مَا يَتَعَلَّقُ بِالرُّؤْيَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
رُؤْيَةُ الأَْجْنَبِيَّاتِ وَالْمَحَارِمِ:
5 - يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل تَعَمُّدُ رُؤْيَةِ مَا يُعْتَبَرُ عَوْرَةً مِنَ الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَحْرَمًا أَمْ أَجْنَبِيَّةً عَلَى الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ مَا هُوَ عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَحْرَمِ وَمَا هُوَ عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْجْنَبِيِّ. هَذَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ حَالاَتِ الضَّرُورَةِ كَالنَّظَرِ لِلْعِلاَجِ أَوْ مِنْ أَجْل الشَّهَادَةِ.
كَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ تَعَمُّدُ رُؤْيَةِ مَا يُعْتَبَرُ عَوْرَةً مِنَ الرَّجُل سَوَاءٌ أَكَانَ مَحْرَمًا أَمْ أَجْنَبِيًّا مَعَ الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ مَا هُوَ عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَحْرَمِ وَمَا هُوَ عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْجْنَبِيِّ.
وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل تَعَمُّدُ رُؤْيَةِ الْعَوْرَةِ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ. وَيَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ تَعَمُّدُ رُؤْيَةِ الْعَوْرَةِ مِنَ امْرَأَةٍ أُخْرَى.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا. . .} (1) إِلَخْ الآْيَةِ.
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: يَا أَسْمَاءُ: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا
__________
(1) سورة النور / 30، 31(22/16)
إِلاَّ هَذَا وَهَذَا وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ (1) .
وَتَعَمُّدُ النَّظَرِ بِشَهْوَةٍ إِلَى مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ حَرَامٌ سَوَاءٌ أَكَانَ النَّظَرُ مِنَ الرَّجُل إِلَى الْمَرْأَةِ أَوِ الْعَكْسَ؛ لأَِنَّهُ يَجُرُّ إِلَى الْفِتْنَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَلِيُّ لاَ تُتْبِعُ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الأُْولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآْخِرَةُ (2) ، وَلِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الْفَضْل بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ رَدِيفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجِّ فَجَاءَتْهُ الْخَثْعَمِيَّةُ تَسْتَفْتِيهِ، فَأَخَذَ الْفَضْل يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ هِيَ إِلَيْهِ فَصَرَفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجْهَ الْفَضْل عَنْهَا (3) . فَقَال لَهُ الْعَبَّاسُ فِي رِوَايَةٍ: لَوَيْتَ عُنُقَ ابْنِ عَمِّكَ. قَال: رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً فَلَمْ آمَنِ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِمَا (4) .
هَذَا مَعَ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ فِي الْجُمْلَةِ بِنَظَرِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِلَى عَوْرَةِ الآْخَرِ فَيَحِل لِكُلٍّ مِنْهُمَا النَّظَرُ إِلَى كُل بَدَنِ الآْخَرِ.
__________
(1) حديث: " يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت. . . . " أخرجه أبو داود (4 / 358 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة، وقال أبو داود: " هذا مرسل، خالد بن دريك لم يدرك عائشة ".
(2) حديث: " يا علي، لا تتبع النظرة النظرة. . . . . . . . . . " أخرجه الترمذي (5 / 101 - ط الحلبي) من حديث بريدة، وقال الترمذي: " حديث حسن غريب ".
(3) حديث الفضل بن العباس مع الخثعمية أخرجه البخاري (الفتح 3 / 378 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 973 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.
(4) أخرجها الترمذي (3 / 224) ط الحلبي (وقال: حديث حسن صحيح) .(22/17)
وَيَجُوزُ فِي الْجُمْلَةِ رُؤْيَةُ الإِْنْسَانِ عَوْرَةَ نَفْسِهِ (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (أَجْنَبِيٌّ، أُنُوثَةٌ، حِجَابٌ، سَتْرُ الْعَوْرَةِ، عَوْرَةٌ، نَظَرٌ) .
رُؤْيَةُ الْمَخْطُوبَةِ:
6 - الأَْصْل أَنَّ تَعَمُّدَ رُؤْيَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (2) لَكِنْ مَنْ أَرَادَ النِّكَاحَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَى مَنْ يُرِيدُ نِكَاحَهَا، بَل يُسَنُّ ذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَقَدْ خَطَبَ امْرَأَةً: انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا (3) ، بَل يَجُوزُ تَكْرَارُ النَّظَرِ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ لِيَتَبَيَّنَ هَيْئَتَهَا، فَلاَ يَنْدَمُ بَعْدَ النِّكَاحِ، إِذْ لاَ يَحْصُل الْغَرَضُ غَالِبًا بِأَوَّل نَظْرَةٍ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (4) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (خِطْبَةٌ) .
رُؤْيَةُ الْمُتَيَمِّمِ الْمَاءَ:
7 - مَنْ تَيَمَّمَ لِلصَّلاَةِ لِعَدَمِ وُجُودِ الْمَاءِ ثُمَّ رَأَى
__________
(1) ابن عابدين 5 / 233 وما بعدها، والدسوقي 1 / 214 وما بعدها، ومغني المحتاج 3 / 128، 129، والمغني 6 / 554 وما بعدها، والقرطبي 12 / 222 وما بعدها.
(2) سورة النور / 30.
(3) حديث: " انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما. . " أخرجه الترمذي (3 / 397 - ط الحلبي) ، وقال: " حديث حسن ".
(4) مغني المحتاج 3 / 128، والمغني 6 / 552 - 553، والدسوقي 2 / 215.(22/17)
الْمَاءَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ قَبْل الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ بَطَل تَيَمُّمُهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ (1) .
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ بُطْلاَنَ التَّيَمُّمِ بِمَا إِذَا اتَّسَعَ الْوَقْتُ لأَِدَاءِ رَكْعَةٍ بَعْدَ اسْتِعْمَال الْمَاءِ وَإِلاَّ فَلاَ يَبْطُل التَّيَمُّمُ.
وَذَهَبَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لاَ يَنْتَقِضُ بِوُجُودِ الْمَاءِ أَصْلاً؛ لأَِنَّ الطَّهَارَةَ بَعْدَ صِحَّتِهَا لاَ تَنْتَقِضُ إِلاَّ بِالْحَدَثِ، وَوُجُودُ الْمَاءِ لَيْسَ بِحَدَثٍ (2) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (حَدَثٌ، وَوُضُوءٌ، وَتَيَمُّمٌ، وَصَلاَةٌ) .
رُؤْيَةُ الْمَبِيعِ:
8 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ الْعِلْمُ بِالْمَبِيعِ، فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ مَعَ الْجَهْل بِالْمَبِيعِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ} (3) مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا عَلِمَ الْمَبِيعَ.
وَمِنَ الأُْمُورِ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا الْعِلْمُ بِالْمَبِيعِ الرُّؤْيَةُ الْمُقَارِنَةُ لِلْعَقْدِ، فَإِذَا رَأَى الْمُتَعَاقِدَانِ الْمَبِيعَ حَال
__________
(1) حديث: " إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم. . . . " أخرجه الترمذي (1 / 212 - ط لحلبي) ، والحاكم (1 / 176 - 177 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي ذر، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) البدائع 1 / 57، والدسوقي 1 / 158 - 159، وجواهرالإكليل 1 / 28، وأسنى المطالب 1 / 88، والمغني 1 / 268 - 269، والقواعد لابن رجب ص 10
(3) سورة البقرة / 275.(22/18)
الْعَقْدِ يَكُونُ الْبَيْعُ لاَزِمًا فَلاَ يَكُونُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَيَقُومُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ الْمُقَارِنَةِ لِلْعَقْدِ الرُّؤْيَةُ السَّابِقَةُ عَلَى الْعَقْدِ بِزَمَنٍ لاَ يَتَغَيَّرُ فِيهِ الْمَبِيعُ غَالِبًا تَغَيُّرًا ظَاهِرًا فِيهِ لِحُصُول الْعِلْمِ بِالْمَبِيعِ بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ شَاهَدَاهُ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَالشَّرْطُ إِنَّمَا هُوَ الْعِلْمُ، وَإِنَّمَا الرُّؤْيَةُ طَرِيقُ الْعِلْمِ، وَلاَ حَدَّ لِلزَّمَنِ الَّذِي لاَ يَتَغَيَّرُ فِيهِ الْمَبِيعُ، إِذِ الْمَبِيعُ مِنْهُ مَا يُسْرِعُ تَغَيُّرُهُ، وَمَا يَتَبَاعَدُ، وَمَا يَتَوَسَّطُ، فَيُعْتَبَرُ كُلٌّ بِحَسَبِهِ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَبِيعَ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ أَصْبَحَ الْبَيْعُ لاَزِمًا وَلاَ خِيَارَ فِيهِ، وَإِنْ وَجَدَ الْمَبِيعَ مُتَغَيِّرًا عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي رَآهُ عَلَيْهَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي.
وَجَوَازُ الْبَيْعِ بِالرُّؤْيَةِ السَّابِقَةِ عَلَى الْعَقْدِ هُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَال أَبُو الْقَاسِمِ الأَْنْمَاطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ فِي الْقَوْل الْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ حَتَّى يَرَيَا الْمَبِيعَ حَال الْعَقْدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَكَمِ وَحَمَّادٍ؛ لأَِنَّ الرُّؤْيَةَ شَرْطٌ فِي الْعَقْدِ، وَمَا كَانَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا حَال الْعَقْدِ كَالشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي (خِيَارُ الرُّؤْيَةِ) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 292 - 293، وابن عابدين 4 / 69، وجواهر الإكليل 2 / 9، والدسوقي 3 / 24، ومغني المحتاج 2 / 18 - 19، والمهذب 1 / 271، والمغني 3 / 583، وشرح منتهى الإرادات 2 / 146(22/18)
الرُّؤْيَةُ الْمُعْتَبَرَةُ:
9 - الْمُعْتَبَرُ فِي رُؤْيَةِ الْمَبِيعِ الْعِلْمُ بِالْمَقْصُودِ الأَْصْلِيِّ مِنْ مَحَل الْعَقْدِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلاَفِ الْمَقَاصِدِ، فَلَيْسَ مِنَ اللاَّزِمِ رُؤْيَةُ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ، بَل قَدْ تَكْفِي رُؤْيَةُ الْبَعْضِ الَّذِي يَدُل عَلَى بَقِيَّتِهِ وَعَلَى الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ؛ لأَِنَّ رُؤْيَةَ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ قَدْ تَكُونُ مُتَعَذِّرَةً كَمَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ صُبْرَةً فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ رُؤْيَةُ كُل حَبَّةٍ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ يُكْتَفَى بِرُؤْيَةِ مَا هُوَ مَقْصُودٌ، فَإِذَا رَآهُ جَعَل غَيْرَ الْمَرْئِيِّ تَبَعًا لِلْمَرْئِيِّ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَبِيعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةً. فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ شَيْئًا وَاحِدًا فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِرُؤْيَةِ الْبَعْضِ الَّذِي يَدُل عَلَى الْمَقْصُودِ، فَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ مَثَلاً فَرَسًا أَوْ بَغْلاً أَوْ حِمَارًا فَيُكْتَفَى بِرُؤْيَةِ الْوَجْهِ وَالْمُؤَخِّرَةِ؛ لأَِنَّ الْوَجْهَ وَالْكَفَل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُضْوٌ مَقْصُودٌ فِي هَذَا الْجِنْسِ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ بَقَرَةً حَلُوبًا، فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَنْظُرُ إِلَى الضَّرْعِ، وَهَكَذَا.
وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةً، فَإِنْ كَانَتْ آحَادُهُ لاَ تَتَفَاوَتُ، وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمِثْلِيِّ، وَمِنْ عَلاَمَتِهِ أَنْ يُعْرَضَ بِالنَّمُوذَجِ كَالْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِرُؤْيَةِ بَعْضِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْبَاقِي أَرْدَأَ مِمَّا رَأَى فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ.
وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ أَثْوَابًا مُتَعَدِّدَةً وَهِيَ مِنْ نَمَطٍ وَاحِدٍ لاَ تَخْتَلِفُ عَادَةً بِحَيْثُ يُبَاعُ كُل وَاحِدٍ مِنْهَا(22/19)
بِثَمَنٍ مُتَّحِدٍ فَقَدْ اسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ يَكْفِي رُؤْيَةُ ثَوْبٍ مِنْهَا؛ لأَِنَّهَا تُبَاعُ بِالنَّمُوذَجِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ، وَيَلْحَقُ بِمَا لاَ تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَقَارِبَةُ كَالْجَوْزِ، فَيُكْتَفَى بِرُؤْيَةِ الْبَعْضِ عَنْ رُؤْيَةِ الْكُل؛ لأَِنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ صَغِيرِ الْجَوْزِ وَكَبِيرِهِ مُتَقَارِبٌ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ عُرْفًا وَعَادَةً، وَهُوَ الأَْصَحُّ، خِلاَفًا لِلْكَرْخِيِّ حَيْثُ أَلْحَقَهُ بِالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ لاِخْتِلاَفِهَا فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَجَعَل لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ.
وَإِنْ كَانَتْ آحَادُ الْمَبِيعِ تَتَفَاوَتُ وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْقِيَمِيِّ وَيُسَمَّى الْعَدَدِيَّاتَ الْمُتَفَاوِتَةَ، وَلاَ يُبَاعُ بِالنَّمُوذَجِ كَالدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ الْمُتَفَاوِتَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلاَ بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ مَا يَدُل عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ أَوْ رُؤْيَةِ ذَلِكَ مِنْ كُل وَاحِدٍ إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الأَْشْيَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ كَعَدَدٍ مِنَ الدَّوَابِّ.
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ فِي الْجُمْلَةِ (1) ، مَعَ اخْتِلاَفِ الْمَذَاهِبِ - وَكَذَا فُقَهَاءُ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ - فِي تَحْدِيدِ مَا يَتِمُّ بِهِ الْعِلْمُ بِالْمَقْصُودِ لِيُكْتَفَى بِرُؤْيَتِهِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَارُ الرُّؤْيَةِ) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 65، 66 - 67، والبدائع 5 / 293، 294، والهداية وشروحها 5 / 536، 537، نشر دار إحياء التراث، والدسوقي 3 / 24، والحطاب والمواق بهامشه 4 / 293، 294، ومغني المحتاج 2 / 19، 20، وكشاف القناع 3 / 163، والمغني 3 / 581.(22/19)
رُؤْيَةُ الْمَشْهُودِ بِهِ:
10 - مِنْ شُرُوطِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ مَعْلُومًا لِلشَّاهِدِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ.
فَلاَ يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ إِلاَّ بِمَا يَعْلَمُهُ بِرُؤْيَةٍ أَوْ سَمَاعٍ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُل أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} (1) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: ذُكِرَ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُل يَشْهَدُ بِشَهَادَةٍ، فَقَال لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ وَأَوْمَأَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ (2) .
وَمِنْ مَدَارِكِ الْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ الرُّؤْيَةُ، فَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ مِنَ الأَْفْعَال كَالْغَصْبِ وَالإِْتْلاَفِ وَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَسَائِرِ الأَْفْعَال، وَكَذَا الصِّفَاتُ الْمَرْئِيَّةُ كَالْعُيُوبِ فِي الْمَبِيعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِرُؤْيَتِهِ، فَهَذَا يُشْتَرَطُ فِي تَحَمُّل الشَّهَادَةِ فِيهِ الرُّؤْيَةُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ قَطْعًا إِلاَّ بِرُؤْيَتِهِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِثْل الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ
__________
(1) سورة الإسراء / 36.
(2) حديث: " عن ابن عباس قال: ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل. . . . " أخرجه الحاكم (4 / 98 - 99 - ط دائرة المعارف العثمانية) وضعفه الذهبي في تلخيصه للمستدرك، وكذا ضعفه ابن حجر في التلخيص (4 / 198 - ط شركة الطباعة الفنية) .(22/20)
وَالإِْجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْقْوَال، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مِنْ مَدَارِكِ الْعِلْمِ، هَل لاَ بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعَ سَمَاعِ أَقْوَالِهِمَا، أَمْ يَكْفِي السَّمَاعُ فَقَطْ؟ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَكْفِي السَّمَاعُ وَلاَ تُعْتَبَرُ رُؤْيَةُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إِذَا عَرَفَهُمَا وَتَيَقَّنَ أَنَّهُ كَلاَمُهُمَا، وَبِهَذَا قَال ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ وَشُرَيْحٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى؛ لأَِنَّهُ عَرَفَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يَقِينًا فَجَازَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ رَآهُ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ لِمَنْ عَرَفَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ يَقِينًا، وَقَدْ يَحْصُل الْعِلْمُ بِالسَّمَاعِ يَقِينًا، وَقَدِ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ بِتَجْوِيزِهِ الرِّوَايَةَ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ، وَلِهَذَا قُبِلَتْ رِوَايَةُ الأَْعْمَى وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى عَنْ أَزْوَاجِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ مَحَارِمِهِنَّ.
وَالأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ تُشْتَرَطُ الرُّؤْيَةُ مَعَ السَّمَاعِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ مِنَ الأَْقْوَال كَالأَْفْعَال؛ لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ تَحَمُّل الشَّهَادَةِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ التَّحَمُّل بِمُعَايَنَةِ الْمَشْهُودِ لَهُ بِنَفْسِهِ لاَ بِغَيْرِهِ إِلاَّ فِي أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ يَصِحُّ التَّحَمُّل فِيهَا بِالتَّسَامُعِ مِنَ النَّاسِ كَالنِّكَاحِ وَالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ، وَالدَّلِيل عَلَى شَرْطِ التَّحَمُّل عَنْ طَرِيقِ الْمُعَايَنَةِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ عَلَى مَا يُضِيءُ لَكَ كَضِيَاءِ هَذِهِ الشَّمْسِ، وَأَوْمَأَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّمْسِ وَلاَ يَعْلَمُ مِثْل الشَّمْسِ إِلاَّ بِالْمُعَايَنَةِ بِنَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الأَْعْمَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ سَوَاءٌ أَكَانَ(22/20)
بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّل أَمْ لاَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُقْبَل إِذَا كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّل.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ سَمِعَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَوْ فَسَّرَهُ لِلْقَاضِي بِأَنْ قَال: سَمِعْتُهُ بَاعَ وَلَمْ أَرَ شَخْصَهُ حِينَ تَكَلَّمَ، لاَ يَقْبَلُهُ؛ لأَِنَّ النَّغْمَةَ تُشْبِهُ النَّغْمَةَ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ دَخَل الْبَيْتَ وَعَلِمَ الشَّاهِدُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ سِوَاهُ ثُمَّ جَلَسَ عَلَى الْبَابِ وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ مَسْلَكٌ غَيْرُهُ فَسَمِعَ إِقْرَارَ الدَّاخِل وَلاَ يَرَاهُ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِمَا سَمِعَ؛ لأَِنَّهُ حَصَل بِهِ الْعِلْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: كَذَلِكَ لاَ بُدَّ مِنَ الرُّؤْيَةِ مَعَ السَّمَاعِ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الأَْقْوَال كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِثْل الشَّهَادَةِ عَلَى الأَْفْعَال. وَلِذَلِكَ لاَ تُقْبَل فِيهَا شَهَادَةُ الأَْصَمِّ وَلاَ الأَْعْمَى اعْتِمَادًا عَلَى الصَّوْتِ؛ لأَِنَّ الأَْصْوَاتَ تَتَشَابَهُ وَيَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا التَّلْبِيسُ.
وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مِثْل الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَأَنْكَرَهُ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٌ) .
__________
(1) البداية وشروحها، فتح القدير والعناية 6 / 462 - 463، وبدائع الصنائع 6 / 266، 268، والدسوقي 4 / 167، وأسنى المطالب 4 / 364، ومغني المحتاج 4 / 446، والمغني 9 / 158 - 159، 189(22/21)
رُؤْيَةُ الْقَاضِي الْخُصُومَ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ قَضَاءِ الأَْعْمَى، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (قَضَاء، وَعَمَى، وَغَيْبَة) .
أَثَرُ الرُّؤْيَةِ:
12 - لِلرُّؤْيَةِ أَثَرٌ فِي بَعْضِ الأَْحْكَامِ وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - وُجُوبُ الصَّوْمِ لِرُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ وَوُجُوبُ الْفِطْرِ لِرُؤْيَةِ هِلاَل شَوَّالٍ (1) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمُ الشَّهْرُ فَعُدُّوا لَهُ ثَلاَثِينَ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (رُؤْيَةُ الْهِلاَل) .
ب - رُؤْيَةُ الْمُنْكَرِ تُوجِبُ النَّهْيَ عَنْهُ وَمُحَاوَلَةَ تَغْيِيرِهِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِْيمَانِ (4) :
__________
(1) المغني 3 / 89 - 90
(2) حديث " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 119 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 762 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم.
(3) سورة آل عمران / 104.
(4) حديث: " من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن. . . . . . . " أخرجه مسلم (1 / 69 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري.(22/21)
هَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ أَنَّ الْوَاجِبَ تَغْيِيرُهُ هُوَ الْمُجْمَعُ عَلَى إِنْكَارِهِ، وَمُرَاعَاةِ عَدَمِ تَرَتُّبِ فِتْنَةٍ عَلَى مُحَاوَلَةِ التَّغْيِيرِ، وَمُرَاعَاةِ الظُّرُوفِ الَّتِي تَتَلاَءَمُ مَعَ كُل مَرْتَبَةٍ مِنَ الْمَرَاتِبِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْحَدِيثِ مِنَ التَّغْيِيرِ بِالْيَدِ أَوْ بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ (1) . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ) .
ج - يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ (2) . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُول إِذَا رَأَى الْبَيْتَ: " بِاسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ.
وَالأَْفْضَل الدُّعَاءُ بِالْمَأْثُورِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَال: اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَمَهَابَةً، وَزِدْ مِنْ شَرَفِهِ وَكَرَمِهِ مِمَّنْ حَجَّهُ أَوِ اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا (3) .
د - رُؤْيَةُ عَيْبٍ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ تُثْبِتُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ (4) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (خِيَارُ الْعَيْبِ)
__________
(1) إحياء علوم الدين 2 / 312 - 319
(2) الهداية وفتح القدير 2 / 352 - 353
(3) حديث: " كان إذا رأى البيت رفع يديه، وقال: اللهم زد هذا البيت. . . . " أخرجه الشافعي في المسند (1 / 339 - ترتيب السندي - ط مطبعة السعادة) وقال ابن حجر: " وهو معضل فيما بين ابن جريج والنبي صلى الله عليه وسلم كذا في التلخيص (2 / 242 - ط شركة الطباعة الفينة) .
(4) ابن عابدين 4 / 72.(22/22)
رُؤْيَةُ الْهِلاَل
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّؤْيَةُ: النَّظَرُ بِالْعَيْنِ وَالْقَلْبِ، وَهِيَ مَصْدَرُ رَأَى، وَالرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَبِمَعْنَى الْعِلْمِ تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ (1) . وَحَقِيقَةُ الرُّؤْيَةِ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى الأَْعْيَانِ كَانَتْ بِالْبَصَرِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ (2) ، وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ مَجَازًا (3) .
وَتَرَاءَى الْقَوْمُ: رَأَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَتَرَاءَيْنَا الْهِلاَل: نَظَرْنَا.
وَلِلْهِلاَل عِدَّةُ مَعَانٍ مِنْهَا: الْقَمَرُ فِي أَوَّل اسْتِقْبَالِهِ الشَّمْسَ كُل شَهْرٍ قَمَرِيٍّ فِي اللَّيْلَةِ الأُْولَى وَالثَّانِيَةِ، قِيل: وَالثَّالِثَةِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَسَبْعٍ وَعِشْرِينَ
__________
(1) لسان العرب، مادة: (رأى) .
(2) حديث: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 119 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 762 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) أبو البقاء الكفوي: الكليات (معجم في المصطلحات والفروق اللغوية) ، وابن منظور: لسان العرب، مادة: (رأى) .(22/22)
لأَِنَّهُ فِي قَدْرِ الْهِلاَل فِي أَوَّل الشَّهْرِ.
وَقِيل يُسَمَّى هِلاَلاً إِلَى أَنْ يَبْهَرَ ضَوْءُهُ سَوَادَ اللَّيْل، وَهَذَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي اللَّيْلَةِ السَّابِعَةِ (1) .
وَالْمَقْصُودُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل: مُشَاهَدَتُهُ بِالْعَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ السَّابِقِ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ خَبَرُهُ وَتُقْبَل شَهَادَتُهُ فَيَثْبُتُ دُخُول الشَّهْرِ بِرُؤْيَتِهِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
طَلَبُ رُؤْيَةِ الْهِلاَل:
2 - رُؤْيَةُ الْهِلاَل أَمْرٌ يَقْتَضِيهِ ارْتِبَاطُ تَوْقِيتِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ بِهَا، فَيُشْرَعُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجِدُّوا فِي طَلَبِهَا وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي لَيْلَةِ الثَّلاَثِينَ مِنْ شَعْبَانَ لِمَعْرِفَةِ دُخُول رَمَضَانَ، وَلَيْلَةِ الثَّلاَثِينَ مِنْ رَمَضَانَ لِمَعْرِفَةِ نِهَايَتِهِ وَدُخُول شَوَّالٍ، وَلَيْلَةِ الثَّلاَثِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لِمَعْرِفَةِ ابْتِدَاءِ ذِي الْحِجَّةِ. فَهَذِهِ الأَْشْهُرُ الثَّلاَثَةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا رُكْنَانِ مِنْ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ هُمَا الصِّيَامُ وَالْحَجُّ، وَلِتَحْدِيدِ عِيدِ الْفِطْرِ وَعِيدِ الأَْضْحَى.
وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَلَبِ الرُّؤْيَةِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ (2) .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ
__________
(1) الجوهري: الصحاح، مادة: (هلال) ، وابن منظور: لسان العرب، مادة (هلل) .
(2) حديث: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 119 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 762 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، ولفظ مسلم: " غمّي ".(22/23)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ (1) .
أَوْجَبَ الْحَدِيثُ الأَْوَّل صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ بِرُؤْيَةِ هِلاَلِهِ أَوْ بِإِكْمَال شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ، وَأَمَرَ بِالإِْفْطَارِ لِرُؤْيَةِ هِلاَل شَوَّالٍ، أَوْ بِإِتْمَامِ رَمَضَانَ ثَلاَثِينَ.
وَنَهَى الْحَدِيثُ الثَّانِي عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ قَبْل رُؤْيَةِ هِلاَلِهِ أَوْ قَبْل إِتْمَامِ شَعْبَانَ فِي حَالَةِ الصَّحْوِ.
وَوَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ فِيهِ أَمْرٌ بِالاِعْتِنَاءِ بِهِلاَل شَعْبَانَ لأَِجْل رَمَضَانَ قَال: أَحْصُوا هِلاَل شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ (2) وَحَدِيثٌ يُبَيِّنُ اعْتِنَاءَهُ بِشَهْرِ شَعْبَانَ لِضَبْطِ دُخُول رَمَضَانَ، عَنْ عَائِشَةَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَفَّظُ مِنْ شَعْبَانَ مَا لاَ يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ يَصُومُ لِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ عَدَّ ثَلاَثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ (3) قَال الشُّرَّاحُ: أَيْ
__________
(1) حديث: " الشهر تسع وعشرون ليلة. . . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 119 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 759 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " أحصوا هلال شعبان لرمضان. . . " أخرجه الترمذي (3 / 62 - ط الحلبي) ، والحاكم (1 / 425 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " كان يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره " أخرجه أبو داود (2 / 744 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 423 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(22/23)
يَتَكَلَّفُ فِي عَدِّ أَيَّامِ شَعْبَانَ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ (1) . وَقَدِ اهْتَمَّ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ فَكَانُوا يَتَرَاءَوْنَهُ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَال: تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلاَل فَأَخْبَرْتُ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ (2) .
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَال: كُنَّا مَعَ عُمَرَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَتَرَاءَيْنَا الْهِلاَل، وَكُنْتُ رَجُلاً حَدِيدَ الْبَصَرِ فَرَأَيْتُهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَآهُ غَيْرِي. قَال: فَجَعَلْتُ أَقُول لِعُمَرَ: أَمَا تَرَاهُ؟ فَجَعَل لاَ يَرَاهُ. قَال: يَقُول عُمَرُ: سَأَرَاهُ وَأَنَا مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِي (3) .
وَقَدْ أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ كِفَايَةَ الْتِمَاسِ رُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ مِنْ شَعْبَانَ فَإِنْ رَأَوْهُ صَامُوا، وَإِلاَّ أَكْمَلُوا الْعِدَّةَ ثُمَّ صَامُوا (4) ؛ لأَِنَّ
__________
(1) عون المعبود 6 / 444.
(2) حديث ابن عمر: " تراءى الناس الهلال " أخرجه أبو داود (2 / 756 - 757 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 423 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) أثر أنس بن مالك: " كنا مع عمر بين مكة والمدينة " أخرجه مسلم (4 / 2202 - ط الحلبي) .
(4) الشرنبلالي: حسن بن عمار، مراقي الفلاح (ص 107 المطبعة العلمية 1315) ، رسائل ابن عابدين 1 / 222(22/24)
مَا لاَ يَحْصُل الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ تَرَائِي الْهِلاَل احْتِيَاطًا لِلصَّوْمِ وَحِذَارًا مِنْ الاِخْتِلاَفِ (1) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تَصْرِيحًا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
طُرُقُ إِثْبَاتِ الْهِلاَل:
أَوَّلاً: الرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ:
أ - الرُّؤْيَةُ مِنَ الْجَمِّ الْغَفِيرِ الَّذِينَ تَحْصُل بِهِمْ الاِسْتِفَاضَةُ:
3 - هِيَ رُؤْيَةُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ الَّذِينَ لاَ يَجُوزُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ عَادَةً، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي صِفَتِهِمْ مَا يُشْتَرَطُ فِي صِفَةِ الشَّاهِدِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ وَالْبُلُوغِ وَالْعَدَالَةِ (2) .
وَهَذَا أَحَدُ تَفْسِيرَيْ الاِسْتِفَاضَةِ، وَقَدِ ارْتَقَتْ بِهِ إِلَى التَّوَاتُرِ، أَمَّا التَّفْسِيرُ الثَّانِي لِلاِسْتِفَاضَةِ فَقَدْ حُدِّدَتْ بِمَا زَادَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَشْخَاصٍ (3) .
وَالتَّفْسِيرَانِ يَلْتَقِيَانِ فِي أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ فِي حَالَةِ الصَّحْوِ، وَأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا دُخُول رَمَضَانَ.
__________
(1) البهوتي: منصور بن يونس، كشاف القناع 2 / 270 (مطبعة أنصار السنة المحمدية 1366 / 1947) .
(2) ابن رشد: المقدمات على هامش المدونة 1 / 189 (دار الفكر ط 2 - 1400 / 1980) .
(3) الحطاب، ومواهب الجليل 2 / 384 (دار الفكر ط 2: 1398 / 1978)(22/24)
وَقَدْ قَال بِهَذَا النَّوْعِ فِي الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ الْحَنَفِيَّةُ لإِِثْبَاتِ رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ (1) .
وَقَال بِهِ أَيْضًا الْمَالِكِيَّةُ لَكِنَّهُمْ سَكَتُوا عَنِ اشْتِرَاطِ الصَّحْوِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
ب - رُؤْيَةُ عَدْلَيْنِ:
4 - نُقِل الْقَوْل بِاشْتِرَاطِ رُؤْيَةِ عَدْلَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ (2) ، وَقَال بِهَذَا الرَّأْيِ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَالَةِ الْغَيْمِ وَالصَّحْوِ فِي الْمِصْرِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَيَثْبُتُ بِرُؤْيَةِ الْعَدْلَيْنِ الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ وَشَهْرُ ذِي الْحِجَّةِ، وَاشْتَرَطُوا فِي الْعَدْل الإِْسْلاَمَ وَالْحُرِّيَّةَ وَالذُّكُورَةَ وَمَا تَقْتَضِيهِ الْعَدَالَةُ مِنَ الْعَقْل وَالْبُلُوغِ وَالاِلْتِزَامِ بِالإِْسْلاَمِ (3) .
وَاعْتَبَرَ سَحْنُونٌ شَهَادَةَ اثْنَيْنِ فَقَطْ فِي الصَّحْوِ، وَفِي الْمِصْرِ الْكَبِيرِ رِيبَةً، وَلَمْ يُنْقَل عَنْهُ تَعْيِينُ الْعَدَدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ يُقْبَل فِي مِثْلِهَا غَيْرُ الرُّؤْيَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ وَأَقَلُّهَا ثَلاَثَةٌ.
قَال: " وَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ إِذَا لَمْ يَشْهَدْ غَيْرُهُمَا فِي الْمِصْرِ الْكَبِيرِ وَالصَّحْوِ، وَأَيَّةُ رِيبَةٍ أَكْبَرُ مِنْ هَذِهِ (4) ".
__________
(1) الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 80 (دار الكتاب العربي بيروت، ط 2: 1402 / 1982) .
(2) المدونة 1 / 174 (دار الفكر، ط 2: 1400 / 1980) .
(3) الحطاب: مواهب الجليل 2 / 381.
(4) المرجع نفسه 2 / 385.(22/25)
وَنُقِل الْقَوْل بِاشْتِرَاطِ عَدْلَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا هِلاَل رَمَضَانَ عَنِ الْبُوَيْطِيِّ تِلْمِيذِ الشَّافِعِيِّ (1) .
ج - رُؤْيَةُ عَدْلٍ وَاحِدٍ:
5 - لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاَتٌ وَشُرُوطٌ فِي قَبُول رُؤْيَةِ الْعَدْل الْوَاحِدِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي: قَبِل الْحَنَفِيَّةُ فِي رُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ شَهَادَةَ الْعَدْل الْوَاحِدِ فِي الْغَيْمِ أَوِ الْغُبَارِ وَانْعِدَامِ صَحْوِ السَّمَاءِ، وَاكْتَفَوْا فِي وَصْفِ الْعَدَالَةِ بِتَرْجِيحِ الْحَسَنَاتِ عَلَى السَّيِّئَاتِ، وَقَبِلُوا شَهَادَةَ مَسْتُورِ الْحَال، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الذُّكُورَةَ وَالْحُرِّيَّةَ، وَاعْتَبَرُوا الإِْعْلاَمَ بِالرُّؤْيَةِ مِنْ قَبِيل الإِْخْبَارِ.
وَتَتِمُّ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُمْ فِي الْمِصْرِ أَمَامَ الْقَاضِي، وَفِي الْقَرْيَةِ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ رَأَى الْهِلاَل وَحْدَهُ وَلَمْ يَقْبَل الْقَاضِي شَهَادَتَهُ صَامَ، فَلَوْ أَفْطَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ (2) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى قَبُول شَهَادَةِ الْعَدْل الْوَاحِدِ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أَبْصَرْتُ الْهِلاَل اللَّيْلَةَ، قَال: أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟ قَال: نَعَمْ، قَال: يَا بِلاَل أَذِّنْ فِي
__________
(1) أبو إسحاق الشيرازي: المهذب 1 / 179 (ط. عيسى الحلبي، مصر) .
(2) الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 81.(22/25)
النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا (1) .
وَتَقَدَّمَ فِي تَرَائِي الْهِلاَل حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَفِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل فَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ.
وَبِأَنَّ الإِْخْبَارَ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل مِنَ الرِّوَايَةِ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ؛ لأَِنَّهُ يُلْزِمُ الْمُخْبَرَ بِالصَّوْمِ، وَمَضْمُونُ الشَّهَادَةِ لاَ يُلْزِمُ الشَّاهِدَ بِشَيْءٍ، وَالْعَدَدُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الرِّوَايَةِ فَأَمْكَنَ قَبُول خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَل بِالشُّرُوطِ الْوَاجِبِ تَوَفُّرُهَا فِي الرَّاوِي لِخَبَرٍ دِينِيٍّ، وَهِيَ: الإِْسْلاَمُ وَالْعَقْل وَالْبُلُوغُ وَالْعَدَالَةُ (2) .
وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْمَالِكِيَّةُ رُؤْيَةَ الْعَدْل الْوَاحِدِ فِي إِثْبَاتِ الْهِلاَل، وَلَمْ يُوجِبُوا الصَّوْمَ بِمُقْتَضَاهَا عَلَى الْجَمَاعَةِ (3) ، وَأَلْزَمُوا مَنْ رَأَى الْهِلاَل وَحْدَهُ بِإِعْلاَمِ الإِْمَامِ بِرُؤْيَتِهِ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ رَأَى أَوْ عَلِمَ فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا، وَأَوْجَبُوا عَلَى الرَّائِي الْمُنْفَرِدِ الصِّيَامَ، وَلَوْ رَدَّ الإِْمَامُ شَهَادَتَهُ فَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ
__________
(1) حديث ابن عباس: " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبصرت الهلال. . . " أخرجه أبو داود (2 / 754 - 755 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (3 / 66 - ط الحلبي) ، وبين الترمذي أن أكثر رواته رووه مرسلاً، وكذا نقل الزيلعي عن النسائي أنه رجح الإرسال، انظر نصب الراية (2 / 443 - ط المجلس العلمي) .
(2) الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 81.
(3) الحطاب: شرح مواهب الجليل 2 / 384، وزروق: شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني 1 / 291.(22/26)
الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ (1) . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ، فَقَال: إِنِّي جَالَسْتُ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلْتُهُمْ وَأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ حَدَّثُونِي أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا ثَلاَثِينَ فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا (2) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ قَبُول هَذَا النَّوْعِ مِنَ الرُّؤْيَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَعْتَنِي بِأَمْرِ الْهِلاَل (3) .
وَقَبِل بَعْضُهُمْ رُؤْيَةَ الرَّجُل الْوَاحِدِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ إِذَا أُرِيدَ مِنَ الشَّهْرِ مَعْرِفَةُ عِلْمِ التَّارِيخِ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُلُول دَيْنٍ أَوْ إِكْمَال عِدَّةٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلاَ بُدَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ (4) .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَبُول رُؤْيَةِ الْعَدْل الْوَاحِدِ فِي هِلاَل رَمَضَانَ وَإِلْزَامُ الْجَمِيعِ الصِّيَامَ بِمُقْتَضَاهَا احْتِيَاطًا لِلْفَرْضِ، وَلَمْ يَقْبَلُوهَا مِنَ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ؛ لأَِنَّ الإِْخْبَارَ بِالرُّؤْيَةِ عِنْدَهُمْ مِنْ قَبِيل الشَّهَادَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَبُول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِخْبَارَ ابْنِ عُمَرَ وَحْدَهُ بِهِلاَل رَمَضَانَ، وَقَبُولِهِ أَيْضًا إِخْبَارَ
__________
(1) المدونة 1 / 174، وبداية المجتهد 1 / 293.
(2) حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه النسائي (4 / 132 - 133 - ط المكتبة التجارية) وإسناده صحيح.
(3) الحطاب: مواهب الجليل 2 / 386.
(4) المرجع نفسه ص 382(22/26)
أَعْرَابِيٍّ بِذَلِكَ (1) ، وَأَوْجَبُوا عَلَى الرَّائِي الصَّوْمَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَدْلاً (2) .
وَقَبِل الْحَنَابِلَةُ فِي هِلاَل رَمَضَانَ رُؤْيَةَ الْعَدْل الْوَاحِدِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الذُّكُورَةَ وَالْحُرِّيَّةَ وَرَفَضُوا شَهَادَةَ مَسْتُورِ الْحَال فِي الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ، وَمُسْتَنَدُهُمْ قَبُول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ الأَْعْرَابِيِّ (3) . وَلَمْ يَقْبَلُوا فِي بَقِيَّةِ الشُّهُورِ إِلاَّ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
رُؤْيَةُ هِلاَل شَوَّالٍ وَبَقِيَّةِ الشُّهُورِ:
6 - اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اشْتِرَاطِ رُؤْيَةِ عَدْلَيْنِ فِي هِلاَل شَوَّالٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفْصِيلاَتِ.
فَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لإِِثْبَاتِ هِلاَل شَوَّالٍ فِي حَالَةِ الصَّحْوِ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ جَمَاعَةً يَحْصُل الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِخَبَرِهِمْ كَمَا فِي هِلاَل رَمَضَانَ، وَلَمْ يَقْبَلُوا فِي حَال الْغَيْمِ إِلاَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَيْنِ حُرَّيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ غَيْرَ مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ، وَإِنْ تَابَا كَمَا فِي الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ وَالأَْمْوَال؛ لأَِنَّ الإِْخْبَارَ بِهِلاَل شَوَّالٍ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ. وَفِيهِ نَفْعٌ لِلْمُخْبِرِ، وَهُوَ إسْقَاطُ الصَّوْمِ عَنْهُ فَكَانَ مُتَّهَمًا فَاشْتُرِطَ فِيهِ الْعَدَدُ نَفْيًا
__________
(1) إخبار ابن عمر وقبوله إخبار الأعرابي تقدم تخريجه (ف 2، 5) .
(2) أبو إسحاق الشيرازي: المهذب (1 / 179) .
(3) ابن قدامة، المغني (3 / 157 نشر مكتبة الرياض الحديثة) ، والبهوتي: منصور بن يونس، كشاف القناع (2 / 273 - 274) .(22/27)
لِلتُّهْمَةِ بِخِلاَفِ هِلاَل رَمَضَانَ فَإِنَّهُ لاَ تُهْمَةَ فِيهِ (1) .
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي هِلاَل شَوَّالٍ الرُّؤْيَةَ الْمُسْتَفِيضَةَ أَوْ شَهَادَةَ عَدْلَيْنِ مِمَّنْ يَشْهَدُونَ فِي الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ. وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ مَنْ رَأَى هِلاَل شَوَّالٍ وَحْدَهُ لاَ يُفْطِرُ، خَوْفًا مِنَ التُّهْمَةِ وَسَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَإِنْ أَفْطَرَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ عُثِرَ عَلَيْهِ عُوقِبَ إِنِ اتُّهِمَ (2) .
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي ثُبُوتِ هِلاَل شَوَّالٍ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حُرَّيْنِ عَدْلَيْنِ احْتِيَاطًا لِلْفَرْضِ، وَأَبَاحَ الشَّافِعِيَّةُ الْفِطْرَ سِرًّا لِمَنْ رَأَى الْهِلاَل وَحْدَهُ؛ لأَِنَّهُ إِنْ أَظْهَرَهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ وَالْعُقُوبَةِ، وَمَنَعَ الْحَنَابِلَةُ الْفِطْرَ لِمَنْ رَأَى الْهِلاَل وَحْدَهُ.
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرُ سِرًّا لأَِنَّهُ تَيَقَّنَهُ يَوْمَ عِيدٍ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ صَوْمِهِ (3) .
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ فِي حَالَةِ الصَّحْوِ بَيْنَ أَهِلَّةِ
__________
(1) الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 81، وابن عابدين ورسائل ابن عابدين 1 / 212.
(2) المدونة 1 / 174، وابن الجزي: القوانين الفقهية ص 121 (الدار العربية للكتاب، تونس) ، والموطأ 1 / 287 - 288، والمنتقى للباجي 2 / 39.
(3) أبو إسحاق الشيرازي، والمهذب 1 / 179 - 180، والبهوتي: منصور بن يونس، كشاف القناع 2 / 275.(22/27)
رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ وَاشْتَرَطُوا فِي الثَّلاَثَةِ رُؤْيَةَ جَمْعٍ يَثْبُتُ بِهِ الْعِلْمُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهَا فِي حَالَةِ الْغَيْمِ فَاكْتَفَوْا فِي ثُبُوتِ هِلاَل ذِي الْحِجَّةِ بِشَهَادَةِ عَدْلٍ وَاحِدٍ. وَاشْتَرَطَ الْكَرْخِيُّ مِنْهُمْ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَمَا فِي هِلاَل شَوَّالٍ لأَِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ وُجُوبِ الأُْضْحِيَّةِ فَيَجِبُ فِيهَا الْعَدَدُ.
وَرَدَّ عَلَيْهِ الْكَاسَانِيُّ بِأَنَّ الإِْخْبَارَ عَنْ هِلاَل ذِي الْحِجَّةِ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ لاَ الشَّهَادَةِ لِوُجُوبِ الأُْضْحِيَّةِ عَلَى الشَّاهِدِ وَغَيْرِهِ، فَلاَ يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ (1) .
وَأَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ شَهَادَةَ عَدْلَيْنِ، فَقَال مَالِكٌ فِي الْمَوْسِمِ بِأَنَّهُ يُقَامُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ إِذَا كَانَا عَدْلَيْنِ (2) .
وَسَوَّى الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ شَوَّالٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ فَاشْتَرَطُوا رُؤْيَةَ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا (3) .
رُؤْيَةُ الْهِلاَل نَهَارًا:
7 - وَرَدَتْ عَنْ صَحَابَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُقُولٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي حُكْمِ رُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ نَهَارًا، وَهَل هُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ أَوِ الْمُقْبِلَةِ؟
__________
(1) الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 82.
(2) المدونة: 1 / 174.
(3) حديث: " فإن شهد شاهدان. . . " تقدم تخريجه (ف 5) .(22/28)
فَعَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ قَبْل الزَّوَال وَبَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَتْ قَبْل الزَّوَال فَالْهِلاَل لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الزَّوَال، فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى هَذَا الرَّأْيِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْهِلاَل لاَ يُرَى قَبْل الزَّوَال عَادَةً إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِلَيْلَتَيْنِ، وَهَذَا يُوجِبُ كَوْنَ الْيَوْمِ مِنْ رَمَضَانَ فِي هِلاَل رَمَضَانَ، وَكَوْنَهُ يَوْمَ الْفِطْرِ فِي هِلاَل شَوَّالٍ (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَفِي نَقْلٍ عَنِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رُؤْيَةَ الْهِلاَل يَوْمَ الشَّكِّ هِيَ لِلَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ قَبْل الزَّوَال أَمْ بَعْدَهُ.
وَقَال عُمَرُ: إِنَّ الأَْهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلاَل نَهَارًا فَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تُمْسُوا إِلاَّ أَنْ يَشْهَدَ رَجُلاَنِ مُسْلِمَانِ أَنَّهُمَا أَهَلاَّهُ بِالأَْمْسِ عَشِيَّةً (2) .
وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ نَاسًا رَأَوْا هِلاَل الْفِطْرِ نَهَارًا، فَأَتَمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ صِيَامَهُ إِلَى اللَّيْل، وَقَال: لاَ، حَتَّى يُرَى مِنْ حَيْثُ يُرَى بِاللَّيْل (3) .
__________
(1) الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 82، وابن عابدين، ورسائل ابن عابدين 1 / 217 - 218
(2) المدونة 1 / 174، وخرجه القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن 2 / 302 (دار إحياء التراث العربي، بيروت) .
(3) المدونة 1 / 174 - 175(22/28)
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: ". . . إِنَّمَا مَجْرَاهُ فِي السَّمَاءِ، وَلَعَلَّهُ أَبْيَنُ سَاعَتَئِذٍ، وَإِنَّمَا الْفِطْرُ مِنَ الْغَدِ فِي يَوْمِ يُرَى الْهِلاَل.
وَنُسِبَ هَذَا الرَّأْيُ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ (1) .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا النَّقْل عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَيَكُونُ رِوَايَةً ثَانِيَةً عَنْهُ تُخَالِفُ مَا نُقِل عَنْهُ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ قَبْل الزَّوَال وَبَعْدَهُ.
وَقَدْ رَفَضَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ التَّفْرِيقَ فِي هِلاَل رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ؛ لأَِنَّ الأَْصْل عِنْدَهُمَا أَنْ لاَ يُعْتَبَرَ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَل قَبْل الزَّوَال وَلاَ بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ لِرُؤْيَتِهِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ (2) .
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ " مَنْ رَأَى هِلاَل شَوَّالٍ نَهَارًا فَلاَ يُفْطِرُ، وَيُتِمُّ صِيَامَ يَوْمِهِ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ هِلاَل اللَّيْلَةِ الَّتِي تَأْتِي (3) ".
وَهُوَ فِي هَذَا النَّقْل عَنْهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ قَبْل الزَّوَال وَبَعْدَهُ، وَاعْتَبَرَ الْهِلاَل الَّذِي رُئِيَ نَهَارًا لِلَّيْلَةِ الْقَادِمَةِ، وَذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ إِلَى التَّفْرِيقِ، وَنَسَبَهُ إِلَى مَالِكٍ، قَال: " فَإِنْ رُئِيَ الْهِلاَل قَبْل
__________
(1) المدونة 1 / 175.
(2) الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 82، وابن عابدين: رسائل ابن عابدين 1 / 218 - 220
(3) الموطأ 1 / 287، والمدونة 1 / 175.(22/29)
الزَّوَال فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ فَيُمْسِكُونَ إِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ وَيُفْطِرُونَ إِنْ وَقَعَ فِي رَمَضَانَ وَيُصَلُّونَ الْعِيدَ، وَإِذَا رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَال فَهُوَ لِلْقَادِمَةِ سَوَاءٌ أَصَلَّيْتَ الظُّهْرَ أَمْ لَمْ تُصَل (1) ".
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ رُئِيَ الْهِلاَل بِالنَّهَارِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لِمَا رَوَى سُفْيَانُ بْنُ سَلَمَةَ قَال: أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَحْنُ بِخَانِقِينَ: إِنَّ الأَْهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلاَل نَهَارًا فَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى يَشْهَدَ رَجُلاَنِ مُسْلِمَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ بِالأَْمْسِ (2) .
وَنَبَّهَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْهِلاَل لاَ يُرَى يَوْمَ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ قَبْل الزَّوَال؛ لأَِنَّهُ أَهَّل سَاعَتَئِذٍ، وَلأَِنَّ الشَّهْرَ لاَ يَكُونُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ فَتَحَدَّدَ مَجَال رُؤْيَتِهِ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ بَعْدَ الزَّوَال أَوْ فِي يَوْمِ ثَلاَثِينَ قَبْل الزَّوَال وَبَعْدَهُ، فَإِذَا رُئِيَ يَوْمَ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ بَعْدَ الزَّوَال وَلَمْ يُرَ لَيْلاً، فَالظَّاهِرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالرُّؤْيَةِ النَّهَارِيَّةِ، وَعَارَضَ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: لاَ يَكْفِي ذَلِكَ عَنْ رُؤْيَتِهِ لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ، وَأَنَّهُ لاَ أَثَرَ لِرُؤْيَتِهِ نَهَارًا.
وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ نَهَارًا يَوْمَ ثَلاَثِينَ فَلاَ يُبْحَثُ مَعَهَا عَنْ رُؤْيَتِهِ لَيْلاً لإِِكْمَال الْعِدَّةِ (3) .
__________
(1) الحطاب: ومواهب الجليل 2 / 392.
(2) أبو إسحاق الشيرازي: المهذب 1 / 179، والبهوتي: منصور بن يونس: كشاف القناع 2 / 272.
(3) الحطاب: مواهب الجليل 2 / 392.(22/29)
ثَانِيًا: إِكْمَال الشَّهْرِ ثَلاَثِينَ:
8 - يَكُونُ الشَّهْرُ الْقَمَرِيُّ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلاَثِينَ يَوْمًا لِحَدِيثِ: إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسِبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلاَثِينَ (1) .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَال: لَمَا صُمْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ أَكْثَرُ مِمَّا صُمْنَا ثَلاَثِينَ (2) .
وَإِذَا لَمْ يُرَ الْهِلاَل بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ أَوْ رَمَضَانَ أَوْ ذِي الْقَعْدَةِ أَكْمَل الشَّهْرَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا حَسَبَ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ (3) .
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ حَالَةِ الصَّحْوِ وَحَالَةِ الْغَيْمِ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ وُجُوبُ صِيَامِ يَوْمِ الثَّلاَثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إِنْ حَال دُونَ مَطْلَعِهِ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ وَنَحْوُهُمَا
__________
(1) حديث: " إنا أمة أمية. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 126 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 761 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر، واللفظ للبخاري.
(2) حديث ابن مسعود: " لما صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعًا وعشرين " أخرجه أبو داود (2 / 742 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(3) حديث: " الشهر تسع وعشرون ليلة. . . . . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 119 - ط السلفية) .(22/30)
بِنِيَّةِ رَمَضَانَ احْتِيَاطًا لاَ يَقِينًا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى صِيَامَ يَوْمِ الشَّكِّ وَتَفْصِيلُهَا فِي: (صَوْمٌ) .
فَإِنْ تَبَيَّنَ فِي نِهَايَةِ رَمَضَانَ أَنَّ شَعْبَانَ نَاقِصٌ وَجَبَ قَضَاءُ الْيَوْمِ الَّذِي غُمَّ فِيهِ الْهِلاَل.
تَوَالِي الْغَيْمِ:
9 - عِنْدَ تَوَالِي الْغَيْمِ فِي نِهَايَةِ الشُّهُورِ الْقَمَرِيَّةِ تُكْمَل ثَلاَثِينَ ثَلاَثِينَ عَمَلاً بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ (1) .
وَيَقَعُ قَضَاءُ مَا ثَبَتَ إِفْطَارُهُ، فَإِذَا حَصَل الْغَيْمُ فِي شَهْرٍ أَوْ أَكْثَرَ قَبْل رَمَضَانَ فَكَمُلَتْ، ثُمَّ رُئِيَ هِلاَل شَوَّالٍ لَيْلَةَ ثَلاَثِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَلاَ قَضَاءَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَمَضَانُ نَاقِصًا، وَإِنْ رُئِيَ لَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ وَجَبَ قَضَاءُ يَوْمٍ، وَإِنْ رُئِيَ لَيْلَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَجَبَ قَضَاءُ يَوْمَيْنِ، وَإِنْ رُئِيَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ تَمَّ قَضَاءُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ (2) .
وَإِنَّ مَا أَجْرَى اللَّهُ بِهِ الْعَادَةَ أَنْ لاَ تَتَوَالَى أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ نَاقِصَةٌ وَلاَ كَامِلَةٌ، وَمِنَ النَّادِرِ تَوَالِي ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ نَاقِصَةٍ أَوْ كَامِلَةٍ أَيْضًا (3) .
قَال الْحَطَّابُ: فَإِنْ تَوَالَى الْكَمَال فِي شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ عُمِل عَلَى أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ نَاقِصٌ فَأَصْبَحَ النَّاسُ صِيَامًا، وَإِنْ تَوَالَتْ نَاقِصَةً عُمِل
__________
(1) حديث: " فإن غم عليكم. . . . " سبق تخريجه (ف 8) .
(2) الحطاب: مواهب الجليل 2 / 379.
(3) البهوتي: منصور بن يونس: كشاف القناع 2 / 275، والحطاب: مواهب الجليل 2 / 389.(22/30)
عَلَى أَنَّ رَمَضَانَ كَامِلٌ فَأَصْبَحَ النَّاسُ مُفْطِرِينَ وَإِنْ لَمْ يَتَوَال قَبْل هَذَا الشَّهْرِ الَّذِي غُمَّ الْهِلاَل فِي آخِرِهِ شَهْرَانِ فَأَكْثَرُ كَامِلَةٌ وَلاَ نَاقِصَةٌ احْتَمَل أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّهْرُ نَاقِصًا أَوْ كَامِلاً احْتِمَالاً وَاحِدًا يُوجِبُ أَنْ يَكْمُل ثَلاَثِينَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. ثُمَّ قَال: هَذَا فِي الصَّوْمِ، أَمَّا فِي الْفِطْرِ إِذَا غُمَّ هِلاَل شَوَّالٍ فَلاَ يُفْطِرُ بِالتَّقْدِيرِ الَّذِي يَغْلِبُ فِيهِ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ رَمَضَانَ نَاقِصٌ (1) .
وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى نَصٍّ لِلْفُقَهَاءِ فِي شَأْنِ الْبِلاَدِ الَّتِي يَسْتَقِرُّ الْغَيْمُ أَوِ الضَّبَابُ فِي سَمَائِهَا (2) .
صَوْمُ مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الأَْشْهُرُ:
10 - مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ فِي مَكَانٍ لاَ تَصِلُهُ فِيهِ أَخْبَارُ رَمَضَانَ، كَالسَّجِينِ وَالأَْسِيرِ بِدَارِ الْحَرْبِ
__________
(1) الحطاب، مواهب الجليل 2 / 389.
(2) نثبت في هذه المسألة قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة في دورته الرابعة المنعقدة بمقر الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في الفترة ما بين السابع والسابع عشر من شهر ربيع الآخر 1401 هـ. (إنه بالنسبة للأماكن التي تكون سماؤها محجوبة بما(22/31)
فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الأَْشْهُرُ، وَلَمْ يَعْرِفْ مَوْعِدَ رَمَضَانَ، يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الاِجْتِهَادُ لِمَعْرِفَتِهِ فَإِنْ اجْتَهَدَ وَتَحَرَّى وَوَافَقَ صِيَامُهُ شَهْرَ رَمَضَانَ أَوْ مَا بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي صَامَهُ نَاقِصًا، وَرَمَضَانُ كَامِلاً قَضَى النَّقْصَ، وَإِنْ صَامَ شَهْرًا قَبْل رَمَضَانَ لَمْ يَكْفِهِ؛ لأَِنَّ الْعِبَادَةَ لاَ تَصِحُّ قَبْل وَقْتِهَا، فَلَوْ وَافَقَ بَعْضَهُ فَمَا وَافَقَهُ أَوْ بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ دُونَ مَا قَبْلَهُ، وَإِنْ صَامَ بِلاَ اجْتِهَادٍ لَمْ يُجْزِهِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الاِجْتِهَادِ (1) .
ثَالِثًا: إِثْبَاتُ الأَْهِلَّةِ بِالْحِسَابِ الْفَلَكِيِّ:
11 - وَقَعَ الْخَوْضُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُنْذُ أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الْهِجْرِيِّ الأَْوَّل، فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا أَحَدُ التَّابِعِينَ وَبُحِثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ لَدُنْ فُقَهَائِنَا السَّابِقِينَ بِالْقَدْرِ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ.
وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ بَحْثِهَا وُجُودُ لَفْظَةٍ مُشْكِلَةٍ فِي حَدِيثٍ ثَابِتٍ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَلَفَ الشُّرَّاحُ فِي الْمُرَادِ مِنْهَا، وَاسْتَدَل بِهَا الْقَائِلُونَ بِالْحِسَابِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ.
وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنْ إيرَادِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِهِ، وَإِتْبَاعِهِ بِتَفْسِيرِ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى جَوَازِ اعْتِمَادِ الْحِسَابِ فِي إِثْبَاتِ الْهِلاَل، ثُمَّ آرَاءِ الَّذِينَ فَهِمُوا مِنْهُ خِلاَفَ فَهْمِهِمْ. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
__________
(1) أبو إسحاق الشيرازي، المهذب 1 / 180، والبهوتي: منصور بن يونس، كشاف القناع 2 / 276 - 277(22/31)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَال: لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَل، وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ (1) .
عَلَّقَ الْحَدِيثُ بِدَايَةَ صِيَامِ رَمَضَانَ وَالشُّرُوعِ فِي الإِْفْطَارِ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل، وَأَمَرَ عِنْدَ تَعَذُّرِهَا فِي حَالَةِ الْغَيْمِ بِالتَّقْدِيرِ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ.
رَأْيُ الْقَائِلِينَ بِالْحِسَابِ:
12 - تَضَمَّنَ هَذَا الرَّأْيُ الْقَوْل بِتَقْدِيرِ الْهِلاَل بِالْحِسَابِ الْفَلَكِيِّ وَنُسِبَ إِلَى مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ مِنَ التَّابِعِينَ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ (2) .
وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لاَ يَصِحُّ عَنْ مُطَرِّفٍ، وَنَفَى نِسْبَةَ مَا عُرِفَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ إِلَى الشَّافِعِيِّ لأَِنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْهُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ (3) .
وَنَقَل ابْنُ رُشْدٍ عَنْ مُطَرِّفٍ قَوْلَهُ: " يُعْتَبَرُ الْهِلاَل إِذَا غُمَّ بِالنُّجُومِ وَمَنَازِل الْقَمَرِ وَطَرِيقِ الْحِسَابِ، قَال: وَرُوِيَ مِثْل ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَعْرُوفُ لَهُ الْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ يُصَامُ
__________
(1) حديث: " لا تصوموا حتى تروا الهلال. . . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 119 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 759 - ط الحلبي) .
(2) العيني: عمدة القاري 10 / 261.
(3) فتح الباري 1 / 122.(22/32)
إِلاَّ بِرُؤْيَةٍ فَاشِيَةٍ أَوْ شَهَادَةٍ عَادِلَةٍ كَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ (1) ".
وَعَنْ مُطَرِّفٍ أَيْضًا أَنَّ الْعَارِفَ بِالْحِسَابِ يَعْمَل بِهِ فِي نَفْسِهِ (2) .
أَمَّا ابْنُ سُرَيْجٍ فَاعْتَبَرَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاقْدُرُوا لَهُ: خِطَابًا لِمَنْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِ الْحِسَابِ، وَقَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الآْخَرِ: فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ خِطَابًا لِلْعَامَّةِ (3) .
وَبَيَّنَ ابْنُ الصَّلاَحِ مَا قَصَدَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِالْحِسَابِ فَقَال: " مَعْرِفَةُ مَنَازِل الْقَمَرِ هِيَ مَعْرِفَةُ سَيْرِ الأَْهِلَّةِ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْحِسَابِ فَأَمْرٌ دَقِيقٌ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الآْحَادُ. فَمَعْرِفَةُ مَنَازِل الْقَمَرِ تُدْرَكُ بِأَمْرٍ مَحْسُوسٍ يُدْرِكُهُ مَنْ يُرَاقِبُ النُّجُومَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَقَال بِهِ فِي حَقِّ الْعَارِفِ بِهَا فِيمَا يَخُصُّهُ (4) ".
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّقْل عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ فِي حُكْمِ صِيَامِ الْعَارِفِ بِالْحِسَابِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْهِلاَل عِنْدَهُ، فَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُل بِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَال بِجَوَازِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ
__________
(1) المقدمات 1 / 188.
(2) الحطاب: مواهب الجليل 2 / 388، وقد نسب القول إلى ابن رشد.
(3) عارضة الأحوذي شرح صحيح الترمذي 3 / 207 - 208 (دار العلم للجميع) ، وابن حجر فتح الباري 4 / 122 - 123، والزرقاني شرح الموطأ 2 / 154.
(4) ابن حجر، فتح الباري 4 / 122.(22/32)
لُزُومُ الصِّيَامِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ (1) .
وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ قَوْل: لاَ بَأْسَ بِالاِعْتِمَادِ عَلَى قَوْل الْمُنَجِّمِينَ (2) .
وَقَال الْقُشَيْرِيُّ: " إِذَا دَل الْحِسَابُ عَلَى أَنَّ الْهِلاَل قَدْ طَلَعَ مِنَ الأُْفُقِ عَلَى وَجْهٍ يُرَى لَوْلاَ وُجُودُ الْمَانِعِ كَالْغَيْمِ مَثَلاً، فَهَذَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ لِوُجُودِ السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ، وَلَيْسَ حَقِيقَةُ الرُّؤْيَةِ مَشْرُوطَةً فِي اللُّزُومِ، فَإِنَّ الاِتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمَحْبُوسَ فِي الْمَطْمُورَةِ إِذَا عَلِمَ بِإِتْمَامِ الْعِدَّةِ أَوْ بِالاِجْتِهَادِ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ (3) ".
آرَاءُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ إِثْبَاتِ الأَْهِلَّةِ بِالْحِسَابِ وَأَدِلَّتُهُمْ:
13 - الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ أَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الصَّوْمِ وَالإِْفْطَارِ رُؤْيَةُ الْهِلاَل، وَأَنَّهُ لاَ عِبْرَةَ بِقَوْل الْمُؤَقِّتِينَ وَلَوْ عُدُولاً، وَمَنْ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ فَقَدْ خَالَفَ الشَّرْعَ، وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْتَهَدَ فِي ذَلِكَ، وَيُعْمَل بِقَوْل أَهْل الْحِسَابِ (4) .
وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنَ اعْتِمَادِ الْحِسَابِ فِي إِثْبَاتِ الْهِلاَل، فَقَال: " إِنَّ الإِْمَامَ الَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَى
__________
(1) ابن حجر، فتح الباري 4 / 122.
(2) عمدة القاري 10 / 271، ورسائل ابن عابدين 1 / 224.
(3) عمدة القاري 10 / 272.
(4) رسائل ابن عابدين 1 / 244 - 225(22/33)
الْحِسَابِ لاَ يُقْتَدَى بِهِ، وَلاَ يُتَّبَعُ ".
وَبَيَّنَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ حُكْمَ صِيَامِ مَنِ اعْتَمَدَ الْحِسَابَ فَقَال: " فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ أَحَدٌ فَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لاَ يُعْتَدُّ بِمَا صَامَ مِنْهُ عَلَى الْحِسَابِ وَيَرْجِعُ إِلَى الرُّؤْيَةِ وَإِكْمَال الْعَدَدِ، فَإِنِ اقْتَضَى ذَلِكَ قَضَاءَ شَيْءٍ مِنْ صَوْمِهِ قَضَاهُ (1) ".
وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ قَوْلاً آخَرَ لِلْمَالِكِيَّةِ بِجَوَازِ اعْتِمَادِ الْحِسَابِ فِي إِثْبَاتِ الأَْهْلِيَّةِ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَال النَّوَوِيُّ: قَال أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: " لاَ يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ إِلاَّ بِدُخُولِهِ، وَيُعْلَمُ دُخُولُهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل، فَإِنْ غُمَّ وَجَبَ اسْتِكْمَال شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ، ثُمَّ يَصُومُونَ سَوَاءٌ كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً أَوْ مُغَيِّمَةً غَيْمًا قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا ". وَفِي هَذَا حَصْرُ طُرُقِ إِثْبَاتِ هِلاَل رَمَضَانَ فِي الرُّؤْيَةِ وَإِكْمَال شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ، وَفِي هَذَا الْحَصْرِ نَفْيٌ لاِعْتِمَادِ الْحِسَابِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِرَفْضِهِ؛ لأَِنَّهُ حَدْسٌ وَتَخْمِينٌ وَرَأَى اعْتِبَارَهُ فِي الْقِبْلَةِ وَالْوَقْتِ (3) .
نَقَل الْقَلْيُوبِيُّ عَنِ الْعَبَّادِيِّ قَوْلَهُ: إِذَا دَل الْحِسَابُ الْقَطْعِيُّ عَلَى عَدَمِ رُؤْيَةِ الْهِلاَل لَمْ يُقْبَل
__________
(1) أبو الوليد الباجي، المنتقى 2 / 38 (دار الكتاب العربي، طبعة مصورة عن ط - الأولى) ، والحطاب 2 / 387، وفتح الباري 4 / 127، والعيني 5 / 270 - 272
(2) الفروق 2 / 178، الفرق 102
(3) النووي، المجموع شرح المهذب 6 / 270، والزرقاني شرح الموطأ 2 / 154، والقسطلاني: إرشاد الساري 3 / 356 (دار الفكر، بيروت) .(22/33)
قَوْل الْعُدُول بِرُؤْيَتِهِ، وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ. ثُمَّ قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، وَلاَ يَجُوزُ الصَّوْمُ حِينَئِذٍ وَمُخَالَفَةُ ذَلِكَ مُعَانَدَةٌ وَمُكَابَرَةٌ (1) .
وَلاَ يَعْتَمِدُ الْحَنَابِلَةُ الْحِسَابَ الْفَلَكِيَّ فِي إِثْبَاتِ هِلاَل رَمَضَانَ، وَلَوْ كَثُرَتْ إِصَابَتُهُ (2) .
أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ إِثْبَاتِ الأَْهِلَّةِ بِالْحِسَابِ:
اسْتَدَل الْمَانِعُونَ بِالْحَدِيثِ نَفْسِهِ الَّذِي اسْتَدَل الْمُثْبِتُونَ بِهِ فَفَسَّرُوهُ بِغَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهُ.
أَوَّلاً: تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ الْمُشْتَمِل عَلَى التَّقْدِيرِ بِمَا يَنْقُضُ مَفْهُومَ التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِالْحِسَابِ.
فَسَّرَ الأَْئِمَّةُ الأَْجِلَّةُ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاقْدُرُوا لَهُ بِتَفْسِيرَيْنِ:
الأَْوَّل: حَمْل التَّقْدِيرِ عَلَى إِتْمَامِ الشَّهْرِ ثَلاَثِينَ.
الثَّانِي: تَفْسِيرٌ بِمَعْنَى تَضْيِيقِ عَدَدِ أَيَّامِ الشَّهْرِ.
التَّفْسِيرُ الأَْوَّل:
جَاءَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يُصْبِحُ مُفْطِرًا إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ صَاحِيَةً وَصَائِمًا إِذَا كَانَتْ مُغَيِّمَةً لأَِنَّهُ يَتَأَوَّل قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ إِتْمَامُ الشَّهْرِ ثَلاَثِينَ (3) .
__________
(1) القليوبي 2 / 49.
(2) البهوتي: منصور بن يونس، كشاف القناع 2 / 272.
(3) ابن رشد، المقدمات 1 / 187 - 189(22/34)
وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، فَحَمَلُوا عِبَارَةَ: فَاقْدُرُوا لَهُ عَلَى تَمَامِ الْعَدَدِ ثَلاَثِينَ يَوْمًا (1) .
وَالْبُخَارِيُّ أَتْبَعَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هُنَا بِرِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ جَاءَ فِيهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً فَلاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ (2) . وَأَتْبَعَهُ فِي نَفْسِ الْبَابِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَال: قَال أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ (3) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: قَصَدَ (الْبُخَارِيُّ) بِذَلِكَ بَيَانَ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ فَاقْدُرُوا لَهُ (4) ، وَأَيَّدَ ابْنُ رُشْدٍ تَفْسِيرَ الْبُخَارِيِّ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ يَكُونُ بِمَعْنَى التَّمَامِ، وَدَعَّمَ رَأْيَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ جَعَل اللَّهُ لِكُل شَيْءٍ قَدْرًا} (5) أَيْ تَمَامًا (6) .
__________
(1) النووي، شرح مسلم على هامش القسطلاني 5 / 53 ط دار الفكر بيروت.
(2) حديث: " الشهر تسع وعشرون ليلة. . . . " تقدم تخريجه (ف 2) .
(3) حديث: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته. . . . " تقدم تخريجه (ف 2) .
(4) فتح الباري 4 / 120.
(5) سورة الطلاق / 3.
(6) ابن رشد، المقدمات 1 / 187.(22/34)
التَّفْسِيرُ الثَّانِي بِمَعْنَى تَضْيِيقِ عَدَدِ أَيَّامِ الشَّهْرِ:
فَسَّرَ الْقَائِلُونَ بِهِ اقْدُرُوا لَهُ بِمَعْنَى ضَيِّقُوا لَهُ الْعَدَدَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} (1) ، وَالتَّضْيِيقُ لَهُ أَنْ يَجْعَل شَعْبَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا (2) . وَمِمَّنْ قَال بِهَذَا الرَّأْيِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يُجَوِّزُ صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ إِنْ كَانَتِ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً (3) .
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسِبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلاَثِينَ (4) .
بَيَّنَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ الْمَنْفِيَّ عَنْهُمُ الْكِتَابُ وَالْحِسَابُ هُمْ أَغْلَبُ أَهْل الإِْسْلاَمِ الَّذِينَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ تَحْدِيثِهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّبِيُّ نَفْسُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
ثُمَّ قَال ابْنُ حَجَرٍ: " الْمُرَادُ بِالْحِسَابِ هُنَا حِسَابُ النُّجُومِ وَتَسْيِيرُهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ النَّزْرَ الْيَسِيرَ، فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالصَّوْمِ
__________
(1) سورة الطلاق / 7.
(2) ابن قدامة، المغني 3 / 90، والنووي، المجموع شرح المهذب 6 / 270، وشرح مسلم 3 / 53.
(3) النووي، المجموع شرح المهذب 6 / 270، وشرح مسلم 3 / 53
(4) حديث: " إنا أمة أمية. . . " تقدم تخريجه (ف 7) .(22/35)
وَغَيْرِهِ بِالرُّؤْيَةِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ فِي مُعَانَاةِ حِسَابِ التَّسْيِيرِ، وَاسْتَمَرَّ الْحُكْمُ فِي الصَّوْمِ وَلَوْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ، بَل ظَاهِرُ السِّيَاقِ يُشْعِرُ بِنَفْيِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْحِسَابِ أَصْلاً. وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ وَلَمْ يَقُل فَسَلُوا أَهْل الْحِسَابِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ كَوْنُ الْعَدَدِ عِنْدَ الإِْغْمَاءِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُكَلَّفُونَ فَيَرْتَفِعُ الاِخْتِلاَفُ وَالنِّزَاعُ عَنْهُمْ (1) ".
اخْتِلاَفُ الْمَطَالِعِ:
14 - اخْتِلاَفُ مَطَالِعِ الْهِلاَل أَمْرٌ وَاقِعٌ بَيْنَ الْبِلاَدِ الْبَعِيدَةِ كَاخْتِلاَفِ مَطَالِعِ الشَّمْسِ، لَكِنْ هَل يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي بَدْءِ صِيَامِ الْمُسْلِمِينَ وَتَوْقِيتِ عِيدَيِ الْفِطْرِ وَالأَْضْحَى وَسَائِرِ الشُّهُورِ فَتَخْتَلِفُ بَيْنَهُمْ بَدْءًا وَنِهَايَةً أَمْ لاَ يُعْتَبَرُ بِذَلِكَ، وَيَتَوَحَّدُ الْمُسْلِمُونَ فِي صَوْمِهِمْ وَفِي عِيدَيْهِمْ؟ ،
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ عِبْرَةَ بِاخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ، وَهُنَاكَ مَنْ قَال بِاعْتِبَارِهَا، وَخَاصَّةً بَيْنَ الأَْقْطَارِ الْبَعِيدَةِ، فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: بِأَنَّهُ لِكُل بَلَدٍ رُؤْيَتُهُمْ، وَأَوْجَبُوا عَلَى الأَْمْصَارِ الْقَرِيبَةِ اتِّبَاعَ بَعْضِهَا بَعْضًا، وَأَلْزَمُوا أَهْل الْمِصْرِ الْقَرِيبِ فِي حَالَةِ اخْتِلاَفِهِمْ مَعَ مِصْرٍ قَرِيبٍ مِنْهُمْ بِصِيَامِهِمْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَصِيَامِ
__________
(1) فتح الباري 4 / 127، ونفس المعنى للحديث فسره به العيني في عمدة القاري 10 / 286 - 287(22/35)
الآْخَرِينَ ثَلاَثِينَ اعْتِمَادًا عَلَى الرُّؤْيَةِ أَوْ إِتْمَامَ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ أَنْ يَقْضُوا الْيَوْمَ الَّذِي أَفْطَرُوهُ؛ لأَِنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ حَسَبَ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْمِصْرِ الآْخَرِ، وَالْمُعْتَمَدُ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ بِاخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ فَإِذَا ثَبَتَ الْهِلاَل فِي مِصْرٍ لَزِمَ سَائِرَ النَّاسِ فَيُلْزَمُ أَهْل الْمَشْرِقِ بِرُؤْيَةِ أَهْل الْمَغْرِبِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى جَمِيعِ أَقْطَارِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا رُئِيَ الْهِلاَل فِي أَحَدِهَا.
وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ هَذَا التَّعْمِيمَ فَاسْتَثْنَى الْبِلاَدَ الْبَعِيدَةَ كَثِيرًا كَالأَْنْدَلُسِ وَخُرَاسَانَ (2) .
وَبَيَّنَ الْقَرَافِيُّ اخْتِلاَفَ مَطَالِعِ الْهِلاَل عِلْمِيًّا، وَذَكَرَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِهِ مُكْتَفِيًا بِهِ عَنِ الْبَقِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ: وَهُوَ أَنَّ الْبِلاَدَ الْمَشْرِقِيَّةَ إِذَا كَانَ الْهِلاَل فِيهَا فِي الشُّعَاعِ وَبَقِيَتِ الشَّمْسُ تَتَحَرَّكُ مَعَ الْقَمَرِ إِلَى الْجِهَةِ الْغَرْبِيَّةِ فَمَا تَصِل الشَّمْسُ إِلَى أُفُقِ الْمَغْرِبِ إِلاَّ وَقَدْ خَرَجَ الْهِلاَل عَنِ الشُّعَاعِ فَيَرَاهُ أَهْل الْمَغْرِبِ وَلاَ يَرَاهُ أَهْل الْمَشْرِقِ. وَاسْتَنْتَجَ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ وَمِنَ اتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعِهِمْ عَلَى اخْتِلاَفِ أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ وَمُرَاعَاةِ ذَلِكَ فِي الْمِيرَاثِ بِحَيْثُ أَفْتَوْا بِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَخَوَانِ عِنْدَ الزَّوَال أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ وَالآْخَرُ بِالْمَغْرِبِ حُكِمَ بِأَسْبَقِيَّةِ مَوْتِ الْمَشْرِقِيِّ؛ لأَِنَّ
__________
(1) ابن عابدين: رسائل ابن عابدين 1 / 228، 229
(2) القرافي، الفروق 2 / 203، والحطاب، مواهب الجليل 2 / 384.(22/36)
زَوَال الْمَشْرِقِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى زَوَال الْمَغْرِبِ فَيَرِثُ الْمَغْرِبِيُّ الْمَشْرِقِيَّ، فَقَرَّرَ بَعْدَ إِثْبَاتِهِ اخْتِلاَفَ الْهِلاَل بِاخْتِلاَفِ الآْفَاقِ وُجُوبَ أَنْ يَكُونَ لِكُل قَوْمٍ رُؤْيَتُهُمْ فِي الأَْهِلَّةِ، كَمَا أَنَّ لِكُل قَوْمٍ أَوْقَاتَ صَلَوَاتِهِمْ، وَرَأَى أَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَى جَمِيعِ الأَْقَالِيمِ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل بِقُطْرٍ مِنْهَا بَعِيدٌ عَنِ الْقَوَاعِدِ، وَالأَْدِلَّةُ لَمْ تَقْتَضِ ذَلِكَ (1) .
وَعَمِل الشَّافِعِيَّةُ بِاخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ فَقَالُوا: " إِنَّ لِكُل بَلَدٍ رُؤْيَتَهُمْ وَإِنَّ رُؤْيَةَ الْهِلاَل بِبَلَدٍ لاَ يَثْبُتُ بِهَا حُكْمُهُ لِمَا بَعُدَ عَنْهُمْ ". كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ النَّوَوِيُّ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا مَعَ مَنْ وَافَقَهُمْ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَعْمَل بِرُؤْيَةِ أَهْل الشَّامِ لِحَدِيثِ كُرَيْبٍ أَنَّ أُمَّ الْفَضْل بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، قَال: فَقَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا وَاسْتَهَل عَلَيَّ رَمَضَانُ، وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الْهِلاَل لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلاَل فَقَال: مَتَى رَأَيْتُمْ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ. فَقَال: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا، وَصَامَ مُعَاوِيَةُ فَقَال: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلاَ
__________
(1) القرافي، الفروق 2 / 204.
(2) المجموع شرح المهذب 5 / 273 - 275، وشرح مسلم 5 / 58 - 59، والشوكاني نيل الأوطار 4 / 268 (دار الجيل) .(22/36)
نَزَال نَصُومُ حَتَّى نُكْمِل ثَلاَثِينَ أَوْ نَرَاهُ، فَقُلْتُ: أَوَلاَ تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ، فَقَال: لاَ. هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَقَدْ عَلَّل النَّوَوِيُّ هَذِهِ الْفَتْوَى مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّ الرُّؤْيَةَ لاَ يَثْبُتُ حُكْمُهَا فِي حَقِّ الْبَعِيدِ (2) . وَقَال الْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ، وَأَلْزَمُوا جَمِيعَ الْبِلاَدِ بِالصَّوْمِ إِذَا رُئِيَ الْهِلاَل فِي بَلَدٍ (3) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ اخْتِلاَفِ الْمَطَالِعِ بِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ (4) ، فَقَدْ أَوْجَبَ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّوْمَ بِمُطْلَقِ الرُّؤْيَةِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ تَقْيِيدِهَا بِمَكَانٍ، وَاعْتَبَرُوا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ اجْتِهَادِهِ، وَلَيْسَ نَقْلاً عَنِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَثَرُ الْخَطَأِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَل:
15 - قَدْ يُنْتَجُ عَنْ تَوَاصُل الْغَيْمِ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ قَبْل رَمَضَانَ أَوْ شَوَّالٍ أَوْ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ عَنْ عَدَمِ التَّحَرِّي فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَل خَطَأٌ فِي بِدَايَةِ رَمَضَانَ،
__________
(1) حديث أم الفضل أخرجه مسلم (2 / 765) - ط الحلبي.
(2) شرح مسلم 5 / 58 - 59
(3) ابن قدامة، المغني 3 / 88 - 89
(4) حديث: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته " تقدم تخريجه (ف 1)(22/37)
وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِفْطَارُ يَوْمٍ مِنْهُ، أَوْ خَطَأٌ فِي بِدَايَةِ شَوَّالٍ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِفْطَارُ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ صِيَامُ يَوْمِ الْعِيدِ، أَوْ خَطَأٌ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وُقُوفٌ بِعَرَفَةَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَهَذَا أَخْطَرُهَا (1) .
وَقَدِ اسْتَنَدَ الْقَائِلُونَ بِصِحَّةِ الْوُقُوفِ فِي غَيْرِ يَوْمِهِ إِلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: شَهْرَانِ لاَ يَنْقُصَانِ: شَهْرَا عِيدٍ: رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ (2) .
وَفَهِمُوا مِنْهُ أَنَّ الْخَطَأَ فِي الْوَقْفَةِ لاَ يَنْقُصُ أَجْرَهَا، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى لاَ يُفْسِدُهَا.
قَال الطِّيبِيُّ: ظَاهِرُ سِيَاقِ الْحَدِيثِ بَيَانُ اخْتِصَاصِ الشَّهْرَيْنِ بِمَزِيَّةٍ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الشُّهُورِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ثَوَابَ الطَّاعَةِ فِي غَيْرِهِمَا يَنْقُصُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ رَفْعُ الْحَرَجِ عَمَّا عَسَى أَنْ يَقَعَ فِيهِ خَطَأٌ فِي الْحُكْمِ لاِخْتِصَاصِهِمَا بِالْعِيدَيْنِ وَجَوَازِ احْتِمَال وُقُوعِ الْخَطَأِ فِيهِمَا. وَمِنْ ثَمَّ قَال: شَهْرَا عِيدٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: شَهْرَانِ لاَ يَنْقُصَانِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى قَوْلِهِ: رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ (3) .
قَال ابْنُ بَطَّالٍ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْعَيْنِيُّ: " قَالَتْ طَائِفَةٌ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بِخَطَأٍ شَامِلٍ لِجَمِيعِ أَهْل الْمَوْقِفِ فِي يَوْمٍ قَبْل يَوْمِ عَرَفَةَ أَوْ بَعْدَهُ أَنَّهُ يُجْزِئُ
__________
(1) الحطاب، مواهب الجليل 2 / 283
(2) حديث: " شهران لا ينقصان: شهرا عيد: رمضان وذو الحجة " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 124 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 766 - ط الحلبي) من حديث أبي بكرة.
(3) فتح الباري 4 / 126.(22/37)
عَنْهُ، وَهُوَ قَوْل عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُهُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِصِيَامِ مَنِ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الشُّهُورُ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَقَعَ صِيَامُهُ قَبْل رَمَضَانَ أَوْ بَعْدَهُ (1) ".
وَإِلَى نَفْسِ هَذَا الرَّأْيِ ذَهَبَ النَّوَوِيُّ فَقَال: " إِنَّ كُل مَا وَرَدَ فِي رَمَضَانَ وَذِي الْحِجَّةِ مِنَ الْفَضَائِل وَالأَْحْكَامِ حَاصِلٌ سَوَاءٌ كَانَ رَمَضَانُ ثَلاَثِينَ أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، سَوَاءٌ صَادَفَ الْوُقُوفُ الْيَوْمَ التَّاسِعَ أَوْ غَيْرَهُ بِشَرْطِ انْتِفَاءِ التَّقْصِيرِ فِي ابْتِغَاءِ الْهِلاَل ".
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: " الْحَدِيثُ يُطَمْئِنُ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ أَوْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ فِي غَيْرِ يَوْمِهَا اجْتِهَادًا (2) ".
وَنَظَرًا إِلَى أَنَّ حُصُول النَّقْصِ فِي رَمَضَانَ وَاضِحٌ، وَفِي ذِي الْحِجَّةِ غَيْرُ وَاضِحٍ لِوُقُوعِ الْمَنَاسِكِ فِي أَوَّلِهِ فَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْعَيْنِيُّ بِقَوْلِهِ: " قَدْ تَكُونُ أَيَّامُ الْحَجِّ مِنَ الإِْغْمَاءِ وَالنُّقْصَانِ مِثْل مَا يَكُونُ فِي آخِرِ رَمَضَانَ بِأَنْ يُغَمَّى هِلاَل ذِي الْقَعْدَةِ وَيَقَعُ فِيهِ الْغَلَطُ بِزِيَادَةِ يَوْمٍ أَوْ نُقْصَانِهِ فَيَقَعُ عَرَفَةُ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ أَوِ الْعَاشِرِ مِنْهُ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ أَجْرَ الْوَاقِفِينَ بِعَرَفَةَ فِي مِثْلِهِ لاَ يَنْقُصُ عَمَّا لاَ غَلَطَ فِيهِ ".
__________
(1) العيني، عمدة القاري 10 / 285 - 286
(2) ابن حجر، فتح الباري 4 / 126، والقسطلاني، إرشاد الساري 3 / 359.(22/38)
وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُمْ إِنْ أَخْطَئُوا وَوَقَفُوا بَعْدَ يَوْمِ عَرَفَةَ يَوْمَ النَّحْرِ يُجْزِيهِمْ، وَإِنْ قَدَّمُوا الْوُقُوفَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَعَادُوا الْوُقُوفَ مِنَ الْغَدِ وَلَمْ يُجْزِهِمْ (1) .
تَبْلِيغُ الرُّؤْيَةِ:
16 - إِذَا ثَبَتَ الْهِلاَل عِنْدَ الْجِهَةِ الْمُخْتَصَّةِ الْمَوْثُوقِ بِهَا وَجَبَ إِعْلاَمُ النَّاسِ لِلشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، أَوِ الإِْفْطَارِ وَصَلاَةِ عِيدِ الْفِطْرِ، أَوْ صَلاَةِ عِيدِ الأَْضْحَى وَذَبْحِ الأُْضْحِيَّةِ بِالْخَبَرِ كَمَا قَال الْقَرَافِيُّ: " ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ رِوَايَةٌ مَحْضَةٌ كَالأَْحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَشَهَادَةٌ مَحْضَةٌ كَإِخْبَارِ الشُّهُودِ عَنِ الْحُقُوقِ عَلَى الْمُعَيَّنِينَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَمُرَكَّبٌ مِنْ شَهَادَةٍ وَرِوَايَةٍ، وَلَهُ صُوَرٌ أَحَدُهَا الإِْخْبَارُ عَنْ رُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصَّوْمَ لاَ يَخْتَصُّ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بَل عَامٌّ عَلَى جَمِيعِ الْمِصْرِ أَوْ أَهْل الآْفَاقِ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ رِوَايَةٌ لِعَدَمِ الاِخْتِصَاصِ بِمُعَيَّنٍ وَلِعُمُومِ الْحُكْمِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِهَذَا الْعَامِّ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ (2) ".
وَإِذَا كَانَتِ الرُّؤْيَةُ فِي حَدِّ ذَاتِهَا تُشْبِهُ الشَّهَادَةَ وَالرِّوَايَةَ، فَإِنَّ الإِْعْلاَمَ بِهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا لاَ خِلاَفَ فِي كَوْنِهِ رِوَايَةً، لِذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعْتَمَدُ فِي نَقْلِهَا وَسَائِل
__________
(1) العيني، عمدة القاري 10 / 285، والإجابة نفسها نقلها القسطلاني في إرشاد الساري 3 / 359، ونسبها إلى الكرماني.
(2) الفروق 1 / 10.(22/38)
نَقْل الْخَبَرِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُخْبِرِ بِهَا شُرُوطُ الرَّاوِي الْمَقْبُول الرِّوَايَةِ الْمُتَعَارَفُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَهِيَ: الْعَدَالَةُ وَالضَّبْطُ (1) .
وَقْتُ الإِْعْلاَمِ:
17 - إِنَّ وَقْتَ الإِْعْلاَمِ بِالنِّسْبَةِ لِرَمَضَانَ هُوَ مَا قَبْل فَجْرِ الْيَوْمِ الأَْوَّل مِنْهُ فَإِنْ حَصَل بَعْدَ ذَلِكَ وَجَبَ الإِْمْسَاكُ وَعَقْدُ نِيَّةِ الصِّيَامِ وَقَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ بَيَّتَ الصِّيَامَ عَلَى غَيْرِ جَزْمٍ بِدُخُول رَمَضَانَ (2) . عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ) .
الأَْدْعِيَةُ الْمَأْثُورَةُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلاَل:
18 - وَرَدَتْ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْعِيَةٌ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلاَل مِنْهَا مَا جَاءَ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلاَل قَال: اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالإِْيمَانِ وَالسَّلاَمَةِ وَالإِْسْلاَمِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ (3) .
وَمِنْهَا رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ لِهَذَا الْمَتْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى الْهِلاَل، قَال:
__________
(1) الفروق 1 / 385.
(2) الحطاب: مواهب الجليل 2 / 392.
(3) حديث: " كان إذا رأى الهلال قال: اللهم أهله علينا باليمن والإيمان. . . . " أخرجه الترمذي (5 / 504 - ط الحلبي) من حديث طلحة بن عبيد الله، وقال: " هذا حديث حسن غريب ".(22/39)
اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأَْمْنِ وَالإِْيمَانِ، وَالسَّلاَمَةِ وَالإِْسْلاَمِ وَالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، رَبُّنَا وَرَبُّكَ اللَّهُ (1) .
وَمِنْهَا مَا جَاءَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى الْهِلاَل قَال: اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الشَّهْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ الْقَدَرِ، وَمِنْ سُوءِ الْحَشْرِ (2) .
وَمِنْهَا عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلاَل قَال: هِلاَل خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلاَل خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلاَل خَيْرٍ وَرُشْدٍ، آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَكَ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا (3) .
هَذِهِ الأَْحَادِيثُ نَقَلَهَا أَيْضًا النَّوَوِيُّ فِي الأَْذْكَارِ، وَالْحَطَّابُ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل، وَنَقَل
__________
(1) حديث ابن عمر: " كان إذا رأى الهلال قال: اللهم أهله بالأمن والإيمان. . . . " أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " (12 / 356 - ط الأوقاف العراقية) ، وقال الهيثمي في المجمع (10 / 139 - ط القدسي) : " فيه عثمان بن إبراهيم الحاطبي، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات ".
(2) حديث عبادة بن الصامت: " كان إذا رأى الهلال قال:. . . . " أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (5 / 329 - ط الميمنية) وقال الهيثمي في المجمع (10 / 139 - ط القدسي) : " رواه عبد الله والطبراني، وفيه راو لم يسم ".
(3) حديث قتادة أنه بلغه: " أن النبي (كان إذا رأى الهلال. . . . " أخرجه أبو داود (5 / 326 - 327 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وإسناده ضعيف لإرساله(22/39)
إِثْرَهَا قَوْلاً لِلدَّمِيرِيِّ نَصَّ فِيهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْمُلْكِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلاَل لِلأَْثَرِ الْوَارِدِ فِيهَا، وَلأَِنَّهَا الْمُنَجِّيَةُ الْوَاقِيَةُ (1) .
__________
(1) الأذكار ص 171، ومواهب الجليل 2 / 382، 383(22/40)
رَائِحَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّائِحَةُ وَالرِّيحُ فِي اللُّغَةِ: النَّسِيمُ طَيِّبًا كَانَ أَوْ نَتِنًا. يُقَال: وَجَدْتُ رَائِحَةَ الشَّيْءِ وَرِيحَهُ. وَالرَّائِحَةُ عَرَضٌ يُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الشَّمِّ. وَقِيل: لاَ يُطْلَقُ اسْمُ الرِّيحِ إِلاَّ عَلَى الطَّيِّبِ (1) ، جَاءَ فِي الأَْثَرِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالإِْثْمِدِ الْمُرَوَّحِ أَيِ الْمُطَيَّبِ عِنْدَ النَّوْمِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
تَرِدُ كَلِمَةُ " رَائِحَةٌ " فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فِي أَبْوَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَبِاخْتِلاَفِ الأَْبْوَابِ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا.
أ - الرَّائِحَةُ فِي بَابِ الطَّهَارَةِ:
2 - الأَْصْل فِي رَفْعِ الْحَدَثِ وَإِزَالَةِ الْخَبَثِ أَنْ
__________
(1) لسان العرب، تاج العروس، المغرب، المصباح المنير.
(2) حديث: " أمر بالإثمد المروح عند النوم " أخرجه أبو داود (2 / 776 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث معبد بن هوذة، ثم قال: " قال لي ابن معين: هو حديث منكر ".(22/40)
يَكُونَ بِالْمَاءِ قَال تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (1) .
وَاشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لِطَهُورِيَّةِ الْمَاءِ بَقَاءَ أَوْصَافِهِ الأَْصْلِيَّةِ وَهِيَ: اللَّوْنُ وَالطَّعْمُ وَالرَّائِحَةُ. فَإِنْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، كَرَائِحَتِهِ، بِشَيْءٍ خَالَطَهُ بِحَيْثُ لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ عُرْفًا، بَل يُضَافُ إِلَيْهِ قَيْدٌ لاَزِمٌ، كَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَسْلُبُ عَنْهُ الطَّهُورِيَّةَ، فَيُصْبِحُ الْمَاءُ طَاهِرًا غَيْرَ مُطَهِّرٍ إِنْ كَانَ الْمُخَالِطُ الْمُغَيِّرُ طَاهِرًا، فَلاَ يَرْفَعُ حَدَثًا وَلاَ يُزِيل خَبَثًا وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا بِذَاتِهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَاءً مُطْلَقًا (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ عَنِ الْمَاءِ تَغَيُّرُ أَوْصَافِهِ إِنْ لَمْ يَزُل عَنْهُ طَبْعُ الْمَاءِ. وَطَبْعُ الْمَاءِ: كَوْنُهُ سَيَّالاً مُرَطِّبًا مُسَكِّنًا لِلْعَطَشِ (3) .
أَمَّا إِذَا حَصَل التَّغَيُّرُ بِمُجَاوِرٍ لِلْمَاءِ لَمْ يُخَالِطْهُ فَإِنَّهُ لاَ يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ مُجَرَّدُ تَرَوُّحٍ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (مِيَاهٌ) .
ب - رَائِحَةُ الطِّيبِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُحْظَرُ عَلَى الْمُحْرِمِ اسْتِعْمَال مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَيُقْصَدُ بِهِ رَائِحَتُهُ كَالْمِسْكِ وَالْعُودِ وَنَحْوِهِمَا، أَمَّا مَا لاَ تُقْصَدُ
__________
(1) سورة الفرقان / 48.
(2) أسنى المطالب 1 / 7 - 8، كشاف القناع 1 / 32، الزرقاني 1 / 11، الشرقاوي على التحرير 1 / 32 - 34
(3) الاختيار 1 / 14.(22/41)
رَائِحَتُهُ، كَالتُّفَّاحِ وَالأُْتْرُجِّ فَلاَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ اسْتِعْمَالُهُ، وَإِنْ كَانَتْ رَائِحَتُهُ طَيِّبَةً. وَانْظُرْ (إِحْرَامٌ) .
ج - الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ وَالرَّائِحَةُ الْكَرِيهَةُ فِي الْمَسَاجِدِ:
4 - يُسْتَحَبُّ تَطْيِيبُ الْمَسَاجِدِ، وَيُصَانُ الْمَسْجِدُ عَنِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ مِنْ ثُومٍ أَوْ بَصَلٍ وَنَحْوِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ، كَمَا يُكْرَهُ لِمَنْ أَكَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ دُخُول الْمَسَاجِدِ وَيُرَخَّصُ لَهُ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَمِثْلُهُ مَنْ لَهُ صُنَانٌ أَوْ بَخَرٌ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ إِخْرَاجِ مَنْ بِهِ ذَلِكَ إِزَالَةً لِلأَْذَى (1) ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَخْرَجَ أَذًى مِنَ الْمَسْجِدِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ (2) ، وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ أَكَل ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا - أَوْ قَال: فَلْيَعْتَزِل مَسْجِدَنَا (3) .
__________
(1) كشاف القناع 2 / 365، وأسنى المطالب 1 / 215، وجواهر الإكليل 2 / 203، ومواهب الجليل 6 / 13.
(2) حديث: " من أخرج أذى من المسجد بنى الله له بيتًا في الجنة " أخرجه ابن ماجه 1 / 250 - ط الحلبي من حديث أبي سعيد الخدري، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 163 - ط دار الجنان) : " هذا إسناد ضعيف، ومسلم - هو ابن يسار - لم يسمع من أبي سعيد، ومحمد - يعني ابن صالح المدني - فيه لين ".
(3) حديث: " من أكل ثومًا أو بصلاً فليعتزلنا - أو قال: فليعتزل مسجدنا " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 239 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 394 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله(22/41)
وَقَال: مَنْ أَكَل مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ يَعْنِي الثُّومَ فَلاَ يَقْرَبْنَا فِي الْمَسْجِدِ وَفِي رِوَايَةٍ: فَلاَ يَقْرَبْ مُصَلاَّنَا (1) .
وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِخْرَاجُ الرِّيحِ فِي الْمَسْجِدِ بِجَامِعِ الإِْيذَاءِ بِالرَّائِحَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ (2) ، لِخَبَرِ: إِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ (3) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ ذَلِكَ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمَسْجِدَ يُنَزَّهُ عَنِ النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ (4) . وَانْظُرْ: (مَسَاجِدُ) .
د - التَّلَفُ بِسَبَبِ الرَّائِحَةِ:
5 - إِذَا اتَّخَذَ مِنْ دَارِهِ - بَيْنَ الدُّورِ الْمَسْكُونَةِ - مَعْمَلاً لَهُ رَائِحَةٌ مُؤْذِيَةٌ، فَشَمَّهُ أَطْفَالٌ أَوْ غَيْرُهُمْ فَمَاتُوا بِذَلِكَ ضَمِنَ صَاحِبُ الدَّارِ، لِمُخَالَفَتِهِ الْعَادَةَ. وَإِنْ قَلَى أَوْ شَوَى فِي دَارِهِ مَا يُسَبِّبُ إِجْهَاضَ الْحَامِل إِنْ لَمْ تَأْكُل مِنْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ إِلَيْهَا مَا يَدْفَعُ عَنْهَا الإِْجْهَاضَ بِعِوَضٍ إِنْ
__________
(1) حديث: " من أكل من هذه الشجرة الخبيثة (يعني الثوم) فلا يقربنا في المسجد ". وفي رواية: " فلا يقرب مصلانا ". أخرجه مسلم (1 / 395 - ط الحلبي) وأبو عوانة (1 / 412 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي سعيد الخدري، والرواية الأخرى لأبي عوانة.
(2) المصادر السابقة، وكشاف القناع 1 / 497.
(3) حديث: " إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم " أخرجه مسلم (1 / 395 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(4) مواهب الجليل 6 / 13.(22/42)
كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى الْعِوَضِ، وَإِلاَّ فَبِلاَ عِوَضٍ، وَإِنْ لَمْ تَطْلُبْ مِنْهُ، فَإِنْ قَصَّرَ ضَمِنَ دِيَةَ الْجَنِينِ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ الدِّيَاتِ، وَمُصْطَلَحِ: (إِجْهَاضٌ، ف 9) .
هـ - ثُبُوتُ حَدِّ الشُّرْبِ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ:
6 - لاَ يَثْبُتُ حَدُّ الشُّرْبِ بِوُجُودِ رَائِحَةِ الْخَمْرِ فِي فَمِ الشَّارِبِ فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، مِنْهُمْ: الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَهِيَ الْمَذْهَبُ. وَقَالُوا: يُحْتَمَل أَنَّهُ تَمَضْمَضَ بِالْخَمْرِ أَوْ حَسِبَهَا مَاءً فَلَمَّا صَارَتْ فِي فَمِهِ مَجَّهَا، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا، أَوْ شَرِبَ شَرَابَ التُّفَّاحِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُ كَرَائِحَةِ الْخَمْرِ، وَبِوُجُودِ الاِحْتِمَال لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّهُ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَثْبُتُ حَدُّ الشُّرْبِ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ جَلَدَ رَجُلاً وَجَدَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ؛ وَلأَِنَّ الرَّائِحَةَ تَدُل عَلَى شُرْبِهِ لِلْخَمْرِ، فَأُجْرِيَ مَجْرَى الإِْقْرَارِ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي: (سُكْرٌ) .
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 337، وحاشية عميرة على المحلي 3 / 90، وشرح الزرقاني 8 / 32.
(2) ابن عابدين 3 / 164، وأسنى المطالب 4 / 159، والمغني 8 / 317.
(3) شرح الزرقاني 8 / 113، ومواهب الجليل 6 / 317، والمغني لابن قدامة 8 / 309(22/42)
و - تَغَيُّرُ رَائِحَةِ لَحْمِ الْجَلاَّلَةِ أَوْ لَبَنِهَا:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَكْل لَحْمِ الْجَلاَّلَةِ وَشُرْبُ لَبَنِهَا إِذَا تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُمَا بِالنَّجَاسَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ بِالتَّحْرِيمِ. وَانْظُرْ: (أَطْعِمَةٌ، جَلاَّلَةٌ) .
ز - مَنْعُ الزَّوْجَةِ مِنْ أَكْل مَا يَتَأَذَّى الزَّوْجُ مِنْ رَائِحَتِهِ:
8 - لِلزَّوْجِ مَنْعُ زَوْجَتِهِ مِنْ تَنَاوُل مَا يَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَتِهِ كَالثُّومِ، وَالْبَصَل وَنَحْوِهِمَا.
كَمَا لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى إِزَالَةِ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ مِنْ بَدَنِهَا، وَثَوْبِهَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ كَمَال الاِسْتِمْتَاعِ (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٌ) .
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 137، وقليوبي 3 / 252، والمغني 7 / 29 - 30(22/43)
رَابِغٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - رَابِغٌ: وَادٍ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ قُرْبَ الْبَحْرِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ قَرِيبٌ مِنَ الْجُحْفَةِ (1) .
وَأَصْل هَذَا الْمُصْطَلَحِ اللُّغَوِيِّ: رَبَغَ الْقَوْمُ فِي النَّعِيمِ: أَقَامُوا. . . وَالرَّبْغُ: التُّرَابُ، وَالرَّابِغُ: مَنْ يُقِيمُ عَلَى أَمْرٍ مُمْكِنٍ لَهُ.
وَالْجُحْفَةُ مِيقَاتُ الإِْحْرَامِ لأَِهْل الشَّامِ وَتُرْكِيَّةَ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ، وَتَقَعُ قُرْبَ السَّاحِل وَسَطَ الطَّرِيقِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
وَقَدِ انْدَثَرَتِ الْجُحْفَةُ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ وَأَصْبَحَتْ لاَ تَكَادُ تُعْرَفُ، وَأَصْبَحَ حُجَّاجُ هَذِهِ الْبِلاَدِ يُحْرِمُونَ مِنْ رَابِغٍ احْتِيَاطًا، وَتَقَعُ قَبْل الْجُحْفَةِ بِقَلِيلٍ؛ لِلْقَادِمِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَتَبْعُدُ عَنْ مَكَّةَ (220) كِيلُو مِتْرًا.
انْظُرْ: (إِحْرَامٌ: ف 40) .
__________
(1) انظر القاموس ولسان العرب ومراصد الإطلاع ومعجم البلدان 3 / 11، والشرقاوي على التحرير 1 / 505، والحطاب 3 / 30، وابن عابدين 2 / 153، وكشاف القناع 2 / 400.(22/43)
رَاتِبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّاتِبُ: لُغَةً مِنْ رَتَبَ الشَّيْءُ رُتُوبًا إِذَا ثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ، فَالرَّاتِبُ هُوَ الثَّابِتُ، وَعَيْشٌ رَاتِبٌ: أَيْ ثَابِتٌ دَائِمٌ. قَال ابْنُ جِنِّي: يُقَال: مَا زِلْتُ عَلَى هَذَا رَاتِبًا أَيْ مُقِيمًا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (2) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - وَرَدَ مُصْطَلَحُ الرَّاتِبِ فِي عِدَّةِ أَبْوَابٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ مِنْهَا:
أ - السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ مِنَ الصَّلَوَاتِ:
3 - وَهِيَ السُّنَنُ التَّابِعَةُ لِلْفَرَائِضِ، وَوَقْتُهَا وَقْتُ الْمَكْتُوبَاتِ الَّتِي تَتْبَعُهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَقَادِيرِهَا.
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير مادة: (رتب) .
(2) يرد (الراتب) عند الفقهاء المعاصرين كثيرًا في مباحث الوقف والإجارة ويراد به ما رتب للشخص من أجر أو غلة بصفة دائمة.(22/44)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الرَّوَاتِبَ الْمُؤَكَّدَةَ عَشْرُ رَكَعَاتٍ، رَكْعَتَانِ قَبْل الصُّبْحِ، وَرَكْعَتَانِ قَبْل الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ؛ لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: حَفِظْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْل الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْل الصُّبْحِ، وَكَانَتْ سَاعَةً لاَ يُدْخَل عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَطَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ (1) .
وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ مَرْجُوحَةٌ عِنْدَ الْمَذَاهِبِ تَذْكُرُ أَرْبَعًا بَعْدَ الظُّهْرِ، وَأَرْبَعًا قَبْل الْعَصْرِ، وَاثْنَتَيْنِ قَبْل الْمَغْرِبِ، وَسِتًّا بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَأَنْ لاَ رَاتِبَةَ بَعْدَ الْعِشَاءِ بِلاَ حَدٍّ (2) .
وَالتَّفَاصِيل فِي: (السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِقْدَارَهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً: رَكْعَتَانِ قَبْل صَلاَةِ الْفَجْرِ، وَأَرْبَعُ رَكَعَاتٍ قَبْل صَلاَةِ الظُّهْرِ - لاَ يُسَلِّمُ إِلاَّ فِي آخِرِهِنَّ - وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ صَلاَةِ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ صَلاَةِ
__________
(1) حديث ابن عمر: " حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 58 - ط السلفية) .
(2) الشرح الصغير 1 / 402، وجواهر الإكليل 1 / 73، ومغني المحتاج 1 / 220، والمغني لابن قدامة 2 / 125، المجموع 4 / 221.(22/44)
الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ (1) .
لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ ثَابَرَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَل لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ: أَرْبَعًا قَبْل الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْل الْفَجْرِ (2) .
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِنْهَا إِلاَّ لِعُذْرٍ.
4 - وَآكَدُ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ لِوُرُودِ الأَْحَادِيثِ بِالتَّرْغِيبِ فِيهِمَا مَا لَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ النَّوَافِل (3) . عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا (4) وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا أَنَّهُ قَال: لاَ تَدَعُوا الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْل صَلاَةِ
__________
(1) البدائع 1 / 284، وحاشية ابن عابدين 1 / 452.
(2) حديث: " من ثابر على اثنتي عشرة ركعة. . . . . . . . . . " أخرجه النسائي (3 / 261 - ط المكتبة التجارية) ، والترمذي (2 / 273 - ط الحلبي) واللفظ للنسائي، وقال الترمذي: " حديث غريب من هذا الوجه، مغيرة بن زياد قد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه "، ولكن للحديث شاهد من حديث أم حبيبة أخرجه النسائي والترمذي يتقوى به.
(3) البدائع 1 / 284، وحاشية ابن عابدين 1 / 452، والشرح الصغير للدردير 1 / 408
(4) حديث: " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها. . . . . . . " أخرجه مسلم (1 / 501 - ط الحلبي) .(22/45)
الْفَجْرِ، فَإِنَّ فِيهِمَا الرَّغَائِبَ (1) وَفِي رِوَايَةٍ: لاَ تَدَعُوا رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَلَوْ طَرَدَتْكُمُ الْخَيْل (2) .
ب - الْمُؤَذِّنُ الرَّاتِبُ:
5 - إِذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ مُؤَذِّنٌ رَاتِبٌ فَلاَ يُؤَذَّنُ قَبْلَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَخَلَّفَ وَيُخَافَ فَوَاتُ وَقْتِ التَّأْذِينِ فَيُؤَذِّنُ غَيْرُهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ أَنَّهُ أَذَّنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ غَابَ بِلاَلٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (3) وَأَذَّنَ رَجُلٌ حِينَ غَابَ أَبُو مَحْذُورَةَ (4) . وَلأَِنَّ مُؤَذِّنِي الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُمْ يَسْبِقُهُمْ بِالأَْذَانِ.
__________
(1) حديث: " لا تدعوا الركعتين اللتين قبل صلاة الفجر " أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (12 / 408 - ط الأوقاف العراقية) من حديث عبد الله بن عمر، وذكره الهيثمي في حديثه مطولاً في المجمع (2 / 218 - ط القدسي) ثم قال: " رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبد الرحيم بن يحيى وهو ضعيف، وروى أحمد منه: " وركعتي الفجر، حافظوا عليهما فإن فيهما الرغائب " وفيه رجل لم يسم.
(2) حديث: " لا تدعوا ركعتي الفجر، ولو طردتكم الخيل " أخرجه أحمد (2 / 405 - ط الميمنية) ، وأبو داود (2 / 46 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة، واللفظ لأحمد. وقال عبد الحق الإشبيلي: " إسناده ليس بقوي " كذا في فيض القدير للمناوي (6 / 393 - ط المكتبة التجارية) .
(3) حديث: " أذان زياد بن الحارث الصدائي. . . " أخرجه الترمذي (1 / 383 - 384 - ط الحلبي) وأعله الترمذي بضعف أحد رواته
(4) حديث: " أذن رجل حين غاب أبو مخدورة " ذكره ابن قدامة في المغني (1 / 429 - ط الرياض) وعزاه إلى الأثرم.(22/45)
وَإِذَا نَازَعَ الْمُؤَذِّنَ الرَّاتِبَ غَيْرُهُ فِي الأَْذَانِ يُقَدَّمُ الرَّاتِبُ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمُؤَذِّنَ الرَّاتِبَ يُعِيدُ الأَْذَانَ إِذَا أَذَّنَ فِي الْمَسْجِدِ مَنْ يُكْرَهُ أَذَانُهُ كَالْفَاسِقِ، وَالْجُنُبِ، وَالْمَرْأَةِ. وَقَال فِي الْمَجْمُوعِ شَرْطُ الْمُؤَذِّنِ الرَّاتِبِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْمَوَاقِيتِ إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَاسِطَةِ ثِقَةٍ آخَرَ (1) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (أَذَانٌ) .
ج - الإِْمَامُ الرَّاتِبُ:
6 - الإِْمَامُ الرَّاتِبُ - وَهُوَ الَّذِي رَتَّبَهُ السُّلْطَانُ، أَوْ نَائِبُهُ، أَوِ الْوَاقِفُ، أَوْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - يُقَدَّمُ فِي إِمَامَةِ الصَّلاَةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحَاضِرِينَ وَإِنِ اخْتُصَّ غَيْرُهُ بِفَضِيلَةٍ كَأَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ مِنْهُ أَوْ أَقْرَأَ مِنْهُ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ أَتَى أَرْضًا لَهُ وَعِنْدَهَا مَسْجِدٌ يُصَلِّي فِيهِ مَوْلًى لاِبْنِ عُمَرَ فَصَلَّى مَعَهُمْ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ فَأَبَى وَقَال: صَاحِبُ الْمَسْجِدِ أَحَقُّ.
أَمَّا إِنْ كَانَ مَعَهُ الإِْمَامُ الأَْعْظَمُ أَوْ نَائِبُهُ أَوِ الْقَاضِي أَوْ أَمْثَالُهُمْ مِنْ ذَوِي السُّلْطَانِ وَالْوِلاَيَةِ، فَيُقَدَّمُونَ عَلَى الإِْمَامِ الرَّاتِبِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَؤُمَّنَّ الرَّجُل الرَّجُل فِي سُلْطَانِهِ وَلاَ يَقْعُدْ عَلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 264، والمجموع 3 / 8، 102، ومغني المحتاج 1 / 137، والمغني لابن قدامة 1 / 429.(22/46)
تَكْرِمَتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (1) .
" وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ وَأَنَسًا فِي بُيُوتِهِمَا (2) .
وَلأَِنَّ تَقَدُّمَ غَيْرِ صَاحِبِ السُّلْطَانِ بِحَضْرَتِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ لاَ يَلِيقُ بِبَذْل الطَّاعَةِ (3) . وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ مَحَل تَقْدِيمِ الْوَالِي عَلَى الإِْمَامِ الرَّاتِبِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الإِْمَامُ مُرَتَّبًا مِنَ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الإِْمَامُ مِمَّنْ رَتَّبَهُ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ فَإِنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى وَالِي الْبَلَدِ وَقَاضِيهِ (4) .
7 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِعَادَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ - وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - إِلَى كَرَاهَةِ إِعَادَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ، وَلاَ يَقَعُ فِي مَمَرِّ النَّاسِ، مَا لَمْ تَكُنِ الإِْعَادَةُ بِإِذْنِ الإِْمَامِ الرَّاتِبِ، فَمَنْ فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ مَعَ الإِْمَامِ الرَّاتِبِ صَلَّى
__________
(1) حديث: " لا يَؤُمَنَّ الرجل الرجل في سلطانه. . . " أخرجه مسلم (1 / 465 - ط الحلبي) من حديث أبي مسعود الأنصاري.
(2) قوله: " لأن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَّ عتبان بن مالك وأنسًا في بيوتهما ". أما إمامته لعتبان بن مالك فأخرج حديثه البخاري (الفتح 1 / 518 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 455 - ط الحلبي) . وأما إمامته لأنس بن مالك فأخرجه البخاري (الفتح 2 / 345 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 457 - ط الحلبي) .
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 375، والشرح الصغير 1 / 454، ومغني المحتاج 1 / 244، والمغني لابن قدامة 2 / 205، والبدائع 1 / 158
(4) مغني المحتاج 1 / 244.(22/46)
مُنْفَرِدًا لِئَلاَّ يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى اخْتِلاَفِ الْقُلُوبِ وَالْعَدَاوَةِ وَالتَّهَاوُنِ فِي الصَّلاَةِ مَعَ الإِْمَامِ الرَّاتِبِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، وَالنَّوَوِيُّ، وَأَبُو قِلاَبَةَ، وَأَيُّوبُ، وَابْنُ عَوْنٍ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ إِعَادَةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا فِي مَمَرِّ النَّاسِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُل صَلاَةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً وَفِي رِوَايَةٍ: بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً (2) .
وَلِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلاً دَخَل الْمَسْجِدَ وَقَدْ صَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ فَقَال: مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّي مَعَهُ؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَصَلَّى مَعَهُ (3) . وَفِي رِوَايَةٍ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 371، والمجموع للإمام النووي 4 / 221، والمغني لابن قدامة 2 / 180
(2) حديث: " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 131 - ط السلفية) من حديث أبي سعيد الخدري ورواية " سبع وعشرين درجة " أخرجها البخاري (الفتح 2 / 131 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 450 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(3) حديث أبي سعيد: " أن رجلاً دخل المسجد " أخرجه أحمد (3 / 5 - ط الميمنية) ، وأخرج الرواية الأخرى أحمد (3 / 64) ، والحاكم (1 / 209 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي(22/47)
وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ، وَزَادَ: قَال: فَلَمَّا صَلَّيَا قَال: وَهَذَانِ جَمَاعَةٌ (1) . وَلأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ فَاسْتُحِبَّ لَهُ فِعْلُهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ يَقَعُ فِي سُوقٍ، أَوْ فِي مَمَرِّ النَّاسِ، أَوْ لَيْسَ لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ، أَوْ لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ وَلَكِنَّهُ أَذِنَ لِلْجَمَاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَلاَ كَرَاهَةَ فِي الْجَمَاعَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَمَا زَادَ، بِالإِْجْمَاعِ (3) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَزِيدُ تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي: (صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ) .
8 - أَمَّا مَسْأَلَةُ الاِسْتِحْقَاقِ الرَّاتِبِ فِي الْوَقْفِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْوَظَائِفِ فَتَفَاصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (رِزْقٌ، وَظِيفَةٌ، وَقْفٌ، إِجَارَةٌ) .
رَاكِبٌ
انْظُرْ: رُكُوبٌ.
__________
(1) حديث أبي أمامة أخرجه أحمد (5 / 254 - ط الميمنية) ، وقال الهيثمي في المجمع (2 / 45 - ط القدسي) ، " وله طرق كلها ضعيفة ".
(2) المغني لابن قدامة 2 / 180، والمجموع للإمام النووي 4 / 222.
(3) المجموع للإمام النووي 4 / 222، والمغني لابن قدامة 2 / 180، وحاشية ابن عابدين 1 / 371(22/47)
رَاهِبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّاهِبُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ الْفَاعِل مِنْ رَهِبَ يَرْهَبُ رَهَبًا وَرُهْبًا وَرَهْبَةً إِذَا خَافَ.
وَالرَّاهِبُ: الْمُنْقَطِعُ لِلْعِبَادَةِ مِنَ النَّصَارَى. وَيُجْمَعُ عَلَى رُهْبَانٍ، كَرَاكِبٍ وَرُكْبَانٍ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقِسِّيسُ:
2 - الْقِسِّيسُ بِالْكَسْرِ: عَالِمُ النَّصَارَى، وَجَمْعُهُ قِسِّيسُونَ، وَقَسَاوِسَةُ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَالْقَسُّ بِالْفَتْحِ أَيْضًا رَئِيسٌ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّصَارَى فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ (2) .
فَالرَّاهِبُ: عَابِدُ النَّصَارَى، وَالْقِسِّيسُ: عَالِمُهُمْ.
ب - الأَْحْبَارُ:
3 - الأَْحْبَارُ جَمْعُ الْحِبْرِ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ الْعَالِمُ.
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، مادة: (رهب) والقرطبي 6 / 258
(2) المصباح المنير، مادة: (قسس) ، والقرطبي 6 / 258.(22/48)
وَالْحَبْرُ بِالْفَتْحِ لُغَةٌ فِيهِ، وَهُوَ مِنَ التَّحْبِيرِ، وَهُوَ التَّحْسِينُ، سُمِّيَ الْعَالِمُ حَبْرًا لأَِنَّهُ يُحَبِّرُ الْعِلْمَ، أَيْ: يُبَيِّنُهُ وَيُزَيِّنُهُ.
وَقَال الْجَوْهَرِيُّ: الْحِبْرُ وَالْحَبْرُ وَاحِدُ أَحْبَارِ الْيَهُودِ (1) .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) .
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالرَّاهِبِ:
أ - قَتْل الرَّاهِبِ فِي الْجِهَادِ:
4 - إِذَا اشْتَرَكَ الرُّهْبَانُ فِي قِتَال الْمُسْلِمِينَ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ قَتْلِهِمْ حِينَ الظَّفَرِ بِهِمْ كَسَائِرِ الْمُقَاتِلِينَ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَالَطُوا النَّاسَ، أَوْ كَانُوا يُمِدُّونَ الْمُقَاتِلِينَ بِرَأْيِهِمْ وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى الْقِتَال (3) .
أَمَّا إِذَا لَمْ يَشْتَرِكُوا فِي الْقِتَال وَلَمْ يُخَالِطُوا النَّاسَ بَل كَانُوا مُنْعَزِلِينَ فِي صَوَامِعِهِمْ بِلاَ رَأْيٍ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُمْ لاَ يُقْتَلُونَ؛ لاِعْتِزَالِهِمْ أَهْل دِينِهِمْ عَنْ مُحَارَبَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَلِمَا
__________
(1) المصباح المنير، مادة: (حبر) ، وتفسير القرطبي 6 / 189، وتفسير الرازي 12 / 3.
(2) سورة التوبة / 31.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 224 - 226، وجواهر الإكليل 1 / 253، والدسوقي 2 / 177، والأحكام السلطانية للماوردي ص 134، والمغني 8 / 478(22/48)
رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: وَسَتَمُرُّونَ عَلَى أَقْوَامٍ فِي الصَّوَامِعِ قَدْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا فَدَعُوهُمْ حَتَّى يُمِيتَهُمُ اللَّهُ عَلَى ضَلاَلِهِمْ. وَلأَِنَّهُمْ لاَ يُقَاتِلُونَ تَدَيُّنًا فَأَشْبَهُوا مَنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَال (1) .
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ قَتْلِهِمْ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (2) ، وَلأَِنَّهُمْ أَحْرَارٌ مُكَلَّفُونَ فَجَازَ قَتْلُهُمْ كَغَيْرِهِمْ (3) . (ر: جِهَادٌ) .
ب - وَضْعُ الْجِزْيَةِ عَلَى الرُّهْبَانِ:
5 - وَضْعُ الْجِزْيَةِ عَلَى الرُّهْبَانِ مَحَل خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي: (جِزْيَةٌ) .
__________
(1) المراجع السابقة، وانظر الحطاب 3 / 351، وحاشية القليوبي 4 / 218.
(2) سورة التوبة / 5.
(3) مغني المحتاج 4 / 223، والقليوبي 4 / 218.(22/49)
رِبًا
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّبَا فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مَقْصُورٌ عَلَى الأَْشْهَرِ، وَهُوَ مِنْ رَبَا يَرْبُو رَبْوًا، وَرُبُوًّا وَرِبَاءً (1) .
وَأَلِفُ الرِّبَا بَدَلٌ عَنْ وَاوٍ، وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ فَيُقَال: رِبَوِيٌّ، وَيُثَنَّى بِالْوَاوِ عَلَى الأَْصْل فَيُقَال: رِبَوَانِ، وَقَدْ يُقَال: رِبَيَانِ - بِالْيَاءِ - لِلإِْمَالَةِ السَّائِغَةِ فِيهِ مِنْ أَجْل الْكَسْرَةِ (2) .
وَالأَْصْل فِي مَعْنَاهُ الزِّيَادَةُ، يُقَال: رَبَا الشَّيْءُ إِذَا زَادَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (3) . وَأَرْبَى الرَّجُل: عَامَل بِالرِّبَا أَوْ دَخَل فِيهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: مَنْ أَجْبَى فَقَدْ أَرْبَى (4) وَالإِْجْبَاءُ: بَيْعُ الزَّرْعِ قَبْل أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهُ.
وَيُقَال: الرِّبَا وَالرَّمَا وَالرَّمَاءُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) المصباح المنير، وتاج العروس، مادة: (ربو) .
(2) لسان العرب، وتاج العروس، مادة: (ربو) .
(3) سورة البقرة / 276.
(4) حديث: " من أجبى فقد أربى " أورده أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث (1 / 217 - ط دائرة المعارف العثمانية) بدون إسناد.(22/49)
قَوْلُهُ: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَا، يَعْنِي الرِّبَا (1) .
وَالرُّبْيَةُ - بِالضَّمِّ وَالتَّخْفِيفِ - اسْمٌ مِنَ الرِّبَا، وَالرُّبِّيَّةُ: الرِّبَاءُ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُلْحِ أَهْل نَجْرَانَ: أَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ رُبِّيَّةٌ وَلاَ دَمٌ (2) .
قَال أَبُو عُبَيْدٍ: هَكَذَا رُوِيَ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ وَالْيَاءِ، وَقَال الْفَرَّاءُ: أَرَادَ بِهَا الرِّبَا الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالدِّمَاءَ الَّتِي كَانُوا يَطْلُبُونَ بِهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَسْقَطَ عَنْهُمْ كُل رِبًا كَانَ عَلَيْهِمْ إِلاَّ رُءُوسَ الأَْمْوَال فَإِنَّهُمْ يَرُدُّونَهَا (3) .
وَالرِّبَا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ:
عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: فَضْلٌ خَالٍ عَنْ عِوَضٍ بِمِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ مَشْرُوطٍ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ (4) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: عَقْدٌ عَلَى عِوَضٍ مَخْصُوصٍ غَيْرِ مَعْلُومِ التَّمَاثُل فِي مِعْيَارِ الشَّرْعِ
__________
(1) تفسير القرطبي 9 / 305، 12 / 13، وتاج العروس، ولسان العرب، وتهذيب الأسماء واللغات 3 / 117.
(2) حديث: " أن ليس عليهم رُبِّيَّة ولا دم " أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (5 / 389 - ط دار الكتب العلمية) ، واستغربه ابن كثير في تفسيره (2 / 50 - ط دار الأندلس) .
(3) لسان العرب.
(4) ابن عابدين (4 / 176 وما بعدها) ، وهذا التعريف للتمرتاشي في تنوير الأبصار، وفي الاختيار (2 / 30) ، وقيل: الربا في الشرع عبارة عن عقد فاسد بصفة سواء كان فيه زيادة أو لم يكن؛ فإن بيع الدراهم بالدنانير نسيئة ربا، ولا زيادة فيه.(22/50)
حَالَةَ الْعَقْدِ أَوْ مَعَ تَأْخِيرٍ فِي الْبَدَلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا (1) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: تَفَاضُلٌ فِي أَشْيَاءَ، وَنَسْءٌ فِي أَشْيَاءَ، مُخْتَصٌّ بِأَشْيَاءَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِهَا - أَيْ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا - نَصًّا فِي الْبَعْضِ، وَقِيَاسًا فِي الْبَاقِي مِنْهَا (2) .
وَعَرَّفَ الْمَالِكِيَّةُ كُل نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا عَلَى حِدَةٍ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْعُ:
2 - الْبَيْعُ لُغَةً: مَصْدَرُ بَاعَ، وَالأَْصْل فِيهِ أَنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْعَقْدِ مَجَازًا لأَِنَّهُ سَبَبُ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ.
وَالْبَيْعُ مِنَ الأَْضْدَادِ مِثْل الشِّرَاءِ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَفْظُ بَائِعٍ، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ إِذَا أُطْلِقَ فَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ بَاذِل السِّلْعَةِ، وَيُطْلَقُ الْبَيْعُ عَلَى الْمَبِيعِ فَيُقَال: بَيْعٌ جَيِّدٌ (4) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الْقَلْيُوبِيُّ بِأَنَّهُ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ تُفِيدُ مِلْكَ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ عَلَى
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 21.
(2) كشاف القناع 3 / 251، ومطالب أولي النهى 3 / 157.
(3) كفاية الطالب الرباني 2 / 99 وغيرها.
(4) المصباح المنير 69(22/50)
التَّأْبِيدِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ الْبَيْعِ أَقْوَالٌ أُخْرَى سَبَقَتْ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ (2)) .
وَالْبَيْعُ فِي الْجُمْلَةِ حَلاَلٌ، وَالرِّبَا حَرَامٌ.
ب - الْعَرَايَا:
3 - الْعَرِيَّةُ لُغَةً: النَّخْلَةُ يُعْرِيهَا صَاحِبُهَا غَيْرَهُ لِيَأْكُل ثَمَرَتَهَا فَيَعْرُوهَا أَيْ يَأْتِيهَا، أَوْ هِيَ النَّخْلَةُ الَّتِي أُكِل مَا عَلَيْهَا، وَالْجَمْعُ عَرَايَا، وَيُقَال: اسْتَعْرَى النَّاسُ أَيْ: أَكَلُوا الرُّطَبَ (3) .
وَعَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْعَ الْعَرَايَا بِأَنَّهُ: بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْل بِتَمْرٍ فِي الأَْرْضِ، أَوْ الْعِنَبِ فِي الشَّجَرِ بِزَبِيبٍ، فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ بِتَقْدِيرِ الْجَفَافِ بِمِثْلِهِ (4) .
وَيَذْهَبُ آخَرُونَ فِي تَعْرِيفِ بَيْعِ الْعَرَايَا وَحُكْمِهِ مَذَاهِبَ يُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِهَا إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَعْرِيَةٌ) (وَبَيْعُ الْعَرَايَا) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ 9 91.
وَبَيْعُ الْعَرَايَا مِنَ الْمُزَابَنَةِ، وَفِيهِ مَا فِي الْمُزَابَنَةِ مِنَ الرِّبَا أَوْ شُبْهَتِهِ، لَكِنَّهُ أُجِيزَ بِالنَّصِّ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَال: نَهَى رَسُول
__________
(1) حاشية قليوبي 2 / 152.
(2) الموسوعة الفقهية 9 / 5 وما بعدها
(3) المصباح المنير والقاموس المحيط.
(4) شرح المنهاج للمحلي 2 / 238(22/51)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا (1) ، وَفِي لَفْظٍ: عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَقَال: ذَلِكَ الرِّبَا تِلْكَ الْمُزَابَنَةُ، إِلاَّ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ: النَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ يَأْخُذُهَا أَهْل الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الرِّبَا مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَمِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ، وَلَمْ يُؤْذِنِ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَاصِيًا بِالْحَرْبِ سِوَى آكِل الرِّبَا، وَمَنِ اسْتَحَلَّهُ فَقَدْ كَفَرَ - لإِِنْكَارِهِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ - فَيُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِل، أَمَّا مَنْ تَعَامَل بِالرِّبَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِلًّا لَهُ فَهُوَ فَاسِقٌ (3) .
قَال الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الرِّبَا لَمْ يَحِل فِي شَرِيعَةٍ قَطُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} (4) يَعْنِي فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ (5) .
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع الثمر بالتمر " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 387 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1170 - ط الحلبي) واللفظ الثاني هو لمسلم.
(2) نيل الأوطار 5 / 226.
(3) المبسوط 12 / 109، وكفاية الطالب 2 / 99، والمقدمات لابن رشد ص 501، 502، والمجموع 9 / 390، ونهاية المحتاج 3 / 409، والمغني 3 / 3.
(4) سورة النساء / 161
(5) المجموع 9 / 391، ومغني المحتاج 2 / 21.(22/51)
وَدَلِيل التَّحْرِيمِ مِنَ الْكِتَابِ قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) .
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ. . .} (2) .
5 - قَال السَّرَخْسِيُّ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لآِكِل الرِّبَا خَمْسًا مِنَ الْعُقُوبَاتِ:
إِحْدَاهَا: التَّخَبُّطُ. . قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (3) .
الثَّانِيَةُ: الْمَحْقُ. . قَال تَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} (4) وَالْمُرَادُ الْهَلاَكُ وَالاِسْتِئْصَال، وَقِيل: ذَهَابُ الْبَرَكَةِ وَالاِسْتِمْتَاعِ حَتَّى لاَ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَلاَ وَلَدُهُ بَعْدَهُ.
الثَّالِثَةُ: الْحَرْبُ. . قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (5) .
الرَّابِعَةُ: الْكُفْرُ. . قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (6) وَقَال سُبْحَانَهُ بَعْدَ ذِكْرِ الرِّبَا: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُل كَفَّارٍ
__________
(1) سورة البقرة / 275.
(2) سورة البقرة / 275
(3) سورة البقرة / 275
(4) سورة البقرة / 276
(5) سورة البقرة / 279
(6) سورة البقرة / 278.(22/52)
أَثِيمٍ} (1) أَيْ: كَفَّارٍ بِاسْتِحْلاَل الرِّبَا، أَثِيمٍ فَاجِرٍ بِأَكْل الرِّبَا.
الْخَامِسَةُ: الْخُلُودُ فِي النَّارِ (2) . قَال تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (3) .
وَكَذَلِكَ - قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) ، قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} لَيْسَ لِتَقْيِيدِ النَّهْيِ بِهِ، بَل لِمُرَاعَاةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعَادَةِ تَوْبِيخًا لَهُمْ بِذَلِكَ، إِذْ كَانَ الرَّجُل يُرْبِي إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَل الأَْجَل قَال لِلْمَدِينِ: زِدْنِي فِي الْمَال حَتَّى أَزِيدَكَ فِي الأَْجَل، فَيَفْعَل، وَهَكَذَا عِنْدَ مَحَل كُل أَجَلٍ، فَيَسْتَغْرِقُ بِالشَّيْءِ الطَّفِيفِ مَالَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَنَزَلَتِ الآْيَةُ (5) .
6 - وَدَلِيل التَّحْرِيمِ مِنَ السُّنَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:
مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ
__________
(1) سورة البقرة / 276.
(2) المبسوط 12 / 109 - 110
(3) سورة البقرة / 275
(4) سورة آل عمران / 130
(5) أحكام القرآن للجصاص 1 / 465، وتفسير أبي السعود 1 / 271، وروح المعاني 4 / 55.(22/52)
قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَال: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْل النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْل الرِّبَا، وَأَكْل مَال الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ (1) .
وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِل الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَال: هُمْ سَوَاءٌ (2) .
وَأَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَصْل تَحْرِيمِ الرِّبَا (3) .
وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيل مَسَائِلِهِ وَتَبْيِينِ أَحْكَامِهِ وَتَفْسِيرِ شَرَائِطِهِ.
7 - هَذَا، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ يُقْرِضُ أَوْ يَقْتَرِضُ أَوْ يَبِيعُ أَوْ يَشْتَرِي أَنْ يَبْدَأَ بِتَعَلُّمِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْمُعَامَلاَتِ قَبْل أَنْ يُبَاشِرَهَا، حَتَّى تَكُونَ صَحِيحَةً وَبَعِيدَةً عَنِ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ، وَمَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَتَرْكُهُ إِثْمٌ وَخَطِيئَةٌ، وَهُوَ إِنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ هَذِهِ الأَْحْكَامَ قَدْ يَقَعُ
__________
(1) حديث: " اجتنبوا السبع الموبقات. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 393 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 92 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا. . . . . " أخرجه مسلم (3 / 1219 - ط الحلبي) .
(3) حاشية الصعيدي على كفاية الطالب 2 / 99، والمجموع 9 / 390، والمغني 3 / 3، والمقدمات لابن رشد 501، 502(22/53)
فِي الرِّبَا دُونَ أَنْ يَقْصِدَ الإِْرْبَاءَ، بَل قَدْ يَخُوضُ فِي الرِّبَا وَهُوَ يَجْهَل أَنَّهُ تَرَدَّى فِي الْحَرَامِ وَسَقَطَ فِي النَّارِ، وَجَهْلُهُ لاَ يُعْفِيهِ مِنَ الإِْثْمِ وَلاَ يُنَجِّيهِ مِنَ النَّارِ؛ لأَِنَّ الْجَهْل وَالْقَصْدَ لَيْسَا مِنْ شُرُوطِ تَرَتُّبِ الْجَزَاءِ عَلَى الرِّبَا، فَالرِّبَا بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ - مِنَ الْمُكَلَّفِ - مُوجِبٌ لِلْعَذَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي تَوَعَّدَ اللَّهُ جَل جَلاَلُهُ بِهِ الْمُرَابِينَ، يَقُول الْقُرْطُبِيُّ: لَوْ لَمْ يَكُنِ الرِّبَا إِلاَّ عَلَى مَنْ قَصَدَهُ مَا حُرِّمَ إِلاَّ عَلَى الْفُقَهَاءِ.
وَقَدْ أُثِرَ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَذِّرُونَ مِنْ الاِتِّجَارِ قَبْل تَعَلُّمِ مَا يَصُونُ الْمُعَامَلاَتِ التِّجَارِيَّةَ مِنَ التَّخَبُّطِ فِي الرِّبَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ يَتَّجِرُ فِي سُوقِنَا إِلاَّ مَنْ فَقِهَ، وَإِلاَّ أَكَل الرِّبَا، وَقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنِ اتَّجَرَ قَبْل أَنْ يَتَفَقَّهَ ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا ثُمَّ ارْتَطَمَ ثُمَّ ارْتَطَمَ، أَيْ: وَقَعَ وَارْتَبَكَ وَنَشِبَ (1) .
وَقَدْ حَرَصَ الشَّارِعُ عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الرِّبَا؛ لأَِنَّ مَا أَفْضَى إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَكُل ذَرِيعَةٍ إِلَى الْحَرَامِ هِيَ حَرَامٌ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: لَمَّا نَزَلَتْ:
__________
(1) تفسير القرطبي 3 / 352، وتفسير ابن كثير 1 / 581 - 582، وتفسير الطبري 6 / 38، ومغني المحتاج 2 / 22 و 6 / 29.(22/53)
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ. .} (1) قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَمْ يَذَرِ الْمُخَابَرَةَ فَلْيُؤْذَنْ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (2) قَال ابْنُ كَثِيرٍ: وَإِنَّمَا حُرِّمَتِ الْمُخَابَرَةُ وَهِيَ الْمُزَارَعَةُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنَ الأَْرْضِ، وَالْمُزَابَنَةُ وَهِيَ اشْتِرَاءُ الرُّطَبِ فِي رُءُوسِ النَّخْل بِالتَّمْرِ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ، وَالْمُحَاقَلَةُ وَهِيَ اشْتِرَاءُ الْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ فِي الْحَقْل بِالْحَبِّ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ، إِنَّمَا حُرِّمَتْ هَذِهِ الأَْشْيَاءُ وَمَا شَاكَلَهَا حَسْمًا لِمَادَّةِ الرِّبَا؛ لأَِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ التَّسَاوِي بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ قَبْل الْجَفَافِ، وَلِهَذَا قَال الْفُقَهَاءُ: الْجَهْل بِالْمُمَاثَلَةِ كَحَقِيقَةِ الْمُفَاضَلَةِ، وَمِنْ هَذَا حَرَّمُوا أَشْيَاءَ بِمَا فَهِمُوا مِنْ تَضْيِيقِ الْمَسَالِكِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الرِّبَا وَالْوَسَائِل الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ، وَتَفَاوَتَ نَظَرُهُمْ بِحَسَبِ مَا وَهَبَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.
8 - وَبَابُ الرِّبَا مِنْ أَشْكَل الأَْبْوَابِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، وَقَدْ قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ثَلاَثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْجَدُّ وَالْكَلاَلَةُ وَأَبْوَابٌ مِنَ الرِّبَا، يَعْنِي - كَمَا قَال ابْنُ كَثِيرٍ - بِذَلِكَ بَعْضَ الْمَسَائِل الَّتِي فِيهَا شَائِبَةُ الرِّبَا، وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ
__________
(1) سورة البقرة / 275
(2) حديث: " من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله " أخرجه أبو داود (3 / 695 - تحقيق عزت عبيد دعاس) دون ذكر الآية، وأعله المناوي في فيض القدير (6 / 224 - ط المكتبة التجارية) .(22/54)
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: مِنْ آخِرِ مَا نَزَل آيَةُ الرِّبَا، وَإِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبِضَ قَبْل أَنْ يُفَسِّرَهَا لَنَا، فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ، وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: ثَلاَثٌ لأََنْ يَكُونَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْكَلاَلَةُ، وَالرِّبَا، وَالْخِلاَفَةُ (1) .
حِكْمَةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا:
9 - أَوْرَدَ الْمُفَسِّرُونَ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا حِكَمًا تَشْرِيعِيَّةً:
مِنْهَا: أَنَّ الرِّبَا يَقْتَضِي أَخْذَ مَال الإِْنْسَانِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ؛ لأَِنَّ مَنْ يَبِيعُ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً تَحْصُل لَهُ زِيَادَةُ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَمَال الْمُسْلِمِ مُتَعَلِّقُ حَاجَتِهِ، وَلَهُ حُرْمَةٌ عَظِيمَةٌ، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُرْمَةُ مَال الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ (2) وَإِبْقَاءُ الْمَال فِي يَدِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً وَتَمْكِينُهُ مِنْ أَنْ يَتَّجِرَ فِيهِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ أَمْرٌ مَوْهُومٌ، فَقَدْ يَحْصُل وَقَدْ لاَ يَحْصُل، وَأَخْذُ الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ مُتَيَقَّنٌ، وَتَفْوِيتُ
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1 / 581 - 582، وتفسير الطبري 6 / 38، وتفسير القرطبي 3 / 364، 6 / 29.
(2) حديث: " حرمة مال المسلم كحرمة دمه " أخرجه أبو نعيم في الحلية (7 / 334 - ط السعادة) من حديث عبد الله بن مسعود، وفي إسناده ضعف، ولكن أورد ابن حجر شواهد له يتقوى بها، التلخيص الحبير (3 / 46 - ط شركة الطباعة الفنية) .(22/54)
الْمُتَيَقَّنِ لأَِجْل الْمَوْهُومِ لاَ يَخْلُو مِنْ ضَرَرٍ (1) .
وَمِنْهَا: أَنَّ الرِّبَا يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ الاِشْتِغَال بِالْمَكَاسِبِ؛ لأَِنَّ صَاحِبَ الدِّرْهَمِ إِذَا تَمَكَّنَ بِوَاسِطَةِ عَقْدِ الرِّبَا مِنْ تَحْصِيل الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ نَقْدًا كَانَ أَوْ نَسِيئَةً خَفَّ عَلَيْهِ اكْتِسَابُ وَجْهِ الْمَعِيشَةِ، فَلاَ يَكَادُ يَتَحَمَّل مَشَقَّةَ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَاتِ الشَّاقَّةِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ مَنَافِعِ الْخَلْقِ الَّتِي لاَ تَنْتَظِمُ إِلاَّ بِالتِّجَارَاتِ وَالْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْعِمَارَاتِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الرِّبَا يُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْقَرْضِ؛ لأَِنَّ الرِّبَا إِذَا حُرِّمَ طَابَتِ النُّفُوسُ بِقَرْضِ الدِّرْهَمِ وَاسْتِرْجَاعِ مِثْلِهِ، وَلَوْ حَل الرِّبَا لَكَانَتْ حَاجَةُ الْمُحْتَاجِ تَحْمِلُهُ عَلَى أَخْذِ الدِّرْهَمِ بِدِرْهَمَيْنِ، فَيُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ الْمُوَاسَاةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالإِْحْسَانِ (2) .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَال ابْنُ الْقَيِّمِ. . . فَرِبَا النَّسِيئَةِ، وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِثْل أَنْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَال، وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَ فِي الْمَال، حَتَّى تَصِيرَ الْمِائَةُ عِنْدَهُ آلاَفًا
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 409، وحاشية الجمل 3 / 46، والقليوبي 2 / 166، وتفسير القرطبي 3 / 359. وينظر الفرق بين العلة والحكمة والسبب في الملحق الأصولي، ويمكن الرجوع إلى كتب أصول الفقه، ومنها: حاشية البناني على شرح جمع الجوامع 1 / 94 وما بعدها، و 2 / 240 وما بعدها.
(2) التفسير الكبير للفخر الرازي 7 / 93 - 94، وتفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري 3 / 81 بهامش الطبري.(22/55)
مُؤَلَّفَةً، وَفِي الْغَالِبِ لاَ يَفْعَل ذَلِكَ إِلاَّ مُعْدِمٌ مُحْتَاجٌ، فَإِذَا رَأَى أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ يُؤَخِّرُ مُطَالَبَتَهُ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ بِزِيَادَةٍ يَبْذُلُهَا لَهُ تَكَلَّفَ بَذْلَهَا لِيَفْتَدِيَ مِنْ أَسْرِ الْمُطَالَبَةِ وَالْحَبْسِ، وَيُدَافِعُ مِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ، فَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ، وَتَعْظُمُ مُصِيبَتُهُ، وَيَعْلُوهُ الدَّيْنُ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ جَمِيعَ مَوْجُودِهِ، فَيَرْبُو الْمَال عَلَى الْمُحْتَاجِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُل لَهُ، وَيَزِيدُ مَال الْمُرَابِي مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُل مِنْهُ لأَِخِيهِ، فَيَأْكُل مَال أَخِيهِ بِالْبَاطِل، وَيَحْصُل أَخُوهُ عَلَى غَايَةِ الضَّرَرِ، فَمِنْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى خَلْقِهِ أَنْ حَرَّمَ الرِّبَا (1) . . .
10 - وَأَمَّا الأَْصْنَافُ السِّتَّةُ الَّتِي حُرِّمَ فِيهَا الرِّبَا بِمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى، الآْخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ (2) .
11 - أَمَّا هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَقَدْ أَجْمَل ابْنُ الْقَيِّمِ حِكْمَةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا حَيْثُ قَال: وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ
__________
(1) أعلام الموقعين 2 / 154.
(2) حديث: " الذهب بالذهب، والحنطة بالحنطة " هذا الحديث مركب من حديثين: الأول من حديث عبادة بن الصامت، والثاني من حديث أبي هريرة، أخرجهما مسلم (3 / 1211 - ط الحلبي) .(22/55)
أَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنَ التِّجَارَةِ فِي الأَْثْمَانِ - أَيِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ - بِجِنْسِهَا لأَِنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ مَقْصُودَ الأَْثْمَانِ، وَمَنَعُوا التِّجَارَةَ فِي الأَْقْوَاتِ - أَيِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ - بِجِنْسِهَا لأَِنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ مَقْصُودَ الأَْقْوَاتِ (1) .
وَفَصَّل ابْنُ الْقَيِّمِ فَقَال: الصَّحِيحُ بَل الصَّوَابُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ هِيَ الثَّمَنِيَّةُ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانُ الْمَبِيعَاتِ، وَالثَّمَنُ هُوَ الْمِعْيَارُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ تَقْوِيمُ الأَْمْوَال، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا مَضْبُوطًا لاَ يَرْتَفِعُ وَلاَ يَنْخَفِضُ، إِذْ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ كَالسِّلَعِ لَمْ يَكُنْ لَنَا ثَمَنٌ نَعْتَبِرُ بِهِ الْمَبِيعَاتِ، بَل الْجَمِيعُ سِلَعٌ، وَحَاجَةُ النَّاسِ إِلَى ثَمَنٍ يَعْتَبِرُونَ بِهِ الْمَبِيعَاتِ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ عَامَّةٌ، وَذَلِكَ لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِسِعْرٍ تُعْرَفُ بِهِ الْقِيمَةُ، وَذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِثَمَنٍ تُقَوَّمُ بِهِ الأَْشْيَاءُ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلاَ يُقَوَّمُ هُوَ بِغَيْرِهِ، إِذْ يَصِيرُ سِلْعَةً يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ، فَتَفْسُدُ مُعَامَلاَتُ النَّاسِ وَيَقَعُ الْخُلْفُ وَيَشْتَدُّ الضَّرَرُ. . . فَالأَْثْمَانُ لاَ تُقْصَدُ لأَِعْيَانِهَا، بَل يُقْصَدُ التَّوَصُّل بِهَا إِلَى السِّلَعِ، فَإِذَا صَارَتْ فِي أَنْفُسِهَا سِلَعًا تُقْصَدُ لأَِعْيَانِهَا فَسَدَ أَمْرُ النَّاسِ.
وَأَضَافَ: وَأَمَّا الأَْصْنَافُ الأَْرْبَعَةُ الْمَطْعُومَةُ فَحَاجَةُ النَّاسِ إِلَيْهَا أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى
__________
(1) أعلام الموقعين 2 / 159(22/56)
غَيْرِهَا؛ لأَِنَّهَا أَقْوَاتُ الْعَالَمِ، فَمِنْ رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ أَنْ مُنِعُوا مِنْ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ إِلَى أَجَلٍ، سَوَاءٌ اتَّحَدَ الْجِنْسُ أَوِ اخْتَلَفَ، وَمُنِعُوا مِنْ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ حَالًّا مُتَفَاضِلاً وَإِنِ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهَا، وَجُوِّزَ لَهُمُ التَّفَاضُل مَعَ اخْتِلاَفِ أَجْنَاسِهَا.
فَقَدْ قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَسِرُّ ذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ لَوْ جَوَّزَ بَيْعَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ نَسَاءً لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ أَحَدٌ إِلاَّ إِذَا رَبِحَ، وَحِينَئِذٍ تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِبَيْعِهَا حَالَّةً لِطَمَعِهِ فِي الرِّبْحِ، فَيَعِزُّ الطَّعَامُ عَلَى الْمُحْتَاجِ وَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ،. . فَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ الشَّارِعِ بِهِمْ وَحِكْمَتِهِ أَنْ مَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا النَّسَاءِ فِيهَا كَمَا مَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا النَّسَاءِ فِي الأَْثْمَانِ؛ إِذْ لَوْ جَوَّزَ لَهُمُ النَّسَاءَ فِيهَا لَدَخَلَهَا " إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ " فَيَصِيرُ الصَّاعُ الْوَاحِدُ لَوْ أُخِذَ قُفْزَانًا كَثِيرَةً، فَفُطِمُوا عَنِ النَّسَاءِ، ثُمَّ فُطِمُوا عَنْ بَيْعِهَا مُتَفَاضِلاً يَدًا بِيَدٍ، إِذْ تَجُرُّهُمْ حَلاَوَةُ الرِّبْحِ وَظَفَرُ الْكَسْبِ إِلَى التِّجَارَةِ فِيهَا نَسَاءً وَهُوَ عَيْنُ الْمَفْسَدَةِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ الْجِنْسَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ فَإِنَّ حَقَائِقَهُمَا وَصِفَاتِهِمَا وَمَقَاصِدَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ، فَفِي إِلْزَامِهِمُ الْمُسَاوَاةَ فِي بَيْعِهَا إِضْرَارٌ بِهِمْ، وَلاَ يَفْعَلُونَهُ، وَفِي تَجْوِيزِ النَّسَاءِ بَيْنَهَا ذَرِيعَةٌ إِلَى " إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ " فَكَانَ مِنْ تَمَامِ رِعَايَةِ مَصَالِحِهِمْ أَنْ قَصَرَهُمْ عَلَى بَيْعِهَا يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شَاءُوا، فَحَصَلَتْ لَهُمُ الْمُبَادَلَةُ، وَانْدَفَعَتْ عَنْهُمْ مَفْسَدَةُ " إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ " وَهَذَا(22/56)
بِخِلاَفِ مَا إِذَا بِيعَتْ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْمَوْزُونَاتِ نَسَاءً فَإِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ، فَلَوْ مُنِعُوا مِنْهُ لأََضَرَّ بِهِمْ، وَلاَمْتَنَعَ السَّلَمُ الَّذِي هُوَ مِنْ مَصَالِحِهِمْ فِيمَا هُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَالشَّرِيعَةُ لاَ تَأْتِي بِهَذَا، وَلَيْسَ بِهِمْ حَاجَةٌ فِي بَيْعِ هَذِهِ الأَْصْنَافِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ نَسَاءً، وَهُوَ ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ إِلَى مَفْسَدَةِ الرِّبَا، فَأُبِيحَ لَهُمْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَتُهُمْ وَلَيْسَ بِذَرِيعَةٍ إِلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ، وَمُنِعُوا مِمَّا لاَ تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ وَيُتَذَرَّعُ بِهِ غَالِبًا إِلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ (1) .
أَقْسَامُ الرِّبَا:
رِبَا الْبَيْعِ (رِبَا الْفَضْل) :
12 - وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي الأَْعْيَانِ الرِّبَوِيَّةِ، وَالَّذِي عُنِيَ الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفِهِ وَتَفْصِيل أَحْكَامِهِ فِي الْبُيُوعِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ أَنْوَاعِهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) إِلَى أَنَّهُ نَوْعَانِ:
1 - رِبَا الْفَضْل. . وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ عِوَضٍ بِمِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ مَشْرُوطٍ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ (3) .
2 - رِبَا النَّسِيئَةِ. . . وَهُوَ: فَضْل الْحُلُول عَلَى
__________
(1) أعلام الموقعين 2 / 157 - 158
(2) بدائع الصنائع 5 / 183، وجواهر الإكليل 2 / 17، والقوانين الفقهية 254، المغني 4 / 3.
(3) الدر المختار 4 / 176 - 177(22/57)
الأَْجَل، وَفَضْل الْعَيْنِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الْمَكِيلَيْنِ أَوِ الْمَوْزُونَيْنِ عِنْدَ اخْتِلاَفِ الْجِنْسِ، أَوْ فِي غَيْرِ الْمَكِيلَيْنِ أَوِ الْمَوْزُونَيْنِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ رِبَا الْبَيْعِ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
1 - رِبَا الْفَضْل. . وَهُوَ الْبَيْعُ مَعَ زِيَادَةِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ عَنِ الآْخَرِ فِي مُتَّحِدِ الْجِنْسِ.
2 - رِبَا الْيَدِ. . وَهُوَ الْبَيْعُ مَعَ تَأْخِيرِ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ أَوْ قَبْضِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ أَجَلٍ.
3 - رِبَا النَّسَاءِ. . وَهُوَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ أَجَلٍ وَلَوْ قَصِيرًا فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ.
وَزَادَ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ رِبَا الْقَرْضِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ جَرُّ نَفْعٍ، قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَيُمْكِنُ رَدُّهُ إِلَى رِبَا الْفَضْل، وَقَال الرَّمْلِيُّ: إِنَّهُ مِنْ رِبَا الْفَضْل، وَعَلَّل الشَّبْرَامَلِّسِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا جُعِل رِبَا الْقَرْضِ مِنْ رِبَا الْفَضْل مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ - يَعْنِي الْبَيْعَ -؛ لأَِنَّهُ لَمَّا شَرَطَ نَفْعًا لِلْمُقْرِضِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنَّهُ بَاعَ مَا أَقْرَضَهُ بِمَا يَزِيدُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِهِ فَهُوَ مِنْهُ حُكْمًا.
رِبَا النَّسِيئَةِ:
13 - وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ نَظِيرَ الأَْجَل أَوِ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَسُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الرِّبَا رِبَا النَّسِيئَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 183، ومغني المحتاج 2 / 21، وحاشية القليوبي 2 / 167، ونهاية المحتاج 3 / 409.(22/57)
مِنْ أَنْسَأْتُهُ الدَّيْنَ: أَخَّرْتُهُ - لأَِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ مُقَابِل الأَْجَل أَيًّا كَانَ سَبَبُ الدَّيْنِ بَيْعًا كَانَ أَوْ قَرْضًا (1) .
وَسُمِّيَ رِبَا الْقُرْآنِ؛ لأَِنَّهُ حُرِّمَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً. . .} (2) .
ثُمَّ أَكَّدَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ تَحْرِيمَهُ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ وَفِي أَحَادِيثَ أُخْرَى.
ثُمَّ انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَحْرِيمِهِ.
وَسُمِّيَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، لأَِنَّ تَعَامُل أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ بِالرِّبَا لَمْ يَكُنْ إِلاَّ بِهِ كَمَا قَال الْجَصَّاصُ.
وَالرِّبَا الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُهُ وَتَفْعَلُهُ إِنَّمَا كَانَ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إِلَى أَجَلٍ بِزِيَادَةٍ عَلَى مِقْدَارِ مَا اسْتَقْرَضَ عَلَى مَا يَتَرَاضَوْنَ بِهِ (3) .
وَسُمِّيَ أَيْضًا الرِّبَا الْجَلِيَّ، قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الْجَلِيُّ: رِبَا النَّسِيئَةِ، وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِثْل أَنْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَال، وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَهُ فِي الْمَال حَتَّى تَصِيرَ الْمِائَةُ عِنْدَهُ آلاَفًا مُؤَلَّفَةً (4) . .
__________
(1) المصباح المنير 2 / 605، وجامع البيان عن تأويل آي القرآن 4 / 90 ط - مصطفى البابي الحلبي.
(2) سورة آل عمران / 130.
(3) أحكام القرآن 1 / 465، وجامع البيان عن تأويل آي القرآن 6 / 8 - ط دار المعارف، وتفسير النيسابوري 3 / 79، وتفسير الرازي 7 / 91، وفتح القدير 1 / 265
(4) أعلام الموقعين 2 / 154(22/58)
14 - وَرِبَا الْفَضْل يَكُونُ بِالتَّفَاضُل فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ أَمْوَال الرِّبَا إِذَا بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدًا، أَوْ بَيْعِ صَاعِ قَمْحٍ بِصَاعَيْنِ مِنَ الْقَمْحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيُسَمَّى رِبَا الْفَضْل لِفَضْل أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ عَلَى الآْخَرِ، وَإِطْلاَقُ التَّفَاضُل عَلَى الْفَضْل مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، فَإِنَّ الْفَضْل فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الآْخَرِ.
وَيُسَمَّى رِبَا النَّقْدِ فِي مُقَابَلَةِ رِبَا النَّسِيئَةِ:
وَيُسَمَّى الرِّبَا الْخَفِيَّ، قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الرِّبَا نَوْعَانِ: جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ، فَالْجَلِيُّ حُرِّمَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَالْخَفِيُّ حُرِّمَ، لأَِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الْجَلِيِّ، فَتَحْرِيمُ الأَْوَّل قَصْدًا، وَتَحْرِيمُ الثَّانِي لأَِنَّهُ وَسِيلَةٌ، فَأَمَّا الْجَلِيُّ فَرِبَا النَّسِيئَةِ وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَأَمَّا رِبَا الْفَضْل فَتَحْرِيمُهُ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَاءَ (1) وَالرَّمَاءُ هُوَ الرِّبَا، فَمَنَعَهُمْ مِنْ
__________
(1) حديث أبي سعيد: " لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين؛ فإني أخاف. . . . " لم يرد هذا الحديث مرفوعًا من حديث أبي سعيد، وإنما ورد موقوفًا على عمر بن الخطاب بلفظ: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض. . . " إلى أن قال: " إني أخاف عليكم الرماء "(22/58)
رِبَا الْفَضْل لِمَا يَخَافُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا بَاعُوا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ - وَلاَ يُفْعَل هَذَا إِلاَّ لِلتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَ النَّوْعَيْنِ - إِمَّا فِي الْجَوْدَةِ، وَإِمَّا فِي السِّكَّةِ، وَإِمَّا فِي الثِّقَل وَالْخِفَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - تَدَرَّجُوا بِالرِّبْحِ الْمُعَجَّل فِيهَا إِلَى الرِّبْحِ الْمُؤَخَّرِ وَهُوَ عَيْنُ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَهَذَا ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ جِدًّا، فَمِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ أَنْ سَدَّ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الذَّرِيعَةَ، وَهِيَ تَسُدُّ عَلَيْهِمْ بَابَ الْمَفْسَدَةِ (1) . .
أَثَرُ الرِّبَا فِي الْعُقُودِ:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي يُخَالِطُهُ الرِّبَا مَفْسُوخٌ لاَ يَجُوزُ بِحَالٍ، وَأَنَّ مَنْ أَرْبَى يُنْقَضُ عَقْدُهُ وَيُرَدُّ فِعْلُهُ وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً؛ لأَِنَّهُ فَعَل مَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ وَنَهَى عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَالْفَسَادَ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ عَمِل عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ (2) وَلِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: جَاءَ بِلاَلٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ فَقَال بِلاَلٌ: مِنْ تَمْرٍ كَانَ عِنْدَنَا رَدِيءٍ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِمَطْعَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال رَسُول
__________
(1) المجموع 10 / 26، وأعلام الموقعين 2 / 155.
(2) حديث: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " أخرجه مسلم (3 / 1344 - ط الحلبي) من حديث عائشة.(22/59)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا، لاَ تَفْعَل، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ التَّمْرَ فَبِعْهُ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ (1) فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا أَيْ هُوَ الرِّبَا الْمُحَرَّمُ نَفْسُهُ لاَ مَا يُشْبِهُهُ، وَقَوْلُهُ: فَهُوَ رَدٌّ يَدُل عَلَى وُجُوبِ فَسْخِ صَفْقَةِ الرِّبَا وَأَنَّهَا لاَ تَصِحُّ بِوَجْهٍ (2) .
وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّل رِبًا أَضَعُ رِبَانَا: رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ (3) .
وَقَال عَنْهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ: الْمُرَادُ بِالْوَضْعِ الرَّدُّ وَالإِْبْطَال (4) .
وَفَصَّل ابْنُ رُشْدٍ فَقَال: مَنْ بَاعَ بَيْعًا أَرْبَى فِيهِ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لِلرِّبَا فَعَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ إِنْ لَمْ يُعْذَرْ بِجَهْلٍ، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ مَا كَانَ قَائِمًا، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ السَّعْدَيْنِ أَنْ يَبِيعَا آنِيَةً مِنَ الْمَغَانِمِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَبَاعَا كُل ثَلاَثَةٍ بِأَرْبَعَةٍ عَيْنًا، أَوْ كُل أَرْبَعَةٍ بِثَلاَثَةٍ عَيْنًا، فَقَال لَهُمَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْبَيْتُمَا فَرُدَّا (5) .
__________
(1) حديث أبي سعيد: " جاء بلال بتمر برني. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 490 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1215 - 1216 - ط الحلبي)
(2) تفسير القرطبي 3 / 356 - 358، وحاشية القليوبي 2 / 175 و 167
(3) حديث: " ربا الجاهلية موضوع " أخرجه مسلم (2 / 889 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 8 / 183.
(5) حديث: " أربيتما فردا. . . . " أخرجه مالك في الموطأ (2 / 632 - ط الحلبي) عن يحيى بن سعيد مرسلاً.(22/59)
فَإِنْ فَاتَ الْبَيْعُ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ رَأْسُ مَالِهِ قَبَضَ الرِّبَا أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ، فَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ رَدَّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَرْبَى ثُمَّ تَابَ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ رَأْسُ مَالِهِ، وَمَا قَبَضَ مِنَ الرِّبَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى مَنْ قَبَضَهُ مِنْهُ، وَأَمَّا مَنْ أَسْلَمَ وَلَهُ رِبًا، فَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ فَهُوَ لَهُ؛ لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (1) وَلِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ (2) وَأَمَّا إِنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضِ الرِّبَا فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَهُوَ مَوْضُوعٌ عَنِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي هَذَا أَعْلَمُهُ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: اشْتِرَاطُ الرِّبَا فِي الْبَيْعِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ، لَكِنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ فِي الْمُعَامَلاَتِ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِل، فَيُمْلَكُ الْمَبِيعُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِالْقَبْضِ، وَلاَ يُمْلَكُ فِي الْبَيْعِ الْبَاطِل بِالْقَبْضِ، يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: الْفَسَادُ وَالْبُطْلاَنُ فِي الْعِبَادَاتِ سِيَّانِ، أَمَّا فِي الْمُعَامَلاَتِ فَإِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ أَثَرُ الْمُعَامَلَةِ عَلَيْهَا فَهُوَ الْبُطْلاَنُ، وَإِنْ تَرَتَّبَ فَإِنْ كَانَ مَطْلُوبَ التَّفَاسُخِ شَرْعًا فَهُوَ الْفَسَادُ، وَإِلاَّ
__________
(1) سورة البقرة / 275
(2) حديث: " من أسلم على شيء فهو له. . . . " أخرجه البيهقي (9 / 113 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة، ثم ضعفه البيهقي لضعف راو فيه، وذكر أنه يروى مرسلاً.
(3) المقدمات 503، والسعدان (كما في المجموع 10 / 67) سعد بن مالك وسعد بن عبادة رضي الله عنهما.(22/60)
فَهُوَ الصِّحَّةُ (1) .
وَالْبَيْعُ الرِّبَوِيُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ، وَحُكْمُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعِوَضَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ وَيَجِبُ رَدُّهُ لَوْ قَائِمًا، وَرَدُّ مِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ لَوْ مُسْتَهْلَكًا، وَعَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ رَدُّ الزِّيَادَةِ الرِّبَوِيَّةِ لَوْ قَائِمَةً، لاَ رَدُّ ضَمَانِهَا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِيهِ حَقَّيْنِ، حَقَّ الْعَبْدِ وَهُوَ رَدُّ عَيْنِهِ لَوْ قَائِمًا وَمِثْلِهِ لَوْ هَالِكًا، وَحَقَّ الشَّرْعِ وَهُوَ رَدُّ عَيْنِهِ لِنَقْضِ الْعَقْدِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعًا، وَبَعْدَ الاِسْتِهْلاَكِ لاَ يَتَأَتَّى رَدُّ عَيْنِهِ فَتَعَيَّنَ رَدُّ الْمِثْل وَهُوَ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ، ثُمَّ إِنَّ رَدَّ عَيْنِهِ لَوْ قَائِمًا فِيمَا لَوْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى الزَّائِدِ، أَمَّا لَوْ بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَزَادَهُ دَانِقًا هِبَةً مِنْهُ فَإِنَّهُ لاَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ (2) .
الْخِلاَفُ فِي رِبَا الْفَضْل:
16 - أَطْبَقَتِ الأُْمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُل فِي بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ إِذَا اجْتَمَعَ التَّفَاضُل مَعَ النَّسَاءِ، وَأَمَّا إِذَا انْفَرَدَ نَقْدًا فَإِنَّهُ كَانَ فِيهِ خِلاَفٌ قَدِيمٌ: صَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِبَاحَتُهُ، وَكَذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَعَ رُجُوعِهِ عَنْهُ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَفِيهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَيْءٌ
__________
(1) المبسوط 12 / 109، والدر المختار 5 / 29، 3 / 123.
(2) رد المحتار 4 / 177، والبحر الرائق 6 / 136.(22/60)
مُحْتَمَلٌ، وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا التَّابِعُونَ: فَصَحَّ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَفُقَهَاءِ الْمَكِّيِّينَ، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ وَعُرْوَةَ (1) .
انْقِرَاضُ الْخِلاَفِ فِي رِبَا الْفَضْل وَدَعْوَى الإِْجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ:
17 - نَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ أَنَّهُ قَال: أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الأَْمْصَارِ: مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْل الْمَدِينَةِ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْل الْعِرَاقِ، وَالأَْوْزَاعِيُّ وَمَنْ قَال بِقَوْلِهِ مِنْ أَهْل الشَّامِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدِ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْل مِصْرَ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ، وَلاَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ، وَلاَ بُرٍّ بِبُرٍّ، وَلاَ شَعِيرٍ بِشَعِيرٍ، وَلاَ تَمْرٍ بِتَمْرٍ، وَلاَ مِلْحٍ بِمِلْحٍ، مُتَفَاضِلاً يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ نَسِيئَةً، وَأَنَّ مَنْ فَعَل ذَلِكَ فَقَدْ أَرْبَى وَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ، قَال: وَقَدْ رَوَيْنَا هَذَا الْقَوْل عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَمَاعَةٍ يَكْثُرُ عَدَدُهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ (2) .
وَنَاقَشَ السُّبْكِيُّ دَعْوَى الإِْجْمَاعِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ، وَانْتَهَى إِلَى الْقَوْل: فَعَلَى هَذَا امْتَنَعَ دَعْوَى الإِْجْمَاعِ فِي تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْل بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لَكِنَّا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَغْنُونَ عَنِ
__________
(1) المجموع 10 / 26، 33
(2) المجموع 10 / 40 - 41(22/61)
الإِْجْمَاعِ فِي ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَضَافِرَةِ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى الإِْجْمَاعِ فِي مَسْأَلَةٍ خَفِيَّةٍ سَنَدُهَا قِيَاسٌ أَوِ اسْتِنْبَاطٌ دَقِيقٌ (1) .
الأَْحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْل:
18 - رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْل (2) :
مِنْهَا: مَا رَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ قَال: لاَ تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ وَلاَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ (3) .
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، لاَ فَضْل بَيْنَهُمَا، فَمَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِوَرِقٍ، فَلْيَصْرِفْهَا بِذَهَبٍ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِذَهَبٍ فَلْيَصْرِفْهَا بِوَرِقٍ، وَالصَّرْفُ هَاءَ وَهَاءَ (4) .
وَمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ،
__________
(1) المجموع 10 / 40، 41، 43، 47 - 50
(2) المجموع 10 / 40 - 59
(3) المجموع 10 / 60. وحديث: " لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1209 - ط الحلبي) .
(4) حديث: " الدينار بالدينار. . . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 760 - ط الحلبي) ، والحاكم (2 / 49 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث علي بن أبي طالب، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(22/61)
وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (1) .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ (2) فَقَدْ قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: مِثْل هَذَا يُرَادُ بِهِ حَصْرُ الْكَمَال وَأَنَّ الرِّبَا الْكَامِل إِنَّمَا هُوَ فِي النَّسِيئَةِ، كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (3) وَكَقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّمَا الْعَالِمُ الَّذِي يَخْشَى اللَّهَ، وَمِثْلُهُ عِنْدَ ابْنِ حَجَرٍ، قَال: قِيل الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: لاَ رِبًا إِلاَّ فِي النَّسِيئَةِ الرِّبَا الأَْغْلَظُ الشَّدِيدُ التَّحْرِيمِ الْمُتَوَعَّدُ عَلَيْهِ بِالْعِقَابِ الشَّدِيدِ، كَمَا تَقُول الْعَرَبُ: لاَ عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلاَّ زَيْدٌ مَعَ أَنَّ فِيهَا عُلَمَاءَ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ نَفْيُ الأَْكْمَل لاَ نَفْيُ الأَْصْل (4) .
__________
(1) حديث: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة. . . . . . . . . " أخرجه مسلم (3 / 1211 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إنما الربا في النسيئة. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1218 - ط الحلبي) . وأخرجه البخاري (الفتح 4 / 381 - ط السلفية) بلفظ: " لا ربا إلا في النسيئة ".
(3) سورة الأنفال / 2.
(4) المغني 4 / 4، أحكام القرآن 1 / 466، وصحيح مسلم 11 / 25، وأعلام الموقعين 2 / 155، وفتح الباري 4 / 304.(22/62)
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ مَفْهُومَ حَدِيثِ أُسَامَةَ عَامٌّ؛ لأَِنَّهُ يَدُل عَلَى نَفْيِ رِبَا الْفَضْل عَنْ كُل شَيْءٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الأَْجْنَاسِ الرِّبَوِيَّةِ أَمْ لاَ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنْهَا مُطْلَقًا، فَيُخَصَّصُ هَذَا الْمَفْهُومُ بِمَنْطُوقِهَا (1) .
الأَْجْنَاسُ الَّتِي نُصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا:
19 - الأَْجْنَاسُ الَّتِي نُصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا سِتَّةٌ وَهِيَ: الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ عَلَيْهَا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، مِنْ أَتَمِّهَا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ السَّابِقُ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْقَوْل بِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَّةِ، وَعَلَيْهَا جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّ مَالِكًا جَعَلَهُمَا صِنْفًا وَاحِدًا، فَلاَ يَجُوزُ مِنْهُمَا اثْنَانِ بِوَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْل اللَّيْثِ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَمُعْظَمِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَأَضَافَ مَالِكٌ إِلَيْهِمَا السُّلْتَ (2) .
وَاتَّفَقَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ رِبَا الْفَضْل لاَ يَجْرِي إِلاَّ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَلاَ يَجْرِي فِي
__________
(1) نيل الأوطار 5 / 216 - 217
(2) تفسير القرطبي 3 / 349، والسلت: قيل ضرب من الشعير ليس له قشر، ويكون في الغور والحجاز، قاله الجوهري، وقال ابن فارس: ضرب منه رقيق القشر صغير الحب، وقال الأزهري: حب بين الحنطة والشعير ولا قشر له كقشر الشعير فهو كالحنطة في ملاسته وكالشعير في طبعه وبرودته. . . المصباح المنير، وفي جواهر الإكليل 2 / 18: هو حب بين القمح والشعير لا قشر له(22/62)
الْجِنْسَيْنِ وَلَوْ تَقَارَبَا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ (1) .
وَخَالَفَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَقَال: كُل شَيْئَيْنِ يَتَقَارَبُ الاِنْتِفَاعُ بِهِمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ مُتَفَاضِلاً، كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالزَّبِيبِ، لأَِنَّهُمَا يَتَقَارَبُ نَفْعُهُمَا فَجَرَيَا مَجْرَى نَوْعَيِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ (2) .
الاِخْتِلاَفُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الأَْجْنَاسِ:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا سِوَى الأَْجْنَاسِ السِّتَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الأَْحَادِيثِ، هَل يَحْرُمُ الرِّبَا فِيهَا كَمَا يَحْرُمُ فِي هَذِهِ الأَْجْنَاسِ السِّتَّةِ أَمْ لاَ يَحْرُمُ؟ .
فَذَهَبَ عَامَّةُ أَهْل الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا لاَ يَقْتَصِرُ عَلَى الأَْجْنَاسِ السِّتَّةِ، بَل يَتَعَدَّى إِلَى مَا فِي مَعْنَاهَا، وَهُوَ مَا وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ التَّحْرِيمِ فِي الأَْجْنَاسِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ؛ لأَِنَّ ثُبُوتَ الرِّبَا فِيهَا بِعِلَّةٍ، فَيَثْبُتُ فِي كُل مَا وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ
__________
(1) حديث: " بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدًا بيد " أخرجه بمعناه البخاري (الفتح 4 / 379، 383 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1213 - ط الحلبي) من حديث أبي بكرة، ولفظه عند مسلم وأبي عوانة كما في الفتح (4 / 383) .
(2) المغني 4 / 5.(22/63)
التَّحْرِيمِ؛ لأَِنَّ الْقِيَاسَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، فَتُسْتَخْرَجُ عِلَّةُ الْحُكْمِ وَيَثْبُتُ فِي كُل مَوْضِعٍ وُجِدَتْ عِلَّتُهُ فِيهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَإِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيَّ رَوَيَا حَدِيثَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأَْعْيَانِ السِّتَّةِ وَفِي آخِرِهِ وَكَذَلِكَ كُل مَا يُكَال وَيُوزَنُ (1) فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إِلَى سَائِرِ الأَْمْوَال، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَلاَ الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ الرَّمَا (2) أَيِ الرِّبَا، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ عَيْنَ الصَّاعِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا يَدْخُل تَحْتَ الصَّاعِ، كَمَا يُقَال خُذْ هَذَا الصَّاعَ أَيْ مَا فِيهِ، وَوَهَبْتُ لِفُلاَنٍ صَاعًا أَيْ مِنَ الطَّعَامِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الأَْنْصَارِيَّ فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكُل تَمْرَ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَال: لاَ، وَاللَّهِ، يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ
__________
(1) حديث: " وكذلك كل ما يكال ويوزن. . . . " أخرجه البيهقي 5 / 286 - ط دائرة المعارف العثمانية بلفظ: " وكل ما يكال أو يوزن ".
(2) حديث عبد الله بن عمر: " لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين " أخرجه أحمد (2 / 109 - ط الميمنية) وضعف إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند (8 / 182 - ط المعارف) .(22/63)
تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلاً بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ (1) .
يَعْنِي مَا يُوزَنُ بِالْمِيزَانِ، فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الآْثَارِ قِيَامُ الدَّلِيل عَلَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ مِنَ الأَْشْيَاءِ السِّتَّةِ إِلَى غَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَال الرِّبَا سِتَّةُ أَشْيَاءَ، وَلَكِنْ ذَكَرَ حُكْمَ الرِّبَا فِي الأَْشْيَاءِ السِّتَّةِ.
وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الأَْجْنَاسِ السِّتَّةِ بِالذِّكْرِ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ عَامَّةَ الْمُعَامَلاَتِ يَوْمَئِذٍ كَانَتْ بِهَا عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: كُنَّا فِي الْمَدِينَةِ نَبِيعُ الأَْوْسَاقَ وَنَبْتَاعُهَا (2) وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَدْخُل تَحْتَ الْوَسْقِ مِمَّا تَكْثُرُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ وَهِيَ الأَْجْنَاسُ الْمَذْكُورَةُ (3) .
وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَمَسْرُوقٍ وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَنُفَاةِ الْقِيَاسِ أَنَّهُمْ قَصَرُوا التَّحْرِيمَ عَلَى الأَْجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا، وَقَالُوا إِنَّ التَّحْرِيمَ لاَ يَجْرِي فِي غَيْرِهَا بَل إِنَّهُ عَلَى أَصْل الإِْبَاحَةِ، وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ:
__________
(1) حديث: " أكل تمر خيبر هكذا " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 317 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1215 - الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) حديث: " كنا في المدينة نبيع الأوساق ونبتاعها " أخرجه النسائي (7 / 15 - ط المكتبة التجارية) ، والحاكم (2 / 5 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث قيس بن أبي غرزة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) المبسوط 12 / 112 - 113، وجواهر الإكليل 2 / 17، والمجموع 9 / 393، والمغني 4 / 5.(22/64)
أَنَّ الشَّارِعَ خَصَّ مِنَ الْمَكِيلاَتِ وَالْمَطْعُومَاتِ وَالأَْقْوَاتِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي كُل الْمَكِيلاَتِ أَوْ فِي كُل الْمَطْعُومَاتِ لَقَال: لاَ تَبِيعُوا الْمَكِيل بِالْمَكِيل مُتَفَاضِلاً أَوْ: لاَ تَبِيعُوا الْمَطْعُومَ بِالْمَطْعُومِ مُتَفَاضِلاً، فَإِنَّ هَذَا الْكَلاَمَ يَكُونُ أَشَدَّ اخْتِصَارًا وَأَكْثَرَ فَائِدَةً، فَلَمَّا لَمْ يَقُل ذَلِكَ وَعَدَّ الأَْرْبَعَةَ عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَ الْحُرْمَةِ مَقْصُورٌ عَلَيْهَا. وَأَنَّ التَّعْدِيَةَ مِنْ مَحَل النَّصِّ إِلَى غَيْرِ مَحَل النَّصِّ لاَ تُمْكِنُ إِلاَّ بِوَاسِطَةِ تَعْلِيل الْحُكْمِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ وَهُوَ عِنْدَ نُفَاةِ الْقِيَاسِ غَيْرُ جَائِزٍ (1) .
عِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأَْجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا:
21 - اتَّفَقَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا فِي الأَْجْنَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ لِعِلَّةٍ، وَأَنَّ الْحُكْمَ بِالتَّحْرِيمِ يَتَعَدَّى إِلَى مَا تَثْبُتُ فِيهِ هَذِهِ الْعِلَّةُ، وَأَنَّ عِلَّةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاحِدَةٌ، وَعِلَّةَ الأَْجْنَاسِ الأَْرْبَعَةِ الأُْخْرَى وَاحِدَةٌ. . ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْعِلَّةِ.
22 - فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْعِلَّةُ: الْجِنْسُ وَالْقَدْرُ، وَقَدْ عُرِفَ الْجِنْسُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ (2) وَعُرِفَ الْقَدْرُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِثْلاً بِمِثْلٍ وَيَعْنِي بِالْقَدْرِ الْكَيْل فِيمَا يُكَال
__________
(1) المبسوط 12 / 112، والمجموع 9 / 393، تفسير الرازي 7 / 92 - 93، والمغني 4 / 5.
(2) الحديث تقدم تخريجه ف / 10.(22/64)
وَالْوَزْنَ فِيمَا يُوزَنُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ كُل مَا يُكَال وَيُوزَنُ (1) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَبِيعُوا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ (2) ، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُل مَكِيلٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مَطْعُومًا أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَلأَِنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَيْل وَالْوَزْنِ إِمَّا إِجْمَاعًا (أَيْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) أَوْ؛ لأَِنَّ التَّسَاوِيَ حَقِيقَةً لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِهِمَا، وَجَعْل الْعِلَّةِ مَا هُوَ مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ إِجْمَاعًا أَوْ هُوَ مُعَرِّفٌ لِلتَّسَاوِي حَقِيقَةً أَوْلَى مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَلاَ يُعْرَفُ التَّسَاوِي حَقِيقَةً فِيهِ؛ وَلأَِنَّ التَّسَاوِيَ وَالْمُمَاثَلَةَ شَرْطٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ أَوْ صِيَانَةً لأَِمْوَال النَّاسِ، وَالْمُمَاثَلَةُ بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى أَتَمُّ، وَذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ؛ لأَِنَّ الْكَيْل وَالْوَزْنَ يُوجِبُ الْمُمَاثَلَةَ صُورَةً، وَالْجِنْسُ يُوجِبُهَا مَعْنًى، فَكَانَ أَوْلَى (3) .
23 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: عِلَّةُ الرِّبَا فِي النُّقُودِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَقِيل: غَلَبَةُ الثَّمَنِيَّةِ، وَقِيل: مُطْلَقُ الثَّمَنِيَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عِلَّةُ الرِّبَا فِي النُّقُودِ مَا ذُكِرَ؛ لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْنَعِ الرِّبَا فِيهَا لأََدَّى ذَلِكَ إِلَى قِلَّتِهَا فَيَتَضَرَّرُ النَّاسُ.
وَعِلَّةُ رِبَا الْفَضْل فِي الطَّعَامِ الاِقْتِيَاتُ وَالاِدِّخَارُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَقَوْل الأَْكْثَرِ وَالْمُعَوَّل عَلَيْهِ،
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه ف / 20.
(2) حديث: " لا تبيعوا الصاع بالصاعين. . . . " شطر من حديث عبد الله بن عمر المتقدم تخريجه ف / 20.
(3) المبسوط 12 / 113، والاختيار 2 / 30.(22/65)
وَالاِقْتِيَاتُ مَعْنَاهُ قِيَامُ بِنْيَةِ الآْدَمِيِّ بِهِ - أَيْ حِفْظُهَا وَصِيَانَتُهَا - بِحَيْثُ لاَ تَفْسُدُ بِالاِقْتِصَارِ عَلَيْهِ، وَفِي مَعْنَى الاِقْتِيَاتِ إِصْلاَحُ الْقُوتِ كَمِلْحٍ وَتَوَابِل، وَمَعْنَى الاِدِّخَارِ عَدَمُ فَسَادِهِ بِالتَّأْخِيرِ إِلَى الأَْجَل الْمُبْتَغَى مِنْهُ عَادَةً، وَلاَ حَدَّ لَهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ بَل هُوَ فِي كُل شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، فَالْمَرْجِعُ فِيهِ لِلْعُرْفِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الاِدِّخَارُ مُعْتَادًا، وَلاَ عِبْرَةَ بِالاِدِّخَارِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ.
وَإِنَّمَا كَانَ الاِقْتِيَاتُ وَالاِدِّخَارُ عِلَّةَ حُرْمَةِ الرِّبَا فِي الطَّعَامِ لِخَزْنِ النَّاسِ لَهُ حِرْصًا عَلَى طَلَبِ وُفُورِ الرِّبْحِ فِيهِ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ.
وَعِلَّةُ رِبَا النَّسَاءِ مُجَرَّدُ الطَّعْمِ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي، فَتَدْخُل الْفَاكِهَةُ وَالْخُضَرُ كَبِطِّيخٍ وَقِثَّاءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
24 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُمَا جِنْسَ الأَْثْمَانِ غَالِبًا - كَمَا نَقَل الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ - وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِجِنْسِيَّةِ الأَْثْمَانِ غَالِبًا أَوْ بِجَوْهَرِيَّةِ الأَْثْمَانِ غَالِبًا، وَهَذِهِ عِلَّةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لاَ تَتَعَدَّاهُمَا إِذْ لاَ تُوجَدُ فِي غَيْرِهِمَا، فَتَحْرِيمُ الرِّبَا فِيهِمَا لَيْسَ لِمَعْنًى يَتَعَدَّاهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الأَْمْوَال؛ لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ لِمَعْنًى يَتَعَدَّاهُمَا إِلَى غَيْرِهِمَا لَمْ يَجُزْ إِسْلاَمُهُمَا فِيمَا سِوَاهُمَا مِنَ الأَْمْوَال؛ لأَِنَّ كُل شَيْئَيْنِ جَمَعَتْهُمَا عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرِّبَا لاَ يَجُوزُ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 41 - 42، وحاشية العدوي على كفاية الطالب 2 / 100 - 101(22/65)
إِسْلاَمُ أَحَدِهِمَا فِي الآْخَرِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، فَلَمَّا جَازَ إِسْلاَمُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْمَوْزُونَاتِ وَالْمَكِيلاَتِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْمْوَال دَل عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِمَا لِمَعْنًى لاَ يَتَعَدَّاهُمَا وَهُوَ أَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِ الأَْثْمَانِ.
وَذُكِرَ لَفْظُ " غَالِبًا " فِي بَيَانِ عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلاِحْتِرَازِ مِنَ الْفُلُوسِ إِذَا رَاجَتْ رَوَاجَ النُّقُودِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ فَلَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الأَْثْمَانِ غَالِبًا، وَيَدْخُل فِيمَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا الأَْوَانِي وَالتِّبْرُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُول: الْعِلَّةُ كَوْنُهُمَا قِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَمَعَهُمَا، قَال: وَكُلُّهُ قَرِيبٌ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: جَزَمَ الشِّيرَازِيُّ فِي التَّنْبِيهِ أَنَّ الْعِلَّةَ كَوْنُهُمَا قِيَمَ الأَْشْيَاءِ، وَأَنْكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ قَالَهُ؛ لأَِنَّ الأَْوَانِيَ وَالتِّبْرَ وَالْحُلِيَّ يَجْرِي فِيهَا الرِّبَا، وَلَيْسَتْ مِمَّا يَقُومُ بِهَا، وَلَنَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ غَرِيبٌ أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا فِيهِمَا بِعَيْنِهِمَا لاَ لِعِلَّةٍ، حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ.
وَمَا سِوَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنَ الْمَوْزُونَاتِ كَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالصُّوفِ وَالْغَزْل وَغَيْرِهَا. . لاَ رِبَا فِيهَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً وَمُؤَجَّلاً.
وَالْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأَْجْنَاسِ الأَْرْبَعَةِ وَهِيَ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ أَنَّهَا مَطْعُومَةٌ،(22/66)
وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَالدَّلِيل مَا رَوَى مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلاً بِمِثْلٍ (1) فَقَدْ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالطَّعَامِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمَطْعُومِ، وَالْمُعَلَّقُ بِالْمُشْتَقِّ مُعَلَّلٌ بِمَا مِنْهُ الاِشْتِقَاقُ كَالْقَطْعِ وَالْجَلْدِ الْمُعَلَّقَيْنِ بِالسَّارِقِ وَالزَّانِي (2) . وَلأَِنَّ الْحَبَّ مَا دَامَ مَطْعُومًا يَحْرُمُ فِيهِ الرِّبَا، فَإِذَا زُرِعَ وَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَطْعُومًا لَمْ يَحْرُمْ فِيهِ الرِّبَا، فَإِذَا انْعَقَدَ الْحَبُّ وَصَارَ مَطْعُومًا حَرُمَ فِيهِ الرِّبَا، فَدَل عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ كَوْنُهُ مَطْعُومًا، فَعَلَى هَذَا يَحْرُمُ الرِّبَا فِي كُل مَا يُطْعَمُ.
وَقَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأَْجْنَاسِ الأَْرْبَعَةِ أَنَّهَا مَطْعُومَةٌ مَكِيلَةٌ أَوْ مَطْعُومَةٌ مَوْزُونَةٌ، وَعَلَيْهِ فَلاَ يَحْرُمُ الرِّبَا إِلاَّ فِي مَطْعُومٍ يُكَال أَوْ يُوزَنُ.
وَالْجَدِيدُ هُوَ الأَْظْهَرُ، وَتَفْرِيعُ الشَّافِعِيِّ وَالأَْصْحَابِ عَلَيْهِ، قَالُوا: الْمُرَادُ بِالْمَطْعُومِ مَا قُصِدَ لِطَعْمِ الآْدَمِيِّ غَالِبًا، بِأَنْ يَكُونَ أَظْهَرُ مَقَاصِدِهِ الطَّعْمَ وَإِنْ لَمْ يُؤْكَل إِلاَّ نَادِرًا، وَالطَّعْمُ يَكُونُ اقْتِيَاتًا أَوْ تَفَكُّهًا أَوْ تَدَاوِيًا، وَالثَّلاَثَةُ تُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ الأَْجْنَاسِ السِّتَّةِ، فَإِنَّهُ نُصَّ فِيهِ عَلَى الْبُرِّ
__________
(1) حديث: " الطعام بالطعام مثلاً بمثل. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1214 - ط الحلبي) من حديث معمر بن عبد الله.
(2)
) في قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) سورة المائدة / 38، وفي قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا. . . .) سورة النور / 20.(22/66)
وَالشَّعِيرِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا التَّقَوُّتُ، فَأُلْحِقَ بِهِمَا مَا فِي مَعْنَاهُمَا كَالأُْرْزِ وَالذُّرَةِ، وَنُصَّ فِيهِ عَلَى التَّمْرِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّفَكُّهُ وَالتَّأَدُّمُ، فَأُلْحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالتِّينِ وَالزَّبِيبِ، وَنُصَّ فِيهِ عَلَى الْمِلْحِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الإِْصْلاَحُ، فَأُلْحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالْمُصْطَكَى وَالسَّقَمُونْيَا وَالزَّنْجَبِيل، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَا يُصْلِحُ الْغِذَاءَ وَمَا يُصْلِحُ الْبَدَنَ، فَالأَْغْذِيَةُ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ وَالأَْدْوِيَةُ لِرَدِّ الصِّحَّةِ (1) .
25 - وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الأَْجْنَاسِ السِّتَّةِ ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ: أَشْهَرُهَا أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَوْنُهُمَا مَوْزُونَيْ جِنْسٍ، وَفِي الأَْجْنَاسِ الْبَاقِيَةِ كَوْنُهَا مَكِيلاَتِ جِنْسٍ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَجْرِي الرِّبَا فِي كُل مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا لاَ يَتَأَتَّى كَيْلُهُ كَتَمْرَةٍ بِتَمْرَةٍ أَوْ تَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِتَسَاوِيهِمَا فِي الْكَيْل، وَلاَ يَتَأَتَّى وَزْنُهُ كَمَا دُونَ الأَْرْزَةِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ وَنَحْوِهِمَا، مَطْعُومًا كَانَ الْمَكِيل أَوِ الْمَوْزُونُ أَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، وَلاَ يَجْرِي الرِّبَا فِي مَطْعُومٍ لاَ يُكَال وَلاَ يُوزَنُ كَالْمَعْدُودَاتِ مِنَ التُّفَّاحِ وَالرُّمَّانِ وَالْبِطِّيخِ وَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَنَحْوِهَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ بَيْضَةٍ وَخِيَارَةٍ وَبِطِّيخَةٍ بِمِثْلِهَا، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَكِيلاً وَلاَ مَوْزُونًا، لَكِنْ نَقَل مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ
__________
(1) المهذب 1 / 270، والمجموع 9 / 393 - 397، مغني المحتاج 2 / 22 - 25، أسنى المطالب 2 / 22.(22/67)
بَيْضَةٍ بِبَيْضَتَيْنِ وَقَال: لاَ يَصْلُحُ إِلاَّ وَزْنًا بِوَزْنٍ؛ لأَِنَّهُ مَطْعُومٌ، وَلاَ يَجْرِي الرِّبَا فِيمَا لاَ يُوزَنُ عُرْفًا لِصِنَاعَتِهِ، وَلَوْ كَانَ أَصْلُهُ الْوَزْنَ غَيْرَ الْمَعْمُول مِنَ النَّقْدَيْنِ كَالْمَعْمُول مِنَ الصُّفْرِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَنَحْوِهِ، كَالْخَوَاتِمِ مِنْ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الأَْثْمَانِ الثَّمَنِيَّةُ، وَفِيمَا عَدَاهَا كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ فَيَخْتَصُّ بِالْمَطْعُومَاتِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا عَدَاهَا؛ لِمَا رَوَى مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَلأَِنَّ الطَّعْمَ وَصْفُ شَرَفٍ إِذْ بِهِ قِوَامُ الأَْبْدَانِ، وَالثَّمَنِيَّةَ وَصْفُ شَرَفٍ إِذْ بِهَا قِوَامُ الأَْمْوَال، فَيَقْتَضِي التَّعْلِيل بِهِمَا؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي الأَْثْمَانِ الْوَزْنَ لَمْ يَجُزْ إِسْلاَمُهُمَا فِي الْمَوْزُونَاتِ لأَِنَّ أَحَدَ وَصْفَيْ عِلَّةِ الرِّبَا الْفَضْل يَكْفِي فِي تَحْرِيمِ النَّسَاءِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: الْعِلَّةُ فِيمَا عَدَا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ كَوْنُهُ مَطْعُومَ جِنْسٍ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا فَلاَ يَجْرِي الرِّبَا فِي مَطْعُومٍ لاَ يُكَال وَلاَ يُوزَنُ، كَالتُّفَّاحِ وَالرُّمَّانِ وَالْخَوْخِ وَالْبِطِّيخِ وَنَحْوِهَا، وَلاَ فِيمَا لَيْسَ بِمَطْعُومٍ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ، لأَِنَّ لِكُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْصْنَافِ أَثَرًا، وَالْحُكْمُ مَقْرُونٌ بِجَمِيعِهَا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ حَذْفُهُ؛ وَلأَِنَّ الْكَيْل وَالْوَزْنَ وَالْجِنْسَ لاَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمُمَاثَلَةِ وَإِنَّمَا أَثَرُهُ فِي(22/67)
تَحْقِيقِهَا فِي الْعِلَّةِ مَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ لاَ مَا تَحَقَّقَ شَرْطُهُ.
وَالطَّعْمُ بِمُجَرَّدِهِ لاَ تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ بِهِ لِعَدَمِ الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ فِيهِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ الْكَيْل وَالْوَزْنُ، وَلِهَذَا وَجَبَتِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَكِيل كَيْلاً وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الطَّعْمُ مُعْتَبَرًا فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَالأَْحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ يَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَتَقْيِيدُ كُل وَاحِدٍ مِنْهَا بِالآْخَرِ، فَنَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ (1) يَتَقَيَّدُ بِمَا فِيهِ مِعْيَارٌ شَرْعِيٌّ وَهُوَ الْكَيْل وَالْوَزْنُ، وَنَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الصَّاعِ بِالصَّاعَيْنِ يَتَقَيَّدُ بِالْمَطْعُومِ الْمَنْهِيِّ عَنِ التَّفَاضُل فِيهِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ فَرْقَ فِي الْمَطْعُومَاتِ بَيْنَ مَا يُؤْكَل قُوتًا كَالأُْرْزِ وَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ، أَوْ أُدْمًا كَالْقُطْنِيَّاتِ وَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ، أَوْ تَفَكُّهًا كَالثِّمَارِ، أَوْ تَدَاوِيًا كَالإِْهْلِيلَجِ وَالسَّقَمُونْيَا، فَإِنَّ الْكُل فِي بَابِ الرِّبَا وَاحِدٌ (2) .
مِنْ أَحْكَامِ الرِّبَا:
26 - إِذَا تَحَقَّقَتْ عِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي مَالٍ مِنَ الأَْمْوَال، فَإِنْ بِيعَ بِجِنْسِهِ حُرِّمَ فِيهِ التَّفَاضُل وَالنَّسَاءُ وَالتَّفَرُّقُ قَبْل الْقَبْضِ؛ لِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه في ف / 24.
(2) المغني 4 / 5 - 9، كشاف القناع 3 / 252.(22/68)
الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (1) .
وَهَذَا قَدْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَفِيمَا عَدَاهُ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْعِلَّةِ.
وَفِيمَا يَلِي مُجْمَل أَحْكَامِ الرِّبَا فِي كُل مَذْهَبٍ عَلَى حِدَةٍ.
27 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ، فَإِنْ وُجِدَا حُرِّمَ الْفَضْل وَالنَّسَاءُ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ قَفِيزِ بُرٍّ بِقَفِيزَيْنِ مِنْهُ، وَلاَ بَيْعُ قَفِيزِ بُرٍّ بِقَفِيزٍ مِنْهُ وَأَحَدُهُمَا نَسَاءٌ، وَإِنْ عُدِمَا - أَيِ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ - حَل الْبَيْعُ، وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا أَيِ الْقَدْرُ وَحْدَهُ كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، أَوِ الْجِنْسُ وَحْدَهُ كَالثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ بِهَرَوِيٍّ مِثْلِهِ حَل الْفَضْل وَحَرُمَ النَّسَاءُ. قَالُوا: أَمَّا إِذَا وُجِدَ الْمِعْيَارُ وَعُدِمَ الْجِنْسُ كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ، وَيُرْوَى النَّوْعَانِ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ (2) وَأَمَّا إِذَا وُجِدَتِ الْجِنْسِيَّةُ وَعُدِمَ الْمِعْيَارُ
__________
(1) حديث عبادة بن الصامت: " الذهب بالذهب. . . . . . . . . " أخرجه مسلم (3 / 1211 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إذا اختلف الجنسان " وفي رواية: " النوعان " أورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 4 - ط المجلس العلمي) ، وقال: " غريب بهذا اللفظ " ثم أحال إلى حديث عبادة بن الصامت المتقدم.(22/68)
كَالْهَرَوِيِّ بِالْهَرَوِيِّ، فَإِنَّ الْمُعَجَّل خَيْرٌ مِنَ الْمُؤَجَّل وَلَهُ فَضْلٌ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْفَضْل مِنْ حَيْثُ التَّعْجِيل رِبًا؛ لأَِنَّهُ فَضْلٌ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ وَهُوَ مَشْرُوطٌ فِي الْعَقْدِ فَيَحْرُمُ.
وَيَحْرُمُ بَيْعُ كَيْلِيٍّ أَوْ وَزْنِيٍّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلاً وَنَسِيئَةً وَلَوْ غَيْرَ مَطْعُومٍ، كَجِصٍّ كَيْلِيٍّ أَوْ حَدِيدٍ وَزْنِيٍّ، وَيَحِل بَيْعُ ذَلِكَ مُتَمَاثِلاً لاَ مُتَفَاضِلاً وَبِلاَ مِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ، فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُقَدِّرِ الْمِعْيَارَ بِالذَّرَّةِ وَبِمَا دُونَ نِصْفِ الصَّاعِ كَحَفْنَةٍ بِحَفْنَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ مَا لَمْ يَبْلُغْ نِصْفَ الصَّاعِ، وَكَذَرَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَتُفَّاحَةٍ بِتُفَّاحَتَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، فَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُعَيَّنَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ. وَخَالَفَ مُحَمَّدٌ فَرَأَى تَحْرِيمَ الرِّبَا فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيل كَتَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ.
وَجَيِّدُ مَال الرِّبَا وَرَدِيئُهُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ سَوَاءٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ (1) ؛ وَلأَِنَّ فِي اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ سَدَّ بَابِ الْبِيَاعَاتِ فَيَلْغُو، وَاسْتَثْنَوْا مَسَائِل لاَ يَجُوزُ فِيهَا إِهْدَارُ اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ، وَهِيَ: مَال الْيَتِيمِ وَالْوَقْفِ وَالْمَرِيضِ فَلاَ يُبَاعُ الْجَيِّدُ مِنْهُ بِالرَّدِيءِ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الرَّدِيءِ
__________
(1) حديث: جيدها ورديئها سواء. أورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 37 - ط المجلس العلمي) وقال: " غريب، ومعناه يؤخذ من إطلاق حديث أبي سعيد المتقدم تخريجه ف / 16.(22/69)
بِالْجَيِّدِ وَالْقُلْبِ (1) وَالْمَرْهُونِ إِذَا انْكَسَرَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ وَنَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا بِخِلاَفِ جِنْسِهِ.
وَمَا وَرَدَ النَّصُّ بِكَيْلِهِ فَكَيْلِيٌّ أَبَدًا، وَمَا وَرَدَ النَّصُّ بِوَزْنِهِ فَوَزْنِيٌّ أَبَدًا اتِّبَاعًا لِلنَّصِّ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْعُرْفِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ خِلاَفَ النَّصِّ وَأَشَارَ ابْنُ عَابِدِينَ إِلَى تَقْوِيَتِهِ، وَرَجَّحَهُ الْكَمَال ابْنُ الْهُمَامِ؛ لأَِنَّ النَّصَّ عَلَى ذَلِكَ الْكَيْل فِي الشَّيْءِ أَوِ الْوَزْنِ فِيهِ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلاَّ؛ لأَِنَّ الْعَادَةَ إِذْ ذَاكَ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَبَدَّلَتْ فَتَبَدَّل الْحُكْمُ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْعُرْفُ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَكْسِ لَوَرَدَ النَّصُّ مُوَافِقًا لَهُ، وَلَوْ تَغَيَّرَ الْعُرْفُ فِي حَيَاتِهِ لَنَصَّ عَلَى تَغَيُّرِ الْحُكْمِ.
وَيَجُوزُ بَيْعُ لَحْمٍ بِحَيَوَانٍ وَلَوْ مِنْ جِنْسِهِ وَبَيْعُ قُطْنٍ بِغَزْل قُطْنٍ فِي الأَْصَحِّ، وَبَيْعُ رُطَبٍ بِرُطَبٍ مُتَمَاثِلاً كَيْلاً، وَبَيْعُ لُحُومٍ مُخْتَلِفَةٍ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَلَبَنُ بَقَرٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ مُتَفَاضِلاً يَدًا بِيَدٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ بِالْجُبْنِ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْبُرِّ بِدَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ، وَلاَ بَيْعُ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ.
وَلاَ رِبَا بَيْنَ مُتَفَاوِضَيْنِ وَشَرِيكَيْ عِنَانٍ إِذَا تَبَايَعَا مِنْ مَال الشَّرِكَةِ (2) .
28 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ وَلاَ
__________
(1) القلب بضم القاف وسكون اللام: ما يلبس في الذراع من فضة، فإن كان من ذهب فهو السوار. رد المحتار 4 / 183
(2) الاختيار 2 / 31 وما بعدها، رد المحتار 4 / 178، 181 وما بعدها.(22/69)
ذَهَبٍ بِذَهَبٍ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلاً إِلاَّ يَدًا بِيَدٍ، وَالطَّعَامُ مِنَ الْحُبُوبِ وَالْقُطْنِيَّةِ (1) وَشِبْهِهَا مِمَّا يُدَّخَرُ مِنْ قُوتٍ أَوْ إِدَامٍ لاَ يَجُوزُ الْجِنْسُ مِنْهُ بِجِنْسِهِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ فِيهِ تَأْخِيرٌ، وَلاَ يَجُوزُ طَعَامٌ بِطَعَامٍ إِلَى أَجَلٍ، كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ خِلاَفِهِ، كَانَ مِمَّا يُدَّخَرُ أَوْ لاَ يُدَّخَرُ.
وَلاَ بَأْسَ بِالْفَوَاكِهِ وَالْبُقُول وَمَا لاَ يُدَّخَرُ مُتَفَاضِلاً وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ التَّفَاضُل فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ فِيمَا يُدَّخَرُ مِنَ الْفَوَاكِهِ الْيَابِسَةِ وَسَائِرِ الإِْدَامِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلاَّ الْمَاءَ وَحْدَهُ، وَمَا اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ سَائِرِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالطَّعَامِ فَلاَ بَأْسَ بِالتَّفَاضُل فِيهِ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ التَّفَاضُل فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهُ إِلاَّ فِي الْخُضَرِ وَالْفَوَاكِهِ، وَالْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فِيمَا يَحِل مِنْهُ وَيَحْرُمُ، وَالزَّبِيبُ كُلُّهُ جِنْسٌ وَالتَّمْرُ كُلُّهُ صِنْفٌ، وَالْقُطْنِيَّةُ أَجْنَاسٌ فِي الْبُيُوعِ، وَاخْتَلَفَ قَوْل مَالِكٍ فِيهَا وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي الزَّكَاةِ أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلُحُومُ ذَوَاتِ الأَْرْبَعِ مِنَ الأَْنْعَامِ كَالإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْوَحْشِ كَالْغَزَال وَبَقَرِ الْوَحْشِ، وَلُحُومُ الطَّيْرِ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلُحُومُ
__________
(1) القطنية بكسر القاف أو ضمها وسكون الطاء وكسر النون والياء المشددة، وحكي تخفيفها - قال الباجي: هي البسيلة، سميت بذلك لأنها تقطن بالمحل ولا تفسد بالتأخير. (الفواكه الدواني 2 / 112) .(22/70)
دَوَابِّ الْمَاءِ كُلُّهَا جِنْسٌ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ لُحُومِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ شَحْمٍ فَهُوَ كَلَحْمِهِ، وَأَلْبَانُ ذَلِكَ الْجِنْسِ مِنْ ذَوَاتِ الأَْرْبَعِ الإِْنْسِيِّ مِنْهُ وَالْوَحْشِيِّ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ جُبْنُهُ وَسَمْنُهُ، كُل وَاحِدٍ مِنْهَا جِنْسٌ فَكُل وَاحِدٍ مِنَ الثَّلاَثَةِ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَمَاثِلاً لاَ مُتَفَاضِلاً (1) .
29 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا بِيعَ الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ إِنْ كَانَا جِنْسًا اشْتُرِطَ الْحُلُول وَالْمُمَاثَلَةُ وَالتَّقَابُضُ قَبْل التَّفَرُّقِ، أَوْ جِنْسَيْنِ كَحِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ جَازَ التَّفَاضُل وَاشْتُرِطَ الْحُلُول وَالتَّقَابُضُ، وَلاَ بُدَّ مِنَ الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ، وَدَقِيقُ الأُْصُول الْمُخْتَلِفَةِ الْجِنْسِ وَخَلُّهَا وَدُهْنُهَا أَجْنَاسٌ؛ لأَِنَّهَا فُرُوعُ أُصُولٍ مُخْتَلِفَةٍ فَأُعْطِيَتْ حُكْمَ أُصُولِهَا، وَاللُّحُومُ وَالأَْلْبَانُ كَذَلِكَ فِي الأَْظْهَرِ. وَالنَّقْدُ بِالنَّقْدِ كَالطَّعَامِ بِالطَّعَامِ.
وَالْمُمَاثَلَةُ تُعْتَبَرُ فِي الْمَكِيل كَيْلاً وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا، وَالْمُعْتَبَرُ غَالِبُ عَادَةِ أَهْل الْحِجَازِ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جُهِل يُرَاعَى فِيهِ بَلَدُ الْبَيْعِ، وَقِيل: الْكَيْل، وَقِيل: الْوَزْنُ، وَقِيل: يُتَخَيَّرُ، وَقِيل: إِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ اعْتُبِرَ.
وَتُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ وَقْتَ الْجَفَافِ؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَقَال: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ (2) أَشَارَ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 112 - 116، الدسوقي 3 / 48
(2) حديث: " أينقص الرطب إذا يبس. . . " أخرجه الترمذي (3 / 199 - ط الحلبي) من حديث سعد بن أبي وقاص، وقال: " حديث حسن صحيح ".(22/70)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: أَيَنْقُصُ إِلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ الْجَفَافِ وَإِلاَّ فَالنُّقْصَانُ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُسْأَل عَنْهُ، وَيُعْتَبَرُ أَيْضًا إِبْقَاؤُهُ عَلَى هَيْئَةٍ يَتَأَتَّى ادِّخَارُهُ عَلَيْهَا كَالتَّمْرِ بِنَوَاهُ، فَلاَ يُبَاعُ رُطَبٌ بِرُطَبٍ وَلاَ بِتَمْرٍ، وَلاَ عِنَبٌ بِعِنَبٍ وَلاَ بِزَبِيبٍ، لِلْجَهْل بِالْمُمَاثَلَةِ وَقْتَ الْجَفَافِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَمَا لاَ جَفَافَ لَهُ كَالْقِثَّاءِ وَالْعِنَبِ الَّذِي لاَ يَتَزَبَّبُ لاَ يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ أَصْلاً قِيَاسًا عَلَى الرُّطَبِ، وَفِي قَوْلٍ مُخَرَّجٍ تَكْفِي مُمَاثَلَتُهُ رُطَبًا؛ لأَِنَّ مُعْظَمَ مَنَافِعِهِ فِي رُطُوبَتِهِ فَكَانَ كَاللَّبَنِ فَيُبَاعُ وَزْنًا وَإِنْ أَمْكَنَ كَيْلُهُ.
وَكُل شَيْئَيْنِ اتَّفَقَا فِي الاِسْمِ الْخَاصِّ مِنْ أَصْل الْخِلْقَةِ كَالتَّمْرِ الْبَرْنِيِّ وَالتَّمْرِ الْمَعْقِلِيِّ فَهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَكُل شَيْئَيْنِ اخْتَلَفَا فِي الاِسْمِ مِنْ أَصْل الْخِلْقَةِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَهُمَا جِنْسَانِ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ سِتَّةَ أَشْيَاءَ وَحَرَّمَ فِيهَا التَّفَاضُل إِذَا بِيعَ كُلٌّ مِنْهَا بِمَا وَافَقَهُ فِي الاِسْمِ وَأَبَاحَ فِيهِ التَّفَاضُل إِذَا بِيعَ بِمَا خَالَفَهُ فِي الاِسْمِ، فَدَل عَلَى أَنَّ كُل شَيْئَيْنِ اتَّفَقَا فِي الاِسْمِ فَهُمَا جِنْسٌ وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الاِسْمِ فَهُمَا جِنْسَانِ (1) .
30 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: كُل مَا كِيل أَوْ وُزِنَ مِنْ جَمِيعِ الأَْشْيَاءِ فَلاَ يَجُوزُ التَّفَاضُل فِيهِ إِذَا كَانَ جِنْسًا
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 22 - 29، والمهذب 1 / 272.(22/71)
وَاحِدًا، وَمَا كَانَ مِنْ جِنْسَيْنِ جَازَ التَّفَاضُل فِيهِ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ نَسِيئَةً، وَالدَّلِيل حَدِيثُ عُبَادَةَ السَّابِقُ، وَمَا كَانَ مِمَّا لاَ يُكَال وَلاَ يُوزَنُ فَجَائِزٌ التَّفَاضُل فِيهِ يَدًا بِيَدٍ وَنَسِيئَةً سَوَاءٌ بِيعَ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ - فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ - وَلاَ يُبَاعُ شَيْءٌ مِنَ الرُّطَبِ بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ إِلاَّ الْعَرَايَا، فَأَمَّا بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ وَالْعِنَبِ بِالْعِنَبِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الرُّطُبِ بِمِثْلِهِ فَيَجُوزُ مَعَ التَّمَاثُل، وَأَمَّا مَا لاَ يَيْبَسُ كَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ، وَلاَ يُبَاعُ مَا أَصْلُهُ الْكَيْل بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ وَزْنًا وَلاَ مَا أَصْلُهُ الْوَزْنُ كَيْلاً، وَالْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ إِلَى الْعُرْفِ بِالْحِجَازِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمِكْيَال مِكْيَال أَهْل الْمَدِينَةِ وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْل مَكَّةَ (1) .
وَمَا لاَ عُرْفَ فِيهِ بِالْحِجَازِ يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ:
أَحَدَهُمَا: يُرَدُّ إِلَى أَقْرَبِ الأَْشْيَاءِ شَبَهًا بِالْحِجَازِ.
وَالثَّانِيَ: يُعْتَبَرُ عُرْفُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَالتُّمُورُ كُلُّهَا جِنْسٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهَا، وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ جِنْسَانِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِشَيْءٍ مِنْ فُرُوعِهَا:
__________
(1) حديث: " المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة " أخرجه أبو داود (3 / 633 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والبيهقي (6 / 31 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمر، ونقل المناوي في الفيض (6 / 374 - ط المكتبة التجارية) تصحيحه عن جمع من العلماء.(22/71)
السَّوِيقُ، وَالدَّقِيقُ فِي الصَّحِيحِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالدَّقِيقِ، فَأَمَّا بَيْعُ بَعْضِ فُرُوعِهَا بِبَعْضٍ فَيَجُوزُ بَيْعُ كُل وَاحِدٍ مِنَ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ بِنَوْعِهِ مُتَسَاوِيًا، فَأَمَّا بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ. وَالأَْصَحُّ أَنَّ اللَّحْمَ أَجْنَاسٌ بِاخْتِلاَفِ أُصُولِهِ، وَفِي اللَّبَنِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: هُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ.
وَالثَّانِيَةُ: هُوَ أَجْنَاسٌ بِاخْتِلاَفِ أُصُولِهِ كَاللَّحْمِ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَمَّا بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي جَوَازَهُ، وَبَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ جَائِزٌ فِي ظَاهِرِ قَوْلِهِمْ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ مَال الرِّبَا بِأَصْلِهِ الَّذِي فِيهِ مِنْهُ كَالسِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ وَالزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ وَسَائِرِ الأَْدْهَانِ بِأُصُولِهَا وَالْعَصِيرِ بِأَصْلِهِ.
وَبَيْعُ شَيْءٍ مِنَ الْمُعْتَصَرَاتِ بِجِنْسِهِ يَجُوزُ مُتَمَاثِلاً، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُتَفَاضِلاً وَكَيْفَ شَاءَ؛ لأَِنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَيُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِيهِمَا بِالْكَيْل، وَسَوَاءٌ أَكَانَا مَطْبُوخَيْنِ أَمْ نِيئَيْنِ، أَمَّا بَيْعُ النِّيءِ بِالْمَطْبُوخِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَلاَ يَجُوزُ (1) .
مِنْ مَسَائِل الرِّبَا:
31 - مَسَائِل الرِّبَا كَثِيرَةٌ وَمُتَعَدِّدَةٌ، وَالْعِلَّةُ هِيَ
__________
(1) المغني 4 / 4 - 39(22/72)
الأَْصْل الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَامَّةُ مَسَائِل الرِّبَا (1) .
أَوْ كَمَا قَال الْقُرْطُبِيُّ: اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ مَسَائِل هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَفُرُوعَهُ مُنْتَشِرَةٌ، وَالَّذِي يَرْبِطُ لَكَ ذَلِكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَا اعْتَبَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي عِلَّةِ الرِّبَا (2) . وَفِيمَا يَلِي أَمْثِلَةٌ وَمُخْتَارَاتٌ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِل:
الْمُحَاقَلَةُ:
32 - بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا بِحِنْطَةٍ صَافِيَةٍ مِنَ التِّبْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ شَرْعًا لِمَا فِيهِ مِنْ جَهْل التَّسَاوِي بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (بَيْعُ الْمُحَاقَلَةِ (3)) (وَمُحَاقَلَةٌ) .
الْمُزَابَنَةُ:
33 - بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْل بِتَمْرٍ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ شَرْعًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُمَاثَلَةِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ (4)) .
الْعِينَةُ:
34 - بَيْعُ السِّلْعَةِ بِثَمَنٍ، إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ شِرَاؤُهَا مِنَ الْمُشْتَرِي بِأَقَل مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ، وَهِيَ حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - لأَِنَّهُ مِنَ الرِّبَا أَوْ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرِّبَا.
__________
(1) الاختيار 2 / 30.
(2) تفسير القرطبي 3 / 352.
(3) الموسوعة الفقهية 9 / 138
(4) الموسوعة الفقهية 9 / 139.(22/72)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْعِينَةِ (1)) .
بَيْعُ الأَْعْيَانِ غَيْرِ الرِّبَوِيَّةِ:
35 - الأَْعْيَانُ الرِّبَوِيَّةُ نَوْعَانِ:
أ - الأَْعْيَانُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فِي حَدِيثَيْ عُبَادَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا.
ب - الأَْعْيَانُ الَّتِي تَحَقَّقَتْ فِيهَا عِلَّةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا، وَهِيَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي الْعِلَّةِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ، وَهِيَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ مَا عَدَا هَذِهِ الأَْعْيَانَ الرِّبَوِيَّةَ بِنَوْعَيْهَا لاَ يَحْرُمُ فِيهَا الرِّبَا، فَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً وَنَسِيئَةً، وَيَجُوزُ فِيهَا التَّفَرُّقُ قَبْل التَّقَابُضِ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: أَمَرَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُجَهِّزَ جَيْشًا فَنَفِدَتِ الإِْبِل، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ عَلَى قِلاَصِ الصَّدَقَةِ، فَكُنْتُ آخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِل الصَّدَقَةِ (2) . وَعَنْ
__________
(1) الموسوعة الفقهية 9 / 95
(2) حديث: عبد الله بن عمرو: " أمرني رسول الله (أن أجهز جيشًا ". أخرجه أبو داود (3 / 652 - 653 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال ابن القطان: " هذا حديث ضعيف، ومضطرب الإسناد. كذا في نصب الراية للزيلعي (4 / 47 - ط المجلس العلمي) ، ولكن رواه البيهقي (5 / 288 - ط دائرة المعارف العثمانية) من طريق آخر، وقال عنه ابن حجر: " إسناده قوي " كذا في الدراية (2 / 159 - ط الفجالة) .(22/73)
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَاعَ جَمَلاً إِلَى أَجَلٍ بِعِشْرِينَ بَعِيرًا، وَبَاعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا بَعِيرًا بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ، وَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا رَاحِلَةً بِأَرْبَعِ رَوَاحِل وَرَوَاحِلُهُ بِالرَّبَذَةِ، وَاشْتَرَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا وَقَال: آتِيَكَ بِالآْخَرِ غَدًا (1) .
وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ، بَيْعَ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً، كَالْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ لِحَدِيثِ سَمُرَةَ - مَرْفُوعًا - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً (2) .
وَلأَِنَّ الْجِنْسَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْل، فَحُرِّمَ النَّسَاءُ كَالْكَيْل وَالْوَزْنِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُتَصَوَّرُ الرِّبَا فِي غَيْرِ النَّقْدَيْنِ وَالطَّعَامِ مِنَ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ وَسَائِرِ التَّمَلُّكَاتِ، وَذَلِكَ بِاجْتِمَاعِ ثَلاَثَةِ أَوْصَافٍ:
أ - التَّفَاضُل.
ب - النَّسِيئَةُ.
ج - اتِّفَاقُ الأَْغْرَاضِ وَالْمَنَافِعِ.
كَبَيْعِ ثَوْبٍ بِثَوْبَيْنِ إِلَى أَجَلٍ، وَبَيْعِ فَرَسٍ
__________
(1) المهذب 1 / 271، والاختيار 2 / 31، فتح القدير 5 / 280، والمغني 4 / 14، والقوانين الفقهية: 260
(2) حديث: نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. أخرجه أبو داود (3 / 652 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (3 / 529 - ط الحلبي) ، وقال: " حديث حسن صحيح ".(22/73)
لِلرُّكُوبِ بِفَرَسَيْنِ لِلرُّكُوبِ إِلَى أَجَلٍ.
فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لِلرُّكُوبِ دُونَ الآْخَرِ جَازَ؛ لاِخْتِلاَفِ الْمَنَافِعِ.
بَيْعُ الْعَيْنِ بِالتِّبْرِ، وَالْمَصْنُوعِ بِغَيْرِهِ:
36 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ عَيْنَ الذَّهَبِ، وَتِبْرَهُ، وَالصَّحِيحَ، وَالْمَكْسُورَ مِنْهُ، سَوَاءٌ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ مَعَ التَّمَاثُل فِي الْمِقْدَارِ وَتَحْرِيمِهِ مَعَ التَّفَاضُل، قَال الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ حَرَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَاعَ مِثْقَال ذَهَبٍ عَيْنٍ بِمِثْقَالٍ وَشَيْءٍ مِنْ تِبْرٍ غَيْرِ مَضْرُوبٍ، وَكَذَلِكَ حَرَّمَ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْمَضْرُوبِ مِنَ الْفِضَّةِ وَغَيْرِ الْمَضْرُوبِ مِنْهَا، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا (1) .
وَرُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ عَنْ مَالِكٍ، فِي التَّاجِرِ يَحْفِزُهُ الْخُرُوجُ وَبِهِ حَاجَةٌ إِلَى دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ أَوْ دَنَانِيرَ مَضْرُوبَةٍ، فَيَأْتِي دَارَ الضَّرْبِ بِفِضَّتِهِ أَوْ ذَهَبِهِ فَيَقُول لِلضَّرَّابِ: خُذْ فِضَّتِي هَذِهِ أَوْ ذَهَبِي وَخُذْ قَدْرَ عَمَل يَدِكَ وَادْفَعْ إِلَيَّ دَنَانِيرَ مَضْرُوبَةً فِي ذَهَبِي أَوْ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً فِي فِضَّتِي هَذِهِ لأَِنِّي مَحْفُوزٌ لِلْخُرُوجِ وَأَخَافُ أَنْ يَفُوتَنِي مَنْ أَخْرُجُ
__________
(1) حديث: " الذهب بالذهب تبرها وعينها " أخرجه أبو داود (3 / 644 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والنسائي (7 / 246 - ط المكتبة التجارية) من حديث عبادة بن الصامت، وإسناده صحيح، ومقالة الخطابي في معالم السنن (5 / 20 - بهامش مختصر السنن - نشر دار المعرض) .(22/74)
مَعَهُ، أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ، وَأَنَّهُ قَدْ عَمِل بِهِ بَعْضُ النَّاسِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَبَسِهِ عَنْ مَالِكٍ فِي غَيْرِ التَّاجِرِ وَإِنَّ مَالِكًا قَدْ خَفَّفَ فِي ذَلِكَ، قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْحُجَّةُ فِيهِ لِمَالِكٍ بَيِّنَةٌ.
قَال الأَْبْهَرِيُّ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الرِّفْقِ لِطَلَبِ التِّجَارَةِ وَلِئَلاَّ يَفُوتَ السُّوقُ وَلَيْسَ الرِّبَا إِلاَّ عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يُرْبِيَ مِمَّنْ يَقْصِدُ إِلَى ذَلِكَ وَيَبْتَغِيهِ (1) .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الصِّحَاحِ بِالْمُكَسَّرَةِ؛ وَلأَِنَّ لِلصِّنَاعَةِ قِيمَةً بِدَلِيل حَالَةِ الإِْتْلاَفِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ ضَمَّ قِيمَةَ الصِّنَاعَةِ إِلَى الذَّهَبِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ قَال لِصَانِعٍ: اصْنَعْ لِي خَاتَمًا وَزْنَ دِرْهَمٍ، وَأُعْطِيكَ مِثْل وَزْنِهِ وَأُجْرَتَكَ دِرْهَمًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بَيْعَ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَقَال أَصْحَابُنَا: لِلصَّائِغِ أَخْذُ الدِّرْهَمَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي مُقَابَلَةِ الْخَاتَمِ وَالثَّانِي أُجْرَةً لَهُ (2) .
الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ:
37 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الإِْسْلاَمِ، فَمَا كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ
__________
(1) تفسير القرطبي 3 / 351 - 352، والمجموع 10 / 88، والدسوقي 3 / 43، والقوانين الفقهية 256، وابن عابدين 4 / 181.
(2) المغني 4 / 10 - 11(22/74)
الإِْسْلاَمِ كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، سَوَاءٌ جَرَى بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ أَوْ مُسْلِمٍ وَحَرْبِيٍّ، وَسَوَاءٌ دَخَلَهَا الْمُسْلِمُ بِأَمَانٍ أَمْ بِغَيْرِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ؛ وَلأَِنَّ مَا كَانَ رِبًا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ كَانَ رِبًا مُحَرَّمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَمَا لَوْ تَبَايَعَهُ مُسْلِمَانِ مُهَاجِرَانِ وَكَمَا لَوْ تَبَايَعَهُ مُسْلِمٌ وَحَرْبِيٌّ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ؛ وَلأَِنَّ مَا حُرِّمَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ حُرِّمَ هُنَاكَ كَالْخَمْرِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي؛ وَلأَِنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَا لاَ يَجُوزُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ فَلَمْ يَصِحَّ كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ هُنَاكَ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ يَحْرُمُ الرِّبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلاَ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرَا مِنْهَا؛ لأَِنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ إِلاَّ أَنَّهُ بِالأَْمَانِ حُرِّمَ التَّعَرُّضُ لَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ تَحَرُّزًا عَنِ الْغَدْرِ وَنَقْضِ الْعَهْدِ، فَإِذَا رَضُوا بِهِ حَل أَخْذُ مَالِهِمْ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، بِخِلاَفِ الْمُسْتَأْمَنِ؛ لأَِنَّ مَالَهُ صَارَ مَحْظُورًا بِالأَْمَانِ (2) .
مَسْأَلَةُ مُدِّ عَجْوَةٍ:
38 - إِذَا جَمَعَ الْبَيْعُ رِبَوِيًّا مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَاخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَبِيعِ مِنْهُمَا بِأَنِ اشْتَمَل أَحَدُهُمَا عَلَى جِنْسَيْنِ رِبَوِيَّيْنِ اشْتَمَل الآْخَرُ عَلَيْهِمَا، كَمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدٍّ مِنْ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ، وَكَذَا لَوِ
__________
(1) المجموع 9 / 391، والمغني 4 / 45 - 46
(2) رد المحتار 4 / 188، والاختيار 2 / 33(22/75)
اشْتَمَل عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَطْ كَمُدٍّ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْنِ أَوْ دِرْهَمَيْنِ، أَوِ اشْتَمَلاَ جَمِيعُهُمَا عَلَى جِنْسٍ رِبَوِيٍّ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ غَيْرُ رِبَوِيٍّ فِيهِمَا كَدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا كَدِرْهَمٍ وَثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ، أَوِ اخْتَلَفَ نَوْعُ الْمَبِيعِ كَصِحَاحٍ وَمُكَسَّرَةٍ تَنْقُصُ قِيمَتُهَا عَنْ قِيمَةِ الصِّحَاحِ بِهِمَا أَيْ بِصِحَاحٍ وَمُكَسَّرَةٍ، أَوْ بِأَحَدِهِمَا أَيْ بِصِحَاحٍ فَقَطْ أَوْ بِمُكَسَّرَةٍ فَقَطْ. . . إِذَا كَانَ الْبَيْعُ عَلَى صُورَةٍ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْفِقْهِيَّةُ الْمَعْرُوفَةُ بِمَسْأَلَةِ " مُدِّ عَجْوَةٍ ". وَالدَّلِيل عَلَى بُطْلاَنِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ خَبَرُ مُسْلِمٍ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِلاَدَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ تُبَاعُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي الْقِلاَدَةِ فَنُزِعَ وَحْدَهُ ثُمَّ قَال: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ وَفِي رِوَايَةٍ: لاَ تُبَاعُ حَتَّى تُفْصَل (1) .
وَاسْتَدَل مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى بِأَنَّ قَضِيَّةَ اشْتِمَال أَحَدِ طَرَفَيِ الْعَقْدِ عَلَى مَالَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ تَوْزِيعُ مَا فِي الآْخَرِ عَلَيْهِمَا اعْتِبَارًا بِالْقِيمَةِ، وَالتَّوْزِيعُ يُؤَدِّي إِلَى الْمُفَاضَلَةِ أَوِ الْجَهْل بِالْمُمَاثَلَةِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا بَاعَ مُدًّا وَدِرْهَمًا بِمُدَّيْنِ إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمُدِّ الَّذِي مَعَ الدِّرْهَمِ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل مِنْهُ لَزِمَتْهُ الْمُفَاضَلَةُ، أَوْ مِثْلَهُ فَالْمُمَاثَلَةُ مَجْهُولَةٌ
__________
(1) حديث فضالة بن عبيد: " أتى النبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها خرز وذهب " أخرجه مسلم (3 / 1213 - ط الحلبي) .(22/75)
وَلِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِتَحَقُّقِ الرِّبَا فِي مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ تَفْصِيلٌ وَتَفْرِيعٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَحْكَامِ الْمَسْأَلَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الرِّبَوِيُّ الْمُفْرَدُ أَكْثَرَ مِنَ الَّذِي مَعَهُ غَيْرُهُ، أَوْ كَانَ مَعَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ لَمْ يُحْمَل عَلَى الْفَسَادِ فَيُجْعَل الرِّبَوِيُّ فِي مُقَابَلَةِ قَدْرِهِ مِنَ الرِّبَوِيِّ الآْخَرِ وَيُجْعَل الزَّائِدُ فِي مُقَابَلَةِ مَا زَادَ عَنِ الْقَدْرِ الْمُمَاثِل (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 28، والمغني 4 / 39 - 40، والقوانين الفقهية 259، وابن عابدين 4 / 236، 237(22/76)
رِبَاطٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّبَاطُ وَالْمُرَابَطَةُ مُلاَزَمَةُ ثَغْرِ الْعَدُوِّ، وَأَصْلُهُ أَنْ يَرْبِطَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَيْلَهُ، ثُمَّ صَارَ لُزُومُ الثَّغْرِ رِبَاطًا، وَرُبَّمَا سُمِّيَتِ الْخَيْل أَنْفُسُهَا رِبَاطًا، وَيُقَال: الرِّبَاطُ مِنَ الْخَيْل: الْخَمْسُ فَمَا فَوْقَهَا. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} (1) أَيْ: أَقِيمُوا عَلَى جِهَادِ عَدُوِّكُمْ. وَيُطْلَقُ الرِّبَاطُ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَوْ مُدَاوَمَةِ الْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ، كَمَا جَاءَ فِي الأَْثَرِ: قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ. قَال: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَى إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، ثَلاَثًا (2) .
وَالأَْرْبِطَةُ: الْبُيُوتُ الْمُسَبَّلَةُ لإِِيوَاءِ الْفُقَرَاءِ وَالْغُرَبَاءِ وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ
__________
(1) سورة آل عمران / 200.
(2) حديث: " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا " أخرجه مسلم (1 / 219 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(22/76)
وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُرَابِطُ فِيهِ الْمُجَاهِدُونَ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجِهَادُ:
2 - وَهُوَ فِي اللُّغَةِ بَذْل الْوُسْعِ فِي الأَْمْرِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: بَذْل الْوُسْعِ فِي الْقِتَال فِي سَبِيل اللَّهِ مُبَاشَرَةً، أَوْ مُعَاوَنَةً بِمَالٍ، أَوْ رَأْيٍ، أَوْ تَكْثِيرِ سَوَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (2) .
فَالْجِهَادُ أَعَمُّ مِنَ الرِّبَاطِ.
ب - الْحِرَاسَةُ:
3 - وَهُوَ مَصْدَرُ حَرَسَ الشَّيْءَ: إِذَا حَفِظَهُ، وَتَحَرَّسَ مِنْ فُلاَنٍ وَاحْتَرَسَ مِنْهُ: تَحَفَّظَ مِنْهُ (3) .
وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الرِّبَاطِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
أَوَّلاً: الرِّبَاطُ بِمَعْنَى مُلاَزَمَةِ الثُّغُورِ:
4 - الرِّبَاطُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ لأَِنَّهُ حِفْظُ ثُغُورِ الإِْسْلاَمِ وَصِيَانَتُهَا، وَدَفْعٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَنْ
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب، والمصباح المنير، والقرطبي تفسير آية: آل عمران الأخيرة، وحاشية ابن عابدين 3 / 217.
(2) رد المحتار على الدر المختار 3 / 218.
(3) مختار الصحاح.(22/77)
حَرِيمِهِمْ، وَقُوَّةٌ لأَِهْل الثَّغْرِ وَلأَِهْل الْغَزْوِ، قَال أَحْمَدُ: هُوَ أَصْل الْجِهَادِ وَفَرْعُهُ (1) .
وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الأَْمْرُ بِهِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} (2) .
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: قَال جُمْهُورُ الأُْمَّةِ فِي تَفْسِيرِ الآْيَةِ: رَابِطُوا أَعْدَاءَكُمْ بِالْخَيْل، وَعَزَا إِلَى ابْنِ عَطِيَّةَ قَوْلَهُ: الْقَوْل الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى رَابِطُوا: أَنَّ الرِّبَاطَ هُوَ الْمُلاَزَمَةُ فِي سَبِيل اللَّهِ، أَصْلُهَا مِنْ رَبْطِ الْخَيْل، ثُمَّ سُمِّيَ كُل مُلاَزِمٍ لِثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ مُرَابِطًا، فَارِسًا كَانَ أَمْ رَاجِلاً (3) .
فَضْل الرِّبَاطِ:
5 - وَرَدَ فِي فَضْل الرِّبَاطِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيل اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا (4) .
وَقَال: رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ
__________
(1) المغني 8 / 354، ومطالب أولي النهى 2 / 509، وفتح القدير 4 / 278.
(2) سورة آل عمران / 200.
(3) تفسير القرطبي 4 / 323.
(4) حديث: " رباط يوم في سبيل الله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 85 - ط السلفية) من حديث سهل بن سعد.(22/77)
يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ (1) . وَوَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُل مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلاَّ الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيل اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ مِنْ فَتَّانِ الْقَبْرِ (2) .
أَفْضَل الرِّبَاطِ:
6 - أَفْضَل الرِّبَاطِ: أَشَدُّ الثُّغُورِ خَوْفًا؛ لأَِنَّ مُقَامَهُ بِهِ أَنْفَعُ، وَأَهْلَهُ أَحْوَجُ (3) .
الْمَحَل الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ الرِّبَاطُ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَحَل الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ الرِّبَاطُ، فَإِنَّهُ لاَ يَتَحَقَّقُ فِي كُل مَحَلٍّ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْمُخْتَارُ: أَنَّهُ لاَ يَكُونُ الرِّبَاطُ، إِلاَّ فِي مَوْضِعٍ لاَ يَكُونُ وَرَاءَهُ إِسْلاَمٌ؛ لأَِنَّ مَا دُونَهُ لَوْ كَانَ رِبَاطًا فَكُل الْمُسْلِمِينَ فِي بِلاَدِهِمْ مُرَابِطُونَ، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِذَا أَغَارَ الْعَدُوُّ عَلَى مَوْضِعٍ مَرَّةً سُمِّيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ رِبَاطًا، أَرْبَعِينَ سَنَةً (4) .
__________
(1) حديث: " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر. . . " أخرجه مسلم (3 / 1520 - ط الحلبي) من حديث سلمان الفارسي.
(2) حديث: " كل ميت يختم على عمله. . . " أخرجه الترمذي (4 / 165 - ط الحلبي) من حديث فضالة بن عبيد، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) مطالب أولي النهى 2 / 509، والمغني 8 / 355.
(4) فتح القدير 4 / 278، وحاشية الطحطاوي 2 / 437.(22/78)
وَالأَْصْل فِي هَذَا: حَدِيثُ مَنْ حَرَسَ مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبِيل اللَّهِ مُتَطَوِّعًا لاَ يَأْخُذُهُ سُلْطَانٌ لَمْ يَرَ النَّارَ بِعَيْنَيْهِ إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ (1) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: إِذَا نَوَى بِالإِْقَامَةِ فِي أَيِّ مَكَانٍ وَإِنْ كَانَ وَطَنَهُ دَفْعَ الْعَدُوِّ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُرَابِطًا، قَال: وَمِنْ ثَمَّ اخْتَارَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ سُكْنَى الثُّغُورِ. وَعَزَا إِلَى ابْنِ التِّينِ أَنَّهُ قَال: الرِّبَاطُ مُلاَزَمَةُ الْمَكَانِ الَّذِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ لِحِرَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْوَطَنِ، وَعَزَا ذَلِكَ إِلَى ابْنِ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ (2) .
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: الْمُرَابِطُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ الَّذِي يَشْخَصُ إِلَى ثَغْرٍ مِنَ الثُّغُورِ لِيُرَابِطَ فِيهِ مُدَّةً مَا. أَمَّا سُكَّانُ الثُّغُورِ دَائِمًا بِأَهْلِيهِمُ الَّذِينَ يَعْمُرُونَ وَيَكْتَسِبُونَ هُنَالِكَ فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا حُمَاةً فَلَيْسُوا بِمُرَابِطِينَ (3) .
مُدَّةُ الرِّبَاطِ:
8 - قَال الْفُقَهَاءُ: تَمَامُ الرِّبَاطِ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا
__________
(1) حديث: " من حرس من وراء المسلمين. . . . " أخرجه أحمد (3 / 437 - 438 - ط الميمنية) من حديث معاذ بن أنس، وقال المنذري: " لا بأس بإسناده في المتابعات ". الترغيب والترهيب (2 / 248 - ط الحلبي) .
(2) فتح الباري 6 / باب الجهاد.
(3) تفسير القرطبي 4 / 323.(22/78)
فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: تَمَامُ الرِّبَاطِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا (1) .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ رَابَطَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَقَدِ اسْتَكْمَل الرِّبَاطَ.
وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَلَمْ نَقِفْ عَلَى خِلاَفٍ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ مِنَ الرِّبَاطِ، فَقَال: كَمْ رَابَطْتَ؟ قَال: ثَلاَثِينَ يَوْمًا، فَقَال عُمَرُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ أَلاَّ رَجَعْتَ حَتَّى تُتِمَّهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَإِنْ رَابَطَ أَكْثَرَ فَلَهُ أَجْرُهُ.
أَمَّا أَقَل الرِّبَاطِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ أَقَل الرِّبَاطِ سَاعَةٌ (2) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي: أَقَل مَا يُجْزِئُ يَوْمٌ أَوْ لَيْلَةٌ، وَقَال: لأَِنَّهُ قَيَّدَ الْيَوْمَ فِي الْحَدِيثِ، وَأَطْلَقَ فِي الآْيَةِ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ مُطْلَقَ الآْيَةِ مُقَيَّدٌ بِالْحَدِيثِ؛ لأَِنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ أَقَل الرِّبَاطِ يَوْمٌ، لِسِيَاقِهِ فِي مَقَامِ الْمُبَالَغَةِ وَذِكْرُهُ مَعَ سَوْطٍ يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ (3) .
الرِّبَاطَاتُ الْمُسَبَّلَةُ:
9 - الرِّبَاطَاتُ الْمُسَبَّلَةُ فِي الطُّرُقِ وَعَلَى أَطْرَافِ
__________
(1) حديث: " تمام الرباط أربعون يومًا. . . . " أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (7 / 157 - ط وزارة الأوقاف العراقية) من حديث أبي أمامة، وقال الهيثمي في المجمع (5 / 290 - ط القدسي) : " فيه أيوب بن مدرك، وهو ضعيف ".
(2) المغني 8 / 354 - 355، ومطالب أولي النهى 2 / 509.
(3) فتح الباري 6 / 85 - 86(22/79)
بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ - وَهِيَ مَا يُبْنَى لِلْمُسَافِرِينَ وَالْغُرَبَاءِ وَالْفُقَرَاءِ - مِنَ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ. فَمَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا وَهُوَ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِمَنَافِعِهَا صَارَ أَحَقَّ بِهِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ إِزْعَاجُهُ، سَوَاءٌ دَخَل بِإِذْنِ الإِْمَامِ أَمْ لاَ. وَلاَ يَبْطُل حَقُّهُ بِالْخُرُوجِ لِحَاجَةٍ كَشِرَاءِ طَعَامٍ، وَنَحْوِهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ تَخْلِيفُهُ نَائِبًا لَهُ فِي الْمَوْضِعِ، وَلاَ أَنْ يَتْرُكَ فِيهِ مَتَاعَهُ. وَإِذَا سَكَنَ بَيْتًا مِنْهَا مَنْ تَتَوَفَّرُ فِيهِ شُرُوطُ الْمُسَبَّلَةِ، وَغَابَ أَيَّامًا قَلِيلَةً فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ إِذَا عَادَ. فَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ بَطَل حَقُّهُ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (الْمَنَافِعُ الْمُشْتَرَكَةُ، وَقْف) .
__________
(1) روضة الطالبين 5 / 299، وقليوبي 3 / 94، وأسنى المطالب 2 / 451.(22/79)
رِبَاعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّبَاعُ لُغَةً: جَمْعُ رَبْعٍ وَهُوَ الْمَنْزِل وَالدَّارُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ يَرْبَعُ فِيهِ أَيْ يَسْكُنُهُ وَيُقِيمُ فِيهِ. وَالْجَمْعُ: أَرْبُعٌ وَرِبَاعٌ وَرُبُوعٌ. وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهَل تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟ وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ دَارٍ (1) ، وَرَبْعُ الْقَوْمِ: مَحَلَّتُهُمْ. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَرَادَتْ بَيْعَ رِبَاعِهَا أَيْ مَنَازِلِهَا، وَالرَّبْعَةُ: أَخَصُّ مِنَ الرَّبْعِ، وَالرَّبْعُ: الْمَحَلَّةُ. يُقَال: مَا أَوْسَعَ رَبْعَ بَنِي فُلاَنٍ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ اسْمَ الرَّبْعِ عَلَى الْبِنَاءِ وَحَائِطِ النَّخْل يُحَوَّطُ عَلَيْهِ بِجِدَارٍ أَوْ غَيْرِهِ (3) .
__________
(1) حديث: " وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 451 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 984 - ط الحلبي) من حديث أسامة بن زيد، وعند البيهقي (6 / 34 - ط دائرة المعارف العثمانية) : " من دار أو دور ".
(2) لسان العرب، مادة: (ربع ودار) ، المهذب للشيرازي ط - عيسى البابي الحلبي - 1 / 376.
(3) كشاف القناع 3 / 160، ودستور العلماء 2 / 128.(22/80)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَقَارُ:
2 - الْعَقَارُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ: كُل مِلْكٍ ثَابِتٍ لَهُ أَصْلٌ، كَالدَّارِ وَالنَّخْل.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ الضَّيْعَةُ، وَجَعَلُوا الْبِنَاءَ وَالنَّخْل مِنَ الْمَنْقُولاَتِ، وَعِنْدَهُمْ قَوْلٌ كَقَوْل الْجُمْهُورِ.
وَعَقَارُ الْبَيْتِ: مَتَاعُهُ وَنَضَدُهُ إِذَا كَانَ حَسَنًا كَبِيرًا، وَيُقَال: فِي الْبَيْتِ عَقَارٌ حَسَنٌ أَيْ: مَتَاعٌ وَأَدَاةٌ (1) .
ب - الأَْرْضُ:
3 - الأَْرْضُ مَعْرُوفَةٌ وَجَمْعُهَا أَرَاضٍ وَأَرَضُونَ.
ج - الدَّارُ:
4 - الدَّارُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْعَرْصَةِ وَالْبِنَاءِ وَالْمَحَلَّةِ، وَاللَّفْظُ مُؤَنَّثٌ.
وَقَال ابْنُ جِنِّي: هِيَ مِنْ دَارَ يَدُورُ لِكَثْرَةِ حَرَكَاتِ النَّاسِ فِيهَا وَالْجَمْعُ أَدْوُرٌ وَأَدْؤُرٌ، وَالْكَثِيرُ دِيَارٌ وَدُورٌ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّبَاعِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - رِبَاعُ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ وَإِجَارَةِ رِبَاعِ مَكَّةَ وَعَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ إِذَا وَقَعَ،
__________
(1) المغرب والمصباح وابن عابدين 4 / 421.(22/80)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (1) ، وَلِحَدِيثِ مُجَاهِدٍ مَرْفُوعًا مَكَّةُ حَرَامٌ، حَرَّمَهَا اللَّهُ، لاَ تَحِل بَيْعُ رِبَاعِهَا، وَلاَ إِجَارَةُ بُيُوتِهَا (2) ، وَلِحَدِيثِ مَكَّةُ مُنَاخٌ لاَ تُبَاعُ رِبَاعُهَا وَلاَ تُؤَاجَرُ بُيُوتُهَا (3) ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: فَإِنْ سَكَنَ بِأُجْرَةٍ فِي رِبَاعِ مَكَّةَ لَمْ يَأْثَمْ بِدَفْعِهَا (4) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا وَإِجَارَتُهَا وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ، وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ، وَاسْتَدَل الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِجَوَازِ بَيْعِ رِبَاعِ مَكَّةَ وَكِرَاءِ دُورِهَا بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} (5) فَنَسَبَ الدِّيَارَ إِلَى الْمَالِكِينَ، وَبِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِل فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَال: وَهَل تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ (6) ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا
__________
(1) سورة الحج / 25.
(2) حديث مجاهد مرفوعًا: " مكة حرام، حرمها الله، لا تحل بيع رباعها ولا. . . . " أخرجه ابن أبي شيبة كما في نصب الراية للزيلعي (4 / 266 - ط المجلس العلمي) وإسناده ضعيف لإرساله.
(3) حديث: " مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها " أخرجه الدارقطني (3 / 58 - ط دار المحاسن) من حديث عبد الله بن عمرو، وأعله بضعف أحد رواته.
(4) كشاف القناع 3 / 160، بدائع الصنائع 5 / 146.
(5) سورة الحشر / 9.
(6) حديث: " وهل ترك لنا عقيل من رباع. . . " تقدم تخريجه في ف / 1.(22/81)
طَالِبٍ، وَلَمْ يَرِثْ جَعْفَرٌ وَلاَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا شَيْئًا لأَِنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَبِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ دَخَل دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ (1) فَنَسَبَ الدِّيَارَ إِلَى مَالِكِيهَا، وَبِاشْتِرَاءِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَارَ الْحَجَّامِينَ وَإِسْكَانِهَا (2) .
وَالْمَالِكِيَّةُ عِنْدَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ:
الأُْولَى: الْمَنْعُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ.
وَالثَّانِيَةُ: الْجَوَازُ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ وَالْمُعْتَمَدُ الَّذِي بِهِ الْفَتْوَى، وَعَلَيْهِ جَرَى الْعَمَل مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى وَالْقُضَاةِ بِمَكَّةَ.
وَالثَّالِثَةُ: الْكَرَاهَةُ، فَإِنْ قَصَدَ بِالْكِرَاءِ الآْلاَتِ وَالأَْخْشَابَ جَازَ، وَإِنْ قَصَدَ الْبُقْعَةَ فَلاَ خَيْرَ فِيهِ.
وَالرَّابِعَةُ: تَخْصِيصُ الْكَرَاهَةِ بِالْمَوْسِمِ لِكَثْرَةِ النَّاسِ وَاحْتِيَاجِهِمْ إِلَى الْوَقْفِ (3) .
ب - الشُّفْعَةُ فِي الرِّبَاعِ:
6 - تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الرِّبَاعِ قَبْل قِسْمَتِهَا بِالإِْجْمَاعِ تَبَعًا لِلأَْرْضِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَصْلاً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لأَِنَّ ضَرَرَ أَذَى الدَّخِيل يَتَأَبَّدُ، وَذَلِكَ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ فِي الْعَقَارِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الْعَقَارِ إِنْ
__________
(1) حديث: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. . . . . . . . . " أخرجه مسلم (3 / 1406 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) إعلام الساجد بأحكام المساجد ص 147 - 148
(3) تهذيب الفروق للقرافي 4 / 11.(22/81)
كَانَ رَبْعًا أَوْ حَائِطًا. قَالُوا: لأَِنَّ الضَّرَرَ فِي الْعَقَارِ يَتَأَبَّدُ مِنْ جِهَةِ الشَّرِيكِ فَتَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ لإِِزَالَةِ الضَّرَرِ (1) .
وَلِمَزِيدِ الإِْيضَاحِ انْظُرْ: (شُفْعَةٌ) .
ج - قِسْمَةُ الرِّبَاعِ:
7 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ يَتْبَعَانِ الأَْرْضَ فِي الْقِسْمَةِ، وَالأَْرْضُ لاَ تَتْبَعُهُمَا، فَمَنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِهِ مِنْ قِسْمَةِ الأَْرْضِ شَيْءٌ مِنْهُمَا فَهُوَ لَهُ، بِخِلاَفِ الْعَكْسِ (2) .
وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ فَنَصُّوا عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَ الأَْرْضِ وَالْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ يَتْبَعُ الآْخَرَ فِي بَيْعِهِ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ شَرْطٌ أَوْ عُرْفٌ (3) . وَلِمَزِيدٍ مِنَ الإِْيضَاحِ انْظُرْ: (قِسْمَةٌ) .
د - وَقْفُ الرِّبَاعِ:
8 - يَصِحُّ وَقْفُ الْعَقَارِ مِنْ أَرْضٍ وَدُورٍ وَحَوَانِيتَ وَبَسَاتِينَ وَنَحْوِهَا بِالاِتِّفَاقِ بِدَلِيل وَقْفِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِائَةَ سَهْمٍ فِي خَيْبَرَ؛ وَلأَِنَّ جَمَاعَةً
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 236، والمبسوط 14 / 98، وحاشية الدسوقي 3 / 476، والخرشي 6 / 163، والمهذب للشيرازي 1 / 376، والمغني 5 / 463، ومنتهى الإرادات 1 / 527.
(2) نهاية المحتاج 8 / 271، ومغني المحتاج 4 / 424، والباجوري على ابن قاسم 2 / 17، ودليل الطالب ص 108، 140
(3) بداية المجتهد 2 / 257، والخرشي 4 / 90.(22/82)
مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَفُوا؛ وَلأَِنَّ الْعَقَارَ مُتَأَبِّدٌ عَلَى الدَّوَامِ وَالْوَقْفُ تَحْبِيسُ الأَْصْل وَتَسْبِيل الْمَنْفَعَةِ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ) .
__________
(1) الدر المختار 3 / 408 - 439، والشرح الكبير 4 / 76، ومغني المحتاج 2 / 377، والمغني 5 / 585(22/82)
رِبْحٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّبْحُ وَالرَّبَحُ وَالرَّبَاحُ لُغَةً النَّمَاءُ فِي التِّجَارَةِ، وَيُسْنَدُ الْفِعْل إِلَى التِّجَارَةِ مَجَازًا، فَيُقَال: رَبِحَتْ تِجَارَتُهُ، فَهِيَ رَابِحَةٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (1) .
قَال الأَْزْهَرِيُّ: رَبِحَ فِي تِجَارَتِهِ إِذَا أَفْضَل فِيهَا، وَأَرْبَحَ فِيهَا: صَادَفَ سُوقًا ذَاتَ رِبْحٍ، وَأَرْبَحْتُ الرَّجُل إِرْبَاحًا: أَعْطَيْتُهُ رِبْحًا.
وَبِعْتُهُ الْمَتَاعَ وَاشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ مُرَابَحَةً: إِذَا سَمَّيْتُ لِكُل قَدْرٍ مِنَ الثَّمَنِ رِبْحًا (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
النَّمَاءُ:
2 - النَّمَاءُ الزِّيَادَةُ، وَكُل شَيْءٍ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ إِمَّا نَامٍ أَوْ صَامِتٌ، فَالنَّامِي مِثْل النَّبَاتِ
__________
(1) سورة البقرة / 16.
(2) لسان العرب المصباح المنير مادة: (ربح) .(22/83)
وَالأَْشْجَارِ، وَالصَّامِتُ كَالْحَجَرِ وَالْجَبَل، وَالنَّمَاءُ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ مَجَازٌ، وَفِي الْمَاشِيَةِ حَقِيقَةٌ؛ لأَِنَّهَا تَزِيدُ بِتَوَالُدِهَا (1) . وَالنَّمَاءُ قَدْ يَكُونُ بِطَبِيعَةِ الشَّيْءِ أَوْ بِالْعَمَل. فَالنَّمَاءُ أَعَمُّ مِنَ الرِّبْحِ.
الْغَلَّةُ:
3 - تُطْلَقُ الْغَلَّةُ عَلَى الدَّخْل الَّذِي يَحْصُل مِنْ رَيْعِ الأَْرْضِ أَوْ أُجْرَتِهَا، أَوْ أُجْرَةِ الدَّارِ وَاللَّبَنِ وَالنِّتَاجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ: الْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: هُوَ كَحَدِيثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الآْخَرِ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (2) .
وَاسْتِغْلاَل الْمُسْتَغَلاَّتِ، أَخْذُ غَلَّتِهَا، وَأَغَلَّتِ الضَّيْعَةُ أَعْطَتِ الْغَلَّةَ فَهِيَ مُغِلَّةٌ: إِذَا أَتَتْ بِشَيْءٍ وَأَصْلُهَا بَاقٍ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - الرِّبْحُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا، أَوْ غَيْرَ مَشْرُوعٍ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ.
فَالرِّبْحُ الْمَشْرُوعُ هُوَ مَا نَتَجَ عَنْ تَصَرُّفٍ مُبَاحٍ
__________
(1) الفروق ص 95، ولسان العرب.
(2) حديث: " الغلة بالضمان " وفي رواية: " الخراج بالضمان " أخرجه أحمد (6 / 80 - ط الميمنية) ، واللفظ الثاني أخرجه أبو داود (3 / 780 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3 / 22 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) القاموس والمصباح والمغرب ص 343، والمفردات ص 269(22/83)
كَالْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، مِثْل الْبَيْعِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَغَيْرِهَا فَالرِّبْحُ النَّاتِجُ عَنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُبَاحَةِ حَلاَلٌ بِالإِْجْمَاعِ مَعَ مُرَاعَاةِ أَنَّ لِكُل عَقْدٍ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ قَوَاعِدَ وَشَرَائِطَ شَرْعِيَّةً لاَ بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهَا (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (بَيْعٌ، شَرِكَةٌ، مُرَابَحَةٌ) .
وَالرِّبْحُ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ: هُوَ مَا نَتَجَ عَنْ تَصَرُّفٍ مُحَرَّمٍ كَالرِّبَا وَالْقِمَارِ وَالتِّجَارَةِ بِالْمُحَرَّمَاتِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) .
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ (3) (ر: رِبًا، أَشْرِبَةٌ، بَيْعٌ) .
وَأَمَّا الرِّبْحُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، فَمِنْهُ مَا نَتَجَ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيمَا كَانَ تَحْتَ يَدِ الإِْنْسَانِ مِنْ مَال غَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ يَدَ أَمَانَةٍ كَالْمُودَعِ، أَمْ يَدَ ضَمَانٍ كَالْغَاصِبِ وَخِلاَفِهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
فَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ لاَ يَطِيبُ لِمَنْ تَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ أَوِ الْوَدِيعَةِ، هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 240 - 245
(2) سورة البقرة / 275.
(3) حديث: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 424 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1207 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.(22/84)
وَمُحَمَّدٍ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ. وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ حَصَل التَّصَرُّفُ فِي ضَمَانِهِ وَمِلْكِهِ. أَمَّا الضَّمَانُ فَظَاهِرٌ؛ لأَِنَّ الْمَغْصُوبَ دَخَل فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ، وَأَمَّا الْمِلْكُ؛ فَلأَِنَّهُ يَمْلِكُهُ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ إِذَا ضُمِّنَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ التَّصَرُّفَ حَصَل فِي مِلْكِهِ وَضَمَانِهِ، لَكِنَّهُ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ؛ لأَِنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ، إِذِ الْفَرْعُ يَحْصُل عَلَى وَصْفِ الأَْصْل، وَأَصْلُهُ حَدِيثُ الشَّاةِ حَيْثُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّصَدُّقِ بِلَحْمِهَا عَلَى الأَْسْرَى (1) .
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ فَالرِّبْحُ لِمَنْ تَصَرَّفَ فِي الْوَدِيعَةِ وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ؛ لأَِنَّهَا لَوْ تَلِفَتْ لَضَمِنَهَا، وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: لَوِ اتَّجَرَ الْغَاصِبُ فِي الْمَال الْمَغْصُوبِ فَالرِّبْحُ لَهُ فِي الأَْظْهَرِ، فَإِذَا غَصَبَ دَرَاهِمَ وَاشْتَرَى شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ وَنَقَدَ الدَّرَاهِمَ فِي ثَمَنِهِ وَرَبِحَ رَدَّ مِثْل
__________
(1) حديث الشاة: " عن رجل من الأنصار " لما رجع رسول الله (من جنازة استقبله داعي امرأة، فجاء وجيء بالطعام فوضع يده، ثم وضع القوم فأكلوا، فنظر آباؤنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فمه ثم قال: " أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها " فأرسلت المرأة قالت: يا ر(22/84)
الدَّرَاهِمِ؛ لأَِنَّهَا مِثْلِيَّةٌ إِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَهُ، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ بِعَيْنِهِ، أَمَّا إِذَا اشْتَرَى بِعَيْنِهِ فَالْجَدِيدُ بُطْلاَنُهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الرِّبْحُ لِصَاحِبِ الْوَدِيعَةِ أَوْ مَالِكِ الْمَغْصُوبِ (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا غَصَبَ أَثْمَانًا فَاتَّجَرَ بِهَا أَوْ عُرُوضًا فَبَاعَهَا وَاتَّجَرَ بِثَمَنِهَا فَالرِّبْحُ لِلْمَالِكِ وَالسِّلَعُ الْمُشْتَرَاةُ لَهُ. وَقَال الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ: إِنْ كَانَ الشِّرَاءُ بِعَيْنِ الْمَال فَالرِّبْحُ لِلْمَالِكِ، قَال الشَّرِيفُ: وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ.
وَإِنِ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ نَقَدَ الأَْثْمَانَ فَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ لِلْغَاصِبِ؛ لأَِنَّهُ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ فِي ذِمَّتِهِ، فَكَانَ الشِّرَاءُ لَهُ، وَالرِّبْحُ لَهُ، وَعَلَيْهِ بَدَل الْمَغْصُوبِ، وَهَذَا قِيَاسُ قَوْل الْخِرَقِيِّ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، فَكَانَ لَهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى لَهُ بِعَيْنِ الْمَال، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ حَصَل خُسْرَانٌ فَهُوَ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لأَِنَّهُ نَقْصٌ حَصَل فِي الْمَغْصُوبِ (2) .
__________
(1) فتح القدير لابن الهمام 7 / 373، وكفاية الطالب شرح الرسالة 2 / 222، ومغني المحتاج 2 / 291، والقليوبي وعميرة 3 / 38، ومطالب أولي النهى 4 / 62 - 64، وجواهر الإكليل 2 / 117 - 220، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 328
(2) المغني 5 / 275.(22/85)
الرِّبْحُ فِي الْمُضَارَبَةِ:
5 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَحْدِيدَ النِّسْبَةِ فِي قِسْمَةِ الرِّبْحِ مِنْ أَرْكَانِ صِحَّةِ عَقْدِ الْقِرَاضِ (الْمُضَارَبَةِ) وَيَكُونُ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْعَامِل عَلَى مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنَ التَّسَاوِي أَوِ التَّفَاضُل، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَامِل نِصْفُ الرِّبْحِ أَوْ ثُلُثُهُ، أَوْ رُبُعُهُ، أَوْ خُمُسُهُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ، أَيْ يَجُوزُ لِلْمَالِكِ أَنْ يَشْرِطَ لِنَفْسِهِ ثُلُثَيِ الرِّبْحِ، أَوْ ثُلُثَهُ، أَوْ رُبُعَهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ النِّسَبِ، كَثِيرَةً كَانَتْ أَوْ قَلِيلَةً، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَلَوْ قَال الْمَالِكُ لِلْعَامِل: خُذْ هَذَا الْمَال مُضَارَبَةً وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِي، أَوْ قَال: كُلُّهُ لَكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ رِعَايَةً لِلَّفْظِ؛ لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْتَضِي كَوْنَ الرِّبْحِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالرِّبْحِ انْتَفَى مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَفَسَدَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَكُونُ مُضَارَبَةً صَحِيحَةً فِي الصُّورَتَيْنِ؛ لأَِنَّهُمَا دَخَلاَ فِي التَّرَاضِي فَإِذَا شَرَطَ لأَِحَدِهِمَا الرِّبْحَ فَكَأَنَّهُ وَهَبَ الآْخَرَ نَصِيبَهُ فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَال: وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِي كَانَ إِبْضَاعًا صَحِيحًا؛ لأَِنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ حُكْمَ الإِْبْضَاعِ فَانْصَرَفَ إِلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلٌ آخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَالإِْبْضَاعُ بَعْثُ الْمَال مَعَ مَنْ يَتَّجِرُ فِيهِ مُتَبَرِّعًا، وَالْبِضَاعَةُ الْمَال الْمَبْعُوثُ، وَمِنَ الصِّيَغِ الصَّحِيحَةِ(22/85)
لِلإِْبْضَاعِ قَوْل الْمَالِكِ لِلْعَامِل: خُذْ هَذَا الْمَال فَاتَّجِرْ بِهِ أَوْ تَصَرَّفْ فِيهِ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِي، وَكَذَا قَوْلُهُ: أَبْضَعْتُكَ هَذَا الْمَال. أَمَّا إِذَا قَال: وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لَكَ، فَقَرْضٌ، وَقَدْ جَرَى مِثْل هَذَا الْخِلاَفِ فِيمَا إِذَا قَال: أَبْضَعْتُكَ عَلَى أَنَّ نِصْفَ الرِّبْحِ لَكَ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ قِرَاضٌ فَاسِدٌ رِعَايَةً لِلْمَعْنَى. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ إِبْضَاعٌ رِعَايَةً لِلَّفْظِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِبْضَاعٌ، مُضَارَبَةٌ، قَرْضٌ) .
الرِّبْحُ فِي الشَّرِكَةِ:
6 - الرِّبْحُ فِي الشَّرِكَةِ يَكُونُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ عَلَى مَا يَتَّفِقَانِ أَوْ يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ مِنْ نِصْفٍ، أَوْ ثُلُثٍ، أَوْ رُبُعٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، أَيْ يَجُوزُ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِيهِ مَعَ تَفَاضُلِهِمَا فِي الْمَال وَأَنْ يَتَفَاضَلاَ فِيهِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الْمَال؛ لأَِنَّ الْعَمَل مِمَّا يُسْتَحَقُّ بِهِ الرِّبْحُ، فَجَازَ أَنْ يَتَفَاضَلاَ فِي الرِّبْحِ مَعَ وُجُودِ الْعَمَل مِنْهُمَا؛ لأَِنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ يَكُونُ أَبْصَرَ بِالتِّجَارَةِ مِنَ الآْخَرِ وَأَقْوَى عَلَى الْعَمَل، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ زِيَادَةً فِي الرِّبْحِ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِهِ، كَمَا يَشْتَرِطُ الرِّبْحَ فِي مُقَابَلَةِ عَمَل الْمُضَارِبِ، وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ:
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 30، ومغني المحتاج 2 / 312، وحاشية ابن عابدين 4 / 483، وروضة الطالبين 5 / 122، وجواهر الإكليل 2 / 173.(22/86)
إِنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الشَّرِكَةِ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ فَإِنْ تَسَاوَى الْمَالاَنِ فَالرِّبْحُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا بِالتَّسَاوِي، وَإِنْ تَفَاضَل يَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا مُتَفَاضِلاً، سَوَاءٌ تَسَاوَيَا فِي الْعَمَل أَوْ تَفَاوَتَا فِيهِ؛ لأَِنَّ الرِّبْحَ هُوَ ثَمَرَةُ الْمَالَيْنِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى قَدْرِهِمَا، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا مِنَ الرِّبْحِ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ فِي الْمَال (1) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (شَرِكَة) .
زَكَاةُ رِبْحِ التِّجَارَةِ:
7 - يُضَمُّ الرِّبْحُ الْحَاصِل مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْل إِلَى الأَْصْل، وَذَلِكَ لأَِجْل حِسَابِ الزَّكَاةِ. فَلَوِ اشْتَرَى مَثَلاً عَرْضًا فِي شَهْرِ الْمُحَرَّمِ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ قَبْل آخِرِ الْحَوْل وَلَوْ بِلَحْظَةٍ ثَلاَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ زَكَّى الْجَمِيعَ آخِرَ الْحَوْل، سَوَاءٌ حَصَل الرِّبْحُ فِي نَفْسِ الْعَرَضِ كَسِمَنِ الْحَيَوَانِ، أَمْ بِارْتِفَاعِ الأَْسْوَاقِ، قِيَاسًا عَلَى النِّتَاجِ مَعَ الأُْمَّهَاتِ؛ وَلأَِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى حَوْل كُل زِيَادَةٍ مَعَ اضْطِرَابِ الأَْسْوَاقِ مِمَّا يَشُقُّ؛ وَلأَِنَّهُ نَمَاءٌ جَارٍ فِي الْحَوْل تَابِعٌ لأَِصْلِهِ فِي الْمِلْكِ فَكَانَ مَضْمُومًا إِلَيْهِ فِي الْحَوْل، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ هُوَ خِلاَفُ الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَضُمُّ الرِّبْحَ إِلَى الأَْصْل مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ
__________
(1) حاشية العدوي 2 / 188، والقوانين الفقهية ص 288، ومغني المحتاج 2 / 214(22/86)
نُضُوضٌ فَإِنْ كَانَ فَلاَ يَضُمُّ بَل يُزَكِّي الأَْصْل لِحَوْلِهِ وَيَسْتَأْنِفُ لِلرِّبْحِ حَوْلاً.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهُ يَبْنِي حَوْل كُل مُسْتَفَادٍ عَلَى حَوْل جِنْسِهِ نَمَاءً كَانَ أَوْ غَيْرَهُ (1) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةُ عُرُوضِ التِّجَارَةِ) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 3 / 37، ومغني المحتاج 1 / 398، 2 / 269، وروض الطالب 1 / 383، وحاشية العدوي 1 / 426.(22/87)
رَبَضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّبَضُ بِفَتْحَتَيْنِ مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: مَأْوَى الْغَنَمِ، يُقَال: رَبَضَتِ الدَّابَّةُ رَبْضًا وَرُبُوضًا. وَالرَّبَضُ وَالرُّبُوضُ لِلْغَنَمِ كَالْبُرُوكِ لِلإِْبِل، وَجَمْعُهُ أَرْبَاضٌ.
وَمِثْل الرَّبَضِ بِهَذَا الْمَعْنَى الْمَرْبِضُ، وَجَمْعُهُ مَرَابِضُ (1) .
وَفِي الْحَدِيثِ: مَثَل الْمُنَافِقِ مَثَل الشَّاةِ بَيْنَ الرَّبِيضَيْنِ (2) . أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْمَثَل قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ} (3) .
وَيُطْلَقُ الرَّبَضُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أ - مَا حَوْل الْمَدِينَةِ مِنْ بُيُوتٍ وَمَسَاكِنَ، كَمَا
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، مادة: (ربض) و (عطن) .
(2) حديث: " مثل المنافق مثل الشاة بين الربيضين " أخرجه أحمد (2 / 82 - ط الميمنية) من حديث عبد الله بن عمر، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (7 / 297 - 298 - ط المعارف) .
(3) سورة النساء / 143.(22/87)
يَقُولُونَ: لاَ بُدَّ لِلْقَصْرِ فِي السَّفَرِ مِنْ مُجَاوَزَةِ الْقَرْيَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِرَبَضِ الْمِصْرِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
ب - الْمَرْبِضُ، أَيْ مَأْوَى الْغَنَمِ وَبُرُوكِ الْبَهِيمَةِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفِنَاءُ:
2 - الْفِنَاءُ بِالْكَسْرِ: سَعَةٌ أَمَامَ الدَّارِ، وَفِنَاءُ الشَّيْءِ مَا اتَّصَل بِهِ مُعَدًّا لِمَصَالِحِهِ (2) .
وَفِنَاءُ الْبَلَدِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ: الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِمَصَالِحِ الْبَلَدِ كَرَكْضِ الدَّوَابِّ وَدَفْنِ الْمَوْتَى وَإِلْقَاءِ التُّرَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (3) .
ب - الْحَرِيمُ:
3 - حَرِيمُ الشَّيْءِ مَا حَوْلَهُ مِنْ حُقُوقٍ وَمَرَافِقَ، سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِ مَالِكِهِ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِالاِنْتِفَاعِ بِهِ (4) . قَال النَّوَوِيُّ: الْحَرِيمُ هُوَ الْمَوَاضِعُ الْقَرِيبَةُ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا لِتَمَامِ الاِنْتِفَاعِ كَالطَّرِيقِ وَمَسِيل الْمَاءِ وَنَحْوِهِمَا (5) .
وَيَخْتَلِفُ مِقْدَارُ الْحَرِيمِ بِاخْتِلاَفِ الْمَوَاضِعِ وَمَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 525، وكشاف القناع 4 / 23، وجواهر الإكليل 1 / 35
(2) المصباح المنير ولسان العرب، مادة: (فني) .
(3) التعريفات للجرجاني، وحاشية ابن عابدين 1 / 525، وحاشية الطحطاوي 1 / 330.
(4) المصباح المنير مادة: (حرم) .
(5) روضة الطالبين 5 / 282، 283(22/88)
يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَرِيمُ. كَحَرِيمِ الْقَرْيَةِ وَحَرِيمِ الدَّارِ، وَحَرِيمِ الْبِئْرِ وَحَرِيمِ النَّهْرِ وَنَحْوِهَا (1) . وَانْظُرْ: (حَرِيم) .
ج - الْعَطَنُ وَالْمَعْطَنُ:
4 - الْعَطَنُ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُنَحَّى إِلَيْهِ الإِْبِل عَنِ الْمَاءِ إِذَا شَرِبَتِ الشَّرْبَةَ الأُْولَى فَتَبْرُكُ فِيهِ، ثُمَّ يُمْلأَُ الْحَوْضُ لَهَا ثَانِيَةً فَتَعُودُ مِنْ عَطَنِهَا إِلَى الْحَوْضِ لِتَعِل، أَيْ تَشْرَبَ الشَّرْبَةَ الثَّانِيَةَ، وَهُوَ الْعَلَل.
وَيُسَمَّى الْمَوْضِعُ الَّذِي تَبْرُكُ فِيهِ الإِْبِل مَعْطَنًا أَيْضًا، وَجَمْعُهُ مَعَاطِنُ (2) . وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: لاَ تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الإِْبِل (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - الرَّبَضُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل، أَيْ مَا حَوْل الْمَدِينَةِ مِنْ بُيُوتٍ وَمَسَاكِنَ، ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَهُ فِي صَلاَةِ الْمُسَافِرِ، حَيْثُ اشْتَرَطُوا مُفَارَقَتَهُ لِقَصْرِ الصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ لِلْمُسَافِرِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يُشْتَرَطُ لِقَصْرِ الصَّلاَةِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 279، ونهاية المحتاج 5 / 330، والروضة 5 / 282، 283
(2) الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي / 101.
(3) حديث: " لا تصلوا في أعطان الإبل " أخرجه الترمذي (2 / 181 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة وقال: " حديث حسن صحيح ".(22/88)
الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ خُرُوجُ الْمُسَافِرِ مِنْ عِمَارَةِ مَوْضِعِ إِقَامَتِهِ مِنْ جَانِبِ خُرُوجِهِ، كَمَا يُشْتَرَطُ مُفَارَقَتُهُ تَوَابِعَ مَوْضِعِ الإِْقَامَةِ، كَرَبَضِ الْمَدِينَةِ - وَهُوَ مَا حَوْل الْمَدِينَةِ مِنْ بُيُوتٍ وَمَسَاكِنَ - فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمِصْرِ، وَكَذَا الْقُرَى الْمُتَّصِلَةُ بِالرَّبَضِ فِي الصَّحِيحِ. وَبِخِلاَفِ الْبَسَاتِينِ وَلَوْ مُتَّصِلَةً بِالْبِنَاءِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْبَلْدَةِ، وَلَوْ سَكَنَهَا أَهْل الْبَلْدَةِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ أَوْ بَعْضِهَا (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةُ الْمُسَافِرِ) .
صَلاَةُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فِي الأَْرْبَاضِ بِاعْتِبَارِهَا خَارِجَ الْبَلَدِ:
6 - لَمْ يَتَعَرَّضِ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فِي الأَْرْبَاضِ نَصًّا. وَالرَّبَضُ التَّابِعُ لِلْبَلَدِ لاَ يَجُوزُ الْقَصْرُ لِلْمُسَافِرِ قَبْل مُجَاوَزَتِهِ، فَتَجُوزُ فِيهِ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ إِذَا تَوَفَّرَتْ سَائِرُ شُرُوطِهَا، أَمَّا الأَْرْبَاضُ خَارِجَ الْبَلَدِ غَيْرُ التَّابِعَةِ لَهُ فَلاَ تَصِحُّ صَلاَةُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (2)) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 525، وحاشية الطحطاوي 1 / 330، وفتح القدير 2 / 8، والهندية 1 / 139، وجواهر الإكليل 1 / 88، ومغني المحتاج 1 / 263، 264، وحاشية القليوبي 1 / 256، وكشاف القناع 1 / 507، والمغني 2 / 259، 261
(2) ابن عابدين 1 / 525، 536، 537، وجواهر الإكليل 1 / 88، 93، 103، ومغني المحتاج 1 / 263، 280، وكشاف القناع 1 / 507.(22/89)
وَتَفْصِيلُهُ فِي: (صَلاَةُ الْجُمُعَةِ، وَصَلاَةُ الْعِيدِ) .
إِحْيَاءُ الأَْرْبَاضِ:
7 - الإِْحْيَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ لأَِرْضِ الْمَوَاتِ، وَالْمَوَاتُ اسْمٌ لِمَا لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ الأَْرْضِ الْخَرَابِ الدَّارِسَةِ. فَمَا لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لأَِحَدٍ، وَلاَ حَقًّا خَاصًّا لَهُ، وَلاَ حَرِيمًا لِمَعْمُورٍ، وَلاَ مُنْتَفَعًا بِهِ، يُعْتَبَرُ مَوَاتًا يَحِل إِحْيَاؤُهُ. وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَوَاتِ أَنْ لاَ يَكُونَ قَرِيبًا مِنَ الْقَرْيَةِ عُرْفًا (كَمَا هُوَ تَحْدِيدُ الْحَنَابِلَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ، أَوْ بِحَيْثُ يَصِل إِلَيْهِ صَوْتُ الْمُنَادِي مِنَ الْقَرْيَةِ كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ) وَذَلِكَ لأَِنَّ الْقَرِيبَ مِنَ الْقَرْيَةِ لاَ يَنْقَطِعُ ارْتِفَاقُ أَهْلِهَا عَنْهُ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَكُونُ مِنَ الْمَوَاتِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَالأَْرْبَاضُ لاَ تُعْتَبَرُ مَوَاتًا فَلاَ يَجُوزُ إِحْيَاؤُهَا (1) . وَتَفْصِيل مَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ وَمَا لاَ يَجُوزُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 11، 12، 16) .
الرَّبَضُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي: (مَأْوَى الْغَنَمِ) :
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الصَّلاَةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ إِذَا أُمِنَتِ النَّجَاسَةُ لِحَدِيثِ: صَلُّوا فِي
__________
(1) ابن عابدين 5 / 278، وجواهر الإكليل 2 / 202، والمواق 6 / 2 - 6، قليوبي 3 / 87، 88، 90، 91، والمغني 5 / 332، 563 - 566، وكشاف القناع 4 / 187.(22/89)
مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلاَ تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الإِْبِل (1) . وَلِحَدِيثِ: أَنَّ رَجُلاً سَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟ قَال: نَعَمْ. قَال: أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الإِْبِل؟ قَال: لاَ. (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة، وَمَكْرُوهَاتُ الصَّلاَةِ) .
__________
(1) حديث: " صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل " أخرجه الترمذي (2 / 181 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) فتح الباري 1 / 335، 342، 527، وعمدة القاري 3 / 157، 4 / 182، ابن عابدين 1 / 255، وجواهر الإكليل 1 / 35، والمجموع 3 / 160، 161، والمغني 2 / 67، 69، 71. وحديث: " أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أصلي في مرابض الغنم. . . " أخرجه مسلم (1 / 275 - ط الحلبي) من حديث جابر بن سمرة.(22/90)
رَبِيئَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّبِيئَةُ وَالرَّبِيءُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ الطَّلِيعَةِ - عَيْنُ الْقَوْمِ - يَرْقُبُ الْعَدُوَّ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ لِئَلاَّ يَدْهَمَ قَوْمَهُ، مِنْ رَبَأَ الْقَوْمَ يَرْبَؤُهُمْ رَبْئًا: اطَّلَعَ لَهُمْ عَلَى شَرَفٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ: مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَل رَجُلٍ رَأَى الْعَدُوَّ فَانْطَلَقَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ (1) .
قَال فِي اللِّسَانِ: وَإِنَّمَا أَنَّثُوهُ؛ لأَِنَّ الطَّلِيعَةَ يُقَال لَهُ الْعَيْنُ، وَالْعَيْنُ مُؤَنَّثَةٌ إِذْ بِعَيْنِهِ يَنْظُرُ وَيَرْعَى أُمُورَ الْقَوْمِ وَيَحْرُسُهُمْ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَال الْخَطَّابِيُّ: هُوَ الرَّقِيبُ الَّذِي يُشْرِفُ عَلَى الْمَرْقَبِ، وَيَنْظُرُ الْعَدُوَّ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَأْتِي، فَيُنْذِرُ أَصْحَابَهُ. وَلاَ يَكُونُ إِلاَّ عَلَى شَرَفٍ أَوْ جَبَلٍ أَوْ شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ (3) .
__________
(1) حديث: " مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو. . . . . . . . " أخرجه مسلم (1 / 193 - ط الحلبي) من حديث قبيصة بن المخارق وزهير بن عمرو.
(2) متن اللغة ولسان العرب، والصحاح مادة: (ربأ) ، المعجم الوسيط، والنهاية 1 / 179.
(3) الخطابي على أبي داود 1 / 136، وبذل المجهود 2 / 127.(22/90)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَاسُوسُ:
2 - الْجَاسُوسُ اسْمٌ لِمَنْ يَتَتَبَّعُ الأَْخْبَارَ وَيَفْحَصُ عَنْ بَوَاطِنِ الأُْمُورِ، مِنْ جَسَّ الأَْخْبَارَ وَتَجَسَّسَهَا أَيْ: تَتَبَّعَهَا. وَهُوَ صَاحِبُ الشَّرِّ، وَقِيل: يَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ (1) .
ب - الْمُرَابِطُ:
3 - الْمُرَابِطُ: الْمُقِيمُ فِي ثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ لإِِعْزَازِ الدِّينِ وَمُرَاقَبَةِ الْعَدُوِّ (2) .
ج - الْحَارِسُ:
4 - الْحَارِسُ: فَاعِلٌ مِنَ الْحِرَاسَةِ بِمَعْنَى الْحِفْظِ. وَجَمْعُهُ حُرَّاسٌ، وَحَرَسُ السُّلْطَانِ أَعْوَانُهُ.
فَالرَّبِيئَةُ وَالْحَارِسُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى (3) ، غَيْرَ أَنَّ الرَّبِيئَةَ يَكُونُ غَالِبًا عَلَى جَبَلٍ أَوْ شَرَفٍ مُرْتَفِعٍ وَلاَ يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْحَارِسِ.
د - الرَّصَدِيُّ:
5 - الرَّصَدِيُّ الَّذِي يَقْعُدُ عَلَى الطَّرِيقِ يَنْظُرُ النَّاسَ لِيَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا (4) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: (جس) .
(2) ابن عابدين 3 / 217، 218
(3) المصباح المنير ولسان العرب، مادة: (حرس) .
(4) المصباح المنير مادة: (رصد) .(22/91)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الرَّبِيئَةِ فِي الْغَنَائِمِ وَالْقَتْل وَقَطْعِ الطَّرِيقِ.
أَوَّلاً: فِي الْجِهَادِ وَالْغَنَائِمِ:
7 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ رَبِيئَةَ الْقَوْمِ فِي الْجِهَادِ مِنْهُمْ، وَيُسْهَمُ لَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ كَالْمُقَاتِلِينَ؛
لأَِنَّ مَصْلَحَةَ الْجِهَادِ تَقْتَضِي أَنْ يُقَاتِل بَعْضُ الْقَوْمِ، وَيَكُونَ بَعْضُهُمْ فِي الرِّدْءِ، وَبَعْضُهُمْ يَحْفَظُونَ السَّوَادَ، وَبَعْضُهُمْ فِي الْعُلُوفَةِ، وَلَوْ قَاتَل كُل الْجَيْشِ لَفَسَدَ التَّدْبِيرُ (1) .
حُكْمُ الرَّبِيئَةِ فِي الْقِصَاصِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَل الْجَمْعُ بِالْوَاحِدِ إِذَا اشْتَرَكَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي الْفِعْل الْمُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ، وَيُقْتَصُّ مِنْهُمْ جَمِيعًا إِذَا تَحَقَّقَتْ سَائِرُ شُرُوطِ الْقِصَاصِ، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص) .
وَإِذَا كَانَ مَعَهُمْ رَبِيئَةٌ وَلَمْ يَشْتَرِكْ مَعَهُمْ فِي الْفِعْل الْمُفْضِي لِلْمَوْتِ وَلَمْ يُبَاشِرْهُ فَالْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُتَّفِقًا مَعَهُمْ فِي قَصْدِ الْقَتْل أَمْ
__________
(1) شرح السير الكبير 3 / 1012، والمواق بهامش الحطاب 3 / 370، وبذل المجهول 2 / 127، وتخريج الدلالات السمعية للخزاعي 319 - 320(22/91)
لاَ؛ لأَِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ فِي الْقِصَاصِ الْمُبَاشَرَةَ مِنَ الْكُل (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُقْتَصُّ مِنْهُ إِذَا كَانَ مُتَمَالِئًا مَعَهُمْ، بِأَنْ قَصَدَ الْجَمِيعُ الْقَتْل وَحَضَرُوا وَإِنْ لَمْ يَتَوَلَّهُ إِلاَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوِ اسْتُعِينَ بِهِ أَعَانَهُ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ فِي الرِّدْءِ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص) .
حُكْمُ الرَّبِيئَةِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ:
9 - الرَّبِيئَةُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُبَاشِرِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ (الْحِرَابَةِ) فَيُقْتَل مَعَ الْمُحَارِبِينَ إِذَا حَصَل الْقَتْل وَلَوْ بَاشَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ الْمُحَارَبَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حُصُول الْمَنَعَةِ وَالْمُعَاضَدَةِ، وَمِنْ عَادَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الْمُبَاشَرَةُ مِنَ الْبَعْضِ وَالإِْعَانَةُ مِنَ الْبَعْضِ الآْخَرِ. بِخِلاَفِ سَائِرِ الْحُدُودِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ قَتَل مَنْ كَانَ رَبِيئَةً لِلَّذِينَ قَتَلُوا (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ أَعَانَ
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي مع حاشية الشلبي 6 / 114، ومغني المحتاج 4 / 22، ونهاية المحتاج 7 / 261، 263، والمغني لابن قدامة 7 / 671 - 674
(2) الدسوقي 4 / 245.
(3) فتح القدير 5 / 181، والبدائع 7 / 91، والمواق على الحطاب 6 / 316، والمدونة 6 / 301، والمغني لابن قدامة 8 / 297.(22/92)
قُطَّاعَ الطَّرِيقِ أَوْ كَثَّرَ جَمْعَهُمْ بِالْحُضُورِ أَوْ كَانَ عَيْنًا لَهُمْ، وَلَمْ يُبَاشِرْ بِنَفْسِهِ، بَل يُعَزَّرُ (1) .
(ر: قَطْعُ الطَّرِيقِ) .
__________
(1) المهذب 2 / 286، ومغني المحتاج 4 / 182.(22/92)
رَبِيبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّبِيبَةُ لُغَةً: هِيَ ابْنَةُ امْرَأَةِ الرَّجُل مِنْ غَيْرِهِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الرَّبِّ، وَهُوَ الإِْصْلاَحُ؛ لأَِنَّهُ يَقُومُ بِأُمُورِهَا وَيُصْلِحُ أَحْوَالَهَا، وَالْجَمْعُ رَبَائِبُ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: الرَّبِيبَةُ: بِنْتُ الزَّوْجَةِ، وَبِنْتُ ابْنِهَا، وَبِنْتُ بِنْتِهَا وَإِنْ سَفَلاَ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ وَارِثَةً أَوْ غَيْرَ وَارِثَةٍ. وَالاِبْنُ رَبِيبٌ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الرَّبِيبَةُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بِشَرْطِ دُخُول الرَّجُل بِأُمِّهَا، فَإِذَا دَخَل الرَّجُل بِزَوْجَتِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ رَبِيبَتُهُ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حِجْرِهِ أَمْ لَمْ تَكُنْ فِي قَوْل عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ ذِكْرَ الْحِجْرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} (3) خَرَجَ
__________
(1) طلبة الطلبة ص 41 - ط العامرة، وصحيح مسلم بشرح النووي 10 / 35، وعمدة القاري 9 / 396 - ط العامرة.
(2) المغني لابن قدامة 6 / 569 - ط الرياض، والقليوبي وعميرة 3 / 243.
(3) سورة النساء / 23.(22/93)
مَخْرَجَ الْعَادَةِ وَالْغَالِبِ، لاَ مَخْرَجَ الشَّرْطِ فَلاَ يَكُونُ لَهُ مَفْهُومٌ حِينَئِذٍ إِجْمَاعًا، وَلِهَذَا اكْتَفَى فِي مَوْضِعِ الإِْحْلاَل بِنَفْيِ الدُّخُول، وَلَمْ يَشْتَرِطْ نَفْيَ كَوْنِهَا فِي الْحِجْرِ مَعَ نَفْيِ الدُّخُول حَيْثُ لَمْ يَقُل فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَلَسْنَ فِي حُجُورِكُمْ، فَإِنَّ الإِْبَاحَةَ تَتَعَلَّقُ بِضِدِّ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُرْمَةُ (1) .
وَقَال عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَبَعْضُ النَّاسِ: لاَ تُحَرَّمُ الرَّبِيبَةُ عَلَى الرَّجُل إِلاَّ إِذَا كَانَتْ فِي حِجْرِهِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بِنْتَ الزَّوْجَةِ بِوَصْفِ كَوْنِهَا فِي حِجْرِ الزَّوْجِ فَيَتَقَيَّدُ التَّحْرِيمُ بِهَذَا الْوَصْفِ (2) .
هَذَا وَلِلْفُقَهَاءِ تَفَاصِيل (3) فِي مَعْنَى الدُّخُول الَّذِي يَقَعُ بِهِ تَحْرِيمُ الرَّبَائِبِ، وَفِي ثُبُوتِ حُرْمَةِ
__________
(1) عمدة القاري 9 / 396 - ط العامرة، الزيلعي 2 / 102، وفتح القدير والعناية 2 / 359 - ط الأميرية، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 3 / 462، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 51 - 52 نشر دار المعرفة، ومغني المحتاج 3 / 177 نشر دار إحياء التراث العربي، والمغني لابن قدامة 6 / 569
(2) أحكام القرآن للجصاص 2 / 129 نشر دار الكتاب العربي، بدائع الصنائع 2 / 159، والزيلعي 2 / 102، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 52، والمغني لابن قدامة 6 / 569.
(3) عمدة القاري 9 / 369، وفتح الباري 9 / 158 نشر السلفية، وبدائع الصنائع 2 / 260، والتاج والإكليل 3 / 462، وبداية المجتهد 2 / 33 - ط مصطفى الحلبي، والمغني 6 / 570، والفروع 5 / 195، 196(22/93)
الْمُصَاهَرَةِ بِالْخَلْوَةِ وَاللَّمْسِ وَالنَّظَرِ، وَفِي تَعَلُّقِ تِلْكَ الْحُرْمَةِ بِالزِّنَا وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ تُنْظَرُ فِي (مُحَرَّمَات) .
أَثَرُ مَوْتِ الزَّوْجَةِ فِي تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ:
3 - يَرَى عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الرَّجُل إِذَا تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ ثُمَّ مَاتَتْ قَبْل الدُّخُول بِهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهَا فَلاَ يَقُومُ الْمَوْتُ مَقَامَ الدُّخُول فِي التَّحْرِيمِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (1) . قَال صَاحِبُ الْمَبْسُوطِ: فَإِنَّ حُرْمَةَ الرَّبِيبَةِ فِي الآْيَةِ تَعَلَّقَتْ شَرْعًا بِشَرْطِ الدُّخُول فَلَوْ أَقَمْنَا الْمَوْتَ مَقَامَ الدُّخُول كَانَ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ نَصْبُ شَرْطٍ بِالرَّأْيِ لاَ يَجُوزُ إِقَامَةُ شَرْطٍ مَقَامَ شَرْطٍ بِالرَّأْيِ. وَلأَِنَّ الْفُرْقَةَ النَّاتِجَةَ عَنِ الْمَوْتِ فُرْقَةٌ قَبْل الدُّخُول فَلَمْ تُحَرِّمِ الرَّبِيبَةَ كَفُرْقَةِ الطَّلاَقِ (2) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ - وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَبِهِ قَال زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ -: إِنَّ الْمَوْتَ يَنْزِل مَنْزِلَةَ الدُّخُول فِي تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ؛ لأَِنَّ الْمَوْتَ أُقِيمَ مَقَامَ الدُّخُول فِي تَكْمِيل الْعِدَّةِ وَالصَّدَاقِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ (3) .
__________
(1) سورة النساء / 23.
(2) المبسوط للسرخسي 4 / 200، والمغني 6 / 570، وتحفة المحتاج 7 / 302.
(3) أحكام القرآن للجصاص 2 / 127، نشر دار الكتاب العربي، والمبسوط 4 / 200، والمغني 6 / 570، والفروع لابن مفلح 5 / 195.(22/94)
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ: (مُحَرَّمَات) (وَمَوْت) (وَدُخُول) .
تَحْرِيمُ بَنَاتِ الرَّبِيبَةِ وَبَنَاتِ أَبْنَائِهَا:
4 - تَثْبُتُ حُرْمَةُ بَنَاتِ الرَّبِيبَةِ وَبَنَاتِ أَبْنَائِهَا وَإِنْ سَفَلْنَ بِالإِْجْمَاعِ؛ وَلأَِنَّ الاِسْمَ يَشْمَلُهُنَّ (1) .
__________
(1) البحر الرائق 3 / 100، وفتح القدير 2 / 359، وبدائع الصنائع 2 / 259، 260، والفواكه الدواني 2 / 42، وتحفة المحتاج 7 / 302، والفروع 5 / 195(22/94)
رَتَقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّتْقُ لُغَةً: ضِدُّ الْفَتْقِ، وَقَدْ رَتَقْتُ الْفَتْقَ أَرْتُقُهُ فَارْتَتَقَ، أَيْ: الْتَأَمَ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} (1) .
وَالرَّتَقُ - بِالتَّحْرِيكِ - مَصْدَرُ قَوْلِكَ: رَتِقَتِ الْمَرْأَةُ تَرْتَقُ فَهِيَ رَتْقَاءُ بَيِّنَةُ الرَّتَقِ أَيْ: لاَ يُسْتَطَاعُ جِمَاعُهَا لاِرْتِتَاقِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْهَا، أَوْ لاَ خَرْقَ لَهَا إِلاَّ الْمَبَال خَاصَّةً (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى. فَقَدْ عَرَّفَ النَّوَوِيُّ الرَّتَقَ بِأَنَّهُ انْسِدَادُ مَحَل الْجِمَاعِ بِاللَّحْمِ (3) .
وَقَال الرَّحِيبَانِيُّ: الرَّتَقُ هُوَ كَوْنُ الْفَرْجِ مَسْدُودًا مُلْتَصِقًا لاَ يَسْلُكُهُ ذَكَرٌ بِأَصْل الْخِلْقَةِ (4) .
__________
(1) سورة الأنبياء / 30.
(2) الصحاح، والقاموس المحيط مادة: (رتق) ، والمطلع على أبواب المقنع 323
(3) روضة الطالبين 7 / 177.
(4) مطالب أولي النهى 3 / 108.(22/95)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَرَنُ:
2 - الْقَرَنُ مَا يَمْنَعُ سُلُوكَ الذَّكَرِ فِي الْفَرْجِ وَهُوَ إِمَّا غُدَّةٌ غَلِيظَةٌ أَوْ لَحْمَةٌ مُرْتَفِعَةٌ أَوْ عَظْمٌ، وَامْرَأَةٌ قَرْنَاءُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِهَا. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْقَرَنَ عَظْمٌ نَاتِئٌ مُحَدَّدُ الرَّأْسِ كَقَرْنِ الْغَزَالَةِ يَمْنَعُ الْجِمَاعَ (1) .
ب - الْعَفَل:
3 - الْعَفَل - بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْفَاءِ - لَحْمٌ يَبْرُزُ فِي قُبُل الْمَرْأَةِ، وَلاَ يَسْلَمُ غَالِبًا مِنْ رَشْحٍ يُشْبِهُ أُدْرَةَ الرَّجُل. وَقِيل: إِنَّهُ رَغْوَةٌ فِي الْفَرْجِ تَحْدُثُ عِنْدَ الْجِمَاعِ (2) .
قَال صَاحِبُ غَايَةِ الْمُنْتَهَى: إِنْ كَانَ الاِنْسِدَادُ بِأَصْل الْخِلْقَةِ فَهِيَ رَتْقَاءُ، وَإِلاَّ فَهِيَ قَرْنَاءُ وَعَفْلاَءُ. وَسَوَّى الأَْزْهَرِيُّ بَيْنَ الرَّتَقِ وَالْقَرَنِ وَالْعَفَل، ثُمَّ قَال: الْعَفَل لاَ يَكُونُ فِي الأَْبْكَارِ، إِنَّمَا يُصِيبُ الْمَرْأَةَ بَعْدَمَا تَلِدُ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَثَرُ الرَّتَقِ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ:
4 - يَعْتَبِرُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الرَّتَقَ مِنَ
__________
(1) تبيين الحقائق 3 / 25.
(2) الدسوقي 2 / 248، والزرقاني 4 / 237.
(3) مطالب أولي النهى 5 / 147، الزاهر للأزهري 316.(22/95)
الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ (1) .
فَالزَّوْجُ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ إِذَا كَانَتْ زَوْجَتُهُ رَتْقَاءَ حَال الْعَقْدِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا؛ لأَِنَّ الرَّتَقَ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْوَطْءُ، وَعَامَّةُ مَصَالِحِ النِّكَاحِ يَقِفُ حُصُولُهَا عَلَى الْوَطْءِ.
فَإِنَّ الْعِفَّةَ عَنِ الزِّنَا وَالسَّكَنَ وَالْوَلَدَ تَحْصُل بِالْوَطْءِ، وَالرَّتَقُ يَمْنَعُ مِنْهُ، فَلِهَذَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِهِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ بِالزَّوْجَةِ رَتَقٌ فَلاَ خِيَارَ لِلزَّوْجِ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ. وَبِهَذَا قَال عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو قِلاَبَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ، وَفِي الْمَبْسُوطِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (3) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ الرَّتَقَ لاَ يُخِل بِمُوجِبِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْحِل، فَلاَ يَثْبُتُ بِهِ خِيَارُ الْفَسْخِ كَالْعَمَى وَالشَّلَل وَالزَّمَانَةِ، فَأَمَّا الاِسْتِيفَاءُ فَهُوَ ثَمَرَةٌ وَفَوَاتُ الثَّمَرَةِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ.
نَظِيرُهُ أَنَّ الاِسْتِيفَاءَ يَفُوتُ بِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَلاَ يُوجِبُ ذَلِكَ انْفِسَاخَ النِّكَاحِ حَتَّى
__________
(1) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 83 دار المعرفة، والشرح الصغير 2 / 470، وروضة الطالبين 7 / 177، وأسنى المطالب 3 / 176، وفتح القدير 3 / 367.
(2) المغني 6 / 651، وبدائع الصنائع 2 / 327.
(3) البناية 4 / 763، وفتح القدير 3 / 267، وانظر المبسوط 5 / 96.(22/96)
لاَ يَسْقُطَ شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ. وَالرَّتَقُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ دُونَ الْمَوْتِ؛ لأَِنَّ الاِسْتِيفَاءَ هُنَا يَتَأَتَّى بِوَاسِطَةٍ، لإِِمْكَانِ شَقِّ الرَّتَقِ (1) .
إِجْبَارُ الرَّتْقَاءِ عَلَى مُدَاوَاةِ رَتَقِهَا:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرَّتْقَاءَ إِذَا طَلَبَ زَوْجُهَا الْفَسْخَ وَطَلَبَتِ التَّدَاوِيَ تُؤَجَّل لِذَلِكَ بِالاِجْتِهَادِ وَلاَ تُجْبَرُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ خِلْقَةً، وَيَلْزَمُ الرَّجُل الصَّبْرُ حَيْثُ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى مُدَاوَاتِهَا حُصُول عَيْبٍ فِي فَرْجِهَا. كَمَا أَنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ إِذَا طَلَبَهُ الزَّوْجُ إِذَا كَانَ لاَ ضَرَرَ عَلَيْهَا فِي الْمُدَاوَاةِ (2) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ إِجْبَارُ الرَّتْقَاءِ عَلَى شَقِّ الْمَوْضِعِ فَلَوْ فَعَلَتْ وَأَمْكَنَ الْوَطْءُ فَلاَ خِيَارَ لِزَوَال سَبَبِهِ (3) . وَقَال صَاحِبُ الدُّرِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لِلزَّوْجِ شَقُّ رَتَقِ زَوْجَتِهِ وَهَل تُجْبَرُ؟ الظَّاهِرُ: نَعَمْ؛ لأَِنَّ التَّسْلِيمَ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا لاَ يُمْكِنُ بِدُونِهِ.
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ عَابِدِينَ بِقَوْلِهِ: لَكِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ " لَهُ شَقُّ رَتَقِهَا " غَيْرُ مَنْقُولَةٍ وَإِنَّمَا الْمَنْقُول قَوْلُهُمْ فِي تَعْلِيل عَدَمِ الْخِيَارِ بِعَيْبِ الرَّتَقِ: " لإِِمْكَانِ شَقِّهِ " وَهَذَا لاَ يَدُل عَلَى أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَلِذَا قَال فِي
__________
(1) المبسوط وانظر البناية 4 / 765، بدائع الصنائع 2 / 328، والبحر الرائق 4 / 138.
(2) الفواكه الدواني 2 / 70، وحاشية الدسوقي 2 / 283، 284، نشر دار الفكر.
(3) روضة الطالبين 7 / 177، وأسنى المطالب 3 / 176.(22/96)
الْبَحْرِ بَعْدَ نَقْلِهِ التَّعْلِيل الْمَذْكُورَ: وَلَكِنْ مَا رَأَيْتُ هَل يُشَقُّ جَبْرًا أَمْ لاَ (1) ؟
وَلَمْ يُسْتَدَل عَلَى نَصٍّ لِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: لاَ يَثْبُتُ خِيَارٌ فِي عَيْبٍ زَال بَعْدَ عَقْدٍ لِزَوَال سَبَبِهِ (2) .
نَفَقَةُ الرَّتْقَاءِ:
6 - تَجِبُ النَّفَقَةُ لِلرَّتْقَاءِ سَوَاءٌ حَدَثَ الرَّتَقُ بَعْدَ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِلزَّوْجِ أَمْ قَارَنَهُ؛ لأَِنَّ الاِسْتِمْتَاعَ بِهَا مُمْكِنٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَلاَ تَفْرِيطَ مِنْ جِهَتِهَا. بِهَذَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِمُطِيقَةٍ بِهَا مَانِعٌ كَرَتَقٍ إِلاَّ أَنْ يَتَلَذَّذَ بِهَا عَالِمًا (4) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: نَفَقَة) .
قَسْمُ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ الرَّتْقَاءِ:
7 - يَقْسِمُ الزَّوْجُ وُجُوبًا لِزَوْجَتِهِ الرَّتْقَاءِ، لأَِنَّ الْقَصْدَ بِالْقَسْمِ الأُْنْسُ لاَ الْوَطْءُ (5) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 597، وحاشية الطحطاوي على الدر 2 / 213، والبحر الرائق 4 / 138.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 150.
(3) روضة الطالبين 9 / 60، والمغني 7 / 603، وفتح القدير والعناية 3 / 324، 327
(4) الدسوقي 2 / 452، وجواهر الإكليل 1 / 402
(5) مطالب أولي النهى 3 / 277، والمغني مع الشرح الكبير 8 / 139، والشرح الصغير 2 / 505 نشر دار المعارف، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 59، وابن عابدين 2 / 400، ومجمع الأنهر 1 / 359، وروضة الطالبين 7 / 345.(22/97)
هَذَا وَلِلتَّفْصِيل فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ الرَّتَقُ وَشَرْطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ بِهِ وَسَائِرِ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ يُنْظَرُ: (عَيْب، نِكَاح) .(22/97)
رِثَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الرِّثَاءِ فِي اللُّغَةِ: التَّرَحُّمُ عَلَى الْمَيِّتِ وَالتَّرَقُّقُ لَهُ، وَبُكَاؤُهُ وَمَدْحُهُ، وَتَعْدَادُ مَحَاسِنِهِ، وَنَظْمُ الشِّعْرِ فِيهِ. وَالْمَرْأَةُ الرَّثَّاءَةُ: الْكَثِيرَةُ الرِّثَاءِ لِبَعْلِهَا أَوْ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يُكْرَمُ عِنْدَهَا، وَرَثَيْتُ لَهُ: رَحِمْتُهُ، وَرَثَى لَهُ: رَقَّ لَهُ وَأَشْفَقَ عَلَيْهِ (1) .
وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ كَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: مَدْحُ الْمَيِّتِ وَذِكْرُ مَحَاسِنِهِ، وَذَكَرَ الْعَيْنِيُّ فِي عُمْدَةِ الْقَارِي أَنَّ مَعْنَاهُ تَعْدَادُ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّأْبِينُ:
2 - التَّأْبِينُ فِي اللُّغَةِ وَالاِصْطِلاَحِ: الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ. قَال فِي الْمِصْبَاحِ: أَبَّنْتُ الرَّجُل تَأْبِينًا إِذَا بَكَيْتَ وَأَثْنَيْتَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ (3) .
__________
(1) الصحاح واللسان والمصباح، مادة: (رثى) .
(2) فتح الباري 3 / 164 - ط الرياض، عمدة القاري 8 / 88 - ط المنيرية.
(3) الصحاح، مادة: (أبن) ، والكليات.(22/98)
ب - النَّدْبُ:
3 - النَّدْبُ مَصْدَرُ نَدَبَ وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ ذِكْرُ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ. قَال فِي الْمِصْبَاحِ: نَدَبَتِ الْمَرْأَةُ الْمَيِّتَ نَدْبًا مِنْ بَابِ قَتَل، وَهِيَ نَادِبَةٌ، وَالْجَمْعُ نَوَادِبُ، لأَِنَّهُ كَالدُّعَاءِ، فَإِنَّهَا تُقْبِل عَلَى تَعْدِيدِ مَحَاسِنِهِ كَأَنَّهُ يَسْمَعُهَا. وَمَعْنَاهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِثْلُهُ فِي اللُّغَةِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِتَرْثِيَةِ الْمَيِّتِ بِشِعْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَكِنْ يُكْرَهُ الإِْفْرَاطُ فِي مَدْحِهِ لاَ سِيَّمَا عِنْدَ جِنَازَتِهِ.
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ صَاحِبِ التَّتِمَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَرْثِيَةُ الْمَيِّتِ بِذِكْرِ آبَائِهِ، وَخَصَائِلِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَالأَْوْلَى الاِسْتِغْفَارُ لَهُ.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَا هَيَّجَ الْمُصِيبَةَ مِنْ وَعْظٍ أَوْ إِنْشَادِ شِعْرٍ فَمِنَ النِّيَاحَةِ أَيْ: الْمَنْهِيِّ عَنْهَا.
قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ (2) .
رَجَبٌ
انْظُرْ: الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ.
__________
(1) المصباح مادة: (ندب) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 603 - ط بولاق، الطحطاوي على الدر المختار 1 / 382 - ط بولاق، المجموع 5 / 216 - ط السلفية، الإنصاف 2 / 569 - ط التراث.(22/98)
رُجْحَانٌ (تَرْجِيحٌ)
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّجْحَانُ لُغَةً: اسْمُ مَصْدَرِ رَجَحَ الشَّيْءُ يَرْجَحُ رُجُوحًا إِذَا زَادَ وَزْنُهُ، وَيَتَعَدَّى بِالأَْلِفِ وَبِالتَّثْقِيل فَيُقَال: أَرْجَحْتُ الشَّيْءَ وَرَجَّحْتُهُ تَرْجِيحًا أَيْ فَضَّلْتُهُ وَقَوَّيْتُهُ. وَأَرْجَحْتُ الرَّجُل أَيْ أَعْطَيْتُهُ رَاجِحًا (1) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدْ عَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ التَّرْجِيحَ بِأَنَّهُ: إِظْهَارُ الزِّيَادَةِ لأَِحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الآْخَرِ بِمَا لاَ يَسْتَقِل " فَخَرَجَ بِقَوْلِهِمْ: (الْمُتَمَاثِلَيْنِ) النَّصُّ مَعَ الْقِيَاسِ، فَلاَ يُقَال: النَّصُّ رَاجِحٌ عَلَى الْقِيَاسِ لاِنْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ، وَلِعَدَمِ قِيَامِ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا مِنْ قَبِيل تَرْتِيبِ الأَْدِلَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ تَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مِنْ حَيْثُ الرُّتْبَةُ وَهُوَ غَيْرُ التَّرْجِيحِ.
كَمَا خَرَجَ بِقَوْلِهِمْ: (بِمَا لاَ يَسْتَقِل) الدَّلِيل الْمُسْتَقِل، فَإِذَا وَافَقَ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ دَلِيلاً مُنْفَرِدًا آخَرَ فَلاَ يُرَجَّحُ عَلَيْهِ، إِذْ لاَ تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الأَْدِلَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاِسْتِقْلاَل كُلٍّ مِنْ تِلْكَ الأَْدِلَّةِ بِإِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ، فَلاَ يَنْضَمُّ إِلَى الآْخَرِ وَلاَ يَتَّحِدُ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، مادة (رجح) .(22/99)
بِهِ لِيُفِيدَ تَقْوِيَتَهُ؛ لأَِنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يَتَقَوَّى بِصِفَةٍ تُوجَدُ فِي ذَاتِهِ لاَ بِانْضِمَامِ مِثْلِهِ إِلَيْهِ.
وَلِذَا عَرَّفَ صَاحِبُ الْمَنَارِ التَّرْجِيحَ بِأَنَّهُ: فَضْل أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ عَلَى الآْخَرِ وَصْفًا " أَيْ وَصْفًا تَابِعًا لاَ أَصْلاً، وَلِذَا فَلاَ يَتَرَجَّحُ الْقِيَاسُ عَلَى قِيَاسٍ آخَرَ يُعَارِضُهُ بِقِيَاسٍ آخَرَ يَنْضَمُّ إِلَيْهِ يُوَافِقُهُ فِي الْحُكْمِ، أَمَّا إِذَا وَافَقَهُ فِي الْعِلَّةِ فَإِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ مِنْ كَثْرَةِ الأَْدِلَّةِ بَل مِنْ كَثْرَةِ الأُْصُول، وَبِالتَّالِي يُفِيدُ التَّرْجِيحَ بِالْكَثْرَةِ؛ لأَِنَّ التَّعَدُّدَ فِي الْعِلَّةِ يُفِيدُ التَّعَدُّدَ فِي الْقِيَاسِ. وَكَذَا لاَ يَتَرَجَّحُ الْحَدِيثُ عَلَى حَدِيثٍ آخَرَ يُعَارِضُهُ بِحَدِيثٍ آخَرَ، وَلاَ بِنَصِّ الْكِتَابِ كَذَلِكَ (1) .
وَعَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ - وَمَنْ وَافَقَهُمْ - التَّرْجِيحَ بِأَنَّهُ: اقْتِرَانُ أَحَدِ الصَّالِحَيْنِ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَعَ تَعَارُضِهِمَا بِمَا يُوجِبُ الْعَمَل بِهِ وَإِهْمَال الآْخَرِ ".
وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ (أَحَدِ الصَّالِحَيْنِ) عَنْ غَيْرِ الصَّالِحَيْنِ لِلدَّلاَلَةِ، وَلاَ أَحَدِهِمَا.
وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ (مَعَ تَعَارُضِهِمَا) عَنِ الصَّالِحَيْنِ اللَّذَيْنِ لاَ تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا.
وَبِقَوْلِهِ (بِمَا يُوجِبُ الْعَمَل) عَمَّا اخْتَصَّ بِهِ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ عَنِ الآْخَرِ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ أَوِ الْعَرَضِيَّةِ وَلاَ مَدْخَل لَهَا فِي التَّقْوِيَةِ وَالتَّرْجِيحِ (2) .
__________
(1) تيسير التحرير 3 / 153، وفتح الغفار شرح المنار 2 / 52.
(2) الإحكام في أصول الأحكام 4 / 239.(22/99)
وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَخْلَصَ مِنَ التَّعْرِيفَيْنِ السَّابِقَيْنِ أَنَّ الرَّاجِحَ هُوَ: مَا ظَهَرَ فَضْلٌ فِيهِ عَلَى مُعَادِلِهِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَمْعُ:
2 - الْجَمْعُ إِعْمَال الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِحَمْل كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهٍ (2) .
ب - النَّسْخُ:
3 - النَّسْخُ رَفْعُ الشَّارِعِ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ (3) .
ج - التَّعَارُضُ:
4 - التَّعَارُضُ: التَّمَانُعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ مُطْلَقًا بِحَيْثُ يَقْتَضِي أَحَدُهُمَا غَيْرَ مَا يَقْتَضِي الآْخَرُ وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَعَارُض) ج 12 ص 184
أَحْكَامُ التَّرْجِيحِ:
يَتَعَلَّقُ بِالتَّرْجِيحِ أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (تَعَارُض) .
وَأَحْكَامٌ أُصُولِيَّةٌ مُجْمَلُهَا فِيمَا يَلِي:
__________
(1) تيسير التحرير 3 / 153.
(2) تيسير التحرير 3 / 173، وجمع الجوامع بحاشية العطار 2 / 405.
(3) مسلم الثبوت 2 / 53.(22/100)
حُكْمُ الْعَمَل بِالدَّلِيل الرَّاجِحِ:
5 - يَجِبُ الْعَمَل بِالدَّلِيل الرَّاجِحِ وَإِهْمَال الْمَرْجُوحِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ صَحِيحٍ. دَل عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ عَلَى تَقْدِيمِ بَعْضِ الأَْخْبَارِ عَلَى بَعْضٍ لِقُوَّةِ الظَّنِّ، بِسَبَبِ عِلْمِ الرُّوَاةِ وَكَثْرَتِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ وَعُلُوِّ مَنْصِبِهِمْ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ تَقْدِيمُهُمْ خَبَرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ - أَوْ مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ - فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْل (1) عَلَى خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ (2) .
وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُهُمْ خَبَرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا وَهُوَ صَائِمٌ (3) عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلاَ صَوْمَ لَهُ (4)
__________
(1) حديث: " إذا التقى الختانان أو مس الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل " أخرجه الشافعي في الأم (1 / 37 - نشر دار المعرفة) وأصله في مسلم (1 / 272 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إنما الماءُ من الماء " أخرجه مسلم 1 / 269 - ط الحلبي.
(3) حديث: " كان يصبح جنبًا وهو صائم " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 143 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 780 - ط الحلبي) .
(4) حديث: " من أصبح جنبًا فلا صوم له " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 143 - ط السلفية) ، ومسلم 2 / 779 - 780 - ط الحلبي) ، وبين فيهما أنه لم يسمع ذلك من النبي صلى اله عليه وسلم، بل سمعه من الفضل بن عباس.(22/100)
فَقَدَّمُوا خَبَرَهَا عَلَى خَبَرِهِ لِكَوْنِهَا أَعْرَفَ بِحَال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا تَقْرِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا (1) عَلَى تَرْتِيبِ الأَْدِلَّةِ وَتَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّرْجِيحِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ نَظِيرُهُ. وَإِذَا كَانَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ رَاجِحًا فَالْعُقَلاَءُ يُوجِبُونَ بِعُقُولِهِمُ الْعَمَل بِالرَّاجِحِ، وَالأَْصْل تَنْزِيل التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَنْزِلَةَ التَّصَرُّفَاتِ الْعُرْفِيَّةِ، وَلِهَذَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ (2) .
وَكَذَلِكَ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ كَوْنُ الْفَرْعِ أَشْبَهَ بِأَحَدِ الأَْصْلَيْنِ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ بِالإِْجْمَاعِ، فَقَدْ فُهِمَ مِنْ أُصُول الشَّرِيعَةِ اعْتِبَارُ مَا هُوَ عَادَةٌ لِلنَّاسِ فِي تِجَارَتِهِمْ، وَسُلُوكِهِمُ الطُّرُقَ، فَإِنَّهُمْ عِنْدَ تَعَارُضِ الأَْسْبَابِ الْمَخُوفَةِ يُرَجِّحُونَ وَيَمِيلُونَ إِلَى الأَْسْلَمِ (3) .
__________
(1) " تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن قاضيًا ": أخرجه الترمذي (3 / 607 - ط الحلبي) وقال: " هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل ".
(2) حديث: " ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن " ورد موقوفًا على ابن مسعود، أخرجه أحمد في المسند (1 / 379 - ط الميمنية) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1 / 177 - 178 - ط القدسي) : " رجاله موثقون ".
(3) الإحكام في أصول الأحكام 4 / 240، والمستصفى 2 / 394، وجمع الجوامع 2 / 404.(22/101)
الطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى مَعْرِفَةِ الرَّاجِحِ مِنَ الأَْدِلَّةِ:
6 - وَضَعَ الأُْصُولِيُّونَ جُمْلَةً مِنْ قَوَاعِدِ التَّرْجِيحِ لِمَعْرِفَةِ الرَّاجِحِ مِنَ الأَْدِلَّةِ الْمُتَعَارِضَةِ، وَقُسِّمَتْ هَذِهِ الْقَوَاعِدُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: قَوَاعِدُ التَّرْجِيحِ بَيْنَ خَبَرَيْنِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: قَوَاعِدُ التَّرْجِيحِ بَيْنَ قِيَاسَيْنِ.
وَالْمُرَجِّحَاتُ لاَ تَنْحَصِرُ لِكَثْرَتِهَا، وَضَابِطُهَا غَلَبَةُ الظَّنِّ وَقُوَّتُهُ.
7 - الْقِسْمُ الأَْوَّل: قَوَاعِدُ التَّرْجِيحِ بَيْنَ مَنْقُولَيْنِ وَتَتَنَوَّعُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّنَدِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَتْنِ وَدَلاَلَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ خَارِجٍ.
8 - النَّوْعُ الأَْوَّل: هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّنَدِ وَهُوَ عِدَّةُ أُمُورٍ، مِنْهَا:
1 - أَنْ تَكُونَ رُوَاةُ أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ رُوَاةِ الآْخَرِ فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ رُجْحَانُهُ لِقِلَّةِ احْتِمَال الْغَلَطِ.
2 - أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَالآْخَرُ مِنْ صِغَارِهِمْ.
3 - أَنْ يَتَقَدَّمَ إِسْلاَمُ أَحَدِ الرَّاوِيَيْنِ عَلَى الآْخَرِ.
4 - يُرَجَّحُ الْمُتَوَاتِرُ عَلَى الآْحَادِ.
5 - يُرَجَّحُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا لاَ تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، حَيْثُ إِنَّ(22/101)
تَفَرُّدَ الْوَاحِدِ بِنَقْل مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ طَرِيقٍ قَرِيبٌ مِنَ الْكَذِبِ.
9 - النَّوْعُ الثَّانِي: قَوَاعِدُ التَّرْجِيحِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَتْنِ وَدَلاَلَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ.
1 - أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ أَمْرًا دَالًّا عَلَى الْوُجُوبِ وَالثَّانِي نَهْيًا دَالًّا عَلَى الْحَظْرِ، فَالدَّال عَلَى الْحَظْرِ مُرَجَّحٌ عَلَى الدَّال عَلَى الْوُجُوبِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ تَرْجِيحُ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلاَةِ فِي الأَْوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ (1) عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا (2) وَمَنْ قَال بِأَنَّ الصَّلاَةَ ذَاتَ السَّبَبِ تُصَلَّى فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ - وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ - اسْتَفَادُوا هَذَا مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ أَفَادَ خُصُوصِيَّةَ الصَّلاَةِ ذَاتِ السَّبَبِ فَخَصُّوا بِهِ عُمُومَ حَدِيثِ النَّهْيِ.
2 - أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا دَالًّا عَلَى الْحَظْرِ وَالآْخَرُ عَلَى الإِْبَاحَةِ:
وَلِلأُْصُولِيِّينَ اتِّجَاهَاتٌ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ الْحَظْرَ عَلَى الإِْبَاحَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ الإِْبَاحَةَ عَلَى الْحَظْرِ.
__________
(1) حديث النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة. أخرجه مسلم (1 / 570 - ط الحلبي) من حديث عمرو بن عبسة.
(2) حديث: " من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها " أخرجه مسلم (1 / 477 - ط الحلبي) من حديث أنس.(22/102)
وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ فَيَتَسَاقَطَانِ لِتَسَاوِي الْمُثْبِتِ مَعَ النَّافِي.
3 - يُرَجَّحُ الدَّال عَلَى الْوُجُوبِ وَالْكَرَاهَةِ وَالنَّدْبِ عَلَى الدَّال عَلَى الإِْبَاحَةِ.
4 - يُرَجَّحُ الْحَقِيقِيُّ عَلَى الْمَجَازِيِّ لِعَدَمِ افْتِقَارِ الْحَقِيقِيِّ لِلْقَرِينَةِ.
5 - يُرَجَّحُ مَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ وَلاَ حَذْفٍ عَلَى مَا احْتَاجَ إِلَيْهِمَا.
6 - أَنْ تَكُونَ دَلاَلَةُ أَحَدِهِمَا مُؤَكَّدَةً دُونَ الأُْخْرَى، فَيُرَجَّحُ الْمُؤَكَّدُ عَلَى غَيْرِهِ لأَِنَّهُ أَقْوَى دَلاَلَةً كَحَدِيثِ: فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ (1) .
7 - يُرَجَّحُ مَا دَل بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ عَلَى مَا دَل بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ لِلاِخْتِلاَفِ فِيهِ دُونَ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ. وَفِي قَوْلٍ يُرَجَّحُ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ عَلَى الْمُوَافَقَةِ؛ لأَِنَّ الْمُخَالَفَةَ تُفِيدُ التَّأْسِيسَ دُونَ الْمُوَافَقَةِ.
10 - النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرْجِيحِ بِأَمْرٍ خَارِجٍ وَقَدْ أَثْبَتَهُ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ:
وَذَكَرَ الآْمِدِيُّ مِنْ ذَلِكَ:
1 - أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ مُوَافِقًا لِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ عَقْلٍ أَوْ حِسٍّ،
__________
(1) حديث: " فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل " أخرجه الترمذي (3 / 399 - ط الحلبي) من حديث عائشة، وقال: " هذا حديث حسن ".(22/102)
فَيُرَجَّحُ عَلَى مُعَارِضِهِ؛ لأَِنَّ الْعَمَل بِهِ يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ دَلِيلَيْنِ.
2 - يَتَرَجَّحُ مَا عَمِل بِمُقْتَضَاهُ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ أَوِ الأَْئِمَّةُ الأَْرْبَعَةُ.
3 - أَنْ يَكُونَ كِلاَ الْحَدِيثَيْنِ مُؤَوَّلاً إِلاَّ أَنَّ دَلِيل التَّأْوِيل فِي أَحَدِهِمَا أَرْجَحُ مِنْ دَلِيل الآْخَرِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ.
4 - يُرَجَّحُ مَا ذُكِرَ فِيهِ سَبَبُ وُرُودِهِ عَلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ السَّبَبُ؛ لأَِنَّ ذِكْرَ السَّبَبِ مُشْعِرٌ بِزِيَادَةِ الاِهْتِمَامِ بِمَا رَوَاهُ (1) .
11 - الْقِسْمُ الثَّانِي: التَّرْجِيحُ بَيْنَ قِيَاسَيْنِ:
1 - يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ بِرُجْحَانِ دَلِيل حُكْمِ الأَْصْل فِي أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ عَلَى دَلِيل حُكْمِ الأَْصْل فِي الْقِيَاسِ الآْخَرِ.
2 - يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْفَرْعُ مِنْ جِنْسِ الأَْصْل عَلَى الْقِيَاسِ الَّذِي لَيْسَ كَذَلِكَ لأَِنَّ الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ أَشْبَهُ.
3 - تُرَجَّحُ عِلَّةُ الْقِيَاسِ الأَْقْوَى مَسْلَكًا عَلَى الأَْضْعَفِ.
فَيُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الْمَنْصُوصُ عَلَى عِلَّتِهِ صَرِيحًا عَلَى مَا ثَبَتَتْ عِلَّتُهُ بِالإِْيمَاءِ وَالإِْشَارَةِ لِقُوَّةِ التَّصْرِيحِ. وَيُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الَّذِي ثَبَتَتْ عِلَّتُهُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ عَلَى مَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، وَمَا ثَبَتَتْ
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام 4 / 242 - 268، وتيسير التحرير 3 / 157 - 168، وجمع الجوامع بحاشية العطار 2 / 406 - 420، ومسلم الثبوت 2 / 204 - 210(22/103)
بِالإِْيمَاءِ عَلَى مَا ثَبَتَتْ بِالْمُنَاسَبَةِ وَبِالدَّوَرَانِ.
وَيُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (قِيَاس) لِلتَّفْصِيل فِي مَسَالِكِ الْعِلَّةِ وَتَرْتِيبِهَا قُوَّةً وَضَعْفًا.
وَتُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْمُوَافِقَةُ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ عَلَى غَيْرِهَا لِقُوَّةِ الأُْولَى وَلِكَثْرَةِ مَا يَشْهَدُ لَهَا.
وَحَيْثُ رَجَحَتِ الْعِلَّةُ فِي كُل مَا تَقَدَّمَ فَيَتْبَعُهُ تَرْجِيحُ الْقِيَاسِ الَّذِي بُنِيَتْ عَلَيْهِ (1) .
وَالْمُرَجِّحَاتُ فِي الأَْقْسَامِ السَّابِقَةِ كَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ. وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعَارُض) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ (12 184) حَيْثُ تَقَدَّمَ هُنَاكَ أَحْكَامُ التَّرْجِيحِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ، وَتَعَارُضِ الأَْدِلَّةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ، وَتَعَارُضِ تَعْدِيل الشُّهُودِ وَتَجْرِيحِهِمْ، وَالتَّرْجِيحِ فِي حَال احْتِمَال بَقَاءِ الإِْسْلاَمِ وَحُدُوثِ الرِّدَّةِ، وَتَعَارُضِ الأَْحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، وَتَعَارُضِ الأَْصْل وَالظَّاهِرِ، وَمَا يَنْبَنِي عَلَى كُلٍّ مِنْ مَسَائِل.
رِجْسٌ
انْظُرْ: نَجَاسَة
__________
(1) جمع الجوامع بحاشية العطار 2 / 416 - 420، وتيسير التحرير 4 / 78 - 97(22/103)
رَجْعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّجْعَةُ اسْمُ مَصْدَرِ رَجَعَ، يُقَال: رَجَعَ عَنْ سَفَرِهِ، وَعَنِ الأَْمْرِ يَرْجِعُ رَجْعًا وَرُجُوعًا وَرُجْعَى وَمَرْجِعًا، قَال ابْنُ السِّكِّيتِ: هُوَ نَقِيضُ الذَّهَابِ، وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى فَيُقَال: رَجَعْتُهُ عَنِ الشَّيْءِ وَإِلَيْهِ، وَرَجَعْتُ الْكَلاَمَ وَغَيْرَهُ أَيْ رَدَدْتُهُ قَال تَعَالَى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} (1)
وَرَجَعَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى أَهْلِهَا بِمَوْتِ زَوْجِهَا أَوْ بِطَلاَقٍ، فَهِيَ رَاجِعَةٌ، وَالرَّجْعَةُ بِالْفَتْحِ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ، وَالرَّجْعَةُ بَعْدَ الطَّلاَقِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ (2) .
وَالرَّجْعِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى الرَّجْعَةِ، وَالطَّلاَقُ الرَّجْعِيُّ: مَا يَجُوزُ مَعَهُ لِلزَّوْجِ رَدُّ زَوْجَتِهِ فِي عِدَّتِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَعَدَّدَتْ تَعْرِيفَاتُ الْفُقَهَاءِ لِلرَّجْعَةِ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:
__________
(1) سورة التوبة / 83.
(2) المعجم الوسيط، والمصباح المنير، مادة: (رجع) .(22/104)
عَرَّفَهَا الْعَيْنِيُّ بِأَنَّهَا اسْتِدَامَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ.
وَعَرَّفَهَا صَاحِبُ الْبَدَائِعِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا " اسْتِدَامَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ الْقَائِمِ وَمَنْعُهُ مِنَ الزَّوَال (1) ".
وَعَرَّفَهَا الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهَا " عَوْدُ الزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ لِلْعِصْمَةِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ عَقْدٍ (2) ".
وَعَرَّفَهَا الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِقَوْلِهِ: رَدُّ الْمَرْأَةِ إِلَى النِّكَاحِ مِنْ طَلاَقٍ غَيْرِ بَائِنٍ فِي الْعِدَّةِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ (3) .
وَعَرَّفَهَا الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهَا " إِعَادَةُ مُطَلَّقَةٍ غَيْرِ بَائِنٍ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عَقْدٍ (4) ".
دَلِيل مَشْرُوعِيَّةِ الرَّجْعَةِ وَحِكْمَتُهَا:
2 - إِنَّ ارْتِجَاعَ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الإِْصْلاَحِ، لِذَلِكَ نَجِدُ الشَّرِيعَةَ الإِْسْلاَمِيَّةَ قَدْ نَظَّمَتْ أَحْكَامَهَا. . وَقَدْ أَشَارَ الْكَاسَانِيُّ إِلَى حِكْمَةِ الرَّجْعَةِ بِقَوْلِهِ: " إِنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إِلَى
__________
(1) البناية على الهداية 4 / 591 ط دار الفكر للطباعة والنشر، وبدائع الصنائع 3 / 181 ط دار الكتاب العربي، بيروت.
(2) الشرح الكبير ص 369 ط المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة، والخرشي 4 / 79 ط - دار صادر بيروت.
(3) مغني المحتاج 3 / 335 ط - عيسى الحلبي.
(4) كشاف القناع 5 / 341، الناشر دار الباز - مكة، والروض المربع شرح زاد المستقنع 6 / 601 ط - بساط بيروت.(22/104)
الرَّجْعَةِ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ قَدْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يَنْدَمُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا أَشَارَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَل جَلاَلُهُ بِقَوْلِهِ: {لاَ تَدْرِي لَعَل اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (1) فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّدَارُكِ، فَلَوْ لَمْ تَثْبُتِ الرَّجْعَةُ لاَ يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ، لِمَا عَسَى أَنْ لاَ تُوَافِقَهُ الْمَرْأَةُ فِي تَجْدِيدِ النِّكَاحِ وَلاَ يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا فَيَقَعُ فِي الزِّنَا (2) " لِذَا شُرِعَتِ الرَّجْعَةُ لِلإِْصْلاَحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَهَذِهِ حِكْمَةٌ جَلِيلَةٌ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ.
3 - وَقَدْ ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الرَّجْعَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:
- أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا} (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} (4) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا (5) ، فَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ
__________
(1) سورة الطلاق / 1.
(2) بدائع الصنائع 3 / 181.
(3) سورة البقرة / 228.
(4) سورة البقرة / 231.
(5) حديث عمر بن الخطاب أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها. أخرجه أبو داود (2 / 712 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (2 / 197 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(22/105)
حَفْصَةَ تَطْلِيقَةً، فَأَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَال: يَا مُحَمَّدُ، طَلَّقْتَ حَفْصَةَ وَهِيَ صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وَهِيَ زَوْجَتُكَ فِي الْجَنَّةِ؟ فَرَاجِعْهَا (1) .
وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّاسُ وَالرَّجُل يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ مَا شَاءَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَهِيَ امْرَأَتُهُ إِذَا ارْتَجَعَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ طَلَّقَهَا مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ، حَتَّى قَال رَجُلٌ لاِمْرَأَتِهِ: وَاللَّهِ لاَ أُطَلِّقُكِ فَتَبِينِي مِنِّي وَلاَ آوِيكِ أَبَدًا، قَالَتْ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَال: أُطَلِّقُكِ فَكُلَّمَا هَمَّتْ عِدَّتُكِ أَنْ تَنْقَضِيَ رَاجَعْتُكِ، فَذَهَبَتِ الْمَرْأَةُ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ فَأَخْبَرَتْهَا فَسَكَتَتْ عَائِشَةُ حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَل الْقُرْآنُ: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (2)
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَاسْتَأْنَفَ النَّاسُ الطَّلاَقَ مُسْتَقْبَلاً، مَنْ كَانَ طَلَّقَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ طَلَّقَ (3) .
__________
(1) حديث أنس: " أن النبي (طلق حفصة. . . . " أخرجه الحاكم (4 / 15 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وضعف الذهبي أحد رواته في ميزان الاعتدال 1 / 482 - ط الحلبي.
(2) سورة البقرة / 229.
(3) حديث عائشة: " كان الناس والرجل يطلق امرأته " أخرجه الترمذي (3 / 488 - ط الحلبي) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ثم أسنده مرة أخرى عن هشام بن عروة عن أبيه دون ذكر عائشة، وقال: " هذا أصح يعني مرسلاً ".(22/105)
وَالإِْمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ بِقَصْدِ الإِْصْلاَحِ لاَ الإِْضْرَارِ (1) .
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الرَّجْعَةِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ شُرُوطِهَا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَقَدْ جَاءَ فِي الرَّوْضِ الْمُرْبِعِ مَا نَصُّهُ " قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ إِذَا طَلَّقَ دُونَ الثَّلاَثِ، وَالْعَبْدَ دُونَ اثْنَتَيْنِ، أَنَّ لَهُمَا الرَّجْعَةَ فِي الْعِدَّةِ (2) "
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الأَْصْل فِي الرَّجْعَةِ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ وَهِيَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا} (3) . وَتَكُونُ الرَّجْعَةُ وَاجِبَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِذَا طَلَّقَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً فِي حَالَةِ حَيْضٍ فَهَذَا طَلاَقٌ بِدْعِيٌّ يَسْتَوْجِبُ التَّصْحِيحَ، وَالتَّصْحِيحُ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِالرَّجْعَةِ.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَل عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَال: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 191، 199
(2) الروض المربع 6 / 601.
(3) سورة البقرة / 228.(22/106)
بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْل أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ (1) .
وَتُسَنُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (2) .
وَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مَنْدُوبَةً، وَذَلِكَ فِي حَالَةِ نَدَمِ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلاَقِ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ هُنَاكَ أَوْلاَدٌ تَقْتَضِي الْمَصْلَحَةُ نَشْأَتَهُمْ فِي ظِل الأَْبَوَيْنِ لِيُدَبِّرَا شُؤُونَهُمْ، فَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مَنْدُوبَةً تَحْصِيلاً لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي نَدَبَ إِلَيْهَا الشَّارِعُ الْحَكِيمُ، فَقَدْ حَضَّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الآْيَاتِ عَلَى الصُّلْحِ وَالتَّوْفِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، قَال تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (3) وَقَال تَعَالَى: {وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْل بَيْنَكُمْ} (4) .
وَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مُحَرَّمَةً إِذَا قَصَدَ الزَّوْجُ الإِْضْرَارَ بِالْمَرْأَةِ فَيُرَاجِعُهَا لِيُلْحِقَ بِهَا الأَْذَى وَالضَّرَرَ، وَقَدْ نَهَى الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (5) فِي هَذِهِ الآْيَةِ يَنْهَى اللَّهُ
__________
(1) حديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض. . . أخرجه البخاري (الفتح 9 / 345 - 346 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1093 - ط الحلبي) ، واللفظ للبخاري.
(2) الاختيار 3 / 122 - 123، الخرشي على خليل 4 / 27، ومغني المحتاج 2 / 309، وكشاف القناع 5 / 24.
(3) سورة النساء / 128.
(4) سورة البقرة / 238.
(5) تفسير القرطبي عند الآية 231 من سورة البقرة.(22/106)
تَعَالَى الأَْزْوَاجَ أَنْ يُمْسِكُوا زَوْجَاتِهِمْ بِقَصْدِ إِضْرَارِهِنَّ وَأَذَاهُنَّ، وَالنَّهْيُ يُفِيدُ التَّحْرِيمَ، فَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مُحَرَّمَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَمَعَ هَذَا تَكُونُ الرَّجْعَةُ صَحِيحَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ قَال الْقُرْطُبِيُّ: مَنْ فَعَل ذَلِكَ فَالرَّجْعَةُ صَحِيحَةٌ، وَلَوْ عَلِمْنَا نَحْنُ ذَلِكَ الْمَقْصِدَ طَلَّقْنَا عَلَيْهِ (2) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لاَ يُمَكَّنُ مِنَ الرَّجْعَةِ إِلاَّ مَنْ أَرَادَ إِصْلاَحًا وَأَمْسَكَ بِمَعْرُوفٍ (3) . وَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مَكْرُوهَةً إِذَا ظَنَّ الزَّوْجُ أَنَّهُ لَنْ يُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ الإِْحْسَانُ إِلَى زَوْجَتِهِ، فَتَكُونُ الرَّجْعَةُ فِي حَقِّهِ مَكْرُوهَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
شُرُوطُ الرَّجْعَةِ:
وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ مَا يَلِي:
5 - الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ الرَّجْعَةُ بَعْدَ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ سَوَاءٌ صَدَرَ مِنَ الزَّوْجِ أَوْ مِنَ الْقَاضِي؛ لأَِنَّهَا اسْتِئْنَافٌ لِلْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي قُطِعَتْ بِالطَّلاَقِ، فَلَوْلاَ وُقُوعُهُ لَمَا كَانَ لِلرَّجْعَةِ فَائِدَةٌ، فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُل امْرَأَتَهُ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ مُرَاجَعَتِهَا، إِذْ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ تَبِينُ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا بَيْنُونَةً كُبْرَى وَلاَ يَحِل لَهُ مُرَاجَعَتُهَا حَتَّى
__________
(1) أحكام القرآن، الجصاص 1 / 389.
(2) تفسير القرطبي 3 / 123، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 200.
(3) الفروع 5 / 464.(22/107)
تَتَزَوَّجَ آخَرَ. قَال تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1) .
وَالْفُقَهَاءُ جَمِيعًا مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ (2) .
