مَنْ قَامَ مَقَامَهُ، كَالْوَكِيل، أَوِ الْوَارِثِ، أَوِ الْوَصِيِّ.
9 - وَفِي دَعْوَى الْحَقِّ، كَحَقِّ الْحَضَانَةِ وَالرَّضَاعِ، الْخَصْمُ هُوَ كُل شَخْصٍ لَهُ شَأْنٌ فِي الدَّعْوَى، وَهُوَ الَّذِي يُنَازِعُ الْمُدَّعِيَ فِي ذَلِكَ الْحَقِّ، وَيَمْنَعُهُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِهِ.
دَعْوَى الْحِسْبَةِ: (1)
43 - الدَّعْوَى هِيَ طَلَبُ شَخْصٍ حَقَّهُ مِنْ آخَرَ فِي حُضُورِ الْحَاكِمِ كَمَا سَبَقَ، فَهِيَ أَصْلاً تَحْتَاجُ إِلَى طَالِبٍ (الْمُدَّعِي) وَمَطْلُوبٍ (الْمُدَّعَى) وَمَطْلُوبٍ مِنْهُ (الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) .
وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعَى مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَلاَ تَتَحَقَّقُ الدَّعْوَى بِغَيْرِ الطَّلَبِ مِنْ مُدَّعٍ مُعَيَّنٍ كَمَا هُوَ الأَْصْل. أَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْحُدُودِ وَالتَّعَدِّي عَلَى مَا يَرْجِعُ مَنَافِعُهُ لِلْعَامَّةِ، فَلاَ تَحْتَاجُ إِلَى مُدَّعٍ خَاصٍّ، وَتُقْبَل فِيهَا شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ. (أَيْ: لِلأَْجْرِ لاَ لإِِجَابَةِ مُدَّعٍ) مَعَ مُرَاعَاةِ طُرُقِ الإِْثْبَاتِ الْخَاصَّةِ بِهَا حَسَبَ تَنَوُّعِ مَوْضُوعَاتِهَا.
__________
(1) الحسبة: هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله، فهي وظيفة دينية وحق ثابت لكل مسلم وللمحتسب، إلا أنه متعين على المحتسب بحكم الولاية، أما على غيره فداخل في فروض الكفاية (الأحكام السلطانية للماوردي ص 240) وللمقارنة بين الحسبة والقضا(20/296)
فَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَجَلَّةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ سَبْقُ الدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ بِحُقُوقِ النَّاسِ.
قَال الأَْتَاسِيُّ: لأَِنَّ ثُبُوتَ حُقُوقِهِمْ يَتَوَقَّفُ عَلَى مُطَالَبَتِهِمْ، وَلَوْ بِالتَّوْكِيل. بِخِلاَفِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا الدَّعْوَى، لأَِنَّ إِقَامَةَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبَةٌ عَلَى كُل أَحَدٍ، فَكُل أَحَدٍ خَصْمٌ فِي إِثْبَاتِهَا، فَصَارَ كَأَنَّ الدَّعْوَى مَوْجُودَةٌ.
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَال: يَنْتَصِبُ أَحَدُ الْعَامَّةِ خَصْمًا عَنِ الْبَاقِينَ مِنَ الْعَامَّةِ فِي الْمَحَال الَّتِي مَنْفَعَتُهَا عَائِدَةٌ إِلَى الْعُمُومِ. ثُمَّ قَال نَقْلاً عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: بَنَى حَائِطًا عَلَى الْفُرَاتِ وَاتَّخَذَ عَلَيْهِ رَحًى، أَوْ بَنَى فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ، فَخَاصَمَهُ أَحَدٌ يُقْضَى عَلَيْهِ بِهَدْمِهِ. (1)
وَذَكَرَ فِي الدُّرِّ فِي بَحْثِ الشَّهَادَةِ: وَالَّذِي تُقْبَل فِيهِ الشَّهَادَةُ حِسْبَةً بِدُونِ الدَّعْوَى أَرْبَعَةَ عَشْرَ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: هِيَ الْوَقْفُ لِلْفُقَرَاءِ أَوْ لِلْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِ (أَيْ لِلْعَامَّةِ) ، وَطَلاَقُ الزَّوْجَةِ، وَتَعْلِيقُ طَلاَقِهَا، وَحُرِّيَّةُ الأَْمَةِ وَتَدْبِيرُهَا، وَالْخُلْعُ، وَهِلاَل رَمَضَانَ، وَالنَّسَبُ، وَحَدُّ الزِّنَى، وَحَدُّ الشُّرْبِ، وَالإِْيلاَءُ، وَالظِّهَارُ، وَحُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، وَدَعْوَى الْمَوْلَى نَسَبَ الْعَبْدِ، وَالشَّهَادَةُ بِالرَّضَاعِ.
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م 1696، وشرحها للأتاسي 5 / 248، وانظر درر الحكام 4 / 344(20/297)
ثُمَّ قَال: وَلاَ يَخْفَى أَنَّ شَاهِدَ الْحِسْبَةِ لاَ بُدَّ أَنْ يَدَّعِيَ مَا يَشْهَدُ بِهِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ مُدَّعٍ آخَرُ. وَعَلَى هَذَا فَكُل مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الشَّهَادَةُ حِسْبَةً يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تُقْبَل فِيهِ الدَّعْوَى حِسْبَةً.
ثُمَّ عَلَّقَ عَلَى كَلاَمِ الدُّرِّ نَقْلاً عَنِ الأَْشْبَاهِ: وَلَيْسَ لَنَا مُدَّعٍ حِسْبَةً إِلاَّ فِي دَعْوَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، فَقَال: مُرَادُهُ أَنَّهُ لاَ يُسَمَّى مُدَّعِيًا، أَوْ أَنَّ مُدَّعِيَ الْحِسْبَةَ لاَ يَحْلِفُ لَهُ الْخَصْمُ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الشَّهَادَةِ. (1)
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِي بَحْثِ الشَّهَادَةِ (2) أَنَّهُ تَجِبُ الْمُبَادَرَةُ فِي حَقِّ اللَّهِ بِالرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ إِنِ اسْتُدِيمَ ارْتِكَابُ التَّحْرِيمِ عِنْدَ عَدَمِ الرَّفْعِ، كَعِتْقٍ لِرَقِيقٍ، مَعَ كَوْنِ السَّيِّدِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ مِنِ اسْتِخْدَامٍ وَبَيْعٍ وَوَطْءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَطَلاَقٍ لِزَوْجَةٍ مَعَ كَوْنِ الْمُطَلِّقِ لَمْ يَنْكَفَّ عَنْهَا فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِالرَّفْعِ، وَكَوَقْفٍ عَلَى مُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَسْجِدًا أَوْ رِبَاطًا أَوْ مَدْرَسَةً، وَوَاضِعُ الْيَدِ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ، فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِالرَّفْعِ لِرَدِّهِ إِلَى أَصْلِهِ. وَكَرَضَاعٍ بَيْنَ زَوْجَيْنِ. وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمِ ارْتِكَابَ التَّحْرِيمِ بِأَنْ كَانَ التَّحْرِيمُ يَنْقَضِي بِالْفَرَاغِ مِنْ مُتَعَلَّقِهِ كَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ، خُيِّرَ فِي الرَّفْعِ وَعَدَمِهِ، وَالتَّرْكُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنَ السَّتْرِ الْمَطْلُوبِ فِي غَيْرِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 402 - 403 بتصرف يسير.
(2) الشرح الصغير للدردير 4 / 247 - 249(20/297)
الْمُجَاهِرِ، وَإِلاَّ فَالرَّفْعُ أَوْلَى. (1)
وَمِثْلُهُ مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: وَتُقْبَل شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّلاَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، بِأَنْ يَشْهَدَ بِتَرْكِهَا، وَفِيمَا لَهُ حَقٌّ مُؤَكَّدٌ، كَطَلاَقٍ، وَعِتْقٍ، وَعَفْوٍ عَنْ قِصَاصٍ، وَبَقَاءِ عِدَّةٍ وَانْقِضَائِهَا، بِأَنْ يَشْهَدَ بِمَا ذُكِرَ لِيَمْنَعَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ فِي حَدٍّ لِلَّهِ تَعَالَى، بِأَنْ يَشْهَدَ بِمُوجَبِهِ، كَحَدِّ الزِّنَى، وَالسَّرِقَةِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ.
وَالأَْفْضَل فِيهِ السَّتْرُ إِذَا رَأَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ، وَكَذَا النَّسَبُ عَلَى الصَّحِيحِ. كَمَا ذَكَرُوا مِنْهَا الرَّضَاعَ.
قَال الشِّرْبِينِيُّ: تُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ أُمِّ الزَّوْجَةِ وَبِنْتِهَا مَعَ غَيْرِهِمَا حِسْبَةً بِلاَ تَقَدُّمِ دَعْوَى، لأَِنَّ الرَّضَاعَ تُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَبُوهَا وَابْنُهَا، أَوِ ابْنَاهَا بِطَلاَقِهَا مِنْ زَوْجِهَا حِسْبَةً. (2)
وَقَال فِي مَحَلٍّ آخَرَ: وَمَا تُقْبَل فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ هَل تُسْمَعُ فِيهِ دَعْوَاهَا؟ وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا: " تُسْمَعُ، لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لِلْمُدَّعِي فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا تُسْمَعُ فِي غَيْرِ حُدُودِ اللَّهِ ". (3)
__________
(1) الشرح الصغير للدردير 4 / 247 - 249، وجواهر الإكليل 2 / 236
(2) المحلي وحاشية القليوبي وعميرة عليه 4 / 322، 323، ومغني المحتاج 3 / 424، 4 / 437
(3) مغني المحتاج 4 / 437(20/298)
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا فِي بَابِ الشَّهَادَةِ أَنَّهَا تُقْبَل فِي حُقُوقِ اللَّهِ الْخَالِصَةِ حِسْبَةً، كَمَا تُقْبَل فِيمَا كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَلاَ تَفْتَقِرُ إِلَى تَقَدُّمِ الدَّعْوَى.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الْحُقُوقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
44 - أَحَدُهُمَا: حَقٌّ لآِدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، كَالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ، وَالْعُقُوبَاتِ كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ، وَالْوَقْفِ عَلَى آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، فَلاَ تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ فِيهِ إِلاَّ بَعْدَ الدَّعْوَى، لأَِنَّ الشَّهَادَةَ فِيهِ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ، فَلاَ تُسْتَوْفَى إِلاَّ بَعْدَ مُطَالَبَتِهِ وَإِذْنِهِ، وَلأَِنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى الدَّعْوَى وَدَلِيلٌ لَهَا فَلاَ يَجُوزُ تَقَدُّمُهَا عَلَيْهَا.
45 - الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، أَوْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ عَلَى مَسْجِدٍ، أَوْ سِقَايَةٍ، أَوْ مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ، أَوِ الْوَصِيَّةِ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَنَحْوِ هَذَا، أَوْ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ الْكَفَّارَةِ، فَلاَ تَفْتَقِرُ الشَّهَادَةُ بِهِ إِلَى تَقَدُّمِ الدَّعْوَى، لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ مِنَ الآْدَمِيِّينَ يَدَّعِيهِ وَيُطَالِبُ بِهِ. وَلِذَلِكَ شَهِدَ أَبُو بَكْرَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْمُغِيرَةِ، وَشَهِدَ الْجَارُودُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَشَهِدَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى فَأُجِيزَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي(20/298)
ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ قَبُولٌ مِنْ أَحَدٍ وَلاَ رِضًى مِنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ أَحَدِ الْغَرِيمَيْنِ كَتَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ بِالطَّلاَقِ، أَوِ الظِّهَارِ، أَوْ إِعْتَاقِ الرَّقِيقِ، تَجُوزُ الْحِسْبَةُ بِهِ وَلاَ تُعْتَبَرُ فِيهِ دَعْوَى. (1)
هَذَا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ كُل مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الشَّهَادَةُ حِسْبَةً يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تُقْبَل فِيهِ الدَّعْوَى حِسْبَةً. (2)
ثَالِثًا: شُرُوطُ الْمُدَّعَى بِهِ:
46 - الشَّرْطُ الأَْوَّل - يُشْتَرَطُ فِي الْمُدَّعَى بِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا (3) ، وَالْمُرَادُ بِعِلْمِ الْمُدَّعَى بِهِ تَصَوُّرُهُ، أَيْ تَمَيُّزُهُ فِي ذِهْنِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْقَاضِي. (4) وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالدَّعْوَى هُوَ إِصْدَارُ الْحُكْمِ فِيهَا، وَالْمَقْصُودُ بِالْحُكْمِ فَصْل الْخُصُومَةِ بِإِلْزَامِ الْمَحْقُوقِ بِرَدِّ الْحَقِّ إِلَى صَاحِبِهِ، وَلاَ إِلْزَامَ مَعَ الْجَهَالَةِ.
وَبِنَاءً عَلَيْهِ لاَ يَصِحُّ الْحُكْمُ بِمَا لاَ إِلْزَامَ فِيهِ، وَهَكَذَا لاَ يَتَحَصَّل مَقْصُودُ الدَّعْوَى بِدُونِ الْعِلْمِ
__________
(1) المغني 9 / 215 - 216
(2) ابن عابدين 3 / 403
(3) بدائع الصنائع 6 / 222، حاشية الشلبي 4 / 292، تهذيب الفروق 4 / 114، 117، حاشية الدسوقي 4 / 292، المهذب 2 / 311، المغني 9 / 84، نيل المآرب بشرح دليل الطالب 2 / 143، كشاف القناع 6 / 277 طبع 1367 هـ
(4) تهذيب الفروق 4 / 114، حاشية العدوي على الخرشي 7 / 154، حاشية الدسوقي 4 / 144.(20/299)
فَوَجَبَ اشْتِرَاطُهُ لِصِحَّتِهَا. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ صِحَّةَ الشَّهَادَةِ مَرْهُونَةٌ بِمُطَابِقَتِهَا لِلدَّعْوَى، فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى مَجْهُولَةَ الْمُدَّعَى بِهِ لَمْ تَصِحَّ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا، لأَِنَّهَا لاَ تَصِحُّ عَلَى الْمَجْهُول، فَتَكُونُ الدَّعْوَى مَرْفُوضَةً لِعَدَمِ إِمْكَانِ إِثْبَاتِهَا. (1)
حُدُودُ هَذَا الشَّرْطِ:
47 - لِلْمُدَّعَى بِهِ جَوَانِبُ مُتَعَدِّدَةٌ: فَهُنَاكَ ذَاتُ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى، وَهَذَا يَخْتَلِفُ حُدُودُهُ حَسَبَ الأَْحْوَال، فَيُفْصَل فِيهِ بَيْنَ مَا يَكُونُ عَيْنًا وَمَا يَكُونُ دَيْنًا، وَالأَْوَّل يُفْصَل فِيهِ بَيْنَ مَا هُوَ عَقَارٌ وَمَا هُوَ مَنْقُولٌ. كَمَا أَنَّ الدَّعَاوَى الأُْخْرَى الَّتِي يُطْلَبُ بِهَا غَيْرُ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ، كَدَعْوَى النَّسَبِ لَهَا قَوَاعِدُ تَخْتَلِفُ فِي تَحْدِيدِ الْمُدَّعَى بِهِ. وَهُنَاكَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْمُدَّعَى بِهِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَاقِعَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا الْمُدَّعِي فِي اسْتِحْقَاقِ مَا يَدَّعِيهِ، وَهُنَاكَ أَيْضًا شُرُوطُ هَذَا السَّبَبِ، وَقَدْ وَضَعَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ قَاعِدَةً عَامَّةً فِي كَيْفِيَّةِ الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ، فَقَالُوا: (إِنَّمَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى جَهَالَةٌ تَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَاءِ الْمَحْكُومِ بِهِ، وَتَوْجِيهِ الْمُطَالَبَةِ نَحْوَهُ، حَيْثُ يَكُونُ الْمُدَّعَى بِهِ مَجْهُولاً يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَوْ ذَاكَ، أَمَّا إِذَا سَلِمَ الْمُدَّعَى بِهِ مِنْ هَذَا، وَكَانَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 222، حاشية الشلبي 4 / 292، نيل المآرب 2 / 143(20/299)
مَحْصُورًا بِمَا يُضْبَطُ بِهِ فَلاَ) (1) وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل هَذَا الشَّرْطِ حَسَبَ أَنْوَاعِ الدَّعَاوَى الْمُخْتَلِفَةِ:
كَيْفِيَّةُ الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ فِي دَعَاوَى الْعَيْنِ:
الْمُدَّعَى بِهِ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقَارًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولاً، وَلِكُلٍّ طَرِيقَةٌ خَاصَّةٌ فِي التَّعْرِيفِ بِهِ:
48 - فِي دَعْوَى الْعَقَارِ: يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى ذِكْرُ مَا يُمَيِّزُ الْعَقَارَ الْمُدَّعَى عَنْ غَيْرِهِ، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِذِكْرِ حُدُودِهِ، وَنَاحِيَتِهِ مِنَ الْبَلَدِ الْمَوْجُودِ فِيهَا. (2)
لَكِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ اشْتَرَطُوا تَخْصِيصَهُ بِقُيُودٍ أَكْثَرَ مِنْ تِلْكَ، فَاشْتَرَطُوا ذِكْرَ الْمَحَلَّةِ وَالسِّكَّةِ الَّتِي يَنْتَمِي إِلَيْهَا ذَلِكَ الْعَقَارُ، مَعَ ذِكْرِ جِهَةِ الْبَابِ الَّتِي يُفْتَحُ عَلَيْهَا.
هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا، وَأَمَّا فِي الْعَقَارِ الْمَشْهُورِ فَلاَ يُشْتَرَطُ لِتَحْدِيدِهِ غَيْرُ ذِكْرِ اسْمِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالصَّاحِبَيْنِ. (3)
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْحُدُودِ فِي
__________
(1) أدب القضاء - الغزي ق 3 أ.
(2) بدائع الصنائع 6 / 222، تنوير الأبصار 1 / 391، تبصرة الحكام 1 / 105 طبع 1301 هـ. إعانة الطالبين 4 / 241، المغني 9 / 85، كشاف القناع 6 / 278 طبع 1367 هـ.
(3) تنوير الأبصار مع قرة عيون الأخيار 1 / 391، المنهاج مع شرح المحلي 4 / 311، فتح المعين وإعانة الطالبين 4 / 243، كشاف القناع 6 / 278 طبع 1367 هـ.(20/300)
تَعْرِيفِ الْعَقَارِ سَوَاءٌ أَكَانَ مَشْهُورًا أَمْ غَيْرَ مَشْهُورٍ. (1)
وَيُشْتَرَطُ فِي تَعْرِيفِ الْحُدُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يُذْكَرَ أَسْمَاءُ أَصْحَابِهَا وَأَنْسَابُهُمْ إِلاَّ الْمَشْهُورِينَ مِنْهُمْ، فَيُكْتَفَى بِأَسْمَائِهِمْ، وَيُكْتَفَى عِنْدَهُمْ بِذِكْرِ ثَلاَثَةِ حُدُودٍ لِلْعَقَارِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ الدَّعْوَى بِذِكْرِ ثَلاَثَةِ حُدُودٍ بِأَنَّ لِلأَْكْثَرِ حُكْمَ الْكُل غَالِبًا، وَاشْتَرَطَ زُفَرُ أَنْ تُذْكَرَ جَمِيعُ الْحُدُودِ، (2) وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الاِكْتِفَاءُ بِالْحَدَّيْنِ وَالْحَدِّ الْوَاحِدِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْخَطَأَ فِي ذِكْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْحُدُودِ الأَْرْبَعَةِ يَجْعَل الدَّعْوَى غَيْرَ مَقْبُولَةٍ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ الشَّكَّ فِي مَعْرِفَةِ الْمُدَّعِي لِمَا يَدَّعِيهِ، وَلِعَدَمِ انْطِبَاقِ الدَّعْوَى عَلَى مَحَل النِّزَاعِ، وَلاَ يُقَاسُ عَلَى حَالَةِ الاِبْتِدَاءِ. (3)
وَأَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدِ اشْتَرَطُوا ذِكْرَ جَمِيعِ الْحُدُودِ لأَِنَّ التَّعْرِيفَ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِذِكْرِ الْحُدُودِ الأَْرْبَعَةِ، وَأَضَافَ عُلَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ قَدْ يُكْتَفَى بِثَلاَثَةٍ وَأَقَل مِنْهَا إِذَا عُرِفَ الْعَقَارُ بِهَا. وَقَالُوا: إِنَّ الْمَعْرِفَةَ فِي الْعَقَارِ لاَ تَتَقَيَّدُ بِالْحُدُودِ الأَْرْبَعَةِ، فَقَدْ
__________
(1) تنوير الأبصار والدر المختار مع قرة عيون الأخيار 1 / 391
(2) تنوير الأبصار والدر المختار وقرة عيون الأخيار 1 / 300، 391، 392، وتبصرة الحكام 1 / 105، ونهاية المحتاج 8 / 111، وفتح المعين وإعانة الطالبين، والمنهاج والمحلي وحاشية قليوبي وحاشية عميرة 4 / 311، وكشاف القناع 6 / 278.
(3) قرة عيون الأخيار 1 / 392.(20/300)
يُعْرَفُ بِالشُّهْرَةِ الْعَامَّةِ فَلاَ تَحْتَاجُ لِذِكْرِ حَدٍّ وَلاَ غَيْرِهِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ دَعْوَى الْعَقَارِ ذِكْرُ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ.
وَذَهَبَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِي الْبِلاَدِ الَّتِي لَمْ يَقْدُمْ بِنَاؤُهَا، أَيْ حَدِيثَةُ الْعَهْدِ فِي تَأْسِيسِهَا، فَلاَ يُسْأَل فِيهَا عَنْ سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ، لاِحْتِمَال أَنَّ الْمُدَّعِيَ تَمَلَّكَهُ بِسَبَبِ الْخُطَّةِ، أَيْ: أَنَّهُ يَمْلِكُهُ مِنَ الأَْصْل، وَلَمْ يَنْتَقِل إِلَى مِلْكِهِ بِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ النَّاقِلَةِ لِلْمِلْكِيَّةِ كَالْبَيْعِ، وَذَلِكَ لِقُرْبِ عَهْدِ تَأْسِيسِهِ، وَأَمَّا دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِي الْبِلاَدِ الَّتِي قَدُمَ بِنَاؤُهَا، وَطَال الْعَهْدُ عَلَى تَأْسِيسِهَا فَلاَ تَصِحُّ، وَذَلِكَ لأَِنَّ قِدَمَ الْبِنَاءِ قَرِينَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِيهِ بِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ النَّاقِلَةِ لِلْمِلْكِيَّةِ، لاِسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ تَمَلَّكَهُ بِسَبَبِ الْخُطَّةِ لِبُعْدِ عَهْدِهَا، فَلاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ السَّبَبِ، إِذْ لاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْمِلْكِ بِسَبَبٍ مَجْهُولٍ، وَمَا دَامَ حُدُوثُ السَّبَبِ مُتَيَقَّنًا، فَيُحْتَمَل أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُدَّعِي بَاطِلٌ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِلْكٌ. (1)
وَصَرَّحَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ بِوُجُوبِ ذِكْرِ سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ، وَلَمْ يُمَيِّزُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ دَعْوَى الْعَقَارِ وَغَيْرِهَا. (2) بَل رَأَى بَعْضُ عُلَمَائِهِمْ أَنَّ
__________
(1) البحر الرائق 7 / 201
(2) تبصرة الحكام 1 / 130 - 131، الخرشي 7 / 154.(20/301)
الْقَاضِيَ إِنْ لَمْ يَسْأَل عَنْهُ وَقَبِل الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ كَانَ كَالْخَابِطِ خَبْطَ عَشْوَاءَ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ يَكُونُ فَاسِدًا، فَلاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ لِيُعْرَفَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَوِ ادَّعَى الْمُدَّعِي نِسْيَانَ السَّبَبِ لَمْ يُكَلَّفْ بِبَيَانِهِ (1) .
فِي دَعْوَى الْمَنْقُول:
49 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا الْمُدَّعَى بِهِ الْمَنْقُول:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَنْقُول الْقَائِمِ وَالْهَالِكِ، وَبَيْنَ الْمَنْقُول الْغَائِبِ عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَالْحَاضِرِ فِيهِ:
فَأَمَّا الْمَنْقُول الْقَائِمُ الْحَاضِرُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَيُعْلَمُ بِالإِْشَارَةِ إِلَيْهِ لأَِنَّ هَذِهِ الْوَسِيلَةَ مُمْكِنَةٌ فِي هَذِهِ الْحَال، فَلاَ يُصَارُ إِلَى أَقَلٍّ مِنْهَا.
فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْعَيْنُ الْمَنْقُولَةُ حَاضِرَةً فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي: فَإِنْ كَانَ إِحْضَارُهَا إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ مُيَسَّرًا بِحَيْثُ لاَ يُكَلِّفُ نَفَقَةً، طُلِبَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِحْضَارُهَا لِيُشَارَ إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ إِحْضَارُهَا يُكَلِّفُ نَفَقَةً، فَيَذْهَبُ الْقَاضِي أَوْ أَمِينُهُ إِلَى مَكَانِ وُجُودِهَا لِيُشَارَ إِلَيْهَا.
وَأَمَّا الْمَنْقُول الْهَالِكُ فَيُعْرَفُ بِذِكْرِ الْقِيمَةِ فَقَطْ، لأَِنَّ عَيْنَ الْمُدَّعَى بِهِ تَعَذَّرَ مُشَاهَدَتُهَا،
__________
(1) التاج والإكليل 6 / 124، تهذيب الفروق 4 / 115، تبصرة الحكام 1 / 130 - 131، العقد المنظم للحكام 2 / 198.(20/301)
وَلاَ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا بِالْوَصْفِ، إِذِ الْعَيْنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ تُعْرَفُ بِالْوَصْفِ، فَاشْتُرِطَ بَيَانُ الْقِيمَةِ، حَيْثُ تُعْرَفُ بِهَا الْعَيْنُ الْهَالِكَةُ. وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْقُول الْقِيَمِيِّ، وَأَمَّا الْمِثْلِيُّ فَإِنَّ دَعْوَاهُ تُعْتَبَرُ دَعْوَى دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ، فَيُشْتَرَطُ فِي تَعْرِيفِهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الدَّيْنِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ قَرِيبًا. (1)
وَأَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَلَمْ يَقْصِرُوا طَرِيقَةَ الْعِلْمِ بِالْمَنْقُول عَلَى الإِْشَارَةِ إِلَيْهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، أَوْ كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَمَّا إِذَا كَانَ غَائِبًا: فَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَجَبَ عَلَى الْمُدَّعِي ذِكْرُ وَصْفِهِ الْمَشْرُوطِ فِي عَقْدِ السَّلَمِ. وَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا: فَإِنْ كَانَ مُنْضَبِطًا بِالْوَصْفِ، فَيَجِبُ وَصْفُهُ بِمَا يَنْضَبِطُ بِهِ، وَإِلاَّ فَيَجِبُ ذِكْرُ قِيمَتِهِ. (2)
وَأَصْل الْخِلاَفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ الأَْعْيَانَ الْقِيَمِيَّةَ، هَل تَنْضَبِطُ بِالْوَصْفِ أَوْ لاَ تَنْضَبِطُ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقِيَمِيَّ
__________
(1) الهداية مع فتح القدير والتكملة 6 / 142 - 143، تنوير الأبصار والدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 544، جامع الفصولين 1 / 70، الفتاوى الهندية 4 / 3، 5، 6
(2) أدب القضاء لابن أبي الدم ق 26 أ، المحرر في الفقه 2 / 206، كشف المخدرات ص 511، منتهى الإرادات القسم الثاني ص 592 - 593، الروض الندي ص513، نيل المآرب 2 / 143، تبصرة الحكام 1 / 131، تهذيب الفروق 4 / 114، المنهاج وشرح المحلي 4 / 336، المغني 9 / 84 - 85، نهاية المحتاج 8 / 162، كشاف القناع 4 / 204(20/302)
لاَ يَنْضَبِطُ بِالْوَصْفِ، لأَِنَّ الْعَيْنَ قَدْ تَشْتَرِكُ مَعَ عَيْنٍ أُخْرَى فِي الْوَصْفِ وَالْحِلْيَةِ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ قَالُوا: لاَ بُدَّ مِنَ الإِْشَارَةِ فِي تَعْرِيفِ الْقِيَمِيِّ، لأَِنَّ الشَّكَّ لاَ يَنْقَطِعُ إِلاَّ بِهَا. (1)
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَْعْيَانِ الْقِيَمِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ تَنْضَبِطَ بِالْوَصْفِ.
وَبِنَاءً عَلَيْهِ ذَهَبُوا إِلَى الاِكْتِفَاءِ بِوَصْفِ مِثْل هَذِهِ الأَْعْيَانِ فِي الدَّعْوَى، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا إِحْضَارَهَا لِيُشَارَ إِلَيْهَا.
الْعِلْمُ بِسَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الْمَنْقُول:
50 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ ذِكْرِ سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الْمَنْقُول عَلَى الآْرَاءِ التَّالِيَةِ: (2)
أ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ دَعْوَى الْمِثْلِيِّ وَدَعْوَى الْقِيَمِيِّ: فَاشْتَرَطُوا ذِكْرَ سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ فِي الأُْولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وَذَلِكَ لاِخْتِلاَفِ أَحْكَامِ الأَْسْبَابِ الْمُرَتِّبَةِ لِلدُّيُونِ فِي الذِّمَمِ، وَلأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَمِ مِنَ الدُّيُونِ، فَلاَ بُدَّ لِصِحَّةِ دَعْوَى اشْتِغَالِهَا مِنْ بَيَانِ سَبَبِ هَذَا الاِشْتِغَال. (3)
__________
(1) حاشية الشلبي 4 / 293
(2) الوجيز وفتح العزيز 9 / 267 وما بعدها، تحفة الطلاب مع حاشية الشرقاوي 2 / 24
(3) البحر الرائق 7 / 195، تنوير الأبصار والدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 547(20/302)
ب - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ ذِكْرِ السَّبَبِ فِي دَعَاوَى الْعَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِثْلِيَّةً أَمْ قِيَمِيَّةً، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْأَل الْمُدَّعِيَ عَنْ سَبَبِ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْمُدَّعَى بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْطَنْ لِذَلِكَ كَانَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يُوَجِّهَ هَذَا السُّؤَال، فَإِنِ امْتَنَعَ الْمُدَّعِي عَنْ ذِكْرِهِ لَمْ يُكَلَّفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ عَنِ الدَّعْوَى، وَبِذَلِكَ لاَ تُنْتِجُ أَثَرَهَا، وَهُوَ وُجُوبُ الْجَوَابِ عَلَى الْخَصْمِ. (1) وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ يَكُونُ مُعْتَمِدًا فِي دَعْوَاهُ عَلَى سَبَبٍ فَاسِدٍ، كَأَنْ يَكُونَ ثَمَنَ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ، فَإِنَّ كُل هَذَا وَنَحْوَهُ لاَ يَصْلُحُ سَبَبًا لاِسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ مِنَ الأَْشْيَاءِ. (2)
ج - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذِكْرِ سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الْمَنْقُول، سَوَاءٌ أَكَانَ قِيَمِيًّا أَمْ مِثْلِيًّا، لِتَعَدُّدِ الأَْسْبَابِ وَكَثْرَتِهَا، وَفِي إِيجَابِ ذِكْرِهَا عَلَى الْمُدَّعِي حَرَجٌ كَبِيرٌ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ ضَيَاعُ حُقُوقِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَوَجَبَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ. (3)
وَفِي الأَْشْيَاءِ الَّتِي مِنْهَا ذُكُورٌ وَمِنْهَا إِنَاثٌ لاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِ صِفَةِ الأُْنُوثَةِ أَوِ الذُّكُورَةِ فِي
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 130 - 131، التاج والإكليل 6 / 124، الخرشي 7 / 154، تهذيب الفروق 4 / 114 - 115
(2) العقد المنظم للحكام 2 / 198
(3) المهذب 2 / 311، الحاوي الكبير ج 13 ق 43 ل، 49 أ، منتهى الإرادات - القسم الثاني ص 592، شرح المنتهى 4 / 276 - 277، كشاف القناع 4 / 204(20/303)
الدَّعْوَى (1) .
كَيْفِيَّةُ الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ:
51 - إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ نَقْدًا، فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِبَيَانِ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَوَصْفِهِ وَقَدْرِهِ، (2) وَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ النَّقْدُ مُتَعَارَفًا عَلَيْهِ فَلاَ حَاجَةَ لِذِكْرِ غَيْرِ قَدْرِهِ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِثْلِيًّا، فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِمِثْل مَا يُعْلَمُ بِهِ النَّقْدُ. وَإِذْ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ عَيْنًا قِيَمِيَّةً، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ تَكُونُ فِي الدَّعْوَى فِي هَذِهِ الْحَال دَعْوَى دَيْنٍ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ هَالِكَةً، فَإِذَا كَانَتْ هَالِكَةً تُعْلَمُ بِذِكْرِ قِيمَتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِلاَّ فَلاَ تُعْلَمُ إِلاَّ بِالإِْشَارَةِ إِلَيْهَا.
وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ تَثْبُتُ الأَْعْيَانُ الْقِيَمِيَّةُ فِي الذِّمَّةِ إِذَا كَانَتْ مِمَّا يَنْضَبِطُ بِالْوَصْفِ، وَعِنْدَئِذٍ تُعْلَمُ عِنْدَهُمْ بِذِكْرِ أَوْصَافِهَا الَّتِي تَنْضَبِطُ بِهَا، وَهِيَ الأَْوْصَافُ الَّتِي يُشْتَرَطُ ذِكْرُهَا فِي عَقْدِ السَّلَمِ (3) .
__________
(1) الفروق 4 / 72، منتهى الإرادات 2 / 594، جواهر العقود 2 / 499
(2) الهداية مع تكملة القدير 6 / 141، تنوير الأبصار والدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 547، تبصرة الحكام 1 / 105 طبع 1301 هـ، المهذب 2 / 311، المنهاج وشرح المحلي وحاشية قليوبي، وحاشية عميرة 4 / 236 - 237، المغني 9 / 85
(3) الفروق 4 / 72، تبصرة الحكام 1 / 105 طبع 1301 هـ، فتح المعين وإعانة الطالبين 4 / 241، ترشيح المستفيدين ص 407 - 408، المغني 9 / 84، 85، منتهى الإرادات، القسم الأول 391، وكشاف القناع 4 / 204(20/303)
الْعِلْمُ بِسَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ:
52 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ ذِكْرِ سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ عَلَى الآْرَاءِ الآْتِيَةِ:
أ - فَذَهَبَ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ ذِكْرِ السَّبَبِ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ، وَإِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُدَّعِي أَنْ يُبَيِّنَ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ تَرَتَّبَ لَهُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَل هُوَ مِنْ قَرْضٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ إِتْلاَفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ. (1) وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ كُل دَيْنٍ لاَ بُدَّ لِتَرَتُّبِهِ فِي الذِّمَّةِ مِنْ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ، لأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَمِ مِنِ اشْتِغَالِهَا بِالدُّيُونِ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ سَبَبٍ لِكُل دَيْنٍ فَيَجِبُ عَلَى مُدَّعِي الدَّيْنِ بَيَانُ سَبَبِهِ، لأَِنَّ الأَْسْبَابَ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا، فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الدَّيْنِ عَقْدَ السَّلَمِ مَثَلاً، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ مَكَانِ الإِْيفَاءِ، وَلاَ يَجُوزُ الاِسْتِبْدَال بِهِ قَبْل الْقَبْضِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ ثَمَنَ مَبِيعٍ، حَيْثُ يَجُوزُ الاِسْتِبْدَال بِهِ قَبْل قَبْضِهِ وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ بَيَانُ مَكَانِ الإِْيفَاءِ. (2) وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى قَدْ يَكُونُ السَّبَبُ بَاطِلاً كَأَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ ثَمَنَ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ نَتِيجَةَ مُقَامَرَةٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَيَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِهِ لِيُعْرَفَ ذَلِكَ. وَمِنْ جِهَةٍ ثَالِثَةٍ فَإِنَّ بَعْضَ
__________
(1) البحر الرائق 7 / 195، الفتاوى الهندية 4 / 3، تبصرة الحكام 1 / 104 طبع 1301هـ. الخرشي، وحاشية العدوي 7 / 154، تهذيب الفروق 4 / 115
(2) جامع الفصولين 1 / 73(20/304)
الأَْسْبَابِ لاَ يَصِحُّ الاِعْتِمَادُ عَلَيْهَا فِي دَعْوَى الدَّيْنِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى شَخْصٍ وَقَال: إِنَّهُ نَتِيجَةٌ لِحِسَابٍ بَيْنَهُمَا، أَوْ أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِهِ، فَيَدَّعِي عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَذَا الإِْقْرَارِ. (1)
ب - وَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ ذِكْرُ سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ إِلاَّ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِنَ النُّقُودِ الَّتِي انْقَطَعَ التَّعَامُل بِهَا وَفِي الْمِثْلِيَّاتِ. (2)
وَفِي حَالَةِ دَعْوَى الْمَرْأَةِ الدَّيْنَ فِي تَرِكَةِ زَوْجِهَا، لأَِنَّهَا قَدْ تَظُنُّ أَنَّ النَّفَقَةَ تَصْلُحُ سَبَبًا لإِِيجَادِ الدَّيْنِ فِي جَمِيعِ الْحَالاَتِ مَعَ أَنَّهَا لاَ تَصْلُحُ لِذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ الزَّوْجِ. (3) وَعَلَّلُوا عَدَمَ اشْتِرَاطِ ذِكْرِ السَّبَبِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالاَتِ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ يَسْتَحْيِي مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُل فِي الْحَرَجِ، وَبِأَنَّ هُنَاكَ بَعْضَ الأَْسْبَابِ لاَ يُمْكِنُ بَيَانُهَا، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا انْتَقَل إِلَى الْمُدَّعِي سَنَدُ دَيْنٍ مِنْ مُورِثِهِ، وَكَانَ سَبَبُ الدَّيْنِ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي السَّنَدِ، وَالْمُدَّعِي لاَ يَعْرِفُهُ.
ج - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَعْوَى الدَّيْنِ تَكُونُ صَحِيحَةً وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى. (4) وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ
__________
(1) الفتاوى الهندية 4 / 3، جامع الفصولين 1 / 84
(2) جامع الفصولين 1 / 76
(3) قرة عيون الأخيار 1 / 399
(4) المهذب 2 / 311، إعانة الطالبين 4 / 243، منتهى الإرادات - القسم الثاني ص 592(20/304)
أَسْبَابَ الْمِلْكِ تَكُونُ مِنْ جِهَاتٍ شَتَّى يَكْثُرُ عَدَدُهَا، كَالإِْرْثِ وَالاِبْتِيَاعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَسَقَطَ وُجُوبُ الْكَشْفِ عَنْ سَبَبِهَا لِكَثْرَتِهَا وَاخْتِلاَفِهَا (1) .
كَيْفِيَّةُ الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ فِي دَعْوَى الْعَقْدِ:
53 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ ذِكْرِ شُرُوطِ الْعَقْدِ لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ عَلَى أَقْوَالٍ:
أ - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الدَّعْوَى بَيَانُ شُرُوطِ كُل سَبَبٍ لَهُ شُرُوطٌ كَثِيرَةٌ وَمُعَقَّدَةٌ، فَلاَ تَصِحُّ دَعْوَى النِّكَاحِ وَالسَّلَمِ إِلاَّ بِذِكْرِ شُرُوطِهِمَا مُفَصَّلَةً. (2) وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ ذِكْرَ الطَّوْعِ وَالرَّغْبَةِ فِي دَعْوَى الْعَقْدِ، وَخَالَفَ آخَرُونَ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ بَيْنَ النَّاسِ هُوَ الطَّوْعُ، وَالإِْكْرَاهُ نَادِرٌ لاَ حُكْمَ لَهُ. (3)
ب - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ ذِكْرُ شُرُوطِ الْعَقْدِ فِي دَعْوَاهُ، لأَِنَّ ظَاهِرَ عُقُودِ الْمُسْلِمِينَ الصِّحَّةُ، فَتُحْمَل الدَّعْوَى عَلَى الصَّحِيحِ. (4)
ج - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ ذِكْرُ شُرُوطِ الْعَقْدِ فِي دَعْوَاهُ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْعَقْدُ عَقْدَ نِكَاحٍ،
__________
(1) المهذب 2 / 311، الحاوي الكبير جـ 13 ق 749
(2) البحر الرائق 7 / 195، معين الحكام ص 55 - 56
(3) البحر الرائق 7 / 202، قرة عيون الأخيار 1 / 399
(4) الفروق 4 / 73(20/305)
حَيْثُ اشْتَرَطُوا ذِكْرَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِشَاهِدَيْنِ وَوَلِيٍّ وَرِضَاهَا. وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفَائِتَ فِي الزَّوَاجِ بِالْحُكْمِ الْخَاطِئِ لاَ يُعَوَّضُ، خِلاَفًا لِلْعُقُودِ الأُْخْرَى، فَإِنَّهَا أَقَل خَطَرًا، فَأَشْبَهَتْ دَعْوَاهُ دَعْوَى الْقَتْل، حَيْثُ اتُّفِقَ عَلَى وُجُوبِ ذِكْرِ شُرُوطِهِ. (1) وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الاِخْتِلاَفَ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي أَيِّ عَقْدٍ آخَرَ، وَبِأَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعُقُودِ فَقَال: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ. (2) وَلَوْلاَ هَذَا التَّخْصِيصُ لَكَانَ كَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ حَمَلُوهُ عَلَى الاِسْتِحْبَابِ. (3)
د - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ ذِكْرِ شُرُوطِ الْعَقْدِ فِي دَعْوَاهُ مَهْمَا كَانَ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ عَقْدِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ، وَلاَ بَيْنَ مَا هُوَ كَثِيرُ الشُّرُوطِ وَقَلِيلُهَا (4) .
ذِكْرُ السَّبَبِ فِي الدَّعَاوَى الْجِنَائِيَّةِ:
54 - لَمْ يَخْتَلِفِ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ ذِكْرِ السَّبَبِ فِي
__________
(1) تحفة المحتاج وحاشية الشرواني 10 / 299، فتح المعين وإعانة الطالبين 4 / 243، المهذب 2 / 311، المنهاج وشرحه للمحلي وحاشية عميرة 4 / 336، 337
(2) حديث: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ". أخرجه البيهقي (7 / 125 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة وإسناده صحيح.
(3) الحاوي الكبير جـ 13 ق 49 ب، نهاية المحتاج 8 / 163
(4) منتهى الإرادات - القسم الثاني ص 583، غاية المنتهى 3 / 449(20/305)
الدَّعْوَى الْجِنَائِيَّةِ، فَفِي دَعْوَى الْقَتْل مَثَلاً يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْقَتْل وَهَل هُوَ عَنْ عَمْدٍ أَوْ عَنْ خَطَإٍ، وَإِلاَّ فَإِنَّ الدَّعْوَى لاَ تَكُونُ صَحِيحَةً حَتَّى يُصَحِّحَهَا صَاحِبُهَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَائِتَ بِالْقَتْل وَنَحْوِهِ مِنَ الْجِنَايَاتِ لاَ يُعَوَّضُ، وَقَدْ يُحْكَمُ بِشَيْءٍ لاَ يُمْكِنُ رَدُّهُ بَعْدَ الْحُكْمِ، وَلأَِنَّ الأَْحْكَامَ الصَّادِرَةَ فِي هَذِهِ الدَّعَاوَى تَتَعَلَّقُ بِالأُْصُول الَّتِي جَاءَ الإِْسْلاَمُ لِحِفْظِهَا، وَهِيَ الدِّيْنُ وَالنَّفْسُ وَالْعَقْل وَالنَّسْل وَالْمَال، فَلاَ يَجُوزُ التَّهَاوُنُ فِي أَمْرِهَا، وَلأَِنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ تُدْفَعُ بِالشُّبُهَاتِ، وَعَدَمُ التَّفْصِيل فِي دَعْوَاهَا يُورِثُ شُبْهَةً، فَلاَ تُقْبَل. (1)
وَلاَ بُدَّ فِي دَعْوَى الإِْرْثِ مِنْ ذِكْرِ سَبَبِهِ، فَيَذْكُرُ مِنْ أَيَّةِ جِهَةٍ اسْتَحَقَّ الإِْرْثَ مِنَ الْمَيِّتِ (2) .
الاِسْتِثْنَاءَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى شَرْطِ الْمَعْلُومِيَّةِ:
55 - لَمَّا كَانَ اشْتِرَاطُ الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ فِي الدَّعْوَى هُوَ تَحْقِيقُ مَقْصُودِ مَشْرُوعِيَّةِ الدَّعْوَى مِنْ فَصْل الْمُنَازَعَةِ، وَالإِْلْزَامِ بِالْحَقِّ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَرَوْنَ عَدَمَ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ فِي كُل مَرَّةٍ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ بِدُونِهِ، وَذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الاِسْتِثْنَاءَاتِ. وَقَدْ حَاوَل كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَضْعَ
__________
(1) الفروق 4 / 72، منتهى الإرادات - القسم الثاني ص 594، جواهر العقود 2 / 499
(2) منتهى الإرادات - القسم الثاني ص 594، كشف المخدرات ص 510(20/306)
ضَوَابِطَ لِهَذِهِ الاِسْتِثْنَاءَاتِ. إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مُعْظَمِهَا، وَفِيمَا يَأْتِي بَعْضُ الضَّوَابِطِ وَبَعْضُ الْمَسَائِل الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا الدَّعْوَى بِالْمَجْهُول: -
1 - ذَكَرَ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ ضَابِطًا لِمَا تَصِحُّ الدَّعْوَى بِهِ مَجْهُولاً، وَهُوَ أَنَّ الدَّعْوَى بِالْمَجْهُول تُقْبَل إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ فِيهَا مِمَّا يَصِحُّ وُقُوعُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا، كَالْوَصِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى بِهِ فِيهَا مَجْهُولاً، كَذَلِكَ تَصِحُّ الدَّعْوَى بِالْوَصِيَّةِ الْمَجْهُولَةِ. (1)
2 - وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: تَجُوزُ الدَّعْوَى بِالْمَجْهُول إِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ فِيهَا مَوْقُوفًا عَلَى تَقْدِيرِ الْقَاضِي كَالنَّفَقَةِ وَأُجْرَةِ الْحَضَانَةِ وَأَجْرِ الْمِثْل وَنَحْوِهَا. (2)
3 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا كَانَ هُنَالِكَ عُذْرٌ لِلْمُدَّعِي فِي جَهْلِهِ بِمَا يَدَّعِيهِ قُبِلَتْ دَعْوَاهُ، وَذَلِكَ كَدَعْوَى شَخْصٍ نَصِيبًا مِنْ وَقْفٍ كَثُرَ مُسْتَحِقُّوهُ، فَإِنَّهُ يُعْذَرُ لِغَلَبَةِ الْجَهْل بِكَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الأَْوْقَافِ. (3)
4 - وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَمُعْظَمُ الْحَنَابِلَةِ جَوَازَ دَعْوَى الإِْقْرَارِ بِالْمَجْهُول، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ إِخْبَارٌ عَنِ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ، فَتَجُوزُ
__________
(1) القواعد ص 332 - 333، وقريب من هذا موجود في المغني 9 / 84 - 85
(2) مغني المحتاج 3 / 229 طبع الحلبي 1377هـ، تحفة المحتاج 10 / 295
(3) الفروق 4 / 73(20/306)
الدَّعْوَى بِهِ مَجْهُولاً، وَعَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيَانُ مَا أَخْبَرَ عَنْ وُجُوبِهِ.
وَقَدْ قَاسَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى دَعْوَى الْوَصِيَّةِ بِالْمَجْهُول. (1)
5 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا وَبَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى جَوَازِ الدَّعْوَى بِالْمَجْهُول فِي حَالَةِ الْغَصْبِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ قَدْ لاَ يَعْرِفُ قِيمَةَ مَالِهِ الْمَغْصُوبِ، فَإِنَّ الْغَصْبَ كَثِيرًا مَا يَحْدُثُ وَلاَ يَتَمَكَّنُ الشُّهُودُ مِنْ مُعَايَنَةِ الْمَغْصُوبِ، وَقَدْ يَقُولُونَ: رَأَيْنَا فُلاَنًا يَغْصِبُ مَال فُلاَنٍ وَلاَ نَدْرِي قِيمَةَ مَا غَصَبَ، فَيُقْبَل ذَلِكَ (2) .
الشَّرْطُ الثَّانِي:
56 - أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ مُحْتَمِل الثُّبُوتِ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الدَّعْوَى بِمَا يَسْتَحِيل ثُبُوتُهُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَمَنْ يَدَّعِي بُنُوَّةَ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ سِنًّا أَوْ مَنْ هُوَ مُسَاوِيهِ، وَكَمَنْ يَدَّعِي عَلَى شَخْصٍ مَعْرُوفٍ بِالصَّلاَحِ وَالتَّقْوَى أَنَّهُ غَصَبَ مَالَهُ، وَكَادِّعَاءِ رَجُلٍ مِنَ السُّوقَةِ عَلَى الْخَلِيفَةِ أَوْ عَلَى عَظِيمٍ مِنَ الْمُلُوكِ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِكَنْسِ دَارِهِ وَسِيَاسَةِ دَوَابِّهِ، وَنَقَل الْعِزُّ بْنُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 545، تهذيب الفروق 4 / 116، تحفة المحتاج 10 / 295، المغني 9 / 84، 85، منتهى الإرادات - القسم الثاني ص 592
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 544 - 545، أدب القضاء للغزي ق2 ب، 3 أ(20/307)
عَبْدِ السَّلاَمِ عَنِ الشَّافِعِيِّ الْقَوْل بِقَبُول الدَّعْوَى فِي الْمِثَال الأَْخِيرِ، مَعَ مُخَالَفَةِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ لَهُ فِي هَذَا الْقَوْل.
وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ كَوْنِ الْمُدَّعَى بِهِ مُحْتَمَلاً فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ فِي قَوْله تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} .
وَمِمَّا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَال: " مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ (1) فَفِي هَذَا دَعْوَةٌ إِلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ الْعُرْفِ السَّائِدِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لأَِنَّهُمْ لاَ يَتَّفِقُونَ إِلاَّ عَلَى مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ سَمَاعَ الدَّعْوَى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ طَرَفَيْنِ لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا تَعَامُلٌ وَلاَ خِلْطَةٌ، فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ حُكِمَ لَهُ بِمَا ادَّعَى، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْبَيِّنَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَحْلِيفُ خَصْمِهِ، فَالتَّعَامُل وَالْخِلْطَةُ شَرْطٌ عِنْدَهُمْ فِي تَوْجِيهِ الْيَمِينِ عَلَى الْخَصْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْل مَالِكٍ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَيِّمِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ
__________
(1) حديث: " ما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئًا فهو عند الله سيء. . . " أخرجه أحمد في المسند (1 / 379 - ط الميمنية) وحسنه السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 367 - ط الخانجي) .(20/307)
فِي تَوَجُّهِ الْيَمِينِ ثُبُوتُ خِلْطَةٍ وَهُوَ قَوْل ابْنِ نَافِعٍ، لِجَرَيَانِ الْعَمَل بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا جَرَى بِهِ الْعَمَل مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ إِنْ خَالَفَهُ (1) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ::
57 - أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ حَقًّا أَوْ مَا يَنْفَعُ فِي الْحَقِّ، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَقُّ قَدْ تَعَرَّضَ لإِِضْرَارِ الْخَصْمِ
فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الدَّعْوَى أَنْ لاَ تَكُونَ عَبَثًا، (2) وَالْمَالِكِيَّةُ ذَكَرُوا صِيغَةً لِهَذَا الشَّرْطِ قَرِيبَةً مِمَّا سَبَقَ، فَاشْتَرَطُوا فِي الدَّعْوَى أَنْ تَكُونَ ذَاتَ غَرَضٍ صَحِيحٍ بِأَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا نَفْعٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا. (3) وَفُرُوعُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَدُل عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا.
وَقَدْ وَضَعَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ قَاعِدَةً عَامَّةً لِتَحَقُّقِ هَذَا الشَّرْطِ فِي الدَّعْوَى فَقَالُوا. بِأَنَّهُ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُدَّعِي لَوْ أَقَرَّ بِهِ خَصْمُهُ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 544 - 545، وأدب القضاء للغزي ق 2ب، 3أ، وبدائع الصنائع 6 / 224، والبحر الرائق 7 / 192، وتبصرة الحكام 1 / 129، 2 / 153، وتهذيب الفروق 4 / 117 - 118، وحاشية الدسوقي 4 / 145 - 146، والفروق 4 / 81، والحاوي الكبير 13 ق 46أ، والطرق الحكمية ص 97 - 98
(2) المجاني الزهرية على الفواكه البدرية ص 107، قرة عيون الأخيار 1 / 381
(3) الفروق 4 / 72، 117
(4) الفروق 4 / 72، تبصرة الحكام 1 / 126 - 127(20/308)
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الشَّرْطِ تُرَدُّ الدَّعْوَى فِي الْحَالاَتِ الآْتِيَةِ:
1 - إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُدَّعَى حَقًّا، أَوْ كَانَ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ حَقِيرٌ لاَ يَسْتَحِقُّ شَغْل الْقَضَاءِ بِهِ، وَمِثَال الأَْوَّل أَنْ تَدَّعِيَ امْرَأَةٌ زَوْجِيَّةَ شَخْصٍ مَاتَ، وَلَمْ تَطْلُبْ فِي دَعْوَاهَا حَقًّا آخَرَ مِنْ إِرْثٍ أَوْ صَدَاقٍ مُؤَخَّرٍ، أَوْ كَمَنْ يَطْلُبُ إِلْحَاقَهُ بِنَسَبِ شَخْصٍ مَاتَ، وَلاَ يَطْلُبُ حَقًّا آخَرَ مِنْ إِرْثٍ وَنَحْوِهِ.
وَمِثَال الثَّانِي أَنْ يَطْلُبَ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ حَبَّةَ قَمْحٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الأَْشْيَاءِ التَّافِهَةِ.
2 - أَنْ لاَ يَكُونَ الْحَقُّ الْمُدَّعَى مُخْتَصًّا بِالْمُدَّعِي، وَإِنَّمَا يَعُودُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَيْسُ الْمُدَّعِي نَائِبًا عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ.
3 - أَنْ لاَ يَكُونَ هُنَاكَ مُنَازِعٌ لِلْمُدَّعِي فِي الْحَقِّ الَّذِي يَطْلُبُهُ فِي دَعْوَاهُ، كَمَنْ يَرْفَعُ دَعْوَى أَمَامِ الْقَضَاءِ وَيَطْلُبُ فِيهَا الْحُكْمَ لَهُ بِالدَّارِ الَّتِي يَسْكُنُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنَازِعَهُ أَحَدٌ فِيهَا.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الشَّرْطِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى أَنْ تَكُونَ فِيمَا يَلْزَمُ شَيْئًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى فَرْضِ ثُبُوتِ الدَّعْوَى (1) . وَلِذَلِكَ لاَ تَصِحُّ الدَّعْوَى بِمَا يَكُونُ
__________
(1) تنوير الأبصار مع قرة عيون الأخيار 1 / 381، الهداية وتكملة فتح القدير 6 / 137، الفتاوى الهندية 4 / 2، مواهب الجليل 6 / 125، تبصرة الحكام 1 / 126، الوجيز للغزالي 2 / 261، تحفة المحتاج 10 / 296، الفروع 3 / 810(20/308)
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُخَيَّرًا فِيهِ، فَلاَ تَصِحُّ دَعْوَى الْهِبَةِ غَيْرِ الْمَقْبُوضَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِعَدَمِ لُزُومِهَا قَبْل الْقَبْضِ، وَكَذَلِكَ الْوَكَالَةُ الَّتِي لاَ يَأْخُذُ الْوَكِيل عَلَيْهَا أَجْرًا، وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْوَعْدِ وَدَعْوَى الْوَصِيَّةِ عَلَى الْمُوصِي فِي الْحَالاَتِ الَّتِي يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْ وَصِيَّتِهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَى. (1) وَذَلِكَ لأَِنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّل غَيْرُ لاَزِمٍ فِي الْحَال، فَدَعْوَاهُ طَلَبٌ لِمَا لَيْسَ بِلاَزِمٍ وَقْتَ الْبَيِّنَةِ، فَلاَ تَكُونُ مُفِيدَةً قَبْل حُلُول الأَْجَل. (2)
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ بَعْضَ الْحَالاَتِ فَقَبِلُوا فِيهَا دَعْوَى الدَّيْنِ الْمُؤَجَّل، وَمِنْ هَذِهِ الْحَالاَتِ مَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ الْمَطْلُوبُ بِالدَّعْوَى قَدْ حَل بَعْضُهُ، فَتَصِحُّ الدَّعْوَى بِهِ جَمِيعًا، عَلَى أَنْ يُرَاعَى الأَْجَل بِالنِّسْبَةِ لِلْجُزْءِ الَّذِي لَمْ يَحِل بَعْدُ. (3) وَمِنْهَا مَا لَوِ ادَّعَى الدَّائِنُ عَلَى مَدِينِهِ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 137 - 138، شرح المحلي على المنهاج 4 / 337، تحفة المحتاج 10 / 302، غاية المنتهى 3 / 448، الروض الندي شرح كافي المبتدي ص 512، كشاف القناع 4 / 203
(2) ترشيح المستفيدين ص 408، كشاف القناع 6 / 277 (مطبعة أنصار السنة المحمدية 1948) .
(3) الحاوي الكبير جـ 13 ق 44 أ، أدب القضاء لابن أبي الدم ق 26 أ، حاشية عميرة 4 / 337(20/309)
الْمُعْسِرِ، وَقَصَدَ بِدَعْوَاهُ إِثْبَاتَ دَيْنِهِ، لِيُطَالِبَ بِهِ إِذَا أَيْسَرَ الْغَرِيمُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى جَوَازِ الدَّعْوَى بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّل إِذَا قَصَدَ بِهَا حِفْظَ الْبَيِّنَاتِ مِنَ الضَّيَاعِ، وَذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لأَِنَّ الْقِيَاسَ عَدَمُ صِحَّةِ الدَّعْوَى بِحَقٍّ غَيْرِ لاَزِمٍ فِي الْحَال. وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ حَاجَةُ النَّاسِ إِلَى حِفْظِ حُقُوقِهِمُ الْمُؤَجَّلَةِ احْتِيَاطًا لِمَا قَدْ تَئُول إِلَيْهِ الْبَيِّنَاتُ مِنَ الْفِقْدَانِ. (2)
وَبِنَاءً عَلَى الشَّرْطِ السَّابِقِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ مَا يُسَمَّى بِدَعْوَى قَطْعِ النِّزَاعِ، وَصُورَتُهَا أَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ أَنَّ آخَرَ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ قِبَلَهُ حَقًّا، وَيُهَدِّدُ مِنْ حِينٍ لآِخَرَ بِاسْتِعْمَال هَذَا الْحَقِّ فَيَلْجَأُ إِلَى الْقَضَاءِ طَالِبًا مِنْهُ إِحْضَارَ صَاحِبِ الزَّعْمِ وَتَكْلِيفَهُ بِعَرْضِ دَعْوَاهُ وَأَسَانِيدِهَا لِيُبَرْهِنَ هُوَ عَلَى كَذِبِهَا وَيَطْلُبَ الْحُكْمَ بِوَضْعِ حَدٍّ لِهَذِهِ الْمَزَاعِمِ (3) .
الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الدَّعْوَى:
إِذَا رُفِعَتِ الدَّعْوَى مُسْتَوْفِيَةَ الشُّرُوطِ، تَرَتَّبَ
__________
(1) تحفة المحتاج 10 / 302 - 303
(2) الفتاوى الهندية 4 / 99، الوجيز في فقه مذهب الإمام الشافعي 2 / 262، غاية المنتهى 3 / 448، نيل المآرب 2 / 143
(3) البحر الرائق 7 / 194، الأشباه والنظائر للسيوطي 507، كشاف القناع 4 / 195(20/309)
عَلَيْهَا ثَلاَثَةُ آثَارٍ هِيَ: نَظَرُ الْقَاضِي فِيهَا، وَحُضُورُ الْخَصْمِ، وَالْجَوَابُ عَنْهَا، وَتَفْصِيل هَذَا فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلاً - نَظَرُ الدَّعْوَى:
58 - إِذَا رُفِعَتِ الدَّعْوَى إِلَى الْقَاضِي كَانَ مُكَلَّفًا بِالنَّظَرِ فِيهَا وَالْفَصْل بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ، وَلَيْسَ لَهُ الاِمْتِنَاعُ عَنْ ذَلِكَ، إِذِ الْفَصْل فِي خُصُومَاتِ النَّاسِ فَرْضٌ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ إِحْقَاقٌ لِلْحَقِّ وَرَفْعٌ لِلظُّلَمِ، وَرَفْعُ الظُّلْمِ وَاجِبٌ عَلَى الْقَاضِي عَلَى الْفَوْرِ. (1)
وَفِي خِلاَل نَظَرِ الْقَاضِي فِي الدَّعْوَى الْمَرْفُوعَةِ إِلَيْهِ يَنْبَغِي عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ مَبَادِئٍ وَأُصُولٍ أَشَارَ إِلَيْهَا الْفُقَهَاءُ، بَعْضُهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا مُسْتَحَبٌّ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ) .
ثَانِيًا - حُضُورُ الْخَصْمِ:
59 - إِذَا أَرَادَ الْمُدَّعِي الْمُطَالَبَةَ بِحَقِّهِ عَنْ طَرِيقِ الْقَضَاءِ سَلَكَ أَحَدَ سَبِيلَيْنِ:
الأَْوَّل - أَنْ يَتَوَجَّهَ أَوَّلاً إِلَى خَصْمِهِ يَطْلُبُ مِنْهُ الْحُضُورَ مَعَهُ إِلَى مَجْلِسِ التَّقَاضِي.
الثَّانِي: أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْقَاضِي فِي مَجْلِسِهِ مُبَاشَرَةً، فَيَرْفَعَ الدَّعْوَى وَيَطْلُبَ مِنْهُ إِحْضَارَ خَصْمِهِ مِنْ أَجْل مُقَاضَاتِهِ وَالنَّظَرِ فِي الْخُصُومَةِ.
__________
(1) المبسوط 16 / 110، قواعد الأحكام 2 / 30، نهاية المحتاج 8 / 80(20/310)
فَإِذَا سَلَكَ الْمُدَّعِي السَّبِيل الأَْوَّل فَإِنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ خَصْمَهُ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بِأَرْفَقِ الْوُجُوهِ وَأَجْمَل الأَْقْوَال، وَالأَْصْل أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الإِْجَابَةُ إِلَى ذَلِكَ وَعَدَمُ التَّأَخُّرِ. (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى
: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَل أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْل الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . (2)
فَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الآْيَاتُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُل مُؤْمِنٍ أَنْ يَسْتَجِيبَ لِمَنْ يَدْعُوهُ إِلَى التَّحَاكُمِ إِلَى شَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ ظَالِمًا فَاجِرًا. (3)
60 - وَأَمَّا إِذَا سَلَكَ الْمُدَّعِي الطَّرِيقَ الآْخَرَ، أَوْ رَفَضَ خَصْمُهُ الْحُضُورَ مَعَهُ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَالأَْصْل أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إِحْضَارُهُ، وَلَكِنَّ لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاً وَخِلاَفًا فِي وُجُوبِ إِحْضَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى.
__________
(1) روضة القضاة للسمناني ق 32 ب، تبصرة الحكام 1 / 302، أدب القضاء لابن أبي الدم ق 14 ب، كشاف القناع 4 / 192
(2) سورة النور الآيات 48 - 51
(3) تفسير ابن كثير 3 / 298(20/310)
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُفَرَّقُ بَيْنَ حَالَتَيْنِ: (الأُْولَى) : أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَرِيبًا مِنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بِحَيْثُ إِذَا أَحْضَرَهُ الْقَاضِي أَمْكَنَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَيَبِيتَ فِيهِ. (وَالثَّانِيَةُ) : أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بِحَيْثُ إِذَا أُحْضِرَ إِلَيْهِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْمَبِيتِ فِي مَنْزِلِهِ.
فَفِي الْحَالَةِ الأُْولَى يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إِحْضَارُهُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، إِذْ لاَ يَتِمُّ إِنْصَافُ الْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ إِلاَّ بِذَلِكَ.
وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ لاَ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إِحْضَارُهُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّ حُضُورَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يُزْرِي بِبَعْضِ النَّاسِ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ لِلْمُدَّعِي غَرَضٌ مِنْ دَعْوَاهُ إِلاَّ أَذِيَّةَ خَصْمِهِ. وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إِحْضَارُ الْخَصْمِ إِذَا اسْتَطَاعَ الْمُدَّعِي أَنْ يُعَضِّدَ دَعْوَاهُ بِبَيِّنَةٍ يُقِيمُهَا، فَإِنْ فَعَل أَمَرَ الْقَاضِي بِإِحْضَارِهِ. ثُمَّ إِذَا حَضَرَ أُعِيدَتِ الْبَيِّنَةُ مِنْ أَجْل الْقَضَاءِ بِهَا. وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَطْلُبُ مِنَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً مِنْ أَجْل إِحْضَارِ خَصْمِهِ، وَإِنَّمَا يَكْتَفِي مِنْهُ بِالْيَمِينِ عَلَى صِدْقِ دَعْوَاهُ، فَإِنْ حَلَفَ أَمَرَ الْقَاضِي بِإِحْضَارِ خَصْمِهِ، وَإِلاَّ فَلاَ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ، وَحَدُّ الْبُعْدِ عِنْدَهُمْ مَسِيرَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فَأَمَّا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 420 ط بولاق 1272 هـ.(20/311)
الْقَرِيبُ فَيَنْبَغِي عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ بِإِحْضَارِهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، فَإِنْ أَبَى لِغَيْرِ عُذْرٍ أَحْضَرَهُ قَهْرًا. عَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْمُرُ بِإِحْضَارِهِ إِلاَّ إِذَا قَدَّمَ الْمُدَّعِي وَجْهًا يَسْتَوْجِبُ إِحْضَارَهُ، فَإِنْ أَظْهَرَ حُجَّةً أَوْ قَوْلاً يُوجِبُ ذَلِكَ أَجَابَهُ، وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْ شَيْئًا لَمْ يَأْمُرْ بِإِحْضَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ بَعِيدًا عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ أَكْثَرَ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ إِحْضَارُهُ، وَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ الْبَعِيدِ إِذَا كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَيِّنَةٌ فَقَدْ جَعَلُوا لِلْقَاضِي الَّذِي رُفِعَتْ إِلَيْهِ الدَّعْوَى أَنْ يَكْتُبَ إِلَى قَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَيَطْلُبَ مِنْهُ اسْتِجْوَابَهُ، وَيُسَجِّل مَا يُبْدِيهِ مِنْ حُجَجٍ ثُمَّ يُرْسِلَهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْظُرَ فِي الدَّعْوَى عَلَى ضَوْءِ مَا يَصِلُهُ مِنْ قَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي شَاهِدٌ بِدَعْوَاهُ كَتَبَ الْقَاضِي إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: إِمَّا أَنْ تَحْضُرَ أَوْ تُرْضِيَ خَصْمَكَ. (1)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ إِحْضَارُ الْخَصْمِ الْحَاضِرِ فِي الْبَلَدِ، أَوْ مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ، بِحَيْثُ يَسْتَطِيعُ الْحُضُورَ إِلَيْهِ وَالرُّجُوعَ إِلَى بَلَدِهِ فِي الْيَوْمِ نَفْسِهِ. وَلَكِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا مِنْ أَجْل وُجُوبِ إِحْضَارِ الْخَصْمِ أَنْ لاَ يُعْلَمَ كَذِبَ
__________
(1) العقد المنظم للحكام 2 / 199، القوانين الفقهية ص 287، القول المرتضى ق 3 ب(20/311)
الْمُدَّعِي، وَأَنْ لاَ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ مُسْتَحِيلاً عَقْلاً أَوْ عَادَةً، وَأَنْ لاَ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُسْتَأْجِرًا لِعَيْنٍ يُعَطِّل حُضُورُهُ اسْتِيفَاءَ مَنْفَعَتِهَا، وَإِنَّمَا يُحْضِرُهُ إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ، وَقَدْ ضَبَطُوا التَّعْطِيل الْمُضِرَّ بِأَنْ يَمْضِيَ زَمَنٌ يُقَابَل بِأُجْرَةٍ وَإِنْ قَلَّتْ. (1)
وَالشَّافِعِيَّةُ كَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُجِيزُونَ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ إِذَا كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ مَقْبُولَةٌ، وَبِهَذَا يَسْتَطِيعُ الْمُدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ الْبَعِيدِ أَنْ يَسْلُكَ هَذَا الطَّرِيقَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْلُبَ إِحْضَارَ خَصْمِهِ. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَسْلَكٌ قَرِيبٌ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ: فَقَدْ فَصَّلُوا بَيْنَ الْقَرِيبِ مِنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَالْبَعِيدِ عَنْهُ، فَالْقَرِيبُ يَحْضُرُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، وَلاَ يُطْلَبُ مِنَ الْمُدَّعِي تَفْصِيل مَطَالِبِهِ، وَلاَ ذِكْرُ الشُّرُوطِ الْمُصَحِّحَةِ لِلدَّعْوَى، وَالْبَعِيدُ لاَ يَحْضُرُ إِلاَّ إِذَا فَصَّل الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ وَذَكَرَ جَمِيعَ شُرُوطِهَا، وَلَكِنَّ مُقْتَضَى كَلاَمِهِمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي فِي الْقَرِيبِ أَنْ يَسْتَفْسِرَ عَنْ بَعْضِ شُرُوطِ الدَّعْوَى، فَيَسْأَل مَثَلاً عَنِ الْمُدَّعَى بِهِ لِيَعْلَمَ إِنْ كَانَ تَافِهًا لاَ تَتَّبِعُهُ الْهِمَّةُ أَوْ غَيْرَ تَافِهٍ. وَيَجْدُرُ بِالذِّكْرِ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ هُمْ مِمَّنْ أَجَازَ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ الْبَعِيدِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْمُدَّعِي
__________
(1) تحفة المحتاج 10 / 186، 189
(2) المهذب 2 / 305، شرح المحلي، حاشية قليوبي وعميرة 4 / 308(20/312)
عَلَى الْغَائِبِ الْبَعِيدِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَطْلُبَ الْحُكْمَ عَلَى خَصْمِهِ مَعَ غِيَابِهِ، وَلاَ يَطْلُبُ إِحْضَارَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ بَيِّنَةٌ بِمَا يَدَّعِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يُنْظَرْ فِي دَعْوَاهُ. (1)
كَيْفِيَّةُ إِحْضَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
61 - إِذَا اسْتَجَابَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِدَعْوَةِ خَصْمِهِ، وَحَضَرَ مَعَهُ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَلاَ حَاجَةَ عِنْدَئِذٍ لأَِيِّ إِجْرَاءٍ يُتَّخَذُ مِنْ أَجْل إِحْضَارِهِ.
وَأَمَّا إِذَا جَاءَ الْمُدَّعِي إِلَى الْقَاضِي وَقَال لَهُ: إِنَّ لِي عَلَى فُلاَنٍ حَقًّا، وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ تَوَارَى عَنِّي وَلَيْسَ يَحْضُرُ مَعِي، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَنْظُرُ فِي الدَّعْوَى، وَيَسْأَل عَنْ مَكَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الْحَال بِحَيْثُ يَنْبَغِي إِحْضَارُ الْمَطْلُوبِ أَمَرَ الْقَاضِي بِإِحْضَارِهِ بِكِتَابٍ أَوْ رَسُولٍ. (2) ثُمَّ إِذَا أَطْلَعَ الْخَصْمَ عَلَى طَلَبِ الْحُضُورِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحُضُورُ دِيَانَةً وَقَضَاءً، إِلاَّ إِذَا وَكَّل عَنْ نَفْسِهِ مَنْ يَرْضَاهُ لِيَنُوبَ عَنْهُ فِي الْمُخَاصَمَةِ، وَإِلاَّ فَإِنْ أَثْبَتَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ تَعَنَّتَ وَرَفَضَ الْمَجِيءَ بَعْدَ أَنْ أَطْلَعَهُ
__________
(1) كشاف القناع 4 / 192 - 193، 208، المغني 9 / 61 - 63، غاية المنتهى 3 / 445
(2) أدب القاضي للناصحي ق 4 أ، العقد المنظم للحكام 2 / 199، المنهاج وشرح المحلي وحاشية قليوبي وعميرة 4 / 313، وتحفة المحتاج 10 / 189، المغني 9 / 61، 62، كشاف القناع 4 / 192(20/312)
عَلَى طَلَبِ الْقَاضِي، فَإِنَّ هَذَا يُرْسِل إِلَيْهِ بَعْضَ أَعْوَانِهِ، فَيُحْضِرُونَهُ قَهْرًا إِذَا وَجَدُوهُ وَامْتَنَعَ عَنِ الْحُضُورِ. (1) ثُمَّ إِذَا حَضَرَ إِلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي وَقَامَ الدَّلِيل عَلَى تَعَنُّتِهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أُدِّبَ بِمَا يَرَاهُ الْقَاضِي مُنَاسِبًا لِمِثْلِهِ. (2) وَذَلِكَ لأَِنَّهُ امْتَنَعَ عَنِ الْقِيَامِ بِوَاجِبَيْنِ هُمَا: التَّحَاكُمُ إِلَى شَرْعِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ دُعِيَ إِلَيْهِ، وَطَاعَةُ وَلِيِّ الأَْمْرِ.
ثُمَّ إِذَا عَجَزَ الأَْعْوَانُ عَنْ إِحْضَارِهِ بَعَثَ الْقَاضِي إِلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ أَوِ الْوَالِي، فَيُعَرِّفُهُ بِالأَْمْرِ، فَيُحْضِرُهُ إِلَيْهِ.
ثَالِثًا - الْجَوَابُ عَلَى الدَّعْوَى:
62 - إِذَا اسْتَوْفَى الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ جَمِيعَ الشُّرُوطِ الْمَطْلُوبَةِ لِصِحَّتِهَا تَرَتَّبَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الإِْجَابَةُ عَنْهَا.
وَالْجَوَابُ عَنِ الدَّعْوَى بِاعْتِبَارِهِ تَصَرُّفًا شَرْعِيًّا، لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِشُرُوطٍ، وَهِيَ:
أ - أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا بِصِيغَةٍ جَازِمَةٍ، فَلاَ يُقْبَل مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَقُول فِي الْجَوَابِ عَلَى دَعْوَى الْمُدَّعِي: (مَا أَظُنُّ لَهُ عِنْدِي شَيْئًا) . (3)
__________
(1) القوانين الفقهية ص 287
(2) أدب القاضي للناصحي ق4أ، أدب القضاء لابن أبي الدم ق 14 ب، المغني 9 / 61 - 62، كشاف القناع 4 / 192
(3) معين الحكام ص 64، أدب القضاء لابن أبي الدم ق 30 ب، لب اللباب ص 256(20/313)
ب - أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلدَّعْوَى، وَذَلِكَ بِأَنْ يُجِيبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ جَمِيعِ طَلَبَاتِ الْمُدَّعِي، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَنِ الإِْجَابَةِ عَنْ جُزْءٍ مِنْهَا. بَل ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْجَوَابَ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ عُمُومِيَّةً مِنَ الدَّعْوَى، بِأَنْ يَعُمَّهَا وَيَعُمَّ غَيْرَهَا، كَمَا لَوْ أَجَابَ بِقَوْلِهِ: (لاَ حَقَّ لَكَ قِبَلِي) وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ مِثْل هَذَا الْجَوَابِ مَقْبُولٌ، لأَِنَّ قَوْلَهُ: (لاَ حَقَّ لَكَ) نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتُفِيدُ الْعُمُومَ (1) .
وَكَذَلِكَ قَالُوا: لاَ يَكْفِي فِي الْجَوَابِ عَلَى الدَّعْوَى بِمِائَةِ دِينَارٍ مَثَلاً أَنْ يَقُول: (لَيْسَ لَكَ عَلَيَّ مِائَةٌ) حَتَّى يَقُول: (وَلاَ شَيْءَ مِنْهَا) ، لأَِنَّهُ بِدُونِ ذَلِكَ يُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ مِائَةٍ عَلَيْهِ، وَلاَ يُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ الأَْقَل، وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي عَلَيْهِ كُل جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمِائَةِ، فَلاَ يَكُونُ فِي جَوَابِهِ مُسْتَغْرِقًا لِجَمِيعِ طَلَبَاتِ الْمُدَّعِي، وَإِنَّمَا لِجُزْءٍ مِنْهَا، وَيَظَل مُتَوَقِّفًا عَنِ الْجَوَابِ فِي حَقِّ بَاقِي الأَْجْزَاءِ. (2)
بَل ذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ نَصًّا، فَلَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ دِينَارًا، فَأَجَابَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: لاَ يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ فَلْسًا، لاَ يُقْبَل الْجَوَابُ حَتَّى
__________
(1) المهذب 2 / 311، المنهاج وحاشية قليوبي 4 / 338، لب اللباب ص 256، كشاف القناع 4 / 196
(2) غاية المنتهى 3 / 451، كشاف القناع 4 / 196، الفروع 3 / 803، المنهاج وحاشية قليوبي 4 / 388(20/313)
يُصَرِّحَ بِنَفْيِ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الدِّينَارِ. (1)
وَالظَّاهِرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى خِلاَفِ هَذَا، لأَِنَّ مِثْل هَذَا الْجَوَابِ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْجُزْءِ الأَْصْغَرِ نَصًّا، وَيَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْبَاقِي مِنْ طَرِيقِ الْفَحْوَى أَوِ الدَّلاَلَةِ.
أَوْجُهُ الْجَوَابِ:
جَوَابُ الدَّعْوَى الَّذِي يَصْدُرُ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ أَحَدِ الأَْوْجُهِ الآْتِيَةِ:
63 - 1 - أَنْ يَكُونَ إِقْرَارًا بِالْحَقِّ الْمُدَّعَى: وَيُقْصَدُ بِالإِْقْرَارِ إِخْبَارُ الشَّخْصِ بِحَقٍّ لآِخَرَ عَلَيْهِ. (2)
وَقَدْ يَكُونُ الإِْقْرَارُ تَامًّا بِأَنْ يُقِرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْمُدَّعَى بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ نَاقِصًا بِأَنْ يُقِرَّ بِبَعْضِ الْمُدَّعَى بِهِ وَيُنْكِرَ الْبَاقِيَ: فَإِذَا أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْمُدَّعَى بِهِ أَلْزَمَهُ الْقَاضِي بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَامِل الأَْهْلِيَّةِ مُخْتَارًا، فَيَلْزَمُ الْمُقِرَّ بِمُقْتَضَى إِقْرَارِهِ.
وَالإِْقْرَارُ بِالْمُدَّعَى قِسْمَانِ: صَرِيحٌ وَضِمْنِيٌّ.
وَالأَْوَّل وَاضِحٌ، وَالضِّمْنِيُّ يَكُونُ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال الَّتِي يَدْفَعُ فِيهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَعْوَى
__________
(1) غاية المنتهى 3 / 451، كشاف القناع 6 / 333، الفروع 3 / 813
(2) درر الحكام 2 / 357، تنوير الأبصار والدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 588، وشرح حدود ابن عرفة ص 332، ومغني المحتاج 2 / 238، فيض الإله المالك 2 / 102(20/314)
خَصْمِهِ، فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا الدَّفْعِ أَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَصْل الدَّعْوَى، وَذَلِكَ كَأَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ مَالاً، فَيَقُول فِي الْجَوَابِ: لَقَدْ أَبْرَأَنِيَ الْمُدَّعِي عَنْ هَذَا الْمَال، فَيَكُونَ هَذَا الدَّفْعُ مُتَضَمِّنًا لِلإِْقْرَارِ بِالْمُدَّعِي. (1) وَلِلإِْقْرَارِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِهِ.
64 - 2 - أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ إِنْكَارًا لِلْحَقِّ الْمُدَّعَى: وَالإِْنْكَارُ قَدْ يَكُونُ كُلِّيًّا فَيَسْرِي حُكْمُهُ عَلَى جَمِيعِ الْمُدَّعَى بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ جُزْئِيًّا، فَيَسْرِي حُكْمُهُ عَلَى الْجُزْءِ الْمُنْكَرِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي الإِْنْكَارِ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا وَبِصِيغَةِ الْجَزْمِ، فَلاَ يَصِحُّ قَوْل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: (مَا أَظُنُّ لَهُ عِنْدِي شَيْئًا) . (2) وَيَسْتَلْزِمُ هَذَا الشَّرْطُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَنَاوَل الإِْنْكَارُ الْحَقَّ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الدَّعْوَى، فَلاَ يَصِحُّ إِذَا كَانَ يَتَنَاوَل حَقًّا آخَرَ لَمْ تَقْتَضِهِ الدَّعْوَى، فَفِي جَوَابِ دَعْوَى الْوَدِيعَةِ مَثَلاً يُقْبَل مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَقُول: (لَمْ تُودِعْنِي، أَوْ لاَ تَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا) ، فَلَوْ قَال: (لاَ يَلْزَمُنِي دَفْعُ شَيْءٍ أَوْ تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَيْكَ) ، لَمْ يَكُنْ هَذَا إِنْكَارًا لِلدَّعْوَى، لأَِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْمُودِعِ الْوَدِيعَةِ، فَهُوَ قَدْ نَفَى حَقًّا لَمْ يَدَّعِهِ عَلَيْهِ الْمُدَّعِي، فَلاَ يُعْتَبَرُ إِنْكَارًا لِدَعْوَى الْوَدِيعَةِ. (3)
__________
(1) أدب القضاء لابن أبي الدم ق 28 ب.
(2) لب اللباب ص 256، معين الحكام ص 64
(3) تحفة المحتاج 10 / 305(20/314)
وَفِي دَعْوَى الطَّلاَقِ لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُول فِي إِنْكَارِهَا: (لَمْ أُطَلِّقْ) ، وَإِنَّمَا يَكْفِي أَنْ يَقُول: (أَنْتِ زَوْجَتِي) ، وَفِي دَعْوَى النِّكَاحِ يَكْفِي فِي إِنْكَارِهَا أَنْ يَقُول: (لَيْسَتْ زَوْجَتِي) . (1)
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الإِْنْكَارِ أَنَّهُ يُخَيَّرُ الْمُدَّعِي بَيْنَ تَحْلِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَبَيْنَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ تَحْلِيفِهِ. (2)
65 - 3 - وَقَدْ لاَ يَكُونُ الْجَوَابُ إِقْرَارًا وَلاَ إِنْكَارًا، بِأَنْ يَسْكُتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلاَ يَتَكَلَّمُ بِإِقْرَارٍ وَلاَ إِنْكَارٍ، أَوْ يَقُول: (لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ) . وَحُكْمُ ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى حَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيُعْرَفَ إِنْ كَانَ سُكُوتُهُ مُتَعَمَّدًا أَوْ نَاتِجًا عَنْ عَاهَةٍ أَوْ دَهْشَةٍ أَوْ غَبَاوَةٍ، فَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لاَ عَاهَةَ بِهِ وَأَصَرَّ عَلَى الاِمْتِنَاعِ يَنْزِل مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ وَيَأْخُذُ حُكْمَهُ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ السَّاكِتَ لاَ يَنْزِل مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ بِحَالٍ مِنَ الأَْحْوَال، وَإِنَّمَا يُجْبَرُ عَلَى الْجَوَابِ، بِالأَْدَبِ الْمُنَاسِبِ. (3)
66 - 4 - وَقَدْ يُجِيبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِجَوَابٍ غَيْرِ صَحِيحٍ، فَيُنَبَّهُ إِلَيْهِ، فَلاَ يُصَحِّحُهُ، كَأَنْ يَقُول
__________
(1) المرجع نفسه.
(2) أدب القضاء لابن أبي الدم ق 30 ب.
(3) الفواكه البدرية ص 117، البحر الرائق 7 / 23، أدب القضاء لابن أبي الدم ق 31 ب.(20/315)
بَعْدَ طَلَبِ الْجَوَابِ مِنْهُ: فَلْيُثْبِتِ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ، فَلاَ يَكُونُ هَذَا جَوَابًا صَحِيحًا، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَيْهِ اعْتُبِرَ فِي حُكْمِ الْمُمْتَنِعِ عَنِ الْجَوَابِ، لأَِنَّ طَلَبَ الإِْثْبَاتِ لاَ يَسْتَلْزِمُ اعْتِرَافًا وَلاَ إِنْكَارًا. (1)
وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي ذَكَرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الصَّدَدِ أَنَّ مَنِ اعْتَرَفَ بِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَإِنَّهُ لاَ يَكْفِيهِ فِي نَفْيِ مَا يُوجِبُهُ ذَلِكَ السَّبَبُ أَنْ يُجِيبَ بِمَا هُوَ عَامٌّ يَشْمَل الْحَقَّ وَغَيْرَهُ، وَلَكِنْ لاَ بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ عَدَمِ مَا أَوْجَبَهُ ذَلِكَ السَّبَبُ بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ، مِثَال ذَلِكَ: لَوِ ادَّعَتِ امْرَأَةٌ عَلَى مَنْ يَعْتَرِفُ بِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ الْمَهْرَ، فَقَال الزَّوْجُ فِي الْجَوَابِ عَلَيْهَا: (لاَ تَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا) ، لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْجَوَابُ، وَاعْتُبِرَ مُقِرًّا بِالْحَقِّ الْمُدَّعَى بِهِ، فَيَلْزَمُهُ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ إِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً بِإِسْقَاطِ الْمَهْرِ. (2)
67 - 5 - وَقَدْ يَكُونُ الْجَوَابُ دَفْعًا لِلدَّعْوَى: الدَّفْعُ - كَمَا يُسْتَخْلَصُ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ - دَعْوَى مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَقْصِدُ بِهَا دَفْعَ الْخُصُومَةِ عَنْهُ، أَوْ إِبْطَال دَعْوَى الْمُدَّعِي، وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الدَّفْعَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: الدَّفْعُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ إِبْطَال دَعْوَى
__________
(1) تحفة المحتاج وحاشية العبادي 10 / 304، لب اللباب لابن رشد ص 256
(2) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 10 / 503، كشاف القناع 4 / 196(20/315)
الْمُدَّعِي نَفْسِهَا، وَمِثَالُهُ: أَنْ يَدَّعِيَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ وَقَبَضَهَا، أَوْ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ وَقَبَضَهَا، أَوْ أَيَّ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ لاِنْتِقَالِهَا إِلَى يَدِهِ. (1)
الثَّانِي: الدَّفْعُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ دَفْعُ الْخُصُومَةِ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِدُونِ تَعَرُّضٍ لِصِدْقِ الْمُدَّعِي أَوْ كَذِبِهِ فِي دَعْوَاهُ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ بِدَفْعِ الْخُصُومَةِ، وَمِثَالُهُ: أَنْ يَدْفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ بِأَنَّ يَدَهُ عَلَى الشَّيْءِ لَيْسَتْ يَدَ خُصُومَةٍ، وَإِنَّمَا يَدُ حِفْظٍ، كَأَنْ يَدَّعِيَ بِأَنَّهُ مُسْتَعِيرٌ لِهَذِهِ الْعَيْنِ أَوْ مُسْتَأْجِرٌ لَهَا، أَوْ أَنَّهَا مُودَعَةٌ عِنْدَهُ أَوْ مَرْهُونَةٌ لَدَيْهِ، فَإِذَا أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى دَعْوَاهُ، فَإِنَّ الْخُصُومَةَ تَنْدَفِعُ عَنْهُ. (2)
وَمَحَل هَذَا الدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي عَلَى خَصْمِهِ مِلْكًا مُطْلَقًا، فَإِنْ كَانَ يَدَّعِي عَلَيْهِ فِعْلاً، كَغَصْبٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ سَرِقَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَل مَا تَقَدَّمَ، لأَِنَّ الْخَصْمَ فِي دَعْوَى الْفِعْل هُوَ الَّذِي يُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَهُ، وَلاَ يُنْظَرُ إِلَى يَدِهِ. (3)
وَمِنْ صُوَرِ دَفْعِ الْخُصُومَةِ أَنْ يَدْفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ أَبْرَأَهُ مِنَ الدَّعْوَى أَوْ مِنَ
__________
(1) المنهاج وشرح المحلي، حاشية قليوبي 4 / 337
(2) البدائع 6 / 231، تحفة المحتاج 10 / 309، غاية المنتهى 3 / 458
(3) البدائع 6 / 231(20/316)
الْخُصُومَةِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ هَذَا الإِْبْرَاءَ، فَإِنَّ ثُبُوتَ ذَلِكَ يَدْفَعُ الْخُصُومَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَثِّرَ عَلَى الْحَقِّ ذَاتِهِ، وَلِذَلِكَ قَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الدَّفْعَ بِالإِْبْرَاءِ مِنَ الدَّعْوَى لاَ يَتَضَمَّنُ إِقْرَارًا بِالْحَقِّ الْمُدَّعَى، حَتَّى لَوْ عَجَزَ الدَّافِعُ عَنْ إِثْبَاتِ دَفْعِهِ جَازَ لَهُ دَفْعُ الدَّعْوَى بِأَيِّ دَفْعٍ آخَرَ مِنْ إِبْرَاءٍ مِنَ الْحَقِّ أَوْ قَضَاءٍ أَوْ حَوَالَةٍ وَنَحْوِهِ. وَهَذَا الدَّفْعُ أَجَازَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى بُطْلاَنِهِ. (1)
وَمِنْ صُوَرِهِ أَيْضًا دَفْعُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِنُقْصَانِ أَهْلِيَّتِهِ أَوْ بِنُقْصَانِ أَهْلِيَّةِ خَصْمِهِ الْمُدَّعِي، فَلَوْ رُفِعَتِ الدَّعْوَى عَلَى نَاقِصِ الأَْهْلِيَّةِ فَقَال: أَنَا صَبِيٌّ، وَقَفَتِ الْخُصُومَةُ حَتَّى يَبْلُغَ. (2)
وَالنَّوْعُ الأَْوَّل مِنَ الدُّفُوعِ يَصِحُّ إِيرَادُهُ فِي أَيَّةِ مَرْحَلَةٍ تَكُونُ عَلَيْهَا الدَّعْوَى قَبْل إِصْدَارِ الْحُكْمِ بِلاَ خِلاَفٍ، فَيَصِحُّ قَبْل الْبَيِّنَةِ، كَمَا يَصِحُّ بَعْدَهَا. وَأَمَّا بَعْدَ الْحُكْمِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى صِحَّتِهِ إِذَا تَضَمَّنَ إِبْطَال الْحُكْمِ. وَلَمْ يُمْكِنِ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّعْوَى الأَْصْلِيَّةِ. (3) وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ
__________
(1) البحر الرائق 7 / 203، الوجيز للغزالي 2 / 261، تحفة المحتاج 10 / 301، شرح المحلي 4 / 341، كشاف القناع 4 / 233، الفروع 3 / 828
(2) شرح المحلي على المنهاج 4 / 341
(3) قرة عيون الأخيار 2 / 457، 2 / 26 - 27، البحر الرائق 7 / 230 - 231، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 89، تبصرة الحكام 1 / 80(20/316)
لاَ يُقْبَل مِنَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ أَيُّ دَفْعٍ بَعْدَ فَصْل الدَّعْوَى، وَلَكِنَّ لَهُ أَنْ يَطْعَنَ بِأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَاضِي عَدَاوَةً، فَإِذَا أَثْبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ فَسْخُ الْحُكْمِ، وَإِعَادَةُ الْمُحَاكَمَةِ. (1)
وَأَمَّا دَفْعُ الْخُصُومَةِ فَيَجُوزُ إِبْدَاؤُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَبْل الْحُكْمِ وَلاَ يَصِحُّ بَعْدَهُ، لأَِنَّ تَأَخُّرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَفْعِ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ إِلَى مَا بَعْدَ الْحُكْمِ يَجْعَل الدَّعْوَى صَحِيحَةً فِي جَمِيعِ مَرَاحِلِهَا، لأَِنَّهَا قَامَتْ عَلَى خَصْمٍ حَسَبَ الظَّاهِرِ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ قَدْ صَدَرَ صَحِيحًا، فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَدْفَعَ بِأَنَّ يَدَهُ مَثَلاً كَانَتْ يَدَ حِفْظٍ عَلَى الْعَيْنِ الَّتِي حُكِمَ بِهَا لِلْمُدَّعِي، إِذْ يَغْدُو بِمَثَابَةِ أَجْنَبِيٍّ يُرِيدُ إِثْبَاتَ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ، فَلَمْ تَتَضَمَّنْ دَعْوَاهُ إِبْطَال الْقَضَاءِ السَّابِقِ. (2)
وَالشَّافِعِيَّةُ لاَ يَرَوْنَ صِحَّةَ دَفْعِ الْخُصُومَةِ إِلاَّ قَبْل الشُّرُوعِ فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ مِنَ الْمُدَّعِي، قَال الْقَفَّال: إِذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا عَلَى مِلْكِيَّتِهِ لِلْعَيْنِ، ثُمَّ قَبْل إِكْمَال الشَّهَادَةِ دَفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّ الْعَيْنَ لَيْسَتْ مِلْكَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ لِزَوْجَتِهِ مَثَلاً لَمْ يُقْبَل مِنْهُ هَذَا الدَّفْعُ، وَطُلِبَ مِنَ الْمُدَّعِي إِكْمَال الشَّهَادَةِ، حَتَّى إِذَا أَتَمَّهَا بِشُرُوطِهَا قُضِيَ لَهُ بِالْمُدَّعَى بِهِ، وَلِلزَّوْجَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تَرْفَعَ دَعْوَى
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 80 - 81
(2) حاشية منحة الخالق على البحر الرائق 7 / 230(20/317)
عَلَيْهِ بِالْعَيْنِ الَّتِي قُضِيَ لَهُ بِهَا، فَمُنِعَ مِنْ إِبْدَاءِ الدَّفْعِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، لأَِنَّهُ مُقَصِّرٌ لِسُكُوتِهِ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ. (1)
وَالأَْصْل فِي الدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ فِي الدَّعْوَى الأَْصْلِيَّةِ أَمْ كَانَ فِي دَفْعِهَا، إِذْ مِنَ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الدَّفْعَ نَفْسَهُ دَعْوَى يُصْبِحُ فِيهَا الْمُدَّعِي مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الدَّعْوَى الأَْصْلِيَّةِ مُدَّعِيًا فِي الدَّفْعِ، فَيَكُونُ لِلْمُدَّعِي الَّذِي انْقَلَبَ مُدَّعًى عَلَيْهِ فِي الدَّفْعِ أَنْ يَدْفَعَ الدَّفْعَ الْمُوَجَّهَ إِلَيْهِ. (2)
وَلَكِنَّهُ يَسْمَعُ مِنْ غَيْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا تَعَدَّى إِلَيْهِ الْحُكْمُ عَلَى فَرْضِ صُدُورِهِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى رَجُلٌ دَيْنًا عَلَى مُورِثٍ وَخَاصَمَ أَحَدَ الْوَرَثَةِ، وَأَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ، كَانَ لِغَيْرِ الْمُخَاصِمِ مِنَ الْوَرَثَةِ دَفْعُ هَذِهِ الدَّعْوَى، لأَِنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنِ الْجَمِيعِ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّرِكَةِ، فَالْحُكْمُ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ الْوَارِثِ الْمُخَاصِمِ، فَيَكُونُ لَهُ الْحَقُّ فِي دَفْعِهِ. (3)
68 - هَذَا، وَيُشْتَرَطُ فِي الدَّفْعِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الدَّعْوَى، لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا
__________
(1) تحفة المحتاج 10 / 308 - 309
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 89
(3) قرة عيون الأخيار 2 / 457، معين الحكام للطرابلسي ص 129(20/317)
تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الآْثَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ، فَإِذَا عَجَزَ الدَّافِعُ عَنْ إِثْبَاتِ دَفْعِهِ بِوَسَائِل الإِْثْبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَطَلَبَ يَمِينَ الْمُدَّعِي حَلَفَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ نَكَل هَذَا عَنِ الْيَمِينِ ثَبَتَ الدَّفْعُ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِالنُّكُول، وَأَمَّا عِنْدَ الآْخَرِينَ فَيَحْلِفُ الدَّافِعُ يَمِينَ الرَّدِّ، فَإِنْ فَعَل ثَبَتَ الدَّفْعُ وَانْدَفَعَتِ الدَّعْوَى، وَأَمَّا إِذَا حَلَفَ الْمُدَّعِي عَادَتْ دَعْوَاهُ الأَْصْلِيَّةُ. (1) ثُمَّ يُنْظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي طَبِيعَةِ الدَّفْعِ، فَقَدْ يَكُونُ مُتَضَمِّنًا لِلإِْقْرَارِ بِالْمُدَّعَى بِهِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ بِدَيْنٍ مُعَيَّنٍ، فَدَفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَائِلاً: إِنَّ الْمُدَّعِيَ كَانَ أَبْرَأَنِي مِنَ الْمَبْلَغِ الْمَذْكُورِ، وَعَجَزَ عَنْ إِثْبَاتِ الإِْبْرَاءِ، وَحَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى عَدَمِهِ، فَإِنَّ الْمُدَّعِي يَسْتَحِقُّ مَا ادَّعَى بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُكَلَّفَ بَيِّنَةً أُخْرَى، لأَِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِدَفْعِهِ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ مَدِينًا بِالْمَبْلَغِ الْمُدَّعَى، وَالأَْصْل بَقَاءُ اشْتِغَال ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَثْبُتَ الْعَكْسُ، وَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ، فَيُحْكَمُ لِلْمُدَّعِي بِالْمَبْلَغِ الَّذِي يُطَالِبُ بِهِ. (2)
وَقَدْ لاَ يَكُونُ الدَّفْعُ مُتَضَمِّنًا إِقْرَارَ الدَّافِعِ بِالْحَقِّ الْمُدَّعَى، كَمَا فِي صُوَرِ دَفْعِ الْخُصُومَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَعْضُهَا.
وَتَفْصِيلُهُ فِي: (إِقْرَارٌ، وَإِنْكَارٌ، وَنُكُولٌ) (3) .
__________
(1) قرة عيون الأخيار 2 / 460، كشاف القناع 4 / 201.
(2) كشاف القناع 4 / 201، أدب القضاء لابن أبي الدم ق 29 أ.
(3) انظر شرح المجلة للأتاسي مادة: 1631 (5 / 64)(20/318)
انْتِهَاءُ الدَّعْوَى:
69 - تَنْتَهِي الدَّعْوَى غَالِبًا بِصُدُورِ حُكْمٍ فِي مَوْضُوعِهَا يَحْسِمُ النِّزَاعَ، بِحَيْثُ لاَ تُقْبَل بَعْدَ ذَلِكَ إِثَارَتُهُ، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَنْتَهِي بِعَارِضٍ مِنَ الْعَوَارِضِ يَضَعُ حَدًّا لِلْخُصُومَةِ قَبْل وُصُولِهَا إِلَى تِلْكَ النِّهَايَةِ.
أَمَّا الْحُكْمُ فَقَدْ عَرَّفَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ فَصْل الْخُصُومَةِ (1) . وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ: أَنْ تَتَقَدَّمَهُ خُصُومَةٌ وَدَعْوَى صَحِيحَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ بِصِيغَةِ الإِْلْزَامِ، وَأَنْ يَكُونَ وَاضِحًا بِحَيْثُ يُعَيَّنُ فِيهِ مَا يُحْكَمُ بِهِ وَمَنْ يُحْكَمُ لَهُ بِصُورَةٍ وَاضِحَةٍ، وَشُرُوطٌ أُخْرَى مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا وَتَفْصِيل أَنْوَاعِ الْحُكْمِ وَأَثَرِهِ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ) .
وَأَمَّا الْعَوَارِضُ الَّتِي تَنْتَهِي الدَّعْوَى قَبْل صُدُورِ حُكْمٍ فِيهَا، فَإِنَّهُ بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يُعْنَوْا بِحَصْرِهَا، إِلاَّ أَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِنْتَاجُهَا مِنَ الْقَوَاعِدِ وَالأُْصُول الَّتِي اعْتَمَدُوا عَلَيْهَا فِي التَّقَاضِي وَنَظَرِ الدَّعَاوِي، وَمِنْ بَعْضِ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا:
أ - بِنَاءً عَلَى تَعْرِيفِ الْمُدَّعِي بِأَنَّهُ مَنْ إِذَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ لاَ يُجْبَرُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الدَّعْوَى تَنْتَهِي
__________
(1) كفاية الطالب الرَّبَّاني 2 / 253، كشاف القناع 4 / 266(20/318)
بِتَنَازُل الْمُدَّعِي عَنْهَا بِإِرَادَتِهِ، قَال الْبَاجُورِيُّ: (إِنَّ مَشِيئَةَ الْمُدَّعِي لاَ تَتَقَيَّدُ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَلَهُ إِمْهَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلَى الأَْبَدِ بَل لَهُ الاِنْصِرَافُ وَتَرْكُ الْخُصُومَةِ بِالْكُلِّيَّةِ) . (1)
ب - وَبِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ شُرُوطِ الدَّعْوَى فَإِنَّهَا تَنْتَهِي إِذَا طَرَأَ مَا يَجْعَل بَعْضَ تِلْكَ الشُّرُوطِ مُتَخَلِّفًا، كَمَا لَوْ أَضْحَى الْمُدَّعِي لاَ مَصْلَحَةَ لَهُ فِي مُتَابَعَةِ السَّيْرِ فِي الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ كَوْنَ الدَّعْوَى مُفِيدَةً شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا، وَيُمْكِنُ حُدُوثُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مِنْهَا: أَنْ يُتَوَفَّى الصَّغِيرُ الْمُتَنَازَعُ عَلَى حَضَانَتِهِ، فَيُصْبِحُ الاِسْتِمْرَارُ فِي الدَّعْوَى غَيْرَ مُفِيدٍ لِلْمُدَّعِي، وَمِنْهَا أَنْ يُتَوَفَّى الزَّوْجُ الَّذِي تَطْلُبُ الزَّوْجَةُ الْحُكْمَ بِتَطْلِيقِهَا مِنْهُ، حَيْثُ تَنْتَفِي الْمَصْلَحَةُ فِي اسْتِمْرَارِ نَظَرِ الدَّعْوَى.
غَيْرَ أَنَّهُ يَجْدُرُ بِالْمُلاَحَظَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ الأَْصْلِيَّ فِي الدَّعْوَى قَدْ يُصْبِحُ فِي مَرْكَزِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا تَقَدَّمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الأَْصْلِيُّ بِدَفْعٍ صَحِيحٍ لِلدَّعْوَى الأَْصْلِيَّةِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ السَّابِقَةَ تَقْتَضِي أَنْ لاَ يُسْمَحَ لِلْمُدَّعِي الأَْصْلِيِّ أَنْ يَتْرُكَ دَعْوَاهُ إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَدْ أَبْدَى دَفْعًا لِهَذِهِ الدَّعْوَى إِلاَّ إِذَا تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ.
__________
(1) حاشية الباجوري 2 / 401(20/319)
وَكَذَلِكَ تَنْتَهِي الدَّعْوَى إِذَا انْتَهَى التَّنَازُعُ فِي الْحَقِّ الْمَطْلُوبِ قَبْل صُدُورِ حُكْمٍ فِي مَوْضُوعِ الدَّعْوَى، كَمَا لَوْ تَصَالَحَ الْخُصُومُ عَلَى الْحَقِّ الْمُدَّعَى.(20/319)
دَعْوَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّعْوَةُ مَصْدَرُ (دَعَا) تَقُول: دَعَوْتُ زَيْدًا دُعَاءً وَدَعْوَةً، أَيْ نَادَيْتُهُ.
وَقَدْ تَكُونُ لِلْمَرَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَْرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} (1) أَيْ دَعَاكُمْ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَالدَّعْوَةُ تَأْتِي فِي اللُّغَةِ لِمَعَانٍ مِنْهَا:
أ - النِّدَاءُ، تَقُول دَعَوْتُ فُلاَنًا أَيْ نَادَيْتُهُ، وَهَذَا هُوَ الأَْصْل فِي مَعْنَى (دَعَا) مُطْلَقًا وَلَوْ مِنَ الأَْعْلَى لِلأَْدْنَى، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} (2)
ب - الطَّلَبُ مِنَ الأَْدْنَى إِلَى الأَْعْلَى، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (3) وَاسْتِعْمَال لَفْظِ الدُّعَاءِ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنَ (الدَّعْوَةِ) . وَمِثْلُهُ (الدَّعْوَى) كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4)
__________
(1) سورة الروم / 25
(2) سورة الإسراء / 52
(3) سورة البقرة / 186
(4) سورة يونس / 10(20/320)
أَيْ آخِرُ دُعَائِهِمْ، وَقَدْ يُخَصُّ بِطَلَبِ الْحُضُورِ، تَقُول: (دَعَوْتُ فُلاَنًا) أَيْ قُلْتُ لَهُ تَعَال.
ج - وَالدَّعْوَةُ الدِّينُ أَوِ الْمَذْهَبُ، حَقًّا كَانَ أَمْ بَاطِلاً، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَِنَّ صَاحِبَهُ يَدْعُو إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} . (1)
د - وَالدَّعْوَةُ مَا دَعَوْتَ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ.
وَخَصَّهَا اللِّحْيَانِيُّ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ، وَهِيَ طَعَامُ الْعُرْسِ.
هـ - وَالدَّعْوَةُ الْحِلْفُ، أَيْ لأَِنَّهُ يُدْعَى بِهِ لِلاِنْتِصَارِ.
و وَالدَّعْوَةُ النَّسَبُ، تَقُول: فُلاَنٌ يُدْعَى لِفُلاَنٍ، أَيْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لآِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} (2) وَالْمَنْسُوبُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ يُقَال لَهُ: الدَّعِيُّ، وَأَكْثَرُ الْعَرَبِ يَقُولُونَ فِي النَّسَبِ (الدَّعْوَةُ) وَقَال ابْنُ شُمَيْلٍ: الدِّعْوَةُ (بِكَسْرِ الدَّال) فِي النَّسَبِ، وَالدَّعْوَةُ فِي الطَّعَامِ، وَعَدِيُّ بْنُ الرَّبَابِ عَلَى الْعَكْسِ يَفْتَحُونَ الدَّال فِي النَّسَبِ وَيَكْسِرُونَ فِي الطَّعَامِ، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِالضَّمِّ. (3)
ز - وَالدَّعْوَةُ الأَْذَانُ أَوِ الإِْقَامَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ: الْخِلاَفَةُ فِي قُرَيْشٍ، وَالْحُكْمُ فِي الأَْنْصَارِ،
__________
(1) سورة الرعد / 14
(2) سورة الأحزاب / 5
(3) لسان العرب ومختار الصحاح، وابن عابدين 3 / 223(20/320)
وَالدَّعْوَةُ فِي الْحَبَشَةِ (1) جَعْل الأَْذَانِ فِي الْحَبَشَةِ تَفْضِيلاً لِمُؤَذَّنِ بِلاَلٍ، وَإِنَّمَا قِيل لِلأَْذَانِ ذَلِكَ لأَِنَّهُ دَعْوَةٌ إِلَى الصَّلاَةِ، وَلِذَلِكَ يَقُول الْمُجِيبُ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ. . . إِلَخْ. (2)
وَأَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ لاَ تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ.
2 - وَسَنَقْصِرُ الْبَحْثَ فِي هَذَا الْمُصْطَلَحِ عَلَى الْمَعَانِي التَّالِيَةِ:
أ - الدَّعْوَةُ: بِمَعْنَى طَلَبِ الدُّخُول فِي الدِّينِ وَالاِسْتِمْسَاكِ بِهِ.
ب - وَالدَّعْوَةُ: بِمَعْنَى الْمُنَادَاةِ وَطَلَبِ الْحُضُورِ إِلَى الدَّاعِي.
وَأَمَّا الدَّعْوَةُ: بِمَعْنَى الدُّعَاءِ. وَهُوَ الرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يُجِيبَ سُؤَال الدَّاعِي وَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي (دُعَاءٌ) .
وَأَمَّا الدَّعْوَةُ بِمَعْنَى النَّسَبِ فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي: (نَسَبٌ) .
__________
(1) حديث: " الخلافة في قريش، والحكم في الأنصار، والدعوة في الحبشة " أخرجه أحمد في مسنده (4 / 185 - ط الميمنية) من حديث عتبة بن عبد، وقال الهيثمي: " رجاله ثقات " كذا في " مجمع الزوائد " (4 / 192 - ط القدسي) .
(2) حديث: " اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 94 - ط السلفية) من حديث جابر بن عبد الله.(20/321)
أَوَّلاً:
الدَّعْوَةُ بِمَعْنَى الدِّينِ " أَوِ الْمَذْهَبِ " أَوْ بِمَعْنَى الدُّخُول فِيهِمَا:
3 - أَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَوَاضِحٌ مَأْخَذُهُ لُغَةً، فَإِنَّ الدَّاعِيَ يَطْلُبُ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يُتَابِعَهُ عَلَى دِينِهِ، وَالطَّلَبُ دَعْوَةٌ.
وَأَمَّا إِطْلاَقُ الدَّعْوَةِ عَلَى الدِّينِ نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى الْمَذْهَبِ، فَلأَِنَّ صَاحِبَهُ يَدْعُو إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) (1) قَال الزَّجَّاجُ: جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهَا شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَيْ لأَِنَّهَا يُدْعَى إِلَيْهَا أَهْل الْمِلَل الْكَافِرَةِ. وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْل: إِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِْسْلاَمِ وَفِي رِوَايَةٍ دَاعِيَةِ الإِْسْلاَمِ (2) . قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: أَيْ بِدَعْوَتِهِ.
وَيُطْلَقُ عَلَى الأَْدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ أَنَّهَا دَعَوَاتٌ، كَدَعَوَاتِ الْمُتَنَبِّئِينَ، وَأَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ الْمُبْتَدَعَةِ، كَالدَّعَوَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي أَكْثَرَتْ مِنِ اسْتِعْمَال هَذَا الْمُصْطَلَحِ وَمُشْتَقَّاتِهِ، غَيْرَ أَنَّ " الدَّعْوَةَ " إِذَا أُطْلِقَتْ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ فَالْمَعْنِيُّ بِهَا دَعْوَةُ الْحَقِّ وَهِيَ الدَّعْوَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ، كَقَوْلِهِمْ فِي أَبْوَابِ الْجِهَادِ: " لاَ يَحِل لَنَا أَنْ نُقَاتِل
__________
(1) سورة الرعد / 14
(2) حديث: " إني أدعوك بدعاية الإسلام - وفي رواية بداعية الإسلام " أخرج الرواية الأولى البخاري (الفتح 1 / 32 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1396 - ط الحلبي) ، وأخرج الرواية الثانية مسلم (3 / 1397 - ط الحلبي) كلاهما من حديث أبي سفيان.(20/321)
مَنْ لاَ تَبْلُغُهُ الدَّعْوَةُ إِلَى الإِْسْلاَمِ ". (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
4 - أ - الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ:
الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْسَعُ دَلاَلَةً مِنَ " الدَّعْوَةِ "، إِذْ أَنَّ " الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ " أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ الأَْكْبَرِ الَّذِي هُوَ الإِْيمَانُ وَالصَّلاَحُ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ الأَْكْبَرِ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَالإِْشْرَاكُ بِهِ وَمَعْصِيَتُهُ.
(وَالدَّعْوَةُ) تَهْدُفُ إِلَى الإِْقْنَاعِ وَالْوُصُول إِلَى قُلُوبِ الْمَدْعُوِّينَ لِلتَّأْثِيرِ فِيهَا حَتَّى تَتَحَوَّل عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الإِْعْرَاضِ أَوِ الْعِنَادِ، إِلَى الإِْقْبَال وَالْمُتَابَعَةِ، أَمَّا الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَقَدْ يَهْدُفُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يَهْدُفُ إِلَى مُجَرَّدِ وُجُودِ الْمَعْرُوفِ وَزَوَال الْمُنْكَرِ، سَوَاءٌ أَحَصَل الاِقْتِنَاعُ وَالْمُتَابَعَةُ أَمْ لَمْ يَحْصُلاَ.
وَعَلَى هَذَا فَالدَّعْوَةُ أَخَصُّ مِنَ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
ب - الْجِهَادُ:
5 - الْجِهَادُ الْقِتَال لإِِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْجِهَادُ فِعْلٌ، وَالْجِهَادُ لَيْسَ هُوَ الدَّعْوَةُ، بَل الدَّعْوَةُ مُطَالَبَةُ الْكَافِرِ وَنَحْوِهِ بِالإِْيمَانِ وَالاِتِّبَاعِ، وَالدَّعْوَةُ وَاجِبَةٌ قَبْل الْقِتَال، كَمَا سَيَأْتِي.
__________
(1) الدر المختار 3 / 223، وانظر مصطلح: (تبييت) في الموسوعة.(20/322)
ج - الْوَعْظُ:
6 - الْوَعْظُ وَالْعِظَةُ: النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالْعَوَاقِبِ، قَال ابْنُ سِيدَةَ: هُوَ تَذْكِيرُكَ لِلإِْنْسَانِ بِمَا يُلَيِّنُ قَلْبَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. (1) فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الدَّعْوَةِ، إِذِ الدَّعْوَةُ تَكُونُ أَيْضًا بِالْمُجَادَلَةِ وَالْمُحَاوَرَةِ وَكَشْفِ الشُّبَهِ وَتَبْلِيغِ الدِّينِ مُجَرَّدًا.
حُكْمُ الدَّعْوَةِ:
7 - الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَرْضٌ لاَزِمٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ادْعُ إِلَى سَبِيل رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (2) وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (3) وَقَوْلِهِ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4)
وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ هَل هُوَ عَيْنِيٌّ أَمْ كِفَائِيٌّ (5) .
وَتَفْصِيلُهُ ذُكِرَ فِي مُصْطَلَحِ: " أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ ".
فَضْل الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى:
8 - يَتَبَيَّنُ فَضْل الْقِيَامِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ:
__________
(1) لسان العرب.
(2) سورة النحل / 125
(3) سورة يوسف / 108
(4) سورة آل عمران / 104
(5) تفسير ابن كثير 2 / 109، وسورة المائدة / 105(20/322)
9 - الْوَجْهُ الأَْوَّل:
أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَوَلاَّهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَأَرْسَل الرُّسُل وَأَنْزَل مَعَهُمُ الْكُتُبَ وَأَيَّدَهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَأَمَرَ بِالتَّقْوَى، وَأَمَرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ فِي مَخْلُوقَاتِهِ نَصَبَ الأَْدِلَّةَ عَلَى كَوْنِهِ الرَّبَّ الْخَالِقَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ، وَفِي كُتُبِهِ ذَكَرَ الْبَرَاهِينَ الَّتِي تُثْبِتُ ذَلِكَ، ثُمَّ بَشَّرَ وَحَذَّرَ وَأَنْذَرَ، وَقَال: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . (1)
وَتَوَلَّى الدَّعْوَةَ أَيْضًا رُسُلُهُ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتَكْلِيفٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مَضْمُونَ الرِّسَالَةِ الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُل أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) وَقَال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} . (3)
وَآخِرُ الرُّسُل مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحَدَّدَ لَهُ مَهَامَّ الرِّسَالَةِ وَمِنْهَا الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ تَعَالَى، فَقَال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًّا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} . (4)
فَوَظِيفَةُ الدَّاعِيَةِ إِذَنْ مِنَ الشَّرَفِ فِي مَرْتَبَةٍ عَالِيَةٍ، إِذْ أَنَّهَا تَبْلِيغُ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُتَابَعَةُ
__________
(1) سورة يونس / 25
(2) سورة النحل / 36
(3) سورة النساء / 165
(4) سورة الأحزاب / 45(20/323)
مُهِمَّةِ الرُّسُل، وَالسَّيْرُ عَلَى طَرِيقِهِمْ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {قُل هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1)
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مِنْ دُعَاءِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ أَنْ يَقُولُوا: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (2) قَال قَتَادَةُ: " أَيْ قَادَةً فِي الْخَيْرِ، وَدُعَاةَ هُدًى يُؤْتَمُّ بِنَا فِي الْخَيْرِ ". (3)
10 - الْوَجْهُ الثَّانِي:
مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِل صَالِحًا. . .} (4) فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى اللَّهِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، هُوَ أَحْسَنُ الْقَوْل، وَأَعْلاَهُ مَرْتَبَةً، وَمَا ذَلِكَ إِلاَّ لِشَرَفِ غَايَاتِهِ وَعِظَمِ أَثَرِهِ.
11 - الْوَجْهُ الثَّالِثُ:
مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ. . .} (5) وَقَوْلُهُ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} ، إِلَى قَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (6) ، فَالآْيَةُ تُبَيِّنُ أَفْضَلِيَّةَ هَذِهِ الأُْمَّةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَأَنَّهُ هُوَ دَعْوَةُ النَّاسِ، وَالتَّسَبُّبُ فِي إِيمَانِهِمْ، وَفِي مُسَارَعَتِهِمْ إِلَى الْمَعْرُوفِ وَانْتِهَائِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ.
__________
(1) سورة يوسف / 108
(2) سورة الفرقان / 74
(3) فتح الباري 13 / 251 القاهرة، المطبعة السلفية 1371 هـ.
(4) سورة فصلت / 33
(5) سورة آل عمران / 110
(6) سورة آل عمران / 104(20/323)
وَالآْيَةُ الثَّانِيَةُ: حَصَرَتِ الْفَلاَحَ فِي الدُّعَاةِ الآْمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِينَ، عَنِ الْمُنْكَرِ.
12 - الْوَجْهُ الرَّابِعُ:
مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَْجْرِ مِثْل أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يُنْقِصُ ذَلِكَ لَهُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ (1) فَفِيهِ عِظَمُ أَجْرِ الدُّعَاةِ إِذَا اهْتَدَى بِدَعْوَتِهِمْ أَقْوَامٌ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ، وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَعْطَاهُ الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ: انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِل بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِْسْلاَمِ فَوَاللَّهِ لأََنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ (2) .
أَهْدَافُ الدَّعْوَةِ وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
13 - يَهْدُفُ تَشْرِيعُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَى تَحْقِيقِ أَغْرَاضٍ سَامِيَةٍ مِنْهَا:
1 - إِرْشَادُ الْبَشَرِيَّةِ إِلَى أَعْلَى حَقٍّ فِي هَذَا الْوُجُودِ، إِذْ بِدُونِ الدَّعْوَةِ لاَ يَتَمَكَّنُ الْبَشَرُ مِنْ مَعْرِفَةِ رَبِّهِمْ، وَيَبْقَوْنَ فِي تَخَبُّطٍ مِنْ أَمْرِ أَصْل الْخَلْقِ وَالْغَرَضِ مِنْهُ، وَمَآلِهِ، وَوَضْعِ الإِْنْسَانِ فِي هَذَا الْكَوْنِ، فَتَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلاَتُ وَالأَْوْهَامُ
__________
(1) حديث: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر. . . ". أخرجه مسلم (4 / 2060 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ". أخرجه مسلم (4 / 1872 - ط الحلبي) من حديث سهل بن سعد.(20/324)
كَمَا قَال تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} . (1)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ} : أَيْ بِالْكِتَابِ وَهُوَ الْقُرْآنِ، أَيْ بِدُعَائِكَ إِلَيْهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالضَّلاَلَةِ إِلَى نُورِ الإِْيمَانِ وَالْعِلْمِ بِتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ وَلُطْفِهِ بِهِمْ، وَأُضِيفَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَّهُ الدَّاعِي، وَالْمُنْذِرُ الْهَادِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. (2)
2 - إِنْقَاذُ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ أَسْبَابِ الدَّمَارِ وَالْهَلاَكِ، فَإِنَّ الْبَشَرَ إِذَا سَارُوا فِي حَيَاتِهِمْ بِمُجَرَّدِ عُقُولِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ وَغَرَائِزِهِمْ، لاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوَقِّي مَا يَضُرُّهُمْ، وَيُؤَدِّي بِهِمْ إِلَى الْفَسَادِ فِي الْغَالِبِ، وَالشَّرَائِعُ الإِْلَهِيَّةُ جَاءَتْ بِالتَّحْلِيل وَالتَّحْرِيمِ وَالْقَوَاعِدِ الَّتِي تَكْفُل لِمُتَّبِعِيهَا السَّعَادَةَ وَالصَّلاَحَ وَاسْتِقَامَةَ الأُْمُورِ. قَال تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُول إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (3) أَيْ يُحْيِي دِينَكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ، أَوْ إِلَى مَا يُحْيِي بِهِ قُلُوبَكُمْ فَتُوَحِّدُوهُ، وَهَذَا إِحْيَاءٌ مُسْتَعَارٌ، لأَِنَّهُ مِنْ مَوْتِ الْكُفْرِ وَالْجَهْل، وَقَال مُجَاهِدٌ وَالْجُمْهُورُ: اسْتَجِيبُوا لِلطَّاعَةِ وَمَا تَضَمَّنَهُ
__________
(1) سورة إبراهيم / 1
(2) القرطبي 9 / 338، وروح المعاني 1 / 105 - 108، وتفسير ابن كثير 1 / 69 - 71
(3) سورة الأنفال / 24(20/324)
الْقُرْآنُ، فَفِيهِ الْحَيَاةُ الأَْبَدِيَّةُ وَالنِّعْمَةُ السَّرْمَدِيَّةُ. (1)
3 - تَحْقِيقُ الْغَايَةِ مِنَ الْخَلْقِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْكَوْنَ وَمَهَّدَهُ لِلنَّاسِ لِيُعْبَدَ فِيهِ، قَال تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونَ} (2)
قَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لآِمُرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ، وَقَال مُجَاهِدٌ: إِلاَّ لِيَعْرِفُونِي. قَال الثَّعْلَبِيُّ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، لأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ لَمَا عُرِفَ وُجُودُهُ وَتَوْحِيدُهُ.
وَلاَ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالدَّعْوَةِ، لِيَتَمَكَّنَ الْخَلْقُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْوُجُوهِ الَّتِي يُرِيدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُعْبَدَ بِهَا، فَإِنَّ الْعَقْل لاَ يَهْتَدِي لِذَلِكَ مِنْ دُونِ أَنْ يُبَلَّغَ بِهِ مِمَّنْ يُعَلِّمُهُ.
4 - إِقَامَةُ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، بِأَنَّ دِينَهُ وَشَرَائِعَهُ قَدْ بَلَغَتْهُمْ حَتَّى إِنْ عَذَّبَهُمْ لَمْ يَكُنْ عَذَابُهُ ظُلْمًا، كَمَا قَال تَعَالَى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} . (3)
5 - تَحْقِيقُ الْهِدَايَةِ وَالرَّحْمَةِ الْمَقْصُودَةِ بِإِرْسَال الرُّسُل وَإِنْزَال الْكُتُبِ، كَمَا قَال تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (4)
__________
(1) تفسير القرطبي 7 / 389
(2) سورة الذاريات / 56، وانظر القرطبي 17 / 55
(3) سورة النساء / 165
(4) سورة الأنبياء / 107(20/325)
وَقَال عَنْ كِتَابِهِ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (1) {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (2) فَالدَّعْوَةُ هِيَ الْوَسِيلَةُ إِلَى إِطْلاَعِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالرَّسُول وَالْكِتَابِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا وَحَقِيقَةِ مَا جَاءَا بِهِ، فَتَعُمُّ الرَّحْمَةُ وَالْهِدَايَةُ إِلَى الْمَدَى الَّذِي يَشَاءُ إِلَيْهِ.
