَةِ: الدَّوْسُ بِالْقَدَمِ،
__________
(1) حديث: " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 26 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2046 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) شرح فتح القدير 5 / 31، دار إحياء التراث العربي، حاشية ابن عابدين 3 / 141 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 4 / 313 دار الفكر، مغني المحتاج 4 / 143 دار إحياء التراث العربي، حاشية الجمل على المنهج 5 / 128 دار إحياء التراث العربي، مطالب أولي النهى 6 / 172 منشورات المكتب الإسلامي بدمشق 1961 م، المبدع في شرح المقنع 9 / 60 المكتب الإسلامي 1979 م، كشاف القناع 6 / 89 عالم الكتب 1983 م.(24/18)
وَمِنْ مَعَانِيهِ النِّكَاحُ، يُقَال: وَطِئَ الْمَرْأَةَ يَطَؤُهَا أَيْ نَكَحَهَا وَجَامَعَهَا (1) . وَمَعْنَاهُ اصْطِلاَحًا: الْجِمَاعُ. (2)
فَكُلٌّ مِنَ الْوَطْءِ وَالْجِمَاعِ أَعَمُّ مِنَ الزِّنَى، إِذْ قَدْ يَكُونُ مَعَ امْرَأَتِهِ فَيَكُونُ نِكَاحًا حَلاَلاً، وَمَعَ أَجْنَبِيَّةٍ فَيَكُونُ زِنًى حَرَامًا.
ب - اللِّوَاطُ:
3 - اللِّوَاطُ لُغَةً: إِتْيَانُ الذُّكُورِ فِي الدُّبُرِ، وَهُوَ عَمَل قَوْمِ نَبِيِّ اللَّهِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. يُقَال: لاَطَ الرَّجُل لِوَاطًا وَلاَوَطَ، أَيْ عَمِل عَمَل قَوْمِ لُوطٍ. (3)
وَاصْطِلاَحًا: إِدْخَال الْحَشَفَةِ فِي دُبُرِ ذَكَرٍ (4) . وَحُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
ج - السِّحَاقُ:
4 - السِّحَاقُ وَالْمُسَاحَقَةُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: فِعْل
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط والمصباح المنير مادة: (وطأ) .
(2) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص 526 دار المعرفة بيروت، والمغرب ص 488 دار الكتاب العربي.
(3) لسان العرب والقاموس المحيط مادة: (لوط) ، والمطلع 371 المكتب الإسلامي 1965 م، والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني 409 دار المعرفة بيروت.
(4) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 313.(24/19)
النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بِبَعْضٍ، وَكَذَلِكَ فِعْل الْمَجْبُوبِ بِالْمَرْأَةِ يُسَمَّى سِحَاقًا. (1)
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الزِّنَى وَالسِّحَاقِ، أَنَّ السِّحَاقَ لاَ إِيلاَجَ فِيهِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الزِّنَى حَرَامٌ. وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ وَالْقَتْل. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِل عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّل اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) . وَقَال تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} . (3)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: قَال الْعُلَمَاءُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى} أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يَقُول: وَلاَ تَزْنُوا. فَإِنَّ مَعْنَاهُ لاَ تَدْنُوا مِنَ الزِّنَى.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَال: سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ؟ قَال: أَنْ تَجْعَل لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط مادة: (سحق) ، والمغرب 219 دار الكتاب العربي، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 316.
(2) سورة الفرقان / 68 - 70.
(3) سورة الإسراء / 32.(24/19)
قَال: أَنْ تَقْتُل وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَال: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ. (1)
وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْل الْمِلَل عَلَى تَحْرِيمِهِ. فَلَمْ يَحِل فِي مِلَّةٍ قَطُّ. وَلِذَا كَانَ حَدُّهُ أَشَدَّ الْحُدُودِ؛ لأَِنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الأَْعْرَاضِ وَالأَْنْسَابِ. وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ، وَهِيَ حِفْظُ النَّفْسِ وَالدِّينِ وَالنَّسَبِ وَالْعَقْل وَالْمَال (2) .
تَفَاوُتُ إِثْمِ الزِّنَى:
6 - يَتَفَاوَتُ إِثْمُ الزِّنَى وَيَعْظُمُ جُرْمُهُ بِحَسَبِ مَوَارِدِهِ. فَالزِّنَى بِذَاتِ الْمَحْرَمِ أَوْ بِذَاتِ الزَّوْجِ أَعْظَمُ مِنَ الزِّنَى بِأَجْنَبِيَّةٍ أَوْ مَنْ لاَ زَوْجَ لَهَا، إِذْ فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الزَّوْجِ، وَإِفْسَادُ فِرَاشِهِ، وَتَعْلِيقُ نَسَبٍ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ أَذَاهُ. فَهُوَ أَعْظَمُ إِثْمًا وَجُرْمًا مِنَ الزِّنَى بِغَيْرِ ذَاتِ الْبَعْل وَالأَْجْنَبِيَّةِ. فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا جَارًا انْضَمَّ لَهُ سُوءُ الْجِوَارِ. وَإِيذَاءُ الْجَارِ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ الأَْذَى، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَوَائِقِ، فَلَوْ كَانَ الْجَارُ أَخًا أَوْ قَرِيبًا مِنْ أَقَارِبِهِ انْضَمَّ لَهُ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ فَيَتَضَاعَفُ الإِْثْمُ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
__________
(1) حديث: " أي الذنب أعظم؟ " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 492 - ط السلفية) ومسلم (1 / 90 - ط الحلبي) .
(2) حاشية الجمل على المنهج 5 / 128 دار إحياء التراث العربي، المغني لابن قدامة 8 / 156 الرياض، مطالب أولي النهى 6 / 172 المكتب الإسلامي 1961 م، تفسير القرطبي 10 / 253 مطبعة دار الكتب 1962 م القاهرة.(24/20)
قَال: لاَ يَدْخُل الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ (1) . وَلاَ بَائِقَةَ أَعْظَمُ مِنَ الزِّنَى بِامْرَأَةِ الْجَارِ. فَإِنْ كَانَ الْجَارُ غَائِبًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَالْعِبَادَةِ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ، وَالْجِهَادِ، تَضَاعَفَ الإِْثْمُ حَتَّى إِنَّ الزَّانِيَ بِامْرَأَةِ الْغَازِي فِي سَبِيل اللَّهِ يُوقَفُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ.
قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلاً مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِهِ فَيَخُونُهُ فِيهِمْ، إِلاَّ وَقَفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ فَمَا ظَنُّكُمْ؟ (2) أَيْ مَا ظَنُّكُمْ أَنْ يَتْرُكَ لَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ؟ قَدْ حَكَمَ فِي أَنَّهُ يَأْخُذُ مَا شَاءَ عَلَى شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى حَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ رَحِمًا لَهُ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ قَطِيعَةُ رَحِمِهَا، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ يَكُونَ الزَّانِي مُحْصَنًا كَانَ الإِْثْمُ أَعْظَمَ، فَإِنْ كَانَ شَيْخًا كَانَ أَعْظَمَ إِثْمًا وَعُقُوبَةً، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، أَوْ بَلَدٍ حَرَامٍ، أَوْ وَقْتٍ مُعَظَّمٍ عِنْدَ اللَّهِ كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَأَوْقَاتِ الإِْجَابَةِ تَضَاعَفَ الإِْثْمُ. (3)
__________
(1) حديث: " لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ". أخرجه مسلم (1 / 68 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " حرمة نساء المجاهدين على القاعدين " أخرجه مسلم (3 / 1508 - ط الحلبي) من حديث بريدة.
(3) مطالب أولي النهى 6 / 173، 174 المكتب الإسلامي بدمشق 1961 م.(24/20)
أَرْكَانُ الزِّنَى:
7 - صَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ رُكْنَ الزِّنَى الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ هُوَ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ. فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَرُكْنُهُ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ وَمُوَارَاةُ الْحَشَفَةِ؛ لأَِنَّ بِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الإِْيلاَجُ وَالْوَطْءُ. وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى، حَيْثُ إِنَّهُمْ يُعَلِّقُونَ حَدَّ الزِّنَى عَلَى تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا عِنْدَ عَدَمِهَا، حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ تَغْيِيبٌ انْتَفَى الْحَدُّ. (1) وَالْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ هُوَ الَّذِي يَحْدُثُ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْوَاطِئِ - مِلْكِ يَمِينِهِ وَمِلْكِ نِكَاحِهِ - فَكُل وَطْءٍ حَدَثَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَهُوَ زِنًى يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ. أَمَّا إِذَا حَدَثَ الْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْوَاطِئِ فَلاَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ زِنًى وَلَوْ كَانَ الْوَطْءُ مُحَرَّمًا، حَيْثُ إِنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا لَيْسَ لِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِعَارِضٍ. كَوَطْءِ الرَّجُل زَوْجَتَهُ الْحَائِضَ أَوِ النُّفَسَاءَ. (2)
وَيُشْتَرَطُ تَعَمُّدُ الْوَطْءِ، وَهُوَ أَنْ يَرْتَكِبَ الزَّانِي الْفِعْل وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَطَأُ امْرَأَةً مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ تُمَكِّنَ الزَّانِيَةُ مِنْ نَفْسِهَا وَهِيَ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ يَطَؤُهَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا. وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ حَدَّ عَلَى الْغَالِطِ
__________
(1)) الفتاوى الهندية 2 / 143 المطبعة الأميرية 1310 هـ، التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 6 / 290 دار الفكر - 1978 م، شرح روض الطالب 4 / 125 المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 6 / 95 عالم الكتب 1983 م.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 141 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 4 / 313 دار الفكر، مغني المحتاج 4 / 144 دار إحياء التراث العربي.(24/21)
وَالْجَاهِل وَالنَّاسِي (1) .
حَدُّ الزِّنَى:
8 - كَانَ الْحَبْسُ وَالإِْمْسَاكُ فِي الْبُيُوتِ أَوَّل عُقُوبَاتِ الزِّنَى فِي الإِْسْلاَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَل اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} . (2)
ثُمَّ إِنَّ الإِْجْمَاعَ قَدِ انْعَقَدَ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ مَنْسُوخٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الأَْذَى هَل هُوَ مَنْسُوخٌ أَمْ لاَ؟ فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، فَعَنْ مُجَاهِدٍ قَال: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا} (3) كَانَ فِي أَوَّل الأَْمْرِ فَنَسَخَتْهُمَا الآْيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ. وَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ فَالأَْذَى وَالتَّعْبِيرُ بَاقٍ مَعَ الْجَلْدِ؛ لأَِنَّهُمَا لاَ يَتَعَارَضَانِ بَل يُحْمَلاَنِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ. وَالْوَاجِبُ أَنْ يُؤَدَّبَا بِالتَّوْبِيخِ فَيُقَال لَهُمَا: فَجَرْتُمَا وَفَسَقْتُمَا، وَخَالَفْتُمَا أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل. (4)
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 313 دار الفكر، روضة الطالبين 10 / 93، 95 المكتب الإسلامي، كشاف القناع 6 / 96، 97 عالم الكتب 1983 م.
(2) سورة النساء / 15.
(3) سورة النساء / 16.
(4) تفسير القرطبي 5 / 82 وما بعدها مطبعة وزارة التربية، القاهرة 1958 م، أحكام القرآن لابن العربي 1 / 354 وما بعدها عيسى البابي الحلبي 1957 م، المغني لابن قدامة 8 / 156 الرياض.(24/21)
وَالنَّاسِخُ هُوَ قَوْله تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (1) . وَبِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَل اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً. الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ (2) .
9 - وَمِنْ ثَمَّ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الزَّانِي الْمُحْصَنِ الرَّجْمُ حَتَّى الْمَوْتِ رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَال الْبُهُوتِيُّ: وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ فِي أَخْبَارٍ تُشْبِهُ التَّوَاتُرَ. وَقَدْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَال: " إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَل عَلَيْهِ الْكِتَابَ. فَكَانَ مِمَّا أَنْزَل اللَّهُ آيَةَ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَال
__________
(1) سورة النور / 2.
(2) حديث: " خذوا عني، خذوا عني. . . " أخرجه مسلم (3 / 1316 - ط الحلبي) .(24/22)
بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُول قَائِلٌ: وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَل أَوِ الاِعْتِرَافُ. وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنْ يَقُول النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (1) . وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ. لِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ جَلَدَ شُرَاحَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَال: أَجْلِدُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأَرْجُمُهَا بِسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) . وَرِوَايَةُ الرَّجْمِ فَقَطْ هِيَ الْمَذْهَبُ.
10 - كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً مِائَةُ جَلْدَةٍ إِنْ كَانَ حُرًّا. وَأَمَّا الْعَبْدُ أَوِ الأَْمَةُ فَحَدُّهُمَا خَمْسُونَ جَلْدَةً سَوَاءٌ كَانَا بِكْرَيْنِ أَوْ ثَيِّبَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (3) .
__________
(1) حديث عمر: " إن الله بعث محمدا " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 144 - ط السلفية) والرواية الأخرى لمالك في الموطأ (4 / 145 - بشرح الزرقاني - نشر دار الفكر) .
(2) أثر: " علي بن أبي طالب حين جلد شراحة ". أخرجه أحمد (1 / 107 - ط الميمنية) ، وإسناده صحيح.
(3) سورة النساء / 25.(24/22)
وَزَادَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) التَّغْرِيبَ عَامًا لِلْبِكْرِ الْحُرِّ الذَّكَرِ.
وَعَدَّى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ التَّغْرِيبَ لِلْمَرْأَةِ أَيْضًا. كَمَا زَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمُ التَّغْرِيبَ نِصْفَ عَامٍ لِلْعَبْدِ. (1)
وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَلَى تَعْرِيفِ الإِْحْصَانِ وَشُرُوطِهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْصَانٍ 2 / 200) .
كَمَا سَبَقَ الْكَلاَمُ عَلَى التَّغْرِيبِ وَأَحْكَامِهِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَغْرِيبٍ 13 / 46) .
شُرُوطُ حَدِّ الزِّنَى: أَوَّلاً: الشُّرُوطُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا:
1 - إِدْخَال الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا مِنْ مَقْطُوعِهَا:
11 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَدِّ الزِّنَى إِدْخَال الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا مِنْ مَقْطُوعِهَا فِي الْفَرَجِ. فَلَوْ لَمْ يُدْخِلْهَا أَصْلاً أَوْ أَدْخَل بَعْضَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لأَِنَّهُ لَيْسَ وَطْئًا. وَلاَ يُشْتَرَطُ الإِْنْزَال وَلاَ الاِنْتِشَارُ عِنْدَ الإِْدْخَال. فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ سَوَاءٌ أَنْزَل أَمْ لاَ. انْتَشَرَ ذَكَرُهُ أَمْ لاَ. (2)
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 149، حاشية ابن عابدين 3 / 145 - 146 وما بعدها دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 4 / 320 - 321 وما بعدها دار الفكر، مغني المحتاج 4 / 146، 149 دار إحياء التراث العربي، القليوبي وعميرة 4 / 180 عيسى البابي الحلبي، وكشاف القناع 6 / 89 وما بعدها عالم الكتب 1983 م، المغني لابن قدامة 8 / 157 الرياض.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 141 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 4 / 313 دار الفكر، نهاية المحتاج 7 / 422 مصطفى البابي الحلبي 1967 م، ومغني المحتاج 4 / 143 دار إحياء التراث العربي 1933 م، كشاف القناع 6 / 95 عالم الكتب 1983 م، مطالب أولي النهى 6 / 182 المكتب الإسلامي 1961 م.(24/23)
2 - أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْل مُكَلَّفًا {الشُّرُوطُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا فِي حَدِّ الزِّنَا} :
(11 م) - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْل مُكَلَّفًا أَيْ عَاقِلاً بَالِغًا. فَالْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ لاَ حَدَّ عَلَيْهِمَا إِذَا زَنَيَا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِل أَوْ يُفِيقَ (1) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى النَّائِمِ وَالنَّائِمَةِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ. كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى حَدِّ السَّكْرَانِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ إِذَا زَنَى (2) .
12 - وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ مَسْأَلَةٌ مَا لَوْ وَطِئَ الْعَاقِل الْبَالِغُ - الْمُكَلَّفُ - مَجْنُونَةً أَوْ صَغِيرَةً يُوطَأُ مِثْلُهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّ الْوَاطِئَ مِنْ أَهْل وُجُوبِ الْحَدِّ؛ وَلأَِنَّ وُجُودَ
__________
(1) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . " أخرجه النسائي (6 / 62 - ط المكتبة التجارية) والحاكم (2 / 59 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة، واللفظ للنسائي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 144 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 4 / 313 دار الفكر، مغني المحتاج 4 / 146 دار إحياء التراث العربي، نهاية المحتاج 7 / 426 مصطفى البابي الحلبي 1967 م، كشاف القناع 6 / 96 عالم الكتب 1983 م، المغني لابن قدامة 8 / 194، 195 الرياض، تيسير التحرير 2 / 289 مصطفى البابي الحلبي 1350 هـ.(24/23)
الْعُذْرِ مِنْ جَانِبِهَا لاَ يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ مِنْ جَانِبِهِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لاَ يُوطَأُ مِثْلُهَا لاَ حَدَّ عَلَى وَاطِئَهَا. (1)
3 - أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْل عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّحْرِيمِ شَرْطٌ فِي حَدِّ الزِّنَى. فَإِنْ كَانَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْل غَيْرَ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالإِْسْلاَمِ أَوْ بُعْدِهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا لَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ. وَلِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَجُلاً زَنَى بِالْيَمَنِ، فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ " إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الزِّنَى فَاجْلِدُوهُ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَعْلَمُ فَعَلِّمُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُ عَذَرَ رَجُلاً زَنَى بِالشَّامِ وَادَّعَى الْجَهْل بِتَحْرِيمِ الزِّنَى. وَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا عَذَرَا جَارِيَةً زَنَتْ وَهِيَ أَعْجَمِيَّةً وَادَّعَتْ أَنَّهَا لاَ تَعْلَمُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 34 دار الكتاب العربي 1982 م، حاشية ابن عابدين 3 / 156، 157 دار إحياء التراث العربي، شرح فتح القدير 5 / 50 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 4 / 314، 315، دار الفكر، شرح روض الطالب 4 / 128 المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 6 / 98 عالم الكتب 1983 م، مطالب أولي النهى 6 / 186 ط المكتب الإسلامي 1961 م.(24/24)
التَّحْرِيمَ. وَلأَِنَّ الْحُكْمَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بَعْدَ الْعِلْمِ.
وَقَدْ أَوْضَحَ ابْنُ عَابِدِينَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّهُ لاَ تُقْبَل دَعْوَى الْجَهْل بِالتَّحْرِيمِ إِلاَّ مِمَّنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ أَمَارَةُ ذَلِكَ، بِأَنْ نَشَأَ وَحْدَهُ فِي شَاهِقٍ، أَوْ بَيْنَ قَوْمٍ جُهَّالٍ مِثْلِهِ لاَ يَعْلَمُونَ تَحْرِيمَهُ، أَوْ يَعْتَقِدُونَ إِبَاحَتَهُ، إِذْ لاَ يُنْكَرُ وُجُودُ ذَلِكَ. فَمَنْ زَنَى وَهُوَ كَذَلِكَ فِي فَوْرِ دُخُولِهِ دَارَنَا لاَ شَكَّ فِي أَنَّهُ لاَ يُحَدُّ، إِذِ التَّكْلِيفُ بِالأَْحْكَامِ فَرْعُ الْعِلْمِ بِهَا، وَعَلَى هَذَا يُحْمَل قَوْل مَنِ اشْتَرَطَ الْعِلْمَ بِالتَّحْرِيمِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ نَقْل الإِْجْمَاعِ بِخِلاَفِ مَنْ نَشَأَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي دَارِ أَهْل الْحَرْبِ الْمُعْتَقِدِينَ حُرْمَتَهُ، ثُمَّ دَخَل دَارَنَا فَإِنَّهُ إِذَا زَنَى يُحَدُّ وَلاَ يُقْبَل اعْتِذَارُهُ بِالْجَهْل.
وَلاَ يَسْقُطُ الْحَدُّ بِجَهْل الْعُقُوبَةِ إِذَا عُلِمَ التَّحْرِيمُ، (1) لِحَدِيثِ مَاعِزٍ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَال فِي أَثْنَاءِ رَجْمِهِ رُدُّونِي إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ قَوْمِي قَتَلُونِي غَرُّونِي مِنْ نَفْسِي وَأَخْبَرُونِي أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ قَاتِلِي. (2)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 142، دار إحياء التراث العربي، شرح فتح القدير 5 / 39، دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 4 / 316 دار الفكر، مغني المحتاج 4 / 146 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 6 / 97 عالم الكتب 1983 م.
(2) حديث ماعز في قصة رجمه وقوله: " ردوني. . . " أخرجه أبو داود (4 / 576 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث جابر بن عبد الله وإسناده حسن.(24/24)
انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ:
14 - مِنَ الشُّرُوطِ الْمُوجِبَةِ لِحَدِّ الزِّنَى وَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ. (1)
وَقَدْ نَازَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالإِْرْسَال تَارَةً وَبِالْوَقْفِ تَارَةً أُخْرَى. قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: وَنَحْنُ نَقُول: إِنَّ الإِْرْسَال لاَ يَقْدَحُ، وَإِنَّ الْمَوْقُوفَ فِي هَذَا لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ؛ لأَِنَّ إِسْقَاطَ الْوَاجِبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِشُبْهَةٍ خِلاَفُ مُقْتَضَى الْعَقْل، بَل مُقْتَضَاهُ أَنَّ بَعْدَ تَحَقُّقِ الثُّبُوتِ لاَ يَرْتَفِعُ بِشُبْهَةٍ فَحَيْثُ ذَكَرَهُ صَحَابِيٌّ حُمِل عَلَى الرَّفْعِ. وَأَيْضًا فِي إِجْمَاعِ فُقَهَاءِ الأَْمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ كِفَايَةٌ. وَلِذَا قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى الْعَمَل بِهِ. وَأَيْضًا تَلَقَّتْهُ الأُْمَّةُ بِالْقَبُول. وَفِي تَتَبُّعِ الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ مَا يَقْطَعُ فِي الْمَسْأَلَةِ. فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال لِمَاعِزٍ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ (2) . كُل ذَلِكَ يُلَقِّنُهُ أَنْ يَقُول: نَعَمْ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِالزِّنَى، وَلَيْسَ لِذَلِكَ فَائِدَةٌ إِلاَّ كَوْنَهُ إِذَا قَالَهَا تُرِكَ، وَإِلاَّ فَلاَ
__________
(1) حديث: " ادرأوا الحدود بالشبهات " أخرجه السمعاني كما في المقاصد الحسنة للسخاوي (ص 30 - ط السعادة) ، ونقل السخاوي عن ابن حجر أنه قال: في سنده من لا يعرف.
(2) حديث: " لعلك قبلت؟ أو غمزت أو نظرت؟ " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 135 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.(24/25)
فَائِدَةَ. وَلَمْ يَقُل لِمَنِ اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِدَيْنٍ، لَعَلَّهُ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَكَ فَضَاعَتْ، وَنَحْوِهِ.
وَكَذَا قَال لِلْغَامِدِيَّةِ نَحْوَ ذَلِكَ. وَكَذَا قَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِشُرَاحَةَ: لَعَلَّهُ وَقَعَ عَلَيْكِ وَأَنْتِ نَائِمَةٌ، لَعَلَّهُ اسْتَكْرَهَكِ، لَعَل مَوْلاَكِ زَوَّجَكِ مِنْهُ وَأَنْتِ تَكْتُمِينَهُ.
فَالْحَاصِل مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَوْنُ الْحَدِّ يُحْتَال فِي دَرْئِهِ بِلاَ شَكٍّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الاِسْتِفْسَارَاتِ الْمُفِيدَةَ لِقَصْدِ الاِحْتِيَال لِلدَّرْءِ كُلَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الثُّبُوتِ؛ لأَِنَّهُ كَانَ بَعْدَ صَرِيحِ الإِْقْرَارِ وَبِهِ الثُّبُوتُ. وَهَذَا هُوَ الْحَاصِل مِنْ هَذِهِ الآْثَارِ وَمِنْ قَوْلِهِ: ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ. فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَقْطُوعًا بِثُبُوتِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، فَكَانَ الشَّكُّ فِيهِ شَكًّا فِي ضَرُورِيٍّ فَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى قَائِلِهِ وَلاَ يُعَوَّل عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الاِخْتِلاَفُ أَحْيَانًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الشُّبُهَاتِ أَهِيَ شُبْهَةٌ صَالِحَةٌ لِلدَّرْءِ بِهَا أَمْ لاَ. (1)
وَعَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الشُّبْهَةَ بِأَنَّهَا مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ.
وَقَدْ قَسَّمَ كُلٌّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الشُّبْهَةَ إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ. تَفْصِيلُهَا فِيمَا يَلِي:
أ - أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
15 - الشُّبْهَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ: شُبْهَةٌ فِي
__________
(1) شرح فتح القدير 5 / 32.(24/25)
الْفِعْل، وَشُبْهَةٌ فِي الْمَحَل، وَشُبْهَةُ الْعَقْدِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى النَّوْعَيْنِ الأَْوَّلَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّالِثِ.
1 - الشُّبْهَةُ فِي الْفِعْل:
16 - وَتُسَمَّى أَيْضًا: شُبْهَةُ الْمُشَابَهَةِ، وَشُبْهَةُ الاِشْتِبَاهِ.
وَهِيَ: أَنْ يُظَنَّ غَيْرُ الدَّلِيل دَلِيلاً. فَتَتَحَقَّقَ فِي حَقِّ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَقَطْ، أَيْ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحِل وَالْحُرْمَةُ، وَلاَ دَلِيل فِي السَّمْعِ يُفِيدُ الْحِل بَل ظَنُّ غَيْرِ الدَّلِيل دَلِيلاً، فَلاَ بُدَّ مِنَ الظَّنِّ، وَإِلاَّ فَلاَ شُبْهَةَ أَصْلاً، لِفَرْضِ أَنْ لاَ دَلِيل أَصْلاً لِتَثْبُتَ الشُّبْهَةُ فِي نَفْسِ الأَْمْرِ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ظَنُّهُ ثَابِتًا لَمْ تَكُنْ شُبْهَةٌ أَصْلاً، وَلَيْسَتْ بِشُبْهَةٍ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ قَال: إِنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ حُدَّ.