6 - الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَحْصُل الرَّجْعَةُ بَعْدَ الدُّخُول بِالزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول وَأَرَادَ مُرَاجَعَتَهَا فَلَيْسَ لَهُ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ وَهَذَا بِالاِتِّفَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} (3) . إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ (4) اعْتَبَرُوا الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ فِي حُكْمِ الدُّخُول مِنْ حَيْثُ صِحَّةُ الرَّجْعَةِ؛ لأَِنَّ الْخَلْوَةَ تُرَتِّبُ أَحْكَامًا مِثْل أَحْكَامِ الدُّخُول، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ فَلاَ بُدَّ عِنْدَهُمْ مِنَ الدُّخُول لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ، وَلاَ تَكْفِي الْخَلْوَةُ (5) .
7 - الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْمُطَلَّقَةُ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلاَ يَصِحُّ ارْتِجَاعُهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى
__________
(1) سورة البقرة / 230.
(2) البناية 4 / 591، وكشاف القناع 5 / 341، والأم 6 / 243، والشرح الكبير للدردير 2 / 369.
(3) سورة الأحزاب / 49.
(4) كشاف القناع 5 / 341.
(5) انظر المراجع السابقة ومغني المحتاج 4 / 337.(22/107)
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} ثُمَّ قَال تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (1) أَيْ فِي الْقُرُوءِ الثَّلاَثَةِ؛
وَلأَِنَّ فِي ارْتِجَاعِ الْمُطَلَّقَةِ فِي فَتْرَةِ الْعِدَّةِ اسْتِدَامَةً وَاسْتِمْرَارًا لِعَقْدِ النِّكَاحِ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ انْقَطَعَتْ هَذِهِ الاِسْتِدَامَةُ فَلاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَقَال الْكَاسَانِيُّ: مِنْ شُرُوطِ جَوَازِ الرَّجْعَةِ قِيَامُ الْعِدَّةِ فَلاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لأَِنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ يَزُول بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَلاَ تُتَصَوَّرُ الاِسْتِدَامَةُ، إِذْ الاِسْتِدَامَةُ لِلْقَائِمِ لِصِيَانَتِهِ عَنِ الزَّوَال (2) وَأَمَّا مَا تَنْتَهِي بِهِ الْعِدَّةُ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِدَّة) .
8 - الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَلاَّ تَكُونَ الْفُرْقَةُ قَبْل الرَّجْعَةِ نَاشِئَةً عَنْ فَسْخِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (فَسْخ) .
9 - الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَلاَّ يَكُونَ الطَّلاَقُ بِعِوَضٍ، فَإِنْ كَانَ الطَّلاَقُ بِعِوَضٍ فَلاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ حِينَئِذٍ بَائِنٌ لاِفْتِدَاءِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا مِنَ الزَّوْجِ بِمَا قَدَّمَتْهُ لَهُ مِنْ عِوَضٍ مَالِيٍّ يُنْهِي هَذِهِ الْعَلاَقَةَ مِثْل الْخُلْعِ وَالطَّلاَقِ عَلَى مَالٍ.
10 - الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ الرَّجْعَةُ مُنَجَّزَةً فَلاَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ أَوْ إِضَافَتُهَا إِلَى
__________
(1) سورة البقرة / 228.
(2) بدائع الصنائع 3 / 183.(22/108)
زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَصُورَةُ التَّعْلِيقِ عَلَى الشَّرْطِ أَنْ يَقُول: إِنْ جَاءَ زَيْدٌ فَقَدْ رَاجَعْتُكِ، أَوْ إِنْ فَعَلْتِ كَذَا فَقَدْ رَاجَعْتُكِ، وَصُورَةُ الإِْضَافَةِ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَل كَأَنْ يَقُول: أَنْتِ رَاجِعَةٌ غَدًا أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ وَهَكَذَا، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْلِيق ف 46) الْمَوْسُوعَة ج 12 ص 31.
اسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةٌ لِعَقْدِ النِّكَاحِ أَوْ إِعَادَةٌ لَهُ، وَالنِّكَاحُ لاَ يَقْبَل التَّعْلِيقَ وَالإِْضَافَةَ، وَالرَّجْعَةُ تَأْخُذُ حُكْمَ النِّكَاحِ (1) .
11 - الشَّرْطُ السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَجِعُ أَهْلاً لإِِنْشَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ.
وَهَذَا الشَّرْطُ وَرَدَ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ كُل مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي إِنْشَاءِ عَقْدِ الزَّوَاجِ يَكُونُ لَهُ الْحَقُّ فِي ارْتِجَاعِ مُطَلَّقَتِهِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ شُرُوطِ الرَّجْعَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِمَا لإِِنْشَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ رَجْعَةَ نَاقِصِي الأَْهْلِيَّةِ، وَهُمْ: الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ، وَالسَّفِيهُ، وَالْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَالْمُفْلِسُ، وَقَدْ بَنَوْا إِجَازَةَ الرَّجْعَةِ مِنْ هَؤُلاَءِ عَلَى أَسَاسِ عَدَمِ إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِمْ، وَعَلَى حَسَبِ حَالَةِ كُلٍّ مِنْ هَؤُلاَءِ
__________
(1) البدائع 3 / 185، والخرشي 4 / 80، المغني 8 / 485، والأم 6 / 245.(22/108)
عَلَى حِدَةٍ، فَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَيَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ إِلاَّ أَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهِ، فَكَمَا صَحَّ عَقْدُهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ، وَأَمَّا السَّفِيهُ فَيَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ فِي حُدُودِ مَهْرِ الْمِثْل فَصَحَّتْ رَجْعَتُهُ لاِسْتِمْرَارِ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ جِهَةٍ؛ وَكَذَا لِعَدَمِ وُجُودِ الإِْسْرَافِ مِنْهُ، وَأَمَّا الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ فَقَدْ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ؛ لأَِنَّ الرَّجْعَةَ لَيْسَ فِيهَا إِدْخَال غَيْرِ وَارِثٍ مَعَ الْوَرَثَةِ، وَأَمَّا الْمُفْلِسُ فَصَحَّتِ الرَّجْعَةُ مِنْهُ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَتَطَلَّبُ مَهْرًا جَدِيدًا فَلاَ تَشْغَل ذِمَّتَهُ بِالْتِزَامَاتٍ مَالِيَّةٍ وَلاَ يَحْتَاجُ لإِِذْنِ الدَّائِنِينَ، كَمَا أَجَازُوا الرَّجْعَةَ مِنَ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ مَعَ عَدَمِ جَوَازِ عَقْدِ نِكَاحِهِ؛ لأَِنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِمْرَارٌ لِعَقْدِ النِّكَاحِ وَلَيْسَتْ إِنْشَاءً جَدِيدًا لَهُ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَرْطَ الْمُرْتَجِعِ أَهْلِيَّةُ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلاً مُخْتَارًا غَيْرَ مُرْتَدٍّ؛ لأَِنَّ الرَّجْعَةَ كَإِنْشَاءِ النِّكَاحِ فَلاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ فِي الرِّدَّةِ وَالصِّبَا وَالْجُنُونِ وَلاَ مِنْ مُكْرَهٍ، كَمَا لاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ فِيهَا.
فَالرَّجْعَةُ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ مِنْ بَالِغٍ عَاقِلٍ مُخْتَارٍ (2) .
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ السَّفِيهَ فَكَمَا
__________
(1) الخرشي 4 / 79 - 80، الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي 2 / 369 - 370
(2) مغني المحتاج 3 / 335 - 336، ونهاية المحتاج 7 / 53.(22/109)
يَصِحُّ نِكَاحُهُ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ. . . وَالسَّكْرَانُ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ تَصِحُّ رَجْعَتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ فِي الأَْصْل أَهْلٌ لإِِبْرَامِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَلاَ تَصِحُّ رَجْعَتُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا لاَ تَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رَجْعَةُ السَّكْرَانِ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ، لأَِنَّ أَقْوَالَهُ كُلَّهَا لاَغِيَةٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الرَّجْعَةِ مِنَ الْمُحْرِمِ؛ لأَِنَّ الإِْحْرَامَ لاَ يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الْمُحْرِمِ لإِِنْشَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ عَارِضٌ. هَذَا وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي الرَّجْعَةِ رِضَا الْمَرْأَةِ. وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (1) .
يَدُل عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
كَيْفِيَّةُ الرَّجْعَةِ:
لِلرَّجْعَةِ كَيْفِيَّتَانِ: رَجْعَةٌ بِالْقَوْل، وَرَجْعَةٌ بِالْفِعْل.
أَوَّلاً: الرَّجْعَةُ بِالْقَوْل:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ تَصِحُّ بِالْقَوْل الدَّال عَلَى ذَلِكَ، كَأَنْ يَقُول لِمُطَلَّقَتِهِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ رَاجَعْتُكِ، أَوِ ارْتَجَعْتُكِ، أَوْ رَدَدْتُكِ لِعِصْمَتِي وَهَكَذَا كُل لَفْظٍ يُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى.
قَال الْعَيْنِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَا نَصُّهُ: " وَالرَّجْعَةُ أَنْ يَقُول لِلَّتِي طَلَّقَهَا طَلْقَةً، أَوْ طَلْقَتَيْنِ: رَاجَعْتُكِ بِالْخِطَابِ لَهَا، أَوْ رَاجَعْتُ امْرَأَتِي بِالْغَيْبَةِ، وَهَذَا
__________
(1) سورة البقرة / 228.(22/109)
صَرِيحٌ فِي الرَّجْعَةِ، وَكَذَا إِذَا قَال: رَدَدْتُكِ أَوْ أَمْسَكْتُكِ ".
وَقَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الأَْلْفَاظَ الَّتِي تَصِحُّ بِهَا الرَّجْعَةُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: اللَّفْظُ الصَّرِيحُ مِثْل رَاجَعْتُكِ وَارْتَجَعْتُكِ إِلَى نِكَاحِي، وَهَذَا الْقِسْمُ تَصِحُّ بِهِ الرَّجْعَةُ وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْكِنَايَةُ: وَهِيَ الأَْلْفَاظُ الَّتِي تَحْتَمِل مَعْنَى الرَّجْعَةِ وَمَعْنًى آخَرَ غَيْرَهَا، كَأَنْ يَقُول: أَنْتِ عِنْدِي كَمَا كُنْتِ، أَوْ أَنْتِ امْرَأَتِي وَنَوَى بِهِ الرَّجْعَةَ.
فَأَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ تَحْتَمِل الرَّجْعَةَ وَغَيْرَهَا مِثْل أَنْتِ عِنْدِي كَمَا كُنْتِ، فَإِنَّهَا تَحْتَمِل كَمَا كُنْتِ زَوْجَةً، وَكَمَا كُنْتِ مَكْرُوهَةً، وَلِذَلِكَ قَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ وَيُسْأَل عَنْهَا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الأَْلْفَاظِ مِثْل رَدَدْتُكِ وَأَمْسَكْتُكِ هَل هِيَ مِنَ الصَّرِيحِ أَوِ الْكِنَايَةِ، فَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ وَتَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ.
وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ " رَدَدْتُكِ " يَحْتَمِل الرَّدَّ إِلَى الزَّوْجِيَّةِ أَوْ إِلَى بَيْتِ أَبِيهَا، " وَأَمْسَكْتُكِ " يَحْتَمِل الإِْمْسَاكَ بِالزَّوْجِيَّةِ أَوِ الإِْمْسَاكَ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهَا فِي عِدَّتِهَا.
وَذَهَبَ فَرِيقٌ آخَرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَمَعَهُمْ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ هَذَيْنِ(22/110)
اللَّفْظَيْنِ مِنْ صَرِيحِ الرَّجْعَةِ فَلاَ يَحْتَاجَانِ إِلَى نِيَّةٍ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا أَحْكَامُ الرَّجْعَةِ دَلَّتْ عَلَيْهَا بِلَفْظَيِ الرَّدِّ وَالإِْمْسَاكِ (1) . قَال تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (2) وَقَال تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (3) .
ثَانِيًا: الرَّجْعَةُ بِالْفِعْل:
13 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْجِمَاعَ وَمُقَدِّمَاتِهِ تَصِحُّ بِهِمَا الرَّجْعَةُ، جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ " قَال: أَوْ يَطَؤُهَا، أَوْ يَلْمَسُهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ يَنْظُرُ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ، وَهَذَا عِنْدَنَا (4) "، وَقَوْلُهُمْ هَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَهُمْ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَطَاوُسٌ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّعْبِيُّ، وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَكُونُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِ الزَّوْجَةِ سِوَى الْفَرْجِ رَجْعَةً.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الرَّجْعَةَ تُعْتَبَرُ اسْتِدَامَةً لِلنِّكَاحِ
__________
(1) البناية على الهداية 4 / 592 - 593، وبدائع الصنائع 3 / 181 - 182، والخرشي 4 / 80، ومغني المحتاج 3 / 337، وكشاف القناع 5 / 342.
(2) سورة البقرة / 228.
(3) سورة الطلاق / 2.
(4) الهداية مع حاشية البناية 4 / 593.(22/110)
وَاسْتِمْرَارًا لِجَمِيعِ آثَارِهِ، وَمِنْ آثَارِ النِّكَاحِ حِل الْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، لِذَلِكَ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ بِالْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ مَا زَال مَوْجُودًا إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ.
كَمَا أَنَّ الأَْفْعَال صَرِيحَهَا وَدَلاَلَتَهَا تَدُل عَلَى نِيَّةِ الْفَاعِل، فَإِذَا وَطِئَ الزَّوْجُ مُطَلَّقَتَهُ الرَّجْعِيَّةَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، أَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ لاَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ، اعْتُبِرَ هَذَا الْفِعْل رَجْعَةً بِالدَّلاَلَةِ، فَكَأَنَّهُ بِوَطْئِهَا قَدْ رَضِيَ أَنْ تَعُودَ إِلَى عِصْمَتِهِ.
وَقَدْ قَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ الْقُبْلَةَ وَالنَّظَرَ إِلَى الْفَرْجِ وَاللَّمْسِ بِالشَّهْوَةِ. أَمَّا إِذَا حَصَل لَمْسٌ أَوْ نَظَرٌ إِلَى الْفَرْجِ، أَوْ تَقْبِيلٌ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَلاَ تَتَحَقَّقُ الرَّجْعَةُ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الأَْشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ، إِذَا كَانَتْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَإِنَّهَا تَحْصُل مِنَ الزَّوْجِ وَغَيْرِهِ كَالْمُسَاكِنِينَ لَهَا، أَوِ الْمُتَحَدِّثِينَ مَعَهَا، أَوِ الطَّبِيبِ وَالْقَابِلَةِ (الْمُوَلِّدَةِ) أَمَّا وُجُودُ الشَّهْوَةِ مَعَ هَذِهِ الأَْفْعَال فَإِنَّهَا لاَ تَحْصُل إِلاَّ مِنَ الزَّوْجِ فَقَطْ.
فَإِذَا صَحَّتِ الرَّجْعَةُ مَعَ هَذِهِ الأَْفْعَال بِغَيْرِ شَهْوَةٍ احْتَاجَ الزَّوْجُ إِلَى طَلاَقِهَا، فَتَطُول عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَتَقَعُ الْمَرْأَةُ فِي حَرَجٍ شَدِيدٍ (1) .
وَإِذَا حَدَثَتْ هَذِهِ الأَْشْيَاءُ مِنَ الْمَرْأَةِ كَأَنْ قَبَّلَتْ زَوْجَهَا، أَوْ نَظَرَتْ إِلَيْهِ، أَوْ لَمَسَتْهُ بِشَهْوَةٍ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ. وَاسْتَدَلاَّ عَلَى
__________
(1) البناية على الهداية 4 / 594، وبدائع الصنائع 3 / 181 - 182، والمبسوط للسرخسي 6 / 21.(22/111)
ذَلِكَ بِأَنَّ حِل الْمُعَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ قَدْ ثَبَتَ لَهُمَا مَعًا، فَتَصِحُّ الرَّجْعَةُ مِنْهَا إِذَا نَظَرَتْ إِلَيْهِ بِشَهْوَةٍ، كَمَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ مِنْ جِهَتِهَا، كَأَنْ عَاشَرَتِ ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ أَبَاهُ، كَمَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ أَيْضًا، لِذَلِكَ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ مِنْ جِهَتِهَا إِذَا لَمَسَتْهُ أَوْ قَبَّلَتْهُ بِشَهْوَةٍ، أَوْ رَأَتْ فَرْجَهُ بِشَهْوَةٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ مِنْ جِهَتِهَا إِذَا لَمَسَتْهُ أَوْ قَبَّلَتْهُ بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَتْ إِلَى فَرْجِهِ بِشَهْوَةٍ، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الرَّجْعَةَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ حَتَّى إِنَّهُ يُرَاجِعُهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا، وَلَيْسَ لَهَا حَقُّ مُرَاجَعَةِ زَوْجِهَا لاَ بِالْقَوْل وَلاَ بِالْفِعْل، فَسَوَاءٌ نَظَرَتْ إِلَيْهِ بِشَهْوَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا لاَ تَثْبُتُ لَهَا الرَّجْعَةُ (1) .
14 - وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ صِحَّةَ الرَّجْعَةِ بِالْفِعْل كَالْوَطْءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَنْوِيَ الزَّوْجُ بِهَذِهِ الأَْفْعَال الرَّجْعَةَ، فَإِذَا قَبَّلَهَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ نَظَرَ إِلَى مَوْضِعِ الْجِمَاعِ بِشَهْوَةٍ، أَوْ وَطِئَهَا وَلَمْ يَنْوِ الرَّجْعَةَ فَلاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِفِعْل هَذِهِ الأَْشْيَاءِ، جَاءَ فِي الْخَرَشِيِّ مَا نَصُّهُ: أَنَّ الرَّجْعَةَ لاَ تَحْصُل بِفِعْلٍ مُجَرَّدٍ عَنْ نِيَّةِ الرَّجْعَةِ وَلَوْ بِأَقْوَى الأَْفْعَال كَوَطْءٍ وَقُبْلَةٍ وَلَمْسٍ، وَالدُّخُول عَلَيْهَا مِنَ الْفِعْل فَإِذَا نَوَى بِهِ الرَّجْعَةَ كَفَى (2) .
__________
(1) المبسوط 6 / 22، وما بعدها، والبناية للعيني 4 / 595 - 596
(2) الخرشي 4 / 81، والدسوقي 2 / 370.(22/111)
15 - وَالرَّجْعَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تَصِحُّ بِالْفِعْل مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ بِوَطْءٍ أَوْ مُقَدِّمَاتِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْفِعْل مَصْحُوبًا بِنِيَّةِ الزَّوْجِ فِي الرَّجْعَةِ أَوْ لاَ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ تُعْتَبَرُ أَجْنَبِيَّةً عَنِ الزَّوْجِ فَلاَ يَحِل لَهُ وَطْؤُهَا، وَالرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ تُعْتَبَرُ إِعَادَةً لِعَقْدِ الزَّوَاجِ، وَكَمَا أَنَّ عَقْدَ الزَّوَاجِ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِالْقَوْل الدَّال عَلَيْهِ، فَكَذَا الرَّجْعَةُ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِالْقَوْل الدَّال عَلَيْهَا أَيْضًا، فَلَوْ أَنَّ رَجُلاً وَطِئَ امْرَأَةً قَبْل عَقْدِ النِّكَاحِ فَوَطْؤُهُ حَرَامٌ، فَكَذَا الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ لَوْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ فِي الْعِدَّةِ فَوَطْؤُهُ هَذَا حَرَامٌ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي الأُْمِّ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ أَنَّ الرَّجْعَةَ حَقٌّ لِلأَْزْوَاجِ، وَأَنَّ الرَّدَّ ثَابِتٌ لَهُمْ دُونَ رِضَى الْمَرْأَةِ قَال: وَالرَّدُّ يَكُونُ بِالْكَلاَمِ دُونَ الْفِعْل مِنْ جِمَاعٍ وَغَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ رَدٌّ بِلاَ كَلاَمٍ، فَلاَ تَثْبُتُ رَجْعَةٌ لِرَجُلٍ عَلَى امْرَأَتِهِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِالرَّجْعَةِ، كَمَا لاَ يَكُونُ نِكَاحٌ وَلاَ طَلاَقٌ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهِمَا، فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهَا فِي الْعِدَّةِ ثَبَتَتْ لَهُ الرَّجْعَةُ (1) . "
16 - وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ فِي صِحَّةِ الرَّجْعَةِ بَيْنَ الْوَطْءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، فَإِنَّ الرَّجْعَةَ عِنْدَهُمْ تَصِحُّ بِالْوَطْءِ وَلاَ تَصِحُّ بِمُقَدِّمَاتِهِ وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:
أَوَّلاً: صِحَّةُ الرَّجْعَةِ بِالْوَطْءِ:
17 - تَصِحُّ الرَّجْعَةُ عِنْدَهُمْ بِالْوَطْءِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ
__________
(1) الأم 6 / 244، وروضة الطالبين للنووي 8 / 217 ط - المكتب الإسلامي.(22/112)
نَوَى الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِهَا وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَى ذَلِكَ (1) .
وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ فَتْرَةَ الْعِدَّةِ تُؤَدِّي إِلَى بَيْنُونَةِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّجْعَةِ، فَإِذَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ وَوَطِئَهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَقَدْ عَادَتْ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ هَذَا مِثْل حُكْمِ الإِْيلاَءِ، فَإِذَا آلَى الزَّوْجُ مِنْ زَوْجَتِهِ ثُمَّ وَطِئَهَا فَقَدِ ارْتَفَعَ حُكْمُ الإِْيلاَءِ، فَكَذَا الْحَال فِي الرَّجْعَةِ إِذَا وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ فَقَدْ عَادَتْ إِلَيْهِ. .
ثُمَّ ذَكَرُوا دَلِيلاً آخَرَ يُؤَكِّدُ صِحَّةَ الرَّجْعَةِ بِالْوَطْءِ، جَاءَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ عَلَى الْمُقْنِعِ " أَنَّ الطَّلاَقَ سَبَبٌ لِزَوَال الْمِلْكِ وَمَعَهُ خِيَارٌ، فَتَصَرُّفُ الْمَالِكِ بِالْوَطْءِ يَمْنَعُ عَمَلَهُ كَمَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّوْكِيل فِي طَلاَقِهَا (2) "، هَذَا مَا اسْتَدَل بِهِ الْحَنَابِلَةُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ.
ثَانِيًا: مُقَدِّمَاتُ الْوَطْءِ:
18 - اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ فِي صِحَّةِ الرَّجْعَةِ بِمُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ، فَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ عَدَمُ صِحَّةِ الرَّجْعَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَوْضِعِ الْجِمَاعِ وَاللَّمْسِ وَالتَّقْبِيل بِشَهْوَةٍ، وَحُجَّةُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا يَأْتِي:
1 - أَنَّ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ إِذَا حَدَثَتْ لاَ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 343.
(2) الشرح الكبير لابن قدامة المقدسي مع المغني 8 / 475.(22/112)
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ وَلاَ يَجِبُ بِهَا مَهْرٌ فَلاَ تَصِحُّ بِهَا الرَّجْعَةُ.
2 - أَنَّ النَّظَرَ إِلَى مَوْضِعِ الْجِمَاعِ أَوِ اللَّمْسَ قَدْ يَحْدُثُ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ لِلْحَاجَةِ، فَلاَ تَكُونُ رَجْعَةً مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى هِيَ: تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِفِعْل هَذِهِ الأَْشْيَاءِ لأَِنَّهَا لاَ تَخْلُو مِنَ اسْتِمْتَاعٍ يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. وَالرِّوَايَةُ الأُْولَى: هِيَ الْمُعْتَمَدَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهَا أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ هَل تَصِحُّ مَعَهَا الرَّجْعَةُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: تَصِحُّ الرَّجْعَةُ مَعَ الْخَلْوَةِ لأَِنَّ أَحْكَامَ النِّكَاحِ تَتَقَرَّرُ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ بِالإِْضَافَةِ إِلَى إِمْكَانِ الاِسْتِمْتَاعِ فِي الْخَلْوَةِ.
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ مَعَ الْخَلْوَةِ لأَِنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ فِي حَالَةِ الطَّلاَقِ لاَ يَتَأَتَّى فِيهَا الاِسْتِمْتَاعُ فَلاَ تَصِحُّ مَعَهَا الرَّجْعَةُ (1) . .
أَحْكَامُ الرَّجْعَةِ:
الإِْشْهَادُ عَلَى الرَّجْعَةِ:
19 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْجَدِيدُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الإِْشْهَادَ عَلَى الرَّجْعَةِ مُسْتَحَبٌّ، وَهَذَا
__________
(1) الشرح الكبير 8 / 474، وكشاف القناع 5 / 343، وما بعدها.(22/113)
الْقَوْل مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَمَنْ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ وَلَمْ يُشْهِدْ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ؛ لأَِنَّ الإِْشْهَادَ مُسْتَحَبٌّ.
وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
1 - الرَّجْعَةُ مِثْل النِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا امْتِدَادًا لَهُ، وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ اسْتِدَامَةَ النِّكَاحِ لاَ تَلْزَمُهَا شَهَادَةٌ، فَكَذَا الرَّجْعَةُ لاَ تَجِبُ فِيهَا الشَّهَادَةُ.
2 - الرَّجْعَةُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ وَهِيَ لاَ تَحْتَاجُ لِقَبُول الْمَرْأَةِ، لِذَلِكَ لاَ تُشْتَرَطُ الشَّهَادَةُ لِصِحَّتِهَا؛ لأَِنَّ الزَّوْجَ قَدِ اسْتَعْمَل خَالِصَ حَقِّهِ، وَالْحَقُّ إِذَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى قَبُولٍ أَوْ وَلِيٍّ فَلاَ تَكُونُ الشَّهَادَةُ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ.
قَالُوا: وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (1) هَذَا أَمْرٌ، وَالأَْمْرُ فِي هَذِهِ الآْيَةِ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ لاَ عَلَى الْوُجُوبِ، مِثْل قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (2) وَاتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ بِلاَ إِشْهَادٍ، فَكَذَا اسْتُحِبَّ الإِْشْهَادُ عَلَى الرَّجْعَةِ لِلأَْمْنِ مِنَ الْجُحُودِ، وَقَطْعِ النِّزَاعِ، وَسَدِّ بَابِ الْخِلاَفِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. وَيُلاَحَظُ أَنَّ تَأْكِيدَ الْحَقِّ فِي الْبَيْعِ فِي حَاجَةٍ إِلَى إِشْهَادٍ أَكْثَرَ مِنَ الرَّجْعَةِ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ إِنْشَاءٌ لِتَصَرُّفٍ شَرْعِيٍّ، أَمَّا الرَّجْعَةُ فَهِيَ
__________
(1) سورة الطلاق / 2.
(2) سورة البقرة / 282.(22/113)
اسْتِدَامَةُ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ أَوْ إِعَادَتُهَا، فَلَمَّا صَحَّ الْبَيْعُ بِلاَ إِشْهَادٍ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ بِلاَ إِشْهَادٍ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الزَّوْجَةَ لَوْ مَنَعَتْ زَوْجَهَا مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ كَانَ فِعْلُهَا هَذَا حَسَنًا وَتُؤْجَرُ عَلَيْهِ، وَلاَ تَكُونُ عَاصِيَةً لِزَوْجِهَا (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنَّ الإِْشْهَادَ عَلَى الرَّجْعَةِ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . وَبِالأَْثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلاَقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ وَقَعَ بِهَا وَلَمْ يُشْهِدْ، فَقَال: طَلَّقْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ وَرَاجَعْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ، أَشْهِدْ عَلَى ذَلِكَ وَلاَ تَعُدْ؛ وَلأَِنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِبَاحَةُ بُضْعٍ مُحَرَّمٍ فَيَلْزَمُهُ الإِْشْهَادُ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: إِنَّ الإِْشْهَادَ عَلَى الرَّجْعَةِ لَيْسَ شَرْطًا وَلاَ وَاجِبًا فِي الأَْظْهَرِ (2) .
__________
(1) البناية على الهداية 4 / 595، بدائع الصنائع 3 / 181، والمبسوط للسرخسي 6 / 22، الخرشي 4 / 87، حاشية الدسوقي 2 / 377، والشرح الكبير للدردير 2 / 377، وكشاف القناع 5 / 342 - 343، الشرح الكبير لابن قدامة 8 / 472 - 473
(2) روضة الطالبين 8 / 216، ومغني المحتاج 3 / 336، والشرح الكبير لابن قدامة المقدسي 8 / 472 - 473، وكشاف القناع 5 / 342، والمغني لابن قدامة 8 / 481.(22/114)
إعْلاَمُ الزَّوْجَةِ بِالرَّجْعَةِ:
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ إِعْلاَمَ الزَّوْجَةِ بِالرَّجْعَةِ مُسْتَحَبٌّ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ الَّتِي قَدْ تَنْشَأُ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ.
قَال الْعَيْنِيُّ مَا نَصُّهُ: " وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْلِمَهَا " أَيْ يُعْلِمَ الْمَرْأَةَ بِالرَّجْعَةِ، فَرُبَّمَا تَتَزَوَّجُ عَلَى زَعْمِهَا أَنَّ زَوْجَهَا لَمْ يُرَاجِعْهَا وَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَيَطَؤُهَا الزَّوْجُ، فَكَانَتْ عَاصِيَةً بِتَرْكِ سُؤَال زَوْجِهَا وَهُوَ يَكُونُ مُسِيئًا بِتَرْكِ الإِْعْلاَمِ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ لَمْ يُعْلِمْهَا صَحَّتِ الرَّجْعَةُ؛ لأَِنَّهَا اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ الْقَائِمِ وَلَيْسَتْ بِإِنْشَاءٍ، فَكَانَ الزَّوْجُ مُتَصَرِّفًا فِي خَالِصِ حَقِّهِ، وَتَصَرُّفُ الإِْنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْغَيْرِ (1) .
سَفَرُ الزَّوْجِ بِالْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ:
21 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ السَّفَرَ بِمُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ، أَمَّا الْجُمْهُورُ فَلاَ يُجِيزُونَ السَّفَرَ بِهَا؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً مِنْ كُل وَجْهٍ؛ وَلأَِنَّ الزَّوْجَ مَأْمُورٌ بِعَدَمِ إِخْرَاجِهَا مِنَ الْبَيْتِ فِي الْعِدَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} (2) .
وَلأَِنَّ الْعِدَّةَ قَدْ تَنْقَضِي وَهِيَ فِي السَّفَرِ مَعَهُ
__________
(1) البناية على الهداية 4 / 597، والمحلى لابن حزم الظاهري 10 / 251، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18 / 159، والخرشي 4 / 87.
(2) سورة الطلاق / 1.(22/114)
فَتَكُونُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ عَنْهَا وَهَذَا مُحَرَّمٌ، كُل هَذَا إِذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا فِي الْعِدَّةِ، أَمَّا إِذَا رَاجَعَهَا فَتُسَافِرُ مَعَهُ لأَِنَّهَا زَوْجَةٌ لَهُ (1) .
تَزَيُّنُ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ وَتَشَوُّفُهَا لِزَوْجِهَا:
22 - الْمُطَلَّقَةُ طَلاَقًا رَجْعِيًّا لَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ لِزَوْجِهَا بِمَا تَفْعَلُهُ النِّسَاءُ لأَِزْوَاجِهِنَّ مِنْ أَوْجُهِ الزِّينَةِ مِنَ اللُّبْسِ وَغَيْرِهِ. قَال الْحَنَابِلَةُ: تَتَزَيَّنُ وَتُسْرِفُ فِي ذَلِكَ (2) . وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ وَتَتَشَوَّفَ لَهُ (3) . وَالتَّشَوُّفُ وَضْعُ الزِّينَةِ فِي الْوَجْهِ، وَالتَّزَيُّنُ أَعَمُّ مِنَ التَّشَوُّفِ؛ لأَِنَّهُ يَشْمَل الْوَجْهَ وَغَيْرَهُ.
وَقَدْ أُجِيزَ لِلْمَرْأَةِ فِعْل ذَلِكَ لِتَرْغِيبِ الزَّوْجِ فِي الْمُرَاجَعَةِ، فَالتَّزَيُّنُ وَسِيلَةٌ لِلرَّجْعَةِ فَلَعَلَّهُ يَرَاهَا فِي زِينَتِهَا فَتَرُوقُ فِي عَيْنِهِ وَيَنْدَمُ عَلَى طَلاَقِهَا فَيُرَاجِعُهَا.
وَاسْتَدَلُّوا لِجَوَازِ التَّزَيُّنِ بِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ رَجْعِيًّا فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ وَالنِّكَاحُ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ كَوْنُهَا فِي الْعِدَّةِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ تَزَيُّنِ الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ لِزَوْجِهَا لأَِنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ عَنْهُ وَالرَّجْعَةُ إِعَادَةٌ لِلنِّكَاحِ عِنْدَهُمْ.
وَيَتْبَعُ هَذَا الْحُكْمَ أَمْرٌ آخَرُ وَهُوَ دُخُول الزَّوْجِ عَلَيْهَا فِي حُجْرَتِهَا، فَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ لاَ يَدْخُل عَلَيْهَا
__________
(1) الشرح الكبير لابن قدامة 8 / 474، والبناية على الهداية 4 / 611 - 613، والدسوقي 2 / 422، والروضة 8 / 221.
(2) كشاف القناع 5 / 343.
(3) البناية على الهداية 4 / 611 - 613(22/115)
إِلاَّ بِإِذْنِهَا إِذَا كَانَ لاَ يَنْوِي الرَّجْعَةَ. وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مُتَجَرِّدَةً مِنَ الثِّيَابِ فَيَقَعُ نَظَرُهُ عَلَى مَوْضِعِ الْجِمَاعِ فَيَكُونُ مُرَاجِعًا عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ رَجْعَةً، أَمَّا إِذَا كَانَ يَنْوِي الْمُرَاجَعَةَ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَدْخُل عَلَيْهَا؛ لأَِنَّ فِي نِيَّتِهِ مُرَاجَعَتَهَا فَكَانَتْ زَوْجَةً لَهُ، وَخُصُوصًا أَنَّ الرَّجْعَةَ لاَ تَحْتَاجُ إِلَى مُوَافَقَةِ الْمَرْأَةِ (1) .
اخْتِلاَفُ الزَّوْجَيْنِ فِي الرَّجْعَةِ:
23 - إِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ عَلَى مُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ أَنَّهُ رَاجَعَهَا أَمْسِ أَوْ قَبْل شَهْرٍ صُدِّقَ إِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ؛ لأَِنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ فَلاَ يَكُونُ مُتَّهَمًا فِي الإِْخْبَارِ، وَلاَ يُصَدَّقُ إِذَا قَال ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لأَِنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لاَ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ، فَإِنِ ادَّعَى بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَهَا فِي عِدَّتِهَا فَأَنْكَرَتْ، فَالْقَوْل قَوْلُهَا؛ لأَِنَّهُ ادَّعَى مُرَاجَعَتَهَا فِي زَمَنٍ لاَ يَمْلِكُ مُرَاجَعَتَهَا فِيهِ.
وَإِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنَّهُ قَدْ رَاجَعَ مُطَلَّقَتَهُ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ.
قَال السَّرَخْسِيُّ: وَإِذَا قَال زَوْجُ الْمُعْتَدَّةِ لَهَا: قَدْ رَاجَعْتُكِ، فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ: قَدِ انْقَضَتْ عِدَّتِي، فَالْقَوْل قَوْلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلاَ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ. وَعِنْدَهُمَا الْقَوْل قَوْل الزَّوْجِ وَالرَّجْعَةُ صَحِيحَةٌ
__________
(1) الشرح الكبير لابن قدامة 8 / 474، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18 / 158، ومغني المحتاج 3 / 337، والروضة 8 / 221، والمبسوط للسرخسي 6 / 25.(22/115)
؛ لأَِنَّهَا صَادَفَتِ الْعِدَّةَ، فَإِنَّ عِدَّتَهَا بَاقِيَةٌ مَا لَمْ تُخْبِرْ بِالاِنْقِضَاءِ، وَقَدْ سَبَقَتِ الرَّجْعَةُ خَبَرَهَا بِالاِنْقِضَاءِ فَصَحَّتِ الرَّجْعَةُ وَسَقَطَتِ الْعِدَّةُ، فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْ بِالاِنْقِضَاءِ بَعْدَ سُقُوطِ الْعِدَّةِ، وَلَيْسَ لَهَا وِلاَيَةُ الإِْخْبَارِ بَعْدَ سُقُوطِ الْعِدَّةِ وَلَوْ سَكَتَتْ سَاعَةً ثُمَّ أَخْبَرَتْ؛ وَلأَِنَّهَا صَارَتْ مُتَّهَمَةً فِي الإِْخْبَارِ بِالاِنْقِضَاءِ بَعْدَ رَجْعَةِ الزَّوْجِ فَلاَ يُقْبَل خَبَرُهَا، كَمَا لَوْ قَال الْمُوَكِّل لِلْوَكِيل عَزَلْتُكَ، فَقَال الْوَكِيل كُنْتُ بِعْتُهُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُول: الرَّجْعَةُ صَادَفَتْ حَال انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلاَ تَصِحُّ؛ لأَِنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لَيْسَ بِعِدَّةٍ مُطْلَقًا وَشَرْطُ الرَّجْعَةِ أَنْ تَكُونَ فِي عِدَّةٍ مُطْلَقَةٍ (1) .
__________
(1) المبسوط 6 / 22، والشرح الكبير 8 / 488، ومغني المحتاج 3 / 338، 339(22/116)
رَجُلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّجُل فِي اللُّغَةِ خِلاَفُ الْمَرْأَةِ وَهُوَ الذَّكَرُ مِنْ نَوْعِ الإِْنْسَانِ، وَقِيل إِنَّمَا يَكُونُ رَجُلاً إِذَا احْتَلَمَ وَشَبَّ، وَقِيل هُوَ رَجُلٌ سَاعَةَ تَلِدُهُ أُمُّهُ إِلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَصْغِيرُهُ رُجَيْلٌ قِيَاسًا، وَرُوَيْجِلٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَيُجْمَعُ رَجُلٌ عَلَى رِجَالٍ. وَجَمْعُ الْجَمْعِ رِجَالاَتٌ، وَيُطْلَقُ الرَّجُل أَيْضًا عَلَى الرَّاجِل أَيِ الْمَاشِي. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} (1) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي.
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَهُوَ كَمَا ذَكَرَ الْجُرْجَانِيُّ فِي التَّعْرِيفَاتِ: الذَّكَرُ مِنْ بَنِي آدَمَ جَاوَزَ حَدَّ الصِّغَرِ بِالْبُلُوغِ (2) .
وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمِيرَاثِ، وَأَمَّا فِي الْمِيرَاثِ فَيُطْلَقُ الرَّجُل عَلَى الذَّكَرِ مِنْ حِينِ يُولَدُ، وَمِنْهُ
__________
(1) سورة البقرة / 239.
(2) اللسان والمصباح، مادة (رجل) والتعريفات للجرجاني / 146 ط، الكتاب العربي.(22/116)
قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَال نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَْقْرَبُونَ} (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
يَخْتَصُّ الرَّجُل بِأَحْكَامٍ يُخَالِفُ فِيهَا الْمَرْأَةَ وَفِيمَا يَلِي أَهَمُّهَا:
أ - لُبْسُ الْحَرِيرِ:
2 - يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل لُبْسُ الْحَرِيرِ اتِّفَاقًا، وَيَحْرُمُ افْتِرَاشُهُ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ تَوَسُّدِهِ وَافْتِرَاشِهِ، لِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أُحِل الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لإِِنَاثِ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا (2) . وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ فَإِنَّ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآْخِرَةِ (3) .
وَهَذَا - أَيْ تَحْرِيمُ لُبْسِ الْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَال - مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَلاَ خِلاَفَ فِيهِ، وَيُسْتَثْنَى
__________
(1) سورة النساء / 7.
(2) حديث: " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي. . . . . . . . . " أخرجه النسائي (8 / 161 - ط المكتبة التجارية) ، وحسنه ابن المديني كما في التلخيص لابن حجر 1 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية.
(3) حديث: " لا تلبسوا الحرير؛ فإن من لبسه في الدنيا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 284 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1642 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.(22/117)
مِنْ ذَلِكَ الْعَلَمُ فِي الثَّوْبِ إِذَا كَانَ أَقَل مِنْ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ، وَمِثْلُهُ الرِّقَاعُ، وَلَبِنَةُ الْجَيْبِ، وَسَجْفُ الْفِرَاءِ، وَفِي لُبْسِهِ لِدَفْعِ قَمْلٍ أَوْ حِكَّةٍ أَوْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ مُهْلِكَيْنِ، أَوْ لُبْسِهِ لِلْحَرْبِ خِلاَفٌ، وَمَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (حَرِير) . (1)
ب - اسْتِعْمَال الرَّجُل الذَّهَبَ أَوِ الْفِضَّةَ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْرِيمِ حُلِيِّ الذَّهَبِ عَلَى الرِّجَال، فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل اسْتِعْمَال الذَّهَبِ وَلاَ يَحِل لَهُ مِنْهُ إِلاَّ مَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ أَوِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ كَالأَْنْفِ وَالسِّنِّ وَالأُْنْمُلَةِ. وَيَجُوزُ لَهُ أَيْضًا لِلْحَاجَةِ شَدُّ أَسْنَانِهِ بِالذَّهَبِ.
وَيَحِل لَهُ مِنَ الْفِضَّةِ الْخَاتَمُ، وَكَذَا تَحْلِيَةُ بَعْضِ أَدَوَاتِهِ كَسَيْفِهِ بِهَا، وَشَدُّ أَسْنَانِهِ بِالْفِضَّةِ، وَأَمَّا سَائِرُ حِلْيَةِ الْفِضَّةِ فَفِي تَحْرِيمِهَا عَلَى الرَّجُل خِلاَفٌ.
وَالآْنِيَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنَ النَّقْدَيْنِ يَحْرُمُ
__________
(1) نتائج الأفكار مع فتح القدير 8 / 93 - 94 - ط الأميرية، تبيين الحقائق 6 / 15 - ط بولاق، بدائع الصنائع 5 / 131 - ط الجمالية، الاختيار 4 / 158 - ط المعرفة، الزرقاني 1 / 182 - ط الفكر، جواهر الإكليل 1 / 43 - ط المعرفة، والدسوقي 1 / 220 - ط الفكر، الخرشي 1 / 252 - 253 - ط بولاق، روضة الطالبين 2 / 65 - ط المكتب الإسلامي، أسنى المطالب 1 / 275 - ط الميمنية، والمهذب 1 / 115 - ط الحلبي، نهاية المحتاج 2 / 365 - 366 - ط المكتبة الإسلامية، تحفة المحتاج 3 / 22 - 23 - ط صادر، وحاشية القليوبي 1 / 302 - 303 - ط الحلبي، الإنصاف 1 / 478 - 479 ط التراث، وكشاف القناع 1 / 282 - ط النصر، والمغني 1 / 588 - 589 - ط الرياض.(22/117)
اسْتِعْمَالُهَا عَلَى الْجَمِيعِ (1) . وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (آنِيَة) ، وَمُصْطَلَحُ: (حُلِيّ) .
ج - عَوْرَةُ الرَّجُل فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجَهَا:
4 - عَوْرَةُ الرَّجُل فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجَهَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْفَل السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَتَيْنِ مِنَ الْعَوْرَةِ (3) .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا الْفَرْجَانِ فَقَطْ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ حَسَرَ الإِْزَارَ عَنْ فَخِذِهِ حَتَّى إِنِّي لأََنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ فَخِذِ النَّبِيِّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (4) .
وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (عَوْرَة)
__________
(1) الاختيار 4 / 159 - ط المعرفة، وحاشية ابن عابدين 5 / 229 - ط بولاق، تبيين الحقائق 6 / 15 - 16 - ط بولاق، جواهر الإكليل 1 / 10 - ط المعرفة، الدسوقي 1 / 62 - 64 - ط الفكر، الزرقاني 1 / 35 - 37 - ط الفكر، حاشية القليوبي 2 / 23 - 24 - ط الحلبي، وروضة الطالبين 2 / 262 - 264 - ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 2 / 234 - 235 - ط النصر، والمغني 3 / 15 - 18 - ط الرياض.
(2) الحموي علي ابن نجيم 2 / 170 - 171 - ط العامرة، جواهر الإكليل 1 / 41 - ط المعرفة، روضة الطالبين 1 / 282 - 283 - ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 1 / 265 - 266 - ط النصر.
(3) حديث: " أسفل السرة وفوق الركبتين من العورة " أخرجه أحمد (2 / 187 - ط الميمنية) من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ: " إذا أنكح أحدكم عبده أو أجيره فلا ينظرن إلى شيء من عورته؛ فإنما أسفل من سرته إلى ركبتيه من عورته "، وإسناده حسن.
(4) حديث: أنس أن النبي " يوم خيبر حسر. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 480 - ط السلفية) .(22/118)
د - اخْتِصَاصُ الأَْذَانِ بِالرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ:
5 - مِنَ الشُّرُوطِ الْوَاجِبَةِ فِي الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ رَجُلاً، فَلاَ يَصِحُّ أَذَانُ الْمَرْأَةِ؛ لأَِنَّ رَفْعَ صَوْتِهَا قَدْ يُوقِعُ فِي الْفِتْنَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلاَ يُعْتَدُّ بِأَذَانِهَا لَوْ أَذَّنَتْ (1) .
وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (أَذَان) .
هـ - وُجُوبُ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ عَلَى الرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ:
6 - مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ الذُّكُورَةُ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلاَ تَجِبُ عَلَيْهَا صَلاَةُ الْجُمُعَةِ اتِّفَاقًا.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (صَلاَةُ الْجُمُعَةِ)
و كَوْنُ الرَّجُل إِمَامًا فِي الصَّلاَةِ دُونَ الْمَرْأَةِ: 7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي إِمَامَةِ الصَّلاَةِ لِلرِّجَال فِي الْفَرِيضَةِ، فَلاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ الْمَرْأَةِ لِلرِّجَال فِيهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ (2) ، وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ مَرْفُوعًا لاَ تَؤُمَّنَّ
__________
(1) راجع مصطلح أذان من الموسوعة الفقهية 2 / 367 - ط الموسوعة الفقهية.
(2) حديث: " أخروهن من حيث أخرهن الله. . . . " أورده الزيلعي في نصب الراية (2 / 36 - ط المجلس العلمي) وقال: " حديث غريب مرفوعًا " ثم عزاه إلى مصنف عبد الرزاق موقوفًا على ابن مسعود، وهو فيه (3 / 149 - ط المجلس العلمي) ضمن حديث طويل، ذكر بعضه ابن حجر في الفتح (1 / 400 - ط السلفية) وصحح إسناده.(22/118)
امْرَأَةٌ رَجُلاً (1) ، وَلأَِنَّ فِي إِمَامَتِهَا لِلرِّجَال افْتِتَانًا بِهَا (2) .
ز - مَا يَخْتَصُّ بِالرَّجُل مِنْ أَعْمَال الْحَجِّ:
8 - يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل لُبْسُ الْمَخِيطِ مِنَ الثِّيَابِ بِخِلاَفِ الْمَرْأَةِ، وَالْمَشْرُوعُ فِي حَقِّهِ الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ بِخِلاَفِ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ فِي حَقِّهَا التَّقْصِيرُ دُونَ الْحَلْقِ، وَيُسَنُّ لِلرَّجُل الرَّمَل فِي طَوَافِهِ وَالاِضْطِبَاعُ وَالإِْسْرَاعُ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الأَْخْضَرَيْنِ فِي السَّعْيِ وَرَفْعُ صَوْتِهِ بِالتَّلْبِيَةِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تُخَالِفُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ (3) . وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (حَجّ) (وَإِحْرَام) (وَتَلْبِيَة) (وَطَوَاف) .
ح - دِيَةُ الرَّجُل:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ دِيَةَ الرَّجُل الْحُرِّ الْمُسْلِمِ مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل، وَأَمَّا دِيَةُ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ
__________
(1) حديث: " لا تؤمن امرأة رجلاً. . . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 343 - ط الحلبي) ، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 203 - ط دار الجنان) : " هذا إسناد ضعيف ".
(2) الموسوعة الفقهية 6 / 204.
(3) ابن عابدين 2 / 146، 190، بدائع الصنائع 2 / 123، 141، 185 - 186، والدسوقي 2 / 9، 41، 46، 54، 55، ومغني المحتاج (1 / 467، 519) ، ونهاية المحتاج (3 / 264) ، والمغني 3 / 236 - 237، 328 - 330، 372، 394(22/119)
الْمُسْلِمَةِ فَهِيَ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُل الْحُرِّ الْمُسْلِمِ.
وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (دِيَة) (1)
ط - وُجُوبُ الْجِهَادِ عَلَى الرَّجُل دُونَ الْمَرْأَةِ:
10 - الْجِهَادُ إِذَا كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ بِأَنْ دَهَمَ الْعَدُوُّ بَلَدًا مِنْ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُل قَادِرٍ عَلَى حَمْل السِّلاَحِ وَالْقِتَال مِنْ أَهْل ذَلِكَ الْبَلَدِ رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ شَيْخًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرِّجَال فَقَطْ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهَا لِضَعْفِهَا اتِّفَاقًا. وَانْظُرْ: (جِهَاد) .
ي - أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَرْأَةِ:
11 - لاَ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنَ الْمَرْأَةِ (2) . وَانْظُرْ: (جِزْيَة) .
ك - اخْتِصَاصُ الشَّهَادَةِ فِي غَيْرِ الأَْمْوَال بِالرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ:
12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي الْقَوَدِ وَالْحُدُودِ لاَ يُقْبَل فِيهَا إِلاَّ الرِّجَال فَلاَ تُقْبَل فِيهَا
__________
(1) البدائع 7 / 254 - ط الجمالية، وجواهر الإكليل 2 / 266 - 270 - ط المعرفة، والمهذب 2 / 198 - ط الحلبي، والمغني 7 / 797 - 798 - ط الرياض.
(2) ابن عابدين 3 / 220 - ط المصرية، والدسوقي 2 / 174 - 175 - ط الفكر، وحاشية القليوبي 4 / 216 - ط الحلبي، الأشباه والنظائر للسيوطي 239 - ط الحلبي، والمغني 8 / 347 - ط الرياض.(22/119)
شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ. وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَة) .
ل - الْمِيرَاثُ:
13 - يَخْتَلِفُ مِيرَاثُ الرَّجُل عَنْ مِيرَاثِ الْمَرْأَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الصُّوَرِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْث) (1)
م - الرَّجُل وَالْوِلاَيَةُ:
14 - يُقَدَّمُ الرَّجُل عَلَى الْمَرْأَةِ فِي كُل وِلاَيَةٍ هُوَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهَا مِنْهَا. وَتُقَدَّمُ الْمَرْأَةُ عَلَى الرَّجُل فِي الْوِلاَيَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ بِمَصَالِحِهَا مِنَ الرَّجُل وَهِيَ الْحَضَانَةُ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (وِلاَيَة) .
وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ: (ذُكُورَة) .
__________
(1) حاشية البقري على الرحبية 22 - 25 - ط الحلبي.
(2) ابن عابدين 4 / 356، والتبصرة 1 / 24، والفروق للقرافي 2 / 157 - 158 فرق 96، والأحكام السلطانية للماوردي / 65، والمغني 6 / 137، 9 / 39، ونيل الأوطار 6 / 251، وفتح الباري 8 / 126 - ط السلفية.(22/120)
رِجْلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّجْل لُغَةً: قَدَمُ الإِْنْسَانِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ وَجَمْعُهَا أَرْجُلٌ، وَرِجْل الإِْنْسَانِ هِيَ مِنْ أَصْل الْفَخِذِ إِلَى الْقَدَمِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (1) وَرَجُلٌ أَرْجَل أَيْ: عَظِيمُ الرِّجْل، وَالرَّاجِل خِلاَفُ الْفَارِسِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} (2) .
وَمَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْحَال فَيُرَادُ بِهِ الْقَدَمُ مَعَ الْكَعْبَيْنِ كَمَا هُوَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (3) ، وَيُرَادُ بِهِ دُونَ الْمَفْصِل بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ، كَمَا هُوَ الْحَال فِي قَطْعِ رِجْل السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ.
وَيُطْلَقُ تَارَةً فَيُرَادُ بِهِ مِنْ أَصْل الْفَخِذِ إِلَى الْقَدَمِ (4) .
__________
(1) سورة النور / 31.
(2) سورة البقرة / 239.
(3) سورة المائدة / 6.
(4) لسان العرب، والمصباح (رجل) .(22/120)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
وَرَدَتِ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرِّجْل فِي عَدَدٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ مِنْهَا مَا يَلِي:
أ - الْوُضُوءُ:
2 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ غَسْل الرِّجْلَيْنِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ - وَهُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مَفْصِل السَّاقِ وَالْقَدَمِ - مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. . .} (1) وَلِلأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي غَسْل الرِّجْلَيْنِ، وَمِنْهَا مَا رُوِيَ فِي وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ غَسَل كُل رِجْلٍ ثَلاَثًا (2) . وَفِي لَفْظٍ: ثُمَّ غَسَل رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَل رِجْلَهُ الْيُسْرَى مِثْل ذَلِكَ (3) . وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْلٌ لِلأَْعْقَابِ مِنَ النَّارِ (4) وَذَلِكَ عِنْدَمَا رَأَى قَوْمًا يَتَوَضَّئُونَ وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ.
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً تَوَضَّأَ،
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) حديث: " غسل كل رجل ثلاثًا. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 266 - ط السلفية) من حديث عثمان.
(3) حديث: " ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين " أخرجه مسلم (1 / 205 - ط الحلبي) من حديث عثمان.
(4) حديث: " ويل للأعقاب من النار " أخرجه مسلم (1 / 214 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو.(22/121)
فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ، فَرَجَعَ ثُمَّ صَلَّى (1) .
وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِي الرِّجْلَيْنِ هُوَ الْمَسْحُ لاَ الْغَسْل، وَذَلِكَ أَخْذًا بِقِرَاءَةِ مُهَاجِرٍ " أَرْجُلِكُمْ " فِي قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (2) فَإِنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ الأَْرْجُل مَمْسُوحَةً لاَ مَغْسُولَةً.
وَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ غَسْل الرِّجْلَيْنِ وَبَيْنَ مَسْحِهِمَا؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدَةٍ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ قَدْ ثَبَتَ كَوْنُهَا قِرَاءَةً وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ مُقْتَضَيْهِمَا وَهُوَ وُجُوبُ الْغَسْل بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ وَوُجُوبُ الْمَسْحِ بِقِرَاءَةِ الْجَرِّ، فَيُخَيَّرُ الْمُكَلَّفُ إِنْ شَاءَ عَمِل بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ فَغَسَل، وَإِنْ شَاءَ عَمِل بِقِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَمَسَحَ، وَأَيُّهُمَا فَعَل يَكُونُ آتِيًا بِالْمَفْرُوضِ، كَمَا هُوَ الْحَال فِي الأَْمْرِ بِأَحَدِ الأَْشْيَاءِ الثَّلاَثَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وُضُوء، مَسْح) .
ب - حَدُّ السَّرِقَةِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ السَّارِقِ قَطْعُ يَدِهِ
__________
(1) حديث عمر: " أن رجلاً توضأ. . . . " أخرجه مسلم (1 / 215 - ط الحلبي) .
(2) سورة المائدة / 6.
(3) البدائع 1 / 5، والمجموع 1 / 417، والقوانين الفقهية ص 27، وجواهر الإكليل 1 / 14، والمغني لابن قدامة 1 / 132.(22/121)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) وَأَوَّل مَا يُقْطَعُ مِنَ السَّارِقِ يَدُهُ الْيُمْنَى؛ لأَِنَّ الْبَطْشَ بِهَا أَقْوَى فَكَانَتِ الْبِدَايَةُ بِهَا أَرْدَعَ؛ وَلأَِنَّهَا آلَةُ السَّرِقَةِ، فَكَانَتِ الْعُقُوبَةُ بِقَطْعِهَا أَوْلَى.
4 - وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال فِي السَّارِقِ: إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ (2) وَلأَِنَّهُ فِي الْمُحَارَبَةِ الْمُوجِبَةِ قَطْعَ عُضْوَيْنِ إِنَّمَا تُقْطَعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ، وَلاَ تُقْطَعُ يَدَاهُ، وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَرَبِيعَةَ أَنَّهُ إِنْ سَرَقَ ثَانِيًا تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (3) وَلأَِنَّ الْيَدَ آلَةُ السَّرِقَةِ وَالْبَطْشِ فَكَانَتِ الْعُقُوبَةُ بِقَطْعِهَا أَوْلَى، قَال ابْنُ قُدَامَةَ - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْقَوْل - وَهَذَا شُذُوذٌ يُخَالِفُ قَوْل جَمَاعَةِ فُقَهَاءِ الأَْمْصَارِ مِنْ أَهْل الْفِقْهِ وَالأَْثَرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
5 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا سَرَقَ ثَالِثًا بَعْدَ قَطْعِ
__________
(1) سورة المائدة / 38.
(2) حديث أبي هريرة: " إذا سرق السارق فاقطعوا يده " أخرجه الدراقطني (3 / 181 - ط دار المحاسن) وأعله شمس الحق العظيم آبادي في تعليقه عليه بضعف أحد رواته، ولكن له شاهد من حديث جابر بن عبد الله، أخرجه أبو داود (4 / 565 - 566 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(3) سورة المائدة / 38.(22/122)
يَدِهِ الْيُمْنَى وَرِجْلِهِ الْيُسْرَى.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْطَعُ مِنْهُ شَيْءٌ بَل يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْل قَدْ سَرَقَ يُقَال لَهُ: سَدُومُ، وَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَهُ، فَقَال لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّمَا عَلَيْهِ قَطْعُ يَدٍ وَرِجْلٍ، فَحَبَسَهُ عُمَرُ، وَلَمْ يَقْطَعْهُ.
وَلِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ - الْيُمْنَى - ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّانِيَةَ وَقَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ - الْيُسْرَى - ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّالِثَةَ وَقَدْ سَرَقَ، فَقَال لأَِصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ فِي هَذَا؟ قَالُوا: اقْطَعْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَال: قَتَلْتُهُ إِذَنْ وَمَا عَلَيْهِ الْقَتْل، لاَ أَقْطَعُهُ، إِنْ قَطَعْتُ يَدَهُ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَأْكُل الطَّعَامَ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَغْتَسِل مِنْ جَنَابَتِهِ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَتَمَسَّحُ، وَإِنْ قَطَعْتُ رِجْلَهُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَمْشِي، بِأَيِّ شَيْءٍ يَقُومُ عَلَى حَاجَتِهِ، إِنِّي لأََسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ لاَ أَدَعَ لَهُ يَدًا يَبْطِشُ بِهَا، وَلاَ رِجْلاً يَمْشِي عَلَيْهَا، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِخَشَبَةٍ وَحَبَسَهُ.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ إِنْ سَرَقَ ثَالِثًا قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى. فَإِنْ سَرَقَ رَابِعًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي(22/122)
السَّارِقِ: إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ (1) . وَلأَِنَّهُ فِعْل أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ قَتَادَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَتُقْطَعُ رِجْل السَّارِقِ مِنَ الْمَفْصِل بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ.
ج - قَاطِعُ الطَّرِيقِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ إِذَا أَخَذَ الْمَال وَلَمْ يَقْتُل، وَكَانَ الْمَال الَّذِي أَخَذَهُ بِمِقْدَارِ مَا تُقْطَعُ بِهِ يَدُ السَّارِقِ، فَإِنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ} (2) . وَبِهَذَا تَتَحَقَّقُ الْمُخَالَفَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الآْيَةِ، وَهِيَ أَرْفَقُ بِهِ فِي إِمْكَانِ مَشْيِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَ مُخَيَّرٌ، فَيَحْكُمُ بَيْنَ الْقَتْل وَالصَّلْبِ وَالْقَطْعِ وَالنَّفْيِ، سَوَاءٌ قَتَل وَأَخَذَ الْمَال، أَمْ قَتَل فَقَطْ، أَوْ أَخَذَ الْمَال فَقَطْ، أَمْ خَوَّفَ دُونَ أَنْ يَقْتُل أَوْ يَأْخُذَ الْمَال (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (حِرَابَة) .
__________
(1) الحديث تقدم في ف / 5.
(2) سورة المائدة / 33.
(3) البدائع 7 / 93، وروضة الطالبين 10 / 156، والقوانين الفقهية ص 368، والمغني لابن قدامة 8 / 293، وجواهر الإكليل 2 / 294.(22/123)
د - دِيَةُ الرِّجْل:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ الرِّجْلَيْنِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي قَطْعِ إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَفِي قَطْعِ أُصْبُعِ الرِّجْل عُشْرَ الدِّيَةِ، وَفِي أُنْمُلَتِهَا ثُلُثَ الْعُشْرِ إِلاَّ الإِْبْهَامَ فَفِي أُنْمُلَتِهَا نِصْفُ الْعُشْرِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ أُنْمُلَتَانِ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لَهُ فِي كِتَابِهِ: وَفِي الرِّجْل الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ (1) . قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كِتَابُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَمَا فِيهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إِلاَّ قَلِيلاً.
وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ قَطْعَ الرِّجْل يُوجِبُ نِصْفَ الدِّيَةِ إِذَا كَانَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ أَوْ مِنْ أُصُول الأَْصَابِعِ الْخَمْسَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا قُطِعَتْ مِنَ السَّاقِ أَوْ مِنَ الرُّكْبَةِ أَوْ مِنَ الْفَخِذِ أَوْ مِنَ الْوَرِكِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) إِلَى أَنَّ قَطْعَ الرِّجْل مِنْ هَذِهِ الأَْمَاكِنِ لاَ تَزِيدُ بِهِ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ الرِّجْل اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ إِلَى أَصْل الْفَخِذِ، فَلاَ يُزَادُ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْعِ، وَلأَِنَّ السَّاقَ أَوِ الْفَخِذَ لَيْسَ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، فَيَكُونُ تَبَعًا لِمَا لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَهِيَ الْقَدَمُ.
__________
(1) حديث عمرو بن حزم: " في الرجل الواحدة نصف الدية " أخرجه النسائي (8 / 58 - ط المكتبة التجارية) .(22/123)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ حُكُومَةِ عَدْلٍ فِي ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى نِصْفِ الدِّيَةِ الْوَاجِبِ فِي الْقَدَمِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَة، وَحُكُومَةُ عَدْلٍ)
هـ - هَل الرِّجْل مِنَ الْعَوْرَةِ؟
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ رِجْل الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ عَوْرَةٌ مَا عَدَا قَدَمَيْهَا.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ مِنَ الرِّجْل عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَال. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الرُّكْبَتَيْنِ وَالسُّرَّةِ مِنَ الرِّجْل عَوْرَةٌ (2) .
وَيُنْظَرُ: (عَوْرَة) .
__________
(1) البدائع 7 / 311 - 314، وتبيين الحقائق للزيلعي 6 / 133، والقوانين الفقهية ص 356، جواهر الإكليل 2 / 268، ومغني المحتاج 4 / 66، والمغني لابن قدامة 8 / 35، وحاشية ابن عابدين 5 / 369.
(2) البدائع 5 / 118، وجواهر الإكليل 1 / 41، والقوانين الفقهية ص 58، والمغني لابن قدامة 1 / 577، وروضة الطالبين 1 / 282.(22/124)
رَجْمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّجْمُ فِي اللُّغَةِ: الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ.
وَيُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ أُخْرَى مِنْهَا: الْقَتْل.
وَمِنْهَا: الْقَذْفُ بِالْغَيْبِ أَوْ بِالظَّنِّ.
وَمِنْهَا اللَّعْنُ، وَالطَّرْدُ، وَالشَّتْمُ وَالْهِجْرَانُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هُوَ رَجْمُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى الْمَوْتِ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الرَّجْمِ عَلَى الزَّانِي الْمُحْصَنِ رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً.
وَقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ فِي أَخْبَارٍ تُشْبِهُ التَّوَاتُرَ. وَهَذَا قَوْل عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا إِلاَّ الْخَوَارِجَ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْجَلْدُ لِلْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ لِقَوْل
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب، مادة: (رجم) .
(2) القوانين الفقهية لابن جزي ص 232(22/124)
اللَّهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ الزِّنَى
مَنْ يُحَدُّ بِالرَّجْمِ:
3 - تَخْتَصُّ عُقُوبَةُ الرَّجْمِ بِالزَّانِي الْمُكَلَّفِ الْمُحْصَنِ:
وَالْمُحْصَنُ: كُل مُكَلَّفٍ حُرٌّ مُخْتَارٌ مُلْتَزِمٌ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَطِئَ أَوْ وُطِئَتْ حَال الْكَمَال فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ، أَوْ مُرْتَدًّا، لاِلْتِزَامِهِمَا أَحْكَامَ الشَّرْعِ.
وَانْظُرْ: (إِحْصَان) .
أَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفِ فَلاَ يُرْجَمُ؛ لأَِنَّ فِعْلَهُ لاَ يُوصَفُ بِتَحْرِيمٍ، كَمَا لاَ يُرْجَمُ غَيْرُ الْمُلْتَزِمِ كَالْحَرْبِيِّ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (زِنَى)
كَيْفِيَّةُ الرَّجْمِ:
4 - إِذَا كَانَ الْمَرْجُومُ رَجُلاً أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الرَّجْمِ، وَهُوَ قَائِمٌ وَلَمْ يُوثَقْ، وَلَمْ يُحْفَرْ لَهُ، سَوَاءٌ ثَبَتَ زِنَاهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِقْرَارٍ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَيُحْفَرُ لَهَا عِنْدَ الرَّجْمِ إِلَى صَدْرِهَا
__________
(1) سورة النور / 2.
(2) المغني 8 / 161، وشرح الزرقاني 8 / 75، وأسنى المطالب 4 / 128، وابن عابدين 3 / 148.(22/125)
إِنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِبَيِّنَةٍ؛ لِئَلاَّ تَتَكَشَّفَ عَوْرَتُهَا (1) .
وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: لاَ يُحْفَرُ لَهَا، كَالرَّجُل. وَيُخْرَجُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الرَّجْمَ إِلَى أَرْضٍ فَضَاءٍ، وَيَبْتَدِئُ بِالرَّجْمِ الشُّهُودُ إِذَا ثَبَتَ زِنَاهُ بِشَهَادَةٍ، نَدْبًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَوُجُوبًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَيَحْضُرُ الإِْمَامُ عِنْدَ الرَّجْمِ كَمَا يَحْضُرُ جَمْعٌ مِنَ الرِّجَال الْمُسْلِمِينَ، وَيُرْجَمُ بِحِجَارَةٍ مُعْتَدِلَةٍ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (زِنَى) .
الْجَمْعُ بَيْنَ الرَّجْمِ، وَالْجَلْدِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْمَعُ عَلَى الزَّانِي الْمُحْصَنِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ، وَقَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ: إِنَّهُ يُجْلَدُ ثُمَّ يُرْجَمُ (2) . (ر: جَلْد)
تَكْفِينُ الْمَرْجُومِ وَالصَّلاَةُ عَلَيْهِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَرْجُومَ يُكَفَّنُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَاعِزٍ: اصْنَعُوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ (3) ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى الْغَامِدِيَّةِ (4) . وَالتَّفْصِيل فِي (صَلاَةُ الْجِنَازَةِ) .
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 133، وابن عابدين 3 / 147، والمغني 8 / 158.
(2) المصادر السابقة.
(3) حديث: " اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم " أخرجه ابن أبي شيبة (3 / 254 - ط الدار السلفية بمبي) من حديث بريدة، وأعله ابن حجر في الدراية (2 / 97 - ط الفجالة) بأحد رواته.
(4) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم صلى على الغامدية " أخرجه مسلم (3 / 1324 - ط الحلبي) من حديث بريدة.(22/125)
رَجْمُ الْحَامِل:
7 - لاَ يُقَامُ حَدُّ الرَّجْمِ عَلَى الْحَامِل حَتَّى تَضَعَ وَيَسْتَغْنِيَ عَنْهَا وَلِيدُهَا، سَوَاءٌ كَانَ الْحَمْل مِنْ زِنًا أَمْ غَيْرِهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحَامِل لاَ تُرْجَمُ حَتَّى تَضَعَ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي، وَإِنَّهُ رَدَّهَا، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ لِمَ تَرُدُّنِي لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى، قَال: إِمَّا لاَ فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي، فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ، قَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ، قَال: اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ فَقَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ وَقَدْ أَكَل الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا، فَيُقْبِل خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُ إِيَّاهَا فَقَال: مَهْلاً يَا خَالِدُ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ (1) .
__________
(1) حديث الغامدية. . . أخرجه مسلم (3 / 1323 - 1324 - ط الحلبي) .(22/126)
وَلأَِنَّ امْرَأَةً زَنَتْ فِي أَيَّامِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهَمَّ عُمَرُ بِرَجْمِهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَقَال لَهُ مُعَاذٌ: إِنْ كَانَ لَكَ سَبِيلٌ عَلَيْهَا فَلَيْسَ لَكَ سَبِيلٌ عَلَى حَمْلِهَا، فَلَمْ يَرْجُمْهَا؛ وَلأَِنَّ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا فِي حَال حَمْلِهَا إِتْلاَفًا لِمَعْصُومٍ، وَلاَ سَبِيل إِلَيْهِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُود)
__________
(1) المصادر السابقة.(22/126)
رُجُوعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّجُوعُ فِي اللُّغَةِ: الاِنْصِرَافُ، يُقَال: رَجَعَ يَرْجِعُ رَجْعًا وَرُجُوعًا وَرُجْعَى وَمَرْجِعًا: إِذَا انْصَرَفَ، وَرَجَعَهُ: رَدَّهُ، وَالرَّجْعَةُ: مُرَاجَعَةُ الرَّجُل أَهْلَهُ. وَرَجَعَ مِنْ سَفَرِهِ، وَعَنِ الأَْمْرِ يَرْجِعُ رَجْعًا وَرُجُوعًا، قَال ابْنُ السِّكِّيتِ: هُوَ نَقِيضُ الذَّهَابِ، وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى، وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ قَال تَعَالَى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ. .} (1) . وَهُذَيْلٌ تُعَدِّيهِ بِالأَْلِفِ، وَرَجَعْتُ الْكَلاَمَ وَغَيْرَهُ: رَدَدْتُهُ، وَرَجَعَ فِي الشَّيْءِ: عَادَ فِيهِ، وَمِنْ هُنَا قِيل: رَجَعَ فِي هِبَتِهِ إِذَا أَعَادَهَا إِلَى مِلْكِهِ (2) .
وَفِي الْكُلِّيَّاتِ: الرُّجُوعُ: الْعَوْدُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مَكَانًا أَوْ صِفَةً، أَوْ حَالاً، يُقَال: رَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ، وَإِلَى حَالَةِ الْفَقْرِ أَوِ الْغِنَى، وَرَجَعَ إِلَى الصِّحَّةِ أَوِ الْمَرَضِ، أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الصِّفَاتِ،
__________
(1) سورة التوبة / 83.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح.(22/127)
وَرَجَعَ عَوْدُهُ عَلَى بَدْئِهِ، أَيْ رَجَعَ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، وَرَجَعَ عَنِ الشَّيْءِ تَرَكَهُ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ: أَقْبَل (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرَّدُّ:
2 - الرَّدُّ صَرْفُ الشَّيْءِ وَرَجْعُهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْءَ إِذَا لَمْ يَقْبَلْهُ، وَكَذَا إِذَا خَطَّأَهُ، وَرَدَدْتُ إِلَيْهِ جَوَابَهُ، أَيْ رَجَعْتُ وَأَرْسَلْتُ، وَمِنْهُ: رَدَدْتُ عَلَيْهِ الْوَدِيعَةَ، وَتَرَدَّدْتُ إِلَى فُلاَنٍ: رَجَعْتُ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَتَرَادَّ الْقَوْمُ الْبَيْعَ: رَدُّوهُ (3) .
وَالْفُقَهَاءُ أَحْيَانًا يَسْتَعْمِلُونَ الرَّدَّ وَالرُّجُوعَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. قَال الْمَحَلِّيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ: لِكُلٍّ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُعِيرِ رَدُّ الْعَارِيَّةِ مَتَى شَاءَ، وَرَدُّ الْمُعِيرِ بِمَعْنَى رُجُوعِهِ (4) . وَيَقُول الْفُقَهَاءُ فِي الْوَصِيَّةِ: يَكُونُ الرُّجُوعُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْقَوْل كَرَجَعْتُ فِي وَصِيَّتِي، أَوْ أَبْطَلْتُهَا وَنَحْوِهِ كَرَدَدْتُهَا (5) .
__________
(1) الكليات للكفوي 2 / 390.
(2) البدائع 6 / 127، 283 و 7 / 61، 378، وجواهر الإكليل 1 / 91، 170، والقليوبي 2 / 293، وشرح منتهى الإرادات 2 / 545.
(3) لسان العرب والمصباح المنير.
(4) القليوبي وعميرة 3 / 21 - 22
(5) شرح منتهى الإرادات 2 / 545.(22/127)
وَقَدْ يَخْتَصُّ الرُّجُوعُ بِمَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ التَّصَرُّفُ كَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَالرُّجُوعِ عَنِ الإِْقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ، وَيُسْتَعْمَل الرَّدُّ فِيمَنْ صَدَرَ التَّصَرُّفُ لِصَالِحِهِ كَرَدِّ الْمُسْتَعِيرِ لِلْعَارِيَّةِ، وَرَدِّ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ، أَوْ مِنْ طَرَفٍ ثَالِثٍ كَرَدِّ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ
ب - الْفَسْخُ:
3 - الْفَسْخُ: النَّقْضُ، يُقَال فَسَخَ الشَّيْءَ يَفْسَخُهُ فَسْخًا فَانْفَسَخَ: أَيْ نَقَضَهُ فَانْتَقَضَ، وَفَسِخَ رَأْيُهُ: فَسَدَ، وَيُقَال: فَسَخْتُ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ فَانْفَسَخَ، أَيْ نَقَضْتُهُ فَانْتَقَضَ، وَفَسَخْتُ الْعَقْدَ فَسْخًا رَفَعْتُهُ، وَفَسَخْتُ الشَّيْءَ فَرَّقْتُهُ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الْفَسْخَ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ، قَال الْكَاسَانِيُّ: الرُّجُوعُ: فَسْخُ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ (2) .
وَفِي الْمَنْثُورِ لِلزَّرْكَشِيِّ: الْفَسْخُ لَفْظٌ أَلَّفَهُ الْفُقَهَاءُ، وَمَعْنَاهُ رَدُّ الشَّيْءِ وَاسْتِرْدَادُ مُقَابِلِهِ (3) .
ج - النَّقْضُ:
4 - النَّقْضُ: إِفْسَادُ مَا أَبْرَمْتَ مِنْ عَقْدٍ أَوْ بِنَاءٍ، وَالنَّقْضُ: انْتِثَارُ الْعَقْدِ مِنَ الْبِنَاءِ وَالْحَبْل وَالْعَقْدِ،
__________
(1)) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) البدائع 6 / 128.
(3) المنثور 3 / 47.(22/128)
وَهُوَ ضِدُّ الإِْبْرَامِ، يُقَال: نَقَضْتُ الْبِنَاءَ وَالْحَبْل وَالْعَقْدَ، وَفِي حَدِيثِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ: فَنَاقَضَنِي وَنَاقَضْتُهُ (1) "، أَيْ يَنْقُضُ قَوْلِي وَأَنْقُضُ قَوْلَهُ، وَأَرَادَ بِهِ الْمُرَاجَعَةَ وَالْمُرَادَّةَ (2) . وَيَقُول الْفُقَهَاءُ: يَحْصُل الرُّجُوعُ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِالْقَوْل كَنَقَضْتُ الْوَصِيَّةَ (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الرُّجُوعُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِاخْتِلاَفِ مَوْضُوعِهَا، وَلِذَلِكَ يَعْتَرِي الرُّجُوعُ الأَْحْكَامَ التَّكْلِيفِيَّةَ.
فَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَالرُّجُوعِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ، وَكَرُجُوعِ الْمُرْتَدِّ إِلَى الإِْسْلاَمِ، وَرُجُوعِ الْبُغَاةِ إِلَى طَاعَةِ الإِْمَامِ (4) .
وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا كَاسْتِحْبَابِ تَعْجِيل رُجُوعِ الْمُسَافِرِ إِلَى أَهْلِهِ بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ (5) .
وَكَرُجُوعِ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالتَّرَاضِي بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالإِْقَالَةِ (6) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَقَال
__________
(1) في حديث صوم التطوع: " فناقضني وناقضته ". أورده ابن الأثير في النهاية (5 / 107 ط الحلبي) .
(2) لسان العرب والمصباح المنير والمفردات للراغب الأصفهاني.
(3) البدائع 7 / 394، ومغني المحتاج 3 / 71.
(4) مختصر تفسير ابن كثير 1 / 408، وجواهر الإكليل 2 / 278، وشرح منتهى الإرادات 3 / 382.
(5) الدسوقي 1 / 367.
(6) شرح منتهى الإرادات(22/128)
مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) .
وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا وَذَلِكَ كَالرُّجُوعِ فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ كَالْوَصِيَّةِ (2) .
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا كَالرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ، وَقَدْ قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ فِيهَا (3) .
وَكَالرُّجُوعِ عَنْ دِينِ الإِْسْلاَمِ، فَمَنْ كَانَ مُسْلِمًا، أَوْ كَافِرًا وَأَسْلَمَ حَرُمَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ عَنْ دِينِ الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّهُ يُصْبِحُ بِذَلِكَ مُرْتَدًّا (4) .
وَقَدْ يَكُونُ الرُّجُوعُ مَكْرُوهًا كَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. جَاءَ فِي الاِخْتِيَارِ: يُكْرَهُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَسَاسَةِ وَالدَّنَاءَةِ، وَقَدْ قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ (5) . شَبَّهَهُ بِهِ لِخَسَاسَةِ الْفِعْل وَدَنَاءَةِ الْفَاعِل (6) .
__________
(1) حديث: " من أقال مسلمًا أقاله الله عثرته يوم القيامة " أخرجه ابن ماجه (2 / 741 - ط الحلبي) ، والحاكم (2 / 45 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) البدائع 7 / 378.
(3) الهداية 3 / 231، والمغني 5 / 684.
(4) البدائع 7 / 134.
(5) حديث: " العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 235 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1241 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس، واللفظ لمسلم.
(6) الاختيار لتعليل المختار 3 / 51.(22/129)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالرُّجُوعِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَسْبَابُ الرُّجُوعِ:
6 - الرُّجُوعُ قَدْ يَكُونُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ كَالْقَضَاءِ، وَالإِْقْرَارِ، وَالشَّهَادَةِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالْهِبَةِ، وَالْكَفَالَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ يَكُونُ فِي الأَْفْعَال كَرُجُوعِ مَنْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ دُونَ إِحْرَامٍ إِلَى الْمِيقَاتِ لِيُحْرِمَ مِنْهُ، وَكَرُجُوعِ الْمُسَافِرَةِ الَّتِي طَرَأَ عَلَيْهَا مُوجِبُ الْعِدَّةِ إِلَى مَسْكَنِهَا لِتَعْتَدَّ فِيهِ.
وَتَخْتَلِفُ أَسْبَابُ الرُّجُوعِ فِي كُل ذَلِكَ وَتَتَعَدَّدُ بِاخْتِلاَفِ الْمَوَاضِعِ وَالْمَسَائِل، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: الرُّجُوعُ فِي الأَْقْوَال وَالتَّصَرُّفَاتِ:
1 - الرُّجُوعُ فِي الْحُكْمِ وَالْفَتْوَى:
لِلرُّجُوعِ فِي الْحُكْمِ وَالْفَتْوَى أَسْبَابٌ مِنْهَا:
أ - خَفَاءُ الدَّلِيل:
7 - الأَْصْل فِي الْحُكْمِ وَالْفَتْوَى هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْجِعُ فِيهِمَا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الإِْجْمَاعِ، وَإِلاَّ فَالْقِيَاسُ وَالاِجْتِهَادُ إِنْ لَمْ يُوجَدْ نَصٌّ ظَاهِرٌ. (1) وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (2)
__________
(1) مختصر تفسير ابن كثير 1 / 408، وأعلام الموقعين 2 / 279 - 280، والمغني 9 / 50، 532، وفواتح الرحموت 2 / 395.
(2) سورة النساء / 105.(22/129)
وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (1) .
وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ وَقَال لَهُ: كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ قَال: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَال: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَال: فَبِسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ، قَال: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ وَلاَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَال: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلاَ آلُو، فَضَرَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرَهُ وَقَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُول رَسُول اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُول اللَّهِ (2) . وَلِذَلِكَ لاَ يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي إِلاَّ إِذَا خَالَفَ نَصًّا ظَاهِرًا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ خَالَفَ إِجْمَاعًا، أَوْ خَالَفَ قِيَاسًا جَلِيًّا، كَمَا يَقُول بَعْضُ الْفُقَهَاءِ. (3)
لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْحُكْمُ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ لِخَفَاءِ
__________
(1) سورة النساء / 59.
(2) حديث: " بَعَثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن " أخرجه أبو داود (4 / 18 - 19 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (3 / 607 - ط الحلبي) ، واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي: " هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل ".
(3) البدائع 7 / 4 / 14، والتبصرة بهامش فتح العلي 1 / 70، ومغني المحتاج 4 / 396، والمغني 9 / 56، والأحكام للآمدي 4 / 203.(22/130)
الدَّلِيل، وَقَدْ تَكُونُ الْفَتْوَى كَذَلِكَ، فَإِذَا ظَهَرَ الْحَقُّ وَوُجِدَ الدَّلِيل وَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُ خَفِيَ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دِيَةُ الأَْصَابِعِ فَقَضَى فِي الإِْبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ حَتَّى أُخْبِرَ أَنَّ فِي كِتَابِ آل عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيهَا بِعُشْرِ عُشْرٍ فَتَرَكَ قَوْلَهُ وَرَجَعَ إِلَيْهِ (1) .
ب - اسْتِظْهَارُ الْمُجْتَهِدِ رَأْيَ مُجْتَهِدٍ آخَرَ:
8 - الاِخْتِلاَفُ بَيْنَ الْمُجْتَهِدَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ يُوجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا الرُّجُوعَ إِلَى رَأْيِ مَنْ ظَهَرَ الْحَقُّ فِي جَانِبِهِ، فَقَدْ عَارَضَ عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي قِتَال مَانِعِي الزَّكَاةِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَِنَّهُمْ فِي نَظَرِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَشْهَدُونَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَمَنْ قَال لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ (2) ، فَقَال أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لأَُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَال، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ
__________
(1) إعلام الموقعين 2 / 270 - 271، والمغني 9 / 42، 51، وحديث: " قضاء عمر في دية الأصابع ورجوعه عن رأيه " أخرجه البيهقي (8 / 93 - ط دائرة المعارف العثمانية) .
(2) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 262 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 51 - 52 - ط الحلبي) .(22/130)
عَلَى مَنْعِهِ، فَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَال فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.
قَال النَّوَوِيُّ وَالأَْبِيُّ فِي شَرْحِهِمَا لِلْحَدِيثِ: هَذَا يَدُل عَلَى اجْتِهَادِ الأَْئِمَّةِ فِي النَّوَازِل وَرَدِّهَا إِلَى الأُْصُول، وَمُنَاظَرَةِ أَهْل الْعِلْمِ فِيهَا، وَرُجُوعِ مَنْ ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ إِلَى قَوْل صَاحِبِهِ. (1)
ج - اقْتِضَاءُ الْمَصْلَحَةِ:
9 - قَدْ يَكُونُ الرُّجُوعُ مِنْ أَجْل الْمَصْلَحَةِ، (2) وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَل مَنْزِلاً لِلْحَرْبِ فِي بَدْرٍ فَقِيل لَهُ: إِنْ كَانَ بِوَحْيٍ فَسَمْعًا وَطَاعَةً، وَإِنْ كَانَ بِاجْتِهَادٍ وَرَأْيٍ فَهُوَ مَنْزِل مَكِيدَةٍ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَل بِاجْتِهَادٍ وَرَأْيٍ، فَأُشِيرَ عَلَيْهِ بِمَكَانٍ آخَرَ فِيهِ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ فَفَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَرَجَعَ إِلَى رَأْيِ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ (3) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 1 / 210 - 213، والأبي 1 / 109
(2) المستصفى 2 / 356، وصحيح مسلم بشرح الأبي 1 / 114، 125، وشرح النووي 1 / 225، 241، ومختصر تفسير ابن كثير 2 / 91، والأحكام للآمدي 4 / 169 - 170 ط المكتب الإسلامي.
(3) حديث الحباب بن المنذر أورده ابن هشام في السيرة (1 / 620 - ط الحلبي) نقلاً عن ابن إسحاق، وفيه جهالة الواسطة بين ابن إسحاق والحباب، ووصله الحاكم في المستدرك (3 / 426 - 427 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال الذهبي: " حديث منكر ".(22/131)
قَال ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ: حُدِّثْتُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، أَنَّهُمْ ذَكَرُوا: أَنَّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِل، أَمَنْزِلاً أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ، وَلاَ نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَال بَل هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ، ثُمَّ نُغَوِّرَ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقُلُبِ، ثُمَّ نَبْنِيَ عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِل الْقَوْمَ، فَنَشْرَبُ وَلاَ يَشْرَبُونَ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ. فَنَهَضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ، فَسَارَ حَتَّى إِذَا أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ نَزَل عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوِّرَتْ، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي نَزَل عَلَيْهِ، فَمُلِئَ مَاءً، ثُمَّ قَذَفُوا فِيهِ الآْنِيَةَ.
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الأَْزْوَادِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ حِينَ نَفِدَتْ أَزْوَادُ الْقَوْمِ حَتَّى هَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْرِ بَعْضِ حَمَائِلِهِمْ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَجْمَعَ مَا بَقِيَ مِنْ أَزْوَادِ الْقَوْمِ فَيَدْعُو عَلَيْهَا فَفَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ حَتَّى مَلأََ الْقَوْمُ أَزْوِدَتَهُمْ (1) . قَال الْعُلَمَاءُ: لاَ خِلاَفَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَيَرْجِعَ إِلَى
__________
(1) حديث عمر في " جمع الأزواد. . . " أخرجه مسلم (1 / 56 - 57 - ط الحلبي) .(22/131)
رَأْيِ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ، كَمَا فَعَل فِي تَلْقِيحِ النَّخْل، وَالنُّزُول بِبَدْرٍ، وَمُصَالَحَةِ أَهْل الأَْحْزَابِ.
وَكَذَلِكَ فَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرْسَل أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِنَعْلَيْهِ وَقَال لَهُ: مَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ فَقَال لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ تَفْعَل فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِل النَّاسُ عَلَيْهَا، فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَخَلِّهِمْ (1) .
د - تَغَيُّرُ اجْتِهَادِ الْقَاضِي:
10 - مِنْ أَسْبَابِ الرُّجُوعِ أَيْضًا تَغَيُّرُ الاِجْتِهَادِ، فَالْمُجْتَهِدُ الَّذِي يَتَغَيَّرُ اجْتِهَادُهُ إِلَى رَأْيٍ يُخَالِفُ رَأْيَهُ الأَْوَّل يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ عَنِ اجْتِهَادِهِ الأَْوَّل وَالْعَمَل بِمَا تَغَيَّرَ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ كِتَابُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ وَقَدْ جَاءَ فِيهِ: وَلاَ يَمْنَعَنَّكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَ بِهِ الْيَوْمَ فَرَاجَعْتَ فِيهِ رَأْيَكَ وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ فِيهِ الْحَقَّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ وَلاَ يُبْطِلُهُ شَيْءٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِل.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: يُرِيدُ أَنَّكَ إِذَا اجْتَهَدْتَ فِي حُكُومَةٍ ثُمَّ وَقَعَتْ لَكَ مَرَّةً أُخْرَى فَلاَ يَمْنَعُكَ
__________
(1) حديث: " من لقيت وراء هذا الحائط يشهد. . . " أخرجه مسلم (1 / 60 - ط الحلبي) .(22/132)
الاِجْتِهَادُ الأَْوَّل مِنْ إِعَادَتِهِ، فَإِنَّ الاِجْتِهَادَ قَدْ يَتَغَيَّرُ، وَلاَ يَكُونُ الاِجْتِهَادُ الأَْوَّل مَانِعًا مِنَ الْعَمَل بِالثَّانِي إِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ الْحَقُّ، فَإِنَّ الْحَقَّ أَوْلَى بِالإِْيثَارِ؛ لأَِنَّهُ قَدِيمٌ سَابِقٌ عَلَى الْبَاطِل، فَإِنْ كَانَ الاِجْتِهَادُ الأَْوَّل قَدْ سَبَقَ الثَّانِيَ، وَالثَّانِي هُوَ الْحَقُّ فَهُوَ أَسْبَقُ مِنْ الاِجْتِهَادِ الأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ قَدِيمٌ سَابِقٌ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَلاَ يُبْطِلُهُ وُقُوعُ الاِجْتِهَادِ الأَْوَّل عَلَى خِلاَفِهِ، بَل الرُّجُوعُ إِلَيْهِ أَوْلَى مِنَ التَّمَادِي عَلَى الاِجْتِهَادِ الأَْوَّل. (1)
11 - عَلَى أَنَّ تَغَيُّرَ الاِجْتِهَادِ وَإِنْ كَانَ يُوجِبُ الرُّجُوعَ إِلَى مَا تَغَيَّرَ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ لَكِنَّ ذَلِكَ لاَ يُبْطِل الاِجْتِهَادَ الأَْوَّل إِذَا صَدَرَ بِهِ حُكْمٌ.
وَهَذَا فِي الْحَوَادِثِ الَّتِي هِيَ مَحَل الاِجْتِهَادِ، قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمُجْتَهِدُ إِذَا قَضَى فِي حَادِثَةٍ بِرَأْيِهِ - وَهِيَ مَحَل الاِجْتِهَادِ - ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيْهِ ثَانِيًا فَتَحَوَّل رَأْيُهُ يَعْمَل بِالرَّأْيِ الثَّانِي، وَلاَ يُوجِبُ هَذَا نَقْضَ الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ الأَْوَّل؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ بِالرَّأْيِ الأَْوَّل قَضَاءٌ مُجْمَعٌ عَلَى جَوَازِهِ لاِتِّفَاقِ أَهْل الاِجْتِهَادِ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ فِي مَحَل الاِجْتِهَادِ بِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَكَانَ هَذَا قَضَاءً مُتَّفَقًا عَلَى صِحَّتِهِ، وَلاَ اتِّفَاقَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الرَّأْيِ الثَّانِي، فَلاَ يَجُوزُ نَقْضُ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَلِهَذَا لاَ يَجُوزُ لِقَاضٍ آخَرَ أَنْ يُبْطِل هَذَا الْقَضَاءَ، كَذَا هَذَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) إعلام الموقعين 1 / 110، 234(22/132)
قَضَى فِي الْمُشَرَّكَةِ بِإِسْقَاطِ الإِْخْوَةِ مِنَ الأَْبَوَيْنِ وَتَوْرِيثِ الإِْخْوَةِ لأُِمٍّ، ثُمَّ شَرَّكَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بَعْدُ، وَلَمَّا سُئِل قَال: تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ عَلَى مَا نَقْضِي، فَأَخَذَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي كِلاَ الاِجْتِهَادَيْنِ بِمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ الْقَضَاءُ الأَْوَّل مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الثَّانِي، وَلَمْ يُنْقَضِ الأَْوَّل بِالثَّانِي، فَجَرَى أَئِمَّةُ الإِْسْلاَمِ بَعْدَهُ عَلَى هَذَيْنِ الأَْصْلَيْنِ. (1)
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي جَوَازِ رُجُوعِ الْقَاضِي عَمَّا قَضَى بِهِ إِذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ.
قَال ابْنُ حَبِيبٍ: أَخْبَرَنِي مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ فِي الْقَاضِي يَقْضِي بِالْقَضَاءِ ثُمَّ يَرَى مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ فَيُرِيدُ الرُّجُوعَ عَنْهُ إِلَى مَا رَأَى، فَذَلِكَ لَهُ مَا كَانَ عَلَى وِلاَيَتِهِ الَّتِي فِيهَا قَضَى بِذَلِكَ الْقَضَاءِ الَّذِي يُرِيدُ الرُّجُوعَ عَنْهُ، وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَسَحْنُونٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: لاَ يَجُوزُ فَسْخُهُ، وَصَوَّبَهُ أَئِمَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ قِيَاسًا عَلَى حُكْمِ غَيْرِهِ؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ نَقْضُ هَذَا لِرَأْيِهِ الثَّانِي لَكَانَ لَهُ فَسْخُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَلاَ يَقِفُ عَلَى حَدٍّ، وَلاَ يَثِقُ أَحَدٌ بِمَا قُضِيَ لَهُ بِهِ وَذَلِكَ ضَرَرٌ شَدِيدٌ، وَقِيل: إِنْ كَانَ الْقَضَاءُ بِمَالٍ فَسَخَهُ، وَإِنْ كَانَ ثُبُوتَ
__________
(1) البدائع 7 / 5، والمغني 9 / 56 - 57، وإعلام الموقعين 1 / 110 - 111، 4 / 232، والوجيز 2 / 241، والأحكام للآمدي 4 / 203.(22/133)
نِكَاحٍ أَوْ فَسْخَهُ لَمْ يَنْقُضْهُ. قَال ابْنُ رَاشِدٍ الْقَفْصِيُّ: وَالْمَشْهُورُ جَوَازُ الرُّجُوعِ وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لأَِنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى الصَّوَابِ.
لَكِنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ ذَكَرَ أَنَّ الْخِلاَفَ إِنَّمَا هُوَ إِذَا حَكَمَ بِذَلِكَ وَهُوَ يَرَاهُ بِاجْتِهَادِهِ، أَمَّا إِنْ قَضَى بِذَلِكَ ذَاهِلاً أَوْ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً فَلاَ يَنْبَغِي الْخِلاَفُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ عَنْهُ إِلَى مَا رَأَى إِذْ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ.
وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ قَال بِهِ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ اسْتِنَادًا إِلَى مَا جَاءَ فِي كِتَابِ عُمَرَ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. (1)
هـ - تَغَيُّرُ اجْتِهَادِ الْمُفْتِي:
12 - مِنْ أَسْبَابِ الرُّجُوعِ كَذَلِكَ تَغَيُّرُ اجْتِهَادِ الْمُفْتِي، فَإِذَا أَفْتَى الْمُجْتَهِدُ بِرَأْيٍ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ عَنْ رَأْيِهِ الأَْوَّل وَالإِْفْتَاءُ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ثَانِيًا.
وَقَدْ كَانَ لأَِئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ أَقْوَالٌ رَجَعُوا عَنْهَا لَمَّا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُمْ وَصَارَتْ لَهُمْ أَقْوَالٌ أُخْرَى هِيَ الَّتِي تَغَيَّرَ إِلَيْهَا اجْتِهَادُهُمْ. فَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ عَنِ الْقَوْل بِأَنَّ الصَّدَقَةَ أَفْضَل مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ لَمَّا حَجَّ وَعَرَفَ مَشَقَّتَهُ. (2)
__________
(1) منح الجليل 4 / 193، والتبصرة بهامش فتح العلي 1 / 71 - 72، والمغني 9 / 56
(2) ابن عابدين 1 / 49(22/133)
وَقَدْ كَانَ لِمَالِكٍ أَقْوَالٌ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا نَقَلَهَا عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ، وَنَظَرًا لأَِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ لاَزَمَ مَالِكًا كَثِيرًا وَكَانَ لاَ يَغِيبُ عَنْ مَجْلِسِهِ إِلاَّ لِعُذْرٍ فَقَدْ قَالُوا: مَنْ قَلَّدَ مَالِكًا فَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِالْقَوْل الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ؛ لأَِنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ الرَّاجِحُ لِمَصِيرِ مَالِكٍ إِلَيْهِ آخِرًا مَعَ ذِكْرِهِ الْقَوْل الأَْوَّل. (1)
كَذَلِكَ كَانَ لِلشَّافِعِيِّ مَذْهَبَانِ أَوْ قَوْلاَنِ وَهُمَا الْقَدِيمُ وَالْجَدِيدُ، يَقُول النَّوَوِيُّ: صَنَّفَ الشَّافِعِيُّ فِي الْعِرَاقِ كِتَابَهُ الْقَدِيمَ، وَيُسَمَّى كِتَابَ الْحُجَّةِ، وَيَرْوِيهِ عَنْهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ جِلَّةِ أَصْحَابِهِ وَهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ، وَالْكَرَابِيسِيُّ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مِصْرَ وَصَنَّفَ كُتُبَهُ الْجَدِيدَةَ كُلَّهَا بِمِصْرَ.
ثُمَّ يَقُول النَّوَوِيُّ: كُل مَسْأَلَةٍ فِيهَا قَوْلاَنِ لِلشَّافِعِيِّ قَدِيمٌ وَجَدِيدٌ، فَالْجَدِيدُ هُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْعَمَل؛ لأَِنَّ الْقَدِيمَ مَرْجُوعٌ عَنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ بَعْضَ الْمَسَائِل الْمُسْتَثْنَاةِ وَالَّتِي يُفْتَى فِيهَا بِالْقَدِيمِ. وَقَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: مُعْتَقَدِي أَنَّ الأَْقْوَال الْقَدِيمَةَ لَيْسَتْ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ كَانَتْ؛ لأَِنَّهُ جَزَمَ فِي الْجَدِيدِ بِخِلاَفِهَا، وَالْمَرْجُوعُ عَنْهُ لَيْسَ مَذْهَبًا لِلرَّاجِعِ.
13 - عَلَى أَنَّ أَتْبَاعَ الأَْئِمَّةِ قَدْ يُفْتُونَ بِالأَْقْوَال الْقَدِيمَةِ الَّتِي رَجَعَ عَنْهَا أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ لِرَجَاحَتِهَا فِي نَظَرِهِمْ.
__________
(1) التبصرة بهامش فتح العلي 1 / 60.(22/134)
يَقُول النَّوَوِيُّ: إِذَا عَلِمْتُ حَال الْقَدِيمِ وَوَجَدْنَا أَصْحَابَنَا أَفْتَوْا بِالْمَسَائِل الَّتِي فِيهِ حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَدَّاهُمُ اجْتِهَادُهُمْ إِلَى الْقَدِيمِ لِظُهُورِ دَلِيلِهِ وَهُمْ مُجْتَهِدُونَ فَأَفْتَوْا بِهِ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نِسْبَتُهُ إِلَى الشَّافِعِيِّ، وَلَمْ يَقُل أَحَدٌ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِل إِنَّهَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. (1) وَيَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: أَتْبَاعُ الأَْئِمَّةِ يُفْتُونَ كَثِيرًا بِأَقْوَالِهِمُ الْقَدِيمَةِ الَّتِي رَجَعُوا عَنْهَا، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ الطَّوَائِفِ. فَالْحَنَفِيَّةُ يُفْتُونَ بِلُزُومِ الْمَنْذُورَاتِ الَّتِي مَخْرَجُهَا مَخْرَجُ الْيَمِينِ كَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ، وَقَدْ حَكَوْا هُمْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَجَعَ قَبْل مَوْتِهِ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ إِلَى التَّكْفِيرِ، وَالْحَنَابِلَةُ يُفْتِي كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِوُقُوعِ طَلاَقِ السَّكْرَانِ، وَقَدْ صَرَّحَ أَحْمَدُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ إِلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ، وَالشَّافِعِيَّةُ يُفْتُونَ بِالْقَوْل الْقَدِيمِ فِي مَسْأَلَةِ التَّثْوِيبِ، وَامْتِدَادِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ، وَمَسْأَلَةِ التَّبَاعُدِ عَنِ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِل، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقَوْل الَّذِي صَرَّحَ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ لَمْ يَبْقَ مَذْهَبًا لَهُ، فَإِذَا أَفْتَى الْمُفْتِي بِهِ مَعَ نَصِّهِ عَلَى خِلاَفِهِ لِرُجْحَانِهِ عِنْدَهُ لَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ عَنِ التَّمَذْهُبِ بِمَذْهَبِهِ.
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الصَّوَابُ إِذَا تَرَجَّحَ - عِنْدَ الْمُنْتَسِبِ إِلَى مَذْهَبٍ - قَوْلٌ غَيْرُ قَوْل إِمَامِهِ بِدَلِيلٍ رَاجِحٍ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى أُصُول إِمَامِهِ
__________
(1) المجموع (1 / 24 - 25، 112 - 113) تحقيق المطيعي.(22/134)
وَقَوَاعِدِهِ، فَإِنَّ الأَْئِمَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أُصُول الأَْحْكَامِ، وَمَتَى قَال بَعْضُهُمْ قَوْلاً مَرْجُوحًا فَأُصُولُهُ تَرُدُّهُ وَتَقْتَضِي الْقَوْل الرَّاجِحَ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: قَال أَبُو عَمْرٍو: اخْتِيَارُ أَحَدِ أَتْبَاعِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لِلْقَدِيمِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيل اخْتِيَارِهِ مَذْهَبَ غَيْرِ الشَّافِعِيِّ إِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ. (1)
2 - الرُّجُوعُ فِي الْعُقُودِ:
أ - الرُّجُوعُ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ:
14 - الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ (غَيْرُ اللاَّزِمَةِ) كَالْعَارِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْوَدِيعَةِ، عُقُودٌ غَيْرُ لاَزِمَةٍ، وَعَدَمُ لُزُومِهَا يُبِيحُ الرُّجُوعَ فِيهَا إِذَا تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ الَّتِي حَدَّدَهَا الْفُقَهَاءُ كَشَرْطِ نُضُوضِ (2) رَأْسِ الْمَال فِي الْمُضَارَبَةِ، وَشَرْطِ عِلْمِ الطَّرَفِ الآْخَرِ بِالْفَسْخِ، وَشَرْطِ عَدَمِ الضَّرَرِ فِي الرُّجُوعِ، فَمَنِ اسْتَعَارَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ، وَأَرَادَ الْمُعِيرُ الرُّجُوعَ، فَإِنَّ الرُّجُوعَ الْفِعْلِيَّ يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَحْصُدَ الزَّرْعَ، وَمَنْ أَعَارَ مَكَانًا لِدَفْنٍ، وَحَصَل الدَّفْنُ فِعْلاً فَلاَ يَرْجِعُ الْمُعِيرُ فِي مَوْضِعِهِ حَتَّى يَنْدَرِسَ أَثَرُ الْمَدْفُونِ، كَمَا أَنَّ الْعَارِيَّةَ الْمُقَيَّدَةَ بِأَجَلٍ أَوْ عَمَلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ
__________
(1) المجموع 1 / 113، وإعلام الموقعين 4 / 238 - 239
(2) الناض من المال: ما كان نقدًا، وهو ضد العرض، الزاهر: ف / 302.(22/135)
رُجُوعَ فِيهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ الأَْجَل أَوِ الْعَمَل. (1)
ب - الْعُقُودُ الَّتِي يَدْخُلُهَا الْخِيَارُ:
15 - الْعُقُودُ الَّتِي مِنْ طَبِيعَتِهَا اللُّزُومُ كَالْبَيْعِ، يَكُونُ لُزُومُهَا بِتَمَامِ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، مَا لَمْ يَلْحَقْهَا الْخِيَارُ فَإِذَا لَحِقَهَا الْخِيَارُ صَارَتْ عُقُودًا غَيْرَ لاَزِمَةٍ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، فَيَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا. (2) انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (خِيَار) .
3 - الرُّجُوعُ بِالإِْقَالَةِ:
16 - الإِْقَالَةُ - سَوَاءٌ اعْتُبِرَتْ فَسْخًا أَوْ بَيْعًا - تُعْتَبَرُ رُجُوعًا فِي الْعَقْدِ بِرِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَهِيَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْجَائِزَةِ بَل الْمَنْدُوبَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَقَال مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ (3) وَالْقَصْدُ مِنْهَا رَدُّ كُل حَقٍّ إِلَى صَاحِبِهِ، فَفِي الْبَيْعِ مَثَلاً يَعُودُ - بِمُقْتَضَاهَا - الْمَبِيعُ إِلَى الْبَائِعِ، وَالثَّمَنُ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَفِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ لاَ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّمَنِ الأَْوَّل أَوْ نَقْصُهُ أَوْ رَدُّ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لأَِنَّ
__________
(1) البدائع 6 / 37، 77، 109، 216، 7 / 378، وجواهر الإكليل 2 / 115، 132، 177، 318، والشرح الصغير 2 / 208 - ط الحلبي، ومغني المحتاج 2 / 215، 270، 319، 3 / 71، القليوبي وعميرة 3 / 21، 22، وشرح منتهى الإرادات 2 / 305، 394، 398، 545، والدسوقي 3 / 535، والمبسوط 12 / 47.
(2) البدائع 5 / 134، ومغني المحتاج 2 / 44، وشرح منتهى الإرادات 2 / 167 - 168
(3) الحديث تقدم في ف / 5.(22/135)
مُقْتَضَى الإِْقَالَةِ رَدُّ الأَْمْرِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَرُجُوعُ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى مَا كَانَ لَهُ. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِقَالَة)
4 - الرُّجُوعُ بِسَبَبِ الإِْفْلاَسِ:
17 - الإِْفْلاَسُ مِنْ أَسْبَابِ الرُّجُوعِ، ذَلِكَ أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِمَال الْمَدِينِ، فَإِذَا حُجِرَ عَلَيْهِ وَكَانَ قَدِ اشْتَرَى شَيْئًا وَقَبَضَهُ وَلَمْ يَدْفَعْ ثَمَنَهُ وَوَجَدَهُ بِعَيْنِهِ قَائِمًا، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِي عَيْنِ مَالِهِ، وَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَلاَ يَسْقُطُ حَقُّهُ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لِلْمَبِيعِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا ابْتَاعَ الرَّجُل السِّلْعَةَ ثُمَّ أَفْلَسَ وَهِيَ عِنْدَهُ بِعَيْنِهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنَ الْغُرَمَاءِ (2) وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ - الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - هَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ شُرُوطِ الرُّجُوعِ الَّتِي حَدَّدَهَا الْفُقَهَاءُ كَكَوْنِ السِّلْعَةِ بَاقِيَةً فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَلَمْ تَتَغَيَّرْ صُورَتُهَا كَالْحِنْطَةِ إِذَا طُحِنَتْ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَقٌّ كَرَهْنٍ، وَأَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ فِي عَيْنِ مَالِهِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ،
__________
(1) الهداية 3 / 54، والدسوقي 3 / 156، ومنح الجليل 2 / 705، والمهذب 1 / 309، وشرح منتهى الإرادات 2 / 192 - 193
(2) حديث: " إذا ابتاع الرجل السلعة ثم أفلس وهي عنده. . . . " أخرجه البيهقي (6 / 45 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة وأصله في مسلم (3 / 1193 - 1194 - ط الحلبي) .(22/136)
كَالْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَالسَّلَمِ، خِلاَفًا لِلْمُعَاوَضَةِ غَيْرِ الْمَحْضَةِ، كَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، فَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَذَلِكَ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَكُونُ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِعَيْنِ مَالِهِ الَّذِي وَجَدَهُ عِنْدَ الْمُفْلِسِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فَيُبَاعُ وَيُقَسَّمُ ثَمَنُهُ بِالْحِصَصِ؛ لأَِنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ قَدْ زَال عَنِ الْمَبِيعِ وَخَرَجَ مِنْ ضَمَانِهِ إِلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَضَمَانِهِ، فَسَاوَى بَاقِيَ الْغُرَمَاءِ فِي سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ سِلْعَتَهُ بِعَيْنِهَا عِنْدَ رَجُلٍ وَقَدْ أَفْلَسَ وَلَمْ يَكُنْ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا فَهِيَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا فَهُوَ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ (2) .
وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ، فَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ، وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ الَّذِي اسْتَدَل بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى الْقَبْضِ بِغَيْرِ إِذْنٍ. (3)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ (إِفْلاَس مِنَ الْمَوْسُوعَةِ ج 5 310) .
__________
(1) الدسوقي 3 / 282 - 283، والمواق بهامش الحطاب 5 / 50، والمهذب 1 / 329، ومغني المحتاج 2 / 158، وكشاف القناع 3 / 425، والمغني 4 / 458.
(2) حديث: " أيما رجل باع سلعته بعينها عند رجل، وقد أفلس. . . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 790 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وأصله في البخاري الفتح (5 / 62 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1993 - ط الحلبي) .
(3) البدائع 5 / 252، وابن عابدين 5 / 96، والعناية بهامش فتح القدير 8 / 209 - 210 - ط دار إحياء التراث.(22/136)
5 - الرُّجُوعُ بِسَبَبِ الْمَوْتِ:
18 - مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ تَعَلَّقَتِ الدُّيُونُ بِمَالِهِ، وَإِذَا مَاتَ مُفْلِسًا قَبْل تَأْدِيَةِ ثَمَنِ مَا اشْتَرَاهُ وَقَبَضَهُ وَوَجَدَ الْبَائِعُ عَيْنَ مَالِهِ فِي التَّرِكَةِ، فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالثَّمَنِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ وَيَرْجِعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ أَوْ أَفْلَسَ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ إِذَا وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ (1) فَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ تَفِي بِالدَّيْنِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْل أَبِي سَعِيدٍ الإِْصْطَخْرِيِّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَالثَّانِي لاَ يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ؛ لأَِنَّ الْمَال يَفِي بِالدَّيْنِ فَلَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ فِي الْمَبِيعِ كَالْحَيِّ الْمَلِيءِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَيْسَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِي عَيْنِ مَالِهِ، بَل يَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعًا فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ مِنْهُ وَلَمْ يَقْبِضِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا فَوَجَدَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ الَّذِي ابْتَاعَهُ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ فِيهِ أُسْوَةُ
__________
(1) حديث: " أيما رجل مات أو أفلس، فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه " أخرجه ابن ماجه (2 / 790 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وأعله ابن حجر بجهالة الراوي عن أبي هريرة، كذا في التلخيص (3 / 38 - ط شركة الطباعة الفنية) .(22/137)
الْغُرَمَاءِ (1) وَلأَِنَّ الْمِلْكَ انْتَقَل عَنِ الْمُفْلِسِ إِلَى الْوَرَثَةِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ. (2) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَرِكَة) .
6 - الرُّجُوعُ بِسَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ:
19 - الاِسْتِحْقَاقُ - بِمَعْنَاهُ الأَْعَمِّ - ظُهُورُ كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا وَاجِبًا لِلْغَيْرِ، وَالاِسْتِحْقَاقُ يَرِدُ فِي الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ يَثْبُتُ لَهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ وَيَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ رَدُّ الْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ لِرَبِّهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (3) .
وَيَشْمَل كَذَلِكَ اسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي، أَوِ الْمَوْهُوبِ عَلَى الْمُتَّهَبِ، فَيَتَبَيَّنُ فَسَادُ الْعَقْدِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَتَوَقَّفُ نَفَاذُ الْعَقْدِ عَلَى الإِْجَازَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَيَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْجُمْلَةِ حَقُّ
__________
(1) حديث: " أيما رجل باع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه منه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا فوجده بعينه فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء " أخرجه مالك في الموطأ (2 / 678 - ط الحلبي) من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام مرسلاً
(2) البدائع 5 / 252، ومنح الجليل 3 / 148، والمهذب 1 / 334، وشرح منتهى الإرادات 2 / 280.
(3) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " أخرجه الترمذي (3 / 557 - ط الحلبي) من حديث الحسن بن سمرة، وأعله ابن حجر بقوله: " الحسن مختلف بسماعه من سمرة " كذا في التلخيص الحبير (3 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية) .(22/137)
الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ ثُبُوتُ الاِسْتِحْقَاقِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالإِْقْرَارِ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِحْقَاق) .
7 - الرُّجُوعُ بِسَبَبِ الأَْدَاءِ وَوُجُودِ الإِْذْنِ:
20 - أَدَاءُ الدَّيْنِ بِإِذْنِ الْمَدِينِ فِي الأَْدَاءِ أَوْ فِي الضَّمَانِ مِنْ أَسْبَابِ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ، فَمَنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ بِضَمَانِ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ أَذِنَ لَهُ بِأَدَائِهِ فَأَدَّاهُ قَاصِدًا الرُّجُوعَ بِهِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، مَعَ مُرَاعَاةِ تَوَافُرِ شُرُوطِ صِحَّةِ الضَّمَانِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كُل مَذْهَبٍ، كَكَوْنِ الضَّامِنِ أَهْلاً لِلتَّبَرُّعِ، وَكَكَوْنِ الدَّيْنِ ثَابِتًا عِنْدَ الضَّمَانِ، وَكَوْنِهِ مَعْلُومًا عِنْدَ مَنْ لاَ يُجِيزُ ضَمَانَ الْمَجْهُول، وَكَأَنْ يُضِيفَ الْمَضْمُونُ الضَّمَانَ إِلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُول: اضْمَنْ عَنِّي. كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ وَالاِسْتِثْنَاءَاتِ.
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ وَعَدَمِهِ عِنْدَ ضَمَانِ الدَّيْنِ وَأَدَائِهِ دُونَ إِذْنِ الْمَدِينِ فِي الضَّمَانِ أَوْ فِي الأَْدَاءِ. فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ أَدَّى
__________
(1) ابن عابدين 5 / 118 - 119، والبدائع 7 / 83، 148، والفتاوى الهندية 3 / 165، ومنح الجليل 3 / 515 - 523، والدسوقي 3 / 461، والحطاب 5 / 296، ومغني المحتاج 2 / 276 وما بعدها، وأشباه السيوطي 232، وشرح منتهى الإرادات 2 / 374، 401، والقواعد لابن رجب 119 - 283 وأشباه ابن نجيم 264(22/138)
دَيْنَ غَيْرِهِ دُونَ إِذْنِهِ فَلاَ يَحِقُّ لَهُ الرُّجُوعُ بِمَا أَدَّى؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَدِينِ تَبَرُّعٌ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْغَيْرِ فَلاَ يَحْتَمِل الرُّجُوعَ. (1)
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ لِصِحَّةِ الضَّمَانِ وَالأَْدَاءِ دُونَ إِذْنِ الْمَدِينِ، وَهَذَا إِذَا ضَمِنَ أَوْ أَدَّى عَلَى سَبِيل الرِّفْقِ بِالْمَدِينِ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْغَرَضُ إِضْرَارَهُ بِسُوءِ طَلَبِهِ وَحَبْسِهِ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا فَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمَدِينِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ الَّذِي أَدَّاهُ لَهُ. (2)
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنِ انْتَفَى الإِْذْنُ فِي الأَْدَاءِ وَالضَّمَانِ فَلاَ رُجُوعَ لَهُ؛ لأَِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ رُجُوعٌ لَمَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَيِّتِ بِضَمَانِ أَبِي قَتَادَةَ. (3)
وَإِنْ أَذِنَ الْمَدِينُ فِي الضَّمَانِ فَقَطْ وَسَكَتَ عَنِ الأَْدَاءِ رَجَعَ فِي الأَْصَحِّ لأَِنَّهُ أَذِنَ فِي سَبَبِ الأَْدَاءِ، وَالثَّانِي: لاَ يَرْجِعُ لاِنْتِفَاءِ الإِْذْنِ فِي الأَْدَاءِ.
21 - وَيُسْتَثْنَى مِنْ أَحَقِّيَّةِ الرُّجُوعِ - إِذَا وُجِدَ
__________
(1) البدائع 6 / 13 - 14، وفتح القدير 4 / 303 - 304 ط دار إحياء التراث.
(2) الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 334 - 336
(3) فعن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: سمعت عبد الله بن أبي قتادة يحدث عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل ليصلي عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " صلوا على صاحبكم؛ فإن عليه دَينًا " قال أبو قتادة: هو عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "(22/138)
الإِْذْنُ فِي الضَّمَانِ - مَا إِذَا ثَبَتَ الضَّمَانُ بِبَيِّنَةٍ وَهُوَ مُنْكِرٌ، كَأَنِ ادَّعَى عَلَى زَيْدٍ وَغَائِبٍ أَلْفًا، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ضَمِنَ مَا عَلَى الآْخَرِ بِإِذْنِهِ، فَأَنْكَرَ زَيْدٌ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً وَغَرَّمَهُ، لَمْ يَرْجِعْ زَيْدٌ عَلَى الْغَائِبِ بِالنِّصْفِ؛ لِكَوْنِهِ مُكَذِّبًا بِالْبَيِّنَةِ، فَهُوَ مَظْلُومٌ بِزَعْمِهِ، فَلاَ يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِ ظَالِمِهِ، وَكَذَا لَوْ قَال الضَّامِنُ بِالإِْذْنِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُؤَدِّيَ دَيْنَ فُلاَنٍ وَلاَ أَرْجِعَ بِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَدَّى لاَ يَرْجِعُ.
وَإِنْ أَذِنَ الْمَدِينُ فِي الأَْدَاءِ وَانْتَفَى الإِْذْنُ فِي الضَّمَانِ فَضَمِنَ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَأَدَّى بِالإِْذْنِ، فَلاَ رُجُوعَ لَهُ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الأَْدَاءِ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَلَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: يَرْجِعُ؛ لأَِنَّهُ أَسْقَطَ الدَّيْنَ عَنِ الأَْصِيل بِإِذْنِهِ،
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ أَدَّى وَشَرَطَ الرُّجُوعَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ. (1)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ بَنَوْا ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي الرُّجُوعِ وَعَدَمِهِ عَلَى النِّيَّةِ. قَالُوا: إِنْ قَضَى الضَّامِنُ الدَّيْنَ وَلَمْ يَنْوِ رُجُوعًا عَلَى مَضْمُونٍ عَنْهُ بِمَا قَضَاهُ لَمْ يَرْجِعْ؛ لأَِنَّهُ مُتَطَوِّعٌ سَوَاءٌ ضَمِنَ بِإِذْنِهِ أَمْ لاَ، وَإِنْ نَوَى الرُّجُوعَ رَجَعَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الضَّمَانُ أَوِ الْقَضَاءُ بِإِذْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ أَمْ بِدُونِ إِذْنِهِ؛ لأَِنَّهُ قَضَاءٌ مُبَرِّئٌ مِنْ دَيْنٍ وَاجِبٍ فَكَانَ مِنْ ضَمَانِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، كَالْحَاكِمِ إِذَا قَضَاهُ عَنْهُ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ، وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ فِي قَضَاءٍ وَلاَ ضَمَانٍ، وَأَمَّا
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 209(22/139)
قَضَاءُ عَلِيٍّ وَأَبِي قَتَادَةَ فَكَانَ تَبَرُّعًا؛ لِقَصْدِ بَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمَدِينِ الْمُتَوَفَّى لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْكَلاَمُ فِيمَنْ نَوَى الرُّجُوعَ لاَ فِيمَنْ تَبَرَّعَ،
هَكَذَا جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ وَشَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ، لَكِنَّ ابْنَ قُدَامَةَ ذَكَرَ رِوَايَةً فِي أَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَقَضَى بِغَيْرِ إِذْنٍ أَيْضًا فَإِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ بِشَيْءٍ وَلَوْ نَوَى الرُّجُوعَ، بِدَلِيل حَدِيثِ عَلِيٍّ وَأَبِي قَتَادَةَ فَإِنَّهُمَا لَوْ كَانَا يَسْتَحِقَّانِ الرُّجُوعَ عَلَى الْمَيِّتِ صَارَ الدَّيْنُ لَهُمَا فَكَانَتْ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ مَشْغُولَةً بِدَيْنِهِمَا كَاشْتِغَالِهَا بِدَيْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَلَمْ يُصَل عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَِنَّهُ تَبَرَّعَ بِذَلِكَ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَلَفَ دَوَابَّهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: إِنْ قَضَى الدَّيْنَ وَلَمْ يَنْوِ رُجُوعًا وَلاَ تَبَرُّعًا بَل ذَهِل عَنْ قَصْدِهِ الرُّجُوعَ وَعَدَمَهُ لَمْ يَرْجِعْ كَالْمُتَبَرِّعِ لِعَدَمِ قَصْدِهِ الرُّجُوعَ. (1)
22 - هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِدَيْنِ الآْدَمِيِّ، أَمَّا دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ فَإِنَّ مَنْ أَدَّى زَكَاةَ غَيْرِهِ دُونَ إِذْنِهِ فَلاَ يُجْزِئُ مَا أَدَّاهُ عَنِ الزَّكَاةِ لاِشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهَا وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ بِمَا أَدَّى، إِلاَّ أَنَّ الزَّكَاةَ إِنْ أَخْرَجَهَا أَحَدٌ بِغَيْرِ عِلْمِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ الإِْمَامِ فَمُقْتَضَى قَوْل أَصْحَابِنَا فِي الأُْضْحِيَّةِ يَذْبَحُهَا
__________
(1) كشاف القناع 3 / 371 - 372، وشرح منتهى الإرادات 2 / 250، والمغني 4 / 607 - 609(22/139)
غَيْرُ رَبِّهَا بِغَيْرِ عِلْمِهِ وَإِذْنِهِ إِنْ كَانَ الْفَاعِل لِذَلِكَ صَدِيقَهُ وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَفْعَل ذَلِكَ لَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ عِنْدَهُ لِتَمَكُّنِ الصَّدَاقَةِ بَيْنَهُمَا، أَجْزَأَتْهُ الأُْضْحِيَّةُ إِنْ كَانَ مُخْرِجَ الزَّكَاةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيل، فَمُقْتَضَى قَوْلِهِمْ فِي الأُْضْحِيَّةِ أَنَّ الزَّكَاةَ تُجْزِئُهُ، لأَِنَّ كِلَيْهِمَا عِبَادَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا مُفْتَقِرَةٌ لِلنِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيل لاَ تُجْزِئُ عَنْ رَبِّهَا لاِفْتِقَارِهَا لِلنِّيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ لأَِجْل شَائِبَةِ الْعِبَادَةِ. (1)
وَإِنْ أَمَرَ شَخْصٌ غَيْرَهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْهُ أَجْزَأَتْ، وَكَانَ لِلْمُؤَدِّي حَقُّ الرُّجُوعِ بِاتِّفَاقٍ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اشْتَرَطُوا ضَمَانَ الآْمِرِ بِأَنْ يَقُول: عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ؛ لأَِنَّهُ فِي بَابِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ يَثْبُتُ لِلْقَابِضِ مِلْكٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْمِثْل، حَتَّى لَوْ ظَهَرَ أَنْ لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ لاَ يَسْتَرِدُّ مِنَ الْفَقِيرِ مَا قَبَضَ، فَيَثْبُتُ لِلآْمِرِ مِلْكُ مِثْل ذَلِكَ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلاَّ بِالشَّرْطِ. قَال فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ:
وَالْحَاصِل أَنَّ الأَْمْرَ فِي الْكَفَالَةِ تَضَمَّنَ طَلَبَ الْقَرْضِ إِذَا ذَكَرَ لَفْظَةَ " عَنِّي "، وَفِي قَضَاءِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ طَلَبُ اتِّهَابٍ، وَلَوْ ذَكَرَ لَفْظَةَ " عَنِّي " (2) .
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 186 - 187
(2) فتح القدير 6 / 303 - 304، والمادة 204 من مرشد الحيران، ومغني المحتاج 2 / 202، والمنثور 1 / 157، وشرح منتهى الإرادات 2 / 251، وقواعد ابن رجب 137(22/140)
ثَانِيًا: الرُّجُوعُ مِنَ الْمَكَانِ وَإِلَيْهِ:
23 - مِنْ أَسْبَابِ الرُّجُوعِ مِنَ الْمَكَانِ أَوْ إِلَيْهِ النُّزُول عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ وَمِنْ ذَلِكَ.
أ - رُجُوعُ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ الْمَكَانِيَّ لِلْحَجِّ دُونَ إِحْرَامٍ:
24 - لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِيقَاتٌ مَكَانِيٌّ حَدَّدَهُ الشَّرْعُ، وَالإِْحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ الْمُحَدَّدِ لِمُرِيدِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ مَرَّ بِهِ، وَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ لِيُحْرِمَ مِنْهُ إِنْ أَمْكَنَهُ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَيْهِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ فَلاَ دَمَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ؛ لأَِنَّهُ أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي أُمِرَ بِالإِْحْرَامِ مِنْهُ.
وَإِنْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَأَحْرَمَ فَعَلَيْهِ دَمٌ، سَوَاءٌ رَجَعَ إِلَى الْمِيقَاتِ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ رَجَعَ قَبْل أَنْ يَتَلَبَّسَ بِنُسُكٍ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ عَادَ فَلَبَّى سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ لَمْ يَسْقُطْ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال لِلَّذِي أَحْرَمَ بَعْدَ الْمِيقَاتِ: ارْجِعْ إِلَى الْمِيقَاتِ فَلَبِّ وَإِلاَّ فَلاَ حَجَّ لَكَ، فَأَوْجَبَ التَّلْبِيَةَ مِنَ الْمِيقَاتِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لاَ يَسْقُطُ الدَّمُ، لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الدَّمِ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ بِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ فَلاَ(22/140)
تَنْعَدِمُ الْجِنَايَةُ بِعَوْدِهِ فَلاَ يَسْقُطُ الدَّمُ، وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ مَا تَلَبَّسَ بِأَفْعَال الْحَجِّ مِنْ طَوَافٍ وَغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ بِاتِّفَاقٍ. (1)
ب - رُجُوعُ الْمُعْتَدَّةِ إِلَى مَنْزِل الْعِدَّةِ:
25 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ خَرَجَتْ لِحَجٍّ أَوْ زِيَارَةٍ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا مُوجِبُ الْعِدَّةِ مِنْ طَلاَقٍ أَوْ مَوْتِ زَوْجِهَا هَل يَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ إِلَى مَنْزِلِهَا لِتَعْتَدَّ فِيهِ لِوُجُوبِ ذَلِكَ شَرْعًا عَلَيْهَا حَيْثُ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُعْتَدَّاتِ عَنِ الْخُرُوجِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ} (2) أَمْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ؟ قَال الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ لَزِمَتْهَا عِدَّةُ طَلاَقٍ بَائِنٍ أَوْ عِدَّةُ وَفَاةٍ بَعْدَمَا خَرَجَتْ لِلْحَجِّ فَإِنْ كَانَ إِلَى مَنْزِلِهَا أَقَل مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ وَإِلَى مَكَّةَ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى مَنْزِلِهَا لِتَعْتَدَّ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِنْشَاءُ سَفَرٍ فَصَارَ كَأَنَّهَا فِي بَلَدِهَا.
وَإِنْ كَانَ إِلَى مَكَّةَ أَقَل مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ وَإِلَى مَنْزِلِهَا مُدَّةُ سَفَرٍ مَضَتْ إِلَى مَكَّةَ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَحْتَاجُ إِلَى الْمَحْرَمِ فِي أَقَل مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَقَل مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ مَضَتْ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ إِلَى مَنْزِلِهَا، وَالرُّجُوعُ أَوْلَى لِيَكُونَ الاِعْتِدَادُ فِي مَنْزِل الزَّوْجِيَّةِ، وَهُوَ
__________
(1) البدائع 2 / 165، وجواهر الإكليل 1 / 170، ومغني المحتاج 1 / 475، والمغني 3 / 266.
(2) سورة الطلاق / 1.(22/141)
أَوْجَهُ. نَقَل هَذَا ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ، وَفِي الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ يَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ؛ لأَِنَّهَا إِذَا رَجَعَتْ صَارَتْ مُقِيمَةً، وَإِذَا مَضَتْ كَانَتْ مُسَافِرَةً.
وَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مُدَّةُ سَفَرٍ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مِصْرَ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ وَجَدَتْ مَحْرَمًا.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِلاَ مَحْرَمٍ بِلاَ خِلاَفٍ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَفَازَةِ أَوْ فِي بَعْضِ الْقُرَى بِحَيْثُ لاَ تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا فَلَهَا أَنْ تَمْضِيَ فَتَدْخُل مَوْضِعَ الأَْمْنِ، ثُمَّ لاَ تَخْرُجُ مِنْهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، سَوَاءٌ وَجَدَتْ مَحْرَمًا أَمْ لَمْ تَجِدْ.
وَعِنْدَهُمَا تَخْرُجُ إِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: عَلَى الْمُعْتَدَّةِ أَنْ تُمْضِيَ مُدَّةَ الْعِدَّةِ فِي بَيْتِهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ قَبْل طُرُوءِ الْعِدَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ قَدْ نَقَلَهَا الزَّوْجُ قَبْل الْمَوْتِ أَوِ الطَّلاَقِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، وَاتُّهِمَ أَنَّهُ نَقَلَهَا لِيُسْقِطَ سُكْنَاهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مُقِيمَةً بِغَيْرِ مَسْكَنِهَا وَقْتَ الْمَوْتِ أَوِ الطَّلاَقِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ لِمَنْزِلِهَا لِتَعْتَدَّ فِيهِ.
__________
(1) البدائع 2 / 1242، 3 / 206 - 207، وابن عابدين 2 / 622، وفتح القدير والعناية عليه 4 / 168.(22/141)
وَلَوْ خَرَجَتْ لِحَجِّ الصَّرُورَةِ (1) مَعَ زَوْجِهَا وَمَاتَ الزَّوْجُ أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ سَيْرِهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ لِتَعْتَدَّ بِمَنْزِلِهَا إِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الْعِدَّةِ بَعْدَ رُجُوعِهَا وَلَوْ يَوْمًا وَاحِدًا. لَكِنَّ الرُّجُوعَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَتْ لَمْ تُحْرِمِ بِالْحَجِّ، فَإِنْ كَانَتْ دَخَلَتْ فِي الإِْحْرَامِ وَلَوْ فِي أَوَّل يَوْمٍ مِنْ سَفَرِهَا فَلاَ تَرْجِعُ.
وَلَوْ خَرَجَتْ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ أَوْ لِزِيَارَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقُرَبِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ وَلَوْ وَصَلَتْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي تُرِيدُهُ وَلَوْ بَعْدَ إِقَامَتِهَا نَحْوَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ.
وَلَوْ خَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا لِلإِْقَامَةِ فِي مَكَانٍ آخَرَ بَعْدَ رَفْضِ السُّكْنَى فِي الْمَسْكَنِ الأَْوَّل فَطُلِّقَتْ أَوْ مَاتَ زَوْجُهَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ فِي الاِعْتِدَادِ بِأَيِّ مَكَانٍ شَاءَتْ. (2) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ انْتَقَلَتِ الزَّوْجَةُ بِإِذْنِ الزَّوْجِ إِلَى مَسْكَنٍ آخَرَ فِي الْبَلَدِ فَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ قَبْل وُصُولِهَا إِلَى الْمَسْكَنِ الآْخَرِ فَلاَ تَرْجِعُ إِلَى مَسْكَنِهَا الأَْوَّل، بَل تَعْتَدُّ فِي الثَّانِي عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الأُْمِّ لأَِنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالْقِيَامِ فِيهِ، وَقِيل: تَعْتَدُّ فِي الأَْوَّل؛ لأَِنَّ مُوجِبَ الْعِدَّةِ لَمْ يَحْصُل وَقْتَ الْفِرَاقِ فِي الثَّانِي، وَقِيل: تَتَخَيَّرُ لِتَعَلُّقِهَا بِكُلٍّ مِنْهُمَا.
__________
(1) حجة الصرورة - بفتح الصاد المهملة -: حجة الإسلام.
(2) جواهر الإكليل 1 / 392، والدسوقي 2 / 485، والمواق 4 / 163.(22/142)
أَمَّا إِذَا وَجَبَتِ الْعِدَّةُ بَعْدَ وُصُولِهَا لِلثَّانِي اعْتَدَّتْ فِيهِ جَزْمًا. وَإِنْ كَانَ الاِنْتِقَال بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ وَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ رَجَعَتْ إِلَى الأَْوَّل وَلَوْ بَعْدَ وُصُولِهَا لِلثَّانِي لِعِصْيَانِهَا بِذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا أَذِنَ لَهَا بَعْدَ الْوُصُول.
وَإِنْ أَذِنَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ فِي سَفَرِ حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ تِجَارَةٍ، أَوِ اسْتِحْلاَل مَظْلِمَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَسَفَرٍ لِحَاجَتِهَا، ثُمَّ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، فَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُفَارِقْ عُمْرَانَ الْبَلَدِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّهَا لَمْ تَشْرَعْ فِي السَّفَرِ.
وَإِنْ فَارَقَتْ عُمْرَانَ الْبَلَدِ وَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَلَهَا الرُّجُوعُ وَلَهَا الْمُضِيُّ فِي السَّفَرِ؛ لأَِنَّ فِي قَطْعِهَا عَنِ السَّفَرِ مَشَقَّةً، لاَ سِيَّمَا إِذَا بَعُدَتْ عَنِ الْبَلَدِ، أَوْ خَافَتْ الاِنْقِطَاعَ عَنِ الرُّفْقَةِ، وَالأَْفْضَل الرُّجُوعُ. وَإِذَا اخْتَارَتِ الْمُضِيَّ وَمَضَتْ لِمَقْصِدِهَا أَوْ بَلَغَتْهُ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهَا دُونَ تَقَيُّدٍ بِمُدَّةِ السَّفَرِ وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ. وَيَجِبُ الرُّجُوعُ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ لِتَعْتَدَّ مَا بَقِيَ مِنَ الْعِدَّةِ فِي مَسْكَنِهَا.
وَإِذَا سَافَرَتْ لِنُزْهَةٍ أَوْ زِيَارَةٍ أَوْ سَافَرَ بِهَا الزَّوْجُ لِحَاجَتِهِ وَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ فَلاَ تَزِيدُ عَلَى مُدَّةِ إِقَامَةِ الْمُسَافِرِينَ ثُمَّ تَعُودُ.
وَإِنْ قَدَّرَ لَهَا الزَّوْجُ مُدَّةً فِي نُقْلَةٍ أَوْ سَفَرِ حَاجَةٍ أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ كَاعْتِكَافٍ، اسْتَوْفَتْهَا وَعَادَتْ لِتَمَامِ الْعِدَّةِ.(22/142)
وَلَوْ أَحْرَمَتْ بِحَجٍّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ، فَإِنْ خَافَتْ فَوَاتَ الْحَجِّ لِضِيقِ الْوَقْتِ وَجَبَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ مُعْتَدَّةً لِتَقَدُّمِ الإِْحْرَامِ، وَإِنْ لَمْ تَخَفْ فَوَاتَ الْحَجِّ لِسَعَةِ الْوَقْتِ جَازَ لَهَا الْخُرُوجُ إِلَى ذَلِكَ لِمَا فِي تَعْيِينِ الصَّبْرِ مِنْ مَشَقَّةِ الْمُصَابَرَةِ عَلَى الإِْحْرَامِ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا أَوْ مَعَهُ لِنُقْلَةٍ مِنْ بَلَدٍ إِلَى آخَرَ فَمَاتَ قَبْل مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ رَجَعَتْ وَاعْتَدَّتْ بِمَنْزِلِهَا؛ لأَِنَّهَا فِي حُكْمِ الْمُقِيمَةِ، وَلَوْ سَافَرَتْ لِغَيْرِ نُقْلَةٍ كَتِجَارَةٍ وَزِيَارَةٍ وَلَوْ لِحَجٍّ وَلَمْ تُحْرِمْ وَمَاتَ زَوْجُهَا قَبْل مَسَافَةِ الْقَصْرِ رَجَعَتْ وَاعْتَدَّتْ بِمَنْزِلِهَا، لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَال: تُوُفِّيَ أَزْوَاجُ نِسَاءٍ وَهُنَّ حَاجَّاتٌ أَوْ مُعْتَمِرَاتٌ فَرَدَّهُنَّ عُمَرُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى يَعْتَدِدْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ وَلأَِنَّهَا أَمْكَنَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي مَنْزِلِهَا قَبْل أَنْ تَبْعُدَ فَلَزِمَهَا كَمَا لَوْ لَمْ تُفَارِقِ الْبُنْيَانَ.
وَإِنْ مَاتَ زَوْجُهَا بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ، فَإِنْ كَانَ سَفَرُهَا لِنُقْلَةٍ، أَوْ بَعْدَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ نُقْلَةٍ، فَإِنَّهَا تُخَيَّرُ بَيْنَ الرُّجُوعِ فَتَعْتَدُّ فِي مَنْزِلِهَا وَبَيْنَ الْمُضِيِّ إِلَى مَقْصِدِهَا؛ لأَِنَّ كِلاَ الْبَلَدَيْنِ سَوَاءٌ. وَحَيْثُ مَضَتْ أَقَامَتْ لِقَضَاءِ حَاجَتِهَا، فَإِنْ كَانَ لِنُزْهَةٍ أَوْ زِيَارَةٍ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدَّرَ لَهَا مُدَّةَ إِقَامَتِهَا أَقَامَتْهَا، وَإِلاَّ أَقَامَتْ ثَلاَثًا، فَإِذَا
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 404.(22/143)
مَضَتِ الْمُدَّةُ أَوْ قَضَتْ حَاجَتَهَا، فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ وَنَحْوُهُ أَتَمَّتِ الْعِدَّةَ بِمَكَانِهَا، وَكَذَا إِنْ كَانَتْ لاَ تَصِل إِلَى مَنْزِلِهَا إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَإِلاَّ لَزِمَهَا الْعَوْدُ لِتُتِمَّ الْعِدَّةَ بِمَنْزِلِهَا.
وَمَنْ أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ بِإِذْنِ الزَّوْجِ ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ، فَإِنْ كَانَتْ سَارَتْ مَسَافَةً أَقَل مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ اعْتِدَادِهَا بِمَنْزِلِهَا وَبَيْنَ الْحَجِّ بِأَنِ اتَّسَعَ الْوَقْتُ لَهُمَا، عَادَتْ لِمَنْزِلِهَا فَاعْتَدَّتْ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا الْجَمْعُ، بِأَنْ كَانَ الْوَقْتُ لاَ يَتَّسِعُ لَهُمَا، قَدَّمَتِ الْحَجَّ إِنْ كَانَتْ بَعُدَتْ عَنْ بَلَدِهَا بِأَنْ كَانَتْ سَافَرَتْ مَسَافَةَ قَصْرٍ، وَإِنْ لَمْ تَبْعُدْ مَسَافَةَ قَصْرٍ وَقَدْ أَحْرَمَتْ قَدَّمَتِ الْعِدَّةَ وَرَجَعَتْ وَتَتَحَلَّل بِعُمْرَةٍ. (1)
ج - الرُّجُوعُ عِنْدَ عَدَمِ الإِْذْنِ:
26 - لاَ يَجُوزُ لإِِنْسَانٍ دُخُول بَيْتِ غَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، مَالِكًا كَانَ مَنْ بِالْمَنْزِل، أَوْ مُسْتَأْجِرًا، أَوْ مُسْتَعِيرًا، إِذَا كَانَ الدَّاخِل أَجْنَبِيًّا أَوْ قَرِيبًا غَيْرَ مَحْرَمٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا.
وَالْوَاجِبُ الاِسْتِئْذَانُ ثَلاَثًا، فَإِنْ أُذِنَ لَهُ بِالدُّخُول دَخَل، وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ أَوْ قِيل لَهُ: ارْجِعْ، رَجَعَ وُجُوبًا دُونَ إِلْحَاحٍ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 228 - 229(22/143)
خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيل لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (1)
أَيْ إِذَا رَدُّوكُمْ مِنَ الْبَابِ قَبْل الإِْذْنِ أَوْ بَعْدَهُ فَرُجُوعُكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ. (2)
د - الرُّجُوعُ مِنَ السَّفَرِ لِحَقِّ الزَّوْجَةِ:
27 - لِلزَّوْجَةِ حَقٌّ فِي الْوَطْءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي مُؤَانَسَةِ زَوْجِهَا لَهَا، وَلِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ مُسَافِرًا التَّعْجِيل بِالرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّل إِلَى أَهْلِهِ وَفِي رِوَايَةٍ: فَلْيُعَجِّل الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ (3) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي الْحَدِيثِ: كَرَاهَةُ التَّغَرُّبِ عَنِ الأَْهْل لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَاسْتِحْبَابُ اسْتِعْجَال الرُّجُوعِ، وَلاَ سِيَّمَا مَنْ يَخْشَى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ
__________
(1) سورة النور / 27 - 28
(2) بدائع الصنائع 5 / 124 - 125، والفواكه الدواني 2 / 427، والشرح الصغير 2 / 530 - ط الحلبي، ومغني المحتاج 4 / 199، ومختصر تفسير ابن كثير 2 / 596 - 597
(3) حديث: " السفر قطعة من العذاب " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 622 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1526 - ط الحلبي) والرواية الثانية أخرجها أحمد في المسند (2 / 496 ط الميمنية) .(22/144)
بِالْغَيْبَةِ، وَلِذَلِكَ يُكْرَهُ أَنْ يَغِيبَ الرَّجُل فِي سَفَرِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ (أَيْ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الإِْيلاَءِ) وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَل حَفْصَةَ: كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنِ الرَّجُل؟ فَقَالَتْ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَأَمَرَ أُمَرَاءَ الأَْجْنَادِ أَنْ لاَ يَتَخَلَّفَ الْمُتَزَوِّجُ عَنْ أَهْلِهِ أَكْثَرَ مِنْهَا عَنْهَا، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ زِيَادَةُ مُضَارَّةٍ بِهَا لَمَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْفِرَاقَ بِالإِْيلاَءِ مِنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ: خَمْسَةَ أَشْهُرٍ أَوْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَأَنَّ عُمَرَ وَقَّتَ لِلنَّاسِ فِي مَغَازِيهِمْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَرْجِعُونَ بَعْدَهَا. (1)
هـ - الرُّجُوعُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُنْكَرِ:
28 - وُجُودُ الْمُنْكَرِ فِي أَيِّ مَكَانٍ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الرُّجُوعِ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِزَالَتِهِ.
فَمَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَعَلَيْهِ الإِْجَابَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُنْكَرٌ كَخَمْرٍ وَنَحْوِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي، فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ الإِْنْكَارُ وَإِزَالَةُ الْمُنْكَرِ لَزِمَهُ الْحُضُورُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الإِْنْكَارِ لاَ يَلْزَمْهُ الْحُضُورُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِوُجُودِ الْمُنْكَرِ حَتَّى حَضَرَ أَزَالَهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ رَجَعَ، وَقِيل: يَصْبِرُ مَعَ
__________
(1) فتح الباري 3 / 622 - 623، وابن عابدين 2 / 398، وجواهر الإكليل 1 / 91، والمهذب 2 / 107 - 108، والمغني 7 / 31، والآداب الشرعية 1 / 482.(22/144)
الإِْنْكَارِ بِقَلْبِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ. (1)
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مُنْكَر، دَعْوَة) .
ثَالِثًا: امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ:
29 - يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ لأَِسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا:
أ - حُكْمُ الشَّرْعِ:
30 - بَعْضُ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَتِمُّ لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا نُزُولاً عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ كَالصَّدَقَةِ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لأَِنَّ الصَّدَقَةَ لإِِرَادَةِ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل. وَقَدْ قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ فِيهَا وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، إِذِ الرَّأْيُ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ عَلَى الْوَلَدِ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا. (2) وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ لِغَيْرِ الْوَلَدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ - الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) الاختيار 4 / 176، وابن عابدين 5 / 221 - 222، والبدائع 5 / 128، والدسوقي 2 / 337، والفواكه الدواني 2 / 421، ومغني المحتاج 3 / 247، والمغني 7 / 5 - 6، وأعلام الموقعين 4 / 209.
(2) الهداية 3 / 231، والكافي لابن عبد البر 2 / 1008، ونهاية المحتاج 5 / 413، والمغني 5 / 684، والمبسوط 12 / 34 - 92(22/145)
وَالْحَنَابِلَةِ - لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لِلرَّجُل أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً ثُمَّ يَرْجِعَ فِيهَا إِلاَّ الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ (1) . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَلاَ فِي هِبَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرَّجُل أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا (2) أَيْ لَمْ يُعَوَّضْ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ عِوَضٌ مَعْنًى؛ لأَِنَّ التَّوَاصُل سَبَبُ التَّنَاصُرِ وَالتَّعَاوُنِ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى اسْتِيفَاءِ النُّصْرَةِ، وَسَبَبِ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الآْخِرَةِ، فَكَانَ أَقْوَى مِنَ الْمَال، وَأَمَّا امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ بِالنِّسْبَةِ لِهِبَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ؛ فَلأَِنَّ صِلَةَ الزَّوْجِيَّةِ تَجْرِي مَجْرَى صِلَةِ الْقَرَابَةِ الْكَامِلَةِ، بِدَلِيل أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ التَّوَارُثِ فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال.
وَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ إِلَى الْفَقِيرِ بَعْدَ قَبْضِهَا؛ لأَِنَّ الْهِبَةَ إِلَى الْفَقِيرِ صَدَقَةٌ؛ لأَِنَّهُ يَطْلُبُ بِهَا الثَّوَابَ كَالصَّدَقَةِ وَلاَ رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْفَقِيرِ بَعْدَ قَبْضِهَا لِحُصُول الثَّوَابِ
__________
(1) الحطاب 6 / 64، والمهذب 1 / 454، والمغني 5 / 682 - 683، وحديث: " لا يحل للرجل أن يعطي عطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده " أخرجه الترمذي (4 / 442 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) حديث: " الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها " أخرجه ابن ماجه (2 / 798 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وضعفه البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 40 - ط دار الجنان) .(22/145)
الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْعِوَضِ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى. (1)
وَالْوَقْفُ إِذَا تَمَّ وَلَزِمَ لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ لأَِنَّهُ مِنَ الصَّدَقَةِ، (2) وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَال: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ فَقَال: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا
قَال: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ وَلاَ يُوهَبُ وَلاَ يُورَثُ (3) .
انْظُرْ: مُصْطَلَحَاتِ: (صَدَقَة، وَقْف، هِبَة)
ب - الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ:
31 - الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ إِذَا تَمَّتْ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول، وَخَلَتْ مِنَ الْخِيَارَاتِ لاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ - إِلاَّ بِرِضَاهُمَا مَعًا كَمَا فِي الإِْقَالَةِ - وَذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ إِذَا لَزِمَ وَتَمَّ لاَ يَقْبَل الْفَسْخَ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ بِلاَ مُوجِبٍ؛ لأَِنَّهَا أَوْجَبَتْ حَقًّا لاَزِمًا أَوْ مِلْكًا لاَزِمًا لِلْغَيْرِ، وَقَدْ قَال
__________
(1) البدائع 6 / 132 - 133
(2) ابن عابدين 3 / 361، والكافي لابن عبد البر 2 / 1012، ونهاية المحتاج 5 / 385، والمغني 5 / 600.
(3) حديث: " أصاب عمر أرضًا بخيبر " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 355 - ط السلفية) .(22/146)
عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ (بَيْع، إِجَارَة) .
ج - تَعَذُّرُ الرُّجُوعِ:
32 - تَعَذُّرُ الرُّجُوعِ فِيمَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ قَدْ يَمْنَعُ حَقَّ الرُّجُوعِ وَيُسْقِطُهُ. وَمِنْ ذَلِكَ تَعَذُّرُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ الَّتِي يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَذَلِكَ كَخُرُوجِ الْمَوْهُوبِ مِنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ، وَمَوْتِ الْوَاهِبِ أَوِ الْمَوْهُوبِ لَهُ. وَالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، عَلَى مَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ. أَوْ كَانَ الاِبْنُ تَزَوَّجَ لأَِجْل الْهِبَةِ كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ. (2) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (هِبَة) .
د - الإِْسْقَاطُ:
33 - مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّاقِطَ يُصْبِحُ كَالْمَعْدُومِ لاَ سَبِيل إِلَى إِعَادَتِهِ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ يَصِيرُ مِثْلَهُ لاَ عَيْنَهُ.
وَمِنَ الْحُقُوقِ مَا يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِيهَا بَعْدَ إِسْقَاطِهَا.
__________
(1) البدائع 4 / 201، 5 / 297، 306، 7 / 28، وجواهر الإكليل 2 / 2 شرح منتهى الإرادات 2 / 371
(2) البدائع 6 / 129، والهداية 3 / 227، والزيلعي 5 / 98، ومنح الجليل 4 / 106، ومغني المحتاج 2 / 403، وشرح منتهى الإرادات 2 / 526، والبدائع 6 / 128.(22/146)
وَمِنْ ذَلِكَ: إِذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ فَقَدْ سَقَطَ الدَّيْنُ وَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ إِلَى مُطَالَبَةِ الْمَدِينِ إِلاَّ إِذَا وُجِدَ سَبَبٌ جَدِيدٌ، وَمِنْ ذَلِكَ حَقُّ الْقِصَاصِ لَوْ عُفِيَ عَنْهُ فَقَدْ سَقَطَ وَسَلِمَتْ نَفْسُ الْقَاتِل وَلاَ تُسْتَبَاحُ إِلاَّ بِجِنَايَةٍ أُخْرَى وَكَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الشُّفْعَةِ فَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ إِلَى الْمُطَالَبَةِ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ قَدْ بَطَل فَلاَ يَعُودُ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ؛
وَكَذَلِكَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ وَالتَّصَرُّفُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْقِطُ حَقَّ الْمُشْتَرِي وَلاَ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ بِالْعَيْبِ أَوْ بِفَسْخِ الْبَيْعِ.
وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ (1) وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي: (إِسْقَاط، شُفْعَة، قِصَاص، خِيَار) .
رَابِعًا: مَا يَكُونُ بِهِ الرُّجُوعُ:
34 - الرُّجُوعُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْل كَقَوْل الْمُوصِي: رَجَعْتُ فِي الْوَصِيَّةِ أَوْ فَسَخْتُهَا، أَوْ رَدَدْتُهَا، أَوْ أَبْطَلْتُهَا، أَوْ نَقَضْتُهَا.
وَمِثْل ذَلِكَ فِي الْهِبَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُودِ الَّتِي يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا.
وَكَقَوْل الرَّاجِعِ عَنِ الإِْقْرَارِ بِالزِّنَى: كَذَبْتُ، أَوْ رَجَعْتُ عَمَّا أَقْرَرْتُ بِهِ، أَوْ مَا زَنَيْتُ.
وَقَدْ يَكُونُ الرُّجُوعُ بِالتَّصَرُّفِ كَأَنْ يَفْعَل فِي
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 20، وشرح المجلة للأتاسي 1 / 118، مادة 51، وجواهر الإكليل 2 / 162، وشرح منتهى الإرادات 3 / 288.(22/147)
الْمُوصَى بِهِ فِعْلاً يُسْتَدَل بِهِ عَلَى الرُّجُوعِ، فَلَوْ أَنَّ الْمُوصِيَ فَعَل فِي الْمُوصَى بِهِ فِعْلاً لَوْ فَعَلَهُ فِي الْمَغْصُوبِ لاَنْقَطَعَ بِهِ مِلْكُ الْمَالِكِ كَانَ رُجُوعًا كَمَا لَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ، وَكَمَا إِذَا أَوْصَى بِثَوْبٍ ثُمَّ قَطَعَهُ وَخَاطَهُ قَمِيصًا، أَوْ بِقُطْنٍ ثُمَّ غَزَلَهُ، أَوْ بِحَدِيدَةٍ ثُمَّ صَنَعَ مِنْهَا إِنَاءً؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْفْعَال لَمَّا أَوْجَبَتْ حُكْمَ الثَّابِتِ فِي الْمَحَل وَهُوَ الْمِلْكُ فَلأََنْ تُوجِبَ بُطْلاَنَ مُجَرَّدِ كَلاَمٍ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ أَصْلاً أَوْلَى؛ وَوَجْهُ الدَّلاَلَةِ أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْفْعَال تُبَدِّل الْعَيْنَ وَتُصَيِّرُهَا شَيْئًا آخَرَ اسْمًا وَمَعْنًى فَكَانَ اسْتِهْلاَكًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَكَانَ دَلِيل الرُّجُوعِ. (1)
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْجُحُودِ أَوِ الإِْنْكَارِ هَل يَكُونُ رُجُوعًا؟ .
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجَحْدَ لاَ يَكُونُ رُجُوعًا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رِوَايَتَانِ، جَاءَ فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ: لَوْ أَوْصَى ثُمَّ جَحَدَ الْوَصِيَّةَ ذَكَرَ فِي الأَْصْل أَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا وَلَمْ يَذْكُرْ خِلاَفًا؛ لأَِنَّ مَعْنَى الرُّجُوعِ عَنِ الْوَصِيَّةِ هُوَ فَسْخُهَا وَإِبْطَالُهَا، وَفَسْخُ الْعَقْدِ كَلاَمٌ يَدُل عَلَى عَدَمِ الرِّضَا بِالْعَقْدِ السَّابِقِ وَبِثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَالْجُحُودُ فِي مَعْنَاهُ؛ لأَِنَّ الْجَاحِدَ لِتَصَرُّفٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ
__________
(1) البدائع 7 / 61، 378، وجواهر الإكليل 2 / 318، ومغني المحتاج 3 / 71 - 72، وشرح منتهى الإرادات 2 / 545.(22/147)
وَبِثُبُوتِ حُكْمِهِ، فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْفَسْخِ، فَحَصَل مَعْنَى الرُّجُوعِ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ ثُمَّ عُرِضَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ فَقَال: لاَ أَعْرِفُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ، قَال: هَذَا رُجُوعٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَال: لَمْ أُوصِ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ.
وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ يَكُونُ الْجَحْدُ رُجُوعًا، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ: إِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ قَال بَعْدَ ذَلِكَ: اشْهَدُوا أَنِّي لَمْ أُوصِ لِفُلاَنٍ بِقَلِيلٍ وَلاَ كَثِيرٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا رُجُوعًا مِنْهُ عَنْ وَصِيَّةِ فُلاَنٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلاَفًا؛ لأَِنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ يَسْتَدْعِي سَابِقِيَّةَ وُجُودِ الْوَصِيَّةِ، وَالْجُحُودُ إِنْكَارُ وُجُودِهَا أَصْلاً، فَلاَ يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الرُّجُوعِ، فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَل رُجُوعًا. قَال الْكَاسَانِيُّ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا ذُكِرَ فِي الأَْصْل قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ قَوْل مُحَمَّدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ. (1)
وَمِمَّا يُعْتَبَرُ رُجُوعًا عَنِ الإِْقْرَارِ بِالزِّنَى هُرُوبُ الزَّانِي وَلَوْ فِي أَثْنَاءِ إِقَامَةِ الْحَدِّ؛ لأَِنَّ الْهَرَبَ دَلِيل الرُّجُوعِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا هَرَبَ مَاعِزٌ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: هَلاَّ تَرَكْتُمُوهُ وَجِئْتُمُونِي بِهِ (2) وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَمَّا
__________
(1) البدائع 7 / 380 - 381، ومغني المحتاج 3 / 71، وشرح منتهى الإرادات 2 / 546.
(2) حديث: " هلا تركتموه وجئتموني به " أخرجه أبو داود 4 / 576 - 577 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث جابر بن عبد الله.(22/148)
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلاَ يُعْتَبَرُ الْهَرَبُ رُجُوعًا، إِلاَّ أَنْ يُصَرِّحَ بِالرُّجُوعِ، وَالْهَرَبُ فَقَطْ لاَ يُعْتَبَرُ رُجُوعًا، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لأَِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِالإِْقْرَارِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالرُّجُوعِ، وَلَكِنْ يُكَفُّ عَنْهُ فَإِنْ رَجَعَ فَذَاكَ، وَإِلاَّ حُدَّ. (1)
خَامِسًا: ارْتِجَاعُ الزَّوْجَةِ:
35 - ارْتِجَاعُ الزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ يُسَمَّى رَجْعَةً، وَهِيَ لُغَةً - بِفَتْحِ الرَّاءِ - الْمَرَّةُ مِنَ الرُّجُوعِ، وَشَرْعًا: رَدُّ الْمَرْأَةِ إِلَى النِّكَاحِ مِنْ طَلاَقٍ غَيْرِ بَائِنٍ فِي الْعِدَّةِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} (2) أَيْ رَجْعَتِهِنَّ، وَلَمَّا طَلَّقَ النَّبِيُّ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا جَاءَهُ جِبْرِيل فَقَال لَهُ: رَاجِعْ حَفْصَةَ فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ فَرَاجَعَهَا (3) .، وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إِلَى الرَّجْعَةِ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ قَدْ يُطَلِّقُ ثُمَّ يَنْدَمُ فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّدَارُكِ، وَالرَّجْعَةُ تَكُونُ بِالْقَوْل
__________
(1) البدائع 7 / 61، وجواهر الإكليل 2 / 285، ومغني المحتاج 4 / 151، ومنتهى الإرادات 3 / 340.
(2) سورة البقرة / 228.
(3) حديث: " لما طلق النبي صلى الله عليه وسلم حفصة جاءه جبريل " أخرجه الحاكم 4 / 15 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث قيس بن زيد مرسلاً، ولكن الحديث صحيح دون ذكر أمر جبريل، ورد من حديث عمر بن الخطاب، أخرجه أبو داود 2 / 712 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (2 / 197 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(22/148)
بِاتِّفَاقٍ كَقَوْل الزَّوْجِ: رَاجَعْتُ زَوْجَتِي، أَوِ ارْتَجَعْتُهَا، أَوْ رَدَدْتُهَا.
وَتَكُونُ بِالْوَطْءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) ، وَتَكُونُ بِالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ، وَالنَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} سَمَّى الرَّجْعَةَ رَدًّا، وَالرَّدُّ لاَ يَخْتَصُّ بِالْقَوْل كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى - لاَ تَحْصُل الرَّجْعَةُ بِالْفِعْل؛ لأَِنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِبَاحَةُ بُضْعٍ مَقْصُودٍ أُمِرَ بِالإِْشْهَادِ فِيهِ فَلَمْ يَحْصُل مِنَ الْقَادِرِ بِغَيْرِ قَوْلٍ كَالنِّكَاحِ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ. (1)
وَفِي بَيَانِ أَرْكَانِ الرَّجْعَةِ وَشُرُوطِهَا يُنْظَرُ: (رَجْعَة) .
سَادِسًا: أَثَرُ الرُّجُوعِ:
36 - لِلرُّجُوعِ آثَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمَرْجُوعِ عَنْهُ وَإِلَيْهِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
أ - أَثَرُ الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ:
37 - الرُّجُوعُ عَنِ الشَّهَادَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْل
__________
(1) البدائع 3 / 180 - 181 - 182 - 183، وجواهر الإكليل 1 / 362، والمهذب 2 / 104، ومغني المحتاج 3 / 335، والمغني 7 / 283.(22/149)
الْحُكْمِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْل اسْتِيفَاءِ الْمَحْكُومِ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الاِسْتِيفَاءِ. فَإِنْ كَانَ الرُّجُوعُ قَبْل الْحُكْمِ امْتَنَعَ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ مَنْ رَجَعَ عَنْ شَهَادَتِهِ لِلتَّنَاقُضِ؛ وَلأَِنَّ الْحَاكِمَ لاَ يَدْرِي، أَصَدَقَ فِي الأَْوَّل أَمْ فِي الثَّانِي؟ فَيَنْتَفِي ظَنُّ الصِّدْقِ، وَكَذِبُهُ ثَابِتٌ لاَ مَحَالَةَ، إِمَّا فِي الشَّهَادَةِ أَوِ الرُّجُوعِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ فِي مَالٍ لِعَدَمِ الإِْتْلاَفِ، لَكِنْ لَوْ كَانَ رُجُوعُهُمْ عَنْ شَهَادَتِهِمْ فِي زِنَى حُدُّوا حَدَّ الْقَذْفِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَإِنْ كَانَ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْل اسْتِيفَاءِ الْمَحْكُومِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ بِمَالٍ لاَ يُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَيَضْمَنُ الشُّهُودُ الْمَال، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَشَمْسِ الأَْئِمَّةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفَرَّقَ شَيْخُ الإِْسْلاَمِ خُوَاهَرْ زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَال: إِنْ كَانَ الْمَال عَيْنًا ضَمِنَ الشُّهُودُ، سَوَاءٌ قَبَضَهُ الْمُدَّعِي أَمْ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا لاَ يَضْمَنُ الشُّهُودُ إِلاَّ إِذَا قَبَضَهُ الْمُدَّعِي وَهُوَ الْمَشْهُودُ لَهُ فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْل الاِسْتِيفَاءِ فِي غَيْرِ الْمَال بِأَنْ كَانَ فِي قِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ، فَلاَ تُسْتَوْفَى الْعُقُوبَةُ؛ لأَِنَّهَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَالرُّجُوعُ شُبْهَةٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْجَمِيعِ إِلاَّ فِي قَوْلٍ لاِبْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنْ قِيل: إِنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ وَاسْتَحْسَنَ عَدَمَ الاِسْتِيفَاءِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ دِيَةُ عَمْدٍ لِلْمَشْهُودِ لَهُ(22/149)
؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ، وَقَدْ سَقَطَ أَحَدُهُمَا فَتَعَيَّنَ الآْخَرُ، وَيَرْجِعُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى الشُّهُودِ، وَهُوَ مَا قَال بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا.
وَإِنْ كَانَ الرُّجُوعُ بَعْدَ الْحُكْمِ وَالاِسْتِيفَاءِ مَضَى الْحُكْمُ وَلاَ يُنْقَضُ، وَضَمِنَ الشُّهُودُ الدِّيَةَ فِي الْقِصَاصِ وَالرَّجْمِ، وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَى وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - غَيْرَ أَشْهَبَ - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَشْهَبُ: عَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ إِنْ قَالُوا تَعَمَّدْنَا، أَوْ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ، وَإِنْ قَالُوا أَخْطَأْنَا فَعَلَيْهِمْ دِيَةٌ مُخَفَّفَةٌ. (1)
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي (شَهَادَة) .
ب - أَثَرُ الرُّجُوعِ عَنِ الإِْقْرَارِ:
38 - مِنْ آثَارِ الرُّجُوعِ عَنِ الإِْقْرَارِ سُقُوطُ الْحَدِّ، فَمَنْ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ كَالزِّنَى وَالشُّرْبِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ رُجُوعَهُ يُعْتَبَرُ
__________
(1) الاختيار 2 / 153 - 155، وفتح القدير 6 / 536 وما بعدها، والبدائع 6 / 283 وما بعدها، والفواكه الدواني 2 / 309 - 310، وجواهر الإكليل 2 / 245، ومغني المحتاج 4 / 456 - 457، وأسنى المطالب 4 / 381، والمهذب 2 / 341، وكشاف القناع 6 / 441، وشرح منتهى الإرادات 3 / 563، والمغني 9 / 245 - 247(22/150)
شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْحَدِّ؛ لاِحْتِمَال صِدْقِهِ وَاحْتِمَال كَذِبِهِ، فَيُوَرِّثُ شُبْهَةً فِي ظُهُورِ الْحَدِّ، وَالْحُدُودُ لاَ تُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَحِينَ أَقَرَّ مَاعِزٌ بِالزِّنَى لَقَّنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّجُوعَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَدُّ مُحْتَمِلاً لِلسُّقُوطِ بِالرُّجُوعِ مَا كَانَ لِلتَّلْقِينِ مَعْنًى، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَال الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو ثَوْرٍ: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ مَاعِزًا هَرَبَ فَقَتَلُوهُ، وَلَوْ قُبِل رُجُوعُهُ لَلَزِمَتْهُمُ الدِّيَةُ، وَلأَِنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ بِإِقْرَارِهِ، فَلَمْ يُقْبَل رُجُوعُهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.
أَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لاَ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ مِنَ الأَْمْوَال وَغَيْرِهَا فَلاَ يُقْبَل الرُّجُوعُ فِيهَا.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ مَعَ التَّفْصِيل الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ فِيمَا إِذَا كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. (1)
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي بَحْثِ: (إِقْرَار) .
ج - أَثَرُ الرُّجُوعِ عَنِ الإِْسْلاَمِ وَإِلَيْهِ:
39 - مِنْ آثَارِ الرُّجُوعِ عَنِ الإِْسْلاَمِ وَإِلَيْهِ إِهْدَارُ الدَّمِ أَوْ عِصْمَتُهُ، فَمَنْ كَانَ مُسْلِمًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْ
__________
(1) البدائع 7 / 61، 232، 233، والدسوقي 4 / 318، 319، والقوانين الفقهية ص 313 ط دار الكتاب العربي في باب الإقرار، والفروق للقرافي 4 / 38، والمهذب 2 / 346، والمغني 5 / 164، 8 / 197.(22/150)
دِينِ الإِْسْلاَمِ اعْتُبِرَ مُرْتَدًّا فَالرِّدَّةُ هِيَ الرُّجُوعُ عَنِ الإِْسْلاَمِ، وَيُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ثَلاَثًا، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ أُهْدِرَ دَمُهُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ (1) .
وَإِذَا تَابَ الْمُرْتَدُّ وَرَجَعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ فَقَدْ عُصِمَ دَمُهُ وَمَالُهُ، وَمِثْلُهُ الْمُحَارِبُ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَى الإِْسْلاَمِ، (2) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَمَنْ قَال لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (رِدَّة - جِهَاد) .
رَحِمٌ
انْظُرْ: أَرْحَام
__________
(1) حديث: " من بدل دينه فاقتلوه " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 267 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.
(2) البدائع 7 / 134 - 135، 140، وجواهر الإكليل 2 / 277، والمهذب 2 / 219، 222، والمغني 8 / 123.
(3) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 112 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 51 - 52 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(22/151)
رُخْصَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - تُطْلَقُ كَلِمَةُ رُخْصَةٍ - فِي لِسَانِ الْعَرَبِ - عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ نُجْمِل أَهَمَّهَا فِيمَا يَلِي:
أ - نُعُومَةُ الْمَلْمَسِ، يُقَال: رَخُصَ الْبَدَنُ رَخَاصَةً إِذَا نَعُمَ مَلْمَسُهُ وَلاَنَ، فَهُوَ رَخْصٌ - بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ - وَرَخِيصٌ، وَهِيَ رَخْصَةٌ وَرَخِيصَةٌ.
ب - انْخِفَاضُ الأَْسْعَارِ، يُقَال: رَخُصَ الشَّيْءُ رُخْصًا - بِضَمٍّ فَسُكُونٍ - فَهُوَ رَخِيصٌ ضِدُّ الْغَلاَءِ. (1)
ج - الإِْذْنُ فِي الأَْمْرِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ: يُقَال: رَخَّصَ لَهُ فِي الأَْمْرِ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَالاِسْمُ رُخْصَةٌ عَلَى وَزْنِ فُعْلَةٌ مِثْل غُرْفَةٍ، وَهِيَ ضِدُّ التَّشْدِيدِ، أَيْ أَنَّهَا تَعْنِي التَّيْسِيرَ فِي الأُْمُورِ، يُقَال: رَخَّصَ الشَّرْعُ فِي كَذَا تَرْخِيصًا، وَأَرْخَصَ إِرْخَاصًا إِذَا يَسَّرَهُ وَسَهَّلَهُ. (2) قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس.