6 - تَكْثِيرُ عَدَدِ الأَْقْوَامِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، وَتَحْقِيقُ عِزَّةِ شَأْنِ الإِْسْلاَمِ وَالْمُسْلِمِينَ.
7 - مَا تَقَدَّمَ هُوَ فِي دَعْوَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا الدَّعْوَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَالْهَدَفُ مِنْهَا تَذْكِيرُ الْغَافِلِينَ وَالْعُصَاةِ، وَالْعَوْدَةُ بِالْمُنْحَرِفِينَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَتَقْلِيل الْمَفَاسِدِ فِي الْمُجْتَمَعِ الإِْسْلاَمِيِّ، وَإِزَالَةُ الشُّبَهِ الَّتِي يَنْشُرُهَا أَعْدَاءُ الدِّينِ، وَتَكْثِيرُ الْمُلْتَزِمِينَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِتَعَالِيمِ الدِّينِ لِيَعِيشَ الْمُؤْمِنُونَ - وَمِنْهُمُ الدُّعَاةُ أَنْفُسُهُمْ - فِي عِزَّةٍ وَقُوَّةٍ، وَفِي أَمْنٍ وَرَخَاءٍ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ كَثُرَ الْمُنْكَرُ وَأَهْلُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى ضَعْفِ أَهْل الإِْيمَانِ، وَذُلِّهِمْ بَيْنَ أَقْوَامِهِمْ، وَإِذَا كَثُرَ الْمُنْكَرُ وَأَهْلُهُ حَتَّى غَلَبُوا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْفِتَنِ وَالْعُقُوبَةِ الَّتِي قَدْ لاَ يَسْلَمُ مِنْهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْفُسُهُمْ، كَمَا قَال تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (3) .
الدَّعْوَةُ إِلَى الْبَاطِل:
14 - حَرَّمَ الإِْسْلاَمُ الدَّعْوَةَ إِلَى الْبَاطِل، وَشَدَّدَ
__________
(1) سورة البقرة / 2
(2) سورة النمل / 77
(3) سورة الأنفال / 25(20/325)
النَّكِيرَ عَلَى دُعَاةِ الْبَاطِل فِي آيَاتٍ صَرِيحَةٍ وَأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ، كَمَا حَذَّرَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مِنْ مُسَانَدَةِ الدَّاعِينَ إِلَى الْبَاطِل أَوْ تَسْهِيل الأَْمْرِ عَلَيْهِمْ. فَحَذَّرَ اللَّهُ مِنْ دَعْوَةِ شَيْطَانِ الْجِنِّ الإِْنْسَانَ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، بِأَنْ أَخْبَرَنَا بِمَقَالَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلضَّالِّينَ وَلِلْعُصَاةِ الَّذِينَ أَضَلَّهُمْ، كَمَا قَال تَعَالَى: {وَقَال الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَْمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْل إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) وَكَذَلِكَ شَيَاطِينُ الإِْنْسِ يَقُول لَهُمُ الْمَدْعُوُّونَ الَّذِينَ ضَلُّوا بِسَبَبِهِمْ: {بَل مَكْرُ اللَّيْل وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَل لَهُ أَنْدَادًا} (2) وَحَذَّرَ مِنْ مَصِيرِ دُعَاةِ الْبَاطِل وَأَتْبَاعِهِمْ فَقَال فِي فِرْعَوْنَ وَآلِهِ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} (3)
وَقَدْ دَل الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْبَاطِل يَحْمِل بِالإِْضَافَةِ إِلَى وِزْرِ نَفْسِهِ أَوْزَارَ مَنْ ضَلُّوا بِدَعْوَتِهِ، كَمَا قَال تَعَالَى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ
__________
(1) سورة إبراهيم / 22
(2) سورة سبأ / 33
(3) سورة القصص / 41(20/326)
يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) قَال ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ الدُّعَاةَ عَلَيْهِمْ إِثْمُ ضَلاَلِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَإِثْمٌ آخَرُ، بِسَبَبِ مَا أَضَلُّوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِ أُولَئِكَ شَيْءٌ، وَهَذَا مِنْ عَدْل اللَّهِ تَعَالَى. (2)
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِْثْمِ مِثْل آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْءٌ (3) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَل بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَال: نَعَمْ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا الشَّرَّ فَقَال: دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا قَال حُذَيْفَةُ: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، قَال: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا (4) الْحَدِيثَ. وَكُل هَذَا يُوجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْحَذَرَ مِنْ دَعْوَةِ الْبَاطِل وَمِمَّنْ يَحْمِل تِلْكَ الدَّعْوَةَ.
بَيَانُ مَا يُدْعَى إِلَيْهِ:
15 - أَوَّل مَا يُدْعَى إِلَيْهِ الْكَافِرُ الَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ
__________
(1) سورة النحل / 25
(2) تفسير ابن كثير 2 / 189
(3) حديث: " من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم. . . . . . . " أخرجه مسلم (4 / 2060 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(4) حديث حذيفة بن اليمان، أخرجه البخاري (الفتح 13 / 35 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1475 - ط الحلبي) .(20/326)
الدَّعْوَةُ، الإِْيمَانُ بِوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَوْحِيدُهُ، وَالتَّصْدِيقُ بِكِتَابِهِ، وَالإِْيمَانُ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالإِْيمَانُ بِسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآْخِرِ، وَمُتَابَعَةُ أَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، وَاتِّبَاعُ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالاِلْتِزَامُ بِسَائِرِ فَرَائِضِ الإِْسْلاَمِ وَوَاجِبَاتِهِ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالإِْقْبَال عَلَى الأَْعْمَال الْمُسْتَحَبَّةِ، وَعَلَى مَحَاسِنِ الأَْخْلاَقِ، وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ مِنْ شَوَائِبِ النِّفَاقِ وَالرِّيَاءِ، وَتَرْكُ مَا كَرِهَهُ الشَّرْعُ، وَتَعَلُّمُ الْقُرْآنِ وَالأَْحْكَامِ.
16 - وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: إِنَّكَ تَقْدُمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّل مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَل - وَفِي رِوَايَةٍ: فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُول اللَّهِ - فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ - وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنْ أَطَاعُوا بِذَلِكَ - فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ. فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا، فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ (1) قَال ابْنُ حَجَرٍ: بَدَأَ بِالشَّهَادَتَيْنِ لأَِنَّهُمَا أَصْل الدِّينِ الَّذِي لاَ يَصِحُّ شَيْءٌ غَيْرُهُ إِلاَّ بِهِمَا، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ مُوَحِّدٍ
__________
(1) حديث: إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 357 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 50، 51 - ط الحلبي) .(20/327)
فَالْمُطَالَبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَيْهِ بِكُل وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَمَنْ كَانَ مُوَحِّدًا فَالْمُطَالَبَةُ لَهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الإِْقْرَارِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ، ثُمَّ قَال: بَدَأَ بِالأَْهَمِّ فَالأَْهَمِّ، وَذَلِكَ مِنَ التَّلَطُّفِ فِي الْخِطَابِ لأَِنَّهُ لَوْ طَالَبَهُمْ بِالْجَمِيعِ فِي أَوَّل مَرَّةٍ لَمْ يَأْمَنِ النُّفْرَةَ. (1)
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ فَقَال: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} (2) وَقَال تَعَالَى: {قُل هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} . (3)
وَفِي بَعْضِ الآْيَاتِ عَبَّرَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيل اللَّهِ فَقَال: {ادْعُ إِلَى سَبِيل رَبِّكَ} (4) وَهَذَا أَعْظَمُ مَا دَعَا إِلَيْهِ الرُّسُل، كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْل نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} (5) وَقَوْل كُلٍّ مِنْ هُودٍ وَصَالِحٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: {قَال يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (6) .
وَاجِبُ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْحَقِّ:
17 - مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى دِينِ
__________
(1) فتح الباري 3 / 357
(2) سورة القصص / 87
(3) سورة يوسف / 108
(4) سورة النحل / 125
(5) سورة هود / 24، 25
(6) سورة هود / 50 - 61(20/327)
الإِْسْلاَمِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى قَبُولِهِ، وَالرِّضَا بِهِ، وَمُتَابَعَةُ الدَّاعِي إِلَيْهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَفَتَحَ لَهُ بِهِ بَابًا لِيَدْخُل إِلَى مَأْدُبَتِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَال: جَاءَتْ مَلاَئِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ إِلَى أَنْ قَال: فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَل رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَحَمَل فِيهَا مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَل الدَّارَ، وَأَكَل مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُل الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُل مِنَ الْمَأْدُبَةِ فَأَوَّلُوا الرُّؤْيَا فَقَالُوا:
الدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ (1) وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ الْمَدْعُوُّ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ لَهُ بِصُورَةٍ وَاضِحَةٍ فَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ حُجَّةُ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ اسْتَحَقَّ عُقُوبَةَ الْمُشْرِكِينَ وَالْكَافِرِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (2) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُْمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ. (3)
__________
(1) حديث جابر بن عبد الله: " جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 249 - ط السلفية) .
(2) سورة الإسراء / 15
(3) حديث: " والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة. . . " أخرجه مسلم (1 / 134 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(20/328)
وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَكْتَفِيَ بِالتَّسَمِّي بِالإِْسْلاَمِ، بَل عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِهِ وَالْعَمَل بِهَا، وَالتَّخَلُّقُ بِالأَْخْلاَقِ الإِْسْلاَمِيَّةِ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا يُنَافِي الإِْسْلاَمَ مِنَ الاِعْتِمَادَاتِ وَالْعَادَاتِ.
مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ الإِْسْلاَمِ:
18 - مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ لاَ يُكَلَّفُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، أَمَّا إِذَا رَغِبَ أَحَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ فِي دُخُول بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ لِيَسْمَعَ الْقُرْآنَ، وَيَعْلَمَ مَا جَاءَ بِهِ، وَيَفْهَمَ أَحْكَامَهُ وَأَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهُ، فَيَجِبُ إِعْطَاؤُهُ الأَْمَانَ لأَِجْل ذَلِكَ، فَإِنْ قَبِل فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِلاَّ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى مَأْمَنِهِ. قَال تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ} . (1)
أَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّجَاةُ فِي الآْخِرَةِ، فَقَدْ قَسَّمَ الإِْمَامُ الْغَزَالِيُّ النَّاسَ فِي شَأْنِ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ:
الأَْوَّل: مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا بِالْمَرَّةِ، قَال: وَهَؤُلاَءِ نَاجُونَ.
الثَّانِي: مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ عَلَى وَجْهِهَا وَلَمْ يَنْظُرْ فِي
__________
(1) سورة التوبة / 6(20/328)
أَدِلَّتِهَا اسْتِكْبَارًا أَوْ إِهْمَالاً أَوْ عِنَادًا، قَال: وَهَؤُلاَءِ مُؤَاخَذُونَ.
الثَّالِثُ: مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، كَمَنْ بَلَغَهُ اسْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْلُغْهُمْ نَعْتُهُ وَصِفَتُهُ، بَل سَمِعُوا مُنْذُ الصِّبَا بِاسْمِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ مُتَّهَمًا بِالتَّدْلِيسِ وَالْكَذِبِ وَادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ قَال: فَهَؤُلاَءِ فِي مَعْنَى الصِّنْفِ الأَْوَّل (1) .
الْمُكَلَّفُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ:
19 - الإِْمَامُ أَوْلَى النَّاسِ بِإِقَامَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ لأُِمُورٍ:
الأَْوَّل: أَنَّ الإِْمَامَةَ فِي شَرِيعَةِ الإِْسْلاَمِ إِنَّمَا هِيَ لِحِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَحِرَاسَةُ الدِّينِ تَتَضَمَّنُ الْحِرْصَ عَلَى نَشْرِهِ، وَتَقْوِيَتِهِ، وَقِيَامِ الْعَمَل بِهِ، وَاسْتِمْرَارِ كَلِمَتِهِ عَالِيَةً، وَتَتَضَمَّنُ الدِّفَاعَ عَنْهُ ضِدَّ الشُّبُهَاتِ، وَالضَّلاَلاَتِ، الَّتِي يُلْقِيهَا وَيَبُثُّهَا أَعْدَاءُ الدِّينِ. قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ:
__________
(1) مع الله، للشيخ محمد الغزالي ص 62، القاهرة، دار الكتب الحديثة 1380 هـ نقلا عن فيصل التفرقة للإمام أبي حامد الغزالي، وتفسير ابن كثير عند قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا) من سورة الإسراء 30، 31 القاهرة عيسى الحلبي، وتفسير الرازي 15 / 226، والقرطبي 8 / 74، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 84، ونهاية المحتاج 1 / 371، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي 1 / 120، وشرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني المسمى كفاية الطالب الرباني 1 / 211 دار المعرفة، ومواهب الجليل 1 / 469، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 200(20/329)
" وَلِيُّ الأَْمْرِ إِنَّمَا نُصِّبَ لِيَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَذَلِكَ هُوَ مَقْصُودُ الْوِلاَيَةِ (1) " كَمَا أَنَّ مِنْ وَاجِبِ الإِْمَامِ إِقَامَةُ الْجِهَادِ لِنَشْرِ الإِْسْلاَمِ، وَالْجِهَادُ فِي ذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ.
الثَّانِي: أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ هُوَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الرَّاجِحِ، وَفُرُوضُ الْكِفَايَاتِ عَلَى الإِْمَامِ الْقِيَامُ بِهَا أَوْ تَكْلِيفُ مَنْ يَقُومُ بِهَا، كَتَكْلِيفِهِ لِلْقُضَاةِ، وَالأَْئِمَّةِ، وَالْمُؤَذِّنِ، وَأَهْل الْجِهَادِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ مَا حَصَل لِلإِْمَامِ مِنَ التَّمْكِينِ فِي الأَْرْضِ وَنُفُوذِ الْكَلِمَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ صَالِحًا فِي نَفْسِهِ مُحَاوِلاً الإِْصْلاَحَ جَهْدَهُ، لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَْرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُْمُورِ} . (2)
20 - وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ مُكَلَّفٌ بِهَا كُل مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ الْكِفَائِيِّ أَوِ الْعَيْنِيِّ،
__________
(1) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، بتحقيق محمد المبارك ص 65 بيروت. دار الكتب العربية 1386هـ.
(2) سورة الحج / 40، 41، وانظر تفسير القرطبي 1 / 73(20/329)
فَلَيْسَتْ خَاصَّةً بِالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ بَلَغُوا فِي الْعِلْمِ الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي عَالِمًا بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ (1) . وَقَوْلِهِ:
بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً (2) وَقَال بَعْدَ أَنْ خَطَبَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ. (3)
فَالْمُسْلِمُ يَدْعُو إِلَى أَصْل الإِْسْلاَمِ، وَإِلَى أَصْل الأُْمُورِ الظَّاهِرَةِ مِنْهُ كَالإِْيمَانِ بِاللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَالْيَوْمِ الآْخِرِ، وَكَفِعْل الصَّلاَةِ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِلَى نَحْوِ تَرْكِ الْمَعَاصِي الظَّاهِرَةِ مِنَ الزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْعُقُوقِ، وَالْفُحْشِ فِي الْقَوْل. وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى شَيْءٍ يَجْهَلُهُ، لِئَلاَّ يَكُونَ عَلَيْهِ إِثْمُ مَنْ يُضِلُّهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَخْتَصُّ أَهْل الْعِلْمِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى تَفَاصِيل ذَلِكَ، وَكَشْفِ الشُّبَهِ، وَجِدَال أَصْحَابِهَا، وَرَدِّ غُلُوِّ الْغَالِينَ، وَانْتِحَال الْمُبْطِلِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِغَيْرِ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا الدَّعْوَةُ إِلَى مَسَائِل جُزْئِيَّةٍ إِذَا عَلِمُوهَا وَأَصْبَحُوا بِهَا عَلَى بَصِيرَةٍ، وَلاَ يُشْتَرَطُ لِذَلِكَ التَّبَحُّرُ فِي الْعِلْمِ
__________
(1) حديث: " نضر الله امرأ سمع منا شيئًا. . . " أخرجه الترمذي (5 / 34 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود، وقال: " حسن صحيح ".
(2) حديث: " بلغوا عني ولو آية " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 496 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمرو.
(3) حديث: " ليبلغ الشاهد الغائب " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 158 - ط السلفية) من حديث أبي بكرة.(20/330)
الدِّينِيِّ بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ، فَكُلٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ يَدْعُو إِلَى مَا هُوَ عَالِمٌ بِهِ. قَال الْغَزَالِيُّ: " وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ فِي كُل مَسْجِدٍ وَمَحَلَّةٍ مِنَ الْبَلَدِ فَقِيهٌ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ، وَكَذَا فِي كُل قَرْيَةٍ " ثُمَّ قَال: " وَكُل عَامِّيٍّ عَرَفَ شُرُوطَ الصَّلاَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَ غَيْرَهُ، وَإِلاَّ فَهُوَ شَرِيكٌ فِي الإِْثْمِ. . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الإِْنْسَانَ لاَ يُولَدُ عَالِمًا بِالشَّرْعِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ التَّبْلِيغُ عَلَى أَهْل الْعِلْمِ. فَكُل مَنْ تَعَلَّمَ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً فَهُوَ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ بِهَا. وَالإِْثْمُ - أَيْ فِي تَرْكِ التَّبْلِيغِ - عَلَى الْفُقَهَاءِ أَشَدُّ لأَِنَّ قُدْرَتَهُمْ فِيهِ أَظْهَرُ، وَهُوَ بِصِنَاعَتِهِمْ أَلْيَقُ ". (1)
شُرُوطُ الدَّاعِيَةِ:
21 - يُشْتَرَطُ فِي الدَّاعِيَةِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا (أَيْ مُسْلِمًا عَاقِلاً بَالِغًا) وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا عَادِلاً، وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ مُكَلَّفَةٌ بِالدَّعْوَةِ، مُشَارِكَةٌ لِلرَّجُل فِيهَا.
وَرَاجِعْ هُنَا مُصْطَلَحَ: (الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ) (ف 4) .
أَخْلاَقُ الدَّاعِيَةِ وَآدَابُهُ:
22 - يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَخْلاَقُ الدَّاعِيَةِ مُنْسَجِمَةٌ وَمُتَّفِقَةٌ مَعَ مَضْمُونِ الدَّعْوَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَمَثَّل فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَفِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَمُنَاسَبَةُ ذَلِكَ
__________
(1) إحياء علوم الدين 2 / 342، القاهرة، المكتبة التجارية 1955 م.(20/330)
تَظْهَرُ مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ:
الأَْوَّل: أَنَّ فِي التَّخَلُّقِ بِأَخْلاَقِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْخَيْرَ كُلَّهُ، مِنَ الْكَرَمِ، وَالسَّمَاحَةِ، وَالْوَفَاءِ، وَالصِّدْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْخْلاَقِ الإِْسْلاَمِيَّةِ.
الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْتَارَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدَعْوَةِ الإِْسْلاَمِ أَدَّبَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهُ، وَجَعَلَهُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَكَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ تَخَلُّقَ الدَّاعِي بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ وَاصْطِبَاغَهُ بِصِبْغَتِهِ، يُعِينُهُ عَلَى الدَّعْوَةِ، فَإِنَّهُ يُيَسِّرُ عَلَى الْمَدْعُوِّينَ قَبُول الدَّعْوَةِ، إِذْ يَرَوْنَ دَاعِيَهُمْ مُمْتَثِلاً لِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ بَدَأَ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، كَمَا قَال فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: أَلاَ وَإِنَّ كُل دَمٍ وَمَالٍ وَمَأْثَرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ أَوَّل دَمٍ يُوضَعُ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. ثُمَّ قَال: أَلاَ وَإِنَّ كُل رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَإِنَّ اللَّهَ قَضَى أَنَّ أَوَّل رِبًا يُوضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. (1)
الرَّابِعُ: أَنَّ مُوَافَقَةَ أَخْلاَقِ الدَّاعِي لِمَضْمُونِ دَعْوَتِهِ يُؤَكِّدُ مَضْمُونَ الدَّعْوَةِ وَيُقَوِّيهِ فِي نُفُوسِ
__________
(1) حديث: " ألا وإن كل دم ومال ومأثرة. . . " أخرجه أحمد (5 / 73 - ط الميمنية) من حديث أبي قرة الرقاشي عن عمه، والبزار كما في السيرة النبوية لابن كثير (4 / 403 - نشر دار إحياء التراث العربي) من حديث عبد الله بن عمر، وفي كل منهما مقال، لكن يقوي أحدهما الآخر.(20/331)
الْمَدْعُوِّينَ وَالأَْتْبَاعِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مَثَلاً حَيًّا لِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، وَنَمُوذَجًا عَمَلِيًّا يَحْتَذِيهِ الأَْتْبَاعُ، وَيَخْرُجُ فِي أَنْفُسِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ الدَّعْوَةِ أَمْرًا خَيَالِيًّا بَعِيدًا عَنِ الْوَاقِعِ. هَذَا بِالإِْضَافَةِ إِلَى أَنَّ الْمَدْعُوَّ يَتَعَلَّمُ مِنْ أَخْلاَقِ الدَّاعِيَةِ مِنَ التَّفَاصِيل مَا قَدْ لاَ تُبَلِّغُهُ الدَّعْوَةُ الْقَوْلِيَّةُ.
وَلَوْ أَنَّ أَخْلاَقَ الدَّاعِي كَانَتْ عَلَى خِلاَفِ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ تَكْذِيبًا ضِمْنِيًّا لِدَعْوَتِهِ، وَإِضْعَافًا لَهَا فِي نُفُوسِ الْمَدْعُوِّينَ وَالأَْتْبَاعِ، وَالْمَعْصِيَةُ قَبِيحَةٌ مِنْ كُل أَحَدٍ، وَلَكِنَّهَا مِنَ الدَّاعِيَةِ أَشَدُّ قُبْحًا وَسُوءًا. وَهُوَ مُهْلِكٌ لِدَعْوَتِهِ، قَاطِعٌ لِلنَّاسِ عَنِ الْقَبُول مِنْهُ.
وَهَذَا الْقَوْل صَادِقٌ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالأَْخْلاَقِ وَالآْدَابِ الإِْسْلاَمِيَّةِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ.
الْخَامِسُ: التَّحَلِّي بِمَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ، وَمَحَاسِنِ الصِّفَاتِ.
عَلَى الدُّعَاةِ أَنْ يَزِيدُوا عِنَايَتَهُمْ بِأَخْلاَقٍ وَصِفَاتٍ مُعَيَّنَةٍ خَاصَّةٍ، لِمَا لَهَا مِنْ مِسَاسٍ بِالدَّعْوَةِ يُؤَدِّي إِلَى نَجَاحِهَا، كَالصَّبْرِ وَالتَّوَاضُعِ، وَالرَّحْمَةِ وَاللِّينِ، وَالرِّفْقِ بِالْمَدْعُوِّينَ، وَالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ، وَالْحُنْكَةِ وَالْفِطْنَةُ فِي التَّعَامُل مَعَ مَنْ يَدْعُوهُمْ، وَمَعَ ظُرُوفِ الدَّعْوَةِ، وَرِعَايَةِ الضُّعَفَاءِ وَالْعَامَّةِ عِنْدَ التَّعَامُل مَعَهُمْ، وَالْفِطْنَةِ فِي التَّعَامُل مَعَ أَهْل النِّفَاقِ.(20/331)
وَكَذَلِكَ التَّعَاوُنُ وَعَدَمُ الاِخْتِلاَفِ بَيْنَ الدُّعَاةِ، مَعَ التَّحَابِّ وَالتَّوَاصُل وَالتَّنَاصُحِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، حَتَّى تُؤْتِيَ الدَّعْوَةُ أُكُلَهَا، وَالْحَذَرُ مِنْ أَهْل النِّفَاقِ، وَمِمَّنْ يُحَاوِلُونَ إِفْسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ بَيْنَ الدُّعَاةِ.
طُرُقُ الدَّعْوَةِ وَأَسَالِيبُهَا:
23 - طُرُقُ الدَّعْوَةِ وَأَسَالِيبُهَا تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ ظُرُوفِ الدَّعْوَةِ، وَبِاخْتِلاَفِ أَحْوَال الْمَدْعُوِّينَ وَالدُّعَاةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الدَّعْوَةَ تَعَامُلٌ مَعَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَالنُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ مُخْتَلِفَةٌ فِي طَبَائِعِهَا وَأَمْزِجَتِهَا، وَمَا يُؤَثِّرُ فِي إِنْسَانٍ قَدْ لاَ يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِ، وَمَا يُؤَثِّرُ فِي إِنْسَانٍ فِي حَالٍ قَدْ لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ فِي حَالٍ أُخْرَى، فَلاَ بُدَّ لِلدَّاعِيَةِ مِنْ مُرَاعَاةِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَالْعَمَل بِحَسَبِهِ، وَيَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيل رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَل عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (1) وَالْحَكِيمُ - كَمَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ - الْمُتْقِنُ لِلأُْمُورِ.
24 - وَمِنَ الأَْسَالِيبِ الرَّئِيسِيَّةِ فِي الدَّعْوَةِ الَّتِي سَارَ عَلَيْهَا النَّبِيُّونَ وَعَمِل بِهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَدَلَّتْ عَلَيْهَا حُجَجُ التَّجَارِبِ:
1 - التَّمَسُّكُ بِالْحَقِّ وَالصَّوَابِ فِي وَسَائِل
__________
(1) سورة النحل / 125(20/332)
الدَّعْوَةِ، فَلاَ يَسْلُكْ وَسَائِل غَيْرَ مَشْرُوعَةٍ.
2 - التَّدَرُّجُ فِي الدَّعْوَةِ.
3 - التَّرَيُّثُ وَالتَّمَهُّل وَعَدَمُ اسْتِعْجَال النَّتَائِجِ قَبْل أَدَائِهَا.
4 - التَّصَدِّي لِلشُّبُهَاتِ الَّتِي يَطْرَحُهَا أَعْدَاءُ الدِّينِ لِلتَّشْكِيكِ فِي الدَّعْوَةِ، أَوِ الدُّعَاةِ، وَإِزَالَةُ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ.
5 - تَنْوِيعُ أَسَالِيبِ الدَّعْوَةِ بِاسْتِخْدَامِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.
6 - الاِسْتِفَادَةُ مِنَ الْفُرَصِ الْمُتَاحَةِ لِتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ.
7 - تَقْدِيمُ النَّفْعِ، وَبَذْل الْمَعْرُوفِ لِكُل مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، كَإِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، وَكِسْوَةِ الْعَارِي، وَرِعَايَةِ الْيَتِيمِ، وَمَعُونَةِ الْمُضْطَرِّ.
8 - إِنْشَاءُ الْمَرَاكِزِ التَّعْلِيمِيَّةِ لِيُتَابَعَ الدَّاخِل فِي الإِْسْلاَمِ، بِالتَّرْبِيَةِ، وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَتَفْقِيهِهِ فِي الدِّينِ، وَاسْتِئْصَال بَقَايَا الشِّرْكِ وَالْجَاهِلِيَّةِ، وَأَخْلاَقِهِمَا، وَعَادَاتِهِمَا، وَآدَابِهِمَا، الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ اللَّهِ.
وَسَائِل الدَّعْوَةِ:
25 - وَسَائِل الدَّعْوَةِ مُتَنَوِّعَةٌ، فَكُل وَسِيلَةٍ تُسَاعِدُ عَلَى تَحْقِيقِ أَهْدَافِ الدَّعْوَةِ يُمْكِنُ اتِّخَاذُهَا لِذَلِكَ، مَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً شَرْعًا.
وَالْوَسَائِل الرَّئِيسِيَّةُ أَنْوَاعٌ. فَمِنْهَا:
1 - التَّبْلِيغُ بِالْقَوْل، وَهُوَ الأَْصْل فِي وَسَائِل(20/332)
الدَّعْوَةِ. وَقَدْ قَال تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِل صَالِحًا وَقَال إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) . وَيَكُونُ ذَلِكَ بِأُمُورٍ أَهَمُّهَا:
- قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَبَيَانُ مَعَانِيهِ، وَالْخُطَبُ، وَالْمُحَاضَرَاتُ، وَالنَّدَوَاتُ، وَمَجَالِسُ التَّذْكِيرِ، وَالدُّرُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ وَخَارِجِهَا، وَيَكُونُ بِزِيَارَاتِ الْمَدْعُوِّينَ، وَاسْتِغْلاَل التَّجَمُّعَاتِ.
- وَشَبِيهٌ بِالْقَوْل الْكِتَابَةُ، كَمَا فَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَعْوَةِ الْمُلُوكِ، كَمَا اسْتَعْمَلَهُ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ، وَيُمْكِنُ الإِْفَادَةُ مِنْ وَسَائِل الإِْعْلاَمِ الْعَدِيدَةِ، كَالإِْذَاعَاتِ الْمَسْمُوعَةِ، وَالْمَرْئِيَّةِ، وَالصِّحَافَةِ، وَالْكُتُبِ وَالْمَنْشُورَاتِ، وَغَيْرِهَا.
2 - التَّبْلِيغُ عَنْ طَرِيقِ الْقُدْوَةِ الْحَسَنَةِ، وَالسِّيرَةِ الْحَمِيدَةِ، وَالأَْخْلاَقِ الْفَاضِلَةِ، وَالتَّمَسُّكِ بِأَهْدَابِ الدِّينِ.
3 - الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ، لأَِنَّهُ وَسِيلَةٌ لِحِمَايَةِ الدَّعْوَةِ، وَمُوَاجَهَةِ الْمُتَصَدِّينَ لَهَا.
أَمَّا الَّذِينَ يَعِيشُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي سَلاَمٍ، فَإِنَّ الإِْسْلاَمَ لاَ يَنْهَى عَنْ بِرِّهِمْ وَمَوَدَّتِهِمْ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَقِفُوا عَلَى مَحَاسِنِ الإِْسْلاَمِ بِاخْتِلاَطِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ.
ثَانِيًا:
الدَّعْوَةُ (إِلَى الطَّعَامِ)
26 - الدَّعْوَةُ وَالدِّعْوَةُ وَالْمَدْعَاةُ وَالْمِدْعَاةُ مَا
__________
(1) سورة فصلت / 33(20/333)
دَعَوْتَ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ. وَخَصَّ اللِّحْيَانِيُّ بِالدَّعْوَةِ الْوَلِيمَةَ، (1) إِلاَّ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ الدَّعْوَةَ أَعَمُّ مِنَ الْوَلِيمَةِ. وَبِمَعْنَى الدَّعْوَةِ الْمَأْدُبَةُ.
قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: الْمَأْدُبَةُ كُل طَعَامٍ صُنِعَ لِدَعْوَةٍ أَوْ عُرْسٍ. (2)
وَيُطْلِقُ الْعَرَبُ عَلَى أَنْوَاعِ الدَّعَوَاتِ إِلَى الطَّعَامِ أَسْمَاءً خَاصَّةً يُحْصِيهَا الْفُقَهَاءُ عَادَةً أَوَّل بَابِ الْوَلِيمَةِ، قَال الْبُهُوتِيُّ: إِنَّهَا إِحْدَى عَشْرَةَ:
1 - الْوَلِيمَةُ: وَهِيَ طَعَامُ الْعُرْسِ، وَقِيل: هِيَ اسْمٌ لِكُل دَعْوَةِ طَعَامٍ لِسُرُورٍ حَادِثٍ، فَتَكُونُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مُرَادِفَةً لِلدَّعْوَةِ، إِلاَّ أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِي طَعَامِ الْعُرْسِ أَكْثَرُ (3) . وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِجَعْل الْوَلِيمَةِ قَبْل الدُّخُول بِزَمَنٍ يَسِيرٍ. وَالأَْعْرَافُ تَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ. (4)
2 - الشَّنْدَخِيَّةُ: وَهِيَ طَعَامُ الإِْمْلاَكِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَسٌ مُشَنْدَخٌ أَيْ يَتَقَدَّمُ غَيْرَهُ، لأَِنَّ طَعَامَ الإِْمْلاَكِ يَتَقَدَّمُ الدُّخُول.
3 - الإِْعْذَارُ وَالْعَذِيرَةُ وَالْعَذْرَةُ وَالْعَذِيرُ: وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى طَعَامٍ يُصْنَعُ عِنْدَ خِتَانِ الْمَوْلُودِ.
__________
(1) لسان العرب.
(2) لسان العرب.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 221، كشاف القناع 5 / 164، الدسوقي 2 / 337
(4) كشاف القناع 5 / 165، والقليوبي على شرح المنهاج 3 / 294(20/333)
4 - الْخُرْسُ أَوِ الْخُرْسَةُ: وَهُوَ الإِْطْعَامُ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ، لِخَلاَصِ الْوَالِدَةِ وَسَلاَمَتِهَا مِنَ الطَّلْقِ.
5 - الْعَقِيقَةُ: الذَّبْحُ لِلْمَوْلُودِ يَوْمَ سَابِعِهِ.
6 - الْوَكِيرَةُ: وَهِيَ الطَّعَامُ الَّذِي يُصْنَعُ بِمُنَاسَبَةِ الْبِنَاءِ، قَال النَّوَوِيُّ: أَيِ الْمَسْكَنُ الْمُتَجَدِّدُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنَ الْوَكْرِ، وَهُوَ الْمَأْوَى وَالْمُسْتَقَرُّ.
7 - النَّقِيعَةُ: وَهِيَ مَا يُصْنَعُ مِنَ الطَّعَامِ لِلْغَائِبِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ طَوِيلاً كَانَ أَوْ قَصِيرًا، وَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ اسْتِحْبَابُهَا لِلْعَائِدِ مِنَ الْحَجِّ (1) .
8 - التُّحْفَةُ: وَهِيَ الطَّعَامُ الَّذِي يَصْنَعُهُ لِغَيْرِهِ الْقَادِمِ الزَّائِرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِمًا مِنْ سَفَرٍ.
9 - الْحِذَاقُ. وَهُوَ مَا يُصْنَعُ مِنَ الطَّعَامِ عِنْدَ حِذَاقِ الصَّبِيِّ، وَهُوَ يَوْمُ خَتْمِهِ لِلْقُرْآنِ.
10 - الْوَضِيمَةُ: وَهِيَ طَعَامُ الْمَأْتَمِ. وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: هِيَ لِلْمُصِيبَةِ.
11 - وَالشِّنْدَاخُ: وَهُوَ الْمَأْكُول مِنْ خَتْمَةِ الْقَارِئِ.
12 - وَالْعَتِيرَةُ: وَهِيَ الذَّبِيحَةُ تُذْبَحُ أَوَّل يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ (2) .
وَقَدْ يَجْرِي الْعُرْفُ بِدَعَوَاتٍ أُخْرَى، غَيْرِ مُسَمَّاةٍ، وَقَدْ ذَكَرَ مِنْهَا صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ نَقْلاً عَنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ الدَّعْوَةَ لِلإِْخَاءِ.
__________
(1) القليوبي على شرح المنهاج 2 / 151
(2) حاشية الدسوقي 2 / 337، والقليوبي 3 / 294 وغيرهم، كشاف القناع 5 / 165 وما بعدها.(20/334)
وَفِي الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ بَعْضُ الاِخْتِلاَفِ فِي أَسْمَاءِ بَعْضِ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (وَلِيمَةٌ، وَعَقِيقَةٌ، وَخِتَانٌ، وَغَيْرُهَا) .
أَمَّا مَا تَخْتَصُّ بِهِ دَعْوَةُ الْعُرْسِ وَالْعَقِيقَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْحْكَامِ فَيُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِهِ، وَنَذْكُرُ هُنَا أَحْكَامَ الدَّعَوَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَةِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ.
مُسْقِطَاتُ وُجُوبِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ.
27 - يَسْقُطُ وُجُوبُ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
1 - أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي ظَالِمًا أَوْ فَاسِقًا، أَوْ مُبْتَدِعًا.
2 - أَنْ يَكُونَ مَال الدَّاعِي يَخْتَلِطُ فِيهِ الْحَلاَل بِالْحَرَامِ.
3 - إِذَا كَانَ الدَّاعِي امْرَأَةً وَلَمْ تُؤْمَنِ الْخَلْوَةُ.
4 - إِذَا كَانَ الدَّاعِي غَيْرَ مُسْلِمٍ، فَيَجُوزُ إِجَابَتُهُ إِذْا كَانَ يُرْجَى إِسْلاَمُهُ، أَوْ كَانَ جَارًا، أَوْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّاعِي قَرَابَةٌ.
5 - أَنْ لاَ يَكُونَ الدَّاعِي قَدْ عَيَّنَ بِدَعْوَتِهِ مَنْ يُرِيدُ حُضُورَهُ، وَإِنَّمَا عَمَّمَ الدَّعْوَةَ.
6 - أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ بِلَفْظٍ غَيْرِ صَرِيحٍ، كَقَوْلِهِ: إِنْ شِئْتَ فَاحْضُرْ.
7 - أَنْ يَخْتَصَّ بِالدَّعْوَةِ الأَْغْنِيَاءَ وَيَتْرُكَ الْفُقَرَاءَ.
8 - أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ فِي الْمَدْعُوِّينَ مَنْ يَتَأَذَّى بِهِ الْمَدْعُوُّ، لأَِمْرٍ دُنْيَوِيٍّ أَوْ دِينِيٍّ.(20/334)
9 - أَنْ يَكُونَ فِي الدَّعْوَةِ مُنْكَرٌ يَعْلَمُ بِهِ الْمَدْعُوُّ قَبْل حُضُورِهِ.
10 - تَكَرُّرُ الدَّعْوَةِ لِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَأَكْثَرَ.
11 - أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي مَدِينًا لِلْمَدْعُوِّ.
12 - أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَاعِيَانِ فَأَكْثَرُ، وَلاَ يَتَأَتَّى إِجَابَةُ الدَّعَوَاتِ كُلِّهَا فَيُجِيبُ الأَْوَّل.
كَمَا تَسْقُطُ إِجَابَةُ الدَّاعِي لأَِعْذَارٍ خَاصَّةٍ بِالْمَدْعُوِّ، كَأَنْ يَكُونَ مَرِيضًا، أَوْ مَشْغُولاً بِحَقٍّ لِغَيْرِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَكَانِ كَثْرَةُ زِحَامٍ، أَوْ كَوْنُ الْمَدْعُوِّ قَاضِيًا وَالدَّاعِي خَصْمًا، أَوْ لاَ يُقِيمُ الدَّعْوَةَ لَوْلاَ الْقَاضِي - مَعَ تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَاضِي - يُنْظَرُ فِي (أَدَبُ الْقَاضِي) وَفِي (وَلِيمَةٌ) .
كَمَا تَسْقُطُ إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ بِإِعْفَاءِ الدَّاعِي، كَسَائِرِ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ. (1)
وَفِي كُل هَذَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَلِيمَةٌ، خِطْبَةٌ، نِكَاحٌ، عَقِيقَةٌ، ضِيَافَةٌ) .
28 - مِنَ الآْدَابِ الَّتِي يُرَاعِيهَا الدَّاعِي فِي دَعْوَتِهِ:
1 - أَنْ يُعَيِّنَ مَنْ يَدْعُوهُ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 221 - 222، الفتاوى الهندية 5 / 342 - 343، كشاف القناع 5 / 166، 167 - 168، والمغني 5 / 11، 7 / 3 - 9 / 79 - 80، وحاشية الدسوقي 2 / 337، 338، والآداب الشرعية 1 / 333، والقليوبي 3 / 295 - 296(20/335)
2 - وَأَنْ يَخُصَّ بِدَعْوَتِهِ أَهْل الصَّلاَحِ وَالتَّقْوَى.
3 - وَأَنْ لاَ يُسْرِفَ فِيمَا يُقَدِّمُهُ وَلاَ يُقَتِّرَ.
4 - وَأَنْ لاَ يُلِحَّ بِالْفِطْرِ عَلَى مَنْ كَانَ صَائِمًا.
5 - وَأَنْ يَتَبَسَّطَ مَعَ الْمَدْعُوِّينَ فِي الْحَدِيثِ، وَيُشَارِكَهُمْ فِي الطَّعَامِ.
6 - وَأَنْ لاَ يَمْدَحَ طَعَامَهُ.
7 - وَأَنْ يُكْرِمَ أَفْضَل الْمَدْعُوِّينَ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّوْدِيعِ.
وَمِنَ الآْدَابِ الَّتِي يُرَاعِيهَا الْمَدْعُوُّ:
1 - أَنْ يَنْوِيَ بِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ تَكْرِيمَ الدَّاعِي.
2 - وَأَنْ لاَ يَدْخُل بَيْتَ الدَّاعِي إِلاَّ بِإِذْنِهِ.
3 - وَأَنْ لاَ يَتَصَدَّرَ الْمَجْلِسَ، وَإِذَا عَيَّنَ لَهُ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ مَكَانًا مُعَيَّنًا فَلاَ يَتَعَدَّاهُ.
4 - وَأَنْ لاَ يَمْتَنِعَ مِنَ الطَّعَامِ إِلاَّ إِذَا كَانَ صَائِمًا صَوْمًا وَاجِبًا.
5 - وَأَنْ لاَ يُسَارِعَ إِلَى تَنَاوُل الطَّعَامِ.
6 - وَأَنْ يُرَاعِيَ الآْدَابَ الْعَامَّةَ فِي الأَْكْل.
7 - وَأَنْ يُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ الْمُحْتَاجَ مِنَ الْحَاضِرِينَ. فَيَتْرُكَ لَهُ مَا يُلاَئِمُهُ.
8 - أَنْ لاَ يُعَجِّل بِرَفْعِ يَدِهِ مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى يَفْرُغَ الْقَوْمُ.
9 - أَنْ يَدْعُوَ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ بَعْدَ الْفَرَاغِ.
10 - وَأَنْ لاَ يُطِيل الْجُلُوسَ بَعْدَ الطَّعَامِ.
التَّطَفُّل عَلَى الدَّعَوَاتِ:
29 - لاَ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُل إِلَى الْوَلاَئِمِ وَغَيْرِهَا مِنَ(20/335)
الدَّعَوَاتِ مَنْ لَمْ يُدْعَ إِلَيْهَا، فَإِنَّ فِي هَذَا دَنَاءَةً وَمَذَلَّةً، وَلاَ يَلِيقُ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنِ، وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا مَنْ دَخَل عَلَى غَيْرِ دَعْوَةٍ دَخَل سَارِقًا وَخَرَجَ مُغِيرًا الْحَدِيثَ (1) .
وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ يُسَمَّى الطُّفَيْلِيَّ.
وَعَلَى هَذَا فَالتَّطَفُّل حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، مَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُ الْمَدْعُوِّ تَابِعًا لِمَدْعُوٍّ ذِي قَدْرٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَحْضُرُ وَحْدَهُ عَادَةً، فَلاَ يَحْرُمُ، لأَِنَّهُ مَدْعُوٌّ حُكْمًا بِدَعْوَةِ مَتْبُوعِهِ، وَكَرِهَ أَحْمَدُ أَنْ يَتَعَمَّدَ الرَّجُل الْقَوْمَ حِينَ وَضْعِ الطَّعَامِ فَيَفْجَأَهُمْ، وَإِنْ فَجَأَهُمْ بِلاَ تَعَمُّدِ أَكَل نَصًّا، وَأَطْلَقَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ الْكَرَاهَةَ إِلاَّ مَنْ عَادَتُهُ السَّمَاحَةُ. (2)
وَلَوْ أَنَّ أَحَدًا أَوْ جَمَاعَةً دُعُوا فَتَبِعَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَدْعُوًّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَنْهَوْهُ وَلاَ أَنْ يَأْذَنُوا لَهُ، وَيَلْزَمُهُمْ إِعْلاَمُ صَاحِبِ الطَّعَامِ، لِمَا رَوَى أَبُو مَسْعُودٍ الأَْنْصَارِيُّ: أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَْنْصَارِ دَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَلَمَّا جَاءُوا اتَّبَعَهُمْ رَجُلٌ لَمْ يُدْعَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا اتَّبَعَنَا، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ رَجَعَ. قَال. بَل آذَنُ لَهُ يَا رَسُول اللَّهِ (3) .
__________
(1) حديث: " من دخل على غير دعوة دخل سارقًا وخرج مغيرًا ". أخرجه أبو داود (4 / 125 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وأعله أبو داود لجهالة أحد رواته.
(2) كشاف القناع 5 / 175، والمغني 5 / 17، والشرح الكبير للدردير 2 / 338، والآداب الشرعية 3 / 187
(3) حديث أبي مسعود الأنصاري: أخرجه البخاري (الفتح 9 / 559 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1608 - ط الحلبي) بألفاظ متقاربة.(20/336)
الدَّعْوَةُ بِمَعْنَى النِّدَاءِ أَوْ طَلَبِ الْحُضُورِ:
30 - وَهَذَا فِي اللُّغَةِ كَثِيرٌ بَل هُوَ الأَْصْل فِي الدَّعْوَةِ بِالْمَعَانِي الأُْخْرَى، وَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَْرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} (1) وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} (2) أَيْ يُنَادِيكُمْ لِتَخْرُجُوا مِنْ قُبُورِكُمْ فَتَقُومُونَ. يُقَال دَعَوْتُهُ دَعْوَةً وَدُعَاءً: أَيْ نَادَيْتُهُ. وَيَكُونُ مِنَ الأَْعْلَى لِلأَْدْنَى كَمَا فِي الآْيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، وَمِنَ الأَْدْنَى لِلأَْعْلَى، وَمِنَ الْمُسَاوِي لِلْمُسَاوِي، بِخِلاَفِ الدُّعَاءِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، فَلاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنَ الأَْدْنَى لِلأَْعْلَى.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلدَّعْوَةِ:
31 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلِيمَةُ الْعُرْسِ سُنَّةٌ وَفِيهَا مَثُوبَةٌ عَظِيمَةٌ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَلِيمَةُ الْعُرْسِ مَنْدُوبَةٌ، وَقِيل وَاجِبَةٌ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلِيمَةُ الْعُرْسِ وَغَيْرِهِ سُنَّةٌ لِثُبُوتِهَا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلاً وَفِعْلاً.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الأَْصْل فِي جَمِيعِ الدَّعَوَاتِ الْمُسَمَّاةِ وَغَيْرِ الْمُسَمَّاةِ أَنَّهَا جَائِزَةٌ، أَيْ مُبَاحَةٌ، لأَِنَّ
__________
(1) سورة الروم / 25
(2) سورة الإسراء / 52(20/336)
الأَْصْل فِي الأَْشْيَاءِ الإِْبَاحَةُ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ وَهِيَ: وَلِيمَةُ الْعُرْسِ فَإِنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقِيل وَاجِبَةٌ، وَالْعَقِيقَةُ فَإِنَّهَا سُنَّةٌ، وَالْمَأْتَمُ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَهُوَ اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ فِي الْمَوْتِ.
وَفِي الْمُغْنِي خِلاَفُ ذَلِكَ، قَال: حُكْمُ الدَّعْوَةِ لِلْخِتَانِ وَسَائِرِ الدَّعَوَاتِ غَيْرِ الْوَلِيمَةِ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ. (1)
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل وَالْخِلاَفِ: (وَلِيمَةٌ، عَقِيقَةٌ، جِنَازَةٌ، خِتَانٌ) .
تَكْرَارُ الدَّعْوَةِ:
31 م - قَال الْحَنَفِيَّةُ لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَدْعُوَ لِلْوَلِيمَةِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ الْعُرْسُ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْوَلِيمَةُ، وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَكْرَارُ الدَّعْوَةِ لِلسَّبَبِ الْوَاحِدِ وَلَوْ وَلِيمَةً، قَالُوا: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَدْعُوُّ ثَانِيًا غَيْرَ الْمَدْعُوِّ أَوَّلاً.
وَإِنْ كَانَ تَكْرَارُهَا لِضِيقِ مَنْزِلٍ، أَوْ لأَِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ جِنْسًا بَعْدَ جِنْسٍ، فَلاَ كَرَاهَةَ، قَالَهُ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ تَكُونُ مَكْرُوهَةً إِلاَّ إِذَا كَرَّرَهَا لِلْيَوْمِ الثَّالِثِ أَوْ مَا بَعْدَهُ (2) لِلْحَدِيثِ: الْوَلِيمَةُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 343، الخرشي 3 / 701، وحاشية الشرقاوي على التحرير 2 / 275، وكشاف القناع 5 / 166 - 168، والمغني 7 / 11 - 12
(2) الشرح الكبير على مختصر خليل 2 / 337، وكشاف القناع 5 / 168، والقليوبي 3 / 294 - 295(20/337)
أَوَّل يَوْمٍ حَقٌّ، وَالثَّانِي مَعْرُوفٌ، والثَّالِثَ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ (1) .
حُكْمُ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ:
32 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ فِي الأَْصْل وَاجِبَةٌ إِنْ كَانَتْ إِلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ (ر: وَلِيمَةٌ) وَأَمَّا مَا عَدَاهَا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الإِْجَابَةِ إِلَيْهَا.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَيْسَتِ الإِْجَابَةُ إِلَيْهَا وَاجِبَةً بَل هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ أَوْ مَانِعٌ عَلَى مَا يَأْتِي. وَسَوَاءٌ كَانَتْ لِسَبَبٍ كَبِنَاءٍ أَوْ وِلاَدَةٍ أَوْ خِتَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، مَا لَمْ تَكُنْ مِنَ الدَّاعِي مَكْرُوهَةً كَدَعْوَةِ الْمَأْتَمِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ فِي إِجَابَةِ الدَّاعِي تَطْيِيبُ نَفْسِهِ، وَجَبْرُ قَلْبِهِ. (2)
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ: أَنَّ الإِْجَابَةَ لِغَيْرِ الْعُرْسِ وَالْعَقِيقَةِ مُبَاحَةٌ وَقِيل هِيَ مَكْرُوهَةٌ، وَالْمَأْدُبَةُ إِذَا فُعِلَتْ لإِِينَاسِ الْجَارِ وَمَوَدَّتِهِ مَنْدُوبَةٌ. (3)
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الإِْجَابَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَدْعُوِّ فِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَغَيْرِهَا، أَخْذًا
__________
(1) حديث: " الوليمة أول يوم حق، والثاني معروف، والثالث رياء وسمعة " أخرجه أبو داود (4 / 126 - 127 تحقيق عزت عبيد دعاس) وذكر إسناده البخاري في التاريخ الكبير (3 / 425 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال: " لم يصح إسناده ".
(2) المغني 7 / 11، 12، والفتاوى الهندية 5 / 343
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 337(20/337)
بِالْعُمُومَاتِ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا. إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلِيُجِبْ، عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ (1) وَقَوْلُهُ: حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلاَمِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ. (2) فَجَعَل إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ حَقًّا لِلْمُسْلِمِ، وَالْحَقُّ هُوَ الْوَاجِبُ، وَلَمْ يَخُصَّ عُرْسًا مِنْ غَيْرِهِ (3) .
إِجَابَةُ دَعْوَةِ الْفُقَرَاءِ وَالإِْجَابَةُ عَلَى الطَّعَامِ الْقَلِيل:
33 - لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَقْرُ الدَّاعِي، أَوْ خِفَّةُ شَأْنِهِ، أَوْ قِلَّةُ الطَّعَامِ مَانِعًا مِنْ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْكِبْرِ. وَالدَّعْوَةُ مَشْرُوعَةٌ لإِِحْيَاءِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَزِيدِ التَّآلُفِ. وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَوْ دُعِيتَ إِلَى كُرَاعٍ لأََجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ. (4)
__________
(1) حديث: " إذا دعا أحدكم أخاه فليجب، عرسًا كان أو نحوه ". أخرجه مسلم (2 / 1053 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 112 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1704 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، واللفظ للبخاري.
(3) المغني 7 / 11، وشرح المنهاج معه حاشية القليوبي 3 / 295
(4) حديث: " لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إليَّ كراع لقبلت " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 245 - السلفية) من حديث أبي هريرة.(20/338)
& وَالْكُرَاعُ مِنَ الشَّاةِ وَنَحْوِهَا: مُسْتَدَقُّ السَّاقِ.
قَال ابْنُ حَجَرٍ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ خُلُقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوَاضُعِهِ وَجَبْرِهِ لِقُلُوبِ النَّاسِ، وَعَلَى قَبُول الْهَدِيَّةِ وَإِجَابَةِ مَنْ يَدْعُو الرَّجُل إِلَى مَنْزِلِهِ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ شَيْءٌ قَلِيلٌ، ثُمَّ قَال: قَال الْمُهَلَّبُ: لاَ يَبْعَثُ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الطَّعَامِ إِلاَّ صِدْقُ الْمَوَدَّةِ وَسُرُورُ الدَّاعِي بِأَكْل الْمَدْعُوِّ مِنْ طَعَامِهِ، وَالتَّحَبُّبُ إِلَيْهِ بِالْمُؤَاكَلَةِ، وَتَوْكِيدِ الذِّمَامِ مَعَهُ بِهَا، فَلِذَلِكَ حَضَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِْحَابَةِ وَلَوْ نَزَرَ الطَّعَامُ الْمَدْعُوُّ إِلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: الإِْجَابَةُ لِمَا قَل أَوْ كَثُرَ. ا. هـ ".
(1) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا دُعِيتُمْ إِلَى كُرَاعٍ فَأَجِيبُوا. (2)
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ (3) .
الآْدَابُ الشَّرْعِيَّةُ لِلدَّعْوَةِ بِمَعْنَى الْمُنَادَاةِ:
34 - أ - مِنْ أَدَبِ الدَّعْوَةِ مِنَ الْمُسْلِمِ لأَِخِيهِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُنَادِيَهُ بِالاِسْمِ أَوِ الْوَصْفِ الَّذِي يُحِبُّهُ،
__________
(1) فتح الباري 9 / 246
(2) حديث: " إذا دعيتم إلى كراع فأجيبوا " أخرجه مسلم (2 / 1054 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(3) حديث: " كان يجيب دعوة المملوك " أخرجه ابن ماجه (2 / 770 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك، وفي إسناده مسلم بن كيسان الملائي، وهو ضعيف، كما في " الميزان " للذهبي (4 / 106 - 107 - ط الحلبي) .(20/338)
قَال ابْنُ عَقِيلٍ: " لاَ تَدْعُوَنَّ أَحَدًا إِلاَّ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ إِلَيْهِ " (1) وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَال الْكُنَى فِي النِّدَاءِ كَقَوْلِكَ: يَا أَبَا فُلاَنٍ وَيَا أُمَّ فُلاَنٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْعَرَبِ نَوْعٌ مِنَ التَّكْرِيمِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَنِّي أَصْحَابَهُ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ كَنَّى بَعْضَ الصِّغَارِ مِنْهُمْ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لأَِخِي أَنَسٍ وَكَانَ صَغِيرًا يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَل النُّغَيْرُ. (2)
35 - ب - وَمِنْهَا أَنْ لاَ يَكُونَ النِّدَاءُ بِالأَْلْقَابِ الْمَكْرُوهَةِ وَالأَْسْمَاءِ الَّتِي فِيهَا تَحْقِيرٌ وَيَنْفِرُ مِنْهَا صَاحِبُهَا، لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَْلْقَابِ} (3) وَفِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي جَبِيْرَةَ بْنِ الضَّحَّاكِ قَال: كَانَ الرَّجُل مِنَّا يَكُونُ لَهُ الاِسْمَانِ وَالثَّلاَثَةُ فَيُدْعَى بِهَا فَعَسَى أَنْ يَكْرَهَ فَنَزَلَتْ {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَْلْقَابِ} . ا. هـ.
وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنِ النِّدَاءُ بِالْوَصْفِ الْمَكْرُوهِ سَبِيل التَّأْدِيبِ وَالتَّعْزِيرِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ. (4) أَوْ عَلَى سَبِيل الاِنْتِصَارِ مِنَ الظَّالِمِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِ، وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْل إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} (5) . فَيَقُول لَهُ: يَا ظَالِمُ
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 595
(2) حديث: " يا أبا عمير ما فعل النغير ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 582 - ط السلفية) من حديث أنس بن مالك.
(3) سورة الحجرات / 11
(4) المغني 9 / 43
(5) سورة النساء / 148(20/339)
يَا خَائِنُ، إِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ الظُّلْمُ أَوِ الْخِيَانَةُ.
وَلاَ يَحِل لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدْعُوَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِالْكُفْرِ بِأَنْ يَقُول لَهُ: يَا كَافِرُ، أَوْ يَا يَهُودِيُّ، أَوْ يَا نَصْرَانِيُّ.
وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ أَوْ قَال يَا عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ (1)
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَيُّمَا امْرِئٍ قَال لأَِخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَال وَإِلاَّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ. (2)
36 - ج - وَمِنْهَا أَنْ يُرَاعِيَ الدَّاعِي مَا حَضَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ فِي الْمُخَاطَبَاتِ مِنْ تَوْقِيرِ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّوْقِيرَ وَالتَّبْجِيل لِعِلْمِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ عَدْلِهِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَال: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُوَقَّرَ أَرْبَعَةٌ: الْعَالِمُ، وَذُو الشَّيْبَةِ وَالسُّلْطَانُ وَالْوَالِدُ، وَمِنَ الْجَفَاءِ أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُل وَالِدَهُ بِاسْمِهِ. (3)
37 - د - وَمِنْهَا أَنْ لاَ يُسْتَعْمَل فِي النِّدَاءِ الأَْلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى إِهَانَةِ الْمُخَاطِبِ لِنَفْسِهِ أَمَامَ الْمُخَاطَبِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ كَرِيمٌ بِكَرَامَةِ الإِْيمَانِ، عَزِيزٌ بِعَظَمَةِ اللَّهِ فِي صَدْرِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ: لاَ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِل نَفْسَهُ. (4)
__________
(1) حديث: " من دعا رجلا بالكفر أو قال: يا عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه ". أخرجه مسلم (1 / 80 - ط الحلبي) من حديث أبي ذر.
(2) حديث: " أيما امرئ قال لأخيه يا كافر. . . " أخرجه مسلم (1 / 79 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(3) الآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 256
(4) حديث: " لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. . . " أخرجه الترمذي (4 / 523 - ط الحلبي) من حديث حذيفة، وحسنه.(20/339)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلدَّعْوَةِ وَالإِْجَابَةِ إِلَيْهَا:
38 - تَأْخُذُ الدَّعْوَةُ حُكْمَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ غَالِبًا، فَقَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً، أَوْ سُنَّةً، أَوْ مُسْتَحَبَّةً، أَوْ مَكْرُوهَةً، أَوْ مُحَرَّمَةً، فَتَكُونُ تَلْبِيَةُ الدَّعْوَةِ وَاجِبَةً فِي أَحْوَالٍ مِنْهَا.
39 - أ - أَنْ يُدْعَى لأَِدَاءِ وَاجِبٍ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَيْنِيًّا كَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ فَلاَ يَصِحُّ تَأْخِيرُهُ وَكَانَتِ الإِْجَابَةُ إِلَيْهِ مُتَعَيِّنَةً، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْكِفَايَةِ كَانَتِ الإِْحَابَةُ إِلَيْهِ وَاجِبَةً عَلَى الْكِفَايَةِ، كَإِجَابَةِ دَعْوَةِ الْمَلْهُوفِ، وَالْمُضْطَرِّ الْمُشْرِفِ عَلَى الْهَلاَكِ، وَالْمُسْتَغِيثِ (ر: اسْتِغَاثَةٌ، اضْطِرَارٌ) .
40 - ب - أَنْ يُدْعَى إِلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ فَتَجِبُ الاِسْتِجَابَةُ لِلدَّاعِي، لأَِنَّ الْفِعْل وَاجِبُ التَّرْكِ أَصْلاً، وَيَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ أَيْضًا، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيل لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِْثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (1) وَفِي مُقَابِل ذَلِكَ قَال تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ: {إِنَّمَا كَانَ قَوْل الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) وَقَال: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
__________
(1) سورة البقرة / 204 - 206
(2) سورة النور / 51(20/340)
وَالرَّسُول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ} (1)
41 - ج - وَتَكُونُ الاِسْتِجَابَةُ أَيْضًا وَاجِبَةً عَلَى مَنْ دُعِيَ إِلَى قَاضٍ يَحْكُمُ طِبْقًا لِلشَّرِيعَةِ فِي حَقٍّ عَلَيْهِ. فَعَلَيْهِ الاِسْتِجَابَةُ، وَيَحْرُمُ الاِمْتِنَاعُ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ مَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى حُضُورِهِ، وَإِلاَّ وَجَبَ الْوَفَاءُ أَوِ الْحُضُورُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتِ الْحَقُّ. وَلَوْ دَعَاهُ الْقَاضِي نَفْسُهُ لَزِمَ الْحُضُورُ أَيْضًا (2) ، وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْل الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (دَعْوَى، وَقَضَاءٌ) .
42 - د - وَتَكُونُ الإِْجَابَةُ وَاجِبَةً أَيْضًا عَلَى مَنْ دُعِيَ لِتَحَمُّل الشَّهَادَةِ، أَوْ دُعِيَ لأَِدَاءِ شَهَادَةٍ تَحَمَّلَهَا، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (5) قَال الْمَحَلِّيُّ: تَحَمُّل الشَّهَادَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي النِّكَاحِ - أَيْ فِي حَقِّ مَنْ هُمْ أَهْلٌ
__________
(1) سورة الحديد / 8
(2) الفروق للقرافي 4 / 78، الفرق ص 235، شرح المنهاج وحاشية القليوبي 4 / 313
(3) سورة النور / 48 - 49
(4) سورة النور / 51
(5) سورة البقرة / 282(20/340)
لِثُبُوتِهِ، وَإِنْ زَادُوا عَلَى النِّصَابِ - لِتَوَقُّفِ الاِنْعِقَادِ عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُهُ الاِسْتِجَابَةُ إِنْ كَانَ حَاضِرًا، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا وَدُعِيَ لِلتَّحَمُّل فَالأَْصَحُّ عَدَمُ وُجُوبِ الإِْجَابَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُحَمَّل مَرِيضًا، أَوْ مَحْبُوسًا، أَوِ امْرَأَةً مُخَدَّرَةً، أَوْ قَاضِيًا يُشْهِدُهُ عَلَى أَمْرٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ.
وَأَمَّا الدَّعْوَةُ لِلأَْدَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَضِيَّةِ إِلاَّ اثْنَانِ لَزِمَهُمَا الأَْدَاءُ لِمَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ فَالْوُجُوبُ عَلَى الْكِفَايَةِ (1) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (شَهَادَةٌ) .
43 - هـ - أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي وَاجِبَ الطَّاعَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - الاِسْتِجَابَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَدْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى كُل صَحَابِيٍّ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِيهِ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُول بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (2) عَلَى أَحَدِ الأَْقْوَال فِي تَفْسِيرِ الآْيَةِ.
قَال الرَّازِيُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّال وَالْمُبَرِّدِ، قَال: أَيْ وَلاَ تَجْعَلُوا أَمْرَهُ إِيَّاكُمْ وَدُعَاءَهُ لَكُمْ كَمَا يَكُونُ مِنْ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، إِذْ كَانَ أَمْرُهُ فَرْضًا لاَزِمًا. (3)
__________
(1) البدائع 6 / 224، والشرح الصغير 1 / 87، وشرح المنهاج 4 / 329 - 330
(2) سورة النور / 63
(3) تفسير فخر الدين الرازي 24 / 39 - 40(20/341)
هَذَا وَتَجِبُ الاِسْتِجَابَةُ لِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَدْعُوُّ فِي غَيْرِ صَلاَةٍ، أَوْ كَانَ فِي صَلاَةِ فَرْضٍ، أَوْ صَلاَةِ نَفْلٍ. وَفِي بُطْلاَنِ الصَّلاَةِ بِالاِسْتِجَابَةِ لَهُ بِالْقَوْل خِلاَفٌ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْمُعَلَّى، قَال: كُنْتُ أُصَلِّي فَمَرَّ بِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَانِي فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ، فَقَال: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟ أَلَمْ يَقُل اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُول إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (1) ثُمَّ قَال: لأَُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْل أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ. . . (2) الْحَدِيثَ
44 - ب - أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي هُوَ الأَْبُ أَوِ الأُْمُّ، إِذْ مِنَ الْعُقُوقِ لَهُمَا أَنْ يَسْمَعَهُمَا يَدْعُوَانِهِ فَلاَ يَسْتَجِيبُ لَهُمَا، فَإِنْ دَعَوَاهُ جَمِيعًا أَجَابَ الأُْمَّ أَوَّلاً، وَيَدُل لأَِصْل الْمَسْأَلَةِ فِي الْوُجُوبِ قِصَّةُ جُرَيْجٍ الْعَابِدِ، وَفِيهِ: أَنَّهُ كَانَ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ فَجَاءَتْ أُمُّهُ، فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا تَدْعُوهُ، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ كَلِّمْنِي. فَصَادَفَتْهُ يُصَلِّي، فَقَال: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلاَتِي، فَاخْتَارَ صَلاَتَهُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَنَّهَا دَعَتْ عَلَيْهِ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهَا (3) .
__________
(1) سورة الأنفال / 24
(2) حديث أبي سعيد بن المعلى. أخرجه البخاري (الفتح 8 / 307 - ط السلفية) .
(3) قصة جريج العابد. أخرجها مسلم (4 / 1976 - 1978 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(20/341)
قَال الْحَنَفِيَّةُ كَمَا فِي الدُّرِّ وَرَدِّ الْمُحْتَارِ: لَوْ دَعَاهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ فِي الْفَرْضِ لاَ يُجِيبُهُ إِلاَّ أَنْ يَسْتَغِيثَ بِهِ - وَاسْتِغَاثَةُ غَيْرِ الأَْبَوَيْنِ كَذَلِكَ - وَكَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِغَاثَتِهِ وَتَخْلِيصِهِ، فَيَجِبُ إِغَاثَتُهُ وَقَطْعُ الصَّلاَةِ، وَفِي النَّفْل إِنْ عَلِمَ الَّذِي نَادَاهُ مِنْ أَبٍ أَوْ أُمٍّ أَنَّهُ فِي الصَّلاَةِ فَدَعَاهُ لاَ يُجِيبُهُ، لأَِنَّ نِدَاءَهُ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ فِي صَلاَةٍ مَعْصِيَةٌ، وَلاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فِي صَلاَةٍ فَإِنَّهُ يُجِيبُهُ، لِمَا فِي قِصَّةِ جُرَيْجٍ الْعَابِدِ (1) . وَقَدْ تَقَدَّمَتْ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ إِجَابَةَ الْوَالِدِ فِي النَّافِلَةِ أَفْضَل مِنَ التَّمَادِي فِيهَا، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالأُْمِّ دُونَ الأَْبِ وَقَال بِهِ مِنَ السَّلَفِ مَكْحُولٌ (2) .
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي شَأْنِ حَدِيثِ قِصَّةِ جُرَيْجٍ: قَال الْعُلَمَاءُ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الصَّوَابُ فِي حَقِّهِ إِجَابَتَهَا، لأَِنَّهُ كَانَ فِي صَلاَةِ نَفْلٍ، وَالاِسْتِمْرَارُ فِيهَا تَطَوُّعٌ لاَ وَاجِبٌ، وَإِجَابَةُ الأُْمِّ وَبِرُّهَا وَاجِبٌ، وَعُقُوقُهَا حَرَامٌ (3) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: جَوَازُ قَطْعِ الصَّلاَةِ مُطْلَقًا لإِِجَابَةِ نِدَاءِ الأُْمِّ نَفْلاً كَانَتْ أَوْ فَرْضًا وَجْهٌ فِي
__________
(1) رد المحتار حاشية ابن عابدين على الدر 1 / 478
(2) فتح الباري 6 / 482 كتاب 60، أحاديث الأنبياء باب 48 قول الله (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ) .
(3) شرح النووي على صحيح مسلم 16 / 105 المطبعة المصرية.(20/342)
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الصَّلاَةَ إِنْ كَانَتْ نَفْلاً وَعَلِمَ تَأَذِّي الْوَالِدِ بِالتَّرْكِ وَجَبَتِ الإِْجَابَةُ وَإِلاَّ فَلاَ، وَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا وَضَاقَ الْوَقْتُ لَمْ تَجِبِ الإِْجَابَةُ، وَإِنْ لَمْ يَضِقْ وَجَبَ عِنْدَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ لأَِنَّهَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ.
ج - أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي هُوَ الزَّوْجُ إِذَا دَعَا امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ: إِذَا دَعَا الرَّجُل امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ لَعَنَتْهَا الْمَلاَئِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ. (1)
6 - أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي هُوَ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي الْوِلاَيَةِ، كَأَمِيرِ الْحَجِّ، وَأَمِيرِ الْجَيْشِ، وَالْوَالِي وَنَحْوِهِمْ، فَتَجِبُ الاِسْتِجَابَةُ لَهُمْ بِمُقْتَضَى الْوِلاَيَةِ، مَا لَمْ تَكُنْ دَعْوَتُهُمْ إِلَى مُحَرَّمٍ.
__________
(1) حديث: " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 294 - السلفية) ، ومسلم (2 / 1060 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(20/342)
دَفْعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّفْعُ: مَصْدَرُ دَفَعَ. وَمِنْ مَعَانِي مَادَّتِهِ فِي اللُّغَةِ: التَّنْحِيَةُ وَالْمُمَاطَلَةُ وَالْمُحَاجَّةُ عَنِ الْغَيْرِ وَالرَّدُّ، وَيَشْمَل رَدَّ الْقَوْل وَرَدَّ غَيْرِهِ كَالْوَدِيعَةِ مَثَلاً، وَالاِرْتِحَال عَنِ الْمَوْضِعِ، وَالْمَجِيءَ بِمَرَّةٍ. وَإِذَا بُنِيَ فِعْلُهُ لِلْمَفْعُول كَانَ بِمَعْنَى الاِنْتِهَاءِ إِلَى الشَّيْءِ (1) .
وَأَمَّا مَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ: فَهُوَ كَمَا جَاءَ فِي الْكُلِّيَّاتِ (2) : صَرْفُ الشَّيْءِ قَبْل الْوُرُودِ، وَإِذَا عُدِّيَ فِعْلُهُ بِإِلَى كَانَ مَعْنَاهُ الإِْنَالَةَ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (3) } ، وَإِذَا عُدِّيَ بِعَنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْحِمَايَةَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا (4) } .
وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَإِنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ الدَّفْعَ
__________
(1) الصحاح والقاموس واللسان والمصباح، مادة: " دفع ".
(2) الكليات 2 / 339 ط. دمشق.
(3) سورة النساء / 6.
(4) سورة الحج / 38.(21/5)
بِمَعْنَى الإِْعْطَاءِ، أَوِ الإِْخْرَاجِ، أَوِ الأَْدَاءِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ (1) .
وَيَسْتَعْمِلُونَهُ أَيْضًا بِمَعْنَى الرَّدِّ كَمَا فِي رَدِّ الْوَدِيعَةِ إِلَى الْمُودِعِ (2) .
وَيَسْتَعْمِلُونَهُ أَيْضًا بِمَعْنَى اتِّقَاءِ الشَّرِّ وَمَنْعِهِ كَمَا فِي دَفْعِ الصَّائِل (3) .
وَيَسْتَعْمِلُونَهُ أَيْضًا بِمَعْنَى رَدِّ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي وَإِبْطَال دَعْوَاهُ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - دَرْءٌ:
2 - وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الدَّفْعُ. قَال فِي الْمِصْبَاحِ: دَرَأْتُ الشَّيْءَ - بِالْهَمْزَةِ - دَرْءًا مِنْ بَابِ نَفَعَ، دَفَعْتُهُ، وَدَارَأْتُهُ دَافَعْتُهُ، وَتَدَارَءُوا تَدَافَعُوا.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَيْضًا مَعْنَاهُ الدَّفْعُ.
__________
(1) فتح القدير 2 / 28 - ط بولاق، جواهر الإكليل 1 / 140 - ط المعرفة، حاشية القليوبي 2 / 195 - ط الحلبي، المغني 2 / 684 - 685 - ط الرياض.
(2) جواهر الإكليل 2 / 143 - 144 - ط المعرفة، حاشية القليوبي 3 / 186 - ط الحلبي، المغني 6 / 392 - ط الرياض.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 351 - ط المصرية، جواهر الإكليل 2 / 297 - ط المعرفة، حاشية القليوبي 4 / 206 - ط الحلبي، المغني 8 / 329 - 330 ط الرياض.
(4) حاشية ابن عابدين 4 / 434 - ط المصرية، التبصرة 1 / 132 - ط العلمية، روضة الطالبين 12 / 13 - ط المكتب الإسلامي.(21/5)
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِمْ: الْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ (1) .
ب - رَدٌّ:
3 - وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ. وَالرُّجُوعُ، أَوِ الإِْرْسَال. قَال فِي الْمِصْبَاحِ: رَدَدْتُ الشَّيْءَ رَدًّا مَنَعْتُهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَقَدْ يُوصَفُ بِالْمَصْدَرِ فَيُقَال: فَهُوَ رَدٌّ. وَرَدَدْتُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ. وَرَدَدْتُ إِلَيْهِ جَوَابَهُ أَيْ: رَجَعْتُ وَأَرْسَلْتُ. وَمِنْهُ رَدَدْتُ عَلَيْهِ الْوَدِيعَةَ أَيْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِ (2) .
ج - رَفْعٌ:
4 - وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: خِلاَفُ الْخَفْضِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ أَيْضًا إِذَاعَةُ الأَْمْرِ، وَالشَّرَفُ فِي النَّسَبِ، وَالإِْسْرَاعُ فِي السَّيْرِ، وَقَبُول الْعَمَل، وَهُوَ فِي الأَْجْسَامِ حَقِيقَةٌ فِي الْحَرَكَةِ وَالاِنْتِقَال. وَفِي الْمَعَانِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، وَمَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ: يُقَابِل مَعْنَى الدَّفْعِ إِذْ مَعْنَاهُ صَرْفُ الشَّيْءِ بَعْدَ وُرُودِهِ، وَالدَّفْعُ صَرْفُهُ قَبْل وُرُودِهِ (3) .
د - مَنْعٌ:
5 - وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الْحِرْمَانُ مِنَ الأَْمْرِ، وَالْكَفُّ عَنْهُ، وَمُنَازَعَةُ الشَّيْءِ، وَالتَّمَنُّعُ بِالْقَوْمِ: التَّقَوِّي بِهِمْ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: خِلاَفُ الْعَطَاءِ، وَالصِّلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّفْعِ هِيَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ
__________
(1) المصباح مادة: " دري "، المغرب / 162 - ط العربي.
(2) المصباح مادة: " رد "، والمغني 6 / 392 - ط الرياض.
(3) المصباح مادة: " رفع "، الكليات 2 / 339 - ط دمشق.(21/6)
يَسْتَعْمِلُونَ الدَّفْعَ وَيُرِيدُونَ مِنْهُ الْمَنْعَ كَمَا فِي دَفْعِ الصَّائِل (1) .
الأَْحْكَامُ الإِْجْمَالِيَّةُ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الأَْحْكَامَ الْخَاصَّةَ بِمُصْطَلَحِ دَفْعٍ فِي عَدَدٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ كَمَا يَلِي:
أ - الزَّكَاةُ:
6 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ دَفْعٍ فِي الزَّكَاةِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْطِنٍ وَأَرَادُوا بِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى، فَقَدِ اسْتَعْمَلُوهُ بِمَعْنَى الإِْعْطَاءِ أَوِ الأَْدَاءِ، كَقَوْلِهِمْ: مَنْ يَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ لَهُ الصَّدَقَةُ وَمَنْ لاَ يَجُوزُ، وَاشْتِرَاطُ النِّيَّةِ عِنْدَ دَفْعِهَا، وَبِمَعْنَى الإِْخْرَاجِ كَقَوْلِهِمْ: وَقْتُ دَفْعِ الزَّكَاةِ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاة) .
ب - الْوَدِيعَةُ:
7 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الدَّفْعِ أَيْضًا فِي الْوَدِيعَةِ، وَأَرَادُوا بِهِ الرَّدَّ، أَيْ رَدَّهَا إِلَى الْمُودِعِ وَدَفْعَهَا إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى وَكِيلِهِ عِنْدَ طَلَبِهَا. فَإِنْ أَخَّرَهَا حَتَّى تَلِفَتْ ضَمِنَ (3) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وَدِيعَة) .
__________
(1) المصباح مادة: " منع "، المغرب / 435 - ط العربي، حاشية ابن عابدين 5 / 351 - ط المصرية.
(2) فتح القدير 2 / 28 - ط بولاق، جواهر الإكليل 1 / 140 - ط المعرفة، حاشية القليوبي 2 / 195 - ط الحلبي، المغني 2 / 684 - ط الرياض.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 495 - ط المصرية، جواهر الإكليل 2 / 143 - 144 - ط المعرفة، حاشية القليوبي 3 / 186 - ط الحلبي، المغني 6 / 392 - ط الرياض.(21/6)
ج - الصِّيَال:
8 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ الدَّفْعَ فِي الصِّيَال وَيَعْنُونَ بِهِ مَنْعَ الصَّائِل مِنْ تَحْقِيقِ غَرَضِهِ وَاتِّقَاءِ شَرِّهِ. وَالصَّائِل هُوَ مَنْ قَصَدَ غَيْرَهُ بِشَرٍّ سَوَاءٌ أَكَانَ الصَّائِل مُسْلِمًا أَمْ ذِمِّيًّا أَمْ عَبْدًا أَمْ حُرًّا أَمْ صَبِيًّا أَمْ مَجْنُونًا أَمْ بَهِيمَةً، فَيَجُوزُ دَفْعُهُ عَنْ كُل مَعْصُومٍ مِنْ نَفْسٍ، أَوْ طَرَفٍ، أَوْ مَنْفَعَةٍ، وَعَنِ الْبُضْعِ، وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَعَنِ الْمَال وَإِنْ قَل، مَعَ رِعَايَةِ التَّدْرِيجِ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّفْعِ بِأَنْ يَبْدَأَ بِالأَْهْوَنِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ إِلاَّ بِقَتْلِهِ قَتَلَهُ. وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِقِصَاصٍ، وَلاَ دِيَةٍ، وَلاَ كَفَّارَةٍ، وَلاَ قِيمَةٍ.
فَإِنْ قُتِل الْمُدَافِعُ كَانَ شَهِيدًا لِخَبَرِ: وَمَنْ قُتِل دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ (1) وَلأَِنَّهُ قُتِل لِدَفْعِ ظَالِمٍ، فَكَانَ شَهِيدًا كَالْعَادِل إِذَا قَتَلَهُ الْبَاغِي (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صِيَال) .
د - دَعْوَى:
9 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ الدَّفْعَ فِي الدَّعْوَى وَيَعْنُونَ بِهِ رَدَّ كَلاَمِ الْمُدَّعِي وَإِبْطَال دَعْوَاهُ. وَمِمَّا ذَكَرُوهُ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَنْ يَقُول الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ فُلاَنٌ الْغَائِبُ أَوْ رَهَنَهُ عِنْدِي، أَوْ غَصَبْتُهُ مِنْهُ، أَوْ أَعَارَنِي، أَوْ آجَرَنِي. وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ
__________
(1) حديث: " من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد " أخرجه الترمذي (4 / 30 - ط الحلبي) من حديث سعيد بن زيد، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 351 - ط المصرية، جواهر الإكليل 2 / 297 - ط المعرفة، الدسوقي 4 / 357 - 358 - ط الفكر، شرح الزرقاني 8 / 118 - ط الفكر، التبصرة 2 / 250 - 251 - ط الأولى، حاشية القليوبي 4 / 206 - ط الحلبي، روضة الطالبين 10 / 186 - 187 - ط المكتب الإسلامي، نهاية المحتاج 8 / 21 - ط المكتب الإسلامي، المغني 8 / 329 - 330 - ط الرياض.(21/7)
بَيِّنَةً، فَحِينَئِذٍ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُحْتَالاً كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ.
وَمِمَّا تَنْدَفِعُ بِهِ دَعْوَى مَنِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ بِمِلْكِ إِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِتِلْكَ الدَّعْوَى، أَوْ يُقِرُّ بِهِ لِغَيْرِ الْمُدَّعِي كَمَا فِي التَّبْصِرَةِ مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَمِمَّا تَنْدَفِعُ بِهِ دَعْوَى الدَّيْنِ أَنْ يَقُول الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: قَضَيْتُ أَوْ أَبْرَأَنِي، كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ.
وَتَنْدَفِعُ دَعْوَى مَنِ ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ بِإِنْكَارِهَا، وَلاَ يُسْتَحْلَفُ كَمَا ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ (1) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (دَعْوَى) .
الدَّفْعُ أَقْوَى مِنَ الرَّفْعِ:
10 - وَهِيَ قَاعِدَةٌ فِقْهِيَّةٌ ذَكَرَهَا الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ. وَمِنْ فُرُوعِهَا أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَل إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لاَ يَعُودُ طَهُورًا فِي وَجْهٍ، وَفِي وَجْهٍ يَعُودُ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ قَبْل الاِسْتِعْمَال فَإِنَّهُ لاَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً بِهِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَاءَ إِذَا اسْتُعْمِل وَهُوَ قُلَّتَانِ كَانَ دَافِعًا لِلاِسْتِعْمَال، وَإِذَا جُمِعَ كَانَ رَافِعًا. وَالدَّفْعُ أَقْوَى مِنَ الرَّفْعِ
__________
(1) الاختيار 2 / 116 - ط المعرفة، حاشية ابن عابدين 4 / 434 - ط المصرية، التبصرة 1 / 132 - ط العلمية، روضة الطالبين 12 / 13 - ط المكتب الإسلامي، المغني 9 / 272 - ط الرياض.(21/7)
وَمِنْ فُرُوعِهَا أَيْضًا أَنَّ السَّفَرَ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الصِّيَامِ يُبِيحُ الْفِطْرَ وَيَدْفَعُ الصَّوْمَ. وَلَوْ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ لاَ يُبِيحُهُ وَلاَ يَرْفَعُ الصَّوْمَ. وَالدَّفْعُ أَقْوَى مِنَ الرَّفْعِ (1) .
هَذَا وَيَرِدُ ذِكْرُ الدَّفْعِ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِهِ، كَالصَّلاَةِ وَالإِْحْرَامِ وَالسَّلَمِ وَالْحَوَالَةِ وَالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَاللُّقَطَةِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالنَّفَقَاتِ وَالْجِنَايَاتِ وَالْحُدُودِ وَالْجِهَادِ وَالْجِزْيَةِ. وَالتَّفْصِيل فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِتِلْكَ الأَْبْوَابِ وَالْمَسَائِل.
دَفْعُ الصَّائِل
انْظُرْ: صِيَال
دُفٌّ
انْظُرْ: مَلاَهِي
__________
(1) المنثور 2 / 155 - ط الأولى.(21/8)
دَفْنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّفْنُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْمُوَارَاةِ وَالسَّتْرِ. يُقَال: دَفَنَ الْمَيِّتَ وَارَاهُ، وَدَفَنَ سِرَّهُ: أَيْ كَتَمَهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مُوَارَاةُ الْمَيِّتِ فِي التُّرَابِ (2)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - دَفْنُ الْمُسْلِمِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِجْمَاعًا إِنْ أَمْكَنَ. وَالدَّلِيل عَلَى وُجُوبِهِ: تَوَارُثُ النَّاسِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا مَعَ النَّكِيرِ عَلَى تَارِكِهِ.
وَأَوَّل مَنْ قَامَ بِالدَّفْنِ هُوَ قَابِيل الَّذِي أَرْشَدَهُ اللَّهُ إِلَى دَفْنِ أَخِيهِ هَابِيل (3) ، لِمَا جَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى
__________
(1) لسان العرب المحيط، ومختار الصحاح مادة: " دفن ".
(2) حاشية الدسوقي 1 / 407 ط دار الفكر.
(3) ابن عابدين 1 / 598 ط دار إحياء التراث العربي، والبدائع 1 / 318 ط دار الكتاب العربي، والتاج والإكليل على هامش مواهب الجليل 2 / 208 ط دار الفكر، وحاشية الدسوقي 1 / 407، 408، وروضة الطالبين 2 / 131 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 2 / 126، 131.(21/8)
{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَْرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَال يَا وَيْلَتَى أَعْجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْل هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (1) } .
وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ: كَمَا لَوْ مَاتَ فِي سَفِينَةٍ، غُسِّل وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي الْبَحْرِ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَرِيبًا مِنَ الْبَرِّ. وَتَقْدِيرُ الْقُرْبِ: بِأَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَرِّ مُدَّةٌ لاَ يَتَغَيَّرُ فِيهَا الْمَيِّتُ.
وَصَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُثَقَّل بِشَيْءٍ لِيَرْسُبَ، وَقَال الشَّافِعِيُّ: يُثَقَّل إِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِلاَّ يُرْبَطُ بَيْنَ لَوْحَيْنِ لِيَحْمِلَهُ الْبَحْرُ إِلَى السَّاحِل، فَرُبَّمَا وَقَعَ إِلَى قَوْمٍ يَدْفِنُونَهُ (2) .
أَفْضَل مَكَانٍ لِلدَّفْنِ:
3 - الْمَقْبَرَةُ أَفْضَل مَكَانٍ لِلدَّفْنِ، وَذَلِكَ لِلاِتِّبَاعِ، وَلِنَيْل دُعَاءِ الطَّارِقِينَ، وَفِي أَفْضَل مَقْبَرَةٍ بِالْبَلَدِ أَوْلَى. وَإِنَّمَا دُفِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ؛ لأَِنَّ مِنْ خَوَاصِّ الأَْنْبِيَاءِ أَنَّهُمْ يُدْفَنُونَ حَيْثُ يَمُوتُونَ.
وَيُكْرَهُ الدَّفْنُ فِي الدَّارِ وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ صَغِيرًا. وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَكَذَلِكَ الدَّفْنُ فِي مَدْفَنٍ
__________
(1) سورة المائدة / 31.
(2) ابن عابدين 1 / 598، 599، 600، وجواهر الإكليل 1 / 117 ط دار الباز مكة المكرمة، والقوانين الفقهية / 95 ط دار الكتاب العربي، وروضة الطالبين 2 / 141، 142، والمغني 2 / 500، 501 ط الرياض.(21/9)
خَاصٍّ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَبْنِي مَدْرَسَةً وَنَحْوَهَا وَيَبْنِي لَهُ بِقُرْبِهِ مَدْفَنًا (1) .
وَأَمَّا الدَّفْنُ فِي الْمَسَاجِدِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ دَفْنُ الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي بُنِيَ لِلصَّلاَةِ فِيهِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَحْرُمُ دَفْنُهُ فِي مَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ كَمَدْرَسَةٍ وَرِبَاطٍ؛ لِتَعْيِينِ الْوَاقِفِ الْجِهَةَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَيُنْبَشُ عِنْدَهُمْ مَنْ دُفِنَ بِمَسْجِدٍ تَدَارُكًا لِلْعَمَل بِشَرْطِ الْوَاقِفِ. كَمَا يَحْرُمُ دَفْنُهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلاَ إِذْنِ رَبِّهِ لِلْعُدْوَانِ، وَلِلْمَالِكِ إِلْزَامُ دَافِنِهِ بِإِخْرَاجِهِ وَنَقْلِهِ؛ لِيَفْرُغَ لَهُ مِلْكُهُ عَمَّا شَغَلَهُ بِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَالأَْوْلَى لَهُ تَرْكُهُ حَتَّى يَبْلَى؛ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَتِهِ (2) .
نَقْل الْمَيِّتِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ نَقْل الْمَيِّتِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ بَعْدَ الدَّفْنِ مُطْلَقًا. وَأَفْتَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِجَوَازِهِ إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ رَدَّهُ فَقَال نَقْلاً عَنِ الْفَتْحِ: اتِّفَاقُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ فِي امْرَأَةٍ دُفِنَ ابْنُهَا
__________
(1) ابن عابدين 1 / 600، حاشية الدسوقي 1 / 424، والقليوبي 1 / 349، وحاشية الجمل 2 / 200، وأسنى المطالب 1 / 324، وروضة الطالبين 2 / 131، والمغني 2 / 510.
(2) مواهب الجليل 2 / 239، وحاشية الدسوقي 1 / 428، وكشاف القناع 2 / 145.(21/9)
وَهِيَ غَائِبَةٌ فِي غَيْرِ بَلَدِهَا فَلَمْ تَصْبِرْ، وَأَرَادَتْ نَقْلَهُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَسَعُهَا ذَلِكَ، فَتَجْوِيزُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا نَقْل يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ؛ لِيَكُونَا مَعَ آبَائِهِمَا الْكِرَامِ فَهُوَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَلَمْ يَتَوَفَّرْ فِيهِ شُرُوطُ كَوْنِهِ شَرْعًا لَنَا.
وَأَمَّا قَبْل دَفْنِهِ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِنَقْلِهِ مُطْلَقًا، وَقِيل إِلَى مَا دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ، وَقَيَّدَهُ مُحَمَّدٌ بِقَدْرِ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ نَقْل الْمَيِّتِ قَبْل الدَّفْنِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى آخَرَ إِلاَّ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ. وَبِهِ قَال الأَْوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِالْحَبَشَةِ، فَحُمِل إِلَى مَكَّةَ فَدُفِنَ، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَتَتْ قَبْرَهُ، ثُمَّ قَالَتْ: " وَاللَّهِ لَوْ حَضَرْتُكَ مَا دُفِنْتَ إِلاَّ حَيْثُ مِتَّ، وَلَوْ شَهِدْتُكَ مَا زُرْتُكَ (1) ".
وَلأَِنَّ ذَلِكَ أَخَفُّ لِمُؤْنَتِهِ، وَأَسْلَمُ لَهُ مِنَ التَّغْيِيرِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ جَازَ.
قَال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لاَ أُحِبُّهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ
__________
(1) حديث: " أثر عائشة في إتيانها قبر أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر " أخرجه الترمذي (3 / 262 - ط الحلبي) ، وعبد الرزاق في " المصنف ". (3 / 517، 518 - ط المجلس العلمي) .(21/10)
بِقُرْبِ مَكَّةَ، أَوِ الْمَدِينَةِ، أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَيُخْتَارُ أَنْ يُنْقَل إِلَيْهَا لِفَضْل الدَّفْنِ فِيهَا، وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يُكْرَهُ نَقْلُهُ، وَقَال صَاحِبُ " التَّتِمَّةِ " وَآخَرُونَ: يَحْرُمُ نَقْلُهُ (1) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ نَقْل الْمَيِّتِ قَبْل الدَّفْنِ وَكَذَا بَعْدَهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ بِشُرُوطٍ هِيَ:
- أَنْ لاَ يَنْفَجِرَ حَال نَقْلِهِ
- أَنْ لاَ تُنْتَهَكَ حُرْمَتُهُ
- وَأَنْ يَكُونَ لِمَصْلَحَةٍ: كَأَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَهُ الْبَحْرُ، أَوْ تُرْجَى بَرَكَةُ الْمَوْضِعِ الْمَنْقُول إِلَيْهِ، أَوْ لِيُدْفَنَ بَيْنَ أَهْلِهِ، أَوْ لأَِجْل قُرْبِ زِيَارَةِ أَهْلِهِ، أَوْ دَفْنِ مَنْ أَسْلَمَ بِمَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ، فَيُتَدَارَكُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْهَا، وَدَفْنِهِ فِي مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ الثَّلاَثَةِ كَانَ النَّقْل حَرَامًا (2) .
وَاتَّفَقَ الأَْئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ يُسْتَحَبُّ دَفْنُهُ حَيْثُ قُتِل. لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى مَصَارِعِهِمْ (3) . وَأَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 602، وروضة الطالبين 2 / 143، والمغني 2 / 509.
(2) شرح الزرقاني 2 / 102 ط دار الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 111، وحاشية الدسوقي 1 / 421
(3) حديث: " أمر بقتلى أُحُد أن يردوا إلى مصارعهم. . . " أخرجه النسائي (4 / 79 - ط المكتبة التجارية) من حديث جابر بن عبد الله، وأخرجه الترمذي (4 / 315 - ط الحلبي) بلفظ مقارب، وقال: " حديث حسن صحيح ".(21/10)
الْحَدِيدُ وَالسِّلاَحُ، وَيُتْرَكُ عَلَيْهِ خُفَّاهُ، وَقَلَنْسُوَتُهُ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ، وَأَنْ يُدْفَنُوا فِي ثِيَابِهِمْ بِدِمَائِهِمْ (1) . وَدَفْنُ الشَّهِيدِ بِثِيَابِهِ حَتْمٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَمَلاً بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَأَوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ ثِيَابَهُ، وَيُكَفِّنَهُ بِغَيْرِهَا (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهِيد) (وَتَكْفِين) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْكَافِرَ إِنْ مَاتَ فِي الْحِجَازِ، وَشَقَّ نَقْلُهُ مِنْهُ لِتَقَطُّعِهِ، أَوْ بُعْدِ الْمَسَافَةِ مِنْ غَيْرِ الْحِجَازِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ دُفِنَ ثَمَّ، أَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلاَ يَجِبُ دَفْنُهُ، وَفِي وَجْهٍ لاَ يَجُوزُ، فَإِنْ دُفِنَ فَيُتْرَكُ.
وَأَمَّا فِي حَرَمِ مَكَّةَ فَيُنْقَل مِنْهُ وَلَوْ دُفِنَ؛ لأَِنَّ الْمَحَل غَيْرُ قَابِلٍ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنٍ مِنَ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّ إِذْنَ الإِْمَامِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ. وَلأَِنَّ بَقَاءَ جِيفَتِهِ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ دُخُولِهِ حَيًّا إِلاَّ إِذَا تَهَرَّى
__________
(1) حديث ابن عباس: " أن رسول الله أمر بقتلى أحد أن ينزع. . . . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 485 - ط الحلبي) : وضعفه ابن حجر في التلخيص (2 / 118 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) البدائع 1 / 344، وابن عابدين 1 / 610، وجواهر الإكليل 1 / 111، والقليوبي 1 / 339، وروضة الطالبين 2 / 120، 131، والمغني 2 / 509، 531، 532.(21/11)
وَتَقَطَّعَ بَعْدَ دَفْنِهِ تُرِكَ. وَلَيْسَ حَرَمُ الْمَدِينَةِ كَحَرَمِ مَكَّةَ فِيمَا ذُكِرَ؛ لاِخْتِصَاصِ حَرَمِ مَكَّةَ بِالنُّسُكِ (1) .
دَفْنُ الأَْقَارِبِ فِي مَقْبَرَةٍ وَاحِدَةٍ:
5 - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ جَمْعُ الأَْقَارِبِ فِي الدَّفْنِ فِي مَقْبَرَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَفَنَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ: أَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي (2) . وَلأَِنَّ ذَلِكَ أَسْهَل لِزِيَارَتِهِمْ وَأَكْثَرُ لِلتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ، وَيُسَنُّ تَقْدِيمُ الأَْبِ، ثُمَّ مَنْ يَلِيهِ فِي السِّنِّ وَالْفَضِيلَةِ إِنْ أَمْكَنَ (3) .
الأَْحَقُّ بِالدَّفْنِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الأَْوْلَى بِدَفْنِ الْمَرْأَةِ مَحَارِمُهَا الرِّجَال الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ وَهُمُ الَّذِينَ كَانَ يَحِل لَهُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا فِي حَيَاتِهَا وَلَهَا السَّفَرُ مَعَهُمْ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَامَ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَال: أَلاَ
__________
(1) حاشية الجمل 5 / 215، 216، وأسنى المطالب 4 / 214، 215.
(2) حديث: " ادفن إليه من مات من أهلي " أخرجه أبو داود (3 / 543 - تحقيق عزت عبيد دعاس) عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن رجل من الصحابة، وحسنه ابن حجر في التلخيص (2 / 133 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) حاشية الدسوقي 1 / 421، والقليوبي 1 / 351، وروضة الطالبين 2 / 142، والمغني 2 / 509.(21/11)
إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَى النِّسْوَةِ مَنْ يُدْخِلُهَا قَبْرَهَا، فَأَرْسَلْنَ: مَنْ كَانَ يَحِل لَهُ الدُّخُول عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهَا، فَرَأَيْتُ أَنْ قَدْ صَدَقْنَ.
وَلأَِنَّ امْرَأَةَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا لَمَّا تُوُفِّيَتْ قَال لأَِهْلِهَا: أَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَا. وَلأَِنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِوِلاَيَتِهَا حَال الْحَيَاةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ زَوْجُهَا؛ لأَِنَّهُ أَشْبَهُ بِمَحْرَمِهَا مِنَ النَّسَبِ مِنَ الأَْجَانِبِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ فَلاَ بَأْسَ لِلأَْجَانِبِ وَضْعُهَا فِي قَبْرِهَا، وَلاَ يُحْتَاجُ إِلَى إِحْضَارِ النِّسَاءِ لِلدَّفْنِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ مَاتَتِ ابْنَتُهُ أَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ، فَنَزَل فِي قَبْرِ ابْنَتِهِ (1) . وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَحَارِمَهَا كُنَّ هُنَاكَ، كَأُخْتِهَا فَاطِمَةَ وَلأَِنَّ تَوَلِّيَ النِّسَاءِ لِذَلِكَ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَفُعِل فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَصْرِ خُلَفَائِهِ، وَلَمْ يُنْقَل. ثُمَّ يُقَدَّمُ خَصِيٌّ، ثُمَّ شَيْخٌ، ثُمَّ أَفْضَل دِينًا وَمَعْرِفَةً. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: إِنَّهُ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُدْخِلَهَا النِّسَاءُ؛ لأَِنَّهُ مُبَاحٌ لَهُنَّ النَّظَرُ إِلَيْهَا وَهُنَّ أَحَقُّ بِغُسْلِهَا، الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى كَالرِّجَال.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ الزَّوْجَ، فَإِنَّهُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ مَنْظُورَهُ أَكْثَرُ (2) .
__________
(1) حديث: " أمر أبا طلحة بالنزول في قبر ابنته ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 208 - ط السلفية) من حديث أنس بن مالك.
(2) البدائع 1 / 310، وكشاف القناع 2 / 132، 133، وروضة الطالبين 2 / 133.(21/12)
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْمَيِّتَ إِنْ كَانَ رَجُلاً فَيَضَعُهُ فِي قَبْرِهِ الرِّجَال، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَيَتَوَلَّى ذَلِكَ زَوْجُهَا مِنْ أَسْفَلِهَا وَمَحَارِمُهَا مِنْ أَعْلاَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَصَالِحُوا الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ وُجِدَ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ فَهُوَ أَوْلَى مِنَ الأَْجَانِبِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الأَْوْلَى بِدَفْنِ الرِّجَال أَوْلاَهُمْ بِغُسْلِهِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ، فَلاَ يَنْزِل الْقَبْرَ إِلاَّ الرِّجَال مَتَى وُجِدُوا؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحَدَهُ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ وَأُسَامَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا تَوَلَّوْا غُسْلَهُ (2) ، وَلأَِنَّ الْمُقَدَّمَ بِغُسْلِهِ أَقْرَبُ إِلَى سَتْرِ أَحْوَالِهِ، وَقِلَّةِ الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْرَبُ الْعَصَبَةِ، ثُمَّ ذَوُو أَرْحَامِهِ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ، ثُمَّ الرِّجَال الأَْجَانِبُ، ثُمَّ مِنْ مَحَارِمِهِ مِنَ النِّسَاءِ، ثُمَّ الأَْجْنَبِيَّاتُ لِلْحَاجَةِ إِلَى دَفْنِهِ وَعَدَمِ غَيْرِهِنَّ (3) .
أَمَّا دَفْنُ الْقَاتِل لِلْمَقْتُول: فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُ فِي دَفْنِهِ لِمُبَالَغَتِهِ فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ (4) .
دَفْنُ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ
__________
(1) القوانين الفقهية / 94، 95.
(2) أخرجه أحمد (1 / 259 - ط الميمنية) من حديث ابن عباس، وأعله محقق المسند الشيخ أحمد شاكر بضعف أحد رواته (المسند 4 / 104 - ط دار المعارف) .
(3) روضة الطالبين 2 / 133، وكشاف القناع 2 / 132، 133، والمغني 2 / 503.
(4) كشاف القناع 2 / 89.(21/12)
أَنْ يَدْفِنَ كَافِرًا وَلَوْ قَرِيبًا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، بِأَنْ لاَ يَجِدَ مَنْ يُوَارِيهِ غَيْرَهُ فَيُوَارِيهِ وُجُوبًا.؛ لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُخْبِرَ بِمَوْتِ أَبِي طَالِبٍ قَال لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اذْهَبْ فَوَارِهِ (1) وَكَذَلِكَ قَتْلَى بَدْرٍ أُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ، أَوْ لأَِنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِهِ وَيَتَغَيَّرُ بِبَقَائِهِ. وَلاَ يُسْتَقْبَل بِهِ قِبْلَتَنَا لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلاَ قِبْلَتَهُمْ؛ لِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا، فَلاَ يُقْصَدُ جِهَةٌ مَخْصُوصَةٌ، بَل يَكُونُ دَفْنُهُ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ السُّنَّةِ.
وَكَذَلِكَ لاَ يُتْرَكُ مَيِّتٌ مُسْلِمٌ لِوَلِيِّهِ الْكَافِرِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَجْهِيزِهِ وَدَفْنِهِ، إِذْ لاَ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ دَفْنِهِ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَاسْتِقْبَالِهِ قِبْلَتَهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ (2) .
كَيْفِيَّةُ الدَّفْنِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْخَل الْمَيِّتُ مِنْ قِبَل الْقِبْلَةِ بِأَنْ يُوضَعَ مِنْ جِهَتِهَا، ثُمَّ يُحْمَل فَيُلْحَدَ، فَيَكُونَ الآْخِذُ لَهُ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ حَال الأَْخْذِ.
__________
(1) حديث: " اذهب فواره " أخرجه أبو داود (3 / 547 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وقال الرافعي: " حديث ثابت مشهور "، كذا في التلخيص لابن حجر (2 / 114 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) ابن عابدين 1 / 597، وجواهر الإكليل 1 / 117، 118، وحاشية الدسوقي 1 / 403، وأسنى المطالب 1 / 314، وروضة الطالبين 2 / 119.(21/13)
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَال النَّخَعِيُّ: حَدَّثَنِي مَنْ رَأَى أَهْل الْمَدِينَةِ فِي الزَّمَنِ الأَْوَّل يُدْخِلُونَ مَوْتَاهُمْ مِنْ قِبَل الْقِبْلَةِ، وَأَنَّ السَّل شَيْءٌ أَحْدَثَهُ أَهْل الْمَدِينَةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ لاَ بَأْسَ أَنْ يُدْخَل الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ كَانَ وَالْقِبْلَةُ أَوْلَى (2) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ السَّل، بِأَنْ يُوضَعَ الْمَيِّتُ عِنْدَ آخِرِ الْقَبْرِ ثُمَّ يُسَل مِنْ قِبَل رَأْسِهِ مُنْحَدِرًا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الأَْنْصَارِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُل مِنْ قِبَل رَأْسِهِ سَلًّا (3) .
وَالْخِلاَفُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ هُنَا خِلاَفٌ فِي الأَْوْلَى، وَعَلَى هَذَا فَإِنْ كَانَ الأَْسْهَل عَلَيْهِمْ أَخْذَهُ مِنَ الْقِبْلَةِ أَوْ مِنْ رَأْسِ الْقَبْرِ فَلاَ حَرَجَ؛ لأَِنَّ
__________
(1) البدائع 1 / 318، وابن عابدين 1 / 600، والمغني 2 / 496.
(2) القوانين الفقهية / 94.
(3) حديث ابن عمر وابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سل من قبل رأسه سلا " حديث ابن عباس أخرجه الشافعي، وعنه البيهقي في سننه (4 / 54 - ط دائرة المعارف العثمانية) وفي إسناده جهالة. وأما حديث ابن عمر فقد ذكر ابن حجر في التلخيص (2 / 128 - ط شركة الطباعة الفنية) أن أبا البركات ابن تيمية عزاه إلى أبي بكر النجاد.(21/13)
اسْتِحْبَابَ أَخْذِهِ مِنْ أَسْفَل الْقَبْرِ إِنَّمَا كَانَ طَلَبًا لِلسُّهُولَةِ عَلَيْهِمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ، فَإِنْ كَانَ الأَْسْهَل غَيْرَهُ كَانَ مُسْتَحَبًّا، قَال أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: كُلٌّ لاَ بَأْسَ بِهِ (1) .
ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى شِقِّهِ الأَْيْمَنِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيَقُول وَاضِعُهُ: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُول اللَّهِ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَدْخَل الْمَيِّتَ فِي الْقَبْرِ، قَال مَرَّةً: بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُول اللَّهِ. وَقَال مَرَّةً: بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2)
وَمَعْنَى بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُول اللَّهِ: بِسْمِ اللَّهِ وَضَعْنَاكَ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُول اللَّهِ سَلَّمْنَاكَ.
وَقَال الْمَاتُرِيدِيُّ: هَذَا لَيْسَ دُعَاءً لِلْمَيِّتِ؛ لأَِنَّهُ إِنْ مَاتَ عَلَى مِلَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَدَّل حَالُهُ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُبَدَّل أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنِينَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، فَيَشْهَدُونَ بِوَفَاةِ الْمَيِّتِ عَلَى الْمِلَّةِ، وَعَلَى هَذَا جَرَتِ السُّنَّةُ.
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 133، وكشاف القناع 2 / 131، والمغني 2 / 496، 497.
(2) حديث عبد الله بن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أدخل الميت. . . " أخرجه الترمذي (3 / 355 ط الحلبي) ، وابن ماجه (1 / 495) وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.(21/14)
وَفِيهَا أَقْوَالٌ أُخْرَى ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ (1) .
ثُمَّ تُحَل عُقَدُ الْكَفَنِ لِلاِسْتِغْنَاءِ عَنْهَا، وَيُسَوَّى اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ، وَتُسَدُّ الْفُرَجُ بِالْمَدَرِ وَالْقَصَبِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَيْ لاَ يَنْزِل التُّرَابُ مِنْهَا عَلَى الْمَيِّتِ، وَيُكْرَهُ وَضْعُ الآْجُرِّ الْمَطْبُوخِ إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ رَخْوَةً؛ لأَِنَّهَا تُسْتَعْمَل لِلزِّينَةِ، وَلاَ حَاجَةَ لِلْمَيِّتِ إِلَيْهَا، وَلأَِنَّهُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ. قَال مَشَايِخُ بُخَارَى: لاَ يُكْرَهُ الآْجُرُّ فِي بِلاَدِنَا لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِضَعْفِ الأَْرَاضِي، وَكَذَلِكَ الْخَشَبُ.
وَيُسْتَحَبُّ حَثْيُهُ مِنْ قِبَل رَأْسِهِ ثَلاَثًا: لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ، ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ فَحَثَى عَلَيْهِ مِنْ قِبَل رَأْسِهِ ثَلاَثًا (2) . وَيَقُول فِي الْحَثْيَةِ الأُْولَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} ، وَفِي الثَّانِيَةِ: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} ، وَفِي الثَّالِثَةِ: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} .
وَقِيل: يَقُول فِي الأُْولَى: اللَّهُمَّ جَافِ الأَْرْضَ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ أَبْوَابَ السَّمَاءِ لِرُوحِهِ، وَفِي الثَّالِثَةِ: اللَّهُمَّ زَوِّجْهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَلِلْمَرْأَةِ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْهَا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِكَ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 600، والبدائع 1 / 319، والزرقاني 2 / 99، وروضة الطالبين 2 / 134، والمغني 2 / 500.
(2) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة. . . " نجده من حديث أبي هريرة، وإنما ورد من حديث أبي أمامة بلفظ مقارب، أخرجه أحمد (5 / 254 - ط الميمنية) وضعفه النووي في المجموع (5 / 294 - ط المنيرية) .(21/14)
ثُمَّ يُهَال التُّرَابُ عَلَيْهِ، وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ (1) .
وَيَحْرُمُ أَنْ يُوضَعَ تَحْتَ الْمَيِّتِ عِنْدَ الدَّفْنِ مِخَدَّةٌ أَوْ حَصِيرٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ لأَِنَّهُ إِتْلاَفُ مَالٍ بِلاَ ضَرُورَةٍ، بَل الْمَطْلُوبُ كَشْفُ خَدِّهِ، وَالإِْفْضَاءُ إِلَى التُّرَابِ اسْتِكَانَةً وَتَوَاضُعًا، وَرَجَاءً لِرَحْمَةِ اللَّهِ. وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ جُعِل فِي قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطِيفَةٌ (2) ، قِيل: لأَِنَّ الْمَدِينَةَ سَبِخَةٌ، وَقِيل: إِنَّ الْعَبَّاسَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَنَازَعَا فَبَسَطَهَا شَقْرَانُ تَحْتَهُ؛ لِقَطْعِ التَّنَازُعِ. وَقِيل: كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَلْبَسُهَا وَيَفْتَرِشُهَا، فَقَال شَقْرَانُ: وَاللَّهِ لاَ يَلْبَسُكِ أَحَدٌ بَعْدَهُ أَبَدًا فَأَلْقَاهَا فِي الْقَبْرِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ لِيَكُونَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ، بَل ثَبَتَ عَنْ غَيْرِهِ خِلاَفُهُ كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَرِهَ أَنْ يُلْقَى تَحْتَ الْمَيِّتِ شَيْءٌ عِنْدَ الدَّفْنِ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَال: (لاَ تَجْعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَ الأَْرْضِ شَيْئًا) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 600، 601، والبدائع 1 / 319، وحاشية الدسوقي 1 / 419، وشرح الزرقاني 2 / 99، وجواهر الإكليل 1 / 111، وروضة الطالبين 2 / 136، والمغني 2 / 499 500.
(2) حديث: " جعل في قبره صلى الله عليه وسلم قطيفة " أخرجه مسلم (2 / 666 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس.(21/15)
وَلاَ تَعْيِينَ فِي عَدَدِ مَنْ يَدْخُل الْقَبْرَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَدَدُهُمْ عَلَى حَسَبِ حَال الْمَيِّتِ، وَحَاجَتِهِ، وَمَا هُوَ أَسْهَل فِي أَمْرِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْحَدَهُ ثَلاَثَةٌ (1) .
وَلَوْ مَاتَ أَقَارِبُ الشَّخْصِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَأَمْكَنَهُ دَفْنُ كُل وَاحِدٍ فِي قَبْرٍ، بَدَأَ بِمَنْ يُخْشَى تَغَيُّرُهُ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ فِي التَّغْيِيرِ، فَإِنْ لَمْ يُخْشَ تَغَيُّرٌ بَدَأَ بِأَبِيهِ، ثُمَّ أُمِّهِ، ثُمَّ الأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ، فَإِنْ كَانَا أَخَوَيْنِ فَأَكْبَرُهُمَا، وَإِنْ كَانَتَا زَوْجَتَيْنِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا (2) .
أَقَل مَا يُجْزِئُ فِي الدَّفْنِ
9 - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ أَقَل مَا يُجْزِئُ فِي الدَّفْنِ حُفْرَةٌ تَكْتُمُ رَائِحَةَ الْمَيِّتِ، وَتَحْرُسُهُ عَنِ السِّبَاعِ؛ لِعُسْرِ نَبْشِ مِثْلِهَا غَالِبًا، وَقُدِّرَ الأَْقَل بِنِصْفِ الْقَامَةِ، وَالأَْكْثَرُ بِالْقَامَةِ، وَيُنْدَبُ عَدَمُ تَعْمِيقِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ حَدَّ لأَِكْثَرِهِ وَإِنْ كَانَ النَّدْبُ عَدَمَ عُمْقِهِ.
وَيَجُوزُ الدَّفْنُ فِي الشَّقِّ وَاللَّحْدِ، فَاللَّحْدُ: أَنْ
__________
(1) البدائع 1 / 319، والقوانين الفقهية / 94، وروضة الطالبين 2 / 134، 135، والمغني 2 / 503، وكشاف القناع 2 / 131.
(2) أسنى المطالب 1 / 333، وروضة الطالبين 2 / 142.(21/15)
يُحْفَرَ حَائِطُ الْقَبْرِ مَائِلاً عَنِ اسْتِوَائِهِ مِنْ أَسْفَلِهِ قَدْرَ مَا يُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ. وَالشَّقُّ: أَنْ يُحْفَرَ وَسَطُهُ كَالنَّهْرِ، وَيُسَقَّفَ. فَإِنْ كَانَتِ الأَْرْضُ صُلْبَةً فَاللَّحْدُ أَفْضَل، وَإِلاَّ فَالشَّقُّ (1) ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: " قَبْر ".
تَغْطِيَةُ الْقَبْرِ حِينَ الدَّفْنِ:
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَغْطِيَةُ قَبْرِ الْمَرْأَةِ حِينَ الدَّفْنِ لأَِنَّهَا عَوْرَةٌ، وَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَبْدُوَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَرَاهُ الْحَاضِرُونَ، وَبِنَاءُ أَمْرِهَا عَلَى السِّتْرِ، وَالْخُنْثَى فِي ذَلِكَ كَالأُْنْثَى احْتِيَاطًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَغْطِيَةِ قَبْرِ الرَّجُل، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَغْطِيَةُ قَبْرِ الرَّجُل إِلاَّ لِعُذْرٍ مِنْ مَطَرٍ وَغَيْرِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ وَقَدْ دَفَنُوا مَيِّتًا، وَقَدْ بَسَطُوا عَلَى قَبْرِهِ الثَّوْبَ، فَجَذَبَهُ وَقَال: إِنَّمَا يُصْنَعُ هَذَا بِالنِّسَاءِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنِ اتِّبَاعِ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 599، وجواهر الإكليل 1 / 111، وحاشية الدسوقي 1 / 429، وشرح الزرقاني 2 / 114، والقليوبي 1 / 339، 340، وروضة الطالبين 2 / 132، 133، وكشاف القناع 2 / 133، 134.
(2) البدائع 1 / 319، وابن عابدين 1 / 600، وجواهر الإكليل 1 / 111، والقليوبي 1 / 349، وأسنى المطالب 1 / 326، والمغني 2 / 501، وكشاف القناع 2 / 131، 132.(21/16)
ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً، وَالْمَرْأَةُ آكَدُ.؛ لأَِنَّهُ رُبَّمَا يَنْكَشِفُ عِنْدَ الاِضْطِجَاعِ وَحَل الشِّدَادِ، فَيَظْهَرُ مَا يُسْتَحَبُّ إِخْفَاؤُهُ.
اتِّخَاذُ التَّابُوتِ:
11 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُكْرَهُ الدَّفْنُ فِي التَّابُوتِ إِلاَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَرَخَاوَةِ الأَْرْضِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ عَنْ أَصْحَابِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ تَشَبُّهٌ بِأَهْل الدُّنْيَا، وَالأَْرْضُ أَنْشَفُ لِفَضَلاَتِهِ. وَلأَِنَّ فِيهِ إِضَاعَةَ الْمَال.
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، فَقَالُوا: لاَ بَأْسَ بِاتِّخَاذِ التَّابُوتِ لَهَا مُطْلَقًا؛ لأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى السِّتْرِ، وَالتَّحَرُّزِ عَنْ مَسِّهَا عِنْدَ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ (1) .
الدَّفْنُ لَيْلاً وَفِي الأَْوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ لَدَى الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ الدَّفْنُ لَيْلاً؛ لأَِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ دُفِنَ لَيْلاً، وَعَلِيٌّ دَفَنَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا لَيْلاً، وَمِمَّنْ دُفِنَ لَيْلاً عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَائِشَةُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ. وَرَخَّصَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 166، وابن عابدين 1 / 599، والزرقاني 2 / 100، وحاشية الدسوقي 1 / 419، 420، وجواهر الإكليل 1 / 112، والقليوبي 1 / 349، والمغني 2 / 503.(21/16)
فِيهِ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَلَكِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ نَهَارًا إِنْ أَمْكَنَ؛ لأَِنَّهُ أَسْهَل عَلَى مُتَّبِعِي الْجِنَازَةِ، وَأَكْثَرُ لِلْمُصَلِّينَ عَلَيْهَا، وَأَمْكَنُ لاِتِّبَاعِ السُّنَّةِ فِي دَفْنِهِ.
وَكَرِهَهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَالْحَسَنُ (1) ؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمًا، فَذَكَرَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ فَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ، وَقُبِرَ لَيْلاً، فَزَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُل بِاللَّيْل إِلاَّ أَنْ يُضْطَرَّ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلِكَ (2) .
أَمَّا الدَّفْنُ فِي الأَْوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ فَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ الدَّفْنُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، وَعِنْدَ قِيَامِهَا (3) لِقَوْل عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ: ثَلاَثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 607، ومواهب الجليل 2 / 221، والقليوبي 1 / 350، وروضة الطالبين 2 / 142، وحاشية الجمل 2 / 200، والمغني 2 / 555.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يومًا فذكر رجلاً من أصحابه " أخرجه مسلم (2 / 651 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(3) مواهب الجليل 2 / 222، وكشاف القناع 2 / 128.
(4) حديث عقبة بن عامر: " ثلاث ساعات. . . " أخرجه مسلم (1 / 568 - 569 - ط الحلبي)(21/17)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ الدَّفْنُ فِي الأَْوْقَاتِ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصَّلاَةِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الدَّفْنُ فِي غَيْرِهَا أَفْضَل (1) .
الدَّفْنُ قَبْل الصَّلاَةِ عَلَيْهِ وَمِنْ غَيْرِ غُسْلٍ وَبِلاَ كَفَنٍ:
13 - إِنْ دُفِنَ الْمَيِّتُ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ يُنْبَشُ وَيُغَسَّل، إِلاَّ أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَفَسَّخَ، فَيُتْرَكُ، وَبِهِ قَال أَبُو ثَوْرٍ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ لاَ يُنْبَشُ لأَِنَّ النَّبْشَ مُثْلَةٌ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (نَبْش) .
أَمَّا إِنْ دُفِنَ قَبْل الصَّلاَةِ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ اخْتَارَهَا الْقَاضِي أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ وَلاَ يُنْبَشُ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى قَبْرِ الْمِسْكِينَةِ (3) ، وَلَمْ يَنْبُشْهَا، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُنْبَشُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ دُفِنَ قَبْل وَاجِبٍ فَيُنْبَشُ، كَمَا لَوْ دُفِنَ مِنْ غَيْرِ
__________
(1) الاختيار 1 / 41، والقليوبي 1 / 350، وروضة الطالبين 2 / 142، 143.
(2) فتح القدير (1 / 452 - ط دار صادر) ، والاختيار 1 / 94، وابن عابدين 1 / 592، وجواهر الإكليل 1 / 111، وروضة الطالبين 2 / 140، والمغني 2 / 553.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر المسكينة " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 552 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 659 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(21/17)
غُسْلٍ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، أَمَّا إِنْ تَغَيَّرَ فَلاَ يُنْبَشُ بِحَالٍ (1) .
وَإِنْ دُفِنَ بِغَيْرِ كَفَنٍ، فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ يُتْرَكُ اكْتِفَاءً بِسِتْرِ الْقَبْرِ، وَحِفْظًا؛ لِحُرْمَتِهِ، وَلأَِنَّ الْقَصْدَ بِالْكَفَنِ السَّتْرُ وَقَدْ حَصَل. وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُنْبَشُ، ثُمَّ يُكَفَّنُ، ثُمَّ يُدْفَنُ لأَِنَّ التَّكْفِينَ وَاجِبٌ فَأَشْبَهَ الْغُسْل (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (كَفَن) .
دَفْنُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يُدْفَنُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ كَضِيقِ مَكَانٍ، أَوْ تَعَذُّرِ حَافِرٍ، أَوْ تُرْبَةٍ أُخْرَى؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْفِنُ كُل مَيِّتٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ (3) . وَعَلَى هَذَا فِعْل الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
فَإِذَا دُفِنَ جَمَاعَةٌ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ: قُدِّمَ الأَْفْضَل مِنْهُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ فِي الْفَضِيلَةِ عَلَى
__________
(1) ابن عابدين 1 / 592، والاختيار 1 / 94، وشرح الزرقاني 2 / 122، وجواهر الإكليل 1 / 111، وأسنى المطالب 1 / 323، وروضة الطالبين 2 / 130، والمغني 2 / 553.
(2) روضة الطالبين 2 / 140، والمغني 2 / 554.
(3) خبر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن كل ميت في قبر واحد ". قال ابن حجر: " لم أره هكذا، لكنه معروف بالاستقراء ". كذا في التلخيص الحبير (2 / 136 - ط شركة الطباعة الفنية) .(21/18)
حَسَبِ تَقْدِيمِهِمْ إِلَى الإِْمَامَةِ فِي الصَّلاَةِ لِمَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ قَال: شَكَوْنَا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فَقُلْنَا: يَا رَسُول اللَّهِ: الْحَفْرُ عَلَيْنَا لِكُل إِنْسَانٍ شَدِيدٌ. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْفِرُوا وَأَعْمِقُوا، وَأَحْسِنُوا، وَادْفِنُوا الاِثْنَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، قَالُوا: فَمَنْ نُقَدِّمُ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا (1) .
ثُمَّ إِنْ شَاءَ سَوَّى بَيْنَ رُءُوسِهِمْ، إِنْ شَاءَ حَفَرَ قَبْرًا طَوِيلاً، وَجَعَل رَأْسَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمَوْتَى عِنْدَ رِجْل الآْخَرِ، وَبِهَذَا صَرَّحَ أَحْمَدُ.
وَيُجْعَل بَيْنَ مَيِّتٍ وَآخَرَ حَاجِزٌ مِنْ تُرَابٍ وَيُقَدَّمُ الأَْبُ عَلَى الاِبْنِ، إِنْ كَانَ أَفْضَل مِنْهُ لِحُرْمَةِ الأُْبُوَّةِ، وَكَذَا تُقَدَّمُ الأُْمُّ عَلَى الْبِنْتِ.
وَلاَ يُجْمَعُ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَال إِلاَّ عِنْدَ تَأَكُّدِ الضَّرُورَةِ، وَيُقَدَّمُ الرَّجُل وَإِنْ كَانَ ابْنًا.
فَإِنِ اجْتَمَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَخُنْثَى وَصَبِيٌّ، قُدِّمَ الرَّجُل، ثُمَّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ الْخُنْثَى، ثُمَّ الْمَرْأَةُ.
وَلِذَلِكَ فَيُكْرَهُ الدَّفْنُ فِي الْفَسَاقِي، وَهِيَ كَبَيْتٍ مَعْقُودٍ بِالْبِنَاءِ يَسَعُ لِجَمَاعَةٍ قِيَامًا لِمُخَالَفَتِهَا السُّنَّةَ، وَالْكَرَاهَةُ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ وَهِيَ:
عَدَمُ اللَّحْدِ، وَدَفْنُ الْجَمَاعَةِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ بِلاَ ضَرُورَةٍ، وَاخْتِلاَطُ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ بِلاَ حَاجِزٍ،
__________
(1) حديث هشام بن عامر: " احفروا وأعمقوا " أخرجه النسائي (4 / 81 - ط المكتبة التجارية) ، والترمذي (4 / 213 - ط الحلبي) ، واللفظ للنسائي، وقال الترمذي: " حسن صحيح ".(21/18)
وَتَجْصِيصُهَا وَالْبِنَاءُ عَلَيْهَا، وَخُصُوصًا إِذَا كَانَ فِيهَا مَيِّتٌ لَمْ يُبْل، وَمَا يَفْعَلُهُ جَهَلَةُ الْحَفَّارِينَ مِنْ نَبْشِ الْقُبُورِ الَّتِي لَمْ تُبْل أَرْبَابُهَا، وَإِدْخَال أَجَانِبَ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ مِنَ الْمُنْكَرِ الظَّاهِرِ، وَلَيْسَ مِنَ الضَّرُورَةِ الْمُبِيحَةِ لِدَفْنِ مَيِّتَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ.
وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا صَارَ الْمَيِّتُ تُرَابًا؛ لأَِنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ (1) .
دَفْنُ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ:
15 - إِذَا وُجِدَتْ أَطْرَافُ مَيِّتٍ، أَوْ بَعْضُ بَدَنِهِ لَمْ يُغَسَّل، وَلَمْ يُصَل عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، بَل يُدْفَنُ (2) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ عُضْوُ مُسْلِمٍ عُلِمَ مَوْتُهُ يَجِبُ مُوَارَاتُهُ بِخِرْقَةٍ وَدَفْنُهُ، وَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ مَوْتُ صَاحِبِ الْعُضْوِ لَمْ يُصَل عَلَيْهِ، لَكِنْ يُنْدَبُ دَفْنُهُ، وَيَجِبُ فِي دَفْنِ الْجُزْءِ مَا يَجِبُ فِي دَفْنِ الْجُمْلَةِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِنْ وُجِدَ جُزْءُ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ غُسِّل، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ
__________
(1) الاختيار 1 / 96، 97، والبدائع 1 / 319، وابن عابدين 1 / 598، 599، وحاشية الدسوقي 1 / 422، وجواهر الإكليل 1 / 114، وشرح الزرقاني 2 / 103، ومواهب الجليل 2 / 235، 236، وروضة الطالبين 2 / 138، 142، وكشاف القناع 2 / 143، والمغني 2 / 563.
(2) ابن عابدين 1 / 576، وفتح القدير 2 / 76 ط دار إحياء التراث العربي.(21/19)
الْقَبْرِ، أَوْ نُبِشَ بَعْضُ الْقَبْرِ وَدُفِنَ فِيهِ، وَلاَ حَاجَةَ إِلَى كَشْفِ الْمَيِّتِ؛ لأَِنَّ ضَرَرَ نَبْشِ الْمَيِّتِ وَكَشْفِهِ أَعْظَمُ مِنَ الضَّرَرِ بِتَفْرِقَةِ أَجْزَائِهِ (1) .
دَفْنُ الْمُسْلِمِ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ وَعَكْسُهُ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ دَفْنُ مُسْلِمٍ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَعَكْسُهُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ. أَمَّا لَوْ جُعِلَتْ مَقْبَرَةُ الْكُفَّارِ الْمُنْدَرِسَةُ مَقْبَرَةً لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ نَقْل عِظَامِهَا إِنْ كَانَتْ جَازَ، كَجَعْلِهَا مَسْجِدًا؛ لِعَدَمِ احْتِرَامِهِمْ. وَالدَّفْنُ فِي غَيْرِ مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ الْمُنْدَرِسَةِ أَوْلَى إِنْ أَمْكَنَ، تَبَاعُدًا عَنْ مَوَاضِعِ الْعَذَابِ. وَلاَ يَجُوزُ الْعَكْسُ، بِأَنْ تُجْعَل مَقْبَرَةُ الْمُسْلِمِينَ الْمُنْدَرِسَةُ مَقْبَرَةً لِلْكُفَّارِ، وَلاَ نَقْل عِظَامِ الْمُسْلِمِينَ لِتُدْفَنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لاِحْتِرَامِهَا (2) .
أَمَّا الْمُرْتَدُّ فَقَدْ ذَكَرَ الإِْسْنَوِيُّ نَقْلاً عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّهُ لاَ يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ لِخُرُوجِهِ بِالرِّدَّةِ عَنْهُمْ، وَلاَ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ؛ لِمَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنْ حُرْمَةِ الإِْسْلاَمِ.
__________
(1) فتح القدير 2 / 76 ط دار إحياء التراث العربي، وابن عابدين 1 / 576، والقليوبي 1 / 337، 338، وروضة الطالبين 2 / 117، والمغني 2 / 540، وكشاف القناع 2 / 124.
(2) ابن عابدين 1 / 599، وجواهر الإكليل 1 / 117، 118، والقليوبي 1 / 329، والجمل 2 / 201، وروضة الطالبين 2 / 142، وكشاف القناع 2 / 124.(21/19)
وَأَمَّا مَنْ قُتِل حَدًّا فَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ تَارِكُ الصَّلاَةِ (1) .
دَفْنُ كَافِرَةٍ حَامِلٍ مِنْ مُسْلِمٍ:
17 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دَفْنِ كَافِرَةٍ حَامِلٍ مِنْ مُسْلِمٍ عَلَى أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ لَدَى الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الأَْحْوَطَ دَفْنُهَا عَلَى حِدَةٍ، وَيُجْعَل ظَهْرُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ؛ لأَِنَّ وَجْهَ الْوَلَدِ لِظَهْرِهَا. وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ لِذَلِكَ بِأَنَّهَا كَافِرَةٌ، فَلاَ تُدْفَنُ فِي مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَتَأَذَّوْا بِعَذَابِهَا، وَلاَ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ؛ لأَِنَّ وَلَدَهَا مُسْلِمٌ، فَيَتَأَذَّى بِعَذَابِهِمْ، وَتُدْفَنُ مُنْفَرِدَةً، وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَْسْقَعِ.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهَا تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَتُنَزَّل مَنْزِلَةَ صُنْدُوقِ الْوَلَدِ، وَقِيل: فِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ رَابِعٌ قَطَعَ بِهِ صَاحِبُ " التَّتِمَّةِ " بِأَنَّهَا تُدْفَنُ عَلَى طَرَفِ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا تُدْفَعُ إِلَى أَهْل دِينِهَا؛ لِيَتَوَلَّوْا غُسْلَهَا وَدَفْنَهَا (2) .
وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ: قَال بَعْضُهُمْ: تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِنَا تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْوَلَدِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 122، وروضة الطالبين 10 / 105.
(2) روضة الطالبين 2 / 135، والمغني 2 / 563.(21/20)
الْمُشْرِكِينَ؛ لأَِنَّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْهَا مَا دَامَ فِي بَطْنِهَا، وَقَال وَاثِلَةُ بْنُ الأَْسْقَعِ: يُتَّخَذُ لَهَا مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَهُوَ مَا أَخَذَ بِهِ الْجُمْهُورُ كَمَا سَبَقَ، وَهُوَ الأَْحْوَطُ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْحِلْيَةِ. وَالظَّاهِرُ كَمَا أَفْصَحَ بِهِ بَعْضُهُمْ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ فِيمَا إِذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ وَإِلاَّ دُفِنَتْ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ (1) .
الْجُلُوسُ بَعْدَ الدَّفْنِ:
18 - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْلِسَ الْمُشَيِّعُونَ لِلْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ لِدُعَاءٍ وَقِرَاءَةٍ بِقَدْرِ مَا يُنْحَرُ الْجَزُورُ، وَيُفَرَّقُ لَحْمُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَال: اسْتَغْفِرُوا لأَِخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الآْنَ يُسْأَل (2) . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْتَحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ أَوَّل سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتَهَا، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَال: اجْلِسُوا عِنْدَ قَبْرِي قَدْرَ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقَسَّمُ، فَإِنِّي أَسْتَأْنِسُ بِكُمْ (3) .
__________
(1) ابن عابدين (1 / 577) .
(2) حديث: " كان إذا فرغ من دفن الميت. . . " أخرجه أبو داود (3 / 550 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وجود إسناده النووي في المجموع (5 / 292 - ط المنيرية) .
(3) ابن عابدين 1 / 601، وروضة الطالبين 2 / 137، والمغني 2 / 505.(21/20)
أُجْرَةُ الدَّفْنِ:
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى الدَّفْنِ، وَلَكِنِ الأَْفْضَل أَنْ يَكُونَ مَجَّانًا، وَتُدْفَعُ مِنْ مَجْمُوعِ التَّرِكَةِ، وَتُقَدَّمُ عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِذِمَّةِ الْمَيِّتِ مِنْ دَيْنٍ. وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى الدَّفْنِ؛ لأَِنَّهُ يَذْهَبُ بِالأَْجْرِ (1) .
دَفْنُ السِّقْطِ:
20 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ السِّقْطَ إِذَا اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ يَجِبُ أَنْ يُدْرَجَ فِي خِرْقَةٍ وَيُدْفَنَ (2) .
دَفْنُ الشَّعْرِ وَالأَْظَافِرِ وَالدَّمِ:
21 - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْفَنَ مَا يُزِيلُهُ الشَّخْصُ مِنْ ظُفْرٍ وَشَعْرٍ وَدَمٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ مِيل بِنْتِ مِشْرَحٍ الأَْشْعَرِيَّةِ، قَالَتْ: رَأَيْتُ أَبِي يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ، وَيَدْفِنُهُ وَيَقُول: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَل ذَلِكَ (3) وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 576، وحاشية الدسوقي 1 / 413، وشرح الزرقاني 2 / 93، وجواهر الإكليل 1 / 108، ونهاية المحتاج 6 / 5 ط الحلبي، وكشاف القناع 2 / 126.
(2) ابن عابدين 1 / 595، وشرح الزرقاني 2 / 112، وجواهر الإكليل 1 / 116، وروضة الطالبين 2 / 117، والمغني 2 / 523.
(3) حديث مثلة بنت مشرح الأشعرية: أخرجه ابن أبي قاسم وابن السكن وغيرهما، وإسناده ضعيف جدًا، كذا في الإصابة لابن حجر (3 / 421 - ط السعادة) .(21/21)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كَانَ يُعْجِبُهُ دَفْنُ الدَّمِ (1) .
وَقَال أَحْمَدُ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ. وَكَذَلِكَ تُدْفَنُ الْعَلَقَةُ وَالْمُضْغَةُ الَّتِي تُلْقِيهَا الْمَرْأَةُ (2) .
دَفْنُ الْمُصْحَفِ:
22 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمُصْحَفَ إِذَا صَارَ بِحَالٍ لاَ يُقْرَأُ فِيهِ، يُدْفَنُ كَالْمُسْلِمِ، فَيُجْعَل فِي خِرْقَةٍ طَاهِرَةٍ، وَيُدْفَنُ فِي مَحَلٍّ غَيْرِ مُمْتَهَنٍ لاَ يُوطَأُ، وَفِي الذَّخِيرَةِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُلْحَدَ لَهُ وَلاَ يُشَقَّ لَهُ؛ لأَِنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَى إِهَالَةِ التُّرَابِ عَلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ نَوْعُ تَحْقِيرٍ إِلاَّ إِذَا جُعِل فَوْقَهُ سَقْفًا بِحَيْثُ لاَ يَصِل التُّرَابُ إِلَيْهِ فَهُوَ حَسَنٌ أَيْضًا. ذَكَرَ أَحْمَدُ أَنَّ أَبَا الْجَوْزَاءِ بَلِيَ لَهُ مُصْحَفٌ، فَحَفَرَ لَهُ فِي مَسْجِدِهِ، فَدَفَنَهُ. وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَفَنَ الْمَصَاحِفَ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ. أَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْكُتُبِ فَالأَْحْسَنُ كَذَلِكَ أَنْ تُدْفَنَ (3) .
الْقَتْل بِالدَّفْنِ:
23 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقْتَضَى
__________
(1) حديث: " كان يعجبه دفن الدم " أخرجه الخلال كما في المغني لابن قدامة (1 / 88 - ط الرياض) وفي إسناده إرسال.
(2) ابن عابدين 5 / 260، ونهاية المحتاج 1 / 341، وأسنى المطالب 1 / 313، وروضة الطالبين 2 / 117، وكشاف القناع 1 / 76.
(3) ابن عابدين 1 / 119، والقليوبي 1 / 36، وكشاف القناع 1 / 137.(21/21)
قَوَاعِدِ الْمَالِكِيَّةِ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّ مَنْ دُفِنَ حَيًّا فَمَاتَ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ. وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا مُحَمَّدًا أَنَّ فِيهِ الدِّيَةَ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 349، والشرح الصغير 4 / 339 وما بعدها، وروضة الطالبين 9 / 125، ومطالب أولي النهى 6 / 8.(21/22)
دَلِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّلِيل لُغَةً: هُوَ الْمُرْشِدُ وَالْكَاشِفُ، مِنْ دَلَلْتُ عَلَى الشَّيْءِ وَدَلَلْتُ إِلَيْهِ.
وَالْمَصْدَرُ دُلُولَةٌ وَدَلاَلَةٌ، بِكَسْرِ الدَّال وَفَتْحِهَا وَضَمِّهَا. وَالدَّال وَصْفٌ لِلْفَاعِل (1) .
وَالدَّلِيل مَا يُتَوَصَّل بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى الْعِلْمِ بِمَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ وَلَوْ ظَنًّا، وَقَدْ يَخُصُّهُ بَعْضُهُمْ بِالْقَطْعِيِّ.
وَلِذَلِكَ كَانَ تَعْرِيفُ أُصُول الْفِقْهِ بِأَنَّهُ " أَدِلَّةُ الْفِقْهِ " جَارِيًا عَلَى الرَّأْيِ الأَْوَّل الْقَائِل بِالتَّعْمِيمِ فِي تَعْرِيفِ الدَّلِيل بِمَا يَشْمَل الظَّنِّيَّ؛ لأَِنَّ أُصُول الْفِقْهِ الَّتِي هِيَ أَدِلَّةُ الْفِقْهِ الإِْجْمَالِيَّةِ تَشْمَل مَا هُوَ قَطْعِيٌّ، كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَمَا هُوَ ظَنِّيٌّ كَالْعُمُومَاتِ وَأَخْبَارِ الآْحَادِ وَالْقِيَاسِ وَالاِسْتِصْحَابِ. وَمِنْ هُنَا عَرَّفَهُ فِي الْمَحْصُول وَفِي الْمُعْتَمَدِ بِأَنَّهُ: " طُرُقُ الْفِقْهِ "؛ لِيَشْمَل الْقَطْعِيَّ وَالظَّنِّيَّ (2) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " دلل ".
(2) نهاية السول بهامش التقرير والتحبير 1 / 8، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1 / 9، والمحصول ج 1 ق 1 / 97، 105 - 106، وفواتح الرحموت 1 / 20، والمعتمد 1 / 9 - 10 و 2 / 690.(21/22)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْمَارَةُ:
2 - الأَْمَارَةُ فِي اللُّغَةِ: الْعَلاَمَةُ وَزْنًا وَمَعْنًى - كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ - وَهِيَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: مَا أَوْصَل إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ ظَنِّيٍّ.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الأَْمَارَةِ وَالدَّلِيل. وَعِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ: الأَْمَارَةُ مَا يُؤَدِّي النَّظَرُ الصَّحِيحُ فِيهِ إِلَى الظَّنِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَقْلِيًّا أَمْ شَرْعِيًّا. أَمَّا الْفُقَهَاءُ فَالأَْمَارَاتُ الْعَقْلِيَّةُ عِنْدَهُمْ أَدِلَّةٌ كَذَلِكَ (1) .
ب - الْبُرْهَانُ:
3 - الْبُرْهَانُ: الْحُجَّةُ وَالدَّلاَلَةُ، وَيُطْلَقُ خَاصَّةً عَلَى مَا يَقْتَضِي الصِّدْقَ لاَ مَحَالَةَ. وَهُوَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ مَا فَصَل الْحَقَّ عَنِ الْبَاطِل، وَمَيَّزَ الصَّحِيحَ مِنَ الْفَاسِدِ بِالْبَيَانِ الَّذِي فِيهِ (2) .
ج - الْحُجَّةُ:
4 - الْحُجَّةُ: الْبُرْهَانُ الْيَقِينِيُّ، وَهُوَ مَا تَثْبُتُ بِهِ الدَّعْوَى مِنْ حَيْثُ الْغَلَبَةُ عَلَى الْخَصْمِ.
وَالْحُجَّةُ الإِْقْنَاعِيَّةُ، هِيَ الَّتِي تُفِيدُ الْقَانِعِينَ
__________
(1) المعتمد 2 / 690، المحصول ج 1 ق 1 / 105 - 106.
(2) الكليات للكفوي 1 / 432، الفروق للعسكري ص 62.(21/23)
الْقَاصِرِينَ عَنْ تَحْصِيل الْمَطَالِبِ بِالْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَرُبَّمَا تُفْضِي إِلَى الْيَقِينِ بِالاِسْتِكْثَارِ (1) .
الأَْدِلَّةُ الْمُثْبِتَةُ لِلأَْحْكَامِ:
5 - الأَْدِلَّةُ الْمُثْبِتَةُ لِلأَْحْكَامِ نَوْعَانِ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ وَهِيَ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، الَّتِي تَرْجِعُ إِلَيْهَا أَدِلَّةُ الْفِقْهِ الإِْجْمَالِيَّةُ، وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ كَثِيرٌ جَمَعَهَا الْقَرَافِيُّ فِي مُقَدِّمَةِ الذَّخِيرَةِ، مِنْهَا: الاِسْتِحْسَانُ، وَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ، وَسَدُّ الذَّرِيعَةِ، وَالْعُرْفُ، وَقَوْل الصَّحَابِيِّ، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَالاِسْتِصْحَابُ، وَإِجْمَاعُ أَهْل الْمَدِينَةِ، وَغَيْرِهَا (2) . وَيُقْصَدُ بِالأَْحْكَامِ: الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ: الْوُجُوبُ، وَالنَّدْبُ، وَالإِْبَاحَةُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالْحُرْمَةُ. وَالأَْحْكَامُ الْوَضْعِيَّةُ: كَالشَّرْطِ، وَالْمَانِعِ، وَالسَّبَبِ وَنَحْوِهَا (3) .
الدَّلِيل الإِْجْمَالِيُّ وَالدَّلِيل التَّفْصِيلِيُّ:
6 - عَرَّفَ الأُْصُولِيُّونَ أُصُول الْفِقْهِ لَقَبًا بِأَنَّهُ " أَدِلَّةُ
__________
(1) الكليات للكفوي 2 / 172.
(2) الذخيرة 1 / 141.
(3) التلويح على التوضيح 1 / 23، المستصفى 2 / 228، كشف الأسرار 3 / 268، الإحكام في أصول الأحكام 3 / 186، نهاية السول 1 / 16 (مع شرح البدخشي) .(21/23)
الْفِقْهِ الإِْجْمَالِيَّةُ " مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَوْضُوعَهُ الأَْدِلَّةُ الإِْجْمَالِيَّةُ، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَهِيَ الأَْدِلَّةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ أَدِلَّةٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا إِلاَّ أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الأَْرْبَعَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَهِيَ الاِسْتِحْسَانُ، وَالاِسْتِصْحَابُ، وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَقَوْل الصَّحَابِيِّ، وَالاِسْتِصْلاَحُ. وَعِلْمُ أُصُول الْفِقْهِ يَبْحَثُ فِي إِثْبَاتِ حُجِّيَّةِ الأَْدِلَّةِ وَطُرُقِ دَلاَلَتِهَا عَلَى الأَْحْكَامِ.
وَالدَّلِيل إِنْ نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الأَْحْكَامِ كَانَ دَلِيلاً إِجْمَالِيًّا، وَإِنْ نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الأَْحْكَامِ كَانَ دَلِيلاً تَفْصِيلِيًّا. وَمِثَال ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ (1) } فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَمْرٌ، وَأَنَّ الأَْمْرَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ، كَانَ دَلِيلاً إِجْمَالِيًّا.
وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِوُجُوبِ الصَّلاَةِ عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ كَانَ دَلِيلاً تَفْصِيلِيًّا (2) .
الدَّلِيل الْقَطْعِيُّ وَالدَّلِيل الظَّنِّيُّ:
7 - تَنْقَسِمُ الأَْدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ مِنْ حَيْثُ الثُّبُوتُ وَالدَّلاَلَةُ:
1 - قَطْعِيُّ الثُّبُوتِ وَالدَّلاَلَةِ، كَبَعْضِ النُّصُوصِ
__________
(1) سورة البقرة / 43.
(2) جمع الجوامع بحاشية العطار 1 / 45، الشرقاوي على التحرير 1 / 26.(21/24)
الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ (1) } .
2 - وَقَطْعِيُّ الثُّبُوتِ ظَنِّيُّ الدَّلاَلَةِ، كَبَعْضِ النُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي يُخْتَلَفُ فِي تَأْوِيلِهَا.
3 - وَظَنِّيُّ الثُّبُوتِ قَطْعِيُّ الدَّلاَلَةِ، كَأَخْبَارِ الآْحَادِ ذَاتِ الْمَفْهُومِ الْقَطْعِيِّ.
4 - وَظَنِّيُّ الثُّبُوتِ وَالدَّلاَلَةِ، كَأَخْبَارِ الآْحَادِ الَّتِي مَفْهُومُهَا ظَنِّيٌّ (2) .
وَرَتَّبَ أُصُولِيُّو الْحَنَفِيَّةِ عَلَى هَذَا التَّقْسِيمِ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ:
فَبِالْقِسْمِ الأَْوَّل يَثْبُتُ الْفَرْضُ، وَبِالْقِسْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ، وَبِالْقِسْمِ الرَّابِعِ يَثْبُتُ الاِسْتِحْبَابُ وَالسُّنِّيَّةُ.
وَهَذَا التَّقْسِيمُ جَارٍ عَلَى اصْطِلاَحِ الْحَنَفِيَّةِ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ. وَيُنْظَرُ فِي تَفْصِيل مَا تَقَدَّمَ: الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ فِي مَوَاضِعِهِ. وَكَذَلِكَ مُصْطَلَحُ: " اسْتِدْلاَل " " وَتَرْجِيح ".
__________
(1) سورة البقرة / 196.
(2) كشف الأسرار 1 / 84.(21/24)
دَمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّمُ بِالتَّخْفِيفِ، هُوَ ذَلِكَ السَّائِل الأَْحْمَرُ الَّذِي يَجْرِي فِي عُرُوقِ الْحَيَوَانَاتِ، وَعَلَيْهِ تَقُومُ الْحَيَاةُ (1) .
وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ عَبَّرُوا بِهِ عَنِ الْقِصَاصِ وَالْهَدْيِ فِي قَوْلِهِمْ: مُسْتَحِقُّ الدَّمِ (يَعْنِي وَلِيَّ الْقِصَاصِ) وَقَوْلُهُمْ: يَلْزَمُهُ دَمٌ. كَمَا أَطْلَقُوهُ عَلَى مَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ فِي الْحَيْضِ، وَالاِسْتِحَاضَةِ، وَالنِّفَاسِ أَيْضًا (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصَّدِيدُ:
2 - صَدِيدُ الْجُرْحِ: مَاؤُهُ الرَّقِيقُ الْمُخْتَلِطُ بِالدَّمِ. وَقِيل: هُوَ الْقَيْحُ الْمُخْتَلِطُ بِالدَّمِ، وَالصَّدِيدُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: مَعْنَاهُ: مَا يَسِيل مِنْ جُلُودِ أَهْل
__________
(1) متن اللغة، ولسان العرب المحيط مادة: " دمى ".
(2) الاختيار 1 / 30، 143، 158 وما بعدها، والقوانين الفقهية / 44 و 137، وروضة الطالبين 1 / 134، 174 وما بعدها، وكشاف القناع 1 / 196 وما بعدها و1 / 218.(21/25)
النَّارِ مِنَ الدَّمِ وَالْقَيْحِ، كَمَا قَال أَبُو إِسْحَاقَ (1) فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ (2) } .
ب - الْقَيْحُ:
3 - الْقَيْحُ: الْمِدَّةُ الْخَالِصَةُ لاَ يُخَالِطُهَا دَمٌ. وَقِيل: هُوَ الصَّدِيدُ الَّذِي كَأَنَّهُ الْمَاءُ، وَفِيهِ شُكْلَةُ دَمٍ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الدَّمَ حَرَامٌ نَجَسٌ لاَ يُؤْكَل وَلاَ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَقَدْ حُمِل الْمُطْلَقُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي سُورَةِ الأَْنْعَامِ، فِي: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا (4) }
وَاخْتَلَفُوا فِي يَسِيرِهِ عَلَى أَقْوَالٍ. كَمَا اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِ الْيَسِيرِ (5) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَرَ: مُصْطَلَحَ: (أَطْعِمَة) (وَوُضُوء) (وَنَجَاسَة) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - تَتَعَلَّقُ بِالدَّمِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ بَحَثَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مَوَاضِعِهَا:
__________
(1) لسان العرب المحيط والمغرب للمطرزي مادة: " صدد "، وتفسير القرطبي 9 / 351 ط دار الكتب المصرية، وحاشية الدسوقي 1 / 56.
(2) سورة إبراهيم / 16.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 56، ولسان العرب المحيط مادة: " قيح ".
(4) سورة الأنعام / 145.
(5) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 79.(21/25)
فَمَسْأَلَةُ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ الدَّمِ تَطَرَّقَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ (1) ، وَكَوْنُهُ نَجَسًا تَجِبُ إِزَالَتُهُ عَنْ بَدَنِ الْمُصَلِّي وَثَوْبِهِ وَمَكَانِهِ بُحِثَ فِي بَابِ النَّجَاسَاتِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ إِزَالَةِ النَّجَاسَاتِ (2) . وَفِي بَابِ الصَّلاَةِ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا (3) ، وَاعْتِبَارُهُ حَيْضًا أَوِ اسْتِحَاضَةً أَوْ نِفَاسًا، فُصِّل الْكَلاَمُ عَلَيْهِ فِي أَبْوَابِ الْحَيْضِ وَالاِسْتِحَاضَةِ وَالنِّفَاسِ (4) . وَكَوْنُهُ مِنْ مُفْسِدَاتِ الصَّوْمِ فِي بَابِ الصَّوْمِ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ (5) . وَانْظُرْ فِي الْمَوْسُوعَةِ الْمُصْطَلَحَاتِ الآْتِيَةَ: (حَدَث) (وَنَجَاسَة) (وَطَهَارَة) (وَحَيْض) (وَاسْتِحَاضَة) (وَنِفَاس) (وَحِجَامَة) .
وَكَوْنُهُ بِمَعْنَى الْهَدْيِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ قَدْ بُحِثَ فِي الْحَجِّ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ، وَوُجُوبِ الْهَدْيِ فِي التَّمَتُّعِ، وَالْقِرَانِ،
__________
(1) الاختيار 1 / 10.
(2) الاختيار 1 / 31 - 32، والقوانين الفقهية 39 - 40، وروضة الطالبين 1 / 16 وما بعدها و 1 / 27، ونيل المآرب 1 / 101 - 102.
(3) روضة الطالبين 1 / 280 - 281، والمغني 2 / 78.
(4) الاختيار 1 / 26 - 27، والقوانين الفقهية / 44، وروضة الطالبين 1 / 134 وما بعدها، وكشاف القناع 1 / 196 وما بعدها، ونيل المآرب 1 / 104 وما بعدها.
(5) نيل المآرب 1 / 277.(21/26)
وَالإِْحْصَارِ (1) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِحْرَام) (وَإِحْصَار) (وَهَدْي) (وَقِرَان) .
وَكَوْنُهُ مِمَّا يَحْرُمُ أَكْلُهُ أَوْ يَحِل فِي الأَْطْعِمَةِ (2) . كَمَا تَطَرَّقَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ فِي الذَّكَاةِ (3) ، وَالْعَقِيقَةِ (4) ، وَالْقِصَاصِ (5) ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
__________
(1) الاختيار 1 / 143، 158 وما بعدها، والقوانين الفقهية / 137، ونيل المآرب 1 / 291، 298 وما بعدها.
(2) البدائع 5 / 61، وابن عابدين 5 / 477، والموسوعة الفقهية مصطلح: " أطعمة " 5 / 75 - 77.
(3) شرح المنهاج القويم / 146 - ط مصطفى الحلبي، ونيل المآرب 1 / 407.
(4) المنهاج القويم / 149، ونيل المآرب / 317.
(5) التاج والإكليل على مواهب الجليل 6 / 230، والشرح الصغير 4 / 335.(21/26)
دَنَانِيرُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّنَانِيرُ جَمْعُ دِينَارٍ، وَهُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ. وَالدِّينَارُ اسْمُ الْقِطْعَةِ مِنَ الذَّهَبِ الْمَضْرُوبَةِ الْمُقَدَّرَةِ بِالْمِثْقَال، وَيُرَادِفُ الدِّينَارَ الْمِثْقَال فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ، فَيَقُولُونَ: نِصَابُ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالاً، وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ: أَنَّ الْمِثْقَال اسْمٌ لِلْمِقْدَارِ الْمُقَدَّرِ بِهِ، وَالدِّينَارُ اسْمٌ لِلْمُقَدَّرِ بِهِ بِقَيْدِ كَوْنِهِ ذَهَبًا (1) .
وَالدَّنَانِيرُ أَصْلاً مِنْ ضَرْبِ الأَْعَاجِمِ. وَكَانَ وَزْنُهُ عِشْرِينَ قِيرَاطًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَلاَذُرِيُّ وَابْنُ خَلْدُونٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّرَاهِمُ:
2 - الدَّرَاهِمُ جَمْعُ دِرْهَمٍ وَهُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ النَّقْدِ ضُرِبَ مِنَ الْفِضَّةِ. انْظُرْ: (دَرَاهِم) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، وابن عابدين 2 / 28 - 29، ونيل المآرب 1 / 250، والمجموع 5 / 476 - 477.
(2) فتوح البلدان / 451، ومقدمة ابن خلدون / 183، والأحكام السلطانية للماوردي / 153.(21/27)
ب - النَّقْدُ:
3 - النَّقْدُ مَا ضُرِبَ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الدِّينَارِ.
ج - الْفُلُوسُ:
4 - الْفُلُوسُ مَا ضُرِبَ مِنَ الْمَعَادِنِ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
د - سِكَّةٌ:
5 - السِّكَّةُ مَا يُضْرَبُ بِهَا النَّقْدُ.
تَعَامُل الْعَرَبِ بِالدِّينَارِ وَمَوْقِفُ الإِْسْلاَمِ مِنْهُ:
6 - ذَكَرَ الْبَلاَذُرِيُّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ أَنَّ دَنَانِيرَ هِرَقْل كَانَتْ تَرِدُ عَلَى أَهْل مَكَّةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا لاَ يَتَبَايَعُونَ بِهَا إِلاَّ عَلَى أَنَّهَا تِبْرٌ، وَكَانَ الْمِثْقَال عِنْدَهُمْ مَعْرُوفَ الْوَزْنِ، وَزْنُهُ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا إِلاَّ كَسْرًا، وَأَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ أَهْل مَكَّةَ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ (1) . وَأَقَرَّهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ (2) .
وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيِّ أَنَّ
__________
(1) خبر: " إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم على وزن المثقال " أخرجه البلاذري في فتوح البلدان (ص 452 - نشر دار الكتب العلمية) ، وفي إسناده محمد بن عمر الأسلمي الواقدي، وهو متروك، كما في ترجمته من " الميزان ". للذهبي (3 / 663 - ط الحلبي) .
(2) فتوح البلدان للبلاذري / 452.(21/27)
عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ لَمَّا أَرَادَ ضَرْبَ الدَّنَانِيرِ، سَأَل عَنْ أَوْزَانِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَجْمَعُوا لَهُ عَلَى أَنَّ الْمِثْقَال اثْنَانِ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا إِلاَّ حَبَّةً بِالشَّامِيِّ فَضَرَبَهَا كَذَلِكَ (1) .
الدِّينَارُ الشَّرْعِيُّ:
7 - الدِّينَارُ الَّذِي ضَرَبَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ هُوَ الدِّينَارُ الشَّرْعِيُّ؛ لِمُطَابَقَتِهِ لِلأَْوْزَانِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي أَقَرَّهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ. وَوَزْنُهُ كَمَا ذَكَرَتِ الرِّوَايَاتُ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا إِلاَّ حَبَّةً بِالشَّامِيِّ، وَهُوَ أَيْضًا بِزِنَةِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ حَبَّةَ شَعِيرٍ مِنْ حَبَّاتِ الشَّعِيرِ الْمُتَوَسِّطَةِ الَّتِي لَمْ تُقَشَّرْ وَقَدْ قُطِعَ مِنْ طَرَفَيْهَا مَا امْتَدَّ (2) .
وَقَال ابْنُ خَلْدُونٍ: الإِْجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ مُنْذُ صَدْرِ الإِْسْلاَمِ وَعَهْدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ الدِّرْهَمَ الشَّرْعِيَّ: هُوَ الَّذِي تَزِنُ الْعَشَرَةُ مِنْهُ سَبْعَةَ مَثَاقِيل مِنَ الذَّهَبِ، وَهُوَ عَلَى هَذَا سَبْعَةُ أَعْشَارِ الدِّينَارِ، وَوَزْنُ الْمِثْقَال مِنَ الذَّهَبِ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ حَبَّةً مِنَ الشَّعِيرِ (3) .
وَبِهَذَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) .
__________
(1) المقريزي في رسالته (النقود القديمة والإسلامية) هامش الأحكام السلطانية لأبي يعلى 175، 177، والمجموع للنووي 5 / 475.
(2) فتوح البلدان / 453.
(3) مقدمة ابن خلدون / 184.(21/28)
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ فَهُوَ عِنْدَهُمْ مِائَةُ شَعِيرَةٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْشَأَ هَذَا الاِخْتِلاَفِ هُوَ فِي تَقْدِيرِ الْقِيرَاطِ. فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ وَزْنَ الْمِثْقَال عِشْرُونَ قِيرَاطًا، وَأَنَّ الْقِيرَاطَ خَمْسُ شَعِيرَاتٍ، فَالْمِثْقَال مِائَةُ شَعِيرَةٍ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَنَّ الْمِثْقَال أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا، وَأَنَّ الْقِيرَاطَ ثَلاَثُ حَبَّاتٍ مِنْ مُتَوَسِّطِ الشَّعِيرِ، فَيَكُونُ وَزْنُ الْمِثْقَال اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ حَبَّةً.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمِثْقَال اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ شَعِيرَةً مُعْتَدِلَةً لَمْ تُقَشَّرْ وَقُطِعَ مِنْ طَرَفَيْهَا مَا دَقَّ وَطَال، وَهُوَ لَمْ يَتَغَيَّرْ جَاهِلِيَّةً وَلاَ إِسْلاَمًا. ثُمَّ قَال وَقَدْ ذُكِرَتْ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ فِي تَحْدِيدِ الْقِيرَاطِ (1) .
تَقْدِيرُ الدِّينَارِ الشَّرْعِيِّ فِي الْعَصْرِ الْحَاضِرِ:
8 - تَبَيَّنَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الدِّينَارَ الَّذِي ضَرَبَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ هُوَ الدِّينَارُ الشَّرْعِيُّ؛ لِمُطَابَقَتِهِ لأَِوْزَانِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَهِيَ الأَْوْزَانُ الَّتِي أَقَرَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ، وَأَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 28 - 30، والفواكه الدواني 1 / 382، والشرح الصغير 1 / 217 ط الحلبي، والمجموع للنووي 5 / 464، 475 - 476، ومغني المحتاج 1 / 389، وشرح منتهى الإرادات 1 / 402.(21/28)
رَأَوْا دِينَارَ عَبْدِ الْمَلِكِ وَأَقَرُّوهُ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ، وَتَبَايَعُوا بِهِ.
إِلاَّ أَنَّ السِّكَكَ اخْتَلَفَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، يَقُول ابْنُ خَلْدُونٍ: وَقَعَ اخْتِيَارُ أَهْل السِّكَّةِ فِي الدُّوَل عَلَى مُخَالَفَةِ الْمِقْدَارِ الشَّرْعِيِّ فِي الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَاخْتَلَفَتْ فِي كُل الأَْقْطَارِ وَالآْفَاقِ (1) .
لِذَلِكَ كَانَ السَّبِيل الْوَحِيدُ لِتَقْدِيرِ الدِّينَارِ الشَّرْعِيِّ هُوَ مَعْرِفَةُ الدِّينَارِ الَّذِي ضُرِبَ فِي عَهْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.
وَقَدْ تَوَصَّل إِلَى ذَلِكَ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ، عَنْ طَرِيقِ الدَّنَانِيرِ الْمَحْفُوظَةِ فِي دُورِ الآْثَارِ الْغَرْبِيَّةِ وَثَبَتَ أَنَّ دِينَارَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَزِنُ4، 25 (أَرْبَعَةَ جِرَامَاتٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ مِنَ الْمِائَةِ مِنَ الْجِرَامِ) مِنَ الذَّهَبِ (2) . وَبِذَلِكَ يَكُونُ هَذَا الْوَزْنُ هُوَ الأَْسَاسَ فِي تَقْدِيرِ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ زَكَاةٍ وَدِيَاتٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
تَقْدِيرُ بَعْضِ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ بِالدِّينَارِ:
حَدَّدَ الإِْسْلاَمُ مَقَادِيرَ مُعَيَّنَةً بِالدِّينَارِ فِي بَعْضِ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - الزَّكَاةُ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نِصَابَ الذَّهَبِ الَّذِي
__________
(1) مقدمة ابن خلدون / 184.
(2) الخراج والنظم المالية للدكتور محمد ضياء الريس / 352، وفقه الزكاة 1 / 253.(21/29)
يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ عِشْرُونَ دِينَارًا، فَإِذَا تَمَّتْ فَفِيهَا رُبْعُ الْعُشْرِ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُل عِشْرِينَ دِينَارًا فَصَاعِدًا نِصْفَ دِينَارٍ وَمِنَ الأَْرْبَعِينَ دِينَارًا (1) . وَرَوَى سَعِيدٌ وَالأَْثْرَمُ عَنْ عَلِيٍّ: فِي كُل أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ وَفِي كُل عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفُ دِينَارٍ.
هَذَا مَعَ الاِخْتِلاَفِ هَل لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قِيمَتِهَا بِالدَّرَاهِمِ (2) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ وَغَيْرُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاة) .
ب - الدِّيَةُ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ إِنْ كَانَتْ مِنْ الذَّهَبِ فَإِنَّهَا تُقَدَّرُ بِأَلْفِ مِثْقَالٍ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى أَهْل الْيَمَنِ وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةً مِنَ الإِْبِل وَعَلَى أَهْل الذِّمَّةِ أَلْفُ دِينَارٍ (3) .
__________
(1) حديث عمر وعائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينار. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 571 - ط الحلبي) . وضعف البوصيري إسناده. ولكن له شواهد يتقوى بها، أوردها ابن حجر في التلخيص (2 / 175 - 176 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) المغني 3 / 6.
(3) حديث عمرو بن حزم في كتابه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل. . . " أخرجه النسائي (8 / 58 - ط المكتبة التجارية) ، ثم ضعفه لضعف راو فيه، وورد من فعل عمر بن الخطاب. أخرجه أبو داود (4 / 679 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده حسن.(21/29)
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل الْحُرِّ الْمُسْلِمِ (1) . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (دِيَات) .
ج - السَّرِقَةُ:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ النِّصَابَ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ بِالنِّسْبَةِ لِلذَّهَبِ رُبْعُ دِينَارٍ، أَوْ مَا قِيمَتُهُ رُبْعُ دِينَارٍ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلاَّ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا (2) . وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَنِصَابُ السَّرِقَةِ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ (3) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُقْطَعُ الْيَدُ إِلاَّ فِي دِينَارٍ أَوْ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ (4) .
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي: (سَرِقَة) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّنَانِيرِ مِنْ أَحْكَامٍ:
12 - يَتَعَلَّقُ بِالدَّنَانِيرِ بَعْضُ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ
__________
(1) المغني 7 / 759 - 760.
(2) حديث: " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 96 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1321 - ط الحلبي) من حديث عائشة، واللفظ لمسلم.
(3) البدائع 7 / 77، وجواهر الإكليل 2 / 290، والمهذب 2 / 278، والمغني 8 / 242.
(4) حديث: " لا تقطع اليد إلا في دينار أو في عشرة دراهم ". ورد من حديث عبد الله بن مسعود موقوفًا عليه وليس مرفوعًا من قول النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه عبد الرزاق (10 / 233 - ط المجلس العلمي) ، وأشار إليه الترمذي في الجامع (4 / 51 - ط الحلبي) وحكم عليه بالانقطاع في سنده.(21/30)
مِنْ حَيْثُ حُكْمُ كَسْرِهَا وَقَطْعِهَا، وَاتِّخَاذِهَا حِلْيَةً، وَكَذَلِكَ حُكْمُ مَسِّ الْمُحْدِثِ الدَّنَانِيرَ الَّتِي عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ حَمْلِهَا حِينَ دُخُول الْخَلاَءِ. وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الأَْحْكَامُ فِي مُصْطَلَحِ دَرَاهِمَ، وَهِيَ نَفْسُ الأَْحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالدَّنَانِيرِ، فَتُنْظَرُ فِي: (دَرَاهِمَ) . (ف 7، 9، 10) .
أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فِي إِجَارَتِهَا، أَوْ رَهْنِهَا، أَوْ وَقْفِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَتُنْظَرُ فِي أَبْوَابِهَا وَمُصْطَلَحَاتِهَا.(21/30)
دَهْرِيٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّهْرِيُّ فِي اللُّغَةِ: مَنْسُوبٌ إِلَى الدَّهْرِ، وَالدَّهْرُ يُطْلَقُ عَلَى الأَْبَدِ وَالزَّمَانِ، وَيُقَال لِلرَّجُل الَّذِي يَقُول بِقِدَمِ الدَّهْرِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ: دَهْرِيٌّ بِالْفَتْحِ عَلَى الْقِيَاسِ.
وَأَمَّا الرَّجُل الْمُسِنُّ إِذَا نُسِبَ إِلَى الدَّهْرِ يُقَال لَهُ: (دُهْرِيٌّ) بِالضَّمِّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ (1) .
وَالدَّهْرِيُّونَ فِي الاِصْطِلاَحِ فِرْقَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ ذَهَبُوا إِلَى قِدَمِ الدَّهْرِ وَإِسْنَادِ الْحَوَادِثِ إِلَيْهِ، مُنْكَرِينَ وُجُودَ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ سُبْحَانَهُ (2) ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ (3) } .
يَقُول الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الآْيَةِ: يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ تَأْثِيرَاتُ الطَّبَائِعِ، وَلاَ حَاجَةَ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَى إِثْبَاتِ الْفَاعِل الْمُخْتَارِ (4) .
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة: " دهر ".
(2) كشاف اصطلاحات الفنون 2 / 480، وابن عابدين 3 / 296.
(3) سورة الجاثية / 24.
(4) تفسير فخر الرازي 27 / 270.(21/31)
وَهَذَا إِنْكَارٌ مِنْهُمْ لِلآْخِرَةِ وَتَكْذِيبٌ لِلْبَعْثِ وَإِبْطَالٌ لِلْجَزَاءِ، كَمَا يَقُول الْقُرْطُبِيُّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الزِّنْدِيقُ:
2 - عَرَّفَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الزِّنْدِيقَ بِأَنَّهُ هُوَ مَنْ يُبْطِنُ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الإِْسْلاَمَ. وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنَ الْمُنَافِقِ. وَقِيل هُوَ مَنْ لاَ يَنْتَحِل دِينًا، أَيْ لاَ يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ (2) .
ب - الْمُلْحِدُ:
3 - الْمُلْحِدُ: هُوَ مَنْ يَطْعَنُ فِي الدِّينِ مَعَ ادِّعَاءِ الإِْسْلاَمِ أَوِ التَّأْوِيل فِي ضَرُورَاتِ الدِّينِ لإِِجْرَاءِ الأَْهْوَاءِ. وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّهُ مَنْ مَال عَنِ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ إِلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْكُفْرِ (3) .
ج - الْمُنَافِقُ:
4 - الْمُنَافِقُ: هُوَ مَنْ يُضْمِرُ الْكُفْرَ اعْتِقَادًا، وَيُظْهِرُ الإِْسْلاَمَ قَوْلاً. أَوِ الَّذِي أَظْهَرَ الإِْسْلاَمَ لأَِهْلِهِ، وَأَضْمَرَ غَيْرَ الإِْسْلاَمِ. وَمَحَل النِّفَاقِ الْقَلْبُ (4) .
__________
(1) تفسير القرطبي 16 / 17، 72.
(2) ابن عابدين 3 / 296، وجواهر الإكليل 1 / 256، وحاشية القليوبي 3 / 198، والمغني لابن قدامة 8 / 126.
(3) المصباح المنير مادة: " لحد "، وابن عابدين 3 / 296.
(4) التعريفات للجرجاني والمصباح المنير مادة: " نفق "، والفروق في اللغة ص 223.(21/31)
د - الْمُرْتَدُّ:
5 - الْمُرْتَدُّ: هُوَ الرَّاجِعُ عَنْ دِينِ الإِْسْلاَمِ بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ، أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ بَعْدَ الإِْيمَانِ، فَالاِرْتِدَادُ كُفْرٌ بَعْدَ الإِْسْلاَمِ (1) .
وَجَمِيعُ هَؤُلاَءِ يَشْتَرِكُونَ مَعَ الدَّهْرِيِّ فِي الْكُفْرِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - الدَّهْرِيُّ إِذَا كَانَ كَافِرَ الأَْصْل، أَيْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ أَنِ اعْتَنَقَ الإِْسْلاَمَ، فَإِمَّا أَنْ يَعِيشَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَهُوَ حَرْبِيٌّ يُنْظَرُ حُكْمُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْل الْحَرْبِ) . أَوْ يَعِيشَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ مُؤَقَّتٍ فَهُوَ مُسْتَأْمَنٌ، حُكْمُهُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (أَمَان وَمُسْتَأْمَن) . أَوْ يَعِيشَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ مُؤَبَّدٍ، أَيْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ فَهُوَ ذِمِّيٌّ، وَحُكْمُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْل الذِّمَّةِ) .
أَمَّا إِذَا كَانَ مُسْلِمًا ثُمَّ كَفَرَ بِقَوْلِهِ بِقِدَمِ الدَّهْرِ وَإِنْكَارِ إِسْنَادِ الْحَوَادِثِ إِلَى الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهُوَ مُرْتَدٌّ. وَحُكْمُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّة) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 283، وجواهر الإكليل 2 / 277، وحاشية القليوبي 4 / 174، والمغني لابن قدامة 8 / 123.(21/32)
دُهْنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدُّهْنُ - بِالضَّمِّ - مَا يُدْهَنُ بِهِ مِنْ زَيْتٍ وَغَيْرِهِ وَجَمْعُهُ دِهَانٌ بِالْكَسْرِ، وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السَّمْنُ:
2 - السَّمْنُ: مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَوَانِ (2) . وَالدُّهْنُ أَعَمُّ مِنَ السَّمْنِ.
ب - الشَّحْمُ:
3 - الشَّحْمُ: مَا يَذُوبُ مِنَ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ (3) .
وَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَكُل شَحْمٍ دُهْنٌ، وَلَيْسَ كُل دُهْنٍ شَحْمًا.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالدُّهْنِ:
تَطْهِيرُ الدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) المصباح المنير مادة: " دهن ".
(2) الكليات لأبي البقاء الكفوي 3 / 41.
(3) مطالب أولي النهى 6 / 397.(21/32)
عَلَى الأَْصَحِّ وَهُوَ قَوْل الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّ الدُّهْنَ الْمَائِعَ إِذَا تَنَجَّسَ لاَ يَقْبَل التَّطْهِيرَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِل عَنِ الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ: إِنْ كَانَ جَامِدًا (1) فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلاَ تَقْرَبُوهُ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْخَطَّابِيِّ: فَأَرِيقُوهُ. (2) فَلَوْ أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ شَرْعًا لَمْ يَقُل فِيهِ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَال، وَلَبَيَّنَهُ لَهُمْ، وَقِيَاسًا عَلَى الدِّبْسِ وَالْخَل وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمَائِعَاتِ إِذَا تَنَجَّسَتْ فَإِنَّهُ لاَ طَرِيقَ إِلَى تَطْهِيرِهَا بِلاَ خِلاَفٍ (3) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ، وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الدُّهْنَ
__________
(1) الجامد هو الذي إذا أخذ منه قطعة لا يتراد من الباقي ما يملأ محلها عن قرب، والمائع بخلافه (نهاية المحتاج 1 / 246) . قال ابن قدامة: حد الجامد الذي لا تسري النجاسة إلى جميعه: هو المتماسك الذي فيه قوة تمنع انتقال النجاسة عن الموضع الذي وقعت عليه النجاسة إلى
(2) حديث: " إن كان جامدًا فألقوها. . . " أخرجه ابن حبان (الإحسان 2 / 335 - ط دار الكتب العلمية) من حديث أبي هريرة، وأصله في صحيح البخاري (الفتح 9 / 668 - ط السلفية) وقوله: وفي رواية للخطابي: " فأريقوه "، فالخطابي لم يسنده، بل قال: " روي في بعض الأخبار - أنه قال: فأريقوه ". كذا في معالم السنن له (4 / 258 - ط حلب) ، وكذا قال ابن حجر في التلخيص (3 / 4 - ط شركة الطباعة الفنية) أن الخطابي لم يسندها.
(3) المجموع 2 / 599 نشر السلفية، ونهاية المحتاج 1 / 246، وجواهر الإكليل 1 / 10، وكشاف القناع 1 / 188، والمغني 1 / 37، وابن عابدين 1 / 222.(21/33)
الْمُتَنَجِّسَ يَطْهُرُ بِالْغَسْل، وَكَيْفِيَّةُ تَطْهِيرِهِ أَنْ يُجْعَل الدُّهْنُ فِي إِنَاءٍ، وَيُصَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ وَيُكَاثَرَ بِهِ، وَيُحَرَّكَ بِخَشَبَةٍ وَنَحْوِهَا تَحْرِيكًا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ وَصَل إِلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَعْلُوَ الدُّهْنُ، فَيُؤْخَذَ. أَوْ يُنْقَبَ أَسْفَل الإِْنَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ الْمَاءُ فَيَطْهُرَ الدُّهْنُ (1) .
هَذَا وَيُشْتَرَطُ التَّثْلِيثُ لِتَطْهِيرِ الدُّهْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى نَقْلاً عَنِ الزَّاهِدِيِّ (2) .
وَقَال فِي الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ: ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخُلاَصَةِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ التَّثْلِيثِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ مُجْزِئَةٌ عَنِ التَّثْلِيثِ.
كَمَا يَرَى صَاحِبُ الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ أَنَّ شَرْطَ غَلَيَانِ الدُّهْنِ لِتَطْهِيرِهِ الْمَذْكُورِ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ زِيَادَةِ النَّاسِخِ، أَوْ يُحْمَل عَلَى مَا إِذَا جَمَدَ الدُّهْنُ بَعْدَ تَنَجُّسِهِ (3) .
اسْتِعْمَال الدُّهْنِ لِلْمُحْرِمِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَدْهُنَ بِدُهْنٍ فِيهِ طِيبٌ لأَِنَّهُ يُتَّخَذُ لِلطِّيبِ وَتُقْصَدُ رَائِحَتُهُ فَكَانَ طِيبًا كَمَاءِ الْوَرْدِ (4) . وَأَمَّا
__________
(1) المجموع 2 / 599، وكشاف القناع 1 / 188، والمغني 1 / 37، والفتاوى الهندية 1 / 42.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 42.
(3) ابن عابدين 1 / 222 - 223.
(4) بدائع الصنائع 2 / 190 ط الجمالية، ومراقي الفلاح ص 403، والمبسوط 4 / 122، وحاشية الدسوقي 2 / 61 نشر دار الفكر، والمجموع 7 / 279، والمغني 3 / 322، والإفصاح لابن هبيرة 1 / 187.(21/33)
مَا لاَ طِيبَ فِيهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَالِهِ لِلْمُحْرِمِ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ حَظْرَ اسْتِعْمَال الدُّهْنِ لِلْمُحْرِمِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَعَامَّةِ بَدَنِهِ لِغَيْرِ عِلَّةٍ، وَإِلاَّ جَازَ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْدْهَانَ الْمُطَيِّبَةَ كَالزَّيْتِ، وَالشَّيْرَجِ، وَالسَّمْنِ وَالزُّبْدِ، لاَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ اسْتِعْمَالُهَا فِي بَدَنِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ فِي شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ (2) وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ غَيْرِ مُقَتِّتٍ أَيْ غَيْرِ مُطَيِّبٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ (3) . وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ - عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ - جَوَازَ الاِدِّهَانِ بِدُهْنٍ غَيْرِ مُطَيَّبٍ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ (4) .
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِحْرَامٌ ف 73 ج 2 ص 159) .
__________
(1) البناية 3 / 482، وبدائع الصنائع 2 / 190، وابن عابدين 2 / 202، والفتاوى الهندية 1 / 240، والمبسوط للسرخسي 4 / 122 - 123، وحاشية الدسوقي 2 / 60، 61، والشرح الصغير 2 / 85، والموسوعة الفقهية 2 / 159.
(2) المجموع 7 / 279، 282.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم ادهن بزيت غير مقتت " أخرجه الترمذي (3 / 285 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر، وضعفه النووي في المجموع (7 / 282 - ط المنيرية) .
(4) مطالب أولي النهى 2 / 332 - 333.(21/34)
بَيْعُ الدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ:
6 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) عَلَى الْمَشْهُورِ وَالأَْصَحِّ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ عَدَمَ صِحَّةِ بَيْعِ الدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ؛ لأَِنَّ أَكْلَهُ حَرَامٌ بِلاَ خِلاَفٍ، فَقَدْ سُئِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ فَقَال: إِنْ كَانَ مَائِعًا فَلاَ تَقْرَبُوهُ (1) وَإِذَا كَانَ حَرَامًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْل شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ (2) . وَلأَِنَّهُ نَجَسٌ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ قِيَاسًا عَلَى شَحْمِ الْمَيْتَةِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - عَلَى مُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ - وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ إِلَى صِحَّةِ بَيْعِ الدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ - وَهُوَ الَّذِي عَرَضَتْ لَهُ النَّجَاسَةُ - لأَِنَّ تَنْجِيسَهُ بِسُقُوطِ النَّجَاسَةِ فِيهِ لاَ يُسْقِطُ مِلْكَ رَبِّهِ عَنْهُ، وَلاَ يُذْهِبُ جُمْلَةَ الْمَنَافِعِ مِنْهُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُتْلَفَ عَلَيْهِ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِمَّنْ يَصْرِفُهُ فِيمَا كَانَ لَهُ هُوَ أَنْ يَصْرِفَهُ فِيهِ (4) .
وَرُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ جَوَازُ بَيْعِ الدُّهْنِ
__________
(1) حديث: " إن كان مائعًا فلا تقربوه " سبق تخريجه ف 4.
( x662 ;) حديث: " إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء، حرم عليهم ثمنه ". أخرجه أبو داود (4 / 758 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وإسناده صحيح.
(3) المجموع 9 / 238، والشرح الكبير بذيل المغني 4 / 14 - 15، وكشاف القناع 3 / 156، وحاشية الدسوقي 3 / 10 نشر دار الفكر.
(4) الدسوقي 3 / 10، وتحفة المحتاج 4 / 235، 236، وابن عابدين 4 / 114.(21/34)
الْمُتَنَجِّسِ لِكَافِرٍ يَعْلَمُ نَجَاسَتَهُ؛ لأَِنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى: لُتُّوا بِهِ السَّوِيقَ وَبِيعُوهُ وَلاَ تَبِيعُوهُ مِنْ مُسْلَمٍ وَبَيِّنُوهُ (1) .
هَذَا وَبَعْدَ أَنْ نَقَل الدُّسُوقِيُّ الْخِلاَفَ فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ حَوْل جَوَازِ وَعَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ قَال: هَذَا فِي الزَّيْتِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لاَ يُجِيزُ غَسْلَهُ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجِيزُ غَسْلَهُ - وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ - فَسَبِيلُهُ فِي الْبَيْعِ سَبِيل الثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ (2) .
أَمَّا الْوَدَكُ (دُهْنُ الْمَيْتَةِ) فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا الاِنْتِفَاعُ بِهِ (3) لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ، فَقِيل: يَا رَسُول اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ، قَال: لاَ، هُوَ حَرَامٌ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ) ف 11 ج 9 ص 150.
الاِسْتِصْبَاحُ بِالدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ:
7 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ الاِسْتِصْبَاحِ بِالدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) الشرح الكبير بذيل المغني 4 / 15 ط المنار.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 10.
(3) ابن عابدين 4 / 114، وعمدة القاري 12 / 54.
(4) حديث: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر. . . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 424 - ط السلفية) من حديث جابر بن عبد الله.(21/35)
سُئِل عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَال: إِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَاسْتَصْبِحُوا بِهِ، أَوْ فَانْتَفَعُوا بِهِ (1) . وَلِجَوَازِ الاِنْتِفَاعِ بِالنَّجَاسَةِ عَلَى وَجْهٍ لاَ تَتَعَدَّى. أَمَّا الاِسْتِصْبَاحُ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَلاَ يَجُوزُ؛ لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ إِلَى تَنْجِيسِهِ (2) .
وَيَمِيل الإِْسْنَوِيُّ إِلَى جَوَازِ الاِسْتِصْبَاحِ بِالدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ فِي الْمَسْجِدِ حَيْثُ قَال: وَإِطْلاَقُهُمْ يَقْتَضِي الْجَوَازَ، وَسَبَبُهُ قِلَّةُ الدُّخَانِ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: اسْتِصْبَاح وَمَسْجِد) .
دَوَاءٌ
انْظُرْ: (تَدَاوِي، تَطْبِيب)
__________
(1) حديث: " إن كان جامدًا. . . " عزاه صاحب أسنى المطالب (1 / 278نشر المكتبة الإسلامية) إلى الطحاوي ونقل عنه أنه قال: رجاله ثقات.
(2) ابن عابدين 1 / 220، 4 / 114، ومواهب الجليل 1 / 117، وأسنى المطالب 1 / 287، وإعلام الساجد بأحكام المساجد ص 361، وكشاف القناع 1 / 188.
(3) أسنى المطالب 1 / 278.(21/35)
دَوْلَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّوْلَةُ فِي اللُّغَةِ حُصُول الشَّيْءِ فِي يَدِ هَذَا تَارَةً وَفِي يَدِ هَذَا أُخْرَى، أَوِ الْعُقْبَةُ فِي الْمَال وَالْحَرْبِ (أَيِ التَّعَاقُبُ) ، وَالدَّوْلَةُ فِي الْمَال وَالْحَرْبِ سَوَاءٌ، وَقِيل: الدُّولَةُ بِالضَّمِّ فِي الْمَال، وَالدَّوْلَةُ بِالْفَتْحِ فِي الْحَرْبِ.
وَالإِْدَالَةُ مَعْنَاهَا الْغَلَبَةُ، يُقَال: أُدِيل لَنَا عَلَى أَعْدَائِنَا أَيْ نُصِرْنَا عَلَيْهِمْ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ: يُدَال عَلَيْنَا الْمَرَّةَ وَنُدَال عَلَيْهِ الأُْخْرَى (1) . أَيْ: نَغْلِبُهُ مَرَّةً وَيَغْلِبُنَا مَرَّةً، مِنَ التَّدَاوُل، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَتِلْكَ الأَْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ (2) } وَقَوْلُهُ: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَْغْنِيَاءِ مِنْكُمْ (3) } أَيْ يُتَدَاوَلُونَ الْمَال بَيْنَهُمْ وَلاَ يَجْعَلُونَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُ نَصِيبًا (4) .
__________
(1) حديث أبي سفيان أخرجه البخاري (الفتح 6 / 110 - ط السلفية) .
(2) سورة آل عمران / 140.
(3) سورة الحشر / 7.
(4) لسان العرب، مادة: " دول "، والكليات 2 / 340، والمصباح المنير.(21/36)
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَلَمْ يَشِعِ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا الْمُصْطَلَحِ، وَوَرَدَ اسْتِعْمَالُهُ فِي بَعْضِ كُتُبِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ (1) . وَسَارَ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَلاَمِ عَنِ اخْتِصَاصَاتِ " الدَّوْلَةِ " عَلَى إِدْرَاجِهَا ضِمْنَ الْكَلاَمِ عَنْ صَلاَحِيَّاتِ الإِْمَامِ وَاخْتِصَاصَاتِهِ حَيْثُ اعْتَبَرُوا أَنَّ " الدَّوْلَةَ " مُمَثَّلَةٌ فِي شَخْصِ الإِْمَامِ الأَْعْظَمِ، أَوِ الْخَلِيفَةِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ وِلاَيَاتٍ وَوَاجِبَاتٍ وَحُقُوقٍ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَعْهُودَ أَنَّ " الدَّوْلَةَ " هِيَ مَجْمُوعَةُ الإِْيَالاَتِ (2) تَجْتَمِعُ لِتَحْقِيقِ السِّيَادَةِ عَلَى أَقَالِيمَ (3) مُعَيَّنَةٍ، لَهَا حُدُودُهَا، وَمُسْتَوْطِنُوهَا، فَيَكُونُ الْحَاكِمُ أَوِ الْخَلِيفَةُ، أَوْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى رَأْسِ هَذِهِ السُّلُطَاتِ.
وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِاسْتِعْمَال مُصْطَلَحِ " دَوْلَةٍ " عِنْدَ مَنِ اسْتَعْمَلَهُ مِنْ فُقَهَاءِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوِ الأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ (4) .
__________
(1) كتاب: " بدائع السلك في طبائع الملك " لمحمد بن الأزرق، وكتاب " تسهيل النظر وتعجيل الظفر " للماوردي.
(2) الإيالة: السياسة، وأخذت في بعض كتب الأنظمة الإسلامية معنى السلطة، فيقال: إيالة القضاء، إيالة الحسبة، وهكذا (الغياثي 256) .
(3) ورد استعمال هذا المصطلح عند المالكية في معرض كلامهم عن أمان السلطان (الزرقاني 8 / 122، والدسوقي 2 / 165) عند تعليقهم على كلام خليل (كتأمين غيره إقليمًا) .
(4) انظر مثلاً بدائع السلك 1 / 108، 114، 115، 134، 143، 148، 151، وانظر كذلك تسهيل النظر ص157، ويقابل كلام الفقهاء عن الدولة في القوانين المعاصرة، القانون الدستوري الذي يحدد شكل الدولة، والسلطات التي تقوم عليها، واختصاص كل سلطة، وعلاقتها بعضها ببعض، وعلاقة المواطنين بها.(21/36)
وَنَتِيجَةً لِذَلِكَ يُمْكِنُ الْقَوْل أَنَّ الدَّوْلَةَ تَقُومُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَرْكَانٍ وَهِيَ: الدَّارُ، وَالرَّعِيَّةُ، وَالْمَنَعَةُ (1) (السِّيَادَةُ) .
2 - وَلَقَدْ بَحَثَ الْفُقَهَاءُ أَرْكَانَ الدَّوْلَةِ عِنْدَ بَحْثِهِمْ عَنْ أَحْكَامِ دَارِ الإِْسْلاَمِ، يَتَّضِحُ هَذَا مِنْ تَعْرِيفَاتِهِمْ لِدَارِ الإِْسْلاَمِ:
التَّعْرِيفُ الأَْوَّل: " كُل دَارٍ ظَهَرَتْ فِيهَا دَعْوَةُ الإِْسْلاَمِ مِنْ أَهْلِهِ بِلاَ خَفِيرٍ، وَلاَ مُجِيرٍ، وَلاَ بَذْل جِزْيَةٍ، وَقَدْ نَفَذَ فِيهَا حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ إِنْ كَانَ فِيهِمْ ذِمِّيٌّ، وَلَمْ يَقْهَرْ أَهْل الْبِدْعَةِ فِيهَا أَهْل السُّنَّةِ (2) ".
وَالتَّعْرِيفُ الثَّانِي:
" كُل أَرْضٍ سَكَنَهَا مُسْلِمُونَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ، أَوْ تَظْهَرُ فِيهَا أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ (3) ".
فَالدَّارُ هِيَ الْبِلاَدُ الإِْسْلاَمِيَّةُ وَمَا تَشْمَلُهُ مِنْ أَقَالِيمَ دَاخِلَةٍ تَحْتَ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ.
__________
(1) لفظ المنعة أو عبارة أمن الرعية بأمن المسلمين، يستخدمها الفقهاء بما يقابل لفظ السيادة. لما يحصل بذلك من حفظ حقوق الدولة من الانتقاص. المواق 6 / 277، فتح القدير 4 / 414، البدائع 7 / 130، نهاية المحتاج 7 / 382.
(2) أصول الدين ص27 أبو منصور عبد القادر البغدادي.
(3) حاشية البجيرمي 4 / 220، نهاية المحتاج 8 / 184.(21/37)
وَالرَّعِيَّةُ هُمُ الْمُقِيمُونَ فِي حُدُودِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْل الذِّمَّةِ. وَالسِّيَادَةُ هِيَ ظُهُورُ حُكْمِ الإِْسْلاَمِ وَنَفَاذُهُ. وَعَدَمُ الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ وَلِيِّ الأَْمْرِ، وَعَدَمُ الاِفْتِيَاتِ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى أَيِّ وِلاَيَةٍ مِنْ وِلاَيَاتِ الدَّوْلَةِ؛ لأَِنَّ الاِفْتِيَاتَ عَلَيْهَا افْتِيَاتٌ عَلَى الإِْمَامِ. وَيَكُونُ الاِفْتِيَاتُ بِالسَّبْقِ بِفِعْل شَيْءٍ دُونَ اسْتِئْذَانِ مَنْ يَجِبُ اسْتِئْذَانُهُ، وَالاِفْتِيَاتُ عَلَى الإِْمَامِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ، فَإِذَا أَمَّنَ أَحَدُ الرَّعِيَّةِ كَافِرًا دُونَ إِذْنِ الإِْمَامِ، وَكَانَ فِي تَأْمِينِهِ مَفْسَدَةٌ، فَإِنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَنْبِذَ هَذَا الأَْمَانَ، وَلَهُ أَنْ يُعَزِّرَ مَنِ افْتَاتَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا بَاشَرَ الْمُسْتَحِقُّ فَأَقَامَ الْحَدَّ أَوِ الْقِصَاصَ دُونَ إِذْنِ الإِْمَامِ عَزَّرَهُ الإِْمَامُ لاِفْتِيَاتِهِ عَلَيْهِ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ: " أَمَان " " وَافْتِيَات " " وَدَارُ الإِْسْلاَمِ ".
3 - وَتَتَأَلَّفُ الدَّوْلَةُ مِنْ مَجْمُوعَةٍ مِنَ النُّظُمِ وَالْوِلاَيَاتِ بِحَيْثُ تُؤَدِّي كُل وِلاَيَةٍ مِنْهَا وَظِيفَةً خَاصَّةً مِنْ وَظَائِفِ الدَّوْلَةِ، وَتَعْمَل مُجْتَمِعَةً لِتَحْقِيقِ مَقْصِدٍ عَامٍّ، وَهُوَ رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ.
يَقُول الْمَاوَرْدِيُّ: (الإِْمَامَةُ مَوْضُوعَةٌ لِخِلاَفَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا) (1) وَالإِْمَامُ هُوَ مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُ جَمِيعُ الْوِلاَيَاتِ فِي الدَّوْلَةِ.
__________
(1) الأحكام السلطانية ص 5.(21/37)
وَيَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ: " فَالْمَقْصُودُ الْوَاجِبُ بِالْوِلاَيَاتِ إِصْلاَحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِصْلاَحُ مَا لاَ يَقُومُ الدِّينُ إِلاَّ بِهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ (1) ".
وَيَقُول ابْنُ الأَْزْرَقِ: " إِنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ - يَعْنِي وُجُوبَ نَصْبِ الإِْمَامِ - رَاجِعَةٌ إِلَى النِّيَابَةِ عَنِ الشَّارِعِ فِي حِفْظِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا بِهِ، وَسُمِّيَ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ النِّيَابَةِ خِلاَفَةً وَإِمَامَةً، وَذَلِكَ لأَِنَّ الدِّينَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي إِيجَادِ الْخَلْقِ لاَ الدُّنْيَا فَقَطْ (2) ".
وَبَعْدَ هَذَا نَعْرِضُ إِلَى مَجْمُوعِ الْوِلاَيَاتِ فِي الدَّوْلَةِ وَمَا يَخُصُّ كُلًّا مِنْهَا مِنْ وَظَائِفَ:
أَوَّلاً: الْحَاكِمُ أَوِ الإِْمَامُ الأَْعْظَمُ:
4 - الإِْمَامُ وَكِيلٌ عَنِ الأُْمَّةِ فِي خِلاَفَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَيَتَوَلَّى مَنْصِبَهُ بِمُوجِبِ عَقْدِ الإِْمَامَةِ (3) .
وَالأَْصْل فِي الإِْمَامِ أَنْ يُبَاشِرَ إِدَارَةَ الدَّوْلَةِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ هَذَا مُتَعَذِّرًا مَعَ اتِّسَاعِ الدَّوْلَةِ وَكَثْرَةِ وَظَائِفِهَا، وَتَعَدُّدِ السَّلِطَاتِ فِيهَا جَازَ لَهُ أَنْ يُنِيبَ عَنْهُ مَنْ يَقُومُ بِهَذِهِ السُّلُطَاتِ مِنْ وُلاَةٍ، وَأُمَرَاءَ، وَوُزَرَاءَ، وَقُضَاةٍ، وَغَيْرِهِمْ،
__________
(1) السياسة الشرعية ص 22.
(2) بدائع السلك 1 / 93.
(3) الموسوعة 6 / 215(21/38)
وَيَكُونُونَ الْوُكَلاَءَ عَنْهُ فِي إِدَارَةِ مَا وُكِّل إِلَيْهِمْ مِنْ أَعْمَالٍ. فَإِدَارَةُ الإِْمَامِ لِلدَّوْلَةِ دَائِرَةٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلاً عَنِ النَّاسِ وَنَائِبًا عَنْهُمْ، وَبَيْنَ أَنْ يُنِيبَ هُوَ وَيُوَكِّل مَنْ يَقُومُ بِأَعْبَاءِ الْحُكْمِ شَرِيطَةَ أَلاَّ يَنْصَرِفَ عَنِ النَّظَرِ الْعَامِّ فِي شُئُونِ الدَّوْلَةِ، وَمُطَالَعَةِ كُلِّيَّاتِ الأُْمُورِ مَعَ الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَال مَنْ يُوَلِّيهِمْ؛ لِيَتَحَقَّقَ مِنْ كِفَايَتِهِمْ لِمَنَاصِبِهِمْ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِمَامَةٌ كُبْرَى) .
ثَانِيًا: وَلِيُّ الْعَهْدِ:
5 - وَهُوَ مَنْ يُوَلِّيهِ الإِْمَامُ عَهْدَ الإِْمَامَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ لِوَلِيِّ الْعَهْدِ تَصَرُّفٌ فِي شُئُونِ الدَّوْلَةِ مَا دَامَ الإِْمَامُ حَيًّا، وَلاَ يَلِي شَيْئًا فِي حَيَاةِ الإِْمَامِ، وَإِنَّمَا تَبْدَأُ إِمَامَتُهُ وَسُلْطَتُهُ بِمَوْتِ الإِْمَامِ، فَتَصَرُّفُهُ كَالْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِشَرْطٍ، وَلَيْسَ لِلإِْمَامِ عَزْل وَلِيِّ الْعَهْدِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ؛ لأَِنَّهُ اسْتَخْلَفَهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْلُهُ، قِيَاسًا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ خَلْعِ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ لِمَنْ بَايَعُوهُ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِمَامَةٌ كُبْرَى) .
ثَالِثًا: أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ
6 - وَوَجْهُ اعْتِبَارِهِمْ سُلْطَةً مُسْتَقِلَّةً أَنَّ لَهُمْ قُدْرَةَ
__________
(1) الغياثي للجويني ص 291 - 292.
(2) نهاية المحتاج 7 / 391، أسنى المطالب 4 / 110، الأحكام السلطانية للماوردي ص11.(21/38)
الْقِيَامِ بِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ وَاجِبَاتِ الدَّوْلَةِ وَهِيَ:
أ - اخْتِيَارُ الإِْمَامِ وَمُبَايَعَتُهُ.
ب - اسْتِئْنَافُ بَيْعَةِ وَلِيِّ الْعَهْدِ عِنْدَ تَوْلِيَتِهِ إِمَامًا، حَيْثُ تُعْتَبَرُ شُرُوطُ الإِْمَامَةِ فِيهِ مِنْ وَقْتِ الْعَهْدِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ فَاسِقًا وَقْتَ الْعَهْدِ وَكَانَ بَالِغًا عَدْلاً عِنْدَ مَوْتِ الْمُوَلِّي لَمْ تَصِحَّ خِلاَفَتُهُ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ أَهْل الاِخْتِيَارِ بَيْعَتَهُ.
ج - تَعْيِينُ نَائِبٍ عَنْ وَلِيِّ الْعَهْدِ فِي حَال غَيْبَتِهِ عِنْدَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ.
د - خَلْعُ الإِْمَامِ إِذَا قَامَ مَا يُوجِبُ خَلْعَهُ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: " أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ (1) ".
رَابِعًا: الْمُحْتَسِبُ:
7 - هُوَ مَنْ يُوَلِّيهِ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ لِلْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلِلنَّظَرِ فِي أَحْوَال الرَّعِيَّةِ وَالْكَشْفِ عَنْ أُمُورِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ،
وَهُوَ فَرْضٌ فِي حَقِّهِ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْوِلاَيَةِ. وَمَوْضُوعُ هَذِهِ الْوِلاَيَةِ إِلْزَامُ الْحُقُوقِ وَالْمَعُونَةِ عَلَى اسْتِيفَائِهَا، وَمَحَل وِلاَيَتِهِ كُل مُنْكَرٍ مَوْجُودٍ فِي الْحَال ظَاهِرٍ لِلْمُحْتَسِبِ بِغَيْرِ تَجَسُّسٍ مَعْلُومٍ كَوْنُهُ مُنْكَرًا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ، وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَّخِذَ عَلَى إِنْكَارِهِ أَعْوَانًا؛ لأَِنَّهُ مَنْصُوبٌ لِهَذَا الْعَمَل، وَمِنْ صَلاَحِيَّتِهِ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعُرْفِ دُونَ الشَّرْعِ، وَلِهَذَا يَجِبُ
__________
(1) الموسوعة 5 / 115، وكذلك الماوردي في الأحكام السلطانية ص 6، 11، الغياثي ص 126.(21/39)
أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَسِبُ فَقِيهًا عَارِفًا بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ لِيَعْلَمَ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ.
وَعَمَل الْمُحْتَسِبِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ عَمَل الْقَاضِي وَعَمَل وَالِي الْمَظَالِمِ.
فَيَتَّفِقُ الْمُحْتَسِبُ مَعَ الْقَاضِي فِي أُمُورٍ مِنْهَا:
(1) جَوَازُ الاِسْتِعْدَاءِ لِلْمُحْتَسِبِ، وَسَمَاعُهُ دَعْوَى الْمُسْتَعْدِي عَلَى الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ فِيمَا يَدْخُل تَحْتَ اخْتِصَاصِهِ.
(2) لَهُ أَنْ يَلْزَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَبِإِقْرَارٍ، مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنَ الأَْدَاءِ فَيَلْزَمُ بِالدَّفْعِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ؛ لأَِنَّ تَأْخِيرَ الْحَقِّ مُنْكَرٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ لإِِزَالَتِهِ.
وَيَفْتَرِقُ الْمُحْتَسِبُ عَنِ الْقَاضِي فِي أُمُورٍ مِنْهَا:
(1) جَوَازُ النَّظَرِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ مَعْرُوفٍ أَوْ يَنْهَى عَنْهُ مِنْ مُنْكَرٍ دُونَ التَّوَقُّفِ عَلَى دَعْوَى أَوِ اسْتِعْدَاءٍ.
(2) أَنَّ الْحِسْبَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلرَّهْبَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى قُوَّةِ السَّلْطَنَةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْجُنْدِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ الْحِسْبَةِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: " حِسْبَة ".
خَامِسًا: الْقَضَاءُ:
8 - عُرِّفَ الْقَضَاءُ بِأَنَّهُ: إِنْشَاءُ إِلْزَامٍ فِي مَسَائِل
__________
(1) معالم القربة ص 71، نهاية الرتبة ص 6، الأحكام السلطانية 240 - 242، إحياء علوم الدين 2 / 324.(21/39)
الاِجْتِهَادِ الْمُتَقَارِبَةِ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ النِّزَاعُ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَعُرِّفَ كَذَلِكَ بِأَنَّهُ: الإِْلْزَامُ فِي الظَّاهِرِ عَلَى صِيغَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِأَمْرٍ ظُنَّ لُزُومُهُ فِي الْوَاقِعِ.
فَالْقَضَاءُ سُلْطَةٌ تُمَكِّنُ مَنْ تَوَلاَّهَا مِنَ الإِْلْزَامِ بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَفَصْل الْخُصُومَاتِ، وَقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ بَيْنَ النَّاسِ. وَقَضَاءُ الْقَاضِي مُظْهِرٌ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لاَ مُثْبِتٌ لَهُ.
وَتَجْتَمِعُ فِي الْقَاضِي صِفَاتٌ ثَلاَثَةٌ: فَهُوَ شَاهِدٌ مِنْ جِهَةِ الإِْثْبَاتِ، وَمُفْتٍ مِنْ جِهَةِ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ، وَذُو سُلْطَانٍ مِنْ جِهَةِ الإِْلْزَامِ. وَيَدْخُل فِي وِلاَيَةِ الْقَضَاءِ فَصْل الْخُصُومَاتِ، وَاسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ، وَالنَّظَرُ فِي أَمْوَال الْيَتَامَى وَالْمَجَانِينِ وَالسُّفَهَاءِ، وَالْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ وَالْمُفْلِسِ، وَالنَّظَرُ فِي الْوُقُوفِ، وَتَنْفِيذُ الْوَصَايَا، وَتَزْوِيجُ اللاَّتِي لاَ وَلِيَّ لَهُنَّ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ (1) ". وَالْقَاضِي يَنُوبُ عَنِ الإِْمَامِ فِي هَذَا.
وَلَيْسَ هُنَاكَ ضَابِطٌ عَامٌّ لِمَا يَدْخُل فِي وِلاَيَةِ الْقَاضِي وَمَا لاَ يَدْخُل، فَالأَْصْل فِيهِ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ بِاخْتِلاَفِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَقَدْ تَتَّسِعُ صَلاَحِيَّةُ الْقَاضِي لِتَشْمَل وِلاَيَةَ الْحَرْبِ، وَالْقِيَامَ بِأَعْمَال بَيْتِ الْمَال وَالْعَزْل وَالْوِلاَيَةِ، وَقَدْ تَقْتَصِرُ عَلَى النَّظَرِ فِي الْخُصُومَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ.
__________
(1) حديث: " فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له ". أخرجه الترمذي (3 / 399 - ط الحلبي) من حديث عائشة: وقال: " حديث حسن ".(21/40)
وَالْقَضَاءُ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لاَ يَتَوَلاَّهَا إِلاَّ الإِْمَامُ، كَعَقْدِ الذِّمَّةِ، وَالْقَاضِي وَكِيلٌ عَنِ الإِْمَامِ فِي الْقِيَامِ بِالْقَضَاءِ، وَلِذَا لاَ تَثْبُتُ وِلاَيَتُهُ إِلاَّ بِتَوْلِيَةِ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَهُوَ عَقْدُ وِلاَيَةٍ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول، وَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْوَكَالَةِ، وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا مَعْرِفَةُ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَهْلِيَّةَ مَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ، وَكَذَلِكَ تَعْيِينُ مَا يَدْخُل تَحْتَ وِلاَيَتِهِ مِنْ أَعْمَالٍ؛ لِيَعْلَمَ مَحَلَّهَا فَلاَ يَحْكُمُ فِي غَيْرِهَا (1) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: " قَضَاء ".
سَادِسًا: بَيْتُ الْمَال:
9 - بَيْتُ الْمَال هُوَ الْجِهَةُ الَّتِي يُسْنَدُ إِلَيْهَا حِفْظُ الأَْمْوَال الْعَامَّةِ لِلدَّوْلَةِ، وَالْمَال الْعَامُّ هُوَ كُل مَالٍ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ كَالزَّكَاةِ، وَالْفَيْءِ، وَخُمُسِ الْغَنَائِمِ الْمَنْقُولَةِ، وَخُمُسِ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ، وَالْمَعَادِنِ، وَخُمُسِ الرِّكَازِ، وَالْهَدَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ إِلَى الْقُضَاةِ أَوْ عُمَّال الدَّوْلَةِ مِمَّا يَحْمِل شُبْهَةَ الرِّشْوَةِ أَوِ الْمُحَابَاةِ، وَكَذَلِكَ الضَّرَائِبُ الْمُوَظَّفَةُ عَلَى الرَّعِيَّةِ لِمَصْلَحَتِهِمْ وَمَوَارِيثُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِلاَ وَارِثٍ، وَالْغَرَامَاتُ وَالْمُصَادَرَاتُ. وَيَقُومُ بَيْتُ
__________
(1) كشاف القناع 6 / 285، حاشية الدسوقي 4 / 289، حواشي تحفة المحتاج 10 / 102، 120، تبصرة الحكام 1 / 13، 14، حاشية ابن عابدين 4 / 296، 297.(21/40)
الْمَال بِصَرْفِ هَذِهِ الأَْمْوَال فِي مَصَارِفِهَا كُلٌّ بِحَسَبِهِ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ سِجِلٌّ هُوَ دِيوَانُ بَيْتِ الْمَال لِضَبْطِ مَا يَرِدُ إِلَيْهِ وَمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ أَمْوَالٍ، وَلِضَبْطِ مَصَارِفِهَا كَذَلِكَ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: " بَيْتُ الْمَال (1) ".
سَابِعًا: الْوُزَرَاءُ:
10 - لَمَّا كَانَ الْمُتَعَذِّرُ عَلَى الإِْمَامِ الْقِيَامَ بِنَفْسِهِ بِأَعْبَاءِ الْحُكْمِ وَتَسْيِيرِ شُئُونِ الدَّوْلَةِ مَعَ كَثْرَتِهَا كَانَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْتَنِيبَ الْوُزَرَاءَ ذَوِي الْكِفَايَةِ لِذَلِكَ.
وَالْوَزِيرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَزِيرَ تَفْوِيضٍ، أَوْ وَزِيرَ تَنْفِيذٍ. أَمَّا وَزِيرُ التَّفْوِيضِ فَهُوَ مِنْ يُفَوِّضُ لَهُ الإِْمَامُ تَدْبِيرَ أُمُورِ الدَّوْلَةِ وَإِمْضَاءَهَا بِاجْتِهَادِهِ، وَلَهُ النَّظَرُ الْعَامُّ فِي شُئُونِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ وَكِيلٌ عَنِ الإِْمَامِ فِيمَا وُلِّيَ عَلَيْهِ، وَأُسْنِدَ إِلَيْهِ، وَيُشْتَرَطُ فِي وَزِيرِ التَّفْوِيضِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الإِْمَامِ بِاسْتِثْنَاءِ كَوْنِهِ قُرَشِيًّا، وَكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا عَلَى خِلاَفٍ فِيهِ، وَكَمَا يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يُبَاشِرَ شُئُونَ الدَّوْلَةِ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يُبَاشِرُهَا، وَكُل مَا صَحَّ مِنَ الإِْمَامِ صَحَّ مِنَ الْوَزِيرِ إِلاَّ أُمُورًا ثَلاَثَةً:
أَحَدُهَا: وِلاَيَةُ الْعَهْدِ، فَإِنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَعْهَدَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَزِيرِ.
ثَانِيهَا: أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَطْلُبَ الإِْعْفَاءَ مِنَ الإِْمَامَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَزِيرِ.
__________
(1) الموسوعة 8 / 242.(21/41)
ثَالِثُهَا: أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَعْزِل مَنْ قَلَّدَهُ الْوَزِيرُ، وَلَيْسَ لِلْوَزِيرِ عَزْل مَنْ قَلَّدَهُ الإِْمَامُ.
وَالْوَزَارَةُ وِلاَيَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى عَقْدٍ، وَالْعُقُودُ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ الْمُشْتَمِل عَلَى شَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عُمُومُ النَّظَرِ. وَالثَّانِي: النِّيَابَةُ.
فَإِذَا اقْتَصَرَ الإِْمَامُ عَلَى عُمُومِ النَّظَرِ دُونَ النِّيَابَةِ كَانَ اللَّفْظُ خَاصًّا بِوِلاَيَةِ الْعَهْدِ، إِذْ أَنَّ نَظَرَهُ عَامٌّ كَنَظَرِ الإِْمَامِ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَنُوبُ عَنْهُ حَال حَيَاتِهِ، وَأَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى النِّيَابَةِ دُونَ عُمُومِ النَّظَرِ كَانَتْ نِيَابَةً مُبْهَمَةً لَمْ تُبَيِّنْ مَا اسْتَنَابَهُ فِيهِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يُجْمَعَ لَهُ بَيْنَ عُمُومِ النَّظَرِ وَالنِّيَابَةِ؛ لِتَنْعَقِدَ وَزَارَةُ التَّفْوِيضِ.
أَمَّا وَزِيرُ التَّنْفِيذِ فَلاَ يَسْتَقِل بِالنَّظَرِ كَوَزِيرِ التَّفْوِيضِ، فَتَقْتَصِرُ مُهِمَّتُهُ عَلَى تَنْفِيذِ أَمْرِ الإِْمَامِ فَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الإِْمَامِ وَالرَّعِيَّةِ يُبَلِّغُهُمْ أَوَامِرَهُ وَيُخْبِرُهُمْ بِتَقْلِيدِ الْوُلاَةِ، وَلِذَا لاَ يَحْتَاجُ وَزِيرُ التَّنْفِيذِ إِلَى عَقْدٍ وَتَقْلِيدٍ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهَا مُجَرَّدُ الإِْذْنِ، وَتَقْصُرُ فِي شُرُوطِهَا عَنْ شُرُوطِ وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ. وَلَمَّا قَصُرَتْ مُهِمَّتُهُ عَلَى تَبْلِيغِ الْخَلِيفَةِ وَالتَّبْلِيغِ عَنْهُ، اشْتُرِطَ فِيهِ الأَْمَانَةُ وَالصِّدْقُ، وَقِلَّةُ الطَّمَعِ، وَأَنْ يَسْلَمَ مِنْ عَدَاوَةِ النَّاسِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، وَأَنْ يَكُونَ ضَابِطًا لِمَا يَنْقِل، وَأَنْ لاَ يَكُونَ مِنْ أَهْل الأَْهْوَاءِ. وَقَدْ يُشَارِكُ وَزِيرُ التَّنْفِيذِ فِي الْمَشُورَةِ وَالرَّأْيِ فَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ(21/41)
صَاحِبَ حُنْكَةٍ وَتَجْرِبَةٍ تُؤَدِّيهِ إِلَى إِصَابَةِ الرَّأْيِ وَحُسْنِ الْمَشُورَةِ (1) .
إِمَارَةُ الْحَرْبِ:
11 - تَتَوَلَّى هَذِهِ الإِْمَارَةُ وِلاَيَةَ الْحَرْبِ وَحِمَايَةَ الدَّوْلَةِ مِنَ الاِعْتِدَاءِ عَلَيْهَا مِنَ الْخَارِجِ. وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ إِمَارَةً خَاصَّةً مَقْصُورَةً عَلَى سِيَاسَةِ الْجَيْشِ وَإِعْدَادِهِ، وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ. أَوْ أَنْ تَتَّسِعَ صَلاَحِيَّتُهَا فِيمَا يُفَوِّضُ إِلَيْهَا الإِْمَامُ فَتَشْمَل قَسْمَ الْغَنَائِمِ، وَعَقْدَ الصُّلْحِ.
وَيَلْزَمُ أَمِيرَ الْجَيْشِ فِي سِيَاسَتِهِ لِلْجَيْشِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ
1) . حِرَاسَتُهُمْ مِنْ غِرَّةٍ يَظْفَرُ بِهَا الْعَدُوُّ مِنْهُمْ.
2) تَخَيُّرُ مَوْضِعِ نُزُولِهِمْ لِمُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ.
3) إِعْدَادُ مَا يَحْتَاجُ الْجَيْشُ إِلَيْهِ.
4) أَنْ يَعْرِفَ أَخْبَارَ عَدُوِّهِ.
5) تَرْتِيبُ الْجَيْشِ فِي مَصَافِّ الْحَرْبِ.
6) أَنْ يُقَوِّيَ نُفُوسَهُمْ بِمَا يُشْعِرُهُمْ مِنَ الظَّفَرِ.
7) أَنْ يَعِدَ أَهْل الصَّبْرِ وَالْبَلاَءِ مِنْهُمْ بِثَوَابِ اللَّهِ.
8) أَنْ يُشَاوِرَ ذَوِي الرَّأْيِ مِنْهُمْ.
9) أَنْ يَأْخُذَ جَيْشَهُ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حُقُوقِهِ.
10) أَنْ لاَ يُمَكِّنَ أَحَدًا مِنْ جَيْشِهِ أَنْ يَتَشَاغَل
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 22، 23، 27 - 29، الغياثي 149 - 158، بدائع السلك 1 / 185، 186.(21/42)
بِتِجَارَةٍ أَوْ زِرَاعَةٍ، حَتَّى لاَ يَنْصَرِفَ عَنْ مُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ (1) .
وَتَجْهِيزُ الْمُثْبَتِينَ فِي دِيوَانِ الْجُنْدِ مِنَ الْغُزَاةِ فِي سَبِيل اللَّهِ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَمَحَلُّهُ بَيْتُ مَال الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَعَلَى أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ وَأَغْنِيَائِهِمْ.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: " جِهَاد ".
زَوَال الدَّوْلَةِ:
12 - تَزُول الدَّوْلَةُ بِزَوَال أَحَدِ أَرْكَانِهَا: الشَّعْبُ، أَوِ الإِْقْلِيمُ، أَوِ الْمَنَعَةُ (السِّيَادَةُ) أَوْ بِتَحَوُّلِهَا مِنْ دَارِ إِسْلاَمٍ إِلَى دَارِ حَرْبٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: " دَارُ الإِْسْلاَمِ ".
تَعَدُّدُ الدُّوَل الإِْسْلاَمِيَّةِ:
13 - يَتَعَلَّقُ حُكْمُ تَعَدُّدِ الدُّوَل الإِْسْلاَمِيَّةِ بِحُكْمِ تَعَدُّدِ الأَْئِمَّةِ حَيْثُ إِنَّ الدَّوْلَةَ الإِْسْلاَمِيَّةَ تُمَثِّل شَخْصَ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّهُ مَصْدَرُ السُّلْطَةِ فِيهَا، وَعَنْهُ تَصْدُرُ جَمِيعُ سُلُطَاتِ الدَّوْلَةِ وَصَلاَحِيَّاتِهَا.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ كَوْنُ إِمَامَيْنِ فِي الْعَالَمِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ إِمَامٌ وَاحِدٌ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الآْخِرَ مِنْهُمَا (2)
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 35 - 54.
(2) حديث: " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما " أخرجه مسلم (3 / 1480 - ط الحلبي) ، من حديث أبي سعيد الخدري.(21/42)
وَلأَِنَّ فِي تَعَدُّدِ الدُّوَل الإِْسْلاَمِيَّةِ مَظِنَّةٌ لِلنِّزَاعِ وَالْفُرْقَةِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ (1) } .
وَفِي أَحَدِ أَوْجُهِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّيحِ فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ الدَّوْلَةُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ (2) .
انْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى) .
وَاجِبَاتُ الدَّوْلَةِ الْعَامَّةِ (3) :
14 - يَتَعَيَّنُ عَلَى الدَّوْلَةِ مُمَثَّلَةً بِمَجْمُوعِ سُلُطَاتِهَا أَنْ تَرْعَى الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ الدَّاخِلِينَ تَحْتَ وِلاَيَتِهَا، وَجِمَاعُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ يَعُودُ إِلَى:
1) حِفْظِ أُصُول الدِّينِ وَإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ. وَتُنْظَرُ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (إِمَامَةٌ كُبْرَى، رِدَّة، بِدْعَة، ضَرُورِيَّات، وَجِهَاد) .
2) إِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَعُقُوبَةِ الْمُسْتَحِقِّ وَتَعْزِيرِهِ. وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحَاتِ: (قِصَاص، تَعْزِير) .
__________
(1) سورة الأنفال / 46.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 37.
(3) بدائع السلك في طبائع الملك 1 / 185 - 397، 2 / 633 - 698، ويراجع كذلك مصطلح (إمامة كبرى) و (أولو الأمر) .(21/43)
3) حِفْظِ الْمَال الْعَامِّ لِلدَّوْلَةِ، وَيُرَاجَعُ فِي هَذَا مُصْطَلَحِ بَيْتِ الْمَال.
4) إِقَامَةِ الْعَدْل وَتَنْفِيذِ الأَْحْكَامِ وَقَطْعِ الْخُصُومَاتِ، وَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ مُصْطَلَحِ: (قَضَاء) .
(5) رِعَايَةِ أَهْل الذِّمَّةِ، وَيُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (أَهْل الذِّمَّةِ) .
(6) تَكْثِيرِ الْعِمَارَةِ، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِمَارَة) .
(7) إِقَامَةِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحِ: (سِيَاسَةٌ شَرْعِيَّةٌ) .(21/43)
دِيَاتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدِّيَاتُ جَمْعُ دِيَةٍ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ وَدَى الْقَاتِل الْقَتِيل يَدِيُّهِ دِيَةً إِذَا أَعْطَى وَلِيَّهُ الْمَال الَّذِي هُوَ بَدَل النَّفْسِ، وَأَصْلُهَا وِدْيَةٌ، فَهِيَ مَحْذُوفَةُ الْفَاءِ كَعِدَةٍ مِنَ الْوَعْدِ وَزِنَةٍ مِنَ الْوَزْنِ. وَكَذَلِكَ هِبَةٌ مِنَ الْوَهْبِ. وَالْهَاءُ فِي الأَْصْل بَدَلٌ مِنْ فَاءِ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ الْوَاوُ، ثُمَّ سُمِّيَ ذَلِكَ الْمَال (دِيَةً) تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهَا بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا اسْمٌ لِلْمَال الَّذِي هُوَ بَدَل النَّفْسِ (2) .
وَمِثْلُهُ مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ. حَيْثُ قَالُوا فِي تَعْرِيفِهَا: هِيَ مَالٌ يَجِبُ بِقَتْل آدَمِيٍّ حُرٍّ عِوَضًا عَنْ دَمِهِ (3) .
لَكِنْ قَال فِي تَكْمِلَةِ الْفَتْحِ: الأَْظْهَرُ فِي تَفْسِيرِ الدِّيَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ آخِرًا مِنْ أَنَّ الدِّيَةَ:
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب مادة: " ودي ".
(2) اللباب شرح الكتاب 3 / 44، وتكملة فتح القدير 9 / 204، 205.
(3) كفاية الطالب 2 / 237، 238.(21/44)
اسْمٌ لِضَمَانٍ (مُقَدَّرٍ) يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الآْدَمِيِّ أَوْ طَرَفٍ مِنْهُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهَا تُؤَدَّى عَادَةً وَقَلَّمَا يَجْرِي فِيهَا الْعَفْوُ؛ لِعِظَمِ حُرْمَةِ الآْدَمِيِّ (1) .
وَهَذَا مَا يُؤَيِّدُهُ الْعَدَوِيُّ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ قَال بَعْدَ تَعْرِيفِ الدِّيَةِ: إِنَّ مَا وَجَبَ فِي قَطْعِ الْيَدِ مَثَلاً يُقَال لَهُ دِيَةٌ حَقِيقَةً، إِذْ قَدْ وَقَعَ التَّعْبِيرُ بِهِ فِي كَلاَمِهِمْ (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَعَمَّمُوا تَعْرِيفَ الدِّيَةِ لِيَشْمَل مَا يَجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَعَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ: (هِيَ الْمَال الْوَاجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ فِي نَفْسٍ أَوْ فِيمَا دُونَهَا (3)) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: (إِنَّهَا الْمَال الْمُؤَدَّى إِلَى مَجْنِيٍّ عَلَيْهِ، أَوْ وَلِيِّهِ، أَوْ وَارِثِهِ بِسَبَبِ جِنَايَةٍ (4)) . وَتُسَمَّى الدِّيَةُ عَقْلاً أَيْضًا، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا تَعْقِل الدِّمَاءَ أَنْ تُرَاقَ، وَالثَّانِي أَنَّ الدِّيَةَ كَانَتْ إِذَا وَجَبَتْ وَأُخِذَتْ مِنَ الإِْبِل تُجْمَعُ فَتُعْقَل، ثُمَّ تُسَاقُ إِلَى وَلِيِّ الدَّمِ (5) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقِصَاصُ:
2 - الْقِصَاصُ مِنَ الْقَصِّ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى
__________
(1) تكملة فتح القدير 9 / 204، 205، والاختيار 5 / 35.
(2) كفاية الطالب مع حاشية العدوي 3 / 237، 238.
(3) نهاية المحتاج 7 / 298، ومغني المحتاج 4 / 53.
(4) مطالب أولي النهى 6 / 75، وكشاف القناع 6 / 5.
(5) الاختيار 5 / 58.(21/44)
الْقَطْعِ، وَالْقِصَاصُ فِي الشَّرْعِ هُوَ الْقَوَدُ، وَهُوَ أَنْ يُفْعَل بِالْجَانِي مِثْل مَا فَعَل (1) . فَإِذَا قَتَل قُتِل مِثْلَهُ، وَإِذَا جَرَحَ جُرِحَ مِثْلَهُ. (ر: قِصَاص) .
ب - الْغُرَّةُ:
3 - الْغُرَّةُ مِنْ كُل شَيْءٍ أَوَّلُهُ، وَالْغُرَّةُ: الْعَبْدُ أَوِ الأَْمَةُ، وَمِنْ مَعَانِيهَا فِي الشَّرْعِ: ضَمَانٌ يَجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ، وَتَبْلُغُ قِيمَتُهَا نِصْفَ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَهِيَ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل أَوْ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ
عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (غُرَّة) ، سُمِّيَتْ غُرَّةً؛ لأَِنَّهَا أَوَّل مَقَادِيرِ الدِّيَةِ، وَأَقَل مَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ فِي الْجِنَايَاتِ (2) .
ج - الأَْرْشُ:
4 - الأَْرْشُ يُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى الْمَال الْوَاجِبِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الدِّيَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى؛ لأَِنَّهَا تَشْمَل الْمَال الْمُؤَدَّى مُقَابِل النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ. وَقَدْ يُطْلَقُ الأَْرْشُ عَلَى بَدَل النَّفْسِ أَيْضًا، فَيَكُونُ بِمَعْنَى الدِّيَةِ (3) .
د - حُكُومَةُ عَدْلٍ:
5 - مِنْ مَعَانِي حُكُومَةِ الْعَدْل رَدُّ الظَّالِمِ عَنِ
__________
(1) التعريفات للجرجاني، والمصباح المنير.
(2) ابن عابدين 5 / 377، وجواهر الإكليل 1 / 303، وحاشية الجمل 5 / 101، والمغني 7 / 804.
(3) اللباب شرح الكتاب 3 / 44، وتكملة الفتح 9 / 204، 205، والاختيار 5 / 35، والتعريفات للجرجاني.(21/45)
الظُّلْمِ. وَتُطْلَقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْوَاجِبِ يُقَدِّرُهُ عَدْلٌ فِي جِنَايَةٍ لَيْسَ فِيهَا مِقْدَارٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْمَال.
فَهِيَ تَخْتَلِفُ عَنِ الأَْرْشِ وَالدِّيَةِ فِي أَنَّهَا غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ فِي الشَّرْعِ، وَتَجِبُ وَتُقَدَّرُ بِحُكْمِ الْعَدْل (1) .
هـ - الضَّمَانُ:
6 - الضَّمَانُ لُغَةً: الاِلْتِزَامُ، وَشَرْعًا: يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
أ - الْمَعْنَى الْخَاصُّ: وَهُوَ دَفْعُ مِثْل الشَّيْءِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ وَقِيمَةِ الشَّيْءِ فِي الْقِيمِيَّاتِ (2) .
فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى مَا يُدْفَعُ مُقَابِل إِتْلاَفِ الأَْمْوَال، بِخِلاَفِ الدِّيَةِ الَّتِي تُدْفَعُ مُقَابِل التَّعَدِّي عَلَى الأَْنْفُسِ.
ب - الْمَعْنَى الْعَامُّ الشَّامِل لِلْكَفَالَةِ: وَعَرَّفَهَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ الْتِزَامُ دَيْنٍ أَوْ إِحْضَارُ عَيْنٍ أَوْ بَدَنٍ. وَيُقَال لِلْعَقْدِ الْمُحَصِّل لِذَلِكَ أَيْضًا، أَوْ هُوَ شَغْل ذِمَّةٍ أُخْرَى بِالْحَقِّ (3) .
مَشْرُوعِيَّةُ الدِّيَةِ:
7 - الأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّةِ الدِّيَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ
__________
(1) تبيين الحقائق 6 / 133، وتكملة الفتح 9 / 218.
(2) مجلة الأحكام العدلية م / 415، والزرقاني 6 / 144، 146.
(3) القليوبي 2 / 323، وجواهر الإكليل 2 / 109، ومطالب أولي النهى 3 / 292.(21/45)
مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ (1) } ، وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى أَهْل الْيَمَنِ كِتَابًا فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقُرِئَتْ عَلَى أَهْل الْيَمَنِ هَذِهِ نُسْخَتُهَا: مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى شُرَحْبِيل بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، وَنُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، وَالْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ قَيْل ذِي رُعَيْنٍ وَمَعَافِرَ وَهَمْدَانَ أَمَّا بَعْدُ، وَكَانَ فِي كِتَابِهِ: إِنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلاً عَنْ بَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ قَوَدٌ إِلاَّ أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُول، وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ مِائَةً مِنَ الإِْبِل، وَفِي الأَْنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الرِّجْل الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الإِْبِل، وَفِي كُل أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْل عَشْرٌ مِنَ الإِْبِل، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل، وَأَنَّ الرَّجُل يُقْتَل بِالْمَرْأَةِ، وَعَلَى أَهْل الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ وَفِي الْيَدِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ (2) .
__________
(1) سورة النساء / 92.
(2) حديث أبي بكر بن محمد بن حزم عن أبيه عن جده في الديات والفرائض: أخرجه النسائي (8 / 58 - 59 ط المكتبة التجارية) ، وخرجه ابن حجر في التلخيص (4 / 17 - 18 - ط شركة الطباعة الفنية) ، وتكلم على أسانيده، ونقل تصحيحه عن جماعة من العلماء.(21/46)
وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَالْحِكْمَةُ فِي وُجُوبِهَا هِيَ صَوْنُ بُنْيَانِ الآْدَمِيِّ عَنِ الْهَدْمِ، وَدَمِهِ عَنِ الْهَدَرِ (1) .
أَقْسَامُ الدِّيَةِ:
8 - تَخْتَلِفُ الدِّيَةُ وَمِقْدَارُهَا بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ نَوْعِ الْجِنَايَةِ وَصِفَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.
فَهُنَاكَ دِيَةُ النَّفْسِ وَدِيَةُ الأَْعْضَاءِ، كَمَا أَنَّ هُنَاكَ دِيَةً مُغَلَّظَةً وَدِيَةً غَيْرَ مُغَلَّظَةٍ، فَدِيَةُ الْعَمْدِ إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِهِ كَالْعَفْوِ، أَوْ عَدَمِ تَوَفُّرِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْقِصَاصِ أَوْ بِوُجُودِ شُبْهَةِ دِيَةٍ مُغَلَّظَةٍ، كَمَا أَنَّ دِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّطَةٌ، وَدِيَةَ الْخَطَأِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ دِيَةٌ غَيْرُ مُغَلَّظَةٍ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل مَعَ بَيَانِ مَعْنَى الْعَمْدِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ. وَأَسْبَابُ التَّغْلِيظِ وَالتَّخْفِيفِ فِي الدِّيَةِ، وَاخْتِلاَفُ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ فِيمَا بَعْدُ.
شُرُوطُ وُجُوبِ الدِّيَةِ:
9 - أ - يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَعْصُومَ الدَّمِ، أَيْ مَصُونَ الدَّمِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
__________
(1) الاختيار 5 / 35، والفواكه الدواني 2 / 257، والمهذب 2 / 191، 196، وكشاف القناع 6 / 5، والمغني لابن قدامة 7 / 558.(21/46)
فَإِذَا كَانَ مُهْدَرَ الدَّمِ، كَأَنْ كَانَ حَرْبِيًّا، أَوْ مُسْتَحِقَّ الْقَتْل حَدًّا أَوْ قِصَاصًا فَلاَ تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَتْلِهِ لِفَقْدِ الْعِصْمَةِ. وَلِبَيَانِ مَعْنَى الْعِصْمَةِ وَشُرُوطِهَا يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (عِصْمَة) .
وَأَمَّا الإِْسْلاَمُ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الدِّيَةِ لاَ مِنْ جَانِبِ الْقَاتِل وَلاَ مِنْ جَانِبِ الْمَقْتُول، فَتَجِبُ الدِّيَةُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَاتِل أَوِ الْمَقْتُول مُسْلِمًا، أَمْ ذِمِّيًّا، أَمْ مُسْتَأْمَنًا.
وَكَذَلِكَ لاَ يُشْتَرَطُ الْعَقْل وَالْبُلُوغُ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ بِقَتْل الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ اتِّفَاقًا، كَمَا تَجِبُ فِي مَال الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ (مَعَ خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ) .
وَذَلِكَ لأَِنَّ الدِّيَةَ ضَمَانٌ مَالِيٌّ فَتَجِبُ فِي حَقِّهِمَا (1) ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ.
ب - وُجُودُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ:
10 - وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِدَارِ الإِْسْلاَمِ، قَال الْكَاسَانِيُّ: وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ خَطَأً لاَ تَجِبُ الدِّيَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا.
وَلاَ يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الشَّرْطَ فَيَرَوْنَ أَنَّ الْعِصْمَةَ تَحْصُل بِالإِْسْلاَمِ أَوِ الأَْمَانِ، فَيَدْخُل
__________
(1) البدائع للكاساني 7 / 253، والتاج والإكليل على هامش الحطاب 6 / 231، والإقناع 4 / 173، وكشاف القناع 6 / 5.(21/47)
فِيهَا الْمُسْلِمُ - وَلَوْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ - كَمَا يَدْخُل فِيهَا الذِّمِّيُّ، وَالْمُسْتَأْمَنُ، وَالْمَعْقُودُ مَعَهُمْ عَقْدُ الْمُوَادَعَةِ، وَالْهُدْنَةِ (1) .
أَسْبَابُ وُجُوبِ الدِّيَةِ:
أَوَّلاً: الْقَتْل:
11 - الْقَتْل هُوَ لُغَةً: إِزْهَاقُ الرُّوحِ، يُقَال: قَتَلْتُهُ قَتْلاً: إِذَا أَزْهَقْتَ رُوحَهُ.
وَأَطْلَقَهُ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى الْفِعْل الْمُزْهِقِ، أَيِ الْقَاتِل لِلنَّفْسِ، أَوْ فِعْل مَا يَكُونُ سَبَبًا لِزَهُوقِ النَّفْسِ، وَالزَّهُوقُ هُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ الْبَدَنَ (2) .
وَقَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْقَتْل إِلَى عَمْدٍ، وَشِبْهِ عَمْدٍ، وَخَطَأٍ.
وَقَسَّمَهُ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ: الْعَمْدِ، وَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَالْخَطَأِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْخَطَأِ، وَالْقَتْل بِالسَّبَبِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَيْسَ هُنَاكَ إِلاَّ قَتْل الْعَمْدِ، وَقَتْل الْخَطَأِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَتْل) .
__________
(1) المراجع السابقة، وانظر الزرقاني 8 / 4، والقليوبي 4 / 221.
(2) المصباح المنير، والبدائع 2 / 233، وتكملة الفتح 8 / 244، والاختيار 5 / 23 - 26، وجواهر الإكليل 2 / 256، والحطاب 6 / 240 - 242، ومغني المحتاج 4 / 2 - 4، 32، وكشاف القناع 5 / 13، 504 - 505.(21/47)
أَنْوَاعُ الْقَتْل الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ:
الأَْوَّل: الْقَتْل الْخَطَأُ
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي الْقَتْل الْخَطَأِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ. فَكُل مَنْ قَتَل إِنْسَانًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، مُسْتَأْمَنًا أَوْ مُهَادَنًا، وَجَبَتِ الدِّيَةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا (1) } وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ (2) } .
وَدِيَةُ الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي مُؤَجَّلَةً فِي ثَلاَثِ سِنِينَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَقَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا (3) أَيْ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ.
وَدَلِيل تَأْجِيلِهَا كَمَا قَال الْكَاسَانِيُّ: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى بِذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ خَالَفَهُ أَحَدٌ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا (4) .
__________
(1) سورة النساء / 92.
(2) سورة النساء / 92.
(3) حديث أبي هريرة: " اقتتلت امرأتان من هذيل " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 252 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1310 - ط الحلبي) .
(4) البدائع 7 / 255 - 256، والمغني 7 / 769، 771، والشرح الكبير للدردير 4 / 281، ومغني المحتاج 1 / 55، والمهذب 2 / 6.(21/48)
حِكْمَةُ وُجُوبِ دِيَةِ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ:
13 - الأَْصْل وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْجَانِي نَفْسِهِ؛ لأَِنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْقَتْل، وَأَنَّهُ وُجِدَ مِنَ الْقَاتِل، وَلاَ يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِذَنْبِ غَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (1) } ، وَلِهَذَا لَمْ تَتَحَمَّل الْعَاقِلَةُ ضَمَانَ الأَْمْوَال وَدِيَةَ الْعَمْدِ. لَكِنَّهُ تَرَكَ هَذَا الأَْصْل فِي دِيَةِ الْخَطَأِ بِنَصِّ الْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَبِفِعْل الصَّحَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ كَمَا قَال الْبُهُوتِيُّ: إِنَّ جِنَايَاتِ الْخَطَأِ تَكْثُرُ، وَدِيَةُ الآْدَمِيِّ كَثِيرَةٌ، فَإِيجَابُهَا عَلَى الْجَانِي فِي مَالِهِ يُجْحِفُ بِهِ، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ إِيجَابَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى سَبِيل الْمُوَاسَاةِ لِلْقَاتِل وَالإِْعَانَةِ لَهُ تَخْفِيفًا (2) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: فِي حِكْمَتِهِ: إِنَّ حِفْظَ الْقَاتِل وَاجِبٌ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْفَظُوا فَقَدْ فَرَّطُوا، وَالتَّفْرِيطُ مِنْهُمْ ذَنْبٌ.
وَيَدْخُل الْقَاتِل فِي تَحَمُّل دِيَةِ الْخَطَأِ مَعَ الْعَاقِلَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فَيَكُونُ فِيمَا يُؤَدِّي مِثْل أَحَدِهِمْ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيِّ وَالْحَنَابِلَةِ كَمَا سَيَأْتِي (3) .
__________
(1) سورة الأنعام / 164.
(2) كشاف القناع 6 / 6، وانظر الشرح الكبير للدردير 4 / 281.
(3) البدائع 7 / 255، واللباب شرح الكتاب 2 / 71.(21/48)
وَفِي بَيَانِ الْمُرَادِ مِنَ الْعَاقِلَةِ، وَتَحْدِيدِهَا، وَكَيْفِيَّةِ تَحْمِيلِهَا الدِّيَةَ، وَمِقْدَارُ مَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ مِنَ الدِّيَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَاقِلَة) .
14 - وَدِيَةُ الْقَتْل الْخَطَأِ دِيَةٌ مُخَفَّفَةٌ، وَلاَ تُغَلَّظُ فِي أَيِّ حَالٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ حَيْثُ قَالُوا بِتَغْلِيظِهَا فِي ثَلاَثِ حَالاَتٍ:
1 - إِذَا حَدَثَ الْقَتْل فِي حَرَمِ مَكَّةَ، تَحْقِيقًا لِلأَْمْنِ.
2 - إِذَا حَدَثَ الْقَتْل فِي الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ، أَيْ ذِي الْقَعْدَةِ وَذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ وَرَجَبٍ.
3 - إِذَا قَتَل الْقَاتِل ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَهُ. فَفِي هَذِهِ الْحَالاَتِ تَجِبُ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ؛ لِمَا رَوَى مُجَاهِدٌ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى فِيمَنْ قَتَل فِي الْحَرَمِ، أَوْ فِي الأَْشْهُرِ الْحُرُمِ، أَوْ مَحْرَمًا بِالدِّيَةِ وَثُلُثِ الدِّيَةِ. وَلاَ تُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِي الْقَتْل فِي الْمَدِينَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُغَلَّظُ؛ لأَِنَّهَا كَالْحَرَمِ فِي تَحْرِيمِ الصَّيْدِ فَكَذَلِكَ فِي تَغْلِيظِ الدِّيَةِ (1) .
أَمَّا تَغْلِيظُ الدِّيَةِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ فَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ، مَعَ بَيَانِ مَعْنَى التَّغْلِيظِ وَالتَّخْفِيفِ فِي الدِّيَةِ.
وَتَجِبُ الدِّيَةُ مِنْ صِنْفِ الْمَال الَّذِي يَمْلِكُهُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ. فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الإِْبِل تُؤَدَّى فِي
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 54، والمهذب 2 / 196، 197، والمغني 7 / 772، 774.(21/49)
الْقَتْل الْخَطَأِ أَخْمَاسًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً اتِّفَاقًا (1) . وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِشْرِينَ الْبَاقِيَةِ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: هِيَ مِنْ بَنِي الْمَخَاضِ، وَهَذَا قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ أَيْضًا (2) . لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: فِي دِيَةِ الْخَطَأِ: عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بَنِي مَخَاضٍ ذَكَرٍ (3) . (رَاجِعْ بَيَانَ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ مِنَ الإِْبِل فِي مُصْطَلَحَاتِهَا) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا فِي الْعِشْرِينَ الْبَاقِيَةِ: هِيَ مِنْ بَنِي اللَّبُونِ، وَهَذَا قَوْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَرَبِيعَةَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَى الَّذِي قُتِل بِخَيْبَرَ بِمِائَةٍ مِنْ إِبِل الصَّدَقَةِ (4) وَلَيْسَ
__________
(1) البدائع 7 / 254، وبداية المجتهد 2 / 275، ومغني المحتاج 4 / 54، والمهذب 2 / 197، والمغني 7 / 769، 771.
(2) البدائع 7 / 254، والمغني 7 / 770.
(3) حديث ابن مسعود في دية الخطأ: " عشرون حقة. . . " أخرجه أبو داود (4 / 680 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والدارقطني (2 / 173 - ط دار المحاسن) ، وضعفه الدارقطني، وأطال في بيان وجوه تضعيفه.
(4) حديث: " ودى الذي قتل بخيبر بمائة من إبل الصدقة ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 229 - 230 - ط السلفية) من حديث سهل بن أبي حثمة.(21/49)
فِيهَا ابْنُ مَخَاضٍ (1) .
وَالدِّيَةُ مِنَ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، أَمَّا مِنَ الْوَرِقِ (الْفِضَّةِ) فَهِيَ عَشَرَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ مِقْدَارِ الدِّيَةِ.
الثَّانِي: الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ:
15 - الْقَتْل شِبْهُ الْعَمْدِ هُوَ الْقَتْل بِمَا لاَ يَقْتُل غَالِبًا، كَمَا هُوَ تَعْبِيرُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَوْ هُوَ الْقَتْل بِمَا لاَ يُفَرِّقُ الأَْجْزَاءَ، كَمَا هُوَ تَعْبِيرُ الْحَنَفِيَّةِ. وَلاَ يَقُول بِهِ الْمَالِكِيَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مِمَّنْ يَقُولُونَ بِشِبْهِ الْعَمْدِ فِي أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ.
وَالدِّيَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّطَةٌ. وَدَلِيل وُجُوبِهَا وَتَغْلِيظِهَا فِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ وَإِنَّ قَتِيل الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل، أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلاَدُهَا (2) .
__________
(1) المهذب 2 / 197، ومغني المحتاج 4 / 54، وبداية المجتهد 2 / 375 ط المكتبة التجارية، وبنت مخاض: هي الإبل التي طعنت في السنة الثانية. وبنت لبون: هي التي طعنت في الثالثة. وحقة: هي التي طعنت في الرابعة. وجذعة: هي التي طعنت في الخامسة (اللباب 2 / 44) .
(2) حديث: " ألا وإن قتيل الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا ". أخرجه النسائي (8 / 41 - ط شركة الطباعة الفنية) وصححه ابن القطان كما في التلخيص لابن حجر (4 / 15 - ط شركة الطباعة الفنية) .(21/50)
وَتَجِبُ هَذِهِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِشِبْهِ الْعَمْدِ، وَبِهِ قَال الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَذَلِكَ؛ لِشُبْهَةِ عَدَمِ الْقَصْدِ لِوُقُوعِ الْقَتْل بِمَا لاَ يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْل عَادَةً، أَوْ لاَ يَقْتُل غَالِبًا (1) .
وَلاَ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْجَانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَشْتَرِكُ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا فِي الْقَتْل الْخَطَأِ.
وَدَلِيل وُجُوبِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَقَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا (2) .
وَقَال ابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَقَتَادَةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: إِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْقَاتِل فِي مَالِهِ؛ لأَِنَّهَا مُوجِبُ فِعْلٍ قَصَدَهُ، فَلَمْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ، كَالْعَمْدِ الْمَحْضِ (3) .
وُجُوهُ تَغْلِيظِ الدِّيَةِ وَتَخْفِيفِهَا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ:
16 - إِنَّ الْقَتْل شِبْهَ الْعَمْدِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْعَمْدِ
__________
(1) البدائع 7 / 251، 255، ومغني المحتاج 4 / 55، والمغني لابن قدامة 7 / 766، 767.
(2) الحديث تقدم تخريجه ف 12.
(3) المغني 7 / 267 وما بعدها.(21/50)
وَالْخَطَأِ، فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَاتِل قَصَدَ الْفِعْل يُشْبِهُ الْعَمْدَ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ الْقَتْل يُشْبِهُ الْخَطَأَ، وَلِهَذَا رُوعِيَ فِي عُقُوبَتِهِ التَّغْلِيظُ وَالتَّخْفِيفُ مَعًا، فَتُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِيهِ مِنْ نَاحِيَةِ أَسْنَانِ الإِْبِل، وَتُخَفَّفُ مِنْ نَاحِيَةِ وُجُوبِهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَمِنْ نَاحِيَةِ التَّأْجِيل فَتُؤَدَّى مِنْ قِبَل الْعَاقِلَةِ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ فِي آخِرِ كُل سَنَةٍ ثُلُثُهَا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ أَعْلَمُ فِي أَنَّهَا تَجِبُ مُؤَجَّلَةً خِلاَفًا بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (1) .
وَلاَ تُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِي غَيْرِ الإِْبِل عِنْدَ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ، وَلَمْ يَرِدِ النَّصُّ فِي غَيْرِ الإِْبِل فَيُقْتَصَرُ عَلَى التَّوْقِيفِ (2) .
وَاخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِي أَسْنَانِ الإِْبِل الْوَاجِبَةِ فِي دِيَةِ الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ:
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْل مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهَا مُثَلَّثَةٌ، ثَلاَثُونَ حِقَّةً، وَثَلاَثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلاَدُهَا. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: هِيَ مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل أَرْبَاعًا: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 55، والمغني لابن قدامة 7 / 766، 767.
(2) اللباب 2 / 44، وكشاف القناع 6 / 19.(21/51)
وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً (1) .
وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ مَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ: (ر: عَاقِلَة) .
الثَّالِثُ: الْقَتْل الْعَمْدُ:
17 - الأَْصْل أَنَّ الْقَتْل الْعَمْدَ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُْنْثَى بِالأُْنْثَى. . .} الآْيَةَ (2) .
فَمَنْ قَتَل شَخْصًا عَمْدًا عُدْوَانًا يُقْتَل قِصَاصًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ لَيْسَتْ عُقُوبَةً أَصْلِيَّةً لِلْقَتْل الْعَمْدِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ بِالصُّلْحِ (بِرِضَا الْجَانِي) ، كَمَا هُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَوْ بَدَلاً عَنِ الْقِصَاصِ، وَلَوْ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي، كَمَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. فَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِسَبَبٍ مَا وَجَبَتِ الدِّيَةُ عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ عُقُوبَةٌ أَصْلِيَّةٌ بِجَانِبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ. فَالْوَاجِبُ عِنْدَهُمْ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ، وَيُخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْجَانِي (3) .
__________
(1) اللباب شرح الكتاب 3 / 44، 71، ومغني المحتاج 4 / 55، والمغني 7 / 765 - 767.
(2) سورة البقرة / 178.
(3) البدائع 1 / 241، والدسوقي 4 / 239، ومغني المحتاج 4 / 48، وكشاف القناع 5 / 543 - 545.(21/51)
تَغْلِيظُ الدِّيَةِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ:
18 - الدِّيَةُ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ مُغَلَّظَةٌ، سَوَاءٌ أُوجِبَ فِيهِ الْقِصَاصُ وَسَقَطَ بِالْعَفْوِ، أَوْ لِشُبْهَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، أَمْ لَمْ يَجِبْ أَصْلاً، كَقَتْل الْوَالِدِ وَلَدَهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَغْلِيظِ الدِّيَةِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ:
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ أَرْبَاعًا، خَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَتَجِبُ فِي مَال الْجَانِي حَالَّةً، وَذَلِكَ تَغْلِيظًا عَلَى الْقَاتِل.
لَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: تُثَلَّثُ الدِّيَةُ فِي قَتْل الأَْبِ وَلَدَهُ عَمْدًا إِذَا لَمْ يُقْتَل بِهِ.
فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ التَّثْلِيثُ بِثَلاَثِينَ حِقَّةً، وَثَلاَثِينَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً أَيْ حَامِلاً.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: دِيَةُ الْعَمْدِ مُثَلَّثَةٌ فِي مَال الْجَانِي حَالَّةً فَهِيَ مُغَلَّظَةٌ مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ: كَوْنِهَا عَلَى الْجَانِي، وَحَالَّةً، وَمِنْ جِهَةِ السِّنِّ (1) .
وَلاَ تُؤَجَّل الدِّيَةُ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ الأَْصْل وُجُوبُ الدِّيَةِ حَالَّةً بِسَبَبِ الْقَتْل، وَالتَّأْجِيل فِي الْخَطَأِ ثَبَتَ مَعْدُولاً بِهِ عَنِ الأَْصْل لإِِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَوْ مَعْلُولاً بِالتَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِل، حَتَّى تَحْمِل عَنْهُ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 258، 259، جواهر الإكليل 2 / 265، وكشاف القناع 6 / 19، 20، ومغني المحتاج 4 / 53 - 55.(21/52)
الْعَاقِلَةُ، وَالْعَامِدُ يَسْتَحِقُّ التَّغْلِيظَ، وَلِهَذَا وَجَبَ فِي مَالِهِ لاَ عَلَى الْعَاقِلَةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: التَّغْلِيظُ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ كَالتَّغْلِيظِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ مِنْ نَاحِيَةِ أَسْنَانِ الإِْبِل، فَتَجِبُ أَرْبَاعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَأَثْلاَثًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ. إِلاَّ أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَال الْجَانِي وَحْدَهُ وَلاَ تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ؛ لأَِنَّهَا جَزَاءُ فِعْلٍ ارْتَكَبَهُ قَصْدًا وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (1) } . وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلاَ يَجْنِي جَانٍ إِلاَّ عَلَى نَفْسِهِ (2) .
وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ مُؤَجَّلَةً أَيْضًا فِي ثَلاَثِ سِنِينَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (خِلاَفًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ) ؛ لأَِنَّ الأَْجَل وَصْفٌ لِكُل دِيَةٍ وَجَبَتْ بِالنَّصِّ، فَدِيَةُ الْقَتْل الْعَمْدِ مُغَلَّظَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ فَقَطْ: أَحَدُهُمَا مِنْ نَاحِيَةِ الأَْسْنَانِ، وَالثَّانِي أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَال الْجَانِي (3) .
حَالاَتُ وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ:
أ - الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ:
19 - رَغَّبَ الشَّارِعُ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ فَقَال
__________
(1) سورة الأنعام / 164.
(2) حديث: " لا يجني جان إلا على نفسه " أخرجه الترمذي (4 / 461 - ط الحلبي) من حديث عمرو بن الأحوص، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) البدائع 7 / 256، 257.(21/52)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى (1) } ثُمَّ قَال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ (2) } ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَلاَ عَفَا رَجُلٌ عَنْ مَظْلِمَةٍ إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا (3) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ عَفَا عَنِ الْقِصَاصِ مَجَّانًا فَهُوَ أَفْضَل.
وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ فِي الْحَالاَتِ التَّالِيَةِ:
1 - عَفْوِ جَمِيعِ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيل:
20 - إِذَا عَفَا جَمِيعُ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيل وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ صَغِيرٌ وَلاَ مَجْنُونٌ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَتَسْقُطُ الدِّيَةُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لأَِنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ هُوَ الْقِصَاصُ، وَهُوَ الْوَاجِبُ عَيْنًا أَيْ مُتَعَيِّنًا عِنْدَهُمْ، فَلَيْسَ لِلأَْوْلِيَاءِ أَنْ يُجْبِرُوا الْجَانِيَ عَلَى دَفْعِ الدِّيَةِ، وَإِنَّمَا لَهُمْ أَنْ يَعْفُوا مَجَّانًا أَوْ يَقْتَصُّوا
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) سورة البقرة / 178.
(3) حديث: " ما نقصت صدقة من مال. . . " أخرجه مسلم (4 / 2001 - ط الحلبي) ، وأحمد (2 / 235 - ط الميمنية) من حديث أبي هريرة، واللفظ لأحمد(21/53)
مِنْهُ، فَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِالْعَفْوِ فَلاَ بَدِيل لَهُ مِنَ الدِّيَةِ، إِلاَّ عَنْ طَرِيقِ التَّرَاضِي وَالصُّلْحِ بَيْنَ الأَْوْلِيَاءِ وَالْجَانِي، وَإِذَا حَصَل الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ جَازَ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل مِنْهَا بِرِضَا الْجَانِي؛ لأَِنَّ بَدَل الصُّلْحِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لِلأَْوْلِيَاءِ أَنْ يَعْفُوا عَنِ الْقَوَدِ عَلَى الدِّيَةِ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الْعَفْوَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلدِّيَةِ بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ فَلاَ تَجِبُ الدِّيَةُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْل الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقَوَدُ؛ لأَِنَّ الْقَتْل لَمْ يُوجِبِ الدِّيَةَ عَلَى هَذَا الْقَوْل، وَالْعَفْوُ إِسْقَاطُ شَيْءٍ ثَابِتٍ، لاَ إِثْبَاتُ مَعْدُومٍ.
وَعَلَى قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَهُمْ: تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُهُمَا، فَإِذَا تُرِكَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْقَوَدُ وَجَبَ الآْخَرُ أَيِ الدِّيَةُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُخَيَّرُ الأَْوْلِيَاءُ بَيْنَ الْقَوَدِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قُتِل لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُودَى وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ (2) . وَحَيْثُ إِنَّ الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَنْتَقِل إِلَيْهَا وَلَوْ سَخِطَ الْجَانِي؛ لأَِنَّهَا أَقَل مِنْ حَقِّهِ،
__________
(1) البدائع للكاساني 7 / 247، والدسوقي مع الشرح الكبير للدردير 4 / 239، 240.
(2) حديث: " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 205 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 989 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(21/53)
وَإِنْ عَفَا مُطْلَقًا بِأَنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَوَدٍ وَلاَ دِيَةٍ، أَوْ قَال: عَفَوْتُ عَنِ الْقَوَدِ، فَلَهُ الدِّيَةُ؛ لاِنْصِرَافِ الْعَفْوِ إِلَى الْقَوَدِ فِي مُقَابَلَةِ الاِنْتِقَامِ، وَالاِنْتِقَامُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقَتْل (1) .
2 - عَفْوُ بَعْضِ الأَْوْلِيَاءِ:
21 - إِذَا عَفَا بَعْضُ الأَْوْلِيَاءِ عَنِ الْقَوَدِ دُونَ الْبَعْضِ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْقَاتِل؛ لأَِنَّهُ سَقَطَ نَصِيبُ الْعَافِي بِالْعَفْوِ، فَيَسْقُطُ نَصِيبُ الآْخَرِ فِي الْقَوَدِ ضَرُورَةً؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَجَزَّأُ فَلاَ يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَبْقَى لِلآْخَرِينَ نَصِيبُهُمْ مِنَ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لإِِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِي عَفْوِ بَعْضِ الأَْوْلِيَاءِ لِلَّذِينَ لَمْ يَعْفُوا نَصِيبَهُمْ مِنَ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ أَحَدٌ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا.
وَيَسْتَوِي فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَفْوُ أَحَدِ الأَْوْلِيَاءِ مَجَّانًا أَوْ إِلَى الدِّيَةِ.
وَلاَ يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ مِنْ قِبَل الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ ثَابِتًا لَهُمَا،
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 48، 49، والمهذب 2 / 189، كشاف القناع 5 / 543، 544، والمغني 7 / 742، 744.(21/54)
وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُضِرَّةِ الْمَحْضَةِ، فَلاَ يَمْلِكَانِهِ كَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا (1) .
ب - مَوْتُ الْجَانِي (فَوَاتُ مَحَل الْقِصَاصِ) :
22 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْقَاتِل إِذَا مَاتَ أَوْ قُتِل سَقَطَ الْقِصَاصُ بِفَوَاتِ مَحَلِّهِ وَلاَ تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ فِي الْعَمْدِ هُوَ الْوَاجِبُ عَيْنًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى (2) } . الآْيَةَ، حَتَّى لاَ يَمْلِكُ الْوَلِيُّ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ مِنَ الْقَاتِل بِغَيْرِ رِضَاهُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ مَاتَ الْقَاتِل أَوْ قُتِل وَجَبَتِ الدِّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ بِقَتْل الْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ، وَيُخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْجَانِي. فَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِمَوْتِ الْجَانِي بَقِيَ حَقُّهُ فِي اسْتِيفَاءِ الدِّيَةِ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلاَنِ: الأَْوَّل وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ: أَنَّ مُوجِبَ الْقَتْل الْعَمْدِ الْقَوَدُ عَيْنًا، وَهَذَا مُتَّفِقٌ مَعَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عِنْدَ سُقُوطِ الْقِصَاصِ بِعَفْوٍ
__________
(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني 7 / 246 - 247، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 261، والمهذب للشيرازي 2 / 190، والمغني لابن قدامة 7 / 744.
(2) سورة البقرة / 178.(21/54)
أَوْ غَيْرِهِ كَمَوْتِ الْجَانِي، فَتَجِبُ الدِّيَةُ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: مُوجِبُ الْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ (الْقَوَدُ أَوِ الدِّيَةُ) مُبْهَمًا لاَ بِعَيْنِهِ، وَعَلَى كِلاَ الْقَوْلَيْنِ تَجِبُ الدِّيَةُ عِنْدَ سُقُوطِ الْقِصَاصِ بِمَوْتِ الْجَانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
ج - الدِّيَةُ فِي أَحْوَال سُقُوطِ الْقِصَاصِ:
23 - إِذَا وُجِدَ مَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ بَدَلاً عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ حَال سُقُوطِ الْقِصَاصِ بِسَبَبِ الشُّبْهَةِ أَمْثِلَةً، مِنْهَا:
1 - قَتْل الْوَالِدِ وَلَدَهُ:
24 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَتَل الْوَالِدُ وَلَدَهُ فَلاَ قِصَاصَ لِحَدِيثِ: " لاَ يُقَادُ الأَْبُ مِنِ ابْنِهِ (2) " وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْوَالِدِ لِشُبْهَةِ الْجُزْئِيَّةِ وَتَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ.
وَفِي حُكْمِ الْوَالِدِ الْجَدُّ وَالْوَالِدَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تُقْتَل الأُْمُّ بِقَتْل وَلَدِهَا.
__________
(1) البدائع 7 / 241، والدسوقي مع الشرح الكبير للدردير 4 / 239، مغني المحتاج 4 / 48، كشاف القناع 7 / 543، 545.
(2) حديث: " لا يقاد الأب من ابنه. . . " أخرجه البيهقي في السنن (8 / 38 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمر، ونقل الزيلعي في نصب الراية (4 / 339 - ط المجلس العلمي) عن البيهقي أنه صححه.(21/55)
وَهَذَا بِخِلاَفِ قَتْل الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَ الْجَمِيعِ. وَعَلَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقِصَاصَ شُرِعَ لِتَحْقِيقِ حِكْمَةِ الْحَيَاةِ بِالزَّجْرِ وَالرَّدْعِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى الزَّجْرِ فِي جَانِبِ الْوَلَدِ لاَ فِي جَانِبِ الْوَالِدِ؛ وَلأَِنَّ الْوَالِدَ كَانَ سَبَبًا فِي حَيَاةِ الْوَلَدِ فَلاَ يَكُونُ الْوَلَدُ سَبَبًا فِي مَوْتِهِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَتَل الرَّجُل ابْنَهُ مُتَعَمِّدًا، وَاعْتَرَفَ بِقَصْدِ قَتْلِهِ، أَوْ فَعَل بِهِ فِعْلاً مِنْ شَأْنِهِ الْقَتْل مِثْل أَنْ يَذْبَحَهُ أَوْ يَشُقَّ بَطْنَهُ، وَلاَ شُبْهَةَ لَهُ فِي ادِّعَاءِ الْخَطَأِ يُقْتَل بِهِ قِصَاصًا (1) .
2 - الاِشْتِرَاكُ مَعَ مَنْ لاَ قِصَاصَ عَلَيْهِ:
25 - لَوِ اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي قَتْل رَجُلٍ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَوِ انْفَرَدَ وَالآْخَرُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ لَوِ انْفَرَدَ، كَالصَّبِيِّ مَعَ الْبَالِغِ، وَالْمَجْنُونِ مَعَ الْعَاقِل، وَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ فَإِنَّهُ لاَ قِصَاصَ عَلَى أَيِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي شَرِيكِ الْمُخْطِئِ وَالْمَجْنُونِ. فَتَجِبُ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ وَنِصْفُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْمُخْطِئِ وَالْمَجْنُونِ. وَاسْتَدَلُّوا لِسُقُوطِ الْقِصَاصِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 235، وحاشية ابن عابدين 5 / 343، مغني المحتاج 4 / 18، والمهذب 2 / 174، والمغني 7 / 666، 667، والدسوقي 4 / 242، والفواكه الدواني 2 / 259.(21/55)
فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ - كَمَا قَال الْكَاسَانِيُّ - بِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي فِعْل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لأَِنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ فِعْل مَنْ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَوِ انْفَرَدَ مُسْتَقِلًّا فِي الْقَتْل، فَيَكُونُ فِعْل الآْخَرِ فَضْلاً (1) .
وَفِي شَرِيكِ الصَّبِيِّ قَال الْمَالِكِيَّةُ: عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إِنْ تَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ عَمْدًا، وَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ عَمْدَهُ كَخَطَئِهِ. وَإِنْ لَمْ يَتَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ وَتَعَمَّدَا قَتْلَهُ، أَوْ تَعَمَّدَ الْكَبِيرُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ نِصْفُهَا.
أَمَّا إِذَا اشْتَرَكَ أَجْنَبِيٌّ مَعَ الأَْبِ فِي قَتْل وَلَدِهِ فَالْجُمْهُورُ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) عَلَى أَنَّهُ يُقْتَل شَرِيكُ الأَْبِ، وَعَلَى الأَْبِ نِصْفُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةً عِنْدَ مَنْ يَقُول بِعَدَمِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي فِعْل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَشَرِيكِ الْخَاطِئِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَعَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي: (قِصَاص) .
__________
(1) البدائع 7 / 235، وجواهر الإكليل 2 / 257، والدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 246، 247، والمغني 7 / 676، 677، 680، ومغني المحتاج 4 / 20، 21، وحاشية القليوبي 4 / 108.
(2) البدائع 7 / 237، وجواهر الإكليل 2 / 257، والدسوقي 4 / 246، 247، ومغني المحتاج 4 / 20، والمغني 7 / 636، 666.(21/56)
3 - إِرْثُ الْوَلَدِ حَقَّ الاِقْتِصَاصِ مِنْ أَصْلِهِ:
26 - إِذَا وَرِثَ الْوَلَدُ الْقِصَاصَ مِنْ أَحَدِ الأَْبَوَيْنِ عَلَى الآْخَرِ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ وَذَلِكَ لِشُبْهَةِ الْوِرَاثَةِ. فَلَوْ قَتَل أَحَدُ الأَْبَوَيْنِ صَاحِبَهُ وَلَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ؛ لأَِنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لِوَلَدِهِ، وَلاَ يَجِبُ لِلْوَلَدِ قِصَاصٌ عَلَى وَالِدِهِ.؛ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِبْ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فَلأََنْ لاَ يَجِبَ لَهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى. وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى. أَوْ كَانَ لِلْمَقْتُول وَلَدٌ سِوَاهُ أَوْ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لأَِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْقِصَاصُ لَوَجَبَ لَهُ جُزْءٌ مِنْهُ وَلاَ يُمْكِنُ وُجُوبُهُ. وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ بَعْضُهُ سَقَطَ كُلُّهُ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَتَبَعَّضُ، وَصَارَ كَمَا لَوْ عَفَا بَعْضُ مُسْتَحَقِّي الْقِصَاصِ عَنْ نَصِيبِهِ مِنْهُ، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَقُول بِعَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْوَالِدِ بِسَبَبِ قَتْل وَلَدِهِ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ.
وَكَذَا لَوْ قَتَل رَجُلٌ أَخَاهُ أَوْ أَحَدًا يَرِثُ ابْنُهُ حَقَّ الْقِصَاصِ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ.
وَهُنَاكَ أَنْوَاعٌ أُخْرَى تَمْنَعُ الْقِصَاصَ (1) . يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحَاتِ: (قِصَاص، قَتْل، شُبْهَة) .
__________
(1) الزيلعي 6 / 105، 106، والفواكه الدواني 2 / 257، ونهاية المحتاج 7 / 21، المغني لابن قدامة 7 / 668، 669.(21/56)
د - الْقَتْل بِالتَّسَبُّبِ:
27 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْل بِالسَّبَبِ مُطْلَقًا، بَل تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْقَتْل مُبَاشَرَةً، وَلاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ فَيُقْتَصُّ مِنَ الْقَاتِل فِي بَعْضِ حَالاَتِ التَّسَبُّبِ عِنْدَهُمْ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ، وَلَمْ يَقُولُوا بِالْقِصَاصِ فِي حَالاَتٍ أُخْرَى بَل قَالُوا بِوُجُوبِ الدِّيَةِ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَتْلٌ بِالتَّسَبُّبِ) .
مَا تَجِبُ مِنْهُ الدِّيَةُ: (أُصُول الدِّيَةِ) :
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْبِل أَصْلٌ فِي الدِّيَةِ، فَتُقْبَل إِذَا أُدِّيَتْ مِنْهَا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى الإِْبِل: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ أُصُول الدِّيَةِ أَيْ مَا تُقْضَى مِنْهُ الدِّيَةُ مِنَ الأَْمْوَال ثَلاَثَةُ أَجْنَاسٍ: الإِْبِل وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
__________
(1) البدائع 7 / 239، 274، والمهذب 2 / 194، المغني 7 / 645، 822، 823، الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 243، 244، والمواق 6 / 241، ومغني المحتاج 4 / 6، وجواهر الإكليل 2 / 245.
(2) البدائع 7 / 253، 254، والفواكه الدواني 2 / 257، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 266، ومغني المحتاج 4 / 55، 56، وكشاف القناع 6 / 18، 19، والمغني 7 / 759 وما بعدها.(21/57)
فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنَ الإِْبِل (1) ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: عَلَى أَهْل الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْل الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ (2) .
فَالدِّيَةُ عَلَى أَهْل الإِْبِل مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل، وَعَلَى أَهْل الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ وَعَلَى أَهْل الْوَرِقِ (الْفِضَّةِ) اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى أَهْل الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْل الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً قُتِل فَجَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا.
قَال النَّفْرَاوِيُّ الْمَالِكِيُّ: صَرْفُ دِينَارِ الدِّيَةِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، كَدِينَارِ السَّرِقَةِ وَالنِّكَاحِ، بِخِلاَفِ دِينَارِ الْجِزْيَةِ وَالزَّكَاةِ فَصَرْفُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَأَمَّا دِينَارُ الصَّرْفِ فَلاَ يَنْضَبِطُ (3) .
__________
(1) حديث: " إن في النفس مائة من الإبل " تقدم من حديث عمرو بن حزم ف / 7.
(2) حديث: " على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم ". مركب من حديثين، الأول تقدم من حديث عمرو بن حزم ف / 7، والثاني ورد من قضائه صلى الله عليه وسلم، أخرجه أبو داود (4 / 681 - 682 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ابن عباس، وأعل بالإرسال كما في التلخيص لابن حجر (4 / 23 ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) الزيلعي 1 / 127، والفواكه الدواني 2 / 257، ومغني المحتاج 4 / 56، وكشاف القناع 6 / 8، والمغني 7 / 760. وحديث: أن رجلاً قتل فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفًا. تقدم في التعليق على الحديث السابق.(21/57)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الدِّيَةُ مِنَ الْوَرِقِ عَشَرَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ؛ لِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (الدِّيَةُ عَشَرَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ) ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا مَعَ أَنَّ الْمَقَادِيرَ لاَ تُعْرَفُ إِلاَّ سَمَاعًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ بِعَشَرَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ
وَلأَِنَّ الدِّينَارَ مُقَوَّمٌ فِي الشَّرْعِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَمَا فِي الزَّكَاةِ، فَإِنَّ نِصَابَ الْفِضَّةِ فِي الزَّكَاةِ مُقَدَّرٌ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَنِصَابَ الذَّهَبِ فِيهَا بِعِشْرِينَ دِينَارًا.
قَال الزَّيْلَعِيُّ: يُحْمَل مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى وَزْنِ خَمْسَةٍ، وَمَا رَوَيْنَاهُ عَلَى وَزْنِ سِتَّةٍ، وَهَكَذَا كَانَتْ دَرَاهِمُهُمْ فِي زَمَانِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى زَمَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاسْتَوَيَا (1) . وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّ الاِخْتِلاَفَ فِي مِقْدَارِ الدِّيَةِ يَرْجِعُ إِلَى سِعْرِ صَرْفِ الدِّينَارِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل الصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ أُصُول الدِّيَةِ خَمْسَةٌ: الإِْبِل
__________
(1) البدائع 7 / 254. وحديث: " قضى بالدية في قتيل بعشرة آلاف درهم. . . " قال عنه الزيلعي: " غريب " كذا في نصب الراية (4 / 362 - ط المجلس العلمي) يعني أنه لا أصل له.(21/58)
وَالذَّهَبُ وَالْوَرِقُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَهَذَا قَوْل عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى. وَزَادَ عَلَيْهَا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - الْحُلَل، فَتَكُونُ أُصُول الدِّيَةِ سِتَّةَ أَجْنَاسٍ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ عُمَرَ قَامَ خَطِيبًا فَقَال: أَلاَ إِنَّ الإِْبِل قَدْ غَلَتْ. . فَفَرَضَهَا عَلَى أَهْل الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْل الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَعَلَى أَهْل الْبَقَرِ مَائِتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْل الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْل الْحُلَل مِائَتَيْ حُلَّةٍ (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَأَيُّ شَيْءٍ أَحْضَرَهُ مَنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ مِنَ الْجَانِي أَوِ الْعَاقِلَةِ مِنْ هَذِهِ الأُْصُول لَزِمَ الْوَلِيَّ أَوِ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ أَخْذُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَهْل ذَلِكَ النَّوْعِ أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لأَِنَّهَا أُصُولٌ فِي قَضَاءِ الْوَاجِبِ يُجْزِئُ وَاحِدٌ مِنْهَا، فَكَانَتِ الْخِيَرَةُ إِلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْل طَاوُسٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ: إِنَّ الأَْصْل فِي الدِّيَةِ الإِْبِل لاَ غَيْرُ؛ لِقَوْلِهِ: أَلاَ إِنَّ قَتِيل الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل (3) .
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ دِيَةِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فَغَلَّظَ
__________
(1) المغني 7 / 759، والبدائع 7 / 253، 254.
(2) الزيلعي 6 / 27، والمغني 7 / 761.
(3) حديث: " ألا إن قتيل الخطأ ". تقدم فقرة / 15.(21/58)
بَعْضَهَا وَخَفَّفَ بَعْضَهَا، وَلاَ يَتَحَقَّقُ هَذَا فِي غَيْرِ الإِْبِل؛ وَلأَِنَّهُ بَدَل مُتْلَفٍ (وَجَبَ) حَقًّا لآِدَمِيٍّ، فَكَانَ مُتَعَيِّنًا كَعِوَضِ الأَْمْوَال (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ وَلَهُ إِبِلٌ تُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْهَا سَلِيمَةً مِنَ الْعُيُوبِ، وَأَيُّهُمَا أَرَادَ الْمَعْدُول عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا فَلِلآْخَرِ مَنْعُهُ، وَلاَ يَعْدِل إِلَى نَوْعٍ آخَرَ أَوْ قِيمَتِهِ إِلاَّ بِتَرَاضٍ مِنَ الْمُودِي وَالْمُسْتَحِقِّ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ مُتَعَيِّنٌ فِي الإِْبِل فَاسْتُحِقَّتْ كَالْمِثْل فِي الْمِثْلِيَّاتِ الْمُتْلَفَةِ.
وَلَوْ عَدِمَتْ إِبِل الدِّيَةِ حِسًّا بِأَنْ لَمْ تُوجَدْ فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ تَحْصِيلُهَا مِنْهُ، أَوْ شَرْعًا بِأَنْ وُجِدَتْ فِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهَا، فَالْوَاجِبُ أَلْفُ دِينَارٍ عَلَى أَهْل الدَّنَانِيرِ أَوِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِضَّةً عَلَى أَهْل الدَّرَاهِمِ، وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ لِحَدِيثِ: " عَلَى أَهْل الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْل الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ (2) " وَفِي الْقَوْل الْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ تَجِبُ قِيمَتُهَا وَقْتَ وُجُوبِ تَسْلِيمِهَا بِنَقْدِ بَلَدِهِ الْغَالِبِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لأَِنَّهُ بَدَل مُتْلَفٍ، فَيَرْجِعُ إِلَى قِيمَتِهَا عِنْدَ إِعْوَازِ الأَْصْل (3) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: أَهْل الْبَوَادِي مِنْ كُل
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 55، 56، والمغني لابن قدامة 7 / 759، 760.
(2) حديث: " على أهل الذهب ألف دينار ". تقدم في نفس الفقرة.
(3) مغني المحتاج 4 / 55، 56، والمغني لابن قدامة 7 / 761، وكشاف القناع 6 / 18.(21/59)
إِقْلِيمٍ مِنْ أَهْل الإِْبِل فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُمْ إِلاَّ الْخَيْل وَالْبَقَرُ فَلاَ نَصَّ، وَالظَّاهِرُ تَكْلِيفُهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَى حَاضِرَتِهِمْ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَقِيل: يُكَلَّفُونَ قِيمَةَ الإِْبِل (1) .
مِقْدَارُ الدِّيَةِ: أَوَّلاً: مِقْدَارُ الدِّيَةِ فِي النَّفْسِ:
أ - دِيَةُ الذَّكَرِ الْحُرِّ:
29 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ دِيَةَ الذَّكَرِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ هِيَ مِائَةٌ مِنَ الإِْبِل أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا عَلَى مَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ. كَمَا أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي مِقْدَارِ الدِّيَةِ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْحُلَل عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهَا (2) .
دِيَةُ الأُْنْثَى
30 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ دِيَةَ الأُْنْثَى الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ هِيَ نِصْفُ دِيَةِ الذَّكَرِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُل؛ لِمَا رَوَى مُعَاذٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: دِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 57.
(2) الزيلعي 6 / 126، 127، والبدائع 7 / 253، 254، وجواهر الإكليل 2 / 266، والمغني لابن قدامة 7 / 760 وما بعدها.(21/59)
الرَّجُل (1) . وَلأَِنَّهَا فِي الشَّهَادَةِ وَالْمِيرَاثِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُل فَكَذَلِكَ فِي الدِّيَةِ.
وَهَذَا فِي دِيَةِ النَّفْسِ، أَمَّا فِي دِيَةِ الأَْطْرَافِ وَالْجُرُوحِ فَاخْتَلَفُوا: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ أَطْرَافِ وَجِرَاحِ الرَّجُل أَيْضًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: عَقْل الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُل فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَهَا. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لأَِنَّهُمَا شَخْصَانِ تَخْتَلِفُ دِيَتُهُمَا فِي النَّفْسِ فَاخْتَلَفَتْ فِي الأَْطْرَافِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تُسَاوِي الْمَرْأَةُ الرَّجُل فِي دِيَةِ الأَْطْرَافِ إِلَى ثُلُثِ دِيَةِ الرَّجُل. فَإِذَا بَلَغَتِ الثُّلُثَ رَجَعَتْ إِلَى عَقْلِهَا، فَإِذَا قَطَعَ لَهَا ثَلاَثَ أَصَابِعَ فَلَهَا ثَلاَثُونَ مِنَ الإِْبِل كَالرَّجُل، وَإِذَا قَطَعَ لَهَا أَرْبَعَ أَصَابِعَ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ نِصْفَ مَا يَأْخُذُهُ الرَّجُل: أَيْ تَأْخُذُ عِشْرِينَ مِنَ الإِْبِل، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَبِهِ قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ، وَهُوَ قَوْل فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَقْل الْمَرْأَةِ مِثْل عَقْل الرَّجُل
__________
(1) حديث: " دية المرأة على النصف من دية الرجل " أخرجه البيهقي (8 / 95 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال: " إسناده لا يثبت مثله ".(21/60)
حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا (1) . وَهُوَ نَصٌّ يُقَدَّمُ عَلَى مَا سِوَاهُ (2) .
دِيَةُ الْخُنْثَى
31 - إِذَا كَانَ الْمَقْتُول خُنْثَى مُشْكِلاً فَفِيهِ نِصْفُ دِيَةِ ذَكَرٍ وَنِصْفُ دِيَةِ أُنْثَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ يَحْتَمِل الذُّكُورِيَّةَ وَالأُْنُوثِيَّةَ، وَقَدْ يَئِسْنَا مِنِ انْكِشَافِ حَالِهِ فَيَجِبُ التَّوَسُّطُ بَيْنَهُمَا بِكِلاَ الاِحْتِمَالَيْنِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قُتِل خَطَأً وَجَبَتْ دِيَةُ الْمَرْأَةِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي إِلَى التَّبَيُّنِ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْخُنْثَى كَالأُْنْثَى فِي الدِّيَةِ فَيَجِبُ فِي قَتْلِهَا نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ زِيَادَتَهُ عَلَيْهَا مَشْكُوكٌ فِيهَا (5) .
دِيَةُ الْكَافِرِ
32 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ دِيَةَ لِلْحَرْبِيِّ؛ لأَِنَّهُ لاَ عِصْمَةَ لَهُ.
__________
(1) حديث: " عقل المرأة مثل عقل الرجل. . . " أخرجه النسائي (8 / 44 - 45 - ط المكتبة التجارية) وفي إسناده ضعف كما في نصب الراية (4 / 364 - ط المجلس العلمي) .
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 368، والاختيار للموصلي 5 / 36، والفواكه الدواني 2 / 259، ومغني المحتاج 4 / 56، 57، والمغني لابن قدامة 7 / 797، وما بعدها.
(3) مواهب الجليل للحطاب وبهامشه التاج والإكليل للمواق 6 / 433، والمغني 8 / 62.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 369.
(5) مغني المحتاج 4 / 57، وروضة الطالبين 9 / 159.(21/60)
أَمَّا الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الدِّيَةِ فِيهِمَا: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعُرْوَةَ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ دِيَةَ الْكِتَابِيِّ الذِّمِّيِّ وَالْمُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: دِيَةُ الْمُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ، وَفِي لَفْظٍ: دِيَةُ عَقْل الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ عَقْل الْمُؤْمِنِ (1) .
وَوَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: دِيَةُ الْمُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ (2) . وَأَهْل الْكِتَابِ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَبِهِ قَال عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (3) .
وَهَذَا فِي دِيَةِ النَّفْسِ. قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَدِيَةُ جِرَاحِ أَهْل الْكِتَابِ كَذَلِكَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ جِرَاحِ الْمُسْلِمِينَ (4) .
__________
(1) حديث: " دية المعاهد نصف دية الحر. . . " أخرجه أبو داود (4 / 707 - 708 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، واللفظ الثاني أخرجه الترمذي (4 / 25 - ط الحلبي) ، وقال: " حديث حسن ".
(2) حديث: " دية المعاهد نصف دية المسلم. . . " أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6 / 299 - ط المقدسي) ، وقال: " رواه الطبراني في الأوسط، وفيه جماعة لم أعرفهم ".
(3) الفواكه الدواني 2 / 259، 260، والمغني 7 / 793 - 796.
(4) الفواكه الدواني 2 / 260.(21/61)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: جِرَاحَاتُ أَهْل الْكِتَابِ مِنْ دِيَاتِهِمْ كَجِرَاحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَاتِهِمْ. وَتُغَلَّظُ دِيَاتُهُمْ بِاجْتِمَاعِ الْحُرُمَاتِ عِنْدَ مَنْ يَرَى تَغْلِيظَ دِيَاتِ الْمُسْلِمِينَ (1) .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الذِّمِّيَّ - كِتَابِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ - وَالْمُسْتَأْمَنَ وَالْمُسْلِمَ فِي الدِّيَةِ سَوَاءٌ وَهَذَا قَوْل إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
فَلاَ يَخْتَلِفُ قَدْرُ الدِّيَةِ بِالإِْسْلاَمِ وَالْكُفْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِتَكَافُؤِ الدِّمَاءِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ (2) } . أَطْلَقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْقَوْل بِالدِّيَةِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقَتْل مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، فَدَل عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكُل وَاحِدٌ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ قَتَل مُسْتَأْمَنَيْنِ فَقَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمَا بِدِيَةِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ (3) . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَضَيَا فِي دِيَةِ الذِّمِّيِّ
__________
(1) المغني 7 / 795.
(2) سورة النساء / 92.
(3) حديث عمرو بن أمية الضمري ذكره ابن إسحاق في سيرته بدون إسناد، ونقله عنه ابن هشام في سيرته كذلك (2 / 186 - ط الحلبي) . وأخرجه موصولاً الترمذي من حديث ابن عباس (4 / 20 - ط الحلبي) ، وقال: " هذا حديث غريب ".(21/61)
بِمِثْل دِيَةِ الْمُسْلِمِ؛ وَلأَِنَّ وُجُوبَ كَمَال الدِّيَةِ يَعْتَمِدُ عَلَى كَمَال حَال الْقَتْل فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَهِيَ الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعِصْمَةُ وَقَدْ وُجِدَتْ، وَنُقِل عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ دِيَةَ فِي الْمُسْتَأْمَنِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: دِيَةُ كُلٍّ مِنَ الْيَهُودِيِّ أَوِ النَّصْرَانِيِّ إِذَا كَانَ لَهُ أَمَانٌ وَتَحِل مُنَاكَحَتُهُ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ نَفْسًا وَغَيْرَهَا، وَدِيَةُ الْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ إِذَا كَانَ لَهُمَا أَمَانٌ ثُلُثَا عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَمِثْل الْمَجُوسِيِّ عَابِدُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالزِّنْدِيقُ مِمَّنْ لَهُ أَمَانٌ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَل دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ وَدِيَةَ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ لاَ يُفْعَل بِلاَ تَوْقِيفٍ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمَعْصُومِ فَدَمُهُ هَدَرٌ (2) .
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الذُّكُورِ، أَمَّا الإِْنَاثُ مِنَ الْكُفَّارِ اللَّوَاتِي لَهُمْ أَمَانٌ فَدِيَتُهُنَّ نِصْفُ دِيَةِ الذُّكُورِ مِنْهُمُ اتِّفَاقًا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا، وَنَقَل ابْنُ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُل (3) .
دِيَةُ الْجَنِينِ
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْجِنَايَةِ
__________
(1) البدائع 7 / 254، 255، وحاشية ابن عابدين 5 / 369.
(2) المهذب 2 / 198، ومغني المحتاج 4 / 57.
(3) المغني 7 / 795.(21/62)
الَّتِي تَرَتَّبَ عَلَيْهَا انْفِصَال الْجَنِينِ عَنْ أُمِّهِ مَيِّتًا هُوَ غُرَّةٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجِنَايَةُ بِالضَّرْبِ أَمْ بِالتَّخْوِيفِ أَمِ الصِّيَاحِ أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً، وَلَوْ مِنَ الْحَامِل نَفْسِهَا أَوْ مِنْ زَوْجِهَا (1) . لِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى فِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ (2) .
وَالْغُرَّةُ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، وَهِيَ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل أَوْ خَمْسُونَ دِينَارًا، وَلاَ تَخْتَلِفُ الْغُرَّةُ بِذُكُورَةِ الْجَنِينِ وَأُنُوثَتِهِ، فَهِيَ فِي كِلَيْهِمَا سَوَاءٌ (ر: غُرَّة) .
وَأَمَّا جَنِينُ الْكِتَابِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ مِمَّنْ لَهُنَّ أَمَانٌ إِذَا كَانَ مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ فَفِيهِ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ؛ لأَِنَّ جَنِينَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ مَضْمُونٌ بِعُشْرِ دِيَةِ أُمِّهِ فَكَذَلِكَ جَنِينُ الْكَافِرَةِ (3) .
وَهَذَا إِذَا أَلْقَتْهُ نَتِيجَةً لِلْجِنَايَةِ مَيِّتًا فِي حَيَاتِهَا (4) .
أَمَّا إِذَا أَلْقَتْهُ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً ثُمَّ مَاتَ نَتِيجَةً
__________
(1) ابن عابدين 5 / 377، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير للدردير 4 / 269، وأسنى المطالب 4 / 89، والمغني لابن قدامة 7 / 799 - 800.
(2) حديث أبي هريرة: " أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى " تقدم فقرة (15) .
(3) المغني 7 / 800.
(4) مغني المحتاج 4 / 103.(21/62)
لِلْجِنَايَةِ: كَأَنْ مَاتَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مُبَاشَرَةً أَوْ دَامَ أَلَمُهُ ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّهُ قَتْل إِنْسَانٍ حَيٍّ (1) .
وَإِذَا أَلْقَتْهُ نَتِيجَةً؛ لِلْجِنَايَةِ عَلَيْهَا مَيِّتًا بَعْدَ مَوْتِهَا فَاخْتَلَفُوا فِيهِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: فِي الأُْمِّ الدِّيَةُ، وَلاَ شَيْءَ فِي الْجَنِينِ؛ لأَِنَّ مَوْتَهَا سَبَبٌ لِمَوْتِهِ؛ لأَِنَّهُ يَخْتَنِقُ بِمَوْتِهَا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَتَنَفَّسُ بِنَفَسِهَا، وَاحْتُمِل مَوْتُهُ بِالضَّرْبَةِ فَلاَ تَجِبُ الْغُرَّةُ بِالشَّكِّ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ فِيهِ غُرَّةٌ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ جَنِينٌ تَلِفَ بِحِنَايَةٍ، وَعُلِمَ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ فَوَجَبَ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ سَقَطَ فِي حَيَاتِهَا، وَلأَِنَّهُ آدَمِيٌّ مَوْرُوثٌ فَلاَ يَدْخُل فِي ضَمَانِ أُمِّهِ كَمَا لَوْ خَرَجَ حَيًّا (3) . وَإِنْ أَلْقَتْ جَنِينَيْنِ مَيِّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَفِي كُل وَاحِدَةٍ غُرَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهُ ضَمَانُ آدَمِيٍّ فَتَتَعَدَّدُ الْغُرَّةُ بِتَعَدُّدِهِ كَالدِّيَاتِ.
وَإِنْ أَلْقَتْهُمْ أَحْيَاءَ ثُمَّ مَاتُوا فَفِي كُل وَاحِدٍ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ حَيًّا فَمَاتَ، وَبَعْضُهُمْ مَيِّتًا، فَفِي الْحَيِّ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي الْمَيِّتِ غُرَّةٌ (4) .
وَإِنْ ظَهَرَ بَعْضُ خَلْقِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَيِّتًا وَلَمْ
__________
(1) الاختيار 5 / 44، والدسوقي 4 / 269، ومغني المحتاج 102 - 104، والمغني 7 / 799، 806.
(2) الاختيار 5 / 44، والدسوقي 4 / 269.
(3) مغني المحتاج 4 / 103، والمغني 7 / 804، 806.
(4) المراجع السابقة.(21/63)
يَخْرُجْ بَاقِيهِ فَفِيهِ غُرَّةٌ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَال مَالِكٌ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ تَجِبُ الْغُرَّةُ حَتَّى تُلْقِيَهُ كَامِلاً (1) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ أَلْقَتْ يَدًا أَوْ رِجْلاً وَمَاتَتْ فَتَجِبُ غُرَّةٌ؛ لأَِنَّ الْعِلْمَ قَدْ حَصَل بِوُجُودِ الْجَنِينِ، وَالْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْيَدَ بَانَتْ بِالْجِنَايَةِ، وَلَوْ عَاشَتْ وَلَمْ تُلْقِ جَنِينًا فَلاَ يَجِبُ إِلاَّ نِصْفُ غُرَّةٍ، كَمَا أَنَّ يَدَ الْحَيِّ لاَ يَجِبُ فِيهَا إِلاَّ نِصْفُ دِيَةٍ وَلاَ يُضْمَنُ بَاقِيهِ؛ لأَِنَّا لَمْ نَتَحَقَّقْ تَلَفَهُ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَجِبُ لِلْعُضْوِ الزَّائِدِ حُكُومَةٌ، وَلَوْ أَلْقَتْ يَدًا ثُمَّ جَنِينًا مَيِّتًا بِلاَ يَدٍ قَبْل الاِنْدِمَال وَزَال الأَْلَمُ مِنَ الأُْمِّ فَغُرَّةٌ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْيَدَ مُبَانَةٌ مِنْهُ بِالْجِنَايَةِ، أَوْ حَيًّا فَمَاتَ مِنَ الْجِنَايَةِ فَدِيَةٌ وَدَخَل فِيهَا أَرْشُ الْيَدِ، فَإِنْ عَاشَ وَشَهِدَ الْقَوَابِل أَوْ عُلِمَ أَنَّهَا يَدُ مَنْ خُلِقَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ فَنِصْفُ دِيَةٍ لِلْيَدِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدِ الْقَوَابِل بِذَلِكَ وَلَمْ يُعْلَمْ فَنِصْفُ غُرَّةٍ لِلْيَدِ عَمَلاً بِالْيَقِينِ، أَوْ أَلْقَتْهُ بَعْدَ الاِنْدِمَال وَزَال الأَْلَمُ أُهْدِرَ الْجَنِينُ لِزَوَال الأَْلَمِ الْحَاصِل بِالْجِنَايَةِ، وَوَجَبَ لِلْيَدِ الْمُلْقَاةِ قَبْلَهُ إِنْ خَرَجَ مَيِّتًا نِصْفُ غُرَّةٍ، أَوْ حَيًّا وَمَاتَ أَوْ عَاشَ فَنِصْفُ دِيَةٍ إِنْ شَهِدَ
__________
(1) الاختيار 5 / 44، والدسوقي 4 / 269، ومغني المحتاج 4 / 103، والمغني 7 / 805، 806، وقد راجعت اللجنة كتاب الاختيار وابن عابدين ومجمع الضمانات والمبسوط، ولم تجد للحنفية نصًّا في هذه الصورة.(21/63)
الْقَوَابِل أَوْ عُلِمَ أَنَّهَا يَدُ مَنْ خُلِقَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ، وَإِنِ انْفَصَل بَعْدَ إِلْقَاءِ الْيَدِ مَيِّتًا كَامِل الأَْطْرَافِ بَعْدَ الاِنْدِمَال فَلاَ شَيْءَ فِيهِ، وَفِي الْيَدِ حُكُومَةٌ، أَوْ قَبْل الاِنْدِمَال مَيِّتًا فَغُرَّةٌ فَقَطْ؛ لاِحْتِمَال أَنَّ الْيَدَ الَّتِي أَلْقَتْهَا كَانَتْ زَائِدَةً لِهَذَا الْجَنِينِ وَانْمَحَقَ أَثَرُهَا، أَوْ حَيًّا وَمَاتَ فَدِيَةٌ لاَ غُرَّةٌ، وَإِنْ عَاشَ فَحُكُومَةٌ، وَتَأَخُّرُ الْيَدِ عَنِ الْجَنِينِ إِلْقَاءٌ كَتَقَدُّمٍ؛ لِذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ، وَكَذَا لَحْمٌ أَلْقَتْهُ امْرَأَةٌ بِحِنَايَةٍ عَلَيْهَا يَجِبُ فِيهِ غُرَّةٌ إِذَا قَال الْقَوَابِل وَهُنَّ أَهْل الْخِبْرَةِ فِيهِ صُورَةٌ خَفِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِنَّ فَلاَ يَعْرِفُهَا سِوَاهُنَّ لِحِذْقِهِنَّ، وَنَحْوُهُ لِلْحَنَابِلَةِ (1) .
ثَانِيًا - الاِعْتِدَاءُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ
مُوجِبَاتُ الدِّيَةِ فِي الاِعْتِدَاءِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ، وَهِيَ إِبَانَةُ الأَْطْرَافِ، وَإِتْلاَفُ الْمَعَانِي، وَالشِّجَاجُ وَالْجُرُوحُ.
الْقِسْمُ الأَْوَّل: إِبَانَةُ الأَْطْرَافِ: (قَطْعُ الأَْعْضَاءِ) :
34 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ مَا لاَ نَظِيرَ لَهُ فِي بَدَنِ الإِْنْسَانِ كَالأَْنْفِ وَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ وَالْحَشَفَةِ وَالصُّلْبِ إِذَا انْقَطَعَ الْمَنِيُّ، وَمَسْلَكِ الْبَوْل، وَمَسْلَكِ الْغَائِطِ دِيَةً كَامِلَةً.
وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ شَيْئَانِ كَالْعَيْنَيْنِ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 104، والمغني 7 / 814، 815، وكشاف القناع 6 / 30.(21/64)
وَالأُْذُنَيْنِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَالشَّفَتَيْنِ وَالْحَاجِيَيْنِ إِذَا ذَهَبَ شَعْرُهُمَا نِهَائِيًّا وَلَمْ يَنْبُتْ، وَالثَّدْيَيْنِ، وَالْحَلَمَتَيْنِ، وَالأُْنْثَيَيْنِ، وَالشُّفْرَيْنِ وَاللَّحْيَيْنِ، وَالأَْلْيَتَيْنِ إِذَا تَلِفَتَا مَعًا فَفِيهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ: وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الإِْنْسَانِ مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ، كَأَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ وَالأَْجْفَانِ فَفِيهَا الدِّيَةُ، وَفِي كُل وَاحِدٍ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ، وَمَا فِيهِ مِنْهُ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ، كَأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَأَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ فَفِي جَمِيعِهَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَفِي كُل وَاحِدٍ مِنْهَا عُشْرُ الدِّيَةِ، وَمَا فِي الأَْصَابِعِ مِنَ الْمَفَاصِل (السَّلاَمِيَّاتِ) فَفِي أَحَدِهَا ثُلُثُ دِيَةِ الأُْصْبُعِ، وَنِصْفُ دِيَةِ الأُْصْبُعِ فِيمَا فِيهَا مَفْصِلاَنِ وَهِيَ الإِْبْهَامُ خَاصَّةً، وَفِي جَمِيعِ الأَْسْنَانِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي كُل سِنٍّ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَالأَْصْل فِيهِ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْل الْيَمَنِ أَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةَ وَفِي الأَْنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةَ (1) .
فَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْبَعْضِ يَكُونُ وَارِدًا فِي الْبَاقِي دَلاَلَةً؛ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَاهُ.
وَالأَْصْل فِي الأَْعْضَاءِ أَنَّهُ إِذَا فُوِّتَ جِنْسُ مَنْفَعَةٍ عَلَى الْكَمَال أَوْ أَزَال جَمَالاً مَقْصُودًا فِي الآْدَمِيِّ عَلَى الْكَمَال يَجِبُ كُل الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِتْلاَفَ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ، إِذِ النَّفْسُ لاَ تَبْقَى
__________
(1) حديث: " إن في النفس الدية، وفي اللسان الدية " تقدم من حديث عمرو بن حزم ف / 7.(21/64)
مُنْتَفَعًا بِهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَإِتْلاَفُ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ مُلْحَقٌ بِالإِْتْلاَفِ مِنْ كُل وَجْهٍ فِي الآْدَمِيِّ تَعْظِيمًا لَهُ كَمَا قَال الزَّيْلَعِيُّ (1) .
وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل ذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
أَوَّلاً - دِيَةُ مَا لاَ نَظِيرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ مِنَ الأَْعْضَاءِ.
أ - دِيَةُ الأَْنْفِ:
35 - الأَْنْفُ إِذَا قُطِعَ كُلُّهُ أَوْ قُطِعَ الْمَارِنُ مِنْهُ (وَهُوَ مَا لاَنَ مِنَ الأَْنْفِ وَخَلاَ مِنَ الْعَظْمِ) فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِمَا رُوِيَ فِي كِتَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْل الْيَمَنِ: وَإِنَّ فِي الأَْنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةَ (2) . وَلأَِنَّ فِيهِ جَمَالاً وَمَنْفَعَةً زَالَتَا بِالْقَطْعِ فَوَجَبَتِ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ (3) .
ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَالُوا: فِي قَطْعِ كُلٍّ مِنْ طَرَفَيِ الْمَارِنِ الْمُسَمَّيَيْنِ بِالْمَنْخِرَيْنِ، وَفِي الْحَاجِزِ بَيْنَهُمَا ثُلُثُ الدِّيَةِ تَوْزِيعًا لِلدِّيَةِ عَلَيْهَا.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْحَاجِزِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَفِيهِمَا دِيَةٌ؛ لأَِنَّ الْجَمَال وَكَمَال الْمَنْفَعَةِ فِيهِمَا دُونَ الْحَاجِزِ (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَا نَقَصَ مِنَ الأَْنْفِ فَفِيهِ
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 129.
(2) حديث: " إن في الأنف إذا أوعب جدعه الدية " تقدم من حديث عمرو بن حزم ف / 7.
(3) بدائع الصنائع للكاساني 7 / 311، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير للدردير 4 / 272، مغني المحتاج 4 / 62، وكشاف القناع 6 / 37.
(4) مغني المحتاج 4 / 62، والمغني 8 / 12، 13.(21/65)
بِحِسَابِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَالنَّقْصُ يُقَاسُ مِنَ الْمَارِنِ، لاَ مِنَ الأَْصْل (1) .
ب - دِيَةُ اللِّسَانِ:
36 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي قَطْعِ اللِّسَانِ الْمُتَكَلَّمِ بِهِ إِذَا اسْتُوعِبَ قَطْعًا، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَوَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِلَى أَهْل الْيَمَنِ: وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ (2) وَلأَِنَّ فِيهِ جَمَالاً وَمَنْفَعَةً. أَمَّا الْجَمَال فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الْجَمَال فَقَال: فِي اللِّسَانِ (3) وَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَإِنَّ بِهِ تُبَلَّغُ الأَْغْرَاضُ وَتُسْتَخْلَصُ الْحُقُوقُ وَتُقْضَى الْحَاجَاتُ وَتَتِمُّ الْعِبَادَاتُ، وَالنُّطْقُ يَمْتَازُ بِهِ الآْدَمِيُّ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَبِهِ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الإِْنْسَانِ (4) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ الإِْنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (5) } وَكَذَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَطْعِ بَعْضِهِ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْكَلاَمِ؛ لأَِنَّ الدِّيَةَ
__________
(1) الحطاب 6 / 261.
(2) حديث: " في اللسان الدية " تقدم من حديث عمرو بن حزم. ف / 7.
(3) حديث: " الجمال في اللسان " أخرجه الحاكم في المستدرك (3 / 330 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث علي بن الحسين مرسلاً، وكذا أعله به الذهبي في تلخيص المستدرك.
(4) الزيلعي 6 / 129، ومغني المحتاج 4 / 62، والمواق على الحطاب 6 / 263، والمغني 8 / 15.
(5) سورة الرحمن / 3.(21/65)
تَجِبُ لِتَفْوِيتِ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ حَصَل بِالاِمْتِنَاعِ عَنِ الْكَلاَمِ (1) .
وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْكَلاَمِ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ دُونَ بَعْضٍ، تُقَسَّمُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، فَمَا نَقَصَ مِنَ الْحُرُوفِ وَجَبَ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِهِ، وَقِيل: تُقْسَمُ الدِّيَةُ عَلَى الْحُرُوفِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ دُونَ الشَّفَةِ وَالْحَلْقِ، فَتُسْتَثْنَى مِنْهَا الْحُرُوفُ الشَّفَوِيَّةُ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْبَاءُ، وَالْمِيمُ، وَالْفَاءُ، وَالْوَاوُ، وَحُرُوفُ الْحَلْقِ وَهِيَ سِتَّةٌ هِيَ: الْهَمْزَةُ، وَالْهَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالْحَاءُ، وَالْغَيْنُ، وَالْخَاءُ، فَتَبْقَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَرْفًا تَنْقَسِمُ الدِّيَةُ عَلَيْهَا (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُهُ فَإِنْ مَنَعَ جُمْلَةَ الْكَلاَمِ فَفِيهِ الدِّيَةُ. وَقَالُوا أَيْضًا: الدِّيَةُ فِي الْكَلاَمِ لاَ فِي اللِّسَانِ، فَإِنْ قُطِعَ مِنْ لِسَانِهِ مَا يَنْقُصُ مِنْ حُرُوفِهِ فَعَلَيْهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَلاَ يُحْتَسَبُ فِي الْكَلاَمِ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ، فَرُبَّ حَرْفٍ أَثْقَل مِنْ حَرْفٍ فِي النُّطْقِ، وَلَكِنْ بِالاِجْتِهَادِ فِيمَا نَقَصَ مِنَ الْكَلاَمِ (3) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) الزيلعي 6 / 229، ونهاية المحتاج 7 / 220، 321، والمغني 8 / 14 - 17.
(3) المواق على الحطاب نقلا عن المدونة 6 / 262، وجواهر الإكليل 2 / 269.(21/66)
قَطْعُ لِسَانِ الأَْخْرَسِ وَالصَّغِيرِ:
37 - لاَ دِيَةَ فِي قَطْعِ لِسَانِ الأَْخْرَسِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بَل تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْكَلاَمُ، وَلاَ كَلاَمَ فِيهِ فَصَارَ كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ (1) .
وَهَذَا إِذَا لَمْ يَذْهَبْ بِقَطْعِهِ الذَّوْقُ، وَإِلاَّ تَجِبُ الدِّيَةُ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ إِزَالَةِ الْمَنَافِعِ، أَمَّا إِذَا قُطِعَ لِسَانَ الصَّغِيرِ الَّذِي لاَ يَتَكَلَّمُ لِصِغَرِهِ فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ ظَاهِرَهُ السَّلاَمَةُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَكَلَّمْ لأَِنَّهُ لاَ يُحْسِنُ الْكَلاَمَ، فَوَجَبَتْ بِهِ الدِّيَةُ كَالْكَبِيرِ وَيُخَالِفُ الأَْخْرَسَ، فَإِنَّهُ عُلِمَ أَنَّهُ أَشَل؛ وَلأَِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي سَائِرِ أَعْضَاءِ الصَّغِيرِ فَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ لِسَانِهِ، وَإِنْ بَلَغَ حَدًّا يَتَكَلَّمُ مِثْلُهُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ فَقُطِعَ لِسَانُهُ لَمْ تَجِبِ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْكَلاَمِ فَيَجِبُ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي لِسَانِ الأَْخْرَسِ (2) .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ فِي لِسَانِ الصَّغِيرِ ظُهُورُ أَثَرِ نُطْقٍ بِتَحْرِيكِهِ لِبُكَاءٍ وَمَصِّ ثَدْيٍ وَنَحْوِهِمَا؛ لأَِنَّهَا أَمَارَاتٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى سَلاَمَةِ اللِّسَانِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فَحُكُومَةٌ؛ لأَِنَّ سَلاَمَتَهُ غَيْرُ مُتَيَقَّنَةٍ، وَالأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ (3) .
وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 369، وجواهر الإكليل 2 / 269، ومغني المحتاج 4 / 63، المغني لابن قدامة 8 / 16.
(2) ابن عابدين 5 / 356، ومغني المحتاج 4 / 62، 63، والمغني 8 / 19.
(3) مغني المحتاج 4 / 63.(21/66)
ج - دِيَةُ الذَّكَرِ وَالْحَشَفَةِ:
38 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي قَطْعِ تَمَامِ الْحَشَفَةِ (رَأْسِ الذَّكَرِ) كَمَا تَجِبُ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ مِنْ أَصْلِهِ (1) ؛ لأَِنَّ مُعْظَمَ مَنَافِعِ الذَّكَرِ مِنْ لَذَّةِ الْمُبَاشَرَةِ، وَأَحْكَامِ الْوَطْءِ، وَالإِْيلاَدِ، وَاسْتِمْسَاكِ الْبَوْل وَنَحْوِهَا تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَالْحَشَفَةُ أَصْلٌ فِي مَنْفَعَةِ الإِْيلاَجِ وَالدَّفْقِ، وَالْقَصَبَةُ كَالتَّابِعِ لَهَا.
وَإِذَا قُطِعَ بَعْضُ الْحَشَفَةِ فَفِيهِ بِحِسَابِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَيُقَاسُ مِنَ الْحَشَفَةِ لاَ مِنْ أَصْل الذَّكَرِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ بِقِسْطِهِ مِنْ كُل الذَّكَرِ؛ لأَِنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِكَمَال الدِّيَةِ (2) . قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَهَذَا إِذَا لَمْ يَخْتَل مَجْرَى الْبَوْل، فَإِنِ اخْتَل وَلَمْ يَنْقَطِعِ الْبَوْل فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الأَْمْرَيْنِ مِنْ قِسْطِ الدِّيَةِ وَحُكُومَةِ فَسَادِ الْمَجْرَى (3) . أَمَّا إِذَا انْقَطَعَ الْبَوْل وَفَسَدَ مَسْلَكُهُ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي ذَكَرِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالشَّيْخِ وَالشَّابِّ عَلَى السَّوَاءِ، سَوَاءٌ أَقَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ أَمْ لَمْ يَقْدِرْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِعُمُومِ مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِهْل الْيَمَنِ وَفِي الذَّكَرِ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 268، وابن عابدين 5 / 369، ومغني المحتاج 4 / 67، والمغني 8 / 32.
(2) مغني المحتاج 4 / 67، والمغني 8 / 34.
(3) نفس المرجع.(21/67)
الدِّيَةُ (1) ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّغِيرِ: إِنْ عُلِمَتْ صِحَّتُهُ بِحَرَكَةٍ لِلْبَوْل وَنَحْوِهِ فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ صِحَّتُهُ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ (2) .
أَمَّا ذَكَرُ الْعِنِّينِ وَالْخَصِيِّ فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ تَجِبُ فِيهِمَا الدِّيَةُ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ (3) وَلأَِنَّ ذَكَرَ الْخَصِيِّ سَلِيمٌ قَادِرٌ عَلَى الإِْيلاَجِ وَإِنَّمَا الْفَائِتُ الإِْيلاَدُ، وَالْعُنَّةُ عَيْبٌ فِي غَيْرِ الذَّكَرِ؛ لأَِنَّ الشَّهْوَةَ فِي الْقَلْبِ وَالْمَنِيَّ فِي الصُّلْبِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ تَكْمُل دِيَتُهُمَا لأَِنَّ مَنْفَعَتَهُ الإِْنْزَال وَالإِْحْبَال وَالْجِمَاعُ وَقَدْ عُدِمَ ذَلِكَ فِيهِمَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَال، فَلَمْ تَكْمُل دِيَتُهُمَا، وَإِذَا لَمْ تَجِبْ فِيهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ تَجِبُ فِيهِمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ (4) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فِي الْعِنِّينِ وَالْخَصِيِّ فَقَالُوا: إِذَا كَانَ مُعْتَرِضًا عَنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: لُزُومُ الدِّيَةِ، وَقِيل حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَرِضًا عَنْ بَعْضِ النِّسَاءِ فَفِيهِ الدِّيَةُ اتِّفَاقًا عِنْدَهُمْ (5) .
__________
(1) الحديث: " وفي الذكر الدية. . . " تقدم من حديث عمرو بن حزم ف / 7.
(2) اللباب شرح الكتاب 2 / 46، والبدائع 7 / 311، وابن عابدين 5 / 374، وجواهر الإكليل 2 / 268، والروضة 9 / 287، والمغني 8 / 33، 34.
(3) مغني المحتاج 4 / 67، والروضة 9 / 287، والمغني لابن قدامة 8 / 33، والبجيرمي على الخطيب 4 / 26.
(4) المراجع السابقة وابن عابدين 5 / 356.
(5) جواهر الإكليل 2 / 268، والمواق 6 / 261.(21/67)
د - دِيَةُ الصُّلْبِ:
39 - صُلْبُ الرَّجُل إِذَا انْكَسَرَ وَذَهَبَ مَشْيُهُ أَوْ جِمَاعُهُ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ. وَكَذَلِكَ إِذَا انْكَسَرَ وَاحْدَوْدَبَ وَانْقَطَعَ الْمَاءُ، فَلَمْ يَنْجَبِرْ وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ جِمَاعُهُ وَلاَ مَشْيُهُ؛ لِمَا وَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ (1) ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَال: " مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ فِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ "؛ وَلأَِنَّهُ عُضْوٌ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُ، وَفِيهِ جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ، فَوَجَبَتْ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَالأَْنْفِ (2) .
وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ الْقَوْل بِوُجُوبِ الدِّيَةِ فِي كَسْرِ الصُّلْبِ وَإِنْ لَمْ تَذْهَبْ مَنَافِعُهُ مِنَ الْمَشْيِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْجِمَاعِ، وَلَمْ يَنْقَطِعِ الْمَاءُ (3) .
هـ - دِيَةُ إِتْلاَفِ مَسْلَكِ الْبَوْل وَمَسْلَكِ الْغَائِطِ:
40 - تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي إِتْلاَفِ مَسْلَكِ الْبَوْل وَمَسْلَكِ الْغَائِطِ، وَفِي إِفْضَاءِ الْمَرْأَةِ مِنْ قِبَل الزَّوْجِ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ رَفْعُ مَا بَيْنَ مَدْخَل ذَكَرٍ وَدُبُرٍ، فَيَصِيرُ مَسْلَكُ جِمَاعِهَا وَغَائِطِهَا وَاحِدًا. وَقِيل: الإِْفْضَاءُ رَفْعُ مَا بَيْنَ مَدْخَل ذَكَرٍ وَمَخْرَجِ بَوْلٍ، فَيَصِيرُ سَبِيل جِمَاعِهَا وَبَوْلِهَا وَاحِدًا، وَفِي
__________
(1) حديث: " وفي الصلب الدية " تقدم من حديث عمرو بن حزم ف / 7.
(2) البدائع 7 / 311، وجواهر الإكليل 2 / 268، والروضة 9 / 302، والمغني 8 / 32، ومغني المحتاج 4 / 74، والاختيار 5 / 37.
(3) المغني 8 / 32.(21/68)
هَذِهِ الْحَالَةِ تَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِذْ بِهِ تَفُوتُ الْمَنْفَعَةُ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لأَِنَّهُ يَمْنَعُهَا مِنَ اللَّذَّةِ، وَلاَ تُمْسِكُ الْوَلَدَ وَلاَ الْبَوْل إِلَى الْخَلاَءِ؛ وَلأَِنَّ مُصِيبَتَهَا أَعْظَمُ مِنَ الْمُصَابَةِ بِالشُّفْرَيْنِ، كَمَا عَلَّلَهُ ابْنُ شَعْبَانَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ فِي الإِْفْضَاءِ حُكُومَةُ عَدْلٍ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: فِي الإِْفْضَاءِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِيهِ بِذَلِكَ،
وَقَالُوا: إِنِ اسْتَطْلَقَ بَوْلُهَا مَعَ الإِْفْضَاءِ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ (3) .
ثَانِيًا - الأَْعْضَاءُ الَّتِي فِي الْبَدَنِ مِنْهَا اثْنَانِ:
الأُْذُنَانِ:
41 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) إِلَى أَنَّ فِي اسْتِيصَال الأُْذُنَيْنِ قَلْعًا أَوْ قَطْعًا كَمَال الدِّيَةِ، وَفِي قَلْعِ أَوْ قَطْعِ إِحْدَاهُمَا نِصْفَهَا
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ
__________
(1) البدائع 7 / 311، والدسوقي 4 / 277، 278، ومغني المحتاج 4 / 74، 75، والمغني 8 / 51.
(2) الدسوقي مع الشرح الكبير للدردير 4 / 277.
(3) المغني 8 / 51.(21/68)
وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَذَلِكَ لِخَبَرِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: فِي الأُْذُنِ خَمْسُونَ مِنَ الإِْبِل (1) وَلأَِنَّهُمَا عُضْوَانِ فِيهِمَا جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ، وَفِي قَلْعِهِمَا أَوْ قَطْعِهِمَا تَفْوِيتُ الْجَمَال عَلَى الْكَمَال، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ،
وَسَوَاءٌ أَذْهَبَ السَّمْعَ أَمْ لَمْ يُذْهِبْ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ سَمِيعًا أَمْ أَصَمَّ؛ لأَِنَّ الصَّمَمَ نَقْصٌ فِي غَيْرِ الأُْذُنِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي دِيَتِهِمَا (2) .
وَفِي وَجْهٍ أَوْ قَوْلٍ مُخَرَّجٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تَجِبُ فِي الأُْذُنَيْنِ حُكُومَةُ عَدْلٍ إِلاَّ إِذَا ذَهَبَ السَّمْعُ فَفِيهِ دِيَةٌ اتِّفَاقًا. وَثَالِثُ الأَْقْوَال عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: هُوَ أَنَّ فِي الأُْذُنَيْنِ حُكُومَةً مُطْلَقًا. قَال الْمَوَّاقُ: وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ (3) .
الْعَيْنَانِ:
42 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ فِي قَطْعِ أَوْ فَقْءِ الْعَيْنَيْنِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَيْنُ كَبِيرَةً أَمْ صَغِيرَةً، صَحِيحَةً أَمْ مَرِيضَةً، سَلِيمَةً أَمْ حَوْلاَءَ، وَذَلِكَ لِقَوْل
__________
(1) حديث: " وفي الأذن خمسون " أخرج هذا الشطر الدارقطني (3 / 209 - ط دار المحاسن) ، وهو شطر من حديث عمرو بن حزم. ف / 7.
(2) الزيلعي 6 / 129، والتاج والإكليل 6 / 261، وروضة الطالبين 9 / 272، ومغني المحتاج 4 / 61، والمغني 8 / 8، 9
(3) المراجع السابقة.(21/69)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ (1) .
وَلأَِنَّ فِي تَفْوِيتِ الاِثْنَيْنِ مِنْهُمَا تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ أَوِ الْجَمَال عَلَى الْكَمَال، فَيَجِبُ فِيهِ كَمَال الدِّيَةِ، وَفِي تَفْوِيتِ أَحَدِهِمَا تَفْوِيتُ النِّصْفِ، فَيَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ (2) .
هَذَا فِي الْعُيُونِ الْمُبْصِرَةِ، أَمَّا الْعَيْنُ الْعَوْرَاءُ فَلاَ دِيَةَ فِي قِلْعِهَا بَل تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ (3) .
وَاخْتَلَفُوا فِي قَلْعِ الْعَيْنِ السَّلِيمَةِ مِنَ الأَْعْوَرِ.
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَجِبُ فِي قَلْعِ عَيْنِ الأَْعْوَرِ السَّلِيمَةِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَبِهِ قَال الزُّهْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَقَتَادَةُ وَإِسْحَاقُ؛ لأَِنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَضَوْا فِي عَيْنِ الأَْعْوَرِ بِالدِّيَةِ، وَلَمْ نَعْلَمْ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا وَلأَِنَّ قَلْعَ عَيْنِ الأَْعْوَرِ يَتَضَمَّنُ إِذْهَابَ الْبَصَرِ كُلِّهِ، فَوَجَبَتِ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، كَمَا لَوْ أَذْهَبَهُ مِنَ الْعَيْنَيْنِ؛ لأَِنَّ السَّلِيمَةَ الَّتِي عَطَّلَهَا بِمَنْزِلَةِ عَيْنَيْ غَيْرِهِ (4) .
__________
(1) حديث: " وفي العينين الدية " تقدم من حديث عمرو بن حزم ف / 7.
(2) ابن عابدين 5 / 370 وما بعدها، والتاج والإكليل على هامش الحطاب 6 / 261، ومغني المحتاج 4 / 61، والمغني لابن قدامة 8 / 2 - 5.
(3) نفس المراجع.
(4) المواق على هامش الحطاب 6 / 261، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 / 272، ونهاية المحتاج 7 / 309، والخرشي 8 / 36، والمغني لابن قدامة 8 / 2 - 5.(21/69)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْل مَسْرُوقٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ: إِذَا قَلَعَ عَيْنَ الأَْعْوَرِ الأُْخْرَى فَفِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ مِنَ الإِْبِل (1)
وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ (2) يَقْتَضِي أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا قُلِعَتْ عَيْنُ شَخْصٍ وَوَجَبَتْ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ ثُمَّ قُلِعَتِ الثَّانِيَةُ، فَقَالِعُ الثَّانِيَةِ قَالِعُ عَيْنِ أَعْوَرَ، فَلَوْ وَجَبَتْ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ لَوَجَبَ فِيهِمَا دِيَةٌ وَنِصْفُ دِيَةٍ (3) .
الْيَدَانِ:
43 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ وَوُجُوبِ نِصْفِهَا فِي قَطْعِ إِحْدَاهُمَا؛ لِمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ مِنَ الإِْبِل (4) ؛ وَلأَِنَّ فِيهِمَا جَمَالاً ظَاهِرًا وَمَنْفَعَةً كَامِلَةً، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ
__________
(1) حديث: " في العين خمسون من الإبل " أخرجه الدارقطني (3 / 209 - ط دار المحاسن) ضمن حديث عمرو بن حزم ف / 7.
(2) حديث: " وفي العينين الدية " تقدم من حديث عمرو بن حزم ف / 7.
(3) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 5 / 370، وروضة الطالبين 9 / 272، ونهاية المحتاج 7 / 309، ومغني المحتاج 4 / 61، 62.
(4) حديث: " وفي اليد خمسون من الإبل ". تقدم. ف / 7.(21/70)
مِنْ جِنْسِهِمَا غَيْرُهُمَا، فَكَانَ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَالْعَيْنَيْنِ (1) .
وَيَجِبُ فِي قَطْعِ الْكَفِّ تَحْتَ الرُّسْغِ مَا يَجِبُ فِي الأَْصَابِعِ عَلَى مَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي الأَْصَابِعِ: فِي كُل أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنَ الإِْبِل (2) مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إِذَا قُطِعَتِ الأَْصَابِعُ وَحْدَهَا أَوْ قُطِعَتِ الْكَفُّ الَّتِي فِيهَا الأَْصَابِعُ (3) . وَهَذَا فِي الْيَدِ السَّلِيمَةِ، أَمَّا الْيَدُ الشَّلاَّءُ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ دِيَةَ فِي قَطْعِهَا بَل فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا مِنْ قَبْل، فَلَمْ تَفُتِ الْمَنْفَعَةُ بِالْقَطْعِ، وَلاَ تَقْدِيرَ فِيهَا، فَتَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ (4) .
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ فِي الْيَدِ الشَّلاَّءِ ثُلُثَ دِيَتِهَا (5) ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَدِ الشَّلاَّءِ إِذَا قُطِعَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا (6) ، وَحَدُّ الْيَدِ
__________
(1) البدائع 7 / 311، والتاج والإكليل 6 / 261، والروضة 9 / 282، والمغني لابن قدامة 8 / 27.
(2) حديث: " في كل أصبع عشر من الإبل " تقدم من حديث عمرو بن حزم. ف / 7.
(3) البدائع 7 / 314.
(4) الاختيار 5 / 40، والدسوقي 4 / 277، والمغني 8 / 39، وكشاف القناع 6 / 50.
(5) المغني لابن قدامة 8 / 9، 40.
(6) حديث: " قضى في اليد الشلاء إذا قطعت. . . " أخرجه النسائي (8 / 55 - ط المكتبة التجارية) ، والراوي عن عمرو بن شعيب وهو العلاء بن الحارث فيه مقال كما في ترجمته من التهذيب لابن حجر (8 / 177 - ط دائرة المعارف العثمانية) .(21/70)
الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ مِنَ الرُّسْغِ أَوِ الْكُوعِ؛ لأَِنَّ اسْمَ الْيَدِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ، بِدَلِيل أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (1) } وَالْوَاجِبُ قَطْعُهُمَا مِنَ الْكُوعِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا قَطَعَ مَا فَوْقَ الْكُوعِ أَيْ: مِنْ بَعْضِ السَّاعِدِ أَوِ الْمِرْفَقِ أَوِ الْمَنْكِبِ: فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ قَطَعَهَا مَعَ نِصْفِ السَّاعِدِ أَوْ مِنَ الْمِرْفَقِ أَوِ الْمَنْكِبِ فَفِي الْكَفِّ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الزِّيَادَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ لِلْكَفِّ (2) . وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنَّ مَا زَادَ عَلَى أَصَابِعِ الْيَدِ فَهُوَ تَبَعٌ لِلأَْصَابِعِ إِلَى الْمَنْكِبِ، فَإِنْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ فَوْقِ الْكُوعِ مِثْل أَنْ يَقْطَعَهَا مِنَ الْمِرْفَقِ أَوْ نِصْفِ السَّاعِدِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأَِنَّ الْيَدَ اسْمٌ لِلْجَمِيعِ إِلَى الْمَنْكِبِ بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ (3) } وَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ مَسَحَ الصَّحَابَةُ إِلَى الْمَنَاكِبِ، وَقَال ثَعْلَبٌ: الْيَدُ إِلَى الْمَنْكِبِ، وَفِي عُرْفِ النَّاسِ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ
__________
(1) سورة المائدة / 38.
(2) الهداية مع الفتح 8 / 315، والروضة 9 / 282.
(3) سورة المائدة / 6.(21/71)
يُسَمَّى يَدًا، فَإِذَا قَطَعَهَا مِنْ فَوْقِ الْكُوعِ فَمَا قَطَعَ إِلاَّ يَدًا وَاحِدَةً، وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ فِي الْيَدِ الْوَاحِدَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ فَلاَ يُزَادُ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْعِ (1) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: فِي الْيَدَيْنِ سَوَاءٌ مِنَ الْمَنْكِبِ أَوِ الْمِرْفَقِ أَوِ الْكُوعِ دِيَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي الأَْصَابِعِ، وَأَمَّا إِنْ قَطَعَ الأَْصَابِعَ أَوْ مَعَ الْكَفِّ فَأُخِذَتِ الدِّيَةُ ثُمَّ حَصَلَتْ جِنَايَةٌ عَلَيْهَا بَعْدَ إِزَالَةِ الأَْصَابِعِ فَحُكُومَةٌ، سَوَاءٌ أَقْطَعَ الْيَدَ مِنَ الْكُوعِ، أَمِ الْمِرْفَقِ، أَمِ الْمَنْكِبِ (2) .
وَسَيَأْتِي تَفْصِيل دِيَةِ الأَْصَابِعِ فِي مَوْضِعِهَا.
الأُْنْثَيَانِ:
44 - الأُْنْثَيَانِ وَالْبَيْضَتَانِ فِي قَطْعِهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ (3) ، وَلأَِنَّ فِيهِمَا الْجَمَال وَالْمَنْفَعَةَ، فَإِنَّ النَّسْل يَكُونُ بِهِمَا بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَال: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الصُّلْبِ الدِّيَةَ، وَفِي الأُْنْثَيَيْنِ الدِّيَةَ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ.
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الْيُسْرَى وَالْيُمْنَى فَتَجِبُ فِي كُل
__________
(1) الهداية مع الفتح 8 / 315، والمغني 8 / 28.
(2) الزرقاني 8 / 37، والدسوقي 4 / 273.
(3) حديث: " وفي البيضتين الدية " تقدم من حديث عمرو بن حزم. ف / 7.(21/71)
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ (1) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الأُْنْثَيَيْنِ وَالذَّكَرَ مَعًا تَجِبُ دِيَتَانِ. وَكَذَا لَوْ قَطَعَ الذَّكَرَ ثُمَّ قَطَعَ الأُْنْثَيَيْنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2)) . أَمَّا إِذَا قَطَعَ أُنْثَيَيْهِ ثُمَّ قَطَعَ ذَكَرَهُ فَفِيهِ دِيَةٌ لِلأُْنْثَيَيْنِ، وَحُكُومَةٌ لِلذَّكَرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الذَّكَرِ قَبْل قَطْعِهِ، فَهُوَ ذَكَرُ خَصِيٍّ (3) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَجِبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دِيَتَانِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ فِي قَطْعِ ذَكَرِ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ (4) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ قُطِعَتِ الأُْنْثَيَانِ مَعَ الذَّكَرِ فَفِي ذَلِكَ دِيَتَانِ، وَإِنْ قُطِعَتَا قَبْل الذَّكَرِ أَوْ بَعْدَهُ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَإِنْ قُطِعَ الذَّكَرُ قَبْلَهُمَا أَوْ بَعْدَهُمَا فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَمَنْ لاَ ذَكَرَ لَهُ فَفِي أُنْثَيَيْهِ الدِّيَةُ، وَمَنْ لاَ أُنْثَيَيْنِ لَهُ فَفِي ذَكَرِهِ الدِّيَةُ (5) .
(
__________
(1) الهداية مع الفتح 8 / 310، ومواهب الجليل 6 / 261، ومغني المحتاج 4 / 67، والمغني لابن قدامة 8 / 34، وكشاف القناع 6 / 49.
(2) ابن عابدين 5 / 370، والتاج والإكليل 6 / 261، ومغني المحتاج 4 / 67، والمغني 8 / 33، 34، وكشاف القناع 6 / 49.
(3) ابن عابدين 5 / 370، والمغني 8 / 34، وكشاف القناع 6 / 49.
(4) مغني المحتاج 4 / 67، والروضة 9 / 287، والمغني 8 / 33.
(5) المواق على هامش الحطاب 6 / 261.(21/72)
اللَّحْيَانِ:
45 - اللَّحْيَانِ هُمَا الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ تَنْبُتُ عَلَيْهِمَا الأَْسْنَانُ السُّفْلَى، وَمُلْتَقَاهُمَا الذَّقَنُ، وَقَدْ صَرَّحَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ فِي اللَّحْيَيْنِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ كَالأُْذُنَيْنِ.
وَعَلَّلُوا وُجُوبَ الدِّيَةِ فِيهِمَا بِأَنَّ فِيهِمَا جَمَالاً وَمَنْفَعَةً، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُمَا فَكَانَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَسَائِرِ مَا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ شَيْئَانِ، وَإِنْ قَلَعَهُمَا بِمَا عَلَيْهِمَا مِنْ أَسْنَانٍ وَجَبَتْ دِيَتُهُمَا وَدِيَةُ الأَْسْنَانِ، وَلَمْ تَدْخُل دِيَةُ الأَْسْنَانِ فِي دِيَتِهِمَا، بِخِلاَفِ دِيَةِ الأَْصَابِعِ فَإِنَّهَا تَدْخُل فِي دِيَةِ الْيَدِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ اللَّحْيَيْنِ يُوجَدَانِ قَبْل وُجُودِ الأَْسْنَانِ فِي الْخِلْقَةِ وَيَبْقَيَانِ بَعْدَ ذَهَابِهَا فِي حَقِّ الْكَبِيرِ، وَإِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ اللَّحْيَيْنِ وَالأَْسْنَانِ يَنْفَرِدُ بِاسْمِهِ، وَلاَ يَدْخُل أَحَدُهُمَا فِي اسْمِ الآْخَرِ، بِخِلاَفِ الأَْصَابِعِ وَالْكَفِّ، فَإِنَّ اسْمَ الْيَدِ يَشْمَلُهُمَا، وَأَنَّ الأَْسْنَانَ مَغْرُوزَةٌ فِي اللَّحْيَيْنِ وَلاَ تُعْتَبَرُ جُزْءًا مِنْهُمَا بِخِلاَفِ الْكَفِّ مَعَ الأَْصَابِعِ؛ لأَِنَّهُمَا كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ (1) .
وَاسْتَشْكَل الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِيجَابَ الدِّيَةِ فِي اللَّحْيَيْنِ بِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِمَا خَبَرٌ، وَالْقِيَاسُ لاَ يَقْتَضِيهِ؛ لأَِنَّهُمَا مِنَ الْعِظَامِ الدَّاخِلَةِ فَيُشْبِهَانِ التَّرْقُوَةَ وَالضِّلْعَ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لاَ دِيَةَ فِي السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ وَالسَّاقِ وَالْفَخِذِ، وَهِيَ عِظَامٌ فِيهَا جَمَالٌ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 65، والبجيرمي 4 / 154، والمغني 8 / 27.(21/72)
وَمَنْفَعَةٌ (1) .
وَقَال الزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ اللَّحْيَيْنِ مِنَ الْوَجْهِ فَيَتَحَقَّقُ الشِّجَاجُ فِيهِمَا، فَيَجِبُ فِيهِمَا مُوجِبُهَا خِلاَفًا لِمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الْوَجْهِ؛ لأَِنَّ الْمُوَاجَهَةَ لاَ تَقَعُ بِهِمَا (2) .
وَلَمْ نَعْثُرْ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ.
الثَّدْيَانِ:
46 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ فِي قَطْعِ ثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي الْوَاحِدِ مِنْهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي ثَدْيِ الْمَرْأَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَفِي الثَّدْيَيْنِ الدِّيَةَ، وَلأَِنَّ فِيهِمَا جَمَالاً وَمَنْفَعَةً فَأَشْبَهَا الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ (3) .
كَذَلِكَ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي قَطْعِ حَلَمَتَيِ (4) الثَّدْيَيْنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ؛ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ الْكَامِلَةَ وَجَمَال الثَّدْيِ بِهِمَا كَمَنْفَعَةِ الْيَدَيْنِ وَجَمَالِهِمَا
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 65، والمغني 8 / 27.
(2) الزيلعي 6 / 132.
(3) البدائع 7 / 311، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 4 / 273، ومغني المحتاج 4 / 66، والمغني 8 / 30.
(4) الحلمة هي المجتمع الناتئ على رأس الثدي.(21/73)
بِالأَْصَابِعِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي حَلَمَتَيْهِمَا إِذَا بَطَل اللَّبَنُ أَوْ فَسَدَ، وَإِلاَّ وَجَبَتْ حُكُومَةٌ بِقَدْرِ الشَّيْنِ. قَالُوا: وَكَذَا تَلْزَمُ الدِّيَةُ كَامِلَةً إِنْ بَطَل اللَّبَنُ أَوْ فَسَدَ مِنْ غَيْرِ قَطْعِ الْحَلَمَتَيْنِ، فَالدِّيَةُ عِنْدَهُمْ لِفَسَادِ اللَّبَنِ لاَ لِقَطْعِ الْحَلَمَتَيْنِ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَظْهَرَ ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ فِي قَطْعِ حَلَمَتَيِ الْعَجُوزِ حُكُومَةً كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ (2) .
وَهَذَا فِي ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَمَّا ثَدْيَا الرَّجُل فَفِيهِمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (3)) إِذْ لَيْسَ فِيهِمَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، بَل مُجَرَّدُ جَمَالٍ،
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَجِبُ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ (4) .
الأَْلْيَتَانِ:
47 - الأَْلْيَتَانِ هُمَا مَا عَلاَ وَأَشْرَفَ مِنْ أَسْفَل الظَّهْرِ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْفَخِذَيْنِ، وَفِيهِمَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ إِذَا أُخِذَتَا إِلَى الْعَظْمِ الَّذِي تَحْتَهُمَا، وَفِي كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْجَمَال وَالْمَنْفَعَةِ فِي الرُّكُوبِ
__________
(1) البدائع 7 / 311، والزيلعي 6 / 131، والمغني 8 / 30، ومغني المحتاج 4 / 66.
(2) الدسوقي مع الشرح الكبير للدردير 4 / 273.
(3) الزيلعي 6 / 131، والبدائع 7 / 311، والدسوقي 4 / 273، ومغني المحتاج 4 / 66.
(4) المغني 8 / 31، ومغني المحتاج 4 / 66.(21/73)
وَالْقُعُودِ. وَهَذَا إِذَا أُخِذَتَا إِلَى الْعَظْمِ وَاسْتُؤْصِل لَحْمُهُمَا حَتَّى لاَ يَبْقَى عَلَى الْوَرِكِ لَحْمٌ. أَمَّا بَعْضُ اللَّحْمِ فَإِذَا عُرِفَ قَدْرُهُ فَبِقِسْطِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِلاَّ فَالْحُكُومَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَالُوا: لاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فِي أَلْيَتَيِ الرَّجُل حُكُومَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي أَلْيَتَيِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ. وَقَال أَشْهَبُ: فِيهِمَا الدِّيَةُ؛ لأَِنَّهُمَا أَعْظَمُ عَلَيْهَا مِنْ ثَدْيَيْهَا (2) .
الرِّجْلاَنِ:
48 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي قَطْعِ الرِّجْلَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، وَأَنَّ فِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ وَحَدُّ الْقَطْعِ هُنَا هُوَ مَفْصِل الْكَعْبَيْنِ.
وَالْخِلاَفُ فِيمَا إِذَا قُطِعَ أَكْثَرُ مِنَ الْكَعْبَيْنِ إِلَى أَصْل الْفَخِذِ مِنَ الْوَرِكِ أَوِ الرُّكْبَةِ، كَالْخِلاَفِ فِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ فَوْقَ الْكُوعَيْنِ فِي وُجُوبِ حُكُومَةِ عَدْلٍ مَعَ الدِّيَةِ أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ (ر: ف 43) ، وَرِجْل الأَْعْرَجِ كَرِجْل الصَّحِيحِ، كَمَا أَنَّ يَدَ الأَْعْسَمِ كَيَدِ الصَّحِيحِ (3) .
(
__________
(1) الاختيار 5 / 38، ومغني المحتاج 4 / 67، والمغني لابن قدامة 8 / 31.
(2) الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 277.
(3) الهداية مع الفتح 8 / 315، وجواهر الإكليل 2 / 268، والروضة 9 / 285، والمغني 8 / 35، والعسم يبس في المرفق والرسغ تعوج منه اليد والقدم، اللسان - مادة: " عسم ".(21/74)
الشَّفَتَانِ:
49 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ الشَّفَتَيْنِ دِيَةً كَامِلَةً؛ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ (1) وَلأَِنَّهُمَا عُضْوَانِ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُمَا، فِيهِمَا جَمَالٌ ظَاهِرٌ وَمَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، فَإِنَّهُمَا طَبَقٌ عَلَى الْفَمِ تَقِيَانِ مَا يُؤْذِيهِ، وَيَسْتُرَانِ الأَْسْنَانَ، وَيَرُدَّانِ الرِّيقَ، وَيُنْفَخُ بِهِمَا، وَيَتِمُّ بِهِمَا الْكَلاَمُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، فَتَجِبُ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ فِي كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، يَجِبُ فِي الشَّفَةِ الْعُلْيَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي السُّفْلَى الثُّلُثَانِ، وَبِهِ قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيُّ؛ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ بِهَا أَعْظَمُ؛ لأَِنَّهَا هِيَ الَّتِي تَدُورُ وَتَتَحَرَّكُ، وَتَحْفَظُ الرِّيقَ، وَالطَّعَامَ، وَالْعُلْيَا سَاكِنَةٌ (2) .
الْحَاجِبَانِ وَاللِّحْيَةُ وَقَرَعُ الرَّأْسِ:
50 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِي إِتْلاَفِ
__________
(1) حديث: " وفي الشفتين الدية " تقدم تخريجه ف / 7.
(2) تبيين الحقائق على كنز الدقائق للزيلعي 6 / 129، وروضة الطالبين 9 / 274، ومغني المحتاج 4 / 62، والمغني لابن قدامة 8 / 14.(21/74)
شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ إِذَا لَمْ يَنْبُتَا الدِّيَةَ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ فِي شَعْرِ اللِّحْيَةِ إِذَا لَمْ يَنْبُتِ الدِّيَةُ، وَهَذَا قَوْل سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ لأَِنَّ فِيهِ إِذْهَابَ الْجَمَال عَلَى الْكَمَال، وَفِيهِ إِذْهَابَ مَنْفَعَةٍ، فَإِنَّ الْحَاجِبَ يَرُدُّ الْعَرَقَ عَنِ الْعَيْنِ وَيُفَرِّقُهُ، وَهُدْبُ الْعَيْنِ يَرُدُّ عَنْهَا وَيَصُونُهَا (1) .
وَأَمَّا اللِّحْيَةُ فَلأَِنَّ فِيهَا جَمَالاً كَامِلاً؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ مَلاَئِكَةَ سَمَاءِ الدُّنْيَا تَقُول: سُبْحَانَ مَنْ زَيَّنَ الرِّجَال بِاللِّحَى وَالنِّسَاءَ بِالذَّوَائِبِ (2) .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْجَبَ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ إِذَا حُلِقَ فَلَمْ يَنْبُتْ دِيَةً كَامِلَةً.
وَنَقَل الْمُوصِلِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ قَوْلَهُ: إِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي اللِّحْيَةِ إِذَا كَانَتْ كَامِلَةً يَتَجَمَّل بِهَا. أَمَّا إِذَا كَانَتْ طَاقَاتٍ مُتَفَرِّقَةً لاَ يَتَجَمَّل بِهَا فَلاَ شَيْءَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَفَرِّقَةٍ وَلاَ يَتَجَمَّل بِهَا وَلَيْسَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْهَا مِمَّا تَشِينُهَا فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ (3) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ
__________
(1) البدائع 7 / 311، والاختيار 5 / 38، 39، المغني لابن قدامة 8 / 10، 11.
(2) حديث: " ملائكة سماء الدنيا " أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (4 / 157 - ط دار الكتب العلمية) .
(3) الاختيار 5 / 39.(21/75)
هَذِهِ الشُّعُورِ إِلاَّ بِذَهَابِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يُرْجَى عَوْدُهُ مِثْل أَنْ يَقْلِبَ عَلَى رَأْسِهِ مَاءً حَارًّا فَيَتْلَفَ مَنْبَتُ الشَّعْرِ، فَيَنْقَلِعَ بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لاَ يَعُودُ، وَإِنْ رُجِيَ عَوْدُهُ إِلَى مُدَّةٍ انْتُظِرَ إِلَيْهَا (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجِبُ فِي إِتْلاَفِ الشُّعُورِ غَيْرُ الْحُكُومَةِ؛ لأَِنَّهُ إِتْلاَفُ جَمَالٍ مِنْ غَيْرِ الْمَنْفَعَةِ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ غَيْرُ الْحُكُومَةِ، كَإِتْلاَفِ الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ وَالْيَدِ الشَّلاَّءِ (2) .
الشُّفْرَانِ:
51 - الشُّفْرَانِ بِالضَّمِّ هُمَا اللَّحْمَانِ الْمُحِيطَانِ بِفَرْجِ الْمَرْأَةِ الْمُغَطِّيَانِ لَهُ، وَفِي قَطْعِهِمَا أَوْ إِتْلاَفِهِمَا إِنْ بَدَا الْعَظْمُ مِنْ فَرْجِهَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَفِي إِتْلاَفِ أَوْ قَطْعِ أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِي شُفْرَيِ الْمَرْأَةِ بِالدِّيَةِ. وَلأَِنَّ فِيهِمَا جَمَالاً وَمَنْفَعَةً مَقْصُودَةً، إِذْ بِهِمَا يَقَعُ الاِلْتِذَاذُ بِالْجِمَاعِ (3) . وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنِ الرَّتْقَاءِ وَالْقَرْنَاءِ وَغَيْرِهِمَا، وَلاَ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ،
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 10، 11.
(2) الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 269، والمهذب 2 / 208.
(3) الدسوقي مع الشرح الكبير للدردير 4 / 268، ومغني المحتاج للخطيب الشربيني 4 / 67، والمغني لابن قدامة 8 / 41 ط. الرياض، والخرشي 8 / 45.(21/75)
وَالْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَلَمْ نَجِدْ فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ كَلاَمًا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ.
الأَْعْضَاءُ الَّتِي فِي الْبَدَنِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ:
أَشْفَارُ الْعَيْنَيْنِ وَأَهْدَابُهُمَا:
52 - الأَْشْفَارُ هِيَ حُرُوفُ الْعَيْنِ الَّتِي يَنْبُتُ عَلَيْهَا الشَّعْرُ، وَالشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَيْهَا هُوَ الْهُدْبُ (2) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ فِي قَطْعِ أَوْ قَلْعِ أَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ الأَْرْبَعَةِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي أَحَدِهَا رُبْعَ الدِّيَةِ، وَهَذَا إِذَا أُتْلِفَتْ بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لاَ يُرْجَى عَوْدُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْجَمَال عَلَى الْكَمَال، وَتَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ دَفْعُ الأَْذَى وَالْقَذَى عَنِ الْعَيْنِ، وَتَفْوِيتُ ذَلِكَ يُنْقصُ الْبَصَرَ، وَيُورِثُ الْعَمَى، فَإِذَا وَجَبَ فِي الْكُل الدِّيَةُ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَجَبَ فِي الْوَاحِدِ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ، وَفِي الاِثْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الثَّلاَثَةِ ثَلاَثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ.
وَلَوْ قَطَعَ أَوْ قَلَعَ الْجُفُونَ مَعَ الأَْهْدَابِ وَالأَْشْفَارِ تَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأَِنَّ الأَْشْفَارَ مَعَ الْجُفُونِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ كَالْمَارِنِ مَعَ الْقَصَبَةِ (3)
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 67، والمغني 8 / 41، 42.
(2) المصباح المنير.
(3) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 130، وبدائع الصنائع 7 / 311، 324، الاختيار 5 / 38، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 277، ومغني المحتاج 4 / 62، والمغني 8 / 7.(21/76)
وَلَوْ قَلَعَ أَوْ قَطَعَ الأَْهْدَابَ وَحْدَهَا دُونَ الأَْشْفَارِ، قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) : تَجِبُ فِيهَا دِيَةُ مِثْل قَطْعِ الأَْشْفَارِ؛ لأَِنَّ فِيهَا جَمَالاً وَنَفْعًا، فَإِنَّهَا تَقِي الْعَيْنَيْنِ وَتَرُدُّ عَنْهُمَا، وَتُجَمِّلُهُمَا تُحَسِّنُهُمَا، فَوَجَبَتْ فِيهَا الدِّيَةُ كَمَا تَجِبُ فِي حَلَمَتَيِ الثَّدْيِ وَالأَْصَابِعِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: فِي قَطْعِ الأَْهْدَابِ وَحْدَهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ كَسَائِرِ الشُّعُورِ؛ لأَِنَّ الْفَائِتَ بِقَطْعِهَا الزِّينَةُ وَالْجَمَال دُونَ الْمَقَاصِدِ الأَْصْلِيَّةِ وَهَذَا إِذَا فَسَدَ مَنْبَتُهَا، وَإِلاَّ فَالتَّعْزِيرُ (2) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: لاَ دِيَةَ فِي قَلْعِ أَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ، وَلاَ فِي أَهْدَابِهِمَا، بَل تَجِبُ فِيهِمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ مُطْلَقًا، قَال الْمَوَّاقُ نَقْلاً عَنِ الْمُدَوَّنَةِ: لَيْسَ فِي أَشْفَارِ الْعَيْنِ وَجُفُونِهَا إِلاَّ الاِجْتِهَادُ. أَيْ حُكُومَةُ عَدْلٍ (3) .
مَا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ عَشَرَةٌ:
أَصَابِعُ الْيَدَيْنِ وَأَصَابِعُ الرِّجْلَيْنِ:
53 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ أَوْ قَلْعِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ الْعَشَرَةِ دِيَةً كَامِلَةً، وَكَذَلِكَ فِي
__________
(1) الزيلعي 6 / 130، والاختيار 5 / 38، والمغني 8 / 7، 8.
(2) مغني المحتاج 4 / 62.
(3) التاج والإكليل على هامش الحطاب 6 / 263.(21/76)
قَطْعِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ، وَفِي قَطْعِ كُل أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ عُشْرُ الدِّيَةِ أَيْ عَشَرَةٌ مِنَ الإِْبِل؛ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي كُل أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْل عَشْرٌ مِنَ الإِْبِل (1) . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دِيَةُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عَشْرٌ مِنَ الإِْبِل لِكُل أُصْبُعٍ (2) وَلأَِنَّ فِي قَطْعِ الْكُل تَفْوِيتَ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ أَوِ الْمَشْيِ، فَتَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَأَصَابِعُ كُلٍّ مِنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عَشْرٌ، فَفِي كُل أُصْبُعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ، وَدِيَةُ كُل أُصْبُعٍ مَقْسُومَةٌ عَلَى أَنَامِلِهَا (سُلاَمِيَّاتِهَا) ، وَفِي كُل أُصْبُعٍ ثَلاَثُ أَنَامِل إِلاَّ الإِْبْهَامَ فَإِنَّهَا أُنْمُلَتَانِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَفِي كُل أُنْمُلَةٍ مِنَ الأَْصَابِعِ غَيْرِ الإِْبْهَامِ ثُلُثُ دِيَةِ الأُْصْبُعِ وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَبْعِرَةٍ وَثُلُثٌ، وَفِي الإِْبْهَامِ فِي كُل أُنْمُلَةٍ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ، وَالأَْصَابِعُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لإِِطْلاَقِ الْحَدِيثِ (3) .
أَمَّا الأُْصْبُعُ الزَّائِدَةُ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ عِنْدَ
__________
(1) حديث: " وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل " تقدم ف / 7.
(2) حديث: " دية أصابع اليدين والرجلين سواء، عشر من الإبل لكل أصبع " أخرجه الترمذي (4 / 13 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 131، وجواهر الإكليل 2 / 270، ومغني المحتاج 4 / 66، والمغني لابن قدامة 8 / 35، 36.(21/77)
جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) ؛ لِعَدَمِ وُرُودِ النَّصِّ فِيهَا، وَالتَّقْدِيرُ لاَ يُصَارُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِالتَّوْقِيفِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فِي إِتْلاَفِ الأُْصْبُعِ الزَّائِدَةِ فِي يَدٍ أَوْ رِجْلٍ إِذَا كَانَتْ قَوِيَّةً عَلَى التَّصَرُّفِ قُوَّةَ الأَْصَابِعِ الأَْصْلِيَّةِ عُشْرُ الدِّيَةِ إِنْ أُفْرِدَتْ بِالإِْتْلاَفِ، وَإِنْ قُطِعَتْ مَعَ الأَْصَابِعِ الأَْصْلِيَّةِ فَلاَ شَيْءَ فِيهَا (2) .
وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ فِيهَا ثُلُثَ دِيَةِ الأُْصْبُعِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى رِوَايَةِ إِيجَابِ الثُّلُثِ فِي الْيَدِ الشَّلاَّءِ (3) .
مَا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةٍ: دِيَةُ الأَْسْنَانِ:
54 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُل سِنٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَهُوَ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل أَوْ خَمْسُونَ دِينَارًا؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل (4) . وَالأَْسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لإِِطْلاَقِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: وَالأَْسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ وَلأَِنَّ
__________
(1) الزيلعي 6 / 131، ومغني المحتاج 4 / 66 وما بعدها، والمغني 8 / 36.
(2) جواهر الإكليل 2 / 270.
(3) المغني 8 / 36.
(4) حديث: " وفي السن خمس من الإبل " تقدم من حديث عمرو بن حزم. ف / 7.(21/77)
الْكُل فِي أَصْل الْمَنْفَعَةِ سَوَاءٌ، فَلاَ يُعْتَبَرُ التَّفَاوُتُ فِيهِ، كَالأَْيْدِي وَالأَْصَابِعِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا زِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ فَفِي الآْخَرِ زِيَادَةُ جَمَالٍ.
وَعَلَى ذَلِكَ تَزِيدُ دِيَةُ الأَْسْنَانِ كُلِّهَا عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ بِثَلاَثَةِ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ لَهُ اثْنَانِ وَثَلاَثُونَ سِنًّا، فَإِذَا وَجَبَ فِي الْوَاحِدَةِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ يَجِبُ فِي الْكُل مِائَةٌ وَسِتُّونَ مِنَ الإِْبِل (1) .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَزِيدُ عَلَى دِيَةٍ إِنْ اتَّحَدَ الْجَانِي وَاتَّحَدَتِ الْجِنَايَةُ، كَأَنْ أَسْقَطَهَا بِشُرْبِ دَوَاءٍ أَوْ بِضَرْبٍ أَوْ ضَرَبَاتٍ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّل انْدِمَالٍ؛ لأَِنَّ الأَْسْنَانَ جِنْسٌ مُتَعَدِّدٌ فَأَشْبَهَ الأَْصَابِعَ، فَإِنْ تَخَلَّل الاِنْدِمَال بَيْنَ كُل سِنٍّ وَأُخْرَى أَوْ تَعَدَّدَ الْجَانِي فَإِنَّهَا تَزِيدُ قَطْعًا (2) . وَهَذَا فِي قَلْعِ الأَْسْنَانِ الأَْصْلِيَّةِ الْمَثْغُورَةِ (الدَّائِمَةِ) . وَلَوْ ضَرَبَ أَسْنَانَ رَجُلٍ فَتَحَرَّكَتْ أَوْ تَغَيَّرَتْ إِلَى السَّوَادِ أَوِ الْحُمْرَةِ أَوِ الْخُضْرَةِ أَوْ نَحْوِهَا فَفِيهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ ضَرَبَ أَسْنَانَ رَجُلٍ وَتَحَرَّكَتْ يَنْتَظِرُ مُضِيَّ حَوْلٍ؛ لأَِنَّهُ مُدَّةٌ يَظْهَرُ فِيهَا حَقِيقَةُ حَالِهَا مِنَ السُّقُوطِ وَالتَّغَيُّرِ وَالثُّبُوتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَضْرُوبُ صَغِيرًا أَمْ كَبِيرًا، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ إِلَى
__________
(1) الزيلعي 6 / 131، وجواهر الإكليل 2 / 270، ومغني المحتاج 4 / 64، وكشاف القناع 6 / 42.
(2) مغني المحتاج 4 / 65.(21/78)
السَّوَادِ أَوْ إِلَى الْحُمْرَةِ أَوْ إِلَى الْخُضْرَةِ فَفِيهَا الأَْرْشُ تَامًّا؛ لأَِنَّهُ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا، وَذَهَابُ مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ كَذَهَابِ الْعُضْوِ، وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ إِلَى الصُّفْرَةِ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الأَْسْنَانِ بِقَلْعٍ أَوِ اسْوِدَادٍ أَوْ بِهِمَا، أَوْ بِحُمْرَةٍ بَعْدَ بَيَاضٍ، أَوْ بِصُفْرَةٍ إِنْ كَانَا عُرِفَا كَالسَّوَادِ فِي إِذْهَابِ الْجَمَال، وَإِلاَّ فَعَلَى حِسَابِ مَا نَقَصَ، كَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِاضْطِرَابِهَا جِدًّا بِحَيْثُ لاَ يُرْجَى ثُبُوتُهَا، وَفِي الاِضْطِرَابِ الْخَفِيفِ الأَْرْشُ بِقَدْرِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَكْمُل دِيَةُ السِّنِّ بِقَلْعِ كُل سِنٍّ أَصْلِيَّةٍ تَامَّةٍ مَثْغُورَةٍ غَيْرِ مُتَقَلْقِلَةٍ (3) .
فَلاَ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي السِّنِّ الشَّاغِيَةِ (4) ، وَتَجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ، وَلَوْ سَقَطَتْ سِنُّهُ فَاتَّخَذَ سِنًّا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ عَظْمٍ طَاهِرٍ فَلاَ دِيَةَ فِي قَلْعِهَا، وَإِنْ قُلِعَتْ قَبْل الاِلْتِحَامِ لَمْ تَجِبِ الْحُكُومَةُ لَكِنْ يُعَزَّرُ الْقَالِعُ، وَإِنْ قُلِعَتْ بَعْدَ تَشَبُّثِ اللَّحْمِ بِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا لِلْمَضْغِ وَالْقَطْعِ فَلاَ حُكُومَةَ أَيْضًا عَلَى الأَْظْهَرِ، وَتَكْمُل دِيَةُ السِّنِّ بِكَسْرِ مَا ظَهَرَ
__________
(1) البدائع للكاساني 7 / 315.
(2) جواهر الإكليل 2 / 270.
(3) الروضة 9 / 176.
(4) السن الشاغية هي السن الزائدة على الأسنان التي خالف منبتها منبت غيرها (المصباح) .(21/78)
مِنْهَا وَإِنْ بَقِيَ السِّنْخُ بِحَالِهِ (1) . وَلَوْ قَلَعَ السِّنَّ مِنَ السِّنْخِ وَجَبَ أَرْشُ السِّنِّ فَقَطْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ قَلَعَ سِنَّ صَغِيرٍ لَمْ يُثْغِرْ يُنْتَظَرُ عَوْدُهَا، فَإِنْ عَادَتْ فَلاَ دِيَةَ وَتَجِبُ الْحُكُومَةُ إِنْ بَقِيَ شَيْنٌ. وَإِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي يُتَوَقَّعُ فِيهَا الْعَوْدُ وَلَمْ تَعُدْ وَفَسَدَ الْمَنْبَتُ تَجِبُ الدِّيَةُ. وَإِنْ قَلَعَ سِنًّا وَكَانَتْ مُتَقَلْقِلَةً (مُتَحَرِّكَةً) فَإِنْ كَانَ بِهَا اضْطِرَابٌ شَدِيدٌ بِهَرَمٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِمَا وَبَطَلَتْ مَنْفَعَتُهَا فَفِيهَا الْحُكُومَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً حَرَكَةً يَسِيرَةً لاَ تُنْقِصُ الْمَنَافِعَ فَلاَ أَثَرَ لَهَا وَتَجِبُ الدِّيَةُ (2) .
وَلَوْ تَزَلْزَلَتْ سِنٌّ صَحِيحَةٌ بِجِنَايَةٍ ثُمَّ سَقَطَتْ بَعْدَهَا لَزِمَ الأَْرْشُ، وَإِنْ ثَبَتَتْ وَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: فِي كُل سِنٍّ مِمَّنْ قَدْ أَثْغَرَ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل سَوَاءٌ أُقْلِعَتْ بِسَخَنِهَا أَوْ قَطَعَ الظَّاهِرَ مِنْهَا فَقَطْ، وَسَوَاءٌ أَقَلَعَهَا فِي دَفْعَةٍ أَوْ دَفَعَاتٍ، وَإِنْ قَلَعَ مِنْهَا السِّنْخَ فَقَطْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ، وَلاَ يَجِبُ بِقَلْعِ سِنِّ الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يُثْغِرْ شَيْءٌ فِي الْحَال، لَكِنْ يُنْتَظَرُ عَوْدُهَا، فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ يَحْصُل بِهَا
__________
(1) السنخ - بالكسر -: أصل السن، والسنخ الأصل في كل شيء. (المصباح) .
(2) الروضة 9 / 276 - 280.
(3) مغني المحتاج 4 / 63، 64، 65، وروضة الطالبين 9 / 276 - 280.(21/79)
الْيَأْسُ مِنْ عَوْدِهَا وَجَبَتْ دِيَتُهَا، وَإِنْ عَادَتْ فَصِيرَةً أَوْ شَوْهَاءَ أَوْ أَطْوَل مِنْ أَخَوَاتِهَا أَوْ صَفْرَاءَ أَوْ حَمْرَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ، أَوْ خَضْرَاءَ فَحُكُومَةٌ؛ لأَِنَّهَا لَمْ تَذْهَبْ بِمَنْفَعَتِهَا فَلَمْ تَجِبْ دِيَتُهَا، وَوَجَبَتِ الْحُكُومَةُ لِنَقْصِهَا، وَإِنْ جَعَل الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَكَانَ السِّنِّ الْمَقْلُوعَةِ سِنًّا أُخْرَى فَثَبَتَتْ لَمْ يُسْقِطْ دِيَةَ الْمَقْلُوعَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجْعَل مَكَانَهَا شَيْئًا. ثُمَّ إِنْ قُلِعَتِ السِّنُّ الْمَجْعُولَةُ فَفِيهَا حُكُومَةٌ لِلنَّقْصِ، وَإِنْ قَلَعَ سِنَّهُ فَرَدَّهُ فَالْتَحَمَ فَلَهُ أَرْشُ نَقْصِهِ فَقَطْ وَهُوَ حُكُومَةٌ، ثُمَّ إِنْ أَبَانَهَا أَجْنَبِيٌّ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَبَتْ دِيَتُهَا كَمَا لَوْ لَمْ تَتَقَدَّمْ جِنَايَةٌ عَلَيْهَا (1) .
دِيَةُ الْمَعَانِي وَالْمَنَافِعِ:
55 - الأَْصْل فِي دِيَةِ الْمَعَانِي - فَضْلاً عَمَّا وَرَدَ فِي بَعْضِهَا مِنْ نُصُوصٍ - أَنَّهُ إِذَا فَوَّتَ جِنْسَ مَنْفَعَةٍ عَلَى الْكَمَال، أَوْ أَزَال جَمَالاً مَقْصُودًا فِي الآْدَمِيِّ عَلَى الْكَمَال يَجِبُ كُل الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِتْلاَفَ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ، إِذِ النَّفْسُ لاَ تَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِتْلاَفُ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ مُلْحَقٌ بِالإِْتْلاَفِ مِنْ كُل وَجْهٍ فِي الآْدَمِيِّ تَعْظِيمًا لَهُ (2) .
وَهَذَا الأَْصْل كَمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الأَْعْضَاءِ مُطَبَّقٌ كَذَلِكَ فِي إِذْهَابِ الْمَعَانِي وَالْمَنَافِعِ مِنَ الأَْعْضَاءِ وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي الظَّاهِرِ. وَمِمَّا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ
__________
(1) كشاف القناع 6 / 43، والمغني 8 / 21.
(2) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 129.(21/79)
مِنَ الْمَعَانِي الْعَقْل وَالنُّطْقُ وَقُوَّةُ الْجِمَاعِ وَالإِْمْنَاءُ فِي الذَّكَرِ وَالْحَبَل فِي الْمَرْأَةِ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَاللَّمْسُ.
وَهَذَا إِذَا أُتْلِفَتِ الْمَعَانِي دُونَ إِتْلاَفِ الأَْعْضَاءِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَيْهَا. فَإِنْ تَلِفَ الْعُضْوُ وَالْمَنْفَعَةُ مَعًا فَفِي ذَلِكَ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنْ أَتْلَفَهُمَا بِجِنَايَتَيْنِ مُنْفَرِدَتَيْنِ تَخَلَّلَهُمَا الْبُرْءُ فَدِيَةُ كُل عُضْوٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ بِحَسَبِ الْحَالَةِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - الْعَقْل:
56 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ فِي إِذْهَابِ الْعَقْل؛ لأَِنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْمَعَانِي قَدْرًا وَأَعْظَمِهَا نَفْعًا، فَإِنَّ بِهِ يَتَمَيَّزُ الإِْنْسَانُ وَيَعْرِفُ حَقَائِقَ الأَْشْيَاءِ، وَيَهْتَدِي إِلَى مَصَالِحِهِ، وَيَتَّقِي مَا يَضُرُّهُ، وَيَدْخُل فِي التَّكْلِيفِ (1) . وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي الْعَقْل الدِّيَةُ (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ أَذْهَبَ عَقْلَهُ تَمَامًا بِالضَّرْبِ وَغَيْرِهِ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَإِنْ نَقَصَ عَقْلُهُ نَقْصًا مَعْلُومًا بِالزَّمَانِ وَغَيْرِهِ، مِثْل إِنْ صَارَ يَجِنُّ يَوْمًا وَيُفِيقُ يَوْمًا فَعَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِثْل أَنْ صَارَ مَدْهُوشًا، أَوْ يَفْزَعُ مِمَّا لاَ يُفْزَعُ مِنْهُ وَيَسْتَوْحِشُ إِذَا خَلاَ، فَهَذَا لاَ يُمْكِنُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 369، والزيلعي 6 / 129، وحاشية الزرقاني 8 / 35، روضة الطالبين 9 / 289، والمغني لابن قدامة 8 / 37، وما بعدها.
(2) حديث: " وفي العقل الدية " تقدم تخريجه ف / 7.(21/80)
تَقْدِيرُهُ، فَتَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ (1) .
وَمِثْلُهُ مَا فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (2) .
وَتَقْدِيرُ الْجِنَايَةِ يَكُونُ بِتَقْدِيرِ الْقَاضِي مُسْتَعِينًا بِقَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ.
ب - قُوَّةُ النُّطْقِ:
57 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ فِي إِذْهَابِ قُوَّةِ النُّطْقِ دِيَةً فَإِذَا فَعَل بِلِسَانِهِ مَا يُعْجِزُهُ عَنِ النُّطْقِ بِالْكَمَال تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَإِنْ عَجَزَ عَجْزًا جُزْئِيًّا بِأَنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى نُطْقِ بَعْضِ الْحُرُوفِ دُونَ بَعْضِهَا فَالدِّيَةُ تُقْسَمُ بِحِسَابِ الْحُرُوفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَسَمَ الدِّيَةَ عَلَى الْحُرُوفِ، فَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُرُوفِ أُسْقِطَ بِحِسَابِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ أَلْزَمَهُ بِحِسَابِهِ مِنْهَا.
وَقِيل: تُوَزَّعُ الدِّيَةُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللِّسَانِ دُونَ حُرُوفِ الْحَلْقِ السِّتَّةِ وَالْحُرُوفِ الشَّفَوِيَّةِ الْخَمْسَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي دِيَةِ اللِّسَانِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ يُقَدَّرُ نَقْصُ النُّطْقِ بِالْكَلاَمِ اجْتِهَادًا مِنَ الْعَارِفِينَ، لاَ بِقَدْرِ الْحُرُوفِ، لاِخْتِلاَفِهَا بِالْخِفَّةِ وَالثِّقَل (4) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 37، 38.
(2) ابن عابدين 5 / 369، والروضة 9 / 289.
(3) الزيلعي 6 / 129، وابن عابدين 5 / 360، وجواهر الإكليل 2 / 268، 269، وروضة الطالبين 9 / 296، وكشاف القناع 6 / 40.
(4) جواهر الإكليل 2 / 268، 269.(21/80)
وَتَجِبُ هَذِهِ الدِّيَةُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى النُّطْقِ، وَإِنْ كَانَ اللِّسَانُ بَاقِيًا.
ج - قُوَّةُ الذَّوْقِ:
58 - الذَّوْقُ قُوَّةٌ مُثَبَّتَةٌ فِي الْعَصَبِ الْمَفْرُوشِ عَلَى جُرْمِ اللِّسَانِ، تُدْرَكُ بِهِ الطُّعُومُ لِمُخَالَطَةِ الرُّطُوبَةِ اللُّعَابِيَّةِ الَّتِي فِي الْفَمِ، وَوُصُولِهَا إِلَى الْعَصَبِ (1) .
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي إِتْلاَفِ حَاسَّةِ الذَّوْقِ، وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ كَلاَمَهُ وَذَوْقَهُ مَعًا فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ فِي الإِْنْسَانِ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ: يَبْطُل الذَّوْقُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى اللِّسَانِ أَوِ الرَّقَبَةِ أَوْ نَحْوِهِمَا. وَالْمُدْرَكُ بِالذَّوْقِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: الْحَلاَوَةُ وَالْحُمُوضَةُ وَالْمَرَارَةُ وَالْمُلُوحَةُ وَالْعُذُوبَةُ. وَالدِّيَةُ تَتَوَزَّعُ عَلَيْهَا.
فَإِذَا أَبْطَل إِدْرَاكَ وَاحِدَةٍ وَجَبَ خُمُسُ الدِّيَةِ، وَإِذَا أَبْطَل إِدْرَاكَ اثْنَتَيْنِ وَجَبَ خُمُسَا الدِّيَةِ وَهَكَذَا. وَلَوْ نَقَصَ الإِْحْسَاسَ فَلَمْ يُدْرِكِ الطُّعُومَ عَلَى كَمَالِهَا فَالْوَاجِبُ الْحُكُومَةُ (3) .
د - السَّمْعُ وَالْبَصَرُ:
59 - تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي إِذْهَابِ قُوَّةِ السَّمْعِ أَوْ قُوَّةِ الْبَصَرِ إِذَا ذَهَبَتِ الْمَنْفَعَةُ بِتَمَامِهَا، عِنْدَ جَمِيعِ
__________
(1) الخرشي 8 / 35.
(2) الهداية مع الفتح 8 / 308، وابن عابدين 5 / 369، والخرشي 8 / 35، وحاشية الدسوقي 1 / 272، ومغني المحتاج 4 / 74، وكشاف القناع 6 / 40.
(3) الروضة 9 / 301.(21/81)
الْفُقَهَاءِ (1) . وَلَوْ أَذْهَبَ الْبَصَرَ مِنْ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ أَوِ السَّمْعَ مِنْ إِحْدَى الأُْذُنَيْنِ فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ. أَمَّا لَوْ أَذْهَبَ بَعْضَ الْبَصَرِ أَوْ بَعْضَ السَّمْعِ مِنْ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ أَوِ الأُْذُنَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ بِحِسَابِ مَا ذَهَبَ إِنْ كَانَ مُنْضَبِطًا، كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: فِي نُقْصَانِ السَّمْعِ أَوِ الْبَصَرِ حُكُومَةٌ مُطْلَقًا (2) .
وَلَوْ أَزَال أُذُنَيْهِ وَسَمْعَهُ تَجِبُ دِيَتَانِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ؛ لأَِنَّ مَحَل السَّمْعِ غَيْرُ مَحَل الْقَطْعِ، فَالسَّمْعُ قُوَّةٌ أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَصَبِ الْمَفْرُوشِ فِي الصِّمَاخِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ فَقَأَ عَيْنَيْهِ فَأَذْهَبَ بَصَرَهُ فَتَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأَِنَّ الْبَصَرَ يَكُونُ بِهِمَا (3) .
هـ - قُوَّةُ الشَّمِّ:
60 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي إِتْلاَفِ الشَّمِّ كَامِلاً؛ لأَِنَّهُ حَاسَّةٌ تَخْتَصُّ بِمَنْفَعَةٍ، فَكَانَتْ فِيهِ الدِّيَةُ كَسَائِرِ الْحَوَاسِّ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 269، والزيلعي 6 / 129، وحاشية الدسوقي 1 / 272، والروضة 9 / 291، ومغني المحتاج 4 / 69، 70، وكشاف القناع 6 / 34، 35.
(2) الدسوقي 4 / 272، والروضة 9 / 292، والمغني 8 / 2، 3، كشاف القناع 6 / 36.
(3) مغني المحتاج 4 / 69، والمغني 8 / 2، 9.(21/81)
الْمَشَامِّ الدِّيَةُ (1) .
وَإِنْ نَقَصَ الشَّمُّ بِأَنْ عَلِمَ قَدْرَ الذَّاهِبِ وَجَبَ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَجَبَتْ حُكُومَةٌ يُقَدِّرُهَا الْحَاكِمُ بِالاِجْتِهَادِ (2) .
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الشَّمِّ بَل فِيهِ حُكُومَةٌ (3) .
و اللَّمْسُ:
61 - اللَّمْسُ قُوَّةٌ مُثْبَتَةٌ عَلَى سَطْحِ الْبَدَنِ تُدْرَكُ بِهِ الْحَرَارَةُ وَالْبُرُودَةُ وَالنُّعُومَةُ وَالْخُشُونَةُ وَنَحْوُهَا عِنْدَ الْمُمَاسَّةِ. وَقَدْ ذَكَرَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ فِي إِذْهَابِ هَذِهِ الْقُوَّةِ دِيَةً كَامِلَةً قِيَاسًا عَلَى الشَّمِّ (4) . وَلَمْ نَجِدْ لِبَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ كَلاَمًا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ.
ز - قُوَّةُ الْجِمَاعِ وَالإِْمْنَاءِ:
62 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى قُوَّةِ الْجِمَاعِ إِذَا عَجَزَ عَنْهُ كَامِلاً بِإِفْسَادِ إِنْعَاظِهِ، وَلَوْ مَعَ بَقَاءِ الْمَنِيِّ وَسَلاَمَةِ الصُّلْبِ وَالذَّكَرِ، أَوِ انْقَطَعَ مَاؤُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالضَّرْبِ عَلَى الصُّلْبِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْجِمَاعَ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ جَمَّةٌ، فَإِذَا فَاتَ وَجَبَ بِهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. وَكَذَلِكَ بِانْقِطَاعِ الْمَاءِ يَفُوتُ
__________
(1) حديث: " وفي المشام الدية " تقدم تخريجه ف / 7.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 369، وجواهر الإكليل 2 / 268، وروضة الطالبين 2 / 295، ومغني المحتاج 4 / 70، 71، والمغني لابن قدامة 8 / 11، 12.
(3) مغني المحتاج 4 / 71.
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 272.(21/82)
جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ مِنَ التَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُل (1) .
وَلاَ تَنْدَرِجُ فِي إِتْلاَفِ الْجِمَاعِ أَوِ الإِْمْنَاءِ دِيَةُ الصُّلْبِ وَإِنْ كَانَتْ قُوَّةُ الْجِمَاعِ فِيهِ كَمَا قَال الْمَالِكِيَّةُ. فَلَوْ ضَرَبَ صُلْبَهُ فَأَبْطَلَهُ وَأَبْطَل جِمَاعَهُ فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيل إِتْلاَفَ قُوَّةِ حَبَل الْمَرْأَةِ فَيَكْمُل فِيهِ دِيَتُهَا لاِنْقِطَاعِ النَّسْل (2) .
دِيَةُ الشِّجَاجِ وَالْجِرَاحِ:
63 - الشِّجَاجُ مَا يَكُونُ فِي الرَّأْسِ أَوِ الْوَجْهِ، وَالْجِرَاحُ مَا يَكُونُ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فِي سَائِرِ جِرَاحِ الْبَدَنِ، بِاسْتِثْنَاءِ الْجَائِفَةِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهَا الْحُكُومَةُ (3) ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ مِنَ الشَّرْعِ وَيَصْعُبُ ضَبْطُهَا وَتَقْدِيرُهَا (4) .
أَمَّا الْجَائِفَةُ، وَهِيَ مَا وَصَل إِلَى الْجَوْفِ مِنْ بَطْنٍ أَوْ ظَهْرٍ أَوْ صَدْرٍ أَوْ ثُغْرَةِ نَحْرٍ أَوْ وَرِكٍ أَوْ جَنْبٍ أَوْ خَاصِرَةٍ أَوْ مَثَانَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى
__________
(1) الاختيار 5 / 37، وحاشية الدسوقي 4 / 272، وقليوبي 4 / 142، ونهاية المحتاج 7 / 323، 324، والمغني 9 / 32.
(2) القليوبي 4 / 142، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 272، ومغني المحتاج 4 / 74.
(3) الحكومة هي ما تدفع للمجني عليه من قبل الجاني باجتهاد القاضي أو بتقدير أهل الخبرة، وذلك فيما لا يكون فيه أرش مقدر (ر: حكومة عدل) .
(4) الاختيار لتعليل المختار 5 / 42، والزيلعي 6 / 132، 134، وجواهر الإكليل بهامش خليل 2 / 267، وروضة الطالبين 9 / 265، والمغني 8 / 44.(21/82)
أَنَّ فِيهَا ثُلُثَ الدِّيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَمْدًا أَمْ خَطَأً، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ (1) .
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْجَائِفَةَ إِذَا نَفَذَتْ مِنْ جَانِبٍ لآِخَرَ تُعْتَبَرُ جَائِفَتَيْنِ، وَفِيهِمَا ثُلُثَا الدِّيَةِ (2) .
أَمَّا الشِّجَاجُ وَهِيَ الْجُرُوحُ الْوَاقِعَةُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فَقَدْ قَسَّمَهَا أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَشَرَةِ أَقْسَامٍ، عَلَى اخْتِلاَفٍ فِي تَسْمِيَتِهَا، وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ كُلٍّ مِنْهَا.
جَزَاءُ هَذِهِ الشِّجَاجِ:
64 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ أَرْشٍ مُقَدَّرٍ فِيمَا يَكُونُ أَقَل مِنَ الْمُوضِحَةِ، أَيْ قَبْل الْمُوضِحَةِ، وَهِيَ الْحَارِصَةُ، وَالدَّامِعَةُ وَالدَّامِيَةُ وَالْبَاضِعَةُ وَالْمُتَلاَحِمَةُ وَالسِّمْحَاقُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الشِّجَاجِ حُكُومَةُ عَدْلٍ (3) .
لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَلاَ يُمْكِنُ إِهْدَارُهَا، فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ (4) .
وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ مَعْرِفَةُ قَدْرِهَا مِنَ الْمُوضِحَةِ فَكَذَلِكَ. وَإِنْ أَمْكَنَ
__________
(1) حديث: " وفي الجائفة ثلث الدية " تقدم تخريجه ف / 7.
(2) الاختيار 5 / 42، وابن عابدين 5 / 356، والمواق 6 / 246، 258، وجواهر الإكليل 2 / 267، والروضة 9 / 266، وما بعدها، والمغني 8 / 49.
(3) الزيلعي 6 / 133، والاختيار 5 / 42، والفواكه الدواني 2 / 263، والروضة 9 / 265، والمغني 8 / 42.
(4) المراجع السابقة، والاختيار 5 / 42.(21/83)
بِأَنْ كَانَ عَلَى رَأْسِ مُوضِحَةٍ إِذَا قِيسَ بِهَا الْبَاضِعَةُ مَثَلاً عُرِفَ أَنَّ الْمَقْطُوعَ ثُلُثٌ أَوْ نِصْفٌ فِي عُمْقِ اللَّحْمِ وَجَبَ قِسْطُهُ مِنْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ.