ثُمَّ إِنَّ شُبْهَةَ الْفِعْل تَكُونُ فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ: ثَلاَثَةٍ مِنْهَا فِي الزَّوْجَاتِ، وَخَمْسَةٍ فِي الْجَوَارِي.
فَمَوَاضِعُ الزَّوْجَاتِ: مَا لَوْ وَطِئَ الرَّجُل زَوْجَتَهُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلاَثًا فِي الْعِدَّةِ، أَوْ وَطِئَ مُطَلَّقَتَهُ الْبَائِنَ فِي الطَّلاَقِ عَلَى مَالٍ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، أَوِ الْمُخْتَلِعَةَ.
وَمَوَاضِعُ الْجَوَارِي: هِيَ وَطْءُ جَارِيَةِ الأَْبِ أَوِ الأُْمِّ أَوِ الْجَدِّ أَوِ الْجَدَّةِ وَإِنْ عَلَوْا، وَوَطْءُ جَارِيَةِ الزَّوْجَةِ، وَوَطْءُ أُمِّ وَلَدِهِ الَّتِي أَعْتَقَهَا وَهِيَ فِي(24/26)
الاِسْتِبْرَاءِ، وَالْعَبْدُ يَطَأُ جَارِيَةَ مَوْلاَهُ، وَالْمُرْتَهِنُ يَطَأُ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ عِنْدَهُ، وَكَذَا الْمُسْتَعِيرُ لِلرَّهْنِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَهِنِ.
فَالْوَاطِئُ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ إِذَا ظَنَّ الْحِل يُعْذَرُ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ حَصَل فِي مَوْضِعِ الاِشْتِبَاهِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً وَقَال: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِل لِي، فَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى دَعْوَاهُ وَيُحَدُّ. وَلاَ يَثْبُتُ النَّسَبُ فِي شُبْهَةِ الْفِعْل وَإِنِ ادَّعَاهُ؛ لأَِنَّ الْفِعْل تَمَحَّضَ زِنًى لِفَرْضِ أَنْ لاَ شُبْهَةَ مِلْكٍ هُنَا، إِلاَّ أَنَّ الْحَدَّ سَقَطَ لِظَنِّهِ الْمَحَل، فَضْلاً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَمْرٌ رَاجِعٌ إِلَى الْوَاطِئِ لاَ إِلَى الْمَحَل، فَكَأَنَّ الْمَحَل لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ حِلٍّ، فَلاَ يَثْبُتُ نَسَبٌ بِهَذَا الْوَطْءِ، وَكَذَا لاَ تَثْبُتُ بِهِ عِدَّةٌ؛ لأَِنَّهُ لاَ عِدَّةَ مِنَ الزَّانِي.
وَقِيل: إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلاَثًا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا؛ لأَِنَّهُ وَطْءٌ فِي شُبْهَةِ الْعَقْدِ، فَيَكْفِي ذَلِكَ لإِِثْبَاتِ النَّسَبِ. وَأُلْحِقَتْ بِهَا الْمُطَلَّقَةُ بِعِوَضٍ، وَالْمُخْتَلِعَةُ.
وَثُبُوتُ النَّسَبِ هُنَا لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْوَطْءِ فِي الْعِدَّةِ، بَل بِاعْتِبَارِ الْعُلُوقِ السَّابِقِ عَلَى الطَّلاَقِ. وَلِذَا ذَكَرُوا أَنَّ نَسَبَ وَلَدِهَا يَثْبُتُ إِلَى أَقَل مِنْ سَنَتَيْنِ، وَلاَ يَثْبُتُ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ. وَيَجِبُ فِي شُبْهَةِ الْفِعْل مَهْرُ الْمِثْل.(24/26)
2 - الشُّبْهَةُ فِي الْمَحَل: وَتُسَمَّى أَيْضًا الشُّبْهَةُ الْحُكْمِيَّةُ وَشُبْهَةُ الْمِلْكِ:
17 - وَتَنْشَأُ عَنْ دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْحِل فِي الْمَحَل، فَتُصْبِحُ الْحُرْمَةُ الْقَائِمَةُ فِيهَا شُبْهَةً أَنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً، نَظَرًا إِلَى دَلِيل الْحِل، كَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ وَمَالُكَ لأَِبِيكَ (1) . فَلاَ يَجِبُ الْحَدُّ لأَِجْل شُبْهَةٍ وُجِدَتْ فِي الْمَحَل وَإِنْ عَلِمَ حُرْمَتَهُ؛ لأَِنَّ الشُّبْهَةَ إِذَا كَانَتْ فِي الْمَوْطُوءَةِ يَثْبُتُ فِيهَا الْمِلْكُ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ اسْمُ الزِّنَى فَامْتَنَعَ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ الدَّلِيل الْمُثْبِتَ لِلْحِل قَائِمٌ، وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْ إِثْبَاتِهِ لِمَانِعٍ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً.
وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَل تَكُونُ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ: وَاحِدٌ مِنْهَا فِي الزَّوْجَاتِ، وَالْبَاقِي فِي الْجَوَارِي.
فَمَوْضِعُ الزَّوْجَاتِ: وَطْءُ الْمُعْتَدَّةِ بِالطَّلاَقِ الْبَائِنِ بِالْكِنَايَاتِ، فَلاَ يُحَدُّ، لاِخْتِلاَفِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي كَوْنِهَا رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً.
وَمَوَاضِعُ الْجَوَارِي: هِيَ وَطْءُ الأَْبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ، وَوَطْءُ الْبَائِعِ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ قَبْل تَسْلِيمِهَا لِلْمُشْتَرِي، وَوَطْءُ الزَّوْجِ الْجَارِيَةَ الْمَجْعُولَةَ مَهْرًا قَبْل تَسْلِيمِهَا لِلزَّوْجَةِ حَيْثُ إِنَّ الْمِلْكَ فِيهِمَا لَمْ يَسْتَقِرَّ لِلْمُشْتَرِي وَالزَّوْجَةِ، وَوَطْءُ الْجَارِيَةِ
__________
(1) حديث: " أنت ومالك لأبيك ". أخرجه ابن ماجه (2 / 769 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 25 - ط دار الجنان) .(24/27)
الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَغَيْرِهِ، وَوَطْءُ الْمُرْتَهِنِ لِلْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ فِي رِوَايَةٍ لَيْسَتْ بِالْمُخْتَارَةِ. وَزَادَ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: وَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ، وَوَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ، وَوَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمُكَاتَبِ، وَوَطْءَ الْبَائِعِ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالَّتِي فِيهَا الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي. وَكَذَا وَطْءُ جَارِيَتِهِ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعِ، وَجَارِيَتُهُ قَبْل الاِسْتِبْرَاءِ، وَوَطْءُ الزَّوْجَةِ الَّتِي حُرِّمَتْ بِرِدَّتِهَا، أَوْ بِمُطَاوَعَتِهَا لاِبْنِهِ أَوْ جِمَاعِهِ أُمَّهَا ثُمَّ جَامَعَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ بَعْضَ الأَْئِمَّةِ لَمْ يُحَرِّمْ بِهِ، فَاسْتُحْسِنَ أَنْ يَدْرَأَ بِذَلِكَ الْحَدِّ. قَال: وَالاِسْتِقْرَاءُ يُفِيدُ غَيْرَ ذَلِكَ أَيْضًا، فَالاِقْتِصَارُ عَلَى السِّتَّةِ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ. فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لاَ يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنْ قَال: عَلِمْتُ أَنَّهَا حَرَامٌ؛ لأَِنَّ الْمَانِعَ هُوَ الشُّبْهَةُ، وَهِيَ هَاهُنَا قَائِمَةٌ فِي نَفْسِ الْحُكْمِ، وَلاَ اعْتِبَارَ بِمَعْرِفَتِهِ بِالْحُرْمَةِ وَعَدَمِهَا. وَيَثْبُتُ النَّسَبُ فِي شُبْهَةِ الْمَحَل إِذَا ادَّعَى الْوَلَدَ.
3 - شُبْهَةُ الْعَقْدِ:
18 - قَال بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَزُفَرُ.
وَهِيَ عِنْدَهُ تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ النَّسَبِيَّةِ، أَوْ بِالرَّضَاعِ، أَوْ بِالْمُصَاهَرَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ بِهِمَا، فَإِذَا وَطِئَ الشَّخْصُ إِحْدَى(24/27)
مَحَارِمِهِ بَعْدَ أَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَكِنْ يَجِبُ الْمَهْرُ وَيُعَاقَبُ عُقُوبَةً هِيَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّعْزِيرِ سِيَاسَةً لاَ حَدًّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ وَلاَ تَعْزِيرَ. فَوُجُودُ الْعَقْدِ يَنْفِي الْحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَلاَلاً كَانَ الْعَقْدُ أَوْ حَرَامًا، مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ، عَلِمَ الْوَاطِئُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ.
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ بِأَنَّ الأُْنْثَى مِنْ أَوْلاَدِ آدَمَ مَحَلٌّ لِهَذَا الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ مَحَل الْعَقْدِ مَا يَكُونُ قَابِلاً لِمَقْصُودِهِ الأَْصْلِيِّ، وَكُل أُنْثَى مِنْ أَوْلاَدِ آدَمَ قَابِلَةٌ لِمَقْصُودِ النِّكَاحِ وَهُوَ التَّوَالُدُ وَالتَّنَاسُل. وَإِذَا كَانَتْ قَابِلَةً لِمَقْصُودِهِ كَانَتْ قَابِلَةً لِحُكْمِهِ، إِذِ الْحُكْمُ يَثْبُتُ ذَرِيعَةً إِلَى الْمَقْصُودِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ فِي جَمِيعِ الأَْحْكَامِ، إِلاَّ أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ إِفَادَةِ الْحِل حَقِيقَةً لِمَكَانِ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ فِيهِنَّ بِالنَّصِّ فَيُورِثُ شُبْهَةً، إِذِ الشُّبْهَةُ مَا يُشْبِهُ الْحَقِيقَةَ لاَ الْحَقِيقَةَ نَفْسَهَا.
وَالأُْنْثَى مِنْ أَوْلاَدِ آدَمَ مَحَلٌّ لِلْعَقْدِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ أَوْلَى بِإِيرَاثِ الشُّبْهَةِ، وَكَوْنُهَا مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ لاَ يُنَافِي الشُّبْهَةَ "، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ أَمَتَهُ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعِ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَالنِّكَاحُ فِي إِفَادَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ، لأَِنَّهُ شَرَعَ لَهُ بِخِلاَفِ مِلْكِ الْيَمِينِ، فَكَانَ أَوْلَى فِي(24/28)
إِفَادَةِ الشُّبْهَةِ؛ لأَِنَّ الشُّبْهَةَ تُشْبِهُ الْحَقِيقَةَ فَمَا كَانَ أَقْوَى فِي إِثْبَاتِ الْحَقِيقَةِ كَانَ أَقْوَى فِي إِثْبَاتِ الشُّبْهَةِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّا لِذَلِكَ بِأَنَّ حُرْمَتَهُنَّ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَإِضَافَةُ الْعَقْدِ إِلَيْهِنَّ كَإِضَافَتِهِ إِلَى الذُّكُورِ، لِكَوْنِهِ صَادَفَ غَيْرَ الْمَحَل فَيَلْغُو؛ لأَِنَّ مَحَل التَّصَرُّفِ مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْحِل هُنَا، وَهِيَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فَيَكُونُ وَطْؤُهَا زِنًى حَقِيقَةً لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ فِيهَا. وَإِلَيْهِ الإِْشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} (1) وَالْفَاحِشَةُ هِيَ الزِّنَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} (2) وَمُجَرَّدُ إِضَافَةِ الْعَقْدِ إِلَى غَيْرِ الْمَحَل لاَ عِبْرَةَ فِيهِ، أَلاَ تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ الْوَارِدَ عَلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا حَتَّى لاَ يُفِيدَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا يُعْذَرُ بِالاِشْتِبَاهِ. وَمَحَل الْخِلاَفِ بَيْنَهُمْ فِي النِّكَاحِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى التَّأْبِيدِ. أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، كَالنِّكَاحِ بِلاَ وَلِيٍّ وَبِلاَ شُهُودٍ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْكُل. فَالشُّبْهَةُ إِنَّمَا
__________
(1) سورة النساء / 22.
(2) سورة الإسراء / 32.(24/28)
تَنْتَفِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إِذَا كَانَ النِّكَاحُ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ (1) .
ب - أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
19 - قَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ الشُّبْهَةَ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فِي إِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ: شُبْهَةٍ فِي الْوَاطِئِ، وَشُبْهَةٍ فِي الْمَوْطُوءَةِ، وَشُبْهَةٍ فِي الطَّرِيقِ.
فَالشُّبْهَةُ فِي الْوَاطِئِ: كَاعْتِقَادِ أَنَّ هَذِهِ الأَْجْنَبِيَّةَ امْرَأَتُهُ، فَالاِعْتِقَادُ الَّذِي هُوَ جَهْلٌ مُرَكَّبٌ وَغَيْرُ مُطَابِقٍ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُعْتَقِدٌ الإِْبَاحَةَ، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فِي اعْتِقَادِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، فَحَصَل الاِشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.
وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَوْطُوءَةِ: كَالأَْمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ إِذَا وَطِئَهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ. فَمَا فِيهَا مِنْ نَصِيبِهِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ، وَمَا فِيهَا مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، فَحَصَل الاِشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ. وَالشُّبْهَةُ فِي الطَّرِيقِ: كَاخْتِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِي إِبَاحَةِ الْمَوْطُوءَةِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَنَحْوِهِ. فَإِنَّ قَوْل
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 150 وما بعدها دار إحياء التراث العربي، شرح فتح القدير 5 / 32 وما بعدها دار إحياء التراث العربي، تبيين الحقائق 3 / 175 وما بعدها دار المعرفة، الفتاوى الهندية 2 / 147 وما بعدها، المطبعة الأميرية 1310 هـ.(24/29)
الْمُحَرِّمِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، وَقَوْل الْمُبِيحِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ، فَحَصَل الاِشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.
فَهَذِهِ الثَّلاَثُ هِيَ ضَابِطُ الشُّبْهَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَهُمْ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ. غَيْرَ أَنَّ لَهَا شَرْطًا وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمُقْدِمِ عَلَى الْفِعْل مُقَارَنَةَ السَّبَبِ الْمُبِيحِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فِي حُصُول السَّبَبِ كَأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً يَعْتَقِدُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ. وَضَابِطُ الشُّبْهَةِ الَّتِي لاَ تُعْتَبَرُ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ تَتَحَقَّقُ بِأَمْرَيْنِ: إِمَّا بِالْخُرُوجِ عَنِ الشُّبُهَاتِ الثَّلاَثِ الْمَذْكُورَةِ كَمَنْ تَزَوَّجَ خَامِسَةً أَوْ مَبْتُوتَةً ثَلاَثًا قَبْل زَوْجٍ، أَوْ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعِ أَوِ النَّسَبِ أَوْ ذَاتَ مَحْرَمٍ عَامِدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ بِعَدَمِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ كَأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُهَا فَإِنَّ الْحَدَّ لاَ يَسْقُطُ لِعَدَمِ اعْتِقَادِ مُقَارَنَةِ الْعِلْمِ لِسَبَبِهِ. (1)
ج - أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
20 - الشُّبْهَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: شُبْهَةٍ فِي الْمَحَل، وَشُبْهَةٍ فِي الْفَاعِل، وَشُبْهَةٍ فِي الْجِهَةِ.
فَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَل، كَوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْحَائِضِ وَالصَّائِمَةِ، وَالْمُحْرِمَةِ، وَأَمَتِهِ قَبْل الاِسْتِبْرَاءِ، وَجَارِيَةِ وَلَدِهِ. فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ. وَكَذَا لَوْ وَطِئَ مَمْلُوكَتَهُ الْمُحَرَّمَةَ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، كَأُخْتِهِ
__________
(1) الفروق للقرافي 4 / 172، وتهذيب الفروق بهامشه 1 / 202 دار المعرفة.(24/29)
مِنْهُمَا، أَوْ بِمُصَاهَرَةٍ كَمَوْطُوءَةِ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ، فَلاَ حَدَّ بِوَطْئِهَا فِي الأَْظْهَرِ؛ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ. قَال الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَمَحَل ذَلِكَ فِيمَنْ يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا كَأُخْتِهِ. أَمَّا مَنْ لاَ يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا كَالأُْمِّ وَالْجَدَّةِ فَهُوَ زَانٍ قَطْعًا. وَكَذَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ، أَوِ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوِ الْمَجُوسِيَّةَ وَالْوَثَنِيَّةَ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ أَسْلَمَتْ أَمَةُ ذِمِّيٍّ فَوَطِئَهَا قَبْل أَنْ تُبَاعَ. وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْفَاعِل، فَمِثْل أَنْ يَجِدَ امْرَأَةً فِي فِرَاشِهِ فَيَطَؤُهَا ظَانًّا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ ظَنَّ ذَلِكَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ. وَلَوْ ظَنَّهَا جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ فَكَانَتْ غَيْرَهَا فَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ لأَِنَّهُ عَلِمَ التَّحْرِيمَ فَكَانَ عَلَيْهِ الاِمْتِنَاعُ. وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ مِنَ احْتِمَالَيْنِ. وَجَزَمَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِسُقُوطِهِ. وَيَدْخُل فِي شُبْهَةِ الْفَاعِل الْمُكْرَهُ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْجِهَةِ: فَهِيَ كُل طَرِيقٍ صَحَّحَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَأَبَاحَ الْوَطْءَ بِهَا فَلاَ حَدَّ فِيهَا عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ نَظَرًا لاِخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ. فَلاَ حَدَّ فِي الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلاَ وَلِيٍّ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَبِلاَ شُهُودٍ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ. وَلاَ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ كَمَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِشُبْهَةِ الْخِلاَفِ.
ثُمَّ إِنَّ مَحَل الْخِلاَفِ فِي النِّكَاحِ الْمَذْكُورِ أَنْ لاَ يُقَارِنَهُ حُكْمٌ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. فَإِنْ قَارَنَهُ(24/30)
حُكْمٌ قَاضٍ بِبُطْلاَنِهِ حُدَّ قَطْعًا، أَوْ حُكْمٌ قَاضٍ بِصِحَّتِهِ لَمْ يُحَدَّ قَطْعًا.
وَقَدْ صَرَّحَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الضَّابِطَ فِي الشُّبْهَةِ قُوَّةُ الْمُدْرِكِ لاَ عَيْنُ الْخِلاَفِ. فَلَوْ وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ حُدَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ حِل ذَلِكَ.
وَصَرَّحَ الرَّمْلِيُّ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخِلاَفُ مِنْ عَالِمٍ يُعْتَدُّ بِخِلاَفِهِ وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْهُ الْفَاعِل. (1)
د - الشُّبْهَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
21 - لَمْ يُقَسِّمِ الْحَنَابِلَةُ الشُّبْهَةَ إِلَى أَنْوَاعٍ كَالْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا لَهَا أَمْثِلَةً فَقَالُوا: لاَ حَدَّ عَلَى الأَْبِ إِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ سَوَاءٌ وَطِئَهَا الاِبْنُ أَوْ لاَ؛ لأَِنَّهُ وَطْءٌ تَمَكَّنَتِ الشُّبْهَةُ فِيهِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي مِلْكِ وَلَدِهِ لِحَدِيثِ أَنْتَ وَمَالُكَ لأَِبِيكَ. وَلاَ حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ لِوَلَدِهِ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ لِمُكَاتَبِهِ فِيهَا شِرْكٌ؛ لِلْمِلْكِ أَوْ شُبْهَتِهِ، وَلاَ حَدَّ إِنْ وَطِئَ أَمَةً كُلَّهَا لِبَيْتِ الْمَال أَوْ بَعْضَهَا لِبَيْتِ الْمَال وَهُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ، لأَِنَّ لَهُ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَال. وَلاَ حَدَّ إِنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ دُبُرٍ؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ قَدْ صَادَفَ مِلْكًا، وَإِنْ وَطِئَ امْرَأَةً
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 92 المكتب الإسلامي، شرح روض الطالب 4 / 126 المكتبة الإسلامية، مغني المحتاج 4 / 144، 145 دار إحياء التراث العربي، نهاية المحتاج 7 / 424، 425 مصطفى البابي الحلبي 1967 م.(24/30)
عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ فِي مَنْزِلِهِ ظَنَّهَا امْرَأَتَهُ أَوْ زُفَّتْ إِلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يُقَل لَهُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ. وَلَوْ دَعَا ضَرِيرٌ امْرَأَتَهُ فَأَجَابَتْهُ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا فَوَطِئَهَا فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ. بِخِلاَفِ مَا لَوْ دَعَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ فَأَجَابَهُ غَيْرُهَا فَوَطِئَهَا يَظُنُّهَا الْمَدْعُوَّةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمَدْعُوَّةُ مِمَّنْ لَهُ فِيهَا شُبْهَةٌ كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُعْذَرُ بِهَذَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَل رَجُلاً يَظُنُّهُ ابْنَهُ فَبَانَ أَجْنَبِيًّا. وَإِنْ وَطِئَ أَمَتَهُ الْمَجُوسِيَّةَ أَوِ الْوَثَنِيَّةَ أَوِ الْمُرْتَدَّةَ أَوِ الْمُعْتَدَّةَ، أَوِ الْمُزَوَّجَةَ، أَوْ فِي مُدَّةِ اسْتِبْرَائِهَا فَلاَ حَدَّ، لأَِنَّهَا مِلْكُهُ. وَإِنْ وَطِئَ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ أَوْ فِي مِلْكٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَالنِّكَاحِ بِلاَ وَلِيٍّ، أَوْ بِلاَ شُهُودٍ، وَنِكَاحِ الشِّغَارِ، وَنِكَاحِ الْمُحَلِّل، وَنِكَاحِ الأُْخْتِ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا، وَنَحْوِهَا، وَنِكَاحِ الْبَائِنِ مِنْهُ، وَنِكَاحِ خَامِسَةٍ فِي عِدَّةِ رَابِعَةٍ لَمْ تَبِنْ، وَنِكَاحِ الْمَجُوسِيَّةِ، وَعَقْدِ الْفُضُولِيِّ وَلَوْ قَبْل الإِْجَازَةِ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ أَمْ لاَ.
هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الأَْصْحَابِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ، أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ إِذَا اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ.
وَإِنْ جَهِل نِكَاحًا بَاطِلاً إِجْمَاعًا كَخَامِسَةٍ فَلاَ حَدَّ لِلْعُذْرِ، وَيُقْبَل مِنْهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا. أَمَّا إِذَا عَلِمَ بِبُطْلاَنِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. وَلاَ حَدَّ فِي الْوَطْءِ فِي شِرَاءٍ فَاسِدٍ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَوِ(24/31)
اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ لِلشُّبْهَةِ؛ لأَِنَّ الْبَائِعَ بِإِقْبَاضِهِ الأَْمَةَ كَأَنَّهُ أَذِنَهُ فِي فِعْل مَا يَمْلِكُهُ بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَمِنْهُ الْوَطْءُ، أَمَّا قَبْل الْقَبْضِ فَيُحَدُّ عَلَى الصَّحِيحِ. كَمَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي وَطْءِ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ إِذَا كَانَ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ وَيَعْلَمُ انْتِقَال الْمِلْكِ عَلَى الصَّحِيحِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ. (1)
5 - مِنْ شُرُوطِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْل مُخْتَارًا:
22 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُكْرَهَةِ عَلَى الزِّنَى لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (2) . وَعَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ امْرَأَةً اسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ. (3) وَلأَِنَّ هَذَا شُبْهَةٌ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِهَا.
وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.
__________
(1) كشاف القناع 6 / 96، 97 عالم الكتب 1983 م، مطالب أولي النهى 6 / 183، 184، المكتب الإسلامي 1961 م.
(2) حديث: " تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ". أخرجه الحاكم (2 / 198 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس وصححه، ووافقه الذهبي.
(3) حديث وائل: " أن امرأة استكرهت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه ابن أبي شيبة (9 / 550 - ط السلفية - بمبي) وعنه البيهقي (8 / 235 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وأعله بالانقطاع في موضعين في سنده.(24/31)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الرَّجُل إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَى. فَذَهَبَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ وَالَّذِي بِهِ الْفَتْوَى وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى الرَّجُل الْمُكْرَهِ عَلَى الزِّنَى لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ وَلِشُبْهَةِ الإِْكْرَاهِ.
وَذَهَبَ الأَْكْثَرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ - وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْوَطْءَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالاِنْتِشَارِ الْحَادِثِ بِالاِخْتِيَارِ.
وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ إِكْرَاهِ السُّلْطَانِ وَإِكْرَاهِ غَيْرِهِ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ فِي إِكْرَاهِ السُّلْطَانِ؛ لأَِنَّ سَبَبَهُ الْمُلْجِئَ قَائِمٌ ظَاهِرًا، وَالاِنْتِشَارُ دَلِيلٌ مُتَرَدِّدٌ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ؛ لأَِنَّ الاِنْتِشَارَ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا لاَ طَوْعًا، كَمَا فِي النَّائِمِ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ، لأَِنَّ الإِْكْرَاهَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ لاَ يَدُومُ إِلاَّ نَادِرًا لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الاِسْتِعَانَةِ بِالسُّلْطَانِ أَوْ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَيُمْكِنُهُ دَفْعُهُ بِنَفْسِهِ بِالسِّلاَحِ. وَالنَّادِرُ لاَ حُكْمَ لَهُ فَلاَ يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ، بِخِلاَفِ السُّلْطَانِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ الاِسْتِعَانَةُ بِغَيْرِهِ وَلاَ الْخُرُوجُ بِالسِّلاَحِ عَلَيْهِ فَافْتَرَقَا. وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ. قَال مَشَايِخُ الْحَنَفِيَّةِ: وَهَذَا اخْتِلاَفُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، فَفِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لاَ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالسُّلْطَانِ،(24/32)
وَفِي زَمَنِهِمَا ظَهَرَتِ الْقُوَّةُ لِكُل مُتَغَلِّبٍ فَيُفْتَى بِقَوْلِهِمَا. (1)
ثَانِيًا: الشُّرُوطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا:
1 - اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْمَوْطُوءَةِ حَيَّةً:
23 - اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) فِي وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ حَيَّةً، فَلاَ يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَهُمْ بِوَطْءِ الْمَيْتَةِ؛ لأَِنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وَجَبَ لِلزَّجْرِ، وَهَذَا مِمَّا يَنْفِرُ الطَّبْعُ عَنْهُ، فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى الزَّجْرِ عَنْهُ بِحَدٍّ لِزَجْرِ الطَّبْعِ عَنْهُ. وَفِيهِ التَّعْزِيرُ عِنْدَهُمْ.