(2) المصباح المنير.(22/151)
يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا الْغَزَالِيُّ بِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَمَّا وُسِّعَ لِلْمُكَلَّفِ فِي فِعْلِهِ لِعُذْرٍ عَجَزَ عَنْهُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَزِيمَةُ:
2 - الْعَزِيمَةُ لُغَةً: الْقَصْدُ الْمُؤَكَّدُ. (3)
وَاصْطِلاَحًا عِبَارَةٌ عَمَّا لَزِمَ الْعِبَادَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى. (4)
فَلاَ يُقَال رُخْصَةٌ بِدُونِ عَزِيمَةٍ تُقَابِلُهَا، فَهُمَا يَنْتَمِيَانِ مَعًا إِلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِاتِّفَاقِ أَهْل الذِّكْرِ، وَهُمَا عَلَى الْقَوْل الرَّاجِحِ مِنَ الأَْحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ، وَعَلَى الْمَرْجُوحِ مِنَ الأَْحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ التَّكْلِيفَ (أَوْ الاِقْتِضَاءَ) مَوْجُودٌ فِي الْعَزِيمَةِ كَمَا أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الرُّخْصَةِ إِلاَّ أَنَّهُ فِي الأُْولَى أَصْلِيٌّ كُلِّيٌّ مُطَّرِدٌ وَاضِحٌ، وَفِي الثَّانِيَةِ طَارِئٌ جُزْئِيٌّ غَيْرُ مُطَّرِدٍ مَعَ خَفَائِهِ وَدِقَّتِهِ. وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا أَنَّ الأُْولَى تُمَثِّل حَقَّ
__________
(1) حديث: " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته " أخرجه أحمد (2 / 108 - ط الميمنية) من حديث ابن عمر، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 162 - ط القدسي) ، وقال: " رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح ".
(2) المستصفى 1 / 63، مطبعة محمد مصطفى سنة 1356 هـ.
(3) المصباح المنير.
(4) المستصفى 1 / 98(22/152)
اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ وَأَنَّ الثَّانِيَةَ تُمَثِّل حَظَّ الْعِبَادِ مِنْ لُطْفِهِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (عَزِيمَة) .
ب - الإِْبَاحَةُ:
3 - الإِْبَاحَةُ هِيَ: تَخْيِيرُ الْمُكَلَّفِ بَيْنَ الْفِعْل وَالتَّرْكِ. فَالإِْبَاحَةُ تُشْعِرُ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا أَصْلِيٌّ. وَتَتَلاَقَى فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ مَعَ الرُّخَصِ. (1) انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِبَاحَة) .
ج - رَفْعُ الْحَرَجِ:
4 - رَفْعُ الْحَرَجِ فِي الاِصْطِلاَحِ يَتَمَثَّل فِي إِزَالَةِ كُل مَا يُؤَدِّي إِلَى مَشَقَّةٍ زَائِدَةٍ فِي الْبَدَنِ أَوِ النَّفْسِ أَوِ الْمَال فِي الْبَدْءِ وَالْخِتَامِ، وَالْحَال وَالْمَآل. وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُول الشَّرِيعَةِ ثَبَتَ بِأَدِلَّةٍ قَطْعِيَّةٍ لاَ تَقْبَل الشَّكَّ. (2)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الرُّخْصَةِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ مِنْ وُجُوهٍ:
1 - أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ أَصْلٌ كُلِّيٌّ مِنْ أُصُول الشَّرِيعَةِ وَمَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِهَا - كَمَا سَبَقَ - أَمَّا الرُّخَصُ فَهِيَ فَرْعٌ يَنْدَرِجُ ضِمْنَ هَذَا الأَْصْل الْعَامِّ وَجُزْءٌ أُخِذَ مِنْ هَذَا الْكُل، فَرَفْعُ الْحَرَجِ مُؤَدَّاهُ يُسْرُ التَّكَالِيفِ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهَا، وَالرُّخَصُ مُؤَدَّاهَا تَيْسِيرُ مَا شَقَّ عَلَى بَعْضِ النُّفُوسِ عِنْدَ التَّطْبِيقِ
__________
(1) المستصفى 1 / 64
(2) الموافقات 1 / 168.(22/152)
مِنْ تِلْكَ الأَْحْكَامِ الْمُيَسَّرَةِ ابْتِدَاءً (1) .
2 - أَنَّ الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ عَنِ الأَْحْكَامِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً فِي الْحَال وَالْمَآل، بَيْنَمَا الرُّخَصُ تَشْمَل - عَادَةً - أَحْكَامًا مَشْرُوعَةً بِنَاءً عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ تَنْتَهِي بِانْتِهَائِهَا، وَأُخْرَى تُرَاعَى فِيهَا أَسْبَابٌ مُعَيَّنَةٌ تَتْبَعُهَا وُجُودًا وَعَدَمًا.
وَلَيْسَتِ الرُّخَصُ مُرَادِفَةً لِرَفْعِ الْحَرَجِ وَإِلاَّ لَكَانَتْ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا رُخَصًا بِدُونِ عَزَائِمَ. وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَفْعُ الْحَرَجِ) .
3 - إِذَا رَفَعَ الْمُشَرِّعُ الْحَرَجَ عَنْ فِعْلٍ مِنَ الأَْفْعَال فَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ الْفِعْل إِنْ وَقَعَ مِنَ الْمُكَلَّفِ لاَ إِثْمَ وَلاَ مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ، وَيَبْقَى الإِْذْنُ فِي الْفِعْل مَسْكُوتًا عَنْهُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقْصُودٍ، إِذْ لَيْسَ كُل مَا لاَ حَرَجَ فِيهِ يُؤْذَنُ فِيهِ، (2) بِخِلاَفِ التَّرْخِيصِ فِي الْفِعْل فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ - إِلَى جَانِبِ ذَلِكَ - الإِْذْنَ فِيهِ. (3) انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَفْعُ الْحَرَجِ) .
د - النَّسْخُ:
5 - النَّسْخُ اصْطِلاَحًا بَيَانُ انْتِهَاءِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ مُتَرَاخٍ عَنْهُ. فَإِذَا كَانَ النَّسْخُ مِنَ
__________
(1) الموافقات 1 / 313.
(2) المصدر السابق 4 / 61
(3) نفس المصدر 1 / 146.(22/153)
الأَْشَدِّ لِلأَْخَفِّ فَإِنَّهُ يَشْتَرِكُ مَعَ الرُّخْصَةِ فِي الْتِمَاسِ التَّخْفِيفِ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُعَدُّ مِنْهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي سَبَقَ؛ لأَِنَّ الدَّلِيل الأَْصْلِيَّ لَمْ يَعُدْ قَائِمًا. انْظُرْ: (نَسْخ) .
الْحِكْمَةُ مِنْ تَشْرِيعِ الرُّخَصِ:
6 - تَحْقِيقُ مَبْدَأِ الْيُسْرِ وَالسَّمَاحَةِ فِي الإِْسْلاَمِ تَحْقِيقًا عَمَلِيًّا تَطْبِيقِيًّا. قَال تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) . وَقَال - جَل ذِكْرُهُ -: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِْنْسَانُ ضَعِيفًا} (2) . وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ (3) وَقَال أَيْضًا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلاَ مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا (4)
الصِّيَغُ الَّتِي تَدُل عَلَى الرُّخْصَةِ:
7 - الرُّخْصَةُ تَكُونُ غَالِبًا بِمَا يَلِي:
أ - مَادَّتُهَا: مِثْل رَخَّصَ وَأَرْخَصَ وَرُخْصَةٍ، فَفِي
__________
(1) سورة البقرة / 185.
(2) سورة النساء / 28.
(3) حديث: " إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 93 ط السلفية) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) حديث: " إن الله لم يبعثني معنتًا. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1105 - ط الحلبي) من حديث أبي بكر رضي الله عنه.(22/153)
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا بَال أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ (1) وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ. . (2) وَفِيهِ - أَيْضًا - أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: رَخَّصَ فِي الْكَفَّارَةِ قَبْل الْحِنْثِ (3) .
وَرَخَّصَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْجَرِّ غَيْرِ الْمُزَفَّتِ مِنَ الأَْوْعِيَةِ (4) . وَرَخَّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ قَبْل طَوَافِ الْوَدَاعِ (5) . وَرَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا (6) . {
وَرَخَّصَ فِي الرُّقْيَةِ مِنَ الْعَيْنِ. . (7) وَفِي حَدِيثِ
__________
(1) حديث: " ما بال قوم يرغبون عما رخص لي فيه " أخرجه مسلم (4 / 1829 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(2) حديث: " نهى عن بيع الثمر بالتمر، ورخص في العرية " أخرجه البخاري الفتح (4 / 387 - ط السلفية) من حديث سهل بن أبي حثمة.
(3) حديث: " رخص في الكفارة قبل الحنث " ورد من حديث أبي موسى الأشعري، أخرجه البخاري الفتح (12 / 602 - ط السلفية) .
(4) حديث: " رخص للمسلمين في الجر غير المزفت من الأوعية " أخرجه البخاري الفتح (10 / 57 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمرو.
(5) حديث: " رخص للحائض أن تنفر قبل طواف الوداع " أخرجه البخاري الفتح (3 / 586 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 963 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(6) حديث: " رخص للزبير وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير " أخرجه البخاري (10 / 295 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1646 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(7) حديث: " رخص في الرقية من العين " أخرجه مسلم (4 / 1725 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.(22/154)
جَزَاءِ الصَّيْدِ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ (1) . يَعْنِي عَلَيْكُمْ بِالصَّوْمِ إِذَا كَانَ فِي تَعْوِيضِهِ بِالأَْنْعَامِ عُسْرٌ مَهْمَا كَانَ مَأْتَاهُ.
ب - نَفْيُ الْجُنَاحِ:
وَرَدَ الْجُنَاحُ مَنْفِيًّا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ آيَةً يُسْتَفَادُ مِنْ أَغْلَبِهَا التَّرْخِيصُ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَهْل الْعِلْمِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ} (2) .
ج - نَفْيُ الإِْثْمِ:
مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) .
د - الاِسْتِثْنَاءُ مِنْ حُكْمٍ عَامٍّ:
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: - فِي شَأْنِ الإِْكْرَاهِ -: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (4)
__________
(1) حديث: " عليكم برخصة الله التي رخص لكم " أخرجه مسلم (2 / 786 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) سورة النساء / 101.
(3) سورة البقرة / 173.
(4) سورة النحل / 106.(22/154)
رَخَّصَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الآْيَةِ لِلْمُكْرَهِ إِظْهَارَ الْكُفْرِ - إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ التَّلَفَ - فَلَهُ أَنْ يُظْهِرَ الْكُفْرَ بِشَيْءٍ مِنْ مَظَاهِرِهِ الَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا كُفْرٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ رِفْقًا بِعِبَادِهِ، وَاعْتِبَارًا لِلأَْشْيَاءِ بِغَايَاتِهَا وَمَقَاصِدِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال - بَعْدَ أَنْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا -: يَا رَسُول اللَّهِ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ، وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ قَال: مُطْمَئِنًّا بِالإِْيمَانِ. فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ (1) .
أَقْسَامُ الرُّخْصَةِ:
8 - تَنْقَسِمُ الرُّخْصَةُ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ أَهَمُّهَا:
أ - بِاعْتِبَارِ حُكْمِهَا: الَّذِينَ قَسَّمُوا الرُّخَصَ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ هُمُ الشَّافِعِيَّةُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا حَيْثُ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّهَا تَنْقَسِمُ - بِالاِعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ - إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: (2)
__________
(1) حديث: " إن عادوا فعد. . . . " أخرجه ابن جرير في تفسيره (14 / 182 - ط الحلبي) وفي سنده إرسال.
(2) المحلي على جمع الجوامع 1 / 122 بحاشية البناني، غاية الوصول ص 18، نهاية السول في شرح منهاج الوصول للبيضاوي 1 / 121، 122، والأشباه والنظائر ص 82 للسيوطي.(22/155)
الْقِسْمُ الأَْوَّل:
9 - رُخَصٌ وَاجِبَةٌ: مِثْل أَكْل الْمُضْطَرِّ مِمَّا حُرِّمَ مِنَ الْمَأْكُولاَتِ، وَشُرْبِهِ مِمَّا حُرِّمَ مِنَ الْمَشْرُوبَاتِ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْل الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَقِيل: إِنَّ أَكْل الْمُضْطَرِّ أَوْ شُرْبَهُ مِمَّا ذُكِرَ جَائِزٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَوْل بِالْوُجُوبِ يَتَنَافَى مَعَ التَّرْخِيصِ، وَلِذَلِكَ نَقَلُوا عَنْ إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ الشَّافِعِيِّ الْقَوْل بِأَنَّ أَكْل الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ عَزِيمَةٌ لاَ رُخْصَةٌ، كَالْفِطْرِ لِلْمَرِيضِ فِي رَمَضَانَ وَنَحْوِهِ هُرُوبًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي التَّنَاقُضِ. (1)
وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الأُْصُول إِلَى خِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَكْل الْمَيْتَةِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَمَا أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَنَحْوِهَا فِي حَال الضَّرُورَةِ - بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ الأَْكْل وَاجِبًا أَوْ جَائِزًا -: هَل تُرْفَعُ تِلْكَ الْحُرْمَةُ فِي هَذِهِ الْحَال فَيَصِيرُ أَكْلُهَا مُبَاحًا، أَوْ تَبْقَى وَيَرْتَفِعُ الإِْثْمُ فَقَطْ؟ .
بَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّهَا لاَ تَحِل، وَلَكِنْ يُرَخَّصُ فِي الْفِعْل إِبْقَاءً عَلَى حَيَاةِ الشَّخْصِ - كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الإِْكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَرْتَفِعُ فِي
__________
(1) انظر كلام الهراسي ورد ابن دقيق العيد في سلم الوصول إلى نهاية السول (حاشية الشيخ بخيت على الإسنوي 1 / 121) .(22/155)
تِلْكَ الْحَالَةِ، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ اسْتَنَدَ إِلَى أَدِلَّةٍ مَبْسُوطَةٍ فِي كُتُبِ الأُْصُول. (1)
وَهَذَا الْخِلاَفُ تَظْهَرُ لَهُ فَائِدَتَانِ:
الأُْولَى: إِذَا صَبَرَ الْمُضْطَرُّ حَتَّى مَاتَ لاَ يَكُونُ آثِمًا عَلَى الْقَوْل الأَْوَّل، وَيَكُونُ آثِمًا عَلَى الثَّانِي.
الثَّانِيَةُ: إِذَا حَلَفَ الْمُكَلَّفُ بِأَنْ لاَ يَأْكُل حَرَامًا أَبَدًا، فَتَنَاوَل مِنْهُ فِي حَال الضَّرُورَةِ يَحْنَثُ عَلَى الأَْوَّل، وَلاَ يَحْنَثُ عَلَى الثَّانِي. (2)
الْقِسْمُ الثَّانِي:
10 - رُخَصٌ مَنْدُوبَةٌ: مِثْل الْقَصْرِ لِلْمُسَافِرِ سَفَرًا يَبْلُغُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل أَيْضًا الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَالإِْبْرَادُ بِالظُّهْرِ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ، (3) وَمُخَالَطَةُ الْيَتَامَى فِي أَمْوَالِهِمْ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِمْ مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ اعْتِمَادًا عَلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (4) . حَيْثُ نَصَّ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الآْيَةَ تَتَضَمَّنُ تَرْخِيصًا فِي خَلْطِ طَعَامِ الْيَتِيمِ بِطَعَامِ كَافِلِهِ، وَشَرَابِهِ بِشَرَابِهِ،
__________
(1) سلم الوصول إلى نهاية السول 1 / 121، 122، كشف الأسرار على أصول البزدوي 1 / 642.
(2) سلم الوصول 1 / 122، كشف الأسرار 1 / 642.
(3) التمهيد لابن عبد البر 2 / 122، المحلي على جمع الجوامع 1 / 121، الأشباه والنظائر ص 82.
(4) سورة البقرة / 220.(22/156)
وَمَاشِيَتِهِ بِمَاشِيَتِهِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، كَمَا أَكَّدُوا بِأَنَّهَا أَفَادَتْ حَثًّا عَلَى هَذِهِ الْمُخَالَطَةِ وَتَعْرِيضًا بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ احْتِقَارِ الْيَتِيمِ وَالتَّرَفُّعِ عَنْهُ. (1)
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
11 - رُخَصٌ مُبَاحَةٌ: وَقَدْ مَثَّلُوا لَهَا بِالْعُقُودِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، كَالسَّلَمِ، وَالْعَرِيَّةِ، وَالْقِرَاضِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالإِْجَارَةِ، وَالْجُعْل، وَنَحْوِهَا مِمَّا أُبِيحَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ. (2)
الْقِسْمُ الرَّابِعُ:
12 - رُخَصٌ جَاءَتْ عَلَى خِلاَفِ الأَْوْلَى: مِثْل الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ الَّذِي لاَ يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ مَشَقَّةً قَوِيَّةً، وَالتَّيَمُّمِ لِمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ يُبَاعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَالْجَمْعِ الَّذِي لاَ تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَةُ الْمُسَافِرِ.
وَالسُّؤَال عَنِ الأَْشْيَاءِ فِي وَقْتِهَا، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَسْخِهِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ. (3)
ب - بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ:
تَقْسِيمُ الرُّخَصِ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ يُمَثِّل وِجْهَةَ نَظَرِ
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 1 / 389 - 391، أحكام القرآن لابن العربي 1 / 65
(2) نهاية السول 1 / 123، 124، 127، 128، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 82، التمهيد لابن عبد البر 2 / 171.
(3) المعيار للونشريسي 1 / 87، 4، 5.(22/156)
الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ تَوَاطَأَتْ كَلِمَتُهُمْ سَلَفًا وَخَلَفًا عَلَى تَقْسِيمِهَا - بِالاِعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ - إِلَى قِسْمَيْنِ رَئِيسِيَّيْنِ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: رُخَصٌ حَقِيقِيَّةٌ:
13 - وَهِيَ الَّتِي تَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ عَزَائِمَ مَا يَزَال الْعَمَل بِهَا جَارِيًا لِقِيَامِ دَلِيلِهَا، وَهَذَا الْقِسْمُ يَنْقَسِمُ - بِدَوْرِهِ - إِلَى قِسْمَيْنِ:
1 - مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ، وَالْحُرْمَةِ مَعًا، وَهُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الرُّخَصِ؛ لأَِنَّ الْحُرْمَةَ لَمَّا كَانَتْ قَائِمَةً مَعَ سَبَبِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ شَرَعَ لِلْمُكَلَّفِ الإِْقْدَامَ عَلَى الْفِعْل دُونَ مُؤَاخَذَةٍ بِنَاءً عَلَى عُذْرِهِ، كَانَ ذَلِكَ الإِْقْدَامُ فِي أَكْمَل دَرَجَاتِهِ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ عَنِ الْجِنَايَةِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ. وَلَيْسَ فِي الأَْمْرِ أَيُّ غَرَابَةٍ؛ لأَِنَّ كَمَال الرُّخَصِ بِكَمَال الْعَزَائِمِ، فَكُلَّمَا كَانَتْ هَذِهِ حَقِيقِيَّةً كَامِلَةً ثَابِتَةً مِنْ كُل وَجْهٍ، كَانَتِ الرُّخْصَةُ فِي مُقَابَلَتِهَا كَذَلِكَ. (1) وَقَدْ ذَكَرُوا - لِهَذَا الْقِسْمِ - أَمْثِلَةً مِنْهَا:
التَّرْخِيصُ فِي إِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالإِْيمَانِ عِنْدَ الإِْكْرَاهِ الْمُلْجِئِ بِالْقَتْل أَوْ بِالْقَطْعِ؛ لأَِنَّ فِي امْتِنَاعِهِ عَنِ الْفِعْل إِتْلاَفَ ذَاتِهِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَفِي إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ
__________
(1) المغني في أصول الفقه ص 87، كشف الأسرار 1 / 636، والتوضيح على التنقيح 3 / 83 - 85، فواتح الرحموت 1 / 116، 117، مرآة الأصول 2 / 394.(22/157)
إِتْلاَفَ حَقِّ الشَّرْعِ صُورَةً دُونَ مَعْنًى حَيْثُ إِنَّ الرُّكْنَ الأَْصْلِيَّ فِي الإِْيمَانِ - وَهُوَ التَّصْدِيقُ - بَاقٍ عَلَى حَالِهِ. (1) وَمَعَ ذَلِكَ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَخْيِيرِهِ بَيْنَ الْفِعْل وَالتَّرْكِ، بَل رَجَّحَ الْحَنَفِيَّةُ مِنْهُمُ الأَْخْذَ بِالْعَزِيمَةِ فِي هَذَا الْمِثَال بِالْخُصُوصِ؛ لأَِنَّ إِحْيَاءَ النُّفُوسِ - هُنَا - يُقَابِلُهُ مَوْقِفٌ عَظِيمٌ مِنْ مَوَاقِفِ السُّمُوِّ وَالإِْبَاءِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْحَقِّ مَهْمَا اشْتَدَّتِ الْفِتْنَةُ وَعَظُمَ الْبَلاَءُ. (2) وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا التَّرْجِيحِ بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ أَكْرَهَ رَجُلَيْنِ - مِنَ الْمُسْلِمِينَ - عَلَى الْكُفْرِ فَنَطَقَ أَحَدُهُمَا بِكَلِمَتِهِ فَنَجَا، وَأَصَرَّ الآْخَرُ عَلَى الْجَهْرِ بِالْحَقِّ فَهَلَكَ، فَقَال فِيهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُ خَبَرُهُمَا: أَمَّا الأَْوَّل فَقَدْ أَخَذَ بِرُخْصَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ صَدَعَ بِالْحَقِّ فَهَنِيئًا لَهُ (3) .
2 - مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ وَتَرَاخِي الْحُرْمَةِ: مِثْل الإِْفْطَارِ فِي رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ، فَإِنَّ السَّبَبَ الْمُحَرِّمَ لِلإِْفْطَارِ - وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ - قَائِمٌ، لَكِنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ أَوْ حُرْمَةَ الإِْفْطَارِ غَيْرُ قَائِمَةٍ عَلَى الْفَوْرِ بَل ثَابِتَةٌ عَلَى
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) كشف الأسرار 1 / 636، والتوضيح 3 / 85.
(3) حديث: " إكراه مسيلمة رجلين من المسلمين على الكفر " أخرجه ابن أبي شيبة من حديث الحسن مرسلاً، وأخرجه كذلك عبد الرزاق في تفسيره عن معمر معضلاً، كذا في " الكافي الشافي " لابن حجر (2 / 637 - ط دار الكتاب العربي بهامش الكشاف) .(22/157)
التَّرَاخِي بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. قَال تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) .
وَالْعَمَل بِالْعَزِيمَةِ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا أَوْلَى مِنَ الْعَمَل بِالرُّخْصَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَيِ الصَّوْمُ أَوْلَى مِنَ الإِْفْطَارِ عِنْدَهُمْ.
أَوَّلاً: لأَِنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ - وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ - كَانَ قَائِمًا، وَتَرَاخِي الْحُكْمِ بِالأَْجَل غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ التَّعْجِيل، مِثْلَمَا هُوَ الأَْمْرُ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل، فَكَانَ الْمُؤَدِّي لِلصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَامِلاً لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ، وَالْمُتَرَخِّصُ بِالْفِطْرِ عَامِلاً لِنَفْسِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى التَّرْفِيهِ، فَقَدَّمَ حَقَّ اللَّهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ.
ثَانِيًا: لأَِنَّ فِي الأَْخْذِ بِالْعَزِيمَةِ نَوْعَ يُسْرٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي شَهْرِ الصِّيَامِ أَيْسَرُ مِنَ التَّفَرُّدِ بِهِ بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ. (2) هَذَا إِذَا لَمْ يُضْعِفْهُ الصَّوْمُ، فَإِذَا أَضْعَفَهُ كَانَ الْفِطْرُ أَوْلَى، فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى مَاتَ كَانَ آثِمًا بِلاَ خِلاَفٍ. وَقَدْ رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ الأَْخْذَ بِالرُّخْصَةِ فِي هَذَا الْمِثَال، وَالْجَمِيعُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ ثُمَّ مَاتَ قَبْل إِدْرَاكِ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْل رَمَضَانَ. وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ أَخَذَ
__________
(1) سورة البقرة / 184.
(2) كشف الأسرار 1 / 640، والتوضيح 3 / 85، مرآة الأصول 2 / 396، وفواتح الرحموت 1 / 171.(22/158)
بِالْعَزِيمَةِ فَصَامَ فِي السَّفَرِ وَقَعَ صِيَامُهُ فِي الْفَرْضِ وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ. (1)
الْقِسْمُ الثَّانِي: رُخَصٌ مَجَازِيَّةٌ:
14 - وَتُسَمَّى أَيْضًا - فِي اصْطِلاَحِهِمْ -: رُخَصُ الإِْسْقَاطِ، وَقَدْ قَسَّمُوهَا - كَذَلِكَ - إِلَى قِسْمَيْنِ فَرْعِيَّيْنِ:
1 - مَا وُضِعَ عَنْ هَذِهِ الأُْمَّةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ - رَحْمَةً بِهَا وَإِكْرَامًا لِنَبِيِّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الأَْحْكَامِ الشَّاقَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَفْرُوضَةً عَلَى الأُْمَمِ السَّابِقَةِ مِثْل:
- قَتْل النَّفْسِ لِصِحَّةِ التَّوْبَةِ
- قَرْضِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْجِلْدِ وَالثَّوْبِ. (2)
2 - مَا سَقَطَ عَنِ الْعِبَادِ مَعَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ: فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سَقَطَ كَانَ مَجَازًا، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ كَانَ شَبِيهًا بِالرُّخَصِ الْحَقِيقِيَّةِ، مِثْل السَّلَمِ وَمَا قَارَبَهُ مِنَ الْعُقُودِ الَّتِي أُبِيحَتْ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ أُصُولٍ مَمْنُوعَةٍ، فَمِنْ حَيْثُ اسْتِثْنَاؤُهَا مِمَّا ذُكِرَ سَقَطَ الْمَنْعُ مِنْهَا فَشَابَهَتْ مَا وُضِعَ عَنَّا مِنَ الأَْغْلاَل الَّتِي كَانَتْ عَلَى الأُْمَمِ السَّابِقَةِ، فَكَانَتْ رُخَصًا مَجَازِيَّةً مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ إِذْ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهَا عَزَائِمُ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ أُصُولَهَا مَشْرُوعَةٌ وَأَنَّ بَعْضَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَجَاوَزَ عَنْهَا الشَّرْعُ مِنْ أَجْل التَّخْفِيفِ وَالْمَصْلَحَةِ مَا زَالَتْ قَائِمَةً فِي تِلْكَ الأُْصُول
__________
(1) كشف الأسرار 1 / 639.
(2) كشف الأسرار 1 / 641، والمغني في أصول الفقه ص 88، والتوضيح 3 / 86، مرآة الأصول 2 / 396.(22/158)
أَشْبَهَتِ الرُّخَصَ الْحَقِيقِيَّةَ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ اعْتُبِرَ هَذَا الْقِسْمُ أَقْرَبَ إِلَى الرُّخَصِ الْحَقِيقِيَّةِ مِنْ سَابِقِهِ، وَاعْتُبِرَ السَّابِقُ أَتَمَّ فِي الْمَجَازِيَّةِ مِنْ هَذَا. (1) وَهَذَا الْقِسْمُ يُرَادِفُ الرُّخَصَ الْمُبَاحَةَ فِي تَقْسِيمِ الشَّافِعِيَّةِ. وَالأَْقْسَامُ الأَْرْبَعَةُ - الْحَاصِلَةُ بَعْدَ تَقْسِيمِ كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ الرَّئِيسِيَّيْنِ إِلَى قِسْمَيْنِ فَرْعِيَّيْنِ - لاَ تَبْعُدُ كَثِيرًا عَنِ الإِْطْلاَقَاتِ الأَْرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّاطِبِيُّ. (2)
ج - تَقْسِيمُ الرُّخَصِ حَسَبِ التَّخْفِيفِ:
تَنْقَسِمُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ - الَّذِي يَخُصُّ الأَْحْكَامَ الطَّارِئَةَ - إِلَى سِتَّةِ أَنْوَاعٍ: (3)
15 - الأَْوَّل: تَخْفِيفُ إِسْقَاطٍ، وَيَكُونُ حَيْثُ يُوجَدُ الْعُذْرُ أَوِ الْمُوجِبُ مِنْ ذَلِكَ.
1 - إِسْقَاطُ الْخُرُوجِ إِلَى الْجَمَاعَةِ لِلْمَرَضِ أَوْ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ، أَوْ لِلرِّيحِ وَالْمَطَرِ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ وَفِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ أَنْ يُصَلُّوا فِي رِحَالِهِمْ (4) .
__________
(1) المغني في أصول الفقه ص 89، كشف الأسرار 1 / 641، والتلويح على التوضيح 3 / 86.
(2) الموافقات 1 / 301، وما بعدها و 3 / 241.
(3) قواعد الأحكام 2 / 8، والأشباه والنظائر ص 82، غمز عيون البصائر على الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 116، 117
(4) حديث: " رخص في الصلاة في الرحال في الليلة ذات برد وريح ومطر " أخرجه البخاري الفتح 2 / 156 - 157 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 484 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر.(22/159)
2 - إِسْقَاطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ لِلأَْعْذَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمِثَال الأَْوَّل وَلِغَيْرِهَا مِمَّا وَقَعَ بَسْطُهُ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ وَالأَْحْكَامِ. (1)
3 - إِسْقَاطُ شَرْطِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ. (2)
4 - إِسْقَاطُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ (3) ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (4) .
5 - إِسْقَاطُ الْجِهَادِ عَنْ ذَوِي الأَْعْذَارِ، قَال الْمَوْلَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} (5) .
6 - إِسْقَاطُ الصَّلاَةِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ، فِي الْمَشْهُورِ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ وَوَافَقَهُمُ الثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ. وَقَال مَالِكٌ - فِي رِوَايَةِ الْمَدَنِيِّينَ عَنْهُ -: لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. (6)
__________
(1) نيل الأوطار 3 / 225، أحكام القرآن لابن العربي 2 / 257.
(2) الرسالة للشافعي ص 122، 177، مكتبة التراث القاهرة، ط 2 سنة 1399 هـ.
(3) قواعد الأحكام 2 / 8.
(4) سورة آل عمران / 97.
(5) سورة النساء / 95.
(6) الجامع لأحكام القرآن 3 / 2102 - المكتبة الشعبية، نيل الأوطار 1 / 267، والمعيار 1 / 52 - 53.(22/159)
وَبَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ إِسْقَاطُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ هُوَ حُكْمُ اسْتِعْمَال الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فَيُوجِبُونَ الصَّلاَةَ عِنْدَ فِقْدَانِهِمَا. (1)
7 - إِسْقَاطُ الْقَضَاءِ عَمَّنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عِنْدَ جُمْهُورِ الأَْئِمَّةِ عَمَلاً بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَل أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ (2) . وَخَالَفَ مَالِكٌ فَقَال بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ قِيَاسًا عَلَى مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَإِنَّهُ يَقْضِيهَا مَتَى تَذَكَّرَهَا. (3)
8 - إِسْقَاطُ الْكَفَّارَةِ بِالإِْعْسَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى خِلاَفِ الأَْظْهَرِ وَفِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ وَتَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (4) اسْتِنَادًا إِلَى مَا جَاءَ فِي آخِرِ حَدِيثِ الأَْعْرَابِيِّ الَّذِي وَقَعَ عَلَى أَهْلِهِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ. . أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ (5) .
__________
(1) جامع الأصول 8 / 145، نيل الأوطار 1 / 267، الجامع لأحكام القرآن 3 / 2102
(2) حديث: " من نسي وهو صائم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 155 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 809 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم.
(3) بداية المجتهد 1 / 210.
(4) القليوبي 2 / 72، والمغني 3 / 132.
(5) حديث: " أطعمه أهلك " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 163 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة، وانظر الحديث كاملاً مع وجه الاستدلال بجملته الأخيرة في: (المنتقى 2 / 52 - 55، نيل الأوطار 4 / 216) .(22/160)
9 - إِسْقَاطُ الْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ لِمَا تَقَرَّرَ - عَمَلاً بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الأَْحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ يُدَعِّمُ بَعْضُهَا الْبَعْضَ - (1) مِنْ أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. (2)
النَّوْعُ الثَّانِي: تَخْفِيفُ تَنْقِيصٍ: مِثَالُهُ:
16 - 1 - قَصْرُ الصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ إِلَى رَكْعَتَيْنِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ الْقَصْرِ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا. (3)
2 - تَنْقِيصُ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْمَرِيضُ مِنْ أَفْعَال الصَّلاَةِ: كَتَنْقِيصِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهِمَا إِلَى الْقَدْرِ الْمَيْسُورِ مِنْ ذَلِكَ. (4)
النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَخْفِيفُ إِبْدَالٍ: مِثْل:
17 - إِبْدَال الْوُضُوءِ وَالْغُسْل بِالتَّيَمُّمِ،
__________
(1) حديث: " ادرؤوا الحدود بالشبهات " أخرجه أبو سعد المسعاني في " الذيل " كما في " المقاصد الحسنة " للسخاوي (ص 30 - ط الخانجي) ، ونقل عن ابن حجر أنه قال: " في سنده من لا يعرف ". وأورده الشوكاني في نيل الأوطار (7 / 272) ، وسرد له عدة أسانيد مرفوعة وموقوفة، وقال: وما في الباب وإن كان فيه المقال المعروف فقد شد عضده ما ذكرناه (يعني الروايات التي ذكرها) فيصلح بعد ذلك للاحتجاج به.
(2) الأشباه والنظائر ص 123، والأشباه والنظائر بشرح الحموي 1 / 161.
(3) قواعد الأحكام 2 / 8، نيل الأوطار 3 / 200.
(4) قواعد الأحكام 2 / 8.(22/160)
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَل عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1)
الرَّابِعُ: تَخْفِيفُ تَقْدِيمٍ: مِثْل:
18 - 1 - تَقْدِيمُ الْعَصْرِ إِلَى الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِجَمْعِ التَّقْدِيمِ، وَنَصُّوا عَلَى جَوَازِهِ جُمْلَةً فِي عِدَّةِ حَالاَتٍ مِنْهَا: السَّفَرُ وَالْمَرَضُ وَالْخَوْفُ. (2)
2 - تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى الْحَوْل مُسَارَعَةً إِلَى الْخَيْرِ لِمَا رَوَاهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْجِيل صَدَقَتِهِ قَبْل أَنْ تَحِل فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ (3) .
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) جامع الأصول 6 / 451، 459، ونيل الأوطار 6 / 296، 298، و 3 / 212 - 215، وفتح الباري 2 / 23، 24، والنووي على مسلم 5 / 215 - 217، والمدونة 1 / 115، 116، والمنتقى 1 / 254 - 256، المعيار 1 / 115، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 24 / 77، 78.
(3) حديث أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل. . . " أخرجه أبو داود (2 / 276 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وذكر طرقه ابن حجر في الفتح (3 / 334 - ط السلفية) ، وأشار إلى ثبوته بمجموع طرقه.(22/161)
الْخَامِسُ: تَخْفِيفُ تَأْخِيرٍ: مِثْل:
19 - تَأْخِيرُ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ إِلَى الْعِشَاءِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ بِجَمْعِ التَّأْخِيرِ، وَيَكُونُ فِي السَّفَرِ، وَفِي مُزْدَلِفَةَ، وَمِنْ أَجْل الْمَرَضِ وَالْمَطَرِ وَمَا إِلَيْهَا مِنَ الأَْعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِلتَّأْخِيرِ. (1)
السَّادِسُ: تَخْفِيفُ إِبَاحَةٍ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ: مِثْل:
20 - 1 - صَلاَةُ الْمُسْتَجْمِرِ مَعَ بَقِيَّةِ أَثَرِ النَّجَسِ الَّذِي لاَ يَزُول تَمَامًا إِلاَّ بِالْمَاءِ.
2 - الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ النَّجَاسَاتِ لِقِلَّتِهَا، أَوْ لِعُسْرِ الاِحْتِرَازِ مِنْهَا، أَوْ لِعُسْرِ إِزَالَتِهَا.
د - تَقْسِيمُ الرُّخَصِ بِاعْتِبَارِ أَسْبَابِهَا:
هَذَا التَّقْسِيمُ يُعَدُّ أَكْثَرَ ضَبْطًا لأُِصُول الرُّخَصِ، وَأَكْثَرَ جَمْعًا لِفُرُوعِهَا، وَهِيَ - بِحَسَبِهِ - تَنْقَسِمُ إِلَى عِدَّةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا:
21 - رُخَصٌ سَبَبُهَا الضَّرُورَةُ:
قَدْ تَطْرَأُ عَلَى الْمُكَلَّفِ حَالَةٌ مِنَ الْخَطَرِ أَوِ الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ تَجْعَلُهُ يَخَافُ مِنْ حُدُوثِ أَذًى بِالنَّفْسِ، أَوْ بِالْعِرْضِ، أَوْ بِالْعَقْل، أَوْ بِالْمَال، أَوْ بِتَوَابِعِهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ - عِنْدَئِذٍ - أَوْ يُبَاحُ لَهُ ارْتِكَابُ الْحَرَامِ، أَوْ تَرْكُ الْوَاجِبِ، أَوْ تَأْخِيرُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فِي غَالِبِ الظَّنِّ ضِمْنَ قُيُودِ
__________
(1) انظر: مصادر جمع التقديم المذكورة آنفًا.(22/161)
الشَّرْعِ. (1) (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: ضَرُورَة) .
وَعَلَى هَذَا الأَْسَاسِ قَعَّدَ الْفُقَهَاءُ قَاعِدَةً هَامَّةً مِنْ قَوَاعِدِ الأُْصُول الْقَرِيبَةِ نَصُّهَا: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ. (2) وَهِيَ تُعَدُّ مِنْ فُرُوعِ الْقَاعِدَتَيْنِ الْكُلِّيَّتَيْنِ: إِذَا ضَاقَ الأَْمْرُ اتَّسَعَ. وَالضَّرَرُ يُزَال. وَقَدْ فَرَّعُوا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَمَا يَتَّصِل بِهَا فُرُوعًا كَثِيرَةً تُنْظَرُ فِي أَبْوَابِهَا.
22 - 2 - رُخَصٌ سَبَبُهَا الْحَاجَةُ:
الْحَاجَةُ نَوْعَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ (انْظُرِ التَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: حَاجَة) .
وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُرَخَّصُ مِنْ أَجْلِهِ: فَالْعُقُودُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ أَوْ وَقَعَ اسْتِثْنَاؤُهَا مِنْ أُصُولٍ مَمْنُوعَةٍ كَالسَّلَمِ وَالإِْجَارَةِ وَالْجُعْل وَالْمُغَارَسَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْقَرْضِ وَالْقِرَاضِ وَالاِسْتِصْنَاعِ وَدُخُول الْحَمَّامِ وَالْوَصِيَّةِ وَمَا شَابَهَهَا إِنَّمَا وَقَعَ التَّرْخِيصُ فِيهَا لِحَاجَةِ النَّاسِ عُمُومًا إِلَيْهَا، وَالتَّرْخِيصُ فِي التَّأْدِيبِ لِمَنْ جُعِل لَهُ، وَفِي التَّضْيِيقِ عَلَى بَعْضِ الْمُتَّهَمِينَ لإِِظْهَارِ الْحَقِّ وَفِي التَّلَفُّظِ بِالْفُحْشِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَاضِي أَوِ الرَّاوِي أَوِ الشَّاهِدِ لِلدِّقَّةِ وَفِي لُبْسِ الْحَرِيرِ وَاسْتِعْمَال الذَّهَبِ وَالنَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ لِلْعِلاَجِ وَفِي التَّبَخْتُرِ بَيْنَ الصُّفُوفِ لإِِغَاظَةِ الْكُفَّارِ وَالنَّيْل مِنْهُمْ، وَفِي الْكَذِبِ لِلإِْصْلاَحِ، وَفِي الْغِيبَةِ عِنْدَ التَّظَلُّمِ أَوْ
__________
(1) الحموي على الأشباه والنظائر 1 / 188.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 83، 84.(22/162)
الاِسْتِفْتَاءِ وَنَحْوِهِمَا، وَفِي خُرُوجِ الْمَرْأَةِ لِقَضَاءِ شَأْنٍ مِنْ شُؤُونِهَا، أَوْ لِلتَّعَلُّمِ وَالْفَتْوَى وَالتَّقَاضِي وَسَفَرِهَا لِلْعِلاَجِ وَمَا إِلَى هَذِهِ الْحَالاَتِ إِنَّمَا وَقَعَ التَّرْخِيصُ فِيهَا مِنْ أَجْل حَاجَاتٍ تَمَسُّ طَوَائِفَ خَاصَّةً مِنَ الْمُجْتَمَعِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُبَاحُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ يُبَاحُ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ، أَيْ أَنَّ هَذِهِ تُثْبِتُ حُكْمًا مِثْل الأُْولَى إِلاَّ أَنَّ حُكْمَ الْحَاجَةِ مُسْتَمِرٌّ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَتْ عَامَّةً وَحُكْمَ الضَّرُورَةِ مَوْقُوتٌ بِمُدَّةِ قِيَامِهَا إِذْ " الضَّرُورَةُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا " (1) كَمَا وَقَعَ الاِتِّفَاقُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوْعَانِ: مُحَرَّمَاتٌ لِذَاتِهَا، وَمُحَرَّمَاتٌ لِغَيْرِهَا، فَالأُْولَى لاَ يُرَخَّصُ فِيهَا عَادَةً إِلاَّ مِنْ أَجْل الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَصْلَحَةٍ ضَرُورِيَّةٍ، وَالثَّانِيَةُ يُرَخَّصُ فِيهَا حَتَّى مِنْ أَجْل الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَصْلَحَةٍ حَاجِيَّةٍ. (2) عَلَى أَنَّهُ لاَ مَانِعَ مِنْ أَنْ تُعَامَل هَذِهِ مُعَامَلَةَ الأُْولَى وَلَوْ فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ، وَعَلَى هَذَا الأَْسَاسِ وَمَا قَبْلَهُ جَاءَتِ الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ: الْحَاجَةُ تَنْزِل مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ. (3) وَقَدْ خَرَّجَ الْفُقَهَاءُ اعْتِمَادًا عَلَيْهَا جُزْئِيَّاتٍ مُتَفَرِّقَةً يُمْكِنُ أَنْ
__________
(1) الحموي على الأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 119، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 84
(2) التوضيح على التنقيح 3 / 80، والتلويح على التوضيح 3 / 80، 81.
(3) الحموي على الأشباه والنظائر 1 / 126، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 88، 89.(22/162)
تَكُونَ أُصُولاً يَلْحَقُ بِهَا مَا يُمَاثِلُهَا مِنْ نَظَائِرِهَا. (1)
وَهُنَاكَ رُخَصٌ سَبَبُهَا السَّفَرُ أَوِ الْمَرَضُ أَوِ النِّسْيَانُ أَوِ الْجَهْل أَوِ الْخَطَأُ أَوِ النَّقْصُ أَوِ الْوَسْوَسَةُ أَوِ التَّرْغِيبُ فِي الدُّخُول فِي الإِْسْلاَمِ وَحَدَاثَةُ الدُّخُول فِيهِ أَوِ الْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (تَيْسِير) .
عَلاَقَةُ الرُّخْصَةِ بِبَعْضِ الأَْدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ:
23 - الْمُتَتَبِّعُ لِلاِسْتِحْسَانِ وَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَمُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ وَالتَّقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْجَوَابِرِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحِيَل الشَّرْعِيَّةِ يَظْفَرُ بِعَلاَقَةٍ وَطِيدَةٍ بَيْنَ هَذِهِ الأُْمُورِ وَبَيْنَ الرُّخَصِ تَتَمَثَّل إِجْمَالاً فِي جَلْبِ الْيُسْرِ وَدَفْعِ الْعُسْرِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ، فَلْتُرَاجَعْ تِلْكَ الأَْدِلَّةُ فِي مَحَالِّهَا مِنَ الْمَوْسُوعَةِ.
الْقِيَاسُ عَلَى الرُّخَصِ:
24 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الرُّخَصَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا إِذَا كَانَتْ مِمَّا يُعْقَل مَعْنَاهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا غَيْرُهَا مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي تُشَارِكُهَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ. (2) فَقَدْ قَاسَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ صِحَّةَ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ عَلَى بَيْعِ الْعَرَايَا الْمُرَخَّصِ فِيهِ بِالنَّصِّ لاِتِّحَادِهِمَا فِي الْعِلَّةِ. (3) كَمَا حَكَمُوا بِصِحَّةِ صَوْمِ مَنْ أَفْطَرَ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) شفاء العليل ص 655، ونهاية السول 4 / 35.
(3) شرح التنقيح بحاشية القيرواني ص 368.(22/163)
مُخْطِئًا أَوْ مُكْرَهًا قِيَاسًا عَلَى مَنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا الَّذِي ثَبَتَتْ صِحَّةُ صَوْمِهِ بِالنَّصِّ النَّبَوِيِّ. (1) وَزَادَ الشَّافِعِيُّ فَقَاسَ عَلَيْهِ كَلاَمَ النَّاسِي فِي صَلاَتِهِ. (2)
وَقَاسُوا الإِْقْطَارَ فِي الْعَيْنِ فِي رَمَضَانَ عَلَى الاِكْتِحَال الْمُرَخَّصِ فِيهِ نَصًّا. (3)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ - بِاسْتِثْنَاءِ أَبِي يُوسُفَ - إِلَى مَنْعِ الْقِيَاسِ عَلَى الرُّخَصِ لأَِدِلَّةٍ مَبْسُوطَةٍ فِي كُتُبِ الأُْصُول. (4)
الأَْخْذُ بِالرُّخَصِ أَوِ الْعَزَائِمِ:
25 - قَدْ يَرْفَعُ الشَّرْعُ عَنِ الْمُكَلَّفِ الْحَرَجَ فِي الأَْخْذِ بِالْعَزِيمَةِ أَوْ فِي الأَْخْذِ بِالرُّخْصَةِ، أَيْ أَنَّهُ يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ بَيْنَ الإِْتْيَانِ بِهَذِهِ أَوْ بِتِلْكَ؛ لأَِنَّ مَا بَيْنَهُمَا صَارَ بِمَثَابَةِ مَا بَيْنَ أَجْزَاءِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ الَّذِي يُكْتَفَى فِيهِ بِالإِْتْيَانِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ كَانَ لِلتَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا مَجَالٌ رَحْبٌ غَزِيرُ الْمَادَّةِ تَبَايَنَتْ فِيهِ أَنْظَارُ الْمُجْتَهِدِينَ حَيْثُ اخْتَلَفُوا بَيْنَ مُرَجِّحٍ لِلأَْخْذِ بِالْعَزِيمَةِ - فِي هَذِهِ الْحَالَةِ - وَبَيْنَ مُرَجِّحٍ لِلأَْخْذِ بِالرُّخْصَةِ فِيهَا، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ عَلَّل رَأْيَهُ
__________
(1) النووي على مسلم 8 / 35.
(2) الأم 2 / 97، شفاء الغليل ص 651.
(3) العارضة 3 / 257، وأعلام الموقعين 4 / 294.
(4) المعتمد 2 / 254، والأحكام للآمدي 3 / 9، والوصول 2 / 254، وما بعدها.(22/163)
بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الْمُبَرِّرَاتِ الْمَعْقُولَةِ تَكَفَّل الشَّاطِبِيُّ بِعَدِّهَا عَدًّا وَاضِحًا مُرَتَّبًا. (1)
آرَاءُ الْعُلَمَاءِ فِي تَتَبُّعِ الرُّخَصِ:
26 - الرُّخَصُ الشَّرْعِيَّةُ الثَّابِتَةُ بِالْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ لاَ بَأْسَ فِي تَتَبُّعِهَا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ (2) .
أَمَّا تَتَبُّعُ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ الاِجْتِهَادِيَّةِ وَالْجَرْيُ وَرَاءَهَا دُونَ سَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا وَنَحْوُهَا مِمَّا يُمَاثِلُهَا يُعْتَبَرُ هُرُوبًا مِنَ التَّكَالِيفِ، وَتَخَلُّصًا مِنَ الْمَسْئُولِيَّةِ، وَهَدْمًا لِعَزَائِمِ الأَْوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَجُحُودًا لِحَقِّ اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَهَضْمًا لِحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَهُوَ يَتَعَارَضُ مَعَ مَقْصِدِ الشَّرْعِ الْحَكِيمِ مِنَ الْحَثِّ عَلَى التَّخْفِيفِ عُمُومًا وَعَلَى التَّرَخُّصِ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (3) . إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ وَقَدِ اعْتَبَرَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْعَمَل فِسْقًا لاَ يَحِل. (4) وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ الإِْجْمَاعَ
__________
(1) الموافقات 1 / 333 - 333 (ترجيح الأخذ بالعزيمة) وص 339 - 344 (ترجيح الأخذ بالرخصة) .
(2) حديث: " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه " أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (11 / 323 - ط وزارة الأوقاف العراقية) من حديث ابن عباس، وحسنه المنذري في الترغيب (2 / 135 - ط الحلبي) .
(3) سورة البقرة / 185.
(4) الموافقات 4 / 140، وشرح التنقيح ص 386، والمعيار 6 / 369 - 381، 382.(22/164)
عَلَيْهِ. (1) وَقَال نَقْلاً عَنْ غَيْرِهِ: لَوْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُل عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ. (2)
وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: لَوْ أَنَّ رَجُلاً عَمِل بِقَوْل أَهْل الْكُوفَةِ فِي النَّبِيذِ وَأَهْل الْمَدِينَةِ فِي السَّمَاعِ وَأَهْل مَكَّةَ فِي الْمُتْعَةِ كَانَ فَاسِقًا. (3)
وَقَدْ دَخَل الْقَاضِي إِسْمَاعِيل - يَوْمًا - عَلَى الْمُعْتَضِدِ الْعَبَّاسِيِّ فَرَفَعَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ كِتَابًا وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ وَقَدْ جَمَعَ فِيهِ صَاحِبُهُ الرُّخَصَ مِنْ زَلَل الْعُلَمَاءِ فَقَال لَهُ الْقَاضِي الْمَذْكُورُ - بَعْدَ أَنْ تَأَمَّلَهُ -: مُصَنِّفُ هَذَا زِنْدِيقٌ، فَقَال: أَلَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الأَْحَادِيثُ؟ قَال: بَلَى، وَلَكِنْ مَنْ أَبَاحَ الْمُسْكِرَ لَمْ يُبِحِ الْمُتْعَةَ، وَمَنْ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبِحِ الْغِنَاءَ وَالْمُسْكِرَ، وَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلاَّ وَلَهُ زَلَّةٌ، وَمَنْ جَمَعَ زَلَل الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ دِينُهُ، فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِإِحْرَاقِ ذَلِكَ الْكِتَابِ. (4)
فَالأَْخْذُ بِالرُّخَصِ لاَ يَعْنِي تَتَبُّعَهَا وَالْبَحْثَ عَنْهَا لِلتَّحَلُّل مِنَ التَّكْلِيفِ وَإِنَّمَا يَعْنِي الاِنْتِقَال مِنْ تَكْلِيفٍ أَشَدَّ إِلَى تَكْلِيفٍ أَخَفَّ لِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ.
الرُّخَصُ إِضَافِيَّةٌ:
27 - إِنَّ الرُّخَصَ عَلَى كَثْرَةِ أَدِلَّتِهَا أَوْ صِيَغِهَا،
__________
(1) مراتب الإجماع ص 175.
(2) الأحكام 6 / 179.
(3) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ص 272.
(4) نفس المصدر.(22/164)
وَعَلَى مَا صَحَّ مِنْ حَثِّ الشَّرْعِ عَلَيْهَا وَتَرْغِيبِهِ فِي الأَْخْذِ بِهَا - تَبْقَى فِي النِّهَايَةِ إِضَافِيَّةً: أَيْ أَنَّ كُل أَحَدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فَقِيهُ نَفْسِهِ فِي الأَْخْذِ بِهَا أَوْ فِي عَدَمِهِ. (1) وَيَكْفِي أَنْ نَعْلَمَ لِتَوْضِيحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ مَثَلاً الَّتِي تُعْتَبَرُ سَبَبًا هَامًّا مِنْ أَسْبَابِ الرُّخَصِ تَخْتَلِفُ قُوَّةً وَضَعْفًا بِحَسَبِ أَحْوَال النَّاسِ، فَفِي التَّنَقُّل تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمُسَافِرِينَ، وَأَزْمِنَةِ السَّفَرِ، وَمُدَّتِهِ وَوَسَائِلِهِ، وَمَا إِلَى هَذَا مِمَّا يَتَعَذَّرُ ضَبْطُهُ وَاطِّرَادُهُ فِي جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَلَمْ يُنَطِ الْحُكْمُ بِذَاتِ الْمَشَقَّةِ بَل أُسْنِدَ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ مِمَّا يَدُل غَالِبًا عَلَيْهَا وَهُوَ السَّفَرُ لأَِنَّهُ مَظِنَّةُ حُصُولِهَا.
رَخَمٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَة
__________
(1) الموافقات 1 / 314 و 3 / 155.(22/165)
رِدْءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّدْءُ فِي اللُّغَةِ: الْمُعِينُ وَالنَّاصِرُ، مِنْ رَدَأَ، يُقَال: رَدَأْتُ الْحَائِطَ رِدْءًا أَيْ: دَعَّمْتُهُ وَقَوَّيْتُهُ.
وَيُقَال: أَرْدَأْتُ فُلاَنًا: أَيْ أَعَنْتُهُ. وَيُقَال: فُلاَنٌ رِدْءُ فُلاَنٍ، أَيْ يَنْصُرُهُ وَيَشُدُّ ظَهْرَهُ، وَجَمْعُهُ أَرْدَاءٌ. قَال اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} (1) يَعْنِي مُعِينًا. (2)
وَاصْطِلاَحًا الأَْرْدَاءُ: هُمُ الَّذِينَ يَخْلُفُونَ الْمُقَاتِلِينَ فِي الْجِهَادِ، وَقِيل: هُمُ الَّذِينَ وَقَفُوا عَلَى مَكَانٍ حَتَّى إِذَا تَرَكَ الْمُقَاتِلُونَ الْقِتَال قَاتَلُوا. (3)
__________
(1) سورة القصص / 34.
(2) متن اللغة والمصباح المنير ولسان العرب في المادة والمعجم الوسيط، والقرطبي 13 / 286.
(3) قواعد الفقه للمجددي / 306.(22/165)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَدَدُ:
2 - الْمَدَدُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنْ مَدَّهُ مَدًّا أَيْ زَادَهُ، وَيُقَال: أَمْدَدْتُهُ بِمَدَدٍ أَيْ: أَعَنْتُهُ وَقَوَّيْتُهُ بِهِ (1) .
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} (2) وَقَال سُبْحَانَهُ: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (3)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى الْعَسَاكِرِ الَّتِي تَلْحَقُ بِالْمَغَازِي فِي سَبِيل اللَّهِ. (4)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
حَقُّ الرِّدْءِ فِي الْغَنَائِمِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّدْءَ أَيْ: الْعَوْنَ الَّذِي حَضَرَ بِنِيَّةِ الْقِتَال وَلَمْ يُقَاتِل وَالْمُقَاتِل الْمُبَاشِرَ سِيَّانِ فِي أَصْل الاِسْتِحْقَاقِ فِي الْغَنَائِمِ، مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي جَوَازِ تَفْضِيل الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى التَّسْوِيَةِ الْكَامِلَةِ؛ لاِسْتِوَاءِ الْكُل فِي سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الدَّرْبِ بِنِيَّةِ الْقِتَال عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَشُهُودُ الْوَقْعَةِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَلِقَوْل أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) متن اللغة والمصباح ولسان العرب في المادة.
(2) سورة الإسراء / 6.
(3) سورة آل عمران / 125.
(4) المهذب 2 / 247، وابن عابدين 3 / 231، كشاف القناع 3 / 82، 83.(22/166)
: " الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ " (1) وَلأَِنَّهُ لَيْسَ كُل الْجَيْشِ يُقَاتِل؛ لأَِنَّ ذَلِكَ خِلاَفُ مَصْلَحَةِ الْحَرْبِ؛ لأَِنَّهُ يُحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ فِي الرِّدْءِ، وَبَعْضُهُمْ يَحْفَظُونَ السَّوَادَ، وَبَعْضُهُمْ فِي الْعُلُوفَةِ عَلَى حَسَبِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْحَرْبِ، كَمَا بَيَّنَهُ الْمَالِكِيَّةُ. (2)
أَمَّا مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ لاَ بِنِيَّةِ الْقِتَال، كَالسُّوقِيِّ (التَّاجِرِ) وَالْخَادِمِ، وَالْمُحْتَرِفِ كَالْخَيَّاطِ، فَإِنْ قَاتَل أُسْهِمَ لَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي خِلاَفِ الأَْظْهَرِ لِلشَّافِعِيَّةِ لاَ يُسْهَمُ لَهُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ الْقِتَال. (3) وَإِنْ لَمْ يُقَاتِل لاَ يُسْهَمُ لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِعَدَمِ نِيَّةِ الْقِتَال وَعَدَمِ الاِشْتِرَاكِ فِيهِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُسْهَمُ لَهُ؛ لأَِنَّهُ حَضَرَ الْوَقْعَةَ، وَفِيهِ تَكْثِيرُ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْحُضُورَ إِلَى الْقِتَال يَجُرُّ إِلَيْهِ. أَمَّا مَنْ لَمْ يَحْضُرِ الْقِتَال أَصْلاً فَلاَ سَهْمَ لَهُ إِلاَّ إِذَا حُبِسَ فِي خِدْمَةِ الْجِهَادِ وَلِمَصْلَحَةِ الْجَيْشِ، كَأَنْ طَلَبَ الإِْمَامُ
__________
(1) فتح القدير 2 / 225، 226، والتاج والإكليل على هامش الحطاب 3 / 1370، ومغني المحتاج 3 / 101 - 103، وكشاف القناع 3 / 82، والأحكام السلطانية للماوردي ص 140، ولأبي يعلى ص 151.
(2) التاج والإكليل 3 / 370، والمراجع السابقة.
(3) فتح القدير 2 / 225، 226 وما بعدها، والحطاب مع التاج والإكليل 3 / 371، 373، ونهاية المحتاج 6 / 145، 146، ومغني المحتاج 3 / 102، 103، وكشاف القناع 3 / 82، 83.(22/166)
بَعْضَ الْعَسْكَرِ لِيُحْرَسَ مِنْ هُجُومِ الْعَدُوِّ، أَوْ أَفْرَدَ مِنَ الْجَيْشِ كَمِينًا؛ لِكَوْنِهِمْ رِدْءًا لِمَنْ قَاتَل، وَعَوْنًا لَهُمْ عَلَى الْغَنِيمَةِ تَقْوَى بِهِ نُفُوسُ الْمُقَاتِلِينَ. (1)
وَأَمَّا الْمَدَدُ فَإِذَا لَحِقُوا عَسَاكِرَ الْمُسْلِمِينَ أَثْنَاءَ الْقِتَال يُسْهَمُ لَهُمْ، وَإِذَا لَحِقُوهُمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَال وَإِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ لاَ يُسْهَمُ لَهُمْ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا إِذَا لَحِقُوهُمْ بَعْدَ الْقِتَال قَبْل أَنْ يُخْرِجُوا الْغَنِيمَةَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ فَلاَ يُسْهَمُ لَهُمْ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا الْوَقْعَةَ، وَيُسْهَمُ لَهُمْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْمِلْكَ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بَعْدَ الإِْحْرَازِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (2) وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ: (غَنِيمَة) .
الرِّدْءُ فِي الْجِنَايَاتِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ عُقُوبَةِ الرِّدْءِ فِي جَرَائِمِ التَّعْزِيرِ إِذَا رَأَى الْقَاضِي ذَلِكَ.
أَمَّا فِي الْحُدُودِ، فَلاَ يُحَدُّ الرِّدْءُ حَدَّ الزِّنَى وَلاَ حَدَّ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ؛ لأَِنَّهَا جَرَائِمُ تَتَعَلَّقُ بِشَخْصِ الْمُجْرِمِ.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 231، والفتاوى الخانية 3 / 567، والشرح الكبير مع الدسوقي 2 / 192، والمهذب 2 / 247، والمغني 8 / 419، 420، وكشاف القناع 3 / 82، 83، وقليوبي 3 / 193 وما بعدها.(22/167)
وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ (الْحِرَابَةِ) وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْل، وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:
أ - الرِّدْءُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ (الْحِرَابَةِ) :
5 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّ الرِّدْءَ أَيِ الْمُعِينَ لِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُبَاشِرِ، فَإِنْ بَاشَرَ أَحَدُهُمْ أُجْرِيَ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ بِأَجْمَعِهِمْ، فَإِذَا قَتَل أَحَدُهُمْ يُقْتَل هُوَ وَالآْخَرُونَ؛ لأَِنَّهُ جَزَاءُ الْمُحَارَبَةِ، وَهِيَ تَتَحَقَّقُ بِأَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ رِدْءًا لِلْبَعْضِ؛ وَلأَِنَّ الْمُحَارَبَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حُصُول الْمَنَعَةِ وَالْمُعَاضَدَةِ وَالْمُنَاصَرَةِ، وَمِنْ عَادَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الْمُبَاشَرَةُ مِنَ الْبَعْضِ وَالإِْعَانَةُ مِنَ الْبَعْضِ الآْخَرِ، وَلاَ يَتَمَكَّنُ الْمُبَاشِرُ مِنْ فِعْلِهِ إِلاَّ بِقُوَّةِ الرِّدْءِ، فَلَوْ لَمْ يَلْحَقِ الرِّدْءُ بِالْمُبَاشِرِ لأََدَّى ذَلِكَ إِلَى انْفِتَاحِ بَابِ قَطْعِ الطَّرِيقِ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُبَاشِرُ وَالرِّدْءُ كَالْغَنِيمَةِ، وَنَصَّ الدُّسُوقِيُّ عَلَى أَنَّ الرِّدْءَ يَشْمَل مَنْ يَتَقَوَّى الْمُحَارِبُونَ بِجَاهِهِ، إِذْ لَوْلاَ جَاهُهُ مَا تَجَرَّأَ الْقَاتِل عَلَى الْقَتْل، فَجَاهُهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْقَتْل حُكْمًا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ أَعَانَ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ أَوْ كَثَّرَ جَمْعَهُمْ بِالْحُضُورِ، أَوْ كَانَ
__________
(1) فتح القدير مع الهداية 5 / 181، وبدائع الصنائع 7 / 91، والزرقاني 8 / 11، وحاشية الدسوقي 4 / 350، المواق بهامش الحطاب 6 / 316، والمغني 8 / 297.(22/167)
عَيْنًا لَهُمْ وَلَمْ يُبَاشِرْ بِنَفْسِهِ، بَل يُعَزَّرُ بِالْحَبْسِ وَالنَّفْيِ وَغَيْرِهِمَا (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حِرَابَة) .
ب - الرِّدْءُ فِي السَّرِقَةِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّدْءَ إِذَا لَمْ يَدْخُل الْحِرْزَ، وَلَمْ يَشْتَرِكْ فِي إِخْرَاجِ الْمَال فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ (2) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ: (سَرِقَة) .
ج - الرِّدْءُ فِيمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ:
7 - إِذَا تَمَالأََ جَمَاعَةٌ عَلَى قَتْل إِنْسَانٍ فَبَاشَرَ بَعْضُهُمُ الْفِعْل الْمُفْضِيَ لِلْقَتْل وَلَمْ يُبَاشِرْهُ الآْخَرُونَ لَكِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى ارْتِكَابِهِ مُسْبَقًا وَحَضَرُوا رِدْءًا لِلْقَتَلَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى مَنْ لَمْ يُبَاشِرِ الْفِعْل الْمُفْضِيَ لِلْقَتْل؛ لأَِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي الْقِصَاصِ مِنَ الْجَمَاعَةِ الْمُبَاشَرَةَ مِنَ الْكُل، وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فَضْلاً عَنِ الْمُبَاشَرَةِ أَنْ يَكُونَ جُرْحُ كُل وَاحِدٍ جُرْحًا سَارِيًا (3) ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ هَذَا الشَّرْطَ وَقَالُوا:
__________
(1) المهذب 2 / 286، ومغني المحتاج 4 / 182.
(2) الدسوقي 4 / 335، ومغني المحتاج 4 / 172، والمغني لابن قدامة 8 / 283 - 284.
(3) الزيلعي مع الهوامش للشلبي 6 / 114، وفتح القدير مع الهداية 4 / 244.(22/168)
يُقْتَل الْجَمْعُ بِوَاحِدٍ وَإِنْ تَفَاضَلَتْ جِرَاحَاتُهُمْ فِي الْعَدَدِ وَالْفُحْشِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ قِصَاصَ عَلَى الرِّدْءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُقْتَل الْمُتَمَالِئُونَ عَلَى الْقَتْل أَوِ الضَّرْبِ بِأَنْ قَصَدَ الْجَمِيعُ الْقَتْل أَوِ الضَّرْبَ وَحَضَرُوا وَإِنْ لَمْ يَتَوَلَّهُ إِلاَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ لَوِ اسْتُعِينَ بِهِمْ أَعَانُوا، وَإِنْ لَمْ يَضْرِبْ غَيْرُهُمْ ضَرَبُوا (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَيُقْتَصُّ مِنَ الرِّدْءِ الْمُتَمَالِئِينَ عَلَى الْقَتْل (أَيِ الْمُتَّفِقِينَ مُسْبَقًا عَلَى الْقَتْل) وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْهُ إِلاَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِذَا كَانُوا بِحَيْثُ لَوِ اسْتُعِينَ بِهِمْ أَعَانُوا.
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (تَوَاطُؤ ج 14 ص 114، 115، وَقِصَاص) .
أَثَرُ الرِّدْءِ فِي مَنْعِ الإِْرْثِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الْقَاتِل يُمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مَضْمُونًا بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ أَوِ الْكَفَّارَةِ لاَ يُمْنَعُ مِنْ مِيرَاثِ مُوَرِّثِهِ الْقَتِيل عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ كُل مَنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْقَتْل يُمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ كَانَ الْقَتْل بِحَقٍّ كَمُقْتَصٍّ، وَإِمَامٍ وَقَاضٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْقَتْل عَمْدًا أَمْ غَيْرَهُ، مَضْمُونًا أَمْ لاَ.
__________
(1) الدسوقي 4 / 245، ونهاية المحتاج 7 / 261 - 263، والمغني لابن قدامة 7 / 671 - 674، ومغني المحتاج 4 / 22.(22/168)
وَيُمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ مَنْ بَاشَرَ أَوْ تَسَبَّبَ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي التَّسَبُّبِ، كَمَا إِذَا حَفَرَ بِئْرًا أَوْ وَضَعَ حَجَرًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ (1) . وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (إِرْث ج 3 ف 17) (وَقَتْل) .
__________
(1) السراجية ص 18، 19، والعذب الفائض 1 / 30، 31، ومغني المحتاج 4 / 25، 26، والدسوقي 4 / 486.(22/169)
رِدَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الرِّدَاءِ فِي اللُّغَةِ: الثَّوْبُ يَسْتُرُ الْجُزْءَ الأَْعْلَى مِنَ الْجِسْمِ فَوْقَ الإِْزَارِ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُل مَا يُرْتَدَى وَيُلْبَسُ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: مَا يَسْتُرُ أَعْلَى الْبَدَنِ مِنَ الثِّيَابِ. وَيُقَابِلُهُ: الإِْزَارُ وَهُوَ: مَا يَسْتُرُ أَسْفَل الْبَدَنِ (2) .
الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَ رِدَاءً وَإِزَارًا أَبْيَضَيْنِ جَدِيدَيْنِ أَوْ مَغْسُولَيْنِ (3) . لِمَا رَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا: وَلْيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ (4) وَالتَّفَاصِيل فِي (إِحْرَام) .
__________
(1) لسان العرب، متن اللغة، والمعجم الوسيط.
(2) حاشية الجمل 2 / 504، وحاشية الدسوقي 1 / 249 - 250.
(3) كشاف القناع 2 / 407، وابن عابدين 2 / 157، حاشية الجمل 2 / 504، حاشية الدسوقي 2 / 39
(4) حديث: " ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين " أخرجه أحمد (2 / 34 - ط الميمنية) وإسناده صحيح.(22/169)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ الرِّدَاءُ لِكُل مُصَلٍّ وَلَوْ نَافِلَةً. وَالرِّدَاءُ: هُوَ مَا يُلْقِيهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ أَيْ كَتِفَيْهِ فَوْقَ ثَوْبِهِ دُونَ أَنْ يُغَطِّيَ بِهِ رَأْسَهُ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ لأَِئِمَّةِ الْمَسْجِدِ، وَيُكْرَهُ لَهُمْ تَرْكُهُ (1) .
وَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الأَْفْضَل أَنْ يُصَلِّيَ بِقَمِيصٍ وَرِدَاءٍ، فَإِنْ أَرَادَ الاِقْتِصَارَ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَالْقَمِيصُ أَفْضَل مِنَ الرِّدَاءِ؛ لأَِنَّهُ أَبْلَغُ فِي السَّتْرِ، ثُمَّ الرِّدَاءُ ثُمَّ الْمِئْزَرُ، وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي بِثَوْبَيْنِ فَالأَْفْضَل الْقَمِيصُ وَالرِّدَاءُ، ثُمَّ الإِْزَارُ أَوِ السَّرَاوِيل مَعَ الْقَمِيصِ، ثُمَّ أَحَدُهُمَا مَعَ الرِّدَاءِ، وَالإِْزَارُ مَعَ الرِّدَاءِ أَفْضَل مِنَ السَّرَاوِيل مَعَ الرِّدَاءِ؛ لأَِنَّهُ لُبْسُ الصَّحَابَةِ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يَحْكِي تَقَاطِيعَ الْخِلْقَةِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: قَمِيصٌ مَعَ رِدَاءٍ أَوْ إِزَارٍ أَوْ سَرَاوِيل، أَوْلَى مِنْ رِدَاءٍ مَعَ إِزَارٍ أَوْ سَرَاوِيل وَأَوْلَى مِنْ إِزَارٍ مَعَ سَرَاوِيل. وَإِنْ صَلَّى فِي الرِّدَاءِ وَحْدَهُ وَكَانَ وَاسِعًا الْتَحَفَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ بِمَنْكِبَيْهِ (3) .، وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالاِضْطِبَاعِ بِأَنْ يَجْعَل وَسَطَ رِدَائِهِ تَحْتَ مَنْكِبِهِ الأَْيْمَنِ وَطَرَفَيْهِ عَلَى الأَْيْسَرِ، وَيُكْرَهُ اشْتِمَال الصَّمَّاءِ: بِأَنْ يُجَلِّل بَدَنَهُ بِالرِّدَاءِ ثُمَّ يَرْفَعَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقِهِ الأَْيْسَرِ، كَمَا يُكْرَهُ اشْتِمَال الْيَهُودِ بِأَنْ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 249 - 331.
(2) المجموع 3 / 173، كشاف القناع 1 / 276، الاختيار 1 / 45، مغني المحتاج 1 / 187.
(3) المصادر السابقة.(22/170)
يُجَلِّل بَدَنَهُ بِالثَّوْبِ دُونَ رَفْعِ طَرَفَيْهِ (1) لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ. ر: (صَلاَة) .
تَحْوِيل الرِّدَاءِ فِي دُعَاءِ الاِسْتِسْقَاءِ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَحْوِيل الرِّدَاءِ بَعْدَ دُعَاءِ الاِسْتِسْقَاءِ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَل مَا عَلَى الْمَنْكِبِ الأَْيْمَنِ عَلَى الأَْيْسَرِ، وَمَا عَلَى الأَْيْسَرِ عَلَى الأَْيْمَنِ (2) .
لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى فَاسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ (3) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ يَدْعُو بِلاَ قَلْبِ رِدَاءٍ (4)
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 179، مغني المحتاج 1 / 187.
(2) أسنى المطالب 1 / 292، وحاشية الدسوقي 1 / 406، كشاف القناع 2 / 71.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 498 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن زيد.
(4) ابن عابدين 1 / 567، الاختيار 1 / 45.(22/170)
رَدَاءَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّدَاءَةُ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الْجَوْدَةِ، وَمَعْنَاهَا الْخِسَّةُ وَالْفَسَادُ، وَرَدُؤَ الشَّيْءُ رَدَاءَةً فَهُوَ رَدِيءٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ أَيْ وَضِيعٌ خَسِيسٌ (1) . وَضِدُّهُ جَادَ الشَّيْءُ جُودَةً وَجَوْدَةً (بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (1 م (2))
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرَّدَاءَةِ:
إِخْرَاجُ الرَّدِيءِ عَنِ الْجَيِّدِ فِي الزَّكَاةِ:
2 - لاَ يَجُوزُ لِلْمَالِكِ أَنْ يُخْرِجَ الرَّدِيءَ عَنِ الْجَيِّدِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومتن اللغة مادة: (جود) و (ردؤ) وجمهور اللغة 3 / 241، وحاشية عميرة 2 / 255، ومطالب أولي النهى 3 / 212.
(2) بدائع الصنائع 5 / 189، ومطالب أولي النهى 3 / 212، والدسوقي 3 / 24، 80، وروضة الطالبين 4 / 231.(22/171)
لِلْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ (1) .
وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ ضِمْنَ الصِّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا فِيمَا يُخْرِجُهُ الْمُزَكِّي وَيَأْخُذُهُ السَّاعِي أَنْ يَكُونَ وَسَطًا، فَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ الْجَيِّدَ وَلاَ الرَّدِيءَ إِلاَّ مِنْ طَرِيقِ التَّقْدِيمِ بِرِضَا صَاحِبِ الْمَال. فَعَنْ عُرْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلاً عَلَى الصَّدَقَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْبِكْرَ وَالشَّارِفَ وَذَا الْعَيْبِ وَإِيَّاكَ وَحَزَرَاتِ أَنْفُسِهِمْ (2) .
وَوَرَدَ أَنَّهُ قَال لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: إِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ (3) .
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: ثَلاَثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ طَعِمَ طَعْمَ الإِْيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَأَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ رَافِدَةً (4) عَلَيْهِ كُل عَامٍ، وَلاَ يُعْطِي الْهَرِمَةَ وَلاَ الدَّرِنَةَ (5) ، وَلاَ الْمَرِيضَةَ وَلاَ الشَّرَطَ اللَّئِيمَةَ (6) ، وَلَكِنْ مِنْ
__________
(1) نيل الأوطار 4 / 208 نشر دار الجيل.
(2) حديث: " بعث رجلاً على الصدقة. . " أخرجه أبو داود في المراسيل (132 - ط الرسالة) ، وإسناده ضعيف لإرساله، وأخرجه مالك في الموطأ (1 / 267 - ط الحلبي) عن عمر بن الخطاب، أنه قال: لا تأخذوا حَزَرات المسلمين.
(3) حديث: " إياكم وكرائم أموالهم " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 357 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.
(4) الرافدة: المعينة، أي: تعينه نفسه على أدائها (النهاية لابن الأثير، رفد) .
(5) الدرنة: الجرباء (المغني 2 / 602) .
(6) الشرط: رزالة المال (المغني 2 / 602) .(22/171)
وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهُ وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ (1) .
وَلأَِنَّ مَبْنَى الزَّكَاةِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ بِأَخْذِ الْوَسَطِ، وَالْوَسَطُ هُوَ أَنْ يَكُونَ أَدْوَنَ مِنَ الأَْرْفَعِ، وَأَرْفَعَ مِنَ الأَْدْوَنِ (2) .
بَيْعُ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ:
3 - يَرَى أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ أَنَّ الْجَيِّدَ وَالرَّدِيءَ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ سَوَاءٌ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ مَعَ التَّمَاثُل وَتَحْرِيمِهِ مَعَ التَّفَاضُل، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ (3) ، وَلأَِنَّ تَفَاوُتَ الْوَصْفِ لاَ يُعَدُّ تَفَاوُتًا عَادَةً، وَلَوِ اعْتُبِرَ لأََفْسَدَ بَابَ الْبِيَاعَاتِ، إِذْ قَلَّمَا يَخْلُو عِوَضَانِ عَنْ تَفَاوُتٍ مَا،
__________
(1) حديث: " ثلاث من فعلهن فقد طَعمَ طَعْمَ الإيمان " أخرجه أبو داود (2 / 240 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن معاوية الغاضري، وقال المنذري في مختصر السنن (2 / 198 - نشر دار المعرفة) : أخرجه منقطعًا، وذكره أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة مسندًا، وذكره أيضًا أبو القاسم الطبراني وغيره مسندًا. وهو في معجم الطبراني الصغير (1 / 334 - ط المكتب الإسلامي) كما قال مسندًا.
(2) بدائع الصنائع 2 / 33، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي عليه 1 / 604.
(3) حديث: " جيدها ورديئها سواء " أورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 37 - ط المجلس العلمي) وقال: غريب، ومعناه يؤخذ من إطلاق حديث أبي سعيد، يعني حديث: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة. . . مثلاً بمثل، يدًا بيد. . . إلخ " أخرجه مسلم (3 / 1211 - ط الحلبي) . والمجموع 5 / 426 - 428، والمغني 2 / 601، 602.(22/172)
فَلَمْ يُعْتَبَرْ (1) .
ذِكْرُ الرَّدَاءَةِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ:
4 - يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ لِصِحَّةِ السَّلَمِ ذِكْرَ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ لاِخْتِلاَفِ الْغَرَضِ بِهِمَا فَيُفْضِي تَرْكُهُمَا إِلَى النِّزَاعِ (2) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ عِنْدَ ذِكْرِ الشُّرُوطِ الَّتِي لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ إِلاَّ بِتَوَافُرِهَا:
أَنْ يُضْبَطَ الْمُسْلَمُ فِيهِ بِصِفَاتِهِ الَّتِي يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِهَا ظَاهِرًا، فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ عِوَضٌ فِي الذِّمَّةِ فَلاَ بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَعْلُومًا بِالْوَصْفِ كَالثَّمَنِ. وَلأَِنَّ الْعِلْمَ شَرْطٌ فِي الْمَبِيعِ، وَطَرِيقُهُ إِمَّا الرُّؤْيَةُ وَإِمَّا الْوَصْفُ، وَالرُّؤْيَةُ مُمْتَنِعَةٌ هَاهُنَا فَتَعَيَّنَ الْوَصْفُ.
وَالأَْوْصَافُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُتَّفَقٍ عَلَى اشْتِرَاطِهَا وَمُخْتَلَفٍ فِيهَا. فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا ثَلاَثَةُ أَوْصَافٍ: الْجِنْسُ، وَالنَّوْعُ، وَالْجَوْدَةُ أَوِ الرَّدَاءَةُ. فَهَذِهِ لاَ بُدَّ مِنْهَا فِي كُل مُسْلَمٍ فِيهِ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ
__________
(1) فتح القدير 6 / 151 نشر دار إحياء التراث العربي، والزيلعي 4 / 89، والمغني 4 / 10، والشرح الصغير 3 / 63، والمجموع 10 / 83.
(2) بدائع الصنائع 5 / 207، والجوهرة النيرة 1 / 266، والاختيار 2 / 34، 35، والشرح الصغير 3 / 278، ونهاية المحتاج 4 / 208، وروضة الطالبين 4 / 38، والمغني 4 / 310.
(3) المغني لابن قدامة 4 / 310.(22/172)
ذِكْرُ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَيُحْمَل الْمُطْلَقُ عَلَى الْجَيِّدِ لِلْعُرْفِ (1) . وَلِلتَّفْصِيل: (ر: سَلَم) .
ذِكْرُ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فِي الْحَوَالَةِ:
5 - يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ تَمَاثُل الدَّيْنَيْنِ - الْمُحَال بِهِ وَالْمُحَال عَلَيْهِ - جِنْسًا وَقَدْرًا، وَحُلُولاً أَوْ تَأْجِيلاً، وَصِحَّةً أَوْ تَكَسُّرًا، وَجَوْدَةً أَوْ رَدَاءَةً. لأَِنَّ الْحَوَالَةَ تَحْوِيل الْحَقِّ فَيُعْتَبَرُ تَحَوُّلُهُ عَلَى صِفَتِهِ (2) ، وَالْمُرَادُ بِالصِّفَةِ مَا يَشْمَل الْجَوْدَةَ أَوِ الرَّدَاءَةَ، وَالصِّحَّةَ أَوِ التَّكَسُّرَ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ: تَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِالْقَلِيل عَلَى الْكَثِيرِ، وَبِالصَّحِيحِ عَلَى الْمُكَسَّرِ، وَبِالْجَيِّدِ عَلَى الرَّدِيءِ، وَبِالْمُؤَجَّل عَلَى الْحَال، وَبِالأَْبْعَدِ أَجَلاً عَلَى الأَْقْرَبِ (4) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُحَال عَلَيْهِ مَدْيُونًا لِلْمُحِيل، وَمِنْ ثَمَّ لاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمُ التَّمَاثُل بَيْنَ الدَّيْنَيْنِ الْمُحَال بِهِ وَالْمُحَال عَلَيْهِ جِنْسًا، أَوْ قَدْرًا، أَوْ صِفَةً (5) .
وَالتَّفْصِيل (ر: حَوَالَة) .
__________
(1) روضة الطالبين 4 / 28، ونهاية المحتاج 4 / 208.
(2) روضة الطالبين 4 / 131، وتحفة المحتاج 5 / 230، والمغني 4 / 577، والكافي 2 / 219، والشرح الصغير 3 / 426، والخرشي 4 / 234 ط العامرة.
(3) تحفة المحتاج 5 / 230.
(4) روضة الطالبين 4 / 231.
(5) مجلة الأحكام العدلية المادة (686) .(22/173)
قَبُول الرَّدِيءِ عَنِ الْجَيِّدِ فِي الْقَرْضِ:
6 - لاَ يَجِبُ عَلَى الْمُقْرِضِ قَبُول الرَّدِيءِ عَنِ الْجَيِّدِ فِي الْقَرْضِ، فَإِنْ أَقْرَضَهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَقَضَاهُ خَيْرًا مِنْهُ فِي الْقَدْرِ أَوِ الصِّفَةِ أَوْ دُونَهُ بِرِضَاهُمَا جَازَ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
وَفِي بَعْضِ صُوَرِ الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ لِلْفُقَهَاءِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَرْض)
__________
(1) المغني 4 / 356.(22/173)
رَدٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّدُّ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ رَدَدْتُ الشَّيْءَ، وَمِنْ مَعَانِيهِ مَنْعُ الشَّيْءِ وَصَرْفُهُ، وَرَدُّ الشَّيْءِ أَيْضًا إِرْجَاعُهُ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: مَنْ عَمِل عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ (1) . أَيْ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِمَا عَلَيْهِ السُّنَّةُ.
وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْءَ إِذَا لَمْ يَقْبَلْهُ. وَرَدَّ فُلاَنًا خَطَّأَهُ. وَتَقُول: رَدَّهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَرَدَّ إِلَيْهِ جَوَابًا أَيْ: رَجَعَهُ وَأَرْسَلَهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (2) .
__________
(1) حديث: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " أخرجه مسلم (3 / 1344 - ط الحلبي) .
(2) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمصباح المنير، مادة: (ردد) ، والقليوبي وعميرة (3 / 21 - ط عيسى البابي الحلبي) .(22/174)
وَالرَّدُّ فِي الإِْرْثِ: دَفْعُ مَا فَضَل عَنْ فَرْضِ ذَوِي الْفُرُوضِ النَّسَبِيَّةِ إِلَيْهِمْ بِقَدْرِ حُقُوقِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْغَيْرِ. (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: إِرْث ف 63 ج 3 ص 49) .
وَالْقِسْمَةُ بِالرَّدِّ هِيَ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا لِرَدِّ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِلآْخَرِ مَالاً أَجْنَبِيًّا، كَأَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مِنْ أَرْضٍ مُشْتَرَكَةٍ بِئْرٌ أَوْ شَجَرٌ لاَ تُمْكِنُ قِسْمَتُهُ، وَمَا فِي الْجَانِبِ الآْخَرِ لاَ يُعَادِل ذَلِكَ إِلاَّ بِضَمِّ شَيْءٍ إِلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ، فَيَرُدُّ مَنْ يَأْخُذُ الْجَانِبَ الَّذِي فِيهِ الْبِئْرُ أَوِ الشَّجَرُ قِسْطَ قِيمَتِهِ أَيْ قِيمَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْبِئْرِ أَوِ الشَّجَرِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قِسْمَة)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلرَّدِّ بِاخْتِلاَفِ مَوْطِنِهِ كَمَا يَلِي:
الرَّدُّ فِي الْعُقُودِ:
مُوجِبَاتُ الرَّدِّ:
لِلرَّدِّ مُوجِبَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا يَلِي:
3 - أ - الاِسْتِحْقَاقُ: فَإِذَا ظَهَرَ كَوْنُ الشَّيْءِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 423 ط مصطفى البابي الحلبي 1908 م، أدب القضاء ص 527 دار الفكر، الطبعة الثانية 1982 م، تحقيق الدكتور محمد الزحلي.(22/174)
مُسْتَحَقًّا لِلْغَيْرِ وَجَبَ رَدُّ الشَّيْءِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، أَوْ فِي الْجِنَايَاتِ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (1) .
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِحْقَاق ج 3 219) ، وَمُصْطَلَحِ: (اسْتِرْدَاد) (ف 5 ح 3 283) .
4 - ب - فَسْخُ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ: سَوَاءٌ كَانَ عَدَمُ لُزُومِهَا عَائِدًا إِلَى طَبِيعَتِهَا، كَالْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ، أَوْ إِلَى دُخُول الْخِيَارِ - بِأَنْوَاعِهِ - عَلَيْهَا كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَكِلاَ الطَّرَفَيْنِ، أَوْ لِمَنْ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ الْفَسْخُ، وَيَرُدُّ كُلٌّ مَا فِي يَدِهِ إِلَى صَاحِبِهِ (2) .
5 - ج - بُطْلاَنُ الْعَقْدِ: فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ وَجَبَ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ رَدُّ مَا أَخَذَهُ مِنَ الآْخَرِ وَذَلِكَ لأَِنَّ الْعَقْدَ الْبَاطِل لاَ وُجُودَ لَهُ شَرْعًا، وَلاَ يُنْتِجُ أَيَّ أَثَرٍ.
وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُسْتَحِقٌّ لِلْفَسْخِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ، إِلاَّ أَنَّهُ
__________
(1) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " أخرجه أبو داود 3 / 822 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث الحسن بن سمرة، وأعله ابن حجر بقوله: " الحسن مختلف في سماعه من سمرة " كذا في التلخيص الحبير (3 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) انظر الموسوعة الفقهية 3 / 283 ف 6، 7(22/175)
مِلْكٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، وَالْفَسْخُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَسْتَلْزِمُ رَدَّ الْمَبِيعِ عَلَى بَائِعِهِ، وَرَدَّ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي (1) . (انْظُرْ: اسْتِرْدَاد) .
6 - د - الإِْقَالَةُ: وَمَحَلُّهَا الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ. وَمُقْتَضَى الإِْقَالَةِ رَدُّ الأَْمْرِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، أَيْ رَدُّ الْمَبِيعِ إِلَى الْبَائِعِ، وَالثَّمَنِ إِلَى الْمُشْتَرِي (2) ، سَوَاءٌ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَهَا فَسْخًا وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، أَوْ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَهَا بَيْعًا فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ، أَوْ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَهَا فَسْخًا فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِقَالَة ج 5 324)
7 - هـ - انْتِهَاءُ مُدَّةِ الْعَقْدِ: إِذَا انْتَهَتْ مُدَّةُ الْعَقْدِ فِي الْعُقُودِ الْمُقَيَّدَةِ بِمُدَّةٍ فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ رَفْعُ يَدِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الرَّدُّ. قِيل لأَِحْمَدَ: إِذَا اكْتَرَى دَابَّةً أَوِ اسْتَعَارَ أَوِ اسْتَوْدَعَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَهُ؟ فَقَال أَحْمَدُ: مَنِ اسْتَعَارَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ رَدُّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذَهُ، فَأَوْجَبَ الرَّدَّ فِي الْعَارِيَّةِ وَلَمْ
__________
(1) انظر الموسوعة الفقهية مصطلح، استرداد ج 3 / 285 ف 10، 11، 12
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 144 - دار إحياء التراث العربي، البهجة في شرح التحفة 2 / 146 ط مصطفى البابي الحلبي - الطبعة الثانية 1951 م، كشاف القناع 3 / 250 ط عالم الكتب.(22/175)
يُوجِبْهُ فِي الإِْجَارَةِ وَالْوَدِيعَةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ عَقْدٌ لاَ يَقْتَضِي الضَّمَانَ فَلاَ يَقْتَضِي رَدَّهُ وَمُؤْنَتَهُ، كَالْوَدِيعَةِ، وَفَارَقَ الْعَارِيَّةَ، فَإِنَّ ضَمَانَهَا يَجِبُ، فَكَذَلِكَ رَدُّهَا، وَعَلَى هَذَا مَتَى انْقَضَتِ الْمُدَّةُ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ أَمَانَةً كَالْوَدِيعَةِ إِنْ تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي رَدِّ الْمُسْتَأْجِرِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الإِْجَارَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَال: لاَ يَلْزَمُهُ قَبْل الْمُطَالَبَةِ؛ لأَِنَّهُ أَمَانَةٌ فَلاَ يَلْزَمُهُ رَدُّهَا قَبْل الطَّلَبِ كَالْوَدِيعَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: يَلْزَمُهُ لأَِنَّهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الإِْجَارَةِ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِي إِمْسَاكِهَا فَلَزِمَهُ الرَّدُّ كَالْعَارِيَّةِ الْمُؤَقَّتَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْتِهَا، فَإِنْ قُلْنَا لاَ يَلْزَمُهُ الرَّدُّ لَمْ يَلْزَمْهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ كَالْوَدِيعَةِ، وَإِنْ قُلْنَا يَلْزَمُهُ لَزِمَهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ كَالْعَارِيَّةِ (1) .
مُسْقِطَاتُ الرَّدِّ فِي الْعُقُودِ:
يَسْقُطُ الرَّدُّ فِي الْعُقُودِ لِعِدَّةِ أُمُورٍ مِنْهَا مَا يَلِي:
8 - أ - تَصْحِيحُ الْعَقْدِ: جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِل وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَهُمَا عِنْدَهُمْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ بَاطِلاً هَل يَنْقَلِبُ صَحِيحًا إِذَا رُفِعَ الْمُفْسِدُ أَمْ لاَ؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ لاَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ إِذْ لاَ عِبْرَةَ بِالْفَاسِدِ.
__________
(1) كشاف القناع 4 / 46، والمهذب 1 / 408، والمغني 5 / 535، والبدائع 4 / 205.(22/176)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ يَنْقَلِبُ صَحِيحًا إِذَا حُذِفَ الشَّرْطُ الْمُفْسِدُ لِلْعَقْدِ. وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ بَعْضَ الشُّرُوطِ فَلاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ مَعَهَا وَلَوْ حُذِفَ الشَّرْطُ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَصْحِيح ج 12 58 ف 11)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْعَقْدِ الْبَاطِل وَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ، فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَنْقَلِبَ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ صَحِيحًا وَذَلِكَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ. وَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ الْبَاطِل، وَإِذَا انْقَلَبَ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ صَحِيحًا سَقَطَ الرَّدُّ لِزَوَال مُوجِبِهِ (1) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَصْحِيح ج 12 58 ف 11، 12، 13، 14) .
9 - ب - تَجْدِيدُ الْعَقْدِ: وَيَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي الْعُقُودِ الْمُقَيَّدَةِ بِمُدَّةٍ كَالإِْجَارَةِ، فَإِذَا اتَّفَقَ الْعَاقِدَانِ عَلَى تَجْدِيدِ الْعَقْدِ لِمُدَّةٍ أُخْرَى سَقَطَ رَدُّ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ لِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا؛ وَلِزَوَال مَا يُوجِبُهُ وَهُوَ انْتِهَاءُ فَتْرَةِ الْعَقْدِ.
10 - ج - سُقُوطُ الْخِيَارِ: وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ بِسَبَبِ دُخُول الْخِيَارِ عَلَيْهَا، فَإِذَا سَقَطَ الْخِيَارُ بِأَحَدِ مُسْقِطَاتِهِ أَصْبَحَ الْعَقْدُ لاَزِمًا وَامْتَنَعَ الرَّدُّ حِينَئِذٍ.
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 178 دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية 1982 م، شرح منح الجليل 2 / 570 مكتبة النجاح، شرح روض الطالب 2 / 37 المكتبة الإسلامية، مغني المحتاج 2 / 40 دار إحياء التراث العربي، شرح منتهى الإرادات 2 / 250 عالم الكتب.(22/176)
وَالْخِيَارَاتُ مُتَعَدِّدَةٌ وَكَذَلِكَ مُسْقِطَاتُهَا، وَهِيَ مَحَل خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَار) .
أَنْوَاعُ الرَّدِّ:
11 - يُقَسِّمُ الْحَنَفِيَّةُ رَدَّ الْمَبِيعِ بِالْعَيْبِ إِلَى رَدٍّ بِالْقَضَاءِ وَرَدٍّ بِالتَّرَاضِي.
وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْمُشْتَرِي لِلْمَبِيعِ الْمَعِيبِ إِلَى ثَالِثٍ ثُمَّ رَدِّهِ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ، فَمَنِ اشْتَرَى شَيْئًا ثُمَّ بَاعَهُ فَرُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ أَوْ نُكُولٍ، كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ الأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ فُسِخَ مِنَ الأَْصْل فَجُعِل الْبَيْعُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.
وَإِنْ قَبِلَهُ بِالتَّرَاضِي فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ الأَْوَّل.
فَالْحَنَفِيَّةُ يَعْتَبِرُونَ الرَّدَّ بِالْقَضَاءِ فَسْخًا، وَبِالتَّرَاضِي بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ الْبَائِعِ الأَْوَّل فَسْخًا فِي الْمُشْتَرِي الأَْوَّل وَالْمُشْتَرِي الثَّانِي.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْجُمْهُورُ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - بَيْنَ الرَّدِّ بِالْقَضَاءِ وَالرَّدِّ بِالتَّرَاضِي،
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 267، 268 دار الكتاب العربي) ، القوانين الفقهية 299 ط دار العلم للملايين 1979 م، قليوبي وعميرة 2 / 195، 196 ط عيسى البابي الحلبي، كشاف القناع 3 / 205 وما بعدها ط عالم الكتب 1983 م، مطالب أولي النهى 3 / 91، 94، 97، 99 منشورات المكتب الإسلامي بدمشق.(22/177)
فَكِلاَهُمَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ (1) . وَيَنْقَسِمُ رَدُّ الْمَبِيعِ كَذَلِكَ إِلَى رَدٍّ قَهْرِيٍّ، وَرَدٍّ اخْتِيَارِيٍّ، فَالرَّدُّ الْقَهْرِيُّ كَرَدِّ الْمَبِيعِ بِالْعَيْبِ، وَالرَّدُّ الاِخْتِيَارِيُّ كَالإِْقَالَةِ (2) .
رَدُّ مَال الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ:
12 - إِذَا بَلَغَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ وَرَشَدَ وَجَبَ عَلَى وَلِيِّهِ دَفْعُ الْمَال إِلَيْهِ (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (4) } .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (رُشْد، حَجْر) .
رَدُّ السَّلاَمِ:
13 - رَدُّ السَّلاَمِ وَاجِبٌ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَال فِي شَرْحِ الشِّرْعَةِ: اعْلَمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ السَّلاَمَ سُنَّةٌ وَإِسْمَاعَهُ مُسْتَحَبٌّ، وَجَوَابَهُ أَيْ رَدَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَإِسْمَاعَ رَدِّهِ وَاجِبٌ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُسْمِعْهُ لاَ يَسْقُطُ هَذَا الْفَرْضُ عَنِ
__________
(1) شرح فتح القدير 5 / 167 ط دار صادر، حاشية الدسوقي 3 / 125 ط دار الفكر، القوانين الفقهية 292 ط دار العلم للملايين 1979 م، مغني المحتاج 2 / 56 - ط مصطفى البابي الحلبي 1908 م، كشاف القناع 3 / 222 - ط عالم الكتب 1983م.
(2) نهاية المحتاج 4 / 56 مصطفى البابي الحلبي 1967 م، حاشية الجمل 3 / 146 دار إحياء التراث العربي.
(3) الموسوعة الفقهية 3 / 289 ف 17
(4) سورة النساء / 6.(22/177)
السَّامِعِ، حَتَّى قِيل: لَوْ كَانَ الْمُسَلِّمُ أَصَمَّ يَجِبُ عَلَى الرَّادِّ أَنْ يُحَرِّكَ شَفَتَيْهِ وَيُرِيَهُ، بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَصَمَّ لَسَمِعَهُ. قَال الشَّيْخُ عَمِيرَةُ: هُوَ - أَيْ رَدُّ السَّلاَمِ - حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى (1) .
وَهُنَاكَ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (سَلاَم) .
رَدُّ الشَّهَادَةِ:
14 - الأَْصْل فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ التُّهْمَةُ أَيِ الشَّكُّ وَالرِّيبَةُ فِي صِحَّةِ الشَّهَادَةِ؛ لأَِنَّهَا خَبَرٌ يَحْتَمِل الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إِذَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ فِيهِ، وَبِالتُّهْمَةِ لاَ يَتَرَجَّحُ.
وَالتُّهْمَةُ قَدْ تَكُونُ لِمَعْنًى فِي الشَّاهِدِ كَالْفِسْقِ، فَإِنَّ مَنْ لاَ يَنْزَجِرُ عَنْ غَيْرِ الْكَذِبِ مِنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِ فَقَدْ لاَ يَنْزَجِرُ عَنْهُ أَيْضًا، فَكَانَ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ، وَقَدْ تَكُونُ لِمَعْنًى فِي الْمَشْهُودِ لَهُ مِنْ قَرَابَةٍ يُتَّهَمُ بِهَا بِإِيثَارِ الْمَشْهُودِ لَهُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، كَقَرَابَةِ الْوِلاَدَةِ. وَقَدْ تَكُونُ لِخَلَلٍ فِي التَّمْيِيزِ كَالْعَمَى الْمُفْضِي إِلَى تُهْمَةِ الْغَلَطِ فِي الشَّهَادَةِ. وَقَدْ تَكُونُ بِالْعَجْزِ عَمَّا جَعَلَهُ الشَّارِعُ دَلِيلاً عَلَى صِدْقِهِ كَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ (2) ، قَال
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 265، دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 2 / 171، دار الفكر، مواهب الجليل 3 / 348، دار الفكر، قليوبي وعميرة 4 / 215، عيسى البابي الحلبي.
(2) شرح العناية على الهداية بهامش شرح فتح القدير 6 / 473 دار إحياء التراث العربي، القوانين الفقهية 336، دار العلم للملايين 1979م، قليوبي وعميرة 4 / 318 وما بعدها، عيسى البابي الحلبي، كشاف القناع 6 / 416 وما بعدها، عالم الكتب.(22/178)
اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (1) } .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَة) .
رَدُّ الْيَمِينِ:
15 - إِذَا وَجَبَتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَامْتَنَعَ، وَحَكَمَ الْقَاضِي بِأَنَّهُ نَاكِلٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَحْكُمُ بِالْحَقِّ بِالنُّكُول، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِذَا حَلَفَ حَكَمَ لَهُ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاء، إِثْبَات، وَأَيْمَان، وَنُكُول) .
رَدُّ مَال الْغَيْرِ:
16 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ أَخَذَ مَال الْغَيْرِ بِطَرِيقٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ كَالْغَصْبِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَى صَاحِبِهِ فَوْرًا؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (3) وَلأَِنَّ
__________
(1) سورة النور / 13.
(2) أدب القضاء ص 218 وما بعدها، 223، دار الفكر الطبعة الثانية 1982م، تبصرة الحكام 1 / 154 دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، حاشية الجمل 5 / 425، دار إحياء التراث العربي، ونيل المآرب 2 / 456، والمغني 9 / 235، والبدائع 6 / 230.
(3) حديث: " على اليد ما أخذت. . . " سبق تخريجه ف / 3.(22/178)
الْمَظَالِمَ يَجِبُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا فَوْرًا؛ لأَِنَّ بَقَاءَهَا بِيَدِهِ ظُلْمٌ آخَرُ. وَكَذَا السَّارِقُ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ إِنْ كَانَتْ قَائِمَةً اتِّفَاقًا.
فَإِنْ هَلَكَتْ أَوِ اسْتُهْلِكَتْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَإِلاَّ فَقِيمَتُهَا، سَوَاءٌ قُطِعَ أَوْ لَمْ يُقْطَعْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قُطِعَ فِي السَّرِقَةِ وَالْعَيْنُ هَالِكَةٌ لاَ يَضْمَنُ حِينَئِذٍ، فَلاَ يَجْتَمِعُ عِنْدَهُمُ الْقَطْعُ وَالْغُرْمُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُغَرَّمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ (1) وَفِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ لاَ يَضْمَنُ السَّارِقُ سَرِقَتَهُ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ (2) وَفِي رِوَايَةٍ لاَ غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ بَعْدَ قَطْعِ يَمِينِهِ (3) . وَلأَِنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يُنَافِي الْقَطْعَ؛ لأَِنَّهُ لَوْ ضَمِنَهُ لَمَلَكَهُ مِلْكًا مُسْتَنِدًا إِلَى وَقْتِ الأَْخْذِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ فَيَنْتَفِي الْقَطْعُ لِلشُّبْهَةِ وَمَا يُؤَدِّي إِلَى انْتِفَائِهِ فَهُوَ الْمُنْتَفِي.
__________
(1) حديث: " لا يغرم صاحب سرقة إذا أقيم عليه الحد " أخرجه النسائي (8 / 93 - ط المكتبة التجارية) من حديث عبد الرحمن بن عوف، وقال النسائي: " هذا مرسل، وليس بثابت ".
(2) حديث: " لا يضمن السارق سرقته بعد إقامة الحد " أخرجه البزار كما في نصب الراية (3 / 375 - ط المجلس العلمي) ، ونقل الزيلعي عن ابن القطان أنه أعله بالإرسال، كما تقدم ذلك في النسائي أيضًا، وزاد كذلك بجهالة الراوي عن عبد الرحمن بن عوف.
(3) حديث: " لا غرم على السارق بعد قطع يمينه " أخرج هذه الرواية الدارقطني (3 / 182 - ط دار المحاسن) بإسناد الرواية السابقة.(22/179)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُوسِرًا يَوْمَ الْقَطْعِ ضَمِنَ قِيمَةَ الْمَسْرُوقِ، وَإِنْ كَانَ عَدِيمًا لَمْ يَضْمَنْ وَلَمْ يَغْرَمْ (1) . وَكَذَلِكَ يَجِبُ رَدُّ مَال الْغَيْرِ إِذَا أَخَذَهُ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ عِنْدَمَا يُوجَدُ مَا يُوجِبُ الرَّدَّ، وَذَلِكَ كَرَدِّ اللُّقَطَةِ عِنْدَ ظُهُورِ الْمَالِكِ، وَالْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ عِنْدَ الطَّلَبِ (2) .
مُؤْنَةُ (3) الرَّدِّ:
17 - مِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ الْفَسْخُ وَرَدُّ الْمَبِيعِ إِلَى بَائِعِهِ وَالثَّمَنِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَتَكُونُ مُؤْنَةُ رَدِّ الْمَبِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَبِيعَ إِذَا كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَهُوَ الْمُشْتَرِي (4) .
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مُؤْنَةَ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى
__________
(1) شرح فتح القدير 5 / 168، 169 ط دار إحياء التراث العربي، حاشية ابن عابدين 3 / 210، 5 / 114 ط دار إحياء التراث العربي، القوانين الفقهية 358، 390 ط دار العلم للملايين 1979 م، قليوبي وعميرة 3 / 28، 4 / 198 ط عيسى البابي الحلبي، كشاف القناع 4 / 78، 6 / 149 ط عالم الكتب 1983 م.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 494 ط دار إحياء التراث العربي، القوانين الفقهية 371 ط دار العلم للملايين 1979م، قليوبي وعميرة 3 / 20، 122، 181 ط عيسى البابي الحلبي، كشاف القناع 4 / 65، 209 وما بعدها ط عالم الكتب 1983 م.
(3) المؤنة: اسم لما يتحمله الإنسان من ثقل النفقة (التعريفات للجرجاني ص 303) .
(4) روضة الطالبين 3 / 408 ط المكتب الإسلامي، حاشية الجمل 3 / 84 ط دار إحياء التراث العربي، المغني 4 / 253 مطبوعات رئاسة إدارات البحوث العلمية - الرياض 1981 م، القوانين الفقهية 286 - ط دار العلم للملايين 1979 م.(22/179)
الْمُسْتَعِيرِ (1) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ (2) .
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا إِلَى أَنَّ مُؤْنَةَ رَدِّ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ صَاحِبِهِ لاَعِبًا أَوْ جَادًّا، وَإِذَا أَخَذَ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرْدُدْهَا عَلَيْهِ (3) وَلأَِنَّ الْمُؤْنَةَ مِنْ ضَرُورَاتِ الرَّدِّ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَجَبَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ كَمَا فِي رَدِّ الْعَارِيَّةِ (4) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مُؤْنَة)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 505 ط دار إحياء التراث العربي، مواهب الجليل 5 / 273 ط دار الفكر الطبعة الثانية 1978 م، قليوبي وعميرة 3 / 20 ط عيسى البابي الحلبي، كشاف القناع 4 / 73 ط عالم الكتب 1983 م.
(2) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " سبق تخريجه ف / 3.
(3) حديث: " لا يأخذن أحدكم متاع أخيه. . . " أخرجه أحمد (4 / 221 - ط الميمنية) من حديث يزيد بن السائب، وحسنه البيهقي كما في التلخيص الحبير (3 / 46 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(4) بدائع الصنائع 7 / 148 دار الكتاب العربي 1982 م، البهجة في شرح التحفة 2 / 345 ط مصطفى البابي الحلبي 1951م، الطبعة الثانية، نهاية المحتاج 5 / 105 ط مصطفى البابي الحلبي 1967 م، كشاف القناع 4 / 78 ط عالم الكتب 1983 م.(22/180)
رِدَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّدَّةُ لُغَةً: الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ الرِّدَّةُ عَنِ الإِْسْلاَمِ.
يُقَال: ارْتَدَّ عَنْهُ ارْتِدَادًا أَيْ تَحَوَّل. وَالاِسْمُ الرِّدَّةُ، وَالرِّدَّةُ عَنِ الإِْسْلاَمِ: الرُّجُوعُ عَنْهُ. وَارْتَدَّ فُلاَنٌ عَنْ دِينِهِ إِذَا كَفَرَ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: (الرِّدَّةُ: كُفْرُ الْمُسْلِمِ بِقَوْلٍ صَرِيحٍ أَوْ لَفْظٍ يَقْتَضِيهِ أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ (2)) .
شَرَائِطُ الرِّدَّةِ:
2 - لاَ تَقَعُ الرِّدَّةُ مِنَ الْمُسْلِمِ إِلاَّ إِذَا تَوَفَّرَتْ شَرَائِطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْل وَالاِخْتِيَارِ (3) .
__________
(1) الجمهرة ولسان العرب والصحاح وتاج العروس ومتن اللغة والمعجم الوسيط.
(2) تحفة الفقهاء 7 / 134، والقليوبي وعميرة 4 / 174، وحاشية الباجوري 2 / 328، ومنح الجليل 4 / 461، وشرح الخرشي المالكي 8 / 62، وهداية الراغب 437، والمغني لابن قدامة الحنبلي 8 / 540، ومنتهى الإرادات لابن النجار 2 / 498.
(3) البدائع 7 / 134، المهذب 2 / 222، فيض الإله المالك 2 / 305، الفروع 2 / 160(22/180)
رِدَّةُ الصَّبِيِّ:
3 - رِدَّةُ الصَّبِيِّ لاَ تُعْتَبَرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ، وَقَوْلٌ لأَِحْمَدَ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى وَمُحَمَّدٌ: يُحْكَمُ بِرِدَّةِ الصَّبِيِّ اسْتِحْسَانًا (2) ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ (3) .
الْمُرْتَدُّ قَبْل الْبُلُوغِ لاَ يُقْتَل:
4 - ذَهَبَ الْقَائِلُونَ بِوُقُوعِ رِدَّةِ الصَّبِيِّ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَل قَبْل بُلُوغِهِ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: إِنَّ الصَّبِيَّ إِذَا ارْتَدَّ لاَ يُقْتَل حَتَّى بَعْدَ بُلُوغِهِ، قَال فِي الأُْمِّ: (فَمَنْ أَقَرَّ بِالإِْيمَانِ قَبْل الْبُلُوغِ وَإِنْ كَانَ عَاقِلاً، ثُمَّ ارْتَدَّ قَبْل الْبُلُوغِ أَوْ بَعْدَهُ، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَلاَ
__________
(1) المبسوط 10 / 122، وابن عابدين 4 / 257، ورحمة الأمة ص 296، والمغني لابن قدامة 8 / 551، والإنصاف 10 / 329.
(2) المبسوط 10 / 622 (يحكم بردته استحسانًا لعلته لا لحكمه) . ويلاحظ أيضًا كشف الأسرار للبزدوي 4 / 1371.
(3) المغني 8 / 551، والإنصاف 10 / 329، جواهر الإكليل 1 / 21، 116
(4) المبسوط 10 / 122، والتحفة 4 / 530، والبدائع 7 / 135، والهداية 2 / 126، وابن عابدين 4 / 257، والإنصاف 10 / 320، ومنار السبيل 2 / 407، والمغني 8 / 551.(22/181)
يُقْتَل؛ لأَِنَّ إِيمَانَهُ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ بَالِغٌ، وَيُؤْمَرُ بِالإِْيمَانِ، وَيُجْهَدُ عَلَيْهِ بِلاَ قَتْلٍ (1)) .
رِدَّةُ الْمَجْنُونِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ صِحَّةَ لإِِسْلاَمِ مَجْنُونٍ وَلاَ لِرِدَّتِهِ (2) .
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ تَبْقَى سَائِرَةً عَلَيْهِ (3) .
لَكِنْ إِنْ كَانَ يُجَنُّ سَاعَةً وَيُفِيقُ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ فِي إِفَاقَتِهِ وَقَعَتْ، وَإِنْ كَانَتْ فِي جُنُونِهِ لاَ تَقَعُ، كَمَا نَقَل ذَلِكَ الْكَاسَانِيُّ (4) .
رِدَّةُ السَّكْرَانِ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّ رِدَّةَ السَّكْرَانِ لاَ تُعْتَبَرُ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الرِّدَّةَ تُبْنَى عَلَى الاِعْتِقَادِ، وَالسَّكْرَانُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَا يَقُول (5) .
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ،
__________
(1) الأم 6 / 649.
(2) البدائع 7 / 634، الإقناع 4 / 301، الكافي لابن قدامة 3 / 155، المهذب 2 / 222، والأم 6 / 148، والشامل 2 / 159 و 6 / 102، والقليوبي وعميرة 4 / 176.
(3) المراجع السابقة.
(4) البدائع 7 / 134.
(5) المبسوط 10 / 123، وتحفة الفقهاء 4 / 532، والبدائع 7 / 134، وابن عابدين 4 / 224، والمهذب 2 / 222، والقليوبي 4 / 176.(22/181)
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى وُقُوعِ رِدَّةِ السَّكْرَانِ، وَحُجَّتُهُمْ: أَنَّ الصَّحَابَةَ أَقَامُوا حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى السَّكْرَانِ، وَأَنَّهُ يَقَعُ طَلاَقُهُ، فَتَقَعُ رِدَّتُهُ، وَأَنَّهُ مُكَلَّفٌ، وَأَنَّ عَقْلَهُ لاَ يَزُول كُلِّيًّا، فَهُوَ أَشْبَهُ بِالنَّاعِسِ مِنْهُ بِالنَّائِمِ أَوِ الْمَجْنُونِ (1) .
الْمُكْرَهُ عَلَى الرِّدَّةِ:
7 - الإِْكْرَاهُ: اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ، فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ، أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْعَدِمَ بِهِ أَهْلِيَّتُهُ، أَوْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْخِطَابُ (2) .
وَالإِْكْرَاهُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُوجِبُ الإِْلْجَاءَ وَالاِضْطِرَارَ طَبْعًا، كَالإِْكْرَاهِ بِالْقَتْل أَوِ الْقَطْعِ أَوِ الضَّرْبِ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ تَلَفُ النَّفْسِ أَوِ الْعُضْوِ، قَل الضَّرْبُ أَوْ كَثُرَ. وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى إِكْرَاهًا تَامًّا.
وَنَوْعٌ لاَ يُوجِبُ الإِْلْجَاءَ وَالاِضْطِرَارَ، وَهُوَ الْحَبْسُ أَوِ الْقَيْدُ أَوِ الضَّرْبُ الَّذِي لاَ يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الإِْكْرَاهِ يُسَمَّى إِكْرَاهًا نَاقِصًا (3) .
8 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى
__________
(1) الإنصاف 10 / 331، والمغني 8 / 563، والأم 6 / 148، والشامل 6 / 102، والقليوبي 6 / 176.
(2) المبسوط 24 / 38، البدائع 7 / 175، ومرآة الأصول ص 359.
(3) البدائع 7 / 170، المجلة (المادة 949) .(22/182)
: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ (1) } .
وَمَا نُقِل مِنْ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حَمَلَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَا يَكْرَهُ فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال لَهُ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ (2) ، وَهَذَا فِي الإِْكْرَاهِ التَّامِّ (3) .
9 - وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الإِْسْلاَمِ فَأَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ قَبْل أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى الإِْسْلاَمِ طَوْعًا، مِثْل أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الإِْسْلاَمِ بَعْدَ زَوَال الإِْكْرَاهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يَجُوزُ إِكْرَاهُهُمْ عَلَى الإِْسْلاَمِ - وَهُمْ أَهْل الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنُونَ - فَلاَ يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا، وَلاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ وَلاَ إِجْبَارُهُ عَلَى الإِْسْلاَمِ؛ لِعَدَمِ صِحَّةِ إِسْلاَمِهِ ابْتِدَاءً.
أَمَّا إِنْ كَانَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الإِْسْلاَمِ مِمَّنْ يَجُوزُ إِكْرَاهُهُ وَهُوَ الْحَرْبِيُّ وَالْمُرْتَدُّ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا بِرُجُوعِهِ عَنِ الإِْسْلاَمِ، وَيُطَبَّقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ (4) .
__________
(1) سورة النحل / 106.
(2) حديث: " إن عادوا فعد " أخرجه ابن سعد (3 / 219 - ط دار صادر) من حديث محمد بن عمار مرسلاً.
(3) المبسوط 10 / 623، وابن عابدين 4 / 224، والأم 6 / 652، والشامل 6 / 148، وشرح الأنصاري 4 / 249، ومنح الجليل 4 / 407، والمغني 8 / 561، والإقناع 4 / 306.
(4) المبسوط 10 / 123، والبدائع 7 / 110، 111، وابن عابدين 4 / 246، ومواهب الجليل 8 / 282، الزرقاني 8 / 68، والشامل 6 / 648، والمغني 8 / 560، والإقناع 4 / 304، وكشاف القناع 6 / 180 ط الرياض.(22/182)
مَا تَقَعُ بِهِ الرِّدَّةُ:
10 - تَنْقَسِمُ الأُْمُورُ الَّتِي تَحْصُل بِهَا الرِّدَّةُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أ - رِدَّةٌ فِي الاِعْتِقَادِ.
ب - رِدَّةٌ فِي الأَْقْوَال.
ج - رِدَّةٌ فِي الأَْفْعَال.
د - رِدَّةٌ فِي التَّرْكِ.
إِلاَّ أَنَّ هَذِهِ الأَْقْسَامَ تَتَدَاخَل، فَمَنِ اعْتَقَدَ شَيْئًا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلٍ، أَوْ فِعْلٍ، أَوْ تَرْكٍ.
مَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ مِنْ الاِعْتِقَادِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ، أَوْ جَحَدَهُ، أَوْ نَفَى صِفَةً ثَابِتَةً مِنْ صِفَاتِهِ، أَوْ أَثْبَتَ لِلَّهِ الْوَلَدَ فَهُوَ مُرْتَدٌّ كَافِرٌ (1) .
وَكَذَلِكَ مَنْ قَال بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَوْ بَقَائِهِ، أَوْ شَكَّ فِي ذَلِكَ (2) . وَدَلِيلُهُمْ قَوْله تَعَالَى: {كُل شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ (3) } .
وَقَال ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: (لأَِنَّ حُدُوثَ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 223، والقليوبي وعميرة 4 / 174، والشامل 2 / 17، ومنح الجليل 4 / 461، والدسوقي 4 / 302، والإقناع 4 / 297، والإنصاف 10 / 326، المغني 8 / 565.
(2) منح الجليل 4 / 462، والشامل 2 / 102، وكفاية الأخيار 2 / 202، والعدة 4 / 300.
(3) سورة القصص / 88.(22/183)
الْعَالَمِ مِنْ قَبِيل مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الإِْجْمَاعُ وَالتَّوَاتُرُ، بِالنَّقْل عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ، فَيَكْفُرُ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِ النَّقْل الْمُتَوَاتِرَ (1)) .
12 - وَيَكْفُرُ مَنْ جَحَدَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ (2) ، وَلَوْ كَلِمَةً. وَقَال الْبَعْضُ: بَل يَحْصُل الْكُفْرُ بِجَحْدِ حَرْفٍ وَاحِدٍ (3) . كَمَا يَقَعُ الْكُفْرُ بِاعْتِقَادِ تَنَاقُضِهِ وَاخْتِلاَفِهِ، أَوِ الشَّكِّ بِإِعْجَازِهِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى مِثْلِهِ، أَوْ إِسْقَاطِ حُرْمَتِهِ (4) ، أَوِ الزِّيَادَةِ فِيهِ (5) .
أَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلُهُ، فَلاَ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ، وَلاَ رَادُّهُ؛ لأَِنَّهُ أَمْرٌ اجْتِهَادِيٌّ مِنْ فِعْل الْبَشَرِ.
وَقَدْ نَصَّ ابْنُ قُدَامَةَ عَلَى أَنَّ اسْتِحْلاَل دِمَاءِ الْمَعْصُومِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، إِنْ جَرَى بِتَأْوِيل الْقُرْآنِ - كَمَا فَعَل الْخَوَارِجُ - لَمْ يَكْفُرْ صَاحِبُهُ (6) . وَلَعَل السَّبَبَ أَنَّ الاِسْتِحْلاَل جَرَى بِاجْتِهَادٍ خَاطِئٍ، فَلاَ يَكْفُرُ صَاحِبُهُ.
13 - وَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا مَنِ اعْتَقَدَ كَذِبَ
__________
(1) العدة 4 / 300، وابن عابدين 4 / 223، والإقناع 4 / 297، والإنصاف 10 / 327، والفروع 2 / 159، ومنار السبيل 2 / 404.
(2) ابن عابدين 4 / 224، 230، والمغني 8 / 548، والإقناع 4 / 297، وفتاوى السبكي 2 / 577.
(3) الإعلام بقواطع الإسلام 2 / 42، إقامة البرهان ص 139.
(4) ابن عابدين 4 / 222.
(5) الفروع 2 / 159، والإقناع 4 / 297، والآداب 2 / 298.
(6) المغني 8 / 548.(22/183)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ حِل شَيْءٍ مُجْمَعٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ، كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ أَنْكَرَ أَمْرًا مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ (1) .
حُكْمُ سَبِّ اللَّهِ تَعَالَى:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى كَفَرَ، سَوَاءٌ كَانَ مَازِحًا أَوْ جَادًّا أَوْ مُسْتَهْزِئًا (2) .
وَقَدْ قَال تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُل أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ (3) } .
وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُول تَوْبَتِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (4) وَالْحَنَابِلَةُ (5) إِلَى قَبُولِهَا، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (6) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلشَّافِعِيَّةِ تَفْرِقَةً بَيْنَ الرِّدَّةِ بِذَلِكَ وَبَيْنَ الرِّدَّةِ بِغَيْرِهِ.
__________
(1) ابن عابدين 4 / 223، 224، 230، والمغني 8 / 548، والإقناع 4 / 297، وفتاوى السبكي 2 / 577.
(2) نيل الأوطار 8 / 194 - 195، والسيف المشهور ورقة (2) ، والمغني 8 / 565، والفروع 2 / 160، والخرشي 8 / 74، والصارم المسلول ص 550، والشروط العمرية ص 141.
(3) سورة التوبة / 65 - 66
(4) ابن عابدين 4 / 232.
(5) المغني 8 / 565، والصارم المسلول ص 550، ونقل ابن مفلح قبول التوبة بشرط أن لا تتكرر منه ثلاثًا (الفروع 2 / 160) .
(6) الخرشي 8 / 74.(22/184)
حُكْمُ سَبِّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
15 - السَّبُّ هُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الاِنْتِقَادُ وَالاِسْتِخْفَافُ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ السَّبُّ فِي عُقُول النَّاسِ، عَلَى اخْتِلاَفِ اعْتِقَادَاتِهِمْ، كَاللَّعْنِ وَالتَّقْبِيحِ (1) .
وَحُكْمُ سَابِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مُرْتَدٌّ بِلاَ خِلاَفٍ (2) .
وَيُعْتَبَرُ سَابًّا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُل مَنْ أَلْحَقَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيْبًا أَوْ نَقْصًا، فِي نَفْسِهِ، أَوْ نَسَبِهِ، أَوْ دِينِهِ، أَوْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِهِ، أَوِ ازْدَرَاهُ، أَوْ عَرَّضَ بِهِ، أَوْ لَعَنَهُ (3) ، أَوْ شَتَمَهُ، أَوْ عَابَهُ، أَوْ قَذَفَهُ، أَوِ اسْتَخَفَّ بِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ (4) .
هَل يُقْتَل السَّابُّ رِدَّةً أَمْ حَدًّا؟
16 - قَال الْحَنَفِيَّةُ (5) وَالْحَنَابِلَةُ (6) وَابْنُ تَيْمِيَّةَ (7) : إِنَّ سَابَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا، كَأَيِّ مُرْتَدٍّ؛ لأَِنَّهُ بَدَّل دِينَهُ فَيُسْتَتَابُ، وَتُقْبَل تَوْبَتُهُ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ - فِيمَا يَنْقُلُهُ السُّبْكِيُّ - فَيَرَوْنَ أَنَّ سَبَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِدَّةٌ وَزِيَادَةٌ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ
__________
(1) الصارم المسلول ص 556.
(2) ابن عابدين 4 / 232 - 237، وفتاوى السبكي 2 / 573، والسيف المسلول 4 - 11، 79، والشروط العمرية ص 214، والشامل 2 / 171.
(3) السيف المسلول ورقة 79.
(4) الشامل 2 / 171.
(5) ابن عابدين 4 / 233 - 235، والسيف المشهور ورقة 2.
(6) الهداية للكلوذاني ورقة (202) .
(7) الصارم المسلول ص 53، 245، 293، 423، 527.(22/184)
السَّابَّ كَفَرَ أَوَّلاً، فَهُوَ مُرْتَدٌّ، وَأَنَّهُ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاجْتَمَعَتْ عَلَى قَتْلِهِ عِلَّتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا تُوجِبُ قَتْلَهُ (1)
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ سَابَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُسْتَتَابُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فَيُسْلِمَ (2) .
حُكْمُ سَبِّ الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
17 - مِنَ الأَْنْبِيَاءِ مَنْ هُمْ مَحَل اتِّفَاقٍ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ، فَمَنْ سَبَّهُمْ فَكَأَنَّمَا سَبَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَابُّهُ كَافِرٌ، فَكَذَا كُل نَبِيٍّ مَقْطُوعٍ بِنُبُوَّتِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ (3) .
وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِنُبُوَّتِهِ، فَمَنْ سَبَّهُ زُجِرَ، وَأُدِّبَ وَنُكِّل بِهِ، لَكِنْ لاَ يُقْتَل، صَرَّحَ بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ (4) .
حُكْمُ سَبِّ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَدْ كَذَّبَ صَرِيحَ الْقُرْآنِ الَّذِي نَزَل بِحَقِّهَا، وَهُوَ بِذَلِكَ كَافِرٌ (5) قَال تَعَالَى فِي
__________
(1) السيف المسلول ورقة (2) ، ومنار السبيل 2 / 409.
(2) الدسوقي 4 / 309.
(3) ابن عابدين 4 / 235، والسيف المشهور ورقة (2) ، والشامل 2 / 171، والصارم المسلول ص 570، والقليوبي 4 / 175.
(4) السيف المشهور ورقة (2) .
(5) ابن عابدين 4 / 237، وفتاوى السبكي 2 / 552، والإقناع 4 / 299، والخرشي 8 / 74، والصارم المسلول 571.(22/185)
حَدِيثِ الإِْفْكِ بَعْدَ أَنْ بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) } .
فَمَنْ عَادَ لِذَلِكَ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ (2) .
وَهَل تُعْتَبَرُ مِثْلَهَا سَائِرُ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ؟ قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّهُنَّ مِثْلُهَا فِي ذَلِكَ (3) . وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) } .
وَالطَّعْنُ بِهِنَّ يَلْزَمُ مِنْهُ الطَّعْنُ بِالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَارُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ وَهُوَ مَذْهَبٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُنَّ - سِوَى عَائِشَةَ - كَسَائِرِ الصَّحَابَةِ، وَسَابُّهُنَّ يُجْلَدُ، لأَِنَّهُ قَاذِفٌ (5) .
أَمَّا سَابُّ الْخُلَفَاءِ فَهُوَ لاَ يَكْفُرُ، وَتَوْبَتُهُ مَقْبُولَةٌ (6) .
حُكْمُ مَنْ قَال لِمُسْلِمٍ يَا كَافِرُ:
19 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال
__________
(1) سورة النور / 17.
(2) الصارم المسلول / 571.
(3) السيف المشهور ورقة (2) ، والسيف المسلول ورقة 82، والصارم المسلول 571.
(4) سورة النور / 26.
(5) أسنى المطالب 4 / 117، وانظر المراجع السابقة.
(6) ابن عابدين 4 / 236 - 237.(22/185)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا امْرِئٍ قَال لأَِخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَال، وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِفِسْقِ الْقَائِل. قَال السَّمَرْقَنْدِيُّ: وَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَيَجِبُ فِي جِنَايَةٍ لَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ لِلْحَدِّ، بِأَنْ قَال: يَا كَافِرُ، أَوْ يَا فَاسِقُ، أَوْ يَا فَاجِرُ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ مَنْ أَطْلَقَ الشَّارِعُ كُفْرَهُ، مِثْل قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُول فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِل عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
فَهَذَا كُفْرٌ لاَ يُخْرِجُ عَنِ الإِْسْلاَمِ بَل هُوَ تَشْدِيدٌ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ كَفَّرَ مُسْلِمًا وَلَوْ لِذَنْبِهِ كَفَرَ؛ لأَِنَّهُ سَمَّى الإِْسْلاَمَ كُفْرًا، وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ: مَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ أَوْ قَال عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ (4) . أَيْ رَجَعَ عَلَيْهِ هَذَا إِنْ كَفَّرَهُ بِلاَ تَأْوِيلٍ لِلْكُفْرِ بِكُفْرِ النِّعْمَةِ أَوْ نَحْوِهِ وَإِلاَّ فَلاَ يَكْفُرُ، وَهَذَا مَا نَقَلَهُ الأَْصْل عَنِ الْمُتَوَلِّي،
__________
(1) حديث: " أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر. . . " أخرجه مسلم (1 / 79 - ط الحلبي) .
(2) تحفة الفقهاء 3 / 231، الإقناع 4 / 297، والفروع 2 / 161.
(3) حديث: " من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول فقد. . . . " أخرجه أحمد (2 / 429 - ط الميمنية) من حديث أبي هريرة، وقال الذهبي: " إسناده قوي " كذا في فيض القدير 6 / 23 - ط المكتبة التجارية) .
(4) حديث: " من دعا رجلاً بالكفر. . . " أخرجه مسلم 1 / 80، ط الحلبي) من حديث أبي ذر.(22/186)
وَأَقَرَّهُ، وَالأَْوْجَهُ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْخَبَرَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِل فَلاَ يَكْفُرُ غَيْرُهُ، وَعَلَيْهِ يُحْمَل قَوْلُهُ فِي أَذْكَارِهِ أَنَّ ذَلِكَ يُحَرَّمُ تَحْرِيمًا مُغَلَّظًا (1) .
مَا يُوجِبُ الرِّدَّةَ مِنَ الأَْفْعَال:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِلْقَاءَ الْمُصْحَفِ كُلِّهِ فِي مَحَلٍّ قَذِرٍ يُوجِبُ الرِّدَّةَ؛ لأَِنَّ فِعْل ذَلِكَ اسْتِخْفَافٌ بِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ أَمَارَةُ عَدَمِ التَّصْدِيقِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: وَكَذَا إِلْقَاءُ بَعْضِهِ. وَكَذَا كُل فِعْلٍ يَدُل عَلَى الاِسْتِخْفَافِ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ (3) .
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ سَجَدَ لِصَنَمٍ، أَوْ لِلشَّمْسِ، أَوْ لِلْقَمَرِ فَقَدْ كَفَرَ (4) .
وَمَنْ أَتَى بِفِعْلٍ صَرِيحٍ فِي الاِسْتِهْزَاءِ بِالإِْسْلاَمِ، فَقَدْ كَفَرَ. قَال بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ (5) وَدَلِيلُهُمْ قَوْله تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 118 - ط المكتبة الإسلامية.
(2) ابن عابدين 4 / 222، والقليوبي 4 / 174، والإعلام 2 / 38، وكفاية الأخيار 2 / 201، ومنار السبيل 2 / 404، وشرح منح الجليل 4 / 461، والخرشي 8 / 62.
(3) الإعلام 2 / 38، وشرح منح الجليل 4 / 461، وشرح الخرشي 8 / 62.
(4) ابن عابدين 4 / 222، القليوبي 4 / 174، والإنصاف 10 / 326، والشامل لبهرام 2 / 170.
(5) ابن عابدين 4 / 222.(22/186)
كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُل أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (1) } .
الرِّدَّةُ لِتَرْكِ الصَّلاَةِ:
21 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ جَاحِدًا لَهَا يَكُونُ مُرْتَدًّا (2) ، وَكَذَا الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ؛ لأَِنَّهَا مِنَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ (3) .
وَأَمَّا تَارِكُ الصَّلاَةِ كَسَلاً فَفِي حُكْمِهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: يُقْتَل رِدَّةً، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْل سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَالأَْوْزَاعِيِّ، وَأَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ، وَحَكَاهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ.
__________
(1) سورة التوبة / 65.
(2) ابن القيم في كتابه: " الصلاة وحكم تاركها ".
(3) ابن عابدين 1 / 352 - 353، ورسالة بدر الرشيد ورقة (8) ، وعمدة القاري 24 / 81، والإنصاف 1 / 401، 10 / 327، والمغني 8 / 547، والإقناع 1 / 71، ومنتهى الإرادات 1 / 52، 2 / 299.(22/187)
وَالْقَوْل الثَّانِي: يُقْتَل حَدًّا لاَ كُفْرًا، وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (1) .
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ كَسَلاً يَكُونُ فَاسِقًا وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
جِنَايَاتُ الْمُرْتَدِّ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ:
22 - جِنَايَاتُ الْمُرْتَدِّ عَلَى غَيْرِهِ لاَ تَخْلُو: إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَكُلٌّ مِنْهَا، إِمَّا أَنْ تَقَعَ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ ذِمِّيٍّ، أَوْ مُسْتَأْمَنٍ، أَوْ مُرْتَدٍّ مِثْلِهِ.
وَهَذِهِ الْجِنَايَاتُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى النَّفْسِ بِالْقَتْل، أَوْ عَلَى مَا دُونَهَا، كَالْقَطْعِ وَالْجَرْحِ، أَوْ عَلَى الْعِرْضِ كَالزِّنَى وَالْقَذْفِ، أَوْ عَلَى الْمَال كَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ. وَهَذِهِ الْجِنَايَاتُ قَدْ تَقَعُ فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ، ثُمَّ يَهْرُبُ الْمُرْتَدُّ إِلَى بِلاَدِ الْحَرْبِ، أَوْ لاَ يَهْرُبُ، أَوْ تَقَعُ فِي بِلاَدِ الْحَرْبِ، ثُمَّ يَنْتَقِل الْمُرْتَدُّ إِلَى بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ.
وَقَدْ تَقَعُ مِنْهُ هَذِهِ كُلُّهَا فِي إِسْلاَمِهِ، أَوْ رِدَّتِهِ، وَقَدْ يَسْتَمِرُّ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ يَعُودُ مُسْلِمًا، وَقَدْ تَقَعُ مِنْهُ مُنْفَرِدًا، أَوْ فِي جَمَاعَةٍ، أَوْ أَهْل بَلَدٍ.
وَمِثْل هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَال فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْمُرْتَدِّ.
__________
(1) كتاب الصلاة لابن القيم 42، القليوبي وعميرة 1 / 319، كفاية الأخيار 2 / 204، والمغني 8 / 444، والشرح الصغير 1 / 238.
(2) ابن عابدين 1 / 352 - 353(22/187)
جِنَايَةُ الْمُرْتَدِّ عَلَى النَّفْسِ:
23 - إِذَا قَتَل مُرْتَدٌّ مُسْلِمًا عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، اتِّفَاقًا (1) .
أَمَّا إِذَا قَتَل الْمُرْتَدُّ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا فَيُقْتَل بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) وَالْحَنَابِلَةِ (3) وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ (4) ؛ لأَِنَّهُ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ الذِّمِّيِّ، إِذِ الْمُرْتَدُّ مُهْدَرُ الدَّمِ وَلاَ تَحِل ذَبِيحَتُهُ، وَلاَ مُنَاكَحَتُهُ، وَلاَ يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ.
وَلاَ يُقْتَل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْقَوْل الآْخَرُ لِلشَّافِعِيِّ لِبَقَاءِ عُلْقَةِ الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقَرُّ عَلَى رِدَّتِهِ (5) .
وَإِذَا قَتَل الْمُرْتَدُّ حُرًّا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا خَطَأً وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَلاَ تَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَالدِّيَةُ يُشْتَرَطُ لَهَا عِصْمَةُ الدَّمِ لاَ الإِْسْلاَمُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 7 / 2، والبدائع 7 / 233، والمغني 8 / 255، 554، والإقناع 4 / 306، والهداية للكلوذاني 202، والأم 6 / 153، ومنح الجليل 4 / 467، والخرشي 8 / 66.
(2) المسلم يقتل بالذمي عند الحنفية، فمن باب أولى أن يقتل به المرتد. البدائع 7 / 237 والفتاوى الهندية 7 / 3.
(3) المغني 8 / 255، والإقناع 4 / 175.
(4) الأم 6 / 33، وعدم المكافأة يتأتى من أن المرتد لا يقر على ردته، بل يحمل على الإسلام، والشامل لابن الصباغ 6 / 14، ومغني المحتاج 4 / 16.
(5) الشامل لبهرام 8 / 71، والخرشي 8 / 66، ومنح الجليل 4 / 467، ومغني المحتاج 4 / 16.(22/188)
عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ حَل دَمُهُ وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ أَهْل الْحَرْبِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَال؛ لأَِنَّ بَيْتَ الْمَال يَأْخُذُ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ مِمَّنْ جَنَى فَكَمَا يَأْخُذُ مَالَهُ يَغْرَمُ عَنْهُ. وَهَذَا إِنْ لَمْ يَتُبْ. فَإِنْ تَابَ فَقِيل: فِي مَالِهِ، وَقِيل: عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَقِيل: عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقِيل: عَلَى مَنِ ارْتَدَّ إِلَيْهِمْ (2) .
جِنَايَةُ الْمُرْتَدِّ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:
24 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ فَرْقَ فِي جِنَايَةِ الْمُرْتَدِّ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتْ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى مَا دُونَهَا، وَلاَ يُقْتَل الْمُرْتَدُّ بِالذِّمِّيِّ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِزِيَادَتِهِ عَلَى الذِّمِّيِّ بِالإِْسْلاَمِ الْحُكْمِيِّ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُقْتَل الْمُرْتَدُّ بِالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ. وَإِنْ قَطَعَ طَرَفًا مِنْ أَحَدِهِمَا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِيهِ أَيْضًا.
وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: لاَ يُقْتَل الْمُرْتَدُّ بِالذِّمِّيِّ وَلاَ يُقْطَعُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ؛ لأَِنَّ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ فِي حَقِّهِ بَاقِيَةٌ بِدَلِيل وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِ وَمُطَالَبَتِهِ بِالإِْسْلاَمِ.
__________
(1) المبسوط 1 / 108، وابن عابدين 4 / 252، والشامل لابن الصباغ 6 / 66، والأم 6 / 153، والمغني 8 / 554، والإقناع 4 / 306.
(2) الخرشي 8 / 66، والبدائع 7 / 252، والشامل لبهرام 2 / 171.(22/188)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَنَا: أَنَّهُ كَافِرٌ فَيُقْتَل بِالذِّمِّيِّ كَالأَْصْلِيِّ.
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: الأَْظْهَرُ قَتْل الْمُرْتَدِّ بِالذِّمِّيِّ لاِسْتِوَائِهِمَا فِي الْكُفْرِ. بَل الْمُرْتَدُّ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ الذِّمِّيِّ لأَِنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فَأَوْلَى أَنْ يُقْتَل بِالذِّمِّيِّ (1) .
زِنَى الْمُرْتَدِّ:
25 - إِذَا زَنَى مُرْتَدٌّ أَوْ مُرْتَدَّةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا جُلِدَ. وَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا فَفِي زَوَال الإِْحْصَانِ بِرِدَّتِهِ خِلاَفٌ. أَسَاسُهُ الْخِلاَفُ فِي شُرُوطِ الإِْحْصَانِ، هَل مِنْ بَيْنِهَا الإِْسْلاَمُ أَمْ لاَ؟
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: مَنِ ارْتَدَّ بَطَل إِحْصَانُهُ، إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ أَوْ يَتَزَوَّجَ ثَانِيَةً (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ: إِنَّ الرِّدَّةَ لاَ تُؤَثِّرُ فِي الإِْحْصَانِ؛ لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ لَيْسَ مِنْ شُرُوطِ الإِْحْصَانِ (3) .
__________
(1) العدوي على الخرشي 8 / 66، ومنح الجليل 4 / 467، والمواق بهامش الحطاب 6 / 282، والمغني 7 / 657 - 658 و 8 / 149، ومغني المحتاج 4 / 16 - 17، والمهذب 2 / 225، وينظر البدائع 7 / 137 - 236، 253
(2) التحفة 3 / 215، والخرشي 8 / 68، ومنح الجليل 4 / 472.
(3) الشامل للصباغ 6 / 15، وكفاية الأخيار 2 / 179، والإنصاف 10 / 337، والهداية للكلوذاني 204، والتحفة 3 / 215.(22/189)
قَذْفُ الْمُرْتَدِّ غَيْرَهُ:
26 - إِذَا قَذَفَ الْمُرْتَدُّ غَيْرَهُ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِشُرُوطِهِ، إِلاَّ أَنْ يَحْصُل مِنْهُ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، حَيْثُ لاَ سُلْطَةَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَالْقَضِيَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى شَرَائِطِ الْقَذْفِ، وَلَيْسَ مِنْ بَيْنِهَا إِسْلاَمُ الْقَاذِفِ (1) .
إِتْلاَفُ الْمُرْتَدِّ الْمَال:
27 - إِذَا اعْتَدَى مُرْتَدٌّ عَلَى مَال غَيْرِهِ - فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ - فَهُوَ ضَامِنٌ بِلاَ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّ الرِّدَّةَ جِنَايَةٌ، وَهِيَ لاَ تَمْنَحُ صَاحِبَهَا حَقَّ الاِعْتِدَاءِ (2) .
السَّرِقَةُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ:
28 - إِذَا سَرَقَ الْمُرْتَدُّ مَالاً، أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ، فَهُوَ كَغَيْرِهِ مُؤَاخَذٌ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ السَّرِقَةِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ الإِْسْلاَمُ. لِذَا فَالْمُسْلِمُ وَالْمُرْتَدُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ (3) .
مَسْئُولِيَّةُ الْمُرْتَدِّ عَنْ جِنَايَاتِهِ قَبْل الرِّدَّةِ:
29 - إِذَا جَنَى مُسْلِمٌ عَلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ ارْتَدَّ الْجَانِي
__________
(1) البدائع 7 / 40، 45، والخرشي 8 / 66، وكفاية الأخيار 2 / 184
(2) ابن عابدين 4 / 252، والكافي 3 / 163، والخرشي المالكي 8 / 66، والشامل 6 / 602، والهداية للكلوذاني 202، والشامل لابن الصباغ 6 / 102.
(3) ابن عابدين 4 / 252.(22/189)
يَكُونُ مُؤَاخَذًا بِكُل مَا فَعَل سَوَاءٌ اسْتَمَرَّ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ تَابَ عَنْهَا (1) .
الاِرْتِدَادُ الْجَمَاعِيُّ:
30 - الْمَقْصُودُ بِالاِرْتِدَادِ الْجَمَاعِيِّ: هُوَ أَنْ تُفَارِقَ الإِْسْلاَمَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ أَهْل بَلَدٍ. كَمَا حَدَثَ عَلَى عَهْدِ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فَإِنْ حَصَل ذَلِكَ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِهِمْ مُسْتَدِلِّينَ بِمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ بِأَهْل الرِّدَّةِ (2) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِمَصِيرِ دَارِهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل لِلْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) : إِذَا أَظْهَرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ فِيهَا، فَقَدْ صَارَتْ دَارُهُمْ دَارَ حَرْبٍ؛ لأَِنَّ الْبُقْعَةَ إِنَّمَا تُنْسَبُ إِلَيْنَا، أَوْ إِلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالْغَلَبَةِ. فَكُل مَوْضِعٍ ظَهَرَ فِيهِ أَحْكَامُ الشِّرْكِ فَهُوَ دَارُ حَرْبٍ، وَكُل مَوْضِعٍ كَانَ الظَّاهِرُ فِيهِ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ، فَهُوَ دَارُ إِسْلاَمٍ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا تَصِيرُ دَارُ الْمُرْتَدِّينَ دَارَ حَرْبٍ بِثَلاَثِ شَرَائِطَ:
__________
(1) المبسوط 1 / 108، وابن عابدين 4 / 252، الأم 6 / 153، والشامل لابن الصباغ 6 / 14، والإقناع 4 / 175 وقد قال بقتل المرتد، تقدمت ردته، أو تأخرت، منح الجليل 4 / 467، والمغني 8 / 564.
(2) المبسوط 10 / 113، والأم 6 / 32، ونيل الأوطار 7 / 218.(22/190)
أَوَّلاً: أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً أَرْضَ الشِّرْكِ، لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَرْضِ الْحَرْبِ دَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
ثَانِيًا: أَنْ لاَ يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ آمِنٌ بِإِيمَانِهِ، وَلاَ ذِمِّيٌّ آمِنٌ بِأَمَانِهِ.
ثَالِثًا: أَنْ يُظْهِرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ فِيهَا.
(فَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ تَمَامَ الْقَهْرِ وَالْقُوَّةِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْبَلْدَةَ كَانَتْ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ مُحْرَزَةً لِلْمُسْلِمِينَ فَلاَ يَبْطُل ذَلِكَ الإِْحْرَازُ، إِلاَّ بِتَمَامِ الْقَهْرِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ بِاسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ الثَّلاَثِ (1)) .
الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ:
31 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ارْتَدَّ مُسْلِمٌ فَقَدْ أُهْدِرَ دَمُهُ، لَكِنَّ قَتْلَهُ لِلإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَمَنْ قَتَلَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عُزِّرَ فَقَطْ؛ لأَِنَّهُ افْتَاتَ عَلَى حَقِّ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ لَهُ (2) .
وَأَمَّا إِذَا قَتَلَهُ ذِمِّيٌّ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنَ الذِّمِّيِّ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الآْخَرِ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الذِّمِّيِّ (3) .
__________
(1) المبسوط 10 / 113، وابن عابدين 4 / 174، والمغني 8 / 554، واختلاف الأئمة 270، والإفصاح 348
(2) المبسوط 10 / 106، والفتاوى الهندية 7 / 3، والأم 6 / 154، والإنصاف 9 / 462، والهداية لأبي الخطاب 203، والشامل لبهرام 2 / 158.
(3) الشامل لبهرام 2 / 158، منح الجليل 4 / 344، الإنصاف 9 / 462، البدائع 7 / 236، مغني المحتاج 4 / 15، 16، 17(22/190)
الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:
32 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْمُرْتَدِّ هَدَرٌ؛ لأَِنَّهُ لاَ عِصْمَةَ لَهُ (1) .
أَمَّا إِذَا وَقَعَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى مُسْلِمٍ ثُمَّ ارْتَدَّ فَسَرَتْ وَمَاتَ مِنْهَا، أَوْ وَقَعَتْ عَلَى مُرْتَدٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ فَسَرَتْ وَمَاتَ مِنْهَا فَفِيهَا أَقْوَالٌ (2) تُنْظَرُ فِي بَابِ " الْقِصَاصِ " مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
قَذْفُ الْمُرْتَدِّ:
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِ الْمُرْتَدِّ، لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ مُسْلِمًا (3) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قَذْف)
ثُبُوتُ الرِّدَّةِ:
34 - تَثْبُتُ الرِّدَّةُ بِالإِْقْرَارِ أَوْ بِالشَّهَادَةِ.
وَتَثْبُتُ الرِّدَّةُ عَنْ طَرِيقِ الشَّهَادَةِ، بِشَرْطَيْنِ:
أ - شَرْطُ الْعَدَدِ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الاِكْتِفَاءِ بِشَاهِدَيْنِ فِي
__________
(1) المبسوط 10 / 106، والفتاوى الهندية 7 / 3، الأم 6 / 154، الإنصاف 9 / 462، الشامل لبهرام 2 / 158.
(2) 10 / 107، البدائع 7 / 253، والشامل 2 / 159، والمغني 8 / 253.
(3) البدائع 7 / 40، والتحفة 3 / 225، وكفاية الأخيار 2 / 184، والإنصاف 10 / 202، الأم 6 / 151.(22/191)
ثُبُوتِ الرِّدَّةِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلاَّ الْحَسَنُ، فَإِنَّهُ اشْتَرَطَ شَهَادَةَ أَرْبَعَةٍ (1) .
ب - تَفْصِيل الشَّهَادَةِ:
يَجِبُ التَّفْصِيل فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الرِّدَّةِ بِأَنْ يُبَيِّنَ الشُّهُودُ وَجْهَ كُفْرِهِ، نَظَرًا لِلْخِلاَفِ فِي مُوجِبَاتِهَا، وَحِفَاظًا عَلَى الأَْرْوَاحِ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِثْبَات، وَشَهَادَة) .
وَإِذَا ثَبَتَتِ الرِّدَّةُ بِالإِْقْرَارِ وَبِالشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِل.
وَإِنْ أَنْكَرَ الْمُرْتَدُّ مَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ اعْتُبِرَ إِنْكَارُهُ تَوْبَةً وَرُجُوعًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيَمْتَنِعُ الْقَتْل فِي حَقِّهِ (3) .
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ وَلاَ يَنْفَعُهُ إِنْكَارُهُ، بَل يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا (4) .
اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ
حُكْمُهَا:
35 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ - فِي قَوْلٍ - وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّ اسْتِتَابَةَ الْمُرْتَدِّ غَيْرُ وَاجِبَةٍ. بَل مُسْتَحَبَّةٌ كَمَا يُسْتَحَبُّ الإِْمْهَال، إِنْ طَلَبَ الْمُرْتَدُّ ذَلِكَ، فَيُمْهَل ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ (5) .
__________
(1) المغني 8 / 557.
(2) منح الجليل 4 / 465، الخرشي 8 / 64.
(3) ابن عابدين 4 / 246.
(4) مغني المحتاج 4 / 138، المغني 8 / 140.
(5) التحفة 3 / 530، والبدائع 7 / 134، والمبسوط 10 / 98، وابن عابدين 4 / 225.(22/191)
وَعِنْدَ مَالِكٍ تَجِبُ الاِسْتِتَابَةُ وَيُمْهَل ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي أَظْهَرِ الأَْقْوَال يَجِبُ الاِسْتِتَابَةُ وَتَكُونُ فِي الْحَال فَلاَ يُمْهَل (2) .
وَثَبَتَتْ الاِسْتِتَابَةُ بِمَا وَرَدَ أَنَّ امْرَأَةً يُقَال لَهَا أُمُّ رُومَانَ ارْتَدَّتْ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الإِْسْلاَمُ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلاَّ قُتِلَتْ (3) . وَلأَِثَرٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَتَابَ الْمُرْتَدَّ ثَلاَثًا (4) .
كَيْفِيَّةُ تَوْبَةِ الْمُرْتَدِّ:
36 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنِ الأَْدْيَانِ سِوَى الإِْسْلاَمِ، أَوْ عَمَّا انْتَقَل إِلَيْهِ بَعْدَ نُطْقِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَلَوْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ عَلَى وَجْهِ
__________
(1) لطائف الإشارات 136، وتفسير القرطبي 3 / 47، ورحمة الأمة 269، والخرشي 8 / 65، ومنح الجليل 4 / 465، والشامل لبهرام 2 / 17، والإنصاف 10 / 328، وهداية الراغب 538، ومنار السبيل 2 / 405.
(2) الأم 6 / 32، والمهذب 2 / 223، ومغني المحتاج 4 / 139، 140
(3) حديث: " ورد أن امرأة يقال لها: أم رومان ارتدت " أخرجه الدارقطني (3 / 118 - ط دار المحاسن) ، وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص 4 / 49 - ط شركة الطباعة الفنية.
(4) المراجع السابقة.(22/192)
الْعَادَةِ أَوْ بِدُونِ التَّبَرِّي لَمْ يَنْفَعْهُ مَا لَمْ يَرْجِعْ عَمَّا قَال إِذْ لاَ يَرْتَفِعُ بِهِمَا كُفْرُهُ.
قَالُوا: إِنْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى مُسْلِمٍ بِالرِّدَّةِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لاَ يُتَعَرَّضْ لَهُ لاَ لِتَكْذِيبِ الشُّهُودِ، بَل لأَِنَّ إِنْكَارَهُ تَوْبَةٌ وَرُجُوعٌ، فَيَمْتَنِعُ الْقَتْل فَقَطْ وَتَثْبُتُ بَقِيَّةُ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الإِْنْكَارُ مَعَ الإِْقْرَارِ بِالشَّهَادَتَيْنِ (1) .
وَإِذَا نَطَقَ الْمُرْتَدُّ بِالشَّهَادَتَيْنِ: صَحَّتْ تَوْبَتُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ (2) ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ (3) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحَيْثُ إِنَّ الشَّهَادَةَ يَثْبُتُ بِهَا إِسْلاَمُ الْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ فَكَذَا الْمُرْتَدُّ. فَإِذَا ادَّعَى الْمُرْتَدُّ الإِْسْلاَمَ، وَرَفَضَ النُّطْقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، لاَ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 246.
(2) المبسوط لمحمد 143، المبسوط للسرخسي 10 / 112) ، وابن عابدين 4 / 226، وقال: (يكفي للآخرة التشهد، وللدنيا التبري مما كان يعتقد) والشامل لابن الصباغ 2 / 171، والإنصاف 1 / 335، والإقناع 4 / 303، وهداية الراغب 538، والكافي 3 / 160.
(3) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. . . " رواه مسلم (1 / 52، ط الحلبي) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(22/192)
تَصِحُّ تَوْبَتُهُ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إِنْ مَاتَ، فَأَقَامَ وَارِثُهُ بَيِّنَةً أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ الرِّدَّةِ: حُكِمَ بِإِسْلاَمِهِ (2) . وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَحْصُل تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ بِصَلاَتِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ بُدَّ فِي إِسْلاَمِ الْمُرْتَدِّ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ كُفْرُهُ لإِِنْكَارِ شَيْءٍ آخَرَ، كَمَنْ خَصَّصَ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ بِالْعَرَبِ أَوْ جَحَدَ فَرْضًا أَوْ تَحْرِيمًا فَيَلْزَمُهُ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ الإِْقْرَارُ بِمَا أَنْكَرَ (3) .
قَال الْحَنَابِلَةُ: وَلَوْ صَلَّى الْمُرْتَدُّ حُكِمَ بِإِسْلاَمِهِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ رِدَّتُهُ بِجَحْدِ فَرِيضَةٍ، أَوْ كِتَابٍ، أَوْ نَبِيٍّ، أَوْ مَلَكٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ الْمُكَفِّرَةِ الَّتِي يَنْتَسِبُ أَهْلُهَا إِلَى الإِْسْلاَمِ، فَإِنَّهُ لاَ يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِ بِمُجَرَّدِ صَلاَتِهِ؛ لأَِنَّهُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّلاَةِ وَيَفْعَلُهَا مَعَ كُفْرِهِ. وَأَمَّا لَوْ زَكَّى أَوْ صَامَ فَلاَ يَكْفِي ذَلِكَ لِلْحُكْمِ بِإِسْلاَمِهِ، لأَِنَّ الْكُفَّارَ يَتَصَدَّقُونَ، وَالصَّوْمُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لاَ يُعْلَمُ (4) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ، وَتَوْبَةِ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ، وَتَوْبَةُ السَّاحِرِ عَلَى أَقْوَالٍ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (تَوْبَة) .
__________
(1) الإقناع 4 / 303.
(2) الإنصاف 10 / 337 - ط - 1957
(3) أسنى المطالب 4 / 124، والإنصاف 10 / 335، 336
(4) المغني 8 / 144 ط 3(22/193)
تَوْبَةُ سَابِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
37 - قَال الْحَنَفِيَّةُ بِقَبُول تَوْبَةِ سَابِّ اللَّهِ تَعَالَى (1) . وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ، مَعَ ضَرُورَةِ تَأْدِيبِ السَّابِّ وَعَدَمِ تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُ ثَلاَثًا (2) .
وَفِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ خِلاَفٌ، الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ قَبُول تَوْبَتِهِ، وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ (3) .
أَمَّا سَابُّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (4) ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى قَبُول تَوْبَتِهِ (5) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُقْبَل تَوْبَةُ قَاذِفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الأَْصَحِّ، وَقَال أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ: يُقْتَل حَدًّا وَلاَ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَقَال الصَّيْدَلاَنِيُّ: يُجْلَدُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً؛ لأَِنَّ الرِّدَّةَ ارْتَفَعَتْ بِإِسْلاَمِهِ وَبَقِيَ جَلْدُهُ (6) .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ (7) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ شَتَمَ نَبِيًّا مُجْمَعًا عَلَى نُبُوَّتِهِ بِقُرْآنٍ أَوْ نَحْوِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَل وَلاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ؛ لأَِنَّ كُفْرَهُ يُشْبِهُ كُفْرَ الزِّنْدِيقِ، وَيُقْتَل حَدًّا لاَ كُفْرًا إِنْ قُتِل بَعْدَ تَوْبَتِهِ لأَِنَّ قَتْلَهُ حِينَئِذٍ لأَِجْل ازْدِرَائِهِ لاَ لأَِجْل كُفْرِهِ (8) .
__________
(1) السيف المشهور ورقة 2، وابن عابدين 4 / 232.
(2) المغني 8 / 565، والفروع 2 / 160.
(3) الخرشي 8 / 74، والصارم المسلول 550
(4) ابن عابدين 4 / 233، والسيف المشهور 2
(5) الهداية لأبي الخطاب ورقة (202) ، والصارم المسلول 53، 245، 293، 423، 527
(6) السيف المسلول ورقة (2) ، ومغني المحتاج 4 / 141.
(7) منار السبيل 2 / 409.
(8) الخرشي 8 / 70.(22/193)
تَوْبَةُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ:
38 - مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ وَتَوْبَتُهُ قَال الأَْحْنَافُ وَالشَّافِعِيَّةُ: تُقْبَل تَوْبَتُهُ (1) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ (2) } وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِْسْلاَمِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ (3) .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: تَوْبَةُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ لاَ تُقْبَل (4) .
وَحُجَّتُهُمْ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (5) }
__________
(1) المبسوط لمحمد 144، وقال ابن عابدين (4 / 225) : تقبل توبته، لكنه يعذب في كل مرة، ويحبس. وقال الكرخي: هذا قول أصحابنا جميعًا، وأسنى المطالب 4 / 122) ، والأم 6 / 147 - 148، والشامل لابن الصباغ 10 / 148، والسيف المسلول 29
(2) سورة الأنفال / 38.
(3) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 75 - ط السعادة) من حديث أبي هريرة.
(4) ابن عابدين 4 / 225، والمغني 8 / 543، والكافي 3 / 159، وهداية الراغب 439، ومنار السبيل 2 / 409، ولم نجد عند المالكية تعرضًا لهذه المسألة، وقد نسب إليهم في المغني وحاشية ابن عابدين القول بعدم قبول توبة من تكررت ردته.
(5) سورة النساء / 137.(22/194)
وَلأَِنَّ تَكْرَارَ الرِّدَّةِ، دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ الْعَقِيدَةِ، وَقِلَّةِ الْمُبَالاَةِ (1) .
تَوْبَةُ السَّاحِرِ:
39 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: بِعَدَمِ قَبُول تَوْبَةِ السَّاحِرِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ (2) (وانْظُرْ مُصْطَلَحَيْ: تَوْبَة، وَسِحْر) .
قَتْل الْمُرْتَدِّ:
40 - إِذَا ارْتَدَّ مُسْلِمٌ، وَكَانَ مُسْتَوْفِيًا لِشَرَائِطِ الرِّدَّةِ، أُهْدِرَ دَمُهُ، وَقَتْلُهُ لِلإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ بَعْدَ الاِسْتِتَابَةِ (3) . فَلَوْ قُتِل قَبْل الاِسْتِتَابَةِ فَقَاتِلُهُ مُسِيءٌ، وَلاَ يَجِبُ بِقَتْلِهِ شَيْءٌ غَيْرَ التَّعْزِيرِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَسُولاً لِلْكُفَّارِ فَلاَ يُقْتَل؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتُل رُسُل مُسَيْلِمَةَ (4) . فَإِذَا قُتِل الْمُرْتَدُّ عَلَى
__________
(1) منار السبيل 2 / 409.
(2) رسالة بدر الرشيد مخطوطة، وابن عابدين 4 / 240، وقد فصل فقال: يكفر الساحر بتعلمه السحر وفعله، فإن لم يعتقده لا يكفر، كأن يستعمله للتجربة. ورحمة الأمة 267، والمغني 8 / 153 ط 3
(3) المبسوط 10 / 106، والأم 6 / 154، والشامل لابن الصباغ 1 / 101، والإنصاف 9 / 462، والشامل لبهرام 2 / 158.
(4) الفروع 2 / 159، وابن عابدين 4 / 668. وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل رسل مسيلمة. . . ورد من قوله صلى الله عليه وسلم من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي لرسولي مسيلمة: " أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ". أخرجه أبو داود (3 / 192 - تحقيق عزت عبيد دعاس)(22/194)
رِدَّتِهِ، فَلاَ يُغَسَّل، وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلاَ يُدْفَنُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَدَلِيل قَتْل الْمُرْتَدِّ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ (2) وَحَدِيثُ: لاَ يَحِل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُول اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ (3) .
أَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَهِيَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ كَالْمُرْتَدِّ (4) ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ، وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّ امْرَأَةً يُقَال لَهَا أُمُّ رُومَانَ ارْتَدَّتْ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهَا الإِْسْلاَمُ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلاَّ قُتِلَتْ (5) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لاَ تُقْتَل، بَل تُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ أَوْ تَمُوتَ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْل الْكَافِرَةِ الَّتِي لاَ تُقَاتِل أَوْ تُحَرِّضُ عَلَى
__________
(1) كفاية الأخيار 2 / 204.
(2) حديث: " من بدل دينه فاقتلوه " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 267 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.
(3) حديث: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 201 - ط السلفية) من حديث ابن مسعود.
(4) مغني المحتاج 4 / 139، والمغني لابن قدامة 8 / 123 ط الرياض) ، والدارقطني 3 / 119.
(5) حديث: " ورد أن امرأة يقال لها: أم رومان ارتدت، سبق تخريجه ف 35(22/195)
الْقِتَال (1) ، فَتُقَاسُ الْمُرْتَدَّةُ عَلَيْهَا (2) .
أَثَرُ الرِّدَّةِ عَلَى مَال الْمُرْتَدِّ وَتَصَرُّفَاتِهِ
:
دُيُونُ الْمُرْتَدِّ:
41 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا مَاتَ أَوْ قُتِل عَلَى رِدَّتِهِ ابْتُدِئَ مِنْ تَرِكَتِهِ بِتَسْدِيدِ دُيُونِهِ (3) . لَكِنْ هَل يُسَدَّدُ مِنْ كَسْبِهِ فِي الإِْسْلاَمِ؟ أَمْ مِنْ كَسْبِهِ فِي الرِّدَّةِ؟ أَمْ مِنْهُمَا مَعًا؟
اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي مَصِيرِ أَمْوَال الْمُرْتَدِّ وَتَصَرُّفَاتِهِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُول السَّرَخْسِيُّ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ، فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الكافرة التي لا تقاتل أو تحرض على القتال ". ورد في حديث رباح بن ربيع قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلاً فقال: انظر علام اجتمع هؤلاء؟ فجاء فقال: على امرأة قتيل وأخرجه الحاكم (2 / 122 - ط دائرة المعارف العثمانية) مطولاً، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) المبسوط 10 / 108، 109، والبدائع 7 / 135، والتحفة 4 / 530، وابن عابدين 4 / 247، والزرقاني على الموطأ 2 / 295.
(3) المبسوط لمحمد 142، والمهذب 2 / 224، ومغني المحتاج 4 / 142، والإنصاف 10 / 342، والمغني 8 / 545.(22/195)
أَنْ تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَفِ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ مِنْ كَسْبِ الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّ كَسْبَ الإِْسْلاَمِ حَقُّ وَرَثَتِهِ، وَلاَ حَقَّ لِوَرَثَتِهِ فِي كَسْبِ رِدَّتِهِ، بَل هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ، فَلِهَذَا كَانَ فَيْئًا إِذَا قُتِل، فَكَانَ وَفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ أَوْلَى، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِكَسْبِ الإِْسْلاَمِ فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ، فَإِنْ لَمْ تَفِ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ؛ لأَِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ مِلْكِ الْمَدْيُونِ. . فَأَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ، فَلاَ يُقْضَى دَيْنُهُ مِنْهُ، إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ.
وَرَوَى زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ دُيُونَ إِسْلاَمِهِ تُقْضَى مِنْ كَسْبِ الإِْسْلاَمِ، وَمَا اسْتَدَانَ فِي الرِّدَّةِ يُقْضَى مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْكَسْبَيْنِ مُخْتَلِفٌ، وَحُصُول كُل وَاحِدٍ مِنَ الْكَسْبَيْنِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الدَّيْنُ، فَيُقْضَى كُل دَيْنٍ مِنَ الْكَسْبِ الْمُكْتَسَبِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ؛ لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِمُقَابَلَةِ الْغُنْمِ، وَبِهِ قَال زُفَرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اكْتَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ، كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ كَسْبُهُ فَيَكُونُ مَصْرُوفًا إِلَى دَيْنِهِ، كَكَسْبِ الْمُكَاتَبِ (1) .
42 - وَإِذَا أَقَرَّ الْمُرْتَدُّ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُول:
__________
(1) المبسوط 10 / 106، والبدائع 7 / 139، وابن عابدين 4 / 248.(22/196)
إِنْ أَسْلَمَ جَازَ، أَمَّا إِنْ قُتِل عَلَى رِدَّتِهِ، فَلاَ يَجُوزُ إِقْرَارُهُ إِلاَّ عَلَى مَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ رِدَّتِهِ. أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَيَرَى أَنَّ إِقْرَارَهُ كُلَّهُ جَائِزٌ إِنْ قُتِل مُرْتَدًّا، أَوْ تَابَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إِنْ قُتِل عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ، فَإِنَّ إِقْرَارَهُ بِمَنْزِلَةِ إِقْرَارِ الْمَرِيضِ (1) ، يُبْتَدَأُ أَوَّلاً بِدَيْنِ الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ كَانَ لأَِصْحَابِ دُيُونِ الرِّدَّةِ؛ لأَِنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا أُهْدِرَ دَمُهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى اعْتِبَارِ إِقْرَارِ الْمُرْتَدِّ عَمَّا قَبْل الرِّدَّةِ وَخِلاَلَهَا، مَا لَمْ يُوقَفْ تَصَرُّفُهُ، فَقَدْ قَال الشَّافِعِيُّ: وَكَذَلِكَ كُل مَا أَقَرَّ بِهِ قَبْل الرِّدَّةِ لأَِحَدٍ، قَال: وَإِنْ لَمْ يُعْرَفِ الدَّيْنُ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ، وَلاَ بِإِقْرَارٍ مِنْهُ مُتَقَدِّمٍ لِلرِّدَّةِ، وَلَمْ يُعْرَفْ إِلاَّ بِإِقْرَارٍ مِنْهُ فِي الرِّدَّةِ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ عَلَيْهِ وَمَا دَانَ (3) فِي الرِّدَّةِ، قَبْل وَقْفِ مَالِهِ لَزِمَهُ، وَمَا دَانَ بَعْدَ وَقْفِ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ بَيْعٍ رُدَّ الْبَيْعُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ سَلَفٍ وُقِفَ، فَإِنْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ بَطَل، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ لَزِمَهُ (4) .
أَمْوَال الْمُرْتَدِّ وَتَصَرُّفَاتُهُ:
43 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ
__________
(1) المقصود مرض الموت، فلا ينفذ إقراره إلا من الثلث.
(2) المبسوط لمحمد 177، والتحرير مخطوطة غير مرقمة ج 2
(3) دان تأتي بمعنى استدان كما في القاموس.