قَال النَّوَوِيُّ: فَإِنْ شَكَكْنَا فِي قَدْرِهَا مِنَ الْمُوضِحَةِ أَوْجَبْنَا الْيَقِينَ، قَال الأَْصْحَابُ: وَتُعْتَبَرُ مَعَ ذَلِكَ الْحُكُومَةُ، فَيَجِبُ أَكْثَرُ الأَْمْرَيْنِ مِنَ الْحُكُومَةِ وَمَا يَقْتَضِيهِ التَّقْسِيطُ، لأَِنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا (1) .
أَمَّا الْمُوضِحَةُ وَالْهَاشِمَةُ وَالْمُنَقِّلَةُ وَالآْمَّةُ أَوِ الْمَأْمُومَةُ فَفِي كُل وَاحِدٍ مِنْهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ، وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:
أ - الْمُوضِحَةُ:
65 - الْمُوضِحَةُ هِيَ أَقَل شَجَّةٍ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ مِنَ الشَّارِعِ، وَلَهَا أَهَمِّيَّةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهُ يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ إِذَا كَانَتْ عَمْدًا، وَهِيَ الْفَاصِل بَيْنَ وُجُوبِ الْمُقَدَّرِ أَيِ الأَْرْشِ وَغَيْرِ الْمُقَدَّرِ أَيِ الْحُكُومَةِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ فِي الْمُوضِحَةِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَهُوَ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل فِي الْحُرِّ الذَّكَرِ الْمُسْلِمِ (2) . لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل (3) .
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ لاَ يَعْتَبِرُونَ الْجُرْحَ عَلَى
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 265.
(2) ابن عابدين 5 / 372، والمدونة 6 / 310، وجواهر الإكليل 2 / 267، والروضة 9 / 263، والمغني 8 / 42.
(3) حديث: " وفي الموضحة خمس من الإبل " سبق تخريجه ف / 7.(21/83)
الأَْنْفِ وَاللَّحْيِ الأَْسْفَل مُوضِحَةً، فَلاَ يَقُولُونَ فِيهَا بِأَرْشٍ مُقَدَّرٍ، فَتَجِبُ فِيهِمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ، كَسَائِرِ جِرَاحَاتِ الْبَدَنِ (1) .
وَقَيَّدَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنْ لاَ يَكُونَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَصْلَعًا، وَإِلاَّ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لأَِنَّ جِلْدَهُ أَنْقَصُ زِينَةً مِنْ غَيْرِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل فِي حَقِّ مَنْ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ بِقَتْلِهِ، وَهُوَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ الذَّكَرُ وَهَذَا الْمَبْلَعُ نِصْفُ عُشْرِ دِيَتِهِ، فَتُرَاعَى هَذِهِ النِّسْبَةُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَتَجِبُ فِي مُوضِحَةِ الْيَهُودِيِّ نِصْفُ عُشْرِ دِيَتِهِ وَهُوَ بَعِيرٌ وَثُلُثَانِ، وَفِي مُوضِحَةِ الْمَرْأَةِ بَعِيرَانِ وَنِصْفٌ، وَفِي مُوضِحَةِ الْمَجُوسِيِّ ثُلُثَا بَعِيرٍ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى فِي مُوضِحَتِهِمَا لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الإِْبِل (4) ، وَهُوَ مُطْلَقٌ، فَالرَّجُل وَالْمَرْأَةُ لاَ يَخْتَلِفَانِ فِي أَرْشِ الْمُوضِحَةِ؛ لأَِنَّهُ دُونَ الثُّلُثِ، وَهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِيمَا دُونَ الثُّلُثِ وَيَخْتَلِفَانِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ (5) .
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مُوضِحَةَ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ سَوَاءٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) المدونة 6 / 310.
(2) ابن عابدين 5 / 372.
(3) الروضة 9 / 263.
(4) حديث: " وفي الموضحة خمس من الإبل " سبق تخريجه ف / 7.
(5) المغني لابن قدامة 8 / 42، 43.(21/84)
وَبِهِ قَال شُرَيْحٌ وَمَكْحُولٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَرَبِيعَةُ.
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ مُوضِحَةَ الْوَجْهِ فِيهَا عَشْرٌ مِنَ الإِْبِل لأَِنَّ شَيْنَهَا أَكْثَرُ، وَمُوضِحَةَ الرَّأْسِ يَسْتُرُهَا الشَّعْرُ وَالْعِمَامَةُ (1) . 50 ب - الْهَاشِمَةُ
66 - الْهَاشِمَةُ هِيَ الَّتِي تَتَجَاوَزُ الْمُوضِحَةَ وَتَهْشِمُ الْعَظْمَ أَيْ تَكْسِرُهُ كَمَا تَقَدَّمَ،
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ فِيهَا عُشْرَ الدِّيَةِ، وَهُوَ عَشَرَةُ أَبْعِرَةٍ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَتْ مَعَ الإِْيضَاحِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَنْ تَوْقِيفٍ، وَبِهِ قَال قَتَادَةُ وَالثَّوْرِيُّ (2) .
أَمَّا فِي الْهَاشِمَةِ دُونَ الإِْيضَاحِ فَفِيهَا خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيل: حُكُومَةٌ (3) .
وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: تَجِبُ فِي الْهَاشِمَةِ الْحُكُومَةُ، إِذْ لاَ سُنَّةَ فِيهَا وَلاَ إِجْمَاعَ، فَتَجِبُ فِيهَا الْحُكُومَةُ
__________
(1) نفس المرجع.
(2) الزيلعي 6 / 133، 134، وانظر نصب الراية 4 / 375، ونهاية المحتاج 7 / 305، والمغني 8 / 45، 46.
(3) مغني المحتاج 4 / 58.(21/84)
كَمَا تَجِبُ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ (1) . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ: فَقَدْ جَاءَ فِي مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ وَشُرُوحِهِ أَنَّ الْهَاشِمَةَ أَرْشُهَا عُشْرُ الدِّيَةِ وَنِصْفُهُ (2) . وَنَقَل الْمَوَّاقُ عَنِ ابْنِ شَاسٍ أَنَّ الْهَاشِمَةَ لاَ دِيَةَ فِيهَا بَل حُكُومَةٌ.
وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: لَمْ يَعْرِفْهَا مَالِكٌ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ فِيهَا عُشْرُ الدِّيَةِ مِائَةُ دِينَارٍ (3) .
وَقَال النَّفْرَاوِيُّ الْمَالِكِيُّ: الْمُنَقِّلَةُ، وَيُقَال لَهَا: الْهَاشِمَةُ أَيْضًا، فِيهَا عُشْرُ الدِّيَةِ وَنِصْفُ عُشْرِهَا وَهِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا (4) .
ج - الْمُنَقِّلَةُ:
67 - الْمُنَقِّلَةُ هِيَ الَّتِي تَنْقُل الْعِظَامَ بَعْدَ كَسْرِهَا وَتُزِيلُهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْمُنَقِّلَةِ عُشْرُ الدِّيَةِ وَنِصْفُهُ - أَيْ خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا - وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الإِْبِل (5) . وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
__________
(1) المغني 8 / 45، 46.
(2) جواهر الإكليل 2 / 267.
(3) المواق بهامش الحطاب 6 / 258، 259.
(4) الفواكه الدواني 2 / 262.
(5) حديث: " وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل " سبق تخريجه ف / 7.(21/85)
مَرْفُوعًا، وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَيْهِ (1) .
وَقَدْ سَبَقَ كَلاَمُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُنَقِّلَةَ يُقَال لَهَا الْهَاشِمَةُ أَيْضًا عِنْدَهُمْ (2) .
د - الآْمَّةُ أَوِ الْمَأْمُومَةُ:
68 - الآْمَّةُ وَالْمَأْمُومَةُ شَيْءٌ وَاحِدٌ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ نَقْلاً عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: أَهْل الْعِرَاقِ يَقُولُونَ لَهَا الآْمَّةُ، وَأَهْل الْحِجَازِ يَقُولُونَ لَهَا الْمَأْمُومَةُ، وَهِيَ الْجِرَاحَةُ الْوَاصِلَةُ إِلَى أُمِّ الدِّمَاغِ، وَهُوَ الْجِلْدَةُ الَّتِي تَجْمَعُ الدِّمَاغَ وَتَسْتُرُهُ.
وَيَجِبُ فِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (3)) لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: فِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ (4) وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْل ذَلِكَ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 372، والاختيار 5 / 42، والمواق على هامش الحطاب 6 / 258، 259، ومغني المحتاج 4 / 58، والروضة 9 / 264، والمغني 8 / 46.
(2) الفواكه الدواني 2 / 262، الزرقاني 8 / 34، 35.
(3) الاختيار 5 / 42، والزيلعي 6 / 132، وجواهر الإكليل 2 / 260، والمواق 6 / 259، والروضة 9 / 262، والمغني 8 / 47.
(4) حديث: " وفي المأمومة ثلث الدية " تقدم من حديث عمرو بن حزم ف / 7.(21/85)
وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ فِيهَا ثُلُثَ الدِّيَةِ وَحُكُومَةً (1) .
هـ - الدَّامِغَةُ:
69 - الدَّامِغَةُ هِيَ الشَّجَّةُ الَّتِي تَتَجَاوَزُ عَنِ الآْمَّةِ فَتَخْرِقُ الْجِلْدَةَ وَتَصِل إِلَى الدِّمَاغِ وَتَخْسِفُهُ (2) .
وَلَمْ يَذْكُرْهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي بَحْثِ الشِّجَاجِ؛ لأَِنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ يَمُوتُ بَعْدَهَا عَادَةً، فَيَكُونُ قَتْلاً، لاَ شَجًّا.
فَإِنْ عَاشَ الْمَحْنِيُّ عَلَيْهِ بَعْدَ الدَّامِغَةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالأَْصَحُّ الْمَنْصُوصُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّ فِيهَا مَا فِي الآْمَّةِ، وَهُوَ ثُلُثُ الدِّيَةِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَجِبُ فِيهَا مَعَ الثُّلُثِ حُكُومَةٌ لِخَرْقِ غِشَاءِ الدِّمَاغِ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَجِبُ فِي الدَّامِغَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ (3) .
تَدَاخُل الدِّيَاتِ وَتَعَدُّدُهَا:
70 - الأَْصْل أَنَّ الدِّيَةَ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْجِنَايَةِ
__________
(1) الروضة 9 / 264.
(2) المصباح المنير، مادة: " دماغ "، والزيلعي 6 / 130، 131، ومغني المحتاج 4 / 58، والمغني 8 / 47.
(3) الخرشي 8 / 16، والزرقاني 8 / 17، وجواهر الإكليل 2 / 60، والمواق 6 / 246، والدسوقي 4 / 270، ومغني المحتاج 4 / 58.(21/86)
وَإِتْلاَفِ الأَْعْضَاءِ أَوِ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ إِذَا لَمْ تُفِضْ إِلَى الْمَوْتِ. فَإِنْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ مَعًا وَلَمْ يَمُتِ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ تَجِبُ دِيَتَانِ.
وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَعَقْلَهُ وَجَبَ ثَلاَثُ دِيَاتٍ، وَهَكَذَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَجُلٍ رَمَى آخَرَ بِحَجَرٍ فَذَهَبَ عَقْلُهُ وَبَصَرُهُ وَسَمْعُهُ وَكَلاَمُهُ فَقَضَى فِيهِ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ وَهُوَ حَيٌّ؛ لأَِنَّهُ أَذْهَبَ مَنَافِعَ فِي كُل وَاحِدَةٍ مِنْهَا دِيَةٌ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ دِيَاتُهَا كَمَا لَوْ أَذْهَبَهَا بِجِنَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ.
أَمَّا إِذَا أَفَضَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى الْمَوْتِ فَتَتَدَاخَل دِيَاتُ الأَْطْرَافِ وَالْمَعَانِي فِي دِيَةِ النَّفْسِ فَلاَ تَجِبُ إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ (1) .
71 - وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الأَْصْل اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهَا الْبُرْءُ وَالاِنْدِمَال وَكَانَتْ مِنْ جَانٍ وَاحِدٍ تَتَدَاخَل مَعَ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ.
فَإِذَا قَطَعَ يَدَيْهِ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً قَبْل الْبُرْءِ لاَ يَجِبُ عَلَى الْجَانِي إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ. وَكَذَلِكَ إِذَا قَطَعَ سَائِرَ أَعْضَائِهِ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً، أَوْ سَرَتِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 303، وفتح القدير 8 / 282، والاختيار 5 / 43، والزيلعي 6 / 135، والمواق 6 / 264، وحاشية الزرقاني 8 / 83، وجواهر الإكليل 2 / 270، ومغني المحتاج 4 / 76، والروضة 9 / 306، والمغني 7 / 685 وما بعدها، و 8 / 38.(21/86)
الْجِنَايَةُ عَلَى الأَْطْرَافِ إِلَى النَّفْسِ فَمَاتَ مِنْهَا (1) .
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ تَتَدَاخَل الأَْعْضَاءُ فِي مَنَافِعِهَا، وَالْمَنَافِعُ فِي الأَْعْضَاءِ إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِ الْمَحَل، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً أَمْ بِدَفَعَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، إِذَا لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهَا الْبُرْءُ. فَإِذَا قَطَعَ أَنْفَهُ وَأَذْهَبَ شَمَّهُ لاَ تَجِبُ إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِذَا أَذْهَبَ بَصَرَهُ ثُمَّ فَقَأَ عَيْنَيْهِ لاَ تَجِبُ إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَهَكَذَا. وَسَوَاءٌ أَحَصَلَتِ الْجِنَايَتَانِ مَعًا أَمْ بِالتَّرَاخِي بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَتَخَلَّل بَيْنَهُمَا بُرْءٌ.
وَهَذَا إِذَا اتَّفَقَتْ صِفَةُ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَالأَْطْرَافِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَكَانَتِ الْجِنَايَةُ فِي الأَْطْرَافِ بِالْقَطْعِ وَإِتْلاَفِ الْمَعَانِي فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَطْرَأْ عَلَى الْجِنَايَتَيْنِ انْدِمَالٌ.
وَإِذَا طَرَأَ الْبُرْءُ وَالاِنْدِمَال بَيْنَ الْجِنَايَتَيْنِ عَلَى الأَْطْرَافِ، أَوْ عَلَى طَرَفٍ وَمَعْنًى مِنْ نَفْسِ الطَّرَفِ تَتَعَدَّدُ الدِّيَاتُ. فَإِذَا قَطَعَ أَنْفَهُ وَانْدَمَل ثُمَّ أَتْلَفَ شَمَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ دِيَتَانِ. وَإِذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَلَمْ يَسْرِ إِلَى النَّفْسِ وَانْدَمَلَتْ تَجِبُ عَلَيْهِ دِيَتَانِ، وَهَكَذَا (2) .
أَمَّا إِنِ اخْتَلَفَتِ الْجِنَايَةُ صِفَةً، بِأَنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَمْدًا وَالأُْخْرَى خَطَأً، أَوْ لَمْ يَكُنْ مَحَل الْجِنَايَتَيْنِ وَاحِدًا، وَلَمْ يَتَخَلَّل بَيْنَهُمَا بُرْءٌ، أَوْ كَانَتِ
__________
(1) البدائع 7 / 303، وجواهر الإكليل 2 / 270، والروضة 9 / 307.
(2) نفس المراجع السابقة.(21/87)
الْجِنَايَةُ عَلَى طَرَفٍ أَوْ مَعْنًى لَكِنَّهَا سَرَتْ إِلَى طَرَفٍ أَوْ مَعْنًى آخَرَ فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِل وَفُرُوعٍ أُخْرَى مِنْ نَوْعِهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ، بَيَانُ ضَوَابِطِهِ فِيمَا يَلِي:
72 - يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا قَبْل أَنْ تَبْرَأَ، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ قَطَعَ يَدَهُ خَطَأً فَبَرِئَتْ يَدُهُ ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا فَبَرَأَتْ ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِالأَْمْرَيْنِ جَمِيعًا.
جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ وَفَتْحِ الْقَدِيرِ: الأَْصْل فِيهِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجِرَاحَاتِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ تَتْمِيمًا لِلأَْوَّل لأَِنَّ الْقَتْل فِي الأَْعَمِّ يَقَعُ بِضَرَبَاتٍ مُتَعَاقِبَةٍ وَفِي اعْتِبَارِ كُل ضَرْبَةٍ بِنَفْسِهَا بَعْضُ الْحَرَجِ إِلاَّ أَنْ لاَ يُمْكِنَ الْجَمْعُ فَيُعْطَى كُل وَاحِدٍ حُكْمَ نَفْسِهِ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ فِي هَذِهِ الْفُصُول فِي الأَْوَّلَيْنِ لاِخْتِلاَفِ حُكْمِ الْفِعْلَيْنِ وَفِي الآْخَرَيْنِ لِتَخَلُّل الْبُرْءِ، وَهُوَ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَخَلَّل وَقَدْ تَجَانَسَا بِأَنْ كَانَا خَطَأَيْنِ يَجْمَعُ بِالإِْجْمَاعِ لإِِمْكَانِ الْجَمْعِ وَاكْتُفِيَ بِدِيَةٍ وَاحِدَةٍ (1) .
وَقَال الْمُوصِلِيُّ الْحَنَفِيُّ: مَنْ شَجَّ رَجُلاً فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ شَعْرُ رَأْسِهِ دَخَل فِيهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ؛ لأَِنَّ الْعَقْل إِذَا فَاتَ فَاتَتْ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الأَْعْضَاءِ فَصَارَ كَمَا إِذَا شَجَّهُ فَمَاتَ، وَأَمَّا الشَّعْرُ فَلأَِنَّ أَرْشَ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ لِفَوَاتِ بَعْضِ الشَّعْرِ حَتَّى لَوْ نَبَتَ
__________
(1) الهداية مع الفتح 8 / 282، 283.(21/87)
سَقَطَ الأَْرْشُ، وَالدِّيَةُ تَجِبُ بِفَوَاتِ جَمِيعِ الشَّعْرِ، وَقَدْ تَعَلَّقَا بِفِعْلٍ وَاحِدٍ فَيَدْخُل الْجُزْءُ فِي الْكُل كَمَا لَوْ قَطَعَ أُصْبُعَهُ فَشُلَّتْ يَدُهُ
وَإِنْ ذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ كَلاَمُهُ لَمْ تَدْخُل، وَيَجِبُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ مَعَ ذَلِكَ، لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِي ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ؛ وَلأَِنَّ مَنْفَعَةَ كُل عُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الأَْعْضَاءِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ لاَ تَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الأَْعْضَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ، بِخِلاَفِ الْعَقْل فَإِنَّ مَنْفَعَتَهُ تَتَعَدَّى إِلَى جَمِيعِ الأَْعْضَاءِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّجَّةَ تَدْخُل فِي دِيَةِ السَّمْعِ وَالْكَلاَمِ دُونَ الْبَصَرِ؛ لأَِنَّ السَّمْعَ وَالْكَلاَمَ أَمْرٌ بَاطِنٌ فَاعْتَبَرَهُ بِالْعَقْل، أَمَّا الْبَصَرُ فَأَمْرٌ ظَاهِرٌ فَلاَ يُلْتَحِقُ بِهِ (1) .
وَقَال الزَّيْلَعِيُّ: الْجِنَايَةُ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ فَأَتْلَفَتْ شَيْئَيْنِ، وَأَرْشُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرُ، دَخَل الأَْقَل فِيهِ، وَلاَ فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى عُضْوَيْنِ لاَ يَدْخُل، وَيَجِبُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْشُهُ سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِسُقُوطِ الْقِصَاصِ بِهِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ لِلأَْوَّل الْقِصَاصُ إِنْ كَانَ عَمْدًا وَأَمْكَنَ الاِسْتِيفَاءُ، وَإِلاَّ فَكَمَا قَال أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَال زُفَرُ لاَ يَدْخُل أَرْشُ الأَْعْضَاءِ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِنَايَةٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَلاَ يَتَدَاخَلاَنِ
__________
(1) الاختيار للموصلي 5 / 43.(21/88)
كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ (1) .
73 - يَقُول الْمَالِكِيَّةُ: تَتَعَدَّدُ الدِّيَةُ بِتَعَدُّدِ الْجِنَايَةِ إِلاَّ الْمَنْفَعَةَ بِمَحَلِّهَا، فَلَوْ ضَرَبَ صُلْبَهُ فَبَطَل قِيَامُهُ وَقُوَّةُ ذَكَرِهِ حَتَّى ذَهَبَ مِنْهُ أَمْرُ النِّسَاءِ لَمْ يَنْدَرِجْ، وَوَجَبَتْ دِيَتَانِ، كَمَا أَنَّ مَنْ شَجَّ رَجُلاً مُوضِحَةً فَذَهَبَ مِنْ ذَلِكَ سَمْعُهُ وَعَقْلُهُ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَتَانِ بِجَانِبِ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ.
أَمَّا إِذَا ذَهَبَتِ الْمَنْفَعَةُ بِمَحَلِّهَا فَتَنْدَرِجُ الْجِنَايَتَانِ، فَتَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَمَحَلِّهَا مَعًا (2) .
وَكَذَا إِذَا جَنَى عَلَى لِسَانِهِ فَأَذْهَبَ ذَوْقَهُ وَنُطْقَهُ أَوْ فَعَل بِهِ مَا مَنَعَ بِهِ وَاحِدًا مِنْهُمَا، أَوْ هُمَا مَعَ بَقَاءِ اللِّسَانِ إِذَا ذَهَبَ كُلُّهُ بِضَرْبَةٍ أَوْ بِضَرَبَاتٍ فِي فَوْرٍ. وَأَمَّا بِضَرَبَاتٍ بِغَيْرِ فَوْرٍ فَتَتَعَدَّدُ بِمَحَلِّهَا الَّذِي لاَ تُوجَدُ إِلاَّ بِهِ. فَإِنْ وُجِدَتْ بِغَيْرِهِ وَبِهِ وَلَوْ أَكْثَرَهَا، كَأَنْ كَسَرَ صُلْبَهُ فَأَقْعَدَهُ وَذَهَبَتْ قُوَّةُ الْجِمَاعِ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ لِمَنْعِ قِيَامِهِ، وَدِيَةٌ لِعَدَمِ قُوَّةِ الْجِمَاعِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهَا فِي الصُّلْبِ.
وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْمَالِكِيَّةِ فِي الأُْذُنِ وَالأَْنْفِ، فَقَدْ نَقَل أَكْثَرُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ فِي الشَّمِّ دِيَةً وَيَنْدَرِجُ فِي الأَْنْفِ كَالْبَصَرِ مَعَ الْعَيْنِ وَالسَّمْعِ مَعَ الأُْذُنِ. وَهَذَا مُطَابِقٌ لِقَاعِدَةِ: إِنَّ الْمَنْفَعَةَ لاَ تَتَعَدَّدُ بِمَحَلِّهَا، كَمَا اقْتَضَاهُ نَصُّ خَلِيلٍ: (وَتَعَدَّدَتِ الدِّيَةُ بِتَعَدُّدِهَا إِلاَّ الْمَنْفَعَةَ
__________
(1) الزيلعي 6 / 135.
(2) المواق 6 / 264.(21/88)
بِمَحَلِّهَا) ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، كَمَا قَال الْبُنَانِيِّ (1) .
وَقَال الزَّرْقَانِيُّ: وَلاَ يَشْمَل قَوْلُهُ (بِمَحَلِّهَا) الأُْذُنَ وَالأَْنْفَ، وَإِنِ اقْتَضَاهُ كَلاَمُ بَعْضِ الشُّرَّاحِ، بَل فِي قَطْعِ الأُْذُنِ أَوِ الأَْنْفِ غَيْرِ الْمَارِنِ حُكُومَةٌ، وَالدِّيَةُ فِي السَّمْعِ وَالشَّمِّ؛ لأَِنَّ السَّمْعَ لَيْسَ مَحَلُّهُ الأُْذُنَ، وَالشَّمَّ لَيْسَ مَحَلُّهُ الأَْنْفَ بِدَلِيل تَعْرِيفَيْهِمَا (2) .
74 - أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَال الشِّرْبِينِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمِنْهَاجِ: إِذَا أَزَال الْجَانِي أَطْرَافًا تَقْتَضِي دِيَاتٍ كَقَطْعِ أُذُنَيْنِ، وَيَدَيْنِ وَرِجْلَيْنِ، وَلَطَائِفَ (مَعَانِي) تَقْتَضِي دِيَاتٍ، كَإِبْطَال سَمْعٍ، وَبَصَرٍ وَشَمٍّ، فَمَاتَ سِرَايَةً مِنْهَا، وَكَذَا مِنْ بَعْضِهَا وَلَمْ يَنْدَمِل الْبَعْضُ كَمَا اقْتَضَاهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ، وَاعْتَمَدَهُ الْبُلْقِينِيُّ إِذَا كَانَ قَبْل الاِنْدِمَال لِلْبَعْضِ الآْخَرِ فَدِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَسَقَطَ بَدَل مَا ذَكَرَهُ؛ لأَِنَّهَا صَارَتْ نَفْسًا، أَمَّا إِذَا مَاتَ بِسِرَايَةِ بَعْضِهَا بَعْدَ انْدِمَال بَعْضٍ آخَرَ مِنْهَا لَمْ يَدْخُل مَا انْدَمَل فِي دِيَةِ النَّفْسِ قَطْعًا، وَكَذَا لَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا خَفِيفًا لاَ مَدْخَل لِلسِّرَايَةِ فِيهِ ثُمَّ أَجَافَهُ (أَصَابَهُ بِجَائِفَةٍ) فَمَاتَ بِسِرَايَةِ الْجَائِفَةِ قَبْل انْدِمَال ذَلِكَ الْجُرْحِ فَلاَ يَدْخُل أَرْشُهُ فِي دِيَةِ النَّفْسِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ
__________
(1) جواهر الإكليل شرح مختصر خليل 2 / 270، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 6 / 264، وحاشية البناني على الزرقاني 8 / 43.
(2) شرح الزرقاني على مختصر خليل 8 / 43.(21/89)
الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، أَمَّا مَا لاَ يُقَدَّرُ بِالدِّيَةِ فَيَدْخُل أَيْضًا كَمَا فُهِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ بِالأَْوْلَى، وَكَذَا لَوْ حَزَّهُ الْجَانِي أَيْ قَطَعَ عُنُقَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ قَبْل انْدِمَالِهِ مِنَ الْجِرَاحَةِ يَلْزَمُهُ لِلنَّفْسِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الأَْصَحِّ الْمَنْصُوصِ؛ لأَِنَّ دِيَةَ النَّفْسِ وَجَبَتْ قَبْل اسْتِقْرَارِ مَا عَدَاهَا فَيَدْخُل فِيهَا بَدَلُهُ كَالسِّرَايَةِ. وَالثَّانِي تَجِبُ دِيَاتُ مَا تَقَدَّمَهَا؛ لأَِنَّ السِّرَايَةَ قَدِ انْقَطَعَتْ بِالْقَتْل فَأَشْبَهَ انْقِطَاعَهَا بِالاِنْدِمَال. وَمَا سَبَقَ هُوَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْفِعْل الْمَجْنِيِّ بِهِ، فَإِنْ كَانَ مُخْتِلَفًا كَأَنْ حَزَّ الرَّقَبَةَ عَمْدًا وَالْجِنَايَةُ الْحَاصِلَةُ قَبْل الْحَزِّ خَطَأً، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ عَكْسَهُ كَأَنْ حَزَّهُ خَطَأً وَالْجِنَايَاتُ عَمْدًا أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ فَلاَ تَدَاخُل لِشَيْءٍ مِمَّا دُونَ النَّفْسِ فِيهَا فِي الأَْصَحِّ، بَل يَسْتَحِقُّ الطَّرَفَ وَالنَّفْسَ لاِخْتِلاَفِهِمَا وَاخْتِلاَفِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، فَلَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ ثُمَّ حَزَّ رَقَبَتَهُ عَمْدًا، أَوْ قَطَعَ هَذِهِ الأَْطْرَافَ عَمْدًا ثُمَّ حَزَّ الرَّقَبَةَ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ وَعَفَا الأَْوَّل فِي الْعَمْدِ عَلَى دِيَتِهِ وَجَبَتْ فِي الأُْولَى دِيَةُ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ وَدِيَةُ عَمْدٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ دِيَتَا عَمْدٍ وَدِيَةُ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ، وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ تَسْقُطُ الدِّيَاتُ فِيهِمَا، وَلَوْ حَزَّ الرَّقَبَةَ غَيْرُهُ أَيِ الْجَانِي الْمُتَقَدِّمِ تَعَدَّدَتْ، أَيِ الدِّيَاتُ؛ لأَِنَّ فِعْل الإِْنْسَانِ لاَ يَدْخُل فِي فِعْل غَيْرِهِ، فَيَلْزَمُ كُلًّا مِنْهُمَا مَا أَوْجَبَتْهُ جِنَايَتُهُ (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 76، 77، ونهاية المحتاج 7 / 324، وانظر الروضة 9 / 306، 307.(21/89)
75 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ عَادَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ قَبْل أَنْ تَنْدَمِل جِرَاحُهُ، وَصَارَ الأَْمْرُ إِلَى الدِّيَةِ بِعَفْوِ الْوَلِيِّ أَوْ كَوْنِ الْفِعْل خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَالْوَاجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لأَِنَّهُ قَاتِلٌ قَبْل اسْتِقْرَارِ الْجُرْحِ، فَدَخَل أَرْشُ الْجِرَاحَةِ فِي أَرْشِ النَّفْسِ، كَمَا لَوْ سَرَتْ إِلَى النَّفْسِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: تَجِبُ دِيَةُ الأَْطْرَافِ الْمَقْطُوعَةِ وَدِيَةُ النَّفْسِ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا قَطَعَ بِسِرَايَةِ الْجُرْحِ بِقَتْلِهِ صَارَ كَالْمُسْتَقِرِّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ (1) .
وَإِنْ قَطَعَ الْجَانِي بَعْضَ أَعْضَائِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ أَنْ بَرِئَتِ الْجِرَاحُ، مِثْل إِنْ قَطَعَ الْجَانِي يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَبَرِئَتْ جِرَاحَتُهُ ثُمَّ قَتَلَهُ فَقَدِ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْقَطْعِ بِالْبُرْءِ وَلِوَلِيِّ الْقَتِيل الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ عَفَا وَأَخَذَ ثَلاَثَ دِيَاتٍ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ وَأَخَذَ دِيَتَيْنِ، دِيَةً لِلْيَدَيْنِ وَدِيَةً لِلرِّجْلَيْنِ؛ لأَِنَّ كُل جِنَايَةٍ مِنْ ذَلِكَ اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا، كَمَا قَال الْبُهُوتِيُّ (2) . وَهَذَا يَعْنِي أَنَّهُ لاَ تَدَاخُل بَعْدَ الاِنْدِمَال عِنْدَهُمْ لاَ فِي النَّفْسِ وَلاَ فِي الأَْعْضَاءِ.
مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ:
76 - الأَْصْل أَنَّ الدِّيَةَ إِذَا كَانَ مُوجِبُهَا الْفِعْل الْخَطَأَ أَوْ شِبْهَ الْعَمْدِ، وَلَمْ تَكُنْ أَقَل مِنَ الثُّلُثِ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ، إِلاَّ دِيَةَ الْعَبْدِ أَوْ مَا وَجَبَ بِإِقْرَارِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوِ الصُّلْحِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
__________
(1) المغني 7 / 185، 186، وكشاف القناع 5 / 539.
(2) كشاف القناع 5 / 540.(21/90)
لاَ تَعْقِل الْعَوَاقِل عَمْدًا وَلاَ عَبْدًا وَلاَ صُلْحًا وَلاَ اعْتِرَافًا (1) .
وَيَشْتَرِكُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِي تَحَمُّل دِيَةِ الْخَطَأِ الْجَانِي نَفْسُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ، حَيْثُ قَالُوا: لَيْسَ عَلَى الْجَانِي الْمُخْطِئِ شَيْءٌ مِنَ الدِّيَةِ (2) .
وَقَدْ تَقَدَّمَ دَلِيل وَحِكْمَةُ تَحَمُّل الْعَاقِلَةِ دِيَةَ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ: (عَاقِلَة) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا وَسَقَطَ الْقِصَاصُ بِشُبْهَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، أَوْ ثَبَتَتْ بِاعْتِرَافِ الْجَانِي أَوِ الصُّلْحِ فَإِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي مَال الْجَانِي نَفْسِهِ؛ لأَِنَّهَا دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ، وَمِنْ وُجُوهِ التَّغْلِيظِ فِي الْعَمْدِ وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْجَانِي نَفْسِهِ كَمَا سَبَقَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي عَمْدِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ: فَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا كَمَال الْقَصْدِ، فَدِيَتُهُمَا عَلَى عَاقِلَتِهِمَا كَشِبْهِ
__________
(1) حديث: " لا تعقل العواقل عمدًا ولا عبدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا " أورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 399 - ط المجلس العلمي) وقال: " غريب " يعني: لا أصل له.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 412، وحاشية القليوبي 4 / 156، وجواهر الإكليل 2 / 265(21/90)
الْعَمْدِ (1) . وَلأَِنَّ مَجْنُونًا صَال عَلَى رَجُلٍ بِسَيْفِ فَضَرَبَهُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَعَل عَقْلَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَال: عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ سَوَاءٌ.
وَلأَِنَّ الصَّبِيَّ مَظِنَّةُ الْمَرْحَمَةِ، وَالْعَاقِل الْمُخْطِئُ لَمَّا اسْتَحَقَّ التَّخْفِيفَ حَتَّى وَجَبَتِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَهَؤُلاَءِ - وَهُمْ أَغْرَارٌ - أَوْلَى بِهَذَا التَّخْفِيفِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ: إِنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عَمْدٌ إِذَا كَانَ لَهُمَا نَوْعُ تَمْيِيزٍ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ؛ لأَِنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْل الْعُقُوبَةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا مُوجَبُهُ الآْخَرُ وَهُوَ الدِّيَةُ (3) .
وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى أَهْل الْقَرْيَةِ:
77 - إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي قَرْيَةٍ أَوْ مَكَانٍ مَمْلُوكٍ لِجَمَاعَةٍ، وَلاَ يُعْرَفُ قَاتِلُهُ، وَادَّعَى الأَْوْلِيَاءُ الْقَتْل عَلَى أَهْل الْمَحَلَّةِ، وَجَبَتِ الدِّيَةُ بَعْدَ الْقَسَامَةِ (4) ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِي شُرُوطِ وَأَحْكَامِ الْقَسَامَةِ، تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَسَامَة) .
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 139، والدسوقي مع الشرح الكبير 4 / 282، 486، ومغني المحتاج 4 / 10، والمغني لابن قدامة 7 / 776
(2) نفس المراجع السابقة.
(3) مغني المحتاج 4 / 10.
(4) ابن عابدين 5 / 410، وما بعدها، جواهر الإكليل 2 / 15، وحاشية القليوبي على المنهاج 4 / 163، والمغني 8 / 64 - 68.(21/91)
وُجُوبُ الدِّيَةِ فِي بَيْتِ الْمَال:
يَتَحَمَّل بَيْتُ الْمَال الدِّيَةَ فِي الْحَالاَتِ التَّالِيَةِ:
أ - عَدَمُ وُجُودِ الْعَاقِلَةِ أَوْ عَجْزُهَا عَنْ أَدَاءِ الدِّيَةِ:
78 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ مَنْ لاَ عَاقِلَةَ لَهُ، أَوْ كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ وَعَجَزَتْ عَنْ جَمِيعِ مَا وَجَبَ بِخَطَئِهِ أَوْ تَتِمَّتِهِ تَكُونُ دِيَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَال لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا وَارِثُ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ أَعْقِل عَنْهُ وَأَرِثُهُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: هَذَا إِذَا كَانَ الْجَانِي مُسْلِمًا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا أَوْ ذِمِّيًّا فَدِيَتُهُ فِي مَال الْجَانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الرَّاجِحِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيل: عِنْدَهُمْ قَوْلاَنِ، كَمُسْلِمٍ لاَ عَاقِلَةَ لَهُ وَلاَ بَيْتَ مَالٍ (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَنْ لاَ عَاقِلَةَ لَهُ هَل يُؤَدَّى عَنْهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال أَوْ لاَ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يُؤَدَّى عَنْهُ مِنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الزُّهْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَى الأَْنْصَارِيَّ الَّذِي قُتِل بِخَيْبَرَ مِنْ بَيْتِ الْمَال؛ وَلأَِنَّ
__________
(1) حديث: " أنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه " أخرجه ابن ماجه (2 / 880 - ط الحلبي) ، من حديث المقداد بن معديكرب، وحسنه أبو زرعة الرازي كما في التلخيص لابن حجر (3 / 80 - ط شركة الطباعة الفنية)
(2) ابن عابدين 5 / 413، والمواق على هامش الحطاب 6 / 266، وجواهر الإكليل 2 / 271، والروضة 9 / 354، والمغني 7 / 791، وما بعدها، ومغني المحتاج 4 / 97(21/91)
الْمُسْلِمِينَ يَرِثُونَ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ، فَيَعْقِلُونَ عَنْهُ عِنْدَ عَدَمِ عَاقِلَتِهِ، كَعَصَبَاتِهِ وَمَوَالِيهِ.
وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَجِبُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ بَيْتَ الْمَال فِيهِ حَقٌّ لِلنِّسَاءِ وَالصَّبِيَّانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْفُقَرَاءِ، وَلاَ عَمَل عَلَيْهِمْ، فَلاَ يَجُوزُ صَرْفُهُ فِيمَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْكَافِرُ الذِّمِّيُّ يَعْقِل عَنْهُ ذَوُو دِينِهِ الَّذِينَ يُؤَدُّونَ مَعَهُ الْجِزْيَةَ، وَالصُّلْحِيُّ يَعْقِل عَنْهُ أَهْل صُلْحِهِ (2) .
ب - خَطَأُ الإِْمَامِ أَوِ الْحَاكِمِ فِي حُكْمِهِ:
79 - إِذَا أَخْطَأَ وَلِيُّ الأَْمْرِ أَوِ الْقَاضِي فِي حُكْمِهِ فَتَلِفَ بِذَلِكَ نَفْسٌ أَوْ عُضْوٌ، فَدِيَتُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَال عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمِثَالُهُ مَنْ مَاتَ فِي التَّعْزِيرِ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ وَالتَّجَاوُزِ بِأَمْرِ الإِْمَامِ، فَإِنَّ دِيَتَهُ تَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَال، لاَ عَلَى الْعَاقِلَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِهَا فِي بَيْتِ الْمَال بِأَنَّهُ خَطَأٌ يَكْثُرُ وُجُودُهُ، فَلَوْ وَجَبَ ضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الإِْمَامِ أَجْحَفَ بِهِمْ (3) .
وَفِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لأَِنَّهَا وَجَبَتْ
__________
(1) المغني 7 / 791
(2) جواهر الإكليل 2 / 271
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 190، وروضة الطالبين 11 / 308، والمغني 8 / 312.(21/92)
بِخَطَئِهِ، كَمَا لَوْ رَمَى صَيْدًا فَقَتَل آدَمِيًّا (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ زَادَ فِي التَّعْزِيرِ يَظُنُّ السَّلاَمَةَ فَخَابَ ظَنُّهُ فَهَدَرٌ، وَإِنْ شَكَّ فَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَهُوَ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ (2) .
ج - وُجُودُ الْقَتِيل فِي الأَْمَاكِنِ الْعَامَّةِ:
80 - إِذَا وُجِدَ الْقَتِيل فِي مَكَانٍ يَكُونُ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، كَالشَّارِعِ الأَْعْظَمِ النَّافِذِ، وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَالسِّجْنِ وَكُل مَكَانٍ لاَ يَخْتَصُّ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلاَ لِجَمَاعَةٍ يُحْصَوْنَ، فَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَال؛ لأَِنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ، فَلَمَّا كَانَ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ هُمُ الْمُنْتَفَعِينَ بِهَذِهِ الأَْمَاكِنِ كَانَ الْغُرْمُ عَلَيْهِمْ، فَيُدْفَعُ مِنْ مَالِهِمُ الْمَوْضُوعِ لَهُمْ فِي بَيْتِ الْمَال. وَكَذَلِكَ إِذَا قُتِل شَخْصٌ فِي زِحَامِ طَوَافٍ أَوْ مَسْجِدٍ عَامٍّ أَوِ الطَّرِيقِ الأَْعْظَمِ وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَدِيَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَال (3) ، لِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ يُطَل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ (4) .
تَعَذُّرُ حُصُول الدِّيَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَال:
81 - إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْجَانِي عَاقِلَةٌ، وَتَعَذَّرَ حُصُول الدِّيَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَال لِعَدَمِ وُجُودِهِ أَوْ عَدَمِ ضَبْطِهِ، فَهَل يَسْقُطُ الدَّمُ أَوْ تَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً عَلَى الْجَانِي نَفْسِهِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) الروضة 9 / 228 و 11 / 308، والمغني 8 / 312
(2) الدسوقي 4 / 355.
(3) ابن عابدين 5 / 406، ونيل المآرب 2 / 110
(4) أثر علي - رضي الله عنه -: " لا يطل دم امرئ مسلم " أخرجه سعيد بن منصور في سننه كما في المغني لابن قدامة (8 / 69 - ط الرياض) .(21/92)
وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَال الْجَانِي (1) . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا تَسْقُطُ (2) بِتَعَذُّرِ أَخْذِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَال حَيْثُ وَجَبَتْ فِيهِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْقَاتِل، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ، وَلاَ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَيْضًا لِعَجْزِهَا عَنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهَا مِنَ الدِّيَةِ، وَلَوْ أَيْسَرَتِ الْعَاقِلَةُ بَعْدَ ذَلِكَ أُخِذَتِ الدِّيَةُ مِنْهَا كَامِلَةً لِئَلاَّ يَضِيعَ دَمُ الْمُسْلِمِ هَدَرًا، قَال الرَّحِيبَانِيُّ: وَهَذَا مُتَّجَهٌ، وَيُتَّجَهُ أَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ أَخْذُ الدِّيَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَال فَتَجِبُ فِي مَال الْقَاتِل (3) .
وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ تُؤْخَذُ مِنَ الْجَانِي بَل تَجِبُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ كَنَفَقَةِ الْفُقَرَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ، وَقَال: لَوْ حَدَثَ فِي بَيْتِ الْمَال مَالٌ هَل يُؤْخَذُ مِنْهُ الْوَاجِبُ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لاَ، كَمَا لاَ يُطَالَبُ فَقِيرُ الْعَاقِلَةِ لِغِنَاهُ بَعْدَ الْحَوْل (4) .
مَنْ يَسْتَحِقُّ الدِّيَةَ:
82 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلدِّيَةِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ أَيْ قَطْعِ الأَْطْرَافِ وَإِزَالَةِ الْمَعَانِي هُوَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، إِذْ هُوَ الْمُتَضَرِّرُ، فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالدِّيَةِ، وَلَهُ حَقُّ الإِْبْرَاءِ وَالْعَفْوُ عَنْهَا. وَإِذَا عَفَا عَنِ الدِّيَةِ فَلَيْسَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 413، الخرشي 8 / 46، ومغني المحتاج 4 / 97، والروضة 9 / 357، والمغني 7 / 792، 793
(2) نيل المآرب 2 / 110
(3) مطالب أولي النهى 6 / 139، 140
(4) الروضة 9 / 357(21/93)
لِلأَْوْلِيَاءِ الْمُطَالَبَةُ بِشَيْءٍ إِذَا لَمْ تَسْرِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ.
أَمَّا إِذَا سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ وَمَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بَعْدَ عَفْوِهِ عَنْ قَطْعِ الأَْطْرَافِ وَالْمَعَانِي فَهَل لِلأَْوْلِيَاءِ الْمُطَالَبَةُ بِدِيَةِ النَّفْسِ لأَِنَّ الْعَفْوَ حَصَل عَنِ الْقَطْعِ لاَ عَنِ الْقَتْل؟ أَوْ لَيْسَ لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِالدِّيَةِ الْكَامِلَةِ؛ لأَِنَّ الْعَفْوَ عَنْ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ وَهُوَ الْقَطْعُ عَفْوٌ عَنِ الْجِنَايَةِ نَفْسِهَا؟ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص، وَعَفْو، وَسِرَايَة) .
أَمَّا دِيَةُ النَّفْسِ فَهِيَ مَوْرُوثَةٌ كَسَائِرِ أَمْوَال الْمَيِّتِ حَسَبَ الْفَرَائِضِ الْمُقَدَّرَةِ شَرْعًا فِي تَرِكَتِهِ فَيَأْخُذُ مِنْهَا كُلٌّ مِنَ الْوَرَثَةِ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ نَصِيبَهُ الْمُقَدَّرَ لَهُ بِاسْتِثْنَاءِ الْقَاتِل، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (1) وَلِمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ قَال: الْعَقْل مِيرَاثٌ بَيْنَ وَرَثَةِ الْقَتِيل عَلَى فَرَائِضِهِمْ (2) . وَهَذَا قَوْل أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ (3) .
__________
(1) سورة النساء / 92
(2) حديث: " العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم " أخرجه النسائي (8 / 3 - ط المكتبة التجارية) ، وأبو داود (4 / 692 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده حسن
(3) فتح القدير مع الهداية 8 / 284، 286، وكفاية الطالب شرح الرسالة 2 / 247، والمواق مع الحطاب 6 / 258، وحاشية الجمل 5 / 108، 109، ومغني المحتاج 4 / 105، ومطالب أولي النهى 4 / 497، 498، والأم للشافعي 7 / 149، والمغني لابن قدامة 6 / 320(21/93)
وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: لاَ يَرِثُ الدِّيَةَ إِلاَّ عَصَبَاتُ الْمَقْتُول الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنْهُ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ لَمَّا بَلَغَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْرِيثُ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا (1) . فَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ الضَّحَّاكِ الْكِلاَبِيِّ قَال: كَتَبَ إِلَيَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا أَشْيَمَ (2) .
وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لِلْمَقْتُول وَارِثٌ تُؤَدَّى دِيَتُهُ لِبَيْتِ الْمَال لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا وَارِثُ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ، أَعْقِل عَنْهُ وَأَرِثُهُ (3) .
الْعَفْوُ عَنِ الدِّيَةِ:
83 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الدِّيَةَ تَسْقُطُ بِالْعَفْوِ عَنْهَا. فَإِذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ دِيَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْقَطْعِ وَإِتْلاَفِ الْمَعَانِي تَسْقُطُ دِيَتُهَا؛ لأَِنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ الَّتِي تَسْقُطُ بِعَفْوِ مَنْ لَهُ حَقُّ الْعَفْوِ، وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ هُوَ
__________
(1) المراجع السابقة، والمغني لابن قدامة 6 / 320، 321، وجواهر الإكليل 2 / 264
(2) حديث: " أنه ورث امرأة أشيم الضبابي " أخرجه أبو داود (3 / 339 - 340 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ونقل الزيلعي عن ابن القطان أنه أعله بالانقطاع بين عمر بن الخطاب والراوي عنه، وهو سعيد بن المسيب، كذا في نصب الراية للزيلعي (4 / 352 - ط المجلس العلمي)
(3) حديث: " أنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه " سبق تخريجه ف / 78.(21/94)
الْمُسْتَحِقُّ الْوَحِيدُ فِي دِيَةِ الأَْطْرَافِ وَالْمَعَانِي.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ دِيَةَ النَّفْسِ تَسْقُطُ بِعَفْوِ أَوْ إِبْرَاءِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا. وَإِذَا عَفَا أَوْ أَبْرَأَ بَعْضُهُمْ دُونَ الْبَعْضِ يَسْقُطُ حَقُّ مَنْ عَفَا وَتَبْقَى حِصَّةُ الآْخَرِينَ فِي مَال الْجَانِي إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا، وَعَلَى الْعَاقِلَةِ إِنْ كَانَتْ خَطَأً.
وَاتَّفَقُوا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَهُ الْعَفْوُ عَنْ دَمِ نَفْسِهِ بَعْدَ مَا وَجَبَ لَهُ الدَّمُ مِثْل أَنْ يَعْفُوَ بَعْدَ إِنْفَاذِ مَقَاتِلِهِ عَمْدًا كَانَ الْقَتْل أَوْ خَطَأً.
وَإِذَا صَارَ الأَْمْرُ إِلَى الدِّيَةِ يَكُونُ الْعَفْوُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ فَيَنْعَقِدُ فِي الثُّلُثِ (1) .
أَمَّا إِذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ دِيَةِ قَطْعِ عُضْوٍ، فَسَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى عُضْوٍ آخَرَ أَوْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَهَل يَشْمَل الْعَفْوُ دِيَةَ النَّفْسِ أَوِ الْعُضْوِ الَّذِي سَرَتْ إِلَيْهِ الْجِنَايَةُ؟ فَفِيهِ مَا يَأْتِي مِنَ التَّفْصِيل:
أ - إِذَا عَفَا عَنِ الْقَطْعِ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ بِأَنْ قَال: عَفَوْتُ عَنْ جِنَايَتِكَ، أَوْ قَال: عَفَوْتُ عَنِ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ، شَمَل الْعَفْوُ مَا يَحْدُثُ مِنَ الْقَطْعِ مِنْ إِتْلاَفِ عُضْوٍ آخَرَ أَوِ الْمَوْتِ.
وَإِنْ عَفَا عَنِ الْقَطْعِ مُطْلَقًا بِأَنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَوَدٍ وَلاَ دِيَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَحْدُثُ مِنْهُ فَهَذَا الْعَفْوُ يَخُصُّ الْقَطْعَ، وَلاَ يَتَنَاوَل مَا يَسْرِي مِنْهُ مِنْ إِتْلاَفِ أَعْضَاءٍ
__________
(1) فتح القدير مع الهداية 8 / 284، 285، والبدائع 7 / 249، ومواهب الجليل مع المواق 5 / 86، 87 و 6 / 255، وجواهر الإكليل 2 / 276، وحاشية الجمل على المنهج 5 / 54، 56، والمغني 7 / 748، وما بعدها(21/94)
أُخْرَى أَوِ النَّفْسِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) ، وَعَلَى ذَلِكَ فَالْجَانِي ضَامِنٌ لِلْجِنَايَةِ وَمَا تَسْرِي إِلَيْهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ. حَتَّى إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا بِالْقِصَاصِ بَعْدَ الْقَسَامَةِ إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا مِنْ وَاحِدٍ تَعَيَّنَ لَهَا.
وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ لِعَدَمِ شُمُول الْعَفْوِ لِمَا يَسْرِي مِنْهُ مِنْ إِتْلاَفِ الأَْعْضَاءِ أَوِ النَّفْسِ بِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ قَتْل النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ (أَوْ إِتْلاَفُ الْعُضْوِ) ، وَالْعَفْوُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ بِصَرِيحِهِ؛ لأَِنَّهُ عَفَا عَنِ الْقَطْعِ، وَهُوَ غَيْرُ الْقَتْل، وَبِالسِّرَايَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاقِعَ قَتْلٌ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ إِلاَّ أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ صُورَةَ الْعَفْوِ أَوْرَثَتْ شُبْهَةً وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقَوَدِ، بِخِلاَفِ الْعَفْوِ عَنِ الْقَطْعِ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ؛ لأَِنَّهَا اسْمُ جِنْسٍ وَبِخِلاَفِ الْعَفْوِ عَنِ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ لأَِنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْعَفْوِ عَنِ السِّرَايَةِ وَالْقَتْل (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَصِحُّ الْعَفْوُ، وَيَتَنَاوَل مَا يَسْرِي عَنِ الْقَطْعِ مِنْ إِتْلاَفِ عُضْوٍ آخَرَ أَوِ النَّفْسِ، فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْقَاتِل، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقَطْعِ عَفْوٌ عَنْ مُوجَبِهِ، وَمُوجَبُهُ الْقَطْعُ
__________
(1) فتح القدير مع الهداية 8 / 284، 285، والبدائع 7 / 249، ومواهب الجليل مع المواق 5 / 86، 87 و 6 / 255، وجواهر الإكليل 2 / 276، وحاشية الجمل على المنهج 5 / 54، 56، والمغني 7 / 748، وما بعدها(21/95)
لَوِ اقْتَصَرَ، أَوِ الْقَتْل إِذَا سَرَى، فَكَانَ الْعَفْوُ عَنْهُ عَفْوًا عَنْ مُوجَبِهِ أَيُّهُمَا كَانَ. وَلأَِنَّ اسْمَ الْقَطْعِ يَتَنَاوَل السَّارِيَ وَالْمُقْتَصِرَ، فَيَكُونُ الْعَفْوُ عَنِ الْقَطْعِ عَفْوًا عَنْ نَوْعَيْهِ، وَصَارَ كَمَا إِذَا كَانَ الْعَفْوُ عَنِ الْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَل الْجِنَايَةَ السَّارِيَةَ وَالْمُقْتَصِرَةَ فَكَذَا هَذَا.
وَعَلَى ذَلِكَ فَتَسْقُطُ بِعَفْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَنِ الْقَطْعِ وَلَوْ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ عِنْدَهُمْ (1) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (قَتْل، قِصَاص، سِرَايَة) .
__________
(1) المراجع السابقة(21/95)
دِيَاثَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدِّيَاثَةُ لُغَةً: الاِلْتِوَاءُ فِي اللِّسَانِ، وَلَعَلَّهُ مِنَ التَّذْلِيل وَالتَّلْيِينِ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ دَاثَ الشَّيْءُ دَيْثًا مِنْ بَابِ بَاعَ لاَنَ وَسَهُل، وَيُعَدَّى بِالتَّثْقِيل فَيُقَال دَيَّثَ غَيْرَهُ. وَمِنْهُ اشْتِقَاقُ الدَّيُّوثِ، وَهُوَ الرَّجُل الَّذِي لاَ غَيْرَةَ لَهُ عَلَى أَهْلِهِ، وَالدِّيَاثَةُ بِالْكَسْرِ: فِعْلُهُ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عُرِّفَتِ الدِّيَاثَةُ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ يَجْمَعُهَا مَعْنًى وَاحِدٌ لاَ تَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ عَدَمُ الْغَيْرَةِ عَلَى الأَْهْل وَالْمَحَارِمِ (2) .
وَمِثْل الدَّيُّوثِ عِنْدَهُمُ الْقَرْطَبَانُ (3) - بِفَتْحِ
__________
(1) الصحاح والقاموس واللسان والمصباح مادة: " ديث "، والمغرب / 172 ط العربي
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 3 / 184 ط المصرية، وأسنى المطالب 3 / 327 ط. الميمنية، روضة الطالبين 8 / 185 - 186ط. المكتب الإسلامي، كشاف القناع 6 / 112 ط. النصر، المغني 8 / 223 ط الرياض
(3) المصباح مادة: " قرط "، حاشية ابن عابدين 3 / 184 ط. المصرية، تبيين الحقائق 3 / 208 ط. بولاق، الفتاوى الهندية 2 / 168 ط. المكتبة الإسلامية، أسنى المطالب 3 / 327 ط الميمنية، روضة الطالبين 8 / 185 - 186 ط. المكتب الإسلامي، مغني المحتاج 3 / 334 ط. التراث، نهاية المحتاج 7 / 51 - 52 ط. المكتبة الإسلامية، حاشية القليوبي 3 / 364 ط الحلبي، كشاف القناع 6 / 112 ط النصر، المغني 8 / 223 ط. الرياض.(21/96)
الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ - وَالْقَرْنَانُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - قِيَادَةٌ
2 - الْقِيَادَةُ ذَاتُ الصِّلَةِ بِالدِّيَاثَةِ هِيَ: السَّعْيُ بَيْنَ الرَّحْل وَالْمَرْأَةِ بِالْفُجُورِ، وَهِيَ فِعْل الْقَوَّادِ، كَمَا أَنَّ الدِّيَاثَةَ فِعْل الدَّيُّوثِ، وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - الدِّيَاثَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثَةٌ لاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالدَّيُّوثُ، وَرَجُلَةُ النِّسَاءِ (3) .
فَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً يُمْكِنُ احْتِسَابُهَا مِنَ الإِْفْسَادِ فِي الأَْرْضِ. قَال الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ:
__________
(1) المصباح مادة: " قرن "، الدسوقي 4 / 329 ط. الفكر، جواهر الإكليل 2 / 288 ط. المعرفة، الزرقاني 8 / 89 ط. الفكر، التاج والإكليل 6 / 301 ط. النجاح، الخرشي 8 / 88 - 89 ط بولاق، المغني 8 / 233 ط. الرياض.
(2) لسان العرب، والمعجم الوسيط
(3) حديث: " ثلاثة لا يدخلون الجنة ". أخرجه الحاكم (1 / 72 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمر، وصححه، ووافقه الذهبي(21/96)
إِنَّ الْحِرَابَةَ فِي الْفُرُوجِ أَفْحَشُ مِنْهَا فِي الأَْمْوَال، وَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ لَيَرْضَوْنَ أَنْ تَذْهَبَ أَمْوَالُهُمْ وَتُحْرَبَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَلاَ يُحْرَبَ الْمَرْءُ مِنْ زَوْجَتِهِ أَوْ بِنْتِهِ، وَلَوْ كَانَ فَوْقَ مَا قَال اللَّهُ عُقُوبَةٌ، لَكَانَتْ لِمَنْ يَسْلُبُ الْفُرُوجَ (1)) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّيَاثَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - الطَّلاَقُ:
4 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الدِّيَاثَةَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الطَّلاَقِ وَأَسْبَابِهَا، عَلَى اخْتِلاَفٍ فِي الْحُكْمِ مِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ أَوِ النَّدْبُ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (طَلاَق) .
ب - الْقَذْفُ وَالتَّعْزِيرُ:
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ شَتَمَ آخَرَ بِأَنْ قَال لَهُ: يَا دَيُّوثُ، فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ وَلاَ يُحَدُّ؛ لأَِنَّهُ آذَاهُ بِإِلْحَاقِ الشَّيْنِ بِهِ، وَلاَ مَدْخَل لِلْقِيَاسِ فِي بَابِ الْحُدُودِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ (3) .
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 594، الشرح الصغير للدردير 4 / 491، الكبائر للذهبي ص100، كبيرة 270
(2) أسنى المطالب 3 / 327 ط الميمنية، وروضة الطالبين 8 / 185 - 186ط. المكتب الإسلامي، مغني المحتاج 3 / 334 ط التراث، ونهاية المحتاج 7 / 51 - 52 ط المكتبة الإسلامية، وحاشية القليوبي 3 / 364 ط الحلبي، كشاف القناع 5 / 233 ط. النصر، المغني 7 / 97 ط الرياض
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 184 ط المصرية، تبيين الحقائق 3 / 208 ط. بولاق، الفتاوى الهندية 2 / 168 ط. المكتبة الإسلامية، الدسوقي 4 / 329 ط. الفكر، جواهر الإكليل 2 / 288 ط. المعرفة، الزرقاني 8 / 89 ط. الفكر، التاج والإكليل 6 / 301 ط. النجاح، الخرشي 8 / 88 - 89 ط. بولاق، روضة الطالبين 8 / 313 ط. المكتب الإسلامي، كشاف القناع 6 / 112 ط. النصر، المغني 8 / 223 ط. الرياض.(21/97)
ج - الشَّهَادَاتُ:
6 - ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الدِّيَاثَةَ مِنَ الأُْمُورِ الْمُسْقِطَةِ لِلْعَدَالَةِ (1) وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (شَهَادَة) .
__________
(1) حاشية الدرر على الغرر / 429 ط. العثمانية، حاشية ابن عابدين 4 / 377 ط. المصرية، فتح القدير 6 / 38 ط. الأميرية، مواهب الجليل 6 / 151 ط. النجاح، الدسوقي 4 / 165 ط. الفكر، الخرشي 7 / 177 ط. بولاق، الزرقاني 7 / 158 ط. الفكر، جواهر الإكليل 2 / 233 ط. المعرفة، أسنى المطالب 4 / 341 ط. الميمنية، روضة الطالبين 11 / 223 ط. المكتب الإسلامي، كشاف القناع 5 / 421 ط النصر.(21/97)
دِيَانَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدِّيَانَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ دَانَ يَدِينُ بِالدِّينِ دِيَانَةً: إِذَا تَعَبَّدَ بِهِ. وَتَدَيَّنَ بِهِ كَذَلِكَ، فَهُوَ دَيِّنٌ، مِثْل سَادَ فَهُوَ سَيِّدٌ، وَدَيَّنْتُهُ (بِالتَّشْدِيدِ) وَكَّلْتُهُ إِلَى دِينِهِ، وَتَرَكْتُهُ وَمَا يَدِينُ: لَمْ أَعْتَرِضْ عَلَيْهِ فِيمَا يَرَاهُ سَائِغًا فِي اعْتِقَادِهِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: هِيَ قَبُول دَعْوَى الْحَالِفِ، أَوِ الْمُطَلِّقِ وَنَحْوِهِمَا بِلَفْظٍ صَرِيحٍ بِالنِّيَّةِ، لاَ قَضَاءَ إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ قَصَدَ بِاللَّفْظِ مَا يُخَالِفُ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ عُرْفًا، وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُهُ، احْتِمَالاً بَعِيدًا (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَضَاءُ:
2 - الْقَضَاءُ لُغَةً: الْحُكْمُ، وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الإِْخْبَارُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى سَبِيل الإِْلْزَامِ (3) .
__________
(1) المصباح المنير وتاج العروس مادة: " دين ".
(2) معين الحكام ص 6، نهاية المحتاج 8 / 235.
(3) معين الحكام ص 6، نهاية المحتاج 8 / 235(21/98)
ب - الإِْفْتَاءُ:
3 - الإِْفْتَاءُ لُغَةً: إِبَانَةُ الْحُكْمِ، وَاصْطِلاَحًا: هُوَ إِظْهَارُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي الْوَاقِعَةِ لاَ عَلَى سَبِيل الإِْلْزَامِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا تَلَفَّظَ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ بِالطَّلاَقِ كَأَنْ يَقُول مُخَاطِبًا زَوْجَتَهُ: أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ يَقُول: أَرَدْتُ أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ مِنْ قَيْدٍ حِسِّيٍّ أَوْ مِنْ دَيْنٍ كَانَ عَلَيْهَا، أَوْ يَقُول: أَرَدْتُ أَنْ أَقُول: أَنْتِ حَائِضٌ مَثَلاً فَسَبَقَ لِسَانِي إِلَى أَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ أَقْصِدْ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْبَل قَضَاءً لأَِنَّهُ خِلاَفُ الظَّاهِرِ، وَيُقْبَل دِيَانَةً؛ لأَِنَّهُ صَرْفُ اللَّفْظِ إِلَى مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ. وَيُتْرَكُ وَشَأْنَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ سَأَلَتْهُ الطَّلاَقَ وَكَانَتْ مُوَثَّقَةً، فَقَال: أَنْتِ طَالِقٌ، وَادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الطَّلاَقَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مِنَ الْوَثَاقِ، أَوْ كَانَتْ مُوثَقَةً لَمْ تَسْأَلْهُ، فَقَال: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ لَمْ تَكُنْ مُوثَقَةً وَقَال لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، فَالْحُكْمُ فِي الأَْوَّل يُدَيَّنُ بِلاَ خِلاَفٍ، وَفِي الثَّالِثِ لاَ يُدَيَّنُ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ، أَمَّا الثَّانِي فَقِيل: يُدَيَّنُ وَقِيل: لاَ يُدَيَّنُ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 431، المغني 7 / 122، روضة الطالبين 8 / 18.
(2) الدسوقي 2 / 378(21/98)
وَمَعْنَى الدِّيَانَةِ هُنَا مَعَ نَفْيِ الْقَبُول ظَاهِرًا، أَنْ يُقَال لِلْمَرْأَةِ: أَنْتِ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَكِ تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِكِ إِلاَّ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّكِ صِدْقُهُ بِقَرِينَةٍ. وَيُقَال لِلزَّوْجِ: لاَ نُمَكِّنُكَ مِنْ تَتَبُّعِهَا، وَلَكَ أَنْ تَتْبَعَهَا، وَالطَّلَبُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، وَتَحِل لَكَ إِذَا رَاجَعْتَهَا (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَعْنَى الدِّيَانَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَهُ بِعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلاَقِ. أَمَّا الْقَاضِي فَلاَ يَجُوزُ لَهُ تَصْدِيقُهُ، وَيَقْضِي عَلَيْهِ بِالْوُقُوعِ؛ لأَِنَّهُ خِلاَفُ الظَّاهِرِ، بِلاَ قَرِينَةٍ، وَالْمَرْأَةُ كَالْقَاضِي، لاَ يَحِل لَهَا تَمْكِينُهُ مِنْ نَفْسِهَا، وَلَيْسَ لَهَا دَفْعُهُ عَنْهَا بِقَتْلِهِ، بَل تَفْدِي نَفْسَهَا بِمَالٍ أَوْ تَهْرُبُ مِنْهُ (2) .
ضَابِطُ مَا يُدَيَّنُ فِيهِ، وَمَا يُقْبَل ظَاهِرًا:
5 - قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: مَا يَدَّعِيهِ الشَّخْصُ مِنَ النِّيَّةِ: أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرْفَعَ مَا صَرَّحَ بِهِ بِأَنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَال: أَرَدْتُ طَلاَقًا لاَ يَقَعُ عَلَيْكِ، أَوْ لَمْ أُرِدْ إِيقَاعَ الطَّلاَقِ، فَلاَ تُؤَثِّرُ دَعْوَاهُ ظَاهِرًا، وَلاَ يُدَيَّنُ بَاطِنًا؛ لأَِنَّهُ خِلاَفُ الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ.
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مَا يَدَّعِيهِ مُقَيِّدًا لِمَا تَلَفَّظَ بِهِ
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 18 - 20
(2) ابن عابدين 2 / 432، وفيه تفصيل لا بد من الرجوع إليه لضبط المسألة(21/99)
مُطْلَقًا، بِأَنْ يَقُول: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ يَقُول: أَرَدْتُ عِنْدَ دُخُول الدَّارِ، فَلاَ يُقْبَل ظَاهِرًا، وَفِي التَّدْيِينِ خِلاَفٌ.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَرْجِعَ مَا يَدَّعِيهِ إِلَى تَخْصِيصِ عُمُومٍ فَيُدَيَّنُ، وَفِي الْقَبُول ظَاهِرًا خِلاَفٌ.
رَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلاً لِلطَّلاَقِ مِنْ غَيْرِ شُيُوعٍ وَظُهُورٍ، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ تَقَعُ الْكِنَايَاتُ، وَيُعْمَل فِيهَا بِالنِّيَّةِ (أَيْ قَضَاءً وَدِيَانَةً) .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ ضَابِطٌ آخَرُ: قَالُوا: يُنْظَرُ فِي التَّفْسِيرِ بِخِلاَفِ الظَّاهِرِ، فَإِنْ كَانَ لَوْ وَصَل بِاللَّفْظِ لاَ يَنْتَظِمُ الْكَلاَمُ وَلاَ يَسْتَقِيمُ مَعْنَاهُ لَمْ يُقْبَل قَضَاءً، وَلاَ دِيَانَةً، كَأَنْ يَقُول: أَرَدْتُ طَلاَقًا لاَ يَقَعُ، وَإِنْ كَانَ الْكَلاَمُ يَنْتَظِمُ وَيَسْتَقِيمُ مَعْنَاهُ بِالْوَصْل، فَلاَ يُقْبَل ظَاهِرًا، وَيُقْبَل دِيَانَةً.
كَأَنْ يَقُول: أَرَدْتُ طَلاَقًا فِي وَثَاقٍ، أَوْ: أَرَدْتُ إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ؛ لأَِنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ (1) . وَاسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا نِيَّةَ التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا: لاَ يُدَيَّنُ فِيهِ عَلَى الْمَذْهَبِ.
6 - وَالْيَمِينُ، وَالإِْيلاَءُ، وَالظِّهَارُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَالطَّلاَقِ، فَلاَ يُقْبَل مِنْهُ قَضَاءً إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ أَرَادَ
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 19 و 20(21/99)
بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ فِيمَا ذُكِرَ مَا يُخَالِفُ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، فَإِنْ حَلَفَ أَنَّهُ لاَ يَأْكُل خُبْزًا أَوْ لاَ يَشْرَبُ لَبَنًا، ثُمَّ قَال: أَرَدْتُ نَوْعًا خَاصًّا مِنَ الْخُبْزِ وَاللَّبَنِ، فَلاَ يُقْبَل مِنْهُ قَضَاءً لأَِنَّهُ خِلاَفُ الطَّاهِرِ وَيُقْبَل دِيَانَةً؛ لأَِنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ بِالنِّيَّةِ جَائِزٌ وَالاِحْتِمَال قَائِمٌ، فَيُوَكَّل إِلَى دِينِهِ بَاطِنًا، أَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَيُحْكَمُ بِحِنْثِهِ؛ لأَِنَّهُ يَدَّعِي خِلاَفَ الظَّاهِرِ (1) .
وَنَحْنُ نُحَكِّمُ الظَّوَاهِرَ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ.
وَفِي الإِْيلاَءِ: إِنْ قَال: وَاللَّهِ لاَ وَطِئْتُكِ، أَوْ وَاللَّهِ لاَ جَامَعْتُكِ، أَوْ لاَ أَصَبْتُكِ، أَوْ لاَ بَاشَرْتُكِ، ثُمَّ قَال: أَرَدْتُ بِالْوَطْءِ: بِالْقَدَمِ، وَبِالْجِمَاعِ: اجْتِمَاعَ الأَْجْسَامِ، وَبِالإِْصَابَةِ: الإِْصَابَةَ بِالْيَدِ، لَمْ يُقْبَل مِنْهُ فِي الْحُكْمِ؛ لأَِنَّهُ خِلاَفُ الظَّاهِرِ وَالْعُرْفِ، وَيُقْبَل مِنْهُ دِيَانَةً لأَِنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ.
وَتُنْظَرُ الأَْمْثِلَةُ وَالتَّطْبِيقَاتُ فِي أَبْوَابِ الطَّلاَقِ وَالأَْيْمَانِ، وَالإِْيلاَءِ، وَالظِّهَارِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ تَعَرَّضَ الْمَالِكِيَّةُ لِهَذَا فِي مَسْأَلَةِ نُفُوذِ حُكْمِ الْحَكَمِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِمَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلنِّيَّةِ وَلِعِلْمِ الشَّخْصِ، لاَ لِلْحُكْمِ الظَّاهِرِ فِيمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ فِعْل الْحَرَامِ، وَقَال الْقَرَافِيُّ يُؤْخَذُ النَّاسُ بِأَلْفَاظِهِمْ وَلاَ تَنْفَعُهُمْ نِيَّتُهُمْ إِلاَّ أَنْ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 68(21/100)
تَكُونَ قَرِينَةٌ مُصَدِّقَةٌ. وَنُقِل فِيمَنْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ، وَنَوَى مِنْ وَثَاقٍ، أَنَّهُ قِيل: يُدَيَّنُ، وَقِيل: لاَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا (1) .
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 164، الشرح الصغير 4 / 223، القوانين الفقهية 153، القليوبي 4 / 10، المغني 7 / 317(21/100)
دِيبَاجٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدِّيبَاجُ ضَرْبٌ مِنَ الثِّيَابِ سَدَاهُ وَلُحْمَتُهُ مِنَ الإِْبْرَيْسَمِ (الْحَرِيرِ الطَّبِيعِيِّ) (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - يَتَّصِل بِلَفْظِ دِيبَاجٍ عَدَدٌ مِنَ الأَْلْفَاظِ وَهِيَ: إِبْرَيْسَمٌ - إِسْتَبْرَقٌ - خَزٌّ - دِمَقْسٌ - سُنْدُسٌ - قَزٌّ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلاَمُ فِيهَا مُفَصَّلاً فِي مُصْطَلَحِ: (حَرِير) فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ.
الأَْحْكَامُ الإِْجْمَالِيَّةُ:
3 - أَحْكَامُ الدِّيبَاجِ فِي الْجُمْلَةِ هِيَ الأَْحْكَامُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي مُصْطَلَحِ حَرِيرٍ، إِذِ الدِّيبَاجُ لاَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ حَرِيرًا، وَلَمْ يَذْكُرِ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامًا خَاصَّةً بِالدِّيبَاجِ إِلاَّ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ.
__________
(1) اللسان والمصباح والصحاح مادة: " دبج "، والمغرب / 159 - 160 - ط. العربي، والمصباح مادة: " سد "، ومادة: " لحم "، وفي معنى: الإبريسم. راجع تاج العروس باب الميم فصل الباء مادة: " برسم ".(21/101)
أ - الاِسْتِجْمَارُ بِهِ:
4 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ الاِسْتِجْمَارُ بِخِرْقَةِ الدِّيبَاجِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِفْسَادِ الْمَال مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.
وَجَوَّزَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ حَتَّى لِلرِّجَال؛ لأَِنَّ الاِسْتِجْمَارَ بِهِ، لاَ يُعَدُّ اسْتِعْمَالاً لَهُ فِي الْعُرْفِ. وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل يُنْظَرُ: (حَرِير) .
دَيْرٌ
انْظُرْ: مَعَابِد(21/101)
دَيْنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - أ - الدَّيْنُ فِي اللُّغَةِ: يُقَال دَانَ الرَّجُل يَدِينُ دَيْنًا مِنْ الْمُدَايَنَةِ. وَيُقَال: دَايَنْتُ فُلاَنًا إِذَا عَامَلْتَهُ دَيْنًا، إِمَّا أَخْذًا أَوْ عَطَاءً. مِنْ أَدَنْتُ: أَقْرَضْتُ وَأَعْطَيْتُ دَيْنًا (1) .
ب - مَعْنَى الدَّيْنِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ:
2 - قِيل فِي مَعْنَاهُ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ أَوْضَحُهَا مَا قَالَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ: " الدَّيْنُ لُزُومُ حَقٍّ فِي الذِّمَّةِ ".
فَيَشْمَل الْمَال وَالْحُقُوقَ غَيْرَ الْمَالِيَّةِ كَصَلاَةٍ فَائِتَةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا يَشْمَل مَا ثَبَتَ بِسَبَبِ قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ إِتْلاَفٍ أَوْ جِنَايَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (2) .
__________
(1) لسان العرب، معجم مقاييس اللغة
(2) فتح الغفار شرح المنار (ط. مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1355 هـ) 3 / 20، والعناية شرح الهداية (مطبعة الميمنية بمصر سنة 1306هـ) 6 / 346، وانظر الفروق للقرافي 2 / 134، منح الجليل 1 / 362، وما بعدها، نهاية المحتاج 3 / 130، وما بعدها، أسنى المطالب 1 / 356، 585، العذب الفائض شرح عمدة الفارض 1 / 15، والزرقاني على خليل 2 / 164، 178، وشرح منتهى الإرادات 1 / 368، والقواعد لابن رجب ص 144(21/102)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَيْنُ:
3 - يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ فِي اصْطِلاَحِهِمْ كَلِمَةَ " الْعَيْنِ " فِي مُقَابِل " الدَّيْنِ " بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّيْنَ هُوَ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا مُشَخَّصًا، سَوَاءٌ أَكَانَ نَقْدًا أَمْ غَيْرَهُ (1) . أَمَّا الْعَيْنُ " فَهِيَ الشَّيْءُ الْمُعَيَّنُ الْمُشَخَّصُ كَبَيْتٍ (2) ".
ب - الْكَالِئُ:
4 - الْكَالِئُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ الْمُؤَخِّرُ (3) . وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ (4) . وَالْمُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بَيْعُ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ، أَوِ الدَّيْنِ الْمُؤَخَّرِ بِالدَّيْنِ الْمُؤَخَّرِ (5) .
__________
(1) انظر رد المحتار (بولاق سنة 1272 هـ) 4 / 25، والمادة (158) من مجلة الأحكام العدلية
(2) انظر م 159 من مجلة الأحكام العدلية
(3) لسان العرب، معجم مقاييس اللغة، الصحاح
(4) حديث: " نهى عن بيع الكالئ بالكالئ. . . " أخرجه الدارقطني (3 / 71 - ط دار المحاسن) من حديث ابن عمر، ونقل ابن حجر عن الشافعي أنه قال: (أهل الحديث يوهنون هذا الحديث) . وذكر ابن حجر سبب ضعفه، كما في التلخيص الحبير (3 / 26 - 27 - ط شركة الطباعة الفنية) . غير أن الأمة تلقته بالقبول، كما انعقد الإجماع على عدم جواز بيع الكالئ بالكالئ. وهذا يؤيد قبوله
و (5) انظر الموطأ 2 / 628، الأم 3 / 33، المهذب 1 / 278، شرح منتهى الإرادات 2 / 200، المبدع 4 / 150، البناية على الهداية 6 / 550، المغني 4 / 53، نظرية العقد لابن تيمية ص 235، تكملة المجموع (المنيرية) 10 / 107، بداية المجتهد 2 / 162، الإجماع لابن المنذر ص 117(21/102)
ج - الْقَرْضُ:
5 - الْقَرْضُ عَقْدٌ مَخْصُوصٌ يَرِدُ عَلَى دَفْعِ مَالٍ مِثْلِيٍّ لآِخَرَ لِيَرُدَّ مِثْلَهُ (1) . وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ أَحْيَانًا اسْمُ " دَيْنٍ " فَيُقَال: دَانَ فُلاَنٌ يَدِينُ دَيْنًا: اسْتَقْرَضَ. وَدِنْتُ الرَّجُل: أَقْرَضْتُهُ (2) . وَالْقَرْضُ أَخَصُّ مِنَ الدَّيْنِ.
مَا يَقْبَل الثُّبُوتَ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا مِنَ الأَْمْوَال:
6 - عَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الدَّيْنَ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ " مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ مَالٍ فِي مُعَاوَضَةٍ، أَوْ إِتْلاَفٍ، أَوْ قَرْضٍ " وَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عِبَارَةٌ عَنْ " مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ مَالٍ بِسَبَبٍ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ ". وَهَذَا الْخِلاَفُ فِي حَقِيقَةِ الدَّيْنِ - بِالنَّظَرِ إِلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ - لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ عَلَى قَضِيَّةِ: أَيُّ الأَْمْوَال يَصِحُّ أَنْ تَثْبُتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَأَيُّهَا لاَ تَقْبَل ذَلِكَ؟ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَال يَنْقَسِمُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى قِسْمَيْنِ: أَعْيَانٍ وَمَنَافِعَ. أَوَّلاً: أَمَّا الأَْعْيَانُ فَهِيَ نَوْعَانِ: مِثْلِيٌّ، وَقِيَمِيٌّ.
أ - أَمَّا الْمِثْلِيُّ:
7 - فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ أَنْ
__________
(1) رد المحتار (بولاق 1272 هـ) 4 / 171
(2) الصحاح للجوهري والمصباح المنير مادة: " دين "، كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي (ط. كلكته) 2 / 502(21/103)
يَكُونَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَمِنْ هُنَا جَازَ إِقْرَاضُهُ وَالسَّلَمُ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. فَإِذَا وَجَبَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الذِّمَّةِ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنٍ مَوْصُوفَةٍ غَيْرِ مُشَخَّصَةٍ، وَكُل عَيْنٍ تَتَحَقَّقُ فِيهَا تِلْكَ الصِّفَاتُ الْمُعَيَّنَةُ يَصِحُّ لِلْمَدِينِ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا دَيْنَهُ، وَلَيْسَ لِلدَّائِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ قَبُولِهَا (1) .
ب - وَأَمَّا الْقِيَمِيُّ: فَلَهُ حَالَتَانِ:
8 - الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُضْبَطُ بِالْوَصْفِ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الاِسْتِصْنَاعِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْقَرْضِ وَالسَّلَمِ (2) . وَجَاءَ فِي " الْمُهَذَّبِ " لِلشِّيرَازِيِّ: " يَجُوزُ قَرْضُ كُل مَالٍ يُمْلَكُ بِالْبَيْعِ وَيُضْبَطُ بِالْوَصْفِ؛ لأَِنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ يَثْبُتُ الْعِوَضُ فِيهِ فِي الذِّمَّةِ، فَجَازَ فِيمَا يُمْلَكُ وَيُضْبَطُ بِالْوَصْفِ كَالسَّلَمِ ". وَقَال: " وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي كُل
__________
(1) انظر م 522، وم 798 من مرشد الحيران
(2) انظر رد المحتار 4 / 212، فتح العزيز 9 / 268، اختلاف الفقهاء للطبري (ط. فريدريك كرن) ص 101، وما بعدها 109، الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب (ط. يونس) 1 / 281 - 282، القوانين الفقهية ص 295، 315، شرح الخرشي 5 / 212 وما بعدها، الزرقاني على خليل 5 / 213 وما بعدها، شرح منتهى الإرادات 2 / 214، كشاف القناع 3 / 277، وما بعدها 3 / 300، وانظر م 388 - 392 من مجلة الأحكام العدلية وم 571 من مرشد الحيران.(21/103)
مَالٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَتُضْبَطُ صِفَاتُهُ كَالأَْثْمَانِ وَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالثِّيَابِ (1) ".
9 - وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ لِلْقِيَمِيِّ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ، كَالْجَوَاهِرِ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَعَقِيقٍ وَفَيْرُوزٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَخْتَلِفُ آحَادُهُ وَتَتَفَاوَتُ أَفْرَادُهُ وَلاَ يَقْبَل الاِنْضِبَاطَ بِالأَْوْصَافِ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ كَوْنِ هَذَا الْمَال دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ جَعْلُهُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ صَحَّ انْشِغَال ذِمَّةِ الْمُلْتَزِمِ بِذَلِكَ الْمَال لَكَانَ غَيْرَ مُتَعَيِّنٍ، وَلَوَجَبَ عِنْدَئِذٍ أَنْ تَفْرُغَ الذِّمَّةُ وَيُوَفَّى الاِلْتِزَامُ بِأَدَاءِ أَيِّ فَرْدٍ كَانَ مِنْ أَمْثَالِهِ، وَلاَ مِثْل لَهُ.
وَعَلَى هَذَا شَرَطُوا فِي صِحَّةِ الْقَرْضِ وَالسَّلَمِ وَالاِسْتِصْنَاعِ أَنْ يَكُونَ الْمَال الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ مُنْضَبِطًا بِالصِّفَةِ بِالْقُوَّةِ وَالْفِعْل؛ لأَِنَّ مَا لاَ تَنْضَبِطُ صِفَاتُهُ تَخْتَلِفُ آحَادُهُ كَثِيرًا، وَذَلِكَ يُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ عِنْدَ الْوَفَاءِ، وَعَدَمُهَا مَطْلُوبٌ شَرْعًا (2) .
__________
(1) المهذب 1 / 310
(2) رد المحتار 4 / 171، 203، كشاف القناع 3 / 276، 278، شرح منتهى الإرادات 2 / 214، 225، شرح الخرشي 5 / 212، 229، الزرقاني على خليل 5 / 213، القوانين الفقهية ص 295، 315، المهذب 1 / 310، التنبيه للشيرازي (ط. مصطفى الحلبي) ص 68، 70، نهاية المحتاج 2 / 194، 222، أسنى المطالب 2 / 141، اختلاف الفقهاء للطبري ص 101، 114، وانظر م 381 من مجلة الأحكام العدلية وم 552 من مرشد الحيران(21/104)
وَقَدِ اسْتَثْنَى مَالِكٌ وَالْحَنَفِيَّةُ مِنْ هَذَا الأَْصْل دَيْنَ الْمَهْرِ، فَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ قِيَمِيًّا مَعْلُومَ الْجِنْسِ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُول الصِّفَةِ، وَجَعَل مَالِكٌ لَهَا الْوَسَطَ مِمَّا سُمِّيَ إِنْ وَقَعَ النِّكَاحُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لِلزَّوْجِ الْخِيَارُ فِي أَدَاءِ الْوَسَطِ مِنْهُ أَوْ قِيمَتِهِ. وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ لاَ تَضُرُّ، إِذِ الْمَال غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي الزَّوَاجِ، فَيُتَسَامَحُ فِيهِ بِمَا لاَ يُتَسَامَحُ بِهِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ الأُْخْرَى؛ لأَِنَّ الْمُعَاوَضَاتِ تُبْنَى عَلَى الْمُشَاحَّةِ وَالْمُكَايَسَةِ، فَكَانَ الْجَهْل بِأَوْصَافِ الْعِوَضِ فِيهَا مُخِلًّا بِالْمَقْصُودِ مِنْهَا، بِخِلاَفِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُكَارَمَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الصَّدَاقِ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا مُمَاثِلاً، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ الشَّارِعُ نِحْلَةً فَهُوَ كَالْهِبَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ لاَ يَضُرُّ الْجَهْل بِهِ كَمَا لاَ يَضُرُّ بِالْهِبَةِ (1) .
(وَالْقَوْل الثَّانِي) لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ الأَْصَحِّ، أَنَّهُ يَصِحُّ كَوْنُهُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إِذَا كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ (2) . وَفِيمَا يَكُونُ بِهِ الْوَفَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَجْهَانِ:
__________
(1) رد المحتار 2 / 347، الكافي لابن عبد البر 1 / 453، بداية المجتهد 2 / 19، المبسوط 5 / 67 - 68
(2) فتح العزيز 9 / 345، وما بعدها، 363 وما بعدها، المهذب 1 / 310، 311، نهاية المحتاج 4 / 222(21/104)
(أَحَدُهُمَا) : أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ الْمَالِيَّةِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ لِشَخْصٍ عَيْنًا مَالِيَّةً قِيَمِيَّةً، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا. قَال الشِّيرَازِيُّ: " لأَِنَّ مَا ضُمِنَ بِالْمِثْل إِذَا كَانَ لَهُ مِثْلٌ، ضُمِنَ بِالْقِيمَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ كَالْمُتْلَفَاتِ (1) ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِرَدِّ مِثْلِهِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْخِلْقَةُ مَعَ التَّغَاضِي عَنِ التَّفَاوُتِ الْيَسِيرِ فِي الْقِيمَةِ.
ثَانِيًا: أَمَّا الْمَنَافِعُ، وَمَدَى قَبُولِهَا لِلثُّبُوتِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ:
10 - فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ تُعْتَبَرُ أَمْوَالاً بِحَدِّ ذَاتِهَا، وَأَنَّهَا تُحَازُ بِحِيَازَةِ أُصُولِهَا وَمَصَادِرِهَا، وَهِيَ الأَْعْيَانُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا، وَلِهَذَا جَازَتْ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهَا بِالْمَال فِي الإِْجَارَةِ بِشَتَّى صُوَرِهَا. كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ تُعْتَبَرُ صَالِحَةً لأََنْ تَثْبُتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إِذَا كَانَتْ مِثْلِيَّةً أَوْ قَابِلَةً لأََنْ تُضْبَطَ بِالْوَصْفِ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الأَْعْيَانِ وَلاَ فَرْقَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مَنَافِعَ أَعْيَانٍ أَمْ مَنَافِعَ أَشْخَاصٍ.
وَعَلَى هَذَا نَصُّوا فِي بَابِ الإِْجَارَةِ عَلَى جَوَازِ التَّعَاقُدِ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ بِالذَّاتِ، وَسَمَّوْهَا " إِجَارَةَ الذِّمَّةِ " نَظَرًا لِتَعَلُّقِ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا بِذِمَّةِ الْمُؤَجِّرِ، لاَ بِأَشْيَاءَ
__________
(1) المهذب 1 / 311.(21/105)
مُعَيَّنَةٍ. كَمَا إِذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصٌ دَابَّةً مَوْصُوفَةً لِتَحْمِلَهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِالْعَقْدِ تَثْبُتُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُؤَجِّرِ أَوِ الْمُكَارِي، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَهُ مِنْ مَكَانِهِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ عَلَى أَيَّةِ دَابَّةٍ يُحْضِرُهَا إِلَيْهِ. وَلِهَذَا لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ إِذَا هَلَكَتِ الدَّابَّةُ الَّتِي عَيَّنَهَا الْمُؤَجِّرُ أَوِ اسْتُحِقَّتْ، بَل يَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَيْهِ فَيُطَالِبُهُ بِغَيْرِهَا؛ لأَِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، بَل مُتَعَلِّقٌ فِي الذِّمَّةِ، وَعَلَى الْمُؤَجِّرِ الْوَفَاءُ بِتِلْكَ الْمَنْفَعَةِ بِأَيَّةِ دَابَّةٍ أُخْرَى يُحْضِرُهَا لَهُ.
وَقَدِ اعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ " إِجَارَةَ الذِّمَّةِ " سَلَمًا فِي الْمَنَافِعِ، وَلِهَذَا اشْتَرَطُوا فِي صِحَّتِهَا تَعْجِيل الأُْجْرَةِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي السَّلَمِ، سَوَاءٌ عُقِدَتْ بِلَفْظِ الإِْجَارَةِ أَوِ السَّلَمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ الْحَنَابِلَةُ إِذَا عُقِدَتْ بِلَفْظِ السَّلَمِ، أَمَّا إِذَا عُقِدَتْ بِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَشْتَرِطُوا تَعْجِيل الأُْجْرَةِ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لاَ
__________
(1) فتح العزيز 12 / 205، المهذب 1 / 406، مغني المحتاج 2 / 334، روضة الطالبين 5 / 176، نهاية المحتاج 4 / 208، 301، 5 / 262، حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 4 / 418، شرح منتهى الإرادات 2 / 360، كشاف القناع 3 / 556، الفروق للقرافي 2 / 133، ميارة على تحفة ابن عاصم 2 / 98، القوانين الفقهية ص 302، شرح الخرشي 7 / 3، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 281، شرح الأبي على صحيح مسلم 4 / 245.(21/105)
تُعْتَبَرُ أَمْوَالاً؛ لأَِنَّ الْمَال عِنْدَهُمْ هُوَ: " مَا يَمِيل إِلَيْهِ طَبْعُ الإِْنْسَانِ، وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ (1) ". وَالْمَنَافِعُ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلإِْحْرَازِ وَالاِدِّخَارِ، إِذْ هِيَ أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَآنًا فَآنًا، وَتَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ وَقْتِهَا وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا غَيْرُ مَا يَنْتَهِي. . . وَبِنَاءً عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِمُ الْمَنَافِعَ أَمْوَالاً، وَقَصْرِهِمُ الدَّيْنَ عَلَى الْمَال، فَإِنَّ الْمَنَافِعَ لاَ تَقْبَل الثُّبُوتَ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا وَفْقَ قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِمْ، وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ لَمْ يُجِيزُوا فِي بَابِ الإِْجَارَةِ أَنْ يَرِدَ الْعَقْدُ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ، وَشَرَطُوا لِصِحَّةِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ كَوْنَ الْمُؤَجَّرِ مُعَيَّنًا (2) .
مَحَل تَعَلُّقِ الدَّيْنِ وَاسْتِثْنَاءَاتُهُ:
11 - تَقَدَّمَ أَنَّ الدَّيْنَ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ، هُوَ " مَا وَجَبَ مِنْ مَالٍ فِي الذِّمَّةِ. . . " وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ تَعَلُّقُهُ بِذِمَّةِ الْمَدِينِ، وَلاَ يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ عِنْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ أَمْ مَلَكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَكُونُ جَمِيعُ أَمْوَالِهِ صَالِحَةً لِوَفَاءِ أَيِّ دَيْنٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَكُونُ الدَّيْنُ مَانِعًا لَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِ بِأَيِّ نَوْعٍ
__________
(1) م 126 من مجلة الأحكام العدلية.
(2) جاء في م 449 من مجلة الأحكام العدلية: " يلزم تعيين المأجور، بناء على ذلك لا يصح إيجار أحد الحانوتين من دون تعيين أو تمييز " وجاء في م 580 من مرشد الحيران: " يشترط لصحة الإجارة رضا العاقدين وتعيين المؤجر ".(21/106)
مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ، هَذَا هُوَ الأَْصْل فِي جَمِيعِ الدُّيُونِ، وَلَكِنْ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ اسْتِثْنَاءَاتٌ، حَيْثُ إِنَّ بَعْضَ الدُّيُونِ تَتَعَلَّقُ بِأَعْيَانِ الْمَدِينِ الْمَالِيَّةِ تَأْكِيدًا لِحَقِّ الدَّائِنِ وَتَوْثِيقًا لَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ:
12 - أ - الدَّيْنُ الَّذِي اسْتَوْثَقَ لَهُ صَاحِبُهُ بِرَهْنٍ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ. . وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَكُونُ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَيُقَدَّمُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْهَا عَلَى مَنْ عَدَاهُ مِنَ الدَّائِنِينَ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ. (ر: رَهْن، تَرِكَة، إِفْلاَس) .
13 - ب - الدَّيْنُ الَّذِي حُجِرَ عَلَى الْمَدِينِ بِسَبَبِهِ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِأَمْوَالِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ (1) ، لأَِنَّ حَجْرَ الْمُفْلِسِ يَعْنِي " خَلْعَ الرَّجُل مِنْ مَالِهِ لِغُرَمَائِهِ (2) " وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَقُّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقًا بِمَالِهِ لَمَا كَانَ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ " وَلأَِنَّهُ يُبَاعُ مَالُهُ فِي دُيُونِهِمْ، فَكَانَتْ حُقُوقُهُمْ مُتَعَلِّقَةً بِهِ كَالرَّهْنِ (3) ". وَلاَ يَخْفَى أَنَّ الدَّيْنَ هَاهُنَا إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ الأَْعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ بِذَوَاتِهَا، بِمَعْنَى أَنَّ الْمَدِينَ لَيْسَ
__________
(1) الهداية (مع فتح القدير مطبعة الميمنية) 8 / 207، مع ملاحظة أن أبا حنيفة يمنع الحجر على المفلس، شرح الخرشي 5 / 262، فتح العزيز 10 / 196، كشاف القناع 3 / 411 (مطبعة الحكومة بمكة المكرمة) ، نهاية المحتاج 4 / 305
(2) شرح الخرشي 5 / 262
(3) كشاف القناع 3 / 411(21/106)
لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهَا الْمَالِيَّةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلاَ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَيْهَا بِغَبْنٍ يَلْحَقُهُ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الإِْضْرَارِ بِحُقُوقِ الدَّائِنِينَ. . . وَتَصِحُّ فِيهِ الْمُبَادَلاَتُ الْمَالِيَّةُ الَّتِي لاَ غَبْنَ عَلَيْهِ فِيهَا؛ لأَِنَّهَا إِذَا أَخْرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ شَيْئًا فَقَدْ أَدْخَلَتْ فِيهِ مَا يُعَادِلُهُ، فَبَقِيَتْ قِيمَةُ الأَْمْوَال ثَابِتَةً (1) . . .
14 - ج - حُقُوقُ الدَّائِنِينَ وَالْوَرَثَةِ فِي مَال الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ، حَيْثُ إِنَّهَا تَتَعَلَّقُ فِيهِ بِمَال الْمَرِيضِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِذِمَّتِهِ فِي حَال الصِّحَّةِ. وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ مَرَضَ الْمَوْتِ مَرْحَلَةٌ تَتَهَيَّأُ فِيهَا شَخْصِيَّةُ الإِْنْسَانِ وَأَهْلِيَّتُهُ لِلزَّوَال، كَمَا أَنَّهُ مُقَدَّمَةٌ لِثُبُوتِ الْحُقُوقِ فِي أَمْوَال الْمَرِيضِ لِمَنْ سَتَنْتَقِل إِلَيْهِمْ هَذِهِ الأَْمْوَال بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ دَائِنِينَ وَوَرَثَةٍ. فَيَنْتُجُ عَنْ ذَلِكَ أَنْ تُصْبِحَ الدُّيُونُ مُتَعَلِّقَةً بِمَال الْمَرِيضِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِذِمَّتِهِ قَبْل الْمَرَضِ؛ لأَِنَّ الذِّمَّةَ تَضْعُفُ بِالْمَرَضِ لِعَجْزِ صَاحِبِهَا عَنِ السَّعْيِ وَالاِكْتِسَابِ، فَيَتَحَوَّل التَّعَلُّقُ مِنْ ذِمَّتِهِ - مَعَ بَقَائِهَا - إِلَى مَالِهِ تَوْثِيقًا لِلدَّيْنِ، وَتَتَقَيَّدُ تَصَرُّفَاتُهُ بِمَا لاَ يَضُرُّ بِحُقُوقِ الدَّائِنِينَ. كَمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ لِيَخْلُصَ لَهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ تَمَلُّكُ الثُّلُثَيْنِ مِمَّا يَبْقَى بَعْدَ سَدَادِ الدُّيُونِ إِنْ كَانَتْ هُنَاكَ دُيُونٌ،
__________
(1) الهداية (مطبعة الميمنية) 8 / 206(21/107)
فَتَتَقَيَّدُ تَصَرُّفَاتُهُ أَيْضًا بِمَا لاَ يَضُرُّ بِحُقُوقِ الْوَرَثَةِ.
أَمَّا الثُّلُثُ فَقَدْ جَعَلَهُ الشَّارِعُ حَقًّا لِلْمَرِيضِ يُنْفِقُهُ فِيمَا يَرَى مِنْ سُبُل الْخَيْرِ وَنَحْوِهَا، سَوَاءٌ بِالتَّبَرُّعِ الْمُنْجَزِ حَال الْمَرَضِ، أَوْ بِالْوَصِيَّةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (1) .
15 - عَلَى أَنَّ هُنَاكَ فَرْقًا بَيْنَ تَعَلُّقِ حَقِّ الدَّائِنِينَ وَتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَال الْمَرِيضِ، وَهَذَا الْفَرْقُ يَئُول إِلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقَّ الدَّائِنِينَ يَتَعَلَّقُ بِمَال الْمَرِيضِ مَعْنًى لاَ صُورَةً، أَيْ أَنَّهُ لاَ يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ الأَْشْيَاءِ الَّتِي يَمْلِكُهَا، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمِقْدَارِ مَا فِيهَا مِنْ مَالِيَّةٍ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِمَالِهِ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنِ اسْتِيفَاءِ دُيُونِهِمْ (2) .
أَمَّا تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَال الْمَرِيضِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ هَل يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّتِهِ أَمْ بِعَيْنِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: - فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ أَبِي يَعْلَى وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ كَحَقِّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِمَال الْمَرِيضِ مَعْنًى لاَ صُورَةً، فَيَصِحُّ بَيْعُ الْمَرِيضِ بِمِثْل الْقِيمَةِ
__________
(1) انظر قرة عيون الأخيار 2 / 127، مغني المحتاج 2 / 165، شرح الخرشي 5 / 305، المغني 4 / 508 (ط. المنار 1348 هـ) ، كشف الأسرار على أصول البزدوي 4 / 1427 (استانبول 1307 هـ) ، فواتح الرحموت 1 / 174، بدائع الصنائع 7 / 224.
(2) انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 307(21/107)
لِلأَْجْنَبِيِّ وَلِلْوَارِثِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي تَصَرُّفِهِ إِبْطَالٌ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُمْ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ، فَكَانَ الْوَارِثُ وَالأَْجْنَبِيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءً (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ تَارَةً بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، وَتَارَةً أُخْرَى بِالْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ، فَإِذَا كَانَ تَصَرُّفُ الْمَرِيضِ مَعَ غَيْرِ وَارِثٍ كَانَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِالْمَالِيَّةِ، فَيَصِحُّ بَيْعُهُ لِلأَْجْنَبِيِّ بِمِثْل الْقِيمَةِ لاَ بِأَقَل. وَإِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ مَعَ وَارِثٍ كَانَ حَقُّهُمْ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ، فَلَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يُؤْثِرَ أَحَدًا مِنْ وَرَثَتِهِ بِعَيْنٍ مِنْ مَالِهِ وَلَوْ بِالْبَيْعِ لَهُ بِمِثْل الْقِيمَةِ، إِذِ الإِْيثَارُ كَمَا يَكُونُ بِالتَّبَرُّعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، يَكُونُ بِأَنْ يَخُصَّهُ بِأَعْيَانٍ يَخْتَارُهَا لَهُ مِنْ مَالِهِ، وَلَوْ كَانَ الْبَدَل مِثْل قِيمَتِهَا (2) .
وَالْفَرْقُ الثَّانِي بَيْنَ تَعَلُّقِ حَقِّ الدَّائِنِينَ بِمَال الْمَرِيضِ وَبَيْنَ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ أَنَّ حَقَّ الدَّائِنِينَ
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 1431 وما بعدها، المبسوط 14 / 150، اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ص 29، رد المحتار 4 / 193 (بولاق 1299 هـ) ، المهذب 1 / 460، نهاية المحتاج 5 / 408، 417، المدونة 3 / 222 (المطبعة الخيرية 1324 هـ) ، المغني (ط. المنار 1348 هـ) 6 / 421، الإنصاف 7 / 172
(2) كشف الأسرار 4 / 1432، المبسوط 14 / 150، رد المحتار (بولاق 1299 هـ) 4 / 193، العقود الدرية لابن عابدين 2 / 268، فتاوى قاضيخان 2 / 177، الإنصاف للمرداوي 7 / 172(21/108)
فِي التَّعَلُّقِ بِمَال الْمَرِيضِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ؛ لأَِنَّ وَفَاءَ الدَّيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَوْزِيعِ الْمِيرَاثِ، فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الدَّائِنِينَ بِجَمِيعِ مَالِهِ إِنْ كَانَتْ دُيُونُهُمْ مُسْتَغْرَقَةً، فِي حِينِ لاَ يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثَيِ التَّرِكَةِ بَعْدَ وَفَاءِ الدُّيُونِ؛ لأَِنَّ لِلْمَرِيضِ حَقَّ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثِ مَالِهِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُنْجَزًا أَمْ مُضَافًا إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيَأْخُذُ تَبَرُّعُهُ هَذَا حُكْمَ الْوَصِيَّةِ.
16 - د - مَا يُنْفَقُ فِي سَبِيل تَسْدِيدِ الدُّيُونِ الْمُحِيطَةِ بِأَمْوَال الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عِنْدَ بَيْعِ أَمْوَالِهِ لِلْوَفَاءِ بِدُيُونِهِ كَأُجْرَةِ الْمُنَادِي وَالْكَيَّال وَالْحَمَّال وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُؤَنِ، فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِأَمْوَال الْمَدِينِ، وَيُقَدَّمُ الْوَفَاءُ بِهَا عَلَى سَائِرِ الدُّيُونِ الْمُطْلَقَةِ (1) .
17 - هـ - دَيْنُ مُشْتَرِي الْمَتَاعِ الَّذِي بَاعَهُ الْحَاكِمُ مِنْ أَمْوَال الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ إِذَا ظَهَرَ مُسْتَحَقًّا وَتَلِفَ الثَّمَنُ الْمَقْبُوضُ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَال الْمَدِينِ، وَيُقَدَّمُ بَدَل الثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ عَلَى بَاقِي الْغُرَمَاءِ، وَلاَ يُضَارِبُ بِهِ مَعَهُمْ لِئَلاَّ يَرْغَبَ النَّاسُ عَنْ شِرَاءِ مَال الْمُفْلِسِ (2) .
18 - و - الدَّيْنُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الصَّانِعُ كَصَائِغٍ وَنَسَّاجٍ وَخَيَّاطٍ أُجْرَةً عَلَى عَمَلِهِ إِذَا أَفْلَسَ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 317، كشاف القناع 3 / 424، حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 5 / 135، شرح منتهى الإرادات 2 / 284
(2) نهاية المحتاج 4 / 317، تحفة المحتاج 5 / 135(21/108)
صَاحِبُهُ، وَالْعَيْنُ بِيَدِ الصَّانِعِ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ مَتَاعِهِ، وَيُقَدَّمُ بِهِ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ (1) .
جَاءَ فِي " الْمُدَوَّنَةِ ": " إِذَا أَفْلَسَ الرَّجُل وَلَهُ حُلِيٌّ عِنْدَ صَائِغٍ قَدْ صَاغَهُ لَهُ، كَانَ هُوَ أَوْلَى بِأَجْرِهِ، وَلَمْ يُحَاصَّهُ الْغُرَمَاءُ، بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ فِي يَدَيْهِ (2) "، " وَكُل ذِي صَنْعَةٍ مِثْل الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَالصَّائِغِ وَمَا أَشْبَهَهُمْ مِنْهُمْ أَحَقُّ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْغُرَمَاءِ فِي الْمَوْتِ وَالتَّفْلِيسِ جَمِيعًا، وَكُل مَنْ تُكُورِيَ عَلَى حَمْل مَتَاعٍ فَحَمَلَهُ إِلَى بَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ، فَالْمُكْرَى أَحَقُّ بِمَا فِي يَدَيْهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ فِي الْمَوْتِ وَالتَّفْلِيسِ جَمِيعًا (3) ".
19 - ز - دَيْنُ الْكِرَاءِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ صَاحِبُ الأَْرْضِ الْمُؤَجَّرَةِ إِذَا أَفْلَسَ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْدَمَا زَرَعَهَا، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالزَّرْعِ، وَيُقَدَّمُ بِهِ عَلَى سَائِرِ غُرَمَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ (4) . قَال التَّسَوُّلِيُّ: " لأَِنَّ الزَّرْعَ كَرَهْنٍ بِيَدِهِ فِي كِرَائِهَا، فَيُبَاعُ وَيُؤْخَذُ الْكِرَاءُ مِنْ ثَمَنِهِ (5) ". وَكَذَا " كُل مَنِ اسْتُؤْجِرَ فِي زَرْعٍ أَوْ نَخْلٍ أَوْ أَصْلٍ يَسْقِيهِ، فَسَقَاهُ ثُمَّ فَلَّسَ صَاحِبُهُ،
__________
(1) القوانين الفقهية ص 347، البهجة شرح التحفة للتسولي 2 / 333، شرح ميارة على تحفة ابن عاصم 2 / 242
(2) المدونة 13 / 239 (مطبعة السعادة بمصر سنة 1323 هـ)
(3) المدونة 13 / 239 (مطبعة السعادة سنة 1323 هـ) .
(4) شرح ميارة على التحفة 2 / 242، والقوانين الفقهية ص 347.
(5) البهجة شرح التحفة 2 / 333(21/109)
فَسَاقِيهِ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ (1) ".
20 - ح - الدَّيْنُ الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ مَالاً، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ كَتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالْمَرْهُونِ.
وَقَدْ أَثْبَتَ الشَّارِعُ هَذَا التَّعَلُّقَ لِمَصْلَحَةِ الْمَيِّتِ كَيْ تَبْرَأَ ذِمَّتُهُ " فَاللاَّئِقُ بِهِ أَلاَّ يُسَلَّطَ الْوَارِثُ عَلَيْهِ (2) ".
21 - ط - الدَّيْنُ الَّذِي يَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي عَجَّل الأُْجْرَةَ وَتَسَلَّمَ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ، إِذَا فُسِخَتْ الإِْجَارَةُ قَبْل انْتِهَاءِ مُدَّتِهَا لِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ، فَإِنَّ مَا يُقَابِل الْمُدَّةَ الْبَاقِيَةَ مِنَ الأُْجْرَةِ يَكُونُ دَيْنًا مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ، فَإِذَا بِيعَتِ الدُّيُونُ عَلَى مَالِكِهَا الْمُتَوَفَّى كَانَ دَيْنُ الْمُسْتَأْجِرِ مُقَدَّمًا عَلَى دُيُونِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِانْفِسَاخِ الإِْجَارَةِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: " فَإِنَّهُ إِذَا أَعْطَى الأُْجْرَةَ أَوَّلاً ثُمَّ مَاتَ الآْجِرُ صَارَتِ الدَّارُ هُنَا بِالأُْجْرَةِ (3) ".
أَسْبَابُ ثُبُوتِ الدَّيْنِ:
22 - الأَْصْل بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الإِْنْسَانِ مِنْ كُل دَيْنٍ أَوِ
__________
(1) المدونة 13 / 238
(2) الهداية للمرغيناني (مطبعة الميمنية سنة 1319 هـ) 9 / 436، روضة الطالبين 4 / 84، المهذب 1 / 334، شرح منتهى الإرادات 2 / 286، كشاف القناع 3 / 427، الزرقاني على خليل 8 / 203، منح الجليل 4 / 697.
(3) رد المحتار 5 / 484 (بولاق 1272 هـ)(21/109)
الْتِزَامٍ أَوْ مَسْئُولِيَّةٍ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ يُنْشِئُ ذَلِكَ وَيُلْزِمُ بِهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ لاَ بُدَّ لِثُبُوتِ أَيِّ دَيْنٍ مِنْ سَبَبٍ مُوجِبٍ يَقْتَضِيهِ. . وَالْبَاحِثُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ يَجِدُ أَنَّ أَسْبَابَ وُجُوبِ الدَّيْنِ عَدِيدَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ، غَيْرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَصْرُهَا فِي تِسْعَةِ أَسْبَابٍ:
23 - أَحَدُهَا: الاِلْتِزَامُ بِالْمَال: سَوَاءٌ أَكَانَ فِي عَقْدٍ يَتِمُّ بَيْنَ طَرَفَيْنِ كَالْبَيْعِ، وَالسَّلَمِ، وَالْقَرْضِ، وَالإِْجَارَةِ، وَالزَّوَاجِ، وَالطَّلاَقِ عَلَى مَالٍ، وَالْحَوَالَةِ، وَالْكَفَالَةِ بِالْمَال، وَالاِسْتِصْنَاعِ وَنَحْوِهَا، أَوْ كَانَ فِي الْتِزَامٍ فَرْدِيٍّ يَتِمُّ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ كَنَذْرِ الْمَال عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَالْتِزَامِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
فَفِي الْقَرْضِ مَثَلاً يَلْتَزِمُ الْمُقْتَرِضُ أَنْ يَرُدَّ لِلْمُقْرِضِ مَبْلَغًا مِنَ النُّقُودِ، أَوْ قَدْرًا مِنْ أَمْوَالٍ
__________
(1) حيث إن المالكية يرون أن كل التزام فردي بهبة، أو صدقة، أو حبس، أو جائزة، أو قرض، على وجه الصلة وطلب البر والمكافأة وما أشبه ذلك من الوجوه المعروفة بين الناس في احتسابهم وحسن معاشرتهم، لازم لصاحبه، لا يقبل منه الرجوع عنه، ولصاحب الحق فيه إذا كان معي " للحطاب 1 / 219 (مطبوع ضمن فتح العلي المالك لعليش ط الحلبي 1958 م) : " من التزم الإنفاق على شخص مدة معينة أو مدة حياة المنفق أو المنفق عليه، أو حتى يقدم زيد، أو إلى أجل مجهول لزمه ما لم يفلس أو يمت، لأن في كلام ابن رشد أن المعروف - على مذهب مالك وأصحابه - لازم لمن أوجبه على نفسه ما لم يفلس أو يمت(21/110)
مِثْلِيَّةٍ يَكُونُ قَدِ اقْتَرَضَهَا مِنْهُ، وَثَبَتَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ.
عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الدُّيُونِ الَّتِي تَثْبُتُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ لاَ تَسْتَقِرُّ فِي الذِّمَّةِ بَعْدَ لُزُومِهَا إِلاَّ بِقَبْضِ الْبَدَل الْمُقَابِل لَهَا، إِذْ بِهِ يَحْصُل الأَْمْنُ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ بِسَبَبِ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِهِ إِلاَّ دَيْنًا وَاحِدًا وَهُوَ دَيْنُ السَّلَمِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لاَزِمًا فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقَرٍّ لاِحْتِمَال طُرُوءِ انْقِطَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى انْفِسَاخِ الْعَقْدِ وَسُقُوطِ الدَّيْنِ.
وَتَعْلِيل ذَلِكَ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الدَّيْنِ فِي أَيِّ عَقْدٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ إِنَّمَا يَعْنِي الأَْمْنَ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ بِسَبَبِ تَعَذُّرِ حُصُول الدَّيْنِ الْمَذْكُورِ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ جِنْسِهِ وَامْتِنَاعِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ. . وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِدَيْنِ السَّلَمِ دُونَ بَقِيَّةِ الدُّيُونِ؛ لِجَوَازِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهَا عِنْدَ انْقِطَاعِ جِنْسِهَا (1) .
24 - وَالثَّانِي: الْعَمَل غَيْرُ الْمَشْرُوعِ الْمُقْتَضِي لِثُبُوتِ دَيْنٍ عَلَى الْفَاعِل: كَالْقَتْل الْمُوجِبِ لِلدِّيَةِ وَالْجِنَايَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلأَْرْشِ، وَإِتْلاَفِ مَال الْغَيْرِ، وَكَتَعَدِّي يَدِ الأَْمَانَةِ أَوْ تَفْرِيطِهَا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا بِحَوْزَتِهِ مِنْ أَمْوَالٍ، كَتَعَمُّدِ الأَْجِيرِ الْخَاصِّ إِتْلاَفَ الأَْعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ تَحْتَ يَدِهِ أَوْ إِهْمَالِهِ فِي
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 326، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 350(21/110)
حِفْظِهَا (1) . وَيُعَدُّ مِنْ هَذَا الْقَبِيل مَا لَوْ " أَتْلَفَ عَلَى شَخْصٍ وَثِيقَةً تَتَضَمَّنُ دَيْنًا لَهُ عَلَى إِنْسَانٍ، وَلَزِمَ مِنْ إِتْلاَفِهَا ضَيَاعُ ذَلِكَ الدَّيْنِ، فَيَلْزَمُهُ الدَّيْنُ (2) ".
25 - وَالثَّالِثُ: هَلاَكُ الْمَال فِي يَدِ الْحَائِزِ إِذَا كَانَتْ يَدَ ضَمَانٍ، مَهْمَا كَانَ سَبَبُ الْهَلاَكِ، كَتَلَفِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَهَلاَكِ الْمَتَاعِ فِي يَدِ الأَْجِيرِ الْمُشْتَرِكِ أَوِ الْقَابِضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
26 - وَالرَّابِعُ: تَحَقُّقُ مَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ مَنَاطًا لِثُبُوتِ حَقٍّ مَالِيٍّ: كَحَوَلاَنِ الْحَوْل عَلَى النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ، وَاحْتِبَاسِ الْمَرْأَةِ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَحَاجَةِ الْقَرِيبِ فِي نَفَقَةِ الأَْقَارِبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِذَا وُجِدَ سَبَبٌ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ مَنْ قَضَى الشَّارِعُ بِإِلْزَامِهِ بِهِ.
27 - وَالْخَامِسُ: إِيجَابُ الإِْمَامِ لِبَعْضِ التَّكَالِيفِ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْقَادِرِينَ عَلَيْهَا لِلْوَفَاءِ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلأُْمَّةِ إِذَا عَجَزَ بَيْتُ الْمَال عَنِ الْوَفَاءِ بِهَا، أَوْ لِلْمُسَاهَمَةِ فِي إِغَاثَةِ الْمَنْكُوبِينَ وَإِعَانَةِ
__________
(1) القوانين الفقهية لابن جزي ص 360، الفروق للقرافي 2 / 206
(2) قاله الإمام تقي الدين السبكي، ونقله عنه ولده تاج الدين في طبقات الشافعية الكبرى (ط. عيسى الحلبي) 10 / 232، وانظر القوانين الفقهية ص 361، الفروق للقرافي 2 / 206.(21/111)
الْمُتَضَرِّرِينَ بِزِلْزَالٍ مُدَمِّرٍ أَوْ حَرِيقٍ شَامِلٍ أَوْ حَرْبٍ مُهْلِكَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْجَأُ النَّاسَ وَلاَ يَتَّسِعُ بَيْتُ الْمَال لِتَحَمُّلِهِ أَوِ التَّعْوِيضِ عَنْهُ (1) .
لَكِنْ لاَ يَجُوزُ هَذَا إِلاَّ بِشُرُوطٍ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ تَتَعَيَّنَ الْحَاجَةُ. فَلَوْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَال مَا يَقُومُ بِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِالْعَدْل. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ أَنْ يُنْفِقَهُ فِي سَرَفٍ، وَلاَ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ، وَلاَ يُعْطِيَ أَحَدًا أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَصْرِفَ مَصْرِفَهُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَالْحَاجَةِ لاَ بِحَسَبِ الْغَرَضِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْغُرْمُ عَلَى مَنْ كَانَ قَادِرًا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَلاَ إِجْحَافٍ، وَمَنْ لاَ شَيْءَ لَهُ، أَوْ لَهُ شَيْءٌ قَلِيلٌ فَلاَ يَغْرَمُ شَيْئًا.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَتَفَقَّدَ هَذَا فِي كُل وَقْتٍ، فَرُبَّمَا جَاءَ وَقْتٌ لاَ يَفْتَقِرُ فِيهِ لِزِيَادَةٍ عَلَى مَا فِي بَيْتِ الْمَال، فَلاَ يُوَزَّعُ. وَكَمَا يَتَعَيَّنُ الْمَال فِي
__________
(1) رد المحتار (ط. مصطفى الحلبي 1376 هـ) 2 / 336، 337، نهاية المحتاج 8 / 50، حاشية الجمل 3 / 588، 4 / 183، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2 / 242، المعيار للونشريسي ط. الأوقاف المغربية 11 / 131، والمستصفى 1 / 304.(21/111)
التَّوْزِيعِ، فَكَذَلِكَ إِذَا تَعَيَّنَتِ الضَّرُورَةُ لِلْمَعُونَةِ بِالأَْبْدَانِ وَلَمْ يَكْفِ الْمَال، فَإِنَّ النَّاسَ يُجْبَرُونَ عَلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الأَْمْرِ الدَّاعِي لِلْمَعُونَةِ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ وَتَعَيُّنِ الْمَصْلَحَةِ وَالاِفْتِقَارِ إِلَى ذَلِكَ (1) .
28 - السَّبَبُ السَّادِسُ مِنْ أَسْبَابِ ثُبُوتِ الدَّيْنِ: أَدَاءُ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْهُ: كَمَنْ دَفَعَ إِلَى شَخْصٍ مَالاً يَظُنُّهُ دَيْنًا وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَنَفْسِ الأَْمْرِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَابِضِ بِمَا أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ مَا لاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَيْهِ (2) . وَقَدْ نَصَّتْ م 207 مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ " مَنْ دَفَعَ شَيْئًا ظَانًّا أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَتَبَيَّنَ عَدَمُ وُجُوبِهِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ بِهِ عَلَى مَنْ قَبَضَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ".
29 - وَالسَّابِعُ: أَدَاءُ وَاجِبٍ مَالِيٍّ يَلْزَمُ الْغَيْرَ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى طَلَبِهِ: كَمَا إِذَا أَمَرَ شَخْصٌ غَيْرَهُ بِأَدَاءِ دَيْنِهِ، فَأَدَّاهُ الْمَأْمُورُ مِنْ مَالِهِ عَنْهُ، فَإِنَّ مَا دَفَعَهُ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الآْمِرِ لِلْمَأْمُورِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِهِ، سَوَاءٌ شَرَطَ الآْمِرُ رُجُوعَهُ - بِأَنْ
__________
(1) المعيار للونشريسي 11 / 127 - 128
(2) وهذه القضية فرع للقاعدة الفقهية الكلية: " لا يجوز لأحد أخذ مال أحد بلا سبب شرعي " (م 97 من المجلة العدلية) ، وانظر المبدع لبرهان الدين ابن مفلح شرح المقنع 4 / 202(21/112)
قَال لَهُ: أَدِّ دَيْنِي عَلَى أَنْ أُؤَدِّيَهُ لَكَ بَعْدُ - أَوْ لَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ، بِأَنْ قَال لَهُ: أَدِّ دَيْنِي - فَقَطْ - فَأَدَّاهُ (1) .
وَمِثْل ذَلِكَ مَا لَوْ أَمَرَ شَخْصٌ آخَرَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ لَهُ، أَوْ بِبِنَاءِ دَارٍ أَوْ دُكَّانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَفَعَل الْمَأْمُورُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الآْمِرِ بِمَا دَفَعَهُ، سَوَاءٌ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ (2) . وَكَذَا لَوْ أَمَرَ شَخْصٌ آخَرَ بِأَنْ يَكْفُلَهُ بِالْمَال فَكَفَلَهُ، ثُمَّ أَدَّى الْكَفِيل مَا كَفَل بِهِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُول بِمَا أَدَّى عَنْهُ (3) . وَكَذَا إِذَا أَحَال مَدِينٌ دَائِنَهُ عَلَى شَخْصٍ غَيْرِ مَدِينٍ لِلْمُحِيل، فَرَضِيَ الْمُحَال عَلَيْهِ، وَأَدَّى عَنْهُ الدَّيْنَ الْمُحَال بِهِ بِنَاءً عَلَى طَلَبِهِ، فَإِنَّ الْمُحَال عَلَيْهِ يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيل بِمَا أَدَّى عَنْهُ (4) .
__________
(1) رد المحتار (ط. الحلبي 1386هـ) 2 / 674، تكملة رد المحتار 2 / 334، اختلاف الفقهاء لابن جرير الطبري 2 / 62 وما بعدها، نهاية المحتاج 4 / 448، فتح العزيز 10 / 389، وانظر م (1506) من المجلة العدلية وم 198، 199 من مرشد الحيران
(2) تكملة رد المحتار 2 / 334، وانظر م (1508) من المجلة العدلية وم 200 من مرشد الحيران.
(3) رد المحتار 4 / 271، المغني لابن قدامة 5 / 86، نهاية المحتاج 4 / 447، المهذب 1 / 349، فتح العزيز 10 / 390، وانظر م 862 من مرشد الحيران، الإشراف للقاضي عبد الوهاب ط. تونس 2 / 21.
(4) بدائع الصنائع 7 / 3443 مطبعة الإمام، رد المحتار 4 / 294، تبيين الحقائق 4 / 174، فتح العزيز 10 / 339، المغني 4 / 579، أسنى المطالب 2 / 231، المهذب 1 / 345، كشاف القناع 3 / 372، البهجة شرح التحفة 2 / 58، شرح التاودي على التحفة 2 / 57، الشرح الكبير على المقنع 5 / 58(21/112)
30 - وَالثَّامِنُ: الْفِعْل الْمَشْرُوعُ حَالَةَ الضَّرُورَةِ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِتْلاَفُ مَال الْغَيْرِ: كَمَنْ أَكَل طَعَامَ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ مُضْطَرًّا لِدَفْعِ الْهَلاَكِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ تَرْخِيصَ الشَّارِعِ وَإِبَاحَتَهُ اسْتِهْلاَكَ مَال الْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ لِدَاعِي الضَّرُورَةِ لاَ يُسْقِطُ عَنِ الْفَاعِل الْمَسْئُولِيَّةَ الْمَالِيَّةَ، وَلاَ يُعْفِيهِ مِنْ ثُبُوتِ مِثْل مَا أَتْلَفَهُ أَوْ قِيمَتِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لِمَالِكِهِ، فَالأَْعْذَارُ الشَّرْعِيَّةُ لاَ تُنَافِي عِصْمَةَ الْمَحَل، وَالإِْبَاحَةُ لِلاِضْطِرَارِ لاَ تُنَافِي الضَّمَانَ (1) ؛ وَلأَِنَّ إِذْنَ الشَّارِعِ الْعَامَّ بِالتَّصَرُّفِ إِنَّمَا يَنْفِي الإِْثْمَ وَالْمُؤَاخَذَةَ بِالْعِقَابِ، وَلاَ يُعْفِي مِنْ تَحَمُّل تَبَعَةِ الإِْتْلاَفِ، بِخِلاَفِ إِذْنِ الْمَالِكِ (2) ، وَلِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ " الاِضْطِرَارُ لاَ يُبْطِل حَقَّ الْغَيْرِ " (م 33) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ، وَبِهَذَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَغَيْرِهِمْ (3) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالُوا: لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لأَِنَّ دَفْعَ الْهَلاَكِ
__________
(1) رد المحتار 5 / 215
(2) وهو ما عبر عنه القرافي بقوله: " الإذن العام من قبل صاحب الشرع في التصرفات لا يسقط الضمان، وإذن المالك الآدمي في التصرفات يسقطه ". الفروق 1 / 195
(3) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1 / 94، 2 / 176، القواعد لابن رجب ص 37، 69، 72، الفروق 1 / 196، رد المحتار 5 / 215، المهذب 1 / 257، التنبيه للشيرازي (ط. الحلبي) ص 53، نهاية المحتاج 8 / 152 وما بعدها م (33) من مجلة الأحكام العدلية(21/113)
عَنْهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمَالِكِ، وَالْوَاجِبُ لاَ يُؤْخَذُ لَهُ عِوَضٌ (1) .