وَيُعَبِّرُ الشَّافِعِيَّةُ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ بِالْفَرْجِ الْمُشْتَهَى طَبْعًا، وَهُوَ فَرْجُ الآْدَمِيِّ الْحَيِّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ فَيَجِبُ عِنْدَهُمُ الْحَدُّ بِوَطْءِ الْمَيْتَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي قُبُلِهَا أَوْ دُبُرِهَا. وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجَ فَلاَ يُحَدُّ بِوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْمَيْتَةِ. وَاسْتَثْنَوْا كَذَلِكَ الْمَرْأَةَ إِذَا أَدْخَلَتْ ذَكَرَ مَيْتٍ غَيْرَ زَوْجٍ فِي فَرْجِهَا فَلاَ تُحَدُّ لِعَدَمِ اللَّذَّةِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 157 دار إحياء التراث العربي، فتح القدير 5 / 52 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 4 / 318 دار الفكر، نهاية المحتاج 7 / 425 مصطفى البابي الحلبي 1967 م، مغني المحتاج 4 / 145 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 6 / 97 عالم الكتب 1983 م، الإنصاف 10 / 182 مطبعة السنة المحمدية 1957 م.
(2) شرح فتح القدير 5 / 45 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 4 / 314 دار الفكر، مغني المحتاج 4 / 144، 145 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 6 / 98 عالم الكتب 1983 م.(24/32)
كَوْنُ الْمَوْطُوءَةِ امْرَأَةً:
24 - اشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ امْرَأَةً. فَلاَ حَدَّ عِنْدَهُ فِيمَنْ عَمِل عَمَل قَوْمِ لُوطٍ، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ وَيُسْجَنُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ، وَلَوِ اعْتَادَ اللِّوَاطَةَ قَتَلَهُ الإِْمَامُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مِحْصَنٍ سِيَاسَةً. أَمَّا الْحَدُّ الْمُقَدَّرُ شَرْعًا فَلَيْسَ حُكْمًا لَهُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِزِنًى وَلاَ فِي مَعْنَاهُ فَلاَ يَثْبُتُ فِيهِ حَدٌّ.
وَلَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الشَّرْطَ، فَذَهَبَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حَدَّ الزِّنَى عَلَى الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ جَلْدًا إِنْ لَمْ يَكُنْ أُحْصِنَ، وَرَجْمًا إِنْ أُحْصِنَ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمَا يُرْجَمَانِ حَدًّا أُحْصِنَا أَمْ لاَ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْفَاعِل. أَمَّا الْمَفْعُول بِهِ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ؛ لأَِنَّ الْمَحَل لاَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ إِحْصَانٌ. (1)
__________
(1) شرح فتح القدير 5 / 43، والكفاية على الهداية بذيل الفتح 5 / 43 وما بعدها دار إحياء التراث العربي، وحاشية ابن عابدين 3 / 155، دار إحياء التراث العربي، وحاشية الدسوقي 4 / 314 - 320 دار الفكر، مغني المحتاج 4 / 144 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 6 / 94 عالم الكتب 1983 م.(24/33)
وَطْءُ الْبَهِيمَةِ:
25 - ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى مَنْ أَتَى بَهِيمَةً لَكِنَّهُ يُعَزَّرُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ (1) . وَمِثْل هَذَا لاَ يَقُولُهُ إِلاَّ عَنْ تَوْقِيفٍ، وَلأَِنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَأْبَاهُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى زَجْرٍ بِحَدٍّ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ: إِنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَى وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ: بِأَنَّهُ يُقْتَل مُطْلَقًا مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ.
وَمِثْل وَطْءِ الْبَهِيمَةِ مَا لَوْ مَكَّنَتِ امْرَأَةٌ حَيَوَانًا مِنْ نَفْسِهَا حَتَّى وَطِئَهَا فَلاَ حَدَّ عَلَيْهَا بَل تُعَزَّرُ.
وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) أَنَّهُ لاَ تُقْتَل الْبَهِيمَةُ، وَإِذَا قُتِلَتْ فَإِنَّهَا يَجُوزُ أَكْلُهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُؤْكَل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَمَنَعَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَكْلَهَا. وَقَالاَ: تُذْبَحُ وَتُحْرَقُ. وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ الاِنْتِفَاعِ بِهَا حَيَّةً وَمَيِّتَةً.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْبَهِيمَةَ تُقْتَل سَوَاءٌ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ. وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَأْكُولَةً أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ. وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا قَال: مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ
__________
(1) أثر ابن عباس: " من أتى بهيمة فلا حد عليه " أخرجه ابن أبي شيبة (10 / 5 - ط الدار السلفية - بمبي) .(24/33)
فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ. (1) وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهَا تُذْبَحُ إِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً، وَصَرَّحُوا بِحُرْمَةِ أَكْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا يُؤْكَل. (2)
3 - كَوْنُ الْوَطْءِ فِي الْقُبُل:
26 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى عَلَى مَنْ أَتَى امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِي دُبُرِهَا، لأَِنَّهُ فَرْجٌ أَصْلِيٌّ كَالْقُبُل.
وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ الْحَدَّ بِالْفَاعِل فَقَطْ. أَمَّا الْمَفْعُول بِهَا فَإِنَّهَا تُجْلَدُ وَتُغَرَّبُ، مُحْصَنَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ؛ لأَِنَّ الْمَحَل لاَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ إِحْصَانٌ.
وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ فِي الْقُبُل فَلاَ يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَهُ عَلَى مَنْ أَتَى امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِي دُبُرِهَا، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ. أَمَّا إِتْيَانُ الرَّجُل زَوْجَتَهُ أَوْ مَمْلُوكَتَهُ فِي دُبُرِهَا فَلاَ حَدَّ فِيهِ اتِّفَاقًا، وَيُعَزَّرُ فَاعِلُهُ لاِرْتِكَابِهِ
__________
(1) حديث ابن عباس: " من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة ". أخرجه أحمد (1 / 269 - ط الميمنية) وصححه ابن عبد الهادي المقدسي في المحرر في الحديث (2 / 624 - ط دار المعرفة) .
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 155 دار إحياء التراث العربي، شرح فتح القدير 5 / 45، حاشية الدسوقي 4 / 316، مغني المحتاج 4 / 145، شرح روض الطالب 4 / 126 المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 6 / 95، الإنصاف 10 / 178 مطبعة السنة المحمدية 1957 م.(24/34)
مَعْصِيَةً. وَقَصَرَ الشَّافِعِيَّةُ التَّعْزِيرَ عَلَى مَا إِذَا تَكَرَّرَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَكَرَّرْ فَلاَ تَعْزِيرَ فِيهِ. (1)
4 - كَوْنُ الْوَطْءِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ:
27 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ الزِّنَى فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ. فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ وَأَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَصَابَ بِهَا حَدًّا ثُمَّ هَرَبَ فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَإِنَّهُ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. (2)
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ عَلَى أَحَدٍ حَدٌّ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ.
وَلأَِنَّ الْوُجُوبَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ، وَلاَ قُدْرَةَ لِلإِْمَامِ عَلَيْهِ حَال كَوْنِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلاَ وُجُوبَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 155 دار إحياء التراث العربي، شرح فتح القدير 5 / 43 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 4 / 314 دار الفكر، مغني المحتاج 4 / 144 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 6 / 94 عالم الكتب 1983 م.
(2) حديث: " من زنى أو سرق في دار الحرب. . . " ذكره محمد بن الحسن الشيباني في كتاب السير (5 / 1852 - ط مطبعة شركة الإعلانات الشرقية) من حديث عطية بن قيس الكلابي مرفوعا بلفظ: " إذا هرب الرجل، وقد قتل أو زنى أو سرق إلى العدو ثم أخذ أمانا على نفسه، فإنه يقام(24/34)
وَإِلاَّ عَرَى عَنِ الْفَائِدَةِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الاِسْتِيفَاءُ لِيَحْصُل الزَّجْرُ، وَالْفَرْضُ أَنْ لاَ قُدْرَةَ عَلَيْهِ، وَإِذَا خَرَجَ وَالْحَال أَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِلإِْيجَابِ حَال وُجُودِهِ لَمْ يَنْقَلِبْ مُوجِبًا لَهُ حَال عَدَمِهِ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذَا زَنَى فِي عَسْكَرٍ لأَِمِيرِهِ وِلاَيَةُ إِقَامَةِ الْحَدِّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَى؛ لأَِنَّهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَالْقُدْرَةُ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ خَرَجَ مِنَ الْعَسْكَرِ فَدَخَل دَارَ الْحَرْبِ فَزَنَى ثُمَّ عَادَ إِلَى الْعَسْكَرِ فَإِنَّهُ لاَ يُقِيمُهُ، وَكَذَا لَوْ زَنَى فِي الْعَسْكَرِ وَالْعَسْكَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي أَيَّامِ الْمُحَارَبَةِ قَبْل الْفَتْحِ فَإِنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ. وَهَذَا الْحُكْمُ خَاصٌّ بِمَا إِذَا كَانَ فِي الْعَسْكَرِ مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، بِخِلاَفِ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ أَوِ السَّرِيَّةِ لأَِنَّهُ إِنَّمَا فَوَّضَ لَهُمَا تَدْبِيرَ الْحَرْبِ لاَ إِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلإِْمَامِ، وَوِلاَيَةُ الإِْمَامِ مُنْقَطِعَةٌ ثَمَّةَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً مِنْ نَحْوِ رِدَّةِ الْمَحْدُودِ وَالْتِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَنْ أَتَى حَدًّا فِي الْغَزْوِ لَمْ يُسْتَوْفَ مِنْهُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، لِمَا رَوَى جُنَادَةُ بْنُ أُمَيَّةَ قَال: كُنَّا مَعَ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ فِي الْبَحْرِ، فَأُتِيَ بِسَارِقٍ يُقَال لَهُ: مَصْدَرٌ، قَدْ سَرَقَ بُخْتِيَّةً، (1) فَقَال: قَدْ سَمِعْتُ
__________
(1) أي ناقة من إبل العجم.(24/35)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: لاَ تُقْطَعُ الأَْيْدِي فِي السَّفَرِ (1) وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَقَطَعْتُهُ.
وَنَقَلُوا إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ مَتَى رَجَعَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعُمُومِ الآْيَاتِ وَالأَْخْبَارِ، وَإِنَّمَا أُخِّرَ لِعَارِضٍ، وَقَدْ زَال.
وَإِذَا أَتَى حَدًّا فِي الثُّغُورِ أُقِيمَ عَلَيْهِ فِيهَا بِغَيْرِ خِلاَفٍ، لأَِنَّهَا مِنْ بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إِلَى زَجْرِ أَهْلِهَا كَالْحَاجَةِ إِلَى زَجْرِ غَيْرِهِمْ. (2)
5 - أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْل مُسْلِمًا:
28 - اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْل مُسْلِمًا، فَلاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْكَافِرِ إِذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ طَائِعَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَيُرَدُّ إِلَى أَهْل مِلَّتِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ، وَتُحَدُّ الْمُسْلِمَةُ. وَإِنِ اسْتَكْرَهَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَةَ عَلَى الزِّنَى قُتِل.
__________
(1) حديث بسر بن أرطأة: " لا تقطع الأيدي في السفر " أخرجه أبو داود (4 / 563 - 564 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وقال ابن حجر عن إسناده: هذا إسناد قوي كذا في فيض القدير للمناوي (6 / 417 - ط المكتبة التجارية) .
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 156 دار إحياء التراث العربي، شرح فتح القدير 5 / 46، 47 دار إحياء التراث العربي، مغني المحتاج 4 / 150 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 6 / 88 عالم الكتب 1983 م، الإنصاف 10 / 169 السنة المحمدية 1957 م.(24/35)
وَقَدْ وَافَقَتِ الْمَذَاهِبُ الأُْخْرَى مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُسْتَأْمَنِ فَقَطْ.
وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي: فَفِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ: لاَ يُحَدُّ الْمُسْتَأْمَنُ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً، وَيُحَدُّ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً، وَقَوْل أَبِي يُوسُفَ: يُحَدُّ الْجَمِيعُ. وَقَوْل مُحَمَّدٍ: لاَ يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ. فَإِذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْلِمَةِ أَوِ الذِّمِّيَّةِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ دُونَ الْحَرْبِيِّ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ جَمِيعًا فِي قَوْل أَبِي يُوسُفَ، وَلاَ حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي قَوْل مُحَمَّدٍ، وَتَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِالْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ لأَِنَّهُ لَوْ زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ مُسْتَأْمَنَةٍ لاَ يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُحَدَّانِ، وَإِنْ زَنَى الْمُسْلِمُ أَوِ الذِّمِّيُّ بِالْحَرْبِيَّةِ الْمُسْتَأْمَنَةِ حُدَّ الرَّجُل فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ: يُحَدَّانِ جَمِيعًا.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمُعَاهَدِ وَالْمُسْتَأْمَنِ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِمَا بِالأَْحْكَامِ، وَيُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ لاِلْتِزَامِهِ بِالأَْحْكَامِ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ رَجُلاً وَامْرَأَةً مِنَ الْيَهُودِ زَنَيَا (1) . وَكَانَا قَدْ أُحْصِنَا. قَال
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم رجلا وامرأة من اليهود زنيا ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 166 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1326 - الحلبي) من حديث ابن عمر.(24/36)
الرَّمْلِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْل الذِّمَّةِ الْيَوْمَ لاَ يُحَدُّونَ عَلَى الْمَذْهَبِ كَالْمُسْتَأْمَنِ، لأَِنَّهُمْ لاَ يُجَدَّدُ لَهُمْ عَهْدٌ، بَل يَجْرُونَ عَلَى ذِمَّةِ آبَائِهِمْ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَهْل الذِّمَّةِ يُحَدُّونَ حَدَّ الزِّنَى، لأَِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ وَرَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ زَنَيَا فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا وَيَلْزَمُ الإِْمَامَ إِقَامَةُ الْحَدِّ فِي زِنَى بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ؛ لاِلْتِزَامِهِمْ حُكْمَنَا. وَلاَ يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى مُسْتَأْمَنٍ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ حُكْمَنَا.
وَلأَِنَّ زِنَى الْمُسْتَأْمَنِ يَجِبُ بِهِ الْقَتْل لِنَقْضِ الْعَهْدِ، وَلاَ يَجِبُ مَعَ الْقَتْل حَدٌّ سِوَاهُ. وَهَذَا إِذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ. أَمَّا إِذَا زَنَى الْمُسْتَأْمَنُ بِغَيْرِ مُسْلِمَةٍ فَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. (1)
6 - أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْل نَاطِقًا:
29 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْل نَاطِقًا. فَلاَ يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عِنْدَهُمْ عَلَى الأَْخْرَسِ مُطْلَقًا، حَتَّى وَلَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَى أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي كِتَابٍ كَتَبَهُ أَوْ إِشَارَةٍ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِالزِّنَى لاَ تُقْبَل لِلشُّبْهَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الشَّرْطَ فَيَجِبُ حَدُّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 154، شرح فتح القدير 5 / 48، حاشية الدسوقي 4 / 313، القوانين الفقهية 382 شرح الزرقاني على خليل 8 / 75 دار الفكر 1978 م، شرح روض الطالب 4 / 127 المكتبة الإسلامية، مغني المحتاج 4 / 147، كشاف القناع 6 / 90، 91.(24/36)
الزِّنَى عَلَى الأَْخْرَسِ إِذَا زَنَى (1) .
ثُبُوتُ الزِّنَى:
يَثْبُتُ الزِّنَى بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلاَثَةٍ: بِالشَّهَادَةِ، وَالإِْقْرَارِ، وَالْقَرَائِنِ.
أ - الشَّهَادَةُ:
30 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الزِّنَى بِالشَّهَادَةِ، وَأَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ (2) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (4) وقَوْله تَعَالَى: {لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (5)
وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَال لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنْ وَجَدْتُ مَعَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 141، جواهر الإكليل 2 / 132 دار المعرفة، التبصرة بهامش فتح العلي 2 / 40، 80 مصطفى البابي الحلبي 1958 م، مغني المحتاج 4 / 150، كشاف القناع 6 / 99.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 142 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 4 / 319 دار الفكر، مغني المحتاج 4 / 149 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 6 / 100 عالم الكتب 1983 م، المغني لابن قدامة 8 / 198 الرياض.
(3) سورة النساء / 15.
(4) سورة النور / 4.
(5) سورة النور / 13.(24/37)
امْرَأَتِي رَجُلاً أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ (1) .
وَيُشْتَرَطُ فِي الشُّهُودِ عَلَى الزِّنَى بِالإِْضَافَةِ إِلَى الشُّرُوطِ الْعَامَّةِ لِلشَّهَادَةِ (الْمَذْكُورَةِ فِي مُصْطَلَحِ شَهَادَةٍ) أَنْ تَتَوَافَرَ فِيهِمْ شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ حَتَّى يَثْبُتَ الزِّنَى، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: الذُّكُورَةُ:
31 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي شُهُودِ الزِّنَى، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونُوا رِجَالاً كُلَّهُمْ، لِلنُّصُوصِ السَّابِقَةِ.
وَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الزِّنَى بِحَالٍ؛ لأَِنَّ لَفْظَ الأَْرْبَعَةِ اسْمٌ لِعَدَدِ الْمَذْكُورِينَ، وَيَقْتَضِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ بِأَرْبَعَةٍ، وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الأَْرْبَعَةَ إِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ نِسَاءً لاَ يُكْتَفَى بِهِمْ، وَأَنَّ أَقَل مَا يُجْزِئُ خَمْسَةٌ، وَهَذَا خِلاَفُ النَّصِّ: {أَنْ تَضِل إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى} (2) وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: لاَ مَدْخَل لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ. (3)
__________
(1) حديث أبي هريرة: " في سؤال سعد بن معاذ " أخرجه مسلم (2 / 1135 - ط الحلبي) .
(2) سورة البقرة / 282.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 142، وحاشية الدسوقي 4 / 319، ومغني المحتاج 4 / 149، 441، وكشاف القناع 4 / 149، والمغني 8 / 198، 199.(24/37)
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً:
32 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزِّنَى لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ، لِلنُّصُوصِ السَّابِقَةِ؛ وَلأَِنَّ الزِّنَى مِنْ أَغْلَظِ الْفَوَاحِشِ فَغُلِّظَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ لِيَكُونَ أَسْتَرَ، وَقَدْ نَقَل ابْنُ قُدَامَةَ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَمُلُوا أَرْبَعَةً حُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكْمُلُوا فَهُمْ قَذَفَةٌ، وَعَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (1) وَلأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّ الثَّلاَثَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَى. وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ، وَلِئَلاَّ يَتَّخِذَ صُورَةَ الشَّهَادَةِ ذَرِيعَةً إِلَى الْوَقِيعَةِ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ.
وَعِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ لاَ يُجْلَدُ الشُّهُودُ إِذَا نَقَصَ عَدَدُهُمْ عَنْ أَرْبَعَةٍ؛ لأَِنَّهُمْ جَاءُوا شَاهِدِينَ لاَ هَاتِكِينَ. (2)
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ:
33 - اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى أَنْ تَكُونَ فِي
__________
(1) سورة النور / 4.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 142، والفتاوى الهندية 2 / 151، المطبعة الأميرية 1310 هـ، حاشية الدسوقي 4 / 319، 385، مغني المحتاج 4 / 149، 156، كشاف القناع 6 / 101، المغني 8 / 198 - 201.(24/38)
مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ شَهِدَ بَعْضُ الأَْرْبَعَةِ فِي مَجْلِسٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ، وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ. كَمَا اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَأْتِيَ الشُّهُودُ مُجْتَمِعِينَ إِلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعُوا خَارِجَ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ، أَمَّا لَوْ كَانُوا قُعُودًا فِي مَوْضِعِ الشُّهُودِ فَقَامَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ وَشَهِدَ، فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ بَعْدَ إِتْيَانِهِمْ مَحَل الْحَاكِمِ جَمِيعًا فَإِنَّهُمْ يُفَرَّقُونَ وُجُوبًا لِيَسْأَل كُل وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا أَوْ بَعْضُهُمْ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَحُدُّوا.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَابِلَةُ إِتْيَانَهُمْ مُجْتَمِعِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَأْتُوا مُتَفَرِّقِينَ لِقِصَّةِ الْمُغِيرَةِ، فَإِنَّهُمْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ، وَسُمِعَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنَّمَا حُدُّوا لِعَدَمِ كَمَالِهَا. عَلَى أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ جَاءَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ أَنْ قَامَ الْحَاكِمُ مِنْ مَجْلِسِهِ فَهُمْ قَذَفَةٌ؛ لأَِنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَلاَ صَحِيحَةٌ، وَعَلَيْهِمُ الْحَدُّ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ فَيَسْتَوِي عِنْدَهُمْ أَنْ يَأْتِيَ الشُّهُودُ مُتَفَرِّقِينَ أَوْ مُجْتَمِعِينَ، وَأَنْ تُؤَدَّى الشَّهَادَةُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مَجْلِسٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ(24/38)
شُهَدَاءَ} (1) . وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَجْلِسَ. وَقَال تَعَالَى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} . (2) وَلأَِنَّ كُل شَهَادَةٍ مَقْبُولَةٌ إِنِ اتَّفَقَتْ، تُقْبَل إِذَا افْتَرَقَتْ فِي مَجَالِسَ، كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ. (3)
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: تَفْصِيل الشَّهَادَةِ:
34 - يُشْتَرَطُ فِي شَهَادَةِ الزِّنَى التَّفْصِيل، فَيَصِفُ الشُّهُودُ كَيْفِيَّةَ الزِّنَى، فَيَقُولُونَ: رَأَيْنَاهُ مُغَيِّبًا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا، أَوْ غَيَّبَ حَشَفَتَهُ أَوْ قَدْرَهَا - إِنْ كَانَ مَقْطُوعَهَا - فِي فَرْجِهَا كَالْمِيل فِي الْمُكْحُلَةِ، أَوِ الرِّشَاءِ فِي الْبِئْرِ، لأَِنَّهُ إِذَا اعْتَبَرَ التَّصْرِيحَ فِي الإِْقْرَارِ كَانَ اعْتِبَارُهُ فِي الشَّهَادَةِ أَوْلَى؛ وَلأَِنَّهُ قَدْ يَعْتَقِدُ الشَّاهِدُ مَا لَيْسَ بِزِنًى زِنًى، فَاعْتُبِرَ ذِكْرُ صِفَتِهِ. كَمَا يُبَيِّنُ الشُّهُودُ كَيْفِيَّتَهُمَا مِنَ اضْطِجَاعٍ أَوْ جُلُوسٍ أَوْ قِيَامٍ، أَوْ هُوَ فَوْقَهَا أَوْ تَحْتَهَا.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا سَأَلَهُمُ الْقَاضِي فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّهُمَا زَنَيَا، فَإِنَّهُ لاَ يَحُدُّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ وَلاَ الشُّهُودَ. وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - لاَ بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ
__________
(1) سورة النور / 13.
(2) سورة النساء / 15.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 142، الفتاوى الهندية 2 / 152 المطبعة الأميرية 1310 هـ، حاشية الدسوقي 4 / 185، القليوبي وعميرة 4 / 324 ط عيسى البابي الحلبي، مغني المحتاج 4 / 149، كشاف القناع 6 / 100، المغني 8 / 200.(24/39)
الْمَرْأَةِ، فَلَوْ شَهِدُوا بِأَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لاَ يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ؛ لاِحْتِمَال أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ، بَل هُوَ الظَّاهِرُ.
كَمَا لاَ بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْبَلَدِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَكَذَا تَعْيِينُ الْمَكَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، كَكَوْنِهَا فِي رُكْنِ الْبَيْتِ الشَّرْقِيِّ أَوِ الْغَرْبِيِّ، أَوْ وَسَطِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمَكَانِ فِي الْبَيْتِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الشُّهُودُ فِيهِ حُدَّ الرَّجُل وَالْمَرْأَةُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْحَدُّ لاِخْتِلاَفِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً وَهُوَ قَوْل زُفَرَ، وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْل فِي زَاوِيَةٍ وَالاِنْتِهَاءُ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى بِالاِضْطِرَابِ، أَوْ لأَِنَّ الْوَاقِعَ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ فَيَحْسِبُهُ مَنْ فِي الْمُقَدَّمِ فِي الْمُقَدَّمِ، وَمَنْ فِي الْمُؤَخَّرِ فِي الْمُؤَخَّرِ فَيَشْهَدُ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ، وَهَذَا فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ، أَمَّا فِي الْبَيْتِ الْكَبِيرِ فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ.