(4) الأم 6 / 153.(22/196)
وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مِلْكَ الْمُرْتَدِّ لاَ يَزُول عَنْ مَالِهِ بِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى مَالِهِ فَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِل عَلَى الرِّدَّةِ زَال مِلْكُهُ وَصَارَ فَيْئًا، وَإِنْ عَادَ إِلَى الإِْسْلاَمِ عَادَ إِلَيْهِ مَالُهُ؛ لأَِنَّ زَوَال الْعِصْمَةِ لاَ يَلْزَمُ مِنْهُ زَوَال الْمِلْكِ؛ وَلاِحْتِمَال الْعَوْدِ إِلَى الإِْسْلاَمِ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ وَيُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ، وَلَوْ تَصَرَّفَ تَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ مَوْقُوفَةً فَإِنْ أَسْلَمَ جَازَ تَصَرُّفُهُ، وَإِنْ قُتِل أَوْ مَاتَ بَطَل تَصَرُّفُهُ وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَقْبَل التَّعْلِيقَ كَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْوَصِيَّةِ كَانَ تَصَرُّفُهُ مَوْقُوفًا إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ حَالُهُ، أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَكُونُ مُنَجَّزَةً وَلاَ تَقْبَل التَّعْلِيقَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ بِنَاءً عَلَى بُطْلاَنِ وَقْفِ الْعُقُودِ، وَهَذَا فِي الْجَدِيدِ، وَفِي الْقَدِيمِ تَكُونُ مَوْقُوفَةً أَيْضًا كَغَيْرِهَا.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَزُول مِلْكُهُ بِرِدَّتِهِ؛ لأَِنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ حَالَةَ الإِْسْلاَمِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَأَهْلِيَّتِهِ وَهِيَ الْحُرِّيَّةُ، وَالْكُفْرُ لاَ يُنَافِي الْمِلْكَ كَالْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا تَكُونُ تَصَرُّفَاتُهُ جَائِزَةً كَمَا تَجُوزُ مِنَ الْمُسْلِمِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ، أَوْ دَبَّرَ، أَوْ كَاتَبَ، أَوْ بَاعَ، أَوِ اشْتَرَى، أَوْ وَهَبَ نَفَذَ ذَلِكَ كُلُّهُ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَال: يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الصَّحِيحِ، أَمَّا مُحَمَّدٌ فَقَال: يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ(22/197)
مَرَضَ الْمَوْتِ؛ لأَِنَّ الْمُرْتَدَّ مُشْرِفٌ عَلَى التَّلَفِ؛ لأَِنَّهُ يُقْتَل فَأَشْبَهَ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ.
وَقَدْ أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ اسْتِيلاَدَ الْمُرْتَدِّ وَطَلاَقَهُ وَتَسْلِيمَهُ الشُّفْعَةَ صَحِيحٌ وَنَافِذٌ؛ لأَِنَّ الرِّدَّةَ لاَ تُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَصَحَّحَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ - وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مِلْكَهُ يَزُول بِرِدَّتِهِ لِزَوَال الْعِصْمَةِ بِرِدَّتِهِ فَمَالُهُ أَوْلَى، وَلِمَا رَوَى طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَال لِوَفْدِ بُزَاخَةَ وَغَطَفَانَ: نَغْنَمُ مَا أَصَبْنَا مِنْكُمْ وَتَرُدُّونَ إِلَيْنَا مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا؛ وَلأَِنَّ الْمُسْلِمِينَ مَلَكُوا دَمَهُ بِالرِّدَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكُوا مَالَهُ.
وَعَلَى هَذَا فَلاَ تَصَرُّفَ لَهُ أَصْلاً لأَِنَّهُ لاَ مِلْكَ لَهُ.
وَمَا سَبَقَ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْتَدِّ الذَّكَرِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْتَدَّةِ الأُْنْثَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَزُول مِلْكُ الْمُرْتَدَّةِ الأُْنْثَى عَنْ أَمْوَالِهَا بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَهُمْ فَتَجُوزُ تَصَرُّفَاتُهَا؛ لأَِنَّهَا لاَ تُقْتَل فَلَمْ تَكُنْ رِدَّتُهَا سَبَبًا لِزَوَال مِلْكِهَا عَنْ أَمْوَالِهَا (1) .
__________
(1) البدائع 7 / 136 - 137، وجواهر الإكليل 1 / 35 و 2 / 279، والمدونة 2 / 318، والدسوقي 4 / 307، والحطاب 6 / 284، ومغني المحتاج 4 / 142 - 143، والمهذب 2 / 224، والمغني 8 / 128 - 129، وكشاف القناع 6 / 181 - 182(22/197)
أَثَرُ الرِّدَّةِ عَلَى الزَّوَاجِ:
44 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ حِيل بَيْنَهُمَا فَلاَ يَقْرَبُهَا بِخَلْوَةٍ وَلاَ جِمَاعٍ وَلاَ نَحْوِهِمَا. ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً، دَخَل بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُل؛ لأَِنَّ الرِّدَّةَ تُنَافِي النِّكَاحَ وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا عَاجِلاً لاَ طَلاَقًا وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءٍ.
ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الرِّدَّةُ قَبْل الدُّخُول وَكَانَ الْمُرْتَدُّ هُوَ الزَّوْجَ فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى أَوِ الْمُتْعَةُ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةَ فَلاَ شَيْءَ لَهَا.
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُول فَلَهَا الْمَهْرُ كُلُّهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُرْتَدُّ الزَّوْجَ أَوِ الزَّوْجَةَ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ: إِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ كَانَ ذَلِكَ طَلْقَةً بَائِنَةً، فَإِنْ رَجَعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ لَمْ تَرْجِعْ لَهُ إِلاَّ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، مَا لَمْ تَقْصِدِ الْمَرْأَةُ بِرِدَّتِهَا فَسْخَ النِّكَاحِ، فَلاَ يَنْفَسِخُ؛ مُعَامَلَةً لَهَا بِنَقِيضِ قَصْدِهَا.
وَقِيل: إِنَّ الرِّدَّةَ فَسْخٌ بِغَيْرِ طَلاَقٍ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ فَلاَ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّةُ الزَّوْجَةِ قَبْل أَنْ يَتُوبَ وَيَرْجِعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ، فَإِذَا
__________
(1) المبسوط للسرخسي 5 / 49، والدر وابن عابدين 2 / 392، وبدائع الصنائع 7 / 136.
(2) الشرح الكبير والدسوقي 2 / 270، والشامل لبهرام 2 / 171(22/198)
انْقَضَتْ بَانَتْ مِنْهُ، وَبَيْنُونَتُهَا مِنْهُ فَسْخٌ لاَ طَلاَقٌ، وَإِنْ عَادَ إِلَى الإِْسْلاَمِ قَبْل انْقِضَائِهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْل الدُّخُول انْفَسَخَ النِّكَاحُ فَوْرًا وَتَنَصَّفَ مَهْرُهَا إِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُرْتَدَّ، وَسَقَطَ مَهْرُهَا إِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُرْتَدَّةَ.
وَلَوْ كَانَتِ الرِّدَّةُ بَعْدَ الدُّخُول فَفِي رِوَايَةٍ تُنْجَزُ الْفُرْقَةُ. وَفِي أُخْرَى تَتَوَقَّفُ الْفُرْقَةُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ (2) .
حُكْمُ زَوَاجِ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ الرِّدَّةِ:
45 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا ارْتَدَّ ثُمَّ تَزَوَّجَ فَلاَ يَصِحُّ زَوَاجُهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ مِلَّةَ لَهُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُسْلِمَةً، وَلاَ كَافِرَةً، وَلاَ مُرْتَدَّةً (3) .
مَصِيرُ أَوْلاَدِ الْمُرْتَدِّ:
46 - مَنْ حُمِل بِهِ فِي الإِْسْلاَمِ فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَكَذَا مَنْ حُمِل بِهِ فِي حَال رِدَّةِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ وَالآْخَرُ مُسْلِمٌ، قَال بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ؛ لأَِنَّ بِدَايَةَ
__________
(1) الأم 6 / 149، 150
(2) المحرر 2 / 30، والمغني 8 / 99، ومنتهى الإرادات 2 / 198.
(3) المبسوط 5 / 48، والأم 5 / 51، 6 / 115، والمغني 8 / 546، الذخيرة 2 / 213.(22/198)
الْحَمْل كَانَ لِمُسْلِمَيْنِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَإِنْ وُلِدَ خِلاَل الرِّدَّةِ (1) .
لَكِنْ مَنْ كَانَ حَمْلُهُ خِلاَل رِدَّةِ أَبَوَيْهِ كِلَيْهِمَا، فَفِيهِ خِلاَفٌ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ مُرْتَدًّا تَبَعًا لأَِبَوَيْهِ فَيُسْتَتَابُ إِذَا بَلَغَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ بِالْجِزْيَةِ كَالْكَافِرِ الأَْصْلِيِّ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَا لَوْ كَانَ فِي أُصُول أَبَوَيْهِ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا تَبَعًا لَهُ، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا مَا لَوْ أَدْرَكَ وَلَدُ الْمُرْتَدِّ قَبْل الْبُلُوغِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الإِْسْلاَمِ (2) .
إِرْثُ الْمُرْتَدِّ:
47 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَال الْمُرْتَدِّ إِذَا قُتِل، أَوْ مَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أ - أَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ يَكُونُ فَيْئًا لِبَيْتِ الْمَال، وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ (3) ، وَالشَّافِعِيِّ (4) وَأَحْمَدَ (5) .
__________
(1) البدائع 7 / 139، والشامل لابن الصباغ 6 / 601.
(2) الإنصاف 10 / 347، والخرشي 8 / 66، ومغني المحتاج 4 / 142، وأسنى المطالب 4 / 123.
(3) منح الجليل 4 / 469، والخرشي 8 / 66، الشامل لبهرام 2 / 171
(4) الشامل لابن الصباغ 1 / 101، والأم 6 / 151، 7 / 330.
(5) المغني 6 / 346، والهداية للكلوذاني 203، وقد نقل عن أحمد ثلاثة أقوال كالشافعية، إلا أن صاحب الإنصاف 10 / 339 قال: إن المذهب كون فيئًا حين موته.(22/199)
ب - أَنَّهُ يَكُونُ مَالُهُ لِوَرَثَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، سَوَاءٌ اكْتَسَبَهُ فِي إِسْلاَمِهِ أَوْ رِدَّتِهِ، وَهَذَا قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ (1) .
ج - أَنَّ مَا اكْتَسَبَهُ فِي حَال إِسْلاَمِهِ لِوَرَثَتِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا اكْتَسَبَهُ فِي حَال رِدَّتِهِ لِبَيْتِ الْمَال، وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ (2) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّ لاَ يَرِثُ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ لاِنْقِطَاعِ الصِّلَةِ بِالرِّدَّةِ. كَمَا لاَ يَرِثُ كَافِرًا؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقَرُّ عَلَى الدِّينِ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ. وَلاَ يَرِثُ مُرْتَدٌّ مِثْلَهُ (3) .
وَوَصِيَّةُ الْمُرْتَدِّ بَاطِلَةٌ لأَِنَّهَا مِنَ الْقُرَبِ وَهِيَ تَبْطُل بِالرِّدَّةِ (4) .
أَثَرُ الرِّدَّةِ فِي إِحْبَاطِ الْعَمَل:
48 - قَال تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) } قَال الأَْلُوسِيُّ تَبَعًا لِلرَّازِيِّ: إِنَّ
__________
(1) المبسوط 10 / 104.
(2) المبسوط 10 / 101، والبدائع 7 / 138، ورحمة للأمة 191
(3) المغني 6 / 343، والإنصاف 7 / 351.
(4) المبسوط لمحمد 142، والمغني 8 / 546، والشامل لبهرام 2 / 171، والخرشي 8 / 68.
(5) سورة البقرة / 217.(22/199)
مَعْنَى الْحُبُوطِ هُوَ الْفَسَادُ (1) .
وَقَال النَّيْسَابُورِيُّ: إِنَّهُ أَتَى بِعَمَلٍ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ، بَل فِيهِ مَضَرَّةٌ، أَوْ أَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ أَعْمَالَهُ السَّابِقَةَ لَمْ يَكُنْ مُعْتَدًّا بِهَا شَرْعًا (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّ الْحُبُوطَ يَكُونُ بِإِبْطَال الثَّوَابِ، دُونَ الْفِعْل (3) .
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ (4) إِلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الرِّدَّةِ يُوجِبُ الْحَبْطَ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِْيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ (5) . . .}
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: بِأَنَّ الْوَفَاةَ عَلَى الرِّدَّةِ شَرْطٌ فِي حُبُوطِ الْعَمَل، أَخْذًا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ (6) }
فَإِنْ عَادَ إِلَى الإِْسْلاَمِ فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَحْبَطُ ثَوَابُ الْعَمَل فَقَطْ، وَلاَ يُطَالَبُ الإِْعَادَةَ إِذَا عَادَ إِلَى الإِْسْلاَمِ وَمَاتَ عَلَيْهِ (7) .
__________
(1) روح المعاني 2 / 157.
(2) التفسير الكبير 11 / 148، وغرائب القرآن 2 / 319
(3) ابن عابدين 4 / 400.
(4) روح المعاني 2 / 157، والكشاف 1 / 271، وعمدة القاري 24 / 79، وإرشاد الساري 10 / 76، وتفسير القرطبي 3 / 48.
(5) سورة المائدة / 5.
(6) سورة البقرة / 217.
(7) القليوبي 4 / 174.(22/200)
أَثَرُ الرِّدَّةِ عَلَى الْعِبَادَاتِ
تَأْثِيرُ الرِّدَّةِ عَلَى الْحَجِّ:
49 - يَجِبُ عَلَى مَنِ ارْتَدَّ وَتَابَ أَنْ يُعِيدَ حَجَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) ، وَالْمَالِكِيَّةِ (2) ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنِ ارْتَدَّ ثُمَّ تَابَ أَنْ يُعِيدَ حَجَّهُ (3) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ، بَل يُجْزِئُ الْحَجُّ الَّذِي فَعَلَهُ قَبْل رِدَّتِهِ (4) .
تَأْثِيرُ الرِّدَّةِ عَلَى الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ:
50 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ قَضَاءِ الصَّلاَةِ الَّتِي تَرَكَهَا أَثْنَاءَ رِدَّتِهِ؛ لأَِنَّهُ كَانَ كَافِرًا، وَإِيمَانُهُ يَجُبُّهَا (5) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ (6) .
وَنُقِل عَنِ الْحَنَابِلَةِ الْقَضَاءُ وَعَدَمُهُ. وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ.
فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُرْتَدِّ الَّذِي تَابَ صَلاَةٌ فَائِتَةٌ، قَبْل رِدَّتِهِ أَوْ صَوْمٌ أَوْ زَكَاةٌ فَهَل يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؟
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (7)
__________
(1) الإشارات مخطوطة مجهولة صاحبها 23
(2) الشامل لبهرام 2 / 171، والخرشي 8 / 68.
(3) القليوبي وعميرة 4 / 174، ومغني المحتاج 4 / 133.
(4) الإنصاف 10 / 338.
(5) ابن عابدين 1 / 357، 4 / 252، والخرشي 8 / 68.
(6) القليوبي 1 / 121، والإعلام 2 / 98، ومغني المحتاج 1 / 130.
(7) ابن عابدين 3 / 302.(22/200)
وَالشَّافِعِيَّةِ (1) وَالْحَنَابِلَةِ (2) إِلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ؛ لأَِنَّ تَرْكَ الْعِبَادَةِ مَعْصِيَةٌ، وَالْمَعْصِيَةُ تَبْقَى بَعْدَ الرِّدَّةِ.
وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ الإِْسْلاَمَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ بِتَوْبَتِهِ أَسْقَطَ مَا قَبْل الرِّدَّةِ (3) .
51 - تَأْثِيرُ الرِّدَّةِ عَلَى الْوُضُوءِ:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (4) وَالْحَنَابِلَةُ (5) إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ يُنْتَقَضُ بِالرِّدَّةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَنَفِيَّةُ وَلاَ الشَّافِعِيَّةُ الرِّدَّةَ مِنْ بَيْنِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ (6) .
ذَبَائِحُ الْمُرْتَدِّ:
52 - ذَبِيحَةُ الْمُرْتَدِّ لاَ يَجُوزُ أَكْلُهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ مِلَّةَ لَهُ، وَلاَ يُقَرُّ عَلَى دِينٍ انْتَقَل إِلَيْهِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ دِينَ أَهْل الْكِتَابِ (7) .
إِلاَّ مَا نُقِل عَنِ الأَْوْزَاعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، مِنْ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إِنْ تَدَيَّنَ بِدِينِ أَهْل الْكِتَابِ حَلَّتْ ذَبِيحَتُهُ (8) .
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 130.
(2) الإنصاف 1 / 391.
(3) الشامل لبهرام 2 / 171، والذخيرة 2 / 214، والخرشي 9 / 68.
(4) الخرشي 1 / 157.
(5) الإنصاف 1 / 219.
(6) المغني 1 / 176 - ط الرياض
(7) المبسوط لمحمد 142، والأم 6 / 155، 7 / 231، والمغني 8 / 549، والإنصاف 10 / 389.
(8) المغني 8 / 549.(22/201)
رِزْقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّزْقُ لُغَةً الْعَطَاءُ دُنْيَوِيًّا كَانَ أَمْ أُخْرَوِيًّا، وَالرِّزْقُ أَيْضًا مَا يَصِل إِلَى الْجَوْفِ وَيُتَغَذَّى بِهِ، يُقَال: أَعْطَى السُّلْطَانُ رِزْقَ الْجُنْدِ، وَرُزِقْتُ عِلْمًا (1)
قَال الْجُرْجَانِيُّ: الرِّزْقُ اسْمٌ لِمَا يَسُوقُهُ اللَّهُ إِلَى الْحَيَوَانِ فَيَأْكُلُهُ، فَيَكُونُ مُتَنَاوِلاً لِلْحَلاَل وَالْحَرَامِ (2) .
وَالرِّزْقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ: مَا يُفْرَضُ فِي بَيْتِ الْمَال بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْكِفَايَةِ مُشَاهَرَةً أَوْ مُيَاوَمَةً (3) .
وَقِيل: الرِّزْقُ هُوَ مَا يُجْعَل لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مُقَاتِلِينَ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَطَاءُ:
2 - الْعَطَاءُ لُغَةً اسْمٌ لِمَا يُعْطَى، وَالْجَمْعُ أَعْطِيَةٌ،
__________
(1) المفردات للراغب الأصفهاني.
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) ابن عابدين 5 / 411.
(4) ابن عابدين 5 / 411، والكليات لأبي البقاء الكفوي 3 / 279، والمغرب ص 319(22/201)
وَجَمْعُ الْجَمْعِ أَعْطِيَاتٌ (1) .
وَالْعَطَاءُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ مَا يُفْرَضُ فِي كُل سَنَةٍ لاَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ بَل بِصَبْرِ الْمُعْطَى لَهُ وَغَنَائِهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ.
وَقِيل فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّزْقِ وَالْعَطِيَّةِ أَنَّ الْعَطِيَّةَ مَا يُفْرَضُ لِلْمُقَاتِل، وَالرِّزْقَ مَا يُجْعَل لِفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مُقَاتِلِينَ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الأَْتْقَانِيِّ أَنَّهُ نَظَرَ فِي هَذَا الْفَرْقِ (2) .
وَقَال الْحَلْوَانِيُّ: الْعَطَاءُ لِكُل سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ، وَالرِّزْقُ يَوْمًا بِيَوْمٍ (3) .
وَالْفُقَهَاءُ لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الرِّزْقِ وَالْعَطَاءِ فِي غَالِبِ اسْتِعْمَالاَتِهِمْ.
قَال الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى: وَأَمَّا تَقْدِيرُ الْعَطَاءِ فَمُعْتَبَرٌ بِالْكِفَايَةِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ بِهَا (4) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يَصْرِفُ (الإِْمَامُ) قَدْرَ حَاجَتِهِمْ - يَعْنِي أَهْل الْعَطَاءِ - وَكِفَايَتِهِمْ (5) .
قَال النَّوَوِيُّ: يُفَرِّقُ (الإِْمَامُ) الأَْرْزَاقَ فِي كُل عَامٍ مَرَّةً وَيَجْعَل لَهُ وَقْتًا مَعْلُومًا لاَ يَخْتَلِفُ، وَإِذَا
__________
(1) المغرب ص 319
(2) ابن عابدين 5 / 411.
(3) الكليات 3 / 279.
(4) الأحكام السلطانية للماوردي ص 205، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 242
(5) المغني 6 / 417.(22/202)
رَأَى مَصْلَحَةً أَنْ يُفَرِّقَ مُشَاهَرَةً وَنَحْوَهَا فَعَل (1) .
كَمَا أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُطْلِقُونَ الرِّزْقَ عَلَى مَا يُفْرَضُ مِنْ بَيْتِ الْمَال لِلْمُقَاتِلَةِ وَلِغَيْرِهِمْ، كَالْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ وَالأَْئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ (2) .
أَخْذُ الرِّزْقِ لِلإِْعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ:
3 - يَجُوزُ أَخْذُ الرِّزْقِ مِنْ بَيْتِ الْمَال عَلَى مَا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ إِلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَصَالِحِ، كَالْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا وَالأَْذَانِ وَالإِْمَامَةِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَتَدْرِيسِ الْعِلْمِ النَّافِعِ مِنَ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، وَتَحَمُّل الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا. كَمَا يُدْفَعُ مِنْهُ أَرْزَاقُ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ (3) .
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: أَمَّا مَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيْتِ الْمَال فَلَيْسَ عِوَضًا وَأُجْرَةً بَل رِزْقٌ لِلإِْعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَأَخْذُ الرِّزْقِ عَلَى الْعَمَل لاَ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْبَةً وَلاَ يَقْدَحُ فِي الإِْخْلاَصِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ قَدَحَ مَا اسْتُحِقَّتِ الْغَنَائِمُ وَسَلَبُ الْقَاتِل (4) .
__________
(1) روضة الطالبين 6 / 363.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 641، وانظر الجوهرة النيرة 2 / 380.
(3) مطالب أولي النهى 3 / 641، والجوهرة النيرة 2 / 380، وابن عابدين 3 / 280 - 282، وجواهر الإكليل 1 / 260، وحاشية الجمل 5 / 336 - 337، وروضة الطالبين 1 / 205.
(4) مطالب أولي النهى 3 / 641.(22/202)
وَلِلتَّفْصِيل ر: (بَيْتُ الْمَال ف 12 ج 8 ص 251) .
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الأَْحْكَامِ الْمُتَّصِلَةِ بِالرِّزْقِ:
4 - أ - قَال الْقَرَافِيُّ: إِنَّ الأَْرْزَاقَ الَّتِي تُطْلَقُ لِلْقُضَاةِ وَالْعُمَّال وَالْوُلاَةِ يَجُوزُ فِيهَا الدَّفْعُ وَالْقَطْعُ وَالتَّقْلِيل وَالتَّكْثِيرُ وَالتَّغْيِيرُ؛ لأَِنَّ الأَْرْزَاقَ مِنْ بَابِ الْمَعْرُوفِ وَتُصْرَفُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَقَدْ تَعْرِضُ مَصْلَحَةٌ أَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الإِْمَامِ الصَّرْفُ فِيهَا (1) . فَقَدْ كَتَبَ أَبُو يُوسُفَ فِي رِسَالَتِهِ لأَِمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدِ:
مَا يَجْرِي عَلَى الْقُضَاةِ وَالْوُلاَةِ مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ مِنْ جِبَايَةِ الأَْرْضِ أَوْ مِنْ خَرَاجِ الأَْرْضِ وَالْجِزْيَةِ لأَِنَّهُمْ فِي عَمَل الْمُسْلِمِينَ فَيَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ وَيَجْرِي عَلَى كُل وَالِي مَدِينَةٍ وَقَاضِيهَا بِقَدْرِ مَا يَحْتَمِل، وَكُل رَجُلٍ تُصَيِّرُهُ فِي عَمَل الْمُسْلِمِينَ فَأَجْرِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ وَلاَ تُجْرِ عَلَى الْوُلاَةِ وَالْقُضَاةِ مِنْ مَال الصَّدَقَةِ شَيْئًا إِلاَّ وَالِيَ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ يُجْرَى عَلَيْهِ مِنْهَا كَمَا قَال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا (2) } فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي أَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّال وَالْوُلاَةِ وَالنُّقْصَانُ مِمَّا يَجْرِي عَلَيْهِمْ فَذَلِكَ إِلَيْكَ، مَنْ رَأَيْتَ أَنْ تَزِيدَهُ فِي رِزْقِهِ مِنْهُمْ زِدْتَ، وَمَنْ رَأَيْتَ
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 3، وتهذيب الفروق 3 / 4.
(2) سورة التوبة / 60.(22/203)
أَنْ تَحُطَّ رِزْقَهُ حَطَطْتَ، أَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُوَسِّعًا عَلَيْكَ (1) .
5 - ب - قَال الْقَرَافِيُّ: أَرْزَاقُ الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ يَجُوزُ أَنْ تُنْقَل عَنْ جِهَاتِهَا إِذَا تَعَطَّلَتْ أَوْ وُجِدَتْ جِهَةٌ هِيَ أَوْلَى بِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْجِهَةِ الأُْولَى؛ لأَِنَّ الأَْرْزَاقَ مَعْرُوفٌ يَتْبَعُ الْمَصَالِحَ فَكَيْفَمَا دَارَتْ دَارَ مَعَهَا (2) .
6 - ج - قَال الْقَرَافِيُّ أَيْضًا: الإِْقْطَاعَاتُ الَّتِي تُجْعَل لِلأُْمَرَاءِ وَالأَْجْنَادِ مِنَ الأَْرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الرِّبَاعِ هِيَ أَرْزَاقُ بَيْتِ الْمَال، وَلَيْسَتْ إِجَارَةً لَهُمْ، لِذَلِكَ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا مِقْدَارٌ مِنَ الْعَمَل وَلاَ أَجَلٌ تَنْتَهِي إِلَيْهِ الإِْجَارَةُ، وَلَيْسَ الإِْقْطَاعُ مُقَدَّرًا كُل شَهْرٍ بِكَذَا، وَكُل سَنَةٍ بِكَذَا حَتَّى تَكُونَ إِجَارَةً، بَل هُوَ إِعَانَةٌ عَلَى الإِْطْلاَقِ، وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ تَنَاوُلُهُ إِلاَّ بِمَا قَالَهُ الإِْمَامُ مِنَ الشَّرْطِ مِنَ التَّهَيُّؤِ لِلْحَرْبِ، وَلِقَاءِ الأَْعْدَاءِ، وَالْمُنَاضَلَةِ عَلَى الدِّينِ، وَنُصْرَةِ كَلِمَةِ الإِْسْلاَمِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَالاِسْتِعْدَادِ بِالسِّلاَحِ وَالأَْعْوَانِ عَلَى ذَلِكَ. فَمَنْ لَمْ يَفْعَل مَا شَرَطَهُ الإِْمَامُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّنَاوُل؛ لأَِنَّ مَال بَيْتِ الْمَال لاَ يُسْتَحَقُّ إِلاَّ بِإِطْلاَقِ الإِْمَامِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الَّذِي أَطْلَقَهُ (3) .
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص 186 - 187 نشر السلفية.
(2) الفروق 3 / 3 - 4
(3) الفروق 3 / 5.(22/203)
7 - د - وَقَال الْقَرَافِيُّ أَيْضًا: الْمَصْرُوفُ مِنَ الزَّكَاةِ لِلْمُجَاهِدِينَ لَيْسَ أُجْرَةً، بَل هُوَ رِزْقٌ خَاصٌّ مِنْ مَالٍ خَاصٍّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّزْقِ الْخَاصِّ وَبَيْنَ أَصْل الأَْرْزَاقِ هُوَ أَنَّ أَصْل الأَْرْزَاقِ يَصِحُّ أَنْ يَبْقَى فِي بَيْتِ الْمَال، وَهَذَا يَجِبُ صَرْفُهُ إِمَّا فِي جِهَةِ الْمُجَاهِدِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ؛ لأَِنَّ جِهَةَ هَذَا الْمَال عَيَّنَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَل فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَيَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ إِخْرَاجُهَا فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ (1) .
8 - هـ - مَا يُصْرَفُ مِنْ جِهَةِ الْحُكَّامِ لِقَسَّامِ الْعَقَارِ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَلِمُتَرْجِمِ الْكُتُبِ عِنْدَ الْقُضَاةِ وَلِكَاتِبِ الْقَاضِي، وَلأُِمَنَاءِ الْقَاضِي عَلَى الأَْيْتَامِ، وَلِلْخَرَّاصِ عَلَى خَرْصِ الأَْمْوَال الزَّكَوِيَّةِ مِنَ الدَّوَالِي أَوِ النَّخْل، وَلِسُعَاةِ الْمَوَاشِي وَالْعُمَّال عَلَى الزَّكَاةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِل رِزْقٌ يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الأَْرْزَاقِ دُونَ أَحْكَامِ الإِْجَارَاتِ (2) .
9 - و - نَقَل الرَّحِيبَانِيُّ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ قَوْلَهُ: الأَْرْزَاقُ الَّتِي يُقَدِّرُهَا الْوَاقِفُونَ ثُمَّ يَتَغَيَّرُ نَقْدُ الْبَلَدِ فِيمَا بَعْدُ فَإِنَّهُ يُعْطَى الْمُسْتَحِقُّ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ مَا قِيمَتُهُ قِيمَةُ الْمَشْرُوطِ (3) .
__________
(1) الفروق 3 / 7، وتهذيب الفروق 3 / 18.
(2) تهذيب الفروق 3 / 18.
(3) مطالب أولي النهى 4 / 376.(22/204)
وَظَائِفُ الإِْمَامِ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى أَهْل الْجِهَادِ مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ (1) :
لِلإِْمَامِ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى أَهْل الْجِهَادِ مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ وَظَائِفُ:
10 - إِحْدَاهَا: يَضَعُ دِيوَانًا - وَهُوَ الدَّفْتَرُ الَّذِي يُثْبِتُ فِيهِ الأَْسْمَاءَ - فَيُحْصِي الْمُرْتَزِقَةَ بِأَسْمَائِهِمْ وَيُنَصِّبُ لِكُل قَبِيلَةٍ أَوْ عَدَدٍ يَرَاهُ عَرِيفًا لِيَعْرِضَ عَلَيْهِ أَحْوَالَهُمْ وَيَجْمَعَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيُثْبِتُ فِيهِ قَدْرَ أَرْزَاقِهِمْ (2) .
11 - الثَّانِيَةُ: يُعْطِي كُل شَخْصٍ قَدْرَ حَاجَتِهِ فَيَعْرِفُ حَالَهُ، وَعَدَدَ مَنْ فِي نَفَقَتِهِ، وَقَدْرَ نَفَقَتِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ وَسَائِرِ مُؤْنَتِهِمْ، وَيُرَاعِي الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ وَمَا يَعْرِضُ مِنْ رُخْصٍ وَغَلاَءٍ، وَحَال الشَّخْصِ فِي مُرُوءَتِهِ وَضِدِّهَا، وَعَادَةَ الْبَلَدِ فِي الْمَطَاعِمِ، فَيَكْفِيهِ الْمُؤْنَاتِ لِيَتَفَرَّغَ لِلْجِهَادِ فَيُعْطِيهِ لأَِوْلاَدِهِ الَّذِينَ هُمْ فِي نَفَقَتِهِ أَطْفَالاً كَانُوا أَوْ كِبَارًا، وَكُلَّمَا زَادَتِ الْحَاجَةُ بِالْكِبَرِ زَادَ فِي حِصَّتِهِ (3) .
12 - الثَّالِثَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَدِّمَ الإِْمَامُ فِي الإِْعْطَاءِ وَفِي إِثْبَاتِ الاِسْمِ فِي الدِّيوَانِ قُرَيْشًا عَلَى سَائِرِ النَّاسِ.
13 - الرَّابِعَةُ: لاَ يُثْبِتُ الإِْمَامُ فِي الدِّيوَانِ اسْمَ
__________
(1) المرتزقة هم: الذين لهم رزق معلوم في بيت المال.
(2) روضة الطالبين 6 / 359، وانظر الأحكام السلطانية للماوردي ص 205، وأبي يعلى ص 240، والمغني 6 / 417.
(3) روضة الطالبين 6 / 359، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 242، والماوردي ص 205(22/204)
صَبِيٍّ وَلاَ مَجْنُونٍ وَلاَ امْرَأَةٍ، وَلاَ ضَعِيفٍ لاَ يَصْلُحُ لِلْغَزْوِ كَالأَْعْمَى وَالزَّمِنِ، وَإِنَّمَا هُمْ تَبَعٌ لِلْمُقَاتِل إِذَا كَانُوا فِي عِيَالِهِ يُعْطَى لَهُمْ كَمَا سَبَقَ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ فِي الدِّيوَانِ الرِّجَال الْمُكَلَّفِينَ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْغَزْوِ.
وَلَخَّصَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى شَرْطَ إِثْبَاتِ الْجَيْشِ فِي الدِّيوَانِ فِي خَمْسَةِ أَوْصَافٍ وَهِيَ: الْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالإِْسْلاَمُ، وَالسَّلاَمَةُ مِنَ الآْفَاتِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْقِتَال، وَالاِسْتِعْدَادُ لِلإِْقْدَامِ عَلَى الْحُرُوبِ (1) .
14 - الْخَامِسَةُ: يُفَرِّقُ الإِْمَامُ الأَْرْزَاقَ فِي كُل عَامٍ مَرَّةً وَيَجْعَل لَهُ وَقْتًا مَعْلُومًا لاَ يَخْتَلِفُ، وَإِذَا رَأَى مَصْلَحَةً أَنْ يُفَرِّقَ مُشَاهَرَةً وَنَحْوَهَا فَعَل (2) .
وَإِذَا تَأَخَّرَ الْعَطَاءُ عَنْهُمْ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِ وَكَانَ حَاصِلاً فِي بَيْتِ الْمَال كَانَ لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ كَالدُّيُونِ الْمُسْتَحَقَّةِ (3) .
وَمَنْ مَاتَ مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ دَفَعَ إِلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ؛ لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ تُعْطَ ذُرِّيَّتُهُ بَعْدَهُ
__________
(1) روضة الطالبين 6 / 361 - 363، والأحكام السلطانية للماوردي 203 - 206، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 241 - 242، والمغني 6 / 417 - 418، ومجموعة فتاوى ابن تيمية 8 / 565، والزرقاني 3 / 127.
(2) روضة الطالبين 6 / 363، والأحكام السلطانية للماوردي ص 205 - 206، والأحكام السلطانية لأبي يعلى 243، والمغني 6 / 417.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 206، وأبي يعلى ص 243(22/205)
لَمْ يُجَرِّدْ نَفْسَهُ لِلْقِتَال؛ لأَِنَّهُ يَخَافُ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ الضَّيَاعَ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ يُكْفَوْنَ بَعْدَ مَوْتِهِ سَهُل عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَإِذَا بَلَغَ ذُكُورُ أَوْلاَدِهِمْ وَاخْتَارُوا أَنْ يَكُونُوا فِي الْمُقَاتِلَةِ فَرَضَ لَهُمُ الرِّزْقَ وَإِنْ لَمْ يَخْتَارُوا تُرِكُوا.
وَمَنْ بَلَغَ مِنْ أَوْلاَدِهِ وَهُوَ أَعْمَى أَوْ زَمِنٌ رُزِقَ كَمَا كَانَ يُرْزَقُ قَبْل الْبُلُوغِ، هَذَا فِي ذُكُورِ الأَْوْلاَدِ أَمَّا الإِْنَاثُ فَمُقْتَضَى مَا وَرَدَ فِي " الْوَسِيطِ " أَنَّهُنَّ يُرْزَقْنَ إِلَى أَنْ يَتَزَوَّجْنَ (1) .
الْقَوْل الضَّابِطُ فِيمَنْ يَرْعَاهُ الإِْمَامُ:
15 - مَنْ يَرْعَاهُ الإِْمَامُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمَال ثَلاَثَةُ أَصْنَافٍ:
صِنْفٌ مِنْهُمْ مُحْتَاجُونَ وَالإِْمَامُ يَبْغِي سَدَّ حَاجَاتِهِمْ وَهَؤُلاَءِ مُعْظَمُ مُسْتَحِقِّي الزَّكَوَاتِ فِي الآْيَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى ذِكْرِ أَصْنَافِ الْمُسْتَحِقِّينَ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ (2) . . .} الآْيَةَ. وَلِلْمَسَاكِينِ اسْتِحْقَاقٌ فِي خُمُسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ كَمَا يُفَصِّلُهُ الْفُقَهَاءُ، وَهَؤُلاَءِ صِنْفٌ مِنَ الأَْصْنَافِ الثَّلاَثَةِ.
وَالصِّنْفُ الثَّانِي: أَقْوَامٌ يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ كِفَايَتُهُمْ وَيَدْرَأُ عَنْهُمْ بِالْمَال الْمُوَظَّفِ لَهُمْ حَاجَتَهُمْ، وَيَتْرُكُهُمْ مَكْفِيِّينَ لِيَكُونُوا مُتَجَرِّدِينَ لِمَا هُمْ بِصَدَدِهِ مِنْ مَهَامِّ الإِْسْلاَمِ وَهَؤُلاَءِ صِنْفَانِ:
__________
(1) روضة الطالبين 6 / 363، والمغني 6 / 418، وابن عابدين 3 / 81
(2) سورة التوبة / 60.(22/205)
16 - أَحَدُهُمَا: الْمُرْتَزِقَةُ وَهُمْ نَجْدَةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُدَّتُهُمْ وَوَزَرُهُمْ وَشَوْكَتُهُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ إِلَيْهِمْ مَا يَرُمُّ خَلَّتَهُمْ وَيَسُدُّ حَاجَتَهُمْ وَيَسْتَعِفُّوا بِهِ عَنْ وُجُوهِ الْمَكَاسِبِ وَالْمَطَالِبِ، وَيَتَهَيَّئُوا لِمَا رُشِّحُوا لَهُ، وَتَكُونُ أَعْيُنُهُمْ مُمْتَدَّةً إِلَى أَنْ يُنْدَبُوا فَيَخِفُّوا عَلَى الْبِدَارِ، وَيُنْتَدَبُوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَثَاقَلُوا وَيَتَشَاغَلُوا بِقَضَاءِ أَرَبٍ وَتَمْهِيدِ سَبَبٍ (1) . فَقَدْ وَرَدَ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ أَنَّهُ قَال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلاً فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا (2) .
وَفِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ (3) .
17 - وَالصِّنْفُ الثَّانِي: الَّذِينَ انْتَصَبُوا لإِِقَامَةِ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَانْقَطَعُوا بِسَبَبِ اشْتِغَالِهِمْ وَاسْتِقْلاَلِهِمْ بِهَا عَنِ التَّوَسُّل إِلَى مَا يُقِيمُ أَوَدَهُمْ وَيَسُدُّ خَلَّتَهُمْ، وَلَوْلاَ قِيَامُهُمْ بِمَا لاَبَسُوهُ لَتَعَطَّلَتْ
__________
(1) الغياثي لإمام الحرمين الجويني ص 244 - 247
(2) حديث: " من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة. . . . " أخرجه أبو داود (3 / 354 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 406 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " من استعملناه على عمل فرزقناه. . . . " أخرجه أبو داود (3 / 353 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 406 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(22/206)
أَرْكَانُ الإِْيمَانِ. فَعَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَكْفِيَهُمْ مُؤَنَهُمْ حَتَّى يَسْتَرْسِلُوا فِيمَا تَصَدَّرُوا لَهُ بِفَرَاغِ جَنَانٍ، وَتَجَرُّدِ أَذْهَانٍ، وَهَؤُلاَءِ هُمُ الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ وَالْقُسَّامُ وَالْمُفْتُونَ وَالْمُتَفَقِّهُونَ، وَكُل مَنْ يَقُومُ بِقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ يُلْهِيهِ قِيَامُهُ بِهَا عَمَّا فِيهِ سَدَادُهُ وَقِوَامُهُ.
فَأَمَّا الْمُرْتَزِقَةُ فَالْمَال الْمَخْصُوصُ بِهِمْ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ، وَالصِّنْفُ الثَّانِي يُدِرُّ عَلَيْهِمْ كِفَايَتَهُمْ وَأَرْزَاقَهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ (ر: بَيْتُ الْمَال) .
18 - وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: قَوْمٌ تُصْرَفُ إِلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنْ مَال بَيْتِ الْمَال عَلَى غِنَاهُمْ وَاسْتِظْهَارِهِمْ وَلاَ يُوقَفُ اسْتِحْقَاقُهُمْ عَلَى سَدِّ حَاجَةٍ وَلاَ عَلَى اسْتِيفَاءِ كِفَايَةٍ وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، فَهَؤُلاَءِ يَسْتَحِقُّونَ سَهْمًا مِنْ خُمُسِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ حَاجَةٍ وَكِفَايَةٍ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ (1) . وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (آل ف 14 ج 1 ص 105) (وَخُمُس، وَغَنِيمَة، وَقَرَابَة) .
رِسَالَةٌ
انْظُرْ: إِرْسَال.
__________
(1) الغياثي ص 244 - 247(22/206)
رُسْغٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّسْغُ لُغَةً هُوَ مِنَ الإِْنْسَانِ مَفْصِل مَا بَيْنَ السَّاعِدِ وَالْكَفِّ، وَالسَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَهُوَ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَوْضِعُ الْمُسْتَدِقُّ الَّذِي بَيْنَ الْحَافِرِ وَمَوْصِل الْوَظِيفِ مِنَ الْيَدِ وَالرِّجْل (1) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِالنِّسْبَةِ لِلإِْنْسَانِ (2) . قَال النَّوَوِيُّ: الرُّسْغُ مَفْصِل الْكَفِّ وَلَهُ طَرَفَانِ وَهُمَا عَظْمَانِ: الَّذِي يَلِي الإِْبْهَامَ كُوعٌ، وَالَّذِي يَلِي الْخِنْصَرَ كُرْسُوغٌ (3) .
وَيَذْكُرُونَ الْكُوعَ وَالرُّسْغَ فِي بَيَانِ حَدِّ الْيَدِ الْمَأْمُورِ بِغَسْلِهَا فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ وَمَسْحِهَا فِي التَّيَمُّمِ، وَقَطْعِهَا فِي السَّرِقَةِ (4) .
__________
(1) لسان العرب، والمعجم الوسيط، والمصباح المنير، مادة: (رسغ) .
(2) العناية بهامش فتح القدير 1 / 19 نشر دار إحياء التراث العربي، والبحر الرائق 1 / 18.
(3) المجموع 2 / 227 - 228
(4) انظر المغني 1 / 99، 100، 255(22/207)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
غَسْل الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ:
2 - يُسَنُّ غَسْل الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ فِي الْجُمْلَةِ، سَوَاءٌ قَامَ مِنَ النَّوْمِ أَمْ لَمْ يَقُمْ؛ لأَِنَّهَا الَّتِي تُغْمَسُ فِي الإِْنَاءِ وَتَنْقُل مَاءَ الْوُضُوءِ إِلَى الأَْعْضَاءِ فَفِي غَسْلِهِمَا إِحْرَازٌ لِجَمِيعِ الْوُضُوءِ (1) . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ؛ وَلأَِنَّهُ وَرَدَ غَسْلُهُمَا فِي صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي رَوَاهَا عُثْمَانُ، وَكَذَلِكَ فِي وَصْفِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا لِوُضُوئِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَقِيل: إِنَّهُ فَرْضٌ وَتَقْدِيمُهُ سُنَّةٌ، وَاخْتَارَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَالْمِعْرَاجِ وَالْخَبَّازِيَّةِ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْل مُحَمَّدٍ فِي الأَْصْل (3) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ غَمْسِ الْيَدِ فِي الإِْنَاءِ قَبْل غَسْلِهَا، وَحُكْمِ غَسْل الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْل أَوْ نَوْمِ النَّهَارِ، وَكَيْفِيَّةِ غَسْلِهِمَا تُنْظَرُ مُصْطَلَحَاتُ: (نَوْم، وُضُوء، وَيَد) .
مَسْحُ الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الأَْيْدِي الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ
__________
(1) مراقي الفلاح ص 36، وتبيين الحقائق 1 / 3، 4، والفتاوى الهندية 1 / 6، والبحر الرائق 1 / 18، والمغني 1 / 97 - 100، وروضة الطالبين 1 / 58، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 157، نشر دار المعرفة.
(2) حديث: " صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ". أخرجه مسلم (1 / 204، 205 - ط الحلبي) من حديث عثمان بن عفان.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 6.(22/207)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمَسْحِهَا فِي التَّيَمُّمِ فِي قَوْلِهِ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ (1) } عَلَى الاِتِّجَاهَاتِ الآْتِيَةِ:
يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَمَالِكٌ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وُجُوبَ اسْتِيعَابِ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ بِالْمَسْحِ (2) وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ (3) .
وَكَذَلِكَ بِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ الأَْسْلَعِ قَال: كُنْتُ أَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ جِبْرِيل بِآيَةِ التَّيَمُّمِ، فَأَرَانِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ الْمَسْحُ لِلتَّيَمُّمِ، فَضَرَبْتُ بِيَدَيَّ الأَْرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، فَمَسَحْتُ بِهِمَا وَجْهِي، ثُمَّ ضَرَبْتُ بِهِمَا الأَْرْضَ فَمَسَحْتُ بِهِمَا يَدَيَّ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ (4) .
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) مراقي الفلاح ص 64 - 65، والبناية 1 / 495، وروضة الطالبين 1 / 112، وأوجز المسالك إلى موطأ مالك 1 / 321 - 322، وبداية المجتهد 1 / 68 - 69 نشر دار المعرفة.
(3) حديث: " التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة. . . . " أخرجه الدارقطني (1 / 180 - ط دار المحاسن) من حديث عبد الله بن عمر، ثم صوب رواية من وقفه على ابن عمر.
(4) حديث الأسلع: " في صفة المسح " أخرجه البيهقي في السنن (1 / 208 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث الأسلع، وقال: " الربيع بن بدر - يعني راويه - ضعيف. إلا أنه غير منفرد به، وقد روينا هذا القول من التابعين عن سالم بن عبد الله، والحسن البصري، والشعبي، وإبرا(22/208)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ - فِيمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْهُ - وَمَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى وَعَلَيْهَا جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْقَدِيمِ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالأَْعْمَشُ إِلَى وُجُوبِ مَسْحِ الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وَقَالُوا فِي وَجْهِ الاِسْتِدْلاَل بِالآْيَةِ: إِنَّ الْحُكْمَ إِذَا عُلِّقَ بِمُطْلَقِ الْيَدَيْنِ لَمْ يَدْخُل فِيهِ الذِّرَاعُ كَقَطْعِ السَّارِقِ وَمَسِّ الْفَرْجِ (1) . كَمَا احْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَمَّارٍ قَال: بَعَثَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدْ مَاءً فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَال: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُول بِيَدَيْكَ هَكَذَا، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأَْرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَال عَلَى الْيَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ. وَفِي لَفْظٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ (2) . وَذَهَبَ الزُّهْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَابْنُ
__________
(1) المبسوط 1 / 107، ومراقي الفلاح 1 / 65، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 203 نشر دار المعرفة. وروضة الطالبين 1 / 112، وكشاف القناع 1 / 174 - 175، والمغني 1 / 254 - 255
(2) حديث عمار: " بعثني رسول الله في حاجة. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 456 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 280 - ط الحلبي) ، واللفظ لمسلم.(22/208)
شِهَابٍ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ هُوَ الْمَسْحُ إِلَى الْمَنَاكِبِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: تَيَمُّم) .
مَوْضِعُ الْقَطْعِ مِنَ الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ:
4 - ذَهَبَ فُقَهَاءُ الأَْمْصَارِ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِي السَّرِقَةِ هُوَ قَطْعُ الْيُمْنَى مِنَ الرُّسْغِ؛ لأَِنَّ الْمَنْصُوصَ قَطْعُ الْيَدِ، وَقَطْعُ الْيَدِ قَدْ يَكُونُ مِنَ الرُّسْغِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْمِرْفَقِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْمَنْكِبِ، وَلَكِنْ هَذَا الإِْبْهَامُ زَال بِبَيَانِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنَ الرُّسْغِ؛ وَلأَِنَّ هَذَا الْقَدْرَ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَفِي الْعُقُوبَاتِ إِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْمُتَيَقَّنِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: سَرِقَة) .
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 69، والمبسوط 1 / 107، والمنتقى 1 / 114
(2) المبسوط للسرخسي 9 / 133 - 134، والمغني 8 / 259 - 260، وروضة الطالبين 10 / 140، والزرقاني 8 / 92.(22/209)
رَسُولٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّسُول فِي اللُّغَةِ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ الْمُرْسِل بِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ بِالتَّسْلِيمِ أَوِ الْقَبْضِ، وَالَّذِي يُتَابِعُ أَخْبَارَ الَّذِي بَعَثَهُ، أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ جَاءَتِ الإِْبِل رَسَلاً: أَيْ مُتَتَابِعَةً قَطِيعًا بَعْدَ قَطِيعٍ.
وَسُمِّيَ الرَّسُول رَسُولاً؛ - لأَِنَّهُ ذُو رِسَالَةٍ.
وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ أَرْسَلْتُ، وَأَرْسَلْتُ فُلاَنًا فِي رِسَالَةٍ فَهُوَ مُرْسَلٌ وَرَسُولٌ.
قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: وَالرَّسُول يُقَال تَارَةً لِلْقَوْل الْمُتَحَمَّل كَقَوْل الشَّاعِرِ:
أَلاَ أَبْلِغْ أَبَا حَفْصٍ رَسُولاً
وَتَارَةً لِمُتَحَمِّل الْقَوْل (1) .
وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْمُثَنَّى وَالْجَمْعِ، كَمَا يَجُوزُ التَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ فَيُجْمَعُ عَلَى رُسُلٍ. كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (2) } ، وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {فَقُولاَ إِنَّا رَسُول رَبِّ الْعَالَمِينَ (3) } .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير والتعريفات للجرجاني وغريب القرآن للأصفهاني مادة: " رسل ".
(2) سورة التوبة / 128.
(3) سورة الشعراء / 16.(22/209)
وَلِلرَّسُول فِي الاِصْطِلاَحِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا الشَّخْصُ الْمُرْسَل مِنْ إِنْسَانٍ إِلَى آخَرَ بِمَالٍ أَوْ رِسَالَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَيُنْظَرُ حُكْمُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي مُصْطَلَحِ (إِرْسَال) .
وَالثَّانِي: الْوَاحِدُ مِنْ رُسُل اللَّهِ.
وَيُرَادُ بِرُسُل اللَّهِ تَارَةً الْمَلاَئِكَةُ مِثْل قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُل رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ (1) } وَقَوْلِهِ: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (2) } وَقَوْلِهِ: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ (3) } ، وَتَارَةً يُرَادُ بِهِمُ الأَْنْبِيَاءُ مِثْل قَوْله تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل (4) } .
وَالرَّسُول مِنَ الْبَشَرِ هُوَ ذَكَرٌ حُرٌّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَأَمَرَهُ بِتَبْلِيغِهِ، فَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ فَنَبِيٌّ فَحَسْبُ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - يَجِبُ عَلَى الرَّسُول مِنْ قِبَل اللَّهِ تَبْلِيغُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْمُرْسَل إِلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِل إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ (5) } .
__________
(1) سورة هود / 8.
(2) سورة الزخرف / 80.
(3) سورة هود / 77.
(4) سورة آل عمران / 144.
(5) سورة المائدة / 67.(22/210)
وَيَجِبُ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الرُّسُل الإِْيمَانُ بِهِمْ وَتَصْدِيقُهُمْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ وَمُتَابَعَتُهُمْ وَطَاعَتُهُمْ.
حُكْمُ مَنْ سَبَّ رَسُولاً مِنَ الرُّسُل عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
3 - أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى كُفْرِ مَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ نَبِيٍّ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ، أَوْ رِسَالَةَ أَحَدٍ مِنَ الرُّسُل عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوْ كَذَّبَهُ، أَوْ سَبَّهُ، أَوِ اسْتَخَفَّ بِهِ، أَوْ سَخِرَ مِنْهُ، أَوِ اسْتَهْزَأَ بِسُنَّةِ رَسُولِنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ (1) } الآْيَةَ.
وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (2) } .
كَمَا أَنَّ مَنْ سَبَّ الرَّسُول يُقْتَل (3) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّة، وَتَوْبَة) .
وَيُمَاثِل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ بَقِيَّةُ الرُّسُل وَالأَْنْبِيَاءُ وَالْمَلاَئِكَةُ، فَمَنْ سَبَّهُمْ أَوْ لَعَنَهُمْ، أَوْ عَابَهُمْ أَوْ قَذَفَهُمْ أَوِ اسْتَخَفَّ بِحَقِّهِمْ، أَوْ أَلْحَقَ بِهِمْ نَقْصًا، أَوْ غَضَّ مِنْ مَرْتَبَتِهِمْ أَوْ نَسَبَ إِلَيْهِمْ
__________
(1) سورة التوبة / 65 - 66
(2) سورة الأحزاب / 57.
(3) ابن عابدين 3 / 390، الشفاء للقاضي عياض 2 / 952، المغني لابن قدامة 8 / 123، 150، مغني المحتاج 4 / 135، جواهر الإكليل 2 / 280.(22/210)
مَا لاَ يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِمْ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ قُتِل (1) . وَالتَّفْصِيل فِي: (تَوْبَة، رِدَّة) .
الذَّبْحُ بِاسْمِ رَسُول اللَّهِ:
4 - لاَ يَجُوزُ الذَّبْحُ بِاسْمِ رَسُول اللَّهِ، وَلاَ بِاسْمِ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ رَسُول اللَّهِ - بِالْجَرِّ - حَيْثُ يَجِبُ تَجْرِيدُ اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ اسْمِ غَيْرِهِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ (2) } الآْيَةَ، وَقَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ؛ وَلأَِنَّ هَذَا إِشْرَاكُ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ وَاسْمِ غَيْرِهِ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي: (ذَبَائِح) .
حِمَى الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
5 - كَانَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْمِيَ لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا " حَمَى النَّقِيعَ لِخَيْل الْمُسْلِمِينَ (4) " وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: حَمَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّبَذَةَ لإِِبِل الصَّدَقَةِ وَنَعَمِ الْجِزْيَةِ وَخَيْل الْمُجَاهِدِينَ (5) .
__________
(1) المصادر السابقة نفسها.
(2) سورة المائدة / 3.
(3) البدائع 5 / 48، وروضة الطالبين 3 / 205، ومواهب الجليل 1 / 18
(4) حديث: " حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقيع لخيل المسلمين " أخرجه البيهقي (6 / 146 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عمر، وضعفه ابن حجر في الفتح (5 / 45 - ط السلفية) .
(5) حديث: " حمى الربذة لإبل الصدقة " أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 158 - ط القدسي) ، وقال: " رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح ".(22/211)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ مَا حَمَاهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَا حَمَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصٌّ لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ أَنْ يَنْقُضَهُ، وَأَنْ يُغَيَّرَ بِحَالٍ، سَوَاءٌ بَقِيَتِ الْحَاجَةُ الَّتِي حَمَى لَهَا أَمْ زَالَتْ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُعَارَضَ حُكْمُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَقْضٍ وَلاَ إِبْطَالٍ؛ وَلأَِنَّ هَذَا تَغْيِيرُ الْمَقْطُوعِ بِصِحَّتِهِ بِاجْتِهَادٍ بِخِلاَفِ حِمَى غَيْرِهِ مِنَ الأَْئِمَّةِ وَالْخُلَفَاءِ فَيَجُوزُ نَقْضُهُ لِلْحَاجَةِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى جَوَازِ نَقْضِ مَا حَمَاهُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا زَالَتِ الْحَاجَةُ الَّتِي حَمَى مِنْ أَجْلِهَا (1) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ، وَحِمَى) .
رُسُل أَهْل الْحَرْبِ وَالْمُوَادَعَةِ:
6 - أَهْل الْحَرْبِ وَالْمُوَادَعَةِ إِذَا أَرْسَلُوا أَحَدًا إِلَى دِيَارِ الإِْسْلاَمِ لِتَبْلِيغِ رِسَالَةٍ فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يُؤَدِّيَ الرِّسَالَةَ إِلَى الإِْمَامِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤَمِّنُ رُسُل الْمُشْرِكِينَ، وَلَمَّا جَاءَهُ رَسُولاَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ قَال لَهُمَا: لَوْلاَ أَنَّ الرُّسُل لاَ تُقْتَل
__________
(1) الأحكام السلطانية ص 185، روضة الطالبين 5 / 292، جواهر الإكليل 1 / 274، 2 / 202، نهاية المحتاج 5 / 338.(22/211)
لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا (1) ؛ وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى عَقْدِ الأَْمَانِ لِلرُّسُل، فَإِنَّنَا لَوْ قَتَلْنَا رُسُلَهُمْ لَقَتَلُوا رُسُلَنَا، فَتَفُوتُ مَصْلَحَةُ الْمُرَاسَلَةِ.
وَعَقْدُ الأَْمَانِ لِلرَّسُول يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَيَّدَ بِمُدَّةٍ حَسَبَ الْمَصْلَحَةِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الإِْمَامُ مَوْجُودًا فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ، فَإِنْ كَانَ الإِْمَامُ فِي الْحَرَمِ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الدُّخُول (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (أَمَان، حَرَم) .
__________
(1) حديث: " لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما " أخرجه أبو داود (3 / 192 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وأحمد (3 / 488 - ط الميمنية) من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي وإسناده حسن.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 227، القوانين الفقهية ص 159، روضة الطالبين 10 / 280، 309، 244، حاشية الجمل 5 / 212، المغني لابن قدامة 8 / 531، تفسير القرطبي 8 / 104، مغني المحتاج 4 / 227، 243، أحكام القرآن لابن العربي 2 / 901.(22/212)
رُشْدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّشْدُ فِي اللُّغَةِ: الصَّلاَحُ وَإِصَابَةُ الصَّوَابِ وَالاِسْتِقَامَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ مَعَ تَصَلُّبٍ فِيهِ، وَهُوَ خِلاَفُ الْغَيِّ وَالضَّلاَل، قَال فِي الْمِصْبَاحِ: رَشِدَ رُشْدًا مِنْ بَابِ تَعِبَ، وَرَشَدَ يَرْشُدُ مِنْ بَابِ قَتَل، فَهُوَ رَاشِدٌ، وَالاِسْمُ الرَّشَادُ.
وَالرَّشِيدُ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْهَادِي إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ، وَالَّذِي حَسُنَ تَقْدِيرُهُ، قَال فِي اللِّسَانِ: وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الرَّشِيدُ: هُوَ الَّذِي أَرْشَدَ الْخَلْقَ إِلَى مَصَالِحِهِمْ أَيْ هَدَاهُمْ، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهَا، فَهُوَ رَشِيدٌ بِمَعْنَى مُرْشِدٍ، وَقِيل: هُوَ الَّذِي تَنْسَاقُ تَدْبِيرَاتُهُ إِلَى غَايَاتِهَا عَلَى سَبِيل السَّدَادِ مِنْ غَيْرِ إِشَارَةِ مُشِيرٍ وَلاَ تَسْدِيدِ مُسَدِّدٍ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ تَعْرِيفُهُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَالرَّشَدُ أَخَصُّ مِنَ الرُّشْدِ فَإِنَّهُ يُقَال فِي الأُْمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالأُْخْرَوِيَّةِ، وَالرَّشَدُ مُحَرَّكَةٌ فِي
__________
(1) الصحاح والقاموس واللسان والمصباح مادة: " رشد ".(22/212)
الأُْمُورِ الأُْخْرَوِيَّةِ لاَ غَيْرَ (1) .
وَالرُّشْدُ الْمُشْتَرَطُ لِتَسْلِيمِ الْيَتِيمِ مَالَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُشْتَرَطُ لَهُ الرُّشْدُ هُوَ صَلاَحُ الْمَال عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَصَلاَحُ الْمَال وَالدِّينِ مَعًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ.
وَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بِرَفْعِ الْحَجْرِ لِلرُّشْدِ ابْتِدَاءً، فَلَوْ فَسَقَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَالْمُرَادُ بِالصَّلاَحِ فِي الدِّينِ أَنْ لاَ يَرْتَكِبَ مُحَرَّمًا يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ. وَفِي الْمَال: أَنْ لاَ يُبَذِّرَ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْهْلِيَّةُ:
2 - الأَْهْلِيَّةُ لُغَةً: الصَّلاَحِيَةُ، وَهِيَ نَوْعَانِ: أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ، وَأَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ.
فَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ هِيَ: صَلاَحِيَةُ الإِْنْسَانِ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ.
وَأَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ هِيَ: صَلاَحِيَةُ الإِْنْسَانِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 95 ط النصر، المغني 4 / 516ط. الرياض، حاشية القليوبي 2 / 301 ط. الحلبي، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 3 / 383 ط. المعارف، الإنصاف 5 / 322 ط. التراث.
(3) تفسير الفخر الرازي 9 / 189 ط. الأولى، روضة الطالبين 4 / 180 ط. المكتب الإسلامي، المهذب 1 / 338 ط. الحلبي، بداية المجتهد 2 / 305 ط. الكليات الأزهرية.(22/213)
لِصُدُورِ الْفِعْل مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا.
هَذَا وَالرُّشْدُ هُوَ الْمَرْحَلَةُ الأَْخِيرَةُ مِنْ مَرَاحِل الأَْهْلِيَّةِ، فَإِذَا بَلَغَ الشَّخْصُ رَشِيدًا كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ وَارْتَفَعَتْ عَنْهُ الْوِلاَيَةُ وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ بِلاَ خِلاَفٍ (1) .
ب - الْبُلُوغُ:
3 - مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الاِحْتِلاَمُ وَالإِْدْرَاكُ. وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ قُوَّةٌ تَحْدُثُ لِلشَّخْصِ تَنْقُلُهُ مِنْ حَال الطُّفُولَةِ إِلَى حَال الرُّجُولَةِ، وَهُوَ يَحْصُل بِظُهُورِ عَلاَمَةٍ مِنْ عَلاَمَاتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ كَالاِحْتِلاَمِ، وَكَالْحَبَل وَالْحَيْضِ فِي الأُْنْثَى، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعَلاَمَاتِ كَانَ الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ، وَالرُّشْدُ وَالْبُلُوغُ قَدْ يَحْصُلاَنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ الرُّشْدُ عَنِ الْبُلُوغِ تَبَعًا لِتَرْبِيَةِ الشَّخْصِ وَاسْتِعْدَادِهِ (2) .
ج - التَّبْذِيرُ:
4 - وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: مُشْتَقٌّ مِنْ بَذْرِ الْحَبِّ فِي الأَْرْضِ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَفْرِيقُ الْمَال عَلَى وَجْهِ الإِْسْرَافِ.
وَالتَّبْذِيرُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَدَمُ الصَّلاَحِ فِي الْمَال، فَمَنْ كَانَ مُبَذِّرًا كَانَ سَفِيهًا أَيْ غَيْرَ رَشِيدٍ (3) .
__________
(1) الموسوعة 7 / 151 مصطلح (أهلية) .
(2) الموسوعة الفقهية 7 / 160 مصطلح (أهلية) ، 8 / 186 مصطلح (بلوغ) .
(3) المصباح مادة: " بذر "، التعريفات للجرجاني / 72 ط. الكتاب العربي، تحفة المحتاج 5 / 168 ط. دار صادر.(22/213)
د - الْحَجْرُ:
5 - وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ مِنَ التَّصَرُّفِ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ مَنْعَ مَوْصُوفِهَا مِنْ نُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِي الزَّائِدِ عَلَى قُوتِهِ أَوْ تَبَرُّعِهِ بِمَالِهِ، أَوِ الْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْحَجْرِ وَالرُّشْدِ أَنَّ الْحَجْرَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ فِقْدَانِ الرُّشْدِ (1) .
هـ - السَّفَهُ:
6 - وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: نَقْصٌ فِي الْعَقْل وَأَصْلُهُ الْخِفَّةُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: خِفَّةٌ تَعْتَرِي الإِْنْسَانَ فَتَبْعَثُهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ بِخِلاَفِ مُقْتَضَى الْعَقْل، مَعَ عَدَمِ الاِخْتِلاَل فِي الْعَقْل، وَالسَّفَهُ نَقِيضُ الرُّشْدِ (2) .
وَقْتُ الرُّشْدِ وَكَيْفِيَّةُ مَعْرِفَتِهِ:
7 - ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الرُّشْدَ الْمُعْتَدَّ بِهِ
__________
(1) المصباح مادة: " حجر "، حاشية ابن عابدين 5 / 89 ط. المصرية، جواهر الإكليل 2 / 97 ط. المعرفة، حاشية القليوبي 2 / 299 ط. الحلبي، المغني 4 / 505 ط. الرياض.
(2) المصباح مادة: " سفه " التلويح على التوضيح 2 / 191 ط. صبيح، التقرير والتحبير 2 / 201 ط. الأميرية، كشف الأسرار على أصول البزدوي 4 / 369 ط. دار الكتاب العربي، البحر الرائق 8 / 91 ط. العلمية.(22/214)
لِتَسْلِيمِ الْمَال لِلْيَتِيمِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَإِنْ لَمْ يَرْشُدْ بَعْدَ بُلُوغِهِ اسْتَمَرَّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ حَتَّى وَلَوْ صَارَ شَيْخًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ (1) .
وَهَذَا الرُّشْدُ قَدْ يَأْتِي مَعَ الْبُلُوغِ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا، تَبَعًا لِتَرْبِيَةِ الشَّخْصِ وَاسْتِعْدَادِهِ وَتَعَقُّدِ الْحَيَاةِ الاِجْتِمَاعِيَّةِ أَوْ بَسَاطَتِهَا، فَإِذَا بَلَغَ الشَّخْصُ رَشِيدًا كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَارْتَفَعَتِ الْوِلاَيَةُ عَنْهُ وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (2) } .
وَإِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ وَكَانَ عَاقِلاً كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَارْتَفَعَتِ الْوِلاَيَةُ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ تُسَلَّمُ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ، بَل تَبْقَى فِي يَدِ وَلِيِّهِ أَوْ وَصِيِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ رُشْدُهُ بِالْفِعْل، أَوْ يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَ هَذِهِ السِّنَّ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ، وَلَوْ كَانَ مُبَذِّرًا لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ؛ لأَِنَّ مَنْعَ الْمَال عَنْهُ كَانَ عَلَى سَبِيل الاِحْتِيَاطِ وَالتَّأْدِيبِ، وَلَيْسَ عَلَى سَبِيل الْحَجْرِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لاَ يَرَى الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ، وَالإِْنْسَانُ بَعْدَ بُلُوغِهِ هَذِهِ السِّنَّ وَصَلاَحِيَتِهِ لأََنْ يَكُونَ جَدًّا لاَ يَكُونُ أَهْلاً لِلتَّأْدِيبِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل
__________
(1) تفسير القرطبي 5 / 37 ط. دار الكتب المصرية.
(2) سورة النساء / 5، 6(22/214)
أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الشَّخْصَ إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَلَكِنْ لاَ تَرْتَفِعُ الْوِلاَيَةُ عَنْهُ، وَتَبْقَى أَمْوَالُهُ تَحْتَ يَدِ وَلِيِّهِ أَوْ وَصِيِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ رُشْدُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (1) } فَإِنَّهُ مَنَعَ الأَْوْلِيَاءَ وَالأَْوْصِيَاءَ مِنْ دَفْعِ الْمَال إِلَى السُّفَهَاءِ، وَنَاطَ دَفْعَ الْمَال إِلَيْهِمْ بِتَوَافُرِ أَمْرَيْنِ: الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ الْمَال إِلَيْهِمْ بِالْبُلُوغِ مَعَ عَدَمِ الرُّشْدِ (2) .
8 - وَيُعْرَفُ رُشْدُ الصَّبِيِّ بِاخْتِبَارِهِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ (3) } يَعْنِي اخْتَبِرُوهُمْ، وَاخْتِبَارُهُ بِأَنْ تُفَوِّضَ إِلَيْهِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَمْثَالُهُ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ طَبَقَاتِ النَّاسِ، فَوَلَدُ التَّاجِرِ يُخْتَبَرُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْمُمَاكَسَةِ فِيهِمَا، وَوَلَدُ الزَّارِعِ فِي أَمْرِ الزِّرَاعَةِ وَالإِْنْفَاقِ عَلَى الْقُوَّامِ بِهَا، وَالْمُحْتَرِفُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحِرْفَتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي أَمْرِ تَدْبِيرِ الْمَنْزِل، وَحِفْظِ الثِّيَابِ، وَصَوْنِ الأَْطْعِمَةِ
__________
(1) سورة النساء / 5، 6
(2) ابن عابدين 5 / 95، الفتاوى الهندية 5 / 56، جواهر الإكليل 1 / 161، 2 / 98، والروضة 4 / 177، 178، حاشية القليوبي 2 / 301، والمغني 4 / 506، كشاف القناع 3 / 452.
(3) سورة النساء / 6.(22/215)
وَشِبْهِهَا مِنْ مَصَالِحِ الْبَيْتِ، وَلاَ تَكْفِي الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ فِي الاِخْتِبَارِ بَل لاَ بُدَّ مِنْ مَرَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ بِحَيْثُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِرُشْدِهِ (1) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَجْهَيْنِ فِي كَيْفِيَّةِ الاِخْتِبَارِ أَصَحُّهُمَا: أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ قَدْرٌ مِنَ الْمَال وَيُمْتَحَنَ فِي الْمُمَاكَسَةِ وَالْمُسَاوَمَةِ فَإِذَا آل الأَْمْرُ إِلَى الْعَقْدِ، عَقَدَ الْوَلِيُّ.
وَالثَّانِي: يَعْقِدُ الصَّبِيُّ وَيَصِحُّ مِنْهُ هَذَا الْعَقْدُ لِلْحَاجَةِ، وَلَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ الْمَال الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ لِلاِخْتِبَارِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَلِيِّ (2) .
وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَيْضًا وَجْهَيْنِ فِي كَيْفِيَّةِ اخْتِبَارِ الصَّبِيِّ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَأَمَّل أَخْلاَقَهُ وَيَسْتَمِعَ إِلَى أَغْرَاضِهِ، فَيَحْصُل لَهُ الْعِلْمُ بِنَجَابَتِهِ وَالْمَعْرِفَةُ بِالسَّعْيِ فِي مَصَالِحِهِ، وَضَبْطِ مَالِهِ، أَوِ الإِْهْمَال لِذَلِكَ.
الثَّانِي: أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ مَالِهِ إِنْ تَوَسَّمَ الْخَيْرَ مِنْهُ وَيُبِيحَ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، فَإِنْ نَمَّاهُ وَأَحْسَنَ النَّظَرَ فِيهِ فَلْيُسَلِّمْ إِلَيْهِ مَالَهُ جَمِيعَهُ، وَإِنْ أَسَاءَ النَّظَرَ فِيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِمْسَاكُ مَالِهِ عَنْهُ (3) .
9 - وَأَمَّا وَقْتُ الاِخْتِبَارِ فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَكُونُ قَبْل الْبُلُوغِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى
__________
(1) المغني 4 / 517 ط. الرياض، روضة الطالبين 4 / 181 ط. المكتب الإسلامي.
(2) روضة الطالبين 4 / 181 ط. المكتب الإسلامي.
(3) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 320 ط. الحلبي.(22/215)
إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ (1) } الآْيَةَ فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الآْيَةِ يَدُل عَلَى أَنَّ ابْتِلاَءَهُمْ قَبْل الْبُلُوغِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَمَّاهُمْ يَتَامَى، وَإِنَّمَا يَكُونُونَ يَتَامَى قَبْل الْبُلُوغِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَدَّ اخْتِبَارَهُمْ إِلَى الْبُلُوغِ بِلَفْظَةِ حَتَّى، فَدَل عَلَى أَنَّ الاِخْتِبَارَ قَبْلَهُ؛ وَلأَِنَّ تَأْخِيرَ الاِخْتِبَارِ إِلَى الْبُلُوغِ يُؤَدِّي إِلَى الْحَجْرِ عَلَى الْبَالِغِ الرَّشِيدِ؛ لأَِنَّ الْحَجْرَ يَمْتَدُّ إِلَى أَنْ يُخْتَبَرَ وَيُعْلَمَ رُشْدُهُ، وَاخْتِبَارُهُ قَبْل الْبُلُوغِ يَمْنَعُ ذَلِكَ فَكَانَ أَوْلَى، لَكِنْ لاَ يُخْتَبَرُ إِلاَّ الْمُرَاهِقُ (2) الْمُمَيِّزُ الَّذِي يَعْرِفُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَالْمَصْلَحَةَ مِنَ الْمَفْسَدَةِ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ أَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لأَِنَّهُ قَبْلَهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلتَّصَرُّفِ، إِذِ الْبُلُوغُ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْعَقْل لَمْ يُوجَدْ، فَكَانَ عَقْلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ.
وَلَمْ يُجَوِّزْ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ لِلصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِل التِّجَارَةَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ مَالاً لِيَتَّجِرَ بِهِ حَيْثُ قَال فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ: لاَ أَرَى ذَلِكَ جَائِزًا؛ لأَِنَّ الصَّبِيَّ مُولًى عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ مُولًى عَلَيْهِ فَلاَ أَرَى الإِْذْنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ إِذْنًا.
وَقَال فِي الْيَتِيمِ الَّذِي بَلَغَ وَاحْتَلَمَ وَالَّذِي لاَ يَعْلَمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ إِلاَّ خَيْرًا فَأَعْطَاهُ ذَهَبًا بَعْدَ
__________
(1) سورة النساء / 6.
(2) المراهق: هو الغلام الذي قارب الاحتلام ولم يحتلم بعد، (المصباح) مادة: " رهق ".(22/216)
احْتِلاَمِهِ لِيَخْتَبِرَهُ بِهِ وَأَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِيَخْتَبِرَهُ بِذَلِكَ، أَوْ لِيَعْرِفَ، فَدَايَنَ النَّاسَ فَرَهِقَهُ دَيْنٌ: لاَ أَرَى أَنْ يُعَدَّى عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، لاَ فِيمَا فِي يَدِهِ، وَلاَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
قِيل لِمَالِكٍ: إِنَّهُ قَدْ أَمْكَنَهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، أَفَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ؟ قَال: لاَ، لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ مَالَهُ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ إِلَيْهِ لِيَخْتَبِرَهُ بِهِ فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ. وَجَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالاِخْتِبَارِ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ يَكُونُ قَبْل الْبُلُوغِ كُل وَلِيٍّ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَوَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الاِخْتِبَارَ يَكُونُ لِلْوَلِيِّ.
وَالثَّانِي: يَكُونُ لِلْحَاكِمِ فَقَطْ.
وَنَسَبَ الْجُورِيُّ الأَْوَّل إِلَى عَامَّةِ الأَْصْحَابِ، وَالثَّانِيَ إِلَى ابْنِ سُرَيْجٍ.
وَلاَ فَرْقَ فِي وَقْتِ الاِخْتِبَارِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى عِنْدَ الْجُمْهُورِ، إِلاَّ أَنَّ أَحْمَدَ أَوْمَأَ فِي مَوْضِعٍ إِلَى أَنَّ الاِخْتِبَارَ قَبْل الْبُلُوغِ خَاصٌّ بِالْمُرَاهِقِ الَّذِي يَعْرِفُ الْمُعَامَلَةَ وَالْمَصْلَحَةَ، بِخِلاَفِ الْجَارِيَةِ لِنَقْصِ خِبْرَتِهَا، وَأَمَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَهُمَا سَوَاءٌ (1) .
دَفْعُ الْمَال إِلَى الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِل غَيْرِ الرَّشِيدِ:
10 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْغُلاَمَ إِذَا بَلَغَ غَيْرَ
__________
(1) روح المعاني 4 / 204 ط. المنيرية، المدونة الكبرى 5 / 223 ط. دار صادر، روضة الطالبين 4 / 181 ط. المكتب الإسلامي، نهاية المحتاج 4 / 352 - 353 ط. المكتبة الإسلامية، المهذب 1 / 338 ط. الحلبي، المبدع 4 / 335 - 336 ط. المكتب الإسلامي، الكافي 2 / 195 ط. المكتب الإسلامي، الإنصاف 5 / 323 ط. التراث، المغني 4 / 518 ط. الرياض.(22/216)
رَشِيدٍ لَمْ يُسَلَّمْ إِلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ قَبْل ذَلِكَ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِل الْبَالِغِ إِلاَّ إِذَا تَعَدَّى ضَرَرُهُ إِلَى الْعَامَّةِ كَالطَّبِيبِ الْجَاهِل، وَالْمُفْتِي الْمَاجِنِ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً يُسَلَّمُ إِلَيْهِ مَالُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ، وَبِهِ قَال زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْل وَهُوَ مَذْهَبُ النَّخَعِيِّ
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الأَْشْهَرِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ دَفْعِ الْمَال إِلَى غَيْرِ الرَّشِيدِ حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَلاَ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ حَتَّى وَلَوْ صَارَ شَيْخًا، وَلاَ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ أَبَدًا، وَهُوَ قَوْل الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الأَْمْصَارِ مِنْ أَهْل الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ يَرَوْنَ الْحَجْرَ عَلَى كُل مُضَيِّعٍ لِمَالِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيَّةُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ زَادُوا فِي حَقِّ الأُْنْثَى لِفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهَا دُخُول زَوْجٍ بِهَا وَشَهَادَةَ الْعُدُول بِحِفْظِهَا مَالِهَا.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ فِي مُقَابِل الأَْشْهَرِ وَالأَْصَحِّ(22/217)
عِنْدَهُمْ أَنَّ الْجَارِيَةَ لاَ يُدْفَعُ إِلَيْهَا مَالُهَا بَعْدَ رُشْدِهَا حَتَّى تَتَزَوَّجَ وَتَلِدَ أَوْ تُقِيمَ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ سَنَةً. وَاخْتَارَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَالشِّيرَازِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ لِمَا رَوَى شُرَيْحٌ قَال: عَهِدَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ لاَ أُجِيزَ لِجَارِيَةٍ عَطِيَّةً حَتَّى تَحُول فِي بَيْتِ زَوْجِهَا حَوْلاً أَوْ تَلِدَ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ أَنَّ الْخِلاَفَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحَجْرِ عَلَى الْحُرِّ الْمُكَلَّفِ بِسَبَبِ السَّفَهِ وَالْغَفْلَةِ إِنَّمَا مَحَلُّهُ التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَحْتَمِل الْفَسْخَ وَيُبْطِلُهَا الْهَزْل، وَأَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي لاَ تَحْتَمِل الْفَسْخَ وَلاَ يُبْطِلُهَا الْهَزْل فَلاَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِيهَا بِالإِْجْمَاعِ. وَقَوْلُهُمَا هُوَ الْمُفْتَى بِهِ صِيَانَةً لِمَالِهِ فَيَكُونُ فِي أَحْكَامِهِ كَصَغِيرٍ (1) .
وَاسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ
__________
(1) البناية 8 / 236 ط. الفكر، تبيين الحقائق 5 / 195 ط. بولاق، ابن عابدين 5 / 93 - 95 ط. بولاق، الطحطاوي على الدر المختار 4 / 80 ط. بولاق، الفتاوى الهندية 5 / 56 ط. المكتبة الإسلامية، تفسير القرطبي 5 / 37 ط. الأولى، الدسوقي 3 / 293 ط. الفكر، جواهر الإكليل 2 / 98 ط. المعرفة، أحكام القرآن لابن العربي 1 / 322 ط. الحلبي، أسهل المدارك 3 / 3 - 4 ط. الحلبي، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 3 / 383 ط. المعارف، الخرشي 5 / 296 ط. بولاق، روضة الطالبين 4 / 181 - 182 ط. المكتب الإسلامي، المهذب 1 / 338 ط. الحلبي، حاشية القليوبي 2 / 302 ط. الحلبي، نهاية المحتاج 4 / 353 ط. المكتبة الإسلامية، تحفة المحتاج 5 / 170 ط. دار صادر، التفسير الكبير للرازي 9 / 189 ط. البهية، الكافي 2 / 196 ط. المكتب الإسلامي، المبدع 4 / 335، 342، 343 ط. المكتب الإسلامي، المغني 4 / 506 ط. الرياض.(22/217)
بِالطَّيِّبِ (1) } فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى وُجُوبِ دَفْعِ الْمَال إِلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، إِلاَّ أَنَّهُ مَنَعَ عَنْهُ مَالَهُ قَبْل هَذِهِ الْمُدَّةِ بِالإِْجْمَاعِ وَلاَ إِجْمَاعَ هُنَا فَيَجِبُ دَفْعُ الْمَال بِالنَّصِّ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَتِيمًا لِقُرْبِهِ مِنَ الْبُلُوغِ؛ وَلأَِنَّ أَوَّل أَحْوَال الْبُلُوغِ قَدْ لاَ يُفَارِقُهُ السَّفَهُ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا فَقَدَّرْنَاهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً؛ لأَِنَّهُ حَال كَمَال لُبِّهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: يَنْتَهِي (يَتِمُّ) لُبُّ الرَّجُل إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقَال أَهْل الطَّبَائِعِ: مَنْ بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَ رُشْدَهُ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ سِنًّا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصِيرَ جَدًّا؛ لأَِنَّ أَدْنَى مُدَّةٍ يَبْلُغُ فِيهَا الْغُلاَمُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، فَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ الْوَلَدُ يَبْلُغُ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَقَدْ صَارَ بِذَلِكَ جَدًّا؛ وَلأَِنَّ مَنْعَ الْمَال عَنْهُ عَلَى سَبِيل التَّأْدِيبِ عُقُوبَةٌ عَلَيْهِ، وَالاِشْتِغَال بِالتَّأْدِيبِ عِنْدَ رَجَاءِ التَّأَدُّبِ، فَإِذَا بَلَغَ هَذِهِ السِّنَّ فَقَدِ انْقَطَعَ رَجَاءُ التَّأَدُّبِ فَلاَ مَعْنَى لِمَنْعِ الْمَال بَعْدَهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا حُرٌّ بَالِغٌ عَاقِلٌ مُكَلَّفٌ فَلاَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ كَالرَّشِيدِ (2) .
__________
(1) سورة النساء / 2.
(2) البناية 8 / 236 ط. الفكر، تبيين الحقائق 5 / 195 ط. بولاق، روح المعاني 4 / 206 ط. المنيرية، أحكام القرآن للجصاص 2 / 76 ط. البهية.(22/218)
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ جَوَازِ دَفْعِ الْمَال إِلَيْهِ قَبْل رُشْدِهِ، وَعَدَمِ صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (1) } فَقَدْ عَلَّقَ دَفْعَ الْمَال إِلَيْهِمْ عَلَى شَرْطَيْنِ: الْبُلُوغِ، وَإِينَاسِ الرُّشْدِ. وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطَيْنِ لاَ يَثْبُتُ بِدُونِهِمَا، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ (2) } يَعْنِي أَمْوَالَهُمْ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِل هُوَ فَلْيُمْلِل وَلِيُّهُ بِالْعَدْل (3) } فَأَثْبَتَ الْوِلاَيَةَ عَلَى السَّفِيهِ؛ وَلأَِنَّهُ مُبَذِّرٌ لِمَالِهِ فَلاَ يَجُوزُ دَفْعُهُ إِلَيْهِ كَمَنْ لَهُ دُونَ ذَلِكَ (4) .
هَذَا وَالْخِلاَفُ فِي اسْتِدَامَةِ الْحَجْرِ إِلَى إِينَاسِ الرُّشْدِ، أَوْ إِلَى بُلُوغِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ بَلَغَ مُبَذِّرًا. فَإِنْ بَلَغَ مُصْلِحًا لِلْمَال فَاسِقًا فِي الدِّينِ اسْتُدِيمَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (5) } وَالْفَاسِقُ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ؛ وَلأَِنَّ حِفْظَهُ لِلْمَال لاَ يُوثَقُ بِهِ مَعَ الْفِسْقِ
__________
(1) سورة النساء / 6.
(2) سورة النساء / 5.
(3) سورة البقرة / 282.
(4) المغني 4 / 506 - 507 ط. الرياض، الكافي 2 / 196 ط. المكتب الإسلامي.
(5) سورة النساء / 6.(22/218)
؛ لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَدْعُوَهُ الْفِسْقُ إِلَى التَّبْذِيرِ فَلَمْ يُفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ (1) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
11 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الرُّشْدَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، فَقَدْ ذَكَرُوهُ فِي الْبَيْعِ وَفِي الشَّرِكَةِ وَفِي الْوَكَالَةِ وَفِي ضَمَانِ تَلَفِ الْعَارِيَّةِ وَفِي شَرْطِ الْمُعِيرِ وَفِي الإِْقْرَارِ فِيمَا لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْوَارِثِينَ بِوَارِثٍ.
وَجَعَلَهُ الشَّافِعِيَّةُ شَرْطًا لِخُرُوجِهِ لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْهِبَةِ، وَفِي الْوَقْفِ، وَفِي وَلِيِّ النِّكَاحِ، وَفِي رِضَا الزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ، وَفِي الْخُلْعِ فِي شُرُوطِ الْمُوجِبِ وَالْقَابِل، وَفِي حَاضِنِ اللَّقِيطِ، وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ الأَْبْوَابُ الْخَاصَّةُ بِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ هَذَا فَضْلاً عَمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي أَحْكَامِ الْحَجْرِ عَلَى الصَّبِيِّ وَالسَّفِيهِ (2) .
وَيُنْظَرُ: (حَجْر) (وَسَفَه) .
__________
(1) المهذب 1 / 338 ط. الحلبي، روضة الطالبين 4 / 181 - 182 ط. المكتب الإسلامي.
(2) وانظر ما جاء في: فتح القدير 3 / 218 ط. الأميرية، بدائع الصنائع 3 / 147 ط. الجمالية، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 519، 526 ط. المعارف، الخرشي 4 / 12 ط. بولاق، الشرح الكبير 2 / 347 - 348، 352، 3 / 6، 348، 433 ط. الفكر، الزرقاني 6 / 112 ط. الفكر، روضة الطالبين 7 / 384 - 388 ط. المكتب الإسلامي، حاشية القليوبي 3 / 307 - 308 ط. الحلبي، نهاية المحتاج 3 / 373، 8 / 54 ط. المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 5 / 213 - 215 ط. النصر، المبدع 7 / 222 - 226 ط. المكتب الإسلامي، مطالب أولي النهى 4 / 248، 328، 377، 388، 5 / 53، 65 ط. المكتب الإسلامي، المغني 6 / 86 - 87 ط. الرياض.(22/219)
رِشْوَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّشْوَةُ فِي اللُّغَةِ: مُثَلَّثَةُ الرَّاءِ: الْجُعْل، وَمَا يُعْطَى لِقَضَاءِ مَصْلَحَةٍ، وَجَمْعُهَا رُشًا وَرِشًا (1) .
قَال الْفَيُّومِيُّ: الرِّشْوَةُ - بِالْكَسْرِ -: مَا يُعْطِيهِ الشَّخْصُ لِلْحَاكِمِ أَوْ غَيْرِهِ لِيَحْكُمَ لَهُ، أَوْ يَحْمِلَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ (2) .
وَقَال ابْنُ الأَْثِيرِ: الرِّشْوَةُ: الْوُصْلَةُ إِلَى الْحَاجَةِ بِالْمُصَانَعَةِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الرِّشَاءِ الَّذِي يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْمَاءِ (3) .
وَقَال أَبُو الْعَبَّاسِ: الرِّشْوَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ رَشَا الْفَرْخُ إِذَا مَدَّ رَأْسَهُ إِلَى أُمِّهِ لِتَزُقَّهُ (4)
- وَرَاشَاهُ: حَابَاهُ، وَصَانَعَهُ، وَظَاهَرَهُ
- وَارْتَشَى: أَخَذَ رِشْوَةً، وَيُقَال: ارْتَشَى مِنْهُ رِشْوَةً: أَيْ أَخَذَهَا
__________
(1) لسان العرب والمعجم الوسيط.
(2) المصباح المنير.
(3) النهاية 2 / 226 - دار الفكر.
(4) لسان العرب.(22/219)
وَتَرَشَّاهُ: لاَيَنَهُ، كَمَا يُصَانَعُ الْحَاكِمُ بِالرِّشْوَةِ
- وَاسْتَرْشَى: طَلَبَ رِشْوَةً
- وَالرَّاشِي: مَنْ يُعْطِي الَّذِي يُعِينُهُ عَلَى الْبَاطِل.
- وَالْمُرْتَشِي: الآْخِذُ
- وَالرَّائِشُ: الَّذِي يَسْعَى بَيْنَهُمَا يَسْتَزِيدُ لِهَذَا، وَيَسْتَنْقِصُ لِهَذَا.
وَقَدْ تُسَمَّى الرِّشْوَةُ الْبِرْطِيل وَجَمْعُهُ بَرَاطِيل.
قَال الْمُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْبِرْطِيل بِمَعْنَى الرِّشْوَةِ، هَل هُوَ عَرَبِيٌّ أَوْ لاَ؟ .
وَفِي الْمَثَل: الْبَرَاطِيل تَنْصُرُ الأَْبَاطِيل (1) .
وَالرِّشْوَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يُعْطَى لإِِبْطَال حَقٍّ، أَوْ لإِِحْقَاقِ بَاطِلٍ (2) .
وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ التَّعْرِيفِ اللُّغَوِيِّ، حَيْثُ قُيِّدَ بِمَا أُعْطِيَ لإِِحْقَاقِ الْبَاطِل، أَوْ إِبْطَال الْحَقِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُصَانَعَةُ:
2 - الْمُصَانَعَةُ: أَنْ تَصْنَعَ لِغَيْرِكَ شَيْئًا لِيَصْنَعَ لَكَ آخَرَ مُقَابِلَهُ، وَكِنَايَةٌ عَنِ الرِّشْوَةِ، وَفِي الْمَثَل: مَنْ صَانَعَ بِالْمَال لَمْ يَحْتَشِمْ مِنْ طَلَبِ الْحَاجَةِ (3) .
__________
(1) التعريفات 148 - دار الكتاب العربي، الرهوني على الزرقاني 7 / 294 - بولاق، الباجوري على ابن القاسم 2 / 343 - مصطفى البابي.
(2) تاج العروس، المعجم الوسيط، حاشية الطحطاوي على الدر 3 / 177.
(3) لسان العرب، المصباح، المعجم الوسيط.(22/220)
ب - السُّحْتُ - بِضَمِّ السِّينِ:
3 - أَصْلُهُ مِنَ السَّحْتِ - بِفَتْحِ السِّينِ - وَهُوَ الإِْهْلاَكُ وَالاِسْتِئْصَال، وَالسُّحْتُ: الْحَرَامُ الَّذِي لاَ يَحِل كَسْبُهُ؛ لأَِنَّهُ يَسْحَتُ الْبَرَكَةَ أَيْ: يُذْهِبُهَا.
وَسُمِّيَتِ الرِّشْوَةُ سُحْتًا (1) . وَقَدْ سَارَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ (2) .
لَكِنَّ السُّحْتَ أَعَمُّ مِنَ الرِّشْوَةِ، لأَِنَّ السُّحْتَ كُل حَرَامٍ لاَ يَحِل كَسْبُهُ.
ج - الْهَدِيَّةُ:
4 - مَا أَتْحَفْتَ بِهِ غَيْرَكَ، أَوْ مَا بَعَثْتَ بِهِ لِلرَّجُل عَلَى سَبِيل الإِْكْرَامِ، وَالْجَمْعُ هَدَايَا وَهَدَاوَى - وَهِيَ لُغَةُ أَهْل الْمَدِينَةِ -
يُقَال: أَهْدَيْتُ لَهُ وَإِلَيْهِ، وَفِي التَّنْزِيل {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ (3) } .
قَال الرَّاغِبُ: وَالْهَدِيَّةُ مُخْتَصَّةٌ بِاللُّطْفِ، الَّذِي يُهْدِي بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ، وَالْمِهْدَى: الطَّبَقُ الَّذِي يُهْدَى عَلَيْهِ.
وَالْمِهْدَاءُ: مَنْ يُكْثِرُ إِهْدَاءَ الْهَدِيَّةِ (4) .
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ الرِّشْوَةُ هِيَ: مَا يُعْطَى بَعْدَ الطَّلَبِ، وَالْهَدِيَّةُ قَبْلَهُ (5) .
__________
(1) النهاية 2 / 345، المفردات 225، المصباح.
(2) المقنع 3 / 611 - السلفية.
(3) سورة النمل / 35.
(4) لسان العرب، المصباح، المعجم الوسيط والمفردات 541
(5) كشاف القناع 2 / 278.(22/220)
د - الْهِبَةُ:
5 - الْهِبَةُ فِي اللُّغَةِ الْعَطِيَّةُ بِلاَ عِوَضٍ (1) .
قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: الْهِبَةُ: الْعَطِيَّةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الأَْعْوَاضِ وَالأَْغْرَاضِ، فَإِذَا كَثُرَتْ سُمِّيَ صَاحِبُهَا وَهَّابًا (2) .
وَاتَّهَبْتُ الْهِبَةَ: قَبِلْتُهَا، وَاسْتَوْهَبْتُهَا: سَأَلْتُهَا، وَتَوَاهَبُوا: وَهَبَ بَعْضُهُمُ الْبَعْضَ (3) .
وَاصْطِلاَحًا: إِذَا أُطْلِقَتْ هِيَ التَّبَرُّعُ بِمَالِهِ حَال الْحَيَاةِ بِلاَ عِوَضٍ. وَقَدْ تَكُونُ بِعِوَضٍ فَتُسَمَّى هِبَةَ الثَّوَابِ (4) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الرِّشْوَةِ وَالْهِبَةِ، أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِيصَالاً لِلنَّفْعِ إِلَى الْغَيْرِ، وَإِنْ كَانَ عَدَمُ الْعِوَضِ ظَاهِرًا فِي الْهِبَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الرِّشْوَةِ يَنْتَظِرُ النَّفْعَ، وَهُوَ عِوَضٌ.
و الصَّدَقَةُ:
6 - مَا يُخْرِجُهُ الإِْنْسَانُ مِنْ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ كَالزَّكَاةِ، لَكِنِ الصَّدَقَةُ فِي الأَْصْل تُقَال لِلْمُتَطَوَّعِ بِهِ، وَالزَّكَاةُ لِلْوَاجِبِ، وَقَدْ يُسَمَّى الْوَاجِبُ صَدَقَةً، إِِذَا تَحَرَّى صَاحِبُهَا الصِّدْقَ فِي فِعْلِهِ (5) .
__________
(1) المصباح المغرب 496 - دار الكتاب العربي.
(2) النهاية 5 / 231.
(3) المراجع السابقة.
(4) نيل المآرب 2 / 9، ابن عابدين 4 / 508، والمغني 5 / 684، 685، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 373
(5) المفردات 278، التعريفات 174(22/221)
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ وَالْعَطِيَّةُ مَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَكُلُّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَاسْمُ الْعَطِيَّةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِهَا (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّشْوَةِ وَالصَّدَقَةِ: أَنَّ الصَّدَقَةَ تُدْفَعُ طَلَبًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، فِي حِينِ أَنَّ الرِّشْوَةَ تُدْفَعُ لِنَيْل غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ عَاجِلٍ.
أَحْكَامُ الرِّشْوَةِ:
7 - الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ، وَرِشْوَةُ الْمَسْئُول عَنْ عَمَلٍ حَرَامٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَهِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ (2) } ، قَال الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرِّشْوَةُ.
وَقَال تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَال النَّاسِ بِالإِْثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (3) } .
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَال: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ " وَالرَّائِشَ (4) ".
__________
(1) المغني 5 / 649.
(2) سورة المائدة / 42.
(3) سورة البقرة / 188.
(4) حديث عبد الله بن عمرو: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي " أخرجه الترمذي (3 / 614 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح " وأخرجه أحمد (5 / 279 - ط الميمنية) من حديث ثوبان وفيها زيادة: " والرائش ".(22/221)
وَيَحْرُمُ طَلَبُ الرِّشْوَةِ، وَبَذْلُهَا، وَقَبُولُهَا، كَمَا يَحْرُمُ عَمَل الْوَسِيطِ بَيْنَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي (1) .
غَيْرَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - أَنْ يَدْفَعَ رِشْوَةً لِلْحُصُول عَلَى حَقٍّ، أَوْ لِدَفْعِ ظُلْمٍ أَوْ ضَرَرٍ، وَيَكُونُ الإِْثْمُ عَلَى الْمُرْتَشِي دُونَ الرَّاشِي (2) .
قَال أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُل عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ بِالرِّشْوَةِ (3) .
وَفِي حَاشِيَةِ الرَّهُونِيِّ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَال: إِذَا عَجَزْتَ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَاسْتَعَنْتَ عَلَى ذَلِكَ بِوَالٍ يَحْكُمُ بِغَيْرِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَثِمَ دُونَكَ إِنْ كَانَ ذَلِكَ زَوْجَةً يُسْتَبَاحُ فَرْجُهَا، بَل يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْكَ؛ لأَِنَّ مَفْسَدَةَ الْوَالِي أَخَفُّ مِنْ مَفْسَدَةِ الزِّنَا وَالْغَصْبِ، وَكَذَلِكَ اسْتِعَانَتُكَ بِالأَْجْنَادِ يَأْثَمُونَ وَلاَ تَأْثَمُ، وَكَذَلِكَ فِي غَصْبِ الدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا، وَحُجَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّادِرَ مِنَ الْمُعِينِ عِصْيَانٌ لاَ مَفْسَدَةَ فِيهِ، وَالْجَحْدَ وَالْغَصْبَ عِصْيَانٌ وَمَفْسَدَةٌ، وَقَدْ جَوَّزَ الشَّارِعُ الاِسْتِعَانَةَ بِالْمَفْسَدَةِ - لاَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مَفْسَدَةٌ - عَلَى دَرْءِ
__________
(1) المغني 9 / 78، كشاف القناع 6 / 316، الزواجر 2 / 188، الكبائر للذهبي 142، نهاية المحتاج 8 / 243، نيل الأوطار 8 / 277، ابن عابدين 4 / 303، مواهب الجليل 6 / 120، المحلى 9 / 131، 157
(2) كشاف القناع 6 / 316، نهاية المحتاج 8 / 243، القرطبي 6 / 183، ابن عابدين 4 / 304، الحطاب 6 / 121، المحلى 9 / 157، مطالب أولي النهى 6 / 479.
(3) القرطبي 6 / 183.(22/222)
مَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْهَا، كَفِدَاءِ الأَْسِيرِ، فَإِنَّ أَخْذَ الْكُفَّارِ لِمَالِنَا حَرَامٌ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ مَفْسَدَةُ إِضَاعَةِ الْمَال، فَمَا لاَ مَفْسَدَةَ فِيهِ أَوْلَى أَنْ يُجَوَّزَ.
فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يَسِيرًا نَحْوَ كِسْرَةٍ وَتَمْرَةٍ، حُرِّمَتْ الاِسْتِعَانَةُ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ لاَ يُبَاحُ بِالْيَسِيرِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الأَْثَرِ بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ بِالْحَبَشَةِ فَرَشَا بِدِينَارَيْنِ، حَتَّى خُلِّيَ سَبِيلُهُ. وَقَال: إِنَّ الإِْثْمَ عَلَى الْقَابِضِ دُونَ الدَّافِعِ (2) .
وَعَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يُصَانِعَ الرَّجُل عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ إِذَا خَافَ الظُّلْمَ (3) .
أَقْسَامُ الرِّشْوَةِ:
8 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الرِّشْوَةَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا:
أ - الرِّشْوَةُ عَلَى تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ وَالإِْمَارَةِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى الآْخِذِ وَالْمُعْطِي.
ب - ارْتِشَاءُ الْقَاضِي لِيَحْكُمَ، وَهُوَ كَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الآْخِذِ وَالْمُعْطِي، وَلَوْ كَانَ الْقَضَاءُ بِحَقٍّ؛ لأَِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ.
ج - أَخْذُ الْمَال لِيُسَوِّيَ أَمْرَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، دَفْعًا
__________
(1) حاشية الرهوني 7 / 313.
(2) القرطبي 6 / 184.
(3) كشاف القناع 6 / 316.(22/222)
لِلضَّرَرِ أَوْ جَلْبًا لِلنَّفْعِ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الآْخِذِ فَقَطْ.
د - إِعْطَاءُ إِنْسَانٍ غَيْرِ مُوَظَّفٍ عِنْدَ الْقَاضِي أَوِ الْحَاكِمِ مَالاً لِيَقُومَ بِتَحْصِيل حَقِّهِ لَهُ، فَإِنَّهُ يَحِل دَفْعُ ذَلِكَ وَأَخْذُهُ؛ لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ مُعَاوَنَةُ الإِْنْسَانِ لِلآْخَرِ بِدُونِ مَالٍ وَاجِبَةً، فَأَخْذُ الْمَال مُقَابِل الْمُعَاوَنَةِ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ بِمَثَابَةِ أُجْرَةٍ (1) .
حُكْمُ الرِّشْوَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْتَشِي:
أ - الإِْمَامُ وَالْوُلاَةُ:
9 - قَال ابْنُ حَبِيبٍ: لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهِيَةِ الْهَدِيَّةِ إِلَى السُّلْطَانِ الأَْكْبَرِ، وَإِلَى الْقُضَاةِ وَالْعُمَّال وَجُبَاةِ الأَْمْوَال - وَيُقْصَدُ بِالْكَرَاهِيَةِ الْحُرْمَةُ -.
وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ.
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَل الْهَدِيَّةَ (2) ، وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِمَّا يُتَّقَى عَلَى غَيْرِهِ مِنْهَا، وَلَمَّا رَدَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْهَدِيَّةَ، قِيل لَهُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُهَا، فَقَال: كَانَتْ لَهُ هَدِيَّةً، وَهِيَ لَنَا رِشْوَةٌ؛ لأَِنَّهُ كَانَ يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ لِنُبُوَّتِهِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 303، البحر الرائق 6 / 285، درر الحكام 4 / 536، شرح أدب القاضي للخصاف 2 / 25.
(2) حديث: " كان يقبل الهدية " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 203 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 755 - ط الحلبي) من حديث أنس وعائشة.(22/223)
لاَ لِوِلاَيَتِهِ، وَنَحْنُ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَيْنَا لِوِلاَيَتِنَا (1) .
يُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (إِمَامَة فِقْرَة 28، 29) .
ب - الْعُمَّال:
10 - وَحُكْمُ الرِّشْوَةِ إِلَى الْعُمَّال (الْوُلاَةِ) كَحُكْمِ الرِّشْوَةِ إِلَى الإِْمَامِ - كَمَا مَرَّ فِي كَلاَمِ ابْنِ حَبِيبٍ لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدَايَا الأُْمَرَاءِ غُلُولٌ (2) . وَلِحَدِيثِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ (3) .
قَال الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لأَِنَّ تَعَزُّزَ الأَْمِيرِ وَمَنَعَتَهُ بِالْجُنْدِ وَبِالْمُسْلِمِينَ لاَ بِنَفْسِهِ، فَكَانَتِ الْهَدِيَّةُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ الْغَنِيمَةِ، فَإِذَا اسْتَبَدَّ بِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ خِيَانَةً، بِخِلاَفِ هَدَايَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَِنَّ تَعَزُّزَهُ وَمَنَعَتَهُ كَانَتْ بِنَفْسِهِ لاَ بِالْمُسْلِمِينَ، فَصَارَتِ الْهَدِيَّةُ لَهُ لاَ لِلْمُسْلِمِينَ (4) .
ج - الْقَاضِي:
11 - وَالرِّشْوَةُ إِلَى الْقَاضِي حَرَامٌ بِالإِْجْمَاعِ (5) .
__________
(1) تبصرة الحكام على هامش فتح العلي المالك 1 / 30.
(2) حديث: " هدايا الأمراء غلول " أخرجه أحمد (5 / 424 ط. الميمنية) من حديث أبي حميد الساعدي، وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (4 / 189 - ط شركة الطباعة الفنية) ، ولكن له شواهد من أحاديث صحابة آخرين يتقوى بها، ذكر بعضها ابن حجر.
(3) حديث ابن اللتبية. أخرجه البخاري (الفتح 5 / 220 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1463 ط الحلبي) من حديث أبي حميد الساعدي.
(4) شرح أدب القاضي 2 / 44، وكشاف القناع 2 / 278.
(5) فتاوى قاضي خان 2 / 363، الرهوني 7 / 310، نهاية المحتاج 8 / 242، كشاف القناع 6 / 316.(22/223)
قَال الْجَصَّاصُ: وَلاَ خِلاَفَ فِي تَحْرِيمِ الرِّشَا عَلَى الأَْحْكَامِ؛ لأَِنَّهُ مِنَ السُّحْتِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَاتَّفَقَتِ الأُْمَّةُ عَلَيْهِ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي (1) .
قَال فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ (2) : وَيَحْرُمُ قَبُولُهُ هَدِيَّةً، وَاسْتِعَارَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَالْهَدِيَّةِ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ كَالأَْعْيَانِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ خَتَنَ وَلَدَهُ وَنَحْوُهُ فَأُهْدِيَ لَهُ، وَلَوْ قُلْنَا إِنَّهَا لِلْوَلَدِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى الرِّشْوَةِ، فَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَالأَْوْلَى أَنَّهُ كَالْهَدِيَّةِ، وَفِي الْفُنُونِ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ (3) .
وَهَدِيَّةُ الْقَاضِي فِيهَا تَفْصِيلٌ تُنْظَرُ فِي (هَدِيَّة، قَضَاء) .
د - الْمُفْتِي:
12 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُفْتِي قَبُول رِشْوَةٍ مِنْ أَحَدٍ لِيُفْتِيَهُ بِمَا يُرِيدُ، وَلَهُ قَبُول هَدِيَّةٍ (4) .
قَال ابْنُ عَرَفَةَ: قَال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: مَا أُهْدِيَ لِلْمُفْتِي، إِنْ كَانَ يَنْشَطُ لِلْفُتْيَا أُهْدِيَ لَهُ أَمْ لاَ، فَلاَ بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا يَنْشَطُ إِذَا أُهْدِيَ
__________
(1) الجصاص 2 / 433 دار الفكر - بيروت.
(2) كشاف القناع 6 / 316، 317
(3) درر الحكام 4 / 538، شرح أدب القاضي للخصاف 2 / 33، 64، ينظر مراجع للشافعية وغيرهم ككتاب أدب القضاء للماوردي وابن أبي الدم.
(4) الحطاب 6 / 121، الروضة 11 / 111، أسنى المطالب 4 / 284، كشاف القناع 6 / 301.(22/224)
لَهُ فَلاَ يَأْخُذُهَا، وَهَذَا مَا لَمْ تَكُنْ خُصُومَةٌ، وَالأَْحْسَنُ أَنْ لاَ يَقْبَل الْهَدِيَّةَ مِنْ صَاحِبِ الْفُتْيَا، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَيْشُونٍ وَكَانَ يَجْعَل ذَلِكَ رِشْوَةً (1) .
هـ - الْمُدَرِّسُ:
13 - إِنْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ تَحَبُّبًا وَتَوَدُّدًا لِعِلْمِهِ وَصَلاَحِهِ فَلاَ بَأْسَ بِقَبُولِهِ، وَإِنْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ لِيَقُومَ بِوَاجِبِهِ فَالأَْوْلَى عَدَمُ الأَْخْذِ (2) .
و الشَّاهِدُ:
14 - وَيَحْرُمُ عَلَى الشَّاهِدِ أَخْذُ الرِّشْوَةِ. وَإِذَا أَخَذَهَا سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ (3) .
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (شَهَادَة) .
حُكْمُ الرِّشْوَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّاشِي:
أ - الْحَاجُّ:
15 - لاَ يَلْزَمُ الْحَجُّ مَعَ الْخَفَارَةِ (4) ، وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً؛ لأَِنَّهَا رِشْوَةٌ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَجُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ، وَقَال مَجْدُ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ وَحَفِيدُهُ تَقِيُّ
__________
(1) الحطاب 6 / 121.
(2) ابن عابدين 4 / 311، نهاية المحتاج 8 / 243.
(3) تبصرة الحكام لابن فرحون - بهامش فتح العلي 1 / 197، الحطاب 6 / 121، 175، المهذب 2 / 330، المغني 9 / 40، 160
(4) الخفارة - مثلثة الخاء: اسم لجعل الخفير، والخفير هو الحارس والحامي (المطلع 162، كشاف القناع 2 / 391) .(22/224)
الدِّينِ وَابْنُ قُدَامَةَ: يَلْزَمُهُ الْحَجُّ وَلَوْ كَانَ يَدْفَعُ خَفَارَةً إِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، قَال النَّوَوِيُّ: وَيُكْرَهُ بَذْل الْمَال لِلرَّصْدِيِّينَ؛ لأَِنَّهُمْ يَحْرِصُونَ عَلَى التَّعَرُّضِ لِلنَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَوْ وَجَدُوا مَنْ يَخْفِرُهُمْ بِأُجْرَةٍ، وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَمْنُهُمْ بِهِ، فَفِي لُزُومِ اسْتِئْجَارِهِ وَجْهَانِ. قَال الإِْمَامُ: أَصَحُّهُمَا لُزُومُهُ؛ لأَِنَّهُ مِنْ أُهَبِ الطَّرِيقِ كَالرَّاحِلَةِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
ب - صَاحِبُ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ:
16 - يَجُوزُ لِصَاحِبِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَنْ يَرْشُوَ الْعَامِل الْقَابِضَ لِخَرَاجِهِ، وَيُهْدِيَ لَهُ لِدَفْعِ ظُلْمٍ فِي خَرَاجِهِ؛ لأَِنَّهُ يَتَوَصَّل بِذَلِكَ إِلَى كَفِّ الْيَدِ الْعَادِيَةِ عَنْهُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَرْشُوَهُ أَوْ يُهْدِيَهُ لِيَدَعَ عَنْهُ خَرَاجًا؛ لأَِنَّهُ يَتَوَصَّل بِهِ إِلَى إِبْطَال حَقٍّ (2) .
ج - الْقَاضِي:
17 - مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَرْشُوَ لِتَحْصِيل الْقَضَاءِ، وَمَنْ تَقَبَّل
__________
(1) كشاف القناع 2 / 391، 392، ابن عابدين 4 / 306، الروضة 3 / 10، الدسوقي 2 / 6.
(2) مطالب أولي النهى 2 / 570، 571(22/225)
الْقَضَاءَ بِقِبَالَةٍ (عِوَضٍ) ، وَأَعْطَى عَلَيْهِ الرِّشْوَةَ فَوِلاَيَتُهُ بَاطِلَةٌ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ بَذَل مَالاً لِيَتَوَلَّى الْقَضَاءَ، فَقَدْ أَطْلَقَ ابْنُ الْقَاصِّ وَآخَرُونَ أَنَّهُ حَرَامٌ وَقَضَاؤُهُ مَرْدُودٌ (2) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ ابْنِ نُجَيْمٍ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ: وَلَمْ أَرَ حُكْمَ مَا إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَمْ يُوَل إِلاَّ بِمَالٍ هَل يَحِل بَذْلُهُ؟ وَيَنْبَغِي أَنْ يَحِل بَذْلُهُ لِلْمَال كَمَا يَحِل طَلَبُ الْقَضَاءِ.
ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا تَعَيَّنَ عَلَى شَخْصٍ تَوَلِّي الْقَضَاءِ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوُجُوبِ بِسُؤَالِهِمْ أَنْ يُوَلُّوهُ، فَإِذَا مَنَعَهُ السُّلْطَانُ أَثِمَ بِالْمَنْعِ؛ لأَِنَّهُ مَنَعَ الأَْوْلَى وَوَلَّى غَيْرَهُ، فَيَكُونُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا مَنَعَهُ لَمْ يَبْقَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَلاَ يَحِل لَهُ دَفْعُ الرِّشْوَةِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ بَذْل الْمَال فِي ذَلِكَ أَيْ فِي نَصْبِهِ قَاضِيًا، وَيَحْرُمُ أَخْذُ الْمَال عَلَى تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ (4) .
حُكْمُ الْقَاضِي:
18 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ حُكْمِ الْقَاضِي
__________
(1) الحطاب 6 / 102، الجمل على المنهج 5 / 337، تحقيق القضية 175، ابن عابدين 4 / 304، الزواجر 1 / 158.
(2) الروضة 11 / 94.
(3) ابن عابدين 4 / 306.
(4) كشاف القناع 6 / 288.(22/225)
الْمُرْتَشِي، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ إِذَا تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِرِشْوَةٍ (1) .
وَلَكِنْ لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ الْقَاضِي الْمُرْتَشِي.
قَال مُنْلاَ خُسْرَوْ فِي بَيَانِ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِالرِّشْوَةِ سَوَاءٌ كَانَ حُكْمُهُ قَبْل أَخْذِهِ الرِّشْوَةَ أَوْ بَعْدَ أَخْذِ الرِّشْوَةِ فَفِي ذَلِكَ اخْتِلاَفٌ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
1 - فَعَلَى قَوْلٍ: أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي صَحِيحٌ إِذَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْمَسْأَلَةِ الشَّرْعِيَّةِ، سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى الَّتِي ارْتَشَى فِيهَا أَوِ الَّتِي لَمْ يَرْتَشِ فِيهَا، وَبِأَخْذِ الرِّشْوَةِ لاَ يَبْطُل الْحُكْمُ؛ لأَِنَّ حَاصِل أَخْذِ الرِّشْوَةِ هُوَ فِسْقُ الْقَاضِي، وَبِمَا أَنَّ فِسْقَ الْقَاضِي لاَ يُوجِبُ انْعِزَالَهُ فَوِلاَيَةُ الْقَاضِي بَاقِيَةٌ، وَإِذَا كَانَ قَضَاؤُهُ بِحَقٍّ يَلْزَمُ نَفَاذُ قَضَائِهِ.
2 - وَعَلَى قَوْلٍ آخَرَ: لاَ يَنْفُذُ حُكْمُ الْقَاضِي فِي الدَّعْوَى الَّتِي ارْتَشَى فِيهَا، قَال قَاضِيخَانْ: إِنَّ الْقَاضِيَ لَوْ أَخَذَ رِشْوَةً وَحَكَمَ فَحُكْمُهُ غَيْرُ نَافِذٍ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ بِحَقٍّ؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ قَدِ اسْتُؤْجِرَ لِلْحُكْمِ، وَالاِسْتِئْجَارُ لِلْحُكْمِ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ عَلَى الْقَاضِي.
__________
(1) البحر الرائق 6 / 284، قاضي خان 2 / 450، الزرقاني 7 / 826، ابن فرحون 1 / 24، الزواجر 1 / 159، المغني 9 / 40.(22/226)
3 - وَعَلَى قَوْلٍ ثَالِثٍ: أَنَّهُ لاَ يَنْفُذُ حُكْمُ الْقَاضِي الْمُرْتَشِي فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى الَّتِي حَكَمَ فِيهَا. وَهَذَا قَوْل الْخَصَّافِ وَالطَّحَاوِيِّ (1) .
انْعِزَال الْقَاضِي:
19 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الْمُعْتَمَدِ - وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْخَصَّافُ، وَالطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَنْعَزِل بِفِسْقِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَبُولُهُ الرِّشْوَةَ.
قَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا ارْتَشَى الْحَاكِمُ انْعَزَل فِي الْوَقْتِ وَإِنْ لَمْ يُعْزَل، وَبَطَل كُل حُكْمٍ حَكَمَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ (2) .
وَمَذْهَبُ الآْخَرِينَ أَنَّهُ لاَ يَنْعَزِل بِذَلِكَ، بَل يَنْعَزِل بِعَزْل الَّذِي وَلاَّهُ (3) .
أَثَرُ الرِّشْوَةِ:
أ - فِي التَّعْزِيرِ:
20 - هَذِهِ الْجَرِيمَةُ لَيْسَ فِيهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ فَيَكُونُ فِيهَا التَّعْزِيرُ.
انْظُرْ: تَعْزِير.
ب - دَعْوَى الرِّشْوَةِ عَلَى الْقَاضِي:
21 - لِلْقَاضِي أَنْ يُؤَدِّبَ خَصْمًا افْتَاتَ عَلَيْهِ
__________
(1) درر الحكام 4 / 537.
(2) القرطبي 6 / 183، ابن فرحون 1 / 78، مغني المحتاج 4 / 381، مطالب أولي النهى 6 / 468.
(3) قاضي خان 2 / 362، ابن فرحون 1 / 78، أدب القضاء لابن أبي الدم 24(22/226)
بِقَوْلِهِ حَكَمْتَ عَلَيَّ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوِ ارْتَشَيْتَ وَنَحْوِهِ بِضَرْبٍ لاَ يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ وَحَبْسٍ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَثْبُتِ افْتِيَاتُهُ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ (1) .
ج - فِي الْحُكْمِ بِالرُّشْدِ:
22 - صَرْفُ الْمَال فِي مُحَرَّمٍ كَرِشْوَةٍ عَدَمُ صَلاَحٍ لِلدِّينِ وَلِلْمَال، مِمَّا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ بِرُشْدِ الصَّبِيِّ (2) .
د - الْمَال الْمَأْخُوذُ:
23 - إِنْ قَبِل الرِّشْوَةَ أَوِ الْهَدِيَّةَ حَيْثُ حَرُمَ الْقَبُول وَجَبَ رَدُّهَا إِلَى صَاحِبِهَا، كَمَقْبُوضٍ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَقِيل تُؤْخَذُ لِبَيْتِ الْمَال لِخَبَرِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ.
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِيمَنْ تَابَ عَنْ أَخْذِ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ: إِنْ عَلِمَ صَاحِبَهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَإِلاَّ دَفَعَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ (3) .
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 477، 478
(2) الجمل 3 / 340.
(3) كشاف القناع 6 / 317، درر الحكام 4 / 537.(22/227)
رِضًا
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّضَا لُغَةً: مَصْدَرُ رَضِيَ يَرْضَى رِضًا - بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا، وَرِضْوَانًا - بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ. فَيُقَال: رَضِيتُ الشَّيْءَ، وَرَضِيتُ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ، وَبِهِ (1) .
وَهُوَ بِمَعْنَى سُرُورِ الْقَلْبِ وَطِيبِ النَّفْسِ، وَضِدُّ السُّخْطِ وَالْكَرَاهِيَةِ.
وَالرِّضَاءُ - بِالْمَدِّ - اسْمُ مَصْدَرٍ عِنْدَ الأَْخْفَشِ، وَمَصْدَرُ رَاضَى بِمَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ عِنْدَ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى الْمُرَاضَاةِ وَالْمُوَافَقَةِ.
وَالتَّرَاضِي: مَصْدَرُ تَرَاضَى. . .، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمُشَارَكَةِ، حَيْثُ قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (2) } جَاءَتْ مِنَ التَّفَاعُل، إِذِ التِّجَارَةُ بَيْنَ
__________
(1) أصل ألف (الرضا) واو، وقيل: أصله ياء، بدليل قولهم في اسم المفعول (مرضي) ولذا تكتب (الرضا) بالألف، ويجوز كتابتها بالياء. لسان العرب، القاموس، المصباح مادة: " رضا ".
(2) سورة النساء / 29.(22/227)
اثْنَيْنِ، أَيْ عَنْ رِضَا كُلٍّ مِنْهُمَا (1) .
2 - وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: امْتِلاَءُ الاِخْتِيَارِ، أَيْ بُلُوغُهُ نِهَايَتَهُ، بِحَيْثُ يُفْضِي أَثَرُهُ إِلَى الظَّاهِرِ مِنْ ظُهُورِ الْبَشَاشَةِ فِي الْوَجْهِ، وَنَحْوِهَا، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى لَخَّصَهَا التَّفْتَازَانِيُّ، وَابْنُ عَابِدِينَ، وَالرَّهَاوِيُّ مِنْهُمْ، هِيَ أَنَّ الرِّضَا: إِيثَارُ الشَّيْءِ وَاسْتِحْسَانُهُ (2) . وَعَرَّفَهُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ قَصْدُ الْفِعْل دُونَ أَنْ يَشُوبَهُ إِكْرَاهٌ (3) .
فَعَلَى ضَوْءِ ذَلِكَ: إِنَّ الرِّضَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَخَصُّ مِنَ الرِّضَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَمُجَرَّدُ الْقَصْدِ إِلَى تَحْقِيقِ أَثَرٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُسَمَّى الرِّضَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغِ الاِخْتِيَارُ غَايَتَهُ، وَلَمْ يَظْهَرِ
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5 / 153 ط. دار الكتب المصرية 1387 هـ.
(2) التلويح على التوضيح 2 / 195 ط. محمد علي صبيح بمصر، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار ط. مصطفى الحلبي 4 / 507، وحاشية الرهاوي على شرح المنار ص 298، وتيسير التحرير لأمير باد شاه الحلبي 2 / 290.
(3) هذا التعريف وإن لم يصرحوا به لكنه يؤخذ من كتبهم بوضوح، يراجع لذلك: شرح الخرشي على مختصر خليل 5 / 9 ط الأميرية ببولاق، ومواهب الجليل للحطاب 5 / 9 ط. السعادة 1329، وفتاوى السيوطي، ضمن مجموعة رسائله - مخطوطة الأزهر رقم (131 فقه شافعي) ورقة (143) ، وحاشية عميرة على شرح المحلي على المنهاج 2 / 156 ط. عيسى الحلبي، وكشاف القناع 2 / 5 للبهوتي ط. الرياض(22/228)
السُّرُورُ، فِي حِينِ لاَ يُسَمَّى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ إِذَا تَحَقَّقَ الاِسْتِحْسَانُ وَالتَّفْضِيل عَلَى أَقَل تَقْدِيرٍ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْرَادَةُ:
3 - الإِْرَادَةُ لُغَةً الْمَشِيئَةُ وَيَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ إِلَى الشَّيْءِ وَالاِتِّجَاهِ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَحْصُل الإِْرَادَةُ دُونَ الرِّضَا، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِرَادَة (1)) .
ب - النِّيَّةُ:
4 - النِّيَّةُ لُغَةً: الْقَصْدُ وَعَزْمُ الْقَلْبِ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا الْجُمْهُورُ بِأَنَّهَا عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِيجَادِ الْفِعْل جَزْمًا، وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا قَصْدُ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ، فَالنِّيَّةُ مُرْتَبِطَةٌ بِالْعَمَل.
ج - الْقَصْدُ:
5 - الْقَصْدُ لُغَةً: الاِعْتِزَامُ وَالتَّوَجُّهُ، وَالنُّهُوضُ نَحْوَ الشَّيْءِ، وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ الْعَزْمُ الْمُتَّجِهُ نَحْوَ إِنْشَاءِ فِعْلٍ (2) .
__________
(1) الموسوعة الفقهية 3 / 5.
(2) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمصباح المنير، مادة " قصد ". التمهيد للأسنوي ط. مؤسسة الرسالة ص 70، والمنثور في القواعد ط. وزارة الأوقاف الكويتية 2 / 36.(22/228)
د - الإِْذْنُ:
6 - الإِْذْنُ لُغَةً: هُوَ الإِْبَاحَةُ، وَإِطْلاَقُ الْفِعْل، وَالإِْرَادَةُ، حَيْثُ يُقَال: بِإِذْنِ اللَّهِ، أَيْ بِإِرَادَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي إِطْلاَقِ الْفُقَهَاءِ: تَفْوِيضُ الأَْمْرِ إِلَى آخَرَ، فَيَقُولُونَ: صَبِيٌّ مَأْذُونٌ، أَوْ عَبْدٌ مَأْذُونٌ فِي التِّجَارَةِ، وَهُوَ تَعْبِيرٌ عَنِ الرِّضَا.
هـ - الإِْكْرَاهُ
7 - الإِْكْرَاهُ وَالإِْجْبَارُ، وَهُمَا مِنْ أَضْدَادِ " الرِّضَا " وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِكْرَاه) .
و الاِخْتِيَارُ:
8 - الاِخْتِيَارُ لُغَةً: الاِصْطِفَاءُ، وَالإِْيثَارُ، وَالتَّفْضِيل، وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ " الْقَصْدُ إِلَى أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ دَاخِلٍ فِي قُدْرَةِ الْفَاعِل بِتَرْجِيحِ أَحَدِ الأَْمْرَيْنِ عَلَى الآْخَرِ " وَلَخَّصَهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِمْ: الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ وَإِرَادَتُهُ " وَعَرَّفَهُ الْجُمْهُورُ " أَنَّهُ الْقَصْدُ إِلَى الْفِعْل وَتَفْضِيلُهُ عَلَى غَيْرِهِ (1) ". وَسَبَقَ التَّفْصِيل فِيهِ فِي مُصْطَلَحِ " اخْتِيَار (2) ".
حَقِيقَةُ الرِّضَا وَعَلاَقَتُهُ بِالاِخْتِيَارِ:
8 م - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّضَا وَالاِخْتِيَارَ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 4 / 507، وكشف الأسرار للبزدوي 4 / 383، وتيسير التحرير 2 / 290، مواهب الجليل / 25، وشرح الخرشي 5 / 9، وفتاوى السيوطي ورقة (13) ، وشرح الكوكب المنير 1 / 509.
(2) الموسوعة الفقهية 2 / 9.(22/229)
شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ وَالآْثَارُ، فِي حِينِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ (1) .
وَعَلَى ضَوْءِ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الرِّضَا أَخَصُّ مِنْ الاِخْتِيَارِ، قَسَّمُوا الاِخْتِيَارَ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ يُوجَدُ الرِّضَا فِي أَحَدِهَا، وَيَنْعَدِمُ فِي قِسْمَيْنِ:
1 - اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ مَا يَكُونُ صَاحِبُهُ مُتَمَتِّعًا بِالأَْهْلِيَّةِ الْكَامِلَةِ دُونَ إِكْرَاهٍ مُلْجِئٍ (2) أَوْ كَمَا يَقُول الْبَزْدَوِيُّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الْبُخَارِيُّ: مَا يَكُونُ الْفَاعِل فِي قَصْدِهِ مُسْتَبِدًّا - أَيْ مُسْتَقِلًّا (3) ".
وَالاِخْتِيَارُ الصَّحِيحُ - عِنْدَهُمْ - يَتَحَقَّقُ حَتَّى وَإِنْ صَاحَبَهُ إِكْرَاهٌ مَا لَمْ يَكُنْ مُلْجِئًا، لَكِنَّ الرِّضَا يَتَحَقَّقُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَيُّ نَوْعٍ مِنَ الإِْكْرَاهِ، وَأَمَّا إِذَا وُجِدَ إِكْرَاهٌ غَيْرُ مُلْجِئٍ، فَإِنَّ الاِخْتِيَارَ صَحِيحٌ، وَالرِّضَا فَاسِدٌ.
2 - اخْتِيَارٌ بَاطِلٌ وَهُوَ حِينَمَا يَكُونُ صَاحِبُهُ مَجْنُونًا، أَوْ صَبِيًّا غَيْرَ مُمَيِّزٍ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الرِّضَا مَعْدُومًا أَيْضًا.
3 - اخْتِيَارٌ فَاسِدٌ، وَهُوَ مَا إِذَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى إِرَادَةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 507، وكشف الأسرار 4 / 383، والمصادر الفقهية والأصولية السابقة.
(2) الإكراه الملجئ عند الحنفية هو ما يكون التهديد بإتلاف النفس أو العضو، أو الضرب الذي يفضي إلى تلف النفس، أو العضو، وغير الملجئ هو ما كان الإكراه بالحبس أو القيد، أو الضرب (بدائع الصنائع 7 / 175) .
(3) كشف الأسرار 4 / 382.(22/229)
شَخْصٍ آخَرَ، أَيْ أَنْ يَتِمَّ فِي ظِل إِكْرَاهٍ مُلْجِئٍ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الرِّضَا مَعْدُومًا (1) .
فَالإِْكْرَاهُ فِي نَظَرِ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يُنَافِي الاِخْتِيَارَ حَيْثُ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا مَعَ الإِْكْرَاهِ غَيْرِ الْمُلْجِئِ، وَيَكُونُ فَاسِدًا مَعَ الإِْكْرَاهِ الْمُلْجِئِ، وَلَكِنَّ الإِْكْرَاهَ بِقِسْمَيْهِ يُنَافِي الرِّضَا (2) .
9 - وَهَذِهِ الأَْقْسَامُ الثَّلاَثَةُ لَهَا عَلاَقَةٌ - كَقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ - بِتَقْسِيمِهِمُ الْعُقُودَ إِلَى الصَّحِيحِ، وَالْبَاطِل، وَالْفَاسِدِ.
وَتَتَلَخَّصُ وِجْهَةُ نَظَرِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ التَّفْرِقَةِ فِي أَنَّ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ لِكُلٍّ مِنْ الاِخْتِيَارِ وَالرِّضَا مُخْتَلِفٌ، فَالرِّضَا هُوَ ضِدُّ السَّخَطِ، وَسُرُورُ الْقَلْبِ وَارْتِيَاحُ النَّفْسِ بِحَيْثُ تَظْهَرُ آثَارُهُ عَلَى الْوَجْهِ، وَأَمَّا الاِخْتِيَارُ فَلاَ تُلاَحِظُ فِيهِ هَذِهِ الْمَعَانِيَ، بِالإِْضَافَةِ إِلَى أَنَّ الشَّرْعَ فَرَّقَ بَيْنَ التَّصَرُّفَاتِ، حَيْثُ اشْتَرَطَ الرِّضَا فِي الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ، فَقَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) يقول أبو زيد الدبوسي في تقديم الأدلة / مخطوطة دار الكتب المصرية رقم 255 أصول الفقه ص 910: " المكره مختار لما فعله قاصدًا إياه؛ لأنه عرف الشرين فاختار أهونهما عليه عن علم وقصد، إلا أنه قصد فاسد؛ لأنه قصد لا عن رضا به، بل لدفع الشر عن نفسه "، وقال البزدوي في أصوله بهامش كشف الأسرار / 383: " الإكراه لا ينافي الاختيار، ولذلك كان مخاطبًا في عين ما أكره عليه ".(22/230)
تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (1) } فِي حِينِ لَمْ يَشْتَرِطِ الرِّضَا فِي بَعْضِ تَصَرُّفَاتٍ غَيْرِ مَالِيَّةٍ، مِثْل الطَّلاَقِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: الطَّلاَقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالرَّجْعَةُ (2) وَمِنَ الْمَعْلُومِ بَدَاهَةً أَنَّ الرِّضَا بِآثَارِ الْعَقْدِ لاَ يَتَحَقَّقُ مَعَ الْهَزْل، مَعَ أَنَّهُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ، وَعَلَى ضَوْءِ ذَلِكَ قَسَّمُوا الْعُقُودَ فَجَعَلُوا بَعْضَهَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الرِّضَا وَهِيَ الْعُقُودُ الَّتِي سَمَّوْهَا بِالْعُقُودِ غَيْرِ الْقَابِلَةِ لِلْفَسْخِ، وَهِيَ النِّكَاحُ، وَالطَّلاَقُ، وَالرَّجْعَةُ. وَاشْتَرَطُوا فِي بَعْضِهَا الرِّضَا، وَهِيَ الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ، ثُمَّ جَعَلُوا الاِخْتِيَارَ أَسَاسًا لِجَمِيعِ الْعُقُودِ (3) .
10 - وَلَمْ يَعْتَرِفِ الْجُمْهُورُ بِهَذَا التَّقْسِيمِ الثُّلاَثِيِّ لِلاِخْتِيَارِ، حَيْثُ هُوَ مَحْصُورٌ عِنْدَهُمْ فِي الصَّحِيحِ وَالْبَاطِل، كَمَا أَنَّ الإِْكْرَاهَ عِنْدَهُمْ يُنَافِي الاِخْتِيَارَ كَمَا يُنَافِي الرِّضَا، قَال الشَّاطِبِيُّ: فَالْعَمَل إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ الْقَصْدُ تَعَلَّقَتْ بِهِ الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ، وَإِذَا عُرِّيَ عَنِ الْقَصْدِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنْهَا. فَلَوْ فَرَضْنَا الْعَمَل مَعَ عَدَمِ الاِخْتِيَارِ كَالْمُلْجَأِ، وَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ. . فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِهِمْ مُقْتَضَى
__________
(1) سورة النساء / 29.
(2) حديث: " ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق والنكاح والرجعة " أخرجه أبو داود 3 / 644 - تحقيق عزت عبيد دعاس، والترمذي (3 / 481 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن ".
(3) إعلام الموقعين 3 / 123 - 126(22/230)
الأَْدِلَّةِ، فَلَيْسَ هَذَا النَّمَطُ بِمَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ، فَبَقِيَ مَا كَانَ مَفْعُولاً بِالاِخْتِيَارِ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ قَصْدٍ ".
وَصَرَّحَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ طَلاَقَ الْمُكْرَهِ لاَ يَقَعُ؛ لأَِنَّهُ سَاقِطُ الاِخْتِيَارِ، وَنَقَل ابْنُ النَّجَّارِ عَنْ أَحْمَدَ قَوْلَهُ: إِنَّ الإِْكْرَاهَ يُزِيل الاِخْتِيَارَ (1) ".
آثَارُ هَذَا الاِخْتِلاَفِ:
11 - لَمْ يَكُنْ هَذَا الْخِلاَفُ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ لَفْظِيًّا لاَ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الآْثَارُ، وَإِنَّمَا خِلاَفٌ مَعْنَوِيٌّ ثَبَتَ عَلَيْهِ آثَارٌ فِقْهِيَّةٌ تَظْهَرُ فِي تَصَرُّفَاتِ وَعُقُودِ الْهَازِل، وَالْمُكْرَهِ، وَالْمُخْطِئِ، وَالسَّكْرَانِ، وَمَنْ لَمْ يَفْهَمِ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعَ لِلإِْيجَابِ وَالْقَبُول، حَيْثُ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ غَيْرِ الْمَالِيَّةِ مِنْ هَؤُلاَءِ، فَطَلاَقُ هَؤُلاَءِ، وَنِكَاحُهُمْ وَرَجْعَتُهُمْ وَنَحْوُهَا صَحِيحٌ - كَقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ - اعْتِمَادًا عَلَى أَصْل الْقَصْدِ وَالاِخْتِيَارِ، وَوُجُودِ الْعِبَارَةِ الصَّادِرَةِ مِنْهُمْ، فَلَوْ أَرَادَ شَخْصٌ أَنْ يَقُول لِزَوْجَتِهِ: يَا عَالِمَةُ، فَسَبَقَ لِسَانُهُ فَقَال: أَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ وَقَعَ طَلاَقُهُ عِنْدَهُمْ، وَعَلَّل ذَلِكَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْبُخَارِيُّ الْحَنَفِيُّ بِقَوْلِهِ: اعْتِبَارًا بِأَنَّ الْقَصْدَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لاَ يُوقَفُ عَلَيْهِ، فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهِ حَقِيقَةً،
__________
(1) الموافقات 2 / 327ط. دار أبي حرفة ببيروت، الوسيط مخطوطة دار الكتب المصرية (212 فقه شافعي) ، ورقة (117، 178) ، وحاشية عميرة 2 / 56، شرح الكوكب المنير 1 / 509.(22/231)
بَل يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ الدَّال عَلَيْهِ، وَهُوَ أَهْلِيَّةُ الْقَصْدِ بِالْعَقْدِ وَالْبُلُوغِ نَفْيًا لِلْحَرَجِ ". وَقَال فِي تَعْلِيل وُقُوعِ طَلاَقِ السَّكْرَانِ: إِنَّ السُّكْرَ وَإِنْ كَانَ يُعْدِمُ الْقَصْدَ الصَّحِيحَ، لَكِنَّهُ لاَ يُعْدِمُ الْعِبَارَةَ، وَيَقُول الْحَصْكَفِيُّ: وَلاَ يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِمَعْنَى الإِْيجَابِ وَالْقَبُول فِيمَا يَسْتَوِي فِيهِ الْجِدُّ وَالْهَزْل مِثْل الطَّلاَقِ وَالنِّكَاحِ، وَلَمْ يَحْتَجْ لِنِيَّةٍ، وَبِهِ يُفْتَى (1) ".
وَأَمَّا الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ - مِثْل الْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ - فَاشْتُرِطَ فِيهَا الاِخْتِيَارُ عِنْدَهُمْ لِلاِنْعِقَادِ، وَاشْتُرِطَ لِصِحَّتِهَا الرِّضَا، فَإِذَا تَحَقَّقَا فِي التَّصَرُّفِ كَانَ صَحِيحًا وَمُنْعَقِدًا - مَعَ تَوَفُّرِ الشُّرُوطِ الأُْخْرَى - وَإِذَا انْعَدَمَ الاِخْتِيَارُ انْعَدَمَ الْعَقْدُ وَأَصْبَحَ بَاطِلاً، وَأَمَّا إِذَا وُجِدَ الاِخْتِيَارُ وَانْعَدَمَ الرِّضَا فَإِنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ فَاسِدًا.
وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَاشْتَرَطُوا وُجُودَ الرِّضَا - أَيْ الاِخْتِيَارِ - فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، إِلاَّ إِذَا دَل دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِي عَقْدٍ خَاصٍّ، مِثْل الْهَزْل فِي الطَّلاَقِ وَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ (2) .
12 - ثُمَّ إِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ فَرَّقُوا بَيْنَ ثَلاَثَةِ أُمُورٍ:
1 - الْعِبَارَةِ الصَّادِرَةِ مِمَّنْ لَهُ الأَْهْلِيَّةُ، وَالْمَوْضُوعَةُ
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 384، وجامع الحقائق للخادمي ص (98) ،
(2) المصادر الفقهية والأصولية السابقة للفريقين.(22/231)
لِلدَّلاَلَةِ عَلَى تَرْتِيبِ الآْثَارِ، كَبِعْتُ، وَطَلَّقْتَ.
2 - قَصْدِ الْعِبَارَةِ دُونَ قَصْدِ الأَْثَرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا، وَهُوَ الاِخْتِيَارُ.
3 - قَصْدِ الْعِبَارَةِ وَالأَْثَرِ، وَهُوَ الرِّضَا.
فَالأَْوَّل هُوَ رُكْنٌ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ وَالْعُقُودِ، أَوْ شَرْطٌ لاِنْعِقَادِهَا، وَالثَّانِي شَرْطٌ لاِنْعِقَادِ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ، وَلَيْسَ شَرْطًا لِلْعُقُودِ الَّتِي يَسْتَوِي فِيهَا الْجِدُّ وَالْهَزْل كَالطَّلاَقِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِمَا، وَلِذَلِكَ يَقَعُ طَلاَقُ السَّكْرَانِ، وَالْمُكْرَهِ، وَالسَّاهِي عِنْدَهُمْ، وَالاِخْتِيَارُ بِهَذَا الْمَعْنَى لاَ يُنَافِي الإِْكْرَاهَ، بَل يَجْتَمِعُ مَعَهُ، وَلِذَلِكَ تَنْعَقِدُ عُقُودُ الْمُكْرَهِ الْمَالِيَّةُ، وَلَكِنَّهَا لاَ تَكُونُ صَحِيحَةً نَافِذَةَ الْعُقُودِ؛ لِكَوْنِهَا تَحْتَاجُ إِلَى شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ الرِّضَا. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ الْمَالِيَّةِ إِطْلاَقًا.
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، فَجَعَلُوا الْعِبَارَةَ هِيَ الْوَسِيلَةَ، وَإِنَّمَا الأَْسَاسُ هُوَ الْقَصْدُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالرِّضَا وَالاِخْتِيَارِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ أَمْ غَيْرِ الْمَالِيَّةِ، يَقُول الشَّاطِبِيُّ: فَالْعَمَل إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ الْقَصْدُ تَعَلَّقَتْ بِهِ الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ، وَإِذَا عُرِّيَ عَنِ الْقَصْدِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنْهَا ". وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: مَدَارُ الْعُقُودِ عَلَى الْعُزُومِ وَالْقُصُودِ (1) ". وَيَقُول الْغَزَالِيُّ وَالنَّوَوِيُّ: الرُّكْنُ الثَّالِثُ - أَيْ مِنْ
__________
(1) الموافقات 2 / 324، وقواعد الأحكام 2 / 150.(22/232)
أَرْكَانِ الطَّلاَقِ - الْقَصْدُ إِلَى لَفْظِ الطَّلاَقِ وَمَعْنَاهُ (1) " وَلِذَلِكَ لاَ يَقَعُ عِنْدَهُمْ طَلاَقُ الْمُكْرَهِ وَالْمُخْطِئِ وَالسَّاهِي وَالْغَافِل وَنَحْوِهِمْ (2) .
وَأَمَّا الْخِلاَفُ فِيمَا بَيْنَ الْجُمْهُورِ فِي طَلاَقِ السَّكْرَانِ فَيَعُودُ فِي الْوَاقِعِ إِلَى مَدَى النَّظْرَةِ إِلَى عِقَابِهِ وَرَدْعِهِ، وَلِذَلِكَ لاَ يَقَعُ طَلاَقُهُ بِالإِْجْمَاعِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِسُكْرِهِ، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي السَّكْرَانِ بِتَعَدٍّ، حَيْثُ نَظَرَ الَّذِينَ أَوْقَعُوا طَلاَقَهُ إِلَى أَنَّ الْقَوْل بِهِ رَادِعٌ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ يُكَيَّفُ فِقْهِيًّا بِأَنَّ رِضَاهُ بِتَنَاوُل الْمُسْكِرِ الَّذِي يَعْلَمُ بِأَنَّ عَقْلَهُ سَيَغِيبُ بِهِ رِضًا بِالنَّتَائِجِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ (3) .
وَكَمَا يُشْتَرَطُ فِي تَحَقُّقِ الرِّضَا قَصْدُ الْعِبَارَةِ - أَوِ التَّعْبِيرُ عَنْهُ - فَلاَ بُدَّ كَذَلِكَ مِنْ قَصْدِ الآْثَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ، فَالْمُكْرَهُ مَثَلاً قَصَدَ الْعِبَارَةَ مِثْل بِعْتُ لَكِنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ انْتِقَال الْمِلْكِيَّةِ، وَإِنَّمَا تَنْفِيذُ مَا هَدَّدَهُ الْمُكْرِهُ - بِكَسْرِ الرَّاءِ - وَكَذَلِكَ لاَ يَتَحَقَّقُ قَصْدُ الآْثَارِ إِلاَّ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِهَا فِي الْجُمْلَةِ، فَلَوْ رَدَّدَ شَخْصٌ وَرَاءَ آخَرَ " بِعْتُ " أَوْ " قَبِلْتُ " وَلَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ، لَمْ يَتِمَّ الْقَصْدُ، يَقُول الْغَزَالِيُّ:
__________
(1) الوسيط مخطوطة الدار رقم 312 فقه الشافعي ورقة 177، والروضة 8 / 53، وفتاوى ابن الصلاح الشهرزوري ط. الحضارة بالقاهرة ص 260
(2) المصادر السابقة، والمنتهى لابن الحاجب ص 32، والقوانين الفقهية ص 197، 199.
(3) القوانين الفقهية ص (196) ، والأم 5 / 235، والروضة للنووي 8 / 12، المغني لابن قدامة 7 / 114 - 116(22/232)
وَلَكِنَّ شَرْطَهُ - أَيِ الْقَصْدَ - الإِْحَاطَةُ بِصِفَاتِ الْمَقْصُودِ ".
وَيَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ - أَيِ الْعَاقِدُ - عَالِمًا بِمَعْنَاهَا - أَيِ الْعِبَارَةِ، وَلاَ مَقْصُودًا لَهُ لَمْ تَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا أَحْكَامُهَا أَيْضًا، وَلاَ نِزَاعَ بَيْنَ أَئِمَّةِ الإِْسْلاَمِ فِي ذَلِكَ (1) ".
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
13 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ حِل أَمْوَال النَّاسِ مَنُوطٌ بِالرِّضَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ (2) } وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ (3) وَقَوْلِهِ: وَلاَ يَحِل لاِمْرِئٍ مِنْ مَال أَخِيهِ إِلاَّ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ (4) ، وَفِي رِوَايَةٍ: لاَ يَحِل مَال امْرِئٍ
__________
(1) الوسيط 2 / 596ط. دار الاعتصام، إعلام الموقعين 2 / 121، وسبق أن بعض الحنفية يصححون عبارة من لم يفهم في النكاح والطلاق، حاشية ابن عابدين 3 / 15، إعلام الموقعين 2 / 121.
(2) سورة النساء / 29.
(3) حديث: إنما البيع عن تراض: أخرجه ابن ماجه (2 / 737 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وقال البوصيري: " هذا إسناد صحيح " مصباح الزجاجة (2 / 10 - ط. دار الجنان) .
(4) حديث: " لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه " أخرجه أحمد (3 / 423 - ط الميمنية) من حديث عمر بن يثري، وأورده الهيثمي في المجمع (4 / 171 ط القدسي) وقال: " رواه أحمد وابنه في زياداته عليه، والطبرني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد ثقات ".(22/233)
مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ (1) ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الرِّضَا فِي التَّصَرُّفَاتِ شَرْطًا أَوْ لاَ؟ .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّضَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعُقُودِ الَّتِي تَقْبَل الْفَسْخَ - وَهِيَ الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ مِنْ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ، وَنَحْوِهَا - أَيْ أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ إِلاَّ مَعَ التَّرَاضِي، وَقَدْ تَنْعَقِدُ الْمَالِيَّةُ لَكِنَّهَا تَكُونُ فَاسِدَةً كَمَا فِي بَيْعِ الْمُكْرَهِ وَنَحْوِهِ، وَيَقُول الْمَرْغِينَانِيُّ:؛ لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْعُقُودِ التَّرَاضِيَ (2) " وَجَاءَ فِي التَّلْوِيحِ: أَنَّهُ - أَيِ الْبَيْعَ - يَعْتَمِدُ الْقَصْدَ تَصْحِيحًا لِلْكَلاَمِ، وَيَعْتَمِدُ الرِّضَا؛ لِكَوْنِهِ مِمَّا يَحْتَمِل الْفَسْخَ، بِخِلاَفِ الطَّلاَقِ " وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ أَصْل الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ تَنْعَقِدُ بِدُونِ الرِّضَا، لَكِنَّهَا لاَ تَكُونُ صَحِيحَةً، يَقُول أَمِيرُ بَادْشَاهْ الْحَنَفِيُّ: وَيَنْعَقِدُ بَيْعُ الْمُخْطِئِ نَظَرًا إِلَى أَصْل الاِخْتِيَارِ؛ لأَِنَّ الْكَلاَمَ صَدَرَ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ، أَوْ بِإِقَامَةِ الْبُلُوغِ مَقَامَ الْقَصْدِ، لَكِنْ يَكُونُ فَاسِدًا غَيْرَ نَافِذٍ لِعَدَمِ الرِّضَا حَقِيقَةً (3) ".
وَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لاَ تَقْبَل الْفَسْخَ فِي نَظَرِهِمْ،
__________
(1) حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس " أخرجه أحمد (5 / 72 - ط الميمنية) من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه مرفوعًا. وأورده الهيثمي في المجمع (4 / 172 - ط القدسي) وقال: " رواه أبو يعلى، وأبو حرة وثقه أبو داود وضعفه ابن معين ".
(2) الهداية - مع تكملة فتح القدير 7 / 293 - 294، والبحر الرائق 8 / 81.
(3) تيسير التحرير 2 / 306.(22/233)
فَالرِّضَا لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا وَلاَ لَهُ أَثَرٌ فِيهَا، فَقَدْ ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ مَعَ الإِْكْرَاهِ عِنْدَهُمْ، فَبَلَغَتْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ تَصَرُّفًا، مِنْهَا الطَّلاَقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْعَتَاقُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالْحَلِفُ بِطَلاَقٍ وَعَتَاقٍ وَظِهَارٍ، وَالإِْيلاَءُ، وَقَبُول الْمَرْأَةِ الطَّلاَقَ عَلَى مَالٍ. . وَيَقُول ابْنُ الْهُمَامِ: وَيَقَعُ طَلاَقُ الْمُخْطِئِ؛ لأَِنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ مَعْنَى اللَّفْظِ خَفِيٌّ، فَأُقِيمَ تَمْيِيزُ الْبُلُوغِ مَقَامَهُ "، وَعَلَّل عَبْدُ الْعَزِيزِ الْبُخَارِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْعَقْدِ تُعَلَّقُ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ الدَّال عَلَيْهِ (1) .
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فَتَدُورُ عِبَارَاتُهُمْ بَيْنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الرِّضَا أَصْلٌ أَوْ أَسَاسٌ أَوْ شَرْطٌ لِلْعُقُودِ كُلِّهَا، فَعَلَى ضَوْءِ مَا صَرَّحُوا بِهِ إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الرِّضَا لاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِيًّا أَمْ غَيْرَ مَالِيٍّ، يَقُول الدُّسُوقِيُّ وَالْخَرَشِيُّ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّ الْمَطْلُوبَ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا، وَإِنَّ انْتِقَال الْمِلْكِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الرِّضَا " وَيَقُول الزَّنْجَانِيُّ الشَّافِعِيُّ: الأَْصْل الَّذِي تُبْنَى عَلَيْهِ الْعُقُودُ الْمَالِيَّةُ. . اتِّبَاعُ التَّرَاضِي. . ".
__________
(1) خزانة الفقه، وعيون المسائل، بتحقيق صلاح الدين الناهي - ط. بغداد سنة 1966 (1 / 405 - 406) ، والتحرير مع شرحه تيسير التحرير 2 / 306، وكشف الأسرار 4 / 354، والتلويح 389، وشرح المنار ص 978، ومجامع الحقائق ص 298، والدر المختار 3 / 15.(22/234)
وَيُصَرِّحُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ التَّرَاضِيَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْعَقْدِ مَا لَمْ يُكْرَهْ بِحَقٍّ، كَالَّذِي يُكْرِهُهُ الْحَاكِمُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ (1) .
14 - هَذَا، وَإِنَّ الرِّضَا أَمْرٌ خَفِيٌّ لاَ يُطَّلَعُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ مَيْل النَّفْسِ فَأُنِيطَ الْحُكْمُ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ وَهُوَ الصِّيغَةُ الَّتِي هِيَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول، فَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِمَا يَدُل عَلَى الرِّضَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إِشَارَةٍ (2) .
عُيُوبُ الرِّضَا:
14 م - إِنَّ " الرِّضَا " بِمَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيِّ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا وُجِدَ الْقَصْدُ إِلَى آثَارِ الْعَقْدِ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الآْثَارُ الشَّرْعِيَّةُ إِذَا سَلِمَ مِنْ كُل عَيْبٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا كَانَ " الرِّضَا " سَلِيمًا أَيْ بِأَنْ يَكُونَ حُرًّا طَلِيقًا لاَ يَشُوبُهُ ضَغْطٌ وَلاَ إِكْرَاهٌ، وَلاَ يَتَقَيَّدُ بِمَصْلَحَةِ أَحَدٍ كَرِضَا الْمَرِيضِ، أَوِ الدَّائِنِ الْمُفْلِسِ، وَأَنْ يَكُونَ وَاعِيًا فَلاَ يَحُول دُونَ إِدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ جَهْلٌ، أَوْ تَدْلِيسٌ وَتَغْرِيرٌ، أَوِ اسْتِغْلاَلٌ، أَوْ غَلَطٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَعُوقُ إِدْرَاكَهُ.
فَمِنْ عُيُوبِ الرِّضَا الإِْكْرَاهُ وَالْجَهْل وَالْغَلَطُ،
__________
(1) الشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 2 - 3، وشرح الخرشي 5 / 4، وشرح تحفة الحكام للفاسي 1 / 278، تخريج الفروع ص (62) ، والروضة 8 / 53 - 62، وكشاف القناع 3 / 149 - 150
(2) مغني المحتاج 2 / 3، أسنى المطالب 2 / 3، الدسوقي 3 / 3.(22/234)
وَالتَّدْلِيسُ وَالتَّغْرِيرُ، وَالاِسْتِغْلاَل وَكَوْنُ الرِّضَا مُقَيَّدًا بِرِضَا شَخْصٍ آخَرَ، يَقُول الْغَزَالِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا: وَيَخْتَل الْقَصْدُ بِخَمْسَةِ أَسْبَابٍ: سَبْقِ اللِّسَانِ، وَالْهَزْل، وَالْجَهْل، وَالإِْكْرَاهِ، وَاخْتِلاَل الْعَقْل ".
فَإِذَا وُجِدَ عَيْبٌ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى إِذَا لَمْ يَتَوَفَّرْ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الرِّضَا فَإِنَّ الْعَقْدَ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال يَكُونُ فَاسِدًا، أَوْ بَاطِلاً - عَلَى خِلاَفٍ فِيهِمَا بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ - وَيَكُونُ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال غَيْرَ لاَزِمٍ، أَيْ يَكُونُ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ كِلَيْهِمَا حَقُّ الْخِيَارِ، وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ هَذِهِ الْعُيُوبَ بَعْضَهَا يُؤَثِّرُ فِي الرِّضَا تَأْثِيرًا مُبَاشِرًا، فَيَكُونُ الْعَقْدُ الَّذِي تَمَّ فِي ظِلِّهِ فَاسِدًا أَوْ بَاطِلاً - كَمَا فِي الإِْكْرَاهِ، وَبَعْضَهَا يُؤَثِّرُ فِي إِلْزَامِيَّةِ الرِّضَا، فَيَكُونُ الْعَقْدُ الَّذِي تَمَّ فِي ظِلِّهِ غَيْرَ مُلْزِمٍ، بَل يَكُونُ لِعَاقِدٍ حَقُّ الْخِيَارِ، مِثْل التَّدْلِيسِ، وَالتَّغْرِيرِ، وَالاِسْتِغْلاَل وَنَحْوِهَا، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ مِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الرِّضَا كَكَوْنِهِ لَمْ يَقَعْ تَحْتَ إِكْرَاهٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ لِلُزُومِهِ، كَكَوْنِهِ لَمْ يَشُبْهُ غَلَطٌ أَوِ اسْتِغْلاَلٌ، أَوْ تَدْلِيسٌ - عَلَى تَفْصِيلٍ كَبِيرٍ وَخِلاَفٍ (1) .
وَنُحِيل لأَِحْكَامِ هَذِهِ الْمَسَائِل إِلَى مُصْطَلَحَاتِهَا الْخَاصَّةِ فِي الْمَوْسُوعَةِ.
__________
(1) الوسيط، مخطوطة دار الكتب رقم 206 فقه شافعي جـ 3 ورقة (147) ، والروضة 8 / 53 - 62(22/235)
وَسَائِل التَّعْبِيرِ عَنِ الرِّضَا:
15 - إِنَّ الرِّضَا فِي حَقِيقَتِهِ - كَمَا سَبَقَ - هُوَ الْقَصْدُ، وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنِيٌّ لَيْسَ لَنَا مِنْ سَبِيلٍ إِلَيْهِ إِلاَّ مِنْ خِلاَل وَسَائِل تُعَبِّرُ عَنْهُ، وَهِيَ اللَّفْظُ وَالْفِعْل - أَيِ الْبَذْل - وَالْكِتَابَةُ، وَالإِْشَارَةُ، وَالسُّكُوتُ فِي مَعْرِضِ الْبَيَانِ. يَقُول الْبَيْضَاوِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ضَرُورَةَ وُجُودِ الرِّضَا حَقِيقَةً: لَكِنَّهُ لَمَّا خَفِيَ نِيطَ بِاللَّفْظِ الدَّال عَلَيْهِ صَرِيحًا (1) " وَيَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ الأَْلْفَاظَ بَيْنَ عِبَادِهِ تَعْرِيفًا وَدَلاَلَةً عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ مِنَ الآْخَرِ شَيْئًا عَرَّفَهُ بِمُرَادِهِ وَمَا فِي نَفْسِهِ بِلَفْظِهِ، وَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الإِْرَادَاتِ وَالْمَقَاصِدِ أَحْكَامَهَا بِوَاسِطَةِ الأَْلْفَاظِ، وَلَمْ يُرَتِّبْ تِلْكَ الأَْحْكَامَ عَلَى مُجَرَّدِ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ غَيْرِ دَلاَلَةِ فِعْلٍ، أَوْ قَوْلٍ، وَلاَ عَلَى مُجَرَّدِ أَلْفَاظٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَا لَمْ يُرِدْ مَعَانِيَهَا وَلَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمًا، بَل تَجَاوَزَ لِلأُْمَّةِ عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَل، أَوْ تُكَلِّمْ بِهِ (2) . فَإِذَا اجْتَمَعَ الْقَصْدُ وَالدَّلاَلَةُ الْقَوْلِيَّةُ، أَوِ الْفِعْلِيَّةُ تَرَتَّبَ الْحُكْمُ، هَذِهِ
__________
(1) الغاية القصوى 1 / 457، روى مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان 1 / 116 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت أنفسها ما لم تعمل به، أو تتكلم ".
(2) ورد ذلك من حديث أبي هريرة مرفوعًا: " إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 160 - ط السلفية) ، وأخرجه مسلم بلفظ مقارب (1 / 116 - ط الحلبي) .(22/235)
قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ عَدْل اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، فَإِنَّ خَوَاطِرَ الْقُلُوبِ وَإِرَادَةَ النُّفُوسِ لاَ تَدْخُل تَحْتَ الاِخْتِيَارِ (1) ".
وَسَنُوجِزُ الْقَوْل فِي دَلاَلَةِ هَذِهِ الْوَسَائِل:
16 - دَلاَلَةُ اللَّفْظِ عَلَى الرِّضَا، حَيْثُ هُوَ الْوَسِيلَةُ الأُْولَى وَالأَْفْضَل فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الرِّضَا، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْخِلاَفُ فِيهِ مُنْصَبًّا عَلَى بَعْضِ الصِّيَغِ، كَصِيَغِ الاِسْتِفْهَامِ، أَوِ الْكِنَايَةِ، أَوِ الْمُضَارِعِ، حَيْثُ وَقَفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عِنْدَ مُلاَحَظَةِ نَوْعِيَّةِ الدَّلاَلَةِ اللُّغَوِيَّةِ، وَاشْتَرَطُوا أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهَا احْتِمَالٌ، فِي حِينِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ - مِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ - ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي ذَلِكَ دَلاَلَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَأَنَّ الْمَرْجِعَ فِي ذَلِكَ هُوَ الْعُرْفُ، كَمَا أَنَّ الْقَرِينَةَ أَيْضًا لَهَا دَوْرٌ فِي جَعْل اللَّفْظِ دَالًّا عَلَى الْمَقْصُودِ (2) . وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَاسِعٌ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَقْد) .
__________
(1) إعلام الموقعين 3 / 105 - 106
(2) يراجع في تفصيل ذلك: فتح القدير 2 / 345، وحاشية ابن عابدين 3 / 15، والفتاوى الهندية 3 / 4، والشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 3، وشرح المحلي مع حاشيتي القليوبي وعميرة 2 / 152، ونهاية المحتاج 3 / 376، وكشاف القناع 3 / 147، الإنصاف 5 / 353، والاختيارات الفقهية ص (121) ، والتعبير عن الإرادة للدكتور وحيد الدين سوار ط. النهضة المصرية، ومبدأ الرضا في العقود دراسة مقارنة ط. دار البشائر الإسلامية.(22/236)
17 - دَلاَلَةُ الْفِعْل عَلَى الرِّضَا (الْبَذْل) أَيْ عَرْضُ الشَّخْصِ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فَيَأْخُذُهُ الآْخَرُ فَيَدْفَعُ قِيمَتَهُ، وَهَذَا مَا يُسَمَّى بِالْمُعَاطَاةِ، أَيْ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، أَوِ الْقَوْل مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْعَرْضِ مِنَ الآْخَرِ، أَيِ الإِْعْطَاءِ مِنْ أَحَدٍ دُونَ قَوْلٍ، وَالْجَانِبُ الثَّانِي يُعَبِّرُ عَنِ الرِّضَا بِالْقَوْل، أَوِ الْكِتَابَةِ، أَوْ نَحْوِهِمَا.
وَقَدْ ثَارَ الْخِلاَفُ فِي مَدَى دَلاَلَتِهِ عَلَى الرِّضَا عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ مُوجَزُهَا:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: عَدَمُ صَلاَحِيَةِ الْفِعْل (الْبَذْل) لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الرِّضَا فِي الْعُقُودِ، هَذَا رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: صَلاَحِيَتُهُ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى الرِّضَا، وَإِنْشَاءِ الْعَقْدِ بِهِ مُطْلَقًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ - مَا عَدَا الْكَرْخِيَّ - وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ - مَا عَدَا الْقَاضِيَ - وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمُ الْبَغَوِيُّ وَالنَّوَوِيُّ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ هَؤُلاَءِ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِالْعُرْفِ.
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: صَلاَحِيَتُهُ فِي الأَْشْيَاءِ الرَّخِيصَةِ، وَعَدَمُ صَلاَحِيَتِهِ فِي الْغَالِيَةِ وَالنَّفِيسَةِ، وَهَذَا رَأْيُ الْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَابْنِ سُرَيْجٍ، وَالْغَزَالِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 77، وبدائع الصنائع 6 / 2985، والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 3، وشرح الخرشي 5 / 5، والمغني 3 / 561، والإنصاف 4 / 263، وفتح العزيز 8 / 99، والمجموع 9 / 162 - 163، مجمع الأنهر 2 / 5، والبحر الرائق 5 / 291، وإحياء علوم الدين 2 / 69، والغاية القصوى 1 / 457، والمحلى 9 / 294(22/236)
دَلاَلَةُ الْكِتَابَةِ عَلَى الرِّضَا:
18 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْكِتَابَ كَالْخِطَابِ فِي دَلاَلَتِهِ عَلَى الرِّضَا سَوَاءٌ أَكَانَ بَيْنَ الْحَاضِرِينَ أَمِ الْغَائِبِينَ، وَاسْتَثْنَوُا النِّكَاحَ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى عَدَمِ صَلاَحِيَةِ الْكِتَابَةِ لإِِنْشَاءِ الْعُقُودِ إِلاَّ لِلْعَاجِزِ عَنِ الْكَلاَمِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكِتَابَ كَالْخِطَابِ فِيمَا بَيْنَ الْغَائِبِينَ دُونَ الْحَاضِرِينَ (1) .
دَلاَلَةُ الإِْشَارَةِ عَلَى الرِّضَا:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِشَارَةَ الْعَاجِزِ عَنِ النُّطْقِ الْمَفْهُومَةَ هِيَ كَالْكَلاَمِ، وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ إِشَارَةَ النَّاطِقِ لاَ تَصْلُحُ إِيجَابًا أَوْ قَبُولاً فِي النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي إِشَارَةِ النَّاطِقِ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ فَهَل تُقْبَل دَلِيلاً عَلَيْهِ أَوْ لاَ؟ .
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ - مِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى عَدَمِ صَلاَحِيَةِ الإِْشَارَةِ وَحْدَهَا لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الرِّضَا بِالنِّسْبَةِ لِلنَّاطِقِ.
- وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْشَارَةَ كَاللَّفْظِ فِي غَيْرِ
__________
(1) فتح القدير 5 / 79، والفتاوى الهندية 3 / 9، وابن عابدين 4 / 512، والروضة 8 / 39، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 334(22/237)
النِّكَاحِ؛ لأَِنَّ الْعِبْرَةَ بِالرِّضَا فَمَا دَامَ قَدْ ظَهَرَ بِأَيَّةِ وَسِيلَةٍ فَلاَ بُدَّ أَنْ يُقْبَل، إِذْ لاَ دَلِيل عَلَى تَخْصِيصِ لَفْظٍ خَاصٍّ لَهُ (1) .
دَلاَلَةُ السُّكُوتِ عَلَى الرِّضَا:
20 - لاَ شَكَّ أَنَّ السُّكُوتَ السَّلْبِيَّ لاَ يَكُونُ دَلِيلاً عَلَى الرِّضَا أَوْ عَدَمِهِ، وَلِذَلِكَ تَقْضِي الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ: " لاَ يُسْنَدُ لِسَاكِتٍ قَوْلٌ، وَلَكِنَّ السُّكُوتَ فِي مَعْرِضِ الْحَاجَةِ بَيَانٌ (2) " وَذَلِكَ إِذَا صَاحَبَتْهُ قَرَائِنُ وَظُرُوفٌ بِحَيْثُ خَلَعَتْ عَلَيْهِ ثَوْبَ الدَّلاَلَةِ عَلَى الرِّضَا.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ دَلِيلٌ عَلَى الرِّضَا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْوَارِدِ، حَيْثُ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، قَالُوا يَا رَسُول اللَّهِ: وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَال: أَنْ تَسْكُتَ (3) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى الثَّيِّبُ أَحَقُّ
__________
(1) بدائع الصنائع 4 / 814، وفتح القدير 3 / 42، وبلغة السالك 2 / 166، والمجموع 9 / 171، والأشباه للسيوطي ص 338، والمنثور للزركشي 1 / 4، والمغني 7 / 239، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 343، وشرح الخرشي 5 / 5.
(2) مسائل السكوت للعلامة إبراهيم بن عمر، مخطوطة الأوقاف برقم (3529) ، ورقة (1) والأشباه والنظائر للسيوطي ص (158) ، والمنثور 2 / 205.
(3) حديث: " لا تنكح البكر حتى تستأذن " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 191 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1036 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(22/237)
بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا (1) .
__________
(1) حديث: " الثيب أحق بنفسها من وليها " أخرجه مسلم (2 / 1037 ط. الحلبي) .(22/238)
رَضَاعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّضَاعُ - بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا - فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ رَضَعَ أُمَّهُ يَرْضِعُهَا بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ رَضْعًا وَرَضَاعًا وَرَضَاعَةً أَيِ امْتَصَّ ثَدْيَهَا أَوْ ضَرْعَهَا وَشَرِبَ لَبَنَهُ. وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا فَهِيَ مُرْضِعٌ وَمُرْضِعَةٌ، وَهُوَ رَضِيعٌ.
وَالرَّضَاعُ فِي الشَّرْعِ: اسْمٌ لِوُصُول لَبَنِ امْرَأَةٍ أَوْ مَا حَصَل مِنْ لَبَنِهَا فِي جَوْفِ طِفْلٍ بِشُرُوطٍ تَأْتِي (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَضَانَةُ:
2 - هِيَ فِي اللُّغَةِ: الضَّمُّ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِضْنِ وَهُوَ الْجَنْبُ. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِضَمِّ الْحَاضِنَةِ الْمَحْضُونَ إِلَى جَنْبِهَا (2) .
__________
(1) المعجم الوسيط والمصباح وابن عابدين 2 / 403، نهاية المحتاج 7 / 172، أسنى المطالب 3 / 415، وهناك تعريفات أخرى لا تخرج عن هذا المعنى.
(2) المصباح المنير.(22/238)
وَشَرْعًا: حِفْظُ مَنْ لاَ يَسْتَقِل بِأُمُورِهِ وَتَرْبِيَتُهُ بِمَا يُصْلِحُهُ (1) .
وَالْحَاضِنَةُ قَدْ تَكُونُ هِيَ الْمُرْضِعَةَ، وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَهَا.
دَلِيل مَشْرُوعِيَّةِ الرَّضَاعِ:
3 - الأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّتِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ (2) } وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (3) } .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
أَوَّلاً: حُكْمُ الإِْرْضَاعِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ إِرْضَاعُ الطِّفْل مَا دَامَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ، وَفِي سِنِّ الرَّضَاعِ (4) .
وَاخْتَلَفُوا فِي مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ. فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ عَلَى الأَْبِ اسْتِرْضَاعُ وَلَدِهِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الأُْمِّ الإِْرْضَاعُ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ إِجْبَارُهَا عَلَيْهِ، دَنِيئَةً كَانَتْ أَمْ شَرِيفَةً، فِي عِصْمَةِ الأَْبِ كَانَتْ أَمْ بَائِنَةً مِنْهُ، إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَتْ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 643، ونهاية المحتاج 7 / 187.