وَهُنَاكَ رَأْيٌ ثَالِثٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُضْطَرَّ إِلَى طَعَامِ الْغَيْرِ لِدَفْعِ الْهَلاَكِ عَنْ نَفْسِهِ إِنَّمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِصَاحِبِهِ إِنْ كَانَتْ مَعَهُ - أَيْ بِأَنْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ حَاضِرٌ - وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِوُجُوبِ بَذْل رَبِّهِ لَهُ (2) .
31 - وَالتَّاسِعُ: الْقِيَامُ بِعَمَلٍ نَافِعٍ لِلْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ: وَهُوَ نَوْعَانِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: أَنْ يَأْتِيَ بِعَمَلٍ يَلْزَمُ الْغَيْرَ أَوْ يَحْتَاجُهُ بِدُونِ إِذْنِهِ، كَمَنْ أَنْفَقَ عَنْ غَيْرِهِ نَفَقَةً وَاجِبَةً عَلَيْهِ، أَوْ قَضَى عَنْهُ دَيْنًا ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَمْ يَنْوِ الْمُنْفِقُ بِذَلِكَ التَّبَرُّعَ، فَإِنَّ مَا دَفَعَهُ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُنْفِقِ عَنْهُ. وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) . خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ (4) . فَقَدْ جَاءَ فِي مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ (م 205) : " إِذَا قَضَى أَحَدٌ دَيْنَ غَيْرِهِ بِلاَ أَمْرِهِ سَقَطَ الدَّيْنُ عَنِ
__________
(1) الفروق للقرافي 1 / 196
(2) الزرقاني على خليل وحاشية البناني عليه 3 / 30، منح الجليل وحاشيته لعليش 1 / 599، المحلى لابن حزم 8 / 303
(3) شرح الخرشي (7 / 64، 128) ، الزرقاني على خليل (7 / 63، 116) ، القواعد لابن رجب (ص 143 وما بعدها) ، منح الجليل (4 / 129) ، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (9 / 232) ، أعلام الموقعين (2 / 414 - 420) ، القياس لابن تيمية (ط. السلفية) ص 38
(4) فتح العزيز 10 / 388، نهاية المحتاج 4 / 448(21/113)
الْمَدْيُونِ، سَوَاءٌ أَقَبِل أَمْ لَمْ يَقْبَل، وَيَكُونُ الدَّافِعُ مُتَبَرِّعًا لاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمَدْيُونِ بِشَيْءٍ مِمَّا دَفَعَهُ بِلاَ أَمْرِهِ، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ الْقَابِضِ لاِسْتِرْدَادِ مَا دَفَعَهُ إِلَيْهِ ".
وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ نَفَقَةٍ عَلَى قَرِيبٍ أَوْ زَوْجَةٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ، فَهُوَ إِمَّا فُضُولِيٌّ، وَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَفُوتَ عَلَيْهِ مَا فَوَّتَهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مُتَفَضِّلٌ فَعِوَضُهُ عَلَى اللَّهِ دُونَ مَنْ تَفَضَّل عَلَيْهِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ (1) .
32 - وَقَدْ ذَكَرَ عَلِيّ حَيْدَر فِي كِتَابِهِ: " دُرَرُ الْحُكَّامِ شَرْحُ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ " قَاعِدَةَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا النَّوْعِ وَهِيَ: " أَنَّ مَنْ أَدَّى مَصْرُوفًا عَائِدًا عَلَى غَيْرِهِ بِدُونِ أَمْرِهِ أَوْ إِذْنِ الْحَاكِمِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا (2) ".
وَحَكَى لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فُرُوعًا كَثِيرَةً مِنْهَا:
أ - إِذَا وَفَّى شَخْصٌ دَيْنَ آخَرَ بِدُونِ أَمْرِهِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا.
ب - إِذَا دَفَعَ الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْتَهِنُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مَصْرُوفًا عَلَى الرَّهْنِ يَلْزَمُ الآْخَرَ بِدُونِ أَمْرِهِ أَوْ إِذْنِ الْحَاكِمِ يُعْتَبَرُ مُتَبَرِّعًا، وَلاَ يَحِقُّ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مُضْطَرًّا لِهَذَا الإِْنْفَاقِ طَالَمَا أَنَّهُ مُقْتَدِرٌ عَلَى اسْتِحْصَال أَمْرٍ مِنَ الْحَاكِمِ بِهِ لِتَأْمِينِ حَقِّهِ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْمُسْتَفِيدِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ. وَعَلَى
__________
(1) انظر أعلام الموقعين
(2) درر الحكام 2 / 114، 3 / 638(21/114)
ذَلِكَ نَصَّتْ الْمَجَلَّةُ الْعَدْلِيَّةُ فِي (م 725) (1) .
ج - إِذَا أَدَّى الْمُسْتَأْجِرُ الْمَصَارِيفَ اللاَّزِمَةَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ بِلاَ أَمْرِهِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا (م 529) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ (2) .
وَإِذَا أَعْطَى الْمُسْتَأْجِرُ الْحَيَوَانَ الْمَأْجُورَ عَلَفًا بِدُونِ أَمْرِ الْمُؤَجِّرِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا (3) .
د - إِذَا كَفَل شَخْصٌ دَيْنَ آخَرَ بِدُونِ أَمْرِهِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا (4) .
هـ - إِذَا صَرَفَ الْمُودَعُ عَلَى الْوَدِيعَةِ بِلاَ أَمْرِ صَاحِبِهَا أَوْ إِذْنِ الْحَاكِمِ يُعَدُّ مُتَبَرِّعًا (5) .
و إِذَا عَمَّرَ الشَّرِيكُ الْمِلْكَ الْمُشْتَرَكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِدُونِ إِذْنِ الشَّرِيكِ أَوِ الْحَاكِمِ يُعَدُّ مُتَبَرِّعًا (6) .
ز - لَوْ أَنْشَأَ أَحَدٌ دَارًا أَوْ عَمَّرَهَا لِصَاحِبِهَا بِدُونِ أَمْرِهِ كَانَ الْبِنَاءُ أَوِ الْعِمَارَةُ لِصَاحِبِ الْعَرْصَةِ أَوِ الدَّارِ، وَيَكُونُ الْمُنْشِئُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا أَنْفَقَهُ (7) .
ح - لَوْ أَنْفَقَ شَخْصٌ عَلَى عُرْسِ آخَرَ بِلاَ إِذْنِهِ
__________
(1) انظر درر الحكام 2 / 112 وما بعدها، 3 / 642
(2) وانظر درر الحكام 1 / 517 وما بعدها، 2 / 114
(3) م 561 من المجلة، وانظر درر الحكام 1 / 551، 2 / 114، 3 / 642.
(4) درر الحكام 1 / 694، 2 / 114.
(5) انظر م 786 من المجلة، درر الحكام 2 / 114، 252، 3 / 642
(6) انظر م 1311 من المجلة وم 765 - 769 من مرشد الحيران ودرر الحكام 2 / 114، 3 / 334 وما بعدها.
(7) درر الحكام 3 / 642(21/114)
كَانَ مُتَبَرِّعًا (1) .
33 - وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْقِيَامِ بِعَمَلٍ نَافِعٍ لِلْغَيْرِ: أَنْ يَقُومَ بِعَمَلٍ يَحْتَاجُهُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ وَلاَ يُتَوَصَّل إِلَيْهِ إِلاَّ بِإِسْدَاءِ نَفْعٍ لِغَيْرِهِ يَحْتَاجُهُ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ. كَمَا إِذَا أَعَارَ شَخْصٌ لآِخَرَ عَيْنًا لِيَرْهَنَهَا بِدَيْنٍ عَلَيْهِ، وَلَمَّا أَرَادَ الْمُعِيرُ اسْتِرْدَادَهَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْمُرْتَهِنِ فَفَعَل، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بِالدَّيْنِ. وَبِهَذَا قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) ، وَعَلَيْهِ نَصَّتْ مَجَلَّةُ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ فِي (م 732) مِنْهَا
أَقْسَامُ الدَّيْنِ:
34 - يَنْقَسِمُ الدَّيْنُ بِاعْتِبَارِ التَّعَلُّقِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ - دَيْنٌ مُطْلَقٌ: وَهُوَ الدَّيْنُ الْمُرْسَل الْمُتَعَلِّقُ بِالذِّمَّةِ وَحْدَهَا.
ب - دَيْنٌ مُوَثَّقٌ: وَهُوَ الدَّيْنُ الْمُتَعَلِّقُ بِعَيْنٍ مَالِيَّةٍ لِتَكُونَ وَثِيقَةً لِجَانِبِ الاِسْتِيفَاءِ كَدَيْنِ الرَّهْنِ وَنَحْوِهِ. وَثَمَرَةُ هَذَا التَّقْسِيمِ تَئُول إِلَى أَمْرَيْنِ:
__________
(1) درر الحكام 3 / 642
(2) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 89، رد المحتار 5 / 331، القواعد لابن رجب ص 146 - 148، أعلام الموقعين 2 / 417 وما بعدها، درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر 2 / 113، 130، 3 / 331، 342 وما بعدها، وانظر م 1310 - 1316 من مجلة الأحكام العدلية، وم 765 - 768، 772 من مرشد الحيران.(21/115)
أَحَدُهُمَا: تَقْدِيمُ حَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ الْمُوَثَّقِ فِي اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنَ الْعَيْنِ الَّتِي تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِهَا عَلَى سَائِرِ الدَّائِنِينَ فِي حَال حَيَاةِ الْمَدِينِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَالثَّانِي: تَقْدِيمُ الدُّيُونِ الْمُوَثَّقَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَعْيَانِ التَّرِكَةِ فِي حَال وَفَاةِ الْمَدِينِ عَلَى تَجْهِيزِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (1) . " إِيثَارًا لِلأَْهَمِّ، كَمَا تُقَدَّمُ تِلْكَ الْحُقُوقُ عَلَى حَقِّهِ فِي الْحَيَاةِ (2) ". أَمَّا الدُّيُونُ الْمُرْسَلَةُ فِي الذِّمَّةِ فَيُقَدَّمُ التَّجْهِيزُ عَلَيْهَا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: " فَإِذَا رَهَنَ شَيْئًا وَسَلَّمَهُ وَلَمْ يَتْرُكْ غَيْرَهُ، فَدَيْنُ الْمُرْتَهِنِ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّجْهِيزِ، فَإِنْ فَضَل بَعْدَهُ شَيْءٌ صُرِفَ إِلَيْهِ (3) ". وَإِنَّمَا قُدِّمَتِ الدُّيُونُ الْمُوَثَّقَةُ عَلَى التَّجْهِيزِ لِتَعَلُّقِهَا بِالْمَال قَبْل صَيْرُورَتِهِ تَرِكَةً، " وَالأَْصْل أَنَّ كُل حَقٍّ يُقَدَّمُ فِي الْحَيَاةِ يُقَدَّمُ فِي الْوَفَاةِ (4) ".
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ وَقَالُوا بِتَقْدِيمِ حَقِّ الْمَيِّتِ فِي تَجْهِيزِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ عَلَى حُقُوقِ الدَّائِنِينَ، وَلَوْ كَانَتْ دُيُونُهُمْ مُتَعَلِّقَةً بِأَعْيَانِ التَّرِكَةِ " كَمَا يُقَدَّمُ الْمُفْلِسُ بِنَفَقَتِهِ عَلَى غُرَمَائِهِ؛ وَلأَِنَّ لِبَاسَ الْمُفْلِسِ
__________
(1) رد المحتار (بولاق 1272 هـ) 5 / 483 - 484، ونهاية المحتاج 6 / 5، 7، 8، تحفة المحتاج 6 / 385، والزرقاني على خليل 8 / 203، 204
(2) نهاية المحتاج 6 / 8
(3) رد المحتار 5 / 483 (بولاق سنة 1272 هـ) .
(4) رد المحتار 5 / 484(21/115)
مُقَدَّمٌ عَلَى قَضَاءِ دُيُونِهِ، فَكَذَلِكَ كَفَنُ الْمَيِّتِ، وَلأَِنَّ سُتْرَتَهُ وَاجِبَةٌ فِي الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ (1) ".
-
35 - وَيَنْقَسِمُ الدَّيْنُ بِاعْتِبَارِ قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ - دَيْنُ الصِّحَّةِ: وَهُوَ الدَّيْنُ الَّذِي شُغِلَتْ بِهِ ذِمَّةُ الإِْنْسَانِ حَال صِحَّتِهِ، سَوَاءٌ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ فِيهَا أَمْ بِالْبَيِّنَةِ، وَيَلْحَقُ بِهِ فِي الْحُكْمِ الدَّيْنُ الَّذِي لَزِمَهُ وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَكَانَ ثُبُوتُهُ بِالْبَيِّنَةِ.
ب - دَيْنُ الْمَرَضِ: وَهُوَ الدَّيْنُ الَّذِي لَزِمَ الإِْنْسَانَ بِإِقْرَارِهِ وَهُوَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَلَمْ يَكُنْ طَرِيقٌ لِثُبُوتِهِ غَيْرَ ذَلِكَ (2) .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِوَاءِ دَيْنِ الصِّحَّةِ وَدَيْنِ الْمَرَضِ فِي الاِسْتِيفَاءِ مِنَ التَّرِكَةِ إِذَا كَانَ فِي التَّرِكَةِ سَعَةٌ لَهُمَا (3) .
36 - أَمَّا إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ لاَ تَفِي بِكِلَيْهِمَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيمِ دَيْنِ الصِّحَّةِ عَلَى دَيْنِ الْمَرَضِ فِي الاِسْتِيفَاءِ مِنَ التَّرِكَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ
__________
(1) العذب الفائض شرح عمدة الفارض 1 / 13
(2) البدائع 7 / 225، تكملة فتح القدير (ط. مصطفى محمد سنة 1356 هـ) 7 / 2، تكملة رد المحتار (مصر سنة 1330 هـ) 2 / 130.
(3) المغني (مطبعة المنار سنة 1348هـ) 5 / 343، الشرح الكبير على المقنع 5 / 275، إعانة الطالبين 3 / 194، جواهر العقود للأسيوطي (القاهرة 1955 م) 1 / 18.(21/116)
وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالتَّمِيمِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ دُيُونَ الصِّحَّةِ تَسْتَوِي مَعَ دُيُونِ الْمَرَضِ فِي الاِسْتِيفَاءِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَتُقْسَمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (2) . حَيْثُ لَمْ يُفَضَّل أَحَدُ الدَّيْنَيْنِ عَلَى الآْخَرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الاِسْتِيفَاءِ؛ وَلأَِنَّهُمَا حَقَّانِ يَجِبُ قَضَاؤُهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَال لاِسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَفِي مَحَلِّهِ.
- أَمَّا السَّبَبُ: فَهُوَ الإِْقْرَارُ الصَّادِرُ عَنْ عَقْلٍ وَدِينٍ، مِنْ شَأْنِ الْعَقْل وَالدِّينِ أَنْ يَمْنَعَا مَنْ قَامَا بِهِ عَنِ الْكَذِبِ فِي الإِْخْبَارِ، إِذِ الإِْقْرَارُ إِخْبَارٌ عَنِ الْوَاجِبِ فِي ذِمَّةِ الْمُقِرِّ، وَهَذَا الْمَعْنَى لاَ يَخْتَلِفُ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، بَل فِي حَالَةِ الْمَرَضِ يَزْدَادُ رُجْحَانُ جِهَةِ الصِّدْقِ؛ لأَِنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ التَّوَرُّعِ عَنِ الْمَعَاصِي وَالإِْنَابَةِ عَمَّا جَرَى فِي الْمَاضِي لِكَوْنِهِ آخِرَ عَهْدِهِ بِالدُّنْيَا، وَأَوَّل عَهْدِهِ بِالآْخِرَةِ،
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 71، مغني المحتاج 2 / 240، الأم (بولاق 1322 هـ) 7 / 110، إعانة الطالبين 3 / 194، البجيرمي على الخطيب 3 / 136، المبسوط 18 / 26، اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ص 63، المهذب 2 / 345، بدائع الصنائع 7 / 225، تبيين الحقائق 5 / 23، تكملة فتح القدير 7 / 3، الغرة المنيفة للغزنوي ص 108 (مطبعة السعادة بمصر 1950 م)
(2) سورة النساء / 11.(21/116)
فَيَكُونُ خَوْفُ الْمُقِرِّ أَكْثَرَ، كَمَا يَكُونُ أَبْعَدَ عَنِ الْكَذِبِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الإِْقْرَارُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ أَوْلَى، فَلاَ أَقَل مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا.
- وَأَمَّا الْمَحَل: فَهُوَ الذِّمَّةُ، إِذْ هِيَ مَحَل الْوُجُوبِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَلاَ فَرْقَ.
فَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَمَحَلِّهِ لَزِمَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الاِسْتِيفَاءِ.
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي غَيْرِ الأَْصَحِّ: هُوَ أَنَّ دُيُونَ الصِّحَّةِ وَمَا فِي حُكْمِهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَى دُيُونِ الْمَرَضِ، وَإِذَا لَمْ تَفِ التَّرِكَةُ بِدُيُونِ الصِّحَّةِ قُسِمَتْ بَيْنَ دَائِنِي الصِّحَّةِ بِالْحِصَصِ. وَكَذَلِكَ الْحَال إِذَا لَمْ تَكُنْ دُيُونُ صِحَّةٍ، وَكَانَتْ هُنَاكَ دُيُونُ مَرَضٍ، وَضَاقَتْ عَنْهَا التَّرِكَةُ، فَإِنَّهَا تُقْسَمُ بَيْنَ الدَّائِنِينَ بِالْحِصَصِ، وَمِثْل ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ مَا لَوْ وُفِّيَتْ دُيُونٌ، وَلَمْ يَفِ مَا بَقِيَ مِنَ التَّرِكَةِ بِدُيُونِ الْمَرَضِ كُلِّهَا (1) .
وَدَلِيلُهُمْ عَلَى تَقْدِيمِ دُيُونِ الصِّحَّةِ عَلَى
__________
(1) جامع الفصولين (بولاق 1300هـ) 2 / 182 وما بعدها، المبسوط 18 / 26، تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 5 / 22، البدائع 7 / 225، تكملة فتح القدير 7 / 2، المغني لابن قدامة (مطبوع مع الشرح الكبير) 5 / 343، نهاية المحتاج 2 / 240، مغني المحتاج 5 / 71، الشرح الكبير على المقنع 5 / 275، الغرة المنيفة للغزنوي ص 108، وانظر م 1602 من مجلة الأحكام العدلية وم 569 من الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية(21/117)
دُيُونِ الْمَرَضِ أَنَّ الْحُقُوقَ إِذَا اجْتَمَعَتْ فِي مَال الْمَيِّتِ يُقَدَّمُ الأَْقْوَى، كَالدَّيْنِ يُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةُ تُقَدَّمُ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَدَيْنُ الصِّحَّةِ هُنَا أَقْوَى، لأَِنَّهُ ظَهَرَ بِإِقْرَارِهِ فِي وَقْتٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَالِهِ حَقٌّ أَصْلاً، وَلَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ نَوْعُ حَجْرٍ، وَلِهَذَا صَحَّ عِتْقُهُ وَهِبَتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَال، بِخِلاَفِ دَيْنِ الْمَرَضِ الَّذِي ثَبَتَ فِي حَالٍ تَعَلَّقَ بِأَمْوَالِهِ دَيْنُ صِحَّتِهِ، وَصَارَتْ هَذِهِ الأَْمْوَال مَحِلًّا لِلْوَفَاءِ بِهِ، وَضَمَانًا لَهُ، وَوَرَدَ عَلَيْهِ فِيهِ نَوْعُ حَجْرٍ، أَلاَ تَرَى أَنَّ تَبَرُّعَاتِهِ لاَ تَنْفُذُ إِلاَّ مِنَ الثُّلُثِ، فَكَانَ الأَْقْوَى أَوْلَى. وَسَبَبُ إِلْحَاقِ الدُّيُونِ الَّتِي لَزِمَتْهُ فِي حَال مَرَضِهِ بِالْبَيِّنَةِ بِدُيُونِ الصِّحَّةِ فِي الْحُكْمِ هُوَ انْتِفَاءُ التُّهْمَةِ فِي ثُبُوتِهَا، إِذِ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ لاَ مَرَدَّ لَهُ، فَيُقَدَّمُ عَلَى الْمُقَرِّ بِهِ فِي حَال الْمَرَضِ (1) .
37 - وَيَنْقَسِمُ الدَّيْنُ بِاعْتِبَارِ الدَّائِنِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ - دَيْنِ اللَّهِ: وَهُوَ كُل دَيْنٍ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْعِبَادِ مَنْ يُطَالِبُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لَهُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
نَوْعٌ يَظْهَرُ فِيهِ وَجْهُ الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَا لاَ مُقَابِل لَهُ مِنَ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَفِدْيَةِ الصِّيَامِ، وَدُيُونِ النُّذُورِ،
__________
(1) قرة عيون الأخيار 2 / 130، تكملة فتح القدير 7 / 5، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 5 / 23، المبسوط 18 / 27(21/117)
وَالْكَفَّارَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا عِبَادَاتٌ يُؤَدِّيهَا الْمُسْلِمُ امْتِثَالاً لأَِمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَرُّبًا إِلَيْهِ.
وَنَوْعٌ يُفْرَضُ لِتَمْكِينِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلأُْمَّةِ، وَهُوَ مَا يُقَابَل - فِي الْغَالِبِ - بِمَنْفَعَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ لِلْمُكَلَّفِ كَخُمُسِ الْغَنَائِمِ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَعْدَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَمَا يَفْرِضُهُ الإِْمَامُ عَلَى الْقَادِرِينَ مِنْ أَفْرَادِ الأُْمَّةِ لِلْوَفَاءِ بِالْمَصَالِحِ الَّتِي يَعْجِزُ بَيْتُ الْمَال عَنِ الْوَفَاءِ بِهَا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دَيْنُ اللَّهِ) .
ب - وَدَيْنُ الْعَبْدِ: وَهُوَ كُل دَيْنٍ لَهُ مِنَ الْعِبَادِ مَنْ يُطَالِبُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لَهُ كَثَمَنِ مَبِيعٍ وَأُجْرَةِ دَارٍ وَبَدَل قَرْضٍ وَإِتْلاَفٍ وَأَرْشِ جِنَايَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلِصَاحِبِ هَذَا الدَّيْنِ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ الْمَدِينَ، وَأَنْ يَرْفَعَ أَمْرَهُ إِلَى الْقَاضِي إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الأَْدَاءِ لِيُجْبِرَهُ عَلَيْهِ بِالطُّرُقِ الْمَشْرُوعَةِ. (ر: حَبْس، حَجْر) .
38 - وَيَنْقَسِمُ الدَّيْنُ بِاعْتِبَارِ السُّقُوطِ وَعَدَمِهِ إِلَى قِسْمَيْنِ: صَحِيحٍ وَغَيْرِ صَحِيحٍ (1) .
أ - فَالدَّيْنُ الصَّحِيحُ: هُوَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ الَّذِي لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بِالأَْدَاءِ أَوِ الإِْبْرَاءِ كَدَيْنِ الْقَرْضِ
__________
(1) رد المحتار (بولاق 1272 هـ) 4 / 263، كشاف اصطلاحات الفنون ط كلكته 2 / 502 وما بعدها، التعريفات للجرجاني (الدار التونسية 1971 م) ص 56، وانظر م 852، 853 من مرشد الحيران(21/118)
وَدَيْنِ الْمَهْرِ وَدَيْنِ الاِسْتِهْلاَكِ وَنَحْوِهَا.
ب - وَالدَّيْنُ غَيْرُ الصَّحِيحِ: هُوَ الدَّيْنُ الَّذِي يَسْقُطُ بِالأَْدَاءِ أَوِ الإِْبْرَاءِ وَبِغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ سُقُوطَهُ مِثْل دَيْنِ بَدَل الْكِتَابَةِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِعَجْزِ الْعَبْدِ الْمُكَاتَبِ عَنْ أَدَائِهِ.
39 - وَيَنْقَسِمُ الدَّيْنُ بِاعْتِبَارِ الشَّرِكَةِ فِيهِ إِلَى قِسْمَيْنِ: مُشْتَرَكٍ وَغَيْرِ مُشْتَرَكٍ (1) .
أ - فَالدَّيْنُ الْمُشْتَرَكُ: هُوَ مَا كَانَ سَبَبُهُ مُتَّحِدًا، سَوَاءٌ أَكَانَ ثَمَنَ مَبِيعٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، بَيْعَ صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يُذْكَرْ عِنْدَ الْبَيْعِ مِقْدَارُ ثَمَنِ حِصَّةِ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ، أَمْ دَيْنًا آيِلاً بِالإِْرْثِ إِلَى عِدَّةِ وَرَثَةٍ، أَمْ قِيمَةَ مَالٍ مُسْتَهْلَكٍ مُشْتَرَكٍ، أَمْ بَدَل قَرْضٍ مُسْتَقْرَضٍ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ.
ب - الدَّيْنُ غَيْرُ الْمُشْتَرَكِ: هُوَ مَا كَانَ سَبَبُهُ مُخْتَلِفًا لاَ مُتَّحِدًا، كَأَنْ أَقْرَضَ اثْنَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ مَبْلَغًا لِشَخْصٍ أَوْ بَاعَاهُ مَالاً مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، وَسَمَّى حِينَ الْبَيْعِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِنَصِيبِهِ ثَمَنًا عَلَى حِدَتِهِ.
40 - وَتَبْرُزُ ثَمَرَةُ هَذَا التَّقْسِيمِ فِي الْمَسَائِل التَّالِيَةِ:
أَوَّلاً: إِذَا كَانَتِ الدُّيُونُ الْمَطْلُوبَةُ مِنَ الْمَدِينِ
__________
(1) الدر المختار مع رد المحتار (بولاق 1272 هـ) 4 / 480، درر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 53، وانظر م 169، 170 من مرشد الحيران وم 1091 من المجلة العدلية، والفتاوى الهندية 2 / 336(21/118)
غَيْرَ مُشْتَرَكَةٍ، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْ أَرْبَابِهَا اسْتِيفَاءُ دَيْنِهِ عَلَى حِدَةٍ مِنَ الْمَدِينِ، وَمَا يَقْبِضُهُ يُحْسَبُ مِنْ دَيْنِهِ خَاصَّةً، لاَ يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الدَّائِنِينَ الأُْخَرِ (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْمَدِينِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَلِكُل وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَطْلُبَ حِصَّتَهُ مِنْهُ، وَلاَ يَخْتَصَّ الْقَابِضُ مِنْهُمْ بِمَا قَبَضَهُ، بَل يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الشُّرَكَاءِ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقٌّ فِيهِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ (2) .
ثَانِيًا: إِذَا قَبَضَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ حِصَّتَهُ مِنَ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ وَأَخْرَجَهَا مِنْ يَدِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَهِبَةٍ وَقَضَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ أَوِ اسْتَهْلَكَهَا فَلِشَرِيكِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ حِصَّتَهُ مِنْهَا.
فَلَوْ كَانَ مَبْلَغُ أَلْفِ دِينَارٍ دَيْنًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ مُنَاصَفَةً، فَقَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْمَدِينِ خَمْسَمِائَةٍ وَاسْتَهْلَكَهَا، فَلِلدَّائِنِ الآْخَرِ أَنْ يُضَمِّنَهُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ. أَمَّا الْخَمْسُمِائَةِ الأُْخْرَى فَتَبْقَى بَيْنَ الاِثْنَيْنِ مُشْتَرَكَةً (3) .
__________
(1) م 172 من مرشد الحيران، م 1099 من المجلة العدلية، والفتاوى الهندية 2 / 337، ودرر الحكام 3 / 62.
(2) الفتاوى الهندية بولاق 1310هـ 2 / 336، درر الحكام 3 / 63 وما بعدها، وانظر م 1100، 1101من المجلة العدلية وم 173 من مرشد الحيران.
(3) الفتاوى الهندية 2 / 337، درر الحكام 3 / 66، وانظر م 1102، 1103 من المجلة العدلية، م 175 من مرشد الحيران.(21/119)
ثَالِثًا: إِذَا قَبَضَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ حِصَّتَهُ مِنَ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، وَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ بِدُونِ تَعَدٍّ مِنْهُ وَلاَ تَقْصِيرٍ، فَلاَ يَضْمَنُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ فِي الْمَقْبُوضِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا حِصَّةَ نَفْسِهِ، وَمَا بَقِيَ مِنَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ فَيَكُونُ حَقًّا لِلشَّرِيكِ الآْخَرِ (1) .
رَابِعًا: إِذَا أَخَذَ أَحَدُ الدَّائِنَيْنِ - دَيْنًا مُشْتَرَكًا - كَفِيلاً بِحِصَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، أَوْ أَحَالَهُ الْمَدِينُ عَلَى آخَرَ، فَلِشَرِيكِهِ الآْخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَبْلَغِ الَّذِي يَأْخُذُهُ مِنَ الْكَفِيل أَوِ الْمُحَال عَلَيْهِ (2) .
41 - وَيَنْقَسِمُ الدَّيْنُ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ أَدَائِهِ إِلَى قِسْمَيْنِ: حَالٍّ وَمُؤَجَّلٍ (3) .
أ - فَالدَّيْنُ الْحَال: هُوَ مَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ عِنْدَ طَلَبِ الدَّائِنِ، فَتَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ بِأَدَائِهِ عَلَى الْفَوْرِ، وَالْمُخَاصَمَةُ فِيهِ بِاتِّفَاقٍ. وَيُقَال لَهُ " الدَّيْنُ الْمُعَجَّل " أَيْضًا.
ب - وَالدَّيْنُ الْمُؤَجَّل: هُوَ مَا لاَ يَجِبُ أَدَاؤُهُ قَبْل حُلُول الأَْجَل. لَكِنْ لَوْ أُدِّيَ قَبْلَهُ يَصِحُّ، وَيَسْقُطُ عَنْ ذِمَّةِ الْمَدِينِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 337، درر الحكام 3 / 73، وانظر م 1106 من المجلة العدلية وم 176 من مرشد الحيران
(2) الفتاوى الهندية 2 / 340، درر الحكام 3 / 75، وانظر م 1109 من المجلة العدلية وم 181 من مرشد الحيران
(3) كشاف اصطلاحات الفنون ط كلكته 2 / 502(21/119)
وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَى أَنَّ مِنَ الدُّيُونِ مَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ حَالًّا، بِحَيْثُ لاَ يَصِحُّ تَأْجِيلُهُ، فَإِنْ تَأَجَّل فَسَدَ الْعَقْدُ. مِثْل رَأْسِ مَال السَّلَمِ (ر: السَّلَمُ) وَالْبَدَلَيْنِ فِي الصَّرْفِ (ر: الصَّرْفُ) بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَرَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (ر: مُضَارَبَة) وَالأُْجْرَةِ فِي إِجَارَةِ الذِّمَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (ر: إِجَارَة) وَمُصْطَلَحَ: (أَجَل) .
تَوْثِيقُ الدَّيْنِ:
مَعْنَى تَوْثِيقِ الدَّيْنِ:
42 - التَّوْثِيقُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ الإِْحْكَامُ. وَمِنْ هُنَا سُمِّيَ الْعَهْدُ مِيثَاقًا وَمَوْثِقًا لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْحْكَامِ وَالثُّبُوتِ (1) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ:
فَذَكَرَ إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ فِي كِتَابِهِ: " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " أَنَّ الْوَثِيقَةَ هِيَ " مَا يَزْدَادُ بِهَا الدَّيْنُ وَكَادَةً (2) ".
وَبِتَتَبُّعِ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِمُصْطَلَحِ: " تَوْثِيقُ الدَّيْنِ " نَجِدُ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَهُ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَقْوِيَةُ وَتَأْكِيدُ حَقِّ الدَّائِنِ فِيمَا يَكُونُ
__________
(1) لسان العرب، معجم مقاييس اللغة، المصباح المنير م: (وثق) والمطلع للبعلي ص 247
(2) أحكام القرآن لإلكيا الهراسي (ط. دار الكتب الحديثة بمصر) 1 / 421.(21/120)
لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ مِنْ مَالٍ بِشَيْءٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ - كَالْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَةِ - لِمَنْعِ الْمَدِينِ مِنَ الإِْنْكَارِ، وَتَذْكِيرِهِ عِنْدَ النِّسْيَانِ؛ وَلِلْحَيْلُولَةِ دُونَ ادِّعَائِهِ أَقَل مِنَ الدَّيْنِ، أَوِ ادِّعَاءِ الدَّائِنِ أَكْثَرَ مِنْهُ، أَوْ حُلُولِهِ أَوِ انْقِضَاءِ الأَْجَل وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِحَيْثُ إِذَا حَصَل نِزَاعٌ أَوْ خِلاَفٌ بَيْنَ الْمُتَدَايِنَيْنِ، فَيُعْتَبَرُ هَذَا التَّوْثِيقُ وَسِيلَةً يُحْتَجُّ بِهَا لإِِثْبَاتِ الدَّيْنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ أَمَامَ الْقَضَاءِ.
وَالأَْمْرُ الثَّانِي: تَثْبِيتُ حَقِّ الدَّائِنِ فِيمَا يَكُونُ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ مِنْ مَالٍ وَإِحْكَامُهُ، بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ عِنْدَ امْتِنَاعِ الْمَدِينِ عَنِ الْوَفَاءِ - لأَِيِّ سَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ - مِنِ اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْ شَخْصٍ ثَالِثٍ يَكْفُل الْمَدِينَ بِمَالِهِ، أَوْ مِنْ عَيْنٍ مَالِيَّةٍ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الدَّائِنِ وَتَكُونُ رَهِينَةً بِدَيْنِهِ.
طُرُقُ تَوْثِيقِ الدَّيْنِ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ طُرُقَ تَوْثِيقِ الدَّيْنِ أَرْبَعَةٌ:
أ - تَوْثِيقُ الدَّيْنِ بِالْكِتَابَةِ:
43 - دَلَّتْ آيَةُ الدَّيْنِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ. . .} (1) إِلَى آخِرِ الآْيَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ
__________
(1) سورة البقرة / 282.(21/120)
تَوْثِيقِ الدَّيْنِ بِالْكِتَابَةِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ الْمُعْرِبَةِ عَنْهُ الْمُعَرِّفَةِ لِلْحَاكِمِ بِمَا يَحْكُمُ عِنْدَ التَّرَافُعِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي صَكٍّ مُوَضِّحٍ لِلدَّيْنِ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ (1) .
غَيْرَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي حُجِّيَّةِ الْكِتَابَةِ فِي تَوْثِيقِ الدَّيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أ - فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى صِحَّةِ تَوْثِيقِ الدَّيْنِ بِالْكِتَابَةِ، وَأَنَّهَا بَيِّنَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي الإِْثْبَاتِ إِذَا كَانَتْ صَحِيحَةَ النِّسْبَةِ إِلَى كَاتِبِهَا (2) .
ب - وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُعْتَمَدُ عَلَى الْخَطِّ الْمُجَرَّدِ إِذَا لَمْ يُشْهَدْ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْخُطُوطَ تَشْتَبِهُ وَالتَّزْوِيرَ فِيهَا مُمْكِنٌ، وَقَدْ تُكْتَبُ لِلتَّجْرِبَةِ أَوِ اللَّهْوِ. . وَمَعَ قِيَامِ هَذِهِ الاِحْتِمَالاَتِ وَالشُّبُهَاتِ لاَ يَبْقَى لِلْخَطِّ الْمُجَرَّدِ حُجِّيَّةٌ، وَلاَ يَصْلُحُ لِلاِعْتِمَادِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ. أَمَّا إِذَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 248
(2) شرح أدب القاضي للجصاص ص 254، مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ص 601، تبصرة الحكام لابن فرحون (بهامش فتاوى عليش) 1 / 363، كشاف القناع 4 / 373، ظفر اللاضي فيما يجب في القضاء على القاضي لصديق حسن خان (لاهور) ص 130، 131، الطرق الحكمية ص 205، كشف الأسرار 3 / 52، 53، معين الحكام ص 125، فتح العلي المالك لعليش 2 / 311، درر الحكام شرح مجلة الأحكام 4 / 137(21/121)
وَثِيقَةً وَحُجَّةً؛ لأَِنَّ الشَّهَادَةَ تَرْفَعُ الشَّكَّ وَتُزِيل الاِحْتِمَال (1) .
وَمِنْ أَهَمِّ صُوَرِ التَّوْثِيقِ بِالْكِتَابَةِ:
44 - أَوَّلاً: إِذَا أَمَرَ شَخْصٌ آخَرَ بِأَنْ يَكْتُبَ إِقْرَارَهُ، فَيَكُونَ هَذَا الأَْمْرُ إِقْرَارًا حُكْمًا. جَاءَ فِي " الدُّرِّ الْمُخْتَارِ ": " الأَْمْرُ بِكِتَابَةِ الإِْقْرَارِ إِقْرَارٌ حُكْمًا (2) ، فَإِنَّهُ كَمَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ يَكُونُ بِالْبَنَانِ، فَلَوْ قَال لِلصَّكَّاكِ: اكْتُبْ خَطَّ إِقْرَارِي بِأَلْفٍ عَلَيَّ، أَوِ اكْتُبْ بَيْعَ دَارِي، أَوْ طَلاَقَ امْرَأَتِي صَحَّ (3) ".
45 - ثَانِيًا: إِنَّ قُيُودَ التُّجَّارِ - كَالصَّرَّافِ وَالْبَيَّاعِ وَالسِّمْسَارِ - الَّتِي تَكُونُ فِي دَفَاتِرِهِمُ الْمُعْتَدِّ بِهَا، وَتُبَيِّنُ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ دُيُونٍ تُعْتَبَرُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِي شَكْل صَكٍّ أَوْ سَنَدٍ رَسْمِيٍّ، وَذَلِكَ
__________
(1) طرح التثريب 6 / 191، الأبي على صحيح مسلم 4 / 338، أدب القاضي للماوردي 2 / 98، أصول السرخسي 1 / 358، كشف الأسرار للبخاري 3 / 52، المهذب 2 / 305، رد المحتار (بولاق 1272 هـ) 4 / 352، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 217، معين الحكام للطرابلسي (ط. الحلبي) ص 125، الطرق الحكمية (ط. السنة المحمدية) ص 204 وما بعدها، مرقاة المفاتيح للملا علي القاري 3 / 397، الإشراف للقاضي عبد الوهاب 2 / 280، كشاف القناع 4 / 373، شرح منتهى الإرادات 2 / 539
(2) قرة عيون الأخيار (الميمنية 1321 هـ) 2 / 97، الفتاوى الهندية (بولاق 1310 هـ) 4 / 167، درر الحكام 4 / 138، وانظر م 1607 من المجلة العدلية
(3) رد المحتار (بولاق 1272 هـ) 4 / 455(21/121)
لأَِنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ أَنَّ التَّاجِرَ يَكْتُبُ دَيْنَهُ وَمَطْلُوبَهُ فِي دَفْتَرِهِ صِيَانَةً لَهُ مِنْ النِّسْيَانِ، وَلاَ يَكْتُبُهُ لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ. أَمَّا مَا يُكْتَبُ فِيهَا مِنْ دُيُونٍ لَهُمْ عَلَى النَّاسِ فَلاَ يُعْتَبَرُ وَثِيقَةً وَحُجَّةً، وَيَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِهَا إِلَى وَجْهٍ آخَرَ (1) .
46 - ثَالِثًا: السَّنَدَاتُ وَالْوُصُولاَتُ الرَّسْمِيَّةُ تُعْتَبَرُ حُجَجًا مُعْتَمَدَةً فِي تَوْثِيقِ الدَّيْنِ وَإِثْبَاتِهِ (2) .
جَاءَ فِي فَتَاوَى قَارِئِ الْهِدَايَةِ: " إِذَا كَتَبَ عَلَى وَجْهِ الصُّكُوكِ يَلْزَمُهُ الْمَال، وَهُوَ أَنْ يَكْتُبَ: يَقُول فُلاَنٌ الْفُلاَنِيُّ إِنَّ فِي ذِمَّتِي لِفُلاَنٍ الْفُلاَنِيِّ كَذَا وَكَذَا، فَهُوَ إِقْرَارٌ يَلْزَمُ (3) ".
47 - رَابِعًا: إِذَا أَنْكَرَ مَنْ كَتَبَ أَوِ اسْتَكْتَبَ سَنَدًا رَسْمِيًّا مَمْضِيًّا بِإِمْضَائِهِ أَوْ مَخْتُومًا بِخَتْمِهِ الدَّيْنَ الَّذِي يَحْتَوِيهِ ذَلِكَ السَّنَدُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِخَطِّهِ وَخَتْمِهِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ إِنْكَارُهُ، وَيَلْزَمُهُ أَدَاءُ ذَلِكَ الدَّيْنِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى إِثْبَاتٍ بِوَجْهٍ آخَرَ (4) .
__________
(1) فتح العلي المالك 2 / 311، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 218، نشر العرف لابن عابدين (ضمن رسائل ابن عابدين - استانبول) 2 / 144، معين الحكام ص 126، قرة عيون الأخيار 1 / 60، 2 / 97، الفتاوى الهندية 4 / 167، درر الحكام 4 / 138، وانظر م 1608 من المجلة العدلية، رد المحتار 4 / 353 وما بعدها
(2) رد المحتار 4 / 354، درر الحكام 4 / 139، 140، وانظر م 1609 من المجلة العدلية
(3) رد المحتار 4 / 354
(4) قرة عيون الأخيار 1 / 59، رد المحتار 4 / 354، 374، درر الحكام 4 / 141، وانظر م 1610 من المجلة العدلية(21/122)
أَمَّا إِذَا أَنْكَرَ خَطَّ السَّنَدِ الَّذِي أَعْطَاهُ مَرْسُومًا أَيْضًا وَقَال: إِنَّهُ لَيْسَ خَطِّي، فَيُنْظَرُ: -
فَإِنْ كَانَ خَطُّهُ مَشْهُورًا وَمُتَعَارَفًا بَيْنَ الْجَارِ وَأَهْل الْبَلَدِ وَثَبَتَ أَنَّهُ خَطُّهُ، فَلاَ يُعْتَبَرُ إِنْكَارُهُ، وَيُعْمَل بِذَلِكَ السَّنَدِ بِدُونِ حَاجَةٍ لإِِثْبَاتِ مَضْمُونِهِ (1) .
- أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ خَطُّهُ مَشْهُورًا وَمُتَعَارَفًا فَيُسْتَكْتَبُ، وَيُعْرَضُ خَطُّهُ عَلَى الْخُبَرَاءِ، فَإِذَا أَفَادُوا أَنَّ الْخَطَّيْنِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، فَيُؤْمَرُ ذَلِكَ الشَّخْصُ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ الْمَذْكُورِ، وَإِلاَّ فَلاَ (2) .
48 - خَامِسًا: إِذَا أَعْطَى شَخْصٌ لآِخَرَ سَنَدًا رَسْمِيًّا يُفِيدُ أَنَّهُ مَدِينٌ لَهُ بِمَبْلَغٍ مِنَ الْمَال، ثُمَّ تُوُفِّيَ، فَيُلْزَمُ وَرَثَتُهُ بِإِيفَائِهِ مِنَ التَّرِكَةِ إِذَا اعْتَرَفُوا بِكَوْنِ السَّنَدِ لِلْمُتَوَفَّى وَلَوْ أَنْكَرُوا الدَّيْنَ.
أَمَّا إِذَا أَنْكَرُوا السَّنَدَ فَيُنْظَرُ: إِنْ كَانَ خَطُّ الْمُتَوَفَّى وَخَتْمُهُ مَشْهُورًا وَمُتَعَارَفًا، وَثَبَتَ أَنَّ الْخَطَّ خَطُّهُ وَالْخَتْمَ خَتْمُهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَدَاءُ الدَّيْنِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَلاَ عِبْرَةَ لإِِنْكَارِهِمْ، وَإِنْ كَانَ خِلاَفَ ذَلِكَ فَلاَ يُعْمَل بِالسَّنَدِ لِوُجُودِ شُبْهَةِ التَّزْوِيرِ فِيهِ (3) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 354
(2) قرة عيون الأخيار 2 / 97، 98، درر الحكام 4 / 141، 142، معين الحكام للطرابلسي ص 125، تبصرة الحكام لابن فرحون (بهامش فتاوى عليش) ، 1 / 363، وانظر م 1610 من المجلة العدلية
(3) رد المحتار 4 / 354، درر الحكام 4 / 142، وانظر م 1611 من المجلة العدلية. ترى اللجنة أنه قد وجدت في هذا العصر وسائل يثبت بها من الخطوط - المزور منها وغير المزور - فينبغي النظر إليها بعين الاعتبار؛ لأنها تكاد تكون يقينية(21/122)
49 - سَادِسًا: إِذَا وَجَدَ الْوَارِثُ خَطًّا لِمُوَرِّثِهِ يُفِيدُ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا قَدْرُهُ كَذَا وَكَذَا لِفُلاَنٍ، فَيَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ الْعَمَل بِخَطِّ مُوَرِّثِهِ وَدَفْعُ الدَّيْنِ إِلَى مَنْ هُوَ مَكْتُوبٌ بِاسْمِهِ مِنَ التَّرِكَةِ (1) .
حُكْمُ التَّوْثِيقِ بِالْكِتَابَةِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَوْثِيقِ الدَّيْنِ بِالْكِتَابَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
50 - أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ أَنَّ كِتَابَةَ الدَّيْنِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً (2) .
إِذِ الأَْمْرُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاكْتُبُوهُ} لِلإِْرْشَادِ لِمَنْ يَخْشَى ضَيَاعَ دَيْنِهِ بِالنِّسْيَانِ أَوِ الإِْنْكَارِ، حَيْثُ لاَ يَكُونُ الْمَدِينُ مَوْضِعَ ثِقَةٍ كَامِلَةٍ مِنْ دَائِنِهِ، يَدُل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (3) وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ الْكِتَابَةَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ إِذَا تَوَافَرَتِ الأَْمَانَةُ وَالثِّقَةُ بَيْنَ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 457، رد المحتار 4 / 354، مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ص 417، الإفصاح لابن هبيرة (ط. الرياض) 2 / 27، كشاف القناع 4 / 203
(2) أحكام القرآن للجصاص (استانبول) 1 / 482، أحكام القرآن للشافعي 1 / 137، الأم (دار المعرفة 1393 هـ) 3 / 89 وما بعدها، المغني لابن قدامة 4 / 362، جامع البيان للطبري 3 / 77، تفسير القرطبي 3 / 383
(3) سورة البقرة / 283(21/123)
الْمُتَعَامِلِينَ، وَقَدْ دَرَجَ النَّاسُ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَى عَدَمِ كِتَابَةِ الدُّيُونِ مَا دَامَتِ الثِّقَةُ قَائِمَةً بَيْنَ الْمُتَدَايِنَيْنِ، وَلَمْ يُنْقَل عَنْ فُقَهَائِهِمْ نَكِيرٌ مَعَ اشْتِهَارِ ذَلِكَ.
51 - وَالثَّانِي: لاِبْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَبَعْضِ السَّلَفِ: وَهُوَ أَنَّ كِتَابَةَ الدَّيْنِ وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاكْتُبُوهُ} إِذِ الأَْصْل فِي الأَْمْرِ إِفَادَةُ الْوُجُوبِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ دَلاَلَةَ هَذَا الأَْمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ اهْتِمَامُ الآْيَةِ بِبَيَانِ مَنْ لَهُ حَقُّ الإِْمْلاَءِ وَصِفَةِ الْكَاتِبِ، وَحَثِّهِ عَلَى الاِسْتِجَابَةِ إِذَا طُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَالْحَثِّ عَلَى كِتَابَةِ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، ثُمَّ التَّعْبِيرِ عَنْ عَدَمِ وُجُوبِ الْكِتَابَةِ فِي الْمُبَادَلاَتِ النَّاجِزَةِ بِنَفْيِ الْجُنَاحِ، حَيْثُ إِنَّهُ يُشْعِرُ بِلَوْمِ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَةَ عِنْدَ تَعَامُلِهِ بِالدَّيْنِ (1) .
ب - تَوْثِيقُ الدَّيْنِ بِالشَّهَادَةِ:
52 - دَل قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ. . .} (2) إِلَى آخِرِ الآْيَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَوْثِيقِ الدَّيْنِ بِالشَّهَادَةِ وَأَنَّهَا وَثِيقَةٌ وَاحْتِيَاطٌ لِلدَّائِنِ؛ لأَِنَّ اسْتِشْهَادَ الشُّهُودِ أَنْفَى لِلرَّيْبِ وَأَبْقَى لِلْحَقِّ وَأَدْعَى إِلَى رَفْعِ
__________
(1) المحلى لابن حزم 8 / 80، تفسير الطبري (بولاق) 3 / 77، 79، تفسير القرطبي (دار الكتب) 3 / 383.
(2) سورة البقرة / 282(21/123)
التَّنَازُعِ وَالاِخْتِلاَفِ، وَفِي ذَلِكَ صَلاَحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا.
وَبَيَّنَتِ الآْيَةُ أَنَّ نِصَابَ الشَّهَادَةِ عَلَى الدَّيْنِ هُوَ: إِمَّا رَجُلاَنِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ يُرْتَضَى مِنَ الْعُدُول الثِّقَاتِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ كَانَ وَثِيقَةً مُعْتَبَرَةً وَحُجَّةً شَرْعِيَّةً فِي إِثْبَاتِ الدَّيْنِ، وَبَيِّنَةً قَوِيَّةً يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا الْقَاضِي فِي الْحُكْمِ بِهِ لِطَالِبِهِ.
حُكْمُ التَّوْثِيقِ بِالشَّهَادَةِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَوْثِيقِ الدَّيْنِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
53 - أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ الإِْشْهَادَ عَلَى الدَّيْنِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، وَقَال إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: " وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الأَْمْنَ لاَ يَقَعُ إِلاَّ بِحَسَبِ الظَّنِّ وَالتَّوَهُّمِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ يَدُل عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا أَمَرَ بِهَا لِطُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ لاَ لِحَقِّ الشَّرْعِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِحَقِّ الشَّرْعِ لَمَا قَال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} وَلاَ ثِقَةَ بِأَمْنِ الْعِبَادِ، إِنَّمَا الاِعْتِمَادُ عَلَى مَا يَرَاهُ الشَّرْعُ
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 262، أحكام القرآن للجصاص 1 / 482، أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 1 / 365(21/124)
مَصْلَحَةً، فَالشَّهَادَةُ مَتَى شُرِعَتْ فِي النِّكَاحِ لَمْ تَسْقُطْ بِتَرَاضِيهِمَا وَأَمْنِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَدَل ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ (فِي غَيْرِ النِّكَاحِ) شُرِعَتْ لِلطُّمَأْنِينَةِ؛ وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل لِتَوْثِيقِ الدُّيُونِ طُرُقًا مِنْهَا: الْكِتَابُ، وَمِنْهَا الرَّهْنُ، وَمِنْهَا الإِْشْهَادُ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الأَْمْصَارِ أَنَّ الرَّهْنَ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ النَّدْبِ لاَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ، فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ مِثْلُهُ فِي الإِْشْهَادِ (1) ".
54 - وَالثَّانِي: لِبَعْضِ السَّلَفِ: وَهُوَ أَنَّ الإِْشْهَادَ عَلَى الدَّيْنِ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الدَّيْنِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} . الآْيَةَ (2)
ج - تَوْثِيقُ الدَّيْنِ بِالرَّهْنِ:
55 - الْمُرَادُ بِالرَّهْنِ " الْمَال الَّذِي يُجْعَل وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْ ثَمَنِهِ إِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ (3) . . ". وَبِهَذِهِ الْوَثِيقَةِ يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِالرَّهْنِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، فَإِذَا كَانَ عَلَى الرَّاهِنِ دُيُونٌ أُخْرَى لاَ تَفِي بِهَا أَمْوَالُهُ، وَبِيعَ الرَّهْنُ لِسَدَادِ مَا عَلَيْهِ، كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ
__________
(1) أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 1 / 365
(2) المحلى 8 / 80، أحكام القرآن للجصاص 1 / 481، 482.
(3) المغني 4 / 361، وانظر رد المحتار 5 / 307، شرح منتهى الإرادات 2 / 228.(21/124)
مِنْ ثَمَنِهِ أَوَّلاً، فَإِذَا بَقِيَ شَيْءٌ فَهُوَ لِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ (1) .
حُكْمُ التَّوْثِيقِ بِالرَّهْنِ:
56 - ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَوْثِيقَ الدَّيْنِ بِالرَّهْنِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَأَنَّ الأَْمْرَ بِهِ فِي الآْيَةِ لِلإِْرْشَادِ (2) . قَال ابْنُ قُدَامَةَ: " وَالرَّهْنُ غَيْرُ وَاجِبٍ، لاَ نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا؛ لأَِنَّهُ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ، فَلَمْ يَجِبْ كَالضَّمَانِ وَالْكِتَابَةِ، وَقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (3) إِرْشَادٌ لَنَا لاَ إِيجَابٌ عَلَيْنَا، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (4) ؛ وَلأَِنَّهُ أَمَرَ بِهِ عِنْدَ إِعْوَازِ الْكِتَابَةِ، وَالْكِتَابَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَكَذَا بَدَلُهَا (5) ".
د - تَوْثِيقُ الدَّيْنِ بِالْكَفَالَةِ:
57 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ كَفَالَةِ الدَّيْنِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
1 - فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا " ضَمُّ ذِمَّةِ
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 1 / 523
(2) أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 1 / 365، أحكام القرآن للجصاص 1 / 482، البرهان للزركشي 3 / 39، الأم (ط. دار المعرفة) 3 / 138، المحلى 8 / 80، كشاف القناع 3 / 307 (ط. مكة) .
(3) سورة البقرة / 283
(4) سورة البقرة / 283
(5) المغني 4 / 362(21/125)
الْكَفِيل إِلَى ذِمَّةِ الْمَكْفُول فِي الاِلْتِزَامِ بِالدَّيْنِ، فَيَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِمَا جَمِيعًا، وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا (1) ". وَشَغْل الدَّيْنِ الْوَاحِدِ ذِمَّتَيْنِ عَلَى سَبِيل التَّعَلُّقِ وَالاِسْتِيثَاقِ، كَتَعَلُّقِ دَيْنِ الرَّهْنِ بِهِ وَبِذِمَّةِ الرَّاهِنِ (2) ، وَأَنَّهُ كَفَرْضِ الْكِفَايَةِ، يَتَعَلَّقُ بِالْكُل وَيَسْقُطُ بِفِعْل الْبَعْضِ. وَتَعَلُّقُهُ هَذَا لاَ يَعْنِي تَعَدُّدَهُ؛ لأَِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ. . وَمَا التَّعَدُّدُ إِلاَّ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ تَعَلَّقَ بِهِمْ فَقَطْ (3) . وَعَلَى هَذَا فَلاَ زِيَادَةَ فِي الدَّيْنِ؛ لأَِنَّ الاِسْتِيفَاءَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (4) .
2 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا " ضَمُّ ذِمَّةِ الْكَفِيل إِلَى ذِمَّةِ الْمَكْفُول فِي الاِلْتِزَامِ بِالدَّيْنِ " إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ لِلْمَكْفُول لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيل بِالدَّيْنِ إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الاِسْتِيفَاءُ مِنَ الأَْصِيل؛ لأَِنَّ الضَّمَانَ وَثِيقَةٌ، فَلاَ يُسْتَوْفَى الْحَقُّ مِنْهَا إِلاَّ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الْمَدِينِ، كَالرَّهْنِ (5) .
__________
(1) الأم 3 / 229، المهذب 1 / 348، نهاية المحتاج 4 / 443، كشاف القناع 3 / 350 وما بعدها، الشرح الكبير على المقنع 5 / 70، شرح منتهى الإرادات 2 / 245، المغني 4 / 590
(2) شرح منتهى الإرادات 2 / 246
(3) نهاية المحتاج 4 / 444
(4) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 146
(5) الخرشي على خليل وحاشية العدوي عليه 6 / 21، 28، القوانين الفقهية ص 354، الزرقاني على خليل 6 / 22، 29، منح الجليل 3 / 243، 258(21/125)
3 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا ضَمُّ ذِمَّةِ الْكَفِيل إِلَى ذِمَّةِ الأَْصِيل فِي وُجُوبِ الأَْدَاءِ، لاَ فِي وُجُوبِ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّ ثُبُوتَ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ اعْتِبَارٌ شَرْعِيٌّ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ، وَلاَ دَلِيل عَلَى ثُبُوتِهِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيل؛ لأَِنَّ التَّوْثِيقَ يَحْصُل بِالْمُشَارَكَةِ فِي وُجُوبِ الأَْدَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى إِيجَابِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ، كَالْوَكِيل بِالشِّرَاءِ يُطَالِبُ بِالثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّل وَحْدَهُ، وَعَلَى هَذَا عَرَّفُوهَا بِأَنَّهَا " ضَمُّ ذِمَّةِ الْكَفِيل إِلَى ذِمَّةِ الأَْصِيل فِي الْمُطَالَبَةِ (1) ".
4 - وَذَهَبَ ابْنُ أَبِي يَعْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ يَنْتَقِل بِالْكَفَالَةِ إِلَى ذِمَّةِ الْكَفِيل - كَمَا فِي الْحَوَالَةِ - فَلاَ يَكُونُ لِلدَّائِنِ أَنْ يُطَالِبَ الأَْصِيل (2) .
وَعَلَى أَيَّةِ حَالٍ، فَسَوَاءٌ أَكَانَتْ كَفَالَةُ الدَّيْنِ مَعْنَاهَا ضَمُّ ذِمَّةِ الْكَفِيل إِلَى ذِمَّةِ الْمَكْفُول فِي الاِلْتِزَامِ بِالدَّيْنِ، أَمْ فِي الْمُطَالَبَةِ فَقَطْ، أَمِ انْتِقَال الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةِ الْمَكْفُول إِلَى ذِمَّةِ الْكَفِيل فَإِنَّهَا تَقْتَضِي بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ الْتِزَامَ الْكَفِيل بِأَدَاءِ الدَّيْنِ إِلَى الدَّائِنِ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الأَْصِيل، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى التَّوْثِيقِ وَفَائِدَتُهُ وَثَمَرَتُهُ.
__________
(1) رد المحتار 4 / 249، تبيين الحقائق 4 / 146، تعريفات الجرجاني (ط. تونس) ، وانظر 839 من مرشد الحيران، وم 612 من مجلة الأحكام العدلية
(2) المحلى 8 / 111، الشرح الكبير على المقنع 5 / 71.(21/126)
التَّصَرُّفُ فِي الدَّيْنِ:
التَّصَرُّفُ فِي الدَّيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الدَّائِنِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَدِينِ.
تَصَرُّفُ الدَّائِنِ:
يَنْحَصِرُ تَصَرُّفُ الدَّائِنِ فِي دَيْنِهِ بِتَمْلِيكِهِ لِلْمَدِينِ أَوْ لِغَيْرِهِ بِإِحْدَى طَرَائِقِ التَّمْلِيكِ الْمَشْرُوعَةِ، سَوَاءٌ بِعِوَضٍ أَمْ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
الْحَالَةُ الأُْولَى: (تَمْلِيكُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ) :
يَخْتَلِفُ حُكْمُ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ بِحَسَبِ حَال الدَّيْنِ وَمَدَى اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الدَّائِنِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الدُّيُونَ نَوْعَانِ:
58 - (النَّوْعُ الأَْوَّل) مَا يَكُونُ الْمِلْكُ عَلَيْهِ مُسْتَقِرًّا: كَغَرَامَةِ الْمُتْلَفِ، وَبَدَل الْقَرْضِ، وَقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ، وَعِوَضِ الْخُلْعِ، وَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَالأُْجْرَةِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَالْمَهْرِ بَعْدَ الدُّخُول، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الدُّيُونِ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَمْلِيكِهِ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ (1) .
__________
(1) المجموع شرح المهذب 9 / 274، فتح العزيز 8 / 434 وما بعدها، المهذب 1 / 269، 270، نهاية المحتاج 4 / 88، أسنى المطالب 2 / 84، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 331، رد المحتار 4 / 166، 244، تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 82، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 358، المغني لابن قدامة 4 / 134، شرح منتهى الإرادات 2 / 222، كشاف القناع 3 / 293، المبدع شرح المقنع 4 / 198، بدائع الصنائع (مطبعة الإمام) 7 / 3103، وانظر م 424 من مرشد الحيران.(21/126)
غَيْرَ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ اسْتَثْنَوْا مِنْ قَاعِدَةِ جَوَازِ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ لِمَنْ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ بَدَل الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَال السَّلَمِ، فَلَمْ يُجِيزُوا التَّصَرُّفَ فِي أَيٍّ مِنْهُمَا قَبْل قَبْضِهِ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ تَفْوِيتًا لِشَرْطِ الصِّحَّةِ، وَهُوَ الْقَبْضُ فِي بَدَلَيِ الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَال السَّلَمِ قَبْل الاِفْتِرَاقِ (1) .
كَمَا اشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِصِحَّةِ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ لِمَنْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْلُوَ الْعَقْدُ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ، فَلَوْ بَاعَ الدَّائِنُ دَيْنَهُ مِنَ الْمَدِينِ بِمَا لاَ يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً كَذَهَبٍ بِفِضَّةٍ أَوْ حِنْطَةٍ بِشَعِيرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الأَْمْوَال الرِّبَوِيَّةِ، فَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ إِلاَّ إِذَا قَبَضَ الدَّائِنُ الْعِوَضَ قَبْل التَّفَرُّقِ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنْتُ أَبِيعُ الإِْبِل بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، فَأَتَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَال: لاَ بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا
__________
(1) تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 4 / 82، 118، 136، رد المحتار 4 / 166، 209، 244، بدائع الصنائع 7 / 3102 وما بعدها، 7 / 3188، أسنى المطالب 2 / 85، القواعد لابن رجب ص 82، وانظر م 559 من مرشد الحيران(21/127)
شَيْءٌ (1) . فَقَدْ شَرَطَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَبْضَ قَبْل التَّفَرُّقِ (2) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا قَبَضَ الدَّائِنُ الْعِوَضَ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُ الدَّيْنِ وَتَمْلِيكُهُ لاِنْتِفَاءِ الْمَانِعِ، إِذْ يَصْدُقُ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ تَقَابُضٌ، لِوُجُودِ الْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْعِوَضِ الْمَدْفُوعِ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ، وَالْحُكْمِيِّ فِيمَا فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ؛ لأَِنَّهُ كَأَنَّهُ قَبَضَهُ مِنْهُ وَرَدَّهُ إِلَيْهِ (3) .
وَكَذَلِكَ اشْتَرَطَ جَمْعٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ انْتِفَاءَ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لِصِحَّةِ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ، حَيْثُ نَقَل أَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ رُشْدٍ وَالسُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُمْ إِجْمَاعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ غَيْرُ جَائِزٍ (4) .
وَعَلَى ذَلِكَ:
أ - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ صَرْفِ مَا فِي الذِّمَّةِ. فَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ
__________
(1) حديث ابن عمر: " كنت أبيع الإبل بالبقيع. . . " أخرجه أبو داود (3 / 650 - 651 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، ونقل البيهقي عن شعبة أنه حكم عليه بالوقف، كذا في التلخيص الحبير (3 / 26 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) نهاية المحتاج 4 / 88، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 331، شرح منتهى الإرادات 2 / 222، المغني لابن قدامة 4 / 54، 134، المبدع 4 / 198، الشرح الكبير على المقنع 4 / 172، كشاف القناع 3 / 294، فتح العزيز 8 / 436، المجموع شرح المهذب (مطبعة التضامن الأخوي) 9 / 274
(3) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 4 / 89، كشاف القناع 3 / 257، شرح منتهى الإرادات 2 / 200، المغني 4 / 54
(4) تكملة المجموع للسبكي (مطبعة التضامن الأخوي) 10 / 107، المغني 4 / 53، بداية المجتهد 2 / 162(21/127)
دَنَانِيرُ، وَالآْخَرُ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ، فَاصْطَرَفَا بِمَا فِي ذِمَّتَيْهِمَا، فَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ (1) . قَال الشَّافِعِيُّ فِي " الأُْمِّ ": " وَمَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ لِرَجُلٍ، وَلِلرَّجُل عَلَيْهِ دَنَانِيرُ، فَحَلَّتْ أَوْ لَمْ تَحِل، فَتَطَارَحَاهَا صَرْفًا فَلاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ بِدَيْنٍ (2) ".
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَتَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَتَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَقَالُوا: بِجَوَازِ صَرْفِ مَا فِي الذِّمَّةِ؛ لأَِنَّ الذِّمَّةَ الْحَاضِرَةَ كَالْعَيْنِ الْحَاضِرَةِ غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الدَّيْنَانِ قَدْ حَلاَّ مَعًا، فَأَقَامُوا حُلُول الأَْجَلَيْنِ فِي ذَلِكَ مَقَامَ النَّاجِزِ بِالنَّاجِزِ (3) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 200، المبدع 4 / 156، المغني 4 / 53، تكملة المجموع للسبكي 10 / 107، كشاف القناع 3 / 257
(2) الأم 3 / 33 (ط. دار المعرفة بلبنان 1393 هـ) .
(3) بداية المجتهد 2 / 224 (ط. دار الكتب الحديثة بمصر) ، تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 140، شرح الخرشي 5 / 234، الزرقاني على خليل 5 / 232، منح الجليل 3 / 53، اختلاف الفقهاء للطبري ص 60، إيضاح المسالك للونشريسي ص 141، 328، طبقات الشافعية لابن السبكي (ط. الحلبي) 10 / 231، مواهب الجليل 4 / 310، الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية للبعلي ص 128، رد المحتار 4 / 239، تكملة المجموع للسبكي (مطبعة التضامن الأخوي) 10 / 107، القوانين الفقهية لابن جزي ص 320، مجموع فتاوى ابن تيمية (ط. الرياض) 20 / 512، نظرية العقد لابن تيمية ص 235(21/128)
ب - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ جَعْل الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ رَأْسَ مَال سَلَمٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ (1) .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ وَقَالاَ: بِجَوَازِهِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ - وَهُوَ بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، أَيِ الدَّيْنِ الْمُؤَخَّرِ بِالدَّيْنِ الْمُؤَخَّرِ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (2) .
ج - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ عَلَى أَنَّ الدَّائِنَ إِذَا بَاعَ الدَّيْنَ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ ذَلِكَ أَنْ يَقْبِضَ الدَّائِنُ الْعِوَضَ قَبْل التَّفَرُّقِ مِنَ الْمَجْلِسِ، كَيْ لاَ يَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ (3) .
أَمَّا إِذَا بَاعَ الدَّيْنَ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ قَبْضُ الْمُشْتَرِي،
__________
(1) رد المحتار 4 / 209، تبيين الحقائق 4 / 140، فتح العزيز 9 / 212، الشرح الكبير على المقنع 4 / 336، بدائع الصنائع 7 / 3155 (مطبعة الإمام) ، نهاية المحتاج 4 / 180، المغني / 329، شرح منتهى الإرادات 2 / 221
(2) أعلام الموقعين 2 / 9
(3) البدائع 7 / 3230، شرح منتهى الإرادات 2 / 222، كشاف القناع 3 / 294، المغني 4 / 134، المبدع 4 / 199، المجموع شرح المهذب (مطبعة التضامن الأخوي) 9 / 274، فتح العزيز 8 / 437(21/128)
لاِنْتِفَاءِ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. قَال الْكَاسَانِيُّ: " إِنَّ الدَّيْنَ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ فُلُوسًا أَوْ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا أَوْ قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ، فَإِنْ كَانَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَاشْتَرَى بِهِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ جَازَ الشِّرَاءُ، وَقَبْضُ الْمُشْتَرِي لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ افْتِرَاقًا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ فِيمَا لاَ يَتَضَمَّنُ رِبَا النَّسَاءِ، وَلاَ يَتَضَمَّنُ هَاهُنَا. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الدَّيْنُ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا أَوْ قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ لِمَا قُلْنَا (1) ".
59 - (وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الدُّيُونِ) مَا لاَ يَكُونُ الْمِلْكُ عَلَيْهِ مُسْتَقِرًّا: كَالْمُسْلَمِ فِيهِ وَالأُْجْرَةِ قَبْل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ مُضِيِّ زَمَانِهَا، وَالْمَهْرُ قَبْل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ مُضِيِّ زَمَانِهَا وَالْمَهْرُ قَبْل الدُّخُول وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الدُّيُونِ يَجُوزُ تَمْلِيكُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِلدَّيْنِ عَنِ الْمَدِينِ، وَلاَ دَلِيل عَلَى مَنْعِهِ (2) .
أَمَّا تَمْلِيكُهُ بِعِوَضٍ، فَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ دَيْنِ السَّلَمِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الدُّيُونِ غَيْرِ الْمُسْتَقِرَّةِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - دَيْنُ السَّلَمِ
60 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الْمُسْلِمِ الدَّيْنَ
__________
(1) البدائع 7 / 3229
(2) رد المحتار 4 / 209، البدائع 7 / 3178، كشاف القناع 3 / 293، شرح منتهى الإرادات 2 / 222(21/129)
الْمُسْلَمَ فِيهِ لِلْمَدِينِ، أَوِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَامْتِنَاعِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ، فَكَانَ كَالْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلاَ يَصْرِفْهُ فِي غَيْرِهِ. (1) قَالُوا: وَهَذَا يَقْتَضِي أَلاَّ يَبِيعَ الْمُسْلِمُ دَيْنَ السَّلَمِ لاَ مِنْ صَاحِبِهِ وَلاَ مِنْ غَيْرِهِ (2) .
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَصَحَّحَهُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمُ، وَهُوَ جَوَازُ بَيْعِ الْعَرَضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ بِثَمَنِ الْمِثْل أَوْ دُونِهِ، لاَ أَكْثَرَ مِنْهُ (3) .
__________
(1) حديث: " من أسلم في شيء فلا يصرفه في غيره " أخرجه أبو داود (3 / 744 - 745 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والدارقطني (3 / 45 - ط دار المحاسن) من حديث أبي سعيد الخدري واللفظ للدارقطني، وضعفه ابن حجر ونقل عن غيره أنه أعله بالضعف والاضطراب، التلخيص الحبير (3 / 25 - شركة الطباعة الفنية) .
(2) لأم 3 / 133، رد المحتار 4 / 166، 209، تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 4 / 118، أسنى المطالب 2 / 84، نهاية المحتاج 4 / 87، المهذب 1 / 270، فتح العزيز 8 / 432، مجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 500، 503، 506، المغني 4 / 334، المبدع 4 / 197، شرح منتهى الإرادات 2 / 222، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 326، 331، وانظر م 559 من مرشد الحيران.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 503، 504، 518، 519، تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته لابن القيم 5 / 117، القوانين الفقهية ص 296، مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ص 345(21/129)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ مِنَ الْمَدِينِ وَالاِعْتِيَاضِ عَنْهُ إِذَا كَانَ بِسِعْرِ الْمِثْل أَوْ دُونَهُ بِعَدَمِ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ، إِذِ الْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَل بِهِ الْمَانِعُونَ مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلاَ يَصْرِفْهُ إِلَى غَيْرِهِ ضَعِيفٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ، وَحَتَّى لَوْ صَحَّ، فَإِنَّ مَعْنَى فَلاَ يَصْرِفْهُ إِلَى غَيْرِهِ أَنْ لاَ يَصْرِفَهُ إِلَى سَلَمٍ آخَرَ، أَوْ لاَ يَبِيعَهُ بِمُعَيَّنٍ مُؤَجَّلٍ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مَحَل النِّزَاعِ. قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: " فَثَبَتَ أَنَّهُ لاَ نَصَّ فِي التَّحْرِيمِ وَلاَ إِجْمَاعَ وَلاَ قِيَاسَ، وَأَنَّ النَّصَّ وَالْقِيَاسَ يَقْتَضِيَانِ الإِْبَاحَةَ (1) ".
أَمَّا عَدَمُ جَوَازِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، فَلأَِنَّ دَيْنَ السَّلَمِ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَمْ يَنْتَقِل إِلَى ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، فَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ بِزِيَادَةٍ، فَقَدْ رَبِحَ رَبُّ السَّلَمِ فِيمَا لَمْ يَضْمَنْ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ (2) .
61 - (ب) الدُّيُونُ الَّتِي لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُ الدَّائِنِ
__________
(1) تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته لابن القيم 5 / 117
(2) حديث: " نهى عن ربح ما لم يضمن " ورد من حديث عبد الله بن عمر وبلفظ: " لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن ". أخرجه الترمذي (3 / 527 - ط الحلبي) ، وقال: " حديث حسن صحيح "(21/130)
عَلَيْهَا لِعَدَمِ قَبْضِ الْمَدِينِ الشَّيْءَ الْمُقَابِل لَهَا، كَالأُْجْرَةِ قَبْل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ مُضِيِّ زَمَانِهَا، وَكَالْمَهْرِ قَبْل الدُّخُول وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَهَذِهِ الدُّيُونُ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَمْلِيكِهَا مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ عَلَى قَوْلَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ مِلْكَهُ عَلَيْهَا غَيْرُ تَامٍّ (1) .
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ جَوَازُ بَيْعِهَا مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ، كَالدُّيُونِ الَّتِي اسْتَقَرَّ مِلْكُ الدَّائِنِ عَلَيْهَا، إِذْ لاَ فَرْقَ بَيْنَهَا (2) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: (تَمْلِيكُ الدُّيُونِ لِغَيْرِ الْمَدِينِ) :
62 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ (3) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 2 / 223، كشاف القناع 3 / 294
(2) رد المحتار 4 / 166، نهاية المحتاج 4 / 88، المجموع شرح المهذب (مطبعة التضامن الأخوي) 9 / 275، فتح العزيز 8 / 434 وما بعدها، الأشباه والنظائر للسيوطي ص331
(3) المبدع بشرح المقنع 4 / 199، مجموع فتاوى ابن تيمية 29 / 506، تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته لابن القيم 5 / 114، المنثور في القواعد للزركشي 2 / 161.(21/130)
وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِعِوَضٍ أَمْ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
كَأَنْ يَقُول شَخْصٌ لآِخَرَ: وَهَبْتُكَ مَا لِي مِنْ دَيْنٍ عَلَى فُلاَنٍ فَيَقْبَل. أَوْ يَقُول لَهُ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ
كَذَا بِمَا لِيَ مِنْ دَيْنٍ عَلَى فُلاَنٍ، فَيَقْبَل أَوْ يَقُول لَهُ: اسْتَأْجَرْتُ مِنْكَ كَذَا بِالدَّيْنِ الثَّابِتِ لِي فِي ذِمَّةِ فُلاَنٍ، فَيَقْبَل. فَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لأَِنَّ الْوَاهِبَ أَوِ الْمُشْتَرِيَ أَوِ الْمُسْتَأْجِرَ يَهَبُ أَوْ يَبِيعُ مَا لَيْسَ فِي يَدِهِ، وَلاَ لَهُ مِنَ السُّلْطَةِ شَرْعًا مَا يُمَكِّنُهُ مِنْ قَبْضِهِ مِنْهُ، فَكَانَ بَيْعًا لِشَيْءٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، إِذْ رُبَّمَا مَنَعَهُ الْمَدِينُ أَوْ جَحَدَهُ، وَذَلِكَ غَرَرٌ فَلاَ يَجُوزُ (1) .
وَقَدِ اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ قَاعِدَةِ عَدَمِ جَوَازِ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ ثَلاَثَ حَالاَتٍ (2) :
الأُْولَى: إِذَا وَكَّل الدَّائِنُ الشَّخْصَ الَّذِي
__________
(1) رد المحتار 4 / 166، تبيين الحقائق 4 / 83، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 357، 358، أسنى المطالب 2 / 85، نهاية المحتاج 4 / 89، فتح العزيز 8 / 439، المجموع شرح المهذب 9 / 275، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 331، شرح منتهى الإرادات 2 / 222، المبدع 4 / 199، كشاف القناع 3 / 293، 294، بدائع الصنائع 7 / 3104، الشرح الكبير على المقنع 4 / 342
(2) رد المحتار 4 / 166، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 357، 358، البدائع 7 / 3104(21/131)
مَلَّكَهُ الدَّائِنُ فِي قَبْضِ ذَلِكَ الدَّيْنِ مِنْ مَدِينِهِ، فَيَصِحُّ ذَلِكَ، وَيَقْبِضُ الدَّيْنَ مِنَ الْمَدِينِ بِاعْتِبَارِهِ وَكِيلاً عَنِ الدَّائِنِ، وَبِمُجَرَّدِ الْقَبْضِ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ، وَتَنْتَقِل مَلَكِيَّةُ الدَّيْنِ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِيَةُ: إِذَا أَحَال الدَّائِنُ الشَّخْصَ الَّذِي مَلَّكَهُ الدَّيْنَ عَلَى مَدِينِهِ، فَيَصِحُّ ذَلِكَ، وَيَقْبِضُ الدَّيْنَ مِنَ الْمَدِينِ بِاعْتِبَارِهِ مُحَالاً مِنَ الدَّائِنِ عَلَيْهِ، وَبِمُجَرَّدِ الْقَبْضِ تَنْتَقِل مَلَكِيَّةُ الدَّيْنِ إِلَيْهِ.
وَالثَّالِثَةُ: الْوَصِيَّةُ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِالدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهَا تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيَنْتَقِل الْمِلْكُ فِيهِ كَمَا يَنْتَقِل بِالإِْرْثِ.
وَالثَّالِثُ: لِلشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ - صَحَّحَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ كَالشِّيرَازِيِّ فِي الْمُهَذَّبِ وَالنَّوَوِيِّ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ وَأَفْتَى بِهِ زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ وَغَيْرُهُ - وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ سَائِرِ الدُّيُونِ - عَدَا دَيْنِ السَّلَمِ - لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُهَا لِلْمَدِينِ وَلاَ فَرْقَ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا وَالْمَدِينُ مُقِرًّا مَلِيئًا أَوْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ لاَ كُلْفَةَ فِي إِقَامَتِهَا. وَذَلِكَ لاِنْتِفَاءِ الْغَرَرِ النَّاشِئِ عَنْ عَدَمِ قُدْرَةِ الدَّائِنِ عَلَى تَسْلِيمِ الدَّيْنِ إِلَيْهِ (1) .
__________
(1) المهذب 1 / 270، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 331، المجموع شرح المهذب 9 / 275، فتح العزيز 8 / 439، نهاية المحتاج 4 / 90، روضة الطالبين للنووي 3 / 514، أسنى المطالب شرح روض الطالب 2 / 85(21/131)
وَكَمَا اشْتُرِطَ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ إِذَا كَانَ بِمَا لاَ يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً - كَالرِّبَوِيَّاتِ بِبَعْضِهَا - فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ كَذَلِكَ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ.
وَالرَّابِعُ لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ الْمَدِينِ بِشُرُوطٍ تُبَاعِدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَرَرِ، وَتَنْفِي عَنْهُ سَائِرَ الْمَحْظُورَاتِ الأُْخْرَى، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ ثَمَانِيَةٌ (1) :
1 - أَنْ يُعَجِّل الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ؛ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يُعَجِّل فِي الْحِينِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ.
2 - أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ؛ لِيَعْلَمَ مِنْ فَقْرٍ أَوْ غِنًى؛ لأَِنَّ عِوَضَ الدَّيْنِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ حَال الْمَدِينِ، وَالْمَبِيعُ لاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولاً.
3 - أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لَهُ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ دَيْنِهِ وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ حَسْمًا لِلْمُنَازَعَاتِ.
4 - أَنْ يُبَاعَ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، أَوْ بِجِنْسِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ.
5 - أَلاَّ يَكُونَ ذَهَبًا بِفِضَّةٍ وَلاَ عَكْسَهُ، لاِشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي صِحَّةِ بَيْعِهَا.
6 - أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالْمَدِينِ عَدَاوَةٌ.
__________
(1) منح الجليل 2 / 564 وما بعدها، الزرقاني على خليل 5 / 83، البهجة شرح التحفة 2 / 47 وما بعدها، الموطأ (ط. عيسى الحلبي) 2 / 675، شرح الخرشي 5 / 77، التاودي على التحفة 2 / 48(21/132)
7 - أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ، احْتِرَازًا مِمَّا لَوْ كَانَ طَعَامًا، إِذْ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْل قَبْضِهِ.
8 - أَلاَّ يَقْصِدَ الْمُشْتَرِي إِعْنَاتَ الْمَدِينِ وَالإِْضْرَارَ بِهِ.
تَصَرُّفُ الْمَدِينِ:
63 - يَنْحَصِرُ تَصَرُّفُ الْمَدِينِ فِي الدَّيْنِ الثَّابِتِ فِي ذِمَّتِهِ فِي أَمْرَيْنِ: الْحَوَالَةِ، وَالسَّفْتَجَةِ.
الْحَالَةُ الأُْولَى: الْحَوَالَةُ. (ر: حَوَالَة) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: السَّفْتَجَةُ. (ر: سَفْتَجَة) .
الدَّيْنُ فِي ظِل تَغَيُّرَاتِ النُّقُودِ:
64 - يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ فِي أَحْكَامِ الدَّيْنِ مِنَ النُّقُودِ عِنْدَ طُرُوءِ التَّغَيُّرَاتِ عَلَى النَّقْدِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ نَقْدًا بِالْخِلْقَةِ (أَيْ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ) وَمَا إِذَا كَانَ ثَابِتًا بِالاِصْطِلاَحِ (بِأَنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ وَجَرَى الاِصْطِلاَحُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ اسْتِعْمَال النَّقْدَيْنِ) كَالْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْعُمُلاَتِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
تَغَيُّرُ النُّقُودِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ نَقْدًا بِالْخِلْقَةِ:
65 - إِنَّ الدَّيْنَ الثَّابِتَ فِي الذِّمَّةِ إِذَا كَانَ عُمْلَةً ذَهَبِيَّةً أَوْ فِضِّيَّةً مُحَدَّدَةً مُسَمَّاةً فَغَلَتْ أَوْ رَخُصَتْ عِنْدَ حُلُول وَقْتِ الأَْدَاءِ، فَلاَ يَلْزَمُ الْمَدِينَ أَنْ(21/132)
يُؤَدِّيَ غَيْرَهَا؛ لأَِنَّهَا نَقْدٌ بِالْخِلْقَةِ، وَهَذَا التَّغَيُّرُ فِي قِيمَتِهَا لاَ تَأْثِيرَ لَهُ عَلَى الدَّيْنِ أَلْبَتَّةَ (1) . وَقَدْ جَاءَ فِي (م 805) مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ. " وَإِنِ اسْتَقْرَضَ شَيْئًا مِنَ الْمَكِيلاَتِ أَوِ الْمَوْزُونَاتِ أَوِ الْمَسْكُوكَاتِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَرَخُصَتْ أَسْعَارُهَا أَوْ غَلَتْ، فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهَا، وَلاَ عِبْرَةَ بِرُخْصِهَا وَغُلُوِّهَا ".
وَحَتَّى لَوْ زَادَتِ الْجِهَةُ الْمُصْدِرَةُ لِهَذِهِ الْعُمْلَةِ سِعْرَهَا أَوْ نَقَصَتْهُ، فَلاَ يَلْزَمُ الْمَدِينَ إِلاَّ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْعَقْدُ (2) .
يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: " ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَدَّدَ فِي زَمَانِنَا وُرُودُ الأَْمْرِ السُّلْطَانِيِّ بِتَغْيِيرِ سِعْرِ بَعْضٍ مِنَ النُّقُودِ الرَّائِجَةِ بِالنَّقْصِ، وَاخْتَلَفَ الإِْفْتَاءُ فِيهِ. وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْحَال الآْنَ دَفْعُ النَّوْعِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا، كَمَا إِذَا اشْتَرَى سِلْعَةً بِمِائَةِ رِيَالٍ إِفْرِنْجِيٍّ أَوْ مِائَةِ ذَهَبٍ عَتِيقٍ (3) ".
وَلَوْ أَبْطَلَتِ السُّلْطَةُ الْمُصْدِرَةُ لِهَذِهِ الْعُمْلَةِ التَّعَامُل بِهَا، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْمَدِينَ سِوَاهَا وَفَاءً بِالْعَقْدِ، إِذْ هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا، وَهِيَ الثَّابِتَةُ فِي الذِّمَّةِ دُونَ غَيْرِهَا. وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي
__________
(1) تنبيه الرقود على مسائل العقود لابن عابدين (مطبوع ضمن رسائل ابن عابدين) 2 / 14
(2) منح الجليل لعليش 2 / 534، قطع المجادلة عند تغيير المعاملة للسيوطي (مطبوع ضمن كتاب الحاوي للفتاوى) 1 / 97 وما بعدها
(3) تنبيه الرقود 2 / 66(21/133)
" الأُْمِّ " وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ (1) . قَال الشَّافِعِيُّ: " وَمَنْ سَلَّفَ فُلُوسًا أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ بَاعَ بِهَا، ثُمَّ أَبْطَلَهَا السُّلْطَانُ، فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ مِثْل فُلُوسِهِ أَوْ دَرَاهِمِهِ الَّتِي سَلَّفَ أَوْ بَاعَ بِهَا (2) ". وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا أُبْطِلَتْ هَذِهِ الْعُمْلَةُ وَاسْتُبْدِل بِهَا غَيْرُهَا، فَيُرْجَعُ إِلَى قِيمَةِ الْعُمْلَةِ الْمُلْغَاةِ مِنَ الذَّهَبِ، وَيَأْخُذُ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْقِيمَةَ ذَهَبًا (3) .
أَمَّا إِذَا عُدِمَتْ تِلْكَ الْعُمْلَةُ أَوِ انْقَطَعَتْ أَوْ فُقِدَتْ فِي بَلَدِ الْمُتَدَايِنَيْنِ، فَتَجِبُ عِنْدَئِذٍ قِيمَتُهَا مِمَّا تَجَدَّدَ وَتَوَفَّرَ التَّعَامُل بِهِ مِنَ الْعُمُلاَتِ (4) .
وَلَوْ قَلَّتْ أَوْ عَزَّ وُجُودُهَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ غَيْرُهَا لإِِمْكَانِ تَحْصِيلِهَا مَعَ الْعِزَّةِ، بِخِلاَفِ انْقِطَاعِهَا وَانْعِدَامِهَا وَفَقْدِهَا (5) . قَال الْهَيْثَمِيُّ: " وَلَوْ بَاعَ بِنَقْدٍ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَعَيَّنَ شَيْئًا مَوْجُودًا، اتُّبِعَ وَإِنْ عَزَّ (6) ".
وَتَجْدُرُ الإِْشَارَةُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِلَى أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَيَّدُوا الْقَوْل بِإِلْزَامِ الدَّائِنِ بِقَبُول مِثْل النَّقْدِ الَّذِي ثَبَتَ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ، وَإِلْزَامِ الْمَدِينِ بِأَدَائِهِ إِذَا كَانَ
__________
(1) حاشية الرهوني 5 / 118، 119، منح الجليل 2 / 534، حاشية المدني على كنون 5 / 118
(2) الأم 3 / 33 (ط. دار المعرفة ببيروت) .
(3) حاشية الرهوني 2 / 119
(4) منح الجليل 2 / 535
(5) نهاية المحتاج 3 / 397
(6) تحفة المحتاج 4 / 255(21/133)
مُتَوَفِّرًا - فِي حَالَتَيِ الْغَلاَءِ وَالرُّخْصِ - بِأَنْ يَكُونَ التَّعَامُل بِهَذَا النَّقْدِ مَسْمُوحًا بِهِ مِنْ قِبَل الدَّوْلَةِ.
أَمَّا إِذَا مَنَعَتِ الدَّوْلَةُ النَّاسَ مِنَ التَّعَامُل بِهِ، فَلاَ يُجْبَرُ الدَّائِنُ عَلَى قَبُولِهِ، وَيَكُونُ لَهُ الْقِيمَةُ وَقْتَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ مِنَ النُّقُودِ إِنْ تَرَتَّبَ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ مِنْ جِنْسِهِ رِبَا الْفَضْل، سَوَاءٌ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ التَّعَامُل بِهَذَا النَّقْدِ أَمْ لَمْ يَتَّفِقُوا، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى أَدَاءِ الْقِيمَةِ مِنْ جِنْسِهِ رِبَا الْفَضْل، فَلاَ مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْوَفَاءُ بِقِيمَتِهِ مِنْ جِنْسِهِ (1) .
تَغَيُّرُ النُّقُودِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ نَقْدًا بِالاِصْطِلاَحِ:
إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ نَقْدًا بِالاِصْطِلاَحِ لاَ بِالْخِلْقَةِ كَسَائِرِ الْعُمُلاَتِ الأُْخْرَى غَيْرِ الذَّهَبِيَّةِ وَالْفِضِّيَّةِ، فَطَرَأَ عَلَيْهِ تَغَيُّرٌ عِنْدَ حُلُولِهِ، فَعِنْدَئِذٍ يُفَرَّقُ بَيْنَ خَمْسِ حَالاَتٍ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: (الْكَسَادُ الْعَامُّ لِلنَّقْدِ) :
66 - وَذَلِكَ بِأَنْ تُوقِفَ الْجِهَةُ الْمُصْدِرَةُ لِلنَّقْدِ التَّعَامُل بِهِ، فَتُتْرَكُ الْمُعَامَلَةُ بِهِ فِي جَمِيعِ الْبِلاَدِ،
__________
(1) كشاف القناع 3 / 301، الشرح الكبير على المقنع 4 / 358، شرح منتهى الإرادات 2 / 226، المغني 4 / 365 (مطبوع مع الشرح الكبير بمطبعة المنار 1347 هـ) ، المبدع 4 / 207، المحرر لمجد الدين ابن تيمية 1 / 335(21/134)
وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ بِـ " كَسَادِ النَّقْدِ " (1) .
فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: لَوِ اشْتَرَى شَخْصٌ سِلْعَةً بِنَقْدٍ مُحَدَّدٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ كَسَدَ ذَلِكَ النَّقْدُ قَبْل الْوَفَاءِ، أَوِ اسْتَدَانَ نَقْدًا مَعْلُومًا ثُمَّ كَسَدَ قَبْل الأَْدَاءِ، أَوْ وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ الْمَهْرُ الْمُؤَجَّل نَقْدًا مُحَدَّدًا، ثُمَّ كَسَدَ قَبْل حُلُولِهِ. فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لأَِبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَنَّ النَّقْدَ الَّذِي كَسَدَ إِذَا كَانَ ثَمَنًا فِي بَيْعٍ، فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ، وَيَجِبُ الْفَسْخُ مَا دَامَ مُمْكِنًا؛ لأَِنَّهُ بِالْكَسَادِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ ثَمَنًا، حَيْثُ إِنَّ ثَمَنِيَّتَهُ ثَبَتَتْ بِالاِصْطِلاَحِ، فَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ التَّعَامُل بِهِ، فَإِنَّهَا تَزُول عَنْهُ صِفَةُ الثَّمَنِيَّةِ، فَيَبْقَى الْمَبِيعُ بِلاَ ثَمَنٍ، فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ. أَمَّا إِذَا كَانَ دَيْنًا فِي قَرْضٍ أَوْ مَهْرًا مُؤَجَّلاً، فَيَجِبُ رَدُّ مِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ كَاسِدًا؛ لأَِنَّهُ هُوَ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ لاَ غَيْرُهُ (2) . حَيْثُ " إِنَّ الْقَرْضَ إِعَارَةٌ، وَمُوجِبُهَا رَدُّ الْعَيْنِ مَعْنًى، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِرَدِّ مِثْلِهِ
__________
(1) الكساد في اللغة: عدم النفاق لقلة الرغبات. (المصباح المنير 2 / 644) ، أما في اصطلاح الفقهاء: " فهو أن يبطل التداول بنوع من العملة، ويسقط رواجها في البلاد كافة ". (شرح المجلة لعلي حيدر (1 / 108) ، تبيين الحقائق 4 / 143، تنبيه الرقود لابن عابدين 2 / 60.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 225، بدائع الصنائع 7 / 3244 وما بعدها، تبيين الحقائق 4 / 142، درر الحكام لعلي حيدر 3 / 94(21/134)
وَلَوْ كَانَ كَاسِدًا - لأَِنَّ الثَّمَنِيَّةَ زِيَادَةٌ فِيهِ، حَيْثُ إِنَّ صِحَّةَ الْقَرْضِ لاَ تَعْتَمِدُ الثَّمَنِيَّةَ، بَل تَعْتَمِدُ الْمِثْلِيَّةَ، وَبِالْكَسَادِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِثْلاً، وَلِهَذَا صَحَّ اسْتِقْرَاضُهُ بَعْدَ الْكَسَادِ، وَصَحَّ اسْتِقْرَاضُ مَا لَيْسَ بِثَمَنٍ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَالْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَنًا، وَلَوْلاَ أَنَّهُ إِعَارَةٌ فِي الْمَعْنَى لَمَا صَحَّ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ مُبَادَلَةَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ نَسِيئَةً وَأَنَّهُ حَرَامٌ، فَصَارَ الْمَرْدُودُ عَيْنَ الْمَقْبُوضِ حُكْمًا، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الرَّوَاجُ كَرَدِّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالْقَرْضُ كَالْغَصْبِ إِذْ هُوَ مَضْمُونٌ بِمِثْلِهِ (1) ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: لأَِبِي يُوسُفَ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ رَدُّ الْمِثْل بَعْدَمَا كَسَدَ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ رَدُّ قِيمَةِ النَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ - يَوْمَ التَّعَامُل - مِنْ نَقْدٍ آخَرَ (2) . وَبِهَذَا أَخَذَتِ الْمَادَّةُ:
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 144
(2) الفتاوى الهندية 3 / 225، تبيين الحقائق 4 / 142، درر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 94، كشاف القناع 3 / 301، شرح منتهى الإرادات 2 / 226، الشرح الكبير على المقنع 4 / 358، حاشية الرهوني 5 / 102، حاشية المدني 5 / 118. وقد حكى صاحب " الذخيرة البرهانية " أن هذا القول هو المفتى به في مذهب الحنفية، وذلك لأنه أيسر؛ حيث إن القيمة يوم التعامل تكون معلومة، بخلاف يوم الكساد؛ فإنها لا تعرف إلا بحرج. (انظر الفتاوى الهندية 3 / 225، تبيين الحقائق 4 / 144، الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 142، تنبيه الرقود 2 / 59) .(21/135)
" 805 " مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا: " إِذَا اسْتَقْرَضَ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا مِنَ الْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ وَالنُّقُودِ غَالِبَةِ الْغِشِّ (1) ، فَكَسَدَتْ وَبَطَل التَّعَامُل بِهَا فَعَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهَا يَوْمَ قَبْضِهَا لاَ يَوْمَ رَدِّهَا ".
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ:
أَوَّلاً: بِأَنَّ إِيقَافَ التَّعَامُل بِهَا مِنْ قِبَل الْجِهَةِ الْمُصْدِرَةِ لَهَا مَنْعٌ لِنَفَاقِهَا وَإِبْطَالٌ لِمَالِيَّتِهَا، إِذْ هِيَ أَثْمَانٌ بِالاِصْطِلاَحِ لاَ بِالْخِلْقَةِ، فَصَارَ ذَلِكَ إِتْلاَفًا لَهَا، فَيَجِبُ بَدَلُهَا وَهُوَ الْقِيمَةُ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ الْجَوَابِرِ. ثَانِيًا: وَلأَِنَّ الدَّائِنَ قَدْ دَفَعَ شَيْئًا مُنْتَفَعًا بِهِ لأَِخْذِ عِوَضٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ، فَلاَ يُظْلَمُ بِإِعْطَائِهِ مَا لاَ يَنْتَفِعُ بِهِ.
قَالُوا: وَإِنَّمَا اعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ يَوْمَ التَّعَامُل؛ لأَِنَّهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ رَدُّ قِيمَةِ النَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ التَّعَامُل مِنَ النَّقْدِ الآْخَرِ وَقْتَ الْكَسَادِ، أَيْ فِي آخِرِ نَفَاقِهَا، وَهُوَ آخِرُ مَا تَعَامَل النَّاسُ بِهَا؛ لأَِنَّهُ وَقْتُ الاِنْتِقَال إِلَى الْقِيمَةِ، إِذْ كَانَ يَلْزَمُهُ رَدُّ مِثْلِهَا مَا دَامَتْ نَافِقَةً، فَإِذَا كَسَدَتِ انْتَقَل إِلَى قِيمَتِهَا حِينَئِذٍ (2) .
__________
(1) المراد بالنقود غالبة الغش: العملة التي يكون غالبها من معدن غير الذهب والفضة
(2) الشرح الكبير على المقنع 4 / 358، الفتاوى الهندية 3 / 225، الزيلعي 4 / 143، وحاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 142، تنبيه الرقود 2 / 59، درر الحكام شرح مجلة الأحكام 3 / 94 وقد جاء في كتب الحنفية المشار إليها نقلا عن المحيط والتيمة والحقائق أن الفتوى في المذهب على قول الإمام محمد بن الحسن رفقًا بالمدينين؛ حيث إن القيمة في آخر النفاق تكون عادة أقل منها يوم التعامل(21/135)
وَالْقَوْل الرَّابِعُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ النَّقْدَ إِذَا كَسَدَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ وَقَبْل أَدَائِهِ، فَلَيْسَ لِلدَّائِنِ سِوَاهُ. وَيُعْتَبَرُ هَذَا الْكَسَادُ كَجَائِحَةٍ نَزَلَتْ بِالدَّائِنِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ قَرْضًا أَوْ ثَمَنَ مَبِيعٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ (1) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: (الْكَسَادُ الْمَحَلِّيُّ لِلنَّقْدِ) :
67 - وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْطُل التَّعَامُل بِالنَّقْدِ فِي بَعْضِ الْبِلاَدِ لاَ فِي جَمِيعِهَا. وَمِثْلُهُ فِي عَصْرِنَا الْحَاضِرِ الْعُمُلاَتُ الَّتِي تُصْدِرُهَا بَعْضُ الدُّوَل وَتَمْنَعُ تَدَاوُلَهَا فِي خَارِجِ أَرَاضِيهَا. فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: إِذَا اشْتَرَى شَخْصٌ بِنَقْدٍ نَافِقٍ ثُمَّ كَسَدَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْبَيْعُ قَبْل
__________
(1) تحفة المحتاج وحاشية الشرواني عليه 4 / 258، 5 / 44، أسنى المطالب 2 / 143، قطع المجادلة عند تغيير المعاملة للسيوطي 1 / 97 وما بعدها، المجموع شرح المهذب 9 / 282، 331، الأم 3 / 33، نهاية المحتاج 3 / 399، 4 / 223، شرح الخرشي 5 / 55، الزرقاني على خليل 5 / 60، حاشية الرهوني 2 / 120، 121، منح الجليل 2 / 534(21/136)
الأَْدَاءِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ لاَ يَفْسُدُ، وَيَكُونُ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالنَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ، وَبَيْنَ أَخْذِ قِيمَةِ ذَلِكَ النَّقْدِ مِنْ عُمْلَةٍ رَائِجَةٍ. وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إِذَا كَسَدَ النَّقْدُ فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيَجْرِي عَلَيْهِ فِيهَا حُكْمُ الْكَسَادِ الْعَامِّ فِي جَمِيعِ الْبِلاَدِ اعْتِبَارًا لاِصْطِلاَحِ أَهْل تِلْكَ الْبَلْدَةِ (2) .
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: (انْقِطَاعُ النَّقْدِ) :
68 - وَذَلِكَ بِأَنْ يُفْقَدَ النَّقْدُ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ، وَلاَ يَتَوَفَّرَ فِي الأَْسْوَاقِ لِمَنْ يُرِيدُهُ (3) .
فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: لَوِ اشْتَرَى شَخْصٌ سِلْعَةً
__________
(1) تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 4 / 143، تنبيه الرقود لابن عابدين 2 / 59، 60
(2) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 143
(3) وحد الانقطاع - كما جاء في تبيين الحقائق والذخيرة البرهانية - هو: " ألا يوجد في السوق، وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت ". (تبيين الحقائق 4 / 143، تنبيه الرقود 2 / 60) وفي شرح المجلة لعلي حيدر: " الانقطاع: هو عدم وجود مثل الشيء في الأسواق، ولو وجد ذلك المثل في البيوت؛ فإنه ما لم يوجد في الأسواق فيعد منقطعًا " (درر الحكام 1 / 108 وقال الخرشي والزرقاني في ضابط الانقطاع: " إن العبرة بالعدم في بلد المعاملة أي البلد التي تعاملا فيها، ولو وجد في غيرها فإنه يعتبر منقطعًا " (انظر شرح الخرشي 5 / 55، الزرقاني على خليل 5 / 60)(21/136)
بِنَقْدٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ انْقَطَعَ قَبْل أَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لِلْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ عَلَى الْمُشْتَرِي أَدَاءَ مَا يُسَاوِيهِ فِي الْقِيمَةِ فِي آخِرِ يَوْمٍ قَبْل الاِنْقِطَاعِ؛ لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ مِثْل النَّقْدِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ، فَيُصَارُ إِلَى بَدَلِهِ وَهُوَ الْقِيمَةُ.
وَمِثْل ذَلِكَ يُقَال فِي دَيْنِ الْقَرْضِ وَغَيْرِهِ. وَإِنَّمَا اعْتُبِرَتِ الْقِيمَةُ قُبَيْل الاِنْقِطَاعِ؛ لأَِنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَنْتَقِل الْوُجُوبُ فِيهِ مِنَ الْمِثْل إِلَى الْقِيمَةِ (1) .
وَالْقَوْل الثَّانِي: لأَِبِي يُوسُفَ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ أَدَاءُ مَا يُسَاوِيهِ فِي الْقِيمَةِ يَوْمَ التَّعَامُل؛ لأَِنَّهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ (2) .
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: لأَِبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَنَّ الاِنْقِطَاعَ كَالْكَسَادِ يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ (3) .
وَالْقَوْل الرَّابِعُ: لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ الْحُصُول عَلَى ذَلِكَ النَّقْدِ مَعَ فَقْدِهِ وَانْقِطَاعِهِ، فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِلاَّ فَتَجِبُ
__________
(1) الشرح الكبير على المقنع 4 / 358، تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 4 / 142، تنبيه الرقود 2 / 59، 60.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 225، تبيين الحقائق 4 / 142
(3) تنبيه الرقود 2 / 59، تبيين الحقائق 4 / 142، الفتاوى الهندية 3 / 225(21/137)
قِيمَتُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ دَيْنَ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنَ مَبِيعٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. لَكِنْ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ عِنْدَمَا يُصَارُ إِلَيْهَا: فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَجِبُ فِي وَقْتِ الْمُطَالَبَةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ (2) : تَجِبُ فِي أَبْعَدِ الأَْجَلَيْنِ مِنَ الاِسْتِحْقَاقِ - وَهُوَ حُلُول الأَْجَل - وَالْعَدَمِ الَّذِي هُوَ الاِنْقِطَاعُ (3) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقِيمَةَ إِنَّمَا تُقَدَّرُ وَقْتَ الْحُكْمِ (4) .
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: (غَلاَءُ النَّقْدِ وَرُخْصُهُ) .
69 - وَذَلِكَ بِأَنْ تَزِيدَ قِيمَةُ النَّقْدِ أَوْ تَنْقُصَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، اللَّذَيْنِ يُعْتَبَرَانِ
__________
(1) تحفة المحتاج 4 / 258، نهاية المحتاج 3 / 399، وانظر قطع المجادلة للسيوطي 1 / 97
(2) منح الجليل 2 / 535، الخرشي 5 / 55، الزرقاني على خليل 5 / 60
(3) سواء مطله المدين بها أم لا، كما هو ظاهر كلام خليل والمدونة، وذهب الخرشي وغيره إلى أن هذا مقيد بما إذا لم يحصل من المدين مطل، وإلا وجب عليه ما آل إليه، أي من المعاملة الجديدة لا القيمة - أي ما آل إليه الأمر من السكة الجديدة الزائدة على القديمة - لأنه ظ الزرقاني 5 / 60، منح الجليل 2 / 535، حاشية الرهوني 5 / 121) .
(4) منح الجليل 2 / 535، الزرقاني على خليل 5 / 60(21/137)
الْمِقْيَاسَ الَّذِي تُقَدَّرُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ أَثْمَانُ الأَْشْيَاءِ وَقِيَمُهَا، وَيُعَدَّانِ ثَمَنًا. وَهَذَا هُوَ مُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِـ " الْغَلاَءِ " " وَالرُّخْصِ " فِي هَذَا الْمَقَامِ.
فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ: إِذَا تَغَيَّرَتْ قِيمَةُ النَّقْدِ غَلاَءً أَوْ رُخْصًا بَعْدَمَا ثَبَتَ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ بَدَلاً فِي قَرْضٍ أَوْ دَيْنِ مَهْرٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَقَبْل أَنْ يُؤَدِّيَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَا يَلْزَمُ الْمَدِينَ أَدَاؤُهُ. عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لأَِبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَدِينِ أَدَاؤُهُ هُوَ نَفْسُ النَّقْدِ الْمُحَدَّدِ فِي الْعَقْدِ وَالثَّابِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، دُونَ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَلَيْسَ لِلدَّائِنِ سِوَاهُ (1) . وَقَدْ كَانَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا الرَّأْيِ أَوَّلاً ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لأَِبِي يُوسُفَ - وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ أَنْ يُؤَدِّيَ قِيمَةَ النَّقْدِ الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهِ الْغَلاَءُ أَوِ الرُّخْصُ يَوْمَ ثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ مِنْ نَقْدٍ رَائِجٍ. فَفِي الْبَيْعِ تَجِبُ
__________
(1) تنبيه الرقود 2 / 60، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق 4 / 142، 143، قطع المجادلة عند تغيير المعاملة للسيوطي 1 / 97 - 99، البدائع 7 / 3245، الشرح الكبير على المقنع 4 / 58، شرح منتهى الإرادات 2 / 226، كشاف القناع 3 / 301، المغني (المطبوع مع الشرح الكبير) 4 / 365، الزرقاني على خليل 5 / 60، حاشية الرهوني 5 / 121، منح الجليل 2 / 534، 535.(21/138)
الْقِيمَةُ يَوْمَ الْعَقْدِ، وَفِي الْقَرْضِ يَوْمَ الْقَبْضِ (1) .
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: وَجْهٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ التَّغَيُّرَ إِذَا كَانَ فَاحِشًا، فَيَجِبُ أَدَاءُ قِيمَةِ النَّقْدِ الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهِ الْغَلاَءُ أَوِ الرُّخْصُ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا فَالْمِثْل (2) . قَال الرَّهُونِيُّ - مُعَلِّقًا عَلَى قَوْل الْمَالِكِيَّةِ الْمَشْهُورِ بِلُزُومِ الْمِثْل وَلَوْ تَغَيَّرَ النَّقْدُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ -: " قُلْتُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكْثُرْ ذَلِكَ جِدًّا، حَتَّى يَصِيرَ الْقَابِضُ لَهَا كَالْقَابِضِ لِمَا لاَ كَبِيرَ مَنْفَعَةٍ فِيهِ؛ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ (3) الَّتِي عَلَّل بِهَا الْمُخَالِفُ فِي الْكَسَادِ (4) .
انْقِضَاءُ الدَّيْنِ:
إِذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ فَإِنَّهَا تَبْقَى مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ، وَلاَ تَبْرَأُ إِلاَّ بِحُصُول أَحَدِ أَسْبَابِ انْقِضَاءِ الدَّيْنِ التَّالِيَةِ:
أَوَّلاً: الأَْدَاءُ:
70 - إِذَا أَدَّى الْمَدِينُ أَوْ نَائِبُهُ أَوْ كَفِيلُهُ أَوْ غَيْرُهُمُ
__________
(1) تنبيه الرقود لابن عابدين 2 / 60، 61، 63
(2) حاشية المدني (بهامش الرهوني) 5 / 118
(3) ويقصد العلة التي استدل بها أصحاب القول المقابل للمشهور في مسألة كساد النقد، وهي أن الدائن قد دفع شيئًا منتفعًا به لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به. (انظر حاشية الرهوني 5 / 120، حاشية المدني 5 / 118)
(4) حاشية الرهوني 5 / 121(21/138)
الدَّيْنَ إِلَى الدَّائِنِ أَوْ نَائِبِهِ الَّذِي لَهُ وِلاَيَةُ قَبْضِ دُيُونِهِ، فَإِنَّ ذِمَّةَ الْمَدِينِ تَبْرَأُ بِالأَْدَاءِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الدَّيْنُ. أَمَّا إِذَا دَفَعَ الدَّيْنَ إِلَى مَنْ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَى قَبْضِ دُيُونِ الدَّائِنِ، فَلاَ يَنْقَضِي الدَّيْنُ، وَلاَ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَدِينِ (1) . (ر: أَدَاء) .
وَوِلاَيَةُ قَبْضِ الدُّيُونِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ تَثْبُتُ بِأَمْرَيْنِ: إِمَّا بِتَوْلِيَةِ الدَّائِنِ، وَإِمَّا بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ: - أَمَّا الَّتِي تَثْبُتُ بِتَوْلِيَةِ الدَّائِنِ: فَهِيَ وِلاَيَةُ الْوَكِيل بِقَبْضِ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّ مَنْ مَلَكَ التَّصَرُّفَ فِي شَيْءٍ أَصَالَةً مَلَكَ التَّوْكِيل فِيهِ، وَنَفْسُ الْقَبْضِ وَالاِسْتِيفَاءِ مِمَّا يَقْبَل النِّيَابَةَ، فَكَانَ قَبْضُ الْوَكِيل بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمُوَكِّل وَلاَ فَرْقَ. . وَلاَ بُدَّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْوَكِيل وَالْمُوَكِّل أَهْلاً لِلْقَبْضِ.
(ر: قَبْض) . - وَأَمَّا الَّتِي تَثْبُتُ بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ: فَهِيَ وِلاَيَةُ مَنْ يَلِي مَال الْمَحْجُورِ وَيَتَوَلَّى قَبْضَ حُقُوقِهِ. وَهَذِهِ الْوِلاَيَةُ لَيْسَتْ بِتَوْلِيَةِ الدَّائِنِ؛ لاِنْتِفَاءِ أَهْلِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِتَوْلِيَةِ الشَّارِعِ. (ر: وِلاَيَة) .
وَيُشْتَرَطُ لِنَفَاذِ وَفَاءِ الدَّيْنِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ مَالِكًا لِمَا دَفَعَهُ، فَإِنِ اسْتَحَقَّ بِالْبَيِّنَةِ وَأَخَذَهُ صَاحِبُهُ فَلِلدَّائِنِ الرُّجُوعُ بِدَيْنِهِ عَلَى غَرِيمِهِ (2) .
__________
(1) انظر م 195، 196، 197، 205، 217، 218 من مرشد الحيران.
(2) م 221 من مرشد الحيران.(21/139)
ثَانِيًا: الإِْبْرَاءُ:
71 - وَذَلِكَ كَمَا إِذَا كَانَ لِزَيْدٍ فِي ذِمَّةِ بَكْرٍ مِائَةُ دِينَارٍ ثَمَنُ مَبِيعٍ أَوْ بَدَل قَرْضٍ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَأَبْرَأَهُ مِنَ الدَّيْنِ كُلِّهِ، فَيَنْتَهِي بِذَلِكَ الْتِزَامُ الْمَدِينِ لِفَرَاغِ ذِمَّتِهِ بِالإِْبْرَاءِ، وَيَنْقَضِي الدَّيْنُ. كَمَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْكَفِيل بِالدَّيْنِ تَبَعًا لِبَرَاءَةِ ذِمَّةِ الأَْصِيل إِذَا كَانَ الدَّيْنُ مَضْمُونًا. وَلَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ بَعْضِ الدَّيْنِ لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلاَّ مُطَالَبَتُهُ بِالْبَاقِي. وَالإِْبْرَاءُ يَتِمُّ بِإِيجَابٍ مِنَ الدَّائِنِ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ مِنَ الْمَدِينِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ؛ لأَِنَّ الإِْبْرَاءَ عَنِ الدَّيْنِ إِسْقَاطٌ مِنْ وَجْهٍ وَتَمْلِيكٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. . فَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ إِسْقَاطًا لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُول، وَبِاعْتِبَارِهِ تَمْلِيكًا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ؛ لأَِنَّ الْمَرْءَ لاَ يُجْبَرُ عَلَى إِدْخَال شَيْءٍ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ. إِلاَّ فِي الإِْرْثِ (1) . (ر: إِبْرَاء) .
ثَالِثًا: الْمُقَاصَّةُ:
72 - وَهِيَ إِسْقَاطُ دَيْنٍ مَطْلُوبٍ لِشَخْصٍ مِنْ غَرِيمِهِ فِي مُقَابَلَةِ دَيْنٍ مَطْلُوبٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ لِغَرِيمِهِ
، وَذَلِكَ بِأَنْ تُشْغَل ذِمَّةُ الدَّائِنِ بِمِثْل مَا لَهُ عَلَى الْمَدِينِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَوَقْتِ الأَْدَاءِ، فَعِنْدَئِذٍ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ وَيَسْقُطُ الدَّيْنَانِ إِذَا كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْمِقْدَارِ، فَإِنْ تَفَاوَتَا فِي الْقَدْرِ سَقَطَ مِنَ الأَْكْثَرِ بِقَدْرِ الأَْقَل وَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ، فَتَكُونُ
__________
(1) انظر م 1568 من مجلة الأحكام العدلية، وانظر م 224، 236، 246 من مرشد الحيران.(21/139)
الْمُقَاصَّةُ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَيَبْقَى أَحَدُهُمَا مَدِينًا لِلآْخَرِ بِمَا زَادَ (1) . (ر: مُقَاصَّة) .
رَابِعًا: اتِّحَادُ الذِّمَّةِ:
73 - وَذَلِكَ كَمَا إِذَا كَانَ زَيْدٌ مَدِينًا لأَِخِيهِ الشَّقِيقِ بَكْرٍ بِمَبْلَغِ أَلْفِ دِينَارٍ مَثَلاً، ثُمَّ مَاتَ بَكْرٌ الدَّائِنُ، وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ إِلاَّ أَخُوهُ زَيْدٌ، فَيَرِثُ زَيْدٌ مِنْ ضِمْنِ مَا يَرِثُهُ عَنْ بَكْرٍ هَذَا الدَّيْنَ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ زَيْدٌ مَدِينًا وَدَائِنًا لِحُلُولِهِ مَحَل الدَّائِنِ الْمُورَثِ، فَإِذَا طَالَبَ بِالدَّيْنِ، فَهُوَ إِنَّمَا يُطَالِبُ نَفْسَهُ لِيَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ لاِتِّحَادِ الذِّمَّةِ، فَيَسْقُطُ الدَّيْنُ وَيَنْقَضِي لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْمُطَالَبَةِ. (ر: إِرْث) .
خَامِسًا: التَّقَادُمُ:
74 - لاَ يُعْتَبَرُ التَّقَادُمُ مِنْ أَسْبَابِ انْقِضَاءِ الدَّيْنِ شَرْعًا؛ لأَِنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ لاَصِقٌ بِذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لِمَنْ هُوَ لَهُ، لاَ يُسْقِطُهُ تَقَادُمُ الزَّمَنِ مَهْمَا طَال. وَلَكِنْ تَقَادُمُ الزَّمَنِ يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ سَمَاعِ الدَّعْوَى إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُنْكِرًا، وَالْمُدَّعِي لاَ عُذْرَ لَهُ فِي تَرْكِ الْمُطَالَبَةِ، عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ بَيَانًا مُفَصَّلاً (2) . (ر: تَقَادُم) .
سَادِسًا: انْفِسَاخُ سَبَبِ الْوُجُوبِ:
75 - وَذَلِكَ كَمَا إِذَا فُسِخَ عَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ الْوَارِدِ
__________
(1) انظر م 224، 226، 230، 231 من مرشد الحيران.
(2) انظر م 256 - 261 من مرشد الحيران وم 1660 - 1675 من مجلة الأحكام العدلية.(21/140)
عَلَى الأَْعْيَانِ الْمَالِيَّةِ بِخِيَارٍ مِنَ الْخِيَارَاتِ، أَوْ بِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِفَسْخِهِ، فَإِنَّهُ يَنْقَضِي الدَّيْنُ الَّذِي كَانَ مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ، وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَدِينِ مِنَ الْبَدَل الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ هَلاَكُ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، وَفَوَاتُ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا فِي إِجَارَةِ الأَْعْيَانِ، حَيْثُ تَسْقُطُ الأُْجْرَةُ عَنِ الْمُدَّةِ الْمُتَبَقِّيَةِ وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَجَّل شَيْئًا مِنْهَا، فَلَهُ اسْتِرْدَادُ مَا عَجَّلَهُ زَائِدًا عَلَى أُجْرَةِ الْمُدَّةِ السَّابِقَةِ عَلَى هَلاَكِ الْعَيْنِ (1) . (ر: فَسْخ، إِجَارَة، بَيْع، خِيَار) .
سَابِعًا: تَجْدِيدُ الدَّيْنِ:
76 - وَذَلِكَ بِاسْتِبْدَال دَيْنٍ جَدِيدٍ بِالدَّيْنِ الأَْصْلِيِّ، حَيْثُ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ فَسْخِ عَقْدِ الْمُدَايَنَةِ الأُْولَى وَتَجْدِيدِهَا فِي عَقْدٍ آخَرَ بِتَرَاضِي الْمُتَدَايِنَيْنِ، كَمَا إِذَا كَانَ زَيْدٌ مَدِينًا لِبَكْرٍ بِمَبْلَغِ عِشْرِينَ دِينَارًا أُجْرَةِ مَنْزِلٍ مَمْلُوكٍ لِبَكْرٍ اسْتَأْجَرَهُ زَيْدٌ مِنْهُ، فَيَتَّفِقُ مَعَهُ عَلَى أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ الدَّيْنُ بِذِمَّتِهِ عَلَى سَبِيل الْقَرْضِ (2) .
وَلاَ يَخْفَى أَنَّهُ إِذَا فُسِخَ عَقْدُ الْمُدَايَنَةِ الأُْولَى وَصَارَ تَجْدِيدُهُ بِعَقْدٍ آخَرَ، سَقَطَ الدَّيْنُ الْوَاجِبُ بِالْعَقْدِ الأَْوَّل، وَتَرَتَّبَ عَلَى الْمَدِينِ دَيْنٌ جَدِيدٌ
__________
(1) انظر م 253 - 255 من مرشد الحيران.
(2) الفتاوى الخانية 2 / 218، وانظر م 250 من مرشد الحيران.(21/140)
بِالْعَقْدِ الثَّانِي (1) . وَمِنْ آثَارِ انْقِضَاءِ الدَّيْنِ وَسُقُوطِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الأَْوَّل مَكْفُولاً، وَفُسِخَ عَقْدُهُ، وَصَارَ تَجْدِيدُهُ بِعَقْدٍ آخَرَ، بَطَلَتِ الْكَفَالَةُ وَبَرِئَ الْكَفِيل، فَلاَ يُطَالَبُ بِالدَّيْنِ الْحَاصِل بِالْعَقْدِ الْجَدِيدِ إِلاَّ إِذَا جُدِّدَتِ الْكَفَالَةُ (2) .
ثَامِنًا: الْحَوَالَةُ:
77 - وَذَلِكَ أَنَّ الْمُحَال إِذَا قَبِل الْحَوَالَةَ وَرَضِيَ الْمُحَال عَلَيْهِ بِهَا بَرِئَ الْمُحِيل وَكَفِيلُهُ - إِنْ كَانَ لَهُ كَفِيلٌ - مِنَ الدَّيْنِ وَمِنَ الْمُطَالَبَةِ مَعًا؛ لاِنْقِضَاءِ الدَّيْنِ بِالْحَوَالَةِ، وَيَثْبُتُ لِلْمُحَال حَقُّ مُطَالَبَةِ الْمُحَال عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيل وَكَفِيلِهِ الْمُشَارَ إِلَيْهَا مُقَيَّدَةٌ بِسَلاَمَةِ حَقِّ الْمُحَال لَدَى الْمُحَال عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) . (ر: حَوَالَة) .
تَاسِعًا: مَوْتُ الْمَدِينِ مُفْلِسًا:
78 - وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الذَّاهِبِينَ إِلَى سُقُوطِ الدَّيْنِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا عَنِ الْمَدِينِ إِذَا مَاتَ مُفْلِسًا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ كَفِيلٌ بِالدَّيْنِ، أَوْ رَهْنٌ قَبْل الْمَوْتِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: " إِنَّ الدَّيْنَ يَسْقُطُ
__________
(1) العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 1 / 288، وانظر م 251 من مرشد الحيران.
(2) العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 1 / 288 (بولاق 1300 هـ) ، وانظر م 252 من مرشد الحيران.
(3) رد المحتار 4 / 291، 292 (بولاق 1272 هـ) .(21/141)
عَنِ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ بِهِ كَفِيلٌ حَال حَيَاتِهِ أَوْ رَهْنٌ (1) ". وَمِنْ هُنَا لَمْ تَصِحَّ عِنْدَهُمْ كَفَالَةُ دَيْنِ مَيِّتٍ مُفْلِسٍ بَعْدَ وَفَاتِهِ (2) . وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ لِلأَْحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى بَقَاءِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ (3) . (ر: إِفْلاَس، كَفَالَة، تَرِكَة) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 270.
(2) رد المحتار 4 / 270.
(3) انظر الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب 2 / 21، المغني لابن قدامة 4 / 593 (ط. مكتبة الرياض الحديثة 1401 هـ) .(21/141)
دَيْنُ اللَّهِ
التَّعْرِيفُ:
1 - فِي اللُّغَةِ: دَانَ يَدِينُ دَيْنًا، وَدَايَنَهُ مُدَايَنَةً وَدِيَانًا، عَامَلَهُ بِالدَّيْنِ فَأَعْطَاهُ دَيْنًا وَأَخَذَ بِدَيْنٍ، وَادَّانَ: اقْتَرَضَ فَصَارَ دَيْنًا. وَالدَّيْنُ: الْقَرْضُ وَثَمَنُ الْمَبِيعِ، وَكُل مَا لَيْسَ حَاضِرًا (1) .
وَالدَّيْنُ اصْطِلاَحًا: عُرِّفَ بِتَعْرِيفَاتٍ كَثِيرَةٍ وَأَوْلَى هَذِهِ التَّعْرِيفَاتِ هُوَ " لُزُومُ حَقٍّ فِي الذِّمَّةِ (2) ". وَهَذَا التَّعْرِيفُ يَشْمَل كُل مَا يَشْغَل ذِمَّةَ الإِْنْسَانِ سَوَاءٌ أَكَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ أَمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَدَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ حُقُوقُهُ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ وَلاَ مُطَالِبَ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، كَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ، وَالصَّوْمِ الَّذِي لَمْ يُؤَدَّ، وَالصَّلاَةِ الَّتِي خَرَجَ وَقْتُهَا وَلَمْ تُؤَدَّ،
__________
(1) لسان العرب، ومعجم مقاييس اللغة والمعجم الوسيط والمصباح المنير، والعناية على الهداية وفتح القدير 6 / 346، 632 ط إحياء التراث وابن عابدين 4 / 169.