وَلاَ بُدَّ أَيْضًا مِنْ تَعْيِينِ الزَّمَانِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، لِتَكُونَ الشَّهَادَةُ مِنْهُمْ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَا شَهِدَ بِهِ أَحَدُهُمْ غَيْرَ مَا شَهِدَ بِهِ الآْخَرُ. فَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَى فَشَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ زَنَى بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا يَوْمَ السَّبْتِ فَإِنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. وَكَذَا لاَ تُقْبَل الشَّهَادَةُ فِيمَا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ(24/39)
أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي سَاعَةٍ أُخْرَى. (1)
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَصَالَةُ الشَّهَادَةِ:
35 - اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي شُهُودِ الزِّنَى الأَْصَالَةَ، فَلاَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَى؛ لأَِنَّ الْحُدُودَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السِّتْرِ وَالدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيهَا شُبْهَةٌ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا اجْتِمَاعُ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ وَالْكَذِبِ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ مَعَ احْتِمَال ذَلِكَ فِي شُهُودِ الأَْصْل، وَهَذَا احْتِمَالٌ زَائِدٌ لاَ يُوجَدُ فِي شُهُودِ الأَْصْل، وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ إِنَّمَا تُقْبَل لِلْحَاجَةِ، وَلاَ حَاجَةَ إِلَيْهَا فِي الْحَدِّ، لأَِنَّ سِتْرَ صَاحِبِهِ أَوْلَى مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ فَتَجُوزُ عِنْدَهُمُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَى بِشَرْطِ أَنْ يَنْقُل عَنْ كُل شَاهِدٍ أَصِيلٍ شَاهِدَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُل الشَّاهِدَانِ عَنْ شَاهِدٍ وَاحِدٍ أَوْ عَنْ شَاهِدَيْنِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 143 دار إحياء التراث العربي، شرح فتح القدير 5 / 61 وما بعدها دار إحياء التراث العربي، الفتاوى الهندية 2 / 152 المطبعة الأميرية 1310هـ، وحاشية الدسوقي 4 / 185 دار الفكر، مغني المحتاج 4 / 149 دار إحياء التراث العربي، نهاية المحتاج 7 / 429 ط. مصطفى البابي الحلبي 1967 م، وكشاف القناع 6 / 101، 410، عالم الكتب 1983 م، والمغني 8 / 199 ط الرياض.(24/40)
وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدَيْنِ النَّاقِلَيْنِ أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدُهُمَا شَاهِدًا أَصِيلاً، فَيَجُوزُ فِي الزِّنَى أَنْ يَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ، أَوْ يَشْهَدَ كُل اثْنَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ، أَوْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ، أَوْ يَشْهَدَ ثَلاَثَةٌ عَلَى ثَلاَثَةٍ، وَيَشْهَدَ اثْنَانِ عَلَى شَهَادَةِ الرَّابِعِ، وَإِذَا نَقَل اثْنَانِ عَنْ ثَلاَثَةٍ وَعَنِ الرَّابِعِ اثْنَانِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَشْهُورِ خِلاَفًا لاِبْنِ الْمَاجِشُونِ؛ وَوَجْهُ عَدَمِ صِحَّتِهَا أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الْفَرْعُ إِلاَّ حَيْثُ تَصِحُّ شَهَادَةُ الأَْصْل لَوْ حَضَرَ، وَالرَّابِعُ الَّذِي نَقَل عَنْهُ الاِثْنَانِ الآْخَرَانِ لَوْ حَضَرَ مَا صَحَّتْ شَهَادَتُهُ مَعَ الاِثْنَيْنِ النَّاقِلَيْنِ عَنِ الثَّلاَثَةِ لِنَقْصِ الْعَدَدِ، قَال الدُّسُوقِيُّ: وَيُحْتَمَل أَنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ؛ لأَِنَّ عَدَدَ الْفَرْعِ فِيهَا نَاقِصٌ عَنْ عَدَدِ الأَْصْل حَيْثُ نَقَل عَنِ الثَّلاَثَةِ اثْنَانِ فَقَطْ، وَالْفَرْعُ لاَ يَنْقُصُ عَنِ الأَْصْل لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ وَنِيَابَتِهِ مَنَابَهُ. كَمَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّلْفِيقُ بَيْنَ شُهُودِ الأَْصْل وَالْفَرْعِ، كَأَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ عَلَى رُؤْيَةِ الزِّنَى، وَيَنْقُل اثْنَانِ عَنْ كُل وَاحِدٍ مِنَ الاِثْنَيْنِ الآْخَرَيْنِ (1) .
شَهَادَةُ الزَّوْجِ عَلَى الزِّنَى:
36 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) شرح فتح القدير 5 / 68 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 4 / 205 دار الفكر، مغني المحتاج 4 / 453 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 6 / 438 عالم الكتب 1983 م.(24/40)
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ قَبُول شَهَادَةِ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالزِّنَى لِلتُّهْمَةِ، إِذْ أَنَّهُ بِشَهَادَتِهِ عَلَيْهَا مُقِرٌّ بِعَدَاوَتِهِ؛ وَلأَِنَّهَا دَعْوَى خِيَانَتِهَا فِرَاشَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى قَبُول شَهَادَةِ الزَّوْجِ؛ لأَِنَّ التُّهْمَةَ مَا تُوجِبُ جَرَّ نَفْعٍ، وَالزَّوْجُ مُدْخِلٌ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ لُحُوقَ الْعَارِ وَخُلُوَّ الْفِرَاشِ، خُصُوصًا إِذَا كَانَ لَهُ مِنْهَا أَوْلاَدٌ صِغَارٌ. (1)
وَانْظُرِ الشَّهَادَةَ بِالزِّنَى الْقَدِيمِ، فِي مُصْطَلَحِ (حُدُودٍ ف 24) الْمَوْسُوعَةُ 17 / 137.
وَأَمَّا بَقِيَّةُ مَسَائِل الشَّهَادَةِ كَرُجُوعِ الشُّهُودِ، وَظُهُورِ عَدَمِ أَهْلِيَّةِ الشُّهُودِ، وَاخْتِلاَفِ الشُّهُودِ فِي الشَّهَادَةِ، وَتَعَارُضِ الشَّهَادَاتِ، وَأَثَرِ تَعَهُّدِ النَّظَرِ فِي قَبُول الشَّهَادَةِ، فَتَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٍ) .
ب - الإِْقْرَارُ:
37 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الزِّنَى بِالإِْقْرَارِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ بِإِقْرَارَيْهِمَا (2) . وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الإِْقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلاَ يُكْتَفَى
__________
(1) شرح فتح القدير 5 / 5 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 4 / 168 دار الفكر، روضة الطالبين 11 / 237 المكتب الإسلامي 1975 م، كشاف القناع 6 / 101 عالم الكتب 1983 م.
(2) حديث: " رجم ماعز والغامدية بإقراريهما ". أخرجه مسلم (3 / 1321 - 1322 - ط الحلبي) .(24/41)
بِالإِْقْرَارِ مُرَّةً وَاحِدَةً، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ اشْتِرَاطَ كَوْنِهَا فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ مِنْ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ دُونَ مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَذَلِكَ بِأَنْ يَرُدَّهُ الْقَاضِي كُلَّمَا أَقَرَّ فَيَذْهَبَ حَيْثُ لاَ يَرَاهُ ثُمَّ يَجِيءَ فَيُقِرَّ، وَيَسْتَوِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ تَكُونَ الأَْقَارِيرُ الأَْرْبَعَةُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى الاِكْتِفَاءِ بِالإِْقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكْتَفَى مِنَ الْغَامِدِيَّةِ بِإِقْرَارِهَا مُرَّةً وَاحِدَةً.
وَيُشْتَرَطُ فِي الإِْقْرَارِ أَنْ يَكُونَ مُفَصِّلاً مُبَيِّنًا لِحَقِيقَةِ الْوَطْءِ لِتَزُول التُّهْمَةُ وَالشُّبْهَةُ. (1) وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَاعِزٍ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ؟ قَال: لاَ يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: أَنِكْتَهَا؟ لاَ يُكَنِّي فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَال: حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا؟ قَال: نَعَمْ، قَال: كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ؟ قَال: نَعَمْ. قَال: فَهَل تَدْرِي مَا الزِّنَى؟ قَال: نَعَمْ أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مَا يَأْتِي الرَّجُل مِنَ امْرَأَتِهِ حَلاَلاً. (2)
__________
(1) شرح فتح القدير 5 / 4،8 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 4 / 318 دار الفكر، مغني المحتاج 4 / 150 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 6 / 98 عالم الكتب 1983 م، المغني لابن قدامة 8 / 191، 193 الرياض.
(2) حديث: " استجواب ماعز. . . " أخرج الرواية الأولى البخاري (الفتح 12 / 135 - ط السلفية) وأخرج الأخرى أبو داود (4 / 580 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .(24/41)
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حُدُودٍ) ف 26 الْمَوْسُوعَةُ 17 / 138، وَمُصْطَلَحَ: (إِقْرَارٍ) ف 12 وَمَا بَعْدَهَا، 6 / 49، وَانْظُرْ أَيْضًا الشُّبْهَةَ بِتَقَادُمِ الإِْقْرَارِ، وَالرُّجُوعَ فِي الإِْقْرَارِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِقْرَارٍ) ف 57 وَمَا بَعْدَهَا الْمَوْسُوعَةُ 6 / 71
الْبَيِّنَةُ عَلَى الإِْقْرَارِ:
38 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِالْبَيِّنَةِ - الشَّهَادَةِ - عَلَى الإِْقْرَارِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الإِْقْرَارِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل الشَّهَادَةُ عَلَى الإِْقْرَارِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى إِقْرَارِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَلاَ يُحَدُّ، مِثْل الرُّجُوعِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالزِّنَى أَرْبَعًا، يَثْبُتُ الزِّنَى لِوُجُودِ الإِْقْرَارِ بِهِ أَرْبَعًا، وَلاَ يَثْبُتُ الإِْقْرَارُ بِالزِّنَى بِدُونِ أَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى الإِْقْرَارِ بِهِ مِنَ الرِّجَال. فَإِنْ أَنْكَرَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الإِْقْرَارَ، أَوْ صَدَّقَهُمْ دُونَ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، لأَِنَّ إِنْكَارَهُ وَتَصْدِيقَهُ دُونَ أَرْبَعٍ رُجُوعٌ عَنْ إِقْرَارِهِ، وَهُوَ مَقْبُولٌ مِنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِالشَّهَادَةِ عَلَى إِقْرَارِهِ. قَالُوا: لَوْ شَهِدُوا عَلَى إِقْرَارِهِ بِالزِّنَى فَقَال: مَا أَقْرَرْتُ، أَوْ قَال بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِإِقْرَارِهِ: مَا أَقْرَرْتُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ(24/42)
لاَ يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِهِ؛ لأَِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِلشُّهُودِ وَالْقَاضِي (1) .
ج - الْقَرَائِنُ:
39 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِعِلْمِ الإِْمَامِ وَالْقَاضِي، فَلاَ يُقِيمَانِهِ بِعِلْمِهِمَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِلَى ثُبُوتِهِ بِعِلْمِهِ. وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٍ) ف 28 الْمَوْسُوعَةُ 17 / 139
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِظُهُورِ الْحَمْل وَاللِّعَانِ وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:
1 - ظُهُورُ الْحَمْل:
40 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِظُهُورِ الْحَمْل فِي امْرَأَةٍ لاَ زَوْجَ لَهَا وَأَنْكَرَتِ الزِّنَى؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ إِكْرَاهٍ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ إِلَى عُمَرَ لَيْسَ لَهَا زَوْجٌ وَقَدْ حَمَلَتْ، وَسَأَلَهَا عُمَرُ،
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 143 المطبعة الأميرية 1310هـ، وحاشية الدسوقي 4 / 318 دار الفكر، وروضة الطالبين 10 / 96 المكتب الإسلامي، كشاف القناع 6 / 99 عالم الكتب.(24/42)
فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةُ الرَّأْسِ وَقَعَ عَلَيَّ رَجُلٌ وَأَنَا نَائِمَةٌ، فَمَا اسْتَيْقَظْتُ حَتَّى نَزَعَ فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالاَ: إِذَا كَانَ فِي الْحَدِّ " لَعَل " " وَعَسَى " فَهُوَ مُعَطَّلٌ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا تُسْأَل، وَلاَ يَجِبُ سُؤَالُهَا. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى ثُبُوتِ حَدِّ الزِّنَى بِظُهُورِ حَمْل امْرَأَةٍ لاَ زَوْجَ لَهَا، فَتُحَدُّ وَلاَ يُقْبَل دَعْوَاهَا الْغَصْبَ عَلَى ذَلِكَ بِلاَ قَرِينَةٍ تَشْهَدُ لَهَا بِذَلِكَ، أَمَّا مَعَ قَرِينَةٍ تُصَدِّقُهَا فَتُقْبَل دَعْوَاهَا وَلاَ تُحَدُّ، كَأَنْ تَأْتِيَ مُسْتَغِيثَةً مِنْهُ، أَوْ تَأْتِيَ الْبِكْرُ تَدَّعِي عَقِبَ الْوَطْءِ، وَكَذَا لاَ تُقْبَل دَعْوَاهَا أَنَّ هَذَا الْحَمْل مِنْ مَنِيٍّ شَرِبَهُ فَرْجُهَا فِي الْحَمَّامِ، وَلاَ مِنْ وَطْءِ جِنِّيٍّ إِلاَّ لِقَرِينَةٍ مِثْل كَوْنِهَا عَذْرَاءَ وَهِيَ مِنْ أَهْل الْعِفَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالزَّوْجِ زَوْجٌ يُلْحَقُ بِهِ الْحَمْل فَيَخْرُجُ الْمَجْبُوبُ وَالصَّغِيرُ، أَوْ أَتَتْ بِهِ كَامِلاً لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْعَقْدِ فَتُحَدُّ. وَمِثْل الْمَرْأَةِ الَّتِي لاَ زَوْجَ لَهَا الأَْمَةُ الَّتِي أَنْكَرَ سَيِّدُهَا وَطْأَهَا فَتُحَدُّ (1) .
2 - اللِّعَانُ:
41 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى ثُبُوتِ حَدِّ
__________
(1) شرح فتح القدير 5 / 4 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 4 / 319 دار الفكر، شرح روض الطالب 4 / 130 المكتبة الإسلامية، مطالب أولي النهى 6 / 193 المكتب الإسلامي 1961 م، المغني لابن قدامة 8 / 210 مكتبة الرياض.(24/43)
الزِّنَى بِاللِّعَانِ إِذَا لاَعَنَ الزَّوْجُ وَامْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ عَنْهُ، فَيَثْبُتُ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَى حِينَئِذٍ وَتُحَدُّ، أَمَّا إِذَا لاَعَنَتْ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا امْتَنَعَتْ عَنِ اللِّعَانِ لاَ حَدَّ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّ زِنَاهَا لَمْ يَثْبُتْ؛ وَلأَِنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَيَحْبِسُهَا الْحَاكِمُ حَتَّى تُلاَعِنَ أَوْ تُصَدِّقَهُ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (لِعَانٍ) .
إِقَامَةُ حَدِّ الزِّنَى:
1 - مَنْ يُقِيمُ حَدَّ الزِّنَى:
42 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقِيمُ حَدَّ الزِّنَى عَلَى الْحُرِّ إِلاَّ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٍ) ف 36 الْمَوْسُوعَةُ 17 / 144
2 - عَلاَنِيَةُ الْحَدِّ:
43 - اسْتَحَبَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يُسْتَوْفَى حَدُّ الزِّنَى بِحُضُورِ جَمَاعَةٍ. قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: أَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحُدُودِ الزَّجْرُ، وَذَلِكَ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِالْحُضُورِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 516 المطبعة الأميرية 1310هـ، وحاشية الدسوقي 2 / 466 دار الفكر، والقوانين الفقهية 270 دار العلم للملايين 1979 م، ونهاية المحتاج 7 / 123 مصطفى البابي الحلبي، وكشاف القناع 5 / 400 عالم الكتب 1983 م.(24/43)
وَأَوْجَبَ الْحَنَابِلَةُ حُضُورَ طَائِفَةٍ لِيَشْهَدُوا حَدَّ الزِّنَى (1) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) .
3 - كَيْفِيَّةُ إِقَامِهِ الْحَدِّ:
44 - سَبَقَ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْجَلْدِ وَالأَْعْضَاءِ الَّتِي لاَ تُجْلَدُ، وَبَيَانُ إِذَا كَانَ الْمَحْدُودُ مَرِيضًا لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ أَوْ ضَعِيفًا لاَ يَحْتَمِل الْجَلْدَ (3) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (جَلْدٍ) ف 12 الْمَوْسُوعَةُ الْفِقْهِيَّةُ 15 / 247
كَمَا أَنَّ تَفْصِيل كَيْفِيَّةِ الرَّجْمِ فِي مُصْطَلَحِ: (رَجْمٍ) ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنْ تَكُونَ الْحِجَارَةُ فِي الرَّجْمِ مُتَوَسِّطَةً كَالْكَفِّ - تَمْلأَُ الْكَفَّ - فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُرْجَمَ بِصَخَرَاتٍ تُذَفِّفُهُ (أَيْ تُجْهِزُ عَلَيْهِ فَوْرًا) فَيَفُوتُ التَّنْكِيل الْمَقْصُودُ، وَلاَ بِحَصَيَاتٍ خَفِيفَةٍ لِئَلاَّ يَطُول تَعْذِيبُهُ، قَال
__________
(1)) بدائع الصنائع 7 / 60، 61 دار الكتاب العربي 1982 م الفتاوى الهندية 2 / 146 المطبعة الأميرية 1310هـ، ومواهب الجليل 6 / 297 دار الفكر، والقوانين الفقهية 385 دار العلم للملايين 1979 م، وروضة الطالبين 10 / 99 المكتب الإسلامي، وشرح روض الطالب 4 / 133 المكتبة الإسلامية، وكشاف القناع 6 / 84 عالم الكتب 1983 م، والمغني 8 / 170 مكتبة الرياض.
(2)) سورة النور / 2.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 148 دار إحياء التراث العربي، والفتاوى الهندية 3 / 147 المطبعة الأميرية 1310 هـ، ومغني المحتاج 4 / 154 دار إحياء التراث العربي، وكشاف القناع 6 / 82 عالم الكتب 1983 م.(24/44)
الْمَالِكِيَّةُ: وَيَخُصُّ بِالرَّجْمِ الْمَوَاضِعَ الَّتِي هِيَ مَقَاتِل مِنَ الظَّهْرِ وَغَيْرِهِ مِنَ السُّرَّةِ إِلَى مَا فَوْقُ، وَيُتَّقَى الْوَجْهُ وَالْفَرْجُ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنْ يَتَّقِيَ الرَّاجِمُ الْوَجْهَ لِشَرَفِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِكَيْفِيَّةِ وُقُوفِ الرَّاجِمِينَ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يُصَفُّوا عِنْدَ الرَّجْمِ كَصُفُوفِ الصَّلاَةِ، كُلَّمَا رَجَمَ قَوْمٌ تَأَخَّرُوا وَتَقَدَّمَ غَيْرُهُمْ فَرَجَمُوا. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ أَنْ يَدُورَ النَّاسُ حَوْل الْمَرْجُومِ مِنْ كُل جَانِبٍ كَالدَّائِرَةِ إِنْ كَانَ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَاجَةَ إِلَى تَمْكِينِهِ مِنَ الْهَرَبِ، وَلاَ يُسَنُّ ذَلِكَ إِنْ كَانَ زِنَاهُ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ لاِحْتِمَال أَنْ يَهْرُبَ فَيُتْرَكَ وَلاَ يُتَمَّمُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُحِيطُ النَّاسُ بِهِ (1) .
مُسْقِطَاتُ حَدِّ الزِّنَى:
45 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي سُقُوطِ حَدِّ الزِّنَى بِالشُّبْهَةِ، إِذِ الْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ (2) . وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَلَى الشُّبْهَةِ ف 14
__________
(1)) الفتاوى الهندية 2 / 146 المطبعة الأميرية 1310 هـ حاشية الدسوقي 4 / 320 دار الفكر، القوانين الفقهية 385 دار العلم للملايين 1979 م، روضة الطالبين 10 / 99 المكتب الإسلامي، مغني المحتاج 4 / 153 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 6 / 84، 90 عالم الكتب 1983 م.
(2) الحديث تقدم تخريجه فقرة (14) .(24/44)
كَمَا أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي سُقُوطِ حَدِّ الزِّنَى بِالرُّجُوعِ عَنِ الإِْقْرَارِ إِذَا كَانَ ثُبُوتُهُ بِالإِْقْرَارِ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٍ ف 14) الْمَوْسُوعَةُ 17 / 134
كَمَا يَسْقُطُ حَدُّ الزِّنَى بِرُجُوعِ الشُّهُودِ الأَْرْبَعَةِ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٍ) .
46 - وَيَسْقُطُ حَدُّ الزِّنَى أَيْضًا بِتَكْذِيبِ أَحَدِ الزَّانِيَيْنِ لِلآْخَرِ لِلْمُقِرِّ بِالزِّنَى مِنْهُمَا، فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْمُكَذِّبِ فَقَطْ دُونَ الْمُقِرِّ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ مُؤَاخَذَةً بِإِقْرَارِهِ.
وَلَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَى بِامْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَكَذَّبَتْهُ لَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ عَنِ الْمُقِرِّ مُؤَاخَذَةً لَهُ بِإِقْرَارِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا الْحَدُّ أَيْضًا لَوْ سَكَتَتْ، أَوْ لَمْ تُسْأَل عَنْ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الْحَدِّ عَنِ الْمُقِرِّ أَيْضًا، لاِنْتِفَاءِ الْحَدِّ عَنِ الْمُنْكِرِ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلنَّفْيِ عَنْهُ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، لأَِنَّ الزِّنَى فِعْلٌ وَاحِدٌ يَتِمُّ بِهِمَا. فَإِذَا تَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ تَعَدَّتْ إِلَى طَرَفَيْهِ لأَِنَّهُ مَا أُطْلِقَ، بَل أَقَرَّ بِالزِّنَى بِمَنْ دَرَأَ الشَّرْعُ الْحَدَّ عَنْهُ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ أَطْلَقَ وَقَال: زَنَيْتُ، فَإِنَّهُ لاَ مُوجِبَ شَرْعًا يَدْفَعُهُ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 157 دار إحياء التراث العربي، وشرح روض الطالب 4 / 132 المكتبة الإسلامية، وكشاف القناع 6 / 99 عالم الكتب 1983 م.(24/45)
وَبَقَاءُ الْبَكَارَةِ مُسْقِطٌ لِحَدِّ الزِّنَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَإِذَا شَهِدُوا عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَى فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا عَذْرَاءُ لَمْ تُحَدَّ بِشُبْهَةِ بَقَاءِ الْبَكَارَةِ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، حَيْثُ إِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهَا أَنَّهَا لَمْ تُوطَأْ، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ تَكْفِي شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ بِعُذْرَتِهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ أَوْ رَجُلاَنِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ (1) .
47 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوِ ادَّعَى أَحَدُ الزَّانِيَيْنِ الزَّوْجِيَّةَ، كَأَنْ يُقِرَّ الرَّجُل أَنَّهُ زَنَى بِفُلاَنَةَ حَتَّى كَانَ إِقْرَارُهُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَقَالَتْ هِيَ: بَل تَزَوَّجَنِي، أَوْ أَقَرَّتْ هِيَ كَذَلِكَ بِالزِّنَى مَعَ فُلاَنٍ، وَقَال الرَّجُل: بَل تَزَوَّجْتُهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لأَِنَّ دَعْوَى النِّكَاحِ تَحْتَمِل الصِّدْقَ وَهُوَ يَقُومُ بِالطَّرَفَيْنِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً. ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ تَعْظِيمًا لِخَطَرِ الْبُضْعِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْبَيِّنَةِ حِينَئِذٍ عَلَى النِّكَاحِ. فَلَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ: زَنَيْتُ مَعَ هَذَا الرَّجُل، فَأَقَرَّ بِوَطْئِهَا وَادَّعَى أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَكَذَّبَتْهُ وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ، أَمَّا حَدُّهَا فَظَاهِرٌ لإِِقْرَارِهَا بِالزِّنَى، وَأَمَّا حَدُّهُ فَإِنَّهَا لَمْ تُوَافِقْهُ عَلَى النِّكَاحِ وَالأَْصْل عَدَمُ السَّبَبِ الْمُبِيحِ. قَال
__________
(1)) شرح فتح القدير 5 / 65 دار إحياء التراث العربي، وحاشية الدسوقي 4 / 319 دار الفكر، ومغني المحتاج 4 / 151 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 6 / 101 عالم الكتب 1983 م.(24/45)
الدُّسُوقِيُّ: وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَا طَارِئَيْنِ وَلَوْ حَصَل فُشُوٌّ، وَمِثْلُهُ فِيمَا لَوِ ادَّعَى الرَّجُل وَطْءَ امْرَأَةٍ وَأَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ وَوَلِيُّهَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، وَلَمَّا طُلِبَتْ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ قَالاَ: عَقَدْنَا النِّكَاحَ وَلَمْ نُشْهِدْ وَنَحْنُ نُشْهِدُ الآْنَ - وَالْحَال أَنَّهُ لَمْ يَحْصُل فُشُوٌّ يَقُومُ مَقَامَ الإِْشْهَادِ - فَإِنَّ الزَّوْجَيْنِ يُحَدَّانِ لِدُخُولِهِمَا بِلاَ إِشْهَادٍ.
وَكَذَا لَوْ وُجِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فِي بَيْتٍ أَوْ طَرِيقٍ - وَالْحَال أَنَّهُمَا غَيْرُ طَارِئَيْنِ - وَأَقَرَّا بِالْوَطْءِ وَادَّعَيَا النِّكَاحَ وَالإِْشْهَادَ عَلَيْهِ، لَكِنْ لاَ بَيِّنَةَ لَهُمَا بِذَلِكَ وَلاَ فُشُوَّ يَقُومُ مَقَامَهَا، فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ السَّبَبِ الْمُبِيحِ لِلْوَطْءِ، فَإِنْ حَصَل فُشُوٌّ أَوْ كَانَا طَارِئَيْنِ، قُبِل قَوْلُهُمَا وَلاَ حَدَّ عَلَيْهِمَا؛ لأَِنَّهُمَا لَمْ يَدَّعِيَا شَيْئًا مُخَالِفًا لِلْعُرْفِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى عَلَى الْمُقِرِّ فَقَطْ دُونَ مَنِ ادَّعَى الزَّوْجِيَّةَ فَلاَ يُحَدُّ؛ لأَِنَّ دَعْوَاهُ ذَلِكَ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْهُ؛ وَلاِحْتِمَال صِدْقِهِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَرْفُوعًا ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الإِْمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ (1) فَإِذَا أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ زَنَى
__________
(1)) حديث عائشة: " ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم " أخرجه الترمذي (4 / 33 - الحلبي) وضعفه ابن حجر في التلخيص الحبير (4 / 56 - ط شركة الطباعة الفنية) .(24/46)
بِهَا مُطَاوَعَةً عَالِمَةً بِتَحْرِيمِهِ حُدَّتْ وَحْدَهَا، وَلاَ مَهْرَ لَهَا مُؤَاخَذَةً لَهَا بِإِقْرَارِهَا.
وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيَّةُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى الْمُقِرِّ أَيْضًا. فَلَوْ قَال: زَنَيْتُ بِفُلاَنَةَ، فَقَالَتْ: كَانَ تَزَوَّجَنِي، صَارَ مُقِرًّا بِالزِّنَى وَقَاذِفًا لَهَا، فَيَلْزَمُهُ حَدُّ الزِّنَى وَحَدُّ الْقَذْفِ (1) .
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ اعْتِرَاضَ مِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ مِلْكِ الْيَمِينِ مُسْقِطٌ لِحَدِّ الزِّنَى، بِأَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَوْ بِجَارِيَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا - وَهِيَ إِحْدَى ثَلاَثِ رِوَايَاتٍ عَنْهُ - وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ بُضْعَ الْمَرْأَةِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ فِي حَقِّ الاِسْتِمَاعِ، فَحَصَل الاِسْتِيفَاءُ مِنْ مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ فَيَصِيرُ شُبْهَةً، كَالسَّارِقِ إِذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ أَنَّهُ لاَ يَسْقُطُ الْحَدُّ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهِيَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْوَطْءَ حَصَل زِنًى مَحْضًا لِمُصَادَفَتِهِ مَحَلًّا غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ فَحَصَل مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَالْعَارِضُ وَهُوَ الْمِلْكُ لاَ يَصْلُحُ مُسْقِطًا لاِقْتِصَارِهِ عَلَى حَالَةِ ثُبُوتِهِ؛ لأَِنَّهُ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ
__________
(1) شرح فتح القدير 5 / 53، حاشية الدسوقي 4 / 324، شرح الزرقاني على مختصر خليل 8 / 85 دار الفكر 1978 م، ومواهب الجليل 6 / 297، دار الفكر 1978 م، وشرح روض الطالب 4 / 132 المكتبة الإسلامية، ومطالب أولي النهى 6 / 185 المكتب الإسلامي 1961 م، وكشاف القناع 6 / 99 عالم الكتب 1983 م.(24/46)
وَالشِّرَاءِ، وَكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وُجِدَ لِلْحَال، فَلاَ يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِهِ إِلَى وَقْتِ وُجُودِ الْوَطْءِ، فَبَقِيَ الْوَطْءُ خَالِيًا عَنِ الْمِلْكِ فَبَقِيَ زِنًى مَحْضًا لِلْحَدِّ، بِخِلاَفِ السَّارِقِ إِذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ لأَِنَّ هُنَاكَ وُجِدَ الْمُسْقِطُ وَهُوَ بُطْلاَنُ وِلاَيَةِ الْخُصُومَةِ؛ لأَِنَّ الْخُصُومَةَ هُنَاكَ شَرْطٌ، وَقَدْ خَرَجَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَصْمًا بِمِلْكِ الْمَسْرُوقِ، لِذَلِكَ افْتَرَقَا.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ أَنَّ اعْتِرَاضَ الشِّرَاءِ يُسْقِطُ وَاعْتِرَاضَ النِّكَاحِ لاَ يُسْقِطُ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْبُضْعَ لاَ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ، بِدَلِيل أَنَّهَا إِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْعُقْرُ لَهَا، وَالْعُقْرُ بَدَل الْبُضْعِ، وَالْبَدَل إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ كَانَ لَهُ الْمُبْدَل فَلَمْ يَحْصُل اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ مِنْ مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ فَلاَ يُورِثُ شُبْهَةً، وَبُضْعُ الأَْمَةِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى بِالشِّرَاءِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كَانَ الْعُقْرُ لِلْمَوْلَى فَحَصَل الاِسْتِيفَاءُ مِنْ مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ فَيُورِثُ شُبْهَةً، فَصَارَ كَالسَّارِقِ إِذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْل الإِْمْضَاءِ (1) .
48 - كَمَا يَسْقُطُ حَدُّ الزِّنَى فِي الرَّجْمِ خَاصَّةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَطْ بِمَوْتِ الشُّهُودِ أَوْ غَيْبَتِهِمْ أَوْ مَرَضِهِمْ
__________
(1)) بدائع الصنائع 7 / 62 دار الكتاب العربي 1982 م، وحاشية ابن عابدين 3 / 145، 156 دار إحياء التراث العربي.(24/47)
بَعْدَ الشَّهَادَةِ أَوْ قَطْعِ أَيْدِيهِمْ؛ لأَِنَّ الْبِدَايَةَ بِالشُّهُودِ شَرْطُ جَوَازِ الإِْقَامَةِ وَقَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ، فَسَقَطَ الْحَدُّ ضَرُورَةً (1) . وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٍ ف 38) الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ 17 / 145
زُنْبُورٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَةٌ، مِيَاهٌ، مَعْفُوَّاتٌ
زَنْدٌ
انْظُرْ: جِنَايَاتٌ، دِيَاتٌ
__________
(1)) بدائع الصنائع 7 / 62، دار الكتاب العربي 1982 م، حاشية ابن عابدين 3 / 145 دار إحياء التراث العربي.(24/47)
زَنْدَقَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الزَّنْدَقَةُ لُغَةً: الضِّيقُ، وَقِيل: الزِّنْدِيقُ مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي التَّهْذِيبِ: الزِّنْدِيقُ مَعْرُوفٌ، وَزَنْدَقَتُهُ أَنَّهُ لاَ يُؤْمِنُ بِالآْخِرَةِ وَوَحْدَانِيَّةِ الْخَالِقِ، وَقَدْ تَزَنْدَقَ، وَالاِسْمُ: الزَّنْدَقَةُ، قَال ثَعْلَبٌ: لَيْسَ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ زِنْدِيقٌ، وَإِنَّمَا تَقُول الْعَرَبُ: زَنْدَقٌ وَزَنْدَقِيٌّ إِذَا كَانَ شَدِيدَ الْبُخْل، فَإِذَا أَرَادَتِ الْعَرَبُ مَعْنَى مَا تَقُول الْعَامَّةُ قَالُوا: مُلْحِدٌ وَدَهْرِيٌّ (بِفَتْحِ الدَّال) ، فَإِذَا أَرَادُوا مَعْنَى السِّنِّ قَالُوا: دُهْرِيٌّ (بِضَمِّ الدَّال) (1) . وَالزَّنْدَقَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إِظْهَارُ الإِْسْلاَمِ وَإِبْطَانُ الْكُفْرِ، فَالزِّنْدِيقُ هُوَ مَنْ يُظْهِرُ الإِْسْلاَمَ وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ. قَال الدُّسُوقِيُّ: وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي الصَّدْرِ الأَْوَّل مُنَافِقًا، وَيُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ زِنْدِيقًا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ الزَّنْدَقَةُ: عَدَمُ التَّدَيُّنِ بِدِينٍ، أَوْ هِيَ الْقَوْل بِبَقَاءِ الدَّهْرِ وَاعْتِقَادُ
__________
(1)) لسان العرب والمصباح المنير وكشاف القناع 6 / 177.(24/48)
أَنَّ الأَْمْوَال وَالْحُرُمَ مُشْتَرَكَةٌ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرِّدَّةُ:
2 - الاِرْتِدَادُ فِي اللُّغَةِ: التَّحَوُّل وَالرُّجُوعُ، وَالاِسْمُ: الرِّدَّةُ.
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلرِّدَّةِ هُوَ رُجُوعُ الْمُسْلِمِ عَنْ دِينِهِ (2) .
وَبَيْنَ الرِّدَّةِ وَالزَّنْدَقَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ يَجْتَمِعَانِ فِي الْمُرْتَدِّ إِذَا أَخْفَى كُفْرَهُ وَأَظْهَرَ الإِْسْلاَمَ، وَيَنْفَرِدُ الْمُرْتَدُّ فِيمَنِ ارْتَدَّ عَلاَنِيَةً، وَيَنْفَرِدُ الزِّنْدِيقُ فِيمَنْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ إِسْلاَمٌ صَحِيحٌ.
ب - الإِْلْحَادُ:
3 - الإِْلْحَادُ لُغَةً: الْمَيْل. قَال ابْنُ السِّكِّيتِ: الْمُلْحِدُ الْعَادِل عَنِ الْحَقِّ الْمُدْخِل فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، يُقَال: أَلْحَدَ فِي الدِّينِ وَلَحَدَ أَيْ حَادَ عَنْهُ (3) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ: الْمُلْحِدُ مَنْ مَال عَنِ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ إِلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْكُفْرِ، مَنْ أَلْحَدَ فِي الدِّينِ أَيْ حَادَ وَعَدَل، لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الاِعْتِرَافُ بِنُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1)) ابن عابدين 3 / 292، 296، والدسوقي 4 / 306، والقليوبي 3 / 148، 4 / 177، وكشاف القناع 6 / 177.
(2) لسان العرب والمصباح المنير وابن عابدين 3 / 283، والدسوقي 4 / 301.
(3) لسان العرب والمصباح المنير.(24/48)
وَلاَ بِوُجُودِ الصَّانِعِ تَعَالَى، وَلاَ إِضْمَارِ الْكُفْرِ، فَالْمُلْحِدُ أَوْسَعُ فِرَقِ الْكُفْرِ فَهُوَ أَعَمُّ (1) .
ج - النِّفَاقُ:
4 - النِّفَاقُ: فِعْل الْمُنَافِقِ، وَالنِّفَاقُ: الدُّخُول فِي الإِْسْلاَمِ مِنْ وَجْهٍ وَالْخُرُوجُ عَنْهُ مِنْ آخَرَ، مُشْتَقٌّ مِنْ نَافِقَاءِ الْيَرْبُوعِ، وَقَدْ نَافَقَ مُنَافَقَةً وَنِفَاقًا، وَهُوَ اسْمٌ إِسْلاَمِيٌّ لَمْ تَعْرِفْهُ الْعَرَبُ بِالْمَعْنَى الْمَخْصُوصِ بِهِ وَهُوَ الَّذِي يَسْتُرُ كُفْرَهُ وَيُظْهِرُ إِيمَانَهُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مَعْرُوفًا (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الزِّنْدِيقِ وَالْمُنَافِقِ وَالدَّهْرِيِّ وَالْمُلْحِدِ مَعَ الاِشْتِرَاكِ فِي إِبْطَانِ الْكُفْرِ، أَنَّ الْمُنَافِقَ غَيْرُ مُعْتَرِفٍ بِنُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدَّهْرِيَّ كَذَلِكَ مَعَ إِنْكَارِ إِسْنَادِ الْحَوَادِثِ إِلَى الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْمُلْحِدَ وَهُوَ مَنْ مَال عَنِ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ إِلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْكُفْرِ، مَنْ أَلْحَدَ فِي الدِّينِ أَيْ حَادَ وَعَدَل لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الاِعْتِرَافُ بِنُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ بِوُجُودِ الصَّانِعِ تَعَالَى، وَبِهَذَا فَارَقَ أَيْضًا، كَمَا لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ إِضْمَارُ الْكُفْرِ وَبِهِ فَارَقَ الْمُنَافِقُ،
__________
(1) ابن عابدين 3 / 296.
(2) لسان العرب والمصباح المنير.
(3) الدسوقي 4 / 306.(24/49)
وَلاَ سَبَقَ الإِْسْلاَمَ، وَبِهِ فَارَقَ الدَّهْرِيُّ الْمُرْتَدُّ، فَالْمُلْحِدُ أَوْسَعُ فِرَقِ الْكُفْرِ حَدًّا أَيْ هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْكُل (1) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّنْدَقَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
الْحُكْمُ بِكُفْرِ مَنْ تَزَنْدَقَ:
5 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّنْدَقَةَ كُفْرٌ، فَمَنْ كَانَ مُسْلِمًا ثُمَّ تَزَنْدَقَ، بِأَنْ صَارَ يُبْطِنُ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الإِْسْلاَمَ، أَوْ صَارَ لاَ يَتَدَيَّنُ بِدِينٍ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ كَافِرًا، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي اسْتِتَابَتِهِ وَفِي قَبُول تَوْبَتِهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
يُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَنْ تَابَ قَبْل الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ وَالْعِلْمِ بِزَنْدَقَتِهِ، وَبَيْنَ مَنْ أُخِذَ قَبْل أَنْ يَتُوبَ، فَمَنْ كَانَ زِنْدِيقًا ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّهِ وَرَجَعَ عَنْ زَنْدَقَتِهِ، وَتَقَدَّمَ مُعْلِنًا تَوْبَتَهُ قَبْل أَنْ يُعْرَفَ ذَلِكَ عَنْهُ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَلاَ يُقْتَل، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ نَقْلاً عَنِ الْخَانِيَّةِ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى أَنَّ الزِّنْدِيقَ إِنْ أُخِذَ بَعْدَ أَنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ - وَبِهَذَا قَال أَبُو حَنِيفَةَ - وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُقْتَل وَلاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ.
وَإِنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ قَبْل أَنْ يَتُوبَ وَرُفِعَ إِلَى الْحَاكِمِ فَلاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ وَيُقْتَل، وَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِحَالِهِ إِمَّا بِاعْتِرَافِهِ أَوْ بِشَهَادَةِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَيْهِ، أَوْ يُسِرُّ هُوَ بِحَالِهِ إِلَى مَنْ أَمِنَ إِلَيْهِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 296.(24/49)
وَالْخِلاَفُ فِي قَبُول التَّوْبَةِ وَعَدَمِهَا إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الدُّنْيَا، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَتُقْبَل تَوْبَتُهُ بِلاَ خِلاَفٍ (1) .
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَنْ يَتُوبَ قَبْل الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَبُول تَوْبَتِهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَفْهُومُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الزِّنْدِيقَ إِذَا تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَلَمْ يُقْتَل، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الْخَلاَّل، وَقَال: إِنَّهُ أَوْلَى عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ.
وَيُرْوَى ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالدَّلِيل عَلَى قَبُول تَوْبَتِهِ وَعَدَمِ قَتْلِهِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف} (2) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِْسْلاَمِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ (3) .
__________
(1)) حاشية ابن عابدين 3 / 292، 293، 296، 297، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 306.
(2) سورة الأنفال / 38.
(3) حديث: " فإذا فعلوا ذلك عصموا مني. . . " شطر من حديث أوله " أمرت أن أقاتل الناس. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 75 ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 51، 52، 53 ط. عيسى الحلبي) ، عن ابن عمر واللفظ للبخاري.(24/50)
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلاً سَارَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَارَّ بِهِ حَتَّى جَهَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْل رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟ قَال: بَلَى وَلاَ شَهَادَةَ لَهُ، قَال: أَلَيْسَ يُصَلِّي؟ قَال: بَلَى وَلاَ صَلاَةَ لَهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ (1) كَمَا يَدُل عَلَى قَبُول تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَْسْفَل مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} (2) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ تُقْبَل تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ مُطْلَقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (3) وَلأَِنَّ التَّوْبَةَ عِنْدَ الْخَوْفِ عَيْنُ الزَّنْدَقَةِ، وَلأَِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مِنْهُ عَلاَمَةٌ تُبَيِّنُ رُجُوعَهُ وَتَوْبَتَهُ لأَِنَّهُ كَانَ مُظْهِرًا لِلإِْسْلاَمِ مُسِرًّا لِلْكُفْرِ، فَإِذَا وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ فَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ قَبْلَهَا وَهُوَ إِظْهَارُ الإِْسْلاَمِ (4) .
__________
(1) حديث: " أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم ". أخرجه أحمد (5 / 433 ط الميمنية) والبيهقي (3 / 367 ط دار المعارف الإسلامية) عن عبد الله بن عدي، واللفظ له، وابن حبان (7 / 584 ط. دار الكتب العلمية) وصححه.
(2) سورة النساء / 145، 146.
(3) سورة البقرة / 160.
(4) أسنى المطالب 4 / 122، ونهاية المحتاج 7 / 398 - 399، والمغني 8 / 126 - 127، وكشاف القناع 6 / 177.(24/50)
مَال مَنْ تَزَنْدَقَ وَمَنْ يَرِثُهُ:
6 - مِلْكُ الزِّنْدِيقِ يَزُول عَنْ مَالِهِ زَوَالاً مَوْقُوفًا، فَإِنْ مَاتَ قَبْل الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ ثُمَّ عُرِفَ ذَلِكَ عَنْهُ أَوْ بَعْدَ أَنْ جَاءَ تَائِبًا، أَوْ قُتِل بَعْدَ الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ وَبَعْدَ تَوْبَتِهِ لِعَدَمِ قَبُولِهَا مِنْهُ (عِنْدَ مَنْ يَقُول بِذَلِكَ) ، فَمَالُهُ لِوَارِثِهِ، وَإِنْ عُرِفَ أَمْرُهُ فَلَمْ يَتُبْ وَلَمْ يُنْكِرْ مَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ حَتَّى قُتِل أَوْ مَاتَ، فَمَالُهُ لِبَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ (إِرْثٌ، رِدَّةٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 300، والدسوقي 4 / 306، وكشاف القناع 6 / 182.(24/51)
زُنَّارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الزُّنَّارُ وَالزُّنَّارَةُ فِي اللُّغَةِ مَا يَشُدُّهُ الْمَجُوسِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ عَلَى وَسَطِهِ (1) .
وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ، فَفِي الدُّسُوقِيِّ: الزُّنَّارُ خُيُوطٌ مُتَلَوِّنَةٌ بِأَلْوَانٍ شَتَّى يَشُدُّ بِهَا الذِّمِّيُّ وَسَطَهُ (2) . وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: الزُّنَّارُ خَيْطٌ غَلِيظٌ فِيهِ أَلْوَانٌ يَشُدُّ بِهِ الذِّمِّيُّ وَسَطَهُ (3) . وَهُوَ يَكُونُ فَوْقَ الثِّيَابِ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحِزَامُ:
2 - الْحِزَامُ اسْمُ مَا حُزِّمَ بِهِ، وَاحْتَزَمَ الرَّجُل وَتَحَزَّمَ إِذَا شَدَّ وَسَطَهُ بِحَبْلٍ، وَيَكُونُ الْحِزَامُ أَيْضًا لِلصَّبِيِّ فِي مَهْدِهِ، وَالْحِزَامُ لِلسَّرْجِ وَالدَّابَّةِ، وَحَزَّمَ الْفَرَسَ: شَدَّ حِزَامَهُ، وَأَحْزَمَهُ جَعَل لَهُ حِزَامًا (5) .
__________
(1) لسان العرب، مختار الصحاح مادة: (زنر) .
(2) الدسوقي 2 / 204.
(3) نهاية المحتاج 8 / 97.
(4) ابن عابدين 3 / 273.
(5) لسان العرب والمصباح المنير.(24/51)
ب - النِّطَاقُ:
3 - الْمِنْطَقُ وَالْمِنْطَقَةُ وَالنِّطَاقُ: كُل مَا شُدَّ بِهِ الْوَسَطُ، وَالنِّطَاقُ شِبْهُ إِزَارٍ فِيهِ تِكَّةٌ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَنْتَطِقُ بِهِ. وَفِي الْمُحْكَمِ: النِّطَاقُ شُقَّةٌ أَوْ ثَوْبٌ تَلْبَسُهُ الْمَرْأَةُ ثُمَّ تَشُدُّ وَسَطَهَا بِحَبْلٍ ثُمَّ تُرْسِل الأَْعْلَى عَلَى الأَْسْفَل إِلَى الرُّكْبَةِ (1) .
ج - الْهِمْيَانُ:
4 - الْهِمْيَانُ: كِيسٌ تُجْعَل فِيهِ النَّفَقَةُ وَيُشَدُّ عَلَى الْوَسَطِ، وَفِي اللِّسَانِ: الْهِمْيَانُ هِمْيَانُ الدَّرَاهِمِ، أَيِ الَّذِي تُجْعَل فِيهِ النَّفَقَةُ، وَهُوَ أَيْضًا: شِدَادُ السَّرَاوِيل وَالْمِنْطَقَةِ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَشُدُّ بِهَا حَقْوَيْهَا. إِمَّا تِكَّةٌ وَإِمَّا خَيْطٌ (2) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالزُّنَّارِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً: اتِّخَاذُ أَهْل الذِّمَّةِ الزُّنَّارَ:
5 - مِمَّا يُؤْخَذُ بِهِ أَهْل الذِّمَّةِ وُجُوبًا إِظْهَارُ عَلاَمَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا، وَلاَ يُتْرَكُونَ يَتَشَبَّهُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ كَيْ لاَ يُعَامَلُوا مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الذِّمِّيَّ يُؤْمَرُ بِشَدِّ الزُّنَّارِ فِي وَسَطِهِ مِنْ فَوْقِ الثِّيَابِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ عَلاَمَةً مُمَيِّزَةً لَهُ، فَلاَ يُعَامَل مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) لسان العرب والمصباح المنير.(24/52)
كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ أَيْضًا تُؤْخَذُ بِذَلِكَ وَتَشُدُّهُ تَحْتَ إِزَارِهَا بِحَيْثُ يَظْهَرُ بَعْضُهُ، وَإِلاَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ.
وَمَنْ خَالَفَ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ وَتَرَكَ الزُّنَّارَ بَعْدَ أَمْرِهِ بِهِ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ (1) .
ثَانِيًا: لُبْسُ الْمُسْلِمِ الزُّنَّارَ:
6 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ شَدُّ الزُّنَّارِ فِي وَسَطِهِ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي يُلْزَمُ بِهَا أَهْل الذِّمَّةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ تَشَبُّهٌ بِهِمْ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ (2) . وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَكْفُرُ مَنْ شَدَّ عَلَى وَسَطِهِ زُنَّارًا عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي يَلْزَمُ بِهَا أَهْل الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَاصٍ بِذَلِكَ كَسَائِرِ الْمَعَاصِي، حَيْثُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّزَيِّي بِزِيِّ الْكُفَّارِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ: وَعَظَ الإِْمَامُ فَاسِقًا وَنَدَبَهُ إِلَى التَّوْبَةِ، فَقَال: بَعْدَ الْيَوْمِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 273 - 274، وفتح القدير 5 / 302، وفتاوى قاضيخان بهامش الهندية 3 / 590، وحاشية الدسوقي 2 / 204، ونهاية المحتاج 8 / 97، ومغني المحتاج 4 / 257، والمغني 8 / 524.
(2) حديث: " من تشبه بقوم فهو منهم ". أخرجه أبو داود (4 / 314 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمرو، وجود إسناده ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1 / 246 - ط. مكتبة الرشد) .
(3) مغني المحتاج 4 / 136، وأسنى المطالب 4 / 119، وكشاف القناع 3 / 128، 6 / 169.(24/52)
أَضَعُ عَلَى رَأْسِي قَلَنْسُوَةَ الْمَجُوسِ، وَكَانَتْ عَلاَمَةً خَاصَّةً بِهِمْ يَكْفُرُ؛ لأَِنَّ وَضْعَ تِلْكَ الْقَلَنْسُوَةِ كَشَدِّ الزُّنَّارِ عَلاَمَةُ الْكُفْرِ.
وَمَنْ شَدَّ الزُّنَّارَ وَدَخَل دَارَ الْحَرْبِ كَفَرَ، قَال الأُْسْرُوشَنِيُّ: إِنْ فَعَل ذَلِكَ لِتَخْلِيصِ الأَْسِيرِ لاَ يَكْفُرُ، وَلَوْ دَخَل لِلتِّجَارَةِ كَفَرَ، وَمَنْ لَفَّ عَلَى وَسَطِهِ حَبْلاً وَقَال: هَذَا زُنَّارٌ لاَ يَكْفُرُ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَكْفُرُ؛ لأَِنَّهُ تَصْرِيحٌ بِالْكُفْرِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا قَال الدَّرْدِيرُ: مِنْ عَلاَمَاتِ الرِّدَّةِ صُدُورُ فِعْلٍ يَقْتَضِي الْكُفْرَ كَشَدِّ زُنَّارٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَلْبُوسُ الْكَافِرِ الْخَاصُّ بِهِ أَيْ إِذَا فَعَلَهُ حُبًّا فِيهِ وَمَيْلاً لأَِهْلِهِ، وَأَمَّا إِنْ لَبِسَهُ لَعِبًا فَحَرَامٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ، قَال الدُّسُوقِيُّ: يَكْفُرُ إِذَا فَعَلَهُ حُبًّا فِيهِ سَوَاءٌ أَسَعَى بِهِ لِلْكَنِيسَةِ وَنَحْوِهَا أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَفَعَلَهُ فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ أَمْ فِي بِلاَدِهِمْ، فَالْمَدَارُ فِي الرِّدَّةِ عَلَى فِعْلِهِ حُبًّا فِيهِ وَمَيْلاً لأَِهْلِهِ كَمَا فِي الْبُنَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَرْزُوقٍ، لَكِنَّ الزَّرْقَانِيَّ قَيَّدَ ذَلِكَ بِالسَّعْيِ بِهِ لِلْكَنِيسَةِ وَبِفِعْلِهِ فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَإِنْ فَعَل ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ كَأَسِيرٍ عِنْدَهُمْ يُضْطَرُّ إِلَى اسْتِعْمَال ثِيَابِهِمْ، فَلاَ حُرْمَةَ عَلَيْهِ فَضْلاً عَنِ الرِّدَّةِ كَمَا قَال ابْنُ مَرْزُوقٍ (2) .
__________
(1) الفتاوى البزازية بهامش الفتاوى الهندية 6 / 331 - 332.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 4 / 301.(24/53)
زَوَائِدُ
انْظُرْ: زِيَادَةٌ.
زَوَاجٌ
انْظُرْ: نِكَاحٌ.(24/53)
زَوَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الزَّوَال لُغَةً: الْحَرَكَةُ وَالذَّهَابُ وَالاِسْتِحَالَةُ وَالاِضْمِحْلاَل. وَزَال الشَّيْءُ عَنْ مَكَانِهِ، وَأَزَالَهُ غَيَّرَهُ. وَيُقَال: رَأَيْتُ شَبَحًا ثُمَّ زَال، أَيْ تَحَرَّكَ.
وَالزَّوَائِل: النُّجُومُ لِزَوَالِهَا مِنَ الْمَشْرِقِ. وَالزَّوَال: زَوَال الشَّمْسِ، وَزَوَال الْمِلْكِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَزُول عَنْ حَالِهِ. وَزَالَتِ الشَّمْسُ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ، وَزَال الظِّل (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
وَرَدَتِ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالزَّوَال فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ مِنْهَا:
أ - وَقْتُ صَلاَةِ الظُّهْرِ:
2 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ وَقْتَ صَلاَةِ الظُّهْرِ يَدْخُل حِينَ تَزُول الشَّمْسُ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ، وَهُوَ
__________
(1) لسان العرب مادة: (زول) ، المجموع للنووي 3 / 24.(24/54)
مَيْل الشَّمْسِ عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ إِلَى جِهَةِ الْمَغْرِبِ.