(2) سورة البقرة / 233.
(3) سورة الطلاق / 6.
(4) المغني 7 / 627، نهاية المحتاج 7 / 222، أسنى المطالب 3 / 445، ابن عابدين 2 / 675، حاشية الدسوقي 2 / 525.(22/239)
بِأَنْ لَمْ يَجِدِ الأَْبُ مَنْ تُرْضِعُ لَهُ غَيْرَهَا، أَوْ لَمْ يَقْبَل الطِّفْل ثَدْيَ غَيْرِهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ لِلأَْبِ وَلاَ لِلطِّفْل مَالٌ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا حِينَئِذٍ، وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: يَجِبُ عَلَى الأُْمِّ إِرْضَاعُ الطِّفْل اللِّبَأَ وَإِنْ وُجِدَ غَيْرُهَا، وَاللِّبَأُ مَا يَنْزِل بَعْدَ الْوِلاَدَةِ مِنَ اللَّبَنِ؛ لأَِنَّ الطِّفْل لاَ يَسْتَغْنِي عَنْهُ غَالِبًا، وَيُرْجَعُ فِي مَعْرِفَةِ مُدَّةِ بَقَائِهِ لأَِهْل الْخِبْرَةِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الأُْمِّ دِيَانَةً لاَ قَضَاءً (2) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِ الاِسْتِرْضَاعِ عَلَى الأَْبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (3) } .
وَإِنِ اخْتَلَفَا فَقَدْ تَعَاسَرَا، وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلأَِنَّ إِجْبَارَ الأُْمِّ عَلَى الرَّضَاعِ لاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِحَقِّ الْوَلَدِ، أَوْ لِحَقِّ الزَّوْجِ، أَوْ لَهُمَا: لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِحَقِّ الزَّوْجِ، لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ إِجْبَارَهَا عَلَى رَضَاعِ وَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهَا، وَلاَ عَلَى خِدْمَةِ نَفْسِهِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِحَقِّ الْوَلَدِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ لِحَقِّهِ لَلَزِمَهَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ؛ وَلأَِنَّ الرَّضَاعَ مِمَّا يَلْزَمُ الْوَالِدَ لِوَلَدِهِ، فَلَزِمَ الأَْبَ عَلَى الْخُصُوصِ كَالنَّفَقَةِ، أَوْ كَمَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ.
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 445، نهاية المحتاج 7 / 221 - 222
(2) المصادر السابقة.
(3) سورة الطلاق / 6.(22/239)
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا؛ لأَِنَّ مَا لاَ مُنَاسَبَةَ فِيهِ لاَ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِانْضِمَامِ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُمَا لَثَبَتَ الْحُكْمُ بِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ. وقَوْله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ (1) } مَحْمُولٌ عَلَى حَال الاِتِّفَاقِ وَعَدَمِ التَّعَاسُرِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ الرَّضَاعُ عَلَى الأُْمِّ بِلاَ أُجْرَةٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُرْضِعُ مِثْلُهَا، وَكَانَتْ فِي عِصْمَةِ الأَْبِ، وَلَوْ حُكْمًا كَالرَّجْعِيَّةِ، أَمَّا الْبَائِنُ مِنَ الأَْبِ، وَالشَّرِيفَةُ الَّتِي لاَ يُرْضِعُ مِثْلُهَا فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهَا الرَّضَاعُ، إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَتِ الأُْمُّ لِذَلِكَ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} .
وَقَالُوا: اسْتَثْنَى الَّتِي لاَ يُرْضِعُ مِثْلُهَا مِنْ عُمُومِ الآْيَةِ لأَِصْلٍ مِنْ أُصُول الْفِقْهِ وَهُوَ: الْعَمَل بِالْمَصْلَحَةِ، وَلأَِنَّ الْعُرْفَ عَدَمُ تَكْلِيفِهَا بِالرَّضَاعِ فَهُوَ كَالشَّرْطِ (3) .
حَقُّ الأُْمِّ فِي الرَّضَاعِ:
5 - إِنْ رَغِبَتِ الأُْمُّ فِي إِرْضَاعِ وَلَدِهَا أُجِيبَتْ وُجُوبًا.
سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُطَلَّقَةً، أَمْ فِي عِصْمَةِ الأَْبِ عَلَى
__________
(1) سورة البقرة / 233.
(2) المغني 7 / 627.
(3) الفواكه الدواني 2 / 100، حاشية الدسوقي 2 / 525.(22/240)
قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا (1) } .
وَالْمَنْعُ مِنْ إِرْضَاعِ وَلَدِهَا مُضَارَّةٌ لَهَا؛ وَلأَِنَّهَا أَحْنَى عَلَى الْوَلَدِ وَأَشْفَقُ، وَلَبَنُهَا أَمْرَأُ وَأَنْسَبُ لَهُ غَالِبًا. وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنَ الإِْرْضَاعِ سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ (2) .
حَقُّ الأُْمِّ فِي أُجْرَةِ الرَّضَاعِ:
6 - لِلأُْمِّ طَلَبُ أُجْرَةِ الْمِثْل بِالإِْرْضَاعِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي عِصْمَةِ الأَْبِ أَمْ خَلِيَّةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (3) } وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (4) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَتْ فِي عِصْمَةِ الأَْبِ أَوْ فِي عِدَّتِهِ فَلَيْسَ لَهَا طَلَبُ الأُْجْرَةِ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهَا الرَّضَاعَ دِيَانَةً مُقَيَّدًا بِإِيجَابِ رِزْقِهَا عَلَى الأَْبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (5) } ، وَهُوَ قَائِمٌ بِرِزْقِهَا حَالَةَ بَقَائِهَا فِي عِصْمَتِهِ أَوْ فِي عِدَّتِهِ، بِخِلاَفِ مَنْ لَمْ تَكُنْ فِي عِصْمَتِهِ وَلاَ فِي عِدَّتِهِ،
__________
(1) سورة البقرة / 233.
(2) المغني 7 / 627، نهاية المحتاج 7 / 222، أسنى المطالب 3 / 45، حاشية الدسوقي 2 / 526، ابن عابدين 2 / 657 - 676
(3) سورة الطلاق / 6.
(4) المصادر السابقة.
(5) سورة البقرة / 233.(22/240)
فَتَقُومُ الأُْجْرَةُ مَقَامَ الرِّزْقِ؛ وَلأَِنَّ إِلْزَامَ الْبَائِنِ بِالإِْرْضَاعِ مَجَّانًا مَعَ انْقِطَاعِ نَفَقَتِهَا عَنِ الأَْبِ مُضَارَّةٌ لَهَا، فَسَاغَ لَهَا أَخْذُ الأُْجْرَةِ بِالرَّضَاعِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ (1) . وَقَال تَعَالَى: {لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا (2) } فَإِنْ طَلَبَتِ الأُْمُّ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل وَوَجَدَ الأَْبُ مَنْ تُرْضِعُ لَهُ مَجَّانًا أَوْ بِأُجْرَةِ الْمِثْل جَازَ لَهُ انْتِزَاعُهُ مِنْهَا، لأَِنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا بِطَلَبِهَا مَا لَيْسَ لَهَا، فَدَخَلَتْ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (3) } .
وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الأَْبُ مَنْ تُرْضِعُ لَهُ بِأَقَل مِمَّا طَلَبَتْهُ الأُْمُّ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهَا فِي الرَّضَاعِ؛ لأَِنَّهَا تَسَاوَتْ مَعَ غَيْرِهَا فِي الأُْجْرَةِ فَصَارَتْ أَحَقَّ بِهَا، كَمَا لَوْ طَلَبَتْ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أُجْرَةَ الْمِثْل (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الأُْمُّ مِمَّنْ يُرْضِعُ مِثْلُهَا وَكَانَتْ فِي عِصْمَةِ الأَْبِ فَلَيْسَ لَهَا طَلَبُ الأُْجْرَةِ بِالإِْرْضَاعِ؛ لأَِنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَهُ عَلَيْهَا فَلاَ تَسْتَحِقُّ بِوَاجِبٍ أُجْرَةً. أَمَّا الشَّرِيفَةُ الَّتِي لاَ يُرْضِعُ مِثْلُهَا، وَالْمُطَلَّقَةُ مِنَ الأَْبِ، فَلَهَا طَلَبُ الأُْجْرَةِ، وَإِنْ تَعَيَّنَتْ لِلرَّضَاعِ أَوْ وَجَدَ الأَْبُ مَنْ تُرْضِعُ لَهُ مَجَّانًا (5) .
__________
(1) المصادر السابقة وابن عابدين 2 / 675.
(2) سورة البقرة / 233.
(3) سورة الطلاق / 6.
(4) أسنى المطالب 3 / 455، المغني 7 / 627، ابن عابدين 2 / 675.
(5) حاشية الدسوقي 2 / 526، الفواكه الدواني 2 / 101.(22/241)
ثَانِيًا: الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الرَّضَاعِ:
7 - يَتَرَتَّبُ عَلَى الرَّضَاعِ بَعْضُ أَحْكَامِ النَّسَبِ:
أ - تَحْرِيمُ النِّكَاحِ سَوَاءٌ حَصَل الرَّضَاعُ فِي زَمَنِ إِسْلاَمِ الْمَرْأَةِ أَوْ كُفْرِهَا؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ (1) . وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ.
ب - ثُبُوتُ الْمَحْرَمِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِجَوَازِ النَّظَرِ، وَالْخَلْوَةِ، وَعَدَمِ نَقْضِ الطَّهَارَةِ بِاللَّمْسِ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا سَائِرُ أَحْكَامِ النَّسَبِ كَالْمِيرَاثِ، وَالنَّفَقَةِ، وَالْعِتْقِ بِالْمِلْكِ، وَسُقُوطِ الْقِصَاصِ، وَعَدَمِ الْقَطْعِ فِي سَرِقَةِ الْمَال، وَعَدَمِ الْحَبْسِ لِدَيْنِ الْوَلَدِ، وَالْوِلاَيَةِ عَلَى الْمَال أَوِ النَّفْسِ فَلاَ تَثْبُتُ بِالرَّضَاعِ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (2) .
الرَّضَاعُ الْمُحَرِّمُ، وَدَلِيل التَّحْرِيمِ:
8 - لِلرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ ثَلاَثَةُ أَرْكَانٍ:
1 - الْمُرْضِعُ
2 - الرَّضِيعُ
3 - اللَّبَنُ.
__________
(1) حديث: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 253 - ط السلفية) ، ومسلم (1072 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.
(2) أسنى المطالب 3 / 415، قليوبي 4 / 62، روضة الطالبين 9 / 3، المغني 7 / 535، كشاف القناع 5 / 442.(22/241)
أَوَّلاً: الْمُرْضِعُ:
9 - يُشْتَرَطُ فِي الْمُرْضِعِ الَّتِي يَنْتَشِرُ بِلَبَنِهَا التَّحْرِيمُ:
1 - أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً، فَلاَ يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ بِلَبَنِ الرَّجُل لِنُدْرَتِهِ وَعَدَمِ صَلاَحِيَتِهِ غِذَاءً لِلطِّفْل، وَلاَ بِلَبَنِ الْبَهِيمَةِ، فَلَوِ ارْتَضَعَ طِفْلاَنِ مِنْ بَهِيمَةٍ لَمْ يَصِيرَا أَخَوَيْنِ؛ لأَِنَّ تَحْرِيمَ الأُْخُوَّةِ فَرْعٌ عَلَى تَحْرِيمِ الأُْمُومَةِ، وَلاَ يَثْبُتُ تَحْرِيمُ الأُْمُومَةِ بِهَذَا الرَّضَاعِ فَالأُْخُوَّةُ أَوْلَى (1) .
2 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنْ تَكُونَ مُحْتَمِلَةً لِلْوِلاَدَةِ بِأَنْ تَبْلُغَ سِنَّ الْحَيْضِ وَهُوَ تِسْعُ سِنِينَ، فَلَوْ ظَهَرَ لَبَنُ الصَّغِيرَةِ دُونَ تِسْعِ سِنِينَ فَلاَ يُحَرِّمُ، بِخِلاَفِ مَنْ بَلَغَتْ هَذِهِ السِّنَّ؛ لأَِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُتَيَقَّنْ بُلُوغُهَا بِالْحَيْضِ فَاحْتِمَال الْبُلُوغِ قَائِمٌ، وَالرَّضَاعُ تِلْوُ النَّسَبِ فَاكْتُفِيَ فِيهِ بِالاِحْتِمَال، وَلاَ يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ فَيُحَرِّمُ عِنْدَهُمْ لَبَنُ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لاَ تَحْتَمِل الْوَطْءَ (2) .
التَّحْرِيمُ بِلَبَنِ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ:
10 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى التَّحْرِيمِ بِلَبَنِ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ كَمَا يُحَرِّمُ لَبَنُ الْحَيَّةِ؛ لأَِنَّهُ وُجِدَ الاِرْتِضَاعُ
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 3، والقليوبي 4 / 62، ونهاية المحتاج 7 / 172، وابن عابدين 2 / 403، وحاشية الدسوقي 2 / 502.
(2) نهاية المحتاج 7 / 172، ابن عابدين 2 / 403، حاشية الدسوقي 2 / 502.(22/242)
عَلَى وَجْهٍ يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَيُنْشِزُ الْعَظْمَ مِنَ امْرَأَةٍ فَأَثْبَتَ التَّحْرِيمَ كَمَا لَوْ كَانَتْ حَيَّةً؛ وَلأَِنَّهُ لاَ فَارِقَ بَيْنَ شُرْبِ لَبَنِهَا فِي حَيَاتِهَا، وَشُرْبِهِ بَعْدَ مَوْتِهَا، إِلاَّ الْحَيَاةَ أَوِ النَّجَاسَةَ، وَهَذَا لاَ أَثَرَ لَهُ؛ لأَِنَّ اللَّبَنَ لاَ يَمُوتُ، وَلاَ أَثَرَ لِلنَّجَاسَةِ أَيْضًا، كَمَا لَوْ حُلِبَ بِإِنَاءٍ نَجِسٍ؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ حُلِبَ مِنْهَا فِي حَيَاتِهَا فَشَرِبَهُ بَعْدَ مَوْتِهَا تَنْتَشِرُ الْحُرْمَةُ بِالاِتِّفَاقِ؛ وَلأَِنَّ ثَدْيَهَا لاَ يَزِيدُ عَلَى الإِْنَاءِ فِي عَدَمِ الْحَيَاةِ، وَهِيَ لاَ تَزِيدُ عَلَى عَظْمِ الْمَيِّتَةِ فِي ثُبُوتِ النَّجَاسَةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْمُرْضِعُ حَيَّةً حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً عِنْدَ انْفِصَال اللَّبَنِ مِنْهَا، فَلاَ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِلَبَنٍ انْفَصَل عَنْ مَيِّتَةٍ كَمَا لاَ تَثْبُتُ الْمُصَاهَرَةُ بِوَطْئِهَا، وَلِضَعْفِ حُرْمَتِهِ بِمَوْتِهَا؛ وَلأَِنَّهُ مِنْ جُثَّةٍ مُنْفَكَّةٍ عَنِ الْحِل وَالْحَرَامِ، كَالْبَهِيمَةِ، وَإِنِ انْفَصَل اللَّبَنُ فِي حَيَاتِهَا فَأَوْجَرَ الطِّفْل بَعْدَ مَوْتِهَا حَرَّمَ بِالاِتِّفَاقِ (2) .
تَقَدُّمُ الْحَمْل عَلَى الرَّضَاعِ:
11 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِلَبَنِ الْمَرْأَةِ أَنْ يَتَقَدَّمَ حَمْلٌ. فَيُحَرِّمُ لَبَنُ الْبِكْرِ الَّتِي لَمْ تُوطَأْ وَلَمْ تَحْبَل قَطُّ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ
__________
(1) المغني 7 / 540 - 541، الفواكه الدواني 2 / 88، حاشية الدسوقي 2 / 502، ابن عابدين 2 / 403.
(2) القليوبي 4 / 62، نهاية المحتاج 7 / 172، أسنى المطالب 3 / 415.(22/242)
اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ (1) } ، وَلأَِنَّهُ لَبَنُ امْرَأَةٍ فَتَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ (2) . وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَعَلَيْهِ الْمَذْهَبُ أَنَّ لَبَنَ الْبِكْرِ لاَ يَنْشُرُ التَّحْرِيمَ؛ لأَِنَّهُ نَادِرٌ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ لِلتَّغْذِيَةِ (3) .
ثَانِيًا: اللَّبَنُ:
12 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَصِل اللَّبَنُ إِلَى جَوْفِ الطِّفْل بِمَصٍّ مِنَ الثَّدْيِ، أَوْ إِيجَارٍ مِنَ الْحَلْقِ، أَوْ إِسْعَاطٍ مِنَ الأَْنْفِ، سَوَاءٌ كَانَ اللَّبَنُ صِرْفًا أَوْ مَشُوبًا بِمَائِعٍ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى اللَّبَنِ، بِأَنْ كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا، بِأَنْ كَانَتْ صِفَاتُهُ بَاقِيَةً.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُخَالِطُ نَجَسًا كَالْخَمْرِ وَأَنْ يَكُونَ طَاهِرًا كَالْمَاءِ وَلَبَنِ الشَّاةِ (4) .
12 م - أَمَّا إِنْ كَانَ اللَّبَنُ مَغْلُوبًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِهِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ اللَّبَنَ الْمَغْلُوبَ لاَ يُؤَثِّرُ فِي التَّحْرِيمِ؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ لِلأَْغْلَبِ، وَلأَِنَّ اسْمَ اللَّبَنِ يَزُول بِغَلَبَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ (5) .
__________
(1) سورة النساء / 23.
(2) المصادر السابقة وكفاية الأخيار 2 / 85، نهاية المحتاج 7 / 172، الوجيز 2 / 105
(3) كشاف القناع 5 / 444، المغني 7 / 540.
(4) القليوبي 4 / 62 - 63، المغني 7 / 540 - 545، حاشية الدسوقي 2 / 502، أسنى المطالب 3 / 514، ابن عابدين 2 / 402 - 408، كشاف القناع 5 / 444، 445، بدائع الصنائع 4 / 8.
(5) شرح الدسوقي 2 / 503، شرح الزرقاني 4 / 239، المغني 7 / 539، كشاف القناع 5 / 447، ابن عابدين 2 / 409، بدائع الصنائع 4 / 9.(22/243)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ مَغْلُوبًا، بِأَنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ صِفَاتِهِ شَيْءٌ، بِشَرْطِ أَنْ يَشْرَبَ الطِّفْل الْجَمِيعَ أَوْ يَشْرَبَ بَعْضَهُ، إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّ اللَّبَنَ قَدْ وَصَل إِلَى الْجَوْفِ بِأَنْ بَقِيَ مِنْهُ أَقَل مِنْ قَدْرِ اللَّبَنِ، وَأَنْ يَكُونَ اللَّبَنُ مِقْدَارًا لَوِ انْفَرَدَ لأََثَّرَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: اللَّبَنُ الْمَشُوبُ كَالْمَحْضِ فِي إِثْبَاتِ التَّحْرِيمِ بِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالْمَشُوبُ هُوَ الْمُخْتَلِطُ بِغَيْرِهِ، وَالْمَحْضُ هُوَ الْخَالِصُ الَّذِي لاَ يُخَالِطُهُ سِوَاهُ، سَوَاءٌ شِيبَ بِطَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ غَالِبًا أَوْ مَغْلُوبًا، وَقَال أَبُو بَكْرٍ: قِيَاسُ قَوْل أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يُحَرِّمُ؛ لأَِنَّهُ وَجُورٌ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ حَامِدٍ أَنَّهُ قَال: إِنْ كَانَ الْغَالِبُ اللَّبَنَ حَرَّمَ وَإِلاَّ فَلاَ؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ لِلأَْغْلَبِ؛ وَلأَِنَّهُ يَزُول بِكَوْنِهِ مَغْلُوبًا الاِسْمُ وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ بِهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَوَجْهُ الأَْوَّل أَنَّ اللَّبَنَ الْمَغْلُوبَ مَتَى كَانَ لَوْنُهُ ظَاهِرًا فَقَدْ حَصَل شُرْبُهُ وَيَحْصُل مِنْهُ إِنْبَاتُ اللَّحْمِ وَإِنْشَازُ الْعَظْمِ فَحَرَّمَ، كَمَا لَوْ كَانَ غَالِبًا، وَهَذَا فِيمَا إِذَا كَانَتْ صِفَاتُ اللَّبَنِ بَاقِيَةً.
فَأَمَّا إِنْ صُبَّ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ التَّحْرِيمُ؛ لأَِنَّ هَذَا لَيْسَ بِلَبَنٍ مَشُوبٍ وَلاَ يَحْصُل بِهِ التَّغَذِّي وَلاَ إِنْبَاتُ اللَّحْمِ وَلاَ إِنْشَازُ الْعَظْمِ فَلَيْسَ بِرَضَاعٍ وَلاَ فِي مَعْنَاهُ، فَوَجَبَ أَنْ لاَ يَثْبُتَ حُكْمُهُ فِيهِ. وَحُكِيَ عَنِ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 172 - 173، روضة الطالبين 9 / 4.(22/243)
الْقَاضِي أَنَّ التَّحْرِيمَ يَثْبُتُ بِهِ أَيْضًا لأَِنَّ أَجْزَاءَ اللَّبَنِ حَصَلَتْ فِي بَطْنِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ لَوْنُهُ ظَاهِرًا (1) .
13 - كَمَا اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِاللَّبَنِ الْمَخْلُوطِ بِطَعَامٍ وَالْمُتَغَيِّرَةِ هَيْئَتُهُ بِأَنْ يَصِيرَ جُبْنًا أَوْ مَخِيضًا، أَوْ إِقْطًا.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ يَثْبُتُ بِهِ لِوُصُول عَيْنِ اللَّبَنِ إِلَى جَوْفِ الطِّفْل، وَحُصُول التَّغْذِيَةِ بِهِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَأْثِيرَ لِلَّبَنِ الْمَخْلُوطِ بِطَعَامٍ وَلاَ الْمُتَغَيِّرِ هَيْئَتُهُ، وَلاَ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ لأَِنَّ اسْمَ الرَّضَاعِ لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ (2) .
اشْتِرَاطُ تَعَدُّدِ الرَّضَعَاتِ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَصَاعِدًا يُحَرِّمْنَ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَهَا.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ) وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ قَلِيل الرَّضَاعِ وَكَثِيرَهُ يُحَرِّمُ وَإِنْ كَانَ مَصَّةً وَاحِدَةً، فَالشَّرْطُ فِي التَّحْرِيمِ أَنْ يَصِل اللَّبَنُ إِلَى جَوْفِ الطِّفْل مَهْمَا كَانَ قَدْرُهُ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ (3) } .
وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِاسْمِ الرَّضَاعِ، فَحَيْثُ وُجِدَ وُجِدَ حُكْمُهُ،
__________
(1) المغني 8 / 539، 540
(2) المصادر السابقة.
(3) سورة النساء / 23.(22/244)
وَوَرَدَ الْحَدِيثُ مُوَافِقًا لِلآْيَةِ: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ (1) حَيْثُ أَطْلَقَ الرَّضَاعَ وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا، وَلِحَدِيثِ كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا (2) وَلَمْ يَسْتَفْصِل عَنْ عَدَدِ الرَّضَعَاتِ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْقَوْل الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ مَا دُونَ خَمْسِ رَضَعَاتٍ لاَ يُؤَثِّرُ فِي التَّحْرِيمِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِل مِنَ الْقُرْآنِ (عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ) ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ (4) .
وَالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ نَسْخَ تِلاَوَةِ ذَلِكَ تَأَخَّرَ جِدًّا حَتَّى إِنَّهُ تُوُفِّيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْضُ النَّاسِ لَمْ يَبْلُغْهُ نَسْخُ تِلاَوَتِهِ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ نَسْخُ تِلاَوَتِهِ تَرَكُوهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُتْلَى مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهِ،
__________
(1) حديث: " يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " تقدم تخريجه ف / 7.
(2) حديث: " كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما؟ " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 152 - ط السلفية) من حديث عقبة بن الحارث.
(3) بدائع الصنائع 4 / 8، الفواكه الدواني 2 / 88، حاشية الدسوقي 2 / 502، كشاف القناع 5 / 445 - 446، بداية المجتهد 2 / 31.
(4) حديث عائشة: " كان فيما أنزل من القرآن " أخرجه مسلم (2 / 1075 - ط الحلبي) .(22/244)
وَهُوَ مِنْ نَسْخِ التِّلاَوَةِ دُونَ الْحُكْمِ، وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ النَّسْخِ.
15 - وَلاَ يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُ صِفَاتِ اللَّبَنِ وَطُرُقِ وُصُولِهِ إِلَى الْمَعِدَةِ. فَإِنْ مَصَّهُ مِنَ الثَّدْيِ مَرَّةً، وَشَرِبَ مِنْ إِنَاءٍ مَرَّةً، وَأَوْجَرَ مِنْ حَلْقِهِ مَرَّةً، وَأَكَلَهُ جُبْنًا مَرَّةً بِحَيْثُ تَمَّ لَهُ خَمْسُ مَرَّاتٍ أَثَّرَ فِي التَّحْرِيمِ.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الرَّضَعَاتُ مُتَفَرِّقَاتٍ عِنْدَ مَنْ يَرَى اشْتِرَاطَ تَعَدُّدِ الرَّضَعَاتِ.
وَالْمُعْتَمَدُ فِي التَّعَدُّدِ وَالتَّفَرُّقِ هُوَ الْعُرْفُ إِذْ لاَ ضَابِطَ لَهُ فِي اللُّغَةِ، وَلاَ فِي الشَّرْعِ.
وَالرُّجُوعُ فِي الرَّضْعَةِ وَالرَّضَعَاتِ إِلَى الْعُرْفِ، وَمَا تَنْزِل عَلَيْهِ الأَْيْمَانُ فِي ذَلِكَ، وَمَتَى تَخَلَّل فَصْلٌ طَوِيلٌ تَعَدَّدَ.
وَلَوِ ارْتَضَعَ ثُمَّ قَطَعَ إِعْرَاضًا، وَاشْتَغَل بِشَيْءٍ آخَرَ، ثُمَّ عَادَ وَارْتَضَعَ، فَهُمَا رَضْعَتَانِ، وَلَوْ قَطَعَتِ الْمُرْضِعَةُ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الإِْرْضَاعِ، فَهُمَا رَضْعَتَانِ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الصَّبِيُّ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلاَ يَحْصُل التَّعَدُّدُ بِأَنْ يَلْفِظَ الثَّدْيَ، ثُمَّ يَعُودَ إِلَى الْتِقَامِهِ فِي الْحَال، وَلاَ بِأَنْ يَتَحَوَّل مِنْ ثَدْيٍ إِلَى ثَدْيٍ، أَوْ تَحَوُّلِهِ لِنَفَادِ مَا فِي الأَْوَّل، وَلاَ بِأَنْ يَلْهُوَ عَنْ الاِمْتِصَاصِ، وَالثَّدْيُ فِي فَمِهِ، وَلاَ بِأَنْ يَقْطَعَ التَّنَفُّسَ، وَلاَ بِأَنْ يَتَخَلَّل النَّوْمَةُ الْخَفِيفَةُ، وَلاَ بِأَنْ تَقُومَ وَتَشْتَغِل بِشُغْلٍ خَفِيفٍ،(22/245)
ثُمَّ تَعُودَ إِلَى الإِْرْضَاعِ، فَكُل ذَلِكَ رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ (1) .
ثَالِثًا: الرَّضِيعُ:
أ - أَنْ يَصِل اللَّبَنُ إِلَى الْمَعِدَةِ:
16 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَصِل اللَّبَنُ إِلَى الْمَعِدَةِ بِارْتِضَاعٍ أَوْ إِيجَارٍ أَوْ إِسْعَاطٍ وَإِنْ كَانَ الطِّفْل نَائِمًا؛ لأَِنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي التَّحْرِيمِ هُوَ حُصُول الْغِذَاءِ بِاللَّبَنِ وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ وَإِنْشَازِ الْعَظْمِ وَسَدِّ الْمَجَاعَةِ لِتَتَحَقَّقَ الْجُزْئِيَّةُ، وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ إِلاَّ بِمَا وَصَل إِلَى الْمَعِدَةِ.
أَمَّا الإِْقْطَارُ فِي الأُْذُنِ أَوِ الإِْحْلِيل، أَوِ الْحُقْنَةُ فِي الدُّبُرِ فَلاَ يَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ (2) .
ب - أَلاَّ يَبْلُغَ الرَّضِيعُ حَوْلَيْنِ:
17 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ ارْتِضَاعَ الطِّفْل وَهُوَ دُونَ الْحَوْلَيْنِ يُؤَثِّرُ فِي التَّحْرِيمِ.
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ الأَْصَحُّ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ مُدَّةَ الرَّضَاعِ الْمُؤَثِّرِ فِي التَّحْرِيمِ حَوْلاَنِ، فَلاَ يُحَرِّمُ بَعْدَ حَوْلَيْنِ. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 417، نهاية المحتاج 7 / 176، سبل السلام 3 / 216، القليوبي 4 / 63، المغني 7 / 535 - 536، كشاف القناع 5 / 445، روضة الطالبين 9 / 7.
(2) روضة الطالبين 9 / 6، القليوبي 4 / 63، 64، بدائع الصنائع 4 / 19، أسنى المطالب 3 / 416، المغني 7 / 513، كشاف القناع 5 / 445، حاشية الدسوقي 2 / 503) ، قال المالكية: يؤثر الحقنة في الدبر.(22/245)
يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ (1) } ، وَقَالُوا: جَعَل اللَّهُ الْحَوْلَيْنِ الْكَامِلَيْنِ تَمَامَ الرَّضَاعَةِ، وَلَيْسَ وَرَاءَ تَمَامِ الرَّضَاعَةِ شَيْءٌ. وَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ (2) } وَقَال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا (3) } وَأَقَل الْحَمْل سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَتَبْقَى مُدَّةُ الْفِصَال حَوْلَيْنِ؛ وَلِحَدِيثِ: لاَ رَضَاعَ إِلاَّ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ (4) . وَلِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا لاَ يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلاَّ مَا فَتَقَ الأَْمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ وَكَانَ قَبْل الْفِطَامِ (5) .
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إِلَى أَنَّ إِرْضَاعَ الْكَبِيرِ يُحَرِّمُ ". وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ لِعَائِشَةَ: إِنَّهُ يَدْخُل عَلَيْكِ الْغُلاَمُ الأَْيْفَعُ الَّذِي مَا أُحِبُّ أَنْ يَدْخُل عَلَيَّ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا لَكِ فِي رَسُول اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ . قَالَتْ: إِنَّ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ قَالَتْ يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّ سَالِمًا يَدْخُل عَلَيَّ
__________
(1) سورة البقرة / 233.
(2) سورة لقمان / 14.
(3) سورة الأحقاف / 15.
(4) حديث: " لا رضاع إلا ما كان في الحولين " أخرجه الدارقطني (4 / 17 - ط. دار المحاسن) من حديث ابن عباس، وصوب الدارقطني وقفه.
(5) حديث: " لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء " أخرجه الترمذي (3 / 449 - ط الحلبي) من حديث أم سلمة، وقال: " حديث حسن صحيح ".(22/246)
وَهُوَ رَجُلٌ، وَفِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْضِعِيهِ حَتَّى يَدْخُل عَلَيْكِ وَفِي رِوَايَةٍ لِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ قَال: أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ (1) فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخَذَتْ بِهِ عَائِشَةُ، وَأَبَى غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذْنَ بِهِ، مَعَ أَنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ عَنْهُ قَال: الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ (2) لَكِنَّهَا رَأَتِ الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ رَضَاعَةً أَوْ تَغْذِيَةً. فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ الثَّانِيَ لَمْ يُحَرِّمْ إِلاَّ مَا كَانَ قَبْل الْفِطَامِ،
وَهَذَا هُوَ إِرْضَاعُ عَامَّةِ النَّاسِ. وَأَمَّا الأَْوَّل فَيَجُوزُ إِنِ احْتِيجَ إِلَى جَعْلِهِ ذَا مَحْرَمٍ.
وَقَدْ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ مَا لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِهَا، وَهَذَا قَوْلٌ مُتَوَجِّهٌ.
وَقَال: رَضَاعُ الْكَبِيرِ تَنْتَشِرُ بِهِ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّ الدُّخُول وَالْخَلْوَةِ إِذَا كَانَ قَدْ تَرَبَّى فِي الْبَيْتِ بِحَيْثُ لاَ يَحْتَشِمُونَ مِنْهُ لِلْحَاجَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ وَعَطَاءٍ وَاللَّيْثِ (3) .
__________
(1) حديث: " أرضعيه حتى يدخل عليك " أخرجه مسلم (2 / 1077 - ط الحلبي) ، ورواية مالك في الموطأ (2 / 605 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " الرضاعة من المجاعة " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 146 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1078 - ط الحلبي) .
(3) بدائع الصنائع 4 / 6، وابن عابدين 2 / 403، والمغني 7 / 542، وكشاف القناع 5 / 445، ونهاية المحتاج 7 / 166، 175، وأسنى المطالب 3 / 416، والقليوبي 4 / 63، وحاشية الدسوقي 2 / 503، والفواكه الدواني 2 / 88، ومجموع فتاوى ابن تيمية 34 / 60، والاختيارات 283، والإنصاف 9 / 334.(22/246)
18 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي التَّحْرِيمِ أَنْ يَرْتَضِعَ فِي حَوْلَيْنِ أَوْ بِزِيَادَةِ شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ، وَأَلاَّ يُفْطَمَ قَبْل انْتِهَاءِ الْحَوْلَيْنِ فِطَامًا يَسْتَغْنِي فِيهِ بِالطَّعَامِ عَنِ اللَّبَنِ، فَإِنْ فُطِمَ وَاسْتَغْنَى بِالطَّعَامِ عَنِ اللَّبَنِ ثُمَّ رَضَعَ فِي الْحَوْلَيْنِ فَلاَ يُحَرِّمُ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: مُدَّةُ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ حَوْلاَنِ وَنِصْفٌ وَلاَ يُحَرِّمُ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، سَوَاءٌ أَفُطِمَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ أَمْ لَمْ يُفْطَمْ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ (2) } قَال: فَأَثْبَتَ سُبْحَانَهُ الْحُرْمَةَ بِالرَّضَاعِ مُطْلَقًا عَنِ التَّعَرُّضِ لِزَمَانِ الرَّضَاعِ، إِلاَّ أَنَّهُ قَامَ الدَّلِيل عَلَى أَنَّ زَمَانَ مَا بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ وَالنِّصْفِ لَيْسَ بِمُرَادٍ، فَيُعْمَل بِإِطْلاَقِهِ فِيمَا وَرَاءَهُ (3) . وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا (4) } أَيْ: وَمُدَّةُ كُلٍّ مِنْهُمَا ثَلاَثُونَ شَهْرًا.
تَحْرِيمُ النِّكَاحِ بِالرَّضَاعِ:
1 - مَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّضِيعِ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) سورة النساء / 23.
(3) المراجع السابقة.
(4) سورة الأحقاف / 15.(22/247)
الرَّضِيعِ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ يَحْرُمْنَ عَلَيْهِ مِنَ النَّسَبِ وَهُنَّ السَّبْعُ اللاَّتِي ذُكِرْنَ فِي آيَةِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ (1) } وَهُنَّ الأُْمَّهَاتُ وَالْبَنَاتُ، وَالأَْخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ، وَالْخَالاَتُ وَبَنَاتُ الأَْخِ وَبَنَاتُ الأُْخْتِ. وَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُ الأُْمِّ وَالأُْخْتِ مِنَ الرَّضَاعِ بِنَصِّ الْكِتَابِ قَال تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ (2) } ، وَتَحْرِيمُ الْبِنْتِ بِالتَّبَعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا حُرِّمَتِ الأُْخْتُ فَالْبِنْتُ أَوْلَى.
أَمَّا سَائِرُ الْمَحَارِمِ فَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُهُنَّ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ (3) . وَثَبَتَتِ الْمَحْرَمِيَّةُ لأَِنَّهَا فَرْعٌ عَلَى التَّحْرِيمِ فَتُحَرَّمُ الْمُرْضِعَةُ عَلَى الرَّضِيعِ؛ لأَِنَّهَا أُمُّهُ، وَآبَاؤُهَا وَأُمَّهَاتُهَا مِنَ النَّسَبِ أَوِ الرَّضَاعِ أَجْدَادُهُ وَجَدَّاتُهُ. فَإِنْ كَانَ أُنْثَى حَرُمَ عَلَى الأَْجْدَادِ نِكَاحُهَا أَوْ ذَكَرًا حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ الْجَدَّاتِ. وَفُرُوعُ الْمُرْضِعَةِ مِنَ الرَّضَاعِ كَفُرُوعِهَا مِنَ النَّسَبِ، فَأَوْلاَدُهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ صَاحِبِ اللَّبَنِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ مَنْ تَقَدَّمَتْ وِلاَدَتُهُ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَتْ عَنْهُ لأَِنَّهُمْ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
__________
(1) سورة النساء / 23.
(2) سورة النساء / 23.
(3) حديث: " يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " تقدم تخريجه ف / 7.(22/247)
{وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ (1) } فَقَدْ أَثْبَتَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحُرْمَةَ وَالأُْخُوَّةَ بَيْنَ بَنَاتِ الْمُرْضِعَةِ وَبَيْنَ الرَّضِيعِ مُطْلَقًا، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أُخْتٍ وَأُخْتٍ، وَكَذَا بَنَاتُ بَنَاتِهَا، وَبَنَاتُ أَبْنَائِهَا، وَإِنْ سَفَلْنَ (2) .
2 - الْمُرْضِعَةُ:
20 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُرْضِعَةِ أَبْنَاءُ رَضِيعِهَا وَأَبْنَاءُ أَبْنَائِهِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَلاَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا أُصُولُهُ كَأَبِيهِ، وَجَدِّهِ، وَلاَ حَوَاشِيهِ كَإِخْوَتِهِ وَأَعْمَامِهِ وَأَخْوَالِهِ، فَيَجُوزُ لِهَؤُلاَءِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا الْمُرْضِعَةَ أَوْ بَنَاتِهَا أَوْ أَخَوَاتِهَا، فَالرَّضَاعَةُ لاَ تَنْشُرُ الْحُرْمَةَ إِلَى أُصُول الرَّضِيعِ وَحَوَاشِيهِ (3) .
3 - الْفَحْل صَاحِبُ اللَّبَنِ:
21 - إِنَّ صَاحِبَ اللَّبَنِ - وَهُوَ زَوْجُ الْمُرْضِعَةِ الَّتِي نَزَل لَهَا مِنْهُ اللَّبَنُ - وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ " لَبَنُ الْفَحْل " يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ، فَيَحْرُمُ عَلَى صَاحِبِ اللَّبَنِ مَنْ أَرْضَعَتْهَا زَوْجَتُهُ؛ لأَِنَّهَا ابْنَتُهُ مِنَ الرَّضَاعِ، وَتَحْرُمُ عَلَى أَبْنَائِهِ الَّذِينَ مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ، لأَِنَّهُمْ إِخْوَتُهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَأَبْنَاءُ بَنَاتِهِ
__________
(1) سورة النساء / 23.
(2) بدائع الصنائع 4 / 3 - 4، القليوبي 3 / 240 - 241، أسنى المطالب 3 / 149 - 418، حاشية الدسوقي 2 / 503، المغني 6 / 571، كشاف القناع 5 / 70.
(3) المصادر السابقة.(22/248)
مِنْ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ؛ لأَِنَّهُمْ أَبْنَاءُ إِخْوَتِهَا لأَِبٍ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَإِنْ أَرْضَعَتْ كُلٌّ مِنْ زَوْجَتَيْهِ طِفْلاً أَجْنَبِيًّا عَنِ الآْخَرِ فَقَدْ صَارَا أَخَوَيْنِ لأَِبٍ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَيَحْرُمُ التَّنَاكُحُ بَيْنَهُمَا إِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا أُنْثَى؛ لأَِنَّ بَيْنَهُمَا أُخُوَّةً لأَِبٍ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَتَحْرُمُ الرَّضِيعَةُ عَلَى آبَاءِ زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ؛ لأَِنَّهُمْ أَجْدَادُهَا مِنْ قِبَل الأَْبِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَعَلَى إِخْوَتِهِ؛ لأَِنَّهُمْ أَعْمَامُهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَأَخَوَاتُهُ عَمَّاتُ الرَّضِيعِ فَيَحْرُمْنَ عَلَيْهِ، وَلاَ حُرْمَةَ بَيْنَ صَاحِبِ اللَّبَنِ وَأُمَّهَاتِ الرَّضِيعِ وَأَخَوَاتِهِ مِنَ النَّسَبِ (1) .
22 - وَدَلِيل نَشْرِ الْحُرْمَةِ مِنْ صَاحِبِ اللَّبَنِ: مَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ بَعْدَ أَنْ نَزَل الْحِجَابُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لاَ آذَنُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ. فَدَخَل عَلَيَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ الرَّجُل لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ، فَقَال: ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَمِينُكِ (2) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 443، المغني 6 / 572، 7 / 541، بدائع الصنائع 4 / 3 - 4، أسنى المطالب 3 / 418، روضة الطالبين 9 / 15، بداية المجتهد 2 / 33، حاشية الدسوقي 2 / 502 - 503
(2) حديث عائشة قالت: " إن أفلح أخا أبي القعيس " أخرجه البخاري الفتح (9 / 338 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1069 - ط الحلبي) ، واللفظ لمسلم.(22/248)
وَقَال عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: حَرِّمُوا مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ (1) وَسُئِل ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فَأَرْضَعَتْ إِحْدَاهُمَا جَارِيَةً وَالأُْخْرَى غُلاَمًا هَل يَتَزَوَّجُ الْغُلاَمُ الْجَارِيَةَ؟ قَال: لاَ، اللِّقَاحُ وَاحِدٌ (2) .
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ بِلَبَنِ الْفَحْل سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَعَطَاءٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَأَبُو قِلاَبَةَ، وَيُرْوَى عَدَمُ التَّحْرِيمِ بِهِ أَيْضًا عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ (3) .
ثُبُوتُ الأُْبُوَّةِ وَلَوْ بَعْدَ الطَّلاَقِ أَوِ الْمَوْتِ:
23 - تَثْبُتُ الأُْبُوَّةُ بِاللَّبَنِ وَلَوْ بَعْدَ الطَّلاَقِ أَوِ الْمَوْتِ، قَصُرَ الزَّمَانُ أَوْ طَال.
فَإِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَلَهَا لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ بِهِ طِفْلاً قَبْل أَنْ تَتَزَوَّجَ، فَالرَّضِيعُ ابْنُ الْمُطَلِّقِ أَوِ الْمَيِّتِ مِنَ الرَّضَاعِ، وَلاَ تَنْقَطِعُ نِسْبَةُ
__________
(1) قول عائشة - رضي الله عنها -: " حرموا من الرضاعة. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 160 - ط السلفية) .
(2) روضة الطالبين 9 / 15 - 16، أسنى المطالب 3 / 418، المغني 7 / 541 0 542، بدائع الصنائع 4 / 3، ابن عابدين 2 / 411، حاشية الدسوقي 2 / 504 - 505، الفواكه الدواني 2 / 89.
(3) المغني 6 / 572.(22/249)
اللَّبَنِ إِلَيْهِ بِمَوْتِهِ أَوْ طَلاَقِهِ، سَوَاءٌ ارْتَضَعَ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، قَصُرَتِ الْمُدَّةُ أَمْ طَالَتْ، انْقَطَعَ اللَّبَنُ أَمْ لَمْ يَنْقَطِعْ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ مَا يُحَال اللَّبَنُ عَلَيْهِ، فَهُوَ بِاسْتِمْرَارِهِ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (1) .
فَإِنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ زَوْجًا وَوَلَدَتْ مِنْهُ فَاللَّبَنُ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ لِلثَّانِي، سَوَاءٌ انْقَطَعَ وَعَادَ أَمْ لَمْ يَنْقَطِعْ؛ لأَِنَّ اللَّبَنَ تَبَعٌ لِلْوَلَدِ، وَالْوَلَدُ لِلثَّانِي. وَإِنْ لَمْ تَلِدْ مِنَ الثَّانِي، وَبَقِيَ لَبَنُ الأَْوَّل بِحَالِهِ لَمْ يَزِدْ وَلَمْ يَنْقُصْ فَهُوَ لِلأَْوَّل سَوَاءٌ حَبِلَتْ مِنَ الثَّانِي أَمْ لَمْ تَحْبَل؛ لأَِنَّ اللَّبَنَ كَانَ لِلأَْوَّل وَلَمْ يَجِدَّ مَا يَجْعَلُهُ مِنَ الثَّانِي فَبَقِيَ لِلأَْوَّل.
وَإِنْ حَبِلَتْ مِنَ الثَّانِي وَزَادَ اللَّبَنُ بِالْحَمْل فَاخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ. فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ: إِنَّهُ لِلأَْوَّل مَا لَمْ تَلِدْ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ اللَّبَنَ لَهُمَا؛ لأَِنَّ زِيَادَةَ اللَّبَنِ عِنْدَ حُدُوثِ الْحَمْل ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مِنَ الثَّانِي. وَبَقَاءُ لَبَنِ الأَْوَّل يَقْتَضِي كَوْنَ أَصْلِهِ مِنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِمَا (2) .
ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِلَبَنِ مَنْ زَنَى:
24 - إِنْ وَلَدَتْ مِنَ الزِّنَى فَنَزَل لَهَا لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ بِهِ صَبِيًّا، صَارَ الرَّضِيعُ ابْنًا لَهَا بِاتِّفَاقِ
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 18، أسنى المطالب 3 / 418، بدائع الصنائع / 10، المغني 7 / 547 - 548
(2) المصادر السابقة.(22/249)
الْفُقَهَاءِ (1) ؛ لأَِنَّهُ رَضَعَ لَبَنَهَا حَقِيقَةً وَالْوَلَدُ مَنْسُوبٌ إِلَيْهَا،
وَاخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بَيْنَ الرَّضِيعِ وَبَيْنَ الرَّجُل الَّذِي ثَابَ اللَّبَنُ بِوَطْئِهِ. فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْخِرَقِيُّ وَابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بَيْنَ الرَّضِيعِ وَبَيْنَ صَاحِبِ اللَّبَنِ أَنْ يَكُونَ اللَّبَنُ لَبَنَ حَمْلٍ يَنْتَسِبُ إِلَى الْوَاطِئِ بِأَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ أَوْ شُبْهَةٍ.
أَمَّا إِنْ نَزَل اللَّبَنُ بِحَمْلٍ مِنَ الزِّنَى فَلاَ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بَيْنَ الرَّضِيعِ وَالْفَحْل الزَّانِي؛ لأَِنَّهُ لَبَنٌ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ؛ وَلأَِنَّ التَّحْرِيمَ بَيْنَهُمَا فَرْعٌ لِحُرْمَةِ الأُْبُوَّةِ، فَلَمَّا لَمْ تَثْبُتْ حُرْمَةُ الأُْبُوَّةِ لَمْ يَثْبُتْ مَا هُوَ فَرْعٌ لَهَا وَهُوَ الأَْوْجَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ لَبَنَ الْفَحْل يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ، وَإِنْ نَزَل بِزِنًى، وَقَالُوا:؛ لأَِنَّهُ مَعْنًى يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ فَاسْتَوَى فِي ذَلِكَ مُبَاحُهُ وَمَحْظُورُهُ كَالْوَطْءِ. فَإِنَّ الْوَاطِئَ حَصَل مِنْهُ وَلَدٌ وَلَبَنٌ، ثُمَّ إِنَّ الْوَلَدَ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاطِئِ فَكَذَلِكَ اللَّبَنُ؛ وَلأَِنَّهُ رَضَاعٌ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ إِلَى الْمُرْضِعَةِ
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 16، أسنى المطالب 3 / 418، المغني 7 / 544، بدائع الصنائع 4 / 4.
(2) روضة الطالبين 9 / 16، أسنى المطالب 3 / 418، المغني 7 / 544، بدائع الصنائع 4 / 4، ابن عابدين 2 / 411، كشاف القناع 5 / 444.(22/250)
فَيَنْشُرُهَا إِلَى الْوَاطِئِ (1) .
لَبَنُ الْوَلَدِ الْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ:
25 - إِذَا نَفَى زَوْجُ الْمُرْضِعَةِ وَلَدَهَا بِلِعَانٍ، فَأَرْضَعَتْ مَعَهُ صَغِيرَةً بِلَبَنِهِ لَمْ تَثْبُتِ الْحُرْمَةُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَبَيْنَ الرَّضِيعِ؛ لاِنْتِفَاءِ نِسْبَةِ اللَّبَنِ إِلَيْهِ بِانْتِفَاءِ الْوَلَدِ عَنْهُ.
وَإِنْ نَفَاهُ بَعْدَ الرَّضَاعِ انْتَفَى الرَّضِيعُ عَنْهُ أَيْضًا. كَمَا انْتَفَى الْوَلَدُ.
وَإِنِ اسْتَلْحَقَ الْوَلَدَ بَعْدَ اللِّعَانِ لَحِقَ الرَّضِيعُ، فَالأَْصْل أَنَّ كُل مَنْ يَثْبُتُ مِنْهُ النَّسَبُ لاَ يَثْبُتُ مِنْهُ الرَّضَاعُ، وَمَنْ لاَ يَثْبُتُ مِنْهُ النَّسَبُ لاَ يَثْبُتُ مِنْهُ الرَّضَاعُ (2) .
الْمُحَرَّمَاتُ بِالْمُصَاهَرَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرَّضَاعِ:
26 - أ - تَحْرُمُ أُمُّ الزَّوْجَةِ وَجَدَّاتُهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ مَهْمَا عَلَوْنَ، سَوَاءٌ أَكَانَ هُنَاكَ دُخُولٌ بِالزَّوْجَةِ أَمْ لَمْ يَكُنْ.
ب - زَوْجَةُ الأَْبِ وَالْجَدِّ مِنَ الرَّضَاعِ، وَإِنْ عَلاَ، سَوَاءٌ دَخَل الأَْبُ وَالْجَدُّ بِهَا أَمْ لَمْ يَدْخُل، كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ زَوْجَةُ أَبِيهِ مِنَ النَّسَبِ.
__________
(1) المصادر السابقة وحاشية الدسوقي 2 / 504 - 505، الفواكه الدواني 2 / 89، شرح فتح القدير 3 / 313 - ط إحياء التراث العربي بيروت، حاشية ابن عابدين 2 / 411 - 412
(2) المصادر السابقة.(22/250)
ج - زَوْجَةُ الاِبْنِ وَابْنِ الاِبْنِ وَابْنِ الْبِنْتِ مِنَ الرَّضَاعِ، وَإِنْ نَزَلُوا، سَوَاءٌ دَخَل الاِبْنُ وَنَحْوُهُ بِالزَّوْجَةِ أَمْ لَمْ يَدْخُل، كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ زَوْجَةُ أَوْلاَدِهِ مِنَ النَّسَبِ.
د - بِنْتُ الزَّوْجَةِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَبَنَاتُ أَوْلاَدِهَا مَهْمَا نَزَلْنَ، إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ مَدْخُولاً بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَل بِهَا، فَلاَ تُحَرَّمُ فُرُوعُهَا مِنَ الرَّضَاعِ عَلَى الزَّوْجِ، كَمَا فِي النَّسَبِ.
هـ - يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَأُخْتِهَا، أَوْ عَمَّتِهَا، أَوْ خَالَتِهَا مِنَ الرَّضَاعِ (1) .
الرَّضَاعُ الطَّارِئُ عَلَى النِّكَاحِ:
27 - الرَّضَاعُ الْمُحَرِّمُ الطَّارِئُ عَلَى النِّكَاحِ يَقْطَعُهُ كَمَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَهُ؛ لأَِنَّ أَدِلَّةَ التَّحْرِيمِ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ رَضَاعٍ مُقَارَنٍ وَبَيْنَ طَارِئٍ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَدْ يَقْتَضِي الرَّضَاعُ الطَّارِئُ عَلَى النِّكَاحِ مَعَ الْقَطْعِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، وَقَدْ لاَ يَقْتَضِي ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَهُ زَوْجَةٌ صَغِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْهَا امْرَأَةٌ تُحَرَّمُ عَلَيْهِ بِنْتُهَا (كَأُمِّهِ مِنَ النَّسَبِ، أَوِ الرَّضَاعِ، أَوْ جَدَّتِهِ، أَوْ بِنْتِهِ، أَوْ حَفِيدَتِهِ، أَوْ زَوْجَةِ أَبِيهِ، أَوْ زَوْجَةِ ابْنِهِ، أَوْ زَوْجَةِ أَخِيهِ بِلِبَانِهِمْ) رَضَاعًا مُحَرَّمًا انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً؛ لأَِنَّهَا صَارَتْ أُخْتَهُ، أَوْ عَمَّتَهُ، أَوْ خَالَتَهُ، أَوْ
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 24، أسنى المطالب 3 / 420 - 421، حاشية الدسوقي 2 / 505، بدائع الصنائع 4 / 13، المغني 6 / 581.(22/251)
حَفِيدَتَهُ، أَوْ بِنْتَ ابْنِهِ، أَوِ ابْنَةَ أَخِيهِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ اللَّبَنُ مِنْ غَيْرِ الأَْبِ، وَالاِبْنِ، وَالأَْخِ فَلاَ يُؤَثِّرُ؛ لأَِنَّ غَايَتَهُ أَنْ تَكُونَ رَبِيبَةً لَهُمْ وَلَيْسَتْ بِحَرَامٍ عَلَيْهِمْ (1) .
وَإِنْ أَرْضَعَتْهَا زَوْجَةٌ لَهُ أُخْرَى فَسَدَ نِكَاحُ الْكَبِيرَةِ الْمُرْضِعَةِ فِي الْحَال، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ مُؤَبَّدًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهَا صَارَتْ أُمَّ زَوْجَتِهِ، وَالأُْمُّ تُحَرَّمُ بِنِكَاحِ الْبِنْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ (2) } وَلَمْ يُشْتَرَطِ الدُّخُول بِهَا، أَمَّا الصَّغِيرَةُ فَإِنْ أَرْضَعَتْهَا بِلَبَنِ الزَّوْجِ أَوْ دَخَل بِالْمُرْضِعَةِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ مُؤَبَّدًا؛ لأَِنَّهَا صَارَتْ بِنْتَهُ بِالرَّضَاعِ، أَوْ رَبِيبَةً دَخَل بِأُمِّهَا.
أَمَّا إِنْ أَرْضَعَتْ بِلَبَنِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَدْخُل بِالْمُرْضِعَةِ، فَلَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ مُؤَبَّدًا، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهَا رَبِيبَةٌ لَمْ يَدْخُل بِأُمِّهَا. وَاللَّهُ يَقُول: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ (3) } وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ اجْتِمَاعَ الأُْمِّ وَالْبِنْتِ فِي نِكَاحٍ مُمْتَنِعٌ (4) .
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 419، بدائع الصنائع 4 / 10 - 11، روضة الطالبين 9 / 20، كشاف القناع 5 / 448، المغني 7 / 551، حاشية الدسوقي 2 / 505، شرح الزرقاني 4 / 241.
(2) سورة النساء / 23.
(3) سورة النساء / 23.
(4) أسنى المطالب 3 / 421، روضة الطالبين 9 / 26، بدائع الصنائع 4 / 11، ابن عابدين 2 / 410، حاشية الدسوقي 1 / 505، المغني 7 / 549، كشاف القناع 5 / 447.(22/251)
وَفِي هَذَا الْمَوْضُوعِ تَفْرِيعَاتٌ تُنْظَرُ فِي الْكُتُبِ الْمُطَوَّلَةِ فِي بَابِ الرَّضَاعِ.
مَا يَثْبُتُ بِهِ الرَّضَاعُ:
28 - يَثْبُتُ الرَّضَاعُ بِالإِْقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ.
الإِْقْرَارُ بِالرَّضَاعِ:
29 - إِذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً ثُمَّ قَال: هِيَ أُخْتِي أَوِ ابْنَتِي مِنَ الرَّضَاعِ انْفَسَخَ النِّكَاحُ.
فَإِنْ كَانَ قَبْل الدُّخُول وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فَلاَ مَهْرَ لَهَا، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ فَلَهَا نِصْفُهُ.
وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي قَالَتْ: هُوَ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ فَأَكْذَبَهَا وَلَمْ تَأْتِ بِالْبَيِّنَةِ، فَهِيَ زَوْجَتُهُ فِي الْحُكْمِ.
وَهَذَا إِنْ كَانَ الإِْقْرَارُ مُمْكِنًا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا، بِأَنْ يَقُول: فُلاَنَةُ بِنْتِي مِنَ الرَّضَاعَةِ وَهِيَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا فَهُوَ لَغْوٌ (1) .
الرُّجُوعُ عَنِ الإِْقْرَارِ:
30 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا صَحَّ الإِْقْرَارُ، فَرَجَعَ عَنْهُ الْمُقِرُّ أَوْ رَجَعَا لَمْ يُقْبَل قَضَاءً،
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 424، بدائع الصنائع 4 / 14، المغني 7 / 560، نهاية المحتاج 7 / 182، ابن عابدين 2 / 412، شرح الزرقاني 4 / 242، الخرشي 4 / 180.(22/252)
وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَيَنْبَنِي ذَلِكَ عَلَى عِلْمِهِ بِصِدْقِهِ. فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الأَْمْرَ كَمَا قَال فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَلاَ نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ عَلِمَ كَذِبَ نَفْسِهِ فَالنِّكَاحُ بَاقٍ بِحَالِهِ، وَقَوْلُهُ كَذِبٌ لاَ يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمُحَرِّمَ حَقِيقَةً الرَّضَاعُ لاَ الْقَوْل.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ ثَبَتَ عَلَى الإِْقْرَارِ بِأَنْ قَال: هُوَ حَقٌّ، فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ قَال: أَخْطَأْتُ أَوْ وَهِمْتُ، لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَقُبِل رُجُوعُهُ.
وَإِنِ اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى أَنَّ بَيْنَهُمَا رَضَاعًا مُحَرِّمًا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَيَسْقُطُ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى؛ لأَِنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ فَاسِدٌ مِنْ أَصْلِهِ، فَفَسَدَ الْمُسَمَّى وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْل إِنْ كَانَتْ جَاهِلَةً بِالتَّحْرِيمِ وَدَخَل بِهَا؛ لأَِنَّهَا كَالْمَوْطُوءَةِ بِالشُّبْهَةِ. وَإِنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِالتَّحْرِيمِ وَمَكَّنَتْهُ مِنَ الْوَطْءِ فَلاَ شَيْءَ لَهَا؛ لأَِنَّهَا بَغِيٌّ مُطَاوِعَةٌ، وَكَذَا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا؛ لاِتِّفَاقِهِمَا عَلَى فَسَادِ النِّكَاحِ مِنْ أَصْلِهِ وَلَمْ يَدْخُل بِهَا، فَلاَ مُوجِبَ لِلْمَهْرِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَهَا رُبُعُ دِينَارٍ ذَهَبًا فَقَطْ. وَإِنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالرَّضَاعِ وَأَنْكَرَتْ هِيَ، حُكِمَ بِبُطْلاَنِ النِّكَاحِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَزِمَهُ الْمُسَمَّى إِنْ كَانَ صَحِيحًا أَوْ مَهْرُ الْمِثْل إِنْ كَانَ فَاسِدًا إِنْ كَانَتْ مَدْخُولاً بِهَا، وَنِصْفُ الْمُسَمَّى أَوْ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْل إِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَيْهَا فِي إِسْقَاطِ حُقُوقِهَا، فَلَزِمَهُ بِإِقْرَارِهِ فِيمَا هُوَ حَقٌّ لَهُ وَهُوَ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ، وَفُسِخَ نِكَاحُهُ، وَلَمْ(22/252)
يُقْبَل قَوْلُهُ فِيمَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَهْرِ (1) .
هَذَا إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَلَهُ تَحْلِيفُهَا قَبْل الدُّخُول، وَكَذَا بَعْدَهُ إِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْل أَقَل مِنَ الْمُسَمَّى، فَإِنْ نَكَلَتِ الزَّوْجَةُ عَنِ الْيَمِينِ حَلَفَ الزَّوْجُ، وَلاَ شَيْءَ لَهَا قَبْل الدُّخُول، وَلاَ يَجِبُ لَهَا أَكْثَرُ مِنْ مَهْرِ الْمِثْل بَعْدَ الدُّخُول (2) .
إِقْرَارُ الزَّوْجَةِ بِالرَّضَاعِ:
31 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إِنِ ادَّعَتِ الرَّضَاعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ فَأَنْكَرَ الزَّوْجُ وَلاَ بَيِّنَةَ لَمْ يَنْفَسِخِ النِّكَاحُ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ قَبْل الدُّخُول فَلاَ مَهْرَ لَهَا؛ لأَِنَّهَا تُقِرُّ بِأَنَّهَا لاَ تَسْتَحِقُّهُ.
فَإِنْ كَانَتْ قَدْ قَبَضَتْهُ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَخْذُهُ مِنْهَا؛ لأَِنَّهُ يُقِرُّ بِأَنَّهُ حَقٌّ لَهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُول فَأَقَرَّتْ بِأَنَّهَا كَانَتْ عَالِمَةً بِأَنَّهَا أُخْتُهُ، وَبِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ وَمُطَاوِعَةً لَهُ فِي الْوَطْءِ فَلاَ مَهْرَ لَهَا؛ لأَِنَّهَا أَقَرَّتْ بِأَنَّهَا زَانِيَةٌ مُطَاوِعَةٌ، وَإِنْ أَنْكَرَتْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَهَا الْمَهْرُ؛ لأَِنَّهُ وَطْءٌ بِشُبْهَةٍ، وَهِيَ زَوْجَتُهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ؛ لأَِنَّ قَوْلَهَا عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ (3) .
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) روضة الطالبين 9 / 34، نهاية المحتاج 7 / 183 - 184، أسنى المطالب 3 / 424 - 425
(3) المغني 7 / 561 - 562، ابن عابدين 2 / 412، الخرشي 4 / 181.(22/253)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ أَقَرَّتِ الزَّوْجَةُ بِالرَّضَاعِ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ إِنْ زُوِّجَتْ مِنْهُ بِرِضَاهَا، بِأَنْ عَيَّنَتْهُ فِي إِذْنِهَا لِتَضَمُّنِهِ إِقْرَارَهَا بِحِلِّهَا لَهُ، فَلَمْ يُقْبَل مِنْهَا نَقِيضُهُ، وَتَسْتَمِرُّ الزَّوْجِيَّةُ ظَاهِرًا بَعْدَ حَلِفِ الزَّوْجِ عَلَى نَفْيِ الرَّضَاعِ. وَإِنْ لَمْ تُزَوَّجْ بِرِضَاهَا بَل زُوِّجَتْ إِجْبَارًا، أَوْ أَذِنَتْ بِغَيْرِ تَعْيِينِ الزَّوْجِ، فَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ تَصْدِيقُهَا بِيَمِينِهَا مَا لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ وَطْئِهَا مُخْتَارَةً لاِحْتِمَال صِحَّةِ مَا تَدَّعِيهِ، وَلَمْ يَسْبِقْ مِنْهَا مَا يُنَافِيهِ، فَأَشْبَهَ إِقْرَارَهَا قَبْل النِّكَاحِ، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إِنْ وَطِئَ وَلَمْ تَكُنْ عَالِمَةً بِالْحُكْمِ مُخْتَارَةً فِي التَّمْكِينِ، لاَ الْمُسَمَّى لإِِقْرَارِهَا بِنَفْيِ اسْتِحْقَاقِهَا. فَإِنْ قَبَضَتْهُ لَمْ يُسْتَرَدَّ مِنْهَا لِزَعْمِهِ أَنَّهُ لَهَا، وَإِنْ لَمْ يَدْخُل بِهَا أَوْ كَانَتْ عَالِمَةً بِالتَّحْرِيمِ مُخْتَارَةً فِي التَّمْكِينِ فَلاَ شَيْءَ لَهَا؛ لأَِنَّهَا بَغِيٌّ مُطَاوِعَةٌ. وَالْمُنْكِرُ لِلرَّضَاعِ يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ؛ لأَِنَّهُ يَنْفِي فِعْل الْغَيْرِ، وَمُدَّعِيهِ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ (1) .
نِصَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الرَّضَاعِ:
32 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نِصَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الرَّضَاعِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْعُدُول، رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلاَ يُقْبَل أَقَل مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ بِانْفِرَادِهِنَّ.
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 183 - 184، روضة الطالبين 9 / 34 - 35، أسنى المطالب 3 / 424 - 425(22/253)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " لاَ يُقْبَل عَلَى الرَّضَاعِ أَقَل مِنْ شَاهِدَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَظْهَرِ النَّكِيرُ مِنْ أَحَدٍ، فَصَارَ إِجْمَاعًا.
وَلأَِنَّ هَذَا مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال فِي الْجُمْلَةِ، فَلاَ يُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ عَلَى الاِنْفِرَادِ؛ لأَِنَّ قَبُول شَهَادَتِهِنَّ بِانْفِرَادِهِنَّ فِي أُصُول الشَّرْعِ لِلضَّرُورَةِ، وَهِيَ ضَرُورَةُ عَدَمِ اطِّلاَعِ الرِّجَال عَلَى الْمَشْهُودِ بِهِ، فَإِذَا جَازَ الاِطِّلاَعُ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ لَمْ تَتَحَقَّقِ الضَّرُورَةُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَثْبُتُ الرَّضَاعُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مُطْلَقًا قَبْل الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ. وَيُعْمَل قَبْل الْعَقْدِ فِي غَيْرِ الرَّشِيدِ بِإِقْرَارِ أَحَدِ الأَْبَوَيْنِ، وَلَوْ أُمًّا، وَأَوْلَى بِإِقْرَارِهِمَا مَعًا، فَيُفْسَخُ إِذَا وَقَعَ، وَلاَ يُعْتَبَرُ إِقْرَارُهُمَا بَعْدَهُ. وَأَمَّا بَعْدَ الْعَقْدِ فَيُقْبَل شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، أَوْ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ إِنْ فَشَا ذَلِكَ قَبْل الْعَقْدِ، وَلاَ يُقْبَل شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ فَشَا ذَلِكَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَثْبُتُ الرَّضَاعُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَبِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَبِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ؛ لأَِنَّهُ مِمَّا لاَ يَطَّلِعُ الرِّجَال عَلَيْهِ إِلاَّ نَادِرًا، وَلاَ يَثْبُتُ بِدُونِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَثْبُتُ الرَّضَاعُ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْمَرْضِيَّةِ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عُقْبَةَ قَال: تَزَوَّجْتُ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ(22/254)
لَهُ ذَلِكَ فَقَال: كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْكُمَا (1) . وَهُوَ يَدُل عَلَى الاِكْتِفَاءِ بِالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ.
أَمَّا الإِْقْرَارُ بِالرَّضَاعِ فَلاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِ إِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي: بَابُ الشَّهَادَةِ ".
قَبُول شَهَادَةِ أُمَّيِ الزَّوْجَيْنِ بِالرَّضَاعِ:
33 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ أُمَّيِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الرَّضَاعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَقْبُولَةٌ كَالأَْجْنَبِيَّتَيْنِ لِضَعْفِ التُّهْمَةِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَ فِيمَنْ يَشْهَدُ بِالرَّضَاعِ أُمُّ الْمَرْأَةِ أَوْ بِنْتُهَا، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مُدَّعِيًا، وَالْمَرْأَةُ مُنْكِرَةٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهَا.
وَكَذَا لَوْ شَهِدَتْ الأُْمُّ أَوْ الْبِنْتُ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى عَلَى سَبِيل الْحِسْبَةِ، وَإِنِ احْتَمَل كَوْنَ الزَّوْجَةِ مُدَّعِيَةً؛ لأَِنَّ الرَّضَاعَ تُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُدَّعِيَةً فَلاَ تُقْبَل لِلتُّهْمَةِ
__________
(1) حديث: " كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما " تقدم تخريجه فقرة / 15.
(2) روضة الطالبين 9 / 34 - 36، والمغني 7 / 558 - 559، الخرشي 4 / 182، بدائع الصنائع 4 / 14، ابن عابدين 2 / 413، شرح الزرقاني 4 / 243، الدسوقي 2 / 507، الشرح الصغير 2 / 727، نهاية المحتاج 7 / 158، 183 - 184(22/254)
لأَِنَّ الْمُقَرَّرَ عَدَمُ قَبُول شَهَادَةِ الأَْصْل لِفَرْعِهِ، وَتُقْبَل عَلَيْهِ (1) .
شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ:
34 - تُقْبَل شَهَادَةُ الْمُرْضِعَةِ وَحْدَهَا عَلَى فِعْل نَفْسِهَا لِحَدِيثِ عُقْبَةَ؛ لأَِنَّهُ فِعْلٌ لاَ يَحْصُل بِهِ لَهَا نَفْعٌ مَقْصُودٌ، وَلاَ تَدْفَعُ بِهِ ضَرَرًا، فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهَا فِيهِ كَفِعْل غَيْرِهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: تُقْبَل مَعَ غَيْرِهَا، وَلاَ تُقْبَل وَحْدَهَا، وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِقَبُول شَهَادَتِهَا فِيمَنْ يَشْهَدُ أَنْ لاَ تَطْلُبَ أُجْرَةً، فَإِنْ طَلَبَتْ أُجْرَةَ الرَّضَاعِ فَلاَ تُقْبَل لِلتُّهْمَةِ (2) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ تُقْبَل الشَّهَادَةُ عَلَى الرَّضَاعِ إِلاَّ مُفَصَّلَةً، فَلاَ يَكْفِي قَوْل الشَّاهِدِ: بَيْنَهُمَا رَضَاعٌ " بَل يَجِبُ ذِكْرُ وَقْتِ الإِْرْضَاعِ وَعَدَدِ الرَّضَعَاتِ، كَأَنْ يَقُول: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا ارْتَضَعَ مِنْ هَذِهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ خَلَصَ اللَّبَنُ فِيهِنَّ إِلَى جَوْفِهِ فِي الْحَوْلَيْنِ أَوْ قَبْل الْحَوْلَيْنِ لاِخْتِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ (3) .
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 303، روضة الطالبين 9 / 36، الخرشي 4 / 182، الفواكه الدواني 2 / 90
(2) نهاية المحتاج 7 / 185، روضة الطالبين 9 / 36، المغني 7 / 559، الخرشي 4 / 243.
(3) نهاية المحتاج 7 / 185، المغني 7 / 559، روضة الطالبين 9 / 37 - 38(22/255)
رَضَاعُ الْكُفَّارِ:
35 - إِنِ ارْتَضَعَ مُسْلِمٌ مِنْ ذِمِّيَّةٍ رَضَاعًا مُحَرِّمًا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ بَنَاتُهَا وَفُرُوعُهَا كُلُّهُنَّ وَأُصُولُهَا كَالْمُسْلِمَةِ؛ لأَِنَّ النُّصُوصَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ مُسْلِمَةٍ وَكَافِرَةٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَلاَ تَأْبَى ذَلِكَ قَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى (1) .
الاِرْتِضَاعُ بِلَبَنِ الْفُجُورِ:
36 - قَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يُكْرَهُ الاِرْتِضَاعُ بِلَبَنِ الْفُجُورِ وَلَبَنِ الْمُشْرِكَاتِ؛ لأَِنَّهُ رُبَّمَا أَفْضَى إِلَى شَبَهِ الْمُرْضِعَةِ فِي الْفُجُورِ، وَيَجْعَلُهَا أُمًّا لِوَلَدِهِ فَيَتَعَيَّرُ بِهَا، وَيَتَضَرَّرُ طَبْعًا وَتَعَيُّرًا، وَالاِرْتِضَاعُ مِنَ الْمُشْرِكَةِ يَجْعَلُهَا أُمًّا لَهَا حُرْمَةُ الأُْمِّ مَعَ شِرْكِهَا، وَرُبَّمَا مَال إِلَيْهَا الْمُرْتَضِعُ وَأَحَبَّ دِينَهَا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُمَا قَالاَ: اللَّبَنُ يَشْتَبِهُ، فَلاَ تَسْتَقِ مِنْ يَهُودِيَّةٍ، وَلاَ نَصْرَانِيَّةٍ وَلاَ زَانِيَةٍ، وَيُكْرَهُ بِلَبَنِ الْحَمْقَاءِ كَيْ لاَ يُشْبِهَهَا الطِّفْل فِي الْحُمْقِ (2) .
صِلَةُ الْمُرْضِعَةِ وَذَوِيهَا:
37 - لِلْمُرْضِعَةِ حَقٌّ عَلَى مَنْ أَرْضَعَتْهُ وَلَوْ كَانَ الإِْرْضَاعُ بِأَجْرٍ، يَدُل عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ حَجَّاجٍ الأَْسْلَمِيِّ، قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ مَا يُذْهِبُ
__________
(1) الخرشي 4 / 182، والمغني 7 / 562 - 563
(2) المغني 7 / 563.(22/255)
عَنِّي مَذَمَّةَ الرَّضَاعَةِ؟ قَال: الْغُرَّةُ الْعَبْدُ أَوِ الأَْمَةُ. (1)
قَال الْقَاضِي: وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ يُسْقِطُ عَنِّي حَقَّ الرَّضَاعِ حَتَّى أَكُونَ بِأَدَائِهِ مُؤَدِّيًا حَقَّ الْمُرْضِعَةِ بِكَمَالِهِ؟ وَكَانَتِ الْعَرَبُ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَرْضَخُوا لِلظِّئْرِ بِشَيْءٍ سِوَى الأُْجْرَةِ عِنْدَ الْفِصَال، وَهُوَ الْمَسْئُول عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ.
وَقَال الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ: يَقُول: إِنَّهَا قَدْ خَدَمَتْكَ وَأَنْتَ طِفْلٌ، وَحَضَنَتْكَ وَأَنْتَ صَغِيرٌ، فَكَافِئْهَا بِخَادِمٍ يَخْدُمُهَا وَيَكْفِيهَا الْمِهْنَةَ، قَضَاءً لِذِمَامِهَا (أَيْ لِحَقِّهَا) وَجَزَاءً لَهَا عَلَى إِحْسَانِهَا.
وَقَدِ اسْتَدَل بِالْحَدِيثِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْعَطِيَّةِ لِلْمُرْضِعَةِ عِنْدَ الْفِطَامِ، وَأَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً؛ لأَِنَّهَا كَانَتْ أَغْلَى الأَْمْوَال وَلِذَا سُمِّيَتْ (غُرَّةً) (2) .
كَمَا يَدُل عَلَى ذَلِكَ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ رَوَى أَبُو الطُّفَيْل قَال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لَحْمًا بِالْجِعْرَانَةِ. قَال أَبُو الطُّفَيْل: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلاَمٌ أَحْمِل عَظْمَ الْجَزُورِ إِذْ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ حَتَّى دَنَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ،
__________
(1) حديث حجاج الأسلمي: " ما يذهب عني مذمة الرضاعة؟ ". أخرجه أبو داود (2 553 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (3 450 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح "
(2) عون المعبود 6 / 69، وسنن أبي داود 2 / 553.(22/256)
فَقُلْتُ: مَنْ هِيَ؟ فَقَالُوا: هَذِهِ أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ. (1)
وَرَوَى عُمَرُ بْنُ السَّائِبِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا يَوْمًا فَأَقْبَل أَبُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَوَضَعَ لَهُ بَعْضَ ثَوْبِهِ فَقَعَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ فَوَضَعَ لَهَا شِقَّ ثَوْبِهِ مِنْ جَانِبِهِ الآْخَرِ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَل أَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَامَ لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ (2) .
__________
(1) حديث أبي الطفيل: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لحما بالجعرانة ". أخرجه أبو داود (5 353 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وفي إسناده جهالة كما في التهذيب للمزي (5 116 - ط الرسالة) .
(2) حديث عمر بن السائب: " أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسًا يومًا. . . " أخرجه أبو داود (5 / 354 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، قال المنذري: " هذا معضل، عمر بن السائب يروي عن التابعين، كذا في مختصر السنن (8 / 39 - نشر دار المعرفة) .(22/256)
رَضْخ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّضْخُ فِي اللُّغَةِ الْعَطَاءُ الْقَلِيل، يُقَال: رَضَخْتُ لَهُ رَضْخًا وَرَضِيخًا؛ أَيْ أَعْطَيْتُهُ شَيْئًا لَيْسَ بِالْكَثِيرِ. وَالأَْصْل فِيهِ الرَّضْخُ بِمَعْنَى الْكَسْرِ.
وَالْمَال الْمُعْطَى يُسَمَّى: رَضْخًا، تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَهُوَ فَعْلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الرَّضْخُ عَطِيَّةٌ مِنَ الْغَنِيمَةِ يَجْتَهِدُ الإِْمَامُ فِي قَدْرِهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السَّهْمُ:
2 - السَّهْمُ هُوَ النَّصِيبُ الْمُحْكَمُ، وَالْجَمْعُ أَسْهُمٌ، وَسِهَامٌ بِالْكَسْرِ، وَسُهَامٌ بِالضَّمِّ، يُقَال: أَسْهَمْتُ لَهُ: أَعْطَيْتُهُ سَهْمًا (3) .
__________
(1) المصباح المنير.
(2) نهاية المحتاج 6 / 150، القليوبي 3 / 195، والزرقاني 3 / 130.
(3) المصباح المنير.(22/257)
وَاصْطِلاَحًا: نَصِيبٌ مُقَدَّرٌ لِلْمُحَارِبِينَ فِي الْغَنِيمَةِ، وَالصِّلَةُ بَيْنَ السَّهْمِ وَالرَّضْخِ هِيَ أَنَّ السَّهْمَ مُقَدَّرٌ وَالرَّضْخَ دُونَ السَّهْمِ بِاجْتِهَادِ الإِْمَامِ.
ب - التَّنْفِيل:
3 - التَّنْفِيل فِي اللُّغَةِ مِنَ النَّفَل وَهُوَ الْغَنِيمَةُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: زِيَادَةُ مَالٍ عَلَى أَسْهُمِ الْغَنِيمَةِ يَشْتَرِطُهُ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ لِمَنْ يَقُومُ بِمَا فِيهِ نِكَايَةً فِي الْعَدُوِّ (1) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الرَّضْخِ وَالتَّنْفِيل، أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا جُزْءٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ.
ج - السَّلَبُ:
4 - وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: كُل شَيْءٍ عَلَى الإِْنْسَانِ مِنَ اللِّبَاسِ وَغَيْرِهِ: وَيُقَال: سَلَبْتُهُ أَسْلُبُهُ سَلَبًا: إِذَا أَخَذْتَ سَلَبَهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ مَا يَأْخُذُهُ أَحَدُ الْقَرَنَيْنِ فِي الْحَرْبِ مِنْ قَرَنِهِ، مِمَّا يَكُونُ عَلَيْهِ وَمَعَهُ، مِنْ ثِيَابٍ وَسِلاَحٍ وَدَابَّةٍ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ السَّلَبِ وَالرَّضْخِ، هِيَ أَنَّ السَّلَبِ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى السَّهْمِ، وَالرَّضْخَ عَطِيَّةٌ دُونَ السَّهْمِ.
__________
(1) لسان العرب، حاشية ابن عابدين 3 / 238، وروضة الطالبين 6 / 368، والمغني 8 / 378.
(2) لسان العرب، نهاية المحتاج 6 / 144 - 148(22/257)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الرَّضْخَ حَقٌّ وَاجِبٌ يَسْتَحِقُّهُ الْمَرْضُوخُ لَهُ لِعَمَلٍ قَامَ بِهِ وَفِيهِ نَفْعٌ لِلْقِتَال.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ ثَابِتٍ. وَالرَّضْخُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، فَيَجْتَهِدُ الإِْمَامُ فِي مِقْدَارِهِ، وَلَهُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ مَنْ يَرْضَخُ لَهُمْ، وَأَنْ يُفَاضِل بَيْنَهُمْ حَسَبَ نَفْعِهِمْ فِي الْقِتَال، فَيُرَجِّحُ الْمُقَاتِل عَلَى غَيْرِهِ، وَمَنْ قِتَالُهُ أَكْثَرُ، وَالْفَارِسُ عَلَى الرَّاجِل، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي تُدَاوِي الْجَرْحَى وَتَسْقِي الْعِطَاشَ عَلَى الَّتِي تَحْفَظُ الرِّحَال (1) .
أَصْحَابُ الرَّضْخِ:
6 - أَصْحَابُ الرَّضْخِ كُل مَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِتَال إِلاَّ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ، وَقَامَ بِعَمَلٍ مُفِيدٍ فِي الْقِتَال، كَالنِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ الْمُمَيِّزِينَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْجِهَادِ (2) ، وَوَجَبَ إِعْطَاؤُهُمْ لِلآْثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.
كَخَبَرِ عُمَيْرٍ مَوْلَى أَبِي اللَّحْمِ: قَال: شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَّمُوهُ أَنِّي مَمْلُوكٌ، فَأَمَرَ لِي
__________
(1) روضة الطالبين 6 / 370، وأسنى المطالب 3 / 93، وكشاف القناع 3 / 86، والمغني 8 / 415، والاختيار للموصلي 4 / 130، وابن عابدين 3 / 235.
(2) المراجع السابقة.(22/258)
بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ. (1)
وَخَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِالنِّسَاءِ فَيُدَاوِينَ الْمَرْضَى، وَيَحْذِينَ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنَّ بِسَهْمٍ (2) وَكَانَ الصِّبْيَانُ يَحْذُونَ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَلاَ يُسْهَمُ لَهُمْ إِذَا حَضَرُوا الْحَرْبَ؛ لأَِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْل الْجِهَادِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُرْضَخُ لأَِحَدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ، وَلاَ يُسْهَمُ لَهُمْ وَإِنْ قَاتَلُوا، إِلاَّ الصِّبْيَانُ فَإِنَّهُمْ يُسْهَمُ لَهُمْ إِذَا قَاتَلُوا (3) .
وَالذِّمِّيُّ إِنْ حَضَرَ الْقِتَال بِإِذْنِ الإِْمَامِ فَإِنَّهُ يُرْضَخُ لَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَلاَ يُسْهَمُ لَهُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْجِهَادِ
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَحْمَدَ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ كَالْمُسْلِمِ، وَبِهَذَا قَال الأَْوْزَاعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَقَالُوا: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَانَ بِأُنَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ فِي حَرْبِهِ فَأَسْهَمَ لَهُمْ. (4)
__________
(1) حديث عمير مولى آبي اللحم قال: " شهدت خيبر. . . . " أخرجه الترمذي (4 / 126 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ". والخرثي أردأ الأمتعة (لسان العرب) .
(2) خبر ابن عباس: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء " أخرجه الترمذي (4 / 126 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) حاشية الدسوقي 2 / 192، والزرقاني 3 / 130.
(4) المغني 8 / 414، والمصادر السابقة. ومرسل الزهري أخرجه الترمذي (4 / 128 ط الحلبي) بلفظ: " أن النبي أسهم لقوم من اليهود قاتلوا معه " وإسناده ضعيف لإرساله.(22/258)
الرَّضْخُ لِلدَّوَابِّ:
7 - لاَ يُسْهَمُ لِغَيْرِ الْفَرَسِ مِنَ الدَّوَابِّ، كَالْبَعِيرِ، وَالْحِمَارِ، وَالْفِيل وَالْبَغْل؛ لأَِنَّ هَذِهِ الدَّوَابَّ لاَ تَصْلُحُ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ صَلاَحِيَةَ الْخَيْل لَهُمَا، وَلَكِنْ يُرْضَخُ لَهَا فَيُرْضَخُ لِرَاكِبِهَا، بَعْدَ أَنْ يَأْخُذَ سَهْمَ الرَّاجِل (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (غَنِيمَة) .
مَحَل الرَّضْخِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَل الرَّضْخِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ يُرْضَخُ مِنْ أَصْل الْغَنِيمَةِ قَبْل إِخْرَاجِ الْخُمُسِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ اسْتُحِقَّ بِالْمُعَاوَنَةِ فِي تَحْصِيل الْغَنِيمَةِ فَأَشْبَهَ أُجْرَةَ النَّقَّالِينَ وَالْحَافِظِينَ لَهَا.
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ مِنْ أَرْبَعَةِ الأَْخْمَاسِ. وَفِي قَوْلٍ لَهُمْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ. وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْخُمُسِ (2) .
وَانْظُرْ: (غَنِيمَة) .
__________
(1) روضة الطالبين 6 / 383، ونهاية المحتاج 6 / 149، والمغني 8 / 408، وابن عابدين 3 / 135.
(2) ابن عابدين 3 / 235، وروضة الطالبين 6 / 371، والمغني 8 / 415، والدسوقي 2 / 192، والزرقاني 3 / 130.(22/259)
مِقْدَارُ الرَّضْخِ:
9 - هُوَ مَا دُونَ قِيمَةِ السَّهْمِ مِنَ الْغَنِيمَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ،
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَوْكُولٌ تَقْدِيرُ قِيمَتِهِ لِلإِْمَامِ (1) .
زَمَنُ الرَّضْخِ:
10 - هُوَ تَبَعٌ لِزَمَنِ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ إِنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بَعْدَ الرُّجُوعِ؛ لِلْخِلاَفِ الْوَارِدِ فِي قِسْمَتِهَا (ر: غَنِيمَة) .
رِطْلٌ
انْظُرْ: مَقَادِيرُ
__________
(1) الاختيار للموصلي 4 / 130، حاشية الدسوقي 2 / 192، القليوبي وعميرة 3 / 195، الفروع لابن مفلح 6 / 233.(22/259)
رُطُوبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّطُوبَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ رَطُبَ، تَقُول رَطُبَ الشَّيْءُ بِالضَّمِّ إِذَا نَدِيَ، وَهُوَ خِلاَفُ الْيَابِسِ الْجَافِّ، وَالرُّطُوبَةُ بِمَعْنَى الْبَلَل وَالنَّدَاوَةِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَى الرُّطُوبَةِ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ فَرَّقُوا فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الرُّطُوبَةِ وَالْبَلَل. قَال فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ:. . . لَوْ قَطَعَ بِالسَّيْفِ الْمُتَنَجِّسِ وَنَحْوِهِ بَعْدَ مَسْحِهِ قَبْل غَسْلِهِ فَمَا فِيهِ بَلَلٌ كَبِطِّيخٍ وَنَحْوِهِ نَجَّسَهُ لِمُلاَقَاةِ الْبَلَل لِلنَّجَاسَةِ، فَإِنْ كَانَ مَا قَطَعَهُ بِهِ رَطْبًا لاَ بَلَل فِيهِ كَجُبْنٍ وَنَحْوِهِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ كَمَا لَوْ قَطَعَ بِهِ يَابِسًا؛ لِعَدَمِ تَعَدِّي النَّجَاسَةِ إِلَيْهِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - رُطُوبَةُ فَرْجِ الْمَرْأَةِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي طَهَارَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ
__________
(1) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمصباح المنير مادة: " رطب ".
(2) كشاف القناع 1 / 184، 185(22/260)
وَهِيَ مَاءٌ أَبْيَضُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْمَذْيِ وَالْعَرَقِ (1) .
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى طَهَارَتِهَا، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ رُطُوبَةَ الْوَلَدِ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ طَاهِرَةٌ.
وَمَحَل الطَّهَارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَمٌ، وَلَمْ يُخَالِطْ رُطُوبَةَ الْفَرْجِ مَذْيٌ أَوْ مَنِيٌّ مِنَ الرَّجُل، أَوِ الْمَرْأَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى نَجَاسَةِ رُطُوبَةِ الْفَرْجِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى نَجَاسَةِ رُطُوبَةِ الْفَرْجِ تَنْجِيسُ ذَكَرِ الْوَاطِئِ أَوْ مَا يَدْخُل مِنْ خِرْقَةٍ أَوْ أُصْبُعٍ.
وَقَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ رُطُوبَةَ الْفَرْجِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: طَاهِرَةٍ قَطْعًا، وَهِيَ مَا تَكُونُ فِي الْمَحَل الَّذِي يَظْهَرُ عِنْدَ جُلُوسِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْغُسْل وَالاِسْتِنْجَاءِ، وَنَجِسَةٍ قَطْعًا وَهِيَ الرُّطُوبَةُ الْخَارِجَةُ مِنْ بَاطِنِ الْفَرْجِ، وَهُوَ مَا وَرَاءَ ذَكَرِ الْمُجَامِعِ، وَطَاهِرَةٍ عَلَى الأَْصَحِّ وَهِيَ مَا يَصِلُهُ ذَكَرُ الْمُجَامِعِ (2) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (فَرْج) .
ب - رُطُوبَةُ فَرْجِ الْحَيَوَانِ:
3 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى طَهَارَةِ رُطُوبَةِ فَرْجِ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 229.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 223، حاشية الدسوقي 1 / 57، مواهب الجليل 1 / 105) ، نهاية المحتاج 1 / 246، 247، تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني 1 / 315، 316، المطبعة الأميرية - الطبعة الأولى، مغني المحتاج 1 / 81، كشاف القناع 1 / 195، الفروع 1 / 248.(22/260)
الْحَيَوَانِ الطَّاهِرِ، وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى طَهَارَةِ رُطُوبَةِ السَّخْلَةِ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ أُمِّهَا وَكَذَا الْبَيْضَةُ، فَلاَ يَتَنَجَّسُ بِهَا الثَّوْبُ وَلاَ الْمَاءُ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ، وَإِنْ كَرِهُوا التَّوَضُّؤَ بِهِ لِلاِخْتِلاَفِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رُطُوبَةُ الْفَرْجِ طَاهِرَةٌ مِنْ كُل حَيَوَانٍ طَاهِرٍ وَلَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ.
وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ طَهَارَةَ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْحَيَوَانِ بِالْمُبَاحِ الأَْكْل فَقَطْ، وَقَيَّدُوهُ بِقَيْدَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَلاَّ يَتَغَذَّى عَلَى نَجَسٍ، وَثَانِيهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ يَحِيضُ كَالإِْبِل، وَإِلاَّ كَانَتْ نَجِسَةً عَقِبَ حَيْضِهِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَطَاهِرَةٌ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (فَرْج، نَجَاسَة) .
ج - مُلاَقِي رُطُوبَةِ النَّجَاسَةِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ مُلاَقِيَ رُطُوبَةِ النَّجَاسَةِ لاَ يَنْجُسُ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا لُفَّ طَاهِرٌ جَافٌّ فِي نَجَسٍ مُبْتَلٍّ وَاكْتَسَبَ الطَّاهِرُ مِنْهُ الرُّطُوبَةَ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ فَقِيل: يَتَنَجَّسُ الطَّاهِرُ، وَاخْتَارَ الْحَلْوَانِيُّ أَنَّهُ لاَ يَتَنَجَّسُ إِنْ كَانَ الطَّاهِرُ بِحَيْثُ لاَ يَسِيل مِنْهُ شَيْءٌ وَلاَ يَتَقَاطَرُ لَوْ عُصِرَ، وَهُوَ الأَْصَحُّ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ النَّجِسُ الرَّطْبُ هُوَ الَّذِي لاَ يَتَقَاطَرُ بِعَصْرِهِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 231، حاشية الدسوقي 1 / 57، مواهب الجليل 1 / 105، نهاية المحتاج 1 / 246، 247، تحفة المحتاج مع حاشية الشرواني 1 / 315، 316، المطبعة الأميرية الطبعة الأولى، مغني المحتاج 1 / 81.(22/261)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَجَاسَةِ مُلاَقِي رُطُوبَةِ النَّجَاسَةِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَجَاسَة) .
د - مَسَائِل فِي الاِسْتِجْمَارِ:
5 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُسْتَجْمَرُ بِهِ أَنْ يَكُونَ جَافًّا لاَ رُطُوبَةَ فِيهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ غَيْرَ الْجَافِّ لاَ يَحْصُل بِهِ الإِْنْقَاءُ (2) .
كَمَا شَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِجَوَازِ الاِسْتِجْمَارِ بِالْحَجَرِ أَلاَّ يَجِفَّ الْغَائِطُ بِأَنْ يَكُونَ رَطْبًا، فَإِنْ جَفَّ تَعَيَّنَ الْمَاءُ وَلاَ يُجْزِيهِ الْحَجَرُ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِنْجَاء) .
هـ - الْمَنِيُّ الرَّطْبُ:
6 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمَنِيِّ الرَّطْبِ عَنِ الْمَنِيِّ الْيَابِسِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَحَل الْمَنِيِّ الْيَابِسِ يَطْهُرُ بِفَرْكِهِ، وَلاَ يَضُرُّ بَقَاءُ أَثَرِهِ، فَإِنْ كَانَ رَطْبًا فَلاَ بُدَّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 231، والطحطاوي على مراقي الفلاح 85 المطبعة الأميرية الطبعة الثالثة، وحاشية الدسوقي 1 / 80، ومواهب الجليل 1 / 165، والقليوبي وعميرة 1 / 181، والإنصاف 1 / 319 ط. مطبعة السنة المحمدية الطبعة الأولى، وكشاف القناع 1 / 184.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 227، حاشية الدسوقي 1 / 113، حاشية الجمل 1 / 94، كشاف القناع 1 / 69.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 224، مغني المحتاج 1 / 44، كشاف القناع 1 / 67.(22/261)
مِنْ غَسْلِهِ وَلاَ يُجْزِئُ الْفَرْكُ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ تَطْهُرُ النَّجَاسَةُ إِلاَّ بِالْغَسْل فِيمَا لاَ يَفْسُدُ بِالْغَسْل. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُسَنُّ غَسْل الْمَنِيِّ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ رَطْبًا أَوْ جَافًّا. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُسَنُّ غَسْلُهُ رَطْبًا وَفَرْكُهُ جَافًّا؛ لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الْمَنِيِّ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْكًا، فَيُصَلِّي فِيهِ (1) عِلْمًا بِأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ بِنَجَاسَةِ الْمَنِيِّ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِطَهَارَتِهِ (2) .
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (نَجَاسَة، وَمَنِيّ) .
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها: " لقد رأيتني أفركه من ثوب. . . . " أخرجه مسلم (1 / 238 - ط الحلبي) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 207، 208، القوانين الفقهية 40 ط دار الكتاب العربي، نهاية المحتاج 1 / 244 ط مصطفى البابي الحلبي) ، المبدع في شرح المقنع 1 / 254 ط المكتب الإسلامي.(22/262)
رُعَافٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّعَافُ لُغَةً: اسْمٌ مِنْ رَعَفَ رَعْفًا، وَهُوَ خُرُوجُ الدَّمِ مِنَ الأَْنْفِ، وَقِيل: الرُّعَافُ الدَّمُ نَفْسُهُ، وَأَصْلُهُ السَّبْقُ وَالتَّقَدُّمُ، وَفَرَسٌ رَاعِفٌ أَيْ سَابِقٌ، وَسُمِّيَ الرُّعَافُ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ يَسْبِقُ عِلْمَ الشَّخْصِ الرَّاعِفِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرُّعَافِ:
انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِالرُّعَافِ:
2 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لاَ يُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَدَمِ الْفَصْدِ، وَالْحِجَامَةِ، وَالْقَيْءِ، وَالرُّعَافِ، سَوَاءٌ قَل ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَلَمْ يَزِدْ
__________
(1) المصباح المنير مادة (رعف) ، والحطاب 1 / 470، 471
(2) حاشية الدسوقي 1 / 201، وجواهر الإكليل 1 / 38، وفتح القدير 1 / 35.(22/262)
عَلَى غَسْل مَحَاجِمِهِ. (1) وَبِهَذَا قَال عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبِي أَوْفَى، وَجَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَطَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَمَكْحُولٌ وَرَبِيعَةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. قَال الْبَغَوِيُّ: وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ (2) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الرُّعَافَ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إِلاَّ إِذَا كَانَ فَاحِشًا كَثِيرًا (3) . أَمَّا كَوْنُ الْكَثِيرِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ عَنْ دَمِ الاِسْتِحَاضَةِ: إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ، وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ: تَوَضَّئِي لِكُل صَلاَةٍ. (4)
وَلأَِنَّهُ نَجَاسَةٌ خَارِجَةٌ مِنَ الْبَدَنِ أَشْبَهَتِ الْخَارِجَ مِنَ السَّبِيل. وَأَمَّا كَوْنُ الْقَلِيل لاَ يَنْقُضُ فَلِمَفْهُومِ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الدَّمِ إِذَا كَانَ فَاحِشًا
__________
(1) حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم " احتجم فصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه " أخرجه الدارقطني (1 / 151 - 152 - ط دار المحاسن) ، والبيهقي (1 / 141 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وضعفه.
(2) المجموع 2 / 54، وموهب الجليل 1 / 471، والمنتقى 1 / 83.
(3) المراد بالكثير ما فحش في نفس كل أحد بحسبه (كشاف القناع 1 / 124)
(4) حديث عائشة: " إنما ذلك عرق " أخرجه الترمذي (1 / 217، 218 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".(22/263)
فَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ. قَال أَحْمَدُ: عِدَّةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَابْنُ عُمَرَ عَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ الدَّمُ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى عَصَرَ دُمَّلاً، وَذَكَرَ أَحْمَدُ غَيْرَهُمَا، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِسَيَلاَنِ الدَّمِ عَنْ مَوْضِعِهِ أَنَّ الرُّعَافَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَكَذَا لَوْ نَزَل الدَّمُ مِنَ الرَّأْسِ إِلَى مَا لاَنَ مِنَ الأَْنْفِ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَى الأَْرْنَبَةِ نَقَضَ الْوُضُوءَ. وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، قَال الْخَطَّابِيُّ: وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَنْ عَطَاءٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوُضُوءُ مِنْ كُل دَمٍ سَائِلٍ (3)
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ مِثْل هَذَا التَّرْكِيبِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْوُجُوبُ (4) .
كَمَا احْتَجُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 124، والمغني 2 / 184.
(2) الفتاوى الخانية بهامش الهندية 1 / 36، والمجموع 2 / 54.
(3) حديث: " الوضوء من كل دم سائل " أخرجه الدارقطني (1 / 157 - ط دار المحاسن) من حديث تميم الداري، وأعله الدارقطني بالانقطاع في سنده، وبجهالة راويين فيه.
(4) البناية 1 / 200، وفتح القدير والعناية 1 / 35 نشر دار إحياء التراث العربي.(22/263)
لْيَبْنِ عَلَى صَلاَتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لاَ يَتَكَلَّمُ. (1)
وَنَقَل الْعَيْنِيُّ أَنَّ وَجْهَ الاِسْتِدْلاَل بِالْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْبِنَاءِ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الأَْمْرِ الإِْبَاحَةُ وَالْجَوَازُ، وَلاَ جَوَازَ لِلْبِنَاءِ إِلاَّ بَعْدَ الاِنْتِقَاضِ، فَدَل بِعِبَارَتِهِ عَلَى الْبِنَاءِ وَعَلَى الاِنْتِقَاضِ بِمُقْتَضَاهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ وَمُطْلَقُ الأَْمْرِ لِلْوُجُوبِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَبَاحَ الاِنْصِرَافَ، وَهُوَ لاَ يُبَاحُ بَعْدَ الشُّرُوعِ إِلاَّ بِهِ (2) .
هَذَا وَمَنْ يَرَى أَنَّ الرُّعَافَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ يَعْتَبِرُ الرُّعَافَ الدَّائِمَ عُذْرًا مِنَ الأَْعْذَارِ الَّتِي تُبِيحُ الْعِبَادَةَ مَعَ وُجُودِ الْعُذْرِ (3) .
3 - وَشَرْطُ اعْتِبَارِ الرُّعَافِ عُذْرًا ابْتِدَاءً عِنْدَ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ اسْتِمْرَارُهُ وَقْتَ الصَّلاَةِ كَامِلاً. بِمَعْنَى أَنَّ مَنْ حَصَل لَهُ الرُّعَافُ وَاسْتَمَرَّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَوَّل صَلاَةٍ إِلاَّ فِي آخِرِ
__________
(1) حديث: " من أصابه قيء، أو رعاف، أو قلس، أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم " أخرجه ابن ماجه (1 / 385 - 389 - ط الحلبي) من حديث عائشة، وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " (1 / 223 - ط دار الجنان) : " هذا إسناد ضعيف ".
(2) البناية 1 / 202، فتح القدير 1 / 35.
(3) الاختيار 1 / 29، وكشاف القناع 1 / 217، ومطالب أولي النهى 1 / 263.(22/264)
وَقْتِهَا؛ لِعَدَمِ ثُبُوتِ حُكْمِ دَائِمِ الْحَدَثِ لَهُ، وَاحْتِمَال انْقِطَاعِهِ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ الْحَدَثُ إِلَى آخِرِ وَقْتِ الصَّلاَةِ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ دَائِمِ الْحَدَثِ، فَيَصِحُّ أَنْ يُصَلِّيَ الثَّانِيَةَ أَوْ مَا بَعْدَهَا فِي أَوَّل وَقْتِهَا (1) .
كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَمْضِيَ عَلَى الرَّاعِفِ وَقْتُ صَلاَةٍ إِلاَّ وَالرُّعَافُ فِيهِ مَوْجُودٌ، حَتَّى لَوِ انْقَطَعَ الرُّعَافُ وَقْتًا كَامِلاً خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ عُذْرٍ مِنْ وَقْتِ الاِنْقِطَاعِ (2) .
4 - وَمَنْ بِهِ رُعَافٌ دَائِمٌ يَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُل صَلاَةٍ، وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِل، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ خَرَجَ مِنْهُ الدَّمُ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ فَلاَ يَتَوَضَّأُ عِنْدَهُمْ (3) .
وَيُنْتَقَضُ وُضُوءُ الرَّاعِفِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُنْتَقَضُ بِدُخُول الْوَقْتِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِأَيِّهِمَا كَانَ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يَعْلَى (4) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَنْ رَعَفَ قَبْل الدُّخُول فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ الصَّلاَةَ لآِخِرِ الْوَقْتِ الاِخْتِيَارِيِّ إِذَا كَانَ يَرْجُو انْقِطَاعَ الرُّعَافِ، أَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لاَ يَنْقَطِعُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَال فِي أَوَّل الْوَقْتِ، إِذْ لاَ فَائِدَةَ فِي
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 40، ومطالب أولي النهى 1 / 262.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 41، والاختيار 1 / 30.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 41، ومطالب أولي النهى 1 / 264.
(4) الاختيار 1 / 29، والمغني 1 / 341، وكشاف القناع 1 / 216، ومطالب أولي النهى 1 / 264.(22/264)
تَأْخِيرِهِ، ثُمَّ إِنِ انْقَطَعَ فِي وَقْتِهِ لَيْسَتْ عَلَيْهِ إِعَادَةٌ (1)
بِنَاءُ الرَّاعِفِ عَلَى صَلاَتِهِ:
5 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الرُّعَافَ لاَ يُفْسِدُ الصَّلاَةَ فَيَجُوزُ لِلرَّاعِفِ الْبِنَاءُ عَلَى صَلاَتِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لْيَبْنِ عَلَى صَلاَتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لاَ يَتَكَلَّمُ (2) وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَعَفَ فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلاَتِهِ (3) .
وَنَقَل الْبَاجِيُّ عَنِ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الرُّعَافَ لاَ يُبْطِل الصَّلاَةَ وَلاَ يَمْنَعُ الْبِنَاءَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الدَّمُ مِنَ الْخَبَثِ لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ مَعَهُ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ. فَمَنْ رَعَفَ فِي الصَّلاَةِ وَظَنَّ دَوَامَهُ لآِخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ تَمَادَى فِي صَلاَتِهِ وُجُوبًا عَلَى حَالَتِهِ الَّتِي هُوَ بِهَا، وَلاَ فَائِدَةَ فِي الْقَطْعِ مَا لَمْ يَخْشَ مِنْ تَمَادِيهِ تَلَطُّخَ فُرُشِ الْمَسْجِدِ وَلَوْ خَشِيَهُ وَلَوْ بِقَطْرَةٍ قَطَعَ صَوْنًا لِلْمَسْجِدِ مِنَ النَّجَاسَةِ. وَإِنْ لَمْ
__________
(1) الحطاب 1 / 471، والشرح الصغير 1 / 270.
(2) حديث: " من أصابه قيء. . . " تقدم تخريجه ف 2
(3) بدائع الصنائع 1 / 220، والدسوقي 1 / 207، والمنتقى شرح الموطأ 1 / 83، والحطاب 1 / 484.(22/265)
يَظُنَّ دَوَامَهُ لآِخِرِ الْمُخْتَارِ بَل ظَنَّ انْقِطَاعَهُ فِيهِ أَوْ شَكَّ فَلاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَائِلاً، أَوْ قَاطِرًا، أَوْ رَاشِحًا.
فَإِذَا كَانَ الدَّمُ سَائِلاً، أَوْ قَاطِرًا وَلَمْ يُلَطِّخْهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ فَتْلُهُ، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْبِنَاءِ وَالْقَطْعِ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْقَطْعَ، فَقَال: هُوَ أَوْلَى، وَهُوَ الْقِيَاسُ.
قَال زَرُّوقٌ: إِنَّ الْقَطْعَ أَنْسَبُ بِمَنْ لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي الْعِلْمِ، وَاخْتَارَ جُمْهُورُ الأَْصْحَابِ (الْمَالِكِيَّةُ) الْبِنَاءَ لِعَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ، وَقِيل: هُمَا سِيَّانِ، وَذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ مَا يُفِيدُ وُجُوبَ الْبِنَاءِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّمُ رَاشِحًا بِأَنْ لَمْ يَسِل وَلَمْ يَقْطُرْ بَل لَوَّثَ طَاقَتَيِ الأَْنْفِ وَجَبَ تَمَادِي الرَّاعِفِ فِي الصَّلاَةِ وَفَتْل الدَّمِ إِنْ أَمْكَنَ بِأَنْ لَمْ يَكْثُرْ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ لِكَثْرَتِهِ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ السَّائِل وَالْقَاطِرِ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْبِنَاءِ.
6 - وَيَخْرُجُ مُرِيدُ الْبِنَاءِ لِغَسْل الدَّمِ حَال كَوْنِهِ مُمْسِكًا أَنْفَهُ مِنْ أَعْلاَهُ وَهُوَ مَارِنُهُ، لاَ مِنْ أَسْفَلِهِ مِنَ الْوَتْرَةِ لِئَلاَّ يَبْقَى الدَّمُ فِي طَاقَتَيْ أَنْفِهِ، فَإِذَا غَسَلَهُ بَنَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَهُ بِشُرُوطٍ سِتَّةٍ:
1 - أَنْ لاَ يَتَلَطَّخَ بِالدَّمِ بِمَا يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ. أَمَّا إِذَا تَلَطَّخَ بِمَا زَادَ عَلَى دِرْهَمٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قَطْعُ الصَّلاَةِ وَيَبْتَدِئُهَا مِنْ أَوَّلِهَا بَعْدَ غَسْل الدَّمِ.
2 - أَنْ لاَ يُجَاوِزَ أَقْرَبَ مَكَانٍ مُمْكِنٍ لِغَسْل الدَّمِ فِيهِ، فَإِنْ جَاوَزَ الأَْقْرَبَ مَعَ الإِْمْكَانِ إِلَى أَبْعَدَ مِنْهُ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ.(22/265)
3 - أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ الَّذِي يَغْسِل الدَّمَ فِيهِ قَرِيبًا فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ.
4 - أَنْ لاَ يَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَإِنِ اسْتَدْبَرَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ. وَقَال اللَّخْمِيُّ: إِذَا اسْتَدْبَرَ الرَّاعِفُ الْقِبْلَةَ لِطَلَبِ الْمَاءِ لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ. وَقَال الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَجَمَاعَةٌ: يَخْرُجُ كَيْفَ أَمْكَنَهُ (1) .
5 - أَنْ لاَ يَطَأَ فِي مَشْيِهِ عَلَى نَجَاسَةٍ، وَظَاهِرُهُ مُطْلَقًا، وَإِلاَّ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ النَّجَاسَةُ رَطْبَةً أَمْ يَابِسَةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا، أَمْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ أَوَطِئَهَا عَمْدًا أَمْ سَهْوًا.
6 - أَنْ لاَ يَتَكَلَّمَ فِي مُضِيِّهِ لِلْغَسْل، فَإِنْ تَكَلَّمَ عَامِدًا أَوْ جَاهِلاً بَطَلَتْ صَلاَتُهُ (2) .
7 - ثُمَّ الرَّاعِفُ لاَ يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ إِمَامًا، فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَالِكٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَبِهِ قَال مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ؛ لأَِنَّ مَا يَمْنَعُ الْبِنَاءَ وَمَا لاَ يَمْنَعُهُ لاَ يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفَذُّ وَغَيْرُهُ، كَالسَّلاَمِ مِنَ اثْنَتَيْنِ فِيمَا طَال وَفِيمَا قَصُرَ - وَالْمَأْمُومُ لَهُ الْبِنَاءُ بِاتِّفَاقِ الْمَالِكِيَّةِ - وَلأَِنَّهُ قَدْ عَمِل شَيْئًا مِنَ الصَّلاَةِ فَلاَ يُبْطِلُهُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ؛ وَلأَِنَّهُ قَدْ حَازَ فَضِيلَةَ أَوَّل
__________
(1) المنتقى 1 / 83.
(2) الشرح الصغير 1 / 270 - 276، والحطاب 1 / 478 - 482(22/266)
الْوَقْتِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ فَلاَ يَفُوتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَفَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الرَّاعِفَ لَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَتَمَّ صَلاَتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي افْتَتَحَ الصَّلاَةَ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا أَتَمَّ الصَّلاَةَ حَيْثُ هُوَ فَقَدْ سَلِمَتْ صَلاَتُهُ عَنِ الْمَشْيِ، لَكِنَّهُ صَلَّى وَاحِدَةً فِي مَكَانَيْنِ، وَإِنْ عَادَ إِلَى مُصَلاَّهُ فَقَدْ أَدَّى جَمِيعَ الصَّلاَةِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لَكِنْ مَعَ زِيَادَةِ مَشْيٍ فَاسْتَوَى الْوَجْهَانِ فَيُخَيَّرُ.
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يُصَلِّي فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَضَّأَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ، وَلَوْ أَتَى الْمَسْجِدَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّهُ تَحَمَّل زِيَادَةَ مَشْيٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ.
وَعَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ قَالُوا: لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّ الْمَشْيَ إِلَى الْمَاءِ وَالْعَوْدَ إِلَى مَكَانِ الصَّلاَةِ أُلْحِقَ بِالْعَدَمِ شَرْعًا.
وَإِنْ كَانَ الرَّاعِفُ مُقْتَدِيًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ إِمَامُهُ مِنَ الصَّلاَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي بَعْدُ، وَلَوْ لَمْ يَعُدْ وَأَتَمَّ بَقِيَّةَ صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ لاَ يُجْزِئُهُ؛ لأَِنَّهُ إِنْ صَلَّى مُقْتَدِيًا بِإِمَامِهِ لاَ يَصِحُّ لاِنْعِدَامِ شَرْطِ الاِقْتِدَاءِ، وَهُوَ اتِّحَادُ الْبُقْعَةِ إِلاَّ إِذَا كَانَ بَيْتُهُ قَرِيبًا مِنَ الْمَسْجِدِ بِحَيْثُ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ، وَإِنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا فِي بَيْتِهِ فَسَدَتْ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 223، والمنتقى 1 / 83، والحطاب 1 / 484.(22/266)
صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّ الاِنْفِرَادَ فِي حَال وُجُوبِ الاِقْتِدَاءِ يُفْسِدُ صَلاَتَهُ؛ لأَِنَّ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ تَغَايُرًا، وَقَدْ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ الصَّلاَةُ مُقْتَدِيًا، وَمَا أَدَّى وَهُوَ الصَّلاَةُ مُنْفَرِدًا لَمْ يُوجَدْ لَهُ ابْتِدَاءُ تَحْرِيمِهِ وَهُوَ بَعْضُ الصَّلاَةِ؛ لأَِنَّهُ صَارَ مُنْتَقِلاً عَمَّا كَانَ هُوَ فِيهِ إِلَى هَذَا فَيَبْطُل ذَلِكَ، وَمَا حَصَل فِيهِ بَعْضُ الصَّلاَةِ فَلاَ يَخْرُجُ عَنْ كُل الصَّلاَةِ بِأَدَاءِ هَذَا الْقَدْرِ (1) .
وَالْمَالِكِيَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَبْنِي فِي الرُّعَافِ، إِلاَّ أَنَّ الأَْفْضَل عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَقْطَعَ الْمُقْتَدِي الرَّاعِفُ الصَّلاَةَ بِكَلاَمٍ أَوْ غَيْرِهِ فَيَغْسِل عَنْهُ الدَّمَ، ثُمَّ يَبْتَدِئَ الصَّلاَةَ كَيْ يَخْرُجَ مِنَ الْخِلاَفِ وَيُؤَدِّيَ الصَّلاَةَ بِاتِّفَاقٍ (2) . وَإِذَا عَادَ الرَّاعِفُ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِل بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ فِي حَال تَشَاغُلِهِ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَسَحْنُونٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ فَكَأَنَّهُ خَلْفَ الإِْمَامِ، فَيَقُومُ مِقْدَارَ قِيَامِ الإِْمَامِ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ، وَمِقْدَارَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، وَلاَ يَضُرُّهُ إِنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ (3) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَقُولُونَ عَلَى الْمَذْهَبِ فِيمَا إِذَا اجْتَمَعَ لِلرَّاعِفِ الْقَضَاءُ وَالْبِنَاءُ: أَنْ يُقَدِّمَ الْبِنَاءَ عَلَى الْقَضَاءِ؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ إِكْمَال مَا فَعَلَهُ الإِْمَامُ بَعْدَ دُخُولِهِ مَعَهُ (4) . وَهَذَا جَائِزٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 223.
(2) مواهب الجليل 1 / 484، والمنتقى 1 / 83.
(3) بدائع الصنائع 1 / 223، والشرح الصغير 1 / 281.
(4) الشرح الصغير 1 / 280 - 281(22/267)
عِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، فَقَدْ قَال الْكَاسَانِيُّ: لَوْ تَابَعَ إِمَامَهُ أَوَّلاً ثُمَّ اشْتَغَل بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ بَعْدَ تَسْلِيمِ الإِْمَامِ جَازَتْ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلاَثَةِ خِلاَفًا لِزُفَرَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي أَفْعَال الصَّلاَةِ الْوَاحِدَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ شَرْطٌ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: قَضَاءُ الْفَوَائِتِ) .
8 - أَمَّا إِذَا كَانَ الرَّاعِفُ إِمَامًا فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالاِسْتِخْلاَفِ فَيَتَوَضَّأُ، أَوْ يَغْسِل الدَّمَ - كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ - وَيَبْنِي عَلَى صَلاَتِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذُكِرَ فِي الْمُقْتَدِي، لأَِنَّهُ بِالاِسْتِخْلاَفِ تَحَوَّلَتِ الإِْمَامَةُ إِلَى الثَّانِي، وَصَارَ هُوَ كَوَاحِدٍ مِنَ الْمُقْتَدِينَ (2) .
(ر: اسْتِخْلاَف) .
أَثَرُ الرُّعَافِ عَلَى الصَّوْمِ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ رَعَفَ فَأَمْسَكَ أَنْفَهُ فَخَرَجَ الدَّمُ مِنْ فِيهِ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى حَلْقِهِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ مَنْفَذَ الأَْنْفِ إِلَى الْفَمِ دُونَ الْجَوْفِ، فَهُوَ مَا لَمْ يَصِل إِلَى الْجَوْفِ لاَ شَيْءَ فِيهِ، وَمَنْ دَخَل دَمُ رُعَافِهِ حَلْقَهُ فَسَدَ صَوْمُهُ. أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ أَنَّ مَا يَصِل إِلَى جَوْفِ الصَّائِمِ بِلاَ قَصْدٍ لاَ يُفْطِرُ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: صَوْم) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 223.
(2) بدائع الصنائع 1 / 224، والحطاب 1 / 484.
(3) فتح القدير 1 / 258 نشر دار إحياء التراث العربي، والحطاب 2 / 425، وروضة الطالبين 2 / 356، 359، وكشاف القناع 1 / 322.(22/267)
رَعْيٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّعْيُ: مَصْدَرُ رَعَى الْكَلأََ وَنَحْوَهُ يَرْعَى رَعْيًا، يُقَال: الْمَاشِيَةُ رَعَتِ الْكَلأََ أَيْ أَكَلَتْهُ، وَالرَّاعِي يَرْعَى الْمَاشِيَةَ أَيْ يَحُوطُهَا وَيَحْفَظُهَا، وَالْجَمْعُ رُعَاةٌ مِثْل قَاضٍ وَقُضَاةٍ، وَرِعَاءٌ مِثْل جَائِعٍ وَجِيَاعٍ، وَرُعْيَانٌ مِثْل شَابٍّ وَشُبَّانٍ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلرَّعْيِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الأَْصْل فِي الرَّعْيِ الإِْبَاحَةُ لِقَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ: فِي الْكَلأَِ (2) وَالْمَاءِ وَالنَّارِ (3) فَالْكَلأَُ يَنْبُتُ فِي مَوَاتِ الأَْرْضِ يَرْعَاهُ النَّاسُ وَلَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ دُونَ أَحَدٍ أَوْ يَحْجِزَهُ عَنْ غَيْرِهِ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير.
(2) الكلأ: اسم لحشيش ينبت من غير صنع العبد.
(3) حديث: " المسلمون شركاء في ثلاث. . . " أخرجه أبو داود (3 / 751 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث رجل من المهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.(22/268)
وَكَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا غَزَا الرَّجُل مِنْهُمْ حَمَى بُقْعَةً مِنَ الأَْرْضِ لِمَاشِيَتِهِ يَرْعَاهَا يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا، فَأَبْطَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَجَعَل النَّاسَ فِيهَا شُرَكَاءَ يَتَعَاوَرُونَهُ بَيْنَهُمْ.
وَقَدْ يَعْرِضُ لِلرَّعْيِ بَعْضُ الأَْحْكَامِ الأُْخْرَى وَتَفْصِيلُهَا فِيمَا يَلِي:
مَنْعُ أَهْل قَرْيَةٍ رَعْيَ غَيْرِ مَوَاشِيهِمْ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِهْل قَرْيَةٍ أَنْ يَمْنَعُوا غَيْرَهُمْ مِنْ رَعْيِ مَوَاشِيهِمْ فِي مَرَاعِي الْقَرْيَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ أَنَّ جَمَاعَةً عَمَّرُوا بَلَدًا اخْتَصُّوا بِحَرِيمِهِ، وَحَرِيمُهُ: مَا يُمْكِنُ الاِحْتِطَابُ مِنْهُ، وَالرَّعْيُ فِيهِ عَلَى الْعَادَةِ مِنَ الذَّهَابِ وَالإِْيَابِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ وَالاِنْتِفَاعِ بِالْحَطَبِ وَجَلْبِ الدَّوَابِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ غُدُوًّا وَرَوَاحًا فِي الْيَوْمِ، فَيَخْتَصُّونَ بِهِ. وَلأَِهْل الْقَرْيَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْعُ غَيْرِهِمْ وَلاَ يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ لأَِنَّهُ مُبَاحٌ لِلْجَمِيعِ (1) .
رَعْيُ حَشِيشِ الْحَرَمِ:
4 - يَجُوزُ رَعْيُ حَشِيشِ الْحَرَمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ
__________
(1) بدائع الصنائع 8 / 3848 - ط الإمام، الشرح الصغير 4 / 188، نهاية المحتاج 5 / 331، الموسوعة 17 / 219 مصطلح (حريم) فقرة 12(22/268)
الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ الْهَدْيَ كَانَ يَدْخُل إِلَى الْحَرَمِ، فَيَكْثُرُ فِيهِ، فَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُمْ كَانُوا يُكَمِّمُونَ أَفْوَاهَهُ؛ وَلأَِنَّ بِهِمْ حَاجَةً إِلَى ذَلِكَ فَأَشْبَهَ الإِْذْخِرَ.
وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا مَنَعَ مِنَ التَّعَرُّضِ لِحَشِيشِ الْحَرَمِ اسْتَوَى فِيهِ تَعَرُّضُ الشَّخْصِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِإِرْسَال الْبَهِيمَةِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ فِعْل الْبَهِيمَةِ يُضَافُ إِلَى صَاحِبِهَا، كَمَا فِي الصَّيْدِ فَإِنَّهُ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِ التَّعَرُّضَ اسْتَوَى فِيهِ اصْطِيَادُهُ بِنَفْسِهِ وَبِإِرْسَال الْكَلْبِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى حُرْمَةِ التَّعَرُّضِ لِحَشِيشِ الْحَرَمِ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِل لأَِحَدٍ قَبْلِي وَلاَ تَحِل لأَِحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُعَرِّفٍ. (2)
أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ الرَّعْيِ فِي الْحِمَى:
5 - لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ مِنَ الْوُلاَةِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 210 - 211، جواهر الإكليل 1 / 198، ومغني المحتاج 1 / 527، والمغني لابن قدامة 3 / 349 - 352، الموسوعة 17 / 192، مصطلح (حرم) فقرة 11
(2) حديث: " إن الله حرم مكة. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 46 - ط السلفية) .(22/269)
أَصْحَابِ الْمَوَاشِي عَنْ مَرَاعِي مَوَاتٍ أَوْ حِمًى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ: الْكَلأَِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ (1) . وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ (2) فَإِنَّ الْمَعْنَى لاَ يَحْمِي لِنَفْسِهِ إِلاَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَِنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ، وَلَوْ وَقَعَ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لأَِنَّ مَصْلَحَتَهُ مَصْلَحَتُهُمْ، أَوْ بِأَنَّ الْمَعْنَى لاَ حِمَى إِلاَّ حِمَى مِثْل حِمَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ كَوْنِهِ لاَ عِوَضَ فِيهِ وَلاَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الإِْمَامِ أَخْذُ الْعِوَضِ مِمَّنْ يَرْعَى فِيهِ كَالْمَوَاتِ (3) .
ضَمَانُ الرَّاعِي:
6 - لاَ ضَمَانَ عَلَى الرَّاعِي الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا تَلِفَ مِنَ الْمَاشِيَةِ مَا لَمْ يَتَعَدَّ أَوْ يُقَصِّرَ فِي حِفْظِهَا؛ لأَِنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى حِفْظِهَا فَلَمْ يَضْمَنْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ كَالْمُودَعِ؛ وَلأَِنَّهَا عَيْنٌ قَبَضَهَا بِحُكْمِ الإِْجَارَةِ فَلَمْ يَضْمَنْهَا مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ كَالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، فَأَمَّا مَا تَلِفَ بِتَعَدِّيهِ فَيَضْمَنُهُ بِغَيْرِ خِلاَفٍ.
__________
(1) حديث: " المسلمون شركاء في ثلاث. . . . " سبق تخريجه ف 2
(2) حديث: " لا حمى إلا لله ورسوله " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 44 - ط السلفية) من حديث الصعب بن جثامة.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي 187، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 224، مطالب أولي النهى 4 / 201، نهاية المحتاج 5 / 338، القليوبي وعميرة 3 / 93، مواهب الجليل 6 / 6 - 7(22/269)
وَإِنِ اخْتَلَفَ صَاحِبُ الْمَاشِيَةِ مَعَ الرَّاعِي فِي التَّعَدِّي وَعَدَمِهِ، فَالْقَوْل قَوْل الرَّاعِي؛ لأَِنَّهُ أَمِينٌ، وَإِنْ فَعَل فِعْلاً اخْتَلَفَا فِي كَوْنِهِ تَعَدِّيًا رَجَعَا إِلَى أَهْل الْخِبْرَةِ، وَإِذَا خَافَ الرَّاعِي الْمَوْتَ عَلَى شَاةٍ مَثَلاً وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهَا تَمُوتُ إِنْ لَمْ يَذْبَحْهَا فَذَبَحَهَا فَلاَ يَضْمَنُ اسْتِحْسَانًا، وَإِذَا اخْتَلَفَا فَالْقَوْل قَوْل الرَّاعِي (1) .
إِجَارَةُ الرَّاعِي:
7 - الرَّاعِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا أَوْ أَجِيرًا خَاصًّا، فَتَجْرِي عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامُ الإِْجَارَةِ وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: إِجَارَة ف. 150 (ج 1 ص 301) .
سَقْيُ الرَّاعِي مِنْ لَبَنِ الْغَنَمِ الَّتِي يَرْعَاهَا:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل لَبَنُ الْمَاشِيَةِ إِلاَّ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا أَوْ عِلْمِ طِيبِ نَفْسِهِ، أَوْ لِمَنْ كَانَ مُضْطَرًّا فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ قَدْرَ دَفْعِ الْحَاجَةِ.
وَدَلِيلُهُمْ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرَبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيُنْتَقَل طَعَامُهُ، فَإِنَّمَا تُخَزِّنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَاشِيَتِهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ، فَلاَ يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ. (2)
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 226، المدونة 1 / 241، المغني لابن قدامة 6 / 126 - 127
(2) حديث: " لا يحلبن أحد ماشية امرئ بغير إذنه " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 88 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1352 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر.(22/270)
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: (فِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسْلِمُ مِنْ مَال الْمُسْلِمِ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَإِنَّمَا خُصَّ اللَّبَنُ بِالذِّكْرِ لِتَسَاهُل النَّاسِ فِيهِ، فَنَبَّهَ بِهِ عَلَى مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، وَبِهَذَا أَخَذَ الْجُمْهُورُ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنٍ خَاصٍّ، أَوْ بِإِذْنٍ عَامٍّ، وَاسْتَثْنَى كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ مَا إِذَا عَلِمَ بِطِيبِ نَفْسِ صَاحِبِهِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ إِذْنٌ خَاصٌّ وَلاَ عَامٌّ) . اهـ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا فِي الأَْكْل وَالشُّرْبِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِطِيبِ نَفْسِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَدَلِيلُهُمْ فِي ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ مَرْفُوعًا: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ فَإِنْ كَانَ فِيهَا صَاحِبُهَا فَلْيَسْتَأْذِنْهُ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَلْيَحْتَلِبْ وَلْيَشْرَبْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَلْيُصَوِّتْ ثَلاَثًا، فَإِنْ أَجَابَهُ فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، وَإِلاَّ فَلْيَحْتَلِبْ وَلْيَشْرَبْ وَلاَ يَحْمِل (1) .
وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا أَتَيْتَ عَلَى رَاعٍ فَنَادِهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ، فَإِنْ أَجَابَكَ، وَإِلاَّ فَاشْرَبْ فِي غَيْرِ أَنْ تُفْسِدَ (2) .
__________
(1) حديث: " إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان صاحبها فيها. . . . " أخرجه أبو داود (3 / 89 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (3 / 581 - ط الحلبي) وحسنه الترمذي.
(2) حديث: " إذا أتيت على راع فناده ثلاث مرار. . . . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 771 - ط الحلبي) ، والبيهقي (9 / 259 - 260 - ط دائرة المعارف العثمانية) وأعله البيهقي، ولكن يشهد له حديث سمرة بن جندب المتقدم.(22/270)
قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِوُجُوهٍ مِنَ الْجَمْعِ مِنْهَا حَمْل الإِْذْنِ عَلَى مَا إِذَا عَلِمَ بِطِيبِ نَفْسِ صَاحِبِهِ، وَالنَّهْيِ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ، وَمِنْهَا تَخْصِيصُ الإِْذْنِ بِابْنِ السَّبِيل دُونَ غَيْرِهِ، أَوْ بِالْمُضْطَرِّ، أَوْ بِحَال الْمَجَاعَةِ، وَهِيَ مُتَقَارِبَةٌ (1) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 86، المدونة 4 / 436، فتح الباري 5 / 88 - 89، عمدة القاري 12 / 278 - 279(22/271)
رَغَائِبُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّغَائِبُ جَمْعُ رَغِيبَةٍ وَهِيَ لُغَةً الْعَطَاءُ الْكَثِيرُ، أَوْ مَا حُضَّ عَلَيْهِ مِنْ فِعْل الْخَيْرِ (1) .
وَالرَّغِيبَةُ اصْطِلاَحًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا قَالَهُ الدُّسُوقِيُّ هِيَ: مَا رَغَّبَ فِيهِ الشَّارِعُ وَحْدَهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ فِي جَمَاعَةٍ. وَقَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: صَارَتِ الرَّغِيبَةُ كَالْعَلَمِ بِالْغَلَبَةِ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ.
وَقَالُوا أَيْضًا: الرَّغِيبَةُ هِيَ مَا دَاوَمَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِعْلِهِ بِصِفَةِ النَّوَافِل، أَوْ رَغَّبَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: مَنْ فَعَل كَذَا فَلَهُ كَذَا، قَال الْحَطَّابُ: وَلاَ خِلاَفَ أَنَّ أَعْلَى الْمَنْدُوبَاتِ يُسَمَّى سُنَّةً وَسَمَّى ابْنُ رُشْدٍ النَّوْعَ الثَّانِيَ رَغَائِبَ، وَسَمَّاهُ الْمَازِرِيُّ فَضَائِل، وَسَمَّوُا النَّوْعَ الثَّالِثَ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ نَوَافِل (2) .
وَالرَّغَائِبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: صَلاَةٌ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ تُفْعَل أَوَّل رَجَبٍ أَوْ فِي مُنْتَصَفِ شَعْبَانَ.
__________
(1) لسان العرب والأضداد للجاحظ مادة: (رغب)
(2) الحطاب 1 / 39، الدسوقي 1 / 318، والموسوعة 8 / 32، مصطلح (بدعة) فقرة 23(22/271)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ صَلاَةَ الرَّغَائِبِ فِي أَوَّل جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، أَوْ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، أَوْ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ مِنَ الرَّكَعَاتِ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ (1) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَهَاتَانِ الصَّلاَتَانِ بِدْعَتَانِ مَذْمُومَتَانِ مُنْكَرَتَانِ قَبِيحَتَانِ، وَلاَ تَغْتَرَّ بِذِكْرِهِمَا فِي كِتَابِ قُوتِ الْقُلُوبِ وَالإِْحْيَاءِ، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ أَنْ يَسْتَدِل عَلَى شَرْعِيَّتِهِمَا بِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَال: الصَّلاَةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ (2) فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِصَلاَةٍ لاَ تُخَالِفُ الشَّرْعَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ (3) .
قَال إِبْرَاهِيمُ الْحَلَبِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: قَدْ حَكَمَ الأَْئِمَّةُ عَلَيْهَا بِالْوَضْعِ قَال فِي الْعِلْمِ الْمَشْهُورِ: حَدِيثُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ مَوْضُوعٌ (4) ، قَال أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ
__________
(1) القليوبي وعميرة 1 / 216، غنية الْمُتَمَليِّ في شرح منية المصلي - حلبي كبير - ص 433
(2) حديث: " الصلاة خير موضوع " أخرجه أحمد (5 / 178 - ط الميمنية) من حديث أبي ذر، وأورده الهيثمي في المجمع (1 / 160 - ط القدسي) وقال: " فيه المسعودي وهو ثقة اختلط ".
(3) المجموع للنووي 4 / 256.
(4) حلبي كبير ص 434 للشيخ إبراهيم الحلبي - ط دار سعادت، عارف أفندي مطبعة سنده أولنمشدر سنة 1325 هـ، حاشية ابن عابدين 1 / 461 - 476، القليوبي وعميرة 1 / 216، الفروع 1 / 569 - 570، الاعتصام للشاطبي 1 / 232، إنكار البدع والحوادث ص 63 - 67(22/272)
مُهَاجِرٍ يَضَعُ الْحَدِيثَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدِيثُ أَنَسٍ مَوْضُوعٌ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ إِسْحَاقَ قَال أَبُو حَاتِمٍ: كَانَ يُقَلِّبُ الأَْخْبَارَ وَيَسُوقُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ وَهْبُ بْنُ وَهْبٍ الْقَاضِي أَكْذَبُ النَّاسِ ذَكَرَهُ فِي الْعِلْمِ الْمَشْهُورِ، وَقَال أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: صَلاَةُ الرَّغَائِبِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذِبٌ عَلَيْهِ (1) .
قَال: وَقَدْ ذَكَرُوا عَلَى بِدْعِيَّتِهِمَا وَكَرَاهِيَتِهِمَا عِدَّةَ وُجُوهٍ مِنْهَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الأَْئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ لَمْ يُنْقَل عَنْهُمْ هَاتَانِ الصَّلاَتَانِ، فَلَوْ كَانَتَا مَشْرُوعَتَيْنِ لَمَا فَاتَتَا السَّلَفَ، وَإِنَّمَا حَدَثَتَا بَعْدَ الأَْرْبَعِمِائَةِ، قَال الطُّرْطُوشِيُّ أَخْبَرَنِي الْمَقْدِسِيُّ قَال: لَمْ يَكُنْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قَطُّ صَلاَةُ الرَّغَائِبِ فِي رَجَبٍ وَلاَ صَلاَةُ نِصْفِ شَعْبَانَ، فَحَدَثَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ أَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ نَابُلُسَ يُعْرَفُ بِابْنِ الْحَيِّ، وَكَانَ حَسَنَ التِّلاَوَةِ فَقَامَ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَأَحْرَمَ خَلْفَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ انْضَافَ ثَالِثٌ وَرَابِعٌ فَمَا خَتَمَ إِلاَّ وَهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ جَاءَ فِي الْعَامِ الْقَابِل فَصَلَّى مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَانْتَشَرَتْ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى وَبُيُوتِ النَّاسِ وَمَنَازِلِهِمْ، ثُمَّ اسْتَقَرَّتْ كَأَنَّهَا سُنَّةٌ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا. أ. هـ.
(ر: بِدْعَة ف 23) وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ (صَلاَةُ الرَّغَائِبِ) .
__________
(1) الموضوعات لابن الجوزي 2 / 124 - 126 نشر دار السلفية.(22/272)
الرَّغِيبَةُ بِمَعْنَى سُنَّةِ الْفَجْرِ:
3 - الرَّغِيبَةُ تَدُل عَلَى سُنَّةِ صَلاَةِ الْفَجْرِ فِي اصْطِلاَحِ الْمَالِكِيَّةِ، وَرُتْبَتُهَا عِنْدَهُمْ أَعْلَى مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ وَدُونَ السُّنَنِ، وَالْمَنْدُوبَاتُ عِنْدَهُمْ كَالنَّوَافِل الرَّاتِبَةِ الَّتِي تُصَلَّى مَعَ الْفَرَائِضِ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا وَالسُّنَنُ عِنْدَهُمْ نَحْوُ الْوِتْرِ وَالْعِيدِ وَالْكُسُوفِ وَالاِسْتِسْقَاءِ.
وَعِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ: رَكْعَتَا الْفَجْرِ سُنَّةٌ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ مِنْ أَقْوَى السُّنَنِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هُمَا مِنَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ (2) وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ: (صَلاَةُ الْفَجْرِ) .
__________
(1) حديث: " قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم لركعتي الفجر بعد طلوع الشمس " أخرجه مسلم (1 / 471 - 472 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) الحطاب 1 / 34 - 39، والدسوقي 1 / 318، وبداية المجتهد 1 / 205، والبدائع 1 / 285، والقليوبي وعميرة 1 / 210، والفروع 1 / 544.(22/273)
رِفَادَةٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الرِّفْدُ بِالْكَسْرِ الْعَطَاءُ وَالصِّلَةُ، وَبِالْفَتْحِ الْقَدَحُ الضَّخْمُ وَيُكْسَرُ، وَالرِّفْدُ مَصْدَرُ رَفَدَهُ يَرْفِدُهُ أَيْ أَعْطَاهُ، وَالإِْرْفَادُ: الإِْعَانَةُ وَالإِْعْطَاءُ، وَالاِرْتِفَادُ: الْكَسْبُ، وَالاِسْتِرْفَادُ: الاِسْتِعَانَةُ. وَالتَّرَافُدُ: التَّعَاوُنُ.
وَالرِّفَادَةُ شَيْءٌ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَتَرَافَدُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَيُخْرِجُ كُل إِنْسَانٍ مَالاً بِقَدْرِ طَاقَتِهِ، فَيَجْمَعُونَ مِنْ ذَلِكَ مَالاً عَظِيمًا أَيَّامَ الْمَوْسِمِ فَيَشْتَرُونَ بِهِ لِلْحَاجِّ الْجُزُرَ (الإِْبِل) ، وَالطَّعَامَ، وَالزَّبِيبَ لِلنَّبِيذِ، فَلاَ يَزَالُونَ يُطْعِمُونَ النَّاسَ حَتَّى تَنْقَضِيَ أَيَّامُ مَوْسِمِ الْحَجِّ، وَكَانَتِ الرِّفَادَةُ وَالسِّقَايَةُ لِبَنِي هَاشِمٍ، وَالسِّدَانَةُ وَاللِّوَاءُ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَكَانَ أَوَّل مَنْ قَامَ بِالرِّفَادَةِ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَسُمِّيَ هَاشِمًا لِهَشْمِهِ الثَّرِيدَ (1) .
__________
(1) الصحاح والقاموس واللسان والمصباح مادة: (رفد) ، والكليات 2 / 368 ط. دمشق، وقد أخرج أحمد (6 / 401 - ط الميمنية) عن أبي محذورة عن أبيه أو عن جده قال: " جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان لنا ولموالينا، والسقاية لبني هاشم، والحجابة لبني عبد الدار " وأورده الهيثمي في المجمع 3 / 285 ط. القدسي وقال: " رواه أحمد والطبراني في الأوسط والكبير، وفيه هذيل بن بلال الأشعري، وثقه أحمد وغيره، وضعفه النسائي وغيره ".(22/273)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السِّدَانَةُ:
2 - وَمَعْنَاهُ خِدْمَةُ الْكَعْبَةِ. تَقُول سَدَنْتُ الْكَعْبَةَ أَسْدُنُهَا سَدْنًا إِذَا خَدَمْتَهَا، فَالْوَاحِدُ سَادِنٌ وَالْجَمْعُ سَدَنَةٌ، وَالسِّدَانَةُ بِالْكَسْرِ الْخِدْمَةُ، وَالسِّدْنُ السِّتْرُ وَزْنًا وَمَعْنًى (1) .
ب - الْحِجَابَةُ:
3 - الْحِجَابَةُ اسْمٌ مِنَ الْحَجْبِ مَصْدَرُ حَجَبَ يَحْجُبُ، وَمِنْهُ قِيل لِلسِّتْرِ: حِجَابٌ، لأَِنَّهُ يَمْنَعُ الْمُشَاهَدَةَ، وَقِيل لِلْبَوَّابِ حَاجِبٌ، لأَِنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الدُّخُول (2) . وَمِنْهُ حِجَابَةُ الْكَعْبَةِ، وَكَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ.
ج - السِّقَايَةُ:
4 - وَهِيَ مَوْضِعٌ يُتَّخَذُ لِسَقْيِ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْوَضْعُ الْمُتَّخَذُ لِسِقَايَةِ الْحَاجِّ فِي الْمَوْسِمِ (3) .
د - الْعِمَارَةُ:
5 - الْعِمَارَةُ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ عَمَّرْتُ الدَّارَ عَمْرًا أَيْ بَنَيْتُهَا، وَمِنْهُ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (4) .
__________
(1) المصباح مادة: (سدن) .
(2) المصباح مادة: (حجب) .
(3) المصباح مادة: (سقي) ، وروح المعاني 10 / 66 ط. الفكر.
(4) المصباح مادة: (عمر) ، روح المعاني 10 / 66 ط. الفكر.(22/274)
مَكَانَةُ الرِّفَادَةِ فِي الشَّرْعِ:
6 - الرِّفَادَةُ وَالسِّقَايَةُ وَالْعِمَارَةُ وَالْحِجَابَةُ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي كَانَتْ تَفْتَخِرُ بِهَا قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَعْتَبِرُونَهَا مِنَ الأَْعْمَال الَّتِي يَمْتَازُونَ بِهَا عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ، فَهُمْ حَمَاةُ الْبَيْتِ يَصُدُّونَ الأَْذَى عَنْهُ، وَيُطْعِمُونَ وَيَسْقُونَ مَنْ جَاءَهُ حَاجًّا أَوْ زَائِرًا، وَقَدْ بَلَغَ بِهِمُ الأَْمْرُ أَنْ جَعَلُوا هَذِهِ الأَْعْمَال كَعَمَل مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيل اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
7 - الرِّفَادَةُ مَشْرُوعَةٌ لإِِقْرَارِ الإِْسْلاَمِ لَهَا، وَهِيَ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ؛ لأَِنَّهَا إِكْرَامٌ لِلْحُجَّاجِ وَهُمْ ضُيُوفُ الرَّحْمَنِ، وَهِيَ صَدَقَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ، وَصِلَةٌ لِغَيْرِهِمْ.
__________
(1) سورة التوبة / 19.(22/274)
رَفَثٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّفَثُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْفَاءِ - فِي اللُّغَةِ: الْجِمَاعُ وَغَيْرُهُ مِمَّا يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ مِنْ تَقْبِيلٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَكُونُ فِي حَالَةِ الْجِمَاعِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْفُحْشِ.
وَقَال قَوْمٌ: الرَّفَثُ هُوَ قَوْل الْخَنَا، وَالْفُحْشِ، وَاحْتَجَّ هَؤُلاَءِ بِخَبَرِ: إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يَرْفُثْ، وَلاَ يَصْخَبْ (1) .
وَقَال أَبُو عُبَيْدَةَ: الرَّفَثُ: اللَّغْوُ مِنَ الْكَلاَمِ. يُقَال: رَفَثَ فِي كَلاَمِهِ يَرْفُثُ، وَأَرْفَثَ إِذَا تَكَلَّمَ بِالْقَبِيحِ، ثُمَّ جُعِل كِنَايَةً عَنِ الْجِمَاعِ وَعَنْ كُل مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَالرَّفَثُ بِاللِّسَانِ: ذِكْرُ الْمُجَامَعَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَالرَّفَثُ بِالْيَدِ، اللَّمْسُ، وَبِالْعَيْنِ: الْغَمْزُ، وَالرَّفَثُ بِالْفَرْجِ: الْجِمَاعُ (2) .
__________
(1) حديث: " إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 118 - ط السلفية) ، ومسلم 2 / 807 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) تاج العروس، وتفسير الرازي، وتفسير ابن كثير، في تفسير آية (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ) .(22/275)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: لاَ يَخْرُجُ الرَّفَثُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الرَّفَثُ بِمَعْنَى مُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ بِالْجِمَاعِ أَوْ غَيْرِهِ فِي الْعِبَادَاتِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
الرَّفَثُ فِي الصَّوْمِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ فِي أَنَّ مَنْ جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَمْدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ أَنَّهُ يَأْثَمُ، وَيَفْسُدُ صَوْمُهُ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، سَوَاءٌ أَنْزَل أَمْ لَمْ يُنْزِل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُحِل لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (1) وَالرَّفَثُ هُنَا الْجِمَاعُ (2) .
وَكَالْجِمَاعِ فِي الإِْثْمِ وَإِفْسَادِ الصَّوْمِ وَالْقَضَاءِ الإِْنْزَال بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ بِقُبْلَةٍ أَوْ بِلَمْسٍ وَلَوْ بِدُونِ جِمَاعٍ، فَإِنْ قَبَّل أَوْ لَمَسَ أَوْ ضَمَّهَا إِلَيْهِ فَلَمْ يُنْزِل لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ، وَهُوَ مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (3) .
أَمَّا الْجِمَاعُ نَاسِيًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يَأْكُل وَيَشْرَبُ نَاسِيًا: فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ. (4)
__________
(1) سورة البقرة / 187.
(2) أسنى المطالب 1 / 414، فتح القدير 2 / 253) ، المغني 3 / 120، حاشية الدسوقي 1 / 509.
(3) المصادر السابقة.
(4) حديث: " فليتم صومه " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 155 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 809 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(22/275)
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الأَْكْل وَالشُّرْبِ ثَبَتَ فِي الْجِمَاعِ لِلاِسْتِوَاءِ فِي الرُّكْنِيَّةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ النَّصِّ عِنْدَهُمْ: إِنَّ النَّاسِيَ كَالْمُتَعَمِّدِ فَيَفْسُدُ صَوْمُهُ إِذَا جَامَعَ نَاسِيًا، وَقَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَرَ الَّذِي جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِالْكَفَّارَةِ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ كَوْنِهِ عَمْدًا (2) . وَلَوِ افْتَرَقَ الْحَال لَسَأَل وَاسْتَفْصَل؛ وَلأَِنَّهُ يَجِبُ التَّعْلِيل بِمَا تَنَاوَلَهُ لَفْظُ السَّائِل وَهُوَ الْوُقُوعُ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الصَّوْمِ، وَلأَِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِيهِ، فَاسْتَوَى فِيهَا عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ كَالْحَجِّ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ (الصَّوْمِ) .
الرَّفَثُ فِي الاِعْتِكَافِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الرَّفَثَ فِي الاِعْتِكَافِ مُحَرَّمٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (4) فَإِنْ جَامَعَ مُتَعَمِّدًا فَسَدَ اعْتِكَافُهُ بِإِجْمَاعِ أَهْل الْعِلْمِ؛ لأَِنَّ الْجِمَاعَ إِذَا حُرِّمَ فِي الْعِبَادَةِ أَفْسَدَهَا كَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ.
__________
(1) فتح القدير 2 / 24، أسنى المطالب 1 / 414، 417
(2) حديث: " أمر الذي جامع في نهار رمضان بالكفارة " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 161 ط السلفية) من حديث عائشة.
(3) المغني 3 / 121، حاشية الدسوقي 1 / 527.
(4) سورة البقرة / 187.(22/276)
وَاخْتَلَفُوا فِي الْجِمَاعِ نَاسِيًا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ إِنْ جَامَعَ الْمُعْتَكِفُ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا بَطَل اعْتِكَافُهُ؛ لأَِنَّ مَا حُرِّمَ فِي الاِعْتِكَافِ اسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ فِي إِفْسَادِهِ كَالْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ جَامَعَ نَاسِيًا فَلاَ يَبْطُل اعْتِكَافُهُ.
أَمَّا التَّقْبِيل وَاللَّمْسُ بِشَهْوَةٍ فَهُوَ حَرَامٌ، وَيَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ إِنْ أَنْزَل لِعُمُومِ آيَةِ: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} أَمَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ مِثْل أَنْ تَغْسِل رَأْسَهُ أَوْ تُنَاوِلَهُ شَيْئًا فَلاَ بَأْسَ بِهِ (1) . لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يُدْنِي رَأْسَهُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَتُرَجِّلُهُ. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (اعْتِكَاف) .
الرَّفَثُ فِي الإِْحْرَامِ:
5 - الرَّفَثُ فِي الإِْحْرَامِ مُحَرَّمٌ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ
__________
(1) فتح القدير 2 / 313، حاشية الدسوقي 1 / 544، وأسنى المطالب 1 / 434، المغني 3 / 197 - 198
(2) حديث: " كان يدني رأسه لعائشة وهو معتكف " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 273 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 244 - ط الحلبي) .(22/276)
رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَال فِي الْحَجِّ} (1) فَإِنْ جَامَعَ فِي الْفَرْجِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَسَدَ نُسُكُهُ؛ لأَِنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ إِنْ كَانَ عَامِدًا، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ فَقَال: إِنِّي وَاقَعْتُ امْرَأَتِي وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ، فَقَال: أَفْسَدْتَ حَجَّكَ انْطَلِقْ أَنْتَ وَأَهْلُكَ مَعَ النَّاسِ فَاقْضُوا مَا يَقْضُونَ وَحُل إِذَا حَلُّوا، فَإِذَا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِل فَاحْجُجْ أَنْتَ وَأَهْلُكَ مَعَ النَّاسِ وَأَهْدِيَا هَدْيًا، فَإِنْ لَمْ تَجِدَا فَصُومَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعْتُمْ.
أَمَّا إِنْ جَامَعَ الْمُحْرِمُ نَاسِيًا فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: هُوَ كَمَنْ جَامَعَ عَامِدًا، قَالُوا: لأَِنَّ الْفَسَادَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الاِرْتِفَاقِ فِي الإِْحْرَامِ ارْتِفَاقًا مَخْصُوصًا، وَهَذَا لاَ يَنْعَدِمُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ، وَالْحَجُّ لَيْسَ بِمَعْنَى الصَّوْمِ، لأَِنَّ حَالاَتِ الإِْحْرَامِ مُذَكِّرَةٌ لَهُ كَالصَّلاَةِ؛ وَلأَِنَّهُ شَيْءٌ لاَ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ كَالشَّعْرِ إِذَا حَلَقَهُ، وَالصَّيْدِ إِذَا قَتَلَهُ، فَهَذِهِ الثَّلاَثَةُ يَسْتَوِي فِيهَا الْعَمْدُ، وَالنِّسْيَانُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَفْسُدُ حَجُّهُ؛ لأَِنَّهُ عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهَا، فَتَخْتَلِفُ بِالْمَذْكُورَاتِ فِي الْحُكْمِ كَالصَّوْمِ.
أَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، فَإِنْ أَنْزَل فَعَلَيْهِ دَمٌ وَإِنْ لَمْ يُنْزِل فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ
__________
(1) سورة البقرة / 197.(22/277)
الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَتِهِ (1) .
أَمَّا فَسَادُ الْحَجِّ وَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَنَوْعِهَا، وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِ الرَّفَثِ فِي الإِْحْرَامِ، فَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيل ذَلِكَ إِلَى مُصْطَلَحِ (إِحْرَام) .
__________
(1) فتح القدير 2 / 456، المغني 3 / 340، وأسنى المطالب 1 / 512، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 94 - 95(22/277)
رَفْضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّفْضُ فِي اللُّغَةِ: التَّرْكُ: يُقَال: رَفَضْتُ الشَّيْءَ أَرْفُضُهُ بِالضَّمِّ، وَأَرْفِضُهُ بِالْكَسْرِ رَفْضًا: إِذَا تَرَكْتَهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: جَعْل مَا وُجِدَ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالنِّيَّةِ كَالْمَعْدُومِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَسْخُ:
2 - الْفَسْخُ نَقْضُ الشَّيْءِ وَإِزَالَتُهُ. تَقُول: فَسَخْتُ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ إِذَا نَقَضْتَهُمَا (3) .
وَفِي هَذَا حَدِيثُ: كَانَ فَسْخُ الْحَجِّ رُخْصَةً لأَِصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) " وَفَسْخُ الْحَجِّ: أَنْ يَنْوِيَ
__________
(1) لسان العرب.
(2) مواهب الجليل 1 / 240، الزرقاني 1 / 66.
(3) لسان العرب.
(4) حديث: " كان فسخ الحج رخصة لأصحاب النبي " ورد من حديث بلال بن الحارث قال: قلت: يا رسول الله، فسخ الحج لنا خاصة، أو لمن بعدنا؟ قال: بل لكم خاصة. أخرجه أبو داود (2 / 399 - 400 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ونقل المنذري عن الإمام أحمد أنه قال: " إنه لا يثبت " كذا في مختصر السنن (2 / 331 - نشر دار المعرفة) ولكن معناه ثابت من حديث أبي ذر في صحيح مسلم (2 / 897 - ط الحلبي) .(22/278)
الْحَجَّ أَوَّلاً ثُمَّ يُبْطِلَهُ وَيَجْعَلَهُ عُمْرَةً. وَيُحِل ثُمَّ يَعُودَ فَيُحْرِمَ بِحَجَّةٍ. وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي بَحْثَيْ: إِحْرَام: (1 179) وَحَجّ: (5 287) .
ب - الإِْفْسَادُ:
3 - الإِْفْسَادُ مِنْ فَسَدَ الشَّيْءُ، وَأَفْسَدَهُ هُوَ: وَهُوَ ضِدُّ الصَّلاَحِ (1) .
ج - الإِْبْطَال:
4 - الإِْبْطَال هُوَ إِفْسَادُ الشَّيْءِ وَإِزَالَتُهُ حَقًّا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ أَوْ بَاطِلاً، وَاصْطِلاَحًا: الْحُكْمُ عَلَى الشَّيْءِ بِالْبُطْلاَنِ سَوَاءٌ وُجِدَ صَحِيحًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ سَبَبُ الْبُطْلاَنِ، وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلرَّفْضِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرَّفْضِ:
أ - رَفْضُ نِيَّةِ الْوُضُوءِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ رُكْنٌ فِي الْوُضُوءِ، فَإِذَا رَفَضَ النِّيَّةَ بَعْدَ كَمَال الْوُضُوءِ فَلاَ يُؤَثِّرُ هَذَا الرَّفْضُ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا رَفَضَ النِّيَّةَ فِي أَثْنَاءِ
__________
(1) لسان العرب.(22/278)
الْوُضُوءِ، فَإِنْ رَجَعَ وَكَمَّلَهُ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ قَرِيبًا عَلَى الْفَوْرِ فَلاَ يُؤَثِّرُ أَيْضًا. أَمَّا إِذَا رَفَضَهُ فِي أَثْنَائِهِ، ثُمَّ لَمْ يُكْمِلْهُ عَلَى الْفَوْرِ، بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ أَوْ كَمَّلَهُ عَلَى الْفَوْرِ بِنِيَّةِ التَّبَرُّدِ أَوِ التَّنْظِيفِ، فَإِنَّهُ يَبْطُل وَيُعِيدُ مَا تَمَّ بِهَذِهِ النِّيَّةِ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (وُضُوء) .
ب - رَفْضُ نِيَّةِ الصَّلاَةِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ رَفْضَ نِيَّةِ الصَّلاَةِ فِي أَثْنَائِهَا مُبْطِلٌ لَهَا، كَأَنْ قَطَعَ النِّيَّةَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ، أَوْ عَزَمَ عَلَى قَطْعِهَا، أَوْ تَرَدَّدَ هَل يَقْطَعُ أَمْ يَسْتَمِرُّ فِيهَا؟ وَطَال التَّرَدُّدُ، أَوْ يَأْتِي بِمَا يَتَنَافَى مَعَ نِيَّةِ الصَّلاَةِ؛ لأَِنَّهُ قَطَعَ حُكْمَ النِّيَّةِ قَبْل إِتْمَامِ صَلاَتِهِ فَفَسَدَتْ كَمَا لَوْ سَلَّمَ فِيهَا يَنْوِي قَطْعَ الصَّلاَةِ، وَلأَِنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي جَمِيعِ الصَّلاَةِ، وَقَدْ قَطَعَهَا بِمَا حَدَثَ، فَفَسَدَتْ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (نِيَّة) (وَصَلاَة) .
ج - رَفْضُ نِيَّةِ الصَّوْمِ
7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ: إِلَى أَنَّ رَفْضَ نِيَّةِ الصَّوْمِ يُبْطِل الصَّوْمَ وَلَوْ لَمْ يَفْعَل مَا يُفْسِدُ الصِّيَامَ.
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 240، الزرقاني 1 / 66، روضة الطالبين 1 / 19 - 50، كشاف القناع 1 / 86، 87
(2) الزرقاني 1 / 196، مواهب الجليل 1 / 515، نهاية المحتاج 1 / 457، روضة الطالبين 1 / 225، كشاف القناع 1 / 317، المغني 1 / 466 - 468(22/279)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ رَفْضَ نِيَّةِ الصَّوْمِ لاَ يُبْطِل الصَّوْمَ إِلاَّ بِمُبَاشَرَةِ مَا يُفْطِرُ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (صَوْم) .
د - رَفْضُ الإِْحْرَامِ:
8 - رَفْضُ الإِْحْرَامِ لاَ يُبْطِلُهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (2) . (ر: إِحْرَام ف 128) .
جَاءَ فِي التَّاجِ وَالإِْكْلِيل " إِنَّ رَافِضَ إِحْرَامِهِ لَيْسَ رَفْضُهُ بِمُضَادٍّ لِمَا هُوَ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا رَفَضَ مَوَاضِعَ يَأْتِيهَا فَإِذَا رَفَضَ إِحْرَامَهُ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُخَاطَبُ بِهَا فَفَعَلَهَا لَمْ يَحْصُل لِرَفْضِهِ حُكْمٌ ".
وَقَال فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: وَإِنْ قَال فِي إِحْرَامِهِ مَتَى شِئْتُ أَحْلَلْتُهُ، أَوْ إِنْ أَفْسَدْتُهُ لَمْ أَقْضِهِ، لَمْ يَصِحَّ (3) ".
وَالتَّفْصِيل فِي (إِحْرَام) .
هـ - رَفْضُ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ:
9 - إِذَا أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَهَا بِإِحْرَامِ الْحَجِّ فَلاَ يَخْلُو مِنْ ثَلاَثِ صُوَرٍ:
__________
(1) الدر المختار 2 / 123، التاج والإكليل 3 / 48، روضة الطالبين 1 / 225، المغني 3 / 118، كشاف القناع 2 / 316.
(2) التاج والإكليل 3 / 8 - 49، روضة الطالبين 1 / 225.
(3) كشاف القناع 2 / 409، والتاج والإكليل 3 / 48.(22/279)
الأُْولَى: الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْل الْبَدْءِ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ:
يَجُوزُ إِدْخَال الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِأَدَاءِ أَعْمَال كِلاَ النُّسُكَيْنِ، وَيَكُونُ قَارِنًا عِنْدَهُمْ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَكِّيًّا أَمْ آفَاقِيًّا، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ مِنْ جَوَازِ الْقِرَانِ لِلْمَكِّيِّ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: صَحَّ ذَلِكَ لِلآْفَاقِيِّ، وَيَصِيرُ قَارِنًا، وَلاَ يَصِحُّ لِلْمَكِّيِّ، فَإِذَا أَضَافَ الْمَكِّيُّ إِحْرَامَ الْحَجِّ عَلَى إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَبْدَأْ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ، عَلَيْهِ أَنْ يَرْفُضَ الْعُمْرَةَ وَيَمْضِيَ عَلَى حَجَّتِهِ، وَعَلَيْهِ دَمُ الرَّفْضِ وَقَضَاءُ الْعُمْرَةِ؛ لأَِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَعْصِيَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَكِّيِّ، وَالنُّزُوعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ لاَزِمٌ. وَإِنَّمَا يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ دُونَ الْحَجِّ؛ لأَِنَّهَا أَقَل عَمَلاً وَأَخَفُّ مُؤْنَةً مِنَ الْحَجَّةِ، فَكَانَ رَفْضُهَا أَيْسَرَ.
وَوَجْهُ وُجُوبِ الدَّمِ وَالْعُمْرَةِ قَضَاءً، هُوَ أَنَّهُ تَحَلَّل مِنَ الْعُمْرَةِ قَبْل وَقْتِ التَّحَلُّل فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ كَالْمُحْصَرِ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ قَضَاءً بِسَبَبِ شُرُوعِهِ فِيهَا بِالإِْحْرَامِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
__________
(1) المواق مع الحطاب 3 / 50، 51، ومغني المحتاج 1 / 514، والمغني لابن قدامة 3 / 72، 484
(2) البدائع 2 / 169، 170، وفتح القدير 3 / 43، 44، والزيلعي 2 / 74، 75(22/280)
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ بَعْدَ تَمَامِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ:
صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِدْخَال الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ بَعْدَ الطَّوَافِ لِلْعُمْرَةِ لاِتِّصَال إِحْرَامِهِ بِمَقْصُودِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ أَفْعَالِهَا فَلاَ يَنْصَرِفُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهَا، كَمَا عَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ (1) .
وَلأَِنَّهُ شَارِعٌ فِي التَّحَلُّل مِنَ الْعُمْرَةِ فَلَمْ يَجُزْ إِدْخَال الْحَجِّ عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَسْتَمِرُّ فِي أَعْمَال الْعُمْرَةِ وَيَرْفُضُ الْحَجَّ؛ لأَِنَّ الْعُمْرَةَ مُؤَدَّاةٌ، وَالْحَجَّ غَيْرُ مُؤَدًّى فَكَانَ رَفْضُ الْحَجِّ امْتِنَاعًا عَنِ الأَْدَاءِ وَرَفْضُ الْعُمْرَةِ إِبْطَالاً لِلْعَمَل، وَالاِمْتِنَاعُ عَنِ الْعَمَل دُونَ الإِْبْطَال، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (3) فَكَانَ رَفْضُ الْحَجِّ أَوْلَى.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ أَتَمَّ أَكْثَرَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ، كَأَنْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَأَكْثَرَ فَهُوَ فِي حُكْمِ مَنْ أَتَمَّ جَمِيعَهَا؛ لأَِنَّ لِلأَْكْثَرِ حُكْمَ الْكُل (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَصِحُّ إِضَافَةُ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 514.
(2) المغني لابن قدامة 3 / 484.
(3) سورة محمد / 33.
(4) فتح القدير 3 / 44، وتبيين الحقائق للزيلعي 2 / 74، 75(22/280)
بَعْدَ الطَّوَافِ لِلْعُمْرَةِ، وَيَصِيرُ قَارِنًا لَكِنَّهُ يُكْرَهُ، مَعَ تَفْصِيلٍ عِنْدَهُمْ (1) .
الثَّالِثَةُ: الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ بَعْدَ أَنْ طَافَ أَقَل أَشْوَاطِ الْعُمْرَةِ:
قَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ إِدْخَال الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْل تَمَامِ الطَّوَافِ وَيَمْضِي فِي أَعْمَالِهِمَا وَيَصِيرُ قَارِنًا (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ شَرَعَ فِي الطَّوَافِ وَلَوْ بِخُطْوَةٍ، ثُمَّ أَحْرَمَ فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ؛ لاِتِّصَال إِحْرَامِهِ بِمَقْصُودِهِ، وَهُوَ الطَّوَافُ، فَلاَ يَنْصَرِفُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ الْعُمْرَةِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَحْرَمَ الْمَكِّيُّ بِعُمْرَةٍ، وَطَافَ أَقَل مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْفُضَ أَحَدَ النُّسُكَيْنِ: (الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ) ، لأَِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَعْصِيَةٌ، وَالنُّزُوعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ لاَزِمٌ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا:
فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَرْفُضُ الْحَجَّ؛ لأَِنَّ إِحْرَامَ الْعُمْرَةِ قَدْ تَأَكَّدَ بِأَدَاءِ الشَّيْءِ مِنْ أَعْمَالِهَا وَهُوَ الطَّوَافُ، وَإِحْرَامُ الْحَجِّ لَمْ يَتَأَكَّدْ بِأَيِّ عَمَلٍ،
__________
(1) الحطاب وبهامشه المواق 3 / 53، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 28، 29
(2) الحطاب 3 / 50، 51، والمغني لابن قدامة 3 / 472.
(3) مغني المحتاج 1 / 514، والحطاب مع المواق 3 / 50، 51(22/281)
وَرَفْعُ غَيْرِ الْمُتَأَكِّدِ أَيْسَرُ؛ وَلأَِنَّ رَفْضَ الْحَجِّ امْتِنَاعٌ عَنِ الْعَمَل، وَرَفْضُ الْعُمْرَةِ إِبْطَالٌ لِلْعَمَل، وَالاِمْتِنَاعُ دُونَ الإِْبْطَال.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَرْفُضُ الْعُمْرَةَ، وَيَمْضِي فِي الْحَجِّ؛ لأَِنَّ الْعُمْرَةَ أَدْنَى حَالاً وَأَقَل أَعْمَالاً وَأَيْسَرُ قَضَاءً؛ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ بِالْوَقْتِ، فَكَانَ رَفْضُ الْعُمْرَةِ أَوْلَى (1) .
أَثَرُ الرَّفْضِ وَجَزَاؤُهُ:
10 - إِذَا رَفَضَ الْحَجَّ عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ فَعَلَيْهِ لِرَفْضِهِ دَمٌ؛ لأَِنَّهُ تَحَلَّل مِنْهُ قَبْل وَقْتِ التَّحَلُّل فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ كَالْمُحْصَرِ، وَعَلَيْهِ كَذَلِكَ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ؛ لأَِنَّ الْحَجَّةَ وَجَبَتْ بِالشُّرُوعِ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَلِعَدَمِ إِتْيَانِهِ بِأَفْعَال الْحَجَّةِ فِي السَّنَةِ الَّتِي أَحْرَمَ فِيهَا فَصَارَ كَفَائِتِ الْحَجِّ. وَإِذَا رَفَضَ الْعُمْرَةَ عَلَى قَوْلِهِمَا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَقَضَاءُ الْعُمْرَةِ؛ لأَِنَّهُ أَدَّى الْحَجَّ، وَالْعُمْرَةُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ (2) .
هَذَا، وَإِنْ مَضَى فِيهِمَا، وَلَمْ يَرْفُضِ الْحَجَّ وَلاَ الْعُمْرَةَ صَحَّ؛ لأَِنَّهُ أَدَّى أَفْعَالَهُمَا كَمَا الْتَزَمَهُمَا غَيْرَ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا، وَالنَّهْيُ لاَ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْفِعْل
__________
(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني 2 / 169، 170، وتبيين الحقائق للزيلعي 2 / 74، 75، وفتح القدير مع الهداية 3 / 43 - 45
(2) المراجع السابقة.(22/281)
كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لَكِنْ يَلْزَمُهُ دَمٌ لِجَمْعِهِ بَيْنَهُمَا؛ لأَِنَّهُ تَمَكَّنَ النُّقْصَانُ فِي عَمَلِهِ؛ لاِرْتِكَابِهِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، وَهَذَا دَمُ إِجْبَارٍ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ، وَدَمُ شُكْرٍ فِي حَقِّ الآْفَاقِيِّ (1) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ فِي (إِحْرَام) وَ (قِرَان ف 22 - 27)
__________
(1) الهداية مع شروحها 3 / 45.(22/282)
رَفْعُ الْحَرَجِ
التَّعْرِيفُ -
رَفْعُ الْحَرَجِ: مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ، تَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى مَعْرِفَةٍ لَفْظِيَّةٍ، فَالرَّفْعُ لُغَةً: نَقِيضُ الْخَفْضِ فِي كُل شَيْءٍ، وَالتَّبْلِيغُ، وَالْحَمْل، وَتَقْرِيبُكَ الشَّيْءَ، وَالأَْصْل فِي مَادَّةِ الرَّفْعِ الْعُلُوُّ، يُقَال: ارْتَفَعَ الشَّيْءُ ارْتِفَاعًا إِذَا عَلاَ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الإِْزَالَةِ. يُقَال: رُفِعَ الشَّيْءُ: إِذَا أُزِيل عَنْ مَوْضِعِهِ.
قَال فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: الرَّفْعُ فِي الأَْجْسَامِ حَقِيقَةٌ فِي الْحَرَكَةِ وَالاِنْتِقَال، وَفِي الْمَعَانِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ (1) وَالْقَلَمُ لَمْ يُوضَعْ عَلَى الصَّغِيرِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ لاَ تَكْلِيفَ، فَلاَ مُؤَاخَذَةَ (2) .
وَالْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ: الْمَكَانُ الضَّيِّقُ الْكَثِيرُ
__________
(1) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة. . . . " أخرجه أبو داود (4 / 558 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (2 / 59 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) لسان العرب والقاموس المحيط والمصباح المنير ولسان العرب، مادة: (رفع) .(22/282)
الشَّجَرِ، وَالضِّيقُ وَالإِْثْمُ، وَالْحَرَامُ، وَالأَْصْل فِيهِ الضِّيقُ. قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: الْحَرَجُ فِي الأَْصْل: الضِّيقُ، وَيَقَعُ عَلَى الإِْثْمِ وَالْحَرَامِ.
تَقُول رَجُلٌ حَرِجٌ وَحَرَجٌ إِذَا كَانَ ضَيِّقَ الصَّدْرِ. وَقَال الزَّجَّاجُ: الْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ أَضْيَقُ الضِّيقِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ ضَيِّقٌ جِدًّا.
فَرَفْعُ الْحَرَجِ فِي اللُّغَةِ: إِزَالَةُ الضِّيقِ، وَنَفْيُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ. ثُمَّ إِنَّ مَعْنَى الرَّفْعِ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (1) .
وَالْحَرَجُ فِي الاِصْطِلاَحِ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ وَضِيقٌ فَوْقَ الْمُعْتَادِ (2) ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ. وَرَفْعُ الْحَرَجِ: إِزَالَةُ مَا فِي التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ مِنَ الْمَشَقَّةِ بِرَفْعِ التَّكْلِيفِ مِنْ أَصْلِهِ أَوْ بِتَخْفِيفِهِ أَوْ بِالتَّخْيِيرِ فِيهِ، أَوْ بِأَنْ يُجْعَل لَهُ مَخْرَجٌ، كَمَا سَبَقَ فِي الْمَوْسُوعَةِ فِي مُصْطَلَحِ (تَيْسِير) .
فَالْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ مُتَرَادِفَانِ، وَرَفْعُ الْحَرَجِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الشِّدَّةِ خِلاَفًا لِلتَّيْسِيرِ. وَالْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ قَدْ يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ أَيْضًا " دَفْعَ الْحَرَجِ " " وَنَفْيَ الْحَرَجِ (3) ".
__________
(1) الكليات 2 / 388 منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي - دمشق 1975 م، المغرب 193 دار الكتاب العربي.
(2) الموافقات للشاطبي تعليق الشيخ عبد الله دراز 2 / 159 المكتبة التجارية 1955م
(3) فواتح الرحموت 1 / 156 دار صادر، الأشباه والنظائر لابن نجيم 80، أحكام القرآن لابن العربي 2 / 302 دار الكتاب العربي.(22/283)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّيْسِيرُ:
2 - التَّيْسِيرُ: السُّهُولَةُ وَالسِّعَةُ، وَهُوَ مَصْدَرُ يَسَّرَ، وَالْيُسْرُ ضِدُّ الْعُسْرِ، وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ (1) أَيْ أَنَّهُ سَهْلٌ سَمْحٌ قَلِيل التَّشْدِيدِ، وَالتَّيْسِيرُ يَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ قَوْلُهُ: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (2) . وَقَوْلُهُ: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (3) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ. وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّيْسِيرِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ شِدَّةٍ.
ب - الرُّخْصَةُ:
3 - الرُّخْصَةُ: التَّسْهِيل فِي الأَْمْرِ وَالتَّيْسِيرُ، يُقَال: رَخَّصَ الشَّرْعُ لَنَا فِي كَذَا تَرْخِيصًا وَأَرْخَصَ إِرْخَاصًا إِذَا يَسَّرَهُ وَسَهَّلَهُ. وَرَخَّصَ لَهُ فِي الأَْمْرِ: أَذِنَ لَهُ فِيهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَتَرْخِيصُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ فِي أَشْيَاءَ: تَخْفِيفُهَا عَنْهُ، وَالرُّخْصَةُ فِي الأَْمْرِ وَهُوَ خِلاَفُ التَّشْدِيدِ (4) .
__________
(1) حديث: " إن الدين يسر. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 93 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(2) سورة الليل / 7.
(3) سورة الليل / 10.
(4) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (رخص) .(22/283)
فَالرُّخْصَةُ فُسْحَةٌ فِي مُقَابَلَةِ التَّضْيِيقِ وَالْحَرَجِ (1) .
ج - الضَّرَرُ:
4 - الضَّرَرُ فِي اللُّغَةِ ضِدُّ النَّفْعِ، وَهُوَ النُّقْصَانُ يَدْخُل فِي الشَّيْءِ (2) ، فَالضَّرَرُ قَدْ يَكُونُ أَثَرًا مِنْ آثَارِ عَدَمِ رَفْعِ الْحَرَجِ.
رَفْعُ الْحَرَجِ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ:
5 - رَفْعُ الْحَرَجِ مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَأَصْلٌ مِنْ أُصُولِهَا، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى التَّكْلِيفِ بِالشَّاقِّ وَالإِْعْنَاتِ فِيهِ، وَقَدْ دَل عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَانْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ.
فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} وقَوْله تَعَالَى (4) : {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَل عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (5) وقَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (6) وقَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ
__________
(1) المستصفى 1 / 98 دار صادر.
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (ضرر) .
(3) سورة الحج: 78
(4) سورة البقرة / 286.
(5) سورة المائدة / 6.
(6) سورة البقرة / 185.(22/284)
الإِْنْسَانُ ضَعِيفًا} (1) .
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْل النَّبِيِّ: بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ (2) . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ: مَا خُيِّرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا (3) .
وَانْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الْحَرَجِ فِي التَّكْلِيفِ، وَهُوَ يَدُل عَلَى عَدَمِ قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ وَاقِعًا لَحَصَل فِي الشَّرِيعَةِ التَّنَاقُضُ وَالاِخْتِلاَفُ، وَذَلِكَ مَنْفِيٌّ عَنْهَا، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ وَضْعُ الشَّرِيعَةِ عَلَى قَصْدِ الإِْعْنَاتِ وَالْمَشَقَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى قَصْدِ الرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ، كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَنَاقُضًا وَاخْتِلاَفًا، وَهِيَ مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ مَا ثَبَتَ أَيْضًا مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الرُّخَصِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُتَطَوَّعٌ بِهِ، وَمِمَّا عُلِمَ مِنْ دِينِ الأُْمَّةِ بِالضَّرُورَةِ، كَرُخَصِ الْقَصْرِ، وَالْفِطْرِ، وَالْجَمْعِ، وَتَنَاوُل الْمُحَرَّمَاتِ فِي الاِضْطِرَارِ. فَإِنَّ هَذَا نَمَطٌ يَدُل قَطْعًا عَلَى مُطْلَقِ رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ.
وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ التَّعَمُّقِ
__________
(1) سورة النساء / 28.
(2) حديث: " بعثت بالحنيفية السمحة " أخرجه ابن سعد في الطبقات (1 / 192 - ط دار صادر) من حديث حبيب بن أبي ثابت مرسلاً.
(3) حديث: " ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 86 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1813 - ط الحلبي) .(22/284)
وَالتَّكَلُّفِ فِي الاِنْقِطَاعِ عَنْ دَوَامِ الأَْعْمَال. وَلَوْ كَانَ الشَّارِعُ قَاصِدًا لِلْمَشَقَّةِ فِي التَّكْلِيفِ لَمَا كَانَ ثَمَّ تَرْخِيصٌ وَلاَ تَخْفِيفٌ؛
وَلأَِجْل ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مِنَ الأَْحْكَامِ عَلَى الصَّبِيِّ الْعَاقِل لِقُصُورِ الْبَدَنِ، أَوْ لِقُصُورِهِ وَقُصُورِ الْعَقْل، وَلاَ عَلَى الْمَعْتُوهِ الْبَالِغِ لِقُصُورِ الْعَقْل. وَلَمْ يَجِبْ قَضَاءُ الصَّلاَةِ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَانْتَفَى الإِْثْمُ فِي خَطَأِ الْمُجْتَهِدِ، وَكَذَا فِي النِّسْيَانِ وَالإِْكْرَاهِ.
قَال الشَّاطِبِيُّ: إِنَّ الأَْدِلَّةَ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ فِي هَذِهِ الأُْمَّةِ بَلَغَتْ مَبْلَغَ الْقَطْعِ (1) .
أَقْسَامُ الْحَرَجِ:
يَنْقَسِمُ الْحَرَجُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
6 - الأَْوَّل: حَقِيقِيٌّ، وَهُوَ مَا كَانَ لَهُ سَبَبٌ مُعَيَّنٌ وَاقِعٌ، أَوْ مَا تَحَقَّقَ بِوُجُودِهِ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ كَحَرَجِ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ.
الثَّانِي: تَوَهُّمِيٌّ، وَهُوَ مَا لَمْ يُوجَدِ السَّبَبُ الْمُرَخِّصُ لأَِجْلِهِ، وَلَمْ تَكُنْ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ عَلَى وَجْهٍ مُحَقَّقٍ (2) .
وَالْقِسْمُ الأَْوَّل هُوَ الْمُعْتَبَرُ بِالرَّفْعِ وَالتَّخْفِيفِ؛ لأَِنَّ الأَْحْكَامَ لاَ تُبْنَى عَلَى الأَْوْهَامِ، وَالْحَرَجُ
__________
(1) الموافقات 1 / 340 المكتبة التجارية الكبرى 1955 م، مسلم الثبوت 1 / 168 دار صادر بذيل المستصفى.
(2) الموافقات 1 / 333، 334 وما بعدها المكتبة التجارية الكبرى.(22/285)
الْحَقِيقِيُّ يَنْقَسِمُ مِنْ حَيْثُ وَقْتِ تَحَقُّقِهِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الأَْوَّل: الْحَرَجُ الْحَالِيُّ: وَهُوَ مَا كَانَتْ مَشَقَّتُهُ مُتَحَقِّقَةً فِي الْحَال، كَالشُّرُوعِ فِي عِبَادَةٍ شَاقَّةٍ فِي نَفْسِهَا، وَكَالْحَرَجِ الْحَاصِل لِلْمَرِيضِ بِاسْتِعْمَال الْمَاءِ، أَوِ الْحَاصِل لِغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ عَلَى الْحَجِّ أَوْ رَمْيِ الْجِمَارِ بِنَفْسِهِ إِنْ مَنَعْنَاهُ مِنَ الاِسْتِنَابَةِ (1) .
الثَّانِي: الْحَرَجُ الْمَالِيُّ: وَهُوَ مَا يَلْحَقُ الْمُكَلَّفَ بِسَبَبِ الدَّوَامِ عَلَى فِعْلٍ لاَ حَرَجَ مِنْهُ. كَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَال: كُنْتُ أَصُومُ الدَّهْرَ، وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُل لَيْلَةٍ فَإِمَّا ذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمَّا أَرْسَل إِلَيَّ فَأَتَيْتُهُ، فَقَال لِي: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ، وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُل لَيْلَةٍ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ، وَلَمْ أُرِدْ بِذَلِكَ إِلاَّ الْخَيْرَ، قَال: فَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ مِنْ كُل شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَل مِنْ ذَلِكَ. قَال: فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. قَال: فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ، قَال: فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ؟ قَال: كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا. قَال: وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُل شَهْرٍ قَال: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَل مِنْ ذَلِكَ، قَال: فَاقْرَأْهُ فِي كُل عِشْرِينَ قَال: فَقُلْتُ:
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 77 دار الكتب العلمية 1983 م.(22/285)
يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَل مِنْ ذَلِكَ، قَال: فَاقْرَأْهُ فِي كُل عَشْرٍ قَال: قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَل مِنْ ذَلِكَ. قَال: فَاقْرَأْهُ فِي كُل سَبْعٍ وَلاَ تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. قَال: فَشَدَّدْتُ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيَّ، قَال: وَقَال لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُول بِكَ عُمُرٌ. قَال: فَصِرْتُ إِلَى الَّذِي قَال لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
قَال الشَّاطِبِيُّ: إِنَّ دُخُول الْمَشَقَّةِ وَعَدَمَهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي الدَّوَامِ أَوْ غَيْرِهِ لَيْسَ أَمْرًا مُنْضَبِطًا بَل هُوَ إِضَافِيٌّ مُخْتَلِفٌ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ النَّاسِ فِي قُوَّةِ أَجْسَامِهِمْ أَوْ فِي قُوَّةِ عَزَائِمِهِمْ، أَوْ فِي قُوَّةِ يَقِينِهِمْ (2) .
وَيَنْقَسِمُ الْحَرَجُ مِنْ حَيْثُ الْقُدْرَةُ عَلَى الاِنْفِكَاكِ وَعَدَمِهِ إِلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ.
فَالْحَرَجُ الْعَامُّ هُوَ الَّذِي لاَ قُدْرَةَ لِلإِْنْسَانِ فِي الاِنْفِكَاكِ عَنْهُ غَالِبًا كَالتَّغَيُّرِ اللاَّحِقِ لِلْمَاءِ بِمَا لاَ يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا، كَالتُّرَابِ وَالطُّحْلُبِ وَشِبْهِ ذَلِكَ.
وَالْحَرَجُ الْخَاصُّ هُوَ مَا كَانَ فِي قُدْرَةِ الإِْنْسَانِ الاِنْفِكَاكُ عَنْهُ غَالِبًا، كَتَغَيُّرِ الْمَاءِ بِالْخَل وَالزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ.
__________
(1) حديث عبد الله بن عمرو قال: " كنت أصوم الدهر " أخرجه مسلم (2 / 813 - 814 - ط الحلبي) .
(2) الاعتصام للشاطبي 1 / 244، 249، 255 المكتبة التجارية الكبرى 1955 م(22/286)
7 - هَذَا تَقْسِيمُ الشَّاطِبِيِّ، وَهُنَاكَ مَنْ يُقَسِّمُ الْحَرَجَ إِلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ مِنْ حَيْثُ شُمُول الْحَرَجِ وَعَدَمِهِ. فَالْعَامُّ مَا كَانَ عَامًّا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَالْخَاصُّ مَا كَانَ بِبَعْضِ الأَْقْطَارِ، أَوْ بَعْضِ الأَْزْمَانِ، أَوْ بَعْضِ النَّاسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِذَا كَانَ الْحَرَجُ فِي نَازِلَةٍ عَامَّةٍ فِي النَّاسِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ، وَإِذَا كَانَ خَاصًّا لَمْ يُعْتَبَرْ عِنْدَنَا، وَفِي بَعْضِ أُصُول الشَّافِعِيِّ اعْتِبَارُهُ ".
كَمَا يُمْكِنُ تَقْسِيمُ الْحَرَجِ إِلَى بَدَنِيٍّ وَنَفْسِيٍّ.
فَالْبَدَنِيُّ: مَا كَانَ أَثَرُهُ وَاقِعًا عَلَى الْبَدَنِ كَوُضُوءِ الْمَرِيضِ الَّذِي يَضُرُّهُ الْمَاءُ، وَصَوْمِ الْمَرِيضِ، وَكَبِيرِ السِّنِّ، وَتَرْكِ الْمُضْطَرِّ أَكْل الْمَيْتَةِ.
وَالنَّفْسِيُّ: مَا كَانَ أَثَرُهُ وَاقِعًا عَلَى النَّفْسِ، كَالأَْلَمِ وَالضِّيقِ بِسَبَبِ مَعْصِيَةٍ أَوْ ذَنْبٍ صَدَرَ مِنْهُ، وَقَدْ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} إِنَّمَا ذَلِكَ سِعَةُ الإِْسْلاَمِ مَا جَعَل اللَّهُ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ (1) .
شُرُوطُ الْحَرَجِ الْمَرْفُوعِ:
8 - لَيْسَ كُل حَرَجٍ مَرْفُوعًا. بَل هُنَاكَ شُرُوطٌ لاَ بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهَا لاِعْتِبَارِ رَفْعِ الْحَرَجِ وَهِيَ:
(1) أَنْ يَكُونَ الْحَرَجُ حَقِيقِيًّا، وَهُوَ مَا لَهُ سَبَبٌ مُعَيَّنٌ وَاقِعٌ، كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، أَوْ مَا تَحَقَّقَ بِوُجُودِهِ
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2 / 159 وما بعدها، وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 310.(22/286)
مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ. وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ اعْتِبَارَ بِالْحَرَجِ التَّوَهُّمِيِّ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُوجَدِ السَّبَبُ الْمُرَخِّصُ لأَِجْلِهِ، إِذْ لاَ يَصِحُّ أَنْ يُبْنَى حُكْمٌ عَلَى سَبَبٍ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، كَمَا أَنَّ الظُّنُونَ وَالتَّقْدِيرَاتِ غَيْرِ الْمُحَقَّقَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى قِسْمِ التَّوَهُّمَاتِ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ. وَكَذَلِكَ أَهْوَاءُ النَّاسِ، فَإِنَّهَا تُقَدِّرُ أَشْيَاءَ لاَ حَقِيقَةَ لَهَا. فَالصَّوَابُ أَنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ بِالْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ حِينَئِذٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوَهُّمَ غَيْرُ صَادِقٍ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْوَال (1) .
(2) أَنْ لاَ يُعَارِضَ نَصًّا. فَالْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ إِنَّمَا يُعْتَبَرَانِ فِي مَوْضِعٍ لاَ نَصَّ فِيهِ، وَأَمَّا فِي حَال مُخَالَفَةِ النَّصِّ فَلاَ يُعْتَدُّ بِهِمَا (2) .
وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يَأْتِي فِي تَعَارُضِ رَفْعِ الْحَرَجِ مَعَ النَّصِّ.
(3) أَنْ يَكُونَ عَامًّا. قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِذَا كَانَ الْحَرَجُ فِي نَازِلَةٍ عَامَّةٍ فِي النَّاسِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ، وَإِذَا كَانَ خَاصًّا لَمْ يُعْتَبَرْ عِنْدَنَا، وَفِي بَعْضِ أُصُول الشَّافِعِيِّ اعْتِبَارُهُ، وَذَلِكَ يُعْرَضُ فِي مَسَائِل الْخِلاَفِ (3) .
وَقَدْ فَسَّرَ الشَّاطِبِيُّ الْحَرَجَ الْعَامَّ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لاَ قُدْرَةَ لِلإِْنْسَانِ عَلَى الاِنْفِكَاكِ عَنْهُ، كَالتَّغَيُّرِ اللاَّحِقِ لِلْمَاءِ بِالتُّرَابِ وَالطُّحْلُبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا
__________
(1) الموافقات 1 / 333 وما بعدها.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم 83
(3) أحكام القرآن لابن العربي 3 / 310.(22/287)
لاَ يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا، وَالْخَاصُّ هُوَ مَا يَطَّرِدُ الاِنْفِكَاكُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ كَتَغَيُّرِ الْمَاءِ بِالْخَل وَالزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ (1) .
أَسْبَابُ رَفْعِ الْحَرَجِ:
9 - أَسْبَابُ رَفْعِ الْحَرَجِ هِيَ السَّفَرُ، وَالْمَرَضُ، وَالإِْكْرَاهُ، وَالنِّسْيَانُ، وَالْجَهْل، وَالْعُسْرُ، وَعُمُومُ الْبَلْوَى، وَالنَّقْصُ، وَتَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (تَيْسِير (2)) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَرُخَصُ السَّفَرِ ثَمَانِيَةٌ:
مِنْهَا: مَا يَخْتَصُّ بِالطَّوِيل قَطْعًا وَهُوَ الْقَصْرُ، وَالْفِطْرُ، وَالْمَسْحُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ.
وَمِنْهَا: مَا لاَ يَخْتَصُّ بِهِ قَطْعًا، وَهُوَ تَرْكُ الْجُمُعَةِ، وَأَكْل الْمَيْتَةِ.
وَمِنْهَا: مَا فِيهِ خِلاَفٌ، وَالأَْصَحُّ اخْتِصَاصُهُ بِهِ وَهُوَ الْجَمْعُ.
وَمِنْهَا: مَا فِيهِ خِلاَفٌ، وَالأَْصَحُّ عَدَمُ اخْتِصَاصِهِ بِهِ، وَهُوَ التَّنَفُّل عَلَى الدَّابَّةِ، وَإِسْقَاطُ الْفَرْضِ بِالتَّيَمُّمِ.
وَاسْتَدْرَكَ ابْنُ الْوَكِيل رُخْصَةً تَاسِعَةً، صَرَّحَ بِهَا الْغَزَالِيُّ وَهِيَ:
مَا إِذَا كَانَ لَهُ نِسْوَةٌ وَأَرَادَ السَّفَرَ، فَإِنَّهُ يُقْرِعُ
__________
(1) الموافقات 2 / 159 وما بعدها.
(2) الموسوعة 14 / 213 وما بعدها.(22/287)
بَيْنَهُنَّ، وَيَأْخُذُ مَنْ خَرَجَتْ لَهَا الْقُرْعَةُ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ لِضَرَّاتِهَا إِذَا رَجَعَ. (ر: تَيْسِير) .
كَيْفِيَّةُ رَفْعِ الْحَرَجِ:
رَفْعُ الْحَرَجِ ابْتِدَاءً:
10 - لاَ يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ بِمَا فِيهِ الْحَرَجُ ابْتِدَاءً فَضْلاً مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مِنَ الأَْحْكَامِ عَلَى الصَّبِيِّ الْعَاقِل، وَلاَ عَلَى الْمَعْتُوهِ الْبَالِغِ، وَلَمْ يَجِبْ قَضَاءُ الصَّلاَةِ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ (1) . كَمَا أَنَّ هُنَاكَ الْكَثِيرَ مِنَ الأَْحْكَامِ وَالتَّشْرِيعَاتِ الَّتِي جَاءَتْ ابْتِدَاءً لِرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَنِ النَّاسِ، وَلَوْلاَهَا لَوَقَعَ النَّاسُ فِيهِمَا. وَمِنْهَا مَشْرُوعِيَّةُ الْخِيَارِ، إِذْ إِنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ غَالِبًا مِنْ غَيْرِ تَرَوٍّ وَيَحْصُل فِيهِ النَّدَمُ فَيَشُقُّ عَلَى الْعَاقِدِ، فَسَهَّل الشَّارِعُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِجَوَازِ الْفَسْخِ فِي مَجْلِسِهِ وَمِنْهَا الرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَالتَّحَالُفُ وَالإِْقَالَةُ وَالْحَوَالَةُ وَالرَّهْنُ وَالضَّمَانُ وَالإِْبْرَاءُ وَالْقَرْضُ وَالشَّرِكَةُ وَالصُّلْحُ وَالْحَجْرُ وَالْوَكَالَةُ وَالإِْجَارَةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْعَارِيَّةُ الْوَدِيعَةُ لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ الْعَظِيمَةِ فِي أَنَّ كُل وَاحِدٍ لاَ يَنْتَفِعُ إِلاَّ بِمَا هُوَ مِلْكُهُ، وَلاَ يَسْتَوْفِي إِلاَّ مِمَّنْ عَلَيْهِ حَقُّهُ، وَلاَ يَأْخُذُهُ إِلاَّ بِكَمَالِهِ، وَلاَ يَتَعَاطَى أُمُورَهُ إِلاَّ بِنَفْسِهِ، فَسَهُل الأَْمْرُ بِإِبَاحَةِ الاِنْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِطَرِيقِ الإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ وَالْقَرْضِ، وَبِالاِسْتِعَانَةِ
__________
(1) تيسير التحرير 2 / 253 مصطفى البابي الحلبي 1350 هـ، مسلم الثبوت 1 / 169 دار صادر.(22/288)
بِالْغَيْرِ وَكَالَةً وَإِيدَاعًا وَشَرِكَةً وَمُضَارَبَةً وَمُسَاقَاةً، وَبِالاِسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ الْمَدْيُونِ حَوَالَةً، وَبِالتَّوْثِيقِ عَلَى الدَّيْنِ بِرَهْنٍ وَكَفِيلٍ وَضَمَانٍ وَحَجْرٍ، وَبِإِسْقَاطِ بَعْضِ الدَّيْنِ صُلْحًا أَوْ كُلِّهِ إِبْرَاءً.
وَمِنْ تِلْكَ الأَْحْكَامِ الَّتِي جَاءَتْ لِرَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ أَيْضًا جَوَازُ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ؛ لأَِنَّ لُزُومَهَا شَاقٌّ فَتَكُونُ سَبَبًا لِعَدَمِ تَعَاطِيهَا، وَمِنْهَا لُزُومُ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ، وَإِلاَّ لَمْ يَسْتَقِرَّ بَيْعٌ وَلاَ غَيْرُهُ.
وَمِنْهَا مَشْرُوعِيَّةُ الطَّلاَقِ لِمَا فِي الْبَقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ عِنْدَ التَّنَافُرِ، وَكَذَا مَشْرُوعِيَّةُ الْخُلْعِ وَالاِفْتِدَاءِ وَالرَّجْعَةِ فِي الْعِدَّةِ قَبْل الثَّلاَثِ، وَلَمْ يُشْرَعْ دَائِمًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَى الزَّوْجَةِ (1) .
رَفْعُ الْحَرَجِ عِنْدَ تَحَقُّقِ وُجُودِهِ:
11 - قَدْ يَأْتِي الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ فِي التَّكَالِيفِ مِنْ أَسْبَابٍ خَارِجِيَّةٍ، إِذْ إِنَّ نَفْسَ التَّكْلِيفِ لَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَحَرَجٌ بَل فِيهِ كُلْفَةٌ أَيْ مَشَقَّةٌ مُعْتَادَةٌ، وَإِنَّمَا يَأْتِي الْحَرَجُ بِسَبَبِ اقْتِرَانِ التَّكْلِيفِ بِأُمُورٍ أُخْرَى كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَلِلشَّارِعِ أَنْوَاعٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنَ التَّخْفِيفَاتِ تُنَاسِبُ تِلْكَ الْمَشَاقَّ وَتَكُونُ تِلْكَ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم 69، 80 دار مكتبة الهلال 1980 م، الأشباه والنظائر للسيوطي 78، 79 دار الكتب العلمية 1983 م الطبعة الأولى.(22/288)
التَّخْفِيفَاتُ بِالإِْسْقَاطِ أَوِ التَّنْقِيصِ أَوِ الإِْبْدَال أَوِ التَّقْدِيمِ أَوِ التَّأْخِيرِ أَوِ التَّرْخِيصِ أَوِ التَّغْيِيرِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رُخْصَة) وَمُصْطَلَحِ (تَيْسِير) .
تَعَارُضُ رَفْعِ الْحَرَجِ مَعَ النَّصِّ:
12 - النَّصُّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا، وَالظَّنِّيُّ إِمَّا أَنْ يَشْهَدَ لَهُ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ أَوْ لاَ. وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ اعْتِبَارِ الْحَرَجِ الْمُعَارِضِ لِلنَّصِّ الْقَطْعِيِّ، وَكَذَا الظَّنِّيُّ الرَّاجِعُ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ الأَْخْذُ بِالنَّصِّ وَتَرْكُ الْحَرَجِ (1) .
ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي الظَّنِّيِّ الْمُعَارِضِ لأَِصْلٍ قَطْعِيٍّ كَرَفْعِ الْحَرَجِ، وَلاَ يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ قَطْعِيٌّ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى الأَْخْذِ بِالنَّصِّ وَعَدَمِ اعْتِبَارِ الْحَرَجِ، قَال ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الأَْشْبَاهِ: الْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ إِنَّمَا يُعْتَبَرَانِ فِي مَوْضِعٍ لاَ نَصَّ فِيهِ، وَأَمَّا مَعَ النَّصِّ بِخِلاَفِهِ فَلاَ، وَلِذَا قَال أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: بِحُرْمَةِ رَعْيِ حَشِيشِ الْحَرَمِ وَقَطْعِهِ إِلاَّ الإِْذْخِرَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضَ. .
__________
(1) الموافقات 3 / 15، 16 المكتبة التجارية الكبرى بتعليق الشيخ عبد الله دراز.(22/289)
لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا (1) .
قَال السَّرَخْسِيُّ: وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْبَلْوَى فِي مَوْضِعٍ لاَ نَصَّ فِيهِ بِخِلاَفِهِ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فَلاَ يُعْتَدُّ بِهِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ بَأْسَ بِالرَّعْيِ؛ لأَِنَّ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْحَرَمَ لِلْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ يَكُونُونَ عَلَى الدَّوَابِّ وَلاَ يُمْكِنُهُمْ مَنْعُ الدَّوَابِّ مِنْ رَعْيِ الْحَشِيشِ فَفِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ مَا لاَ يَخْفَى فَيُرَخَّصُ فِيهِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ.
وَنَقَل الشَّاطِبِيُّ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ قَوْلَهُ: إِذَا جَاءَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُعَارِضًا لِقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ هَل يَجُوزُ الْعَمَل بِهِ أَمْ لاَ؟ فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَجُوزُ الْعَمَل بِهِ، وَقَال الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ، وَتَرَدَّدَ مَالِكٌ فِي الْمَسْأَلَةِ. قَال: وَمَشْهُورُ قَوْلِهِ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْمُعَوَّل أَنَّ الْحَدِيثَ إِنْ عَضَّدَتْهُ قَاعِدَةٌ أُخْرَى قَال بِهِ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ تَرَكَهُ. قَال الشَّاطِبِيُّ: وَلَقَدِ اعْتَمَدَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لِصِحَّتِهِ فِي الاِعْتِبَارِ، كَإِنْكَارِهِ لِحَدِيثِ إِكْفَاءِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَتْ مِنَ الإِْبِل وَالْغَنَمِ قَبْل قَسْمِ الْغَنِيمَةِ، تَعْوِيلاً عَلَى أَصْل رَفْعِ الْحَرَجِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ،
__________
(1) حديث: " إن هذا البلد حرمه الله. . . . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 46 - 47 - ط السلفية) ومسلم (2 / 986 - 987 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس واللفظ لمسلم.(22/289)
فَأَجَازَ أَكْل الطَّعَامِ قَبْل الْقَسْمِ لِمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا يَرْجِعُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ (1) .
حَيْثُ قَال بَعْدَ ذِكْرِهِ: وَلَيْسَ لِهَذَا عِنْدَنَا حَدٌّ مَعْرُوفٌ وَلاَ أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِيهِ " إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمَجْلِسَ مَجْهُول الْمُدَّةِ، وَلَوْ شَرَطَ أَحَدٌ الْخِيَارَ مُدَّةً مَجْهُولَةً لَبَطَل إِجْمَاعًا، فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ حُكْمٌ لاَ يَجُوزُ شَرْطًا بِالشَّرْعِ؟ فَقَدْ رَجَعَ إِلَى أَصْلٍ إِجْمَاعِيٍّ، وَأَيْضًا فَإِنَّ قَاعِدَةَ الضَّرَرِ وَالْجَهَالَةِ قَطْعِيَّةٌ، وَهِيَ تُعَارِضُ هَذَا الْحَدِيثَ الظَّنِّيَّ (2) .
قَوَاعِدُ الأَْدِلَّةِ الأُْصُولِيَّةِ وَالْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُرَاعَى فِيهَا رَفْعُ الْحَرَجِ:
13 - لَمَّا كَانَ رَفْعُ الْحَرَجِ مَقْصِدًا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَأَصْلاً مِنْ أُصُولِهَا، فَقَدْ ظَهَرَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْدِلَّةِ الأُْصُولِيَّةِ وَالْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ.
فَمِنَ الأَْدِلَّةِ الأُْصُولِيَّةِ الْمُرَاعَى فِيهَا رَفْعُ الْحَرَجِ الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ. قَال الشَّاطِبِيُّ: إِنَّ حَاصِل الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ يَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ أَمْرٍ ضَرُورِيٍّ،
__________
(1) حديث خيار المجلس نصه: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 328 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1164 - ط الحلبي) من حديث حكيم بن حزام.
(2) الموافقات 3 / 17 وما بعدها، المبسوط للسرخسي 4 / 105 دار المعرفة الطبعة الثانية، الأشباه والنظائر لابن نجيم 83 دار مكتبة الهلال 1980 م(22/290)
وَرَفْعِ حَرَجٍ لاَزِمٍ فِي الدِّينِ (1) .
وَكَذَا الاِسْتِحْسَانُ، قَال السَّرْخَسِيُّ: كَانَ شَيْخُنَا الإِْمَامُ يَقُول: الاِسْتِحْسَانُ تَرْكُ الْقِيَاسِ وَالأَْخْذُ بِمَا هُوَ أَوْفَقُ لِلنَّاسِ، وَقِيل: الاِسْتِحْسَانُ طَلَبُ السُّهُولَةِ فِي الأَْحْكَامِ فِيمَا يُبْتَلَى فِيهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَقِيل: الأَْخْذُ بِالسِّعَةِ وَابْتِغَاءُ الدَّعَةِ، ثُمَّ قَال: وَحَاصِل هَذِهِ الْعِبَارَاتِ أَنَّهُ تَرْكُ الْعُسْرِ لِلْيُسْرِ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الدِّينِ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2) . وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ وَمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ وَجَّهَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ: يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا (3) .
وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَاعِدَةُ: الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ. وَقَال الْعُلَمَاءُ: يَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ جَمِيعُ رُخَصِ الشَّرْعِ وَتَخْفِيفَاتِهِ. وَبِمَعْنَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْل الشَّافِعِيِّ: إِذَا ضَاقَ الأَْمْرُ اتَّسَعَ. قَال ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: وُضِعَتِ الأَْشْيَاءُ فِي الأُْصُول عَلَى أَنَّهَا إِذَا ضَاقَتِ اتَّسَعَتْ، وَإِذَا اتَّسَعَتْ ضَاقَتْ.
وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الرُّخَصُ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَنَفْيِهِ عَنِ الأُْمَّةِ.
__________
(1) الاعتصام 2 / 114 المكتبة التجارية.
(2) سورة البقرة / 185.
(3) حديث: " يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 524 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1359 - ط الحلبي) من حديث أبي موسى الأشعري.(22/290)
وَكَذَا قَاعِدَةُ الضَّرَرُ يُزَال، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِنْ قَوَاعِدَ، كَالضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ وَالْحَاجَةُ تَنْزِل مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ.
وَمِنَ الأُْمُورِ الَّتِي تَنْفِي الْحَرَجَ النَّفْسِيَّ لَدَى الْمُذْنِبِ التَّوْبَةُ، وَالإِْسْلاَمُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَالْكَفَّارَاتُ بِأَنْوَاعِهَا الْمُخْتَلِفَةِ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1) إِنَّمَا ذَلِكَ سِعَةُ الإِْسْلاَمِ مَا جَعَل اللَّهُ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ (2) .
__________
(1) سورة الحج / 78.
(2) المبسوط 10 / 145، الأشباه والنظائر للسيوطي 76 وما بعدها و 83 وما بعدها، دار الكتب العلمية 1983 م، والأشباه والنظائر لابن نجيم 75 و 85 وما بعدها، دار الهلال 1980 م. والموافقات 2 / 158 المكتبة التجارية الكبرى.(22/291)
رِفْقٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الرِّفْقُ فِي اللُّغَةِ: لِينُ الْجَانِبِ، وَلَطَافَةُ الْفِعْل، وَإِحْكَامُ الْعَمَل، وَالْقَصْدُ فِي السَّيْرِ (1) .
وَالرِّفْقُ يُرَادِفُهُ الرَّحْمَةُ، وَالشَّفَقَةُ، وَاللُّطْفُ، وَالْعَطْفُ، وَيُقَابِلُهُ الشِّدَّةُ، وَالْعُنْفُ، وَالْقَسْوَةُ وَالْفَظَاظَةُ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلرِّفْقِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (2) .
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - حُكْمُ الرِّفْقِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ الاِسْتِحْبَابُ، فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ فِي كُل شَيْءٍ (3) ، لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَْمْرِ كُلِّهِ (4) .
__________
(1) الصحاح واللسان والمصباح مادة: (رفق) ، المغرب وأساس البلاغة مادة: (رفق) .
(2) فتح الباري 10 / 449 ط الرياض.
(3) فتح الباري 10 / 449 ط الرياض.
(4) حديث: " إن الله يحب الرفق في الأمر كله " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 449 - ط السلفية) .(22/291)
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا: إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ (1) . وَلِقَوْلِهِ: إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ (2) .
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ. (3) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يُحْرَمُ الرِّفْقَ يُحْرَمُ الْخَيْرَ. (4) وَقَدْ يَخْرُجُ عَنِ الاِسْتِحْبَابِ كَالرِّفْقِ بِالْوَالِدَيْنِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ، وَالرِّفْقِ بِالْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (5) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الرِّفْقَ فِي عَدَدٍ مِنَ الْمَسَائِل.
رِفْقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْمُكَلَّفِينَ:
3 - يَتَّضِحُ رِفْقُ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ الْمُكَلَّفِينَ فِيمَا
__________
(1) حديث: " إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف " أخرجه مسلم (4 / 200 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(2) حديث: " إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه " أخرجه مسلم (4 / 2004 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(3) حديث: " من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير ". أخرجه الترمذي (4 367 - ط الحلبي) من حديث أبي الدرداء، وقال: " حديث حسن صحيح "
(4) حديث: " من يحرم الرفق يحرم الخير " أخرجه مسلم (4 / 2003 - ط الحلبي) من حديث جرير بن عبد الله.
(5) سورة الفتح / 29.(22/292)
شَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الأَْحْكَامِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْهُمْ إِلاَّ بِمَا يَدْخُل تَحْتَ قُدْرَتِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ بِلاَ مَشَقَّةٍ، فَقَدْ أَمَرَهُمْ بِالصَّلاَةِ وَبِصَوْمِ رَمَضَانَ إِلاَّ أَنَّهُ شَرَعَ لَهُمُ الرُّخَصَ الَّتِي تُخَفِّفُ عَنْهُمُ الْمَشَقَّةَ الْحَاصِلَةَ مِنْ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ، فَرَخَّصَ لَهُمُ الْفِطْرَ وَالْقَصْرَ وَالْجَمْعَ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَأَبَاحَ لَهُمُ الْمَحْظُورَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الضَّرُورَةُ مُسَاوِيَةً لِلْمَحْظُورِ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهِ، كَإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعِبَادَاتِ إِلاَّ مَا هُوَ يَسِيرٌ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنَ النَّوَافِل مَا يُطِيقُونَ، وَأَلاَّ يَتَحَمَّلُوا مِنْهَا مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَيْهِمْ رِفْقًا بِهِمْ؛ لأَِنَّ تِلْكَ الْمَشَقَّةَ تُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى تِلْكَ الأَْعْمَال، وَقَدْ نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّنَطُّعِ وَالتَّكَلُّفِ وَقَال: خُذُوا مِنَ الأَْعْمَال مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَل حَتَّى تَمَلُّوا (1) . وَقَال أَيْضًا: الْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا (2) فَإِنَّ الشَّارِعَ الْحَكِيمَ لَمْ يَقْصِدْ مِنَ التَّكَالِيفِ الَّتِي فَرَضَهَا عَلَى عِبَادِهِ الْعَنَتَ وَالْمَشَقَّةَ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ بِأَدِلَّتِهِ فِي مُصْطَلَحِ (تَيْسِير) (وَرُخْصَة) (وَرَفْعُ الْحَرَجِ) .
__________
(1) حديث: " خذوا من الأعمال ما تطيقون " أخرجه مسلم (2 / 811 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(2) حديث: " القصد القصدَ تبلغوا " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 394 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.(22/292)
الرِّفْقُ بِالْوَالِدَيْنِ:
4 - أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالرِّفْقِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالإِْحْسَانِ إِلَيْهِمَا وَبِرِّهِمَا فِي عَدَدٍ مِنَ الآْيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل تَعَالَوْا أَتْلُو مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (1) قَوْله تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ) .
الرِّفْقُ بِالْجَارِ:
5 - أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالرِّفْقِ بِالْجَارِ، وَالإِْحْسَانِ إِلَيْهِ، وَحِفْظِهِ وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جِوَار (4)) .
رِفْقُ الإِْمَامِ بِالْمَأْمُومِينَ:
6 - يُسَنُّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَرْفُقَ بِالْمَأْمُومِينَ وَذَلِكَ
__________
(1) سورة الأنعام / 151.
(2) سورة الإسراء 23 - 24، وانظر الموسوعة الفقهية 8 / 63.
(3) سورة النساء / 36.
(4) الموسوعة الفقهية 16 / 216.(22/293)
بِالتَّخْفِيفِ بِالْقِرَاءَةِ وَالأَْذْكَارِ، وَفِعْل الأَْبْعَاضِ وَالْهَيْئَاتِ، وَيَأْتِي بِأَدْنَى الْكَمَال مُرَاعَاةً لِلْمَرِيضِ وَالضَّعِيفِ وَصَاحِبِ الْحَاجَةِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِمَامَةُ الصَّلاَةِ (2)) .
الرِّفْقُ بِالْغَيْرِ وَتَجَنُّبُ إِيذَائِهِ فِي مَوَاطِنِ الاِزْدِحَامِ لِلْعِبَادَةِ:
7 - مِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ وَتَقْبِيلُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، اكْتَفَى بِالإِْشَارَةِ إِلَيْهِ بِيَدِهِ أَوْ بِعُودٍ، وَعِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ يُقَبِّل مَا أَشَارَ بِهِ إِلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ، وَلاَ يُؤْذِي غَيْرَهُ لأَِجْل أَنْ يَصِل إِلَيْهِ وَيُقَبِّلَهُ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا عُمَرُ: إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ لاَ تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ فَتُؤْذِي الضَّعِيفَ، إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلاَّ فَاسْتَقْبِلْهُ فَهَلِّل وَكَبِّرْ (3) . وَهَذَا كُلُّهُ
__________
(1) حديث: " إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 199 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(2) الموسوعة الفقهية 6 / 213 ف 27 - 28
(3) حديث: " يا عمر، إنك رجل قوي. . . . " أخرجه أحمد (1 / 28 - ط الميمنية) ، وقال الهيثمي في المجمع (3 / 241 - ط القدسي) " رواه أحمد، وفيه راو لم يسم ".(22/293)
مُسْتَحَبٌّ، وَمَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي بَحْثِ (الْحَجَرُ الأَْسْوَدُ) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ ح 17 107
الرِّفْقُ فِي تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ:
8 - يَنْبَغِي لِمَنْ يَتَصَدَّى لِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ بِمَا يُحْمَدُ قَوْلاً وَفِعْلاً، وَأَنْ يَتَحَلَّى بِمَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ حَتَّى يَكُونَ عَمَلُهُ مَقْبُولاً، وَقَوْلُهُ مَسْمُوعًا، قَال تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2) .
وَمِنْ وَسَائِل تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ التَّعْرِيفُ بِاللُّطْفِ وَالرِّفْقِ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِْيمَانِ. (3)
وَخُصُوصًا مَعَ مَنْ يُخَافُ شَرُّهُ كَالظَّالِمِ الْمُتَسَلِّطِ (4) . وَالْجَاهِل إِذَا لَمْ يَكُنْ مُعَانِدًا.
وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ بَوْل الأَْعْرَابِيِّ فِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 165 - 166 ط المصرية، جواهر الإكليل 1 / 378 - ط المعرفة، روضة الطالبين 3 / 85 - ط. المكتب الإسلامي، كشاف القناع 2 / 458 ط. النصر، المغني 3 / 371 ط. الرياض.
(2) سورة آل عمران / 159.
(3) حديث: " من رأى منكم منكرًا. . . " أخرجه مسلم (1 / 69 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري.
(4) الموسوعة الفقهية 6 / 250 فقرة 5، 7 / 244 فقرة 19(22/294)
الْمَسْجِدِ. فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَال فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَال لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ (1) . وَفِيهِ الرِّفْقُ بِالْجَاهِل وَتَعْلِيمُهُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْنِيفٍ وَلاَ إِيذَاءٍ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِالْمُخَالَفَةِ اسْتِخْفَافًا أَوْ عِنَادًا (2) .
الرِّفْقُ بِالْخَدَمِ:
9 - الرِّفْقُ بِالْخَدَمِ وَحُسْنُ مُعَامَلَتِهِمْ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّتِي جَرَى عَلَيْهَا عَمَل الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، فَقَدْ أَمَرَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ نُحْسِنَ مُعَامَلَتَهُمْ، وَنَرْفُقَ بِهِمْ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ وَالْعَمَل، فَنُطْعِمَهُمْ مِنْ طَعَامِنَا وَنُلْبِسَهُمْ مِنْ لِبَاسِنَا وَلاَ نُكَلِّفَهُمْ بِالأَْعْمَال الَّتِي يَشُقُّ عَلَيْهِمُ الْقِيَامُ بِهَا، فَإِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ فَعَلَيْنَا أَنْ نُعِينَهُمْ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ الْمَعْرُورِ قَال: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبْذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ فَسَأَلْتُهُ، عَنْ ذَلِكَ
__________
(1) حديث: " أن أعرابيًا بال في المسجد. . . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 323 - ط السلفية) .
(2) فتح الباري 1 / 322 - 325 ط. الرياض، صحيح مسلم بشرح النووي 3 / 190 - 191 ط. المصرية، تحفة الأحوذي 1 / 457 - 459 ط. المدني، سنن أبي داود 3 / 263 - 265 ط. التركية، سنن ابن ماجه 1 / 175 - 176 ط. التركية.(22/294)
فَقَال: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلاً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَال لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُل وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خِدْمَة) .
الرِّفْقُ بِالْحَيَوَانِ:
10 - مِمَّا وَرَدَ فِي الرِّفْقِ بِالْحَيَوَانَاتِ النَّهْيُ عَنْ صَبْرِهَا وَتَعْذِيبِهَا، وَبَيَانُ فَضْل سَاقِيهَا وَالإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنَ الأَْنْعَامِ أَمْ مِنْ غَيْرِهَا. فَمِمَّا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ صَبْرِ الْبَهَائِمِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَرَّ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا وَهُمْ يَرْمُونَهُ، وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُل خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ فَلَمَّا رَأَوُا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا، فَقَال ابْنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَل هَذَا؟ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَعَل هَذَا، إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا (2) . وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
__________
(1) حديث أبي ذر: " إني ساببت رجلاً. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 84 - ط السلفية) . وانظر فتح الباري 5 - 174 ط. الرياض.
(2) 2) حديث ابن عمر: " مر بفتيان من قريش. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1550 - ط الحلبي) .(22/295)
يُقْتَل شَيْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ صَبْرًا (1) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا (2) . وَمَعْنَى صَبْرِ الْبَهَائِمِ كَمَا قَال الْعُلَمَاءُ أَنْ تُحْبَسَ وَهِيَ حَيَّةٌ لِتُقْتَل بِالرَّمْيِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ مَعْنَى لاَ تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا، أَيْ لاَ تَتَّخِذُوا الْحَيَوَانَ غَرَضًا تَرْمُونَ إِلَيْهِ كَالْغَرَضِ (أَيِ الْهَدَفِ) مِنَ الْجُلُودِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ وَلِهَذَا قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَعَل هَذَا؛ وَلأَِنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ، وَتَضْيِيعٌ لِمَالِيَّتِهِ، وَتَفْوِيتٌ لِذَكَاتِهِ إِنْ كَانَ مُذَكًّى، وَلِمَنْفَعَتِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُذَكًّى (3) . حَتَّى مَا يُذْبَحُ مِنَ الْحَيَوَانِ لأَِكْلِهِ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّفْقِ بِهِ، بِإِحْدَادِ الشَّفْرَةِ وَإِرَاحَةِ الذَّبِيحَةِ. قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ (4) .
وَمِمَّا وَرَدَ فِي فَضْل مَنْ سَقَى حَيَوَانًا رِفْقًا بِهِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
__________
(1) حديث جابر: " نهى أن يقتل شيء من الدواب صبرًا. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1550 ط الحلبي) .
(2) حديث ابن عباس: " لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1549 ط الحلبي) .
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 13 / 107 - 108 ط - الأولى.
(4) حديث: " إن الله كتب الإحسان. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1548 - ط الحلبي) من حديث شداد بن أوس.(22/295)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَل فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُل الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَال الرَّجُل: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبُ مِنَ الْعَطَشِ مِثْل الَّذِي كَانَ بَلَغَ بِي، فَنَزَل الْبِئْرَ فَمَلأََ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهَ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ فَقَال: فِي كُل ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ (1) .
وَأَمَّا النَّفَقَةُ عَلَى الْحَيَوَانِ رِفْقًا وَرَحْمَةً بِهِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الإِْنْفَاقِ عَلَى الْمَمْلُوكِ مِنْهُ دِيَانَةً، وَاخْتَلَفُوا فِي الإِْجْبَارِ عَلَيْهَا وَالْقَضَاءِ بِهَا عَلَى مَنْ عِنْدَهُ بَهِيمَةٌ لاَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ جَمِيعًا عَلَى وُجُوبِهَا وَلُزُومِهَا عَلَيْهِ، فَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْحَقِّ يَكُونُ عِنْدَ الطَّلَبِ وَالْخُصُومَةِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَلاَ خَصْمَ، فَلاَ يُجْبَرُ، وَلَكِنْ تَجِبُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّ فِي تَرْكِهِ جَائِعًا تَعْذِيبَ الْحَيَوَانِ بِلاَ فَائِدَةٍ وَتَضْيِيعَ الْمَال، وَقَدْ نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ وَلأَِنَّهُ سَفَهٌ لِخُلُوِّهِ عَنِ الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ، وَالسَّفَهُ حَرَامٌ عَقْلاً (2) .
__________
(1) حديث: " بينما رجل يمشي بطريق. . . . . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 438 - ط السلفية) .
(2) بدائع الصنائع 4 / 40 ط. الجمالية، ابن عابدين 2 / 688 - 689 - ط. بولاق، فتح القدير 3 / 355 - 356 ط. الأميرية، الاختيار 4 / 14 ط. المعرفة، الفتاوى الهندية 1 / 573 - 574 ط. المكتبة الإسلامية.(22/296)
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ نَفَقَةَ الدَّابَّةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَرْعًى وَاجِبَةٌ، وَيَقْضِي بِهَا، لأَِنَّ تَرْكَهُ مُنْكَرٌ، وَإِزَالَتُهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ بِهِ، خِلاَفًا لِقَوْل ابْنِ رُشْدٍ يُؤْمَرُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، وَدَخَل فِي الدَّابَّةِ هِرَّةٌ عَمِيَتْ فَتَجِبُ نَفَقَتُهَا عَلَى مَنِ انْقَطَعَتْ عِنْدَهُ حَيْثُ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الاِنْصِرَافِ، فَإِنْ قَدَرَتْ عَلَيْهِ لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهَا؛ لأَِنَّ لَهُ طَرْدَهَا (1) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّ مَنْ مَلَكَ دَابَّةً لَزِمَهُ عَلَفُهَا وَسَقْيُهَا، وَيَقُومُ مَقَامَ الْعَلَفِ وَالسَّقْيِ تَخْلِيَتُهَا لِتَرْعَى وَتَرِدَ الْمَاءَ، إِنْ كَانَتْ مِمَّا يَرْعَى وَيَكْتَفِي بِهِ لِخِصْبِ الأَْرْضِ وَنَحْوِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَانِعُ ثَلْجٍ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ أَجْدَبَتِ الأَْرْضُ وَلَمْ يَكْفِهَا الرَّعْيُ لَزِمَهُ أَنْ يُضِيفَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَلَفِ مَا يَكْفِيهَا، وَيَطَّرِدُ هَذَا فِي كُل حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ (يَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لَهُ) ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْمَالِكُ مِنْ ذَلِكَ أَجْبَرَهُ السُّلْطَانُ فِي الْمَأْكُولَةِ عَلَى بَيْعِهَا أَوْ صِيَانَتِهَا عَنِ الْهَلاَكِ بِالْعَلَفِ أَوِ التَّخْلِيَةِ لِلرَّعْيِ أَوْ ذَبْحِهَا. وَفِي غَيْرِ الْمَأْكُولَةِ عَلَى الْبَيْعِ أَوِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 522 ط. الفكر، جواهر الإكليل 1 / 407ط. المعرفة، الخرشي 4 / 201 - 202 ط. بولاق، الزرقاني 4 / 258 - 259 ط. الفكر، التاج والإكليل مع مواهب الجليل 4 / 206 - 207 ط. النجاح.(22/296)
الصِّيَانَةِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَل نَابَ الْحَاكِمُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا يَرَاهُ وَيَقْتَضِيهِ الْحَال، وَعَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ أَنَّهُ لاَ يُخَلِّيهَا لِخَوْفِ الذِّئْبِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ بَاعَ الْحَاكِمُ الدَّابَّةَ أَوْ جُزْءًا مِنْهَا أَوْ أَكْرَاهَا، فَإِنْ لَمْ يَرْغَبْ فِيهَا لِعَمًى أَوْ زَمَانَةٍ (مَرَضٌ مُزْمِنٌ) أَنْفَقَ عَلَيْهَا بَيْتُ الْمَال (1) .
وَقَوْل الْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَقَوْل الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْكَافِي أَنَّ مَنْ مَلَكَ بَهِيمَةً لَزِمَهُ الْقِيَامُ بِعَلَفِهَا لِمَا رَوَى أَنَسٌ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ هِيَ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُل مِنْ خَشَاشِ الأَْرْضِ (2) . فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهَا، فَإِنْ أَبَى أُكْرِيَتْ وَأُنْفِقَ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَمْكَنَ وَإِلاَّ بِيعَتْ، كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ إِذَا أَعْسَرَ بِنَفَقَتِهَا (3) .
وَتَذْكُرُ كُتُبُ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى مَالِكِ الدَّابَّةِ أَنْ يُحَمِّلَهَا مَا لاَ تُطِيقُ حَمْلَهُ؛ لأَِنَّ
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 120 ط. المكتب الإسلامي، حاشية القليوبي 4 / 94 ط. الحلبي، نهاية المحتاج 7 / 229 - 231 - ط. المكتبة الإسلامية، الشرواني 8 / 370 - 374 ط. دار صادر، الجمل على المنهج 4 / 527 - 529 ط. التراث، المهذب 2 / 169 - 170ط. الحلبي.
(2) حديث: " عذبت امرأة في هرة. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 515 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2022 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(3) الكافي 3 / 390 ط. المكتب الإسلامي.(22/297)
الشَّارِعَ مَنَعَ تَكْلِيفَ الإِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ مَا لاَ يُطِيقُ؛ وَلأَِنَّ فِيهِ تَعْذِيبًا لِلْحَيَوَانِ الَّذِي لَهُ حُرْمَةٌ فِي نَفْسِهِ وَإِضْرَارًا بِهِ. وَيَحْرُمُ أَنْ يَحْلُبَ مِنْ لَبَنِهَا مَا يَضُرُّ بِوَلَدِهَا؛ لأَِنَّ كِفَايَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَى مَالِكِهِ، وَسُنَّ لِلْحَالِبِ أَنْ يَقُصَّ أَظْفَارَهُ لِئَلاَّ يَجْرَحَ الضَّرْعَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرُوهُ فِي هَذَا الْبَابِ (1) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 493 - 95 ط. النصر، الإنصاف 9 / 414 - 415 ط. التراث، القواعد لابن رجب 32 ق 23، ص 138 ق 75، المبدع 8 / 228 - 229 ط. المكتب الإسلامي، المغني 7 / 634 - 635 ط. الرياض.(22/297)
رُفْقَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّفْقَةُ فِي اللُّغَةِ: الصُّحْبَةُ، وَالرُّفْقَةُ أَيْضًا اسْمُ جَمْعٍ وَمُفْرَدُهُ رَفِيقٌ، وَالْجَمْعُ مِنْهُ رِفَاقٌ وَرُفَقَاءُ، وَهُمُ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تُرَافِقُ الرَّجُل فِي السَّفَرِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصَّحْبُ:
2 - الصَّحْبُ اسْمُ جَمْعٍ لِصَاحِبٍ، وَهُوَ مِنْ صَحِبَهُ أَصْحَبُهُ صُحْبَةً، وَالأَْصْل فِي هَذَا الإِْطْلاَقِ لِمَنْ حَصَل لَهُ رَوِيَّةٌ وَمُجَالَسَةٌ (2) .
ب - الرَّكْبُ:
3 - الرَّكْبُ فِي الأَْصْل: جَمَاعَةُ رُكْبَانِ الإِْبِل فِي السَّفَرِ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهِ وَأُطْلِقَ عَلَى رُكْبَانِ أَيِّ وَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِل السَّفَرِ (3) .
__________
(1) تاج العروس.
(2) المصباح المنير.
(3) تاج العروس ولسان العرب والمصباح المنير.(22/298)
ج - النَّفَرُ:
4 - النَّفَرُ وَالنَّفِيرُ فِي اللُّغَةِ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ. وَالْجَمْعُ أَنْفَارٌ. وَيُطْلَقُ عَلَى عَشِيرَةِ الرَّجُل وَقَوْمِهِ، قَال الْفَرَّاءُ: نَفَرُ الرَّجُل رَهْطُهُ (1) ".
د - الرَّهْطُ:
5 - الرَّهْطُ فِي اللُّغَةِ: قَوْمُ الرَّجُل وَعَشِيرَتُهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ (2) } وَيُطْلَقُ عَلَى الْجَمَاعَةِ مِنَ الرِّجَال مِنْ ثَلاَثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ كَالنَّفَرِ (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُسَافِرُ أَنْ يُسَافِرَ مَعَ رُفْقَةٍ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُسَافِرَ الرَّجُل مُنْفَرِدًا، وَلاَ تُزَال الْكَرَاهَةُ إِلاَّ بِثَلاَثَةٍ (4) ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوِحْدَةِ مَا أَعْلَمُ مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ (5) وَلِخَبَرِ: الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ، وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلاَثَةُ رَكْبٌ (6) فَيَنْبَغِي أَنْ يَسِيرَ مَعَ النَّاسِ
__________
(1) تاج العروس ولسان العرب والمصباح المنير.
(2) سورة هود / 19.
(3) لسان العرب والمصباح المنير وتاج العروس.
(4) المجموع 4 / 389.
(5) حديث: " لو يعلم الناس ما في الوحدة " أخرجه البخاري الفتح (6 / 138 - ط السلفية)
(6) حديث: " الراكب شيطان " أخرجه الترمذي (4 / 193 - ط الحلبي) . وقال: " حديث حسن ".(22/298)
وَلاَ يَنْفَرِدَ بِطَرِيقٍ، وَلاَ يَرْكَبَ اثْنَانِ الطَّرِيقَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الرُّفْقَةُ مِنْ أَهْل الصَّلاَحِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ الْخَيْرَ وَيَكْرَهُونَ الشَّرَّ، يُذَكِّرُونَهُ إِنْ نَسِيَ، وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانُوهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الرُّفْقَةُ مِنَ الأَْصْدِقَاءِ وَالأَْقَارِبِ الْمَوْثُوقِينَ، لأَِنَّهُمْ أَعْوَنُ لَهُ فِي مُهِمَّاتِهِ، وَأَرْفَقُ بِهِ فِي أُمُورِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْرِصَ عَلَى إِرْضَاءِ رُفَقَائِهِ فِي جَمِيعِ طَرِيقِهِ، وَأَنْ يَحْتَمِل مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنْ هَفَوَاتٍ، وَيَصْبِرَ عَلَى مَا يَقَعُ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ (1) .
7 - وَيَنْبَغِي لِلرُّفْقَةِ أَنْ يُؤَمِّرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَفْضَلَهُمْ، وَأَجْوَدَهُمْ رَأْيًا، وَأَنْ يُطِيعُوهُ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالاَ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا خَرَجَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ (2) قَال النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ لِلرُّفْقَةِ أَلاَّ يَشْتَرِكُوا فِي الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَالنَّفَقَةِ، لأَِنَّ تَرْكَ الْمُشَارَكَةِ أَسْلَمُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ يَمْتَنِعُ بِسَبَبِهَا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ مِنَ الصَّدَاقَةِ، وَغَيْرِهَا، وَلَوْ أَذِنَ شَرِيكُهُ لَمْ يُوثَقْ بِاسْتِمْرَارِهِ، فَإِنْ شَارَكَ جَازَ، وَاسْتُحِبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَا دُونَ حَقِّهِ؛ وَلأَِنَّهُ رُبَّمَا أَفْضَى إِلَى النِّزَاعِ.
أَمَّا اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى طَعَامٍ يَوْمًا بِيَوْمٍ، أَوْ يَأْكُلُوا
__________
(1) المجموع 4 / 391.
(2) حديث: " إذا خرج ثلاثة في سفر " أخرجه أبو داود (3 / 81 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسنه النووي في رياض الصالحين (ص 376 - ط المكتب الإسلامي) .(22/299)
كُل يَوْمٍ عِنْدَ أَحَدِهِمْ تَنَاوُبًا فَحَسَنٌ (1) .
فَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّا نَأْكُل وَلاَ نَشْبَعُ، فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ، قَالُوا: نَعَمْ. قَال: فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ يُبَارِكْ لَكُمْ فِيهِ (2) .
اشْتِرَاطُ وُجُودِ رُفْقَةٍ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ:
8 - يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ وُجُودُ رُفْقَةٍ يَخْرُجُ مَعَهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي جَرَتْ عَادَةُ بَلَدِهِ بِالْخُرُوجِ فِيهِ، إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مَخُوفًا، وَأَنْ يَسِيرُوا السَّيْرَ الْمُعْتَادَ، فَإِنْ خَرَجُوا قَبْل الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ، أَوْ أَخَّرُوا الْخُرُوجَ بِحَيْثُ لاَ يَصِلُونَ إِلَى مَكَّةَ إِلاَّ بِالسَّيْرِ بِأَكْثَرَ مِنْ مَرْحَلَةٍ فِي كُل يَوْمٍ، أَوْ كَانُوا يَسِيرُونَ فَوْقَ الْعَادَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ، أَمَّا إِنْ كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا بِحَيْثُ لاَ يَخَافُ الْوَاحِدُ فِيهِ لَزِمَهُ الْحَجُّ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ رُفْقَةً وَلاَ غَيْرَهُ لِلْوَحْشَةِ. وَالتَّفْصِيل فِي (حَجّ) .
هَذَا فِي حَقِّ الرَّجُل.
9 - أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ وَلاَ يَجُوزُ لَهَا
__________
(1) كشاف القناع 2 / 387، المجموع للنووي 4 / 386، وانظر القوانين الفقهية ص 290
(2) حديث: " فلعلكم تفترقون. . . . " أخرجه أبو داود (4 / 138 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وأعله ابن حجر كما في فيض القدير للمناوي (1 / 152 - ط. المكتبة التجارية) .(22/299)
السَّفَرُ إِلاَّ مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ، لِحَدِيثِ لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَلاَ يُدْخَل عَلَيْهَا إِلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ (1) .
وَحَدِيثِ لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ (2) .
وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ تَخْرُجُ إِلاَّ مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَخْرُجُ مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مِنَ النِّسَاءِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا لَمْ تَجِدِ الْمَرْأَةُ مَحْرَمًا وَلاَ زَوْجًا تَخْرُجُ مَعَهُ، أَوِ امْتَنَعَا مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهَا جَازَ أَنْ تَخْرُجَ لِلسَّفَرِ الْوَاجِبِ مَعَ رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ، وَقَالُوا: وَالرُّفْقَةُ الْمَأْمُونَةُ رِجَالٌ صَالِحُونَ، أَوْ نِسَاءٌ صَالِحَاتٌ، وَأَوْلَى إِنِ اجْتَمَعَا. وَقَال صَاحِبُ مَوَاهِبِ الْجَلِيل: قَال مَالِكٌ: إِذَا أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ الْحَجَّ وَلَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ فَلْتَخْرُجْ مَعَ مَنْ تَثِقُ بِهِ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ، فَإِنْ كَانَ وَلِيٌّ فَأَبَى أَنْ يَحُجَّ مَعَهَا فَلاَ أَرَى بَأْسًا أَنْ تَخْرُجَ مَعَ مَنْ ذَكَرْتُ لَكَ. وَقَال
__________
(1) حديث: " لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها إلا ومعها محرم " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 72 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.
(2) حديث: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 566 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة، ومسلم (2 / 977 - ط الحلبي) .(22/300)
أَيْضًا: وَتَخْرُجُ الْمَرْأَةُ مَعَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ ".
أَمَّا سَفَرُ التَّطَوُّعِ وَالْمُبَاحِ فَلاَ يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ فِيهِ إِلاَّ مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ. وَقَيَّدَ الْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الْمَنْعَ بِالْعَدَدِ الْقَلِيل مِنَ الرُّفْقَةِ. أَمَّا الْقَوَافِل الْعَظِيمَةُ فَهِيَ كَالْبِلاَدِ فَيَجُوزُ فِيهَا سَفَرُهَا، دُونَ نِسَاءٍ أَوْ مَحَارِمَ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي (حَجّ) .
الرُّفْقَةُ فِي السَّفَرِ بِمَنْزِلَةِ الأَْهْل فِي الْحَضَرِ:
10 - يَجِبُ عَلَى الرُّفْقَةِ فِي سَفَرٍ دَفْنُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَتَجْهِيزُهُ، فَإِنْ لَمْ يَدْفِنُوهُ أَثِمُوا، وَلِلْحَاكِمِ تَعْزِيرُهُمْ (2) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرُّفْقَةِ فِي السَّفَرِ الشِّرَاءُ لِلْمَرِيضِ مِنْ مَالِهِ إِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا يَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَشْتَرُوا مِنْ مَالِهِ؛ لأَِنَّ الرُّفْقَةَ فِي السَّفَرِ بِمَنْزِلَةِ الأَْهْل فِي الْحَضَرِ.
بَيْعُ الرُّفْقَةِ مَتَاعَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ.
11 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لِلرُّفْقَةِ بَيْعُ مَتَاعِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ، وَمَرْكَبِهِ، وَحَمْلُهُ إِلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ مُؤْنَةِ التَّجْهِيزِ، وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ لأَِجْنَبِيٍّ؛ لأَِنَّ الرَّفِيقَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي ذَلِكَ دَلاَلَةً، كَمَا يَجُوزُ لَهُ الإِْحْرَامُ عَنْهُ
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 521 وما بعده، حاشية العدوي 1 / 455، والقوانين الفقهية ص 290
(2) روضة الطالبين 2 / 143.(22/300)
إِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إِنْفَاقُهُ عَلَيْهِ، جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي سَفَرٍ لَهُ: مَاتَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَبَاعَ كُتُبَهُ، وَأَمْتِعَتَهُ، فَقِيل لَهُ: كَيْفَ تَفْعَل ذَلِكَ وَلَسْتَ بِقَاضٍ؟ فَقَال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ (1) } وَلأَِنَّهُ لَوْ حَمَل أَمْتِعَتَهُ إِلَى أَهْلِهِ لاَحْتَاجَ إِلَى نَفَقَةٍ رُبَّمَا تَسْتَغْرِقُ الْمَتَاعَ (2) .
شَهَادَةُ الرُّفْقَةِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ:
12 - يَثْبُتُ قَطْعُ الطَّرِيقِ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ مِنَ الرُّفْقَةِ بِشَرْطِ: أَلاَّ يَتَعَرَّضَا لأَِنْفُسِهِمَا، وَلَيْسَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَبْحَثَ عَنْهُمَا هَل هُمَا مِنَ الرُّفْقَةِ أَمْ لاَ، فَإِنْ بَحَثَ فَلَهُمَا أَلاَّ يُجِيبَا، وَإِنْ تَعَرَّضَا لأَِنْفُسِهَا بِأَنْ قَالاَ: قَطَعَ عَلَيْنَا هَؤُلاَءِ الطَّرِيقَ فَأَخَذُوا مَالَنَا وَمَال رُفْقَتِنَا لَمْ تُقْبَل شَهَادَتُهُمَا، لأَِنَّهُمَا صَارَا عَدُوَّيْنِ (3) . (ر: شَهَادَة) .
سُؤَال الْمُسَافِرِ رُفْقَتَهُ عَنِ الْمَاءِ:
13 - يَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ إِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً لِلْوُضُوءِ أَنْ يَسْأَل رُفْقَتَهُ عَنِ الْمَاءِ، وَأَنْ يَسْتَوْعِبَهُمْ بِالسُّؤَال، بِأَنْ يُنَادِيَ فِيهِمْ: مَنْ مَعَهُ مَاءٌ؟ فَإِنْ تَيَمَّمَ قَبْل سُؤَال الرُّفْقَةِ لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ. وَالتَّفْصِيل فِي: (تَيَمُّم) .
__________
(1) سورة البقرة / 230.
(2) ابن عابدين 3 / 323، 5 / 127.
(3) روضة الطالبين 10 / 167.(22/301)
جَوَازُ السَّفَرِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ خَشْيَةَ فَوَاتِ الرُّفْقَةِ:
14 - يَجُوزُ لِمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ أَنْ يُسَافِرَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَبْل صَلاَةِ الْجُمُعَةِ إِذَا كَانَ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ بِتَخَلُّفِهِ عَنِ الرُّفْقَةِ (ر: صَلاَةُ الْجُمُعَةِ) .(22/301)
رُقى
انْظُرْ: رُقْيَة(23/5)
رُقْبَى
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّقْبَى فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْمُرَاقَبَةِ. يُقَال: رَقَبْتُهُ، وَأَرْقَبْتُهُ، وَارْتَقَبْتُهُ: انْتَظَرْتُهُ. وَأَنْ يَقُول الرَّجُل: أَرْقَبْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ، أَوْ هِيَ لَكَ رُقْبَى مُدَّةَ حَيَاتِكَ عَلَى أَنَّكَ إِنْ مِتَّ قَبْلِي عَادَتْ إِلَيَّ، وَإِنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَهِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ.
وَسُمِّيَتِ الرُّقْبَى لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرْقُبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: هِيَ أَنْ يَقُول الرَّجُل لِلآْخَرِ: إِنْ مِتَّ قَبْلِي فَدَارُكَ لِي، وَإِنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَدَارِي لَكَ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعُمْرَى:
2 - الْعُمْرَى - وَهِيَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمِيمِ مَعَ الْقَصْرِ - مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعُمُرِ، وَهُوَ الْحَيَاةُ، وَمَعْنَاهَا: أَنْ يَقُول الرَّجُل: أَعْمَرْتُكَ دَارِي هَذِهِ أَوْ
__________
(1) المصباح المنير، الصحاح، نيل الأوطار2 / 119، المغني 5 / 686، الهداية 3 / 230، نهاية المحتاج 5 / 410، الوجيز 1 / 249، والقوانين الفقهية ص 377.(23/5)
هِيَ لَكَ عُمْرَى مُدَّةَ حَيَاتِكَ، فَإِذَا مِتَّ فَهِيَ لِعَقِبِكَ.
ب - الْهِبَةُ وَالإِْعَارَةُ وَالْمَنِيحَةُ:
3 - الْهِبَةُ: تَمْلِيكُ الْعَيْنِ بِلاَ عِوَضٍ. وَالْعَارِيَّةُ: تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِلاَ عِوَضٍ. وَالْمَنِيحَةُ: الشَّاةُ أَوِ النَّاقَةُ يُعْطِيهَا صَاحِبُهَا رَجُلاً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا ثُمَّ يَرُدَّهَا إِذَا انْقَطَعَ اللَّبَنُ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - الرُّقْبَى نَوْعٌ مِنَ الْهِبَةِ، كَانَ الْعَرَبُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَكَانَ الرَّجُل مِنْهُمْ يَقُول لِلرَّجُل: أَرْقَبْتُكَ دَارِي أَوْ أَرْضِي فِي حَيَاتِكَ، فَإِذَا مِتَّ قَبْلِي رَجَعَتْ إِلَيَّ، وَإِنْ مِتُّ قَبْلَكَ اسْتَقَرَّتْ لَكَ. وَسُمِّيَتْ رُقْبَى: لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرْقُبُ الآْخَرَ مَتَى يَمُوتُ لِتَرْجِعَ إِلَيْهِ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا جَائِزَةٌ، وَهِيَ لِمَنْ أُرْقِبَهَا، وَلاَ تَرْجِعُ إِلَى الْمُرْقِبِ، وَيَلْغُو الشَّرْطُ، وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ: مَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا فَهُوَ لِمُعْمَرِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ، وَلاَ تَرْقُبُوا، فَمَنْ أَرْقَبَ شَيْئًا فَهُوَ سَبِيلُهُ (2) . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الرُّقْبَى جَائِزَةٌ (3) وَفِي رِوَايَةٍ الْعُمْرَى
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) حديث: " من أعمر شيئًا فهو لمعمره محياه. . . " أخرجه أبو داود (3 / 821 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث زيد بن ثابت وإسناده حسن لغيره يشهد له ما بعده.
(3) حديث: " الرقبى جائزة ". أخرجه النسائي (6 / 269 - ط المكتبة التجارية) من حديث زيد بن ثابت، وإسناده صحيح.(23/6)
جَائِزَةٌ لأَِهْلِهَا وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لأَِهْلِهَا (1) ، وَقَالُوا: فَهَذِهِ نُصُوصٌ تَدُل عَلَى مِلْكِ الْمُعْمَرِ وَالْمُرْقَبِ (بِالْفَتْحِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا) وَبُطْلاَنِ شَرْطِ الْعَوْدِ إِلَى الْمُرْقِبِ (2) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: قَوْل الْمُرْقِبِ: دَارِي لَكَ، تَمْلِيكٌ، وَقَوْلُهُ: رُقْبَى شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَلْغُو.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: إِنَّ الرُّقْبَى بَاطِلَةٌ؛ لأَِنَّ مَعْنَى الرُّقْبَى: إِنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَهُوَ لَكَ وَإِنْ مِتَّ قَبْلِي رَجَعَتْ إِلَيَّ، وَهَذَا تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ (أَيِ الأَْمْرُ الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ) فَيَبْطُل.
وَلِخَبَرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَجَازَ الْعُمْرَى وَرَدَّ الرُّقْبَى (3) وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الرُّقْبَى تَكُونُ الْعَيْنُ عَارِيَّةً؛ لأَِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِطْلاَقَ الاِنْتِفَاعِ بِهِ (4) .
__________
(1) حديث: " العمرى جائزة لأهلها، والرقبى جائزة لأهلها ". أخرجه الترمذي (3 / 625 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن ".
(2) المغني 5 / 686، نهاية المحتاج 5 / 410، الوجيز 1 / 249، كشاف القناع 4 / 308، نيل الأوطار 2 / 119.
(3) خبر أن النبي صلى الله عليه وسلم " أجاز العمرى ورد الرقبى ". قال الزيلعي في نصب الراية (4 / 128 - ط المجلس العلمي) : " غريب " يعني أنه لا أصل له، وتعقبه ابن قطلوبغا فقال: " رواه الإمام محمد بن الحسن بهذا اللفظ ". كذا في منية الألمعي (ص63 - ط المجلس العلمي) .
(4) الهداية 3 / 230، رد المحتار على الدر المختار 4 / 520، الزرقاني 7 / 104.(23/6)
رَقَبَة
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّقَبَةُ فِي اللُّغَةِ: الْعُنُقُ، وَقِيل: أَعْلاَهُ، وَقِيل: مُؤَخَّرُ أَصْل الْعُنُقِ.
وَالْجَمْعُ رَقَبٌ، وَرِقَابٌ، وَرَقَبَاتٌ، وَأَرْقُبٌ، وَهِيَ فِي الأَْصْل اسْمٌ لِلْعُضْوِ الْمَعْرُوفِ، فَجُعِلَتْ كِنَايَةً عَنْ جَمِيعِ ذَاتِ الإِْنْسَانِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِبَعْضِهِ، أَوْ إِطْلاَقًا لِلْجُزْءِ وَإِرَادَةَ الْكُل، وَسُمِّيَتِ الْجُمْلَةُ بِاسْمِ الْعُضْوِ لِشَرَفِهَا، وَالرَّقَبَةُ: الْمَمْلُوكُ، وَأَعْتَقَ رَقَبَةً أَيْ نَسَمَةً، وَفَكَّ رَقَبَةً أَيْ أَطْلَقَ أَسِيرًا.
وَيُقَال: أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ، وَلاَ يُقَال: أَعْتَقَ اللَّهُ عُنُقَهُ.
وَجُعِلَتِ الرَّقَبَةُ اسْمًا لِلْمَمْلُوكِ، كَمَا عَبَّرَ بِالظَّهْرِ عَنِ الْمَرْكُوبِ.
وَسُمِّيَ الْحَافِظُ: الرَّقِيبَ، وَذَلِكَ إِمَّا لِمُرَاعَاتِهِ رَقَبَةَ الْمَحْفُوظِ، وَإِمَّا لِرَفْعِهِ رَقَبَتَهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ لاَ تَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، وغريب القرآن للأصفهاني مادة: (رقب) .(23/7)
الأَْحْكَامُ الإِْجْمَالِيَّةُ:
أ - مَسْحُ الرَّقَبَةِ فِي الْوُضُوءِ:
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى اسْتِحْبَابِ مَسْحِ الرَّقَبَةِ بِظَهْرِ يَدَيْهِ لاَ الْحُلْقُومِ إِذْ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْوُضُوءِ.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ لَدَى الْحَنَفِيَّةِ: بِأَنَّ مَسْحَ الرَّقَبَةِ سُنَّةٌ، وَلَيْسَ مُسْتَحَبًّا فَقَطْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ مَسْحِ الرَّقَبَةِ فِي الْوُضُوءِ، لِعَدَمِ وُرُودِ ذَلِكَ فِي وُضُوئِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلأَِنَّ هَذَا مِنَ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُسْتَحَبُّ مَسْحُ الرَّقَبَةِ أَوِ الْعُنُقِ فِي الْوُضُوءِ، لِعَدَمِ ثُبُوتِ ذَلِكَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ إِطَالَةُ الْغُرَّةِ بِغَسْلٍ زَائِدٍ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ الْوَجْهِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، وَغَايَتُهَا غَسْل صَفْحَةِ الْعُنُقِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الرَّأْسِ، لِحَدِيثِ: إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيل غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَل (1)
ب - إِضَافَةُ الطَّلاَقِ إِلَى الرَّقَبَةِ.
3 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَضَافَ
__________
(1) حديث: " إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين. . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 235 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 216 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة. وانظر حاشية ابن عابدين 1 / 84، مغني المحتاج 1 / 61، جواهر الإكليل 1 / 16، الخرشي على مختصر سيدي خليل 1 / 140، كشاف القناع 1 / 100.(23/7)
الطَّلاَقَ إِلَى رَقَبَةِ زَوْجَتِهِ أَوْ عُنُقِهَا، كَأَنْ يَقُول: طَلَّقْتُ رَقَبَتَهَا أَوْ عُنُقَهَا، أَوْ خَاطَبَهَا بِطَلَّقْتُ رَقَبَتَكِ أَوْ عُنُقَكِ، فَإِنَّ الطَّلاَقَ يَقَعُ؛ لأَِنَّهَا جُزْءٌ يُسْتَبَاحُ بِنِكَاحِهَا فَتُطَلَّقُ بِهِ (1) .
ج - إِضَافَةُ الظِّهَارِ إِلَى الرَّقَبَةِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ لَوْ شَبَّهَ رَقَبَةَ زَوْجَتِهِ أَوْ عُنُقَهَا بِظَهْرِ أُمِّهِ فَهُوَ مُظَاهِرٌ.
وَذَهَبَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَوْ شَبَّهَ عُضْوًا مِنْ زَوْجَتِهِ بِرَقَبَةِ أُمِّهِ أَوْ عُنُقِهَا فَهُوَ مُظَاهِرٌ كَذَلِكَ.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُظَاهِرٍ حَتَّى يُشَبِّهَ جُمْلَةَ امْرَأَتِهِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ لاَ يَمَسُّ عُضْوًا مِنْهَا لَمْ يَسْرِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الأَْعْضَاءِ، فَكَذَلِكَ الْمُظَاهِرُ (2) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ شَبَّهَهَا بِرَقَبَةِ الأُْمِّ أَوْ عُنُقِهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا؛ لأَِنَّهُ شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ مِنَ الأُْمِّ لاَ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ مُظَاهِرًا عِنْدَهُمْ إِذَا شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنَ الأُْمِّ كَالْفَرْجِ وَالْفَخِذِ وَالْبَطْنِ وَنَحْوِهَا.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 435، تحفة المحتاج 7 / 38، مغني المحتاج 3 / 290، المغني لابن قدامة 7 / 242، جواهر الإكليل 1 / 350، الخرشي على مختصر خليل 4 / 53.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 574، الخرشي 4 / 102، مغني المحتاج 3 / 352، المغني لابن قدامة 7 / 346، كشاف القناع 5 / 369.(23/8)
الرَّقَبَةُ بِمَعْنَى الإِْنْسَانِ الْمَمْلُوكِ:
5 - تَرِدُ الرَّقَبَةُ بِمَعْنَى الإِْنْسَانِ الْمَمْلُوكِ فِي أَبْوَابِ الْعِتْقِ، وَالْمُكَاتَبَةِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَعَدَّدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ شُرُوطًا لِلرَّقَبَةِ الَّتِي تَعْتِقُ مِنْ أَجْل كَفَّارَةِ إِفْسَادِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَكَذَلِكَ الظِّهَارِ، وَالْقَتْل، وَالْيَمِينِ، وَالنَّذْرِ مِنْهَا (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الأَْبْوَابِ الْمَذْكُورَةِ وَفِي مُصْطَلَحِ: (رِقّ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 578، مغني المحتاج 3 / 362، 4 / 107، القوانين الفقهية ص128، 248، حاشية العدوي 2 / 96، المغني لابن قدامة 7 / 359.(23/8)
رَقْص
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّقْصُ وَالرَّقَصُ وَالرَّقَصَانُ مَعْرُوفٌ.
وَهُوَ مَصْدَرُ رَقَصَ يَرْقُصُ رَقْصًا، وَالرَّقْصُ: أَحَدُ الْمَصَادِرِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى فَعَل فِعْلاً نَحْوُ طَرَدَ طَرَدًا، وَحَلَبَ حَلَبًا.
وَيُقَال: أَرْقَصَتِ الْمَرْأَةُ وَلَدَهَا وَرَقَّصَتْهُ، وَفُلاَنٌ يَرْقُصُ فِي كَلاَمِهِ أَيْ: يُسْرِعُ، وَلَهُ رَقْصٌ فِي الْقَوْل أَيْ: عَجَلَةٌ (1) .
فَتَدُورُ مَوَادُّ اللَّفْظِ لُغَةً عَلَى مَعَانِي الإِْسْرَاعِ فِي الْحَرَكَةِ وَالاِضْطِرَابِ وَالاِرْتِفَاعِ وَالاِنْخِفَاضِ.
وَالزَّفْنُ: الرَّقْصُ، وَفِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَزْفِنُ لِلْحَسَنِ أَيْ: تُرَقِّصُهُ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: عَرَّفَ ابْنُ عَابِدِينَ الرَّقْصَ بِأَنَّهُ التَّمَايُل، وَالْخَفْضُ، وَالرَّفْعُ بِحَرَكَاتٍ مَوْزُونَةٍ (3) .
__________
(1) أساس البلاغة 1 / 361، ولسان العرب 1 / 1206، والقاموس المحيط ص 801 مادة: (رقص) .
(2) لسان العرب مادة: (زفن) .
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 307.(23/9)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
(أ) اللَّعِبُ:
2 - وَهُوَ طَلَبُ الْفَرَحِ بِمَا لاَ يَحْسُنُ أَنْ يُطْلَبَ بِهِ (1) .
(ب) اللَّهْوُ:
3 - صَرْفُ الْهَمِّ بِمَا لاَ يَحْسُنُ أَنْ يُصْرَفَ بِهِ، وَقِيل: اللَّهْوُ الاِسْتِمْتَاعُ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا.
وَاللَّعِبُ: الْعَبَثُ، وَقِيل: اللَّهْوُ: الْمَيْل عَنِ الْجِدِّ إِلَى الْهَزْل، وَاللَّعِبُ: تَرْكُ مَا يَنْفَعُ بِمَا لاَ يَنْفَعُ (2) .
حُكْمُ الرَّقْصِ:
4 - عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَتِ الْحَبَشَةُ يَزْفِنُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَرْقُصُونَ، يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَقُولُونَ؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: مُحَمَّدٌ عَبْدٌ صَالِحٌ (3) .
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فَسَمِعْنَا لَغَطًا وَصَوْتَ صِبْيَانٍ، فَقَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا حَبَشِيَّةٌ تَزْفِنُ - أَيْ تَرْقُصُ -
__________
(1) الكليات للكفوي 4 / 174.
(2) لسان العرب.
(3) حديث أنس: " كانت الحبشة يزفنون بين يدي رسول الله ". أخرجه أحمد (3 / 152 - ط الميمنية) وإسناده صحيح.(23/9)
وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا، فَقَال: يَا عَائِشَةُ تَعَالَيْ فَانْظُرِي (1) .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْقَفَّال مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ الرَّقْصِ مُعَلِّلِينَ ذَلِكَ بِأَنَّ فِعْلَهُ دَنَاءَةٌ وَسَفَهٌ، وَأَنَّهُ مِنْ مُسْقِطَاتِ الْمُرُوءَةِ، وَأَنَّهُ مِنَ اللَّهْوِ. قَال الأَْبِيُّ: وَحَمَل الْعُلَمَاءُ حَدِيثَ رَقْصِ الْحَبَشَةِ عَلَى الْوَثْبِ بِسِلاَحِهِمْ، وَلَعِبِهِمْ بِحِرَابِهِمْ، لِيُوَافِقَ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ: يَلْعَبُونَ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ بِحِرَابِهِمْ (2) .
وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَصْحَبِ الرَّقْصَ أَمْرٌ مُحَرَّمٌ كَشُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَيَحْرُمُ اتِّفَاقًا.
وَذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى أَنَّ اتِّخَاذَ الرَّقْصِ ذِكْرًا أَوْ عِبَادَةً، بِدْعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ، لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ بِهِ، وَلاَ رَسُولُهُ، وَلاَ أَحَدٌ مِنَ الأَْئِمَّةِ، أَوِ السَّلَفِ (3) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرَّقْصَ لاَ يَحْرُمُ
__________
(1) حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا فسمعنا لغطا ". أخرجه الترمذي (5 / 621 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح غريب ".
(2) حديث أبي هريرة: " يلعبون عند رسول الله بحرابهم ". أخرجه مسلم (2 / 610 - ط الحلبي) .
(3) المبدع 10 / 226، فتاوى ابن تيمية 5 / 64، 83، 11 / 599، 604، 605، بلغة السالك 2 / 138، حاشية ابن عابدين 3 / 307، 5 / 253، نهاية المحتاج 8 / 282، حواشي تحفة المحتاج 10 / 221، روض الطالب وشرحه للأنصاري 4 / 346، مغني المحتاج 4 / 430، وكشاف القناع 5 / 184، وشرح الأبي على مسلم 3 / 43.(23/10)
وَلاَ يُكْرَهُ بَل يُبَاحُ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَ حَبَشَةُ يَزْفِنُونَ فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعْتُ رَأْسِي عَلَى مَنْكِبِهِ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ حَتَّى كُنْتُ أَنَا الَّتِي أَنْصَرِفُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهِمْ (1) . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِقْرَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفِعْلِهِمْ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَتِهِ، وَدَلِيلُهُ مِنَ الْمَعْقُول أَنَّ الرَّقْصَ مُجَرَّدُ حَرَكَاتٍ عَلَى اسْتِقَامَةٍ وَاعْوِجَاجٍ.
وَذَهَبَ الْبُلْقِينِيُّ إِلَى أَنَّ الرَّقْصَ إِذَا كَثُرَ بِحَيْثُ أَسْقَطَ الْمُرُوءَةَ حَرُمَ، وَالأَْوْجَهُ فِي الْمَذْهَبِ خِلاَفُهُ.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الإِْبَاحَةَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَكَسُّرٌ كَفِعْل الْمُخَنَّثِينَ وَإِلاَّ حَرُمَ عَلَى الرِّجَال وَالنِّسَاءِ، أَمَّا مَنْ يَفْعَلُهُ خِلْقَةً مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَلاَ يَأْثَمُ بِهِ.
قَال فِي الرَّوْضِ: وَبِالتَّكَسُّرِ حَرَامٌ وَلَوْ مِنَ النِّسَاءِ (2) .
شَهَادَةُ الرَّقَّاصِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ الرَّقَّاصِ لأَِنَّهُ سَاقِطُ الْمُرُوءَةِ، وَهِيَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ. وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي إِسْقَاطِ الْمُرُوءَةِ هُوَ الْمُدَاوَمَةُ وَالإِْكْثَارُ مِنَ
__________
(1) حديث عائشة: " جاء حبشة يزفنون ". أخرجه مسلم (2 / 609 - 610 - ط الحلبي) .
(2) نهاية المحتاج 8 / 282 - 283، الجمل 5 / 381، حواشي التحفة 10 / 221.(23/10)
الرَّقْصِ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِمَنْ يَلِيقُ بِهِ الرَّقْصُ، أَمَّا مَنْ لاَ يَلِيقُ بِهِ فَتَسْقُطُ مُرُوءَتُهُ وَلَوْ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْمَرْجِعُ فِي الْمُدَاوَمَةِ وَالإِْكْثَارِ إِلَى الْعَادَةِ، وَيَخْتَلِفُ الأَْمْرُ بِاخْتِلاَفِ عَادَاتِ النَّوَاحِي وَالْبِلاَدِ، وَقَدْ يُسْتَقْبَحُ مِنْ شَخْصٍ قَدْرٌ لاَ يُسْتَقْبَحُ مِنْ غَيْرِهِ. وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ يُفِيدُ اعْتِبَارَ الْمُدَاوَمَةِ وَالإِْكْثَارِ كَذَلِكَ، حَيْثُ عَبَّرُوا بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ. قَال فِي الْبِنَايَةِ: وَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الطُّفَيْلِيِّ وَالْمُشَعْوِذِ وَالرَّقَّاصِ وَالسُّخَرَةِ بِلاَ خِلاَفٍ (1) .
الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الرَّقْصِ:
6 - الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الرَّقْصِ يَتْبَعُ حُكْمَ الرَّقْصِ نَفْسِهِ، فَحَيْثُ كَانَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا كَانَ حُكْمُ الاِسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ.
وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّقْصَ حَيْثُ كَانَ حَرَامًا لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ وَلاَ يَجُوزُ دَفْعُ الدَّرَاهِمِ لِلرَّقَّاصِ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الاِسْتِئْجَارِ عَلَى الْمَنَافِعِ الْمُحَرَّمَةِ وَغَيْرِ الْمُتَقَوِّمَةِ، فَحَيْثُ كَانَ الرَّقْصُ حَرَامًا لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ (2) . وَيُرَاجَعُ فِي هَذَا مُصْطَلَحُ: " إِجَارَة ".
__________
(1) فتح القدير مع شرح العناية 6 / 39، البناية 7 / 180، الشرح الصغير 4 / 242، نهاية المحتاج 8 / 282 - 284، روضة الطالبين 11 / 230، كشاف القناع 6 / 423، الفروع 6 / 573، والسخرة: من يسخر منه.
(2) الشرح الصغير 4 / 10.(23/11)
رِقّ
(1)
التَّعْرِيفُ:
1 - الرِّقُّ لُغَةً: مَصْدَرُ رَقَّ الْعَبْدُ يَرِقُّ، ضِدُّ عَتَقَ، يُقَال: اسْتَرَقَّ فُلاَنٌ مَمْلُوكَهُ وَأَرَقَّهُ، نَقِيضُ أَعْتَقَهُ. وَالرَّقِيقُ: الْمَمْلُوكُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَيُقَال لِلأُْنْثَى أَيْضًا رَقِيقَةٌ، وَالْجَمْعُ رَقِيقٌ وَأَرِقَّاءُ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْعَبِيدُ رَقِيقًا؛ لأَِنَّهُمْ يَرِقُّونَ لِمَالِكِهِمْ، وَيَذِلُّونَ وَيَخْضَعُونَ. وَأَصْلُهُ مِنَ الرِّقَّةِ وَهِيَ ضِدُّ الْغِلَظِ وَالثَّخَانَةِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ، يُقَال: ثَوْبٌ رَقِيقٌ، وَثِيَابٌ رِقَاقٌ، ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي
__________
(1) كان الرق متعارفا عليه قبل الإسلام بقرون متطاولة، وكانت الحياة الاقتصادية قائمة في الغالب على أكتاف الرقيق، والحياة الاجتماعية كذلك، كان الرقيق يشكل جزءًا كبيرًا من عناصرها. وقد جاء الإسلام الحنيف فحث على تحرير الأرقاء، وكان من أوائل ما نزل من القرآن(23/11)
الْمَعْنَوِيَّاتِ فَقِيل: فُلاَنٌ رَقِيقُ الدِّينِ، أَوْ رَقِيقُ الْقَلْبِ (1) .
وَالرِّقُّ فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ مُوَافِقٌ لِمَعْنَاهُ لُغَةً، فَهُوَ كَوْنُ الإِْنْسَانِ مَمْلُوكًا لإِِنْسَانٍ آخَرَ.
وَعَرَّفَهُ بَعْضُ أَهْل الْفَرَائِضِ وَالْفِقْهِ بِأَنَّهُ " عَجْزٌ
__________
(1) لسان العرب، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 3 / 167 القاهرة، عيسى الحلبي.(23/12)
حُكْمِيٌّ يَقُومُ بِالإِْنْسَانِ سَبَبُهُ الْكُفْرُ (1) " أَوْ أَنَّهُ " عَجْزٌ شَرْعِيٌّ مَانِعٌ لِلْوِلاَيَاتِ مِنَ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَغَيْرِهِمَا (2) ".
وَلِلرَّقِيقِ أَسْمَاءٌ أُخْرَى بِحَسَبِ نَوْعِهِ وَحَالِهِ، كَالْقِنِّ: وَهُوَ مَنْ لاَ عِتْقَ فِيهِ أَصْلاً، وَيُقَابِلُهُ الْمُبَعَّضُ، وَهُوَ الْمُعْتَقُ بَعْضُهُ وَسَائِرُهُ رَقِيقٌ، وَمَنْ فِيهِ شَائِبَةُ حُرِّيَّةٍ، وَهُوَ مَنِ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الْعِتْقِ كَالْمُكَاتَبِ، وَالْمُدَبَّرِ، وَالْمُوصَى بِعِتْقِهِ، وَالْمُعْتَقُ عِنْدَ أَجَلٍ، وَأُمِّ الْوَلَدِ.
أَسْبَابُ تَمَلُّكِ الرَّقِيقِ:
2 - يَدْخُل الرَّقِيقُ فِي مِلْكِ الإِْنْسَانِ بِوَاحِدٍ مِنَ الطُّرُقِ الآْتِيَةِ:
أَوَّلاً: اسْتِرْقَاقُ الأَْسْرَى وَالسَّبْيِ مِنَ الأَْعْدَاءِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ اسْتَرَقَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَذَرَارِيَّهُمْ (3) . وَفِي اسْتِرْقَاقِهِمْ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِرْقَاق) .
وَلاَ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ اسْتِرْقَاقِ الْمُسْلِمِ؛ لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ يُنَافِي ابْتِدَاءَ الاِسْتِرْقَاقِ؛ لأَِنَّهُ يَقَعُ جَزَاءً لاِسْتِنْكَافِ الْكَافِرِ عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى،
__________
(1) العذب الفائض 1 / 23 القاهرة، مصطفى الحلبي 1372هـ.
(2) شرح مسلم الثبوت 1 / 171 نشر بولاق، روضة الطالبين للنووي 6 / 162، دمشق، المكتب الإسلامي.
(3) حديث: " استرق النبي صلى الله عليه وسلم نساء بني قريظة وذراريهم ". أخرجه البخاري (الفتح 7 / 412 - ط السلفية) من حديث عائشة.(23/12)
فَجَازَاهُ بِأَنْ صَيَّرَهُ عَبْدَ عَبِيدِهِ (1) .
ثَانِيًا: وَلَدُ الأَْمَةِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الرِّقِّ، سَوَاءٌ، أَكَانَ أَبُوهُ حُرًّا أَمْ عَبْدًا، وَهُوَ رَقِيقٌ لِمَالِكِ أُمِّهِ، لأَِنَّ وَلَدَهَا مِنْ نَمَائِهَا، وَنَمَاؤُهَا لِمَالِكِهَا، وَلِلإِْجْمَاعِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَدُ الْمَغْرُورِ وَهُوَ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ. وَكَذَا لَوِ اشْتَرَطَ مُتَزَوِّجُ الأَْمَةِ أَنْ يَكُونَ أَوْلاَدُهُ مِنْهَا أَحْرَارًا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ (2) .
ثَالِثًا: الشِّرَاءُ مِمَّنْ يَمْلِكُهُ مِلْكًا صَحِيحًا مُعْتَرَفًا بِهِ شَرْعًا، وَكَذَا الْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْمِيرَاثُ وَغَيْرُهَا مِنْ صُوَرِ انْتِقَال الأَْمْوَال مِنْ مَالِكٍ إِلَى آخَرَ.
وَلَوْ كَانَ مَنْ بَاعَ الرَّقِيقَ، أَوْ وَهَبَهُ كَافِرًا ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا فَيَصِحُّ ذَلِكَ أَيْضًا، وَقَدْ أَهْدَى الْمُقَوْقِسُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَارِيَتَيْنِ، فَتَسَرَّى بِإِحْدَاهُمَا، وَوَهَبَ الأُْخْرَى لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (3) .
الأَْصْل فِي الإِْنْسَانِ الْحُرِّيَّةُ لاَ الرِّقُّ:
3 - الأَْصْل فِي الإِْنْسَانِ الْحُرِّيَّةُ لاَ الرِّقُّ، وَقَدْ
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير 4 / 316، القاهرة، مطبعة بولاق 1318هـ.
(2) كشاف القناع 5 / 99 الرياض، مكتبة النصر الحديثة، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 3 / 12، 13.
(3) حديث: " إهداء المقوقس جاريتين للنبي صلى الله عليه وسلم ". ذكره ابن سعد في الطبقات (8 / 214 - ط دار صادر) من حديث الزهري مرسلا.(23/13)
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّقِيطَ إِذَا وُجِدَ وَلَمْ يُعْرَفْ نَسَبُهُ يَكُونُ حُرًّا، وَإِنِ احْتُمِل أَنَّهُ رَقِيقٌ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَامَّةُ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ اللَّقِيطَ حُرٌّ. وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّ الأَْصْل فِي الآْدَمِيِّينَ الْحُرِّيَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ أَحْرَارًا، وَإِنَّمَا الرِّقُّ لِعَارِضٍ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ الْعَارِضُ فَلَهُ حُكْمُ الأَْصْل (1) .
وَالْحُرِّيَّةُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِبْطَالِهِ إِلاَّ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، فَلاَ يَجُوزُ إِبْطَال هَذَا الْحَقِّ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ الْحُرِّ وَلَوْ رَضِيَ بِذَلِكَ (2) .
وَمَا كَانَ مِنْ خَوَاصِّ الآْدَمِيَّةِ فِي الرَّقِيقِ لاَ يَبْطُل بِرِقِّهِ، بَل يَبْقَى عَلَى أَصْل الْحُرِّيَّةِ، كَالطَّلاَقِ، فَإِنَّ حَقَّ تَطْلِيقِ زَوْجَةِ الْعَبْدِ هُوَ لَهُ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَلَيْهِ (3) .
إِلْغَاءُ الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ لأَِنْوَاعٍ مِنْ الاِسْتِرْقَاقِ:
4 - حَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ اسْتِرْقَاقَ الْحُرِّ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَال اللَّهُ تَعَالَى: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَل ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ
__________
(1) المغني 5 / 679، 680، القاهرة، دار المنار، 1367هـ، ط ثالثة، وكشاف القناع 6 / 392، وفتح القدير 6 / 250.
(2) فتح القدير 6 / 237.
(3) العناية وفتح القدير 3 / 44.(23/13)
اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ (1) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: ثَلاَثَةٌ لاَ يَقْبَل اللَّهُ مِنْهُمْ صَلاَةً. . . وَذَكَرَ مِنْهُمْ وَرَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرًا (2) قَال الْخَطَّابِيُّ: اعْتِبَادُ الْحُرِّ يَقَعُ بِأَمْرَيْنِ: أَنْ يَعْتِقَهُ ثُمَّ يَكْتُمَ ذَلِكَ، أَوْ يَجْحَدَهُ، وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ كُرْهًا بَعْدَ الْعِتْقِ. ا. هـ (3) وَكَذَلِكَ الاِسْتِرْقَاقُ بِخَطْفِ الْحُرِّ، أَوْ سَرِقَتِهِ، أَوْ إِكْرَاهِهِ، أَوِ التَّوَصُّل إِلَى جَعْلِهِ فِي حَبَائِل الرِّقِّ، بِأَيِّ وَسِيلَةٍ، كُل ذَلِكَ مُحَرَّمٌ، وَلاَ يَصِحُّ مِنْهُ شَيْءٌ، بَل يَبْقَى الْمَخْطُوفُ أَوِ الْمَسْرُوقُ حُرًّا إِنْ كَانَ مَعْصُومًا بِإِسْلاَمٍ أَوْ عَهْدٍ، وَمَنِ اشْتَرَى مِنْ هَؤُلاَءِ وَاِتَّخَذَ مَا اشْتَرَاهُ رَقِيقًا أَوْ بَاعَهُ، حَرُمَ عَلَيْهِ مَا فَعَل، وَدَخَل فِي الَّذِينَ قَال رَسُول اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا، فَإِنْ وَطِئَ شَيْئًا مِنْ الْجَوَارِي الَّتِي (اسْتُمْلِكَتْ) بِهَذِهِ الطُّرُقِ الْمُحَرَّمَةِ فَهُوَ زِنًا، حُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَا، مِنْ إِقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْوَاطِئِ، وَعَلَى الْمَوْطُوءَةِ إِنْ زَال
__________
(1) حديث: " قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 417 - ط السلفية من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة ". أخرجه أبو داود (1 / 397 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، ونقل المناوي في فيض القدير (1 / 329 - ط المكتبة التجارية) عن النووي والعراقي أنهما ضعفاه.
(3) فتح الباري 4 / 418 القاهرة، المطبعة السلفية 1371هـ.(23/14)
الإِْكْرَاهُ وَرَضِيَتْ بِالْبَقَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَالْوَلَدُ الَّذِي يُولَدُ لَهُمَا وَلَدُ زِنًا، لاَ يَلْتَحِقُ نَسَبُهُ بِالْوَاطِئِ (1) .
إِثْبَاتُ الرِّقِّ:
5 - تَثْبُتُ دَعْوَى الرِّقِّ عَلَى مَجْهُول النَّسَبِ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ فَلاَ اسْتِحْلاَفَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيُسْتَحْلَفُ فِيهَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، وَلاَ يَكْفِي الشَّاهِدَ رُؤْيَتُهُ يَسْتَخْدِمُ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةَ لِيَشْهَدَ بِرِقِّهِمَا، بَل لاَ بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ رِقَّهُمَا، وَلاَ تَكْفِي الْيَدُ، مَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ صَغِيرًا لاَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، وَقِيل عِنْدَهُمْ: لَهُ أَنْ يَشْهَدَ أَيْضًا عَلَى الْكَبِيرِ بِمُجَرَّدِ الْيَدِ (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: إِذَا ادَّعَى رِقَّ بَالِغٍ فَقَال الْبَالِغُ: أَنَا حُرُّ الأَْصْل، فَالْقَوْل قَوْلُهُ، وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُدَّعِي اسْتَخْدَمَهُ قَبْل الإِْنْكَارِ وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ جَرَى عَلَيْهِ الْبَيْعُ مِرَارًا وَتَدَاوَلَتْهُ الأَْيْدِي أَمْ لاَ، وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَإِذَا لَمْ يُقِرَّ اللَّقِيطُ بِرِقٍّ فَهُوَ حُرٌّ إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ أَحَدٌ بَيِّنَةً بِرِقِّهِ. وَإِنْ أَقَرَّ وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ بِرِقِّهِ لِشَخْصٍ فَصَدَّقَهُ قُبِل إِنْ لَمْ يَسْبِقْ إِقْرَارَهُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَإِلاَّ لَمْ يُقْبَل.
وَقَال أَيْضًا: لَوِ ادَّعَى رِقَّ صَغِيرٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
__________
(1) تكملة فتح القدير 7 / 392، فتح الباري 4 / 418، الأشباه للسيوطي ص 111.
(2) فتح القدير والعناية 6 / 162.(23/14)
فِي يَدِهِ، لَمْ يُصَدَّقْ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ، فَإِنِ اسْتَنَدَتِ الْيَدُ إِلَى الْتِقَاطٍ فَكَذَلِكَ عَلَى الأَْظْهَرِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفِ اسْتِنَادُهُ إِلَى الْتِقَاطٍ صُدِّقَ وَحُكِمَ لَهُ، كَمَا لَوِ ادَّعَى ثَوْبًا فِي يَدِهِ، فَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا فَالأَْصَحُّ يُحْكَمُ لَهُ بِرِقِّهِ، وَلاَ أَثَرَ لإِِنْكَارِهِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ كَالْبَالِغِ، ثُمَّ إِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ الَّذِي حُكِمَ بِرِقِّهِ وَأَنْكَرَ الرِّقَّ فَالأَْصَحُّ اسْتِمْرَارُ الرِّقِّ حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِخِلاَفِهِ، وَالثَّانِي: يُصَدَّقُ مُنْكِرُ الرِّقِّ إِلاَّ أَنْ تَقُومَ بِهِ بَيِّنَةٌ (1) .
وَيَكْفِي فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الرِّقِّ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ (2) .
وَمَنِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَقَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: بَل أَنَا حُرٌّ، وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، تَعَارَضَتَا وَتَسَاقَطَتَا. قَال الْبُهُوتِيُّ: وَيُخَلَّى سَبِيلُهُ، لأَِنَّ الأَْصْل الْحُرِّيَّةُ، وَالرِّقُّ طَارِئٌ وَلَمْ يَثْبُتْ (3) .
ثُبُوتُ الرِّقِّ بِالإِْقْرَارِ:
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ صَبِيٌّ مَجْهُول النَّسَبِ فِي يَدِ رَجُلٍ وَهُوَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ، أَيْ يَعْقِل فَحْوَى مَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ، وَادَّعَى الرَّجُل رِقَّهُ، فَقَال الصَّبِيُّ: أَنَا حُرٌّ، فَالْقَوْل قَوْلُهُ؛ لأَِنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَلَوْ قَال: أَنَا عَبْدٌ لِفُلاَنٍ - لِغَيْرِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ -
__________
(1) روضة الطالبين 12 / 77، 78.
(2) روضة الطالبين 11 / 255، والمنهاج وشرحه للمحلي 3 / 128.
(3) كشاف القناع 6 / 397.(23/15)
فَهُوَ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ؛ لأَِنَّهُ أَقَرَّ بِالرِّقِّ، وَإِنْ كَانَ لاَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ.
وَأَمَّا الصَّبِيُّ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ إِذَا أَقَرَّ بِالرِّقِّ وَهُوَ مَجْهُول النَّسَبِ فَهُوَ رَقِيقٌ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى مَنْ كَانَ عِنْدَ إِقْرَارِهِ بَالِغًا (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَثْبُتُ الرِّقُّ بِإِقْرَارِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَيَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الْبَالِغِ (2) لَكِنْ إِنْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ مَنْ هُوَ ثَابِتُ الْحُرِّيَّةِ لَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ، فَلَوْ أَقَرَّتْ حُرَّةٌ لِزَوْجِهَا بِأَنَّهَا أَمَتُهُ، فَبَاعَهَا لِلْجُوعِ وَالْغَلاَءِ، فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي، قَال الْمَالِكِيَّةُ: فَلاَ حَدَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَعْزِيرَ؛ لِعُذْرِهَا بِالْجُوعِ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى زَوْجِهَا بِالثَّمَنِ (3) . أَيْ لأَِنَّهَا حُرَّةٌ فَلاَ تُرَقُّ بِذَلِكَ.
مَنْ يَمْلِكُ الرَّقِيقَ، وَمَنْ لاَ يَمْلِكُهُ:
أَوَّلاً: الْكَافِرُ:
7 - لاَ يَجُوزُ لِلْكَافِرِ اسْتِدَامَةُ تَمَلُّكِ رَقِيقٍ مُسْلِمٍ اتِّفَاقًا. وَهَذَا الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى، وَلِمَا فِيهِ مِنْ إِهَانَةِ الْمُسْلِمِ بِمِلْكِ الْكَافِرِ لَهُ. وَقِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْكَافِرِ مُسْلِمَةً، بَل أَوْلَى.
وَقَدْ يَدْخُل الرَّقِيقُ الْمُسْلِمُ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ فِي
__________
(1) الهداية وفتح القدير 6 / 250.
(2) كشاف القناع 6 / 392.
(3) الزرقاني 7 / 80.(23/15)
صُوَرٍ مُعَيَّنَةٍ، لَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى إِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ لِمُسْلِمٍ، أَوْ إِعْتَاقٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ تِلْكَ الصُّوَرِ:
1 - أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ كَافِرٍ عَبْدٌ كَافِرٌ فَيُسْلِمُ. فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُؤْمَرُ الْكَافِرُ بِبَيْعِهِ تَخْلِيصًا لِلْعَبْدِ الَّذِي أَسْلَمَ مِنْ بَقَائِهِ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ.
2 - وَمِنْهَا أَنْ يَمْلِكَهُ بِالشِّرَاءِ، وَهَذَا فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مَالِكٍ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ: فَيَصِحُّ وَيُجْبَرُ عَلَى إِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ مَالِكٍ، وَالْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ: لاَ يَصِحُّ شِرَاءُ الْكَافِرِ مُسْلِمًا أَصْلاً.
وَيَحْرُمُ بَيْعُ الْمُسْلِمِ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ لِكَافِرٍ عَلَى كِلاَ الْقَوْلَيْنِ، إِذِ الْخِلاَفُ فِي الصِّحَّةِ لاَ فِي التَّحْرِيمِ.
وَيُسْتَثْنَى مَا إِذَا اشْتَرَى الْكَافِرُ مُسْلِمًا يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ، أَوِ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ فِي الْحَال، فَذَلِكَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ، وَلِذَلِكَ أَجَازَهُ أَيْضًا الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ؛ لأَِنَّ الْمِلْكَ يَزُول فِي الْحَال عَقِبَ الشِّرَاءِ مُبَاشَرَةً، وَيَحْصُل ذَلِكَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، بِدُونِ تَوَقُّفٍ عَلَى تَصَرُّفٍ مِنَ الْمَالِكِ، وَيَحْصُل بِهِ مِنْ نَفْعِ الْحُرِّيَّةِ أَضْعَافُ مَا حَصَل مِنَ الإِْهَانَةِ بِالْمِلْكِ فِي لَحْظَةٍ يَسِيرَةٍ. وَهَكَذَا كُل شِرَاءٍ يَسْتَتْبِعُ عِتْقًا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُمْنَعُ بَيْعُ الرَّقِيقِ الْمُسْلِمِ لِكَافِرٍ، فَإِنْ وَقَعَ مَضَى بَيْعُهُ فَلاَ يُفْسَخُ، وَيُجْبَرُ عَلَى إِزَالَةِ(23/16)
مِلْكِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ (1) .
وَلَوْ وَكَّل كَافِرٌ مُسْلِمًا فِي شِرَاءِ رَقِيقٍ لَمْ يَصِحَّ الشِّرَاءُ عِنْدَ مَنْ مَنَعَ شِرَاءَ الْكَافِرِ لِعَبْدٍ مُسْلِمٍ؛ لأَِنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّل، وَالْمُوَكِّل لَيْسَ بِأَهْلٍ لِشِرَائِهِ كَمَا لَوْ وَكَّل مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فِي شِرَاءِ خَمْرٍ.
وَإِنْ وَكَّل الْمُسْلِمُ كَافِرًا يَشْتَرِي لَهُ رَقِيقًا كَافِرًا صَحَّ، أَمَّا إِنْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ رَقِيقٍ مُسْلِمٍ فَفِيهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ؛ لأَِنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ كَانَ لِمَا فِيهِ مِنْ ثُبُوتِ مِلْكِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَالْمِلْكُ هُنَا يَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِ، فَلَمْ يَتَحَقَّقِ الْمَانِعُ.
وَالثَّانِي: لاَ يَصِحُّ؛ لأَِنَّ مَا مَنَعَ مِنْ شِرَائِهِ مَنَعَ مِنَ التَّوَكُّل فِيهِ، كَتَوَكُّل الْمُحْرِمِ فِي شِرَاءِ صَيْدٍ، وَتَوَكُّل الْكَافِرِ فِي عَقْدِ نِكَاحِ مُسْلِمَةٍ، وَتَوَكُّل الْمُسْلِمِ فِي شِرَاءِ خَمْرٍ لِذِمِّيٍّ (2) .
وَإِنْ كَانَ عَبْدٌ كَافِرٌ فِي مِلْكِ شَخْصٍ كَافِرٍ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ، لَمْ يَزُل مِلْكُ صَاحِبِهِ بِإِسْلاَمِهِ، لَكِنْ لاَ يُقَرُّ فِي يَدِهِ، بَل يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ عِتْقٍ، أَوْ غَيْرِهَا، وَلاَ يَكْفِي الرَّهْنُ أَوِ التَّزْوِيجُ أَوِ الْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُمَا (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 40، المغني 4 / 365، وروضة الطالبين 3 / 344، 347، وجواهر الإكليل 2 / 3، مكة المكرمة، دار الباز، مصور عن طبعة القاهرة 1332هـ.
(2) المغني 4 / 265.
(3) روضة الطالبين 3 / 347.(23/16)
أَمَّا إِنْ أَسْلَمَ الْعَبْدُ الْكَافِرُ الْمَمْلُوكُ لِكَافِرٍ بِدَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ حُرًّا، سَوَاءٌ هَاجَرَ إِلَيْنَا أَوِ الْتَحَقَ بِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ. فَلَوْ خَرَجَ إِلَيْنَا مُسْلِمًا، أَوْ سَبَاهُ الْمُسْلِمُونَ، لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ؛ لأَِنَّ مِلْكَ الْكَافِرِ ارْتَفَعَ عَنْهُ حُكْمًا بِمُجَرَّدِ إِسْلاَمِهِ، وَلَوْ بَقِيَ فِي يَدِ الْكَافِرِ؛ لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ يُنَافِي ابْتِدَاءَ الاِسْتِرْقَاقِ (1) .
ثَانِيًا: الْقَرِيبُ:
8 - إِذَا مَلَكَ الإِْنْسَانُ أَحَدًا مِنْ وَالِدَيْهِ وَإِنْ عَلَوَا أَوْ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَل وَلَوْ مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ، عَتَقَ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْمِلْكِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، وَلاَ عَلَى نُطْقٍ بِصِيغَةِ عِتْقٍ، وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ (2) .
وَسَوَاءٌ كَانَ دُخُولُهُ فِي مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ كَشِرَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَمَا لَوْ وَرِثَهُ (3) .
__________
(1) البناني على الزرقاني 8 / 120، وفتح القدير 4 / 316، وكشاف القناع 5 / 491، والمدونة للإمام مالك 3 / 357، بيروت، دار صادر.
(2) حديث: " من ملك ذا رحم محرم فهو حر ". أخرجه الترمذي (3 / 637 - ط الحلبي) من حديث الحسن بن سمرة، وأعله الترمذي، ولكن أخرجه ابن ماجه (2 / 844 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر، وصححه ابن حزم كما في الجوهر النقي بهامش السنن للبيهقي (10 / 289 - ط دائرة المعارف العثمانية) .
(3) شرح الزرقاني على مختصر خليل 8 / 128، 129، وفتح القدير 3 / 370.(23/17)
وَاخْتُلِفَ فِي بَقِيَّةِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ سِوَى أَصْحَابِ قَرَابَةِ الْوِلاَدِ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ تَحْتَ عُنْوَانِ: (عِتْق) .
ثَالِثًا: الْمَمَالِيكُ:
9 - يَدْخُل الْمَمْلُوكُ فِي مِلْكِ مَمْلُوكٍ آخَرَ إِذَا كَانَ الْمَمْلُوكُ مُكَاتَبًا، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ قَال بِأَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ، أَمَّا مَنْ قَال بِأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَمْلِكُ أَصْلاً فَلاَ يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ أَوِ الأَْمَةُ مِلْكًا لِعَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، وَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فُرُوعٌ فِي التَّسَرِّي وَغَيْرِهِ.
جَرَيَانُ الرِّقِّ عَلَى الْعَرَبِ:
10 - قَال ابْنُ حَجَرٍ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْعَرَبِيَّ إِذَا سُبِيَ جَازَ أَنْ يُسْتَرَقَّ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَرَبِيُّ أَمَةً كَانَ وَلَدُهَا رَقِيقًا أَخْذًا بِإِطْلاَقِ الأَْحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الاِسْتِرْقَاقِ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَرَقَّ مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ عَرَبٌ (1) . وَأَمَرَ عَائِشَةَ بِشِرَاءِ رَقَبَةٍ مِنْ أَسْرَى بَنِي تَمِيمٍ وَإِعْتَاقِهَا عَنْ نَذْرِهَا (2) . قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَالأَْفْضَل عِتْقُ مَنْ يُسْتَرَقُّ مِنْهُمْ، وَلِذَلِكَ قَال عُمَرُ
__________
(1) ذكر سبي بني المصطلق. أخرجه البخاري (الفتح 5 / 170 - ط السلفية) من حديث ابن عمر. وأما ذكر سبي هوازن فقد أخرجه البخاري (الفتح 5 / 169 - ط السلفية) من حديث مروان، والمسور بن مخرمة.
(2) نص الأمر بعتقها أخرجه البخاري (الفتح 5 / 170 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة، وأما ما ورد أنه كان عليها نذر في ذلك فقد أخرجه الطبراني في الأوسط كما في فتح الباري (5 / 172 - ط السلفية) .(23/17)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مِنَ الْعَارِ أَنْ يَمْلِكَ الرَّجُل ابْنَ عَمِّهِ أَوْ بِنْتَ عَمِّهِ.
وَذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّ عَلَى سَيِّدِ الأَْمَةِ تَقْوِيمَ الْوَلَدِ، وَيُلْزَمُ أَبُوهُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ، وَلاَ يُسْتَرَقُّ الْوَلَدُ أَصْلاً (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ الْعَرَبَ لاَ يُسْتَرَقُّ رِجَالُهُمْ.
قَال أَبُو عُبَيْدٍ: بِذَلِكَ مَضَتْ سُنَّةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَرِقَّ أَحَدًا مِنْ ذُكُورِهِمْ.
قَال: وَكَذَلِكَ حَكَمَ عُمَرُ فِيهِمْ أَيْضًا حَتَّى رَدَّ سَبْيَ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ وَأَوْلاَدَ الإِْمَاءِ مِنْهُمْ أَحْرَارًا إِلَى عَشَائِرِهِمْ عَلَى فِدْيَةٍ يُؤَدُّونَهَا إِلَى الَّذِينَ أَسْلَمُوا وَهُمْ فِي أَيْدِيهِمْ. قَال: وَهَذَا مَشْهُورٌ مِنْ رَأْيِ عُمَرَ. وَرَوَى عَنْهُ الشَّعْبِيُّ أَنَّ عُمَرَ قَال: لَيْسَ عَلَى عَرَبِيٍّ مِلْكٌ. وَنُقِل عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى بِفِدَاءِ مَنْ كَانَ فِي الرِّقِّ مِنْهُمْ (2) .
أَنْوَاعُ الرِّقِّ:
11 - الرَّقِيقُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لاَ شَائِبَةَ فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَائِبَةٌ. وَالرَّقِيقُ الْخَالِصُ، يُسَمَّى الْقِنَّ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَلَمًا لِمَالِكٍ وَاحِدٍ، وَإِمَّا
__________
(1) فتح الباري 5 / 170 - 173، وانظر القليوبي 3 / 249.
(2) الأموال لأبي عبيد ص 133 - 135 القاهرة سنة 1955م.(23/18)
أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا وَهُوَ الَّذِي يَمْلِكُهُ شَرِيكَانِ أَوْ أَكْثَرُ.
وَالرَّقِيقُ الَّذِي فِيهِ شَائِبَةٌ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَ بَعْضُهُ فِعْلاً، كَنِصْفِهِ أَوْ رُبُعِهِ، وَبَقِيَ سَائِرُهُ رَقِيقًا، وَيُسَمَّى الْمُبَعَّضَ، أَوِ انْعَقَدَ فِيهِ سَبَبُ التَّحْرِيرِ، وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَصْنَافٍ: الأَْوَّل: أُمُّ الْوَلَدِ، وَهِيَ الْجَارِيَةُ إِذَا وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا، فَإِنَّهَا تَكُونُ بِالْوِلاَدَةِ مُسْتَحِقَّةً لِلْحُرِّيَّةِ بِوَفَاةِ سَيِّدِهَا.
وَالثَّانِي: الْمُكَاتَبُ، وَهُوَ مَنِ اشْتَرَى نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَالٍ مُنَجَّمٍ، فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْحُرِّيَّةِ بِمُجَرَّدِ تَمَامِ الأَْدَاءِ.
وَالثَّالِثُ: الْمُدَبَّرُ، وَالتَّدْبِيرُ أَنْ يَجْعَل السَّيِّدُ عَبْدَهُ مُعْتَقًا عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ، أَيْ بِمُجَرَّدِ وَفَاةِ السَّيِّدِ، وَفِي مَعْنَاهُ: الْمُوصَى بِعِتْقِهِ، وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ أَوْ أَجَلٍ.
وَهَذِهِ الأَْنْوَاعُ الثَّلاَثَةُ الْمِلْكُ فِيهَا كَامِلٌ، فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً جَازَ لِلسَّيِّدِ الْوَطْءُ.
وَلَكِنَّ الرِّقَّ فِيهَا نَاقِصٌ لاِنْعِقَادِ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ، وَلِذَا لاَ يُجْزِئُ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ (1) .
وَفِيمَا يَلِي أَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْقِنِّ، ثُمَّ أَحْكَامُ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُبَعَّضِ.
أَمَّا أُمُّ الْوَلَدِ، وَالْمُكَاتَبُ، وَالْمُدَبَّرُ، فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهُمْ فِي (اسْتِيلاَد) ، (تَدْبِير) ، (مُكَاتَبَة) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 12.(23/18)
النَّوْعُ الأَْوَّل
أَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْقِنِّ الْمَمْلُوكِ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ
حُقُوقُ السَّيِّدِ وَوَاجِبَاتُ رَقِيقِهِ تُجَاهَهُ:
لِلسَّيِّدِ رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً عَلَى مَمَالِيكِهِ الذُّكُورِ وَالإِْنَاثِ حُقُوقٌ يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ مُرَاعَاتُهَا، مِنْهَا:
12 - أَوَّلاً: طَاعَتُهُ لِلسَّيِّدِ فِي كُل مَا يَأْمُرُهُ بِهِ أَوْ يَنْهَاهُ عَنْهُ، وَلاَ يَتَقَيَّدُ وُجُوبُ الطَّاعَةِ بِقَيْدٍ إِلاَّ مَا وَرَدَ التَّقْيِيدُ بِهِ شَرْعًا، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ:
أ - أَنْ يَأْمُرَهُ السَّيِّدُ بِأَمْرٍ فِيهِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى كَشُرْبِ خَمْرٍ، أَوْ سَرِقَةٍ، أَوْ إِيذَاءٍ لأَِحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ طَاعَةَ لأَِحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ (1) وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) أَيْ غَفُورٌ لَهُنَّ رَحِيمٌ بِهِنَّ حَيْثُ أُكْرِهْنَ عَلَى مَا لاَ يَحِل.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا لَوْ أَجْبَرَ السَّيِّدُ رَقِيقَهُ الْمُسْلِمَ عَلَى تَرْكِ الْفَرَائِضِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ صَلاَةٍ أَوْ صَوْمٍ، هَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ أَنَّ بَعْضَ الْفَرَائِضِ
__________
(1) حديث: " لا طاعة لأحد في معصية الله ". أخرجه أحمد (5 / 66 - ط الميمنية) من حديث الحكم بن عمروالغفاري، وقواه ابن حجر في الفتح (13 / 123 - ط السلفية) .
(2) سورة النور / 33.(23/19)
اللاَّزِمَةِ لِلأَْحْرَارِ سَاقِطَةٌ شَرْعًا عَنِ الأَْرِقَّاءِ، كَالْحَجِّ، وَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ.
ب - أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فَيُجْبِرَهُ سَيِّدُهُ عَلَى الإِْسْلاَمِ، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ طَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ لأَِنَّهُ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ. وَاسْتَثْنَى الْحَلِيمِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ تَكُونَ كَافِرَةً غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ وَيَرْغَبَ سَيِّدُهَا فِي الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَيُجْبِرَهَا عَلَى الإِْسْلاَمِ لِتَحِل لَهُ، فَرَأَى الْحَلِيمِيُّ جَوَازَ ذَلِكَ لإِِزَالَةِ الْمَانِعِ مِنَ الْوَطْءِ، قَاسَهُ عَلَى جَوَازِ إِجْبَارِهَا عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَغُسْل الْحَيْضِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خِلاَفُ ذَلِكَ. وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ السَّيِّدَ إِنْ حَمَل رَقِيقَهُ عَلَى الْفَسَادِ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ (1) .
لأَِنَّ الرِّقَّ أَفَادَهَا الأَْمَانُ مِنَ الْقَتْل فَلاَ تُجْبَرُ كَالْمُسْتَأْمَنَةِ، قَالُوا: وَلَيْسَ كَالْغُسْل فَإِنَّهُ لاَ يَعْظُمُ الأَْمْرُ فِيهِ (2) .
ج - لَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ الذَّكَرَ الْبَالِغَ امْرَأَةً لاَ يَرْضَاهَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا جَازَ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: لِلسَّيِّدِ أَنْ يُجْبِرَ عَبْدَهُ عَلَى النِّكَاحِ.
وَلاَ يَلْزَمُ الْعَبْدَ طَاعَةُ سَيِّدِهِ لَوْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مِنَ الرَّقِيقِ فَسْخُ زَوَاجِهِ الصَّحِيحِ، سَوَاءٌ تَمَّ بِإِذْنِهِ
__________
(1) القليوبي 4 / 94.
(2) روضة الطالبين 7 / 136.(23/19)
أَوْ إِذْنِ مَالِكٍ سَابِقٍ، فَلَوْ كَانَتِ الأَْمَةُ مُزَوَّجَةً، فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى طَلَبِ الطَّلاَقِ، وَكَذَا لَيْسَ لَهُ الْحَقُّ فِي مَنْعِهَا مِنَ الْكَوْنِ مَعَ زَوْجِهَا لَيْلاً.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي مُرَاعَاةِ الْحَقَّيْنِ، حَقِّ الزَّوْجِ وَحَقِّ السَّيِّدِ، يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (1) .
د - إِنْ كَانَ الْعَبْدُ ذِمِّيًّا فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ يُمْنَعُ مِنْ إِتْيَانِ الْكَنِيسَةِ، أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ أَكْل لَحْمِ الْخِنْزِيرِ لأَِنَّ ذَلِكَ دِينُهُ، نَقَلَهُ الْبُنَانِيِّ عَنْ قَوْل مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ (2)
13 - ثَانِيًا: لِلسَّيِّدِ حَقُّ الاِسْتِخْدَامِ فِي الْمَنْزِل وَخَارِجَهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ فِي زِرَاعَةٍ أَوْ خِدْمَةٍ أَوْ رِسَالَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَيَتَقَيَّدُ هَذَا بِأَنْ يَكُونَ الْعَمَل مِمَّا يُطِيقُهُ الرَّقِيقُ، فَيَحْرُمُ تَكْلِيفُهُ بِمَا لاَ يُطِيقُهُ أَوْ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً كَبِيرَةً، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُل، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ (3) أَيْ لِيُعِنْهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ؛ وَلأَِنَّ
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 386، وكشاف القناع 5 / 489، 493، والمغني 6 / 506.
(2) البناني على الزرقاني 5 / 304.
(3) حديث: " إخوانكم خولكم ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 174 - ط السلفية، ومسلم (3 / 1283 - ط الحلبي) من حديث أبي ذر.(23/20)
ذَلِكَ يَضُرُّ بِهِ وَيُؤْذِيهِ، وَالسَّيِّدُ مَمْنُوعٌ مِنَ الإِْضْرَارِ بِرَقِيقِهِ (1) .
وَقَال مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى الْعَوَالِي كُل سَبْتٍ فَإِذَا وَجَدَ عَبْدًا فِي عَمَلٍ لاَ يُطِيقُهُ وَضَعَ عَنْهُ مِنْهُ.
قَال مَالِكٌ: وَكَانَ عُمَرُ يَزِيدُ فِي رِزْقِ مَنْ قَل رِزْقُهُ، قَال: وَأَكْرَهُ مَا أَحْدَثُوا مِنْ إِجْهَادِ الْعَبِيدِ (2) .
وَإِذَا اسْتَعْمَل الْعَبْدَ نَهَارًا أَرَاحَهُ لَيْلاً، وَكَذَا بِالْعَكْسِ، وَيُرِيحُهُ بِالصَّيْفِ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ، وَالنَّوْمِ، وَالصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي الشِّتَاءِ النَّهَارَ مَعَ طَرَفَيِ اللَّيْل، وَيَتَّبِعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ (3) .
وَإِذَا سَافَرَ بِهِمْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُرْكِبَهُمْ وَلَوْ عُقْبَةً عِنْدَ الْحَاجَةِ (4) .
14 - ثَالِثًا: لِلسَّيِّدِ حَقُّ انْتِزَاعِ الْمَال الْمُتَحَصِّل لِلرَّقِيقِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، كَمَا لَوْ كَانَ أَجْرَ عَمَلِهِ أَوْ مَهْرَ الأَْمَةِ، أَوْ أَرْشَ جِنَايَةٍ عَلَى الرَّقِيقِ، أَوْ بَدَل خُلْعِ الْعَبْدِ امْرَأَتَهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ وُهِبَ
__________
(1) فتح الباري 5 / 175، وكشاف القناع 5 / 491، والمغني 7 / 631، وروضة الطالبين 9 / 119.
(2) الموطأ بشرح الباجي 7 / 305.
(3) روضة الطالبين 9 / 119، وكشاف القناع 5 / 490.
(4) كشاف القناع 5 / 490، والقليوبي 4 / 94، والعقبة تناوب شخصين أو أكثر ركوب الدابة الواحدة.(23/20)
لِلرَّقِيقِ مَالٌ، أَوِ اكْتَسَبَ مِنَ الْمُبَاحِ (1) .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ أَوْ لاَ يَمْلِكُ كَمَا سَيَأْتِي، لَكِنْ عِنْدَ مَنْ قَال إِنَّهُ يَمْلِكُ فَلِسَيِّدِهِ انْتِزَاعُ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْمَال مَتَى شَاءَ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا} (2) .
15 - رَابِعًا: لِلسَّيِّدِ حَقُّ اسْتِغْلاَل مَمَالِيكِهِ، أَيْ أَنْ يَسْتَعْمِل السَّيِّدُ رَقِيقَهُ فِيمَا يُدِرُّ عَلَى السَّيِّدِ مَالاً، وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤَجِّرَهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ عَمَلٍ وَيَأْخُذَ السَّيِّدُ أَجْرَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ إِنْ كَانَ ذَا صَنْعَةٍ كَحِدَادَةٍ أَوْ خِيَاطَةٍ فِي أَنْ يَعْمَل بِأَجْرٍ، وَكَذَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي تِجَارَةٍ أَوْ زِرَاعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَمِنْ غَلَّةِ الأَْمَةِ وَلَدُهَا إِنْ زُوِّجَتْ، وَوُلِدَ عَلَى الرِّقِّ.
وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْمُرَ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ بِالْكَسْبِ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يَتَكَسَّبَ بِمَا شَاءَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ بِالْكَسْبِ أَمَةً لاَ صَنْعَةَ لَهَا، قَال عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ: لاَ تُكَلِّفُوا الأَْمَةَ غَيْرَ ذَاتِ الصَّنْعَةِ الْكَسْبَ، فَإِنَّكُمْ مَتَى كَلَّفْتُمُوهَا ذَلِكَ كَسَبْتِ بِفَرْجِهَا، وَلاَ تُكَلِّفُوا الصَّغِيرَ الْكَسْبَ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ سَرَقَ (3) . قَال الْبَاجِيُّ: أَيْ إِنَّهَا إِذَا أُلْزِمَتْ خَرَاجًا وَهِيَ لَيْسَتْ ذَاتَ صَنْعَةٍ تَصْنَعُهَا بِخَرَاجٍ، اضْطَرَّهَا ذَلِكَ لِلْكَسْبِ مِنْ أَيِّ
__________
(1) روضة الطالبين 6 / 187، وكشاف القناع 3 / 568.
(2) سورة النحل / 75.
(3) الموطأ وشرح الباجي 7 / 305.(23/21)
وَجْهٍ أَمْكَنَهَا، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى أَنْ تَكْسِبَ بِفَرْجِهَا، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ إِذَا كُلِّفَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْخَرَاجِ وَهُوَ لاَ يُطِيقُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا اضْطَرَّهُ إِلَى أَنْ يَتَخَلَّصَ مِمَّا لَزِمَهُ مِنَ الْخَرَاجِ بِأَنْ يَسْرِقَ.
وَمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى عَنْ كَسْبِ الأَْمَةِ (1) فَلَيْسَ عَلَى إِطْلاَقِهِ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ مَرْفُوعًا: نَهَى عَنْ كَسْبِ الأَْمَةِ حَتَّى يُعْلَمَ مِنْ أَيْنَ هُوَ (2) . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ نَهَى عَنْ كَسْبِ الأَْمَةِ إِلاَّ مَا عَمِلَتْ بِيَدِهَا (3) . وَقَال هَكَذَا بِيَدِهِ، نَحْوُ الْغَزْل وَالنَّفْشِ (4) .
الْمُخَارَجَةُ:
16 - الْمُخَارَجَةُ أَنْ يَضْرِبَ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ أَوْ
__________
(1) حديث: " نهى عن كسب الأمة ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 426 - ط السلفية) من حديث أبي جحيفة.
(2) حديث: " نهى عن كسب الأمة حتى يعلم من أين هو ". أخرجه أبو داود (3 / 710 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وفي إسناده جهالة كما في فيض القدير للمناوي (6 / 338 - ط المكتبة التجارية) ولكن يشهد له الذي بعده.
(3) حديث: " نهى عن كسب الأمة إلا ما عملت بيدها ". أخرجه أبو داود (3 / 710 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 42 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(4) فتح الباري 4 / 427.(23/21)
أَمَتِهِ خَرَاجًا مَعْلُومًا يُؤَدِّيهِ كَكُل يَوْمٍ أَوْ أُسْبُوعٍ مِمَّا يَكْتَسِبُهُ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَجْبُرَ الْعَبْدَ عَلَيْهَا وَلاَ لِلْعَبْدِ إِجْبَارُ السَّيِّدِ، بَل هُوَ عَقْدٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّرَاضِي مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَفِي قَوْلٍ: لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُهُ. قَال النَّوَوِيُّ: وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْل بِشَيْءٍ.
وَإِذَا تَرَاضَيَا عَلَى خَرَاجٍ فَلْيَكُنْ لَهُ كَسْبٌ دَائِمٌ يَفِي بِذَلِكَ الْخَرَاجِ فَاضِلاً عَنْ نَفَقَتِهِ وَكُسْوَتِهِ إِنْ جَعَلَهَا فِي كَسْبِهِ. فَإِنْ وَضَعَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ كَسْبِهِ بَعْدَ نَفَقَتِهِ لَمْ يَجُزْ. وَكَذَا إِنْ كَلَّفَ مِنْ لاَ كَسْبَ لَهُ الْمُخَارَجَةَ، وَإِذَا وَفَّى مَا عَلَيْهِ وَزَادَ كَسْبُهُ عَلَى الْمَضْرُوبِ عَلَيْهِ فَالزِّيَادَةُ لَهُ. وَهِيَ بِرٌّ وَرِفْقٌ مِنَ السَّيِّدِ بِعَبْدِهِ، وَتَوْسِيعٌ لِلنَّفَقَةِ عَلَيْهِ.
وَيَجْبُرُ النَّقْصَ فِي بَعْضِ الأَْيَّامِ بِالزِّيَادَةِ فِي بَعْضِهَا، وَإِذَا أَدَّى مَا عَلَيْهِ فَلَهُ تَرْكُ الْعَمَل.
وَالْمُخَارَجَةُ جَائِزَةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَيْ غَيْرُ لاَزِمَةٍ، فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا فَسْخُهَا (1) .
17 - خَامِسًا: يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ أَيْضًا الْحِفْظُ وَالصِّيَانَةُ لِمَا بِيَدِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ نَفْسِهِ. وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِْمَامُ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُل فِي أَهْلِهِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ، وَهِيَ
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 118، والقليوبي 4 / 94، وكشاف القناع 5 / 491، والمغني 7 / 631.(23/22)
مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَال سَيِّدِهِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ (1) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ: رِعَايَتُهُ حِفْظُ مَا تَحْتَ يَدِهِ وَالْقِيَامُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ خِدْمَتِهِ (2) .
وَعَلَى الرَّقِيقِ أَيْضًا النُّصْحُ لِسَيِّدِهِ، وَبَذْل جَهْدِهِ فِي خِدْمَتِهِ، وَتَنْفِيذُ أَوَامِرِهِ وَتَرْكُ الْكَسَل فِيهَا، لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا أَيُّمَا عَبْدٍ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ فَلَهُ أَجْرَانِ (3) .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْمَمْلُوكِ الَّذِي يُحْسِنُ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَيُؤَدِّي إِلَى سَيِّدِهِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ وَالنَّصِيحَةِ وَالطَّاعَةِ أَجْرَانِ (4) .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: إِذَا نَصَحَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ (5) قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدِي أَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ وَاجِبَانِ
__________
(1) حديث: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 69 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1459 - ط الحلبي من حديث ابن عمر، واللفظ للبخاري) .
(2) فتح الباري 13 / 113.
(3) حديث: " أيما عبد أدى حق الله وحق مواليه فله أجران ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 175 - ط السلفية) .
(4) حديث: " للمملوك الذي يحسن عبادة ربه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 177 - ط السلفية) .
(5) حديث: " إذا نصح العبد لسيده وأحسن عبادة ربه كان أجره مرتين ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 277 - ط السلفية) .(23/22)
طَاعَةُ رَبِّهِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَطَاعَةُ سَيِّدِهِ فِي الْمَعْرُوفِ، فَقَامَ بِهِمَا جَمِيعًا، كَانَ لَهُ ضِعْفُ أَجْرِ الْحُرِّ الْمُطِيعِ لِطَاعَتِهِ (1) .
18 - سَادِسًا: لِلسَّيِّدِ حَقُّ تَأْدِيبِ عَبْدِهِ وَمُعَاقَبَتِهِ عَلَى تَرْكِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَوْ فِعْل مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ مُخَالَفَةِ السَّيِّدِ، أَوْ إِسَاءَةِ الأَْدَبِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بِاللَّوْمِ أَوِ الضَّرْبِ، كَمَا يُؤَدِّبُ وَلَدَهُ وَزَوْجَتَهُ النَّاشِزَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي إِقَامَةِ السَّيِّدِ الْحَدَّ وَالْقِصَاصَ عَلَى عَبْدِهِ (2) . وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَمِنْ جُمْلَةِ الْعُقُوبَةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا السَّيِّدُ أَنْ يَضْرِبَهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلاَةِ إِذَا كَانَ مُمَيِّزًا وَبَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ، وَذَلِكَ لِتَمْرِينِهِ عَلَيْهَا حَتَّى يَأْلَفَهَا وَيَعْتَادَهَا (3) لِحَدِيثِ: وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ (4) . قَال الْحَجَّاوِيُّ وَالْبُهُوتِيُّ: وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يَزِيدَ فِي ضَرْبِ الرَّقِيقِ، تَأْدِيبًا عَلَى ضَرْبِ الْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَضْرِبْ ظَعِينَتَكَ
__________
(1) فتح الباري 5 / 172 - 174، والقليوبي 4 / 94.
(2) روضة الطالبين 10 / 103، 175، وفتح الباري 12 / 163 - 165 و 174 وكشاف القناع 6 / 79.
(3) كشاف القناع 1 / 225.
(4) حديث: " واضربوهم عليها وهم أبناء عشر ". أخرجه أبو داود (1 / 334 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وحسنه النووي في رياض الصالحين (ص 171 - ط الرسالة) .(23/23)
كَضَرْبِ أُمَيَّتِكَ (1) وَقَوْلِهِ: لاَ يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ (2) . وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يُقَيِّدَ عَبْدَهُ إِذَا خَافَ عَلَيْهِ الإِْبَاقَ (3) .
19 - سَابِعًا: لِلسَّيِّدِ حَقُّ وَطْءِ مَمْلُوكَتِهِ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ، كَأَنْ تَكُونَ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ أَوْ مُزَوَّجَةً، أَوْ كَافِرَةً غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ، أَوْ تَكُونَ مُرْتَدَّةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، أَوْ فِيهَا شِرْكٌ لِغَيْرِهِ، فَإِذَا وُطِئَتْ تَكُونُ سَرِيَّةً، إِلاَّ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مُزَوَّجَةً ثُمَّ مُلِكَتْ بِالسَّبْيِ جَازَ لِمَالِكِهَا فَسْخُ نِكَاحِهَا ثُمَّ وَطْؤُهَا بَعْدَ الاِسْتِبْرَاءِ.
وَلِلاِسْتِمْتَاعِ بِالإِْمَاءِ أَحْكَامٌ وَضَوَابِطُ شَرْعِيَّةٌ تُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهَا مِمَّا يَلِي. وَفِي مُصْطَلَحِ: (تَسَرِّي) .
وَيَجِبُ عَلَى الْمَمْلُوكَةِ أَنْ تُمَكِّنَ سَيِّدَهَا مِنْ نَفْسِهَا لِلاِسْتِمْتَاعِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا الاِمْتِنَاعُ مِنْ ذَلِكَ لأَِنَّهُ مَنْعُ حَقٍّ، مَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، أَوْ
__________
(1) حديث: " لا تضرب ظعينتك كضربك أُميتك ". أخرجه أبو داود (1 / 98 - 99 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث لقيط بن صبرة، ونقل ابن حجر عن الإمام أحمد أن الراوي عن لقيط لم يسمع منه، كذا في التلخيص الحبير (1 / 81 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 302 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2191 ط. الحلبي. من حديث عبد الله بن زمعة، واللفظ للبخاري) .
(3) كشاف القناع 5 / 491، 492، وفتح القدير 8 / 133.(23/23)
يَكُونَ لَهَا عُذْرٌ صَحِيحٌ (1) .
20 - ثَامِنًا: لِلسَّيِّدِ التَّصَرُّفُ فِي رَقِيقِهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.
21 - تَاسِعًا: لِلسَّيِّدِ أَنْ يَمْنَعَ عَبْدَهُ مِنَ التَّزَوُّجِ، أَوِ التَّعَاقُدِ، أَوِ التَّصَرُّفِ بِالْوَجْهِ الَّذِي يُرِيدُ.
فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ تَعَاقُدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ السَّيِّدِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي لِلسَّيِّدِ عَلَى رَقِيقِهِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ بَاقِي هَذَا الْبَحْثِ.
إِبَاقُ الرَّقِيقِ وَهَرَبُهُ:
22 - الإِْبَاقُ: انْطِلاَقُ الْعَبْدِ تَمَرُّدًا عَلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ كَدِّ عَمَلٍ، فَإِنْ كَانَ تَمَرُّدُهُ لِذَلِكَ لاَ يُسَمَّى آبِقًا، بَل هُوَ هَارِبٌ أَوْ ضَالٌّ أَوْ فَارٌّ. وَالإِْبَاقُ مُحَرَّمٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَال حَقِّ السَّيِّدِ، وَهُوَ مِنْ عُيُوبِ الرَّقِيقِ (2) . وَلِلإِْبَاقِ أَحْكَامٌ مُخْتَلِفَةٌ تُنْظَرُ فِي (إِبَاق) .
مَا لاَ يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ مِنْ رَقِيقِهِ:
23 - لَيْسَ لِلسَّيِّدِ قَتْل عَبْدِهِ، وَلاَ جَرْحُهُ، وَلاَ التَّمْثِيل بِهِ بِقَطْعِ شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، كَجَدْعِ
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 207.
(2) رد المحتار 3 / 325، وحاشية الدسوقي 4 / 127، ومغني المحتاج 2 / 13، والمغني 5 / 660 و7 / 634، وكشاف القناع 3 / 483.(23/24)
أَنْفِهِ أَوْ قَطْعِ أُذُنِهِ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُثْلَةِ (1) .
وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ خِصَاءُ عَبْدِهِ.
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ ضَرْبًا شَدِيدًا إِلاَّ لِذَنْبٍ عَظِيمٍ.
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَلْطِمَهُ فِي وَجْهِهِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ (2) . وَلِحَدِيثِ: مَنْ لَطَمَ غُلاَمَهُ فَكَفَّارَتُهُ عِتْقُهُ (3) . وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ جَنَاهُ. وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَشْتُمَ أَبَوَيْ رَقِيقِهِ وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ (4) .
وَإِنْ مَثَّل السَّيِّدُ بِرَقِيقِهِ، فَقَطَعَ أُذُنَهُ أَوْ أَنْفَهُ أَوْ عُضْوًا مِنْهُ، أَوْ جَبَّهُ أَوْ خَصَاهُ أَوْ خَرَقَ أَوْ حَرَقَ عُضْوًا مِنْهُ، عَتَقَ عَلَيْهِ بِلاَ حُكْمِ حَاكِمٍ بَل بِمُجَرَّدِ التَّمْثِيل بِهِ. عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَفِي قَوْلٍ: بَل بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ زِنْبَاعًا وَجَدَ غُلاَمًا لَهُ مَعَ جَارِيَةٍ فَجَدَعَ أَنْفَهُ وَجَبَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال مَنْ فَعَل هَذَا بِكَ؟
__________
(1) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 119 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري.
(2) حديث: " إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه ". أخرجه أحمد (2 / 244 - ط الميمنية) من حديث أبي هريرة، وأصله في مسلم (4 / 2016 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " من لطم غلامه فكفارته عتقه ". أخرجه مسلم (3 / 1278 - ط الحلبي) وأحمد (2 / 25 - ط الميمنية) من حديث ابن عمر. واللفظ لأحمد.
(4) كشاف القناع 5 / 492، والمغني 7 / 634.(23/24)
فَقَال: زِنْبَاعٌ: فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ فَقَال كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا وَكَذَا، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبْدِ: اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ (1) . وَلَوِ اسْتَكْرَهَ عَبْدَهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ بِلِوَاطٍ عَتَقَ أَيْضًا، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ الَّتِي لاَ تُطِيقُ الْوَطْءَ فَأَفْضَاهَا؛ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى التَّمْثِيل.
وَلاَ يَعْتِقُ بِخَدْشِهِ أَوْ ضَرْبِهِ أَوْ لَعْنِهِ (2) ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ (عِتْق) ، وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ بِالتَّمْثِيل بِهِ تَعَمُّدَ الشَّيْنِ الْمَعْنَوِيِّ كَحَلْقِ لِحْيَةِ عَبْدٍ تَاجِرٍ، أَوْ حَلْقِ شَعْرِ أَمَةٍ رَفِيعَةٍ. وَأَلْحَقُوا بِهِ أَيْضًا تَمْثِيل الرَّجُل بِعَبْدِ غَيْرِهِ، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِصَاحِبِهِ، لَكِنْ لاَ يَسْتَحِقُّ الْعِتْقَ بِذَلِكَ إِلاَّ إِنْ كَانَتْ مَفْسَدَةً لِمَنَافِعِ الرَّقِيقِ كُلِّهَا أَوْ جُلِّهَا (3)
.
حُقُوقُ الرَّقِيقِ عَلَى سَيِّدِهِ:
24 - أَوَّلاً: نَفَقَةُ الْمَمْلُوكِينَ وَاجِبَةٌ عَلَى مَالِكِيهِمْ إِجْمَاعًا، لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الأَْحَادِيثِ مِنْهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ لاَ يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَل إِلاَّ مَا يُطِيقُ (4) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَفَى
__________
(1) حديث: " أن زنباعًا وجد غلامًا له مع جارية ". أخرجه أحمد (2 / 182 - ط الميمنية) وذكره الهيثمي في المجمع (6 / 288 - ط المقدسي) وقال: " رجاله ثقات ".
(2) كشاف القناع 4 / 514، والزرقاني 8 / 130 - 131.
(3) الزرقاني وحاشية البناني 8 / 129 و6 / 147.
(4) حديث: " للمملوك طعامه وكسوته ". أخرجه مسلم (3 / 1284 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(23/25)
بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ (1) . وَلأَِنَّهُ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ نَفَقَةٍ، وَمَنَافِعُهُ لِسَيِّدِهِ، وَهُوَ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ.
وَالْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ قَدْرُ كِفَايَتِهِ.
وَسَوَاءٌ أَكَانَ الرَّقِيقُ مُوَافِقًا فِي الدِّينِ لِمَالِكِهِ أَوْ مُخَالِفًا لَهُ.
وَالسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَجْعَل نَفَقَتَهُ مِنْ كَسْبِهِ إِنْ كَانَ لَهُ كَسْبٌ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ كَسْبَهُ أَوْ يَجْعَلَهُ بِرَسْمِ خِدْمَتِهِ وَيُنْفِقَ السَّيِّدُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؛ لأَِنَّ الْكُل مَالُهُ.
وَإِنْ كَانَ لِلْمَمْلُوكِ كَسْبٌ أَكْثَرُ مِنْ نَفَقَتِهِ وَجَعَل السَّيِّدُ نَفَقَتَهُ فِي كَسْبِهِ، فَلِلسَّيِّدِ أَخْذُ الزَّائِدِ عَنْ نَفَقَتِهِ، وَإِنْ كَانَ كَسْبُهُ لاَ يَكْفِي لِنَفَقَتِهِ فَعَلَى سَيِّدِهِ إِتْمَامُهَا. وَتَسْقُطُ النَّفَقَةُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ.
وَالْوَاجِبُ مِنَ الإِْطْعَامِ كِفَايَتُهُ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ وَأُدْمِ مِثْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ.
وَالْوَاجِبُ مِنَ الْكِسْوَةِ الْمَعْرُوفُ مِنْ غَالِبِ الْكِسْوَةِ لأَِمْثَال الْمَمْلُوكِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. وَيَجِبُ لَهُ الْغِطَاءُ وَالْوِطَاءُ وَالْمَسْكَنُ وَالْمَاعُونُ. وَلاَ يَجُوزُ الاِقْتِصَارُ فِي الْكِسْوَةِ عَلَى مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَإِنْ كَانَ لاَ يَتَأَذَّى بِحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ.
فَإِنِ امْتَنَعَ السَّيِّدُ مِنَ الإِْنْفَاقِ الْوَاجِبِ لِعُسْرِهِ
__________
(1) حديث: " كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته ". أخرجه مسلم (2 / 692 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو.(23/25)
أَوْ إِبَائِهِ فَطَلَبَ الْمَمْلُوكُ بَيْعَهُ أُجْبِرَ السَّيِّدُ عَلَى ذَلِكَ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُ مَال السَّيِّدِ فِي نَفَقَةِ رَقِيقِهِ. وَلاَ يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ عَبِيدِهِ فِي النَّفَقَةِ، وَلاَ بَيْنَ الْجَوَارِي، بَل يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُنَّ لِلاِسْتِمْتَاعِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَزِيدَهَا فِي النَّفَقَةِ (1) . وَهَذَا كُلُّهُ تَفْصِيل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِذَا مَرِضَ الْمَمْلُوكُ أَوْ زَمِنَ أَوْ عَمِيَ، وَانْقَطَعَ كَسْبُهُ، فَعَلَى سَيِّدِهِ الإِْنْفَاقُ عَلَيْهِ، وَالْقِيَامُ بِهِ؛ لأَِنَّ نَفَقَتَهُ تَجِبُ بِالْمِلْكِ لاَ بِالْعَمَل، وَلِذَا تَجِبُ مَعَ الصِّغَرِ (2) .
وَلاَ تَسْقُطُ نَفَقَةُ الرَّقِيقِ بِإِبَاقِهِ أَوْ عِصْيَانِهِ أَوْ حَبْسِهِ أَوْ نُشُوزِ الأَْمَةِ (3) .
وَلَوِ امْتَنَعَ السَّيِّدُ عَنِ الإِْنْفَاقِ فَقَدَرَ الْعَبْدُ عَلَى أَخْذِ قَدْرِ كِفَايَتِهِ مِنْ مَال سَيِّدِهِ فَلَهُ ذَلِكَ (4) .
وَيَلْزَمُ السَّيِّدَ نَفَقَةُ تَجْهِيزِ رَقِيقِهِ إِذَا مَاتَ وَدَفْنُهُ (5) .
وَتُسْتَحَبُّ مُدَاوَاهُ الرَّقِيقِ إِذَا مَرِضَ وَمَا لَزِمَ مِنْ أُجْرَةِ الطَّبِيبِ وَثَمَنِ الدَّوَاءِ فَهُوَ عَلَى السَّيِّدِ، وَيَجِبُ خِتَانُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَخْتُونًا مِنْهُمْ، وَهَذَا عِنْدَ
__________
(1) المغني 7 / 630، 632، وكشاف القناع 5 / 488، والمحلي على المنهاج 4 / 93، وروضة الطالبين 9 / 115 - 118، والزرقاني 4 / 259، 260.
(2) المغني 7 / 631.
(3) كشاف القناع 5 / 488.
(4) كشاف القناع 5 / 489.
(5) كشاف القناع 2 / 104، 5 / 489.(23/26)
مَنْ قَال بِوُجُوبِ الْخِتَانِ (1) . (ر: خِتَان)
25 - ثَانِيًا: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ إِعْفَافُ مَمَالِيكِهِ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا إِذَا طَلَبُوا ذَلِكَ: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَْيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (2) وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ. " مَنْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَلَمْ يُزَوِّجْهَا وَلَمْ يُصِبْهَا، أَوْ عَبْدٌ فَلَمْ يُزَوِّجْهُ فَمَا صَنَعَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ عَلَى السَّيِّدِ فَلَوْلاَ وُجُوبُ إِعْفَافِهِمَا لَمَا لَحِقَ السَّيِّدَ إِثْمٌ بِفِعْلِهِمَا، وَلأَِنَّ النِّكَاحَ تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ غَالِبًا وَيَتَضَرَّرُ بِفَوَاتِهِ وَيَتَعَرَّضُ بِمَنْعِهِ مِنْهُ لِلْفِتْنَةِ، فَأُجْبِرَ السَّيِّدُ عَلَيْهِ كَالنَّفَقَةِ، وَيَكُونُ الإِْعْفَافُ لِلذَّكَرِ بِتَزْوِيجِهِ أَوْ بِتَمْلِيكِهِ أَمَةً يَتَسَرَّاهَا عَلَى خِلاَفٍ فِي جَوَازِ تَسَرِّيهِ، يَأْتِي بَيَانُهُ، وَلِلأُْنْثَى بِتَزْوِيجِهَا أَوْ بِوَطْءِ سَيِّدِهَا لَهَا بِمَا يُغْنِيهَا عَنِ التَّزْوِيجِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ قَضَاءُ حَاجَتِهَا وَدَفْعُ شَهْوَتِهَا، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ تَزْوِيجُهَا.
وَإِذَا كَانَ لِلْعَبْدِ زَوْجَةٌ فَعَلَى سَيِّدِهِ تَمْكِينُهُ مِنْ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا لَيْلاً؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الإِْعْفَافِ يَقْتَضِي الإِْذْنَ فِي الاِسْتِمْتَاعِ الْمُعْتَادِ.
فَإِنِ امْتَنَعَ السَّيِّدُ مِنَ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ أَوِ الإِْعْفَافِ الْوَاجِبِ بِمَا تَقَدَّمَ، سَوَاءٌ لِعَجْزِهِ أَوْ إِبَائِهِ فَطَلَبَ الْعَبْدُ أَوِ الْجَارِيَةُ أَنْ يُبَاعَ، وَجَبَ عَلَى السَّيِّدِ إِجَابَتُهُ إِلَى ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ، وَلِحَدِيثِ: تَقُول الْمَرْأَةُ: إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي أَوْ تُطَلِّقَنِي، وَيَقُول
__________
(1) كشاف القناع 5 / 490.
(2) سورة النور / 32.(23/26)
الْعَبْدُ: أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي، وَيَقُول الاِبْنُ: أَطْعِمْنِي إِلَى مَنْ تَدَعُنِي وَفِي رِوَايَةٍ: وَيَقُول خَادِمُكَ أَطْعِمْنِي وَإِلاَّ فَبِعْنِي (1) . فَإِنْ لَمْ يَفْعَل بَاعَ الْحَاكِمُ مَالَهُ فِي نَفَقَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالاً أَمَرَهُ بِبَيْعِهِ، أَوْ يُؤَجِّرُهُ أَوْ يَعْتِقُهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل بَاعَهُ الْحَاكِمُ.
وَإِذَا كَانَ السَّيِّدُ يَطَأُ جَارِيَتَهُ فَغَابَ غَيْبَةً لاَ تُقْطَعُ إِلاَّ بِكُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ فَطَلَبَتِ التَّزْوِيجَ زَوَّجَهَا الْحَاكِمُ (2) .
وَلاَ يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَقَارِبِ الرَّقِيقِ إِعْفَافُهُ، بَل الْحَقُّ عَلَى السَّيِّدِ، وَالأَْصَحُّ لِلشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ وُجُوبِ إِعْفَافِ السَّيِّدِ رَقِيقَهُ.
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَنَسَبَ صَاحِبُ الْمُغْنِي إِلَيْهِمَا عَدَمَ الْوُجُوبِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْضْرَارِ الْمَالِيِّ بِالسَّيِّدِ؛ وَلأَِنَّ التَّزْوِيجَ لَيْسَ مِمَّا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ (3) .
26 - ثَالِثًا: إِذَا طَلَبَ الرَّقِيقُ الْعِتْقَ لَمْ يَلْزَمْ سَيِّدَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ، لَكِنْ إِنْ طَلَبَ الْكِتَابَةَ، وَهِيَ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ يُؤَدِّيهِ لِسَيِّدِهِ، وَجَبَ عَلَى سَيِّدِهِ أَنْ يُعَاقِدَهُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمْ
__________
(1) المغني 7 / 632، 633، وروضة الطالبين 9 / 119، وفتح الباري 9 / 500، 501. وحديث: " تقول المرأة: إما أن تطعمني أو تطلقني ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 500 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(2) كشاف القناع 1 / 489، 490.
(3) القليوبي 5 / 271.(23/27)
عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَمَسْرُوقٌ وَعُمَرُ وَابْنُ دِينَارٍ وَالضَّحَّاكُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَال اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (1) وَرُوِيَ أَنَّ سِيرِينَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ سِيرِينَ سَأَل أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَهُوَ مَوْلاَهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ، فَأَبَى أَنَسٌ، فَرَفَعَ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الدُّرَّةَ وَتَلاَ: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} فَكَاتَبَهُ أَنَسٌ.
وَذَهَبَ أَئِمَّةُ الأَْمْصَارِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ غَيْرُ وَاجِبٍ، قَالُوا: لأَِنَّهَا مُعَاوَضَةٌ فَلاَ تَصِحُّ إِلاَّ عَنْ تَرَاضٍ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لاِمْرِئٍ مِنْ مَال أَخِيهِ إِلاَّ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ (2) . وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ فِي الآْيَةِ الْقُوَّةُ عَلَى الْكَسْبِ وَالأَْدَاءِ، وَقِيل: الْمُرَادُ الصَّلاَحُ وَالأَْمَانَةُ وَالدِّينُ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْكَلاَمِ فِي الْكِتَابَةِ وَأَحْكَامِ الْمُكَاتَبِ تَحْتَ عُنْوَانِ: (مُكَاتَبَة)
__________
(1) سورة النور / 33.
(2) حديث: " لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه ". أخرجه أحمد (3 / 423 - ط الميمنية) من حديث عمرو بن يثربي، وأورده الهيثمي في المجمع (4 / 171 - 172 - ط القدسي) وقال: " رواه أحمد وابنه في زياداته عليه، والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد ثقات ".
(3) تفسير القرطبي عند الآية 33 من سورة النور، القاهرة، دار الكتب المصرية، والزرقاني 8 / 148، وكشاف القناع 4 / 540.(23/27)
الإِْنْفَاقُ عَلَى زَوْجَةِ الرَّقِيقِ وَوَلَدِهِ:
27 - يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى زَوْجَةِ الرَّقِيقِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، وَنَفَقَةُ الْجَارِيَةِ الْمُزَوَّجَةِ عَلَى زَوْجِهَا إِنْ كَانَ حُرًّا، وَعَلَى سَيِّدِ زَوْجِهَا إِنْ كَانَ رَقِيقًا مَا كَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا، وَحَيْثُ عَادَتْ إِلَى سَيِّدِهَا لِخِدْمَتِهِ يُنْفِقُ عَلَيْهَا مَا كَانَتْ عِنْدَهُ.
وَنَفَقَةُ أَوْلاَدِ الرَّقِيقَةِ عَلَى سَيِّدِهَا وَلَوْ كَانَ أَبُوهُمْ حُرًّا؛ لأَِنَّهُمْ يَكُونُونَ رَقِيقًا لِلسَّيِّدِ تَبَعًا لأُِمِّهِمْ، وَنَفَقَةُ أَوْلاَدِ الْحُرَّةِ مِنْ عَبْدٍ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُمْ مِنَ الأَْقَارِبِ؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يَتْبَعُونَ السَّيِّدَ، بَل يَكُونُونَ أَحْرَارًا، وَمِنَ الأَْقَارِبِ الأُْمُّ (1) ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي بَحْثِ: (نَفَقَة) .
الرِّفْقُ بِالرَّقِيقِ وَالإِْحْسَانُ إِلَيْهِ:
28 - أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالإِْحْسَانِ إِلَى الرَّقِيقِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيل وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (2) . قَال الْقُرْطُبِيُّ: نَدَبَهُمْ إِلَى مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى الإِْحْسَانِ وَإِلَى طَرِيقِ التَّوَاضُعِ،
__________
(1) كشاف القناع 5 / 488.
(2) سورة النساء / 36.(23/28)
حَتَّى لاَ يَرَوْا لأَِنْفُسِهِمْ مَزِيَّةً عَلَى عَبِيدِهِمْ إِذِ الْكُل عَبِيدُ اللَّهِ، وَالْمَال مَال اللَّهِ، لَكِنْ سُخِّرَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَمَلَكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِتْمَامًا لِلنِّعْمَةِ، وَتَنْفِيذًا لِلْحِكْمَةِ (1) . وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ (2) . وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى بِهِمْ فَقَال: أَرِقَّاءَكُمْ أَرِقَّاءَكُمْ (3) . وَفِي حَدِيثٍ: قَال: كَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قَال: الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ. اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (4) .
وَقَدْ بَيَّنَتْ شَرِيعَةُ الإِْسْلاَمِ أَنَّ الرَّقِيقَ وَالأَْحْرَارَ إِخْوَةٌ، وَأَنَّ الاِخْتِلاَفَ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ لاَ يَعْنِي عَدَمَ قِيَامِ هَذِهِ الأُْخُوَّةِ، وَأَمَّا جَعْل الرَّقِيقِ بِيَدِ سَيِّدِهِ، وَتَمْلِيكُهُ رَقَبَتَهُ فَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالاِبْتِلاَءِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِيَعْلَمَ مَنْ يَقُومُ بِحَقِّ ذَلِكَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ
__________
(1) تفسير القرطبي 5 / 190.
(2) حديث: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء ". أخرجه مسلم (3 / 1548 - ط الحلبي) من حديث شداد بن أوس.
(3) حديث: " أرقاءكم أرقاءكم ". أخرجه أحمد (4 / 35 - 36 - ط الميمنية) من حديث يزيد بن جارية، وأورده الهيثمي في المجمع (4 / 236 - ط القدسي) وقال: " رواه أحمد والطبراني، وفيه عاصم بن عبيد الله، وهو ضعيف ".
(4) حديث: " الصلاة الصلاة، اتقوا لله فيما ملكت أيمانكم ". أخرجه أحمد (1 / 78 - ط الميمنية) من حديث علي بن أبي طالب، وإسناده صحيح.(23/28)
يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (1) أَيْ أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ (2) .
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ (3) وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: حُسْنُ الْمَلَكَةِ يُمْنٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: نَمَاءٌ، وَسُوءُ الْخُلُقِ شُؤْمٌ (4) أَيْ إِذَا أَحْسَنَ الصَّنِيعَ بِالْمَمَالِيكِ وَمُعَامَلَتَهُمْ فَإِنَّهُمْ يُحْسِنُونَ خِدْمَتَهُ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْيُمْنِ وَالْبَرَكَةِ، كَمَا أَنَّ سُوءَ الْمَلَكَةِ يُؤَدِّي إِلَى الشُّؤْمِ وَالْهَلَكَةِ (5) .
وَالإِْحْسَانُ إِلَى الرَّقِيقِ يَتَضَمَّنُ بِالإِْضَافَةِ إِلَى الاِلْتِزَامِ بِحُقُوقِهِ الْوَاجِبَةِ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ أُمُورًا، مِنْهَا:
أ - تَرْكُ ظُلْمِهِ وَالإِْسَاءَةِ إِلَيْهِ:
29 - سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِضَرْبٍ، أَوْ شَتْمٍ، أَوْ تَحْقِيرٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَْنْصَارِيِّ قَال: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمًا لِي، فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ - قَال رَاوِي الْحَدِيثِ: مَرَّتَيْنِ - لَلَّهُ أَقْدَرُ مِنْكَ عَلَيْهِ فَالْتَفَتُّ
__________
(1) سورة النساء / 25.
(2) تفسير القرطبي 5 / 141.
(3) حديث: " إخوانكم خولكم ". تقدم تخريجه ف / 13.
(4) حديث: " حسن الملكة يمن، وسوء الخلق شؤم ". أخرجه أحمد (3 / 502 - ط الميمنية) وأبو داود (5 / 362 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وأعله المناوي في " الفيض " (3 / 386 - ط المكتبة التجارية) .
(5) عون المعبود 14 / 71 المدينة المنورة، السلفية.(23/29)
فَإِذَا هُوَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ. قَال: أَمَا إِنَّكَ لَوْ لَمْ تَفْعَل لَلَفَحَتْكَ النَّارُ. أَوْ: لَمَسَّتْكَ النَّارُ (1) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَدْخُل الْجَنَّةَ سَيِّئُ الْمَلَكَةِ (2) .