(2) فتح الغفار شرح المنار 3 / 20.(21/142)
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ إِذْ أَنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّ الإِْمَامِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا وَكَذَا قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ كَالْكَفَّارَةِ وَالْهَدْيِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى:
2 - الْحَقُّ ضِدُّ الْبَاطِل، وَحَقَّ الأَْمْرُ: أَيْ ثَبَتَ وَوَجَبَ. وَحَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ فَلاَ يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدٌ، وَيُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا.
قَال الْقَرَافِيُّ: حَقُّ اللَّهِ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا (2) .
وَقَدْ قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى عِبَادَاتٍ وَعُقُوبَاتٍ وَكَفَّارَاتٍ (3) . . . إِلَخْ
__________
(1) الزيلعي 6 / 230، والبدائع 1 / 95، 2 / 7 - 8، 76، ومنح الجليل 1 / 363، والفروق 2 / 134، والحطاب 6 / 409، ومغني المحتاج 1 / 411، 3 / 3، والمغني 3 / 45، وفتح الباري 4 / 65 - 66، وفتح القدير 2 / 117 - 119 نشر دار المعرفة.
(2) حديث: " حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 397 - 398 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 58 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(3) المصباح المنير، وابن عابدين 4 / 188، وكشف الأسرار 4 / 134 - 135، والمنثور في القواعد 2 / 58، والفروق للقرافي 1 / 140 - 142.(21/142)
فَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَعَمُّ مِنْ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى لأَِنَّهُ يَشْمَل كُل مَا وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ أَكَانَ دَيْنًا تَرَتَّبَ فِي الذِّمَّةِ أَمْ لاَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي يَتَرَتَّبُ فِي ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الدَّيْنُ عِبَادَاتٍ بَدَنِيَّةً أَمْ مَالِيَّةً أَمْ كَانَ كَفَّارَاتٍ أَمْ نُذُورًا يَجِبُ قَضَاؤُهُ، لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ (1) . قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَيُلْتَحَقُ بِالْحَجِّ كُل حَقٍّ ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ زَكَاةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (2) .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ قَال: نَعَمْ، فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى (3) .
__________
(1) حديث ابن عباس: " أرأيت لو كان على أمك. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 64 - ط السلفية) .
(2) فتح الباري (4 / 6 - 66) .
(3) حديث ابن عباس: " دين الله أحق أن يقضى " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 192 - ط السلفية) .(21/143)
وَكَذَلِكَ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَل إِذَا ذَكَرَهَا، لاَ كَفَّارَةَ لَهَا إِلاَّ ذَلِكَ (1) .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ مَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ لِغَيْرِ عُذْرٍ لاَ يَقْضِي لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا (2) . وَحِكْمَتُهُ التَّغْلِيظُ عَلَيْهِ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ (3) .
هَذَا مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي وَفِيمَا يُقْضَى عَنِ الْمَيِّتِ أَوْ لاَ يُقْضَى.
أَسْبَابُ صَيْرُورَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ:
يَصِيرُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لأَِسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا:
__________
(1) حديث: " من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 70 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 477 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(2) حديث: " من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها. . . " أخرجه مسلم (1 / 477 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(3) ابن عابدين 1 / 493، وبدائع الصنائع 1 / 245 - 247، 2 / 103، وفتح القدير 2 / 114، ومنح الجليل 1 / 170، 392، 522، والمنثور 1 / 101 و 3 / 316 - 317، وأشباه السيوطي ص 361 ط الحلبي، ومغني المحتاج 1 / 127 - 128، 329، 440، 445، وأسنى المطالب 1 / 356، وشرح منتهى الإرادات 1 / 139، 453، 456.(21/143)
أ - خُرُوجُ الْوَقْتِ قَبْل الأَْدَاءِ:
4 - الْعِبَادَةُ الْبَدَنِيَّةُ الَّتِي لَهَا وَقْتٌ مُحَدَّدٌ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ إِذَا فَاتَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لَهَا قَبْل الأَْدَاءِ اسْتَقَرَّتْ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ وَوَجَبَ الْقَضَاءُ، يَقُول الْقَرَافِيُّ: الصَّلاَةُ لاَ يَنْتَقِل الأَْدَاءُ فِيهَا إِلَى الذِّمَّةِ إِلاَّ إِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ؛ لأَِنَّهَا مُعَيَّنَةٌ بِوَقْتِهَا، وَالْقَضَاءُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ يَتَعَيَّنُ حَدُّهُ بِخُرُوجِهِ فَهُوَ فِي الذِّمَّةِ، فَالصَّلاَةُ إِنْ تَعَذَّرَ فِيهَا الأَْدَاءُ بِخُرُوجِ وَقْتَيْهَا (أَيِ الاِخْتِيَارِيِّ وَالضَّرُورِيِّ) لِعُذْرٍ لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِ عُذْرٍ تَرَتَّبَتْ فِي الذِّمَّةِ وَوَجَبَ الْقَضَاءُ. وَبِمِثْل ذَلِكَ قَال الْكَاسَانِيُّ (1) .
وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ مِنْ عِبَادَاتٍ بَدَنِيَّةٍ مُقَيَّدَةٍ بِوَقْتٍ كَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرِ رَجَبٍ مَثَلاً وَمَضَى شَهْرُ رَجَبٍ دُونَ أَنْ يَصُومَهُ فَإِنَّهُ يُصْبِحُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَلِذَلِكَ يُقَسِّمُ الْحَنَفِيَّةُ صَوْمَ الْفَرْضِ إِلَى قِسْمَيْنِ: عَيْنٍ وَدَيْنٍ. فَالْعَيْنُ مَا لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ إِمَّا بِتَعْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى كَصَوْمِ رَمَضَانَ وَإِمَّا بِتَعْيِينِ الْعَبْدِ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، وَأَمَّا صَوْمُ الدَّيْنِ فَمَا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَصَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ (2) . . . إِلَخْ يَقُول الْكَاسَانِيُّ: فَمَنْ
__________
(1) الفروق للقرافي 2 / 134، والبدائع 1 / 95.
(2) البدائع 2 / 75 - 76.(21/144)
قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ رَجَبٍ فَأَفْطَرَ فِيهِ قَضَى فِي شَهْرٍ آخَرَ لأَِنَّهُ فَوَّتَ الْوَاجِبَ عَنْ وَقْتِهِ فَصَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ عَلَى لِسَانِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى أَنَّ كَوْنَ الصَّلاَةِ أَوِ الصِّيَامِ تُصْبِحُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ لاَ يُنَاقِضُ التَّعَلُّقَ بِالذِّمَّةِ فِي وَقْتِ الأَْدَاءِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى كَلاَمِ الأُْصُولِيِّينَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَصْل الْوُجُوبِ وَوُجُوبِ الأَْدَاءِ، وَبَيْنَ الْوَاجِبِ بِالأَْمْرِ وَالْوَاجِبِ بِالسَّبَبِ وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
ب - إِتْلاَفُ الْمُعَيَّنِ مِنَ الأَْمْوَال أَوْ تَلَفُهُ:
5 - مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالذِّمَّةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ جَمِيعًا يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اسْتِهْلاَكَ مَال الزَّكَاةِ أَوِ التَّصَرُّفَ فِيهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ يَجْعَلُهَا دَيْنًا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ. يَقُول الْقَرَافِيُّ: إِنَّ الزَّكَاةَ مَا دَامَتْ مُعَيَّنَةً بِوُجُودِ نِصَابِهَا لاَ تَكُونُ فِي الذِّمَّةِ فَإِذَا تَلِفَ النِّصَابُ بِعُذْرٍ لاَ يَضْمَنُ نَصِيبَ الْفُقَرَاءِ وَلاَ يَنْتَقِل الْوَاجِبُ إِلَى الذِّمَّةِ، وَيَقُول الْكَاسَانِيُّ: مَنْ أَتْلَفَ الثِّمَارَ أَوِ الزَّرْعَ أَوْ أَكَلَهَا بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا ضَمِنَهَا وَكَانَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَال الزَّكَاةِ بَعْدَ حَوَلاَنِ الْحَوْل (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (زَكَاة) .
__________
(1) البدائع 5 / 95، والمغني 9 / 28 - 30.
(2) الفروق 2 / 134، والبدائع 2 / 7، 63، والمغني 2 / 679، ومغني المحتاج 1 / 419.(21/144)
وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ مَا كَانَ مُعَيَّنًا مِنْ نَذْرٍ أَوْ هَدْيٍ وَاجِبٍ. فَمَنْ عَيَّنَ هَدْيًا فَعَطِبَ أَوْ سُرِقَ أَوْ ضَل عَادَ الْوُجُوبُ إِلَى ذِمَّتِهِ (1) .
ج - الْعَجْزُ عَنِ الأَْدَاءِ حِينَ الْوُجُوبِ:
6 - قَال النَّوَوِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ: الْحُقُوقُ الْمَالِيَّةُ الْوَاجِبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى ثَلاَثَةُ أَضْرُبٍ:
1 - ضَرْبٌ يَجِبُ لاَ بِسَبَبِ مُبَاشَرَةٍ مِنَ الْعَبْدِ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ وَقْتَ الْوُجُوبِ لَمْ يَثْبُتْ فِي ذِمَّتِهِ فَلَوْ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ.
2 - وَضَرْبٌ يَجِبُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ عَلَى جِهَةِ الْبَدَل كَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَفِدْيَةِ الْحَلْقِ وَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ فِي الْحَجِّ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ وَقْتَ وُجُوبِهِ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ تَغْلِيبًا لِمَعْنَى الْغَرَامَةِ لأَِنَّهُ إِتْلاَفٌ مَحْضٌ.
3 - وَضَرْبٌ يَجِبُ بِسَبَبِهِ لاَ عَلَى جِهَةِ الْبَدَل كَكَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْل، فَفِيهَا قَوْلاَنِ مَشْهُورَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْعَجْزِ لأَِنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَجْزِ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ (2) .
__________
(1) المغني 3 / 534، وابن عابدين 2 / 12.
(2) المجموع شرح المهذب 6 / 309، وأشباه السيوطي ص 361 ط عيسى الحلبي، والمنثور 2 / 59 - 60، ومغني المحتاج 3 / 367 و 1 / 440، 445.(21/145)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (صَوْم، وَكَفَّارَة، وَقَتْل، وَظِهَار) .
د - النُّذُورُ الْمُطْلَقَةُ:
7 - وَهِيَ الَّتِي لَمْ تُعَلَّقْ عَلَى شَرْطٍ أَوْ تُقَيَّدْ بِوَقْتٍ بَل كَانَتْ مُضَافَةً إِلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ كَمَنْ قَال: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا، فَهِيَ فِي الذِّمَّةِ إِلَى أَنْ تُؤَدَّى، وَجَمِيعُ الْعُمْرِ وَقْتٌ لَهَا عِنْدَ مَنْ يَقُول بِأَنَّ الأَْمْرَ الْمُطْلَقَ عَلَى التَّرَاخِي. وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ الْحَجُّ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي كَالْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَيَقُول الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ نَذْرِ الْقُرْبَةِ الْمَالِيَّةِ كَالصَّدَقَةِ وَالأُْضْحِيَّةِ الاِلْتِزَامُ لَهَا فِي الذِّمَّةِ أَوِ الإِْضَافَةِ إِلَى مُعَيَّنٍ يَمْلِكُهُ (2) .
وَيَقُول الْقَرَافِيُّ: جَمِيعُ الْعُمْرِ ظَرْفٌ لِوُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ لِوُجُودِ التَّكْلِيفِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ (3) .
النِّيَابَةُ عَنِ الْغَيْرِ فِي أَدَاءِ دَيْنِ اللَّهِ:
8 - دَيْنُ اللَّهِ الْمَالِيُّ الْمَحْضُ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ عَنِ الْغَيْرِ سَوَاءٌ أَكَانَ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إِخْرَاجُ الْمَال وَهُوَ يَحْصُل بِفِعْل النَّائِبِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الأَْدَاءُ عَنِ الْحَيِّ أَمْ عَنِ
__________
(1) البدائع 5 / 94.
(2) مغني المحتاج 4 / 358.
(3) الفروق 1 / 221 - 222.(21/145)
الْمَيِّتِ، إِلاَّ أَنَّ الأَْدَاءَ عَنِ الْحَيِّ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ بِاتِّفَاقٍ وَذَلِكَ لِلاِفْتِقَارِ فِي الأَْدَاءِ إِلَى النِّيَّةِ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ فَلاَ تَسْقُطُ عَنِ الْمُكَلَّفِ بِدُونِ إِذْنِهِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ فَلاَ يُشْتَرَطُ الإِْذْنُ إِذْ يَجُوزُ التَّبَرُّعُ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ عَنِ الْمَيِّتِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ فَلاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا حَال الْحَيَاةِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (1) وَقَوْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لاَ يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلاَ يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ (2) .
قَال الْكَاسَانِيُّ: أَيْ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ لاَ فِي حَقِّ الثَّوَابِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بَعْدَ الْمَمَاتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِقَضَاءِ الْعِبَادَةِ نَفْسِهَا عَنِ الْمَيِّتِ. أَمَّا فِدْيَةُ الصِّيَامِ وَكَفَّارَةُ الإِْفْطَارِ فَيَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَتَبَرَّعُوا بِهَا عَنِ الْمَيِّتِ إِذَا لَمْ يُوصِ. أَمَّا إِذَا أَوْصَى فَقَال الْحَنَفِيَّةُ فَتُؤَدَّى مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ (3) . وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ
__________
(1) سورة النجم / 39.
(2) الأثر عن ابن عباس: " لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم. . . " أخرجه النسائي في الكبرى 2 / 314 - ط المكتبة القيمة، وصححه ابن حجر في التلخيص (2 / 209 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) البدائع 2 / 41، 53، 103، 118، 212، 5 / 96، وابن عابدين 1 / 491 - 493، والزيلعي 6 / 230، ومنح الجليل 1 / 375، 383، 404، والحطاب 2 / 543 - 544، والفروق 2 / 205 و 3 / 188.(21/146)
يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّة) .
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلاَ يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَنِ الْمَيِّتِ عَمَّا تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ صَلاَةٍ فَاتَتْهُ وَمَاتَ دُونَ قَضَائِهَا. وَأَمَّا الصَّوْمُ فَمَا تَرَتَّبَ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ مِنْهُ فَفِي الْجَدِيدِ لاَ يَصِحُّ الصَّوْمُ عَنْهُ لأَِنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَال الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا يُكَفَّرُ عَنْهُ بِإِخْرَاجِ مُدٍّ مِنْ طَعَامٍ عَنْ كُل يَوْمٍ فَاتَهُ، وَفِي الْقَدِيمِ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ وَلِيُّهُ عَنْهُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ (1) ، وَهَذَا هُوَ الأَْظْهَرُ، قَال السُّبْكِيُّ وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخْتَارَ وَالْمُفْتَى بِهِ، وَالْقَوْلاَنِ يَجْرِيَانِ فِي الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ إِذَا لَمْ يُؤَدَّ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ فَصَلُوا بَيْنَ الْوَاجِبِ بِأَصْل الشَّرْعِ مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَبَيْنَ مَا أَوْجَبَهُ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نَذْرِ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ. فَقَالُوا: مَنْ مَاتَ وَفِي ذِمَّتِهِ صَلاَةٌ مَفْرُوضَةٌ لَمْ تُؤَدَّ، أَوْ صِيَامُ رَمَضَانَ لَمْ يُؤَدَّ، فَلاَ تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي ذَلِكَ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ حَال الْحَيَاةِ فَبَعْدَ الْمَوْتِ كَذَلِكَ. أَمَّا مَا أَوْجَبَهُ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ مِنْ صَلاَةٍ وَصَوْمٍ وَتَمَكَّنَ مِنَ الأَْدَاءِ وَلَمْ يَفْعَل حَتَّى مَاتَ سُنَّ لِوَلِيِّهِ فِعْل النَّذْرِ
__________
(1) حديث: " من مات وعليه صيام صام عنه وليه " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 192 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 803 - ط الحلبي) من حديث عائشة.(21/146)
عَنْهُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَال: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: فَصَوْمِي عَنْ أُمِّكِ. لأَِنَّ النَّذْرَ أَخَفُّ حُكْمًا مِنَ الْوَاجِبِ بِأَصْل الشَّرْعِ.
وَيَجُوزُ لِغَيْرِ الْوَلِيِّ فِعْل مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ نَذْرٍ بِإِذْنِهِ وَبِدُونِ إِذْنِهِ (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَجِّ لِمَا فِيهِ مِنْ جَانِبٍ مَالِيٍّ وَجَانِبٍ بَدَنِيٍّ، فَمَنْ كَانَ عَاجِزًا بِنَفْسِهِ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ وَأَمْكَنَهُ الأَْدَاءُ بِمَالِهِ بِإِنَابَةِ غَيْرِهِ مَنَابَ نَفْسِهِ لَزِمَهُ الإِْنَابَةُ فِي الْحَجِّ عَنْهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ. وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ فِي الْجُمْلَةِ.
أَمَّا مَنْ مَاتَ وَكَانَ مُسْتَطِيعًا وَلَمْ يَحُجَّ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَجِبُ الْقَضَاءُ مِنْ رَأْسِ مَال تَرِكَتِهِ؛ لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ قَال: أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ،
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 184 - 187، والمجموع شرح المهذب 6 / 77، 337، 343 تحقيق المطيعي، ومغني المحتاج 1 / 439 و 3 / 68 - 69، شرح منتهى الإرادات 1 / 121، 453، 457 - 458، والمغني 3 / 143 و 9 / 30 - 31.(21/147)
فَقَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُجِّي عَنْ أُمِّكِ (1) . وَلأَِنَّهُ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ حَال الْحَيَاةِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَجُّ الْفَرِيضَةِ وَالنَّذْرِ، فَإِنْ حَجَّ عَنْهُ الْوَارِثُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِاسْتِئْجَارٍ سَقَطَ الْحَجُّ عَنِ الْمَيِّتِ. وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ حَجَّ عَنِ الْمَيِّتِ أَجْنَبِيٌّ جَازَ وَلَوْ بِلاَ إِذْنٍ كَمَا إِنَّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِلاَ إِذْنٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ تَبَرُّعُ الْوَارِثِ بِالْحَجِّ بِنَفْسِهِ عَنِ الْمَيِّتِ أَوْ بِالإِْحْجَاجِ عَنْهُ رَجُلاً آخَرَ وَلَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
أَثَرُ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ
8 م - مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ أَلاَّ يَكُونَ هُنَاكَ دَيْنٌ لآِدَمِيٍّ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ لأَِنَّ لَهُ مُطَالِبًا مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، وَكَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِدَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ وَالْهَدْيِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْل خَلِيلٍ وَابْنِ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَمْنَعُ وُجُوبَ
__________
(1) حديث بريدة: " حجي عن أمك " أخرجه مسلم 2 / 805 - ط الحلبي.
(2) البدائع 2 / 212 - 213، 221، وابن عابدين 1 / 514 - 515 و 2 / 245، والشرح الكبير 2 / 10، ومغني المحتاج 1 / 468، والمجموع شرح المهذب 7 / 82 - 87، والمغني 3 / 241 - 245.(21/147)
الزَّكَاةِ؛ لأَِنَّ أَثَرَ هَذَا الدَّيْنِ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الآْخِرَةِ وَهُوَ الثَّوَابُ بِالأَْدَاءِ وَالإِْثْمُ بِالتَّرْكِ، وَلإِِطْلاَقِ الأَْدِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلزَّكَاةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَعِنْدَ ابْنِ عَتَّابٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذَا الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي الأَْمْوَال عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَال: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُول: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلِيُؤَدِّهِ حَتَّى تُخْرِجُوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ. وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى (1) .
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّ هَذَا الدَّيْنَ يَمْنَعُ زَكَاةَ الْمَال الْبَاطِنِ وَهُوَ النَّقْدُ وَالْعَرْضُ وَلاَ يَمْنَعُ زَكَاةَ الْمَال الظَّاهِرِ وَهُوَ الْمَاشِيَةُ وَالزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ وَالْمَعَادِنُ.
وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ لِدُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا فِي ذَلِكَ دَيْنُ الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ دَيْنِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهِ مِنَ الدُّيُونِ. فَالْحُكْمُ السَّابِقُ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ دَيْنِ الزَّكَاةِ.
أَمَّا مَنْ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ زَكَاةُ سَنَوَاتٍ مَضَتْ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّكَاةِ الْحَاضِرَةِ.
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ دَيْنُ الزَّكَاةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ الْحَاضِرَةِ، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ فِي
__________
(1) حديث: " دين الله أحق أن يقضى " سبق تخريجه ف / 3.(21/148)
الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: دَيْنُ الزَّكَاةِ لاَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ الْحَاضِرَةِ، وَهُوَ قَوْل زُفَرَ فِي الأَْمْوَال الْبَاطِنَةِ.
وَحُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِالْمَنْعِ أَنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ وَهُوَ الإِْمَامُ فَأَشْبَهَ دَيْنَ الآْدَمِيِّ وَهُوَ تَعْلِيل زُفَرَ فِي الأَْمْوَال الظَّاهِرَةِ بِخِلاَفِ الْبَاطِنَةِ. وَيُلاَحَظُ أَنَّ الأَْحْكَامَ السَّابِقَةَ جَمِيعُهَا إِنَّمَا هِيَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِزَكَاةِ الْعَيْنِ (النَّقْدَيْنِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ) فَهِيَ الَّتِي يُؤَثِّرُ فِيهَا الدَّيْنُ، أَمَّا زَكَاةُ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ فَلاَ يُؤَثِّرُ الدَّيْنُ فِي وُجُوبِ إِخْرَاجِهَا (1) . وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ: (زَكَاة) .
حُكْمُ الإِْيصَاءِ بِدَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى:
9 - دُيُونُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّةُ الَّتِي اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ إِفْطَارٍ فِي رَمَضَانَ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ فِدْيَةِ أَذًى فِي الْحَجِّ، أَوْ جَزَاءِ صَيْدٍ، أَوْ هَدْيٍ لِتَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ إِذَا أَدْرَكَتْهُ الْوَفَاةُ وَلَمْ يُؤَدِّهَا يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْيصَاءُ بِهَا. وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْحَجِّ، أَوْ كَانَ
__________
(1) البدائع 2 / 7 - 8، وابن عابدين 2 / 5، والدسوقي 1 / 483، ومنح الجليل 1 / 362 - 363، ومغني المحتاج 1 / 411، ونهاية المحتاج 3 / 130، وشرح منتهى الإرادات 1 / 368 - 369.(21/148)
عَاجِزًا بِنَفْسِهِ وَأَمْكَنَهُ الأَْدَاءُ بِمَالِهِ بِإِنَابَةِ غَيْرِهِ مَنَابَ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْحَجِّ عَنْهُ.
أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الَّتِي تَرَتَّبَتْ فِي ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ كَالصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ فَإِنَّ الصِّيَامَ الَّذِي فَرَّطَ الإِْنْسَانُ فِيهِ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ أَوْ صِيَامِ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ عِنْدَ وَفَاتِهِ بِالْفِدْيَةِ، وَهِيَ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُل يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الصِّيَامِ الَّتِي فَاتَتْهُ.
وَالْحُكْمُ فِي جَمِيعِ مَا سَبَقَ هُوَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ فَاتَتْهُ صَلاَةٌ لَمْ يَقْضِهَا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: مَنْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ وَكَانَ يَقْدِرُ عَلَى الصَّلاَةِ وَلَوْ بِالإِْيمَاءِ وَلَمْ يُصَل فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الإِْيصَاءُ بِالْكَفَّارَةِ بِأَنْ يُعْطِيَ لِكُل صَلاَةٍ فَاتَتْهُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ كَالْفِطْرَةِ قَال: وَكَذَا حُكْمُ الْوِتْرِ. وَنَقَل الْبُوَيْطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يُطْعَمَ لِكُل صَلاَةٍ مُدٌّ (1) .
تَعَلُّقُ دَيْنِ اللَّهِ بِتَرِكَةِ الْمَيِّتِ:
10 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ
__________
(1) البدائع 2 / 103، 104، 118، 221، 7 / 330، وابن عابدين 1 / 491 - 492، وفتح القدير 2 / 273 ط دار إحياء التراث، والكافي لابن عبد البر 1 / 338 - 339، 2 / 1036، ومنح الجليل 4 / 643، والشرح الصغير 2 / 465 ط الحلبي، ومغني المحتاج 1 / 439، 3 / 39، وقليوبي 3 / 177، وشرح منتهى الإرادات 2 / 540 - 547.(21/149)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُتَرَتِّبَ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ، وَيَجِبُ أَدَاؤُهُ مِنْهَا سَوَاءٌ أَوْصَى الْمَيِّتُ بِذَلِكَ أَمْ لَمْ يُوصِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ لاَ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِهِ الْمَيِّتُ فَإِذَا أَوْصَى بِهِ أَخْرَجَهُ الْوَرَثَةُ مِنَ التَّرِكَةِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يَتَعَلَّقُ دَيْنُ اللَّهِ بِالتَّرِكَةِ إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ هِيَ:
أ - أَنْ يُوصِيَ الْمَيِّتُ بِذَلِكَ فَتَخْرُجُ مِنَ التَّرِكَةِ.
ب - أَنْ يُشْهِدَ فِي صِحَّتِهِ بِأَنَّ هَذَا الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَخْرُجُ مِنَ التَّرِكَةِ وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ.
ج - أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْوَاجِبُ إِخْرَاجُهَا قَائِمَةً كَزَكَاةِ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَهَل يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَال أَوْ مِنَ الثُّلُثِ، وَمَا يُقَدَّمُ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ (1) ؟ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَرِكَة) .
سُقُوطُ دَيْنِ اللَّهِ
11 - الأَْصْل أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَسْقُطُ وَلاَ تَبْرَأُ مِنْهُ الذِّمَّةُ إِلاَّ بِالْقَضَاءِ، لَكِنْ هُنَاكَ بَعْضُ الأَْسْبَابِ الَّتِي يَسْقُطُ بِهَا الْقَضَاءُ وَمِنْ ذَلِكَ:
__________
(1) شرح السراجية للجرجاني بحاشية الفناري ص 30، والدسوقي 4 / 441 - 457، ومغني المحتاج 3 / 68 - 69، ونهاية المحتاج 6 - 7، 76، وشرح منتهى الإرادات 1 / 121، 373، 417، 457، 458 و 2 / 547، والمغني 2 / 683 - 684، 3 / 81، 143 - 145.(21/149)
1 - الْحَرَجُ:
12 - أ - فَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ لاَ يَسْقُطُ عَنْهُمَا قَضَاءُ الصَّوْمِ وَيَسْقُطُ عَنْهُمَا قَضَاءُ الصَّلاَةِ لِلْحَرَجِ يَقُول الْكَاسَانِيُّ: يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قَضَاءُ الصَّوْمِ لِفَوَاتِ صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَيْهِمَا وَلِقُدْرَتِهِمَا عَلَى الْقَضَاءِ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَرَجِ لأَِنَّ وُجُوبَهَا يَتَكَرَّرُ فِي كُل يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ (1) .
ب - الْمُغْمَى عَلَيْهِ، إِنْ أُغْمِيَ عَلَى شَخْصٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَل يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلاَةِ لاِنْعِدَامِ الْحَرَجِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ يُحْرَجُ فِي الْقَضَاءِ لِدُخُول الْعِبَادَةِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُفِيقَ فِي جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهَا. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَقْضِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي فَاتَتْهُ حَال إِغْمَائِهِ. وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِغْمَاء) .
ج - يَقُول الْحَنَفِيَّةُ: الْمَرِيضُ الْعَاجِزُ عَنِ الإِْيمَاءِ فِي الصَّلاَةِ إِذَا فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ ثُمَّ بَرِئَ، فَإِنْ كَانَ مَا فَاتَهُ يَوْمًا أَوْ أَقَل قَضَاهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ، وَذَلِكَ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِمِثْل ذَلِكَ رُوِيَ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ
__________
(1) البدائع 2 / 89، والمغني 3 / 142، والفروق 2 / 62.(21/150)
وَهُوَ أَيْضًا مِنِ اخْتِيَارَاتِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ (1) .
2 - الْعَجْزُ عَنِ الْقَضَاءِ:
13 - أ - مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ لِعُذْرٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ ثُمَّ مَاتَ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَ بِالشَّرْعِ، وَقَدْ مَاتَ قَبْل إِمْكَانِ فِعْلِهِ فَسَقَطَ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ كَالْحَجِّ (2) .
ب - مَنْ عَجَزَ عَنْ كَفَّارَةِ الإِْفْطَارِ فِي رَمَضَانَ الَّتِي وَجَبَتْ بِجِمَاعٍ أَوْ بِغَيْرِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ سَقَطَتْ عَنْهُ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الأَْعْرَابِيَّ أَنْ يُطْعِمَ أَهْلَهُ (3) وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ أُخْرَى وَلاَ بَيَّنَ لَهُ بَقَاءَهَا فِي ذِمَّتِهِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ. وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: تَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ (4) .
3 - هَلاَكُ مَال الزَّكَاةِ:
14 - هَلاَكُ نِصَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا بِحَوَلاَنِ
__________
(1) البدائع 1 / 246، والاختيارات ص72، والمغني 1 / 400.
(2) البدائع 2 / 103، والاختيار 1 / 134، ومنح الجليل 1 / 413، ومغني المحتاج 1 / 438، والمهذب 1 / 194، وشرح منتهى الإرادات 1 / 457.
(3) حديث: " أمر الأعرابي أن يطعم أهله " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 163 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(4) شرح منتهى الإرادات 1 / 453، والمغني 3 / 132، ومغني المحتاج 1 / 445، والحطاب 2 / 432، والبدائع 5 / 112.(21/150)
الْحَوْل يُسْقِطُ الزَّكَاةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْهَلاَكُ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ أَمْ بَعْدَهُ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يَسْتَدْعِي تَفْوِيتَ مِلْكٍ أَوْ يَدٍ، وَتَأْخِيرَ الزَّكَاةِ عَنْ أَوَّل أَوْقَاتِ الإِْمْكَانِ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَى الْفَقِيرِ مِلْكًا وَلاَ يَدًا فَلاَ يَضْمَنُ.
وَيَقُول ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فَعَزَلَهَا وَأَخْرَجَهَا فَتَلِفَتْ مِنْهُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ إِلاَّ إِنْ تَلِفَ الْمَال قَبْل التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ بِلاَ تَقْصِيرٍ، أَمَّا بَعْدَ التَّمَكُّنِ فَتَلَفُ الْمَال يُوجِبُ الضَّمَانَ (1) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: الزَّكَاةُ لاَ تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَال فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ، هَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَحَكَى عَنْهُ الْمَيْمُونِيُّ أَنَّهُ إِذَا تَلِفَ النِّصَابُ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنَ الأَْدَاءِ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ عَنْهُ، وَإِنْ تَلِفَ بَعْدَهُ لَمْ تَسْقُطْ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مَذْهَبًا لأَِحْمَدَ، ثُمَّ قَال ابْنُ قُدَامَةَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَالصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَال إِذَا لَمْ يُفَرِّطْ فِي الأَْدَاءِ لأَِنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيل الْمُوَاسَاةِ فَلاَ تَجِبُ عَلَى وَجْهٍ يَجِبُ أَدَاؤُهَا مَعَ عَدَمِ الْمَال وَفَقْرِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (زَكَاة) .
__________
(1) البدائع 2 / 22، 53، والأشباه لابن نجيم ص 359، والكافي لابن عبد البر 1 / 302، ومغني المحتاج 1 / 418.
(2) المغني 2 / 682 - 683.(21/151)
4 - الرِّدَّةُ
15 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ تُسْقِطُ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ أَكَانَ بَدَنِيًّا أَمْ مَالِيًّا لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإِْسْلاَمُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ (2) . وَعَلَى هَذَا فَمَنْ كَانَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - ثُمَّ أَسْلَمَ فَمَا كَانَ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذِمَّتِهِ فَقَدْ بَطَل تَعَلُّقُهُ بِهَا وَسَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ لاَ تُسْقِطُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مَالِيًّا أَوْ بَدَنِيًّا (3) .
وَقَدْ فَصَّل ابْنُ قُدَامَةَ الْقَوْل بِالنِّسْبَةِ لِمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ فَقَال فِي الزَّكَاةِ: مَنِ ارْتَدَّ قَبْل مُضِيِّ الْحَوْل وَحَال الْحَوْل وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الإِْسْلاَمَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فَعَدَمُهُ فِي بَعْضِ الْحَوْل يُسْقِطُ الزَّكَاةَ كَالْمِلْكِ وَالنِّصَابِ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ قَبْل مُضِيِّ الْحَوْل اسْتَأْنَفَ حَوْلاً، أَمَّا إِنِ ارْتَدَّ بَعْدَ الْحَوْل لَمْ تَسْقُطِ الزَّكَاةُ عَنْهُ.
__________
(1) سورة الأنفال / 38.
(2) حديث: " الإسلام يهدم ما كان قبله " أخرجه مسلم (1 / 112 - ط الحلبي) من حديث عمرو بن العاص.
(3) البدائع 2 / 4، 53، 117، 7 / 136، ومنح الجليل 4 / 472، ومغني المحتاج 1 / 130، 408.(21/151)
وَأَمَّا الصَّلاَةُ فَلاَ تَسْقُطُ أَيْضًا لَكِنْ لاَ يُطَالَبُ بِفِعْلِهَا لأَِنَّهَا لاَ تَصِحُّ مِنْهُ وَلاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ، فَإِذَا عَادَ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، وَالزَّكَاةُ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ وَلاَ تَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ كَالدَّيْنِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (رِدَّة، زَكَاة) .
5 - الْمَوْتُ:
16 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دُيُونَ اللَّهِ لاَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ بَل تَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ فَيَخْرُجُ مِنْهَا مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى كَدُيُونِ الآْدَمِيِّ. وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ الْحَجُّ فَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ. أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ فَإِنَّ الصَّلاَةَ تَسْقُطُ عَنْهُ عِنْدَهُمَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قَالَهُ الْبُوَيْطِيُّ الشَّافِعِيُّ مِنَ الإِْطْعَامِ عَنْهُ لِكُل صَلاَةٍ مُدٌّ، وَمِثْل ذَلِكَ قِيل فِي الاِعْتِكَافِ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ. وَأَمَّا الصِّيَامُ فَيُفْدَى عَنْهُ، وَفِي الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُصَامُ عَنْهُ، قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ وَالْقَدِيمُ أَظْهَرُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ نَذْرُ الْعِبَادَةِ يُفْعَل عَنِ الْمَيِّتِ مِنْ تَرِكَتِهِ، أَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ وَالْكَفَّارَةُ فَيُطْعَمُ عَنْهُ.
وَقَدِ اسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِعَدَمِ سُقُوطِ دَيْنِ اللَّهِ بِالْمَوْتِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ
__________
(1) المغني 3 / 55.(21/152)
وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا قَال: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَال: فَصَوْمِي عَنْ أُمِّكِ (1) .
وَمَا رَوَى النَّسَائِيُّ أَنَّ رَجُلاً قَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَال: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَال: نَعَمْ، قَال: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ (2) ، كَمَا اسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ بِصِيَامِ الْوَلِيِّ بِقَوْل النَّبِيِّ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ (3) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَوْتَ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا لَمْ يُوصِ بِهِ، فَمَنْ مَاتَ وَفِي ذِمَّتِهِ صَلاَةٌ أَوْ صَوْمٌ أَوْ زَكَاةٌ أَوْ حَجٌّ أَوْ كَفَّارَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى سَقَطَتْ عَنْهُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ لاَ تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَلاَ يُؤْمَرُ الْوَصِيُّ أَوِ الْوَارِثُ بِالأَْدَاءِ مِنَ التَّرِكَةِ؛ لأَِنَّ دَيْنَ اللَّهِ عِبَادَةٌ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِنِيَّةِ الْمُكَلَّفِ وَفِعْلِهِ، فَإِذَا لَمْ يُوصِ فَقَدْ فَاتَ الشَّرْطُ بِمَوْتِهِ فَلاَ يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْوَاجِبِ فَيَسْقُطُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِلتَّعَذُّرِ.
لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْعُشْرِ إِذَا كَانَ قَائِمًا، فَمَنْ
__________
(1) حديث ابن عباس: " قالت امرأة: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها. . . " أخرجه مسلم (2 / 804 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " أرأيت لو كان على أبيك دين ". أخرجه النسائي (5 / 118 - ط المكتبة التجارية) من حديث عبد الله بن عباس.
(3) حديث: " من مات وعليه صيام. . . " سبق تخريجه ف / 7.(21/152)
مَاتَ وَعَلَيْهِ الْعُشْرُ، فَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ قَائِمًا فَلاَ يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْقُطُ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْخَارِجُ مُسْتَهْلَكًا فَإِنَّهُ يَسْقُطُ.
وَالأَْصْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمَوْتَ يُسْقِطُ مَا عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ ثَلاَثَةٍ وَهِيَ:
أ - إِذَا أَوْصَى بِهَا.
ب - إِذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِهَا.
ج - إِذَا تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ قَائِمَةٍ كَزَكَاةِ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (حَجّ، وَصَوْم) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 492، 5 / 484، والزيلعي 6 / 230، والبدائع 2 / 53، وشرح السراجية بحاشية الفناري ص 30، وأشباه ابن نجيم ص 360، والدسوقي 4 / 441 - 422، 444، 457، ومنح الجليل 4 / 670 - 671.(21/153)
الدِّينَارِيَّةُ الصُّغْرَى
التَّعْرِيفُ:
1 - الدِّينَارِيَّةُ: مَنْسُوبَةٌ إِلَى الدِّينَارِ، وَوُصِفَتْ بِالصُّغْرَى لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ " الدِّينَارِيَّةُ الْكُبْرَى ". وَالدِّينَارُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ (1) . انْظُرْ تَفْصِيلَهُ فِي مُصْطَلَحِ: (دَنَانِيرُ) . وَالدِّينَارِيَّةُ الصُّغْرَى فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هِيَ مَسْأَلَةٌ مِنَ الْمَسَائِل الْمُلَقَّبَاتِ فِي الْمَوَارِيثِ، وَهِيَ الْمَسَائِل الَّتِي لُقِّبَتْ كُلٌّ مِنْهَا بِلَقَبٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَمِنْهَا - غَيْرَ مَسْأَلَتِنَا - الدِّينَارِيَّةُ الْكُبْرَى، وَالأَْكْدَرِيَّةُ، وَالْخَرْقَاءُ، وَغَيْرُهَا (2) .
صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ وَمَا لُقِّبَتْ بِهِ:
2 - صَوَّرَ الْفُقَهَاءُ " الدِّينَارِيَّةَ الصُّغْرَى " فِي إِرْثٍ انْحَصَرَ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ أُنْثَى، هُنَّ: ثَلاَثُ زَوْجَاتٍ، وَجَدَّتَانِ، وَأَرْبَعُ أَخَوَاتٍ لأُِمٍّ، وَثَمَانِي أَخَوَاتٍ شَقِيقَاتٍ أَوْ لأَِبٍ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " دنر "، المقادير الشرعية 118، 120، 132، 143.
(2) أسنى المطالب 3 / 25.(21/153)
وَلُقِّبَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِأَلْقَابٍ أُخْرَى - غَيْرِ لَقَبِ: الدِّينَارِيَّةِ الصُّغْرَى - مِنْهَا: " السَّبْعَةَ عَشْرِيَّةَ " نِسْبَةً إِلَى عَدَدِ الْوَارِثَاتِ فِيهَا " وَأُمُّ الأَْرَامِل " لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْوَارِثَاتِ الأَْرَامِل " وَأُمُّ الْفُرُوجِ " لأَِنَّ جَمِيعَ الْوَارِثَاتِ فِيهَا مِنَ النِّسَاءِ " وَالْمِنْبَرِيَّةُ "، وَأَمَّا تَلْقِيبُهَا " بِالدِّينَارِيَّةِ الصُّغْرَى " فَلأَِنَّ مَيِّتًا تَرَكَ سَبْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا فَخَصَّ كُل وَارِثَةٍ دِينَارٌ (1) .
الْحُكْمُ فِي الدِّينَارِيَّةِ الصُّغْرَى:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْرْثَ حِينَ يَنْحَصِرُ فِي: ثَلاَثِ زَوْجَاتٍ، وَجَدَّتَيْنِ، وَأَرْبَعِ أَخَوَاتٍ لأُِمٍّ، وَثَمَانِي أَخَوَاتٍ شَقِيقَاتٍ أَوْ لأَِبٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلزَّوْجَاتِ الثَّلاَثِ الرُّبْعُ - وَهُوَ ثَلاَثَةٌ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ - وَلِلْجَدَّتَيْنِ السُّدُسُ - وَهُوَ اثْنَانِ - وَلِلأَْخَوَاتِ لِلأُْمِّ الثُّلُثُ - وَهُوَ أَرْبَعَةٌ - وَلِلأَْخَوَاتِ الشَّقِيقَاتِ أَوْ لأَِبٍ الثُّلُثَانِ - وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ - فَيَكُونُ مَجْمُوعُ السِّهَامِ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَهُوَ الْعَدَدُ الَّذِي عَالَتْ إِلَيْهِ الْمَسْأَلَةُ.
وَيَكُونُ لِكُل وَاحِدَةٍ مِنَ الْوَارِثَاتِ سَهْمٌ: لِكُل وَاحِدَةٍ مِنَ الزَّوْجَاتِ الثَّلاَثِ سَهْمٌ مِنْ نَصِيبِهِنَّ " الرُّبْعُ " وَهُوَ ثَلاَثَةٌ، وَلِكُل وَاحِدَةٍ مِنَ الْجَدَّتَيْنِ سَهْمٌ مِنْ نَصِيبِهِمَا " السُّدُسُ " وَهُوَ
__________
(1) الاختيار 3 / 227 - 228، الزرقاني 8 / 216 - 217، روضة الطالبين 6 / 63، أسنى المطالب 3 / 25، مطالب أولي النهى 4 / 583 - 584.(21/154)
اثْنَانِ، وَلِكُل وَاحِدَةٍ مِنَ الأَْخَوَاتِ الأَْرْبَعِ لِلأُْمِّ سَهْمٌ مِنْ نَصِيبِهِنَّ " الثُّلُثُ " وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، وَلِكُل وَاحِدَةٍ مِنَ الأَْخَوَاتِ الشَّقِيقَاتِ أَوْ لأَِبٍ سَهْمٌ مِنْ نَصِيبِهِنَّ " الثُّلُثَانِ " وَهُمَا ثَمَانِيَةٌ. أَصْل الْمَسْأَلَةِ اثْنَا عَشَرَ وَعَالَتْ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْمَسَائِل الَّتِي يُعَايَا بِهَا فَيُقَال: سَبْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، اقْتَسَمْنَ مَال الْمَيِّتِ، حَصَل لِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سَهْمٌ (1) .
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَحْوِهَا يُرَاجَعُ: " إِرْث " وَيُنْظَرُ: " عَوْل ".
__________
(1) المراجع السابقة.(21/154)
الدِّينَارِيَّةُ الْكُبْرَى
التَّعْرِيفُ:
1 - الدِّينَارِيَّةُ: مَنْسُوبَةٌ إِلَى الدِّينَارِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ " دَنَانِير ". وَالْكُبْرَى: صِفَةٌ تُمَيِّزُهَا عَنْ " الدِّينَارِيَّةِ الصُّغْرَى ". انْظُرْ مُصْطَلَحَ: " دِينَارِيَّة صُغْرَى ".
وَالدِّينَارِيَّةُ الْكُبْرَى فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هِيَ مَسْأَلَةٌ مِنَ الْمَسَائِل الْمُلَقَّبَاتِ فِي الْمَوَارِيثِ. وَقَدْ سَبَقَ التَّعْرِيفُ بِهَا فِي مُصْطَلَحِ: " الدِّينَارِيَّةِ الصُّغْرَى ".
صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا لُقِّبَتْ بِهِ:
2 - صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: انْحِصَارُ الإِْرْثِ فِي زَوْجَةٍ وَأُمٍّ وَبِنْتَيْنِ وَاثْنَيْ عَشَرَ أَخًا وَأُخْتٍ لأَِبٍ وَأُمٍّ أَوْ لأَِبٍ. وَلُقِّبَتْ " بِالدِّينَارِيَّةِ الْكُبْرَى " " وَبِالرِّكَابِيَّةِ "، " وَبِالشَّاكِيَةِ " لأَِنَّ شُرَيْحًا قَضَى فِيهَا لِلأُْخْتِ بِدِينَارٍ وَاحِدٍ، وَكَانَتِ التَّرِكَةُ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ، فَلَمْ تَرْضَ الأُْخْتُ، وَمَضَتْ إِلَى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ تَشْتَكِي شُرَيْحًا، فَوَجَدَتْهُ رَاكِبًا، فَأَمْسَكَتْ بِرِكَابِهِ(21/155)
وَقَالَتْ: إِنَّ أَخِي تَرَكَ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ فَأَعْطَانِي شُرَيْحٌ دِينَارًا وَاحِدًا، فَقَال عَلِيٌّ: لَعَل أَخَاكِ تَرَكَ زَوْجَةً وَأُمًّا وَابْنَتَيْنِ وَاثْنَيْ عَشَرَ أَخًا وَأَنْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَال عَلِيٌّ، ذَلِكَ حَقُّكِ وَلَمْ يَظْلِمْكِ شُرَيْحٌ شَيْئًا.
وَتُلَقَّبُ أَيْضًا " بِالدَّاوُدِيَّةِ " لأَِنَّ دَاوُدَ الطَّائِيَّ سُئِل عَنْ مِثْلِهَا فَقَسَمَهَا هَكَذَا، فَجَاءَتِ الأُْخْتُ - وَهِيَ غَيْرُ الأُْخْتِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ - إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَتْ: إِنَّ أَخِي مَاتَ وَتَرَكَ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ فَمَا أُعْطِيتُ إِلاَّ دِينَارًا وَاحِدًا، فَقَال: مَنْ قَسَمَ التَّرِكَةَ؟ قَالَتْ: تِلْمِيذُكَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ، قَال: هُوَ لاَ يَظْلِمُ، هَل تَرَكَ أَخُوكِ جَدَّةً؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: هَل تَرَكَ بِنْتَيْنِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: هَل تَرَكَ زَوْجَةً؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: هَل مَعَكِ اثْنَا عَشَرَ أَخًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: إِذَنْ حَقُّكِ دِينَارٌ.
وَتُلَقَّبُ أَيْضًا " بِالْعَامِرِيَّةِ " لأَِنَّ الأُْخْتَ سَأَلَتْ عَامِرًا الشَّعْبِيَّ عَنْهَا، فَأَجَابَ بِمِثْل ذَلِكَ (1) .
الْحُكْمُ فِي الدِّينَارِيَّةِ الْكُبْرَى:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْرْثَ حِينَ يَنْحَصِرُ فِي: زَوْجَةٍ وَأُمٍّ أَوْ جَدَّةٍ وَبِنْتَيْنِ وَاثْنَيْ عَشَرَ أَخَا وَأُخْتٍ وَاحِدَةٍ لأَِبٍ وَأُمٍّ أَوَلأَِبٍ، وَالتَّرِكَةُ سِتُّمِائَةِ دِينَارٍ، أَنَّهُ يَكُونُ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ، وَلِلأُْمِّ أَوَالْجَدَّةِ السُّدُسُ مِائَةُ دِينَارٍ،
__________
(1) الاختيار 3 / 258، الزرقاني 8 / 217، أسنى المطالب 3 / 27، مطالب أولي النهى 4 / 584.(21/155)
وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا، وَلِكُل أَخٍ دِينَارَانِ، وَلِلأُْخْتِ دِينَارٌ. . بِتَوْزِيعِ الْبَاقِي بَعْدَ الْفُرُوضِ عَلَى الإِْخْوَةِ الاِثْنَيْ عَشَرَ، وَعَلَى الأُْخْتِ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ. وَالْمَسْأَلَةُ عَادِلَةٌ، وَهِيَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِل الْمُعَايَاةِ (1) .
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى: (إِرْث) .
__________
(1) المراجع السابقة.(21/156)
دِيوَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدِّيوَانُ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، وَيُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مُجْتَمَعِ الصُّحُفِ، وَعَلَى الْكِتَابِ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ أَهْل الْجَيْشِ وَأَهْل الْعَطِيَّةِ وَعَلَى جَرِيدَةِ الْحِسَابِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْحِسَابِ، ثُمَّ عَلَى مَوْضِعِ الْحِسَابِ، وَفِي تَاجِ الْعَرُوسِ: مَعَانِي الدِّيوَانِ خَمْسَةٌ: الْكَتَبَةُ وَمَحَلُّهُمْ، وَالدَّفْتَرُ، وَكُل كِتَابٍ، وَمَجْمُوعُ الشِّعْرِ (1) .
وَالدِّيوَانُ فِي الاِصْطِلاَحِ: الدَّفْتَرُ الَّذِي تُثْبَتُ فِيهِ الأَْسْمَاءُ أَوَالْوَثَائِقُ، وَمَا وُضِعَ لِحِفْظِ مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ السَّلْطَنَةِ " الدَّوْلَةِ " مِنَ الأَْعْمَال وَالأَْمْوَال وَمَنْ يَقُومُ بِهَا مِنَ الْجُيُوشِ وَالْعُمَّال (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السِّجِل:
2 - السِّجِل لُغَةً: الْكِتَابُ الْكَبِيرُ، وَفِي حَدِيثِ
__________
(1) القاموس المحيط، لسان العرب، تاج العروس، المصباح المنير مادة: " دون "، وتهذيب الأسماء واللغات 3 / 107.
(2) الدر المختار 4 / 308، جواهر الإكليل 1 / 256، كشاف القناع 6 / 312، الأحكام السلطانية للماوردي 199.(21/156)
الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:. . . فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ. . . (1)
وَقِيل: السِّجِل حَجَرٌ كَانَ يُكْتَبُ فِيهِ، ثُمَّ سُمِّيَ كُل مَا يُكْتَبُ فِيهِ سِجِلًّا.
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: السِّجِل: الصَّكُّ، وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ السِّجَالَةِ وَهِيَ الْكِتَابَةُ (2) .
وَاصْطِلاَحًا: مَا يُكْتَبُ مُتَضَمَّنًا حُكْمَ الْقَاضِي، أَيْ مَا يُكْتَبُ مِنِ ادِّعَاءٍ، وَإِجَابَةٍ، وَبَيِّنَةٍ، وَحُكْمِ الْقَاضِي (3) .
وَالدِّيوَانُ قَدْ يَتَضَمَّنُ السِّجِل وَغَيْرَهُ مِنَ الْمُحَاضِرِ وَالْحُجَجِ وَالْوَثَائِقِ وَلاَ عَكْسَ.
ب - الْمَحْضَرُ:
3 - الْمَحْضَرُ لُغَةً: السِّجِل، وَاصْطِلاَحًا: مَا يُكْتَبُ مِنْ وَقَائِعِ الدَّعْوَى دُونَ حُكْمٍ (4) .
وَالدِّيوَانُ يَتَضَمَّنُ - عَادَةً - الْمَحْضَرَ وَغَيْرَهُ مِنَ الأَْوْرَاقِ وَالْوَثَائِقِ.
__________
(1) حديث: " فتوضع السجلات في كفة " أخرجه الترمذي (5 / 25 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: " هذا حديث حسن غريب ".
(2) لسان العرب، مادة: " سجل "، والمفردات 225، وتفسير القرطبي 11 / 347.
(3) الدر المختار 4 / 351، شرح المحلي على المنهاج 4 / 303، كشاف القناع 6 / 312.
(4) لسان العرب، مادة: " حضر "، ومغني المحتاج 4 / 394، ونقل ابن عابدين عن الدر أن المحضر ما كتب فيه ما جرى بين الخصمين من إقرار أو إنكار والحكم ببينة أو نكل على وجه يرفع الاشتباه، ابن عابدين 4 / 308.(21/157)
أَوَّل مَنْ وَضَعَ الدِّيوَانَ فِي الإِْسْلاَمِ:
4 - أَوَّل مَنْ وَضَعَ الدِّيوَانَ فِي الإِْسْلاَمِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ أَهْل الدِّيوَانِ (الْمَوْسُوعَةُ ج 7 118) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّيوَانِ مِنْ أَحْكَامٍ:
اتِّخَاذُ الدِّيوَانِ:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَجْعَل دِيوَانًا أَيْ: دَفْتَرًا يَجْمَعُ فِيهِ أَسْمَاءَ الْجُنْدِ وَعَطَاءَهُمْ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ -: إِنَّ وَضْعَ دِيوَانِ الْجُنْدِ مُسْتَحَبٌّ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلاَمُ الشَّيْخَيْنِ (النَّوَوِيِّ وَالرَّافِعِيِّ) ، وَكَلاَمُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ صَرِيحٌ فِيهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ فِي الْمُحَرَّرِ، قَال صَاحِبُ الأَْنْوَارِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَ الإِْمَامُ دَفْتَرًا، وَإِنْ قَال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّ الظَّاهِرَ الْوُجُوبُ، لِئَلاَّ تُشْتَبَهَ الأَْحْوَال وَيَقَعَ الْخَبْطُ وَالْغَلَطُ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يَضَعَ دِيوَانًا
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص199، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 237، بدائع الصنائع 7 / 256، نهاية المحتاج 6 / 138.
(2) جواهر الإكليل 1 / 256.
(3) فتاوى الرملي بهامش الفتاوى الكبرى للهيثمي 3 / 135، القليوبي 3 / 989.(21/157)
فِيهِ أَسْمَاءُ الْمُقَاتِلَةِ، وَقَدْرُ أَرْزَاقِهِمْ ضَبْطًا لَهُمْ، وَلِمَا قُدِّرَ لَهُمْ (1) .
دِيوَانُ الدَّوْلَةِ وَأَقْسَامُهُ:
6 - دِيوَانُ الدَّوْلَةِ - وَنَحْوِهَا كَالسَّلْطَنَةِ أَوِ الإِْمَارَةِ أَوِ الْمَمْلَكَةِ - وُضِعَ لِحِفْظِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الأَْعْمَال وَالأَْمْوَال، وَمَنْ يَقُومُ بِهَا مِنَ الْجُيُوشِ وَالْعُمَّال. وَقُسِّمَ - فِي أَصْل وَضْعِهِ - أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: -
الْقِسْمُ الأَْوَّل: مَا يَخْتَصُّ بِالْجَيْشِ مِنْ إِثْبَاتٍ وَعَطَاءٍ:
7 - ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى أَنَّ الإِْثْبَاتَ فِي الدِّيوَانِ مُعْتَبَرٌ بِثَلاَثَةِ شُرُوطٍ: وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْل الدِّيوَانِ) ، وَمُصْطَلَحِ: (عَطَاء) .
الإِْخْرَاجُ أَوَالْخُرُوجُ مِنْ دِيوَانِ الْجَيْشِ:
8 - إِذَا أَرَادَ وَلِيُّ الأَْمْرِ إِسْقَاطَ بَعْضِ الْجَيْشِ مِنَ الدِّيوَانِ لِسَبَبٍ أَوْجَبَهُ، أَوَلِعُذْرٍ اقْتَضَاهُ جَازَ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ سَبَبٍ لَمْ يَجُزْ لأَِنَّهُمْ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِذَا أَرَادَ بَعْضُ الْجَيْشِ إِخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنَ الدِّيوَانِ جَازَ مَعَ الاِسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَلَمْ يَجُزْ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا.
وَإِذَا جَرَّدَ الْجَيْشَ لِقِتَالٍ فَامْتَنَعُوا - وَهُمْ أَكْفَاءُ
__________
(1) مطالب أولي النهى 2 / 575، المغني 6 / 417.(21/158)
مَنْ حَارَبَهُمْ - سَقَطَتْ أَرْزَاقُهُمْ، وَإِنْ ضَعُفُوا عَنْهُمْ لَمْ تَسْقُطْ. وَإِذَا مَرِضَ بَعْضُهُمْ أَوْ جُنَّ وَرُجِيَ زَوَال الْمَرَضِ أَوِ الْجُنُونِ وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ أُعْطِيَ وَبَقِيَ اسْمُهُ فِي الدِّيوَانِ لِئَلاَّ يَرْغَبَ النَّاسُ عَنِ الْجِهَادِ وَيَشْتَغِلُوا بِالْكَسْبِ، فَإِنَّهُمْ لاَ يَأْمَنُونَ هَذِهِ الْعَوَارِضَ بِاتِّفَاقِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَإِنْ لَمْ يُرْجَ زَوَال الْمَرَضِ أَوِ الْجُنُونِ، فَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَخْرُجُ مِنَ الدِّيوَانِ وَسَقَطَ سَهْمُهُ؛ لأَِنَّهُ فِي مُقَابِل عَمَلٍ قَدْ عُدِمَ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُعْطَى الْكِفَايَةَ اللاَّئِقَةَ بِهِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُعْطَى لِعَدَمِ رَجَاءِ نَفْعِهِ، أَيْ: لاَ يُعْطَى مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ الْمُعَدَّةِ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَلَكِنْ يُعْطَى مِنْ غَيْرِهَا إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا (1) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَخْتَصُّ بِالأَْعْمَال مِنْ رُسُومٍ وَحُقُوقٍ:
9 - وَبَيَانُهُ مِنْ جَوَانِبَ:
الأَْوَّل: تَحْدِيدُ الْعَمَل بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَتَفْصِيل نَوَاحِيهِ الَّتِي تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا، فَيُجْعَل لِكُل بَلَدٍ حَدًّا لاَ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَيُفَصَّل نَوَاحِي كُل بَلَدٍ إِذَا اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهَا. الثَّانِي: بَيَانُ حَال الْبَلَدِ هَل فُتِحَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي 206، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 243.(21/158)
وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ أَرْضِهِ مِنْ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ، فَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ أَرْضَ عُشْرٍ لَمْ يَلْزَمْ إِثْبَاتُ مِسَاحَاتِهِ؛ لأَِنَّ الْعُشْرَ عَلَى الزَّرْعِ دُونَ الْمِسَاحَةِ، وَيَكُونُ مَا اسْتُؤْنِفَ زَرْعُهُ مَرْفُوعًا إِلَى دِيوَانِ الْعُشْرِ لاَ مُسْتَخْرَجًا مِنْهُ، وَيَلْزَمُ تَسْمِيَةُ أَرْبَابِهِ عِنْدَ رَفْعِهِ إِلَى الدِّيوَانِ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ الْعُشْرِ فِيهِ مُعْتَبَرٌ بِأَرْبَابِهِ دُونَ رِقَابِ الأَْرْضِينَ، وَإِذَا رُفِعَ الزَّرْعُ بِأَسْمَاءِ أَرْبَابِهِ ذُكِرَ مَبْلَغُ كَيْلِهِ وَحَال سَقْيِهِ بِسَيْحٍ (مَاءٍ جَارٍ) أَوْ عَمَلٍ؛ لاِخْتِلاَفِ حُكْمِهِ لِيُسْتَوْفَى عَلَى مُوجِبِهِ.
وَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ أَرْضَ خَرَاجٍ لَزِمَ إِثْبَاتُ مِسَاحَاتِهِ؛ لأَِنَّ الْخَرَاجَ عَلَى الْمِسَاحَةِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الأُْجْرَةِ لَمْ يَلْزَمْ تَسْمِيَةُ أَرْبَابِ الأَْرْضِينَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَخْتَلِفُ بِإِسْلاَمٍ وَلاَ بِكُفْرٍ، وَإِنْ كَانَ الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ لَزِمَ تَسْمِيَةُ أَرْبَابِهِمْ وَوَصْفُهُمْ بِإِسْلاَمٍ أَوْ كُفْرٍ؛ لاِخْتِلاَفِ حُكْمِهِ بِاخْتِلاَفِ أَهْلِهِ.
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ عُشْرًا وَبَعْضُهُ خَرَاجًا فُصِّل فِي دِيوَانِ الْعُشْرِ مَا كَانَ مِنْهُ عُشْرًا، وَفِي دِيوَانِ الْخَرَاجِ مَا كَانَ مِنْهُ خَرَاجًا؛ لاِخْتِلاَفِ الْحُكْمِ فِيهِمَا، وَأُجْرِيَ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَخْتَصُّ بِحُكْمِهِ.
الثَّالِثُ: بَيَانُ أَحْكَامِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا مِنْ مُقَاسَمَةٍ عَلَى الزَّرْعِ أَوْ وَرِقٍ (فِضَّةٍ) مُقَدَّرٍ عَلَى الْخَرَاجِ.
الرَّابِعُ: ذِكْرُ مَنْ فِي كُل بَلَدٍ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ(21/159)
وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً بِالْيَسَارِ وَالإِْعْسَارِ سُمُّوا فِي الدِّيوَانِ مَعَ ذِكْرِ عَدَدِهِمْ، لِيُخْتَبَرَ حَال يَسَارِهِمْ وَإِعْسَارِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي الْيَسَارِ وَالإِْعْسَارِ جَازَ الاِقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ عَدَدِهِمْ وَوَجَبَ مُرَاعَاتُهُمْ فِي كُل عَامٍ لِيُثْبَتَ مَنْ بَلَغَ وَيُسْقَطَ مَنْ مَاتَ أَوْ أَسْلَمَ، لِيَنْحَصِرَ بِذَلِكَ مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ جِزْيَتِهِمْ.
الْخَامِسُ: ذِكْرُ أَجْنَاسِ الْمَعَادِنِ فِي الْبَلَدِ - إِنْ كَانَ مِنْ بُلْدَانِ الْمَعَادِنِ - وَعَدَدِ كُل جِنْسٍ، لِيُسْتَوْفَى حَقُّ الْمَعْدِنِ مِنْهَا.
السَّادِسُ: إِنْ كَانَ الْبَلَدُ ثَغْرًا يُتَاخِمُ دَارَ الْحَرْبِ وَكَانَتْ أَمْوَال الْكُفَّارِ قَدْ دَخَلَتْ دَارَ الإِْسْلاَمِ مَعْشُورَةً عَنْ صُلْحٍ اسْتَقَرَّ مَعَهُمْ وَأُثْبِتَ فِي دِيوَانِ عَقْدِ صُلْحِهِمْ وَقُدِّرَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ مِنْ عُشْرٍ أَوْ خُمُسٍ أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَإِنْ كَانَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْمْتِعَةِ وَالأَْمْوَال فُصِّلَتْ فِيهِ، وَكَانَ الدِّيوَانُ مَوْضُوعًا لإِِخْرَاجِ رُسُومِهِ وَلاِسْتِيفَاءِ مَا يُرْفَعُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَادِيرِ الأَْمْتِعَةِ الْمَحْمُولَةِ إِلَيْهِ (1) .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَخْتَصُّ بِالْعُمَّال مِنْ تَقْلِيدٍ وَعَزْلٍ:
10 - وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:
الأَْوَّل: ذِكْرُ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ تَقْلِيدُ الْعُمَّال، وَهُوَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 206 - 209، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 244 - 246.(21/159)
مُعْتَبَرٌ بِنُفُوذِ الأَْمْرِ وَجَوَازِ النَّظَرِ، وَهَذَا يَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَلاَثَةٍ: السُّلْطَانِ الْمُسْتَوْلِي عَلَى كُل الأُْمُورِ، أَوْ وَزِيرِ التَّفْوِيضِ، أَوْ عَامِل عَامِّ الْوِلاَيَةِ كَعَامِل إِقْلِيمٍ أَوْ مِصْرٍ عَظِيمٍ يُقَلَّدُ فِي خُصُوصِ الأَْعْمَال عَامِلاً.
أَمَّا وَزِيرُ التَّنْفِيذِ فَلاَ يَصِحُّ مِنْهُ تَقْلِيدُ عَامِلٍ إِلاَّ بَعْدَ الْمُطَالَعَةِ وَالاِسْتِئْمَارِ.
الثَّانِي: ذِكْرُ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْعِمَالَةَ، وَهُوَ مَنِ اسْتَقَل بِكِفَايَتِهِ وَوُثِقَ بِأَمَانَتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ عِمَالَةُ تَفْوِيضٍ تَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ رُوعِيَ فِيهَا الْحُرِّيَّةُ وَالإِْسْلاَمُ، وَإِنْ كَانَتْ عِمَالَةُ تَنْفِيذٍ لاَ اجْتِهَادَ لِلْعَامِل فِيهَا، لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الْحُرِّيَّةِ وَالإِْسْلاَمِ.
الثَّالِثُ: ذِكْرُ الْعَمَل الَّذِي يَتَقَلَّدُهُ، وَهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ ثَلاَثَةُ شُرُوطٍ:
أ - تَحْدِيدُ النَّاحِيَةِ بِمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا.
ب - تَعْيِينُ الْعَمَل الَّذِي يَخْتَصُّ بِنَظَرِهِ فِيهَا مِنْ جِبَايَةٍ أَوْ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ.
ج - الْعِلْمُ بِرُسُومِ الْعَمَل وَحُقُوقِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَنْفِي عَنْهُ الْجَهَالَةَ. فَإِذَا اسْتُكْمِلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فِي عَمَلٍ عَلِمَ بِهِ الْمُوَلِّي وَالْمُوَلَّى صَحَّ التَّقْلِيدُ وَنَفَذَ.
الرَّابِعُ: بَيَانُ زَمَانِ النَّظَرِ، وَلاَ يَخْلُو مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ:
أ - أَنْ يُقَدَّرَ بِمُدَّةٍ مَحْصُورَةٍ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ مُجَوِّزًا لِلنَّظَرِ فِيهَا وَمَانِعًا مِنَ النَّظَرِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا، وَلاَ يَكُونُ النَّظَرُ فِي الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لاَزِمًا(21/160)
مِنْ جِهَةِ الْمُوَلِّي، وَلَهُ صَرْفُهُ وَالاِسْتِبْدَال بِهِ إِنْ رَأَى ذَلِكَ صَلاَحًا.
ب - أَنْ يُقَدَّرَ بِالْعَمَل، فَيَقُول الْمُوَلِّي: قَلَّدْتُكَ خَرَاجَ نَاحِيَةِ كَذَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَوْ قَلَّدْتُكَ صَدَقَاتِ بَلَدِ كَذَا فِي هَذَا الْعَامِ، فَتَكُونُ مُدَّةُ نَظَرِهِ مُقَدَّرَةً بِفَرَاغِهِ عَنْ عَمَلِهِ، فَإِذَا فَرَغَ انْعَزَل عَنْهُ، وَهُوَ قَبْل فَرَاغِهِ يَجُوزُ أَنْ يَعْزِلَهُ الْمُوَلِّي، وَعَزْلُهُ لِنَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِصِحَّةِ جَارِيهِ (1) وَفَسَادِهِ.
ج - أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا فَلاَ يُقَدَّرُ بِمُدَّةٍ وَلاَ عَمَلٍ، فَيَقُول الْمُوَلِّي مَثَلاً: قَلَّدْتُكَ خَرَاجَ الْكُوفَةِ، أَوْ أَعْشَارَ الْبَصْرَةِ، أَوْ حِمَايَةَ بَغْدَادَ، وَهُوَ تَقْلِيدٌ صَحِيحٌ وَإِنْ جُهِلَتْ مُدَّتُهُ.
الْخَامِسُ: فِي جَارِي (مُقَابِل) الْعَامِل عَلَى عَمَلِهِ، وَلاَ يَخْلُو مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ:
أ - أَنْ يُسَمِّيَ مَعْلُومًا فَيَسْتَحِقَّ الْمُسَمَّى إِذَا وَفَّى الْعِمَالَةَ حَقَّهَا، فَإِنْ قَصَّرَ فِيهَا رُوعِيَ تَقْصِيرُهُ، وَإِنْ زَادَ فِي الْعَمَل رُوعِيَتْ الزِّيَادَةُ.
ب - أَنْ يُسَمِّيَ مَجْهُولاً فَيَسْتَحِقَّ جَارِيَ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِل، فَإِنْ كَانَ جَارِي الْعَمَل مُقَدَّرًا فِي الدِّيوَانِ، وَعَمِل بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُمَّال، صَارَ ذَلِكَ الْقَدْرُ هُوَ جَارِيَ الْمِثْل، وَإِنْ لَمْ يَعْمَل بِهِ إِلاَّ وَاحِدًا لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ مَأْلُوفًا فِي جَارِي الْمِثْل.
ج - أَنْ لاَ يُسَمَّى بِمَجْهُولٍ وَلاَ بِمَعْلُومٍ، وَفِيمَا
__________
(1) الجاري هو ما يجري عليه من الرزق (المرتب) .(21/160)
يَسْتَحِقُّهُ خِلاَفٌ: قَال الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْجَارِي مِثْلُهُ عَلَى عَمَلِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ قَالَهَا الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ.
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لاَ جَارِيَ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِهِ حَتَّى يُسَمِّيَ جَارِيًا مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولاً لِخُلُوِّ عَمَلِهِ مِنْ عِوَضٍ.
وَقَال الْمُزَنِيُّ: لَهُ جَارِي مِثْلِهِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ، لاِسْتِيفَاءِ عَمَلِهِ عَنْ إِذْنِهِ.
وَقَال ابْنُ سُرَيْجٍ: إِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَى عَمَلِهِ فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهَرْ بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَيْهِ فَلاَ جَارِيَ لَهُ.
وَقَال الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إِنْ دُعِيَ إِلَى الْعَمَل فِي الاِبْتِدَاءِ أَوْ أُمِرَ بِهِ، فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ، فَإِنِ ابْتَدَأَ بِالطَّلَبِ فَأُذِنَ لَهُ فِي الْعَمَل فَلاَ جَارِيَ لَهُ.
وَلَخَّصَ أَبُو يَعْلَى رَأْيَ الْحَنَابِلَةِ فَقَال: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَى عَمَلِهِ فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَيْهِ فَلاَ جَارِيَ لَهُ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْل ابْنِ سُرَيْجٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى: إِذَا كَانَ فِي عَمَلِهِ مَالٌ يُجْتَبَى فَجَارِيهِ يُسْتَحَقُّ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَجَارِيهِ فِي بَيْتِ الْمَال مُسْتَحَقٌّ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ.
السَّادِسُ: فِيمَا يَصِحُّ بِهِ التَّقْلِيدُ، فَإِنْ كَانَ نُطْقًا تَلَفَّظَ بِهِ الْمُوَلِّي صَحَّ بِهِ التَّقْلِيدُ كَمَا تَصِحُّ بِهِ سَائِرُ(21/161)
الْعُقُودِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ تَوْقِيعِ الْمُوَلِّي بِتَقْلِيدِهِ خَطَأً لاَ لَفْظًا صَحَّ التَّقْلِيدُ، وَانْعَقَدَتْ بِهِ الْوِلاَيَاتُ السُّلْطَانِيَّةُ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ شَوَاهِدُ الْحَال اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْجَارِي فِيهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ التَّقْلِيدُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ لاَ يَتَعَدَّاهُ إِلَى اسْتِنَابَةِ غَيْرِهِ فِيهِ، وَلاَ يَصِحُّ إِنْ كَانَ عَامًّا مُتَعَدِّيًا (1) .
كَاتِبُ الدِّيوَانِ:
11 - كَاتِبُ الدِّيوَانِ هُوَ صَاحِبُ ذِمَامِهِ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ وِلاَيَتِهِ شَرْطَانِ: الْعَدَالَةُ وَالْكِفَايَةُ. أَمَّا الْعَدَالَةُ: فَلأَِنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى حَقِّ بَيْتِ الْمَال وَالرَّعِيَّةِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِي الْعَدَالَةِ وَالأَْمَانَةِ عَلَى صِفَةِ الْمُؤْتَمَنِينَ. وَأَمَّا الْكِفَايَةُ: فَلأَِنَّهُ مُبَاشِرٌ لِعَمَلٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي الْقِيَامِ بِهِ مُسْتَقِلًّا بِكِفَايَةِ الْمُبَاشِرِينَ.
فَإِذَا صَحَّ تَقْلِيدُ الْكَاتِبِ فَالَّذِي نُدِبَ لَهُ سِتَّةُ أَشْيَاءَ:
1 - حِفْظُ الْقَوَانِينِ عَلَى الرُّسُومِ الْعَادِلَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ تَتَحَيَّفُ بِهَا الرَّعِيَّةُ أَوْ نُقْصَانٍ يَنْثَلِمُ بِهِ حَقُّ بَيْتِ الْمَال.
2 - اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَامِلِينَ، وَمِنَ الْقَابِضِينَ لَهَا مِنَ الْعُمَّال.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 209 - 213، ولأبي يعلى ص 247 - 251.(21/161)
3 - إِثْبَاتُ الرُّفُوعِ (1) ، وَيَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ.
أ - رُفُوعُ الْمِسَاحَةِ وَالْعَمَل. . فَإِنْ كَانَتْ أُصُولُهَا مُقَدَّرَةً فِي الدِّيوَانِ اعْتُبِرَ صِحَّةُ الرَّفْعِ بِمُقَابَلَةِ الأَْصْل، وَأُثْبِتَ فِي الدِّيوَانِ إِنْ وَافَقَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الدِّيوَانِ أُصُولٌ عَمِل فِي إِثْبَاتِهَا عَلَى قَوْل رَافِعِهَا.
ب - رُفُوعُ قَبْضٍ وَاسْتِيفَاءٍ. . فَيَعْمَل فِي إِثْبَاتِهَا عَلَى قَوْل رَافِعِهَا؛ لأَِنَّهُ يُقِرُّ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ لاَ لَهَا.
ج - رُفُوعُ الْخَرَاجِ وَالنَّفَقَةِ. فَرَافِعُهَا مُدَّعٍ لَهَا فَلاَ تُقْبَل دَعْوَاهُ إِلاَّ بِالْحُجَجِ الْبَالِغَةِ.
4 - مُحَاسَبَةُ الْعُمَّال. . وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِاخْتِلاَفِ مَا تَقَلَّدُوهُ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ عُمَّال الْخَرَاجِ لَزِمَهُمْ رَفْعُ الْحِسَابِ، وَوَجَبَ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَى صِحَّةِ مَا رَفَعُوهُ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ عُمَّال الْعُشْرِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَفْعُ الْحِسَابِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْعُشْرَ عِنْدَهُ صَدَقَةٌ لاَ يَقِفُ مَصْرِفُهَا عَلَى اجْتِهَادِ الْوُلاَةِ، وَلَوْ تَفَرَّدَ أَهْلُهَا بِمَصْرِفِهَا أَجْزَأَتْ، وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَفْعُ الْحِسَابِ، وَيَجِبُ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَيْهِ، لأَِنَّ مَصْرِفَ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ عِنْدَهُ مُشْتَرَكٌ.
5 - إِخْرَاجُ الأَْمْوَال. . وَلاَ يُخْرِجُ مِنْهَا إِلاَّ مَا عَلِمَ صِحَّتَهُ، وَلاَ يَبْتَدِئُ بِذَلِكَ حَتَّى يُسْتَدْعَى مِنْهُ.
__________
(1) الرفوع الزيادات التي ترد على المرتبات والاستحقاقات وغيرها.(21/162)
6 - تَصَفُّحُ الظُّلاَمَاتِ. . وَهُوَ مُخْتَلَفٌ بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الْمُتَظَلِّمِ: فَإِنْ كَانَ الْمُتَظَلِّمُ مِنَ الرَّعِيَّةِ تَظَلَّمَ مِنْ عَامِلٍ تَحَيَّفَهُ فِي مُعَامَلَةٍ، كَانَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ فِيهَا حَاكِمًا بَيْنَهُمَا، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَفَّحَ الظُّلاَمَةَ وَيُزِيل التَّحَيُّفَ؛ لأَِنَّهُ مَنْدُوبٌ لِحِفْظِ الْقَوَانِينِ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ، فَصَارَ بِعَقْدِ الْوِلاَيَةِ مُسْتَحِقًّا لِتَصَفُّحِ الظُّلاَمَاتِ. وَإِنْ كَانَ الْمُتَظَلِّمُ عَامِلاً جُوزِفَ فِي حِسَابِهِ أَوْ غُولِطَ فِي مُعَامَلَتِهِ، صَارَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ خَصْمًا فِي الظُّلاَمَةِ، وَكَانَ الْمُتَصَفِّحُ لَهَا وَلِيَّ الأَْمْرِ (1) .
أَهْل الدِّيوَانِ:
12 - أَهْل الدِّيوَانِ هُمُ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ مِنَ الدِّيوَانِ عَطَاءً وَيَأْخُذُونَ مِنْهُ رِزْقًا. وَفِي بَيَانِ أَصْنَافِهِمْ وَشُرُوطِ إِثْبَاتِهِمْ فِي الدِّيوَانِ وَالضَّابِطِ لِلْمَصَارِفِ. تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْل الدِّيوَانِ) .
عَقْل الدِّيوَانِ عَنْ أَهْلِهِ:
13 - يَتَحَمَّل الدِّيوَانُ الدِّيَةَ الَّتِي تَجِبُ بِذَاتِ الْقَتْل إِذَا كَانَ الْقَاتِل وَاحِدًا مِنْ أَهْل الدِّيوَانِ. . عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ يُنْظَرُ فِي: (أَهْل الدِّيوَانِ، وَدِيَة، وَعَاقِلَة) .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 210 - 218، الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 253 - 257.(21/162)
دِيوَانُ الْقَاضِي:
14 - هُوَ مَا فِيهِ وَثَائِقُ النَّاسِ مِنَ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلاَّتِ وَغَيْرِهَا. وَأَوَّل مَا يَبْدَأُ بِهِ الْقَاضِي إِذَا تَقَلَّدَ أَنْ يَطْلُبَ دِيوَانَ الْقَاضِي قَبْلَهُ؛ لأَِنَّ الدِّيوَانَ وُضِعَ لِيَكُونَ حُجَّةً عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَيُجْعَل فِي يَدِ مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ الْقَضَاءِ؛ وَلأَِنَّهُ الأَْسَاسُ الَّذِي يَبْنِي عَلَيْهِ الْقَاضِي حُكْمَهُ، وَيَلْزَمُ الْقَاضِيَ السَّابِقَ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْقَاضِي الَّذِي خَلَفَهُ، لأَِنَّ الدِّيوَانَ كَانَ فِي يَدِهِ بِحُكْمِ الْوِلاَيَةِ، وَقَدْ صَارَتْ إِلَى الْقَاضِي الْجَدِيدِ (1) . وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل يُنْظَرُ: (قَضَاء) (2) .
دِيوَانُ الرَّسَائِل:
15 - اسْتُحْدِثَ هَذَا الدِّيوَانُ عِنْدَمَا ضَعُفَتِ اللُّغَةُ، وَفَسَدَتِ الأَْلْسُنُ، فَاحْتَاجَ أُولُو الأَْمْرِ إِلَى مَنْ يَكْتُبُ الْكُتُبَ عَنْهُمْ بِأَلْفَاظٍ بَلِيغَةٍ مُؤَثِّرَةٍ تَفِي بِالْمُرَادِ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 308، أدب القضاء: الدرر المنظومات في الأقضية والحكومات لابن أبي الدم ص 122، كشاف القناع 6 / 312.
(2) مقدمة ابن خلدون 2 / 618 ط لجنة البيان العربي.
(3) ترى اللجنة أن ترتيب الديوان من الأمور الإجرائية التنظيمية التي قد تتغير بالزمان أو المكان، والشرع لا يمنع ما تقتضيه المصلحة من تطوير في الديوان بحيث لا يخالف نصًّا أو مجمعًا عليه أو قاعدة، وبشرط أن لا يسبب ظلمًا أو فسادًا.(21/163)
ذَاتُ عِرْقٍ
التَّعْرِيفُ:
1 - ذَاتُ عِرْقٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ، مِيقَاتُ أَهْل الْعِرَاقِ وَمَنْ يَمُرُّ بِهَا مِنْ أَهْل الآْفَاقِ، وَهِيَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - يَتَّصِل بِذَاتِ عِرْقٍ أَلْفَاظٌ وَهِيَ: جَمِيعُ الْمَوَاقِيتِ الْمَعْرُوفَةِ، وَإِحْرَامٌ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (إِحْرَام، وَحَجّ، وَمِيقَات) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ مِيقَاتٌ لأَِهْل الْعِرَاقِ وَمَنْ يَمُرُّ بِهِ مِنْ أَهْل الآْفَاقِ. كَمَا لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ الإِْحْرَامَ مِنْهَا وَاجِبٌ عَلَى كُل مِنْ مَرَّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، قَاصِدًا مَكَّةَ لأَِدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ (الْحَجِّ
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات 3 / 114 ط. المكتبة العلمية، والمصباح مادة: " عرق ".(21/163)
وَالْعُمْرَةِ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ. (1)
وَأَمَّا مَنْ قَصَدَ مَكَّةَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَفِيهِ خِلاَفٌ (2) يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي " إِحْرَامٍ ".
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا فِي أَنَّ الْمَوَاقِيتَ الأَْرْبَعَةَ وَهِيَ ذُو الْحُلَيْفَةِ وَالْجُحْفَةُ، وَقَرْنُ الْمَنَازِل وَيَلَمْلَمُ، ثَابِتٌ تَوْقِيتُهَا بِالنَّصِّ.
وَأَمَّا ذَاتُ عِرْقٍ، فَفِي ثُبُوتِ كَوْنِهَا مِيقَاتًا بِالنَّصِّ أَوْ بِالاِجْتِهَادِ خِلاَفٌ. فَصَحَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْل عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَذَكَرَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ أَنَّ تَوْقِيتَهَا ثَابِتٌ بِالاِجْتِهَادِ، أَيْ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْل طَاوُوسٍ وَابْنِ سِيرِينَ (3)
__________
(1) حديث: " هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 384 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 838 - 839 ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(2) فتح الباري 3 / 384 ط الرياض، صحيح مسلم شرح النووي 8 / 83 ط. المصرية، تبيين الحقائق 2 / 6 - 7 ط. بولاق، الدسوقي 2 / 23 ط. الفكر، الكافي 1 / 388 ط. المكتب الإسلامي.
(3) بدائع الصنائع 2 / 164 ط. الجمالية، حاشية ابن عابدين 2 / 152 - 153 ط. بولاق، فتح القدير 2 / 131 ط. الأميرية، مواهب الجليل 3 / 32 ط. النجاح، جواهر الإكليل 1 / 169 ط. المعرفة، روضة الطالبين 3 / 39 ط. المكتب الإسلامي، حاشية القليوبي 2 / 92 - 93 ط. الحلبي، نهاية المحتاج 3 / 252 ط. المكتبة الإسلامية، والمجموع 7 / 197 ط. السلفية، الأم 2 / 138 ط. المعرفة، كشاف القناع 2 / 400 ط. النصر، الكافي 1 / 388 ط. المكتب الإسلامي، المبدع 3 / 107 - 108 ط. المكتب الإسلامي، الإنصاف 3 / 424 - 25 ط. التراث، المغني 3 / 258 ط. الرياض، فتح الباري 3 / 390 ط. الرياض.(21/164)
احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِثُبُوتِهِ بِالنَّصِّ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا، مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يُسْأَل عَنِ الْمُهَل فَقَال: سَمِعْتُ - أَحْسِبُهُ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَال: مُهَل أَهْل الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَالطَّرِيقُ الآْخَرُ الْجُحْفَةُ، وَمُهَل أَهْل الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، وَمُهَل أَهْل نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ، وَمُهَل أَهْل الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ (1) . وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لأَِهْل الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ (2) . قَالُوا: وَالأَْحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ أَسَانِيدُ مُفْرَدَاتِهَا ضَعِيفَةً، فَمَجْمُوعُهَا يُقَوِّي بَعْضُهُ بَعْضَهَا، وَيَصِيرُ الْحَدِيثُ حَسَنًا
، وَيُحْتَجُّ بِهِ، وَيُحْمَل تَحْدِيدُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِاجْتِهَادِهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ تَحْدِيدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث جابر: " مهل أهل المدينة. . . . " أخرجه مسلم (2 / 841 - ط. الحلبي) .
(2) حديث عائشة: " وقت لأهل العراق ذات عرق. . . " أخرجه النسائي (5 / 125 - ط. المكتبة التجارية) .(21/164)
فَحَدَّدَهُ بِاجْتِهَادِهِ، فَوَافَقَ النَّصَّ (1) .
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِثُبُوتِهِ بِالاِجْتِهَادِ بِمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ (أَيِ الْبَصْرَةُ وَالْكُوفَةُ) أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ لأَِهْل نَجْدٍ قَرْنًا وَهُوَ جَوْرٌ (أَيْ مَيْلٌ) عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا قَال: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ، فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ (2) .
هَذَا وَالأَْحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِذَاتِ عِرْقٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ يَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ فِي الْحَجِّ وَيُبْحَثُ عَنْهَا أَيْضًا فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَام، وَمِيقَات) .
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي 8 / 86 ط. المصرية، المجموع 7 / 194، 197 ط. السلفية، المغني 3 / 258 ط. الرياض.
(2) فتح الباري 3 / 389 ط. الرياض، المجموع 7 / 197 ط. السلفية. وحديث ابن عمر: " لما فتح هذان المصران. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 389 - ط السلفية) .(21/165)
ذُؤَابَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الذُّؤَابَةِ فِي اللُّغَةِ: الضَّفِيرَةُ مِنَ الشَّعْرِ إِذَا كَانَتْ مُرْسَلَةً، وَطَرَفُ الْعِمَامَةِ، وَالْجَمْعُ الذُّؤَابَاتُ وَالذَّوَائِبُ (1) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الذُّؤَابَةَ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَقِيصَةُ:
2 - الْعَقِيصَةُ هِيَ الضَّفِيرَةُ مِنَ الشَّعْرِ إِذَا كَانَتْ مَلْوِيَّةً. وَتَخْتَلِفُ الْعَقِيصَةُ عَنِ الذُّؤَابَةِ فِي أَنَّ الذُّؤَابَةَ هِيَ الضَّفِيرَةُ مِنَ الشَّعْرِ إِذَا كَانَتْ مُرْسَلَةً (3) .
ب - الضَّفِيرَةُ وَالضَّمِيرَةُ وَالْغَدِيرَةُ:
3 - قَال النَّوَوِيُّ نَقْلاً عَنِ الأَْزْهَرِيِّ: الضَّفَائِرُ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) كشاف القناع 1 / 57، 119.
(3) النهاية في غريب الحديث وكشاف القناع 1 / 75، والمختصر في الشمائل المحمدية (ص65) .(21/165)
وَالضَّمَائِرُ وَالْغَدَائِرُ هِيَ الذَّوَائِبُ إِذَا أُدْخِل بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ نَسْجًا (1) .
الْعَذَبَةُ:
4 - قَال الْقَسْطَلاَّنِيُّ: الْعَذَبَةُ الطَّرَفُ، كَعَذَبَةِ السَّوْطِ وَاللِّسَانِ أَيْ: طَرَفِهِمَا.
فَالطَّرَفُ الأَْعْلَى يُسَمَّى عَذَبَةً مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِلاِصْطِلاَحِ الْعُرْفِيِّ الآْنَ (2) .
وَالذُّؤَابَةُ شَرْعًا: هِيَ طَرَفُ الْعِمَامَةِ الْمُرْسَل عَلَى الْعُنُقِ فَأَسْفَل، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرْسَل الطَّرَفَ الأَْعْلَى أَوِ الأَْسْفَل (3) .
فَالْعَذَبَةُ بِالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيِّ وَالذُّؤَابَةُ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، إِذِ الذُّؤَابَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هِيَ طَرَفُ الْعِمَامَةِ الْمُرْخَى (4) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالذُّؤَابَةِ:
أَوَّلاً: بِمَعْنَى الضَّفِيرَةِ:
1 - جَعْل الشَّعْرِ ذُؤَابَةً:
5 - اتِّخَاذُ شَعْرِ الرَّأْسِ أَفْضَل مِنْ إِزَالَتِهِ (5) ، إِلاَّ أَنْ يَشُقَّ إِكْرَامُهُ، وَيَنْتَهِي لِرَجُلٍ إِلَى أُذُنَيْهِ، أَوْ
__________
(1) لسان العرب والمصباح مادة: " ضفر "، و " غدر "، و " ضمر "، والمجموع للنووي 2 / 187، وانظر الشمائل المحمدية ص 65.
(2) إرشاد الساري 8 / 428.
(3) الدين الخالص لمحمود السبكي 6 / 227، وانظر روضة الطالبين 2 / 69، والحطاب 1 / 541.
(4) كشاف القناع 1 / 119.
(5) المغني 1 / 88 ط الرياض، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 350، ونيل الأوطار 1 / 122 ط. العثمانية، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 8 / 294 ط. ملتان.(21/166)
إِلَى مَنْكِبَيْهِ كَشَعْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) وَلاَ بَأْسَ بِزِيَادَةٍ عَلَى الْمَنْكِبَيْنِ وَجَعْلِهِ ذُؤَابَةً (2) . فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ: قَدِمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ قَدْمَةً وَلَهُ أَرْبَعُ غَدَائِرَ. (3)
قَال صَاحِبُ الْمِرْقَاةِ: الْغَدَائِرُ جَمْعُ غَدِيرَةٍ بِمَعْنَى ضَفِيرَةٍ، وَيُقَال لَهَا ذُؤَابَةٌ أَيْضًا (4) .
2 - نَقْضُ الذَّوَائِبِ عِنْدَ الْغُسْل:
6 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُنْقَضَ ضَفَائِرُهَا وَتُبَل ذَوَائِبُهَا عِنْدَ الْغُسْل إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ أُصُول شَعْرِهَا؛ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْل الْجَنَابَةِ؟ قَال: لاَ، إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلاَثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَفَأَنْقُضُهُ لِلْحَيْضَةِ وَالْجَنَابَةِ فَقَال: لاَ (5) وَلأَِنَّ
__________
(1) حديث: ورد من حديث أنس: " كان يضرب شعر رأس النبي صلى الله عليه وسلم منكبيه " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 356 - ط. السلفية) ، ومسلم (4 / 1819 - ط. الحلبي) .
(2) مطالب أولي النهى (1 / 85، 86) ، وكشاف القناع 1 / 75.
(3) حديث أم هانئ: " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة. . . " أخرجه الترمذي (4 / 246 - ط. الحلبي) ، وأعله الترمذي بالانقطاع بين مجاهد وأم هانئ.
(4) مرقاة المفاتيح شرح المشكاة 8 / 301.
(5) حديث أم سلمة: " إني امرأة أشد ضفر رأسي. . . ". أخرجه مسلم (1 / 259 - 260 ط. الحلبي) بروايتيه.(21/166)
فِي النَّقْضِ عَلَيْهَا حَرَجًا، وَفِي الْحَلْقِ مُثْلَةً فَسَقَطَ (1) .
وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِسُقُوطِ وُجُوبِ نَقْضِ الشَّعْرِ الْمَضْفُورِ بِجَانِبِ كَوْنِ الشَّعْرِ رَخْوًا بِحَيْثُ يَدْخُل الْمَاءُ وَسْطَهُ أَنْ يَكُونَ مَضْفُورًا بِنَفْسِهِ أَوَبِخَيْطٍ أَوْ خَيْطَيْنِ (2) .
أَمَّا مَا ضُفِرَ مِنَ الشَّعْرِ بِخُيُوطٍ كَثِيرَةٍ فَيَجِبُ نَقْضُهَا فِي الْوُضُوءِ، وَكَذَا فِي الْغُسْل اشْتَدَّتْ أَمْ لاَ، كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ نَقْضُ الضَّفْرِ إِذَا اشْتَدَّ بِنَفْسِهِ فِي الْغُسْل خَاصَّةً، وَأَمَّا الْخَيْطُ وَالْخَيْطَانِ فَلاَ يَضُرَّانِ فِي وُضُوءٍ وَلاَ غُسْلٍ إِلاَّ أَنْ يَشْتَدَّا (3) .
قَال الْحَنَابِلَةُ: تَنْقُضُ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا لِغُسْلِهَا مِنَ الْحَيْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا نَقْضُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ إِذَا أَرْوَتْ أُصُولَهُ، وَهَذَا مَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الْحَسَنِ وَطَاوُوسٍ.
قَال مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنِ الْمَرْأَةِ تَنْقُضُ شَعْرَهَا إِذَا اغْتَسَلَتْ مِنَ الْجَنَابَةِ؟ فَقَال: لاَ، فَقُلْتُ لَهُ: فِي هَذَا شَيْءٌ؟ قَال: نَعَمْ - حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ (4) . قُلْتُ: فَتَنْقُضُ
__________
(1) البناية 1 / 262، 263، والزيلعي 1 / 14، فتح القدير 1 / 40 ط. الأميرية، والفتاوى الخانية بهامش الهندية 1 / 33، 34، المجموع 2 / 186، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 188، 189 نشر دار المعرفة.
(2) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 189 م.
(3) الزرقاني 1 / 59.
(4) الحديث تقدم ف / 5.(21/167)
شَعْرَهَا مِنَ الْحَيْضِ؟ قَال: نَعَمْ، قُلْتُ لَهُ: وَكَيْفَ تَنْقُضُهُ مِنَ الْحَيْضَةِ وَلاَ تَنْقُضُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ؟ فَقَال: حَدِيثُ أَسْمَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: " لاَ تَنْقُضُهُ ".
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّهُ لاَ يَجِبُ نَقْضُ الشَّعْرِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَأَمَّا نَقْضُهُ لِلْغُسْل مِنَ الْحَيْضِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهُ وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ وَطَاوُوسٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهَا، إِذَا كَانَتْ حَائِضًا: انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي (1) وَلاَ يَكُونُ الْمُشْطُ إِلاَّ فِي شَعْرٍ غَيْرِ مَضْفُورٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: انْقُضِي شَعْرَكِ وَاغْتَسِلِي؛ وَلأَِنَّ الأَْصْل وُجُوبُ نَقْضِ الشَّعْرِ لِيَتَحَقَّقَ وُصُول الْمَاءِ إِلَى مَا يَجِبُ غَسْلُهُ فَعُفِيَ عَنْهُ فِي غُسْل الْجَنَابَةِ؛ لأَِنَّهُ يَكْثُرُ فَيَشُقُّ ذَلِكَ فِيهِ وَالْحَيْضُ بِخِلاَفِهِ فَبَقِيَ عَلَى مُقْتَضَى الأَْصْل فِي الْوُجُوبِ، وَقَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: هَذَا مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (2) .
__________
(1) حديث: " انقضى رأسك وامتشطي " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 417 - ط. السلفية) ، ومسلم (2 / 870 - ط الحلبي) من حديث عائشة، والرواية الأخرى: " انقضي شعرك واغتسلي " في سنن ابن ماجه (1 / 210 - ط الحلبي) .
(2) المغني 1 / 225 - 227، وكشاف القناع 1 / 154، والمجموع 2 / 187.(21/167)
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - فِيمَا هُوَ مُقَابِلٌ لِلصَّحِيحِ - أَنَّهُ قَال: إِنَّ الْمَرْأَةَ تُسْبِل ذَوَائِبَهَا ثَلاَثًا مَعَ كُل بِلَّةٍ عَصْرَةٌ لِيَبْلُغَ الْمَاءُ شُعَبَ قُرُونِهَا (1) .
وَقَال ابْنُ الْهُمَامِ وَالْعَيْنِيُّ: وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ لِلْحَصْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ (2) . قَال النَّخَعِيُّ: يَجِبُ نَقْضُ الضَّفَائِرِ بِكُل حَالٍ (3) .
هَذَا، وَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ شَعْرٌ مَضْفُورٌ فَهُوَ كَالْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ نَقْضُ شَعْرِهِ إِذَا كَانَ رَخْوًا بِحَيْثُ يَدْخُل الْمَاءُ وَسْطَهُ (4) . وَقَال الصَّدْرُ الشَّهِيدُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا أَضْفَرَ الرَّجُل شَعْرَهُ يَجِبُ إِيصَال الْمَاءِ إِلَى انْتِهَاءِ الشَّعْرِ قَال الْعَيْنِيُّ: وَالاِحْتِيَاطُ إِيصَال الْمَاءِ (5) .
ثَانِيًا - بِمَعْنَى طَرَفِ الْعِمَامَةِ:
1 - إِرْخَاءُ الذُّؤَابَةِ
7 - إِرْخَاءُ الذُّؤَابَةِ مِنَ السُّنَّةِ (6) ، فَقَدْ جَاءَ فِي
__________
(1) البناية 1 / 263، والعناية بهامش فتح القدير 1 / 40.
(2) البناية 1 / 262، وفتح القدير 1 / 40، 41.
(3) البناية 1 / 262، والمجموع 2 / 187.
(4) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 189، والمجموع 2 / 187، والمغني 1 / 226، والبناية 1 / 262.
(5) البناية 1 / 262.
(6) الآداب الشرعية 3 / 536، وكشاف القناع 1 / 119، وابن عابدين 5 / 481، والاختيار 4 / 178، ومواهب الجليل 1 / 541، وحاشية الجمل 2 / 89.(21/168)
إِرْخَاءِ الذُّؤَابَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا صَحِيحٌ وَمِنْهَا حَسَنٌ، نَاصَّةٌ عَلَى فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإِِرْخَاءِ الذُّؤَابَةِ لِنَفْسِهِ وَلِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَعَلَى أَمْرِهِ بِهِ (1) .
فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اعْتَمَّ سَدَل عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ (2) .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَال: عَمَّمَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَدَلَهَا مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي (3) .
قَال ابْنُ رَسْلاَنَ فِي شَرْحِ السُّنَنِ عِنْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَهِيَ الَّتِي صَارَتْ شِعَارَ الصَّالِحِينَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِالسُّنَّةِ، يَعْنِي إِرْسَال الْعِمَامَةِ عَلَى الصَّدْرِ. وَقَال: وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنِ الْعِمَامَةِ الْمُقَعَّطَةِ (4) . قَال أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُقَعَّطَةُ:
__________
(1) حاشية الجمل 2 / 89.
(2) حديث: " كان إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه " أخرجه الترمذي (4 / 235 - ط الحلبي) ، وقال: " حديث حسن غريب ".
(3) حديث عبد الرحمن بن عوف: " عممني رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه أبو داود (4 / 341 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وذكر المنذري في مختصره أنَّ في إسناده جهالة. مختصر السنن (6 / 45 - نشر دار المعرفة) .
(4) قوله: وفي الحديث النهي عن العمامة المقعطة. ورد فيه ما ذكره أبو عبيد في غريب الحديث (3 / 120 - ط دائرة المعارف العثمانية) : " في حديثه - عليه الصلاة والسلام - أنه أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط " ولم يذكر له إسنادًا.(21/168)
الَّتِي لاَ ذُؤَابَةَ لَهَا وَلاَ حَنَكَ (1) .
قَال النَّوَوِيُّ: يَجُوزُ لُبْسُ الْعِمَامَةِ بِإِرْسَال طَرَفِهَا وَبِغَيْرِ إِرْسَالِهِ، وَلاَ كَرَاهَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْيِ عَنْ تَرْكِ إِرْسَالِهَا شَيْءٌ (2) .
وَقَدِ اسْتَدَل عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الْعَذَبَةِ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ (3) بِدُونِ ذِكْرِ الذُّؤَابَةِ، قَال: فَدَل عَلَى أَنَّ الذُّؤَابَةَ لَمْ يَكُنْ يُرْخِيهَا دَائِمًا بَيْنَ كَتِفَيْهِ (4) .
كَيْفِيَّةُ إِرْخَاءِ الذُّؤَابَةِ
8 - لَقَدْ وَرَدَتْ عِدَّةُ أَحَادِيثَ فِي كَيْفِيَّةِ إِرْخَاءِ الذُّؤَابَةِ:
فَمِنْهَا مَا يَدُل عَلَى إِرْخَائِهَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ وَحَدِيثِ أَبِي مُوسَى إِنَّ جَبْرَائِيل نَزَل عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْخَى ذُؤَابَتَهُ مِنْ وَرَائِهِ (5) .
__________
(1) نيل الأوطار 2 / 108، 109 ط. العثمانية.
(2) روضة الطالبين 2 / 69، ونيل الأوطار 2 / 110، وتحفة الأحوذي 5 / 414.
(3) حديث جابر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء " أخرجه مسلم (2 / 990 - ط. الحلبي) .
(4) نيل الأوطار 2 / 109، وتحفة الأحوذي 5 / 413.
(5) تحفة الأحوذي 5 / 411، 412. وحديث أبي موسى: أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء. أورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5 / 120 - ط القدسي) وقال: " رواه الطبراني، وفيه عبيد الله بن تمام، وهو ضعيف ".(21/169)
وَبِاسْتِحْبَابِ إِرْخَاءِ الذُّؤَابَةِ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ يَقُول الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَمِنَ الأَْحَادِيثِ مَا يَدُل عَلَى إِرْخَاءِ الذُّؤَابَةِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعْتَمِّ وَمِنْ خَلْفِهِ كَحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَال: عَمَّمَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَدَلَهَا مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي (2) .
وَسُئِل مَالِكٌ عَنْ إِرْخَاءِ الْعِمَامَةِ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ قَال: لَمْ أَرَ أَحَدًا مِمَّنْ أَدْرَكْتُهُ يُرْخِي بَيْنَ كَتِفَيْهِ إِلاَّ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَرَامٍ وَلَكِنْ يُرْسِلُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ أَكْمَل (3) .
كَمَا أَنَّ هُنَاكَ أَحَادِيثَ تَدُل عَلَى إِرْخَاءِ الذُّؤَابَةِ مِنَ الْجَانِبِ الأَْيْمَنِ كَحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُوَلِّي وَالِيًا حَتَّى يُعَمِّمَهُ وَيُرْخِيَ لَهَا مِنْ جَانِبِهِ الأَْيْمَنِ نَحْوَ الأُْذُنِ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 481، والزيلعي 6 / 229، وحاشية الجمل 2 / 89، وكشاف القناع 1 / 119، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 536، وصحيح الترمذي بشرح ابن العربي المالكي 7 / 243.
(2) الحديث تقدم ف 7.
(3) عمدة القاري 21 / 307.
(4) حديث أبي أمامة: " كان لا يولي واليًا حتى يعممه ". أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (8 / 170 - ط وزارة الأوقاف العراقية) ، وأورده الهيثمي في المجمع (5 / 120 - ط القدسي) ، وقال: رواه الطبراني، وفيه جميع بن ثوب، وهو متروك.(21/169)
أَمَّا إِرْخَاءُ الذُّؤَابَةِ مِنَ الْجَانِبِ الأَْيْسَرِ فَقَدْ قَال الْحَافِظُ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ: الْمَشْرُوعُ مِنَ الأَْيْسَرِ، وَلَمْ أَرَ مَا يَدُل عَلَى تَعْيِينِ الأَْيْمَنِ إِلاَّ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ - الْمَذْكُورِ آنِفًا - بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ. وَقَال: وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَلَعَلَّهُ كَانَ يُرْخِيهَا مِنَ الْجَانِبِ الأَْيْمَنِ ثُمَّ يَرُدُّهَا مِنَ الْجَانِبِ الأَْيْسَرِ (1) .
2 - مِقْدَارُ الذُّؤَابَةِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ الذُّؤَابَةِ: مِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَ ذَلِكَ بِشِبْرٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال إِلَى وَسَطِ الظَّهْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَال إِلَى مَوْضِعِ الْجُلُوسِ (2) .
وَقَال بَعْضُ الْحُفَّاظِ: أَقَل مَا وَرَدَ فِي طُول الذُّؤَابَةِ أَرْبَعُ أَصَابِعَ، وَأَكْثَرُ مَا وَرَدَ ذِرَاعٌ، وَبَيْنَهُمَا شِبْرٌ (3) . هَذَا وَإِطَالَةُ الذُّؤَابَةِ كَثِيرًا مِنَ الإِْسْبَال الْمَنْهِيِّ عَنْهُ (4) .
قَال النَّوَوِيُّ وَالْجَمَل مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِرْسَال
__________
(1) إرشاد الساري للقسطلاني 8 / 428.
(2) تبيين الحقائق 6 / 229، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 537.
(3) حاشية الجمل 2 / 89.
(4) الآداب الشرعية 3 / 537، وروضة الطالبين 2 / 69، وكشاف القناع 1 / 277.(21/170)
الْعَذَبَةِ إِرْسَالاً فَاحِشًا كَإِرْسَال الثَّوْبِ يَحْرُمُ لِلْخُيَلاَءِ وَيُكْرَهُ لِغَيْرِهِ (1) .
فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الإِْسْبَال فِي الإِْزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ، مَنْ جَرَّ مِنْهَا شَيْئًا خُيَلاَءَ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2) .
قَال ابْنُ بَطَّالٍ: وَإِسْبَال الْعِمَامَةِ الْمُرَادُ بِهِ إِرْسَال الْعَذَبَةِ زَائِدًا عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَقَدْ نَقَل الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ الْعُلَمَاءِ كَرَاهَةَ كُل مَا زَادَ عَلَى الْعَادَةِ وَعَلَى الْمُعْتَادِ فِي اللِّبَاسِ مِنَ الطُّول وَالسَّعَةِ. قَال الصَّنْعَانِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ بِالْمُعْتَادِ مَا كَانَ فِي عَصْرِ النُّبُوَّةِ (3) .
__________
(1) نيل الأوطار 2 / 110 ط. العثمانية، وتحفة الأحوذي 5 / 413.
(2) حديث: " الإسبال في الإزار والقميص والعمامة " أخرجه النسائي (8 / 208 - ط المكتبة التجارية) من حديث عبد الله بن عمر، وصحح إسناده النووي في رياض الصالحين (ص 357 - ط الرسالة) .
(3) سبل السلام (4 / 309 نشر دار الكتاب العربي) .(21/170)
ذَبَائِحُ
(1)
التَّعْرِيفُ:
1 - الذَّبَائِحُ جَمْعُ ذَبِيحَةٍ - وَهِيَ الْحَيَوَانُ الْمَذْبُوحُ - مَأْخُوذَةٌ مِنَ الذَّبْحِ - بِفَتْحِ الذَّال - وَهُوَ مَصْدَرُ ذَبَحَ يَذْبَحُ كَمَنَعَ يَمْنَعُ.
وَيُطْلَقُ الذَّبْحُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الشَّقِّ وَهُوَ الْمَعْنَى الأَْصْلِيُّ، ثُمَّ اسْتُعْمِل فِي قَطْعِ الْحُلْقُومِ مِنْ بَاطِنٍ عِنْدَ النَّصِيل، وَهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ، وَالْحُلْقُومُ هُوَ مَجْرَى النَّفَسِ - بِفَتْحِ الْفَاءِ - وَالْمُرَادُ بِالْبَاطِنِ مُقَدَّمُ الْعُنُقِ، وَالنَّصِيل - بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الصَّادِ - مَفْصِل مَا بَيْنَ الْعُنُقِ وَالرَّأْسِ تَحْتَ اللَّحْيَيْنِ (2) .
وَلِلذَّبْحِ فِي الاِصْطِلاَحِ ثَلاَثَةُ مَعَانٍ:
(الأَْوَّل) الْقَطْعُ فِي الْحَلْقِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ مِنَ الْعُنُقِ " وَاللَّبَّةُ " بِفَتْحِ اللاَّمِ هِيَ الثُّغْرَةُ بَيْنَ التَّرْقُوَتَيْنِ أَسْفَل الْعُنُقِ
__________
(1) هذه الترجمة للحنفية والشافعية، وترجمة المالكية والحنابلة (بالذكاة) .
(2) القاموس المحيط، ولسان العرب، والمصباح المنير، والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، مادة: (ذبح) .(21/171)
" وَاللَّحْيَانِ " مُثَنَّى اللَّحْيِ بِفَتْحِ اللاَّمِ وَهُمَا الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ يَلْتَقِيَانِ فِي الذَّقَنِ، وَتَنْبُتُ عَلَيْهِمَا الأَْسْنَانُ السُّفْلَى.
وَالْفُقَهَاءُ يُرِيدُونَ هَذَا الْمَعْنَى حِينَ يَقُولُونَ مَثَلاً: (يُسْتَحَبُّ فِي الْغَنَمِ وَنَحْوِهَا الذَّبْحُ (1)) أَيْ أَنْ تُقْطَعَ فِي حَلْقِهَا لاَ فِي لَبَّتِهَا.
(الثَّانِي) الْقَطْعُ فِي الْحَلْقِ أَوِ اللَّبَّةِ وَهَذَا أَعَمُّ مِنَ الأَْوَّل لِشُمُولِهِ الْقَطْعَ فِي اللَّبَّةِ، وَالْفُقَهَاءُ يُرِيدُونَ هَذَا الْمَعْنَى حِينَمَا يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَيَاةَ الْمُسْتَقِرَّةَ هِيَ مَا فَوْقَ حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ وَهِيَ الْحَرَكَةُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي يَتَحَرَّكُهَا الْحَيَوَانُ حِينَمَا يُقَارِبُ الْمَوْتَ بَعْدَ الْقَطْعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الْقَطْعُ فِي حَلْقِهِ أَمْ فِي لَبَّتِهِ (2) وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (3) فَإِنَّهُ يَشْمَل مَا قُطِعَ فِي حَلْقِهِ وَمَا قُطِعَ فِي لَبَّتِهِ.
(الثَّالِثُ) : مَا يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى حِل الْحَيَوَانِ سَوَاءٌ أَكَانَ قَطْعًا فِي الْحَلْقِ أَمْ فِي اللَّبَّةِ مِنْ حَيَوَانٍ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، أَمْ إِزْهَاقًا لِرَوْحِ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ بِإِصَابَتِهِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ جَسَدِهِ بِمُحَدَّدٍ أَوَبِجَارِحَةٍ مُعَلَّمَةٍ.
وَهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنْ سَابِقَيْهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْل الْفُقَهَاءِ (لاَ تَحِل ذَبِيحَةُ الْمُشْرِكِ) فَالْمُرَادُ كُل
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 60.
(2) بدائع الصنائع 5 / 51.
(3) سورة المائدة / 3.(21/171)
مَا أَصَابَهُ الْمُشْرِكُ فِي حَلْقِهِ أَوْ لَبَّتِهِ إِنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، أَوْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ جَسَدِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النَّحْرُ:
2 - يُسْتَعْمَل النَّحْرُ فِي اللُّغَةِ اسْمًا وَمَصْدَرًا وَذَلِكَ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى أَعْلَى الصَّدْرِ وَمَوْضِعِ الْقِلاَدَةِ مِنْهُ وَالصَّدْرِ كُلِّهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الطَّعْنِ فِي لَبَّةِ الْحَيَوَانِ، لأَِنَّهَا مُسَامِتَةٌ لأَِعْلَى صَدْرِهِ، يُقَال: نَحَرَ الْبَعِيرَ يَنْحَرُهُ نَحْرًا (2) .
وَالنَّحْرُ فِي الاِصْطِلاَحِ الطَّعْنُ فِي اللَّبَّةِ أَيْضًا فَهُوَ مُقَابِلٌ لِلذَّبْحِ بِمَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ الأَْوَّل، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل الْفُقَهَاءِ (يُسْتَحَبُّ فِي الإِْبِل النَّحْرُ، وَفِي الْغَنَمِ وَنَحْوِهَا الذَّبْحُ (3)) .
ب - الْعَقْرُ:
3 - الْعَقْرُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْقَافِ لُغَةً: ضَرْبُ قَوَائِمِ الْبَعِيرِ أَوِ الشَّاةِ بِالسَّيْفِ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ الْعَرَبُ حَتَّى اسْتَعْمَلُوهُ فِي الْقَتْل وَالإِْهْلاَكِ، وَرُبَّمَا اسْتَعْمَلُوهُ فِي النَّحْرِ خَاصَّةً؛
__________
(1) وصرح الشافعية بإرادة هذا المعنى العام حينما تكلموا في أول موضوع الذبائح عن تعريف الذبح وأركانه. ر: شرح منهج الطلاب بحاشية البجيرمي 4 / 285.
(2) اللسان، والقاموس، وتاج العروس مادة: (نحر) .
(3) بدائع الصنائع 5 / 60.(21/172)
لأَِنَّ نَاحِرَ الإِْبِل كَانَ يَضْرِبُ إِحْدَى قَوَائِمِهَا ثُمَّ يَنْحَرُهَا (1) .
وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى الإِْصَابَةِ الْقَاتِلَةِ لِلْحَيَوَانِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ مِنْ بَدَنِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِالسَّهْمِ أَمْ بِجَوَارِحِ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ (2) .
ج - الْجَرْحُ
4 - الْجَرْحُ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْكَسْبِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} (3) . وَعَلَى التَّأْثِيرِ فِي الشَّيْءِ بِالسِّلاَحِ (4) ، وَيُطْلَقُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ عَلَى مَعْنَى " الْعَقْرِ " الْمُتَقَدِّمِ (5) .
د - الصَّيْدُ:
5 - الصَّيْدُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ صَادَ الْوَحْشَ أَوِ الطَّيْرَ أَوِ السَّمَكَ، إِذَا أَمْسَكَهَا بِالْمِصْيَدَةِ (6) أَوْ أَخَذَهَا، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا صِيدَ، وَعَلَى مَا يُصَادُ،
__________
(1) اللسان مادة: (عقر) .
(2) البدائع 5 / 43.
(3) سورة الأنعام / 60.
(4) اللسان مادة: (جرح) .
(5) البدائع 5 / 43.
(6)
(المصيدة) بكسر الميم وسكون الصاد وبفتح الميم وسكون الصاد وبفتح الميم وكسر الصاد: آلة الصيد، والمقصود بالإمساك إزالة المنعة بالقبض أو الحبس أو التعجيز أو القتل أو غير ذلك.(21/172)
أَيْ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُصَادَ لاِمْتِنَاعِهِ بِشِدَّةِ الْعَدْوِ أَوِ الطَّيَرَانِ أَوِ الْغَوْصِ. وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ مَصْدَرًا، وَبِمَعْنَى مَا صِيدَ وَمَا يُصَادُ أَيْضًا، لَكِنَّهُمْ حِينَمَا يَسْتَعْمِلُونَهُ مَصْدَرًا يُطْلِقُونَهُ تَارَةً عَلَى إِزَالَةِ مَنَعَةِ مَا كَانَ مُمْتَنِعًا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَتَارَةً عَلَى إِزْهَاقِ رَوْحِ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ الْمُتَوَحِّشِ بِإِرْسَال نَحْوِ سَهْمٍ أَوْ كَلْبٍ أَوْ صَقْرٍ، فَيُرَادِفُ " الْعَقْرَ " الْمُتَقَدِّمَ، وَحِينَمَا يَسْتَعْمِلُونَهُ بِمَعْنَى مَا صِيدَ يَقْصِدُونَ بِهِ تَارَةً مَا أُزِيلَتْ مَنَعَتُهُ، وَتَارَةً مَا أُزْهِقَتْ رُوحُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ الْمُتَوَحِّشِ. . . إِلَخْ، وَحِينَمَا يَسْتَعْمِلُونَهُ بِمَعْنَى مَا يُصَادُ يُرِيدُونَ بِهِ الْحَيَوَانَ الْبَرِّيَّ الْمُتَوَحِّشَ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْد) .
هـ - التَّذْكِيَةُ:
6 - التَّذْكِيَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ ذَكَّيْتُ الْحَيَوَانَ أَيْ ذَبَحْتُهُ أَوْ نَحَرْتُهُ، وَالذَّكَاةُ: اسْمُ الْمَصْدَرِ. وَمَعْنَاهَا إِتْمَامُ الشَّيْءِ وَالذَّبْحِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ السَّبَبُ الْمُوَصِّل لِحِل أَكْل الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ اخْتِيَارًا (2) .
وَتُعْرَفُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا السَّبِيل الشَّرْعِيَّةُ لِبَقَاءِ طَهَارَةِ الْحَيَوَانِ وَحِل أَكْلِهِ إِنْ كَانَ مَأْكُولاً،
__________
(1) لسان العرب، والقاموس المحيط، والمفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني مادة: (ذكا) .
(2) الشرح الصغير بهامش بلغة السالك 1 / 312.(21/173)
وَحِل الاِنْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ وَشَعْرِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ (1) .
أَثَرُ الذَّكَاةِ فِي الْحَيَوَانِ:
7 - الْحَيَوَانُ نَوْعَانِ مَأْكُولٌ وَغَيْرُ مَأْكُولٍ وَلِلذَّكَاةِ أَثَرٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا.
أ - أَثَرُ الذَّكَاةِ فِي الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَأْكُول:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الَّذِي لاَ يُؤْكَل:
1 - إِنْ كَانَ نَجَسًا حَيًّا وَمَيِّتًا كَالْخِنْزِيرِ لَمْ يَقْبَل
__________
(1) ها هنا مصححان للحنفية: أحدهما: أن الحيوان غير المأكول يبقى طهره جلدًا ولحمًا بالتذكية ولو اضطرارية، والثاني: أن اللحم لا يبقى طهره، وجزم صاحبا الهداية والكنز بعدم التفضيل بين اللحم والجلد فكلاهما يبقى طهره، قال ابن عابدين: " التفصيل أصح ما يفتى به "(21/173)
الذَّكَاةَ؛ لأَِنَّهَا إِنَّمَا تُفِيدُ بَقَاءَ الطُّهْرِ وَلاَ تَقْلِبُ النَّجَسَ طَاهِرًا.
2 - وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا حَيًّا وَمَيِّتًا - وَهُوَ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ كَالنَّمْل وَالنَّحْل - فَلاَ حَاجَةَ إِلَى تَذْكِيَتِهِ؛ لأَِنَّ طُهْرَهُ بَاقٍ.
3 - وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ نَجَسًا بِالْمَوْتِ كَالْحِمَارِ الأَْهْلِيِّ فَهُوَ صَالِحٌ لِلتَّذْكِيَةِ وَلَهَا فِيهِ أَثَرَانِ:
الأَْوَّل: بَقَاءُ طُهْرِهِ وَلَوْلاَ التَّذْكِيَةُ لَتَنَجَّسَ بِالْمَوْتِ.
وَالثَّانِي: حِل الاِنْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ وَشَعْرِهِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى دِبَاغٍ (1) . (ر: نَجَاسَة، دِبَاغ) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الذَّكَاةَ لاَ تَعْمَل فِي غَيْرِ الْمَأْكُول (2) لَكِنْ يُسْتَحَبُّ ذَكَاةُ مَا لاَ يُؤْكَل إِنْ أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ بِمَرَضٍ أَوْ عَمًى بِمَكَانٍ لاَ عَلَفَ فِيهِ، وَلاَ يُرْجَى أَخْذُ أَحَدٍ لَهُ، وَهَذِهِ الذَّكَاةُ لَيْسَتْ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ لأَِنَّهَا لِلإِْرَاحَةِ لاَ لِلتَّطْهِيرِ (3) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِتَحْرِيمِ ذَبْحِ غَيْرِ الْمَأْكُول وَلَوْ لإِِرَاحَةٍ، لَكِنْ لَوِ اضْطُرَّ إِنْسَانٌ لأَِكْلِهِ كَانَ ذَبْحُهُ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْقَتْل؛ لأَِنَّهُ أَسْهَل لِخُرُوجِ الرُّوحِ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 85، 86، الدر المختار على حاشية ابن عابدين 5 / 196.
(2) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 19، 321.
(3) الخرشي على خليل بحاشية العدوي 2 / 316.
(4) البجيرمي على الإقناع 4 / 248.(21/174)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَطْهُرُ جِلْدُ غَيْرِ الْمَأْكُول بِالذَّكَاةِ لأَِنَّهَا ذَكَاةٌ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ (1) .
ب - أَثَرُ الذَّكَاةِ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول:
9 - الْحَيَوَانُ الْمَأْكُول إِنْ كَانَ سَمَكًا أَوْ جَرَادًا فَلاَ حَاجَةَ إِلَى تَذْكِيَتِهِ؛ لأَِنَّ مَيْتَتَهُمَا طَاهِرَةٌ حَلاَلٌ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَال (2) . وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِل مَيْتَتُهُ. (3)
وَأَمَّا سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ الْبَحْرِيَّةِ غَيْرَ السَّمَكِ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ تُؤْكَل وَلَوْ بِغَيْرِ تَذْكِيَةٍ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ تُؤْكَل أَصْلاً وَلَوْ ذُكِّيَتْ. وَسَائِرُ مَا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ يُؤْكَل عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلَوْ بِلاَ تَذْكِيَةٍ. (وَانْظُرْ: أَطْعِمَة) .
وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يَحِل إِلاَّ بِالتَّذْكِيَةِ.
__________
(1) المقنع 1 / 21.
(2) حديث: " أحلت لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالحوت. . . . " أخرجه أحمد (2 / 97 - ط الميمنية) ، والبيهقي (10 / 7 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصحح الدارقطني وقفه كما في التلخيص (1 / 26 - شركة الطباعة الفنية) ، وكذا تبعه البيهقي.
(3) حديث: " هو الطهور ماؤه، الحل ميتته " أخرجه أبو داود (1 / 64 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (1 / 101 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وصححه البخاري كما في التلخيص الحبير (1 / 9 - ط شركة الطباعة الفنية) .(21/174)
وَإِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ الْمَأْكُول بَرِّيًّا ذَا نَفْسٍ سَائِلَةٍ فَهُوَ صَالِحٌ لِلذَّكَاةِ.
وَلَهَا فِيهِ ثَلاَثَةُ آثَارٍ:
الأَْوَّل: بَقَاءُ طُهْرِهِ، وَالثَّانِي: حِل الاِنْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ وَشَعْرِهِ دُونَ دِبَاغٍ، وَالثَّالِثُ: حِل أَكْلِهِ (1) .
تَقْسِيمُ الذَّكَاةِ:
10 - سَبَقَ أَنَّ الذَّكَاةَ لَهَا أَثَرٌ فِي الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ الطَّاهِرِ الَّذِي لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مَأْكُولاً أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (2) . وَالْحَيَوَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ كَالْمُسْتَأْنَسِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطُّيُورِ، أَوْ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَوْحِشِ مِنْهَا.
وَلِهَذَا كَانَتِ الذَّكَاةُ نَوْعَيْنِ:
(الأَْوَّل) : الذَّبْحُ أَوِ النَّحْرُ عَلَى حَسَبِ نَوْعِ الْحَيَوَانِ إِنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ. (الثَّانِي) : الصَّيْدُ بِالرَّمْيِ أَوْ بِإِرْسَال الْجَارِحَةِ عِنْدَ امْتِنَاعِ الْحَيَوَانِ وَتَوَحُّشِهِ بِالطَّيَرَانِ أَوِ الْعَدْوِ،
__________
(1) الدر المختار بحاشية ابن عابدين 5 / 186، ونهاية المحتاج 8 / 105، 107، والمقنع 3 / 534، والخرشي على خليل بحاشية العدوي 2 / 323.
(2) إنما قيد بالبري؛ لأن السمك لا ذكاة له عند الجمهور. وقيد بالطاهر؛ لأن النجس كالخنزير لا ذكاة له إجماعًا. وقيد بالذي له نفس سائلة؛ لأن ما لا نفس سائلة له إن كان غير مأكول فلا ذكاة له اتفاقًا، وإن كان مأكولاً كالجراد فلا ذكاة له عند الجمهور. وقد علم هـ(21/175)
وَهُوَ كَالْبَدَل عَنِ الأَْوَّل، إِذْ لَمْ يُجِزْهُ الشَّارِعُ إِلاَّ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ رَحْمَةً بِالنَّاسِ وَرِعَايَةً لِحَاجَاتِهِمْ.