فَلَوْ شَرَعَ الْمُصَلِّي فِي التَّكْبِيرِ قَبْل ظُهُورِ الزَّوَال ثُمَّ ظَهَرَ الزَّوَال عَقِبَ التَّكْبِيرِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ لَمْ يَصِحَّ الظُّهْرُ. وَيُعْرَفُ الزَّوَال بِزِيَادَةِ الظِّل بَعْدَ تَنَاهِي نُقْصَانِهِ لأَِنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ رُفِعَ لِكُل شَاخِصٍ ظِلٌّ طَوِيلٌ إِلَى جَانِبِ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ كُلَّمَا دَامَتِ الشَّمْسُ فِي الاِرْتِفَاعِ فَالظِّل يَنْتَقِصُ، فَإِذَا انْتَهَتِ الشَّمْسُ إِلَى وَسَطِ السَّمَاءِ - وَهِيَ حَالَةُ الاِسْتِوَاءِ وَانْتِصَافِ النَّهَارِ - انْتَهَى نُقْصَانُ الظِّل وَوَقَفَ، فَإِذَا زَادَ الظِّل أَدْنَى زِيَادَةً إِلَى الْجِهَةِ الأُْخْرَى دَل ذَلِكَ عَلَى الزَّوَال.
قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ زَوَال الشَّمْسِ فَانْصِبْ عَصًا أَوْ غَيْرَهَا فِي الشَّمْسِ عَلَى أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ وَعَلِّمْ عَلَى طَرَفِ ظِلِّهَا ثُمَّ رَاقِبْهُ فَإِنْ نَقَصَ الظِّل عَلِمْتَ أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَزُل، وَلاَ تَزَال تَرْقُبُهُ حَتَّى يَزِيدَ فَمَتَى زَادَ عَلِمْتَ الزَّوَال.
وَيَخْتَلِفُ قَدْرُ مَا تَزُول عَلَيْهِ الشَّمْسُ مِنَ الظِّل بِاخْتِلاَفِ الأَْزْمَانِ وَالأَْمَاكِنِ، فَأَقْصَرُ مَا يَكُونُ الظِّل عِنْدَ الزَّوَال فِي الصَّيْفِ عِنْدَ تَنَاهِي طُول النَّهَارِ، وَأَطْوَل مَا يَكُونُ فِي الشِّتَاءِ عِنْدَ تَنَاهِي قِصَرِ النَّهَارِ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلأَْمَاكِنِ فَكُلَّمَا قَرُبَ الْمَكَانُ مِنْ خَطِّ الاِسْتِوَاءِ نَقَصَ الظِّل عِنْدَ الزَّوَال.
وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ وَقْتَ صَلاَةِ الظُّهْرِ يَدْخُل(24/54)
عِنْدَمَا تَزُول الشَّمْسُ هُوَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَمَّنِي جِبْرِيل عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ فِي الأُْولَى مِنْهُمَا حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْل الشِّرَاكِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْل ظِلِّهِ ثُمَّ قَال: وَصَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِل كُل شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالأَْمْسِ قَال: ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ جِبْرِيل فَقَال: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا وَقْتُ الأَْنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: " أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ ".
ب - حُكْمُ السِّوَاكِ لِلصَّائِمِ بَعْدَ الزَّوَال:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ السِّوَاكِ لِلصَّائِمِ بَعْدَ الزَّوَال:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالسِّوَاكِ لِلصَّائِمِ فِي جَمِيعِ نَهَارِهِ أَيْ قَبْل الزَّوَال وَبَعْدَ الزَّوَال، لِلأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْكَثِيرَةِ فِي فَضْل السِّوَاكِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ
__________
(1) البدائع 1 / 122، جواهر الإكليل 1 / 32، مغني المحتاج 1 / 121، المجموع للنووي 3 / 18، كشاف القناع 1 / 249. وحديث: " أمني جبريل عند البيت مرتين. . . " أخرجه الترمذي (2 / 279 - 280 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) البدائع 1 / 19، الفواكه الدواني 1 / 357.(24/55)
إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ التَّسَوُّكُ بَعْدَ الزَّوَال سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِسِوَاكٍ يَابِسٍ أَوْ رَطْبٍ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ (1) . وَالْخُلُوفُ إِنَّمَا يَظْهَرُ غَالِبًا بَعْدَ الزَّوَال (2) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (سِوَاكٍ، وَصِيَامٍ) .
__________
(1) حديث: " لخلوف فم الصائم أطيب عند الله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 103 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 806 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) المجموع 1 / 275 - 279، وكشاف القناع 1 / 72.(24/55)
زَوْجٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الزَّوْجُ فِي اللُّغَةِ: الْفَرْدُ الَّذِي لَهُ قَرِينٌ، قَال تَعَالَى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُْنْثَى} (1) فَكُلٌّ مِنْهُمَا زَوْجٌ، فَالرَّجُل زَوْجُ الْمَرْأَةِ، وَهِيَ زَوْجُهُ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} (2) وَيُقَال أَيْضًا: هِيَ زَوْجَتُهُ، قَال الرَّاغِبُ: وَهِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ. وَلاَ يُقَال لِلاِثْنَيْنِ: زَوْجٌ، إِنَّمَا يُقَال: زَوْجَانِ، قَالَهُ ابْنُ سِيدَهْ، وَقِيل: الزَّوْجُ خِلاَفُ الْفَرْدِ، يُقَال: فَرْدٌ أَوْ زَوْجٌ، وَيُقَال أَيْضًا: خَسًّا أَوْ زَكَا (الْخَسَا الْفَرْدُ، وَالزَّكَا الزَّوْجُ) وَيُقَال أَيْضًا: شَفْعٌ أَوْ وِتْرٌ، فَكُل مُقْتَرِنَيْنِ مُتَجَانِسَيْنِ كَانَا، أَمْ نَقِيضَيْنِ فَهُمَا زَوْجٌ.
وَالزَّوْجُ فِي الْحِسَابِ مَا يَنْقَسِمُ بِمُتَسَاوِيَيْنِ (3) .
وَالزَّوْجُ فِي الاِصْطِلاَحِ: بَعْل الْمَرْأَةِ.
__________
(1) سورة النجم / 45.
(2) سورة الأحزاب / 37.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير.(24/56)
حُقُوقُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ:
أ - وُجُوبُ الطَّاعَةِ:
2 - جَعَل اللَّهُ الرَّجُل قَوَّامًا عَلَى الْمَرْأَةِ بِالأَْمْرِ وَالتَّوْجِيهِ وَالرِّعَايَةِ، كَمَا يَقُومُ الْوُلاَةُ عَلَى الرَّعِيَّةِ، بِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ الرَّجُل مِنْ خَصَائِصَ جِسْمِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ، وَبِمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ مِنْ وَاجِبَاتٍ مَالِيَّةٍ، قَال تَعَالَى: {الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّل اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (1) .
قَال الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الآْيَةِ: أَيْ يَقُومُونَ عَلَيْهِنَّ قِيَامَ الْوُلاَةِ عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: وَهْبِيٌّ وَكَسْبِيٌّ، فَقَال: {بِمَا فَضَّل اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (2) بِسَبَبِ تَفْضِيلِهِ الرِّجَال عَلَى النِّسَاءِ بِكَمَال الْعَقْل، وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ، وَمَزِيدِ الْقُوَّةِ، وَبِمَا أَنْفَقُوا فِي نِكَاحِهِنَّ كَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، فَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا حَقُّ الطَّاعَةِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ (3) .
رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الْمَرْأَةِ؟ قَال: زَوْجُهَا (4) وَقَال
__________
(1) النساء / 34.
(2) جزء من نفس الآية السابقة.
(3) تفسير البيضاوي، وابن كثير، والطبري.
(4) حديث عائشة: " أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 308 - 309 - ط السعادة) وقال: " فيه أبو عتبة ولم يحدث غير مسعر، وبقية رجاله رجال الصحيح ".(24/56)
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَِحَدٍ لأََمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا لِمَا جَعَل اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنَ الْحَقِّ (1) .
ب - تَمْكِينُ الزَّوْجِ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ:
3 - مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ تَمْكِينُهُ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ، فَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَكَانَتْ أَهْلاً لِلْجِمَاعِ وَجَبَ تَسْلِيمُ نَفْسِهَا إِلَيْهِ بِالْعَقْدِ إِذَا طَلَبَ، وَذَلِكَ أَنْ يُسَلِّمَهَا مَهْرَهَا الْمُعَجَّل وَتُمْهَل مُدَّةً حَسَبَ الْعَادَةِ لإِِصْلاَحِ أَمْرِهَا كَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلاَثَةِ إِذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ لأَِنَّهُ مِنْ حَاجَتِهَا، وَلأَِنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ جَرَتِ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ. وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ قُفُولِهِ مَرَّةً إِلَى الْمَدِينَةِ: أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلاً - أَيْ عِشَاءً - لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغَيَّبَةُ (2) . وَمَا ذَلِكَ إِلاَّ لإِِصْلاَحِ نَفْسِهَا (3) . (ر: نِكَاحٌ) .
وَلِلزَّوْجِ إِجْبَارُ زَوْجَتِهِ عَلَى الْغُسْل مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ ذِمِّيَّةً؛ لأَِنَّهُ
__________
(1) حديث: " لو كنت آمرا أحد أن يسجد لأحد ". أخرجه الترمذي (3 / 456 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن غريب ".
(2) حديث: " أمهلوا حتى تدخلوا ليلا ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 343 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1088 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(3) المغني 7 / 19، والمجموع 11 / 407، ونهاية المحتاج 6 / 340.(24/57)
يَمْنَعُ الاِسْتِمْتَاعَ الَّذِي هُوَ حَقٌّ لَهُ، فَمَلَكَ إِجْبَارَهَا عَلَى إِزَالَةِ مَا يَمْنَعُ حَقَّهُ. وَلَهُ إِجْبَارُ الْمُسْلِمَةِ الْبَالِغَةِ عَلَى الْغُسْل مِنَ الْجَنَابَةِ، أَمَّا الذِّمِّيَّةُ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى الْغُسْل مِمَّا ذُكِرَ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي الْجَنَابَةِ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
ج - عَدَمُ الإِْذْنِ لِمَنْ يَكْرَهُ الزَّوْجُ دُخُولَهُ:
4 - وَمِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَلاَّ تُدْخِل بَيْتَهُ أَحَدًا يَكْرَهُهُ (2) . لِحَدِيثِ: فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلاَ يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ (3) .
د - عَدَمُ الْخُرُوجِ مِنَ الْبَيْتِ إِلاَّ بِإِذْنِ الزَّوْجِ:
5 - مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَلاَّ تَخْرُجَ مِنَ الْبَيْتِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (4) . لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ: مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ؟ فَقَال: حَقُّهُ عَلَيْهَا أَلاَّ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا
__________
(1) المدونة 1 / 341، والمجموع 16 / 411، والمغني 7 / 20.
(2) المغني 7 / 19، والمجموع 16 / 406.
(3) حديث: " فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن ". أخرجه الترمذي (3 / 458 - ط الحلبي) من حديث عمرو بن الأحوص، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(4) المجموع 16 / 411، الفتاوى الهندية 1 / 341، الخانية 442، وفتح القدير 3 / 304، والفواكه الدواني 2 / 48.(24/57)
إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ لَعَنَتْهَا مَلاَئِكَةُ السَّمَاءِ وَمَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ حَتَّى تَرْجِعَ (1) .
وَاشْتَرَطُوا فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ صَالِحًا لِلسُّكْنَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَالِحًا لِلسُّكْنَى كَأَنْ خَافَتْ سُقُوطَهُ عَلَيْهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَرَافِقُ، فَلَهَا الْخُرُوجُ مِنْهُ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَسْبَابًا لِجَوَازِ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا مِنَ الْمَنْزِل: مِنْهَا: الْخُرُوجُ إِلَى مَجْلِسِ الْعِلْمِ، إِذَا وَقَعَتْ لَهَا نَازِلَةٌ وَلَيْسَ الزَّوْجُ فَقِيهًا.
وَمِنْهَا: الْخُرُوجُ إِلَى حَجَّةِ الْفَرْضِ إِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا تَخْرُجُ مَعَهُ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ. وَالتَّفْصِيل فِي (نَفَقَةٍ) ، (حَجٍّ) ، (نُشُوزٍ) .
6 - وَاخْتَلَفُوا فِي عِيَادَةِ وَالِدَيْهَا:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ عِيَادَةِ وَالِدٍ زَمِنٍ لَيْسَ لَهُ مَنْ يَقُومُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهَا طَاعَةُ زَوْجِهَا إِنْ مَنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ الْوَالِدُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا؛ لأَِنَّ الْقِيَامَ بِخِدْمَتِهِ فَرْضٌ عَلَيْهَا فِي مِثْل هَذِهِ الْحَالَةِ فَيُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الزَّوْجِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ لِعِيَادَةِ أَبِيهَا الْمَرِيضِ إِلاَّ بِإِذْنِ الزَّوْجِ، وَلَهُ مَنْعُهَا
__________
(1) حديث: " حق الزوج على زوجته ألا تخرج من بيتها إلا بإذنه ". أورده المنذري في الترغيب والترهيب (4 / 126 - ط المكتبة التجارية) وعزاه إلى الطبراني، وصدره بصيغة التضعيف.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 340، والخانية 443، وشرح فتح القدير 3 / 304.(24/58)
مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ حُضُورِ جِنَازَتِهِ لِحَدِيثِ: أَنَّ رَجُلاً خَرَجَ وَأَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ لاَ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا، فَمَرِضَ أَبُوهَا، فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال لَهَا: أَطِيعِي زَوْجَكِ فَمَاتَ أَبُوهَا فَاسْتَأْذَنَتْ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُضُورِ جِنَازَتِهِ فَقَال لَهَا: أَطِيعِي زَوْجَكِ فَأَرْسَل إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لأَِبِيهَا بِطَاعَتِهَا لِزَوْجِهَا (1) وَلأَِنَّ طَاعَةَ الزَّوْجِ وَاجِبَةٌ، فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُ الْوَاجِبِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ. قَالُوا: وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي أَلاَّ يَمْنَعَهَا مِنْ عِيَادَةِ وَالِدَيْنِ مَرِيضَيْنِ وَحُضُورِ جِنَازَتِهِمَا؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ قَطِيعَةً لَهُمَا وَحَمْلاً لِزَوْجَتِهِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَمَنْعُهَا مِنْ عِيَادَةِ وَالِدٍ مَرِيضٍ لَيْسَ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ فِي شَيْءٍ (2) .
هـ - التَّأْدِيبُ:
7 - لِلزَّوْجِ تَأْدِيبُ زَوْجَتِهِ عِنْدَ عِصْيَانِهَا أَمْرَهُ بِالْمَعْرُوفِ لاَ بِالْمَعْصِيَةِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَأْدِيبِ النِّسَاءِ بِالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ عِنْدَ عَدَمِ طَاعَتِهِنَّ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَرْبَعَةَ مَوَاضِعَ يَجُوزُ فِيهَا لِلزَّوْجِ تَأْدِيبُ زَوْجَتِهِ بِالضَّرْبِ، مِنْهَا:
تَرْكُ الزِّينَةِ إِذَا أَرَادَ الزِّينَةَ، وَمِنْهَا: تَرْكُ
__________
(1) حديث: " أن رجلا سافر ومنع زوجته من الخروج. . . ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 315 - ط السعادة) وقال: " رواه الطبراني في الأوسط وفيه عصمة بن المتوكل، وهو ضعيف ".
(2) المغني 7 / 20، والمجموع 16 / 411، والفتاوى الهندية 1 / 341.(24/58)
الإِْجَابَةِ إِذَا دَعَاهَا إِلَى الْفِرَاشِ وَهِيَ طَاهِرَةٌ. وَمِنْهَا: تَرْكُ الصَّلاَةِ، وَمِنْهَا: الْخُرُوجُ مِنَ الْبَيْتِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَأْدِيبٍ) ، (نُشُوزٍ)
و َخِدْمَةُ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا:
8 - لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ خِدْمَةُ زَوْجِهَا مِنَ الْعَجْنِ، وَالْخَبْزِ، وَالطَّبْخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهَا هُوَ الاِسْتِمْتَاعُ فَلاَ يَلْزَمُهَا مَا سِوَاهُ، هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: عَلَى الزَّوْجَةِ الْخِدْمَةُ الْبَاطِنَةُ مِنْ عَجْنٍ وَكَنْسٍ، وَفَرْشٍ، وَاسْتِقَاءِ مَاءٍ مِنَ الدَّارِ، أَوْ مِنَ الصَّحْرَاءِ إِنْ كَانَتْ عَادَةُ بَلَدِهَا كَذَلِكَ - إِلاَّ أَنْ تَكُونَ مِنَ الأَْشْرَافِ الَّذِينَ لاَ يَمْتَهِنُونَ نِسَاءَهُمْ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ إِخْدَامُهَا.
وَلاَ يَلْزَمُهَا الاِكْتِسَابُ كَالْغَزْل وَالنَّسِيجِ، وَأَمَّا غَسْل الثِّيَابِ وَخِيَاطَتُهَا فَيَنْبَغِي فِيهِ اتِّبَاعُ الْعُرْفِ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (نَفَقَةٍ) ، (زَوْجَةٍ) .
ز - مَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ:
9 - أَمَّا مَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ فَلَهَا مِثْل
__________
(1) الفتاوى الخانية على الفتاوى الهندية 1 / 442.
(2) الخانية على الفتاوى الهندية 1 / 443، والمجموع 16 / 425، والمغني 7 / 20.
(3) الفواكه الدواني 2 / 48.(24/59)
الَّذِي عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (زَوْجَةٍ) .
ح - مَا يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ فِي مُعَامَلَةِ زَوْجَتِهِ:
10 - عَلَى الزَّوْجِ إِكْرَامُ زَوْجَتِهِ وَحُسْنُ مُعَاشَرَتِهَا وَمُعَامَلَتِهِ لَهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَتَقْدِيمُ مَا يُمْكِنُ تَقْدِيمُهُ إِلَيْهَا مِمَّا يُؤَلِّفُ قَلْبَهَا، قَال تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .
وَمِنْ مَظَاهِرِ إِكْمَال الْخُلُقِ وَنُمُوِّ الإِْيمَانِ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ رَقِيقًا مَعَ أَهْلِهِ، يَقُول الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكْمَل الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا (1) . وَإِكْرَامُ الْمَرْأَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَكَامُل شَخْصِيَّةِ الرَّجُل، وَإِهَانَتُهَا عَلاَمَةُ الْخِسَّةِ وَاللُّؤْمِ. وَمِنْ إِكْرَامِهَا التَّلَطُّفُ مَعَهَا وَمُدَاعَبَتُهَا، وَجَاءَ فِي الأَْثَرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كُل مَا يَلْهُو بِهِ الرَّجُل الْمُسْلِمُ بَاطِلٌ، إِلاَّ رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلاَعَبَتَهُ أَهْلَهُ، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ (2) وَمِنْ إِكْرَامِهَا أَنْ يَتَجَنَّبَ أَذَاهَا وَلَوْ بِالْكَلِمَةِ النَّابِيَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (زَوْجَةٍ) .
__________
(1) حديث: " أكمل المؤمنين إيمانا ". أخرجه الترمذي (3 / 457 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) حديث: " كل ما يلهو به الرجل المسلم. . . " أخرجه الترمذي (4 / 149 - ط دار الكتب العلمية) من حديث عقبة بن عامر. وقال: حديث حسن صحيح.(24/59)
ط - إِنْهَاءُ عَقْدِ الزَّوَاجِ:
11 - مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ إِنْهَاءُ عَقْدِ الزَّوَاجِ إِذَا فَسَدَ الْحَال بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَأَصْبَحَ بَقَاؤُهُ مَفْسَدَةً مَحْضَةً، وَضَرَرًا مُجَرَّدًا، لأَِنَّهُ أَحْرَصُ عَادَةً عَلَى بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ لِمَا أَنْفَقَ فِي سَبِيل الزَّوَاجِ مِنَ الْمَال، وَهُوَ أَكْثَرُ تَقْدِيرًا لِعَوَاقِبِ الأُْمُورِ، وَأَبْعَدُ عَنِ الطَّيْشِ فِي تَصَرُّفٍ يُلْحِقُ بِهِ ضَرَرًا كَبِيرًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّل اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (1) .
وَفِي الأَْثَرِ: الطَّلاَقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (طَلاَقٍ) .
__________
(1) سورة النساء / 34.
(2) حديث: " الطلاق لمن أخذ بالساق. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 672 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس، وضعفه البوصيري في " مصباح الزجاجة " (1 / 358 - ط دار الجنان) .(24/60)
زَوْجَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الزَّوْجَةُ فِي اللُّغَةِ: امْرَأَةُ الرَّجُل، وَجَمْعُهَا زَوْجَاتٌ، وَيُقَال لَهَا: زَوْجٌ، فَالرَّجُل زَوْجُ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ زَوْجُهُ. هَذِهِ هِيَ اللُّغَةُ الْعَالِيَةُ وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (1) وَالْجَمْعُ فِيهَا أَزْوَاجٌ قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَأَهْل نَجْدٍ يَقُولُونَ فِي الْمَرْأَةِ: زَوْجَةٌ بِالْهَاءِ، وَأَهْل الْحَرَمِ يَتَكَلَّمُونَ بِهَا. وَعَكَسَ ابْنُ السِّكِّيتِ فَقَال: وَأَهْل الْحِجَازِ يَقُولُونَ لِلْمَرْأَةِ زَوْجٌ بِغَيْرِ هَاءٍ، وَسَائِرُ الْعَرَبِ زَوْجَةٌ بِالْهَاءِ وَجَمْعُهَا زَوْجَاتٌ، وَالْفُقَهَاءُ يَقْتَصِرُونَ فِي الاِسْتِعْمَال عَلَيْهَا لِلإِْيضَاحِ وَخَوْفِ لَبْسِ الذَّكَرِ بِالأُْنْثَى (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالزَّوْجَةِ:
اتِّخَاذُ الزَّوْجَةِ:
2 - ذَهَبَ عَامَّةُ أَهْل الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الزَّوَاجَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ، إِلاَّ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ
__________
(1) سورة البقرة / 35.
(2) المصباح، ولسان العرب.(24/60)
الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ فَيَلْزَمُهُ إِعْفَافُ نَفْسِهِ، وَلاَ يَزِيدُ عَنْ زَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ إِنْ خَافَ الْجَوْرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (1) وَقَدْ تَعْتَرِيهِ أَحْكَامٌ أُخْرَى (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (نِكَاحٍ) .
اخْتِيَارُ الزَّوْجَةِ:
3 - الْمَرْأَةُ سَكَنٌ لِلزَّوْجِ وَحَرْثٌ لَهُ، وَأَمِينَتُهُ فِي مَالِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَوْضِعُ سِرِّهِ، وَعَنْهَا يَرِثُ أَوْلاَدُهَا كَثِيرًا مِنَ الصِّفَاتِ، وَيَكْتَسِبُونَ بَعْضَ عَادَاتِهِمْ مِنْهَا، لِهَذَا حَضَّتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ، وَحَدَّدَتْ صِفَاتِ الزَّوْجَةِ الصَّالِحَةِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
4 - يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ ذَاتَ دِينٍ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَِرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك (3) أَيْ أَنَّ الَّذِي يُرَغِّبُ فِي الزَّوَاجِ، وَيَدْعُو الرِّجَال إِلَيْهِ أَحَدُ هَذِهِ الْخِصَال الأَْرْبَعِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلاَّ يَعْدِلُوا عَنْ ذَاتِ الدِّينِ إِلَى غَيْرِهَا.
__________
(1) سورة النساء / 3.
(2) المجموع 16 / 131، نهاية المحتاج 6 / 180، المغني 6 / 446، ابن عابدين 2 / 261.
(3) حديث: " تنكح المرأة لأربع: لمالها. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 132 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1086 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.(24/61)
5 - أَنْ تَكُونَ وَلُودًا، لِحَدِيثِ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ، الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأَْنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) .
وَيُعْرَفُ كَوْنُ الْبِكْرِ وَلُودًا بِكَوْنِهَا مِنْ أُسْرَةٍ يُعْرَفُ نِسَاؤُهَا بِكَثْرَةِ الأَْوْلاَدِ.
6 - أَنْ تَكُونَ بِكْرًا، لِخَبَرِ: فَهَلاَّ بِكْرًا تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ (2) .
7 - أَنْ تَكُونَ حَسِيبَةً نَسِيبَةً أَيْ طَيِّبَةَ الأَْصْل بِانْتِسَابِهَا إِلَى الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِكَرَاهَةِ الزَّوَاجِ بِبِنْتِ الزِّنَى، وَاللَّقِيطَةِ، وَبِنْتِ الْفَاسِقِ لِخَبَرِ: تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ وَانْكِحُوا الأَْكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ (3) .
8 - وَأَنْ لاَ تَكُونَ ذَاتَ قَرَابَةٍ قَرِيبَةٍ، لِحَدِيثِ: لاَ تَنْكِحُوا الْقَرَابَةَ الْقَرِيبَةَ فَإِنَّ الْوَلَدَ يُخْلَقُ ضَاوِيًا (4) .
__________
(1) حديث: " تزوجوا الودود الولود " أخرجه أحمد (3 / 245 - ط الميمنية) من حديث أنس بن مالك. وأورده الهيثمي في المجمع (4 / 258 - ط القدسي) وقال: " رواه أحمد والطبراني في الأوسط وإسناده حسن ".
(2) حديث: " فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 343 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1089 - ط. الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، ولفظ مسلم: " فهلا جارية ".
(3) حديث: " تخيروا لنطفكم، وانكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم ". أخرجه ابن ماجه (1 / 633 - ط الحلبي) من حديث عائشة، وضعفه البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 343 - ط دار الجنان) من حديث عائشة، ولكن حسنه لطرقه ابن حجر في التلخيص (3 / 146 - ط. شركة الطباعة الفنية) .
(4) حديث: " لا تنكحوا القرابة القريبة ". قال ابن الصلاح: لم أجد لهذا الحديث أصلا معتمدا، كذا في إتحاف السادة المتقين (5 / 439 - ط. الميمنية) .(24/61)
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِاسْتِحْبَابِ اخْتِيَارِ الأَْجْنَبِيَّةِ فَإِنَّ وَلَدَهَا أَنْجَبُ.