ب - الإِْحْسَانُ إِلَى الْعَبْدِ فِي الطَّعَامِ:
30 - وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُجْلِسَهُ مَعَهُ لِيَأْكُل مِنْ طَعَامِهِ إِذَا أَحْضَرَهُ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ اسْتُحِبَّ أَنْ يُنَاوِلَهُ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي عَالَجَ الطَّعَامَ تَأَكَّدَ الاِسْتِحْبَابُ، وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي هَذَا الْحَال إِلَى الْوُجُوبِ فِي قَوْلٍ، وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَطْعَمُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ (3) . وَقَوْلِهِ: إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامٍ فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ أَكْلَةً أَوْ أَكْلَتَيْنِ، أَوْ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَعِلاَجَهُ (4) . وَفِي رِوَايَةٍ إِذَا كَفَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ صَنْعَةَ
__________
(1) حديث: " اعلم أبا مسعود لله أقدر منك عليه ". أخرجه مسلم (3 / 1281 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " لا يدخل الجنة سيئ الملكة ". أخرجه الترمذي (4 / 334 - ط الحلبي) من حديث أبي بكر الصديق، وقال: " هذا حديث غريب، وقد تكلم أيوب السختياني وغير واحد في فرقد السبخي من قبل حفظه " وكذا ضعفه المناوي في " الفيض " (6 / 449 - ط المكتبة التجارية) .
(3) حديث: " من كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم وليلبسه مما يلبس ". تقدم تخريجه ف / 13.
(4) حديث: " إذا أتى أحدكم خادمه ". أخرجه البخاري (الفتح - 9 / 581 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.(23/29)
طَعَامِهِ وَكَفَاهُ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ فَلْيُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيَأْكُل، فَإِنْ أَبَى فَلْيَأْخُذْ لُقْمَةً فَلْيُرَوِّغْهَا ثُمَّ لِيُعْطِهَا إِيَّاهُ (1) .
قَال النَّوَوِيُّ: التَّرْوِيغُ أَنْ يَرْوِيَهَا دَسَمًا.
قَال: وَلْيَكُنْ مَا يُنَاوِلُهُ لُقْمَةً كَبِيرَةً تَسُدُّ مَسَدًّا، لاَ صَغِيرَةً تُهَيِّجُ الشَّهْوَةَ وَلاَ تَقْضِي النَّهْمَةَ (2) .
ج - الإِْحْسَانُ إِلَى الْعَبْدِ فِي الْمَلْبَسِ:
31 - وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَجْعَل لِبَاسَ عَبْدِهِ مِثْل مَلاَبِسِهِ هُوَ فِي الْجَوْدَةِ، فَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَفِيهِ: وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ.
د - أَنْ يَبِيعَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُلاَءَمَةِ:
32 - إِذَا سَاءَ الأَْمْرُ بَيْنَ الرَّقِيقِ وَسَيِّدِهِ يَنْبَغِي لِلسَّيِّدِ أَنْ يَبِيعَهُ لِئَلاَّ يَسْتَمِرَّ أَذَاهُ. قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لَوْ لَمْ تُلاَئِمْ أَخْلاَقُ الْعَبْدِ أَخْلاَقَ سَيِّدِهِ، لَزِمَهُ إِخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ، لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لاَءَمَكُمْ مِنْ مَمْلُوكِيكُمْ فَأَطْعِمُوهُ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَاكْسُوهُ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَمَنْ لَمْ يُلاَئِمْكُمْ مِنْهُمْ فَبِيعُوهُ، وَلاَ تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللَّهِ (3) .
__________
(1) حديث: " إذا كفى أحدكم خادمه صنعة طعامه ". أخرجه أحمد (2 / 299 - ط الميمنية) من حديث أبي هريرة، وإسناده صحيح.
(2) روضة الطالبين 9 / 116، 117، والمغني 7 / 630، وكشاف القناع 5 / 489.
(3) حديث: " من لاءمكم من مملوكيكم ". أخرجه أبو داود (5 / 361 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح وانظر عون المعبود 14 / 67، وكشاف القناع 5 / 491.(23/30)
وَجَاءَ فِي الْمُغْنِي: إِنْ طَلَبَ الرَّقِيقُ الْبَيْعَ وَالسَّيِّدُ قَدْ وَفَّى بِحُقُوقِهِ لَمْ يُجْبَرِ السَّيِّدُ عَلَيْهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قَال أَبُو دَاوُدَ: قِيل لأَِحْمَدَ: اسْتَبَاعَتِ الْمَمْلُوكَةُ وَهُوَ يَكْسُوهَا مِمَّا يَلْبَسُ وَيُطْعِمُهَا مِمَّا يَأْكُل؟ قَال: لاَ تُبَاعُ وَإِنْ أَكْثَرَتْ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ تَحْتَاجَ إِلَى زَوْجٍ فَتَقُول: زَوِّجْنِي.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: بِهَذَا قَال عَطَاءٌ وَإِسْحَاقُ فِي الْعَبْدِ يُحْسِنُ إِلَيْهِ سَيِّدُهُ وَهُوَ يَسْتَبِيعُ: لاَ يَبِيعُهُ، لأَِنَّ الْمِلْكَ لِلسَّيِّدِ وَالْحَقَّ لَهُ، فَلاَ يُجْبَرُ عَلَى إِزَالَتِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالْعَبْدِ، كَمَا لاَ يُجْبَرُ عَلَى طَلاَقِ امْرَأَتِهِ مَعَ الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ لَهَا، وَلاَ عَلَى بَيْعِ بَهِيمَتِهِ مَعَ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا (1) .
هـ - أَنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ:
33 - لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ نَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُسَمِّيَ رَقِيقَنَا بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ: أَفْلَحَ، وَرَبَاحٍ، وَيَسَارٍ، وَنَافِعٍ. . (2)
وَأَنْ يُحْسِنَ فِي مُخَاطَبَتِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لاَ يُكَلِّفَهُ مُنَادَاتَهُ بِنَحْوِ " رَبِّي " بَل يَقُول: سَيِّدِي " وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَهُ السَّيِّدُ بِلَفْظِ " يَا عَبْدِي " " وَيَا أَمَتِي " بَل يَقُول: يَا فَتَايَ
__________
(1) المغني 7 / 633.
(2) حديث: " نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نسمي رقيقنا بأربعة أسماء " أخرجه مسلم (3 / 1685 - ط الحلبي) من حديث سمرة بن جندب.(23/30)
وَيَا فَتَاتِي " وَنَحْوَ ذَلِكَ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَقُل أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ. وَضِّئْ رَبَّكَ. وَلْيَقُل: سَيِّدِي مَوْلاَيَ. وَلاَ يَقُل أَحَدُكُمْ: عَبْدِي، أَمَتِي، وَلْيَقُل: غُلاَمِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي (1) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَبَوَّبَ لَهُ " بَابَ كَرَاهَةِ التَّطَاوُل عَلَى الرَّقِيقِ "، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَزَادَ فِي آخِرِهِ وَجَارِيَتِي
قَال ابْنُ حَجَرٍ: أَرْشَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَا يُؤَدِّي الْمَعْنَى مَعَ السَّلاَمَةِ مِنَ التَّعَاظُمِ، لأَِنَّ لَفْظَ الْفَتَى وَالْغُلاَمِ لَيْسَ دَالًّا عَلَى مَحْضِ الْمِلْكِ كَدَلاَلَةِ الْعَبْدِ، فَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَال الْفَتَى فِي الْحُرِّ، وَكَذَلِكَ الْغُلاَمُ وَالْجَارِيَةُ (2) .
و أَنْ يُحْسِنَ أَدَبَهُ وَتَعْلِيمَهُ:
34 - رَوَى أَبُو مُوسَى الأَْشْعَرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ فَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ (3)
السُّلْطَانُ وَرِعَايَةُ الرَّقِيقِ:
35 - عَلَى السُّلْطَانِ رِعَايَةُ الرَّقِيقِ، وَمِنْ ذَلِكَ إِذَا
__________
(1) حديث: " لا يقل أحدكم: أطعم ربك ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 117 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1765 - ط الحلبي) وأخرجه مسلم (4 / 1764) بالرواية الأخرى.
(2) فتح الباري 5 / 180.
(3) حديث: " أيما رجل كانت عنده وليدة ". أخرجه البخاري (الفتح9 / 126 - ط السلفية) ومسلم (1 / 135 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.(23/31)
كَانَ السَّيِّدُ يُلْزِمُ رَقِيقَهُ بِخَرَاجٍ لاَ يُطِيقُهُ، مَنَعَهُ السُّلْطَانُ (1) . وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ يُكَلِّفُهُ بِعَمَلٍ لاَ يُطِيقُهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْل عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ كُل سَبْتٍ إِلَى الْعَوَالِي فَإِذَا وَجَدَ عَبْدًا فِي عَمَلٍ لاَ يُطِيقُهُ وَضَعَ عَنْهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ إِذَا عَذَّبَ السَّيِّدُ رَقِيقَهُ، أَوِ ارْتَكَبَ فِي حَقِّهِ مَا لاَ يَحِل لَهُ مِنْ مُثْلَةٍ، أَوْ جَرْحٍ أَوْ قَطْعٍ، أَلْزَمَهُ بِتَحْرِيرِهِ فِيمَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ التَّحْرِيرَ، أَوْ دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنِ التَّحْرِيرُ وَاجِبًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ.
وَلِلسُّلْطَانِ تَعْزِيرُ السَّيِّدِ فِي تِلْكَ الْحَال بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي التَّعْزِيرِ.
وَإِذَا قَذَفَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ كَانَ لِلْعَبْدِ رَفْعُهُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُعَزِّرَهُ، قَال النَّوَوِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيل: لَيْسَ لَهُ طَلَبُ التَّعْزِيرِ مِنْ سَيِّدِهِ (2) .
وَإِذَا كَانَ السَّيِّدُ لاَ يُنْفِقُ عَلَى عَبِيدِهِ، أَوْ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ نَفَقَةً لاَ تَكْفِيهِمْ أَلْزَمَهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ، وَكَذَا إِذَا أَبَى تَزْوِيجَهُمْ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِتَزْوِيجِهِمْ فَأَبَى، يُزَوِّجُهُمُ السُّلْطَانُ (3) .
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 119.
(2) روضة الطالبين 8 / 327.
(3) روضة الطالبين 7 / 102.(23/31)
تَصَرُّفَاتُ الْمَالِكِ فِي رَقِيقِهِ:
36 - الرَّقِيقُ مِنْ جُمْلَةِ مَال السَّيِّدِ فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِمْ كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالإِْجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَالإِْعَارَةِ، وَلَهُ أَنْ يَجْعَل الْعَبْدَ أَوِ الأَْمَةَ ثَمَنًا فِي بَيْعٍ، أَوْ عِوَضًا فِي الإِْجَارَةِ، أَوْ مَهْرًا لِزَوْجَتِهِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ.
إِلاَّ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الرَّقِيقِ لَهُ خُصُوصِيَّاتٌ يَقْتَضِيهَا وَضْعُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مُسْلِمٌ، أَوْ كَافِرٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّاتِ:
أَوَّلاً: الْبَيْعُ (1) :
بَيْعُ الْعَبْدِ بِشَرْطِ الْعِتْقِ:
37 - اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَاعِدَةِ فَسَادِ الشَّرْطِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى عَقْدِ الْبَيْعِ وَلاَ مَصْلَحَتِهِ، فَإِنَّ الْبَائِعَ إِذَا اشْتَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَعْتِقَ الرَّقِيقَ الَّذِي بَاعَهُ إِيَّاهُ، فَالشَّرْطُ الْمَذْكُورُ صَحِيحٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَوْل الْمَشْهُورِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْقَوْل بِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ وَشَرَطَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا عِتْقَهَا وَوَلاَءَهَا، فَأَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْطَ الْوَلاَءِ دُونَ شَرْطِ
__________
(1) يذكر أصحاب كتب القضاء وكتب الشروط ما يراعى عند كتابة عقد بيع الرقيق. انظر مثلاً أدب القضاء لابن أبي الدم الشافعي ص 301 - 304 و484 نشر جامعة دمشق (د. ت) وكتاب جواهر العقود للمنهاجي الأسيوطي.(23/32)
الْعِتْقِ (1) .
ثُمَّ إِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي فَقَدْ وَفَّى بِمَا شُرِطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتِقْهُ فَقِيل: يُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَقِيل: لاَ يُجْبَرُ، وَلَكِنْ يَكُونُ لِلْبَائِعِ الْفَسْخُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ رَهْنًا فَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ فَاسِدًا، عَلَى أَصْلِهِ فِي فَسَادِ الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ، لَكِنْ إِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَمَا اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْعِتْقِ يَصِحُّ الْبَيْعُ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَال صَاحِبَاهُ: يَبْقَى فَاسِدًا حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ فَاسِدًا، فَلاَ يَنْقَلِبُ جَائِزًا.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ يَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَفْسُدُ الشَّرْطُ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَا نُقِل عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى (2) .
بَيْعُ الْعَبِيدِ أَوْ شِرَاؤُهُمْ سَلَمًا، أَوْ فِي الذِّمَّةِ:
38 - يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بَيْعُ الرَّقِيقِ سَلَمًا لإِِمْكَانِ الضَّبْطِ بِالأَْوْصَافِ الْمَشْرُوطَةِ فِي السَّلَمِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ السَّلَمُ فِي الرَّقِيقِ؛ لأَِنَّهُ يَخْتَلِفُ
__________
(1) حديث عائشة: " أنها اشترت بريرة ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 185 - ط السلفية) .
(2) المغني 4 / 226، وروضة الطالبين 3 / 401، وجواهر الإكليل 2 / 25، والهداية مع فتح القدير 5 / 214، 217.(23/32)
اخْتِلاَفًا فَاحِشًا بِالْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ، فَلاَ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ، فَيُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ (1) .
التَّفْرِيقُ فِي الْبَيْعِ بَيْنَ الأَْقَارِبِ:
39 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلسَّيِّدِ فِي الْبَيْعِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، كَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ عَبْدٍ وَأُمِّهِ، أَوِ ابْنِهِ، أَوْ بِنْتِهِ، أَوْ عَمِّهِ، أَوْ عَمَّتِهِ، أَوْ خَالِهِ، أَوْ خَالَتِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ.
وَاحْتَجَّ الْفَرِيقَانِ بِمَا رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَمَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَبِيعَ غُلاَمَيْنِ أَخَوَيْنِ، فَبِعْتُهُمَا فَفَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أَدْرِكْهُمَا فَارْتَجِعْهُمَا، وَلاَ تَبِعْهُمَا إِلاَّ جَمِيعًا، وَفِي رِوَايَةٍ رُدَّهُ رُدَّهُ (2) . وَعَنْ أَبِي مُوسَى مَرْفُوعًا لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا، وَالأَْخِ وَأَخِيهِ (3) .
__________
(1) المغني 4 / 282، وفتح القدير 5 / 327، وشرح المحلي على المنهاج 2 / 252، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 200 - 204، وروضة الطالبين 4 / 19.
(2) حديث: " أدركهما فارتجعهما، ولا تبعهما إلا جميعًا ". أخرجه أحمد (1 / 97 - 98 - ط الميمنية) وأورده الهيثمي في المجمع (4 / 107 - ط القدسي) وقال: " رجاله رجال الصحيح "، والرواية الأخرى أخرجها الترمذي (3 / 572 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " لعن الله من فرق بين الوالدة وولدها، والأخ وأخيه ". أخرجه ابن ماجه (2 / 756 - ط الحلبي) ، ونقل المناوي في الفيض (5 / 275 - ط المكتبة) عن الذهبي أنه قال: " فيه إبراهيم بن إسماعيل ضعفوه ".(23/33)
قَالُوا: وَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا وَالأَْخِ وَأَخِيهِ فَيُقَاسُ عَلَيْهِمَا سَائِرُ الْقَرَابَاتِ ذَاتِ الْمَحْرَمِ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الدَّلاَلَةِ. وَلأَِنَّ الصَّغِيرَ يَسْتَأْنِسُ بِالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالْكَبِيرَ يَتَعَاهَدُهُ، وَفِي التَّفْرِيقِ قَطْعُ الْمَرْحَمَةِ عَلَى الصِّغَارِ، وَلاَ يَدْخُل فِي التَّحْرِيمِ أَوِ الْكَرَاهَةِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الأُْمِّ وَوَلَدِهَا لِحَدِيثِ " مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (1) " وَحَدِيثِ لاَ تُوَلَّهُ وَالِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا (2) .
وَالْمُحَرَّمُ عِنْدَهُمُ التَّفْرِيقُ بِمُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ وَجَعْل أَحَدِهِمَا عِوَضًا فِي الإِْجَارَةِ وَهِبَةِ الثَّوَابِ، وَمَا بِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ كَالْقِسْمَةِ، لاَ فِي غَيْرِ الْمُعَاوَضَةِ كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ الْمَحْضَةِ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْحَقَّ لِلأُْمِّ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِالتَّفْرِيقِ جَازَ. وَسَوَاءٌ أَخْتَلَفَ دِينُ الأُْمِّ وَابْنِهَا، أَمِ اتَّفَقَ.
__________
(1) حديث: " من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه. . " أخرجه الترمذي (3 / 511 - ط الحلبي) من حديث أبي أيوب وحسنه.
(2) حديث: " لا توله والدة عن ولدها ". أخرجه البيهقي (8 / 5 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي بكر، وضعفه ابن حجر في التلخيص (3 / 15 - ط دائرة المعارف العثمانية) .(23/33)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا بِالْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، وَلاَ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ فِي الْعِتْقِ وَالْوَصِيَّةِ. قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَيَلْحَقُ بِالأُْمِّ الأَْبُ وَالْجَدُّ وَالْجَدَّةُ وَإِنْ عَلَوْا وَلَوْ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ، وَلاَ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ بَقِيَّةِ الْمَحَارِمِ.
وَفِي قَوْلٍ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ فِي بَابِ الْجِهَادِ: لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَسَائِرِ الْمَحَارِمِ (1) .
هَذَا وَإِنَّ حُكْمَ التَّفْرِيقِ الْمُتَقَدِّمِ يَسْتَمِرُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، مَا دَامَ كِلاَهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا دُونَ الْبُلُوغِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ كَسَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ، فَإِنْ زَادَ كِلاَهُمَا عَنْ ذَلِكَ جَازَ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ الأَْكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَى أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِامْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا، فَنَفَلَهُ أَبُو بَكْرٍ ابْنَتَهَا، فَاسْتَوْهَبَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَهَبَهَا لَهُ (2) .
وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ أَهْدَى الْمُقَوْقِسُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَارِيَةَ وَأُخْتَهَا سِيرِينَ، فَأَعْطَى سِيرِينَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَتَرَكَ مَارِيَةَ لِنَفْسِهِ (3) .
وَلأَِنَّهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ يَصِيرُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ.
__________
(1) المغني 4 / 266، والهداية وشروحها 5 / 241، 242 - 245، وكفاية الطالب الرباني، والروضة للنووي 4 / 415 و10 / 258.
(2) حديث سلمة بن الأكوع: " أنه أتى أبا بكر بامرأة وابنتها ". أخرجه مسلم (3 / 1376 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " أهدى المقوقس إلى النبي صلى الله عليه وسلم مارية ". ذكره ابن سعد في الطبقات (8 / 214 - ط دار صادر) من حديث الزهري مرسلاً.(23/34)
وَالْعَادَةُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الأَْحْرَارِ، فَالْمَرْأَةُ تُزَوِّجُ ابْنَتَهَا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَسْتَمِرُّ إِلَى أَنْ يُثْغِرَ الصَّغِيرُ، أَيْ تَنْبُتَ أَسْنَانُهُ بَعْدَ سُقُوطِ الرَّوَاضِعِ، فَإِنْ أَثْغَرَ جَازَ التَّفْرِيقُ لاِسْتِغْنَائِهِ عَنْ أُمِّهِ فِي أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَمَنَامِهِ وَقِيَامِهِ (1) .
حُكْمُ الْبَيْعِ الَّذِي حَصَل بِهِ التَّفْرِيقُ:
40 - الْبَيْعُ الَّذِي فُرِّقَ بِهِ بَيْنَ الأُْمِّ وَوَلَدِهَا أَوْ غَيْرِهِ مِنَ التَّفْرِيقِ الْمُحَرَّمِ، عَلَى الْخِلاَفِ السَّابِقِ، إِذَا وَقَعَ يَكُونُ فَاسِدًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ حِينَ فَرَّقَ بَيْنَ أَخَوَيْنِ بِالْبَيْعِ: اذْهَبْ فَارْتَجِعْهُمَا وَإِنَّمَا يَجِبُ الاِرْتِجَاعُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَفْسُدُ، لأَِنَّ النَّهْيَ فِي أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ صُلْبِ الْعَقْدِ وَشَرَائِطِهِ، فَيُكْرَهُ الْعَقْدُ عِنْدَهُمْ وَيَصِحُّ (2) .
رَدُّ الرَّقِيقِ فِي الْبَيْعِ بِالْعَيْبِ:
41 - الْعُيُوبُ هِيَ النَّقَائِصُ الْمُوجِبَةُ لِنَقْصِ الْمَالِيَّةِ فِي عَادَاتِ التُّجَّارِ، وَالْمَرْجِعُ فِي مَا أُشْكِل مِنْهُ
__________
(1) المغني 4 / 266، وفتح القدير 5 / 245، وكفاية الطالب وحاشية العدوي 2 / 147.
(2) فتح القدير 6 / 244، والروضة 10 / 258.(23/34)
عُرْفُ أَهْلِهِ، وَيُرَدُّ الرَّقِيقُ بِعُيُوبٍ مُعَيَّنَةٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً عِنْدَ الْعَقْدِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُطَوَّلاَتِ (1) .
حُكْمُ مَال الرَّقِيقِ إِذَا بِيعَ:
42 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا بِيعَ الرَّقِيقُ وَلَهُ مَالٌ مَلَّكَهُ إِيَّاهُ مَوْلاَهُ أَوْ خَصَّهُ بِهِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَنَّ الْمَال لِلْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلْبَائِعِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ ابْتَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ (2) وَلأَِنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ لِلسَّيِّدِ، فَإِذَا بَاعَ الْعَبْدَ اخْتَصَّ الْبَيْعُ بِهِ دُونَ مَالِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ عَبْدَانِ، فَبَاعَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَتَنَاوَل الْبَيْعُ الْعَبْدَ الثَّانِيَ.
ثُمَّ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي خِلاَفِ الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ: إِلَى أَنَّهُ إِنِ اشْتَرَطَ الْمُشْتَرِي مَال الْعَبْدِ صَحَّ، وَيَكُونُ الْمَال لَهُ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ الذِّكْرِ، وَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ إِلاَّ إِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ شِرَاءَ الْعَبْدِ وَالرَّغْبَةَ فِيهِ، وَأَنَّ الْمَال تَبَعٌ، وَإِنَّمَا قَصَدَ بَقَاءَ الْمَال لِلْعَبْدِ وَإِقْرَارَهُ فِي يَدِهِ،
__________
(1) المغني 4 / 152 - 154، والزرقاني 5 / 127 - 130 وروضة الطالبين 3 / 460 - 462، وفتح القدير 5 / 152 - 157.
(2) حديث: " من ابتاع عبدًا وله مال فماله للذي باعه إلا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 49 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1173 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر.(23/35)
وَحِينَئِذٍ يُغْتَفَرُ فِي الْمَال الْجَهَالَةُ، وَيُغْتَفَرُ كَوْنُهُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَصِحُّ تَبَعًا وَلَوْ كَانَ لاَ يَصِحُّ اسْتِقْلاَلاً، كَالتَّمْوِيهِ بِالذَّهَبِ فِي سَقْفِ بَيْتٍ بِيعَ بِذَهَبٍ. فَإِنْ كَانَ الْمَال هُوَ الْمَقْصُودُ اشْتُرِطَ الْعِلْمُ بِهِ، وَسَائِرُ شُرُوطِ الْبَيْعِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِطَ مَال الْعَبْدِ إِلاَّ أَنْ تَتَحَقَّقَ شُرُوطُ الْبَيْعِ؛ لأَِنَّهُ مَبِيعٌ آخَرُ، فَاشْتُرِطَ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي سَائِرِ الْمَبِيعَاتِ (1) .
وَهَذَا كُلُّهُ يَجْرِي أَيْضًا فِي حُلِيِّ الْجَارِيَةِ الَّتِي تَلْبَسُهَا، وَمَا قَدْ يَكُونُ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى الْعَبْدِ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي تُرَادُ لِلْجَمَال. أَمَّا الثِّيَابُ الْمُعْتَادَةُ مِمَّا كَانَ يَلْبَسُهُ عِنْدَ الْبَائِعِ لِلْبِذْلَةِ وَالْخِدْمَةِ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ: لاَ يَدْخُل فِي الْبَيْعِ شَيْءٌ مِنَ الثِّيَابِ إِلاَّ بِالشَّرْطِ (2) .
رَهْنُ الرَّقِيقِ:
43 - يَجُوزُ لِسَيِّدِ الرَّقِيقِ ارْتِهَانُهُ بِحَقٍّ عَلَيْهِ، ذَكَرًا كَانَ الرَّقِيقُ أَوْ أُنْثَى. وَلَوْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ فَيَجُوزُ رَهْنُهَا دُونَ وَلَدِهَا، أَوْ مَعَهُ؛ لأَِنَّ الرَّهْنَ لاَ يُزِيل الْمِلْكَ، فَإِنْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى بَيْعِهَا فِي الدَّيْنِ بِيعَ وَلَدُهَا
__________
(1) المغني 4 / 172، وروضة الطالبين 3 / 546.
(2) المغني 4 / 174، وروضة الطالبين 3 / 547.(23/35)
مَعَهَا؛ لأَِنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا حَرَامٌ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا بِيعَا تَعَلَّقَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بِمَا يَخُصُّ الأُْمَّ مِنَ الثَّمَنِ (1) .
- وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَرْهُونِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، كَالْبَيْعِ، أَوِ الإِْجَارَةِ، أَوِ الْهِبَةِ، أَوِ الْوَقْفِ، أَوِ الرَّهْنِ. وَإِنْ تَصَرَّفَ يَكُونُ تَصَرُّفُهُ بَاطِلاً. وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ، فَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ عِتْقُ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ؛ لأَِنَّهُ يُبْطِل الْوَثِيقَةَ مِنْهُ، لَكِنْ إِنْ أَعْتَقَهُ نَفَذَ الْعِتْقُ إِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا، وَهُوَ قَوْل عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَخَالَفَ عَطَاءٌ وَالْبَتِّيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ الثَّلاَثَةِ، فَقَالُوا: لاَ يَنْفُذُ الْعِتْقُ وَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ مُوسِرًا.
وَعِنْدَ مَنْ قَال بِنَفَاذِهِ يُؤْخَذُ مِنَ الرَّاهِنِ قِيمَتُهُ فَتَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ.
وَأَمَّا الْمُعْسِرُ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ، ثُمَّ قَال الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: إِنْ أَيْسَر قَبْل حُلُول الْحَقِّ أُخِذَتْ مِنْهُ الْقِيمَةُ فَجُعِلَتْ رَهْنًا، وَإِنْ أَيْسَر بَعْدَ حُلُولِهِ طُولِبَ بِأَصْل الدَّيْنِ.
قَال أَبُو حَنِيفَةَ: يُسْتَسْعَى الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فِي قِيمَتِهِ، فَإِذَا أَدَّاهَا جُعِلَتْ رَهْنًا، وَيَرْجِعُ الْعَتِيقُ عَلَى الرَّاهِنِ.
وَقَال مَالِكٌ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ - قَال النَّوَوِيُّ: هُوَ الأَْظْهَرُ - وَرِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ:
__________
(1) المغني 4 / 341، وروضة الطالبين 4 / 40، 42.(23/36)
لاَ يَنْفُذُ عِتْقُ الْمُعْسِرِ؛ لأَِنَّهُ بِالْعِتْقِ يَسْقُطُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ مِنَ الْوَثِيقَةِ وَمِنْ بَدَلِهَا، فَيَمْتَنِعُ نَفَاذُهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْضْرَارِ بِالْمُرْتَهِنِ (1) . وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنْ أَيْسَر فِي الأَْجَل أَخَذَ مِنَ الرَّاهِنِ الدَّيْنَ وَنَفَذَ الْعِتْقُ، وَإِلاَّ بِيعَ مِنَ الْعَبْدِ مِقْدَارُ مَا يَفِي بِالدَّيْنِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِيعَ كُلُّهُ وَالْبَاقِي لِلرَّاهِنِ.
وَفِي رَهْنِ الرَّقِيقِ تَفْصِيلٌ وَتَفْرِيعٌ يُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهِ (2) .
الإِْيصَاءُ بِالرَّقِيقِ، أَوْ بِمَنَافِعِهِ:
44 - تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِالرَّقِيقِ، وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْوَصِيَّةِ (ر: وَصِيَّة) .
وَيَجُوزُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُوصِيَ بِمَنَافِعِ الرَّقِيقِ، سَوَاءٌ وَصَّى بِذَلِكَ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، أَوْ فِي الزَّمَانِ كُلِّهِ. وَذَلِكَ لأَِنَّهُ يَصِحُّ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، فَيَصِحُّ بِالْوَصِيَّةِ، كَالأَْعْيَانِ.
وَإِذَا أَطْلَقَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى التَّأْبِيدِ. وَإِنْ خَصَّ نَوْعًا مِنَ الْمَنَافِعِ اخْتُصَّ بِهَا وَحْدَهُ، كَالْخِدْمَةِ، أَوِ الْكِتَابَةِ.
وَنُقِل عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى الْقَوْل بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ،
__________
(1) المغني 4 / 361 - 363، وروضة الطالبين 4 / 76، والهداية مع تكملة فتح القدير 8 / 208، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 248.
(2) المغني 4 / 369، وروضة الطالبين 4 / 104، وتكملة فتح القدير على الهداية 8 / 237، والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 257.(23/36)
لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ مَعْدُومَةٌ حِينَ الإِْيصَاءِ، وَالْوَصِيَّةَ بِالْمَنْفَعَةِ تَمْلِيكٌ لِلْمَنَافِعِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَيْسَتْ مُجَرَّدَ تَمْلِيكِ انْتِفَاعٍ. فَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ انْتَقَل الْحَقُّ فِيهَا لِلْوَارِثِ، وَيُعْتَبَرُ خُرُوجُ الْمَنْفَعَةِ مِنَ الثُّلُثِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ لِرَجُلٍ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَلآِخَرَ بِنَفْعِهِ (1) .
وَنَفَقَةُ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ: تَكُونُ عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ، قِيَاسًا عَلَى الْعَبْدِ الَّذِي لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ، وَعَلَى الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ وَلأَِنَّ فِطْرَتَهُ عَلَى مَالِكِهِ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ، قِيَاسًا عَلَى الأَْمَةِ الْمُزَوَّجَةِ، فَإِنَّ نَفَقَتَهَا عَلَى الزَّوْجِ لاَ عَلَى السَّيِّدِ، وَلأَِنَّ النَّفْعَ لَهُ، فَكَانَ الضَّرَرُ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ كَانَ ضِرَارًا وَفِي الْحَدِيثِ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ. (2)
وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كُلُّهُ فِي نَفَقَةِ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، أَمَّا إِنْ كَانَ لِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْوَارِثِ قَوْلاً وَاحِدًا، قَال النَّوَوِيُّ: قِيَاسًا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ.
__________
(1) المغني 6 / 59، 62، وروضة الطالبين 6 / 117، 186 - 188، والزرقاني 8 / 195.
(2) حديث: " الخراج بالضمان ". أخرجه أبو داود (3 / 780 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير لابن حجر (3 / 22 - ط شركة الطباعة الفنية) .(23/37)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ لاَ يُطِيقُ الْخِدْمَةَ لِصِغَرٍ أَوْ مَرَضٍ فَنَفَقَتُهُ عَلَى مَالِكِ الرَّقَبَةِ إِلَى أَنْ يُدْرِكَ الْخِدْمَةَ، فَإِذَا أَدْرَكَهَا كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ (1) .
التَّصَرُّفُ فِي الرَّقِيقِ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ:
45 - اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي بَيْعِ الرَّقِيقِ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ فِي كُلٍّ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ: فَقِيل: لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالْبَيْعِ، فَإِنْ بِيعَ بَقِيَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ فِي الْمَنْفَعَةِ.
فَيُبَاعُ مَسْلُوبُ الْمَنْفَعَةِ إِلَى نِهَايَةِ الْمُدَّةِ الْمُوصَى بِهَا، وَيَقُومُ الْمُشْتَرِي مَقَامَ الْبَائِعِ فِيمَا لَهُ وَعَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ بِيعَ مِنْ مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، لأَِنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ الْبَيْعِ؛ وَلأَِنَّ مُشْتَرِيَهُ يُمْكِنُ أَنْ يَعْتِقَهُ فَيَحْصُل لَهُ أَجْرُهُ وَوَلاَؤُهُ.
وَقِيل: لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ مَالِكِ مَنْفَعَتِهِ؛ لأَِنَّ مَا لاَ نَفْعَ فِيهِ لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ كَالْحَشَرَاتِ، وَقِيل: يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ مَالِكِ مَنْفَعَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ مَالِكَ مَنْفَعَتِهِ يَجْتَمِعُ لَهُ الرَّقَبَةُ وَالْمَنْفَعَةُ، فَيَنْتَفِعُ بِذَلِكَ، بِخِلاَفِ غَيْرِهِ.
46 - وَلِمَالِكِ الرَّقَبَةِ أَنْ يَعْتِقَ الرَّقِيقَ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ، وَتَبْقَى الْمَنْفَعَةُ لِمَنْ أُوصِيَ لَهُ بِهَا، وَلاَ يَرْجِعُ الرَّقِيقُ عَلَى مُعْتِقِهِ بِشَيْءٍ، وَفِي قَوْلٍ
__________
(1) المغني 6 / 59، 62، وروضة الطالبين 6 / 189، والدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين 5 / 444.(23/37)
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَبْطُل الْوَصِيَّةُ. وَفِي رُجُوعِ الْمُوصَى لَهُ عَلَى الْمُعْتِقِ بِقِيمَةِ الْمَنَافِعِ وَجْهَانِ.
قَال النَّوَوِيُّ: لَعَل أَصَحَّهُمَا الرُّجُوعُ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ إِعْتَاقَ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ عَنِ الْكَفَّارَةِ لاَ يُجْزِئُ (1) .
47 - وَأَمَّا التَّصَرُّفُ فِي مَنْفَعَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا، فَلَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ الْعَبْدَ الْمُدَّةَ الَّتِي أُوصِيَ لَهُ بِالنَّفْعِ فِيهَا، وَلَهُ أَنْ يَهَبَهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ بِوَجْهٍ صَحِيحٍ مِلْكًا تَامًّا، فَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا كَمَا لَوْ مَلَكَهَا بِالإِْجَارَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُوصَى لَهُ إِجَارَةُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ عَلَى أَصْل الْحَنَفِيَّةِ، فَإِذَا مَلَكَهَا بِعِوَضٍ كَانَ مُمَلَّكًا أَكْثَرَ مِمَّا مَلَكَهُ، وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ (2) .
وَلِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يُثْبِتَ يَدَهُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُوصَى بِنَفْعِهِ لَهُ، وَلَهُ مَنَافِعُهُ، وَأَكْسَابُهُ الْمُعْتَادَةُ، وَأُجْرَةُ الْحِرْفَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَارِثِ وَلاَ لِلْمُوصَى لَهُ بِنَفْعِهَا الْوَطْءُ؛ لأَِنَّ الْوَارِثَ لاَ يَمْلِكُ نَفْعَهَا مِلْكًا تَامًّا يَحِل لَهُ بِهِ الْوَطْءُ، وَالْمُوصَى لَهُ لَيْسَتْ هِيَ مِنْ مِلْكِ يَمِينِهِ حَتَّى يَجُوزَ لَهُ الْوَطْءُ.
__________
(1) المغني 6 / 61، وروضة الطالبين 6 / 189.
(2) المغني 6 / 60، والدر المختار 5 / 443.(23/38)
وَلَيْسَ لأَِحَدٍ مِنْهُمَا تَزْوِيجُهَا إِلاَّ بِرِضَا الآْخَرِ.
لَكِنْ إِنِ احْتَاجَتْ إِلَى التَّزْوِيجِ وَطَلَبَتْهُ وَجَبَ تَزْوِيجُهَا، وَيَتَوَلَّى تَزْوِيجَهَا مَالِكُ الرَّقَبَةِ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بِنَفْعِ الْعَبْدِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ، وَإِذَا مَاتَ بَعْدَ وَفَاتِهِ يَعُودُ الْعَبْدُ إِلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي بِحُكْمِ مِلْكِهِمْ لِلرَّقَبَةِ.
قَالُوا: لأَِنَّ الْمُوصِيَ أَوْجَبَ الْحَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ لِيَسْتَوْفِيَ الْمَنَافِعَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ، وَلَوِ انْتَقَل إِلَى وَارِثِ الْمُوصَى لَهُ اسْتَحَقَّهَا ابْتِدَاءً مِنْ مِلْكِ الْمُوصِي مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ: بَل تَكُونُ مَنَافِعُهُ لِوَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَدَّدَ الْوَصِيَّةَ بِزَمَنٍ، وَإِنْ كَانَ حَدَّدَهَا بِزَمَنٍ فَيَكُونُ كَالْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ يُورَثُ مَا بَقِيَ مِنْ زَمَانِ الإِْجَارَةِ وَيُؤَاجَرُ فِيهَا (2) .
الرَّقِيقُ وَالتَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ، وَأَحْكَامُ التَّصَرُّفَاتِ:
48 - الأَْصْل فِي الرَّقِيقِ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ كَسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ مَتَى كَانَ بَالِغًا عَاقِلاً، رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً، وَلِذَا فَهُوَ مَجْزِيٌّ عَلَى أَعْمَالِهِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا
__________
(1) المغني 6 / 62، 63، وروضة الطالبين 6 / 187، 190، والدر المختار 5 / 444، والدسوقي 4 / 448.
(2) الدر المختار ورد المحتار 5 / 443، 444، وجواهر الإكليل 2 / 324، والدسوقي 4 / 448.(23/38)
فِي الآْخِرَةِ، وَيُؤَاخَذُ بِهَا فِي الدُّنْيَا.
قَال الشَّيْخُ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ: الرَّقِيقُ يُشْبِهُ الْحُرَّ فِي التَّكَالِيفِ وَكَثِيرٍ مِنَ الأَْحْكَامِ، كَإِيجَابِ الْقِصَاصِ، وَالْفِطْرَةِ، وَالتَّحْلِيفِ، وَالْحُدُودِ، وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِهِ (1) .
وَتَنْبَنِي غَالِبُ أَحْكَامِ أَفْعَال الرَّقِيقِ عَلَى الأُْصُول التَّالِيَةِ:
الأَْصْل الأَْوَّل: أَهْلِيَّةُ الرَّقِيقِ:
48 م - عَرَضَ الأُْصُولِيُّونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لأَِهْلِيَّةِ الرَّقِيقِ، فَبَيَّنُوا أَنَّ الرِّقَّ عَارِضٌ عَلَى الأَْهْلِيَّةِ يُنْقِصُهَا، فَالرَّقِيقُ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ هُوَ عَلَى أَصْل الْحُرِّيَّةِ، فَتَصِحُّ أَقَارِيرُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَلَهُ التَّزَوُّجُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَإِنَّمَا احْتَاجَ فِيهِ لِلإِْذْنِ لأَِنَّهُ يَجِبُ بِهِ الْمَال فِي الذِّمَّةِ، وَهُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ لأَِنَّ التَّصَرُّفَ هُوَ بِصِحَّةِ الْعَقْل وَالذِّمَّةِ. أَمَّا الْعَقْل فَهُوَ لاَ يَخْتَل بِالرِّقِّ، وَلِذَا كَانَتْ رِوَايَةُ الرَّقِيقِ صَحِيحَةً مُلْزِمَةً لِلْعَمَل، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَلاَمُهُ مُعْتَبَرًا لَمْ تُعْتَبَرْ رِوَايَتُهُ، وَأَمَّا الذِّمَّةُ فَإِنَّمَا تَكُونُ بِأَهْلِيَّةِ الإِْيجَابِ عَلَيْهِ وَالاِسْتِحْبَابِ لَهُ، وَلِتَحَقُّقِهِمَا خُوطِبَ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَتَجِبُ لَهُ النَّفَقَةُ عَلَى سَيِّدِهِ، وَإِنَّمَا حُجِرَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ لِمَانِعٍ هُوَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى حَقِّ السَّيِّدِ، وَسَقَطَ عَنْهُ بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ كَالْجُمُعَةِ
__________
(1) عميرة على شرح المنهاج 3 / 30، 31.(23/39)
وَالْعِيدَيْنِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، مُحَافَظَةً عَلَى حَقِّ السَّيِّدِ فِي مَنَافِعِ الْعَبْدِ؛ لأَِنَّ الرِّقَّ يَمْنَعُ كَوْنَ الرَّقِيقِ مَالِكًا لِمَنَافِعِ نَفْسِهِ، كَمَا أَنَّهُ هُوَ بِذَاتِهِ مَمْلُوكٌ لِلسَّيِّدِ. فَإِذْنُ السَّيِّدِ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ رَفْعٌ لِلْمَانِعِ، لاَ إِثْبَاتٌ لِلأَْهْلِيَّةِ،
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الرَّقِيقُ غَيْرُ أَهْلٍ لِلتَّصَرُّفِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ تَثْبُتُ الأَْهْلِيَّةُ (1) .
وَالرِّقُّ يَمْنَعُ الْوِلاَيَاتِ، فَلاَ تَصِحُّ الشَّهَادَةُ مِنْهُ عَلَى أَحَدٍ، وَلاَ قَضَاؤُهُ، وَلاَ تَحْكِيمُهُ، وَلاَ إِمَارَتُهُ، وَالرِّقُّ يُنْقِصُ الذِّمَّةَ، وَمِنْ هُنَا تُضَمُّ رَقَبَتُهُ إِلَى ذِمَّتِهِ، فِي مِثْل غَرَامَاتِ الْجِنَايَاتِ، فَتُبَاعُ رَقَبَتُهُ فِيهَا، إِلاَّ أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى (2) .
الأَْصْل الثَّانِي:
هَل يَمْلِكُ الرَّقِيقُ الْمَال أَمْ لاَ يَمْلِكُ؟
49 - إِذَا لَمْ يُمَلِّكِ السَّيِّدُ عَبْدَهُ الْمَال فَلاَ يَمْلِكُهُ اتِّفَاقًا. وَذَلِكَ لأَِنَّ سَيِّدَهُ يَمْلِكُ عَيْنَهُ وَمَنَافِعَهُ، فَمَا حَصَل بِسَبَبِ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِسَيِّدِهِ لأَِنَّهُ ثَمَرَةُ مِلْكِهِ، كَثَمَرَةِ شَجَرَتِهِ، فَأَمَّا إِنْ مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ مَالاً، فَقَدِ اخْتَلَفَ الأَْئِمَّةُ فِي ذَلِكَ: فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُهُ بِحَالٍ، لأَِنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلاَ يَمْلِكُ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُ مِلْكَيْنِ عَلَى الْحَقِيقَةِ
__________
(1) مسلم الثبوت 1 / 171 - 173 بولاق 1322هـ.
(2) شرح مسلم الثبوت 1 / 128.(23/39)
وَالْكَمَال فِي مَالٍ وَاحِدٍ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى - وَرَجَّحَهَا ابْنُ قُدَامَةَ - إِلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ إِذَا مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ؛ لأَِنَّهُ آدَمِيٌّ حَيٌّ حُجِرَ عَلَيْهِ لِحَقِّ سَيِّدِهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّمَلُّكِ مَلَكَ، لِثُبُوتِ الْمُقْتَضِي وَهُوَ الآْدَمِيَّةُ مَعَ الْحَيَاةِ وَزَوَال الْمَانِعِ، وَقِيَاسًا عَلَى مِلْكِهِ لِلنِّكَاحِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ؛ وَلأَِنَّهُ بِالآْدَمِيَّةِ يَتَمَهَّدُ لِلْمِلْكِ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَال لِبَنِي آدَمَ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ، وَأَحْكَامِ التَّكَالِيفِ، وَالرَّقِيقُ آدَمِيٌّ فَتَمَهَّدَ لِلْمِلْكِ، وَصَلَحَ لَهُ، كَمَا تَمَهَّدَ لِلتَّكْلِيفِ وَالْعِبَادَةِ (1) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ مَلَّكَهُ غَيْرُ سَيِّدِهِ مَالاً لاَ يَمْلِكُ، وَعَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ يَمْلِكُ فَلِلسَّيِّدِ الرُّجُوعُ فِي الْمَال الَّذِي مَلَّكَهُ إِيَّاهُ مَتَى شَاءَ السَّيِّدُ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ التَّصَرُّفُ فِيمَا مَلَّكَهُ إِيَّاهُ سَيِّدُهُ إِلاَّ بِإِذْنِ السَّيِّدِ (2) .
50 - وَإِذَا مَاتَ الرَّقِيقُ الْمُمَلَّكُ ارْتَفَعَ مِلْكُهُ عَنِ الْمَال، وَلاَ يُورَثُ عَنْهُ، بَل يَكُونُ لِسَيِّدِهِ. وَإِذَا أَتْلَفَ إِنْسَانٌ الْمَال الَّذِي مَلَّكَهُ السَّيِّدُ لِرَقِيقِهِ يَنْقَطِعُ مِلْكُ الْعَبْدِ عَنْهُ وَيَكُونُ لِلسَّيِّدِ، وَالْمُطَالَبَةُ لَهُ دُونَ الْعَبْدِ (3) .
__________
(1) المغني 4 / 174 و2 / 623، 625، والحموي على الأشباه 2 / 153، والزرقاني 3 / 196، و8 / 126.
(2) روضة الطالبين 3 / 574 و10 / 26، والزرقاني 8 / 126.
(3) روضة الطالبين 3 / 26.(23/40)
وَتَنْبَنِي عَلَى قَاعِدَةِ الْمِلْكِ هَذِهِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَحْكَامِ الرَّقِيقِ مِنْهَا: أَنَّهُ هَل عَلَيْهِ زَكَاةٌ، وَهَل يُضَحِّي، وَهَل يُكَفِّرُ بِالإِْطْعَامِ، وَهَل يَتَسَرَّى؟ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَأْتِي بَيَانُهُ.
الأَْصْل الثَّالِثُ: الأَْمْوَال الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرَّقِيقِ:
قَسَّمَ السُّيُوطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الأَْمْوَال الْمُتَعَلِّقَةَ بِالرَّقِيقِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:
51 - الأَْوَّل: مَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، فَيُبَاعُ فِيهِ، وَهُوَ أَرْشُ جِنَايَاتِهِ وَبَدَل مَا يُتْلِفُهُ، سَوَاءٌ كَانَ فِعْلُهُ بِإِذْنِ السَّيِّدِ أَمْ لاَ، لِوُجُوبِهِ بِغَيْرِ رِضَا الْمُسْتَحِقِّ، وَهَذَا إِنْ كَانَ فِعْلُهُ مُعْتَبَرًا بِأَنْ كَانَ عَاقِلاً مُمَيِّزًا، فَلَوْ كَانَ صَغِيرًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ أَوْ مَجْنُونًا، فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ ضَمَانٌ عَلَى الأَْصَحِّ.
52 - الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ، فَلاَ يُبَاعُ فِيهِ، وَلاَ يَلْزَمُ السَّيِّدَ أَدَاؤُهُ، بَل يُطَالَبُ بِهِ مَتَى عَتَقَ، وَهُوَ مَا وَجَبَ بِرِضَا الْمُسْتَحِقِّ كَبَدَل الْمَبِيعِ وَالْقَرْضِ إِذَا أَتْلَفَهُمَا. وَلَوْ نَكَحَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ وَوَطِئَ تَعَلَّقَ مَهْرُ الْمِثْل بِذِمَّتِهِ، لِكَوْنِهِ وَجَبَ بِرِضَا الْمُسْتَحِقِّ، وَقِيل بِرَقَبَتِهِ؛ لأَِنَّهُ إِتْلاَفٌ، وَلَوْ أَفْطَرَتِ الْجَارِيَةُ فِي رَمَضَانَ لِحَمْلٍ أَوْ رَضَاعٍ خَوْفًا عَلَى الْوَلَدِ فَالْفِدْيَةُ فِي ذِمَّتِهَا.
53 - الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِ الْعَبْدِ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِرِضَا الْعَبْدِ وَالسَّيِّدِ، وَهُوَ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ، إِذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي النِّكَاحِ فَنَكَحَ، وَهُوَ كَسُوبٌ، أَوْ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، أَوْ ضَمِنَ بِإِذْنِ(23/40)
السَّيِّدِ، أَوْ لَزِمَهُ دَيْنُ تِجَارَةٍ. وَالْمُعْتَبَرُ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الإِْذْنِ لاَ قَبْلَهُ.
وَحَيْثُ لَمْ يُوفِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، يَتَعَلَّقُ الْفَاضِل بِذِمَّتِهِ، وَلاَ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ.
وَفِي وَجْهٍ: أَنَّ الْمَال فِي الضَّمَانِ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّتِهِ وَفِي وَجْهٍ آخَرَ: بِرَقَبَتِهِ.
54 - الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّيِّدِ، وَهُوَ مَا يُتْلِفُهُ الْعَبْدُ الْمَجْنُونُ، وَالصَّغِيرُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ، كَمَا تَقَدَّمَ (1) .
أَحْكَامُ أَفْعَال الرَّقِيقِ:
أَوَّلاً: عِبَادَاتُ الرَّقِيقِ:
الأَْصْل فِي الرَّقِيقِ أَنَّهُ فِي الْعِبَادَاتِ كَالْحُرِّ سَوَاءٌ، وَيَخْتَلِفُ عَنْهُ فِي أُمُورٍ مِنْهَا:
55 - أ - عَوْرَةُ الْمَمْلُوكَةِ فِي الصَّلاَةِ - وَفِي خَارِجِهَا أَيْضًا - أَخَفُّ مِنْ عَوْرَةِ الْحُرَّةِ، فَهِيَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، مِنَ السُّرَّةِ إِلَى الرُّكْبَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ مَرْفُوعًا: إِذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ خَادِمَهُ عَبْدَهُ أَوْ أَجِيرَهُ، فَلاَ يَنْظُرُ إِلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ (2) . وَيَزِيدُ الْحَنَفِيَّةُ: الْبَطْنَ وَالظَّهْرَ، وَفِي كَلاَمِهِمْ مَا يُفِيدُ أَنَّ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي / 196.
(2) حديث: " إذا زوج أحدكم خادمه عبده أو أجيره فلا. . " أخرجه أبو داود (1 / 334 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وإسناده حسن.(23/41)
أَعْلَى صَدْرِهَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، ثُمَّ قَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تُطَالَبُ الأَْمَةُ بِتَغْطِيَةِ رَأْسِهَا فِي الصَّلاَةِ لاَ وُجُوبًا وَلاَ نَدْبًا بَل هُوَ جَائِزٌ. وَظَاهِرُ كَلاَمِهِمْ أَنَّ الأَْمَةَ إِنْ صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ شَيْءٍ مِمَّا عَدَا الْعَوْرَةَ الْمَذْكُورَةَ أَعْلاَهُ لاَ إِعَادَةَ عَلَيْهَا، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهَا لَوْ صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الْفَخِذِ أَعَادَتْ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُسْتَحَبُّ لِلأَْمَةِ أَنْ تَسْتَتِرَ فِي الصَّلاَةِ كَسَتْرِ الْحُرَّةِ احْتِيَاطًا (1) .
ب - الأَْذَانُ، وَالإِْقَامَةُ، وَالإِْمَامَةُ:
56 - يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ وَالْمُقِيمُ عَبْدًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. ثُمَّ قَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ سَيِّدَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ هُبَيْرَةَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ حُرًّا (2) .
57 - وَإِمَامَةُ الْعَبْدِ أَيْضًا جَائِزَةٌ لِلأَْحْرَارِ وَالْعَبِيدِ عَلَى السَّوَاءِ. وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ.
وَقَال مَالِكٌ: لاَ يَكُونُ الْعَبْدُ إِمَامًا فِي مَسَاجِدِ الْقَبَائِل، وَلاَ مَسَاجِدِ الْجَمَاعَةِ، وَلاَ الأَْعْيَادِ، وَلاَ يُصَلِّي بِالْقَوْمِ الْجُمُعَةَ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَؤُمَّ فِي السَّفَرِ إِنْ كَانَ أَقْرَأَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتَّخَذَ إِمَامًا رَاتِبًا، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَؤُمَّ فِي رَمَضَانَ فِي النَّافِلَةِ.
__________
(1) الزرقاني 1 / 175، 177، وروضة الطالبين 1 / 283، وفتح القدير 1 / 183، وكشاف القناع 1 / 266.
(2) كشاف القناع 1 / 235، وروضة الطالبين 1 / 202.(23/41)
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ قَال: تَزَوَّجْتُ وَأَنَا عَبْدٌ، فَدَعَوْتُ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجَابُونِي، فَكَانَ فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ، فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ. . . إِلَى أَنْ قَال: فَقَدَّمُونِي وَأَنَا عَبْدٌ فَصَلَّيْتُ بِهِمْ.
ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ تَنْزِيهًا تَقْدِيمُ الْعَبْدِ لِلإِْمَامَةِ. قَالُوا: وَلَوِ اجْتَمَعَ الْحُرُّ وَالْمُعْتَقُ، فَالْحُرُّ الأَْصْلِيُّ أَوْلَى.
ثُمَّ قَال الْحَنَابِلَةُ: الْحُرُّ أَوْلَى مِنَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ إِمَامَ الْمَسْجِدِ فَالْحَقُّ لَهُ فِي التَّقَدُّمِ، وَكَذَا لَوْ كَانَتِ الصَّلاَةُ بِبَيْتِهِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ بِالإِْمَامَةِ مَا عَدَا سَيِّدَهُ (1) .
ج - صَلاَةُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ:
58 - صَلاَةُ الْجُمُعَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الأَْحْرَارِ اتِّفَاقًا.
وَصَلاَةُ الْجَمَاعَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ إِلاَّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
فَقَدْ قِيل - وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَقِيل: شَرْطٌ (2) .
وَلاَ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْعَبِيدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ طَارِقُ بْنُ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 473، والمغني 2 / 206، 193، والمدونة للإمام مالك 1 / 84، والزرقاني 2 / 25، وفتح القدير 1 / 247، وابن عابدين 1 / 376، وروضة الطالبين 1 / 353.
(2) المغني 2 / 176، وشرح المنهاج 1 / 220، وشرح الأشباه 2 / 152.(23/42)
شِهَابٍ: الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ إِلاَّ أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ (1) ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَلأَِنَّ الْجُمُعَةَ يَجِبُ السَّعْيُ إِلَيْهَا وَلَوْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْعَبْدِ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَلأَِنَّ مَنْفَعَتَهُ مَمْلُوكَةٌ مَحْبُوسَةٌ عَلَى السَّيِّدِ فَأَشْبَهَ الْمَحْبُوسَ فِي الدَّيْنِ، وَلأَِنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَجَازَ لَهُ الْمُضِيُّ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ، وَلَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهِ مَنْعُهُ مِنْهَا كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى إِلَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ، وَلَكِنْ لاَ يَذْهَبُ إِلَيْهَا إِلاَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَإِنْ مَنَعَهُ سَيِّدُهُ تَرَكَهَا.
وَحُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّ الْعَبْدَ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ ضَرِيبَةٌ مَعْلُومَةٌ يُؤَدِّيهَا إِلَى سَيِّدِهِ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ؛ لأَِنَّ حَقَّ سَيِّدِهِ عَلَيْهِ تَحَوَّل إِلَى الْمَال، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ (2) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْعَبْدِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ (3) .
وَاخْتَلَفَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: إِنْ
__________
(1) حديث: " الجمعة حق واجب على كل مسلم ". أخرجه أبو داود (1 / 644 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه النووي على شرط الشيخين، كذا في نصب الراية للزيلعي (2 / 199 - ط المجلس العلمي) .
(2) المغني 2 / 339، وشرح المحلي على المنهاج 1 / 268.
(3) الزرقاني 2 / 61، وروضة الطالبين 2 / 34.(23/42)
أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحُضُورُ. وَقِيل: لاَ؛ لأَِنَّ لَهَا بَدَلاً وَهُوَ الظُّهْرُ، بِخِلاَفِ صَلاَةِ الْعِيدِ، فَتَجِبُ؛ لأَِنَّهَا لاَ بَدَل لَهَا.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَوْ حَضَرَ الْجُمُعَةَ بِدُونِ إِذْنِ السَّيِّدِ أَجْزَأَتْ عَنْهُ (1) .
ثُمَّ قَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِالْعَبْدِ، أَيْ فِي إِتْمَامِ الْعَدَدِ اللاَّزِمِ لاِنْعِقَادِ الْجُمُعَةِ (2) .
د - الرَّقِيقُ وَالزَّكَاةُ:
59 - لاَ زَكَاةَ عَلَى الرَّقِيقِ فِيمَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَال، لأَِنَّهُ غَيْرُ تَامِّ الْمِلْكِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا إِلاَّ مَا وَرَدَ عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي ثَوْرٍ، مِنْ أَنَّ عَلَى الْعَبْدِ زَكَاةَ مَالِهِ (3) .
60 - ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّهُ هَل يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةُ مَال الْعَبْدِ أَمْ لاَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ، وَسُفْيَانُ وَإِسْحَاقُ: إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُزَكِّيَ الْمَال الَّذِي بِيَدِ عَبْدِهِ.
قَالُوا: لأَِنَّ الْعَبْدَ لاَ يَمْلِكُ وَلَوْ مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ.
__________
(1) الحموي على الأشباه 2 / 152، وروضة الطالبين 11 / 25.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 193، وكشاف القناع 1 / 489، وابن عابدين 1 / 384، والقليوبي 1 / 238.
(3) المغني 2 / 621، وفتح القدير 1 / 481.(23/43)
فَمَا بِيَدِهِ مِنَ الْمَال مَمْلُوكٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْكَمَال لِلسَّيِّدِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاتُهُ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي مَال الرَّقِيقِ وَلاَ عَلَى سَيِّدِهِ. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الرَّقِيقَ آدَمِيٌّ يَمْلِكُ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَلاَ تَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاةُ مَالِهِ؛ لأَِنَّ الْمَال لِلْعَبْدِ وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ، وَلاَ تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ؛ لأَِنَّ مِلْكَهُ لِمَالِهِ نَاقِصٌ، إِذْ يَسْتَطِيعُ السَّيِّدُ انْتِزَاعَ مَال رَقِيقِهِ مَتَى شَاءَ، وَالزَّكَاةُ لاَ تَجِبُ إِلاَّ فِيمَا هُوَ مَمْلُوكٌ مِلْكًا تَامًّا؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ تَمَامَ التَّصَرُّفِ فِي ذَلِكَ الْمَال (1) .
هـ - زَكَاةُ الْفِطْرِ فِي الرَّقِيقِ:
61 - تَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ إِجْمَاعًا فِي الرَّقِيقِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى كُل حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، ذَكَرٍ وَأُنْثَى، مِنَ الْمُسْلِمِينَ (2) .
وَالْمُطَالَبُ بِالزَّكَاةِ هُوَ السَّيِّدُ، وَلَيْسَ الرَّقِيقُ
__________
(1) المغني 2 / 625، وكشاف القناع 2 / 168، وفتح القدير 1 / 486، والزرقاني 2 / 144، وشرح المنهاج للمحلي 2 / 38.
(2) حديث: " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 367 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 677 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.(23/43)
نَفْسُهُ. فَلَيْسَ عَلَى الرَّقِيقِ فِطْرَةُ نَفْسِهِ. وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ، بِأَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ عَنْ نَفْسِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لأَِنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَال سَيِّدِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ (1) .
و تَطَوُّعَاتُ الرَّقِيقِ:
62 - لَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُ رَقِيقِهِ مِنْ صَلاَةِ النَّفْل وَالرَّوَاتِبِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْخِدْمَةِ، وَلاَ مِنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ، أَوِ الذِّكْرِ، أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، إِذْ لاَ ضَرَرَ عَلَى السَّيِّدِ فِي ذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يُضْعِفَهُمْ ذَلِكَ عَنِ الْعَمَل وَالْخِدْمَةِ.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ هَذَا السُّرِّيَّةَ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا سَيِّدُهَا (2) .
ز - صَوْمُ الرَّقِيقِ:
63 - يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ صَوْمُ رَمَضَانَ، كَالأَْحْرَارِ، اتِّفَاقًا، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ؛ لأَِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ كَذَلِكَ (3) .
وَأَمَّا الصَّوْمُ الَّذِي وَجَبَ بِالنَّذْرِ فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَصُومُ الْعَبْدُ غَيْرَ فَرْضٍ إِلاَّ بِإِذْنِ
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 299، وكشاف القناع 1 / 251، وشرح الأشباه 2 / 153.
(2) روضة الطالبين 8 / 301 و11 / 25، والزرقاني 2 / 219، وكشاف القناع 1 / 424.
(3) روضة الطالبين 8 / 300، والزرقاني 2 / 219.(23/44)
السَّيِّدِ، وَلاَ فَرْضًا وَجَبَ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ (1) .
64 - وَأَمَّا صَوْمُ التَّطَوُّعِ، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ لاَ يَضُرُّ بِالسَّيِّدِ فَلَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ، " وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهِ فَلَهُ الْمَنْعُ. وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ السُّرِّيَّةَ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا سَيِّدُهَا، فَلاَ تَصُومُ تَطَوُّعًا إِلاَّ بِإِذْنِهِ، قِيَاسًا عَلَى الزَّوْجَةِ (2) .
ح - اعْتِكَافُ الرَّقِيقِ:
65 - يَصِحُّ اعْتِكَافُ الرَّقِيقِ، وَلاَ يَجُوزُ اعْتِكَافُهُ إِلاَّ بِإِذْنِ السَّيِّدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لأَِنَّ مَنَافِعَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلسَّيِّدِ، وَالاِعْتِكَافُ يُفَوِّتُهَا وَيَمْنَعُ اسْتِيفَاءَهَا، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ بِالشَّرْعِ، فَإِنِ اعْتَكَفَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ لِلسَّيِّدِ إِخْرَاجَهُ مِنِ اعْتِكَافِهِ. وَإِنْ أَذِنَ لَهُ ثُمَّ أَرَادَ إِخْرَاجَهُ، فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَلَهُ إِخْرَاجُهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ النَّذْرِ عَلَى مَا يَأْتِي (3) .
ط - حَجُّ الرَّقِيقِ:
66 - لاَ يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الرَّقِيقِ.
فَإِنْ حَجَّ فِي رِقِّهِ فَحَجَّتُهُ تَطَوُّعٌ. فَإِنْ عَتَقَ
__________
(1) شرح الأشباه 2 / 153.
(2) روضة الطالبين 8 / 300، والزرقاني 2 / 219، والمغني 8 / 755.
(3) روضة الطالبين 2 / 396، وكشاف القناع 2 / 349، وشرح الأشباه للحموي 2 / 153.(23/44)
فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ إِجْمَاعًا، إِذَا تَمَّتْ شَرَائِطُ الْوُجُوبِ، لِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَسْمِعُونِي مَا تَقُولُونَ، وَلاَ تَخْرُجُوا تَقُولُونَ: قَال ابْنُ عَبَّاسٍ، " أَيُّمَا غُلاَمٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ فَمَاتَ فَقَدْ قَضَى حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ أَدْرَكَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ فَمَاتَ، فَقَدْ قَضَى حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ أَعْتَقَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ (1) .
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَجِّ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ لاَ يَتَأَتَّى إِلاَّ بِالْمَال غَالِبًا، بِخِلاَفِهِمَا، وَلاَ مِلْكَ لِلْعَبْدِ، فَلَمْ يَكُنْ أَهْلاً لِلْوُجُوبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى يَفُوتُ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَحَقَّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ بِإِذْنِ الشَّرْعِ لاِفْتِقَارِ الْعَبْدِ وَغِنَى اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لاَ يُحْرِجُ الْمَوْلَى فِي اسْتِثْنَاءِ مُدَّتِهِمَا (2) .
وَلاَ يُحْرِمُ الْعَبْدُ بِالْحَجِّ إِلاَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَإِنْ فَعَل انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ صَحِيحًا، لَكِنْ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ تَحْلِيلُهُ مِنْ إِحْرَامِهِ؛ لأَِنَّ فِي بَقَائِهِ عَلَى الإِْحْرَامِ
__________
(1) قول ابن عباس: " أيما غلام حج به أهله. . . " أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (2 / 257 - ط مطبعة الأنوار المحمدية) ، وصحح ابن حجر إسناده في الفتح (4 / 71 - ط السلفية) وقوله: " ولا تخرجوا تقولون: " قال ابن عباس: " يشعر أنه مرفوع "
(2) فتح القدير 2 / 124، والزرقاني 2 / 232.(23/45)
تَفْوِيتًا لِحَقِّهِ مِنْ مَنَافِعِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. فَإِنْ حَلَّلَهُ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُحْصَرِ.
أَمَّا إِنْ أَحْرَمَ بِإِذْنِهِ فَلَيْسَ لَهُ تَحْلِيلُهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ ذَلِكَ.
فَإِنْ عَتَقَ الْعَبْدُ وَكَانَ بِعَرَفَةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ، ثُمَّ أَحْرَمَ وَحَجَّ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا.
وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ثُمَّ عَتَقَ بِعَرَفَةَ أَوْ قَبْلَهَا وَأَتَمَّ مَنَاسِكَهُ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ؛ لِكَوْنِهِ أَتَى بِأَرْكَانِ الْحَجِّ كُلِّهَا.
وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ السَّعْيِ إِنْ كَانَ قَدْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لاَ يُجْزِئُهُمَا عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ (1) . وَحُكْمُهُ فِي حَال إِتْيَانِهِ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ كَحُكْمِهِ فِي الْكَفَّارَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَفْدِي بِالصَّوْمِ لاَ غَيْرُ، وَيَصُومُ عَنِ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ، وَفِي دَمِ الإِْحْصَارِ خِلاَفٌ (2) .
ثَانِيًا: الرَّقِيقُ وَأَحْكَامُ الأُْسْرَةِ:
الرَّقِيقُ وَالاِسْتِمْتَاعُ:
67 - الاِسْتِمْتَاعُ بِالْجَوَارِي لاَ يَكُونُ مَشْرُوعًا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِ يَمِينٍ أَوْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ،
__________
(1) المغني 3 / 248، 250، وروضة الطالبين 3 / 123، والزرقاني 2 / 231.
(2) المغني 3 / 251، وروضة الطالبين 3 / 176، 177.(23/45)
وَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُحَرَّمٌ يَأْثَمُ فَاعِلُهُ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (1) .
الاِسْتِمْتَاعُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ:
68 - لَيْسَ لِلْمَالِكِ الذَّكَرِ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَمْلُوكِهِ الذَّكَرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ دَاخِلاً فِيمَا أَبَاحَتْهُ الآْيَةُ السَّابِقَةُ، بَل هُوَ لِوَاطَةٌ مُحَرَّمَةٌ تَدْخُل فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عَمَل قَوْمِ لُوطٍ الَّذِي عُذِّبُوا بِهِ عَلَى مَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ.
وَكَذَا إِنْ كَانَ الْمَالِكُ امْرَأَةً وَالْمُسْتَمْتَعُ بِهِ الْمَمْلُوكَةَ الأُْنْثَى لاَ يَدْخُل فِيمَا أَبَاحَتْهُ الآْيَةُ السَّابِقَةُ، بَل هُوَ مِنَ السِّحَاقِ الْمُحَرَّمِ.
وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْمَالِكُ امْرَأَةً وَالْمَمْلُوكُ ذَكَرًا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَسْتَمْتِعَ بِهِ، أَوْ أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ الاِسْتِمْتَاعِ بِهَا، وَلاَ لَهُ أَنْ يَفْعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَل هُوَ عَلَيْهَا حَرَامٌ، وَهِيَ عَلَيْهِ حَرَامٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ خَلِيَّةً، أَوْ ذَاتَ زَوْجٍ. قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَعَلَى هَذَا إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ. ا. هـ.
وَكَمَا لَوْ أَرَادَتْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَإِنَّهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ حُرْمَةً مُؤَقَّتَةً، أَيْ مَا دَامَ رَقِيقًا لَهَا، فَإِنْ أَعْتَقَتْهُ أَوْ بَاعَتْهُ جَازَ لَهَا النِّكَاحُ بِشُرُوطِهِ. وَقَدْ نَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الْمَرْأَةِ عَبْدَهَا بَاطِلٌ.
__________
(1) سورة المؤمنون / 5 - 7.(23/46)
وَسَوَاءٌ فِي هَذِهِ الأَْنْوَاعِ الثَّلاَثَةِ السَّابِقَةِ الْوَطْءُ وَمُقَدِّمَاتُهُ مِنَ التَّقْبِيل، وَالْمُبَاشَرَةِ، وَاللَّمْسِ، وَالنَّظَرِ بِشَهْوَةٍ، كُلُّهَا مُحَرَّمَةٌ بِحَسَبِهَا.
وَوَجْهُ خُرُوجِ هَذِهِ الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ (اسْتِمْتَاعُ الْمَالِكَةِ بِمَمْلُوكِهَا) مِنْ دَلاَلَةِ الآْيَةِ، أَنَّ الآْيَةَ خَاطَبَتِ الأَْزْوَاجَ مِنَ الرِّجَال. قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: مِنْ غَرِيبِ الْقُرْآنِ، أَنَّ هَذِهِ الآْيَاتِ الْعَشْرِ مِنْ أَوَّل سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ عَامَّةٌ فِي الرِّجَال وَالنِّسَاءِ، إِلاَّ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (1) فَإِنَّمَا خَاطَبَ بِهَا الرِّجَال خَاصَّةً دُونَ الزَّوْجَاتِ، بِدَلِيل قَوْلِهِ {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (2) وَإِنَّمَا عُرِفَ حِفْظُ الْمَرْأَةِ فَرْجَهَا مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى، كَآيَاتِ الإِْحْصَانِ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْدِلَّةِ ". (3) وَنَقَل ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ امْرَأَةً اتَّخَذَتْ مَمْلُوكَهَا، وَقَالَتْ: تَأَوَّلْتُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قَال: فَأُتِيَ بِهَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَضَرَبَ الْعَبْدَ، وَجَزَّ رَأْسَهُ (4) وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى عُمَرَ بِالْجَابِيَةِ وَقَدْ نَكَحَتْ عَبْدَهَا، فَانْتَهَرَهَا عُمَرُ، وَهَمَّ أَنْ يَرْجُمَهَا، وَقَال: لاَ يَحِل لَكِ (5) .
__________
(1) سورة المؤمنون / 5.
(2) سورة المؤمنون / 6.
(3) القرطبي 12 / 105.
(4) تفسير ابن كثير 3 / 239.
(5) المغني 6 / 610.(23/46)
فَالْوَطْءُ الْجَائِزُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، هُوَ وَطْءُ الْمَالِكِ الذَّكَرِ لِمَمْلُوكَتِهِ الأُْنْثَى خَاصَّةً، وَفِي هَذَا وَرَدَتِ الآْيَةُ السَّابِقَةُ.
وَطْءُ الرَّجُل الْحُرِّ لِمَمْلُوكَتِهِ:
69 - يَحِل لِلرَّجُل الْحُرِّ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِجَارِيَتِهِ بِالْوَطْءِ، أَوْ بِمُقَدِّمَاتِهِ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لَهُ مِلْكًا كَامِلاً، وَهِيَ الَّتِي لَيْسَ لَهُ فِيهَا شَرِيكٌ، وَلاَ لأَِحَدٍ فِيهَا شَرْطٌ أَوْ خِيَارٌ، وَبِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهَا مَانِعٌ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ، كَأَنْ تَكُونَ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَوْ بِنْتَ زَوْجَتِهِ، أَوْ مَوْطُوءَةَ فَرْعِهِ، أَوْ أَصْلِهِ. أَوْ تَكُونَ مُزَوَّجَةً، أَوْ مُشْرِكَةً (1) . وَالْجَارِيَةُ الَّتِي يَتَّخِذُهَا سَيِّدُهَا لِلْوَطْءِ تُسَمَّى سَرِيَّةً، وَاِتِّخَاذُهَا لِذَلِكَ يُسَمَّى التَّسَرِّيَ. وَتُنْظَرُ الأَْحْكَامُ التَّفْصِيلِيَّةُ لِذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَسَرٍّ) .
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ الأَْحْكَامِ الَّتِي أُغْفِل ذِكْرُهَا هُنَاكَ، أَوْ ذُكِرَتْ بِإِيجَازٍ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ تَعَلُّقَهَا بِمُصْطَلَحِ (رِقّ) أَظْهَرُ.
طَلاَقُ السُّرِّيَّةِ وَالظِّهَارُ مِنْهَا، وَتَحْرِيمُهَا، وَالإِْيلاَءُ مِنْهَا:
70 - الطَّلاَقُ لاَ يَلْحَقُ السُّرِّيَّةَ وَلاَ أَثَرَ لَهُ اتِّفَاقًا.
وَأَمَّا الظِّهَارُ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ
__________
(1) الزرقاني 3 / 226، 5 / 130، وروضة الطالبين 5 / 130 و8 / 270، وكشاف القناع 5 / 205.(23/47)
(الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لَوْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا، فَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِمَّا قَالَهُ، فَإِنَّهُ كَذِبٌ وَزُورٌ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ. . .} (1) فَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الزَّوْجَاتِ، وَالأَْمَةُ وَإِنْ صَحَّ إِطْلاَقُ لَفْظِ " نِسَائِنَا " عَلَيْهَا لُغَةً لَكِنَّ صِحَّةَ الإِْطْلاَقِ لاَ تَسْتَلْزِمُ الْحَقِيقَةَ، بَل يُقَال: هَؤُلاَءِ " جَوَارِيهِ لاَ نِسَاؤُهُ ". وَلأَِنَّ الْحِل فِي الأَْمَةِ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنَ الْعَقْدِ بَل يَصِحُّ الْعَقْدُ، وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ مَعَ عَدَمِ حِل الْوَطْءِ، كَمَا فِي شِرَاءِ الأَْمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ. وَنُقِل هَذَا الْقَوْل أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْمَةَ يَلْحَقُهَا ظِهَارُ سَيِّدِهَا، فَلَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا لَمْ يَحِل لَهُ أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةً تَامَّةً، لأَِنَّهَا مُحَلَّلَةٌ لَهُ حِلًّا أَصْلِيًّا فَيَصِحُّ الظِّهَارُ مِنْهَا كَالزَّوْجَةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ وَالأَْوْزَاعِيِّ إِنْ كَانَ يَطَؤُهَا فَهُوَ ظِهَارٌ وَإِلاَّ فَلاَ.
وَقَال عَطَاءٌ: عَلَيْهِ نِصْفُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِنَ الْحُرَّةِ؛ لأَِنَّ الأَْمَةَ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرَّةِ فِي الأَْحْكَامِ.
__________
(1) سورة المجادلة / 2.(23/47)
وَلَوْ آلَى مِنْ أَمَتِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ إِيلاَءً، فَلاَ يُطَالَبُ بِالْفَيْئَةِ، أَوِ التَّطْلِيقِ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إِنْ حَنِثَ.
وَكَذَا إِنْ حَرَّمَ أَمَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: " هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ " فَلَيْسَ فِيهِ إِلاَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، لأَِنَّهُ كَتَحْرِيمِ الطَّعَامِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَمَتَهُ فَنَزَل (1) . قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَل اللَّهُ لَكَ. . .} إِلَى قَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (2) .
اسْتِبْرَاءُ الأَْمَةِ إِذَا دَخَلَتْ فِي الْمِلْكِ:
71 - مَنِ اشْتَرَى أَمَةً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا إِنْ كَانَتْ حَامِلاً حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا إِجْمَاعًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا حَمْلٌ بَيِّنٌ، فَلاَ يَطَؤُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا، بِأَنْ تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً؛ لِيَتَيَقَّنَ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا مِنْ حَمْل غَيْرِهِ، وَكَذَا مَنْ دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ بِأَيِّ سَبَبٍ، كَهِبَةٍ، أَوْ مِيرَاثٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ: لاَ تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً (3) وَقَال: {
__________
(1) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم " حرم أمته ". أخرجه الحاكم (2 / 493 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أنس، وصححه ووافقه الذهبي.
(2) سورة التحريم / 1، 2.
(3) حديث: " لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى. . " أخرجه أبو داود (2 / 614 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي سعيد الخدري، وحسن إسناده ابن حجر في التلخيص (1 / 172 - ط شركة الطباعة الفنية) .(23/48)
لاَ يَحِل لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ (1) . وَالتَّسَرِّي فِي هَذَا يَخْتَلِفُ عَنِ النِّكَاحِ، فَمَنْ نَكَحَ حُرَّةً حَل لَهُ وَطْؤُهَا دُونَ اسْتِبْرَاءٍ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا إِلَى أَنَّ الرَّجُل إِذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ أَمَةً كَانَ يَطَؤُهَا، أَوْ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا، فَلاَ بُدَّ مِنِ اسْتِبْرَائِهَا قَبْل ذَلِكَ. وَالْعِلَّةُ فِي الاِسْتِبْرَاءِ، أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ حَامِلاً مِنْ سَيِّدِهَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ إِذَا وَلَدَتْ، فَلاَ يَحِل لَهُ بَيْعُهَا، وَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَلاَ تَحِل لِلْمُشْتَرِي؛ وَلِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى اشْتِبَاهِ الأَْنْسَابِ. وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ هُوَ فِي الْوَطْءِ. أَمَّا دَوَاعِيهِ وَمُقَدِّمَاتُهُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا (2) . وَتَفْصِيل الْقَوْل فِي الاِسْتِبْرَاءِ وَأَحْوَالِهِ يُنْظَرُ تَحْتَ عُنْوَانِ (اسْتِبْرَاء) .
آثَارُ وَطْءِ الأَْمَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ:
72 - الآْثَارُ اللاَّحِقَةُ بِالْوَطْءِ مِنْ وُجُوبِ الْغُسْل وَإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ بِالصِّهْرِ، لاَحِقَةٌ بِالْوَطْءِ بِمِلْكِ
__________
(1) حديث: " لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي. . " أخرجه أبو داود (2 / 615 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث رويفع بن ثابت، وإسناده حسن.
( x662 ;) المغني 7 / 506، 510، 511، والزرقاني 4 / 230، وفتح الباري 4 / 423، وروضة الطالبين 8 / 431، والقليوبي 4 / 61، وابن عابدين 5 / 40، والعناية وتكملة فتح القدير 8 / 115.(23/48)
الْيَمِينِ، وَيَفْتَرِقُ عَنِ الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
أَنَّ وَطْءَ الْحُرِّ الْحُرَّةَ فِي النِّكَاحِ يُحْصِنُ الرَّجُل وَالْمَرْأَةَ، بِحَيْثُ لَوْ زَنَى أَحَدُهُمَا يَكُونُ حَدُّهُ الرَّجْمَ. أَمَّا مَنْ وَطِئَ فِي مِلْكِ يَمِينٍ ثُمَّ زَنَى فَحَدُّهُ الْجَلْدُ لاَ غَيْرُ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا (1) .
نِكَاحُ الرَّقِيقِ:
73 - يَجُوزُ لِلرَّقِيقِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِ السَّيِّدِ إِجْمَاعًا؛ لأَِنَّ رَقِيقَهُ مَالُهُ. وَقَدْ حَثَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى السَّادَةَ عَلَى تَزْوِيجِ الْمَمَالِيكِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّيَانَةِ وَالإِْعْفَافِ، فَقَال تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَْيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاَللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (2) . قَال الْقُرْطُبِيُّ: الصَّلاَحُ هُنَا الإِْيمَانُ. وَالأَْمْرُ فِي الآْيَةِ لِلتَّرْغِيبِ وَالاِسْتِحْبَابِ (3) .
وَلِلسَّيِّدِ أَنْ يُجْبِرَ الأَْمَةَ عَلَى التَّزْوِيجِ بِمَنْ شَاءَ السَّيِّدُ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مَعِيبًا بِعَيْبٍ يُرَدُّ بِهِ فِي النِّكَاحِ فَلاَ يَجْبُرُهَا عَلَيْهِ، وَأَمَّا
__________
(1) المغني 8 / 162.
(2) سورة النور / 32.
(3) تفسير القرطبي 12 / 240، 241، والمغني 6 / 504، 506، وشرح الأشباه 2 / 154.(23/49)
إِجْبَارُهُ الْعَبْدَ عَلَى النِّكَاحِ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا؛ لأَِنَّ مَصْلَحَتَهُ مَوْكُولَةٌ إِلَى السَّيِّدِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجْبُرُهُ؛ لأَِنَّ تَكْلِيفَهُ كَامِلٌ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْفَعَةُ بُضْعِهِ (1) . وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ وَلاَ لِلأَْمَةِ التَّزَوُّجُ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ (2) . وَنِكَاحُ الرَّقِيقِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَنْحَاءٍ كُلُّهَا جَائِزَةٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.
الأَْوَّل: أَنْ يَنْكِحَ الْحُرُّ أَمَةً.
الثَّانِي: أَنْ يَنْكِحَ الْعَبْدُ أَمَةً.
الثَّالِثُ: أَنْ يَنْكِحَ الْعَبْدُ حُرَّةً.
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: نِكَاحُ الْحُرِّ لِلأَْمَةِ:
74 - ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى زَوَاجَ الأَْحْرَارِ بِالإِْمَاءِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ. . .} إِلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ
__________
(1) تفسير القرطبي 12 / 241، و5 / 141، وفتح القدير 2 / 482، 491، وروضة الطالبين 7 / 102، 103.
(2) فتح القدير 2 / 487، و7 / 338، والمغني 6 / 504.(23/49)
وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) . وَقَدْ أَخَذَ الأَْئِمَّةُ أَكْثَرَ أَحْكَامِ هَذَا النِّكَاحِ مِنْ هَذِهِ الآْيَةِ.
فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الأَْصْل تَحْرِيمُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الزَّوَاجِ وَأَنَّهُ لاَ يَحِل، وَالْعَقْدُ فَاسِدٌ مَا لَمْ تَجْتَمِعْ شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ تُفِيدُهَا الآْيَةُ. وَأَنَّ الْجَوَازَ إِذَا اجْتَمَعَتِ الشُّرُوطُ هُوَ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ.
وَقَالُوا فِي حِكْمَةِ هَذَا التَّحْرِيمِ: إِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الزَّوَاجِ يُؤَدِّي إِلَى رِقِّ الْوَلَدِ؛ لأَِنَّ الْوَلَدَ تَبَعٌ لأُِمِّهِ حُرِّيَّةً وَرِقًّا، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْغَضَاضَةِ عَلَى الْحُرِّ بِكَوْنِ زَوْجَتِهِ أَمَةً تُمْتَهَنُ فِي حَوَائِجِ سَيِّدِهَا وَحَوَائِجِ أَهْلِهِ. وَلِذَا قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّمَا حُرٍّ تَزَوَّجَ أَمَةً فَقَدْ أَرَقَّ نِصْفَهُ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي:
1 - أَنَّ الآْيَةَ جَعَلَتْ إِبَاحَةَ هَذَا النِّكَاحِ لِمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ طَوْل حُرَّةٍ، وَلِمَنْ خَافَ الْعَنَتَ، فَدَلَّتْ بِمَفْهُومِهَا عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ هَذَانِ الشَّرْطَانِ فِيهِ، فَلاَ يَكُونُ مُبَاحًا لَهُ.
2 - قَوْله تَعَالَى فِي آيَةٍ لاَحِقَةٍ مُشِيرًا إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ النِّكَاحِ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِْنْسَانُ ضَعِيفًا} (3) فَدَل عَلَى أَنَّهُ رُخْصَةٌ، وَالأَْصْل التَّحْرِيمُ.
__________
(1) سورة النساء / 25.
(2) تفسير القرطبي 5 / 136، 147، وفتح القدير 2 / 376.
(3) سورة النساء / 28.(23/50)
فَأَمَّا إِنْ وُجِدَتِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فَإِنَّ نِكَاحَ الأَْمَةِ جَائِزٌ إِجْمَاعًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الآْيَةِ (1) .
شُرُوطُ إِبَاحَةِ نِكَاحِ الْحُرِّ لِلأَْمَةِ:
يُشْتَرَطُ لإِِبَاحَةِ نِكَاحِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ لِلأَْمَةِ مَا يَلِي:
الشَّرْطُ الأَْوَّل:
75 - أَنْ لاَ يَكُونَ عِنْدَهُ زَوْجَةٌ حُرَّةٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ بِهَا. فَإِنْ وُجِدَتْ لَمْ يَجُزْ لَهُ نِكَاحُ الأَْمَةِ؛ لأَِنَّ الْحُرَّةَ طَوْلٌ، وَفِي الْحَدِيثِ تُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَى الأَْمَةِ، وَلاَ تُنْكَحُ الأَْمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ. (2) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا (3) " لَكِنْ قَدْ نُقِل فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ عَنْ مَالِكٍ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: اخْتَلَفَ قَوْل مَالِكٍ فِي الْحُرَّةِ أَهِيَ طَوْلٌ أَمْ لاَ، فَقَال فِي الْمُدَوَّنَةِ: لَيْسَتِ الْحُرَّةُ بِطَوْلٍ تَمْنَعُ نِكَاحَ الأَْمَةِ إِذَا لَمْ يَجِدْ سَعَةً لأُِخْرَى وَخَافَ الْعَنَتَ، وَقَال فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحُرَّةَ بِمَثَابَةِ الطَّوْل. قَال الْقُرْطُبِيُّ: فَيَقْتَضِي هَذَا أَنَّ مَنْ
__________
(1) المغني 6 / 597.
(2) حديث: " لا تنكح الأمة على الحرة، وتنكح الحرة على الأمة ". أخرجه البيهقي (7 / 175 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث جابر بن عبد الله موقوفًا عليه، وقال: " هذا إسناد صحيح ". وكذا صححه ابن حجر في التلخيص (3 / 171 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) المغني 6 / 597، وفتح القدير 2 / 376، 377، وروضة الطالبين 7 / 129.(23/50)
عِنْدَهُ حُرَّةٌ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الأَْمَةِ وَإِنْ عَدِمَ السَّعَةَ وَخَافَ الْعَنَتَ (1) .
وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَمَةٌ يَتَسَرَّاهَا لاَ يَحِل لَهُ نِكَاحُ الأَْمَةِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى شِرَاءِ أَمَةٍ تَصْلُحُ لِلْوَطْءِ (2) . وَيُعْتَبَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فِي الْحُرَّةِ الَّتِي يَمْنَعُ وُجُودُهَا تَحْتَهُ صِحَّةَ نِكَاحِهِ لِلأَْمَةِ، أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ يَحْصُل بِهَا الإِْعْفَافُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تَمْنَعْ نِكَاحَ الأَْمَةِ، كَأَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً، أَوْ هَرِمَةً، أَوْ غَائِبَةً، أَوْ مَرِيضَةً لاَ يُمْكِنُ وَطْؤُهَا. لأَِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ حُرَّةٍ تُعِفُّهُ فَأَشْبَهَ مَنْ لاَ يَجِدُ شَيْئًا. وَفِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ: أَوْ كَانَتْ مَجْنُونَةً، أَوْ مَجْذُومَةً، أَوْ بَرْصَاءَ، أَوْ رَتْقَاءَ، أَوْ مُضْنَاةً لاَ تَحْتَمِل الْجِمَاعَ (3) .
الشَّرْطُ الثَّانِي:
76 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ حِل نِكَاحِ الأَْمَةِ أَنْ يَخَافَ أَنْ يَقَعَ فِي الزِّنَا إِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ، وَشَقَّ عَلَيْهِ الصَّبْرُ عَنِ الْجِمَاعِ فَعَنِتَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، أَيْ وَقَعَ فِي الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ (4) .
__________
(1) تفسير القرطبي 5 / 136، والزرقاني 3 / 220.
(2) روضة الطالبين 7 / 131.
(3) المغني 6 / 597.
(4) تفسير ابن كثير 1 / 478 القاهرة، ط عيسى الحلبي، والزرقاني 3 / 220.(23/51)
قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْخَوْفِ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْوُقُوعُ فِي الزِّنَا، بَل أَنْ يَتَوَقَّعَهُ لاَ عَلَى النُّدُورِ. قَال النَّوَوِيُّ: مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ وَضَعُفَتْ تَقْوَاهُ فَهُوَ خَائِفٌ (1) . وَهَذَا الشَّرْطُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِذْ لَيْسَ زَوَاجُ الأَْمَةِ مَقْصُورًا عَلَى الضَّرُورَةِ، أَخْذًا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (2) وَقَوْلِهِ: {وَأُحِل لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (3) وَلَمْ يَرِدْ مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ، قَالُوا: وقَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} (4) إِنَّمَا يَدُل عَلَى الْمَنْعِ بِالْمَفْهُومِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ حُجَّةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَوْ سَلِمَ، لأََمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَهِيَ لاَ تُنَافِي الصِّحَّةَ. وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ بِالْكَرَاهَةِ (5) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
77 - أَنْ لاَ يَقْدِرَ عَلَى نِكَاحِ حُرَّةٍ، لِعَدَمِ وُجُودِ حُرَّةٍ، أَوْ لِعَدَمِ وُجُودِ الطَّوْل وَهُوَ الصَّدَاقُ. وَقِيل: الصَّدَاقُ وَالنَّفَقَةُ. وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ (6) .
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 131.
(2) سورة النساء / 3.
(3) سورة النساء / 24.
(4) سورة النساء / 25.
(5) فتح القدير 2 / 376.
(6) روضة الطالبين 7 / 129، وتفسير القرطبي 5 / 137، والمغني 6 / 596، والزرقاني 3 / 220.(23/51)
الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
78 - أَنْ لاَ تَكُونَ الأَْمَةُ مَمْلُوكَةً لَهُ، وَلاَ لِوَلَدِهِ.
فَلاَ يَتَزَوَّجُ السَّيِّدُ أَمَتَهُ الَّتِي يَمْلِكُهَا، قَال صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: لأَِنَّ النِّكَاحَ مَا شُرِعَ إِلاَّ مُثْمِرًا ثَمَرَاتٍ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُتَنَاكِحَيْنِ، وَالْمَمْلُوكِيَّةُ تُنَافِي الْمَالِكِيَّةَ فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُ الثَّمَرَةِ عَلَى الشَّرِكَةِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يُفِيدُ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ وَإِبَاحَةَ الْبُضْعِ، فَلاَ يَجْتَمِعُ مَعَهُ عَقْدٌ أَضْعَفُ مِنْهُ.
وَلَوْ مَلَكَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ أَمَةٌ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا (1) . وَلاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةَ ابْنِهِ أَوْ بِنْتِهِ؛ لأَِنَّ لَهُ فِيهَا شُبْهَةً، وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ. لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ وَمَالُكَ لأَِبِيكَ (2) . وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةَ ابْنِهِ أَوْ بِنْتِهِ. لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ وَلاَ تَعْتِقُ بِإِعْتَاقِهِ (3) .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ:
79 - أَنْ تَكُونَ الأَْمَةُ مُسْلِمَةً إِنْ كَانَ مَنْ يُرِيدُ
__________
(1) فتح القدير 2 / 371، والمغني 6 / 610، والقليوبي 3 / 247، والزرقاني 3 / 208.
(2) حديث: " أنت ومالك لأبيك ". أخرجه ابن ماجه (2 / 769 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وصحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 25 - ط دار الجنان) .
(3) المغني 6 / 610، والقليوبي 3 / 247.(23/52)
الزَّوَاجَ بِهَا حُرًّا مُسْلِمًا، فَلَوْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (1) وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ زَوَاجَ الأَْمَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِزَوَاجِهِ بِأَمَةٍ مُسْلِمَةٍ، وَلأَِنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهَا نَقْصُ الْكُفْرِ وَنَقْصُ الرِّقِّ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، أَخْذًا بِإِطْلاَقِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (2) وَقَوْلِهِ {وَأُحِل لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (3) قَالُوا: فَلاَ يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ بِمَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ، وَلَيْسَتِ الآْيَةُ السَّابِقَةُ مُوجِبَةً لِلتَّخْصِيصِ؛ لأَِنَّ دَلاَلَتَهَا بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَلَيْسَ هُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي أُصُول الْفِقْهِ. قَالُوا: وَلأَِنَّ وَطْأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ جَائِزٌ، فَيَجُوزُ بِالنِّكَاحِ. وَقَالُوا: إِنَّ زَوَاجَ الأَْمَةِ فِي تِلْكَ الْحَال يَكُونُ مَكْرُوهًا، لاَ حَرَامًا (4) .
اسْتِدَامَةُ نِكَاحِ الأَْمَةِ عِنْدَ زَوَال بَعْضِ الشُّرُوطِ:
80 - لَوْ زَال بَعْضُ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ بَعْدَ أَنْ نَكَحَ
__________
(1) سورة النساء / 25.
(2) سورة النساء / 3.
(3) سورة النساء / 24.
(4) فتح القدير 2 / 376، والمغني 6 / 596، وكشاف القناع 5 / 85.(23/52)
الْحُرُّ الأَْمَةَ لَمْ يَنْفَسِخْ نِكَاحُهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلاَقُ، كَأَنْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا حُرَّةً، أَوْ أَمْكَنَهُ التَّزَوُّجُ بِهَا لِوُجُودِهَا، أَوْ كَانَ مُعْسِرًا لاَ يَجِدُ صَدَاقًا فَأَيْسَر، أَوْ كَانَ يَخَافُ الْعَنَتَ ثُمَّ زَال ذَلِكَ الْخَوْفُ لأَِمْرٍ مَا، وَذَلِكَ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُتَقَدِّمَةَ هِيَ شُرُوطُ ابْتِدَاءٍ، لاَ شُرُوطُ دَوَامٍ.
وَفِي قَوْل الْمُزَنِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الأَْمَةِ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) . وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَدْ طَلَّقَ الأَْمَةَ ثُمَّ زَالَتْ بَعْضُ الشُّرُوطِ بِأَنْ تَزَوَّجَ حُرَّةً مَثَلاً، صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مُرَاجَعَةُ الأَْمَةِ فِي عِدَّتِهَا (2) .
الْوِلاَيَةُ فِي تَزْوِيجِ الأَْمَةِ:
81 - لاَ تُزَوِّجُ الأَْمَةُ نَفْسَهَا، بَل وِلاَيَةُ تَزْوِيجِهَا لِسَيِّدِهَا لأَِنَّهَا مَالُهُ. وَقَدْ قَال تَعَالَى {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} (3) أَيْ بِوِلاَيَةِ أَرْبَابِهِنَّ وَمَالِكِيهِنَّ.
فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ صَغِيرًا أَوْ سَفِيهًا فَلِوَلِيِّهِ فِي الْمَال تَزْوِيجُهَا؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ مَالِيَّةٌ لِلصَّغِيرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْصِيل مَهْرِهَا وَوَلَدِهَا، وَكِفَايَةِ مُؤْنَتِهَا، وَصِيَانَتِهَا عَنِ الزِّنَا الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، إِلَى
__________
(1) الزرقاني على مختصر خليل 3 / 220.
(2) روضة الطالبين 7 / 133 و8 / 217، والمغني 6 / 599.
(3) سورة النساء / 25.(23/53)
أَنَّ لِوَلِيِّ الصَّغِيرِ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ إِذَا ظَهَرَتِ الْغِبْطَةُ (الْحَظُّ الْمَالِيُّ) .
وَإِنْ كَانَ مَالِكُ الأَْمَةِ امْرَأَةً فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ مَنْ يَتَوَلَّى تَزْوِيجَ الْمَرْأَةِ يَتَوَلَّى تَزْوِيجَ أَمَتِهَا، وَلاَ يُزَوِّجُهَا إِلاَّ بِإِذْنِ سَيِّدَتِهَا لأَِنَّهَا مَالُهَا، فَلاَ يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَحَدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهَا (1) .
الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ وَالاِسْتِخْدَامُ:
82 - إِذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ فَمَهْرُهَا لَهُ؛ لأَِنَّهَا مِلْكُهُ ذَاتًا وَمَنْفَعَةً، وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ. وَقَال مَالِكٌ: مَهْرُهَا لَهَا، وَهِيَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ السَّيِّدِ، لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (2) . هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْهُ، وَفِي الزَّرْقَانِيِّ أَنَّ الْمَنْقُول عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ فِيهِ خِلاَفٌ.
وَإِذَا زَوَّجَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ الاِسْتِمْتَاعُ بِهَا، وَيَبْقَى لَهُ مَنْفَعَةُ اسْتِخْدَامِهَا، فَتَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عِنْدَهُ نَهَارًا؛ لأَِنَّهُ وَقْتُ الْخِدْمَةِ، وَتَكُونُ عِنْدَ زَوْجِهَا لَيْلاً؛ لأَِنَّهُ وَقْتُ الاِسْتِمْتَاعِ، فَإِنْ تَبَرَّعَ السَّيِّدُ بِأَنْ تَكُونَ عِنْدَ الزَّوْجِ لَيْلاً وَنَهَارًا كَانَتْ عِنْدَهُ. وَحَيْثُ كَانَتْ عِنْدَ السَّيِّدِ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا فِي وَقْتِهِ، وَحَيْثُ كَانَتْ
__________
(1) المغني 6 / 467، 468، وتفسير القرطبي 5 / 141، وروضة الطالبين 7 / 105.
(2) تفسير القرطبي 5 / 142 والآية سورة النساء / 25.(23/53)
عِنْدَ الزَّوْجِ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا فِي وَقْتِهِ. هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الأَْمَةِ الْمُزَوَّجَةِ عَلَى زَوْجِهَا بِكُل حَالٍ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ الأَْمَةِ عَلَى السَّيِّدِ عَلَى كُل حَالٍ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَجِبُ إِلاَّ بِالتَّمْكِينِ التَّامِّ، وَلَمْ يُوجَدْ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَوِّئَهَا بَيْتَ الزَّوْجِ، لَكِنَّهَا تَخْدُمُ الْوَلِيَّ، وَيُقَال لِلزَّوْجِ: مَتَى ظَفِرْتَ بِهَا وَطِئْتَهَا، فَإِنْ بَوَّأَهَا مَعَهُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى، وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
أَوْلاَدُ الْحُرِّ مِنَ الأَْمَةِ:
83 - إِذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ أَمَةً فَأَوْلاَدُهُ مِنْهَا أَرِقَّاءُ تَبَعًا لأُِمِّهِمْ، فَيُولَدُونَ عَلَى مِلْكِ السَّيِّدِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَشْتَرِطِ الزَّوْجُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ حُرِّيَّةَ أَوْلاَدِهِ مِنْهَا، فَإِنْ شَرَطَهُ صَحَّ وَعَتَقَ جَمِيعُ أَوْلاَدِهِ مِنْهَا مِنْ ذَلِكَ النِّكَاحِ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى تَعْلِيقِ الْحُرِّيَّةِ بِالْوِلاَدَةِ، ثُمَّ إِنْ مَاتَ السَّيِّدُ أَوْ بَاعَ الأَْمَةَ الزَّوْجَةَ فَالصَّحِيحُ أَنَّ الشَّرْطَ قَائِمٌ وَيَعْتِقُ مَنْ يُولَدُ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْضًا.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ أَوْلاَدَ أَمَتِهِ
__________
(1) الهداية وفتح القدير 2 / 491، وحاشية ابن عابدين 2 / 276، والمغني 6 / 564، والقليوبي 3 / 272، وروضة الطالبين 5 / 186، 8 / 409 و9 / 79، والزرقاني 3 / 221، وكشاف القناع 3 / 554، و5 / 187.(23/54)
فَعَلَى الأَْبِ الْحُرِّ نَفَقَتُهُمْ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ أَنْ يَعْدَمَ أَوْ يَمُوتَ فَعَلَى السَّيِّدِ؛ لأَِنَّ مَنْ أُعْتِقَ صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَنَفَقَتُهُ عَلَى مُعْتِقِهِ، لأَِنَّهُ يُتَّهَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَعْتَقَهُ لِيُسْقِطَ عَنْ نَفْسِهِ نَفَقَتَهُ (1) .
وَلَوْ أَنَّ الزَّوْجَ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ الأَْمَةَ انْفَسَخَ نِكَاحُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلاً مِنْهُ صَارَ الْحَمْل مَحْكُومًا بِحُرِّيَّتِهِ؛ لأَِنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَوْ كَانَ الْعُلُوقُ أَثْنَاءَ الرِّقِّ. صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
زَوَاجُ الْحُرَّةِ عَلَى الأَْمَةِ:
84 - مَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً بِشُرُوطِهَا، ثُمَّ أَمْكَنَهُ زَوَاجُ الْحُرَّةِ فَتَزَوَّجَهَا، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لاَ يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الأَْمَةِ. وَيُثْبِتُ الْمَالِكِيَّةُ لِلْحُرَّةِ هُنَا الْحَقَّ فِي فَسْخِ نَفْسِهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ عَلِمَتْ بِأَنَّهُ مُتَزَوِّجٌ بِأَمَةٍ، قَالُوا: ذَلِكَ لِمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الْمَعَرَّةِ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَيَكُونُ فَسْخُهَا بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ بَائِنَةٍ، فَإِنْ أَوْقَعَتْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ لَمْ يَقَعْ إِلاَّ وَاحِدَةٌ.
قَالُوا: وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَ عَلَى الْحُرَّةِ أَمَةً يَكُونُ لِلْحُرَّةِ الْخِيَارُ (3) .
__________
(1) الزرقاني 3 / 220 و4 / 253، وكشاف القناع 6 / 474، وحاشية ابن عابدين 2 / 276.
(2) حاشية القليوبي على شرح المنهاج 4 / 354.
(3) الزرقاني 3 / 221.(23/54)
الْعِشْرَةُ وَالْقَسْمُ:
85 - يَسْتَمْتِعُ الزَّوْجُ مِنْ زَوْجَتِهِ الأَْمَةِ بِمِثْل مَا يَسْتَمْتِعُ بِهِ مِنْ الْحُرَّةِ، وَيَجْتَنِبُ الدُّبُرَ وَالْحَيْضَةَ، لَكِنْ لاَ يَعْزِل عَنِ الْحُرَّةِ إِلاَّ بِرِضَاهَا، وَلاَ يَعْزِل عَنْ زَوْجَتِهِ الأَْمَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ إِلاَّ بِرِضَا سَيِّدِهَا لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُ فِي الْوَلَدِ. وَقَال صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ: الْحَقُّ فِي الإِْذْنِ لَهَا خَاصَّةً؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ حَقُّهَا إِذْ تَثْبُتُ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ، وَفِي الْعَزْل تَنْقِيصُ حَقِّهَا فَيُشْتَرَطُ رِضَاهَا كَالْحُرَّةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَعْزِل عَنْ زَوْجَتِهِ الأَْمَةِ إِلاَّ بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَإِذْنِهَا، لأَِنَّ الْعَزْل يُنْقِصُ الاِسْتِمْتَاعَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَحْرُمُ الْعَزْل عَنِ الْحُرَّةِ وَالأَْمَةِ، زَوْجَةً أَوْ سُرِّيَّةً، بِالإِْذْنِ وَغَيْرِ الإِْذْنِ (1) .
وَالْحَقُّ فِي الاِسْتِمْتَاعِ لِلأَْمَةِ لاَ لِسَيِّدِهَا، فَلَوْ تَنَازَلَتْ عَنْ حَقِّهَا فِي الْقَسْمِ صَحَّ، وَلَوْ رَضِيَتْ بِعَيْبِ الزَّوْجِ فَلاَ فَسْخَ (2) .
وَلِلزَّوْجَةِ الأَْمَةِ الْحَقُّ فِي أَنْ يَقْسِمَ لَهَا، بِخِلاَفِ السُّرِّيَّةِ.
وَلَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ نِصْفُ
__________
(1) الزرقاني 3 / 224، وكشاف القناع 5 / 189، وروضة الطالبين 7 / 5، وفتح القدير 2 / 495، وتكملته 8 / 110.
(2) روضة الطالبين 7 / 353، 9 / 79.(23/55)
مَا يَقْسِمُ لِلْحُرَّةِ، فَلِلأَْمَةِ لَيْلَةٌ مُقَابِل كُل لَيْلَتَيْنِ لِلْحُرَّةِ.
فَإِنْ كُنَّ إِمَاءً كُلَّهُنَّ وَجَبَ الْعَدْل بَيْنَهُنَّ، قَال الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ -: فَيَقْسِمُ لَهُنَّ لَيْلَةً وَلَيْلَةً لاَ أَكْثَرُ، كَمَا لَوْ كُنَّ كُلُّهُنَّ حَرَائِرَ، إِلاَّ أَنْ يَرْضَيْنَ بِالزِّيَادَةِ. قَالُوا: وَالْحَقُّ فِي الْقَسْمِ لِلأَْمَةِ لاَ لِسَيِّدِهَا، فَلَهَا أَنْ تَهَبَ لَيْلَتَهَا لِضَرَّتِهَا أَوْ لِزَوْجِهَا، وَلَيْسَ لِسَيِّدِهَا الاِعْتِرَاضُ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ وَالزَّوْجَةِ الأَْمَةِ فِي الْقَسْمِ.
وَإِنْ تَزَوَّجَ أَمَةً بِكْرًا أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا ثُمَّ دَارَ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثًا ثُمَّ دَارَ، كَمَا يَفْعَل مَعَ الْحُرَّةِ (1) .
وَلَوْ تَبَيَّنَ الزَّوْجُ عِنِّينًا فَرَضِيَتْ بِهِ كَانَ لِسَيِّدِهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْفَسْخِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ: الطَّلَبُ لَهَا (2) . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعٌ عَنْ مَسْأَلَةِ الْعَزْل وَقَدْ تَقَدَّمَتْ.
اسْتِبْرَاءُ الزَّوْجَةِ الأَْمَةِ:
86 - مَنِ اشْتَرَى أَمَةً لَمْ يَحِل لَهُ وَطْؤُهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ، وَذَلِكَ لِيَتَحَقَّقَ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا (ر: اسْتِبْرَاء) .
__________
(1) كشاف القناع 5 / 207، والزرقاني 4 / 57، والمغني 7 / 35، وفتح القدير 2 / 380، والأشباه والنظائر للسيوطي ص93.
(2) فتح القدير 3 / 264، وروضة الطالبين 9 / 79.(23/55)
أَمَّا مَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى يَطَؤُهَا قَبْل التَّزْوِيجِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ مَتَى صَحَّ تَضَمَّنَ الْعِلْمَ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ شَرْعًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الاِسْتِبْرَاءِ، وَعَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا قَبْل أَنْ يُزَوِّجَهَا.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يَسْتَبْرِئَ مَوْطُوءَتَهُ إِنْ أَرَادَ تَزْوِيجَهَا وَيُصَدَّقُ السَّيِّدُ إِنْ قَال: إِنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا قَبْل التَّزْوِيجِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا اسْتِحْسَانًا (1) .
النَّوْعُ الثَّانِي: زَوَاجُ الْعَبْدِ بِالأَْمَةِ:
87 - يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ أَمَةً، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِزَوَاجِ الْحُرِّ بِالأَْمَةِ، وَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِ سَيِّدِ الْعَبْدِ وَسَيِّدِ الأَْمَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ فَهُوَ عَاهِرٌ (2) وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكُونُ نِكَاحُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ السَّيِّدِ.
إِذَا كَانَ لِلسَّيِّدِ عَبْدٌ وَأَمَةٌ فَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ أَمَتَهُ، وَيُشْتَرَطُ إِذْنُ الْعَبْدِ عِنْدَ مَنْ لاَ يُجِيزُ إِجْبَارَهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 240، والزرقاني 4 / 233.
(2) حديث: " أيما عبد تزوج بغير إذن سيده فهو عاهر ". أخرجه الترمذي (3 / 410 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وقال: " حديث حسن ".(23/56)
عَلَى النِّكَاحِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ.
وَإِذَا زَوَّجَ عَبْدَهُ مِنْ أَمَتِهِ فَلاَ مَهْرَ عِنْدَ مَنْ قَال: إِنَّ مَهْرَ الأَْمَةِ لِسَيِّدِهَا (1) .
وَمَهْرُ زَوْجَةِ الْعَبْدِ فِي كَسْبِهِ هُوَ إِنْ كَانَ لَهُ كَسْبٌ فِي قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُنْفِقُ، يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِطَلَبِ الزَّوْجَةِ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنَ الْكَسْبِ، ثُمَّ قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى زَوْجَتِهِ إِلاَّ نَفَقَةَ الْمُعْسِرِينَ إِنْ كَثُرَ مَالُهُ؛ لِضَعْفِ مِلْكِهِ.
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى السَّيِّدِ سَوَاءٌ ضَمِنَهَا أَوْ لَمْ يَضْمَنْهَا، وَسَوَاءٌ بَاشَرَ هُوَ الْعَقْدَ أَوْ بَاشَرَهُ الْعَبْدُ بِإِذْنِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ تَعَلَّقَ بِالْعَبْدِ بِرِضَا سَيِّدِهِ فَيَضْمَنُهُ، فَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ السَّيِّدُ الْعَبْدَ أَوْ أَعْتَقَهُ لَمْ يَسْقُطِ الْمَهْرُ عَنِ السَّيِّدِ (2) .
وَتُعْلَمُ غَالِبُ أَحْكَامِ هَذَا النَّوْعِ مِنِ النِّكَاحِ، بِمُرَاجَعَةِ زَوَاجِ الْحُرِّ بِالأَْمَةِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: زَوَاجُ الْعَبْدِ بِالْحُرَّةِ:
88 - لاَ يَمْتَنِعُ شَرْعًا أَنْ يَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ حُرَّةً، وَلَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ، وَلَكِنْ لاَ يَحِل لَهُ أَنْ
__________
(1) فتح القدير 2 / 488، والزرقاني والبناني 2 / 218 و3 / 196، 197.
(2) المغني 6 / 507، وكشاف القناع 5 / 56، وروضة الطالبين 9 / 40، 41، 79، وشرح المنهاج 3 / 272.(23/56)
يَتَزَوَّجَ سَيِّدَتَهُ؛ لأَِنَّ أَحْكَامَ النِّكَاحِ تَتَنَافَى مَعَ أَحْكَامِ الْمِلْكِ، فَإِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الطَّرَفُ الآْخَرُ بِحُكْمِهِ يُسَافِرُ بِسَفَرِهِ وَيُقِيمُ بِإِقَامَتِهِ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ فَيَتَنَافَيَانِ؛ وَلأَِنَّ مُقْتَضَى الزَّوْجِيَّةِ قِوَامَةُ الرَّجُل عَلَى الْمَرْأَةِ بِالْحِفْظِ وَالصَّوْنِ وَالتَّأْدِيبِ، وَالاِسْتِرْقَاقُ يَقْتَضِي قَهْرَ السَّادَاتِ لِلْعَبِيدِ بِالاِسْتِيلاَءِ وَالاِسْتِهَانَةِ، فَيَتَعَذَّرُ أَنْ تَكُونَ سَيِّدَةً لِعَبْدِهَا وَزَوْجَةً لَهُ.
وَلَوْ أَنَّ الزَّوْجَةَ الْحُرَّةَ مَلَكَتْ زَوْجَهَا الْعَبْدَ انْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا.
وَمِمَّا يَدُل لِصِحَّةِ زَوَاجِ الْعَبْدِ بِحُرَّةٍ مَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِعَبْدٍ اسْمُهُ مُغِيثٌ، فَلَمَّا أُعْتِقَتْ، قَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ رَاجَعْتِيهِ. فَقَالَتْ يَا رَسُول اللَّهِ أَتَأْمُرُنِي؟ قَال: إِنَّمَا أَنَا شَفِيعٌ. قَالَتْ: لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ (1) .
فَلاَ يَشْفَعُ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ تَنْكِحَ عَبْدًا إِلاَّ وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ (2) .
وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْعَبْدُ غَيْرَ كُفْءٍ لِلْحُرَّةِ فَلاَ تَتَزَوَّجُهُ إِلاَّ بِرِضَا أَوْلِيَائِهَا، فَإِنْ تَزَوَّجَتْهُ فَلِمَنْ لَمْ يَرْضَ مِنْهُمُ الْفَسْخُ. وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْل الصَّاحِبَيْنِ، عَلَى أَنَّ الْمَنْقُول
__________
(1) حديث: " قصة بريرة ومغيث ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 408 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.
(2) المغني 6 / 484، 610، 611 والعناية بهامش فتح القدير 2 / 371، وكشاف القناع 5 / 897، والقليوبي 3 / 247.(23/57)
عَنْهُمَا أَنَّ ذَلِكَ فِي الأَْوْلِيَاءِ إِذَا تَسَاوَوْا فِي الدَّرَجَةِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ رَضِيَ بَعْضُهُمْ وَرَضِيَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ يَكُنْ لِبَاقِي الأَْوْلِيَاءِ الْفَسْخُ.
وَأَخَذَ الْعُلَمَاءُ مِنْ قِصَّةِ بَرِيرَةَ أَيْضًا أَنَّ الأَْمَةَ إِذَا أُعْتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ الْبَقَاءِ مَعَهُ وَبَيْنَ الْفَسْخِ. وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْفَسْخَ يَقَعُ بِمُجَرَّدِ اخْتِيَارِهَا وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُكْمِ الْقَاضِي لِظُهُورِهِ وَعَدَمِ الْخِلاَفِ فِيهِ (1) .
وَوَلَدُ الْعَبْدِ مِنْ زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ أَحْرَارٌ؛ لأَِنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لأُِمِّهِ حُرِّيَّةً وَرِقًّا (2) .
إِنْفَاقُ الْعَبْدِ عَلَى أَوْلاَدِهِ:
89 - إِنْ كَانَ أَوْلاَدُ الْعَبْدِ أَحْرَارًا، كَأَنْ تَكُونَ أُمُّهُمْ حُرَّةً، أَوْ يَكُونُوا مِنْ أَمَةٍ فَيُعْتِقُهُمُ السَّيِّدُ، فَلاَ تَلْزَمُ أَبَاهُمُ الْعَبْدَ نَفَقَتُهُمْ، وَكَذَا لاَ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ أَحَدٍ مِنْ أَقَارِبِهِ سِوَاهُمْ؛ لأَِنَّ نَفَقَةَ الأَْقَارِبِ تَجِبُ عَلَى سَبِيل الْمُوَاسَاةِ وَلَيْسَ الْعَبْدُ أَهْلَهَا. وَتَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنْ أَقَارِبِهِمْ عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي بَابِ النَّفَقَاتِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ كَانَتْ فِي بَيْتِ الْمَال.
وَإِنْ كَانُوا أَرِقَّاءَ فَلَيْسَ عَلَى أَبِيهِمُ الْعَبْدِ
__________
(1) فتح القدير والعناية 2 / 408، 419، المغني 6 / 481، 484، وكشاف القناع 5 / 68، وروضة الطالبين 7 / 80، 84.
(2) البناني على الزرقاني 3 / 245، والأشباه للسيوطي 267.(23/57)
نَفَقَتُهُمْ أَيْضًا، وَتَلْزَمُ نَفَقَتُهُمْ سَيِّدَهُمْ (1) .
عَدَدُ زَوْجَاتِ الْعَبْدِ:
90 - اخْتُلِفَ فِي الْعَدَدِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَجْمَعَهُ مِنَ النِّسَاءِ، فَقِيل: لاَ يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنِ امْرَأَتَيْنِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي ذَلِكَ. وَبِمَا رَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّهُ قَال: أَجْمَعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَنْكِحُ أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْنِ، وَلِكَوْنِ أَحْكَامِ الرَّقِيقِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ أَحْكَامِ الأَْحْرَارِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.
وَقِيل: لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، قَالُوا: لِعُمُومِ آيَةِ: وَرُبَاعَ (2) لأَِنَّ النِّكَاحَ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَالْعَبْدَ وَالْحُرَّ فِيهِمَا سَوَاءٌ (3) .
أَحْكَامُ نِكَاحِ الْعَبْدِ:
91 - الأَْصْل أَنَّ أَحْكَامَ نِكَاحِ الْعَبْدِ كَأَحْكَامِ نِكَاحِ الأَْحْرَارِ، إِلاَّ مَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَلِيلٌ، وَمِنْهُ - غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ - أَنَّ الْعَبْدَ إِنْ وَطِئَ
__________
(1) المغني 7 / 599، وروضة الطالبين 9 / 96، والزرقاني 3 / 197.
(2) سورة النساء / 3.
(3) الزرقاني 3 / 207، وكشاف القناع 5 / 81، وفتح القدير 2 / 380.(23/58)
الْحُرَّةَ فِي نِكَاحٍ لَمْ يُحْصِنْهَا، كَمَا أَنَّ نِكَاحَ الأَْمَةِ لاَ يُحْصِنُ الْحُرَّ، فَلَوْ تَزَوَّجَتْ عَبْدًا فَوَطِئَهَا ثُمَّ زَنَتْ حُدَّتْ حَدَّ الْبِكْرِ وَهُوَ مِائَةُ جَلْدَةٍ وَلَمْ تُرْجَمْ؛ لِعَدَمِ إِحْصَانِهَا. وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَال مَالِكٌ: إِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ حُرًّا وَالآْخَرُ مَمْلُوكًا وَتَمَّ الْوَطْءُ فَالْحُرُّ مِنْهُمَا مُحْصَنٌ فَيُرْجَمُ إِنْ زَنَى (1) .
الإِْيلاَءُ مِنَ الزَّوْجَةِ الأَْمَةِ، وَإِيلاَءُ الْعَبْدِ مِنْ زَوْجَتِهِ:
92 - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ الإِْيلاَءَ مِنَ الزَّوْجَةِ الأَْمَةِ كَالإِْيلاَءِ مِنَ الزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا أَوْ حُرًّا، وَلِلأَْمَةِ الْمُطَالَبَةُ بِالْوَطْءِ بَعْدَ الأَْشْهُرِ الأَْرْبَعَةِ وَإِنْ عَفَا السَّيِّدُ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهَا فِي الاِسْتِمْتَاعِ، فَإِنْ تَرَكَتِ الْمُطَالَبَةَ لَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِهَا الطَّلَبُ.
وَاحْتَجُّوا عَلَى الأَْشْهُرِ الأَْرْبَعَةِ بِعُمُومِ آيَةِ الإِْيلاَءِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مُدَّةَ الإِْيلاَءِ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا شَهْرَانِ وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ حُرَّةً، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى حُرًّا فَالْمُدَّةُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ أَمَةً. وَاحْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ قِيَاسًا عَلَى الْعِدَّةِ (2) .
الْخُلْعُ:
__________
(1) المغني 8 / 163، والزرقاني 8 / 82.
(2) المغني 7 / 318، 323، وفتح القدير 3 / 195، وروضة الطالبين 8 / 230، والزرقاني 4 / 152.(23/58)
إنْ خَالَعَتِ الأَْمَةُ زَوْجَهَا عَلَى مَالٍ فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ صَحَّ الْخُلْعُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلاَ يَلْزَمُ سَيِّدَهَا أَدَاءُ الْمَال، بَل يَكُونُ فِي ذِمَّتِهَا تُؤَدِّيهِ إِنْ عَتَقَتْ، وَقِيل: يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهَا فَتُبَاعُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ لَزِمَهُ وَتَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ هُوَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَصِحُّ خُلْعُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ.
وَإِنْ خَالَعَ الْعَبْدُ زَوْجَتَهُ صَحَّ الْخُلْعُ؛ لأَِنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلاَقَ عَلَى غَيْرِ مَالٍ فَمَلَكَ الْخُلْعَ، وَهُوَ طَلاَقٌ أَوْ فَسْخٌ عَلَى مَالٍ، وَالْحَقُّ فِي الْعِوَضِ لِلسَّيِّدِ.
فَإِنْ كَانَتِ الأَْمَةُ مَأْذُونًا لَهَا فِي التِّجَارَةِ، أَوْ تَمْلِكُ شَيْئًا مِنَ الْمَال عِنْدَ مَنْ يَقُول بِأَنَّهَا تَمْلِكُ الْمَال، لَزِمَهَا الْمَال (1) .
الظِّهَارُ وَالْكَفَّارَاتُ:
94 - إِذَا كَانَ الْمُظَاهِرُ عَبْدًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ إِلاَّ بِالصِّيَامِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ الإِْعْتَاقَ وَلاَ الإِْطْعَامَ، فَهُوَ كَالْحُرِّ الْمُعْسِرِ وَأَسْوَأُ مِنْهُ حَالاً.
لَكِنْ إِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الإِْعْتَاقِ أَوِ الإِْطْعَامِ فَفِي إِجْزَائِهِ قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ لَوْ أَعْتَقَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ
__________
(1) المغني 7 / 81، 82، 86، وكشاف القناع 5 / 125، وروضة الطالبين 7 / 384، وفتح القدير 3 / 217، 205، والزرقاني 4 / 64.(23/59)
فِي التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ هُوَ مَمْلُوكٌ لاَ يَمْلِكُ، فَيَقَعُ تَكْفِيرُهُ بِمَال غَيْرِهِ فَلَمْ يُجْزِئُهُ.
وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ الإِْطْعَامُ الْمَأْذُونُ فِيهِ دُونَ الْعِتْقِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْعِتْقَ يَقْتَضِي الْوَلاَءَ وَالْوِلاَيَةَ وَالإِْرْثَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلرَّقِيقِ.
وَالثَّالِثُ: إِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي التَّكْفِيرِ بِالْمَال جَازَ سَوَاءٌ كَانَ إِطْعَامًا أَوْ عِتْقًا، وَهَذَا قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْل الأَْوْزَاعِيِّ. ثُمَّ قَال الشَّافِعِيَّةُ: فَإِنْ أَعْتَقَ فَالْوَلاَءُ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ عَتَقَ فَالْوَلاَءُ لَهُ، وَإِنْ دَامَ رِقُّهُ فَالْوَلاَءُ لِسَيِّدِهِ.
وَلَوْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الْعِتْقِ أَوِ الإِْطْعَامِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُمَا حَتَّى عِنْدَ مَنْ يَقُول بِإِجْزَائِهِمَا؛ لأَِنَّ الصِّيَامَ فَرْضُهُ (1) .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لَهُمْ: بِأَنَّ لِلسَّيِّدِ مَعَ ذَلِكَ مَنْعَهُ مِنَ الصَّوْمِ إِنْ أَضَرَّ بِخِدْمَتِهِ. قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَهَذَا فِي غَيْرِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، أَمَّا فِيهَا فَلَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ؛ لأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الزَّوْجَةِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ وَلَوْ أَضَرَّ بِخِدْمَتِهِ؛ لأَِنَّهُ وَاجِبٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّلاَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ (2) .
__________
(1) المغني 7 / 380، والزرقاني 4 / 179، وكشاف القناع 6 / 244، وروضة الطالبين 11 / 4.
(2) الزرقاني 4 / 179، والمغني 8 / 753، وروضة الطالبين 8 / 300.(23/59)
وَمِمَّا تَقَدَّمَ يُعْلَمُ حُكْمُ التَّكْفِيرِ فِي الْيَمِينِ أَوِ الْقَتْل إِذْ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِمَا الأَْحْكَامُ السَّابِقَةُ بِقَدْرِهِمَا (1) .
الطَّلاَقُ:
95 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ الطَّلاَقِ فِي نِكَاحِ الرَّقِيقِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّ عَدَدَ الطَّلاَقِ مُعْتَبَرٌ بِالزَّوْجِ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا فَإِنَّهُ يَمْلِكُ عَلَى زَوْجَتِهِ ثَلاَثَ تَطْلِيقَاتٍ وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً.
وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا فَإِنَّهُ يَمْلِكُ تَطْلِيقَتَيْنِ لاَ غَيْرُ، وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ حُرَّةً، فَإِنْ طَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ بَانَتْ مِنْهُ وَلَمْ تَحِل لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: طَلاَقُ الْعَبْدِ تَطْلِيقَتَانِ وَلاَ تَحِل لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا. (2) وَبِأَنَّ
__________
(1) المغني 8 / 753، وكشاف القناع 6 / 66، 244 وشرح الأشباه 2 / 153.
(2) حديث: " طلاق العبد تطليقتان ولا تحل له حتى تنكح زوجًا ". أخرجه الدارقطني (4 / 39 - ط دار المحاسن) من طريق القاسم بن محمد عن عائشة مرفوعًا، ثم نقل عن أبي عاصم ـ الضحاك بن مخلد ـ أنه استنكره، وعن أبي بكر النيسابوري أنه قال: " والصحيح عن القاسم خلاف هذا "(23/60)
الرَّجُل هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالطَّلاَقِ فَكَانَ مُعْتَبَرًا بِهِ؛ وَلأَِنَّ الطَّلاَقَ خَالِصُ حَقِّ الزَّوْجِ، وَهُوَ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ اتِّفَاقًا، فَكَانَ اخْتِلاَفُهُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الطَّلاَقَ مُعْتَبَرٌ بِالنِّسَاءِ، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً فَطَلاَقُهَا ثَلاَثٌ وَلَوْ كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَطَلاَقُهَا اثْنَتَانِ وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَعِكْرِمَةَ وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وَمَسْرُوقٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ.
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ طَلاَقُ الأَْمَةِ اثْنَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ (1) . وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ مَحَل الطَّلاَقِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِهَا كَالْعِدَّةِ.
وَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى أَنَّ أَيَّهُمَا رَقَّ نَقَصَ الطَّلاَقُ بِرِقِّهِ (2) .
وَإِنَّمَا ذَهَبُوا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إِلَى نَقْصِ طَلاَقِ الرَّقِيقِ عَنْ طَلاَقِ الأَْحْرَارِ قِيَاسًا عَلَى الْحَدِّ الَّذِي قَال اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ
__________
(1) حديث: " طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان ". أخرجه الدارقطني (4 / 38 - ط دار المحاسن) من حديث ابن عمر، وضعفه ولكنه صححه موقوفًا من قول ابن عمر، ثم أسنده إليه بلفظ: " طلاق العبد الحرة تطليقتان، وعدتها ثلاثة قروء، وطلاق الحر الأمة تطليقتان، وعدتها عدة الأمة حيضتان ".
(2) المغني 7 / 262، وكشف القناع 5 / 259، وفتح القدير 3 / 42، 174، وروضة الطالبين 8 / 71.(23/60)
أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (1) إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّنْصِيفُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ طَلْقَةً وَنِصْفًا، وَلاَ نِصْفَ لِلطَّلْقَةِ، حَتَّى لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ طَلْقَةٍ طُلِّقَتْ طَلْقَةً كَامِلَةً، فَلِذَا كَانَ طَلاَقُ الرَّقِيقِ طَلْقَتَيْنِ عَلَى الْخِلاَفِ الْمُتَقَدِّمِ فِي مَنْ يُعْتَبَرُ بِهِ الطَّلاَقُ مِنَ الزَّوْجَيْنِ.
ثُمَّ إِنْ طَلَّقَ الْعَبْدُ زَوْجَتَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا عَلَى الْخِلاَفِ الْمُتَقَدِّمِ لَمْ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَلَوْ لَمْ تَنْكِحْ زَوْجًا آخَرَ لَكِنْ أَصَابَهَا سَيِّدُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَمْ تَحِل لِمُطَلِّقِهَا بِذَلِكَ بِدَلاَلَةِ الآْيَةِ.
وَلَوْ أَنَّ زَوْجَهَا بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا كُل مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الطَّلاَقِ اشْتَرَاهَا لَمْ يَحِل لَهُ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَا لَمْ تَنْكِحْ زَوْجًا آخَرَ (2) .
تَطْلِيقُ السَّيِّدِ عَلَى الْعَبْدِ:
96 - لَوْ طَلَّقَ السَّيِّدُ زَوْجَةَ عَبْدِهِ لَمْ يَقَعْ طَلاَقُهُ سَوَاءٌ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً أَوْ أَمَةً، وَسَوَاءٌ كَانَتْ أَمَةً لِلسَّيِّدِ أَمْ لِغَيْرِهِ.
وَقَدْ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ سَيِّدِي زَوَّجَنِي أَمَتَهُ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا قَال: فَصَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَقَال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ
__________
(1) سورة النساء / 25.
(2) فتح القدير 3 / 43، 174، 177.(23/61)
مَا بَال أَحَدِكُمْ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، إِنَّمَا الطَّلاَقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ.} (1)
وَحَقُّ الرَّجْعَةِ فِي الطَّلاَقِ الرَّجْعِيِّ هُوَ لِلْعَبْدِ لاَ لِسَيِّدِهِ، فَلَهُ الْمُرَاجَعَةُ وَلَوْ لَمْ يَأْذَنِ السَّيِّدُ.
وَالأَْمَةُ تَثْبُتُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ أَيْضًا وَلَوْ لَمْ يَرْضَ سَيِّدُهَا (2) .
انْفِسَاخُ نِكَاحِ الأَْمَةِ بِمِلْكِ زَوْجِهَا لَهَا:
97 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِذَا مَلَكَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ الأَْمَةَ انْفَسَخَ نِكَاحُهُ لَهَا بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ الْمِلْكُ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِشِرَاءٍ، أَوْ بِقَبُولِهَا هِبَةً، أَوْ وَصِيَّةً، أَوْ بِالْمِيرَاثِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَلَوْ أَوْصَى السَّيِّدُ بِجَارِيَتِهِ لِزَوْجِهَا الْحُرِّ، وَمَاتَ، فَقَبِل الزَّوْجُ الْوَصِيَّةَ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ لاَ يَجْتَمِعُ مَعَ الْمِلْكِ، ثُمَّ مَنْ قَال بِأَنَّهُ تُمْلَكُ الْوَصِيَّةُ بِالْقَبُول، فَحِينَئِذٍ يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ. وَمَنْ قَال بِأَنَّهُ إِذَا قَبِل تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَلَكَ الْمُوصَى بِهِ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ يَقُول: إِنَّ الاِنْفِسَاخَ يَتَبَيَّنُ حُصُولُهُ بِالْمَوْتِ (3) .
بَيْعُ الأَْمَةِ الْمُزَوَّجَةِ هَل يَكُونُ فَسْخًا لِنِكَاحِهَا:
98 - إِذَا بَاعَ السَّيِّدُ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ لِغَيْرِ زَوْجِهَا فَلاَ
__________
(1) فتح القدير 3 / 43، والزرقاني 3 / 195. وحديث: " يا أيها الناس. . " أخرجه ابن ماجه (1 / 671 - ط الحلبي) وضعفه البوصيري في مصباح الزجاجة (1 / 358 ط. دار الجنان) .
(2) روضة الطالبين 8 / 215، 217.
(3) المغني 6 / 19.(23/61)
يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَنَّ بَيْعَ الأَْمَةِ يَكُونُ طَلاَقًا لَهَا، لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالتَّابِعِينَ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَذَكَرَ مِنْهُمْ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنَ وَمُجَاهِدًا، وَعِكْرِمَةَ، وَالشَّعْبِيَّ. اهـ.
وَنَقَل الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَيْعُهَا طَلاَقُهَا، وَالصَّدَقَةُ بِهَا طَلاَقُهَا، وَأَنْ تُورَثَ طَلاَقُهَا وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِالْقِيَاسِ عَلَى بَيْعِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ: لاَ تَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ بِالْبَيْعِ، فَكَذَا هُنَا، وَبِقِصَّةِ بَرِيرَةَ، فَإِنَّهَا لَمَّا أُعْتِقَتْ خُيِّرَتْ، أَيْ فَلَمْ يَكُنْ عِتْقُهَا طَلاَقًا، فَكَذَا بَيْعُهَا.
وَهَذَا بِخِلاَفِ سَبْيِ الْمَرْأَةِ الْكَافِرَةِ، فَإِنَّ الآْيَةَ نَزَلَتْ فِيهَا، فَتَحِل لِمَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا (2) .
عِدَّةُ الأَْمَةِ:
99 - تَنْتَهِي عِدَّةُ الأَْمَةِ إِنْ كَانَتْ حَامِلاً بِوَضْعِ الْحَمْل كَالْحُرَّةِ.
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَامِلاً، وَكَانَتِ الْعِدَّةُ مِنْ وَفَاةٍ
__________
(1) سورة النساء / 24.
(2) روضة الطالبين 7 / 220، وفتح الباري 9 / 404، والقرطبي 5 / 122.(23/62)
فَهِيَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ عِدَّةِ الْحُرَّةِ، فَتَكُونُ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ.
فَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ مِنْ طَلاَقٍ وَكَانَتِ الأَْمَةُ مِمَّنْ يَحِضْنَ كَانَتْ عِدَّتُهَا قُرْأَيْنِ، وَهُمَا حَيْضَتَانِ، أَوْ طُهْرَانِ، عَلَى الْخِلاَفِ الْمَعْرُوفِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْءِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَلاَقُ الأَْمَةِ اثْنَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ (1) .
وَهَذَا لأَِنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ، وَالْحَيْضَةُ لاَ تَتَجَزَّأُ، فَأُكْمِلَتْ فَصَارَتْ قُرْأَيْنِ. . وَقَدْ أَشَارَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَوِ اسْتَطَعْتُ أَنْ أَجْعَلَهَا حَيْضَةً وَنِصْفًا لَفَعَلْتُ.
وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لاَ يَحِضْنَ لِصِغَرٍ، أَوْ إِيَاسٍ، وَكَذَا الَّتِي بَلَغَتْ بِالسِّنِّ وَلَمْ تَحِضْ، فَعِدَّتُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي الْقَوْل الأَْظْهَرِ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: شَهْرٌ وَنِصْفٌ، عَلَى النِّصْفِ مِنْ عِدَّةِ الْحُرَّةِ، وَلَمْ يَكْمُل الشَّهْرُ الثَّانِي؛ لأَِنَّ الأَْشْهُرَ مُتَجَزِّئَةٌ، فَأَمْكَنَ تَنْصِيفُهَا.
وَقِيل: تَكُونُ عِدَّتُهَا شَهْرَيْنِ، وَهَذَا قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عَنْ أَحْمَدَ عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَإِسْحَاقَ؛ لأَِنَّ الأَْشْهُرَ بَدَلٌ مِنَ الْقُرُوءِ، وَعِدَّةُ الَّتِي تَحِيضُ قُرْءَانِ، فَعِدَّةُ الَّتِي لاَ تَحِيضُ شَهْرَانِ.
وَقَال مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ: تَكُونُ عِدَّتُهَا ثَلاَثَةَ
__________
(1) حديث: " طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان ". سبق تخريجه (ف95) .(23/62)
أَشْهُرٍ، كَالْحُرَّةِ، وَلأَِنَّ الْعِدَّةَ لِلْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَذَلِكَ مَعْنًى لاَ تَخْتَلِفُ فِيهِ الأَْمَةُ عَنِ الْحُرَّةِ، وَهَذَا أَيْضًا قَوْلٌ ثَالِثٌ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالنَّخَعِيِّ (1) .
حِدَادُ الأَْمَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَسُكْنَاهَا مُدَّةَ الْعِدَّةِ:
100 - يَجِبُ عَلَى الأَْمَةِ الإِْحْدَادُ عَلَى زَوْجِهَا الْمُتَوَفَّى مُدَّةَ عِدَّتِهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّهَا مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا لَيْسَ فِيهِ إِبْطَالٌ لِحَقِّ مَوْلاَهَا، وَلَيْسَ فِي الإِْحْدَادِ إِبْطَالٌ لِحَقِّهِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا لاَ تُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ لَزِمَهَا فَاتَ حَقُّ السَّيِّدِ فِي اسْتِخْدَامِهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحِدَادُ لِلطَّلاَقِ الْبَائِنِ. وَلَكِنْ تَخْرُجُ فِي الْعِدَّةِ بِخِلاَفِ الْحُرَّةِ.
وَحَيْثُ اسْتَحَقَّتِ الأَْمَةُ الْمُزَوَّجَةُ السُّكْنَى فِي حَيَاةِ زَوْجِهَا فَإِنَّهَا تَسْتَحِقُّهَا مُدَّةَ الْعِدَّةِ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ (2) .
اللِّعَانُ:
101 - إِنْ قَذَفَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا وَأَحَدُهُمَا أَوْ
__________
(1) فتح القدير 3 / 272 - 274، والمغني 7 / 451 - 467، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 194، وروضة الطالبين 8 / 139، 371.
(2) فتح القدير 3 / 295، وشرح الأشباه للحموي 2 / 155، وروضة الطالبين 8 / 405، 409.(23/63)
كِلاَهُمَا رَقِيقٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا:
فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَنْصُوصَةِ عَنْهُ الَّتِي رَوَاهَا الْجَمَاعَةُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى صِحَّةِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الزَّوْجَةُ حُرَّةً أَوْ مَمْلُوكَةً.
وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَالْحَسَنِ، وَرَبِيعَةَ، وَإِسْحَاقَ. وَيُسْتَدَل لِهَذَا الْقَوْل بِعُمُومِ آيَاتِ اللِّعَانِ؛ وَلأَِنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ فَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ؛ وَلأَِنَّ الزَّوْجَ إِذَا كَانَ عَبْدًا يَحْتَاجُ إِلَى نَفْيِ الْوَلَدِ، فَيُشْرَعُ اللِّعَانُ طَرِيقًا لَهُ إِلَى نَفْيِ الْوَلَدِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ أَوْ كِلاَهُمَا مَمْلُوكًا فَلاَ لِعَانَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنِ الزُّهْرِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَحَمَّادٍ، قَالُوا: لأَِنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، وَالرَّقِيقُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.
وَفِي قَوْلٍ لِلْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْمَقْذُوفَةُ أَمَةً فَيَصِحُّ اللِّعَانُ لِنَفْيِ الْوَلَدِ خَاصَّةً، وَلَيْسَ لَهُ لِعَانُهَا لإِِسْقَاطِ الْقَذْفِ وَالتَّعْزِيرِ؛ لأَِنَّ الْحَدَّ لاَ يَجِبُ، وَاللِّعَانُ إِنَّمَا يُشْرَعُ لإِِسْقَاطِ حَدٍّ أَوْ نَفْيِ وَلَدٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ امْتَنَعَ اللِّعَانُ (1) .
__________
(1) المغني 7 / 392، وروضة الطالبين 8 / 332، 355، والزرقاني 4 / 187، وفتح القدير 2 / 247.(23/63)
النَّسَبُ:
102 - وَلَدُ الْحُرَّةِ مَنْسُوبٌ إِلَى زَوْجِهَا وَإِنْ كَانَ عَبْدًا إِذَا أَتَتْ بِهِ تَامًّا لأَِقَل مُدَّةِ الْحَمْل مِنْ حِينَ عَقَدَ عَلَيْهَا وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ، مَا لَمْ يَزِدْ عَنْ أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَمْل مُنْذُ فَارَقَهَا.
وَوَلَدُ الأَْمَةِ إِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ لاَحِقٌ بِزَوْجِهَا، عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْحُرَّةِ.
فَإِنْ كَانَتِ الأَْمَةُ غَيْرَ ذَاتِ زَوْجٍ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ الإِْمْكَانِ، فَإِنْ كَانَ سَيِّدُهَا وَطِئَهَا وَثَبَتَ ذَلِكَ بِاعْتِرَافِهِ، أَوْ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، فَأَتَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَطْئِهِ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ غَيْرِ اسْتِلْحَاقٍ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَلَوْ لَمْ يَسْتَلْحِقْهُ، وَلَوْ نَفَاهُ وَأَنْكَرَهُ مَا دَامَ مُقِرًّا بِالْوَطْءِ أَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ. فَإِنْ نَفَاهُ لَمْ يَنْتِفْ عَنْهُ، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ فَأَتَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنِ اسْتِبْرَائِهِ لَهَا. وَلاَ لِعَانَ بَيْنَ الأَْمَةِ وَسَيِّدِهَا، وَقِيل: لَهُ اللِّعَانُ لِلنَّفْيِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ (1) وَقَدْ صَارَتِ الأَْمَةُ بِالْوَطْءِ فِرَاشًا. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: حَصِّنُوا هَذِهِ الْوَلاَئِدَ فَلاَ يَطَأُ رَجُلٌ وَلِيدَتَهُ ثُمَّ يُنْكِرُ وَلَدَهَا إِلاَّ أَلْزَمْتُهُ إيَّاهُ وَقَال: مَا بَال
__________
(1) حديث: " الولد للفراش ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 292 - ط السلفية) من حديث عائشة.(23/64)
رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلاَئِدَهُمْ ثُمَّ يَعْزِلُونَهُنَّ، لاَ تَأْتِينِي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنَّهُ أَتَاهَا إِلاَّ أَلْحَقْتُ بِهِ وَلَدَهَا فَاعْزِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَوِ اتْرُكُوا.
ثُمَّ إِنْ أَقَرَّ بِالْوَلَدِ فَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَا إِنْ هَنِئَ بِهِ فَسَكَتَ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: لاَ تَصِيرُ الأَْمَةُ بِالْوَطْءِ فِرَاشًا، وَلاَ يَلْحَقُهُ وَلَدُهَا إِذَا تَرَكَ الاِعْتِرَافَ بِهِ أَوْ سَكَتَ مَا لَمْ يُقِرَّ بِوَلَدِهَا، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لَحِقَهُ ذَلِكَ الْوَلَدُ وَسَائِرُ أَوْلاَدِهَا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَلَوْ وَطِئَهَا فِي الْفَرْجِ فَعَزَل عَنْهَا أَوْ وَطِئَهَا دُونَ الْفَرْجِ لَمْ تَكُنْ بِذَلِكَ فِرَاشًا، وَلاَ يَلْحَقُهُ وَلَدُهَا وَقِيل: بَلَى. وَلَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ مِنْ زِنًا لَمْ يَلْحَقْهُ.
وَحَيْثُ لاَ يَلْحَقُ الْوَلَدُ سَيِّدَهَا يَكُونُ عَبْدًا لَهُ، مَا لَمْ يَكُنِ الْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ (1) .
الْحَضَانَةُ:
103 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْحَضَانَةَ لاَ تَثْبُتُ لِلرَّقِيقِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ مَنَافِعَ نَفْسِهِ، وَالْحَضَانَةُ إِنَّمَا تَحْصُل بِتِلْكَ الْمَنَافِعِ. وَلأَِنَّ الْحَضَانَةَ وِلاَيَةٌ، وَلاَ وِلاَيَةَ لِرَقِيقٍ. وَعَلَى هَذَا فَلَوْ كَانَتْ أُمُّ الطِّفْل مَمْلُوكَةً وَكَانَ وَلَدُهَا حُرًّا فَحَضَانَتُهُ لِمَنْ يَلِي الأُْمَّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَضَانَةِ إِنْ كَانَ حُرًّا، وَكَذَا إِنْ كَانَ
__________
(1) المغني 9 / 534 - 537، وفتح القدير 3 / 261، 312، 313 و6 / 257 وما بعدها، وفتح الباري 12 / 32 - 36 (ك. فرائض ب17) والزرقاني 4 / 197، 6 / 106، 113، وروضة الطالبين 8 / 440 و12 / 310 وما بعدها.(23/64)
الأَْبُ عَبْدًا فَلاَ حَضَانَةَ لَهُ. قَال صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ: فَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ جَازَ؛ لاِنْتِفَاءِ الْمَانِعِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ صُورَةً: وَهِيَ أَنْ تُسَلَّمَ أَمَةٌ لِكَافِرٍ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ، فَحَضَانَتُهُ لَهَا، لأَِنَّهَا فَارِغَةٌ إِذْ يُمْنَعُ سَيِّدُهَا مِنْ قُرْبَانِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأُْمَّ الرَّقِيقَةَ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا الْحُرِّ؛ لأَِنَّهَا أُمٌّ مُشْفِقَةٌ فَأَشْبَهَتِ الْحُرَّةَ.
قَالُوا: فَإِنْ بِيعَتِ الأَْمَةُ فَنُقِلَتْ كَانَ الأَْبُ أَحَقَّ بِهِ. لَكِنْ قَالُوا: إِنْ تَسَرَّرَ بِهَا الزَّوْجُ بَعْدَ طَلاَقِهَا تَسْقُطُ حَضَانَتُهَا، لأَِنَّهَا حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ تَتَزَوَّجُ (1) .
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا فَسَيِّدُهُ أَحَقُّ بِحَضَانَتِهِ مِنْ أُمِّهِ وَأَبِيهِ وَلَوْ كَانَا حُرَّيْنِ؛ لأَِنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ، وَصُوَرُ رِقِّهِ مَعَ حُرِّيَّةِ الأُْمِّ مُتَعَدِّدَةٌ، مِنْهَا: أَنْ يُولَدَ مِنْ رَقِيقَةٍ فَتَعْتِقُ هِيَ دُونَ وَلَدِهَا. لَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ، لِمَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا (2) .
الرَّضَاعُ:
104 - لِلأَْمَةِ إِرْضَاعُ وَلَدِهَا حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، وَيَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ تَمْكِينُهَا مِنْ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَنْ لاَ يَسْتَرْضِعَ الأَْمَةَ لِغَيْرِ وَلَدِهَا؛ لأَِنَّ فِيهِ إِضْرَارًا بِالْوَلَدِ لِلنَّقْصِ مِنْ كِفَايَتِهِ وَصَرْفِ اللَّبَنِ الْمَخْلُوقِ
__________
(1) المغني 7 / 613، والزرقاني 4 / 264، وكشاف القناع 4 / 235، والقليوبي 4 / 90.
(2) فتح القدير 3 / 317.(23/65)
لَهُ إِلَى غَيْرِهِ مَعَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، فَلاَ يَجُوزُ كَنَقْصِ الْكَبِيرِ عَنْ كِفَايَتِهِ.
فَإِنْ كَانَ فِي لَبَنِهَا فَضْلٌ عَنْ كِفَايَةِ وَلَدِهَا فَلِسَيِّدِهَا التَّصَرُّفُ فِيهِ بِإِجَارَتِهَا لِلإِْرْضَاعِ، كَمَا لَوْ مَاتَ وَلَدُهَا وَبَقِيَ لَبَنُهَا (1) .
الرَّقِيقُ وَالْوَصَايَا:
أ - وَصِيَّةُ الرَّقِيقِ:
105 - إِنْ وَصَّى الْعَبْدُ بِمَالٍ ثُمَّ مَاتَ عَلَى الرِّقِّ بَطَلَتْ وَصِيَّتُهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ مَال لَهُ بَل مَا بِيَدِهِ لِسَيِّدِهِ.
أَمَّا إِنْ أُعْتِقَ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُغَيِّرْ وَصِيَّتَهُ فَإِنَّهَا تَكُونُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ صَحِيحَةً لأَِنَّ قَوْلَهُ صَحِيحٌ وَأَهْلِيَّتَهُ تَامَّةٌ؛ وَلأَِنَّ الْوَصِيَّةَ يَصِحُّ صُدُورُهَا مِمَّنْ لاَ مَال لَهُ، كَمَا لَوْ وَصَّى، الْفَقِيرُ الَّذِي لاَ مَال لَهُ ثُمَّ اسْتَغْنَى.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ: تَكُونُ بَاطِلَةً أَيْضًا وَلَوْ أَذِنَ السَّيِّدُ؛ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ فِيهِ (2) .
ب - الْوَصِيَّةُ لِلرَّقِيقِ:
106 - إِنْ أَوْصَى السَّيِّدُ بِعِتْقِ عَبْدِهِ صَحَّتِ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 91، والزرقاني 4 / 259.
(2) المغني 6 / 103، وكشاف القناع 4 / 336، والزرقاني 8 / 175، والعناية شرح الهداية بهامش فتح القدير 8 / 434، وروضة الطالبين 6 / 98، والقليوبي على شرح المنهاج 3 / 157.(23/65)
الْوَصِيَّةُ إِجْمَاعًا، بِشَرْطِهَا، وَيَكُونُ تَدْبِيرًا (ر: تَدْبِير) وَإِنْ أَوْصَى السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ مَالِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِذَلِكَ صَحِيحَةٌ، وَتُصْرَفُ جَمِيعُهَا إِلَى عِتْقِ الْعَبْدِ، فَإِنْ خَرَجَ الْعَبْدُ مِنَ الْوَصِيَّةِ عَتَقَ وَاسْتَحَقَّ بَاقِيَهَا بَعْدَ قِيمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْوَصِيَّةِ. ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُسْتَسْعَى بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ عَلَى الرِّقِّ.
وَوَجْهُ الصِّحَّةِ: أَنَّ الْجُزْءَ الشَّائِعَ يَتَنَاوَل الْعَبْدَ لأَِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الثُّلُثِ الشَّائِعِ. وَالْوَصِيَّةُ لَهُ بِنَفْسِهِ تَصِحُّ وَيَعْتِقُ، وَمَا فَضَل يَسْتَحِقُّهُ لأَِنَّهُ يَصِيرُ حُرًّا فَيَمْلِكُ بِالْوَصِيَّةِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَال: أَعْتِقُوا عَبْدِي مِنْ ثُلُثِي وَأَعْطُوهُ مَا فَضَل مِنْهُ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ بِنِسْبَةِ ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ رَقَبَتِهِ وَمِنْ سَائِرِ التَّرِكَةِ.
وَإِنْ أَوْصَى لَهُ بِمُعَيَّنٍ كَثَوْبٍ أَوْ دَارٍ، أَوْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مَثَلاً، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ؛ لأَِنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ، فَمَا وَصَّى لَهُ بِهِ يَكُونُ مِلْكًا لَهُمْ، فَكَأَنَّهُ أَوْصَى لِلْوَرَثَةِ بِمَا يَرِثُونَهُ.
وَقَال مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: تَصِحُّ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: الْوَصِيَّةُ لِلرَّقِيقِ بَاطِلَةٌ بِكُل حَالٍ إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِعِتْقِهِ.
أَمَّا إِنْ أَوْصَى بِمَالٍ لِعَبْدِ غَيْرِهِ فَيَصِحُّ اتِّفَاقًا.(23/66)
ثُمَّ إِنْ عَتَقَ فَالْمَال لَهُ. وَإِنْ بَقِيَ عَلَى الرِّقِّ فَلِلسَّيِّدِ. وَلاَ يُشْتَرَطُ إِذْنُ السَّيِّدِ فِي الْقَبُول عِنْدَ الْجُمْهُورِ لأَِنَّهُ كَسْبٌ، كَالاِحْتِطَابِ. وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ خِلاَفِ الأَْصَحِّ: يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ سَيِّدِهِ، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ (1) .
ج - الإِْيصَاءُ إِلَى الرَّقِيقِ:
107 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الإِْيصَاءِ إِلَى الرَّقِيقِ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ الإِْيصَاءِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ عَبْدَهُ أَمْ عَبْدَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ تَصِحُّ اسْتِنَابَتُهُ فِي الْحَيَاةِ فَصَحَّ أَنْ يُوصِيَ إِلَيْهِ كَالْحُرِّ. ثُمَّ قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِعَبْدِ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ بِإِذْنِ السَّيِّدِ فِي الْقَبُول فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ التَّصَرُّفُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ إِلَى الرَّقِيقِ بِحَالٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَكُونُ وَلِيًّا عَلَى ابْنِهِ بِالنَّسَبِ فَلاَ يَكُونُ وَصِيًّا عَلَى أَوْلاَدِ غَيْرِهِ؛ وَلأَِنَّ فِي الإِْيصَاءِ إِلَيْهِ عَلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي إِثْبَاتَ الْوِلاَيَةِ لِلْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ، وَهُوَ قَلْبٌ لِلْمَشْرُوعِ.
وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ:
__________
(1) المغني 6 / 109، 110، وروضة الطالبين 6 / 101، 103 والعناية وحاشية سعدي جلبي على الهداية بهامش تكملة فتح القدير 8 / 51، والزرقاني 8 / 183.(23/66)
يَصِحُّ الإِْيصَاءُ إِلَى عَبْدِ نَفْسِهِ وَلاَ يَصِحُّ إِلَى عَبْدِ غَيْرِهِ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ الإِْيصَاءُ إِلَى الرَّقِيقِ عَلَى أَوْلاَدِ الْمُوصِي إِنْ كَانُوا صِغَارًا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ رَشِيدٌ. فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ كَبِيرٌ لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّ لِلْكَبِيرِ بَيْعَهُ أَوْ بَيْعَ نَصِيبِهِ مِنْهُ فَيَعْجِزُ عَنِ الْقِيَامِ بِالْوِصَايَةِ. أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ كَبِيرٌ فَتَصِحُّ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ مُكَلَّفًا مُسْتَبِدًّا بِالتَّصَرُّفِ، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ عَلَيْهِ وِلاَيَةٌ، فَإِنَّ الصِّغَارَ وَإِنْ كَانُوا مَالِكِينَ لَهُ لَكِنْ لَمَّا أَقَامَهُ أَبُوهُمْ مَقَامَ نَفْسِهِ صَارَ مُسْتَبِدًّا بِالتَّصَرُّفِ مِثْلَهُ بِلاَ وِلاَيَةٍ لَهُمْ عَلَيْهِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضًا: لاَ يَصِحُّ الإِْيصَاءُ إِلَى عَبْدِ الْغَيْرِ أَصْلاً، فَلَوْ أَوْصَى إِلَيْهِ ثُمَّ أُعْتِقَ لَمْ يُخْرِجْهُ الْقَاضِي عَنِ الْوِصَايَةِ. أَمَّا إِنْ لَمْ يُعْتِقْ فَيُخْرِجُهُ وَيُبَدِّلُهُ بِغَيْرِهِ.
إِرْثُ الرَّقِيقِ:
107 م - الرِّقُّ أَحَدُ مَوَانِعِ الإِْرْثِ، فَالرَّقِيقُ لاَ يَرِثُ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ، لأَِنَّهُ مَمْلُوكٌ يُورَثُ عَنْ مَالِكِهِ فَلاَ يَرِثُ، وَذَلِكَ بِالإِْجْمَاعِ إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَطَاوُوسٍ أَنَّهُ يَرِثُ، وَيَكُونُ مَا يَرِثُهُ لِسَيِّدِهِ كَسَائِرِ كَسْبِهِ، وَالْمَمْلُوكُ لاَ يُورَثُ لأَِنَّهُ
__________
(1) المغني 6 / 138، والزرقاني 8 / 200، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 177، وروضة الطالبين 6 / 311، وابن عابدين 5 / 488.(23/67)
لاَ مَال لَهُ، وَعَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ يَمْلِكُ مِلْكًا ضَعِيفًا فَإِنَّ مَالَهُ يَئُول لِسَيِّدِهِ اتِّفَاقًا (1) .
الرَّقِيقُ وَالتَّبَرُّعَاتُ:
108 - تَجُوزُ الْهِبَةُ مِنَ الرَّقِيقِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، لأَِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِحَقِّ سَيِّدِهِ، فَإِنْ أَذِنَهُ فِي الْهِبَةِ انْفَكَّ حَجْرُهُ فِيهَا. فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ لَمْ يَجُزْ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّقِيقِ أَنْ يَضْمَنَ أَحَدًا بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ وَلَوْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ إِيجَابَ مَالِكٍ فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إِذْنٍ كَالنِّكَاحِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ فِي احْتِمَالٍ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُهُ؛ لأَِنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ، وَلاَ ضَرَرَ فِيهِ عَلَى السَّيِّدِ، وَيُتَّبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ.
فَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ أَنْ يَضْمَنَ لِيَكُونَ الْقَضَاءُ مِنَ الْمَال الَّذِي بِيَدِهِ صَحَّ (2) .
قَبُول الرَّقِيقِ لِلتَّبَرُّعَاتِ:
109 - لِلرَّقِيقِ أَنْ يَقْبَل التَّبَرُّعَاتِ مِنْ هِبَةٍ أَوْ
__________
(1) المغني 6 / 266، وروضة الطالبين 6 / 30، والقليوبي 3 / 148.
(2) كشاف القناع 4 / 303، المغني 4 / 542، وروضة الطالبين 4 / 242.(23/67)
هَدِيَّةٍ أَوْ عَطِيَّةٍ وَلَوْ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ، لأَِنَّهُ تَحْصِيل مَنْفَعَةٍ كَالاِحْتِشَاشِ وَالاِصْطِيَادِ، وَتَكُونُ لِسَيِّدِهِ لاَ لَهُ.
وَلَوْ أَبَى الْعَبْدُ قَبُول الْهِبَةِ فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَجْبُرَهُ عَلَى قَبُولِهَا (1) .
الْحَجْرُ عَلَى الرَّقِيقِ:
110 - الرَّقِيقُ فِي الأَْصْل مَحْجُورٌ عَلَيْهِ شَرْعًا لِحَظِّ سَيِّدِهِ. فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ بِعَيْنِ الْمَال، أَوْ يَتَّجِرَ أَوْ يَسْتَأْجِرَ أَوْ يُؤَجِّرَ، وَلَوْ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ إِلاَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَإِنْ فَعَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ دُونَ إِذْنٍ كَانَ تَصَرُّفُهُ بَاطِلاً أَوْ مَوْقُوفًا، عَلَى الْخِلاَفِ فِي تَصَرُّفِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ. وَقِيل: يَصِحُّ الشِّرَاءُ لأَِنَّ الثَّمَنَ يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ.
وَإِذَا لَزِمَ الرَّقِيقَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِغَيْرِ رِضَا سَيِّدِهِ، كَأَنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ أَوِ اقْتَرَضَ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ يَتَّبِعُهُ الْغَرِيمُ بِهِ إِذَا عَتَقَ وَأَيْسَرَ، كَالْحُرِّ، وَكَالأَْمَةِ إِذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ كَأَرْشِ جِنَايَتِهِ، فَإِنْ شَاءَ سَيِّدُهُ فَدَاهُ، وَلاَ يَلْزَمُهُ
__________
(1) الزرقاني 3 / 218، وكشاف القناع 4 / 303.(23/68)
فِدَاؤُهُ بِمَا يَزِيدُ عَنْ قِيمَتِهِ، وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَهُ لِلدَّائِنِ عِوَضَ دَيْنِهِ (1) .
الرَّقِيقُ الْمَأْذُونُ:
111 - يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَأْذَنَ لِرَقِيقِهِ فِي التَّصَرُّفِ وَالْمُتَاجَرَةِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: بِغَيْرِ خِلاَفٍ نَعْلَمُهُ؛ لأَِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ كَانَ لِحَقِّ سَيِّدِهِ، فَجَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ بِإِذْنِهِ (2) .
ثُمَّ قَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الإِْذْنَ يَتَحَدَّدُ بِقَدْرِ مَا أَذِنَ السَّيِّدُ، وَيَنْفَكُّ عَنْهُ حَجْرُهُ بِقَدْرِ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَيَسْتَمِرُّ الْحَجْرُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، فَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِ مَالاً يَتَّجِرُ بِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيَتَّجِرَ فِيهِ، إِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ فِي ذِمَّتِهِ جَازَ. وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ نَوْعًا مِنَ الْمَال يَتَّجِرُ فِيهِ جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الاِتِّجَارُ فِي غَيْرِهِ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ، وَلاَ أَنْ يُؤَجِّرَ مَال التِّجَارَةِ كَدَوَابِّهَا، وَلاَ أَنْ يَتَوَكَّل لإِِنْسَانٍ؛ لأَِنَّ الإِْذْنَ لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ. وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَتَصَرَّفُ الرَّقِيقُ الْمَأْذُونُ بِالْوَكَالَةِ وَالنِّيَابَةِ عَنْ سَيِّدِهِ.
وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ مَال التِّجَارَةِ - وَلَوْ يَسِيرًا - مَا لَمْ يَعْلَمْ بِرِضَا سَيِّدِهِ
__________
(1) المغني 4 / 247 - 249 و5 / 77، والمنهاج وشرح المحلي بحاشية القليوبي 2 / 242، والزرقاني 5 / 302.
(2) المغني 5 / 77.(23/68)
بِذَلِكَ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي هَذَا مِثْل قَوْل الْحَنَفِيَّةِ كَمَا يَأْتِي.
قَال الْجُمْهُورُ: وَلاَ بُدَّ مِنَ الإِْذْنِ بِالْقَوْل، فَلَوْ رَأَى السَّيِّدُ عَبْدَهُ يَتَّجِرُ فَلَمْ يَنْهَهُ لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ مَأْذُونًا (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرَّقِيقَ الْمَأْذُونَ يَنْفَكُّ عَنْهُ الْحَجْرُ فِي مَا هُوَ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ.
قَالُوا: وَالإِْذْنُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، وَلَيْسَ تَوْكِيلاً أَوْ إِنَابَةً، ثُمَّ يَتَصَرَّفُ الرَّقِيقُ لِنَفْسِهِ بِمُقْتَضَى أَهْلِيَّتِهِ، فَلاَ يَتَوَقَّتُ بِوَقْتٍ وَلاَ يَتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ، فَلَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا صَارَ مَأْذُونًا مُطْلَقًا حَتَّى يُعِيدَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لأَِنَّ الإِْسْقَاطَ لاَ يَتَوَقَّتُ. وَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ عَمَّ إِذْنُهُ الأَْنْوَاعَ كُلَّهَا وَلَوْ نَهَاهُ عَنْهَا صَرِيحًا، كَأَنْ قَال: اشْتَرِ الْبَزَّ وَلاَ تَشْتَرِ غَيْرَهُ، فَتَصِحُّ مِنْهُ كُل تِجَارَةٍ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَيَثْبُتُ الإِْذْنُ لِلْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ دَلاَلَةً، فَلَوْ رَأَى السَّيِّدُ عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي مَا أَرَادَ فَسَكَتَ السَّيِّدُ صَارَ الْعَبْدُ بِذَلِكَ مَأْذُونًا، إِلاَّ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا قُصِدَ بِهِ مِنَ الإِْذْنِ الاِسْتِخْدَامُ، كَأَنْ يَطْلُبَ مِنْ عَبْدِهِ شِرَاءَ شَيْءٍ لِحَاجَتِهِ، فَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إِذْنًا فِي التِّجَارَةِ، وَبَيْنَ مَا قُصِدَ بِهِ فَكُّ الْحَجْرِ.
قَالُوا: وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ، وَيُوَكِّل
__________
(1) المغني4 / 249 و5 / 77، 78، وابن عابدين 5 / 99، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 242 وما بعدها.(23/69)
بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَيَرْهَنَ وَيَرْتَهِنَ، وَيُعِيرَ الثَّوْبَ وَالدَّابَّةَ؛ لأَِنَّهُ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ، وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ قِصَاصٍ وَجَبَ عَلَى عَبْدِهِ، وَتُقْبَل الشَّهَادَةُ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إِنْ لَمْ يَحْضُرْ مَوْلاَهُ. وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الأَْرْضَ إِجَارَةً أَوْ مُسَاقَاةً أَوْ مُزَارَعَةً، وَيُشَارِكَ عِنَانًا لاَ مُفَاوَضَةً، وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ وَيُؤَجِّرَ، وَلَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ وَيُقِرَّ بِنَحْوِ وَدِيعَةٍ أَوْ غَصْبٍ، وَيُهْدِي طَعَامًا يَسِيرًا بِمَا لاَ يُعَدُّ سَرَفًا، وَأَنْ يُضِيفَ الضِّيَافَةَ الْيَسِيرَةَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ وَلَوْ عَلَى مَالٍ، وَلاَ أَنْ يُقْرِضَ أَوْ يَهَبَ وَلَوْ بِعِوَضٍ، وَلاَ يَكْفُل بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ، وَلاَ يُصَالِحَ عَنْ قِصَاصٍ وَجَبَ عَلَيْهِ (1) . وَفِي الْهِدَايَةِ: لاَ بَأْسَ بِقَبُول هَدِيَّةِ الْعَبْدِ التَّاجِرِ وَإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ وَاسْتِعَارَةِ دَابَّتِهِ بِخِلاَفِ هَدِيَّتِهِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ بُطْلاَنُهُ لأَِنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِل هَدِيَّةَ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَانَ عَبْدًا (2) ، وَقَبِل هَدِيَّةَ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (3) . وَأَجَابَ بَعْضُ
__________
(1) الدر المختار وابن عابدين 5 / 99 - 104.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية سلمان رضي الله عنه " أخرجه أحمد (5 / 443 - ط الميمنية) من حديث سلمان، وقال الهيثمي في المجمع (9 / 336 - ط القدسي) : " رجاله رجال الصحيح غير محمد بن إسحاق وقد صرح بالسماع ".
(3) حديث: " قبوله هدية بريرة ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 410 - ط السلفية) من حديث عائشة.(23/69)
الصَّحَابَةِ دَعْوَةَ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ وَكَانَ عَبْدًا؛ وَلأَِنَّ فِي هَذِهِ الأَْشْيَاءِ ضَرُورَةً لاَ يَجِدُ التَّاجِرُ مِنْهَا بُدًّا، بِخِلاَفِ نَحْوِ الْكِسْوَةِ وَإِهْدَاءِ الدَّنَانِيرِ فَلاَ ضَرُورَةَ فِيهَا (1) .
وَقَوْل الْمَالِكِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ السَّيِّدَ إِنْ أَذِنَ لِلْعَبْدِ فِي نَوْعٍ مِنَ التِّجَارَةِ، كَالْبُرِّ مَثَلاً كَانَ كَوَكِيلٍ مُفَوَّضٍ فِيمَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ بَاقِي الأَْنْوَاعِ لأَِنَّهُ أَقْعَدَهُ لِلنَّاسِ وَلاَ يَدْرُونَ لأَِيِّ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ أَقْعَدَهُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَسُوغُ لَهُ الإِْقْدَامُ عَلَى غَيْرِ مَا عَيَّنَهُ لَهُ. فَإِنْ صَرَّحَ لَهُ بِمَنْعِهِ مِنْ غَيْرِ النَّوْعِ مُنِعَ مِنْهُ أَيْضًا، ثُمَّ إِنْ أَشْهَرَ الْمَنْعَ رَدَّ مَا أَجْرَاهُ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيمَا أَشْهَرَهُ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِرْهُ مَضَى وَلَمْ يَرُدَّ.
قَالُوا: وَكَمَا يَحْصُل الإِْذْنُ بِقَوْلِهِ: أَذِنْتُكَ " وَيَكُونُ إِذْنًا لَهُ مُطْلَقًا، كَذَلِكَ يَحْصُل بِالإِْذْنِ الْحُكْمِيِّ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى لَهُ بِضَاعَةً وَوَضَعَهَا بِحَانُوتٍ وَأَقْعَدَهُ فِيهِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.
قَالُوا: وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يَضَعَ مِنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَى شَخْصٍ، أَوْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ الْحَال إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ إِنْ لَمْ تَكْثُرِ الْوَضِيعَةُ، وَلَهُ أَنْ يُضِيفَ الضَّيْفَ لِلاِسْتِئْلاَفِ عَلَى التِّجَارَةِ، وَلَهُ نَحْوُ الضِّيَافَةِ كَالْعَقِيقَةِ لِوَلَدِهِ إِنِ اتَّسَعَ الْمَال وَلَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ سَيِّدُهُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ غَيْرِهِ مَالاً مُضَارَبَةً لِيَعْمَل فِيهِ لأَِنَّهُ مِنَ التِّجَارَةِ، وَلَهُ أَنْ يَتَسَرَّى
__________
(1) الهداية وشروحها 8 / 132.(23/70)