وَمِنْ هُنَا انْقَسَمَتِ الذَّكَاةُ إِلَى " اخْتِيَارِيَّةٍ " وَهِيَ النَّوْعُ الأَْوَّل " وَاضْطِرَارِيَّةٍ " وَهِيَ النَّوْعُ الثَّانِي. وَقَدِ انْفَرَدَ الْحَنَفِيَّةُ بِتَسْمِيَةِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ بِهَذَيْنِ الاِسْمَيْنِ (1) . وَسَمَّى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ النَّوْعَ الأَْوَّل ذَكَاةَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَالنَّوْعَ الثَّانِيَ ذَكَاةَ غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ (2) .
وَمَضَى أَنَّ هُنَاكَ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الذَّكَاةِ (3) هُوَ ذَكَاةُ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَبَقِيَ نَوْعٌ يَقُول بِهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ ذَكَاةُ الْجَنِينِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ
فَجُمْلَةُ الأَْنْوَاعِ اتِّفَاقًا وَاخْتِلاَفًا أَرْبَعَةٌ هِيَ: الذَّكَاةُ الاِخْتِيَارِيَّةُ، وَالذَّكَاةُ الاِضْطِرَارِيَّةُ، وَذَكَاةُ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ، وَذَكَاةُ الْجَنِينِ تَبَعًا لأُِمِّهِ.
النَّوْعُ الأَْوَّل مِنْ أَنْوَاعِ الذَّكَاةِ:
الذَّكَاةُ الاِخْتِيَارِيَّةُ:
أ - حَقِيقَتُهَا.
11 - حَقِيقَةُ الذَّكَاةِ الاِخْتِيَارِيَّةِ الذَّبْحُ فِيمَا يُذْبَحُ وَهُوَ مَا عَدَا الإِْبِل مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهَا،
__________
(1) البدائع 5 / 40.
(2) الإقناع بحاشية البجيرمي 4 / 246، 247.
(3) ر: ف / 9.(21/175)
وَالنَّحْرُ فِيمَا يُنْحَرُ وَهُوَ الإِْبِل خَاصَّةً، وَتَخْصِيصُ الذَّكَاةِ الاِخْتِيَارِيَّةِ بِالذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ وَاجِبٌ فَلاَ يَجُوزُ الْعُدُول عَنْهَا فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ بِلاَ خِلاَفٍ.
قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ لِمَنْ قَدَرَ، وَذَرِ الأَْنْفُسَ حَتَّى تَزْهَقَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: " الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ (1) . وَالْمَقْصُودُ بِالذَّكَاةِ فِي كَلاَمِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ذَكَاةُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ لِغَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ صِفَةً أُخْرَى ذُكِرَتْ فِي أَحَادِيثِ الصَّيْدِ.
وَتَخْصِيصُ الإِْبِل بِالنَّحْرِ وَمَا عَدَاهَا بِالذَّبْحِ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ وَاجِبٌ، وَوَجْهُ اسْتِحْبَابِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الإِْبِل النَّحْرَ، وَفِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحَ فَقَال: {فَصَل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) . وَقَال: {إِنَّ اللَّهَ
__________
(1) أثر عمر بن الخطاب وابن عباس أخرجهما عبد الرزاق في المصنف (4 / 495 - ط المجلس العلمي) . وورد في معناهما حديث مرفوع، فعن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى: ألا إن الذكاة في الحلق واللبة وأورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 185 - ط المجلس العلمي) ، ونقل عن ابن الهادي في التنقيح أنه قال: " هذا إسناد ضعيف بمرة ".
(2) سورة الكوثر / 2.(21/176)
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (1) . وَقَال: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (2) . وَالذِّبْحُ - بِكَسْرِ الذَّال - بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ وَهُوَ الْكَبْشُ الَّذِي فُدِيَ بِهِ إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ وَلأَِنَّ الأَْصْل فِي الذَّكَاةِ إِنَّمَا هُوَ الأَْسْهَل عَلَى الْحَيَوَانِ، وَمَا فِيهِ نَوْعُ رَاحَةٍ لَهُ فَهُوَ أَفْضَل، وَالأَْسْهَل فِي الإِْبِل النَّحْرُ لِخُلُوِّ لَبَّتِهَا عَنِ اللَّحْمِ وَاجْتِمَاعِ اللَّحْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَنَحْوُهَا جَمِيعُ عُنُقِهَا لاَ يَخْتَلِفُ (3) .
وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ بِالإِْبِل سَائِرَ مَا طَال عُنُقُهُ كَالإِْوَزِّ وَالْبَطِّ وَمَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنَ النَّعَامِ (4) . وَأَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ النَّحْرَ فِي الإِْبِل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصَل لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وَقَاسُوا عَلَى الإِْبِل مَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّرَافِيِّ وَالْفِيَلَةِ.
وَأَجَازُوا الذَّبْحَ وَالنَّحْرَ - مَعَ أَفْضَلِيَّةِ الذَّبْحِ - فِي الْبَقَرِ لِوُرُودِ الذَّبْحِ فِيهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ، وَأَمَّا النَّحْرُ فَقَدْ قِيل فِي تَعْلِيلِهِ عِنْدَهُمْ: إِنَّ عُنُقَ الْبَقَرَةِ لَمَّا كَانَ فَوْقَ الشَّاةِ وَدُونَ عُنُقِ الْبَعِيرِ جَازَ فِيهَا الأَْمْرَانِ جَمِيعًا الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ؛ لِقُرْبِ خُرُوجِ الدَّمِ مِنْ جَوْفِهَا بِالذَّبْحِ، وَالنَّحْرُ فِيهِ أَخَفُّ، وَلَمْ يَجُزِ الذَّبْحُ فِي الْبَعِيرِ لِبُعْدِ خُرُوجِ الدَّمِ مِنْ جَوْفِهَا بِالذَّبْحِ.
__________
(1) سورة البقرة / 67.
(2) سورة الصافات / 107.
(3) البدائع 5 / 40، 41، والمقنع 3 / 538.
(4) الإقناع بحاشية البجيرمي 4 / 249، 250.(21/176)
وَقَاسُوا عَلَيْهِ مَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْ بَقَرِ الْوَحْشِ وَحُمُرِهِ وَخَيْلِهِ وَبِغَالِهِ، وَأَوْجَبُوا الذَّبْحَ فِيمَا عَدَا هَذِهِ الأَْصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ (1) .
ب - الْحِكْمَةُ فِي اشْتِرَاطِهَا:
12 - الْحِكْمَةُ فِي اشْتِرَاطِ التَّذْكِيَةِ أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول لِمَكَانِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَلاَ يَزُول إِلاَّ بِالذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ، وَأَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا وَرَدَ بِإِحْلاَل الطَّيِّبَاتِ خَاصَّةً قَال تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِل لَهُمْ قُل أُحِل لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (2) وَقَال تَعَالَى: {وَيُحِل لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (3) . وَلاَ يَطِيبُ إِلاَّ بِخُرُوجِ الدَّمِ وَذَلِكَ بِالذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ، وَلِهَذَا حُرِّمَتِ الْمَيْتَةُ؛ لأَِنَّ الْمُحَرَّمَ وَهُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ فِيهَا قَائِمٌ، وَلِذَا لاَ يَطِيبُ مَعَ قِيَامِهِ، وَلِهَذَا يَفْسُدُ فِي أَدْنَى مُدَّةٍ لاَ يَفْسُدُ فِي مِثْلِهَا الْمَذْبُوحُ، وَكَذَا الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَل السَّبُعُ إِذَا لَمْ تُدْرَكْ حَيَّةً، فَتُذْبَحُ أَوْ تُنْحَرُ (4) .
وَمِنَ الْحِكْمَةِ أَيْضًا التَّنْفِيرُ عَنِ الشِّرْكِ وَأَعْمَال الْمُشْرِكِينَ، وَتَمْيِيزُ مَأْكُول الآْدَمِيِّ عَنْ مَأْكُول
__________
(1) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 314، والمنتقى شرح الموطأ 3 / 108 الناشر دار الكتاب العربي.
(2) سورة المائدة / 4.
(3) سورة الأعراف / 157.
(4) بدائع الصنائع 5 / 40، وينظر مغني المحتاج 4 / 267.(21/177)
السِّبَاعِ، وَأَنْ يَتَذَكَّرَ الإِْنْسَانُ إِكْرَامَ اللَّهِ لَهُ بِإِبَاحَةِ إِزْهَاقِ رَوْحِ الْحَيَوَانِ لأَِكْلِهِ وَالاِنْتِفَاعِ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ (1) .
ج - تَقْسِيمُ الذَّكَاةِ الاِخْتِيَارِيَّةِ:
13 - تَنْقَسِمُ الذَّكَاةُ الاِخْتِيَارِيَّةُ - كَمَا عُلِمَ مِنْ حَقِيقَتِهَا - إِلَى ذَبْحٍ وَنَحْرٍ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقِيقَةٌ وَشَرَائِطُ وَآدَابُ وَمَكْرُوهَاتٌ.
(أَوَّلاً) الذَّبْحُ:
حَقِيقَةُ الذَّبْحِ:
14 - حَقِيقَةُ الذَّبْحِ قَطْعُ الأَْوْدَاجِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا فِي الْحَلْقِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلاَفِ الْمَذَاهِبِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الأَْوْدَاجَ أَرْبَعَةٌ وَهِيَ: الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَالْعِرْقَانِ اللَّذَانِ يُحِيطَانِ بِهِمَا وَيُسَمَّيَانِ (الْوَدَجَيْنِ) (2) . فَإِذَا فَرَى ذَلِكَ كُلَّهُ فَقَدْ أَتَى بِالذَّكَاةِ بِكَمَالِهَا. وَإِنْ فَرَى بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ فَفِيهِ خِلاَفٌ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ حَل إِذَا اسْتَوْعَبَ قَطْعَهُمَا؛ لأَِنَّ الذَّبْحَ إِزَالَةُ الْحَيَاةِ، وَالْحَيَاةُ لاَ تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِهِمَا
__________
(1) حجة الله البالغة للدهلوي 2 / 812 وما بعدها نشر دار الكتب الحديثة بالقاهرة.
(2) سميت العروق الأربعة أوداجًا تغليبًا، كما قيل: القمران في الشمس والقمر.(21/177)
عَادَةً وَقَدْ تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِ الْوَدَجَيْنِ إِذْ هُمَا عِرْقَانِ كَسَائِرِ الْعُرُوقِ، وَالْحَيَاةُ لاَ تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِ عِرْقَيْنِ مِنْ سَائِرِ الْعُرُوقِ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَطَعَ أَكْثَرَ الأَْوْدَاجِ، وَهُوَ ثَلاَثَةٌ مِنْهَا - أَيَّ ثَلاَثَةٍ كَانَتْ - وَتَرَكَ وَاحِدًا حَل؛ لأَِنَّ لِلأَْكْثَرِ حُكْمَ الْجَمِيعِ فِيمَا بُنِيَ عَلَى التَّوْسِعَةِ فِي أُصُول الشَّرْعِ، وَالذَّكَاةُ بُنِيَتْ عَلَى التَّوْسِعَةِ حَيْثُ يُكْتَفَى فِيهَا بِبَعْضٍ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْكَيْفِيَّةِ فَيُقَامُ الأَْكْثَرُ فِيهَا مَقَامَ الْجَمِيعِ (2) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ يَحِل حَتَّى يَقْطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ وَأَحَدَ الْعِرْقَيْنِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْعُرُوقِ يُقْصَدُ بِقَطْعِهِ غَيْرُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الآْخَرُ، إِذِ الْحُلْقُومُ مَجْرَى النَّفَسِ، وَالْمَرِيءُ مَجْرَى الطَّعَامِ، وَالْوَدَجَانِ مَجْرَيَانِ لِلدَّمِ، فَإِذَا قُطِعَ أَحَدُهُمَا حَصَل بِقَطْعِهِ الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا، وَإِذَا تُرِكَ الْحُلْقُومُ أَوِ الْمَرِيءُ لَمْ يَحْصُل بِقَطْعِ مَا سِوَاهُ الْمَقْصُودُ مِنْ قَطْعِهِ (3) .
وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ يَحِل حَتَّى يَقْطَعَ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنَ الأَْرْبَعَةِ أَكْثَرَهُ؛ لأَِنَّهُ إِذَا قَطَعَ الأَْكْثَرَ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنَ الأَْرْبَعَةِ، فَقَدْ حَصَل الْمَقْصُودُ بِالذَّبْحِ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 105، 110، والمقنع 3 / 537، 538.
(2) بدائع الصنائع 5 / 41.
(3) بدائع الصنائع 5 / 42.(21/178)
وَهُوَ خُرُوجُ الدَّمِ؛ لأَِنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ مَا يَخْرُجُ بِقَطْعِ الْجَمِيعِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَطَعَ جَمِيعَ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ حَل، وَلاَ يَكْفِي نِصْفُ الْحُلْقُومِ مَعَ جَمِيعِ الْوَدَجَيْنِ عَلَى الأَْصَحِّ (2) . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ يُشْتَرَطُ قَطْعُ الأَْوْدَاجِ الأَْرْبَعَةِ، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ الْبَنَّا وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ وَغَيْرُهُمْ (3) ، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ قَطْعَ الأَْعْضَاءِ الأَْرْبَعَةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَقَطْعَ بَعْضِهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالأَْصْل التَّحْرِيمُ فَلاَ يُعْدَل عَنْهُ إِلاَّ بِيَقِينٍ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ (4) وَهِيَ الَّتِي تُذْبَحُ فَيُقْطَعُ الْجِلْدُ وَلاَ تُفْرَى الأَْوْدَاجُ.
حُكْمُ الْمُغَلْصَمَةِ:
15 - الْمُغَلْصَمَةُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: غَلْصَمَهُ إِذَا قَطَعَ غَلْصَمَتَهُ. وَالْغَلْصَمَةُ هِيَ جَوْزَةُ الْعُنُقِ وَهِيَ رَأْسُ الْحُلْقُومِ، وَهِيَ صَفِيحَةٌ غُضْرُوفِيَّةٌ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 41.
(2) الشرح الصغير مع بلغة السالك 2 / 314.
(3) المقنع 3 / 537، 538.
(4) حديث: " نهى عن شريطة الشيطان " أخرجه أبو داود (3 / 252 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وأعله ابن القطان بأحد رواته، كذا في الفيض للمناوي (6 / 332 - ط المكتبة التجارية) .(21/178)
عِنْدَ أَصْل اللِّسَانِ، سَرْجِيَّةُ الشَّكْل، مُغَطَّاةٌ بِغِشَاءٍ مُخَاطِيٍّ، وَتَنْحَدِرُ إِلَى الْخَلْفِ لِتَغْطِيَةِ فَتْحَةِ الْحَنْجَرَةِ لإِِقْفَالِهَا فِي أَثْنَاءِ الْبَلْعِ (1) .
وَالْمُرَادُ بِالْمُغَلْصَمَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ الذَّبِيحَةُ الَّتِي انْحَازَتِ الْجَوْزَةُ فِيهَا لِجِهَةِ الْبَدَنِ، بِأَنْ يُمِيل الذَّابِحُ يَدَهُ إِلَى جِهَةِ الذَّقَنِ فَلاَ يَقْطَعُ الْجَوْزَةَ بَل يَجْعَلُهَا كُلَّهَا مُنْحَازَةً لِجِهَةِ الْبَدَنِ مَفْصُولَةً عَنِ الرَّأْسِ (2) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ بِأَنَّ الْمُغَلْصَمَةَ لاَ يَحِل أَكْلُهَا، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْقَطْعَ حِينَئِذٍ صَارَ فَوْقَ الْحُلْقُومِ، فَإِنَّ الذَّبْحَ لَمْ يَكُنْ فِي الْحُلْقُومِ وَإِنَّمَا كَانَ فِي الرَّأْسِ (3) .
وَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ مَا خُلاَصَتُهُ: صَرَّحَ فِي " الذَّخِيرَةِ " بِأَنَّ الذَّبْحَ إِذَا وَقَعَ أَعْلَى مِنَ الْحُلْقُومِ لاَ يَحِل؛ لأَِنَّ الْمَذْبَحَ هُوَ الْحُلْقُومُ، لَكِنْ رِوَايَةُ الرُّسْتُغْفَنِيِّ تُخَالِفُ هَذِهِ حَيْثُ قَال: هَذَا قَوْل الْعَوَامِّ وَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ، فَتَحِل سَوَاءٌ بَقِيَتِ الْعُقْدَةُ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ أَوِ الصَّدْرَ؛ لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَنَا قَطْعُ أَكْثَرِ الأَْوْدَاجِ وَقَدْ
__________
(1) كذا عرفها مجمع اللغة العربية في المعجم الوسيط، مادة: (غلصم) .
(2) الشرح الصغير 1 / 313.
(3) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 313، والخرشي مع العدوي 2 / 101، وحاشية الرهوني على الزرقاني 3 / 2، 3، وحاشية كنون بهامش حاشية الرهوني 3 / 2، 3، والشرواني على التحفة 9 / 322.(21/179)
وُجِدَ.
وَقَدْ شَنَّعَ الأَْتْقَانِيُّ فِي " غَايَةِ الْبَيَانِ " عَلَى مَنْ شَرَطَ بَقَاءَ الْعُقْدَةِ فِي الرَّأْسِ وَقَال: إِنَّهُ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى الْعُقْدَةِ فِي كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ كَلاَمِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَل الذَّكَاةُ بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ، وَقَدْ حَصَلَتْ، لاَ سِيَّمَا عَلَى قَوْل الإِْمَامِ مِنَ الاِكْتِفَاءِ بِثَلاَثٍ مِنَ الأَْرْبَعِ أَيًّا كَانَتْ، وَيَجُوزُ تَرْكُ الْحُلْقُومِ أَصْلاً، فَبِالأَْوْلَى إِذَا قُطِعَ مِنْ أَعْلاَهُ وَبَقِيَتِ الْعُقْدَةُ أَسْفَلَهُ (1) .
شَرَائِطُ الذَّبْحِ:
هِيَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ: شَرَائِطُ فِي الْمَذْبُوحِ، وَشَرَائِطُ فِي الذَّابِحِ، وَشَرَائِطُ فِي الآْلَةِ.
شَرَائِطُ الْمَذْبُوحِ:
16 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الذَّبْحِ ثَلاَثُ شَرَائِطَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَذْبُوحِ وَهِيَ:
1 - أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَقْتَ الذَّبْحِ.
2 - أَنْ يَكُونَ زَهُوقُ رُوحِهِ بِمَحْضِ الذَّبْحِ.
3 - أَلاَّ يَكُونَ صَيْدًا حَرَمِيًّا. وَزَادَ بَعْضُ الْمَذَاهِبِ شَرَائِطَ أُخْرَى مِنْهَا:
4 - أَلاَّ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالنَّحْرِ. وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 187.(21/179)
فَجُمْلَةُ الشَّرَائِطِ أَرْبَعٌ.
17 - أَمَّا الشَّرِيطَةُ (الأُْولَى) وَهِيَ كَوْنُهُ حَيًّا وَقْتَ الذَّبْحِ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ فِي الذَّبِيحِ قَبْل الذَّبْحِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ يُحَال عَلَيْهِ الْهَلاَكُ كَالاِنْخِنَاقِ وَالتَّرَدِّي وَالضَّرْبِ وَالنَّطْحِ وَأَكْل السَّبُعِ وَخُرُوجِ الأَْمْعَاءِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ يُحَال عَلَيْهِ الْهَلاَكُ فَإِنَّهُ يَكْفِي وُجُودُ الْحَيَاةِ وَلَوْ كَانَ الْحَيَوَانُ فِي آخِرِ رَمَقٍ، وَمَثَّل الشَّافِعِيَّةُ لِذَلِكَ بِمَا لَوْ جَاعَ الْحَيَوَانُ أَوْ مَرِضَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَرَضُهُ بِأَكْل نَبَاتٍ مُضِرٍّ.
وَالْحَيَاةُ الْمُسْتَقِرَّةُ هِيَ مَا زَادَتْ عَنْ حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ سَوَاءٌ انْتَهَتْ إِلَى حَالٍ يُعْلَمُ أَنَّهَا لاَ تَعِيشُ مَعَهُ أَوْ تَعِيشُ، أَمْ لَمْ تَنْتَهِ إِلَى هَذِهِ الْحَال. وَجَعَل الشَّافِعِيَّةُ عَلاَمَةَ الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ - إِذَا لَمْ تُعْلَمْ قَبْل الذَّبْحِ - أَنْ يَتَحَرَّكَ الْحَيَوَانُ بَعْدَ الذَّبْحِ حَرَكَةً شَدِيدَةً، أَوْ يَنْفَجِرَ مِنْهُ الدَّمُ (1) .
وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: " لاَ يُكْتَفَى بِقِيَامِ أَصْل الْحَيَاةِ بَل لاَ بُدَّ مِنَ الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ (2) ". وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي بَيَانِ الاِسْتِقْرَارِ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 111، البجيرمي على الإقناع 4 / 249، والمقنع 3 / 540.
(2) البدائع 5 / 50.(21/180)
رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمَذْبُوحَ يَعِيشُ لَوْ لَمْ يُذْبَحْ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ الْحَيَاةِ مِقْدَارُ مَا يَعِيشُ بِهِ نِصْفَ يَوْمٍ (1) .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي بَيَانِ الاِسْتِقْرَارِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ يَبْقَى مِنْ حَيَاةِ مَا يُرَادُ ذَبْحُهُ أَكْثَرُ مِمَّا يَبْقَى مِنْ حَيَاةِ الْمَذْبُوحِ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْل مُحَمَّدٍ مُفَسِّرًا فَقَال: إِنَّ عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ إِنْ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلاَّ الاِضْطِرَابُ لِلْمَوْتِ فَذَبَحَهُ فَإِنَّهُ لاَ يَحِل، وَإِنْ كَانَ يَعِيشُ مُدَّةً كَالْيَوْمِ أَوْ كَنِصْفِهِ حَل (2) .
وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ اسْتِقْرَارَ الْحَيَاةِ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمَذْبُوحِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ كَانَ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ فَلاَ تَلْحَقُهُ الذَّكَاةُ كَالْمَيْتَةِ حَقِيقَةً (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَحْدُثْ بِالْحَيَوَانِ مَا يَقْتَضِي الْيَأْسَ مِنْ بَقَاءِ حَيَاتِهِ كَفَى فِي حِلِّهِ التَّحَرُّكُ بَعْدَ الذَّبْحِ أَوْ سَيَلاَنُ الدَّمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلٌّ مِنْهُمَا قَوِيًّا.
وَإِنْ حَدَثَ بِهِ مَا يَقْتَضِي الْيَأْسَ مِنْ بَقَاءِ حَيَاتِهِ كَإِخْفَاءِ مَرَضِهِ، أَوِ انْتِفَاخٍ بِعُشْبٍ، أَوْ دَقِّ عُنُقٍ، أَوْ سُقُوطٍ مِنْ شَاهِقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَل بِشَرِيطَتَيْنِ:
__________
(1) البدائع 5 / 51.
(2) المرجع السابق نفسه.
(3) المرجع السابق نفسه.(21/180)
أَلاَّ يَنْفُذَ بِذَلِكَ مَقْتَلٌ مِنْهُ قَبْل الذَّبْحِ، وَأَنْ يَكُونَ قَوِيَّ الْحَرَكَةِ مَعَ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ يَشْخَبَ مِنْهُ الدَّمُ بَعْدَ الذَّبْحِ أَيْ يَخْرُجَ بِقُوَّةٍ (1) .
وَنَفَاذُ الْمَقْتَل يَكُونُ عِنْدَهُمْ بِوَاحِدٍ مِنْ خَمْسَةِ أُمُورٍ:
أَوَّلُهَا: قَطْعُ النُّخَاعِ، وَأَمَّا كَسْرُ الصُّلْبِ فَلَيْسَ بِمَقْتَلٍ.
ثَانِيهَا: قَطْعُ وَدَجٍ، وَأَمَّا شَقُّهُ بِلاَ قَطْعٍ فَفِيهِ قَوْلاَنِ.
ثَالِثُهَا: نَثْرُ دِمَاغٍ وَهُوَ مَا تَحْوِيهِ الْجُمْجُمَةُ، وَأَمَّا شَرْخُ الرَّأْسِ أَوْ خَرْقُ خَرِيطَةِ الدِّمَاغِ بِلاَ انْتِشَارٍ فَلَيْسَ بِمَقْتَلٍ. رَابِعُهَا: نَثْرُ حَشْوَةٍ وَهِيَ مَا حَوَاهُ الْبَطْنُ مِنْ قَلْبٍ وَكَبِدٍ وَطِحَالٍ وَكُلْيَةٍ وَأَمْعَاءٍ أَيْ إِزَالَةُ مَا ذُكِرَ عَنْ مَوْضِعِهِ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ إِعَادَتُهُ إِلَى مَوْضِعِهِ.
خَامِسُهَا: ثَقْبُ مَصِيرٍ - وَهُوَ الْمِعَى وَيُجْمَعُ عَلَى مُصْرَانٍ وَجَمْعُ الْجَمْعِ مَصَارِينُ - وَأَمَّا ثَقْبُ الْكَرِشِ فَلَيْسَ بِمَقْتَلٍ فَالْبَهِيمَةُ الْمُنْتَفِخَةُ إِذَا ذُبِحَتْ فَوُجِدَتْ مَثْقُوبَةَ الْكَرِشِ تُؤْكَل عَلَى الْمُعْتَمَدِ (2) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي قِيَامُ أَصْل الْحَيَاةِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ؛ لأَِنَّهُ إِذَا ذُبِحَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
__________
(1) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 320.
(2) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 320.(21/181)
فَقَدْ صَارَ مُذَكًّى وَدَخَل تَحْتَ النَّصِّ وَهُوَ: قَوْله تَعَالَى {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (1) فَإِنْ عُلِمَتْ حَيَاةُ الْمَذْبُوحِ قَبْل الذَّبْحِ لَمْ يُشْتَرَطْ بَعْدَ الذَّبْحِ تَحَرُّكٌ وَلاَ خُرُوجُ دَمٍ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ كَأَنْ كَانَ الْمَذْبُوحُ مَرِيضًا أَوْ مُنْخَنِقًا أَوْ نَطِيحًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَشَكَكْنَا فِي حَيَاتِهِ فَذَبَحْنَاهُ فَتَحَرَّكَ أَوَخَرَجَ مِنْهُ الدَّمُ كَانَ هَذَا عَلاَمَةً عَلَى الْحَيَاةِ فَيَحِل، وَالْمُرَادُ بِالْحَرَكَةِ الْحَرَكَةُ الَّتِي تَدُل عَلَى الْحَيَاةِ قَبْل الذَّبْحِ، وَمِنْهَا ضَمُّ الْفَمِ وَضَمُّ الْعَيْنِ وَقَبْضُ الرِّجْل وَقِيَامُ الشَّعْرِ، بِخِلاَفِ فَتْحِ الْفَمِ أَوِ الْعَيْنِ وَمَدِّ الرِّجْل وَنَوْمِ الشَّعْرِ فَهِيَ لاَ تَدُل عَلَى سَبْقِ الْحَيَاةِ، وَالْمُرَادُ بِخُرُوجِ الدَّمِ سَيَلاَنُهُ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي يَسِيل بِهَا دَمُ الْحَيِّ بَعْدَ ذَبْحِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
وَقِيل: الاِكْتِفَاءُ بِأَصْل الْحَيَاةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ، لَكِنْ ظَاهِرُ كَلاَمِهِ اشْتِرَاطُ خُرُوجِ الدَّمِ، فَإِنَّهُ قَال: مَتَى ذُبِحَ الْحَيَوَانُ فَخَرَجَ مِنْهُ الدَّمُ الأَْحْمَرُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْمُذَكَّى الْمَذْبُوحِ فِي الْعَادَةِ لَيْسَ هُوَ دَمَ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ يَحِل أَكْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَتَحَرَّكْ (3) .
18 - وَأَمَّا الشَّرِيطَةُ (الثَّانِيَةُ) وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ
__________
(1) سورة المائدة / 3.
(2) بدائع الصنائع 5 / 50، حاشية ابن عابدين 5 / 187، 196.
(3) بدائع الصنائع 5 / 50، حاشية ابن عابدين 5 / 187، 196.(21/181)
زَهُوقُ رُوحِهِ بِمَحْضِ الذَّبْحِ: فَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْل صَاحِبِ " الْبَدَائِعِ ": ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ أَنَّ رَجُلاً قَطَعَ شَاةً نِصْفَيْنِ ثُمَّ إِنَّ رَجُلاً فَرَى أَوْدَاجَهَا وَالرَّأْسُ يَتَحَرَّكُ، أَوْ شَقَّ رَجُلٌ بَطْنَهَا فَأَخْرَجَ مَا فِي جَوْفِهَا وَفَرَى رَجُلٌ آخَرُ الأَْوْدَاجَ فَإِنَّ هَذَا لاَ يُؤْكَل لأَِنَّ الْفِعْل الأَْوَّل قَاتِلٌ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إِنْ كَانَتِ الضَّرْبَةُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ لَمْ تُؤْكَل الشَّاةُ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ أُكِلَتْ؛ لأَِنَّ الْعُرُوقَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الذَّبْحِ مُتَّصِلَةٌ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى الدِّمَاغِ، فَإِذَا كَانَتِ الضَّرْبَةُ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ فَقَدْ قَطَعَهَا فَحَلَّتْ (1) ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ فَلَمْ يَقْطَعْهَا فَلَمْ تَحِل (2) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (3) بِمَا يُفِيدُ اشْتِرَاطَ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، وَمَثَّل لَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِمَا لَوِ اقْتَرَنَ بِذَبْحِ الشَّاةِ مَثَلاً نَزْعُ الْحَشْوَةِ، أَوْ نَخْسُ الْخَاصِرَةِ، أَوِ الْقَطْعُ مِنَ الْقَفَا فَلاَ تَحِل الشَّاةُ لاِجْتِمَاعِ مُبِيحٍ وَمُحَرِّمٍ فَيُغَلَّبُ الْمُحَرِّمُ (4) .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَائِرَ الْمَذَاهِبِ لاَ يُخَالِفُ فِي هَذِهِ
__________
(1) يؤخذ من هذا أن الذبح بالمعنى الشامل للنحر عند صاحب هذا الرأي لا يختص بالعنق، بل يشمل كل شق فوق القلب تنقطع به العروق الواجب قطعها في الذبح والنحر.
(2) البدائع 5 / 51، 52.
(3) الخرشي على خليل بحاشية العدوي 2 / 310، والبجيرمي على الإقناع 4 / 248، والروضة البهية 2 / 268.
(4) البجيرمي على الإقناع 4 / 248.(21/182)
الشَّرِيطَةِ؛ لأَِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةٍ لاَ خِلاَفَ فِيهَا وَهِيَ تَغْلِيبُ الْمُحَرِّمِ عَلَى الْمُبِيحِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، بَل إِنَّ الْحَنَابِلَةَ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ حَدَثَ بَعْدَ الذَّبْحِ وَقَبْل الْمَوْتِ مَا يُعِينُ عَلَى الْهَلاَكِ حُرِّمَتِ الذَّبِيحَةُ، فَفِي " الْمُقْنِعِ وَحَاشِيَتِهِ " مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ مَا خُلاَصَتُهُ أَنَّهُ إِذَا ذَبَحَ الْحَيَوَانَ ثُمَّ غَرِقَ أَوْ وَطِئَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَقْتُلُهُ مِثْلُهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ:
(إِحْدَاهُمَا) : لاَ يَحِل، وَهُوَ الْمَذْهَبُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي الصَّيْدِ: إِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَلاَ تَأْكُل. (1) وَلِقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ رَمَى طَائِرًا فَوَقَعَ فِي مَاءٍ فَغَرِقَ فِيهِ فَلاَ يَأْكُلُهُ. وَلأَِنَّ الْغَرَقَ سَبَبٌ يَقْتُل فَإِذَا اجْتَمَعَ مَا يُبِيحُ وَمَا يُحَرِّمُ غُلِّبَ التَّحْرِيمُ.
(وَالثَّانِيَةُ) : أَنَّهُ يَحِل، وَبِهِ قَال أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهَا إِذَا ذُبِحَتْ صَارَتْ مُذَكَّاةً حَلاَلاً، فَلاَ يَضُرُّهَا مَا يَحْدُثُ لَهَا بَعْدَ التَّذْكِيَةِ وَقَبْل تَمَامِ خُرُوجِ الرُّوحِ.
وَهَل الذَّبْحُ بِآلَةٍ مَسْمُومَةٍ يُعْتَبَرُ مِنْ قَبِيل اقْتِرَانِ مُحَرِّمٍ وَمُبِيحٍ فَتَحْرُمُ الذَّبِيحَةُ، أَوْ لاَ يُعْتَبَرُ؛ لأَِنَّ سَرَيَانَ السُّمِّ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الذَّبْحِ؟ . صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِالثَّانِي.
وَفَصَّل الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ
__________
(1) حديث: " إن وقع في الماء فلا تأكل " أخرجه البخاري الفتح 9 / 610 - ط السلفية.(21/182)
أَنَّ السُّمَّ أَعَانَ عَلَى الْهَلاَكِ فَالذَّبِيحَةُ حَرَامٌ، وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
19 - وَأَمَّا الشَّرِيطَةُ (الثَّالِثَةُ) : - وَهِيَ أَلاَّ يَكُونَ الْمَذْبُوحُ صَيْدًا حَرَمِيًّا -: فَإِنَّ التَّعَرُّضَ لِصَيْدِ الْحَرَمِ بِالْقَتْل وَالدَّلاَلَةِ وَالإِْشَارَةِ مُحَرَّمٌ، حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى. قَال تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (2) . وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ مَكَّةَ فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا (3) . وَالْفِعْل فِي الْمُحَرَّمِ شَرْعًا لاَ يَكُونُ ذَكَاةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَوْلِدُهُ الْحَرَمَ أَمْ دَخَل مِنَ الْحِل إِلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ يُضَافُ إِلَى الْحَرَمِ فِي الْحَالَيْنِ، فَيَكُونُ صَيْدَ الْحَرَمِ، فَإِنْ ذُبِحَ صَيْدُ الْحَرَمِ كَانَ مَيْتَةً سَوَاءٌ أَكَانَ الذَّابِحُ مُحْرِمًا أَمْ حَلاَلاً (4) . وَلِزِيَادَةِ التَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حَجّ) (وَحَرَم) (وَإِحْرَام) .
20 - وَأَمَّا الشَّرِيطَةُ (الرَّابِعَةُ) : الَّتِي زَادَهَا
__________
(1) المقنع 3 / 538، والمغني مع الشرح الكبير 11 / 48.
(2) سورة العنكبوت / 67.
(3) حديث: " فلا ينفر صيدها. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 46 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1558 - ط الحلبي) ، واللفظ لمسلم.
(4) بدائع الصنائع 5 / 52، ويلاحظ أن صاحب البدائع جعل هذه الشريطة خاصة بالذكاة الاضطرارية وهو سهو أو سبق قلم، لأن الصيد الحرمي يحرم ذبحه ونحره وعقره والتعرض له فهي شريطة عامة. والدسوقي على الشرح الكبير 2 / 72، ومغني المحتاج 1 / 525، وكشاف القناع 2 / 437.(21/183)
الْمَالِكِيَّةُ (1) - وَهِيَ أَلاَّ يَكُونَ الْمَذْبُوحُ مُخْتَصًّا بِالنَّحْرِ - فَخُلاَصَتُهَا أَنَّ الْحَيَوَانَ الْمُخْتَصَّ بِالنَّحْرِ - وَقَدْ سَبَقَ اخْتِلاَفُهُمْ فِيهِ - يَحْرُمُ فِيهِ الْعُدُول عَنِ النَّحْرِ إِلَى الذَّبْحِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَيَصِيرُ الْمَذْبُوحُ حِينَئِذٍ مَيْتَةً. فَلَوْ كَانَ الْعُدُول لِضَرُورَةٍ كَفَقْدِ الآْلَةِ الصَّالِحَةِ لِلنَّحْرِ، وَكَالْوُقُوعِ فِي حُفْرَةٍ، وَاسْتِعْصَاءِ الْحَيَوَانِ لَمْ يَحْرُمْ وَلَمْ تَحْرُمِ الذَّبِيحَةُ.
وَخَالَفَ سَائِرُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، فَجَوَّزُوا الْعُدُول بِكَرَاهَةٍ أَوْ بِلاَ كَرَاهَةٍ كَمَا يَأْتِي فِي مَكْرُوهَاتِ الذَّبْحِ.
شَرَائِطُ الذَّابِحِ:
21 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الذَّبْحِ فِي الْجُمْلَةِ شَرَائِطُ رَاجِعَةٌ إِلَى الذَّابِحِ وَهِيَ:
1 - أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً.
2 - أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا.
3 - أَنْ يَكُونَ حَلاَلاً إِذَا ذَبَحَ صَيْدَ الْبَرِّ.
4 - أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الذَّبِيحَةِ عِنْدَ التَّذَكُّرِ وَالْقُدْرَةِ.
5 - أَلاَّ يُهِل بِالذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ:
6 - أَنْ يَقْطَعَ مِنْ مُقَدَّمِ الْعُنُقِ.
7 - أَلاَّ يَرْفَعَ يَدَهُ قَبْل تَمَامِ التَّذْكِيَةِ.
8 - أَنْ يَنْوِيَ التَّذْكِيَةَ.
__________
(1) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 314، 319.(21/183)
22 - الشَّرِيطَةُ الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً سَوَاءٌ كَانَ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً بَالِغًا أَوْ غَيْرَ بَالِغٍ إِذَا كَانَ مُمَيِّزًا وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ) .
وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ اشْتِرَاطَ الْعَقْل بِأَنَّ صِحَّةَ الْقَصْدِ إِلَى التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ لاَ بُدَّ مِنْهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَصْدِ التَّسْمِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهَا وَاجِبًا، وَلاَ تَتَحَقَّقُ صِحَّةُ التَّسْمِيَةِ مِمَّنْ لاَ يَعْمَل، فَلاَ تُؤْكَل ذَبِيحَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَعْقِل، وَالسَّكْرَانِ الَّذِي لاَ يَعْقِل، أَمَّا الصَّبِيُّ وَالسَّكْرَانُ وَالْمَعْتُوهُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ الذَّبْحَ وَيَقْدِرُونَ عَلَيْهِ فَتُؤْكَل ذَبِيحَتُهُمْ.
وَوَجَّهَ ابْنُ قُدَامَةَ الاِشْتِرَاطَ بِأَنَّ غَيْرَ الْعَاقِل لاَ يَصِحُّ مِنْهُ الْقَصْدُ إِلَى الذَّبْحِ.
وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حِل ذَبِيحَةِ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ مَعَ الْكَرَاهَةِ - بِخِلاَفِ النَّائِمِ - أَمَّا الْحِل فَلأَِنَّ لَهُمْ قَصْدًا فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلأَِنَّهُمْ قَدْ يُخْطِئُونَ الذَّبْحَ، وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ ذَبِيحَةُ (النَّائِمِ) لأَِنَّهُ لاَ يُتَصَوَّرُ لَهُ قَصْدٌ. (1)
23 - الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 188، والخرشي على خليل 2 / 301، ونهاية المحتاج 8 / 106، والمقنع 3 / 535، والمغني 8 / 581.(21/184)
فَلاَ تَحِل ذَبِيحَةُ الْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَوَجْهُ اشْتِرَاطِهَا أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيِّ لاَ يُخْلِصُ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكَ يُهَلِّل غَيْرَ اللَّهِ أَوْ يَذْبَحُ عَلَى النُّصُبِ. وَقَدْ قَال تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَل السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (1) . وَالْمَجُوسِيُّ لاَ يَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ عَلَى الذَّبِيحَةِ.
وَقَدْ قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْمَجُوسِ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْل الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلاَ آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ. (2)
وَالْمُرْتَدُّ - وَلَوْ لِدِينِ أَهْل كِتَابٍ - لاَ يُقَرُّ عَلَى الدِّينِ الَّذِي انْتَقَل إِلَيْهِ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَالْوَثَنِيِّ، فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ غُلاَمًا مُرَاهِقًا لَمْ تُؤْكَل ذَبِيحَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ رِدَّتَهُ
__________
(1) سورة المائدة / 3.
(2) حديث: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي. . . . " أخرج قوله: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " مالك في الموطأ (1 / 278 - ط الحلبي) ، وقال ابن عبد البر في " التمهيد " (2 / 114 - ط وزارة الأوقاف العراقية) : " هذا حديث منقطع "، وأخرج بقيته البيهقي (9 / 192 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث الحسن بن محمد بن علي، وأعله بالإرسال.(21/184)
مُعْتَبَرَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُؤْكَل بِنَاءً عَلَى أَنَّ رِدَّتَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ. (1)
وَإِنَّمَا حَلَّتْ ذَبِيحَةُ أَهْل الْكِتَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2) وَالْمُرَادُ مِنْ طَعَامِهِمْ ذَبَائِحُهُمْ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ بِأَهْل الْكِتَابِ مَعْنًى، لأَِنَّ غَيْرَ الذَّبَائِحِ مِنْ أَطْعِمَةِ سَائِرِ الْكَفَرَةِ مَأْكُولٌ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الطَّعَامَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالذَّبَائِحِ فَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُتَطَعَّمُ، وَالذَّبَائِحُ مِمَّا يُتَطَعَّمُ، فَيَدْخُل تَحْتَ اسْمِ الطَّعَامِ فَيَحِل لَنَا أَكْلُهَا. (3)
مَنْ هُوَ الْكِتَابِيُّ:
24 - الْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِيِّ فِي بَابِ الذَّبَائِحِ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ ذِمِّيًّا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَوْ حَرْبِيًّا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، حُرًّا أَوَرَقِيقًا، لاَ الْمَجُوسِيُّ. (4)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ فِي كُلٍّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَلاَّ يُعْلَمَ دُخُول أَوَّل آبَائِهِمْ فِي الدِّينِ بَعْدَ بَعْثَةٍ نَاسِخَةٍ، فَالْيَهُودِيُّ الَّذِي عَلِمْنَا دُخُول أَوَّل آبَائِهِ فِي الْيَهُودِيَّةِ بَعْدَ بَعْثَةِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 45.
(2) سورة المائدة / 5.
(3) بدائع الصنائع 5 / 45، والخرشي على خليل بحاشية العدوي 2 / 301، ونهاية المحتاج 8 / 106، والمقنع 3 / 535.
(4) البدائع 5 / 45، والخرشي 2 / 301.(21/185)
لاَ تَحِل ذَبِيحَتُهُ، وَالنَّصْرَانِيُّ الَّذِي عَلِمْنَا دُخُول أَوَّل آبَائِهِ فِي الْمَسِيحِيَّةِ بَعْدَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَحِل ذَبِيحَتُهُ؛ لأَِنَّ الدُّخُول فِي الدِّينِ بَعْدَ الْبَعْثَةِ النَّاسِخَةِ لَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَيَكُونُ كَالرِّدَّةِ. (1)
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ كَوْنَ الرَّجُل كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ هُوَ حُكْمٌ يَسْتَفِيدُهُ بِنَفْسِهِ لاَ بِنَسَبِهِ، فَكُل مَنْ تَدَيَّنَ بِدِينِ أَهْل الْكِتَابِ فَهُوَ مِنْهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ قَدْ دَخَل فِي دِينِهِمْ أَمْ لَمْ يَدْخُل، وَسَوَاءٌ أَكَانَ دُخُولُهُ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيل أَمْ قَبْل ذَلِكَ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْ أَحْمَدَ. (2)
حُكْمُ ذَبَائِحِ الصَّابِئَةِ وَالسَّامِرَةِ: (3)
25 - تُؤْكَل ذَبَائِحُ الصَّابِئَةِ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لاَ تُؤْكَل. فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ قَوْمٌ يُؤْمِنُونَ بِكِتَابٍ، فَإِنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ وَلاَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَلَكِنْ يُعَظِّمُونَهَا كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ الْكَعْبَةَ فِي الاِسْتِقْبَال إِلَيْهَا، إِلاَّ أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَابِ فِي بَعْضِ دِيَانَاتِهِمْ، وَهَذَا لاَ يَمْنَعُ الْمُنَاكَحَةَ
__________
(1) البجيرمي على الإقناع 4 / 233، ونهاية المحتاج 8 / 82 - 83.
(2) المقنع 3 / 535.
(3) الصابئة طائفة من النصارى نسبة إلى صابئ عم نوح، والسامرة فرقة من اليهود نسبة إلى السامري عابد العجل وهو الذي صنعه. (بجيرمي على الخطيب 4 / 233) .(21/185)
كَالْيَهُودِ مَعَ النَّصَارَى، فَلاَ يَمْنَعُ حِل الذَّبِيحَةِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ (وَعَابِدُ الْكَوَاكِبِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ) فَلاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ مُنَاكَحَتُهُمْ وَلاَ أَكْل ذَبَائِحِهِمْ. (1)
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ السَّامِرَةِ وَالصَّابِئَةِ فَأَحَلُّوا ذَبَائِحَ السَّامِرَةِ؛ لأَِنَّ مُخَالَفَتَهُمْ لِلْيَهُودِ لَيْسَتْ كَبِيرَةً، وَحَرَّمُوا ذَبَائِحَ الصَّابِئَةِ لِعِظَمِ مُخَالَفَتِهِمْ لِلنَّصَارَى. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الصَّابِئَةَ فِرْقَةٌ مِنَ النَّصَارَى، وَالسَّامِرَةَ فِرْقَةٌ مِنَ الْيَهُودِ وَتُؤْكَل ذَبَائِحُ الصَّابِئَةِ إِنْ لَمْ تُكَفِّرْهُمُ النَّصَارَى وَلَمْ يُخَالِفُوهُمْ فِي أُصُول دِينِهِمْ، وَتُؤْكَل ذَبَائِحُ السَّامِرَةِ إِنْ لَمْ تُكَفِّرْهُمُ الْيَهُودُ وَلَمْ يُخَالِفُوهُمْ فِي أُصُول دِينِهِمْ. (3)
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُنْظَرُ فِي الصَّابِئَةِ، فَإِنْ كَانُوا يُوَافِقُونَ أَحَدَ أَهْل الْكِتَابَيْنِ فِي نَبِيِّهِمْ وَكِتَابِهِمْ فَهُمْ مِنْهُمْ، وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ فَلَيْسُوا مِنْ أَهْل الْكِتَابِ. (4)
__________
(1) البدائع 2 / 271، 5 / 46، وابن عابدين على الدر المختار 5 / 188.
(2) الخرشي بحاشية العدوي 2 / 303، والشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 313.
(3) البجيرمي على الإقناع 4 / 233.
(4) المغني 8 / 497.(21/186)
حُكْمُ ذَبَائِحِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ:
26 - يَسْتَوِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ مَعَ سَائِرِ النَّصَارَى فِي حِل ذَبَائِحِهِمْ؛ لأَِنَّهُمْ عَلَى دِينِ النَّصَارَى، إِلاَّ أَنَّهُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ فَيَتَنَاوَلُهُمْ عُمُومُ الآْيَةِ الشَّرِيفَةِ.
وَحَكَى صَاحِبُ " الْبَدَائِعِ " أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: لاَ تُؤْكَل ذَبَائِحُ نَصَارَى الْعَرَبِ لأَِنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْل الْكِتَابِ، وَقَرَأَ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَل {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} (1) ، وَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: تُؤْكَل، (2) وَقَرَأَ {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (3) . وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (جِزْيَة) .
حُكْمُ مَنِ انْتَقَل إِلَى دِينِ أَهْل الْكِتَابِ أَوْ غَيْرِهِمْ:
27 - إِذَا انْتَقَل الْكِتَابِيُّ إِلَى دَيْنٍ غَيْرِ أَهْل الْكِتَابِ مِنَ الْكَفَرَةِ لاَ تُؤْكَل ذَبِيحَتُهُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَصِرْ كِتَابِيًّا، وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ.
وَإِذَا انْتَقَل الْكِتَابِيُّ مِنْ دِينِهِ إِلَى دَيْنِ أَهْل كِتَابٍ آخَرِينَ كَيَهُودِيٍّ تَنَصَّرَ أُكِلَتْ ذَبِيحَتُهُ، وَكَذَا لَوِ انْتَقَل غَيْرُ الْكِتَابِيِّ مِنَ الْكَفَرَةِ إِلَى دَيْنِ أَهْل الْكِتَابِ فَإِنَّهُ تُؤْكَل ذَبِيحَتُهُ. (4)
__________
(1) سورة البقرة / 78.
(2) البدائع 5 / 45، والقوانين الفقهية 120، ومغني المحتاج 4 / 244، والمقنع 3 / 535.
(3) سورة المائدة / 51.
(4) الدر المختار بحاشية ابن عابدين 5 / 190.(21/186)
وَوَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى هَذَا الأَْخِيرِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمَجُوسِيَّ إِذَا تَنَصَّرَ أَوْ تَهَوَّدَ يُقَرُّ عَلَى الدِّينِ الْمُنْتَقَل إِلَيْهِ وَيَصِيرُ لَهُ حُكْمُ أَهْل الْكِتَابِ مِنْ أَكْل ذَبِيحَتِهِ وَغَيْرِهِ مِنَ الأَْحْكَامِ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنِ انْتَقَل إِلَى دِينِ أَهْل كِتَابٍ بَعْدَ بَعْثَةٍ نَاسِخَةٍ لاَ تَحِل ذَبِيحَتُهُ وَلاَ ذَبِيحَةُ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ. (2)
حُكْمُ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ كِتَابِيٍّ وَغَيْرِ كِتَابِيٍّ:
28 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى أَنَّ الْمَوْلُودَ بَيْنَ كِتَابِيٍّ وَغَيْرِ كِتَابِيٍّ تُؤْكَل ذَبِيحَتُهُ أَيُّهُمَا كَانَ الْكِتَابِيُّ الأَْبَ أَوِ الأُْمَّ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُعْتَبَرُ الأَْبُ فَإِنْ كَانَ كِتَابِيًّا تُؤْكَل وَإِلاَّ فَلاَ، هَذَا إِذَا كَانَ أَبًا شَرْعِيًّا بِخِلاَفِ الزَّانِي فَإِنَّ الْمُتَوَلِّدَ لاَ يَتْبَعُهُ وَإِنَّمَا يَتْبَعُ الأُْمَّ. (4)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تُؤْكَل ذَبِيحَةُ الْمُتَوَلِّدِ مُطْلَقًا، لأَِنَّهُ يَتْبَعُ أَخَسَّ الأَْصْلَيْنِ احْتِيَاطًا. (5) وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. (6)
شَرَائِطُ حِل ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ:
29 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّمَا تُؤْكَل ذَبِيحَةُ الْكِتَابِيِّ إِذَا
__________
(1) الخرشي على خليل 2 / 302.
(2) البجيرمي على الإقناع 4 / 233.
(3) البدائع 5 / 45، والمقنع 3 / 535.
(4) العدوي على الخرشي 2 / 303.
(5) البجيرمي على الإقناع 4 / 233.
(6) المقنع 3 / 525.(21/187)
لَمْ يُشْهَدْ ذَبْحُهُ، وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ شُهِدَ وَسُمِعَ مِنْهُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ؛ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ شَيْءٌ يُحْمَل عَلَى أَنَّهُ قَدْ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى، وَجَرَّدَ التَّسْمِيَةَ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ كَمَا بِالْمُسْلِمِ. وَإِنْ سُمِعَ مِنْهُ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ عَنَى بِهِ - عَزَّ وَجَل - الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تُؤْكَل؛ لأَِنَّهُ أَظْهَرَ تَسْمِيَةً هِيَ تَسْمِيَةُ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ إِذَا نَصَّ فَقَال مَثَلاً: بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ، فَلاَ تَحِل، وَإِذَا سُمِعَ مِنْهُ أَنْ سَمَّى الْمَسِيحَ وَحْدَهُ أَوْ سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى وَالْمَسِيحَ لاَ تُؤْكَل ذَبِيحَتُهُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (1) . وَهَذَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَلاَ يُؤْكَل. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تَحِل ذَبِيحَةُ الْكِتَابِيِّ إِذَا لَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ أُهِّل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْمُسْلِمِ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ ثَلاَثُ شَرَائِطَ:
أ - أَنْ يَذْبَحَ مَا يَحِل لَهُ بِشَرْعِنَا مِنْ غَنَمٍ وَبَقَرٍ وَغَيْرِهِمَا إِذَا ذَبَحَ لِنَفْسِهِ - أَيْ ذَبَحَ مَا يَمْلِكُهُ - وَخَرَجَ بِذَلِكَ مَا لَوْ ذَبَحَ الْيَهُودِيُّ لِنَفْسِهِ حَيَوَانًا ذَا ظُفُرٍ، وَهُوَ مَا لَهُ جِلْدَةٌ بَيْنَ أَصَابِعِهِ كَالإِْبِل وَالإِْوَزِّ فَلاَ يَحِل لَنَا أَكْلُهُ (4)
__________
(1) سورة النحل / 115.
(2) البدائع 5 / 46.
(3) الإقناع بحاشية البجيرمي 4 / 251، 256.
(4) الخرشي مع العدوي 2 / 303.(21/187)
وَبِهَذَا قَال الْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ. لَكِنَّهُمْ لَمْ يُقَيِّدُوا الْمَسْأَلَةَ بِكَوْنِ الْيَهُودِيِّ ذَبَحَ لِنَفْسِهِ بَل قَالُوا: لَوْ ذَبَحَ الْيَهُودِيُّ ذَا ظُفُرٍ لَمْ يَحِل لَنَا فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عَدَمُ التَّحْرِيمِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ. (1)
قَال الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنْ ذَبَحَ لِمُسْلِمٍ بِأَمْرِهِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: أَرْجَحُهُمَا عِنْدَ ابْنِ عَرَفَةَ التَّحْرِيمُ - كَمَا ذَكَرَهُ الْعَدَوِيُّ عَلَى الْخَرَشِيِّ - سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ أَمْ لاَ. وَفِي (الشَّرْحِ الصَّغِيرِ) : الرَّاجِحُ الْكَرَاهَةُ. (2)
فَإِنْ ذَبَحَ لِمُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَالظَّاهِرُ الْحِل - كَمَا قَرَّرَهُ الْعَدَوِيُّ - لأَِنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى ذَبْحِهِ الْمُوجِبِ لِغُرْمِهِ يَصِيرُ كَالْمَمْلُوكِ لَهُ. (3)
وَإِنْ ذَبَحَ الْكِتَابِيُّ لِكِتَابِيٍّ آخَرَ مَا يَحِل لَهُمَا حَل لَنَا، أَوْ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا حَرُمَ عَلَيْنَا، أَوْ مَا يَحِل لأَِحَدِهِمَا وَيَحْرُمُ عَلَى الآْخَرِ. فَالظَّاهِرُ اعْتِبَارُ حَال الذَّابِحِ. (4)
ب - أَلاَّ يَذْكُرَ عَلَيْهِ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنْ ذَكَرَ عَلَيْهِ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ كَأَنْ قَال: بِاسْمِ الْمَسِيحِ أَوِ الْعَذْرَاءِ أَوَالصَّنَمِ لَمْ يُؤْكَل، بِخِلاَفِ مَا لَوْ ذَبَحُوا لأَِنْفُسِهِمْ ذَبِيحَةً بِقَصْدِ أَكْلِهِمْ مِنْهَا وَلَوْ فِي أَعْيَادِهِمْ وَأَفْرَاحِهِمْ، وَقَصَدُوا التَّقَرُّبَ بِهَا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
__________
(1) المقنع 3 / 543.
(2) العدوي على الخرشي 2 / 303، الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 315.
(3) الخرشي مع العدوي 2 / 306.
(4) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 315.(21/188)
أَوَالصَّلِيبِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ اسْمَيْهِمَا فَإِنَّهُ يَحِل لَنَا أَكْلُهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ. (1)
وَبِالْحِل فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَال أَحْمَدُ فِي أَرْجَحِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِل عَنْهُ فَقَال: كُلُوا وَأَطْعِمُونِي رَوَاهُ سَعِيدٌ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ كَذَلِكَ رَوَاهُمَا سَعِيدٌ، وَرَخَّصَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ الأَْسْوَدِ وَمَكْحُولٌ وَضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (2) وَهَذَا مِنْ طَعَامِهِمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَحْرُمُ وَإِنْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَاخْتَارَ ذَلِكَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَهُوَ قَوْل مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ. (3)
وَقِيل: إِنْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ اسْمَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَالصَّلِيبِ لاَ يَضُرُّ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَضُرُّ إِخْرَاجُهُ قُرْبَةً لِذَاتِ غَيْرِ اللَّهِ لأَِنَّهُ الَّذِي أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. (4)
ج - أَلاَّ يَغِيبَ حَال ذَبْحِهِ عَنَّا إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْتَحِل الْمَيْتَةَ، إِذْ لاَ بُدَّ مِنْ حُضُورِ مُسْلِمٍ عَارِفٍ بِالذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ خَوْفًا مِنْ كَوْنِهِ قَتَلَهَا أَوَنَخَعَهَا أَوَسَمَّى عَلَيْهَا غَيْرَ اللَّهِ.
__________
(1) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 314.
(2) سورة المائدة / 5.
(3) المقنع 3 / 544.
(4) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 315.(21/188)
وَلاَ تُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ فِي الْكِتَابِيِّ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلاَفِ الْمُسْلِمِ. (1)
30 - الشَّرِيطَةُ (الثَّالِثَةُ) عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَكُونَ حَلاَلاً إِذَا أَرَادَ ذَبْحَ صَيْدِ الْبَرِّ، وَهُوَ الْوَحْشُ طَيْرًا كَانَ أَوْ دَابَّةً. فَالْمُحْرِمُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلصَّيْدِ الْبَرِّيِّ سَوَاءٌ أَكَانَ التَّعَرُّضُ بِاصْطِيَادٍ أَمْ ذَبْحٍ أَمْ قَتْلٍ أَمْ غَيْرِهَا، وَمُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يَدُل الْحَلاَل عَلَى صَيْدِ الْبَرِّ أَوْ يَأْمُرَ بِهِ أَوْ يُشِيرَ إِلَيْهِ، فَمَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ مَيْتَةٌ، وَكَذَا مَا ذَبَحَهُ الْحَلاَل بِدَلاَلَةِ الْمُحْرِمِ أَوْ إِشَارَتِهِ. قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (2) وَقَال تَعَالَى: {أُحِل لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (3) .
وَخَرَجَ بِالصَّيْدِ: الْمُسْتَأْنَسِ كَالدَّجَاجِ وَالْغَنَمِ وَالإِْبِل، فَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يُذَكِّيَهَا؛ لأَِنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِالصَّيْدِ أَيْ بِمَا شَأْنُهُ أَنْ يُصَادَ وَهُوَ الْوَحْشُ فَبَقِيَ غَيْرُهُ عَلَى عُمُومِ الإِْبَاحَةِ. وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ جَمِيعُ الْمَذَاهِبِ. (4)
__________
(1) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 314، القوانين الفقهية 185.
(2) سورة المائدة / 95.
(3) سورة المائدة / 96.
(4) البدائع 5 / 50، والشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 297، ونهاية المحتاج 3 / 332، 341، والمقنع 1 / 436، والدسوقي 2 / 72، ومغني المحتاج 1 / 525، وكشاف القناع 2 / 437.(21/189)
31 - الشَّرِيطَةُ (الرَّابِعَةُ) ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى اشْتِرَاطِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ التَّذَكُّرِ وَالْقُدْرَةِ. فَمَنْ تَعَمَّدَ تَرْكَهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى النُّطْقِ بِهَا لاَ تُؤْكَل ذَبِيحَتُهُ - مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كِتَابِيًّا - وَمَنْ نَسِيَهَا أَوْ كَانَ أَخْرَسَ أُكِلَتْ ذَبِيحَتُهُ.
وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (1)
نَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ أَكْل مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ وَسَمَّاهُ فِسْقًا، وَالْمَقْصُودُ مَا تُرِكَتِ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِ عَمْدًا مَعَ الْقُدْرَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ فَلْيُسَمِّ وَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ لْيَأْكُل (2) وَيُقَاسُ عَلَى الْمُسْلِمِ - فِي الْحَدِيثِ - الْكِتَابِيُّ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَنَا طَعَامَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فَيُشْتَرَطُ فِيهِمْ مَا يُشْتَرَطُ فِينَا. (3)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ
__________
(1) سورة الأنعام / 121.
(2) حديث: " المسلم يكفيه اسمه " أخرجه الدارقطني (4 / 296 - ط دار المحاسن) ، وأعله ابن القطان بما قيل في أحد رواته، كذا في نصب الراية للزيلعي (4 / 182 - ط المجلس العلمي) ، ثم ذكر الزيلعي أنه أعل كذلك بالوقف.
(3) بدائع الصنائع 5 / 46، 47، وحاشية ابن عابدين 5 / 189، والشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 319، والبجيرمي على الإقناع 4 / 251، والمقنع 3 / 540، 541.(21/189)
مُسْتَحَبَّةٌ (1) وَوَافَقَهُمُ ابْنُ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (2) وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ مُخَالِفَةٌ لِلْمَشْهُورِ لَكِنِ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ (3) - لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَنَا ذَبَائِحَ أَهْل الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (4) وَهُمْ لاَ يَذْكُرُونَهَا، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (5) ، فَفِيهِ تَأْوِيلاَنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ، يَعْنِي مَا ذُبِحَ لِلأَْصْنَامِ بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (6) وَسِيَاقُ الآْيَةِ دَالٌّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وَالْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا فِسْقًا هِيَ الإِْهْلاَل لِغَيْرِ اللَّهِ.
قَال تَعَالَى: {أَوْ فِسْقًا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (7) . ثَانِيهِمَا: مَا قَالَهُ أَحْمَدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَيْتَةُ بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} (8) وَذَلِكَ لأَِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: أَتَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ - أَيْ ذَكَّيْتُمْ - وَلاَ تَأْكُلُونَ مَا قَتَل اللَّهُ؟ يَعْنُونَ الْمَيْتَةَ.
__________
(1) البجيرمي على الإقناع 4 / 251.
(2) بلغة السالك على الشرح الصغير 1 / 319.
(3) المقنع 3 / 541.
(4) سورة المائدة / 5.
(5) سورة الأنعام / 121.
(6) سورة النمل / 115.
(7) سورة الأنعام / 145.
(8) سورة الأنعام / 121.(21/190)
وَمِمَّا يَدُل عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِلَحْمٍ لاَ نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لاَ؟ فَقَال: سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ قَالَتْ: وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ (1) فَلَوْ كَانَتِ التَّسْمِيَةُ شَرِيطَةً لَمَا حَلَّتِ الذَّبِيحَةُ مَعَ الشَّكِّ فِي وُجُودِهَا؛ لأَِنَّ الشَّكَّ فِي الشَّرِيطَةِ شَكٌّ فِيمَا شُرِطَتْ لَهُ.
وَيَشْهَدُ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: سَأَل رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُل مِنَّا يَذْبَحُ وَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ قَال: اسْمُ اللَّهِ عَلَى كُل مُسْلِمٍ (2) . وَفِي لَفْظٍ عَلَى فَمِ كُل مُسْلِمٍ وَهَذَا عَامٌّ فِي النَّاسِي وَالْمُتَعَمِّدِ؛ لأَِنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لاَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ. (3)
ثُمَّ إِنَّ الْمُتَّفِقِينَ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ النَّاطِقَ الْعَالِمَ بِالْوُجُوبِ إِذَا تَرَكَهَا عَمْدًا تَحْرُمُ ذَبِيحَتُهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِيِّ وَالأَْخْرَسِ وَالسَّاهِي وَالْجَاهِل بِالْوُجُوبِ. (4)
أَمَّا الْكِتَابِيُّ فَقَدْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تُشْتَرَطُ فِي
__________
(1) حديث عائشة: " سموا عليه أنتم وكلوه " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 634 - ط السلفية) .
(2) حديث: " اسم الله على كل مسلم " أخرجه الدارقطني (4 / 295 - ط دار المحاسن) وضعف أحد رواته.
(3) البجيرمي على الإقناع 4 / 251، بلغة السالك على الشرح الصغير 1 / 319، والمقنع 3 / 541.
(4) انظر مراجع المذاهب السابقة.(21/190)
حَقِّهِ التَّسْمِيَةُ؛ لأَِنَّ اللَّهَ أَبَاحَ ذَبَائِحَ أَهْل الْكِتَابِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُ التَّسْمِيَةَ. (1) وَاشْتَرَطَهَا الْبَاقُونَ فِي الْكِتَابِيِّ.
وَأَمَّا الأَْخْرَسُ فَقَدِ اشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ يُشِيرَ بِالتَّسْمِيَةِ، بِأَنْ يُومِئَ إِلَى السَّمَاءِ، (2) وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ الْبَاقُونَ. (3)
وَأَمَّا السَّاهِي عَنِ التَّسْمِيَةِ فَتَحْرُمُ ذَبِيحَتُهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ مُخَالِفَةٌ لِلْمَشْهُورِ. (4)
وَفُرِّعَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ تَحْرِيمِ ذَبِيحَةِ السَّاهِي، أَوْ مَنْ ذَبَحَ ذَبِيحَةً لِغَيْرِهِ بِأَمْرِهِ فَنَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى، أَوْ تَعَمَّدَ، فَهُوَ ضَامِنٌ مِثْل الْحَيَوَانِ الَّذِي أَفْسَدَ؛ لأَِنَّهُ مَيْتَةٌ، وَأَمْوَال النَّاسِ تُضْمَنُ بِالْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ. (5)
وَأَمَّا الْجَاهِل بِوُجُوبِ التَّسْمِيَةِ إِذَا تَرَكَهَا عَمْدًا فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ. فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ: يَحْرُمُ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا وَسَهْوًا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِسْحَاقَ وَالثَّوْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَرَبِيعَةَ: يَحْرُمُ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لاَ سَهْوًا.
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 314.
(2) المقنع 3 / 540.
(3) ر: مراجع المذاهب السابقة.
(4) المقنع 3 / 540.
(5) ر: مراجع المذاهب السابقة.(21/191)
ثُمَّ إِنَّ لِلتَّسْمِيَةِ حَقِيقَةً وَشَرَائِطَ وَوَقْتًا نَذْكُرُهَا فِي الْفِقْرَاتِ التَّالِيَةِ.
حَقِيقَةُ التَّسْمِيَةِ:
32 - حَقِيقَتُهَا: ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَيَّ اسْمٍ كَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. . .} (1) مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ اسْمٍ وَاسْمٍ، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. . .} (2) لأَِنَّهُ إِذَا ذَكَرَ الذَّابِحُ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ لَمْ يَكُنِ الْمَأْكُول مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا، وَسَوَاءٌ أَقَرَنَ بِالاِسْمِ الصِّفَةَ بِأَنْ قَال: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَجَل، اللَّهُ الرَّحْمَنُ، اللَّهُ الرَّحِيمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ أَمْ لَمْ يَقْرِنْ بِأَنْ قَال: اللَّهُ أَوِ الرَّحْمَنُ أَوِ الرَّحِيمُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْمَشْرُوطَ بِالآْيَةِ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - وَكَذَا التَّهْلِيل وَالتَّحْمِيدُ وَالتَّسْبِيحُ، سَوَاءٌ أَكَانَ جَاهِلاً بِالتَّسْمِيَةِ الْمَعْهُودَةِ أَمْ عَالِمًا بِهَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ التَّسْمِيَةُ بِالْعَرَبِيَّةِ أَمْ بِغَيْرِهَا، مِمَّنْ لاَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ يُحْسِنُهَا، هَذَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ. (3)
وَوَافَقَ سَائِرُ الْمَذَاهِبِ عَلَى التَّسْمِيَةِ الْمَعْهُودَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَخَالَفَ بَعْضُهُمْ فِي إِلْحَاقِ الصِّيَغِ
__________
(1) سورة الأنعام / 118، 119.
(2) سورة الأنعام / 121.
(3) البدائع 5 / 48.(21/191)
الأُْخْرَى بِهَا، وَبَعْضُهُمْ فِي وُقُوعِهَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ. (1)
فَالْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: إِنَّ التَّسْمِيَةَ الْوَاجِبَةَ هِيَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ بِأَيِّهِ صِيغَةٍ كَانَتْ مِنْ تَسْمِيَةٍ أَوْ تَهْلِيلٍ أَوْ تَسْبِيحٍ أَوْ تَكْبِيرٍ، لَكِنِ الأَْفْضَل أَنْ يَقُول بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. (2)
وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: يَكْفِي فِي التَّسْمِيَةِ: بِسْمِ اللَّهِ، وَالأَْكْمَل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَقِيل: لاَ يَقُول: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ لأَِنَّ الذَّبْحَ فِيهِ تَعْذِيبٌ (وَالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) لاَ يُنَاسِبَانِهِ. (3)
وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: إِنَّ الْمَذْهَبَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ هُوَ أَنْ يَقُول: بِسْمِ اللَّهِ، لاَ يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا؛ لأَِنَّ إِطْلاَقَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ ذِكْرِهَا يَنْصَرِفُ إِلَيْهَا، وَقِيل: يَكْفِي تَكْبِيرُ اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوُهُ كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ، وَإِنْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ يَحْصُل بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ. (4)
شَرَائِطُ التَّسْمِيَةِ:
33 - يُشْتَرَطُ فِي التَّسْمِيَةِ أَرْبَعُ شَرَائِطَ:
1 - أَنْ تَكُونَ التَّسْمِيَةُ مِنَ الذَّابِحِ حَتَّى لَوْ سَمَّى
__________
(1) ر: مراجع المذاهب السابقة في التسمية.
(2) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 319.
(3) البجيرمي على الإقناع 4 / 251، ومغني المحتاج 4 / 272 - 273.
(4) المقنع 3 / 540.(21/192)
غَيْرَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ ذَاكِرٌ غَيْرُ نَاسٍ لاَ يَحِل عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ التَّسْمِيَةَ. (1)
2 - أَنْ يُرِيدَ بِهَا التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ بِهَا التَّسْمِيَةَ لاِفْتِتَاحِ الْعَمَل لاَ يَحِل، وَكَذَا إِذَا قَال الْحَمْدُ لِلَّهِ وَأَرَادَ بِهِ الْحَمْدَ عَلَى سَبِيل الشُّكْرِ، وَكَذَا لَوْ سَبَّحَ أَوْ هَلَّل أَوْ كَبَّرَ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ وَصْفَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَالتَّنَزُّهِ عَنْ صِفَاتِ الْحُدُوثِ لاَ غَيْرَ.
وَهَذَا أَيْضًا عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ التَّسْمِيَةَ.
وَمَنْ غَفَل عَنْ إِرَادَةِ الذِّكْرِ وَالتَّعْظِيمِ لَمْ تَحْرُمْ ذَبِيحَتُهُ حَيْثُ لَمْ يُرِدْ مَعْنًى آخَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا. (2)
3 - أَلاَّ يَشُوبَ تَعْظِيمَهُ تَعَالَى بِالتَّسْمِيَةِ مَعْنًى آخَرُ كَالدُّعَاءِ، فَلَوْ قَال: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي " لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَسْمِيَةً؛ لأَِنَّهُ دُعَاءٌ، وَالدُّعَاءُ لاَ يُقْصَدُ بِهِ التَّعْظِيمُ الْمَحْضُ، فَلاَ يَكُونُ تَسْمِيَةً كَمَا لاَ يَكُونُ تَكْبِيرًا. (3)
4 - أَنْ يُعَيِّنَ بِالتَّسْمِيَةِ الذَّبِيحَةَ لأَِنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهَا لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِذَلِكَ. (4)
وَقْتُ التَّسْمِيَةِ:
34 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ التَّسْمِيَةِ فِي الذَّكَاةِ الاِخْتِيَارِيَّةِ هُوَ وَقْتُ التَّذْكِيَةِ،
__________
(1) البدائع 5 / 48.
(2) البدائع 5 / 48، والدر المختار بحاشية ابن عابدين 5 / 191.
(3) البدائع 5 / 48.
(4) البدائع 5 / 49، 50.(21/192)
لاَ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ إِلاَّ بِزَمَانٍ قَلِيلٍ لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. (1)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَكُونُ عِنْدَ حَرَكَةِ يَدِ الذَّابِحِ، وَقَال جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ الذَّبْحِ أَوْ قَبْلَهُ قَرِيبًا فَصَل بِكَلاَمٍ أَوْ لاَ. (2)
35 - الشَّرِيطَةُ (الْخَامِسَةُ) - مِنْ شَرَائِطِ الذَّابِحِ - أَلاَّ يُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِالذَّبْحِ. وَالْمَقْصُودُ هُوَ تَعْظِيمُ غَيْرِ اللَّهِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَعَهُ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لاَ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ الذَّبْحِ بِأَسْمَاءِ الآْلِهَةِ مُتَقَرِّبِينَ إِلَيْهَا بِذَبَائِحِهِمْ. (3) وَهِيَ شَرِيطَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا لِتَصْرِيحِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِهَا، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَسْتَثْنُونَ الْكِتَابِيَّ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الشَّرِيطَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ شَرَائِطِ الذَّابِحِ. (ر: ف 29) .
وَلِلإِْهْلاَل لِغَيْرِ اللَّهِ صُوَرٌ:
الصُّورَةُ الأُْولَى:
ذِكْرُ اسْمِ غَيْرِ اللَّهِ عِنْدَ الذَّبْحِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ سَوَاءٌ أَذُكِرَ مَعَهُ اسْمُ اللَّهِ أَمْ لاَ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُول الذَّابِحُ: بِسْمِ اللَّهِ وَاسْمِ
__________
(1) البدائع 5 / 48، 49، والشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 319.
(2) المقنع بحاشيته 3 / 540.
(3) تفسير أبي السعود (1 / 147 - ط: محمد علي صبيح) لقوله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ. . . .) سورة البقرة / 173 الآية.(21/193)
الرَّسُول فَهَذَا لاَ يَحِل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (1) وَلأَِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَذْكُرُونَ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فَتَجِبُ مُخَالَفَتُهُمْ بِالتَّجْرِيدِ.
وَلَوْ قَال الذَّابِحُ - بِسْمِ اللَّهِ - مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ فَإِنْ قَال: وَمُحَمَّدٍ - بِالْجَرِّ - لاَ يَحِل، لأَِنَّهُ أَشْرَكَ فِي اسْمِ اللَّهِ اسْمَ غَيْرِهِ. وَإِنْ قَال: وَمُحَمَّدٌ - بِالرَّفْعِ - يَحِل؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَعْطِفْهُ بَل اسْتَأْنَفَ فَلَمْ يُوجَدِ الإِْشْرَاكُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِوُجُودِ الْوَصْل مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَيُتَصَوَّرُ بِصُورَةِ الْحَرَامِ فَيُكْرَهُ، هَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ. (2)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ قَال: بِسْمِ اللَّهِ وَاسْمِ مُحَمَّدٍ، فَإِنْ قَصَدَ التَّشْرِيكَ كَفَرَ وَحَرُمَتِ الذَّبِيحَةُ، وَإِنْ قَصَدَ أَذْبَحُ بِاسْمِ اللَّهِ وَأَتَبَرَّكُ بِاسْمِ مُحَمَّدٍ كَانَ الْقَوْل مَكْرُوهًا وَالذَّبِيحَةُ حَلاَلاً، وَإِنْ أَطْلَقَ كَانَ الْقَوْل مُحَرَّمًا لإِِبْهَامِهِ التَّشْرِيكَ وَكَانَتِ الذَّبِيحَةُ حَلاَلاً. (3)
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ:
أَنْ يَقْصِدَ الذَّابِحُ التَّقَرُّبَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالذَّبْحِ وَإِنْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ وَحْدَهُ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَذْبَحَ لِقُدُومِ أَمِيرٍ وَنَحْوِهِ.
وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ عَلَيْهِ مَا خُلاَصَتُهُ: لَوْ ذَبَحَ لِقُدُومِ الأَْمِيرِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْعُظَمَاءِ (تَعْظِيمًا لَهُ) حَرُمَتْ ذَبِيحَتُهُ، وَلَوْ أَفْرَدَ
__________
(1) سورة النحل / 115.
(2) بدائع الصنائع 5 / 48.
(3) البجيرمي على الإقناع 4 / 251.(21/193)
اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِالذِّكْرِ؛ لأَِنَّهُ أَهَّل بِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ.
وَلَوْ ذَبَحَ لِلضَّيْفِ لَمْ تَحْرُمْ ذَبِيحَتُهُ لأَِنَّهُ سُنَّةُ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِكْرَامُ الضَّيْفِ تَعْظِيمٌ لِشَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِثْل ذَلِكَ مَا لَوْ ذَبَحَ لِلْوَلِيمَةِ أَوْ لِلْبَيْعِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا يَحِل وَمَا يَحْرُمُ: إِنْ قَصَدَ تَعْظِيمَ غَيْرِ اللَّهِ عِنْدَ الذَّبْحِ يَحْرُمُ، وَقَصْدُ الإِْكْرَامِ وَنَحْوُهُ لاَ يَحْرُمُ. (1)
وَفِي حَاشِيَةِ الْبُجَيْرِمِيِّ عَلَى الإِْقْنَاعِ " أَفْتَى أَهْل بُخَارَى بِتَحْرِيمِ مَا يُذْبَحُ عِنْدَ لِقَاءِ السُّلْطَانِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ " (2) .
36 - الشَّرِيطَةُ (السَّادِسَةُ) الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الْمَالِكِيَّةُ:
أَنْ يَقْطَعَ الذَّابِحُ مِنْ مُقَدَّمِ الْعُنُقِ، فَلاَ تَحِل الذَّبِيحَةُ إِنْ ضَرَبَهَا مِنَ الْقَفَا؛ لأَِنَّهَا بِقَطْعِ النُّخَاعِ تَصِيرُ مَيْتَةً، وَكَذَا لاَ تَحِل إِنْ ضَرَبَهَا مِنْ صَفْحَةِ الْعُنُقِ وَبَلَغَ النُّخَاعَ، أَمَّا إِنْ بَدَأَ الضَّرْبَ مِنَ الصَّفْحَةِ وَمَال بِالسِّكِّينِ إِلَى الصَّفْحَةِ الأُْخْرَى مِنْ غَيْرِ قَطْعِ النُّخَاعِ، فَإِنَّهَا تُؤْكَل. وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ مِنَ الْقَفَا عَصَى، فَإِنْ أَسْرَعَ فَقَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ وَبِالذَّبِيحَةِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ حَلَّتْ؛ لأَِنَّ الذَّكَاةَ صَادَفَتْهَا وَهِيَ حَيَّةٌ وَإِلاَّ فَلاَ تَحِل؛ لأَِنَّهَا صَارَتْ مَيْتَةً فَلاَ يُفِيدُ الذَّبْحُ بَعْدَ ذَلِكَ.
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 196.
(2) البجيرمي على الإقناع 4 / 251.(21/194)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ فَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَصَحَّحَهَا ابْنُ قُدَامَةَ وَالْمَرْدَاوِيُّ تَحِل، وَالثَّانِيَةُ: لاَ تَحِل، وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَمَفْهُومُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ. (1)
37 - الشَّرِيطَةُ (السَّابِعَةُ) الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا:
أَلاَّ يَرْفَعَ يَدَهُ قَبْل تَمَامِ التَّذْكِيَةِ، فَإِنْ رَفَعَ يَدَهُ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لاَ يَضُرُّ إِلاَّ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ مَا لَوْ أَنْفَذَ بَعْضَ مَقَاتِلِهَا وَعَادَ لِتَكْمِلَةِ الذَّبْحِ عَنْ بُعْدٍ، وَمَا عَدَا هَذِهِ تُؤْكَل اتِّفَاقًا أَوْ عَلَى الرَّاجِحِ.
وَصُورَةُ الاِتِّفَاقِ مَا إِذَا كَانَتْ لَوْ تُرِكَتْ تَعِيشُ، أَوْ لاَ تَعِيشُ وَكَانَ الرَّفْعُ اضْطِرَارًا.
وَصُورَةُ الرَّاجِحِ مَا إِذَا كَانَتْ لَوْ تُرِكَتْ لَمْ تَعِشْ وَعَادَ عَنْ قُرْبٍ وَكَانَ الرَّفْعُ اخْتِيَارًا. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ رَفَعَ يَدَهُ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَضُرَّ إِنْ كَانَتْ فِي الْمَذْبُوحِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ عِنْدَ بَدْءِ الْمَرَّةِ الأَْخِيرَةِ، فَإِنْ بَدَأَهَا وَفِيهِ حَرَكَةُ مَذْبُوحٍ لَمْ يَحِل. (3)
38 - الشَّرِيطَةُ (الثَّامِنَةُ) :
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ
__________
(1) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 313، ومغني المحتاج 4 / 271، والفروع 6 / 314.
(2) الخرشي علي العدوي 2 / 302.
(3) البجيرمي على الإقناع 4 / 248.(21/194)
قَصْدِ التَّذْكِيَةِ بِأَنْ يَنْوِيَ الذَّابِحُ التَّذْكِيَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْ حِل الأَْكْل مِنَ الذَّبِيحَةِ، فَلَوْ قَصَدَ مُجَرَّدَ مَوْتِهَا أَوْ قَصَدَ ضَرْبَهَا فَأَصَابَ مَحَل الذَّبْحِ لَمْ تُؤْكَل، وَكَذَا إِذَا تَرَكَ النِّيَّةَ وَلَوْ نِسْيَانًا أَوْ عَجْزًا لَمْ تُؤْكَل ذَبِيحَتُهُ. (1)
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَعْنُونَ بِالْقَصْدِ قَصْدَ الْفِعْل كَمَا لَوْ صَال عَلَيْهِ حَيَوَانٌ مَأْكُولٌ فَضَرَبَهُ بِسَيْفٍ فَقَطَعَ رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَكْلُهُ؛ لأَِنَّ قَصْدَ الذَّبْحِ لاَ يُشْتَرَطُ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ قَصْدُ الْفِعْل وَقَدْ وُجِدَ. (2)
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ رَاجِعْ (صَائِل) .
شَرَائِطُ آلَةِ الذَّبْحِ:
39 - يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الذَّبْحِ شَرِيطَتَانِ رَاجِعَتَانِ إِلَى آلَتِهِ:
أَنْ تَكُونَ قَاطِعَةً، وَأَلاَّ تَكُونَ سِنًّا أَوْ ظُفُرًا قَائِمَيْنِ.
40 - الشَّرِيطَةُ (الأُْولَى) الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنْ تَكُونَ قَاطِعَةً، سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَدِيدًا أَمْ لاَ، كَالْمَرْوَةِ وَاللِّيطَةِ وَشَقَّةِ الْعَصَا. (3) وَالزُّجَاجُ،
__________
(1) الخرشي علي العدوي 2 / 302، والمقنع بحاشيته 3 / 536.
(2) البجيرمي على الإقناع 4 / 246، ونهاية المحتاج 8 / 116.
(3) المروة واحدة المرو وهو حجر أبيض والمقصود به هنا ما كان رقيقًا يحصل به الذبح، والليطة: قشرة القصبة والقوس والقناة وكل شيء له متانة، والجمع ليط، كريشة وريش، والشقة - بكسر الشين - الشظية أو القطعة المشقوقة من لوح أو خشب أو غيره (ر: لسان العرب) .(21/195)
وَالصَّدَفُ الْقَاطِعُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ حَادَّةً أَمْ كَلِيلَةً مَا دَامَتْ قَاطِعَةً.
وَالأَْصْل فِي جَوَازِ التَّذْكِيَةِ بِغَيْرِ الْحَدِيدِ مَا وَرَدَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّا لاَقُوا الْعَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدًى. قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْجِل أَوْ أَرْنِي مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فَكُل، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ. وَسَأُحَدِّثُكَ: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ. (1)
وَأَمَّا جَوَازُ التَّذْكِيَةِ بِالْمُدَى الْكَلِيلَةِ وَنَحْوِهَا إِنْ كَانَتْ تَقْطَعُ فَلِحُصُول مَعْنَى الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ. (2) وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْكَلِيلَةَ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَلاَّ يَحْتَاجُ الْقَطْعُ بِهَا إِلَى قُوَّةِ الذَّابِحِ، وَأَنْ يَقْطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ قَبْل انْتِهَاءِ الْحَيَوَانِ إِلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ. (3)
41 - الشَّرِيطَةُ (الثَّانِيَةُ) ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ إِلَى أَلاَّ تَكُونَ الآْلَةُ سِنًّا أَوْ ظُفُرًا قَائِمَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمْ تَحِل الذَّبِيحَةُ؛ لأَِنَّ الذَّابِحَ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا فَتُخْنَقُ وَتُفْسَخُ فَلاَ يَحِل أَكْلُهَا.
__________
(1) حديث رافع بن خديج. . . . أخرجه البخاري (الفتح 9 / 638 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1558 - ط الحلبي) ، واللفظ لمسلم.
(2) البدائع 5 / 42، 60، وحاشية ابن عابدين 5 / 187، والخرشي علي العدوي 2 / 314، والبجيرمي على الإقناع 4 / 250، والمقنع 3 / 537.
(3) البجيرمي على الإقناع 4 / 250(21/195)
وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الظُّفُرُ الْقَائِمُ ظُفُرَ غَيْرِهِ جَازَ وَذَلِكَ بِأَنْ يَأْخُذَ الذَّابِحُ يَدَ غَيْرِهِ فَيُمِرُّ ظُفْرَهَا كَمَا يُمِرُّ السِّكِّينَ فَإِنَّ الذَّبِيحَةَ تَحِل؛ لأَِنَّهَا قَطَعَتْ وَلَمْ تَفْسَخْ، وَخَرَجَ بِقَيْدِ " قَائِمَيْنِ " السِّنُّ وَالظُّفُرُ الْمَنْزُوعَانِ إِذَا كَانَا قَاطِعَيْنِ فَتَجُوزُ التَّذْكِيَةُ بِهِمَا. (1)
وَهَذَا لاَ يُعَارِضُ الْحَدِيثَ السَّابِقَ فَإِنَّ الْمُرَادَ فِيهِ بِالسِّنِّ وَالظُّفُرِ الْقَائِمَانِ لاَ الْمَنْزُوعَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل مَا أَفْرَى الأَْوْدَاجَ مَا لَمْ يَكُنْ قَرْضَ سِنٍّ أَوْ حَزَّ ظُفُرٍ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الذَّكَاةُ بِالسِّنِّ وَالظُّفُرِ وَبَقِيَّةِ الْعِظَامِ مُطْلَقًا مُتَّصِلَيْنِ كَانَا أَوْ مُنْفَصِلَيْنِ لِظَاهِرِ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ السَّابِقِ. (3)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ لاَ يَجُوزُ بِالسِّنِّ وَالظُّفُرِ، وَفِي الْعَظْمِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْمَذْهَبُ الْجَوَازُ. (4)
وَالْقَوْل الثَّالِثُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ تَجُوزُ الذَّكَاةُ مُطْلَقًا بِالسِّنِّ وَالظُّفُرِ مُنْفَصِلَيْنِ وَمُتَّصِلَيْنِ.
وَالْقَوْل الرَّابِعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُ الذَّكَاةِ
__________
(1) البدائع 5 / 42.
(2) حديث: " كل ما أفرى الأوداج. . . " أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (8 / 250 - وزارة الأوقاف العراقية) ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 34 - ط القدسي) ، وقال: فيه علي بن يزيد، وهو ضعيف.
(3) الخرشي علي العدوي 2 / 315، ونهاية المحتاج 8 / 113، والمقنع 3 / 537.
(4) المقنع 3 / 537.(21/196)
بِالظُّفُرِ مُطْلَقًا وَكَرَاهِيَتُهَا بِالسِّنِّ مُطْلَقًا.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا جَوَازُ الذَّكَاةِ بِالْعَظْمِ مُطْلَقًا.
وَمَحَل أَقْوَال الْمَالِكِيَّةِ أَنْ تُوجَدَ آلَةٌ مَعَهُمَا غَيْرُ الْحَدِيدِ فَإِنْ وُجِدَ الْحَدِيدُ تَعَيَّنَ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ آلَةٌ سِوَاهَا تَعَيَّنَ الذَّبْحُ بِهِمَا. (1)
آدَابُ الذَّبْحِ:
42 - يُسْتَحَبُّ فِي الذَّبْحِ أُمُورٌ. (2) مِنْهَا:
أ - أَنْ يَكُونَ بِآلَةِ حَدِيدٍ حَادَّةٍ كَالسِّكِّينِ وَالسَّيْفِ الْحَادَّيْنِ لاَ بِغَيْرِ الْحَدِيدِ وَلاَ بِالْكَلِيلَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلإِْرَاحَةِ الْمَطْلُوبَةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ (3) .
ب - التَّذْفِيفُ فِي الْقَطْعِ - وَهُوَ الإِْسْرَاعُ - لأَِنَّ فِيهِ إِرَاحَةً لِلذَّبِيحَةِ.
ج - أَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ، وَالذَّبِيحَةُ مُوَجَّهَةً إِلَى الْقِبْلَةِ بِمَذْبَحِهَا لاَ بِوَجْهِهَا إِذْ هِيَ جِهَةُ الرَّغْبَةِ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ؛ وَلأَِنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَأْكُل ذَبِيحَةً لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ. وَلاَ مُخَالِفَ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَصَحَّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ
__________
(1) الخرشي علي العدوي 2 / 315.
(2) ر: في هذه الآداب: بدائع الصنائع 5 / 60، وحاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 188.
(3) حديث: " وليرح ذبيحته. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1548 - ط الحلبي) من حديث شداد بن أوس.(21/196)
د - إِحْدَادُ الشَّفْرَةِ قَبْل إِضْجَاعِ الشَّاةِ وَنَحْوِهَا، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (1) وَاتَّفَقُوا عَلَى كَرَاهَةِ أَنْ يَحُدَّ الذَّابِحُ الشَّفْرَةَ بَيْنَ يَدَيِ الذَّبِيحَةِ، وَهِيَ مُهَيَّأَةٌ لِلذَّبْحِ لِمَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَجُلاً أَضْجَعَ شَاةً يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَهَا وَهُوَ يَحُدُّ شَفْرَتَهُ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ؟ هَلاَّ حَدَدْتَ شَفْرَتَكَ قَبْل أَنْ تُضْجِعَهَا. (2)
وَلاَ تَحْرُمُ الذَّبِيحَةُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الذَّبْحِ أَوْ فِعْل شَيْءٍ مِنْ مَكْرُوهَاتِهِ؛ لأَِنَّ النَّهْيَ الْمُسْتَفَادَ مِنَ الْحَدِيثِ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بَل لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ مَا يَلْحَقُ الْحَيَوَانَ مِنْ زِيَادَةِ أَلَمٍ لاَ حَاجَةَ إِلَيْهَا، فَلاَ يُوجِبُ الْفَسَادَ. (3)
هـ - أَنْ تُضْجَعَ الذَّبِيحَةُ عَلَى شِقِّهَا الأَْيْسَرِ بِرِفْقٍ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ كَيْفِيَّةَ الإِْضْجَاعِ وَمَا يُسَنُّ مَعَهُ فَقَالُوا: السُّنَّةُ أَنْ تَأْخُذَ الشَّاةَ بِرِفْقٍ وَتُضْجِعَهَا عَلَى شِقِّهَا الأَْيْسَرِ وَرَأْسُهَا مُشْرِفٌ، وَتَأْخُذُ بِيَدِكَ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 319، ونهاية المحتاج 8 / 112.
(2) حديث: " أتريد أن تميتها. . . " أخرجه الحاكم (4 / 231 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وصححه ووافقه الذهبي.
(3) الشرح الصغير 1 / 319، ونهاية المحتاج 8 / 112، والمقنع 3 / 542.(21/197)
الْيُسْرَى جَلْدَةَ حَلْقِهَا مِنَ اللَّحْيِ الأَْسْفَل بِالصُّوفِ أَوْ غَيْرِهِ فَتَمُدَّهُ حَتَّى تَتَبَيَّنَ الْبَشَرَةُ، وَتَضَعَ السِّكِّينَ فِي الْمَذْبَحِ حَتَّى تَكُونَ الْجَوْزَةُ فِي الرَّأْسِ، ثُمَّ تُسَمِّيَ اللَّهَ وَتُمِرَّ السِّكِّينَ مَرًّا مُجْهِزًا مِنْ غَيْرِ تَرْدِيدٍ، ثُمَّ تَرْفَعُ وَلاَ تَنْخَعُ وَلاَ تَضْرِبُ بِهَا الأَْرْضَ وَلاَ تَجْعَل رِجْلَكَ عَلَى عُنُقِهَا.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِاسْتِحْبَابِ شَدِّ قَوَائِمِهَا وَتَرْكِ رِجْلِهَا الْيُمْنَى لِتَسْتَرِيحَ بِتَحْرِيكِهَا.
وَالدَّلِيل عَلَى اسْتِحْبَابِ الإِْضْجَاعِ فِي جَمِيعِ الْمَذْبُوحَاتِ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ فَأُتِيَ بِهِ لِيُضَحِّيَ بِهِ، فَقَال لَهَا: يَا عَائِشَةُ، هَلُمِّي الْمُدْيَةَ ثُمَّ قَال: اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أَخَذَهَا وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ. (1)
قَال النَّوَوِيُّ: جَاءَتِ الأَْحَادِيثُ بِالإِْضْجَاعِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ إِضْجَاعَ الذَّبِيحَةِ يَكُونُ عَلَى جَانِبِهَا الأَْيْسَرِ لأَِنَّهُ أَسْهَل عَلَى الذَّابِحِ فِي أَخْذِ السِّكِّينِ بِالْيَمِينِ وَإِمْسَاكِ رَأْسِهَا بِالْيَسَارِ. (2)
وَقَاسَ الْجُمْهُورُ عَلَى الْكَبْشِ جَمِيعَ الْمَذْبُوحَاتِ الَّتِي تَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الإِْضْجَاعِ.
__________
(1) حديث عائشة: " أمر بكبش أقرن. . . " أخرجه مسلم (3 / 1557 - ط الحلبي) .
(2) نيل الأوطار 5 / 138.(21/197)
و - سَوْقُ الذَّبِيحَةِ إِلَى الْمَذْبَحِ بِرِفْقٍ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ.
ز - عَرْضُ الْمَاءِ عَلَى الذَّبِيحَةِ قَبْل ذَبْحِهَا، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا.
ح - وَإِذَا كَانَتِ الذَّبِيحَةُ قُرْبَةً مِنَ الْقُرُبَاتِ كَالأُْضْحِيَّةِ يُكَبِّرُ الذَّابِحُ ثَلاَثًا قَبْل التَّسْمِيَةِ وَثَلاَثًا بَعْدَهَا، ثُمَّ يَقُول: اللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ وَإِلَيْكَ فَتَقَبَّلْهُ مِنِّي، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ. (ر: أُضْحِيَّة) .
ط - كَوْنُ الذَّبْحِ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ. (1)
ي - عَدَمُ الْمُبَالَغَةِ فِي الْقَطْعِ حَتَّى يَبْلُغَ الذَّابِحُ النُّخَاعَ أَوْ يُبِينَ رَأْسُ الذَّبِيحَةِ حَال ذَبْحِهَا وَكَذَا بَعْدَ الذَّبْحِ قَبْل أَنْ تَبْرُدَ وَكَذَا سَلْخُهَا قَبْل أَنْ تَبْرُدَ لِمَا فِي كُل ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ إِيلاَمٍ لاَ حَاجَةَ إِلَيْهَا. (2)
وَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الذَّبِيحَةِ أَنْ تُفَرَّسَ (3) . قَال إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ ": الْفَرْسُ أَنْ يَذْبَحَ الشَّاةَ فَتُنْخَعَ، وَقَال ابْنُ الأَْثِيرِ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 319، والخرشي على العدوي 2 / 314، ونهاية المحتاج 8 / 112، والبجيرمي على الإقناع 4 / 250، والمقنع بحاشيته 1 / 475.
(2) بلغة السالك على الشرح الصغير 1 / 312.
(3) حديث: " نهى عن الذبيحة أن تفرس " أخرجه البيهقي (9 / 280 - ط دائرة المعارف العثمانية) ثم قال: " وهذا إسناد ضعيف ".(21/198)
فِي " النِّهَايَةِ ": هُوَ " كَسْرُ رَقَبَةِ الذَّبِيحَةِ قَبْل أَنْ تَبْرُدَ " فَإِنْ نَخَعَ أَوْ سَلَخَ قَبْل أَنْ تَبْرُدَ لَمْ تَحْرُمِ الذَّبِيحَةُ لِوُجُودِ التَّذْكِيَةِ بِشَرَائِطِهَا.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْهَا أَوْ إِلْقَائِهَا فِي النَّارِ بَعْدَ تَمَامِ ذَبْحِهَا وَقَبْل خُرُوجِ رُوحِهَا. (1)
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا بِكَرَاهَةِ تَحْرِيكِهَا وَنَقْلِهَا قَبْل خُرُوجِ رُوحِهَا.
وَقَال الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ كَسْرُ عُنُقِهَا حَتَّى تَبْرُدَ، وَقَطْعُ عُضْوٍ مِنْهَا قَبْل أَنْ تَبْرُدَ. (2)
ثَانِيًا: النَّحْرُ:
حَقِيقَةُ النَّحْرِ:
43 - حَقِيقَتُهُ قَطْعُ الأَْوْدَاجِ فِي اللَّبَّةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَيَوَانِ، وَهَذَا رَأْيُ الْجُمْهُورِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ حَقِيقَتَهُ الطَّعْنُ فِي اللَّبَّةِ طَعْنًا يُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ وَإِنْ لَمْ تُقْطَعِ الأَْوْدَاجُ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَيَوَانِ أَيْضًا. (3) وَاللَّبَّةُ هِيَ الثُّغْرَةُ بَيْنَ التَّرْقُوَتَيْنِ أَسْفَل الْعُنُقِ كَمَا سَبَقَ فِي (ف 1) .
__________
(1) الخرشي مع العدوي 2 / 316، والبجيرمي على الإقناع 4 / 308.
(2) الخرشي مع العدوي 2 / 316، ونهاية المحتاج 8 / 112، والمقنع 3 / 539.
(3) الخرشي على العدوي 2 / 301، 302، والشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 314.(21/198)
وَسَبَقَ فِي حَقِيقَةِ الذَّكَاةِ الاِخْتِيَارِيَّةِ (ف 11) أَنَّ الْمُخْتَصَّ بِالنَّحْرِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ هُوَ الإِْبِل عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ كُل مَا طَال عُنُقُهُ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ مَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّرَافِ وَالْفِيلَةِ، وَجَوَّزُوا الذَّبْحَ وَالنَّحْرَ - مَعَ أَفْضَلِيَّةِ الذَّبْحِ - فِي الْبَقَرِ وَمَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْ بَقَرِ الْوَحْشِ وَحُمُرِهِ وَخَيْلِهِ وَبِغَالِهِ.
ثُمَّ إِنَّ خِلاَفَ الأَْئِمَّةِ فِيمَا يَكْفِي مِنْ قَطْعِ الأَْوْدَاجِ فِي النَّحْرِ هُوَ الْخِلاَفُ السَّابِقُ فِي " حَقِيقَةِ الذَّبْحِ " (ف 14) .
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ فَرَّقُوا بَيْنَ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ فَقَالُوا: إِنَّ الذَّبْحَ يَكُونُ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ، وَالنَّحْرُ يَكُونُ بِالطَّعْنِ فِي اللَّبَّةِ طَعْنًا مُفْضِيًا إِلَى الْمَوْتِ، دُونَ اشْتِرَاطِ قَطْعِ شَيْءٍ مِنَ الْعُرُوقِ الأَْرْبَعَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، خِلاَفًا لِلَّخْمِيِّ؛ لأَِنَّ وَرَاءَ اللَّبَّةِ عِرْقًا مُتَّصِلاً بِالْقَلْبِ يُفْضِي طَعْنُهُ إِلَى سُرْعَةِ خُرُوجِ الرُّوحِ. (1)
شَرَائِطُ النَّحْرِ:
44 - يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ النَّحْرِ الشَّرَائِطُ السَّابِقُ ذِكْرُهَا فِي الذَّبْحِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَكُونَ الْحَيَوَانُ الْمَنْحُورُ مُخْتَصًّا بِالذَّبْحِ وَهُوَ مَا عَدَا الأَْصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ. فَلَوْ نَحَرَ مَا يَخْتَصُّ بِالذَّبْحِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ حَرُمَ النَّحْرُ وَالْحَيَوَانُ الْمَنْحُورُ
__________
(1) الخرشي على العدوي 2 / 301، 302، والشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 314.(21/199)
خِلاَفًا لِسَائِرِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي تُجِيزُ نَحْرَ مَا يُذْبَحُ.
آدَابُ النَّحْرِ:
45 - يُسْتَحَبُّ فِي النَّحْرِ كُل مَا يُسْتَحَبُّ فِي الذَّبْحِ، وَاخْتِلاَفُ الْمَذَاهِبِ هُنَاكَ هُوَ نَفْسُ اخْتِلاَفِهَا هُنَا. إِلاَّ أَنَّ الإِْبِل تُنْحَرُ قَائِمَةً عَلَى ثَلاَثٍ مَعْقُولَةَ الْيَدِ الْيُسْرَى. (1)
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ لِلنَّحْرِ كَيْفِيَّةً وَهِيَ أَنْ يُوَجِّهَ النَّاحِرُ مَا يُرِيدُ نَحْرَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ وَيَقِفَ بِجَانِبِ الرِّجْل الْيُمْنَى غَيْرِ الْمَعْقُولَةِ مُمْسِكًا مِشْفَرَهُ الأَْعْلَى بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَيَطْعَنُهُ فِي لَبَّتِهِ بِيَدِهِ الْيُمْنَى مُسَمِّيًا. (2)
وَنُقِل عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ خَشِيَ عَلَيْهَا أَنَاخَهَا. (3)
وَمِمَّا يَدُل عَلَى اسْتِحْبَابِ إِقَامَةِ الإِْبِل عَلَى ثَلاَثٍ عِنْدَ النَّحْرِ قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} (4) قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: (مَعْقُولَةً عَلَى ثَلاَثَةٍ) (5) .
وَأَحَادِيثُ مِنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ
__________
(1) البدائع 5 / 41، ونهاية المحتاج 8 / 111، والمقنع بحاشيته 1 / 474.
(2) الشرح الصغير مع بلغة السالك 1 / 319.
(3) المقنع بحاشيته 1 / 475، والإقناع بحاشية البجيرمي 4 / 250.
(4) سورة الحج / 36.
(5) أثر ابن عباس أخرجه البيهقي (5 / 237 - ط دائرة المعارف العثمانية) .(21/199)
كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَدَنَةَ مَعْقُولَةَ الْيُسْرَى قَائِمَةً عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ قَوَائِمِهَا (1) .
وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَتَى عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَنْحَرُ بَدَنَتَهُ بَارِكَةً، فَقَال: " ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (2) .
مَكْرُوهَاتُ النَّحْرِ:
46 - يُكْرَهُ فِي النَّحْرِ جَمِيعُ الْمَكْرُوهَاتِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي الذَّبْحِ.
الذَّكَاةُ الاِضْطِرَارِيَّةُ:
47 - الذَّكَاةُ الاِضْطِرَارِيَّةُ هِيَ الْجَرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنَ الْبَدَنِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْحَيَوَانِ، أَيْ كَأَنَّهَا صَيْدٌ فَتُسْتَعْمَل لِلضَّرُورَةِ فِي الْمَعْجُوزِ عَنْهُ مِنَ الصَّيْدِ وَالأَْنْعَامِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْحَالَةُ: الْعَقْرَ.
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى حِل لَحْمِ الْحَيَوَانِ بِذَكَاةِ الضَّرُورَةِ لأَِنَّ الذَّبْحَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا، وَلاَ بُدَّ مِنْ إِخْرَاجِ الدَّمِ لإِِزَالَةِ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَتَطْيِيبِ اللَّحْمِ، فَيُقَامُ سَبَبُ الذَّبْحِ مَقَامَهُ وَهُوَ الْجَرْحُ؛ لأَِنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ.
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة " أخرجه أبو داود (2 / 371 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وأورده ابن حجر في الفتح (3 / 553 - ط السلفية) وسكت عنه.
(2) حديث زياد بن جبير عن ابن عمر. أخرجه البخاري (الفتح 3 / 553 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 956 - ط الحلبي) ، واللفظ لمسلم.(21/200)
فَلَوْ تَوَحَّشَ حَيَوَانٌ أَهْلِيٌّ بَعْدَ أَنْ كَانَ إِنْسِيًّا أَوْ مُسْتَأْنَسًا، أَوْ نَدَّ بَعِيرٌ (شَرَدَ) أَوْ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ وَنَحْوِهِ، وَلَمْ تُمْكِنِ الذَّكَاةُ الاِخْتِيَارِيَّةُ، أَيْ عَجَزَ عَنْ ذَبْحِهِ فِي الْحَلْقِ فَذَكَاتُهُ حَيْثُ يُصَابُ بِأَيِّ جَرْحٍ مِنْ بَدَنِهِ، وَيَحِل حِينَئِذٍ أَكْلُهُ كَصَيْدِ الطَّائِرِ أَوِ الْحَيَوَانِ الْمُتَوَحِّشِ، لِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَال: كُنَّا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَنَدَّ بَعِيرٌ مِنْ إِبِل الْقَوْمِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ خَيْلٌ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا. (1)
وَسَوَاءٌ نَدَّ الْبَعِيرُ أَوِ الْبَقَرَةُ أَوِ الشَّاةُ فِي الصَّحْرَاءِ أَوْ فِي الْمِصْرِ، فَذَكَاتُهَا الْعَقْرُ، وَبِهِ قَال عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: فَإِنْ نَدَّتْ الشَّاةُ فِي الصَّحْرَاءِ فَذَكَاتُهَا الْعَقْرُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَإِنْ نَدَّتْ فِي الْمِصْرِ لَمْ يَجُزْ عَقْرُهَا؛ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ أَخْذُهَا، إِذْ هِيَ لاَ تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهَا فَكَانَ الذَّبْحُ مَقْدُورًا عَلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ الْعَقْرُ، وَهَذَا لأَِنَّ الْعَقْرَ خَلَفٌ مِنَ الذَّبْحِ وَالْقُدْرَةَ عَلَى الأَْصْل تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إِلَى الْخَلَفِ.
ثُمَّ لاَ خِلاَفَ فِي التَّذْكِيَةِ الاِضْطِرَارِيَّةِ بِالسَّهْمِ وَالرُّمْحِ وَالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ وَنَحْوِهَا، وَأَمَّا إِذَا لَمْ
__________
(1) حديث رافع بن خديج: " إن لهذه البهائم أوابد. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 638 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1558 - الحلبي) .(21/200)
يُجْرَحْ فَلاَ يَحِل أَكْلُهُ (1) لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الصَّيْدِ بِالْمِعْرَاضِ، فَقَال عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُل وَإِذَا أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ فَقَتَل فَإِنَّهُ وَقِيذٌ فَلاَ تَأْكُل (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ جَمِيعَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُسْتَأْنَسَةِ إِذَا شَرَدَتْ وَتَوَحَّشَتْ فَإِنَّهَا لاَ تُؤْكَل بِالْعَقْرِ عَمَلاً بِالأَْصْل، وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ إِنْ تَوَحَّشَ غَيْرُ الْبَقَرِ لَمْ يُؤْكَل بِالْعَقْرِ، وَإِنْ تَوَحَّشَ الْبَقَرُ جَازَ أَكْلُهُ بِالْعَقْرِ، لأَِنَّ الْبَقَرَ لَهَا أَصْلٌ فِي التَّوَحُّشِ تَرْجِعُ إِلَيْهِ، أَيْ شَبَّهَهَا بِبَقَرِ الْوَحْشِ.
وَإِنْ وَقَعَ فِي حُفْرَةٍ عُجِزَ عَنْ إِخْرَاجِهِ فَلاَ يُؤْكَل بِالْعَقْرِ، وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: يُؤْكَل الْحَيَوَانُ الْمُتَرَدِّي الْمَعْجُوزُ عَنْ ذَكَاتِهِ بَقَرًا أَوْ غَيْرَهُ بِالْعَقْرِ صِيَانَةً لِلأَْمْوَال. (3) وَلِلتَّفْصِيل:
(ر: صِيَال وَصَيْد) .
ذَكَاةُ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ:
48 - سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ
__________
(1) البدائع 5 / 43، وتبيين الحقائق 6 / 54، 58، وروضة الطالبين 3 / 240، ونهاية المحتاج 8 / 113، ومغني المحتاج 4 / 273، والمغني 8 / 558 - 559، والمقنع 3 / 547 - 548، ونيل الأوطار 8 / 168 ط مصطفى الحلبي.
(2) حديث: " إذا أصاب بِحَدِّهِ فَكُل، وإذا أصاب بعرضه فقتل، فإنه وقيذ فلا تأكل " أخرجه مسلم (3 / 1530 - ط الحلبي) .
(3) الدسوقي 2 / 103، وبلغة السالك 1 / 315، وبداية المجتهد 1 / 469.(21/201)
كَالْجَرَادِ لاَ حَاجَةَ فِي حِل أَكْلِهِ إِلَى الذَّكَاةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَال. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى إِزْهَاقِ رُوحِهِ بِفِعْل شَيْءٍ يَمُوتُ بِفِعْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْفِعْل مِمَّا يُعَجِّل الْمَوْتَ مِنْ قَطْعِ رَأْسٍ أَوْ إِلْقَاءٍ فِي نَارٍ أَوْ مَاءٍ حَارٍّ، أَوَمِمَّا لاَ يُعَجِّل كَقَطْعِ جَنَاحٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ إِلْقَاءٍ فِي مَاءٍ بَارِدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ بُدَّ فِي هَذِهِ التَّذْكِيَةِ مِنَ النِّيَّةِ وَالتَّسْمِيَةِ وَسَائِرِ الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّذْكِيَةِ. (2) (ر: أَطْعِمَة)
ذَكَاةُ الْجَنِينِ تَبَعًا لأُِمِّهِ:
49 - إِذَا ذُكِّيَتْ أُنْثَى مِنَ الْحَيَوَانِ فَمَاتَ بِتَذْكِيَتِهَا جَنِينُهَا فَفِي حِل هَذَا الْجَنِينِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. فَمَنْ قَال بِحِلِّهِ قَال إِنَّ ذَكَاتَهُ هِيَ مَوْتُهُ بِسَبَبِ ذَكَاةِ أُمِّهِ، فَهَذَا الْمَوْتُ ذَكَاةٌ تَبَعِيَّةٌ، وَمَنْ قَال بِعَدَمِ حِلِّهِ قَال إِنَّهُ مَيْتَةٌ لأَِنَّ الذَّكَاةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ اسْتِقْلاَلِيَّةً.
وَتَفْصِيل الْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ أَنَّ جَنِينَ الْمُذَكَّاةِ الَّذِي خَرَجَ بَعْدَ تَذْكِيَتِهَا لَهُ حَالَتَانِ. (3)
__________
(1) حديث: " أحلت لنا ميتتان ودمان. . . . " سبق تخريجه ف / 9.
(2) بدائع الصنائع 5 / 42، 43، وحاشية ابن عابدين 5 / 193، والشرح الصغير 1 / 321، والإقناع بحاشية البجيرمي 4 / 255 256، والمقنع 3 / 541.
(3) الخرشي 2 / 323، 324، والمقنع 3 / 535.(21/201)
(الْحَالَةُ الأُْولَى) : أَنْ يَخْرُجَ قَبْل نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ بِأَنْ يَكُونَ عَلَقَةً أَوْ مُضْغَةً أَوْ جَنِينًا غَيْرَ كَامِل الْخِلْقَةِ فَلاَ يَحِل عِنْدَ الْجُمْهُورِ لأَِنَّهُ مَيْتَةٌ، إِذْ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْمَوْتِ تَقَدُّمُ الْحَيَاةِ. قَال تَعَالَى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} (1) فَمَعْنَى قَوْلِهِ {كُنْتُمْ أَمْوَاتًا} كُنْتُمْ مَخْلُوقِينَ بِلاَ حَيَاةٍ، وَذَلِكَ قَبْل أَنْ تَنْفُخَ فِيهِمُ الرُّوحُ.
(الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ) : أَنْ يَخْرُجَ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ بِأَنْ يَكُونَ جَنِينًا كَامِل الْخِلْقَةِ - أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِرْ - وَلِهَذِهِ الْحَالَةِ صُوَرٌ:
الصُّورَةُ الأُْولَى: أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً فَتَجِبُ تَذْكِيَتُهُ فَإِنْ مَاتَ قَبْل التَّذْكِيَةِ، فَهُوَ مَيْتَةٌ اتِّفَاقًا.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا كَحَيَاةِ مَذْبُوحٍ فَإِنْ أَدْرَكْنَا ذَكَاتَهُ وَذَكَّيْنَاهُ حَل اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ نُدْرِكْ حَل أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ حَيَاةَ الْمَذْبُوحِ كَلاَ حَيَاةٍ فَكَأَنَّهُ مَاتَ بِتَذْكِيَةِ أُمِّهِ، وَبِنَحْوِ هَذَا قَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ.
وَبِهَذَا قَال الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا، لَكِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي حِلِّهِ حِينَئِذٍ أَنْ يَنْبُتَ شَعْرُ جَسَدِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَكَامَل وَلاَ يَكْفِي شَعْرُ رَأْسِهِ أَوْ عَيْنِهِ.
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْرُجَ مَيِّتًا وَيُعْلَمَ أَنْ مَوْتَهُ كَانَ قَبْل تَذْكِيَةِ أُمِّهِ فَلاَ يَحِل اتِّفَاقًا، وَيُعْرَفُ مَوْتُهُ قَبْل ذَكَاةِ أُمِّهِ بِأُمُورٍ مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا فِي
__________
(1) سورة البقرة / 28.(21/202)
بَطْنِهَا فَتُضْرَبُ فَتَسْكُنُ حَرَكَتُهُ ثُمَّ تُذَكَّى، فَيَخْرُجُ مَيِّتًا، وَمِنْهَا: أَنْ يَخْرُجَ رَأْسُهُ مَيِّتًا ثُمَّ تُذَكَّى.
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَخْرُجَ مَيِّتًا بَعْدَ تَذْكِيَةِ أُمِّهِ بِمُدَّةٍ لِتَوَانِي الْمُذَكِّي فِي إِخْرَاجِهِ، فَلاَ يَحِل اتِّفَاقًا لِلشَّكِّ فِي أَنَّ مَوْتَهُ كَانَ بِتَذْكِيَةِ أُمِّهِ أَوْ بِالاِنْخِنَاقِ لِلتَّوَانِي فِي إِخْرَاجِهِ.
الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَخْرُجَ مَيِّتًا عَقِبَ تَذْكِيَةِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلَمَ مَوْتُهُ قَبْل التَّذْكِيَةِ فَيَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ مَوْتَهُ بِسَبَبِ التَّذْكِيَةِ لاَ بِسَبَبٍ آخَرَ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ مَحَل خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِأَكْلِهِ.
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا الإِْشْعَارَ، وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَدَلِيل الْجُمْهُورِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ (1) وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَتَذَكَّى بِذَكَاةِ أُمِّهِ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ تَبَعٌ لأُِمِّهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا حُكْمًا فَلأَِنَّهُ يُبَاعُ بِبَيْعِ الأُْمِّ؛ وَلأَِنَّ جَنِينَ الأَْمَةِ يَعْتِقُ بِعِتْقِهَا، وَالْحُكْمُ فِي التَّبَعِ يَثْبُتُ بِعِلَّةِ الأَْصْل وَلاَ تُشْتَرَطُ لَهُ عِلَّةٌ عَلَى حِدَةٍ لِئَلاَّ يَنْقَلِبَ التَّبَعُ أَصْلاً.
__________
(1) حديث: " ذكاة الجنين ذكاة أمه. . . . " أخرجه أبو داود (3 / 253 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (4 / 114 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، من حديث جابر بن عبد الله، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.(21/202)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (1) وَالْجَنِينُ الَّذِي لَمْ يُدْرَكْ حَيًّا بَعْدَ تَذْكِيَةِ أُمِّهِ مَيْتَةٌ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ حَيَاةَ الْجَنِينِ مُسْتَقِلَّةٌ إِذْ يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا بَعْدَ مَوْتِ أُمِّهِ فَتَكُونُ تَذْكِيَتُهُ مُسْتَقِلَّةً.
هَل يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِكَوْنِ الذَّابِحِ أَهْلاً لِلتَّذْكِيَةِ:
50 - قَال الزَّيْلَعِيُّ: لَوْ أَنَّ بَازِيًا مُعَلَّمًا أَخَذَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ وَلاَ يُدْرَى أَرْسَلَهُ إِنْسَانٌ أَوْ لاَ، لاَ يُؤْكَل لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي الإِْرْسَال، وَلاَ إِبَاحَةَ بِدُونِهِ، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلاً فَهُوَ مَال الْغَيْرِ فَلاَ يَجُوزُ تَنَاوُلُهُ إِلاَّ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الزَّيْلَعِيِّ صَاحِبِ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ، ثُمَّ قَال: وَقَعَ فِي عَصْرِنَا حَادِثَةُ الْفَتْوَى وَهِيَ أَنَّ رَجُلاً وَجَدَ شَاتَهُ مَذْبُوحَةً بِبُسْتَانِهِ فَهَل يَحِل لَهُ أَكْلُهَا أَوْ لاَ؟ وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ أَنَّهُ لاَ يَحِل لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي أَنَّ الذَّابِحَ مِمَّنْ تَحِل ذَكَاتُهُ أَوْ لاَ، وَهَل سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهَا أَوْ لاَ؟ لَكِنْ فِي الْخُلاَصَةِ فِي " اللُّقَطَةِ ": إِنْ أَصَابَ قَوْمٌ بَعِيرًا مَذْبُوحًا فِي طَرِيقِ الْبَادِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ قَرِيبًا مِنَ الْمَاءِ وَوَقَعَ فِي الْقَلْبِ أَنَّ صَاحِبَهُ فَعَل ذَلِكَ إِبَاحَةً لِلنَّاسِ فَلاَ بَأْسَ بِأَخْذِهِ وَالأَْكْل مِنْهُ؛ لأَِنَّ الثَّابِتَ بِالدَّلاَلَةِ كَالثَّابِتِ بِالصَّرِيحِ وَهَذَا مِنْ صَاحِبِ الْخُلاَصَةِ يَدُل عَلَى إِبَاحَةِ الأَْكْل بِالشَّرِيطَةِ الْمَذْكُورَةِ. فَعُلِمَ أَنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ
__________
(1) سورة المائدة / 3.(21/203)
الذَّابِحِ أَهْلاً لِلذَّكَاةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ حَادِثَةِ الْفَتْوَى وَاللُّقَطَةِ بِأَنَّ الذَّابِحَ فِي الأُْولَى غَيْرُ الْمَالِكِ قَطْعًا وَفِي الثَّانِيَةِ يُحْتَمَل. (1)
وَأَفَادَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْبَازِي وَمَسْأَلَةِ الْمَذْبُوحِ فِي الْبُسْتَانِ فَرْقًا وَهُوَ أَنَّ الْبَازِيَ الَّذِي طَبْعُهُ الاِصْطِيَادُ ظَاهِرُ حَالِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُرْسَلٍ وَغَيْرُ مَمْلُوكٍ لأَِحَدٍ بِخِلاَفِ الذَّابِحِ فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ تَحِل ذَبِيحَتُهُ وَأَنَّهُ سَمَّى، وَاحْتِمَال عَدَمِ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي اللَّحْمِ الَّذِي يُبَاعُ فِي السُّوقِ وَهُوَ احْتِمَالٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي التَّحْرِيمِ قَطْعًا.
وَأَفَادَ أَيْضًا أَنَّ مَسْأَلَةَ الْبَعِيرِ الَّذِي وُجِدَ مَذْبُوحًا قُيِّدَتْ بِقَيْدَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَرِيبًا مِنَ الْمَاءِ لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ احْتَمَل أَنَّهُ وَقَعَ فِيهِ فَأَخْرَجَهُ صَاحِبُهُ مِنْهُ فَذَبَحَهُ عَلَى ظَنِّ حَيَاتِهِ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ دَمٌ فَتَرَكَهُ لِعِلْمِهِ بِمَوْتِهِ بِالْمَاءِ، فَلاَ يَتَأَتَّى احْتِمَال أَنَّهُ تَرَكَهُ إِبَاحَةً لِلنَّاسِ.
وَالْقَيْدُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْقَلْبِ أَنَّ صَاحِبَهُ فَعَل ذَلِكَ إِبَاحَةً لِلنَّاسِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْوُقُوعِ فِي الْقَلْبِ الظَّنُّ الْغَالِبُ لاَ مُجَرَّدُ الْخُطُورِ فَإِنَّهُ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ.
وَأَفَادَ أَيْضًا أَنَّهُ يَجِبُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَا لَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْمَذْبُوحُ يَسْكُنُهُ أَوْ يَسْلُكُ فِيهِ مَنْ لاَ تَحِل ذَكَاتُهُ كَالْمَجُوسِيِّ أَوْ لاَ، فَفِي
__________
(1) الدر المختار بحاشية ابن عابدين 5 / 306، 307.(21/203)
الْحَالَةِ الأُْولَى لاَ يُؤْكَل بِخِلاَفِ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ. (1)
وَيُنَاسِبُ هَذَا مَا فِي كِتَابِ " الإِْقْنَاعِ " فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ " لَوْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ أَوْ كِتَابِيٌّ أَنَّهُ ذَبَحَ هَذِهِ الشَّاةَ مَثَلاً حَل أَكْلُهَا؛ لأَِنَّهُ مِنْ أَهْل الذَّبْحِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ مَجُوسٌ وَمُسْلِمُونَ وَجُهِل ذَابِحُ الْحَيَوَانِ هَل هُوَ مُسْلِمٌ أَوْ مَجُوسِيٌّ لَمْ يَحِل أَكْلُهُ لِلشَّكِّ فِي الذَّبْحِ الْمُبِيحِ وَالأَْصْل عَدَمُهُ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَغْلَبَ كَمَا فِي بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحِل، وَفِي مَعْنَى الْمَجُوسِيِّ كُل مَنْ لَمْ تَحِل ذَبِيحَتُهُ. (2)
وَفِي كِتَابِ " الْمُقْنِعِ " فِي الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ " إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَسَمَّى الذَّابِحُ أَمْ لاَ، أَوْ ذَكَرَ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ أَمْ لاَ، فَذَبِيحَتُهُ حَلاَلٌ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَنَا كُل مَا ذَبَحَهُ الْمُسْلِمُ وَالْكِتَابِيُّ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّنَا لاَ نَقِفُ عَلَى كُل ذَابِحٍ. (3) وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ قَوْمًا هُمْ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ يَأْتُونَنَا بِلَحْمٍ لاَ نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ أَمْ لَمْ يَذْكُرُوهُ قَال: سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ. (4)
مَخْنُوقَةُ الْكِتَابِيِّ:
51 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَخْنُوقَةَ الْكِتَابِيِّ وَمَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 5 / 306، 307.
(2) البجيرمي على الإقناع 4 / 256.
(3) المقنع بحاشيته 3 / 541.
(4) حديث عائشة سبق تخريجه بهذا المعنى (ر: ف / 31) .(21/204)
ذُبِحَ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ لاَ يَجُوزُ أَكْلُهُ، لأَِنَّهَا إِذَا لَمْ تُؤْكَل مِنَ الْمُسْلِمِ فَمِنَ الْكِتَابِيِّ أَوْلَى، وَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ جَوَازِ أَكْل مَخْنُوقَةِ الْكِتَابِيِّ فَقَدْ رَدُّوهُ