9 - أَنْ تَكُونَ جَمِيلَةً لأَِنَّهَا أَسْكَنُ لِنَفْسِهِ وَأَغَضُّ لِبَصَرِهِ، وَأَكْمَل لِمَوَدَّتِهِ، وَلِذَلِكَ شُرِعَ النَّظَرُ قَبْل الْعَقْدِ، وَلِحَدِيثِ: مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا أَسَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ (1) .
10 - أَنْ تَكُونَ ذَاتَ عَقْلٍ، وَيَجْتَنِبَ الْحَمْقَاءَ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ يُرَادُ لِلْعِشْرَةِ الدَّائِمَةِ، وَلاَ تَصْلُحُ الْعِشْرَةُ مَعَ الْحَمْقَاءِ وَلاَ يَطِيبُ الْعَيْشُ مَعَهَا، وَرُبَّمَا تَعَدَّى إِلَى وَلَدِهَا (2) .
حَقُّ الْمَرْأَةِ فِي اخْتِيَارِ زَوْجِهَا:
11 - لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا، جَاءَ فِي الأَْثَرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تُنْكَحُ الأَْيِّمُ
__________
(1) حديث: " ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله ". أخرجه ابن ماجه (1 / 596 - ط الحلبي) من حديث أبي أمامة، وضعفه البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 325 - ط دار الجنان) .
(2) نهاية المحتاج 6 / 184 - 185، المجموع 16 / 132 وما بعده، المغني 6 / 565 وما بعده، شرح فتح القدير 3 / 102، ابن عابدين 2 / 262.(24/62)
حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَال: أَنْ تَسْكُتَ. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحْيِي، قَال: رِضَاهَا صَمْتُهَا (1) . وَلاَ يَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ مُولِيَتَهُ إِلاَّ التَّقِيَّ الصَّالِحَ، جَاءَ فِي الأَْثَرِ: إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَْرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ (2) . وَرُوِيَ: مَنْ زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ مِنْ فَاسِقٍ فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهَا (3) وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَأْمِرَ الْبِكْرَ قَبْل النِّكَاحِ وَيَذْكُرَ لَهَا الزَّوْجَ فَيَقُول: إِنَّ فُلاَنًا يَخْطُبُكِ أَوْ يَذْكُرُكِ، وَإِنْ زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْمَارٍ فَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ لِخَبَرِ: شَاوِرُوا النِّسَاءَ فِي أَبْضَاعِهِنَّ (4) وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ إِلاَّ بِرِضَاهَا، وَلاَ يَنْعَقِدُ
__________
(1) حديث أبي هريرة وعائشة، أخرجهما البخاري (الفتح 9 / 191 - ط. السلفية) .
(2) حديث: " إذا خطب إليكم من ترضون دينه " أخرجه الترمذي (3 / 385 - 386 - ط الحلبي) والحاكم (2 / 164 - 165 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة، وأعله الذهبي.
(3) حديث: " من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها ". أخرجه ابن عدي في الكامل (2 / 734 - ط دار الفكر) من حديث أنس بن مالك، وقال ابن الجوزي: هذا ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هذا من كلام الشعبي ولم يثبت رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم (الموضوعات لابن الجوزي 2 / 260 - ط المكتبة السلفية بالمدينة المنورة) .
(4) حديث: " شاوروا النساء في أبضاعهن ". ورد بلفظ: " استأمروا النساء في أبضاعهن " أخرجه النسائي (6 / 86 - ط المكتبة التجارية) من حديث عائشة - ومعناه في البخاري (الفتح 12 / 319 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1037 - ط الحلبي) .(24/62)
الزَّوَاجُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ إِذَا زَوَّجَ الْقَاصِرَةَ أَوِ الْبِكْرَ بِغَيْرِ كُفْءٍ، وَلَهَا فَسْخُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وِلاَيَةٍ) .
وَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُ الثَّيِّبِ إِلاَّ بِإِذْنِهَا لِخَبَرِ: الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا (1) وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَعْضُلَهَا، وَيَسْقُطُ بِالْعَضْل حَقُّهُ فِي تَزْوِيجِهَا إِنْ رَغِبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَ كُفْئًا (2) قَال تَعَالَى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٍ، وَلِيٍّ) .
حُقُوقُ الزَّوْجَةِ:
12 - إِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ صَحِيحًا نَافِذًا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ آثَارُهُ، وَتَنْشَأُ بِهِ حُقُوقٌ وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
1 - حُقُوقٌ وَاجِبَةٌ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا.
2 - حُقُوقٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا.
3 - وَحُقُوقٌ وَاجِبَةٌ لِلزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ، وَتُرَاجَعُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَوْجٍ) .
الْحُقُوقُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ هِيَ:
13 - 1 - حِل الْعِشْرَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَاسْتِمْتَاعُ كُلٍّ
__________
(1) حديث: " الثيب أحق بنفسها من وليها ". أخرجه مسلم (2 / 1037 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(2) الاختيار لتعليل المختار 3 / 92، نهاية المحتاج 6 / 228، المغني 6 / 493 - 494.
(3) سورة البقرة / 232.(24/63)
مِنْهُمَا بِالآْخَرِ فَيَحِل لِلزَّوْجَةِ مِنْ زَوْجِهَا مَا يَحِل لَهُ مِنْهَا، وَتَفْصِيل هَذَا الْحَقِّ وَحُدُودُهُ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِشْرَةٍ) .
2 - حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، فَالزَّوْجَةُ تَحْرُمُ عَلَى آبَاءِ الزَّوْجِ وَأَجْدَادِهِ وَأَبْنَائِهِ، وَفُرُوعِ أَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ أُمَّهَاتُ الزَّوْجَةِ وَجَدَّاتُهَا وَبَنَاتُهَا، وَبَنَاتِ آبَائِهَا وَبَنَاتِهَا، وَأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُخْتِهَا أَوْ عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٍ، وَمُحَرَّمَاتٍ) .
3 - ثُبُوتُ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا بِمُجَرَّدِ إِتْمَامِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُل بِالزَّوْجَةِ، وَالتَّفْصِيل فِي: (إِرْثٍ) .
4 - ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ صَاحِبِ الْفِرَاشِ.
5 - حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ، فَيَجِبُ عَلَى الرَّجُل أَنْ يُعَاشِرَ زَوْجَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِثْل ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1) وَالتَّفْصِيل فِي (نِكَاحٍ) .
حُقُوقُ الزَّوْجَةِ الْخَاصَّةُ بِهَا:
14 - لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ وَهِيَ: الْمَهْرُ، وَالنَّفَقَةُ، وَالسُّكْنَى، وَحُقُوقٌ غَيْرُ مَالِيَّةٍ: كَالْعَدْل فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وَعَدَمِ الإِْضْرَارِ بِالزَّوْجَةِ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (عِشْرَةٍ) .
__________
(1) سورة النساء / 19.(24/63)
أ - الْمَهْرُ:
15 - الْمَهْرُ هُوَ الْمَال الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا بِالْعَقْدِ عَلَيْهَا أَوْ بِالدُّخُول بِهَا (1) . وَهُوَ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُل عَطِيَّةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مُبْتَدَأَةً، أَوْ هَدِيَّةً أَوْجَبَهَا عَلَى الرَّجُل بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (2) إِظْهَارًا لِخَطَرِ هَذَا الْعَقْدِ وَمَكَانَتِهِ، وَإِعْزَازًا لِلْمَرْأَةِ وَإِكْرَامًا لَهَا.
وَالْمَهْرُ لَيْسَ شَرْطًا فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ وَلاَ رُكْنًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِهِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ، فَإِذَا تَمَّ الْعَقْدُ بِدُونِ ذِكْرِ مَهْرٍ صَحَّ بِاتِّفَاقِ الْجُمْهُورِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (3) فَإِبَاحَةُ الطَّلاَقِ قَبْل الْمَسِيسِ وَقَبْل فَرْضِ صَدَاقٍ يَدُل عَلَى جَوَازِ عَدَمِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ فِي الْعَقْدِ. وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يَعْرَى النِّكَاحُ عَنْ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُزَوِّجُ بَنَاتِهِ وَغَيْرَهُنَّ، وَيَتَزَوَّجُ وَلَمْ يَكُنْ يُخَلِّي النِّكَاحَ مِنْ صَدَاقٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَفْسُدُ النِّكَاحُ إِنْ نَقَصَ صَدَاقُهُ عَنْ رُبُعِ دِينَارٍ شَرْعِيٍّ أَوْ ثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ، وَيُتِمُّ النَّاقِصَ عَمَّا ذُكِرَ وُجُوبًا إِنْ دَخَل، وَإِنْ لَمْ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 128، نهاية المحتاج 6 / 434.
(2) سورة النساء / 4.
(3) سورة البقرة / 236.(24/64)
يَدْخُل خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يُتِمَّ فَلاَ فَسْخَ، فَإِنْ لَمْ يُتِمَّهُ فُسِخَ بِطَلاَقٍ وَوَجَبَ فِيهِ نِصْفُ الْمُسَمَّى (1) ،
وَالتَّفْصِيل فِي (صَدَاقٍ) .
ب - النَّفَقَةُ:
16 - مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا: النَّفَقَةُ، وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الإِْسْلاَمِ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ بِشُرُوطٍ يَذْكُرُونَهَا فِي بَابِ النَّفَقَةِ. وَالْحِكْمَةُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا أَنَّ الْمَرْأَةَ مَحْبُوسَةٌ عَلَى الزَّوْجِ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الزَّوَاجِ، مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنْهُ لِلاِكْتِسَابِ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهِ كِفَايَتُهَا، فَالنَّفَقَةُ مُقَابِل الاِحْتِبَاسِ، فَمَنِ احْتَبَسَ لِمَنْفَعَةِ غَيْرِهِ كَالْقَاضِي وَغَيْرِهِ مِنَ الْعَامِلِينَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ.
وَالْمَقْصُودُ بِالنَّفَقَةِ تَوْفِيرُ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الزَّوْجَةُ مِنْ طَعَامٍ، وَمَسْكَنٍ، وَخِدْمَةٍ، فَتَجِبُ لَهَا هَذِهِ الأَْشْيَاءُ وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) وَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (3) .
__________
(1) المغني 6 / 680، نهاية المحتاج 6 / 335، شرح فتح القدير 3 / 204، بداية المجتهد 2 / 18، الدسوقي 2 / 302.
(2) سورة البقرة / 233.
(3) سورة الطلاق.(24/64)
وَفِي الأَْثَرِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلاَّ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نَفَقَةٍ، سُكْنَى) .
الْعَدْل بَيْنَ الزَّوْجَاتِ:
17 - مِنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْعَدْل بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ زَوْجَاتِهِ، إِنْ كَانَ لَهُ زَوْجَاتٌ، فِي الْمَبِيتِ وَالنَّفَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الْمُعَامَلَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَذَلِكَ مَا يَدُل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (2) وَجَاءَ فِي الْخَبَرِ: إِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُل امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِل بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ (3) .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِل وَيَقُول:
__________
(1) حديث: " فاتقوا الله في النساء ". أخرجه مسلم (2 / 889 - 890 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) سورة النساء / 3.
(3) حديث: " إذا كان عند الرجل امرأتان ". أخرجه الترمذي (3 / 438 - ط الحلبي) والحاكم (2 / 186 - ط. دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة وصححه، ووافقه الذهبي.(24/65)
اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ (1) . ر: (قَسْمٌ) .
حُسْنُ الْعِشْرَةِ:
18 - يُسْتَحَبُّ لِلزَّوْجِ تَحْسِينُ خُلُقِهِ مَعَ زَوْجَتِهِ وَالرِّفْقُ بِهَا، وَتَقْدِيمُ مَا يُمْكِنُ تَقْدِيمُهُ إِلَيْهَا مِمَّا يُؤَلِّفُ قَلْبَهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) وَقَوْلِهِ: {وَلَهُنَّ مِثْل الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3) وَفِي الْخَبَرِ: اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ (4) . وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: خِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا (5) .
وَمِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ فِي مُعَامَلَةِ الزَّوْجَةِ التَّلَطُّفُ بِهَا وَمُدَاعَبَتُهَا (6) . فَقَدْ جَاءَ فِي الأَْثَرِ: كُل
__________
(1) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين زوجاته " أخرجه الترمذي (3 / 437 - ط الحلبي) ، وصحح إرساله.
(2) سورة النساء / 19.
(3) سورة البقرة / 228.
(4) حديث: " استوصوا بالنساء خيرا ". أخرجه الترمذي (3 / 458 - ط الحلبي) من حديث عمرو بن الأحوص، وقال: حديث حسن صحيح. والعواني جمع عانية وهي الأسيرة، شبه الزوجة بالأسيرة لائتمارها بأمر الزوج في الخروج من البيت ونحوه مما يلزمها طاعة الرجل فيه.
(5) حديث: " خياركم خياركم لنسائهم ". أخرجه الترمذي (3 / 457 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال: حديث حسن صحيح.
(6) المغني 7 / 18، المجموع 16 / 411 - 412.(24/65)
مَا يَلْهُو بِهِ الرَّجُل الْمُسْلِمُ بَاطِلٌ إِلاَّ رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلاَعَبَتَهُ أَهْلَهُ، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي: (عِشْرَةٍ) .
زُورٌ
انْظُرْ: دَعْوَةٌ، شَهَادَةٌ، تَقْرِيرٌ.
__________
(1) حديث: " كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل. . . " أخرجه الترمذي (3 / 149 - ط دار الكتب العلمية) من حديث عقبة بن عامر، وقال: حديث حسن صحيح.(24/66)
زِيَادَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الزِّيَادَةُ فِي اللُّغَةِ النُّمُوُّ، تَقُول: زَادَ الشَّيْءُ يَزِيدُ زَيْدًا وَزِيَادَةً، وَزَائِدَةُ الْكَبِدِ هُنَيَّةٌ مِنَ الْكَبِدِ صَغِيرَةٌ إِلَى جَنْبِهَا مُتَنَحِّيَةٌ عَنْهَا، وَجَمْعُهَا زَوَائِدُ.
وَزَوَائِدُ الأَْسَدِ: أَظْفَارُهُ وَأَنْيَابُهُ، وَزَئِيرُهُ وَصَوْلَتُهُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرِّيعُ:
2 - الرِّيعُ هُوَ الزِّيَادَةُ وَالنَّمَاءُ، وَالرِّيعُ فِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ الْغَلَّةُ كَالأُْجْرَةِ وَالثَّمَرِ وَالدَّخْل (2) . ب - غَلَّةٌ:
3 - الْغَلَّةُ هِيَ كُل شَيْءٍ مُحَصَّلٌ مِنْ رِيعِ الأَْرْضِ أَوْ أُجْرَتِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْجَمْعُ غَلاَّتٌ وَغِلاَلٌ، وَالْغَلَّةُ أَخَصُّ مِنَ الزِّيَادَةِ (3) .
__________
(1) الصحاح والقاموس والمصباح مادة: (زيد) .
(2) المصباح مادة: (ريع) .
(3) المصباح مادة: (غلل) .(24/66)
ج - نَقْصٌ:
4 - النَّقْصُ وَالنُّقْصَانُ مَصْدَرَا (نَقَصَ) يُقَال: نَقَصَ يَنْقُصُ نَقْصًا مِنْ بَابِ قَتَل، وَانْتَقَصَ إِذَا ذَهَبَ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ تَمَامِهِ، وَدِرْهَمٌ نَاقِصٌ غَيْرُ تَامِّ الْوَزْنِ (1) .
أَقْسَامُ الزِّيَادَةِ:
أ - أَقْسَامُهَا مِنْ حَيْثُ الاِتِّصَال وَالاِنْفِصَال:
5 - تَنْقَسِمُ الزِّيَادَةُ مِنْ حَيْثُ الاِتِّصَال وَالاِنْفِصَال إِلَى قِسْمَيْنِ:
1 - زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ بِالأَْصْل، وَهِيَ إِمَّا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْهُ كَالسِّمَنِ وَالْجَمَال، أَوْ غَيْرُ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ كَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ.
2 - زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنِ الأَْصْل كَالْوَلَدِ وَالْغَلَّةِ (2) . وَهِيَ إِمَّا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْهُ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ، أَوْ غَيْرُ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ كَالْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ.
ب - أَقْسَامُهَا مِنْ حَيْثُ التَّمْيِيزُ وَعَدَمُهُ:
6 - تَنْقَسِمُ الزِّيَادَةُ مِنْ حَيْثُ التَّمْيِيزُ وَعَدَمُهُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ كَالْوَلَدِ وَالْغِرَاسِ.
__________
(1) المصباح مادة: (نقص) .
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 80 - 81 ط. الأميرية، الاختيار 2 / 20 ط. المعرفة، والبدائع 7 / 160 ط. الجمالية، نهاية المحتاج 4 / 65 - 66 ط. المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 3 / 220 ط النصر.(24/67)
وَزِيَادَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ كَخَلْطِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ، أَوِ السَّمْنِ بِالسَّمْنِ.
وَزِيَادَةُ صِفَةٍ كَالطَّحْنِ (1) .
ج - أَقْسَامُهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا مِنْ جِنْسِ الأَْصْل أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ:
7 - 1 - زِيَادَةٌ مِنْ جِنْسِ الأَْصْل كَزِيَادَةِ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ فِي الصَّلاَةِ وَتُسَمَّى أَيْضًا زِيَادَةً فِعْلِيَّةً، وَكَزِيَادَةِ سُورَةٍ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ أَيْ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي كُل رَكْعَةٍ وَتُسَمَّى زِيَادَةً قَوْلِيَّةً.
2 - زِيَادَةٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الأَْصْل كَالْكَلاَمِ الأَْجْنَبِيِّ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ، وَالأَْكْل وَالشُّرْبِ فِيهَا (2) .
الْقَوَاعِدُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالزِّيَادَةِ:
ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ ثَلاَثَ قَوَاعِدَ تَتَعَلَّقُ بِالزِّيَادَةِ:
الْقَاعِدَةُ الأُْولَى:
8 - الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ تَتْبَعُ الأَْصْل فِي سَائِرِ الأَْبْوَابِ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالتَّفْلِيسِ وَغَيْرِهِمَا، إِلاَّ فِي
__________
(1) حاشية الجمل على المنهج 3 / 329 ط. التراث.
(2) فتح القدير 1 / 358 ط. الأميرية، مواهب الجليل 1 / 36 ط. النجاح، روضة الطالبين 1 / 293 ط. المكتب الإسلامي، مطالب أولي النهى 1 / 536 ط. المكتب الإسلامي.(24/67)
الصَّدَاقِ فَإِنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ قَبْل الدُّخُول لاَ يَسْتَرْجِعُ مَعَ نِصْفِ الْمَهْرِ زِيَادَتَهُ إِلاَّ بِرِضَا الْمَرْأَةِ. وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ لاَ تَتْبَعُ الأَْصْل فِي الْكُل.
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ:
9 - الزِّيَادَةُ الْيَسِيرَةُ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْل لاَ أَثَرَ لَهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا غَبْنٌ مَا، كَمَا فِي الْوَكِيل بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَعَدْل الرَّهْنِ وَنَحْوِهِ إِلاَّ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مَا كَانَ شَرْعِيًّا عَامًّا، كَمَا فِي الْمُتَيَمِّمِ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ يُبَاعُ بِزِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْل لاَ تَلْزَمُهُ فِي الأَْصَحِّ، وَقِيل: إِنْ كَانَتْ مِمَّا يَتَغَابَنُ بِمِثْلِهَا وَجَبَ، وَالْمَذْهَبُ - أَيْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - الأَْوَّل، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَنَّ مَا وَضَعَهُ الشَّارِعُ وَهُوَ حَقٌّ لَهُ بُنِيَ عَلَى الْمُسَامَحَةِ.
أَمَّا وُجْدَانُ الْوَاجِبِ بِأَكْثَرَ مِنَ الْمُعْتَادِ فَيَنْزِل مَنْزِلَةَ الْعُدْمِ، كَمَا لَوْ وَجَدَ الْغَاصِبُ الْمِثْل يُبَاعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ لاَ يُكَلَّفُ تَحْصِيلَهُ فِي الأَْصَحِّ.
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ:
10 - الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَدَدِ إِذَا لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِي الْوُجُوبِ شَرْعًا لاَ يَتَأَثَّرُ بِفَقْدِهَا، وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ ثَمَانِيَةٌ عَلَى شَخْصٍ بِالزِّنَى، فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعَ أَرْبَعَةٌ عَنِ الشَّهَادَةِ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ رَجَعَ(24/68)
مِنْهُمْ خَمْسَةٌ ضَمِنُوا؛ لِنُقْصَانِ مَا بَقِيَ مِنَ الْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالزِّيَادَةِ:
الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلاَثِ فِي الْوُضُوءِ:
11 - مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ التَّثْلِيثُ أَيْ غُسْل الأَْعْضَاءِ الَّتِي فَرَضَهَا الْغُسْل ثَلاَثًا، وَفِي تَثْلِيثِ مَسْحِ الرَّأْسِ، وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلاَثِ فِي غُسْل الرِّجْلَيْنِ بِقَصْدِ الإِْنْقَاءِ خِلاَفٌ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلاَثِ فِي غُسْل الأَْعْضَاءِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ لاَ الْوَسْوَسَةَ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَرَاهَةُ الْغَسْلَةِ الرَّابِعَةِ فِي غَيْرِ الرِّجْلَيْنِ، وَأَمَّا فِي الرِّجْلَيْنِ فَالْمَطْلُوبُ فِيهِمَا الإِْنْقَاءُ حَتَّى لَوْ زَادَ عَلَى الثَّلاَثِ أَوِ الاِقْتِصَارُ عَلَى الثَّلاَثِ عَلَى خِلاَفٍ فِي ذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَرَاهَةُ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلاَثِ، وَقِيل: تَحْرُمُ، وَقِيل: هِيَ خِلاَفُ الأَْوْلَى.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى الْكَرَاهَةِ (2) لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ عَنِ الْوُضُوءِ، فَأَرَاهُ ثَلاَثًا
__________
(1) المنثور 2 / 182 - 185 ط. الأولى.
(2) ابن عابدين 1 / 81 ط. المصرية، الدسوقي 1 / 101 - 102 ط. الفكر، جواهر الإكليل 1 / 16 - 17 ط. المعرفة، روضة الطالبين 1 / 59 ط. المكتب الإسلامي، مطالب أولي النهى 1 / 97. ط المكتب الإسلامي، كشاف القناع 1 / 102 ط النصر.(24/68)
ثَلاَثًا، وَقَال: هَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ (1) .
الزِّيَادَةُ فِي الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ:
12 - الزِّيَادَةُ الْمَشْرُوعَةُ فِي الأَْذَانِ هِيَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّثْوِيبِ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّثْوِيبِ هُوَ أَنْ يَزِيدَ الْمُؤَذِّنُ عِبَارَةَ " الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ " مَرَّتَيْنِ بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَ أَذَانِهِ كَمَا يَقُول بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَال: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا قَال الْمُؤَذِّنُ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ قَال: الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ (2) .
وَأَصْل التَّثْوِيبِ أَنَّ بِلاَلاً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْذِنُهُ بِصَلاَةِ الْفَجْرِ فَقِيل: هُوَ نَائِمٌ، فَقَال: الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ الصَّلاَةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، فَأُقِرَّتْ فِي تَأْذِينِ الْفَجْرِ، فَثَبَتَ الأَْمْرُ عَلَى ذَلِكَ (3) .
__________
(1) حديث: " عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في صفة الوضوء ". أخرجه النسائي (1 / 88 - ط المكتبة التجارية) وجود إسناده ابن حجر في الفتح (1 / 223 - ط السلفية) .
(2) حديث أنس من السنة: " إذا قال المؤذن في أذان الفجر ". أخرجه البيهقي (1 / 423 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال: إسناده صحيح.
(3) حديث بلال: " أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بصلاة الفجر ". أخرجه ابن ماجه (1 / 237 - ط الحلبي) وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 153 ط. دار الجنان) : " هذا إسناد رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعا، سعيد بن المسيب لم يسمع من بلال ".(24/69)
وَخُصَّ التَّثْوِيبُ بِالصُّبْحِ لِمَا يَعْرِضُ لِلنَّائِمِ مِنَ التَّكَاسُل بِسَبَبِ النَّوْمِ، وَاعْتِبَارُ التَّثْوِيبِ زِيَادَةً إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى أَذَانِ بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ، وَلاَ يَجُوزُ زِيَادَةُ شَيْءٍ فِي أَلْفَاظِ الأَْذَانِ؛ لأَِنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ بِنَصِّ الشَّارِعِ، وَقَدْ تَوَاتَرَ النَّقْل عَلَى عَدَمِ زِيَادَةِ شَيْءٍ فِيهَا، وَالإِْقَامَةُ كَالأَْذَانِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَزِيدُ بَعْدَ قَوْلِهِ حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ مَرَّتَيْنِ (1) .
الزِّيَادَةُ فِي الأَْذْكَارِ الْمَسْنُونَةِ:
13 - سَبَقَ فِي بَحْثِ (ذِكْرٍ) حُكْمُ الزِّيَادَةِ فِي الأَْذْكَارِ الْمَسْنُونَةِ فَيُنْظَرُ هُنَاكَ.
الزِّيَادَةُ عَلَى الضَّرْبَتَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ:
14 - التَّيَمُّمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَالأَْكْمَل عِنْدَهُمْ ضَرْبَتَانِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الضَّرْبَتَيْنِ فَلاَ بَأْسَ بِهَا مَا دَامَ الْقَصْدُ اسْتِيعَابَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِالْمَسْحِ، سَوَاءٌ أَحَصَل ذَلِكَ بِضَرْبَتَيْنِ أَمْ أَكْثَرَ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 259 - 260 ط. الأميرية، تبيين الحقائق 1 / 91 ط. الأميرية، فتح القدير 1 / 169 ط الأميرية، جواهر الإكليل 1 / 36 - 37 ط. المعرفة، روضة الطالبين 1 / 199 ط. المكتب الإسلامي، المهذب 1 / 63 - 64 ط. الحلبي، المغني 1 / 406 - 408 ط. الرياض.(24/69)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَيَمُّمٍ) (1) .
الزِّيَادَةُ فِي الْفِعْل وَالْقَوْل فِي الصَّلاَةِ:
15 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الصَّلاَةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ زِيَادَةَ أَفْعَالٍ، أَوْ أَقْوَالٍ.
فَزِيَادَةُ الأَْفْعَال قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الصَّلاَةِ، فَتَبْطُل الصَّلاَةُ بِعَمْدِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ سَهْوًا فَلاَ بُطْلاَنَ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ.
وَالآْخَرُ: إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلاَةِ، فَيُبْطِل الصَّلاَةَ عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ وَجَهْلُهُ، إِنْ كَانَ كَثِيرًا وَلَمْ تَكُنْ ضَرُورَةٌ.
أَمَّا إِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ، أَوْ كَانَ يَسِيرًا، فَلاَ يَبْطُل.
وَالزِّيَادَةُ الْقَوْلِيَّةُ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يُبْطِل عَمْدُهُ الصَّلاَةَ، كَكَلاَمِ الآْدَمِيِّينَ.
وَالآْخَرُ، مَا لاَ يُبْطِل الصَّلاَةَ كَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، إِلاَّ أَنْ يُخَاطِبَ بِهِ كَقَوْلِهِ لِعَاطِسٍ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الصَّلاَةَ تَبْطُل بِتَعَمُّدِ النُّطْقِ بِحَرْفَيْنِ، أَفْهَمَا أَمْ لَمْ يُفْهِمَا، وَبِحَرْفٍ مُفْهِمٍ
__________
(1) تبيين الحقائق 1 / 38 ط. الأميرية، الدسوقي 1 / 158 ط. الفكر، حاشية القليوبي 1 / 91 ط. الحلبي، روضة الطالبين 1 / 112 ط. المكتب الإسلامي، كشاف القناع 1 / 179 ط. النصر، المغني 1 / 246 ط. الرياض.(24/70)
كَذَلِكَ. وَقَالُوا: يُعْذَرُ مَنْ تَكَلَّمَ بِيَسِيرِ الْكَلاَمِ إِنْ سَبَقَ لِسَانُهُ أَوْ نَسِيَ الصَّلاَةَ، أَوْ جَهِل تَحْرِيمَ الْكَلاَمِ فِيهَا، وَقَرُبَ عَهْدُهُ بِالإِْسْلاَمِ، وَلاَ يُعْذَرُ بِالْكَثِيرِ مِنْ ذَلِكَ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُفْسِدَاتِ الصَّلاَةِ، وَسُجُودِ السَّهْوِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْفِعْل، أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْهُ يُبْطِل الصَّلاَةَ.
وَفِي حَدِّهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ، الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُصَلِّي بِحَالٍ لَوْ رَآهُ إِنْسَانٌ مِنْ بَعِيدٍ، فَتَيَقَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلاَةِ فَهُوَ كَثِيرٌ، إِنْ كَانَ يَشُكُّ أَنَّهُ فِيهَا أَوْ لَمْ يَشُكَّ أَنَّهُ فِيهَا، فَهُوَ قَلِيلٌ.
وَأَمَّا الْقَوْل أَوِ الْكَلاَمُ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلاَتِهِ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، لِحَدِيثِ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ (2) .
وَمِنْهُ أَيْضًا: الأَْنِينُ وَالتَّأَوُّهُ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَكُل مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا قَصَدَ بِهِ الْجَوَابَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْجَوَابَ بَل الإِْعْلاَمَ أَنَّهُ فِي الصَّلاَةِ، فَلاَ تَفْسُدُ بِالاِتِّفَاقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 275، جواهر الإكليل 1 / 62، مغني المحتاج 1 / 194 - 199، وكشاف القناع 1 / 395 وما بعدها.
(2) حديث: " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ". أخرجه مسلم (1 / 381 - 382 - ط الحلبي) من حديث معاوية بن الحكم.(24/70)
فَلَوْ كَانَ الذِّكْرُ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ، كَمَا لَوْ ذَكَرَ الشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ ذِكْرِ الْمُؤَذِّنِ لَهُمَا، أَوْ سَمِعَ ذِكْرَ اللَّهِ، فَقَال: جَل جَلاَلُهُ، أَوْ ذِكْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى عَلَيْهِ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ (1) .
الزِّيَادَةُ عَلَى التَّكْبِيرَاتِ الأَْرْبَعِ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ وَأَثَرُهَا:
16 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ صَلاَةَ الْجِنَازَةِ أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ لاَ يَجُوزُ النَّقْصُ مِنْهَا، وَالأَْوْلَى عَدَمُ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُقَابِلُهُ الْبُطْلاَنُ لِزِيَادَةِ رُكْنٍ، فَإِنْ زَادَ الإِْمَامُ عَلَيْهَا تَكْبِيرَةً خَامِسَةً، فَفِي مُتَابَعَةِ الْمَأْمُومِ لَهُ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ أَوْ عَدَمِ مُتَابَعَتِهِ لَهُ فِيهَا خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
فَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ سِوَى زُفَرَ أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا فَعَل ذَلِكَ لَمْ يُتَابِعْهُ الْمُؤْتَمُّ فِي تِلْكَ التَّكْبِيرَةِ، لأَِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ أَرْبَعًا فِي آخِرِ صَلاَةِ جِنَازَةٍ صَلاَّهَا (2) . وَقَال زُفَرُ: يُتَابِعُهُ لأَِنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَبَّرَ خَمْسًا.
__________
(1) فتح القدير ط. أولى 1 / 286، ومراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي 175 - 179.
(2) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم كبر أربعا في آخر صلاة جنازة صلاها ". أخرجه الحاكم (1 / 386 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس، وضعف الذهبي في تلخيصه أحد رواته، وذكره ابن حجر في التلخيص (2 / 121 - ط شركة الطباعة الفنية) وقال: " روي هذا اللفظ من وجوه أخر كلها ضعيفة ".(24/71)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُسَلِّمُ الْمَأْمُومُ وَلاَ يَنْتَظِرُ إِمَامَهُ فِي التَّكْبِيرَةِ الْخَامِسَةِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَيُفَارِقُ الْمَأْمُومُ إِمَامَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي التَّكْبِيرَةِ الْخَامِسَةِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْل بِبُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِهَا، وَعَلَى الْقَوْل بِعَدَمِ الْبُطْلاَنِ لاَ يُفَارِقُهُ، وَلَكِنْ لاَ يُتَابِعُهُ فِيهَا عَلَى الأَْظْهَرِ، وَفِي تَسْلِيمِهِ فِي الْحَال أَوِ انْتِظَارِهِ حَتَّى يُسَلِّمَ إِمَامُهُ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الثَّانِي.
وَالأَْوْلَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ لاَ يَزِيدَ عَلَى أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ، وَلاَ خِلاَفَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى سَبْعِ تَكْبِيرَاتٍ، وَلاَ يَجُوزُ النَّقْصُ عَنْ أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عِنْدَهُمْ فِيمَا زَادَ عَلَى الأَْرْبَعِ إِلَى السَّبْعِ، فَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا كَبَّرَ خَمْسًا تَابَعَهُ الْمَأْمُومُ، وَلاَ يُتَابِعُهُ فِي زِيَادَةٍ عَلَيْهَا رَوَاهُ الأَْثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جِنَازَةٍ خَمْسًا وَقَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُهَا (1) .
وَرَوَى حَرْبٌ عَنْ أَحْمَدَ إِذَا كَبَّرَ خَمْسًا لاَ يُكَبِّرُ مَعَهُ، وَلاَ يُسَلِّمُ إِلاَّ مَعَ الإِْمَامِ، لأَِنَّهَا زِيَادَةٌ غَيْرُ مَسْنُونَةٍ لِلإِْمَامِ فَلاَ يُتَابِعُهُ الْمَأْمُومُ فِيهَا، كَالْقُنُوتِ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَأْمُومَ يُكَبِّرُ مَعَ الإِْمَامِ إِلَى سَبْعٍ، قَال الْخَلاَّل: ثَبَتَ الْقَوْل عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ يُكَبِّرُ مَعَ الإِْمَامِ إِلَى سَبْعٍ ثُمَّ
__________
(1) حديث زيد بن أرقم: " أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكبر خمسا على الجنائز ". أخرجه مسلم (2 / 659 - ط الحلبي) .(24/71)
لاَ يُزَادُ عَلَى سَبْعٍ، وَلاَ يُسَلِّمُ إِلاَّ مَعَ الإِْمَامِ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ.
الزِّيَادَةُ فِي الزَّكَاةِ عَلَى الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ إِخْرَاجُهُ:
17 - الأَْصْل أَنْ يُخْرِجَ الْمُزَكِّي الْقَدْرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ لإِِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ، فَإِنْ زَادَ فَذَلِكَ خَيْرٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (2) وَالزِّيَادَةُ قَدْ تَكُونُ فِي الْمِقْدَارِ أَوْ فِي الصِّفَةِ. فَمِنْ أَمْثِلَةِ الزِّيَادَةِ فِي صِفَةِ الْوَاجِبِ إِخْرَاجُ بِنْتِ اللَّبُونِ عَنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ، فَإِنَّ بِنْتَ اللَّبُونِ تَخْرُجُ عَنْ سِتٍّ وَثَلاَثِينَ مِنَ الإِْبِل وَبِنْتَ الْمَخَاضِ تَخْرُجُ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَالْحِقَّةُ عَنْ بِنْتِ اللَّبُونِ فَإِنَّ الْحِقَّةَ تَخْرُجُ عَنْ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ، وَإِخْرَاجُ الْجَذَعَةِ عَنِ الْحِقَّةِ فَإِنَّ الْجَذَعَةَ تَجِبُ فِي إِحْدَى وَسِتِّينَ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ الزِّيَادَةِ فِي الْمِقْدَارِ إِخْرَاجُ أَكْثَرَ مِنْ صَاعٍ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا صَاعٌ عَنْ كُل فَرْدٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (زَكَاةٍ) .
__________
(1) فتح القدير مع العناية 1 / 461 ط. الأميرية، تبيين الحقائق 1 / 241 ط. المعرفة، الفتاوى الهندية 1 / 164 ط. المكتبة الإسلامية، حاشية العدوي على الرسالة 1 / 374 ط. المعرفة، روضة الطالبين 2 / 124 ط. المكتب الإسلامي، حاشية القليوبي 1 / 331 ط الحلبي، المغني 2 / 514 - 515 ط. الرياض.
(2) سورة البقرة / 158.(24/72)
زِيَادَةُ الْوَكِيل عَمَّا حَدَّدَهُ لَهُ الْمُوَكِّل:
18 - الْوَكِيل لاَ يَمْلِكُ مِنَ التَّصَرُّفِ إِلاَّ مَا يَقْتَضِيهِ إِذْنُ مُوَكِّلِهِ مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ أَوْ جِهَةِ الْعُرْفِ؛ لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ بِالإِْذْنِ فَاخْتَصَّ بِمَا أَذِنَ فِيهِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالاِحْتِيَاطِ وَالْغِبْطَةِ، فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي زَمَنٍ مُقَيَّدٍ لَمْ يَمْلِكِ التَّصَرُّفَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ إِذْنُهُ مُطْلَقًا، وَلاَ عُرْفًا؛ لأَِنَّهُ قَدْ يُؤَثِّرُ التَّصَرُّفُ فِي زَمَنِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَكَالَةِ.
زِيَادَةُ الْمَبِيعِ وَأَثَرُهَا فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ:
19 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ زِيَادَةَ الْمَبِيعِ الْمُتَّصِلَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ كَسِمَنٍ وَجَمَالٍ لاَ تَمْنَعُ الرَّدَّ قَبْل الْقَبْضِ، وَكَذَا بَعْدَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ قَبُولُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَغَرْسٍ وَبِنَاءٍ فَتَمْنَعُ الرَّدَّ مُطْلَقًا. وَأَمَّا زِيَادَةُ الْمَبِيعِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ وَالأَْرْشِ فَلاَ تَمْنَعُ الرَّدَّ قَبْل الْقَبْضِ، فَإِنْ شَاءَ رَدَّهُمَا أَوْ رَضِيَ بِهِمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ يُمْتَنَعُ الرَّدُّ وَيَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ، وَأَمَّا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 403 وما بعدها، جواهر الإكليل 2 / 137 ط. المعرفة، مواهب الجليل 5 / 196 ط. النجاح، روضة الطالبين 4 / 316 ط. المكتب الإسلامي، المغني 5 / 131 - 132 ط. الرياض.(24/72)
الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَكَسْبٍ، وَغَلَّةٍ، وَهِبَةٍ، فَقَبْل الْقَبْضِ لاَ تَمْنَعُ الرَّدَّ، فَإِذَا رَدَّ فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي بِلاَ ثَمَنٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلاَ تَطِيبُ لَهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِلْبَائِعِ وَلاَ تَطِيبُ لَهُ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ لاَ تَمْنَعُ الرَّدَّ أَيْضًا، وَتَطِيبُ لَهُ الزِّيَادَةُ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي حَالَةِ رَدِّهِ الْمَبِيعَ بِعَيْبٍ قَدِيمٍ لِبَائِعِهِ، يَشْتَرِكُ مَعَ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ بِمِثْل نِسْبَةِ مَا زَادَ مِنْ قِيمَتِهِ، بِصَبْغِهِ أَوْ خِيَاطَتِهِ عَلَى قِيمَتِهِ خَالِيًا عَنْ ذَلِكَ مَعِيبًا، فَإِنْ قُوِّمَ مَصْبُوغًا بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَغَيْرَ مَصْبُوغٍ بِعَشَرَةٍ شَارَكَهُ بِثُلُثِهِ، دَلَّسَ بَائِعُهُ أَمْ لاَ، أَوْ يَتَمَسَّكُ بِالْمَبِيعِ وَيَأْخُذُ أَرْشَ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْبَيْعِ عَلَى الأَْرْجَحِ.
هَذَا فِي الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، وَذَكَرُوا فِي الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لاَ يَشْتَرِكُ مَعَ الْبَائِعِ فِيهَا عِنْدَ الرَّدِّ (1) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ تَتْبَعُ الأَْصْل فِي الرَّدِّ،
وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي نَمَاءِ الْمَبِيعِ الْمُتَّصِل كَالسِّمَنِ وَكِبَرِ الشَّجَرَةِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ إِفْرَادِ الزِّيَادَةِ، وَلِتَعَذُّرِ الرَّدِّ بِدُونِهَا، وَلأَِنَّ الْمِلْكَ قَدْ تَجَدَّدَ بِالْفَسْخِ فَكَانَتِ الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ فِيهِ تَابِعَةً لِلأَْصْل كَالْعَقْدِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 80 - 81 ط. الأميرية، الاختيار 2 / 20 ط. المعرفة، جواهر الإكليل 2 / 45 - 46، المعرفة، الدسوقي 3 / 127 ط. الفكر.(24/73)
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ عَيْنًا كَالْوَلَدِ، أَوْ مَنْفَعَةً كَالأُْجْرَةِ، فَهِيَ مِنَ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَمِنَ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فِي نَمَاءِ الْمَبِيعِ الْمُنْفَصِل، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (1) . وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ لاَ تَمْنَعُ الرَّدَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالْعَيْبِ عَمَلاً بِمُقْتَضَى الْعَيْبِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي خِيَارِ الْعَيْبِ.
الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّمَنِ وَأَثَرُهَا:
20 - تَتَّضِحُ آثَارُ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَنِ أَوِ النَّقْصِ مِنْهُ فِي الإِْقَالَةِ. يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِقَالَةٍ) ف 5 327
زِيَادَةُ الْمَشْفُوعِ فِيهِ هَل تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لِلشَّفِيعِ؟ :
21 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زِيَادَةِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ هَل تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لِلشَّفِيعِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَبِيعِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي يَدِ
__________
(1) حديث: " الخراج بالضمان ". أخرجه أبو داود (3 / 780 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير لابن حجر (3 / 22 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) نهاية المحتاج 4 / 65 - 66 ط. المكتبة الإسلامية، والجمل على المنهج 3 / 151 ط. التراث، وكشاف القناع 3 / 220 ط النصر، الإنصاف 4 / 412 - 413 ط. التراث.(24/73)
الْمُشْتَرِي قِبَل الآْخِذِ مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ، إِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ كَالشَّجَرِ إِذَا كَبُرَ فَهِيَ لِلشَّفِيعِ، لِعَدَمِ تَمَيُّزِهَا فَتَبِعَتِ الأَْصْل، كَمَا لَوْ رَدَّ بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارٍ أَوْ إِقَالَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مُتَمَيِّزَةً كَالْغَلَّةِ وَالأُْجْرَةِ وَالطَّلْعِ الْمُؤَبَّرِ وَالثَّمَرَةِ الظَّاهِرَةِ، فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي لاَ حَقَّ لِلشَّفِيعِ فِيهَا؛ لأَِنَّهَا حَدَثَتْ فِي مِلْكِهِ، وَتَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مُبْقَاةً فِي رُءُوسِ النَّخْل إِلَى الْجُذَاذِ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي الزِّيَادَةِ الْمُتَمَيِّزَةِ غَيْرِ الظَّاهِرَةِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الْقَدِيمُ -: تَتْبَعُ الأَْصْل كَمَا فِي الْبَيْعِ.
وَالثَّانِي - وَهُوَ الْجَدِيدُ -: لاَ تَتْبَعُ الأَْصْل لأَِنَّهُ اسْتِحْقَاقٌ بِغَيْرِ تَرَاضٍ فَلاَ يُؤْخَذُ بِهِ إِلاَّ مَا دَخَل بِالْعَقْدِ وَيُخَالِفُ الْبَيْعَ؛ لأَِنَّهُ اسْتِحْقَاقٌ عَنْ تَرَاضٍ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الاِسْتِثْنَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَثْنِ تَبِعَ الأَْصْل (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَشْفُوعِ فِيهِ كَالثَّمَرِ الَّذِي عَلَى النَّخْل لِلشَّفِيعِ إِذَا شَرَطَهُ فِي الْبَيْعِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَدْخُل بِدُونِ الشَّرْطِ، فَإِذَا شَرَطَهُ دَخَل فِي الْبَيْعِ وَاسْتُحِقَّ بِالشُّفْعَةِ، لأَِنَّهُ بِاعْتِبَارِ الاِتِّصَال صَارَ كَالنَّخْل وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ،
__________
(1) الاختيار 2 / 50 ط. المعرفة، جواهر الإكليل 2 / 163 ط. المعرفة، المهذب 1 / 389 ط. الحلبي، مطالب أولي النهى 4 / 120 ط. المكتب الإسلامي، المغني 5 / 346 ط. الرياض.(24/74)
وَالْقِيَاسُ أَنْ لاَ شُفْعَةَ فِيهِ لِعَدَمِ التَّبَعِيَّةِ، حَتَّى لاَ يَدْخُل فِي الْبَيْعِ بِدُونِ الشَّرْطِ، وَإِذَا دَخَل فِي الشُّفْعَةِ فَإِذَا جَذَّهُ الْمُشْتَرِي نَقَصَ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ لأَِنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالذِّكْرِ، فَقَابَلَهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الثَّمَرَةَ لأَِنَّهَا نَفْلِيَّةٌ أَيْ زِيَادَةٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى النَّخْل ثَمَرٌ وَقْتَ الْبَيْعِ فَأَثْمَرَ فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ بِالثَّمَرَةِ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ سَرَى إِلَيْهَا فَكَانَتْ تَبَعًا، فَإِذَا جَذَّهَا الْمُشْتَرِي فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ النَّخْل بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، لأَِنَّ الثَّمَرَةَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْعَقْدِ، فَلَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً فَلاَ يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الْمَأْخُوذِ مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ غَلَّتَهُ، أَيْ غَلَّةَ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ الَّتِي اسْتَغَلَّهَا قَبْل أَخْذِهِ مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ؛ لأَِنَّهُ كَانَ ضَامِنًا لَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (شُفْعَةٍ) .
زِيَادَةُ الْمَرْهُونِ:
22 - نَصَّ الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَرْهُونِ إِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَوَلِّدَةً مِنَ الأَْصْل وَلاَ فِي حُكْمِ الْمُتَوَلَّدِ مِنْهُ كَالْكَسْبِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، فَإِنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ لاَ يَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُ الرَّهْنِ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مَرْهُونَةً بِنَفْسِهَا، وَلاَ هِيَ بَدَل الْمَرْهُونِ، وَلاَ جُزْءٌ مِنْهُ، وَلاَ بَدَل جُزْءٍ مِنْهُ.
وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مُتَوَلِّدَةً مِنَ الأَْصْل كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ، أَوْ فِي حُكْمِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْهُ كَالأَْرْشِ وَالْعُقْرِ فَهِيَ مَرْهُونَةٌ تَبَعًا(24/74)
لِلأَْصْل؛ لأَِنَّ الرَّهْنَ حَقٌّ لاَزِمٌ فَيَسْرِي إِلَى التَّبَعِ.
وَزِيَادَةُ الْمَرْهُونِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالْغَلَّةِ، كَاللَّبَنِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ، وَعَسَل النَّحْل، لاَ تَدْخُل فِي الرَّهْنِ إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ الْمُرْتَهِنُ دُخُولَهَا، بِخِلاَفِ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ الأُْمِّ، فَإِنَّهُ يَنْدَرِجُ فِي الرَّهْنِ، سَوَاءٌ أَحَمَلَتْ بِهِ قَبْل الرَّهْنِ أَمْ بَعْدَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَرْهُونِ إِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً كَسِمَنِ الدَّابَّةِ وَكِبَرِ الشَّجَرَةِ تَبِعَتِ الأَْصْل فِي الرَّهْنِ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ لَمْ تُتْبَعْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ نَمَاءَ الرَّهْنِ جَمِيعَهُ وَغَلاَّتِهِ تَكُونُ رَهْنًا فِي يَدِ مَنِ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ كَالأَْصْل، وَإِذَا احْتِيجَ إِلَى بَيْعِهِ فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ بِيعَ مَعَ الأَْصْل، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُتَّصِل كَالسِّمَنِ وَالتَّعَلُّمِ، وَالْمُنْفَصِل كَالْكَسْبِ وَالأُْجْرَةِ وَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ وَالشَّعْرِ. لأَِنَّهُ حُكْمٌ يَثْبُتُ فِي الْعَيْنِ بِعَقْدِ الْمَالِكِ فَيَدْخُل فِيهِ النَّمَاءُ وَالْمَنَافِعُ كَالْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رَهْنٍ) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 152 ط. الجمالية، الاختيار 2 / 65 - 66 ط. المعرفة، الدسوقي 3 / 244 - 245 ط. الفكر، جواهر الإكليل 2 / 81 - 82 ط. المعرفة، روضة الطالبين 4 / 102 ط. المكتب الإسلامي، المغني 4 / 430 ط. الرياض.(24/75)
زِيَادَةُ الْمَوْهُوبِ وَأَثَرُهَا فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ:
23 - الزِّيَادَةُ فِي الْمَوْهُوبِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُنْفَصِلَةً. فَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً كَالثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ فَإِنَّهَا لاَ تُؤَثِّرُ فِي الرُّجُوعِ فِيهَا اتِّفَاقًا.
وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً مَنَعَتْ مِنَ الرُّجُوعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِيهَا دُونَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ، وَلاَ سَبِيل إِلَى الرُّجُوعِ بِالْهِبَةِ مَعَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لِعَدَمِ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهَا فَتَتْبَعُ الأَْصْل (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (هِبَةٍ) .
زِيَادَةُ الصَّدَاقِ وَحُكْمُهَا فِي الطَّلاَقِ قَبْل الدُّخُول:
24 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ قَبْل الدُّخُول تَشَطَّرَ الصَّدَاقُ سَوَاءٌ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ أَوْ حَدَثَتْ فِيهِ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ أَوْ مُنْفَصِلَةٌ، أَيْ أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ تَأْخُذُ حُكْمَ الأَْصْل، فَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ مَا دَفَعَهُ
__________
(1) الاختيار 3 / 51 ط. المعرفة، ابن عابدين 4 / 515 ط. الأميرية، جواهر الإكليل 2 / 215 ط. المعرفة، المهذب 1 / 331، 454 ط. الحلبي، حاشية القليوبي 3 / 114 ط. الحلبي، المغني 5 / 673 - 674 ط. الرياض.(24/75)
لَهَا بِزِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَةِ أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ؛ لأَِنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنَ الْعَيْنِ، وَالْحَادِثُ مِنْهَا بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْل الْقَبْضِ كَالْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ زِيَادَةَ الصَّدَاقِ الْمُنْفَصِلَةَ تَكُونُ لِلْمَرْأَةِ، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِنِصْفِ الأَْصْل فَقَطْ؛ لأَِنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ نَمَاءُ مِلْكِهَا، وَالرُّجُوعُ بِنِصْفِ الأَْصْل لاَ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً، فَإِنَّ الزَّوْجَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَسْتَقِل بِالرُّجُوعِ إِلَى النِّصْفِ ذَاتِهِ، بَل يُخَيِّرُ الزَّوْجَةَ بَيْنَ رَدِّ نِصْفِهِ زَائِدًا، وَبَيْنَ إِعْطَاءِ نِصْفِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْعَقْدِ (1) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (صَدَاقٍ) .
زِيَادَةُ التَّرِكَةِ الْحَاصِلَةُ بَعْدَ الْوَفَاةِ قَبْل أَدَاءِ الدَّيْنِ:
25 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زِيَادَةِ التَّرِكَةِ وَنَمَائِهَا الَّذِي حَدَثَ بَعْدَ وَفَاةِ الْمَدِينِ وَقَبْل أَدَاءِ الدَّيْنِ، كَأُجْرَةِ دَارٍ لِلسُّكْنَى، وَكَدَابَّةٍ وَلَدَتْ أَوْ سَمِنَتْ، وَكَشَجَرٍ صَارَ لَهُ ثَمَرٌ، هَل يُضَمُّ إِلَى التَّرِكَةِ لِمَصْلَحَةِ الدَّائِنِينَ أَوْ هُوَ مِلْكٌ لِلْوَارِثِ.
__________
(1) فتح القدير 2 / 456 ط. الأميرية، جواهر الإكليل 1 / 317 ط. المعرفة، الدسوقي 2 / 319 ط. الفكر، روضة الطالبين 7 / 293 ط. المكتب الإسلامي، مطالب أولي النهى 5 / 196 ط. المكتب الإسلامي.(24/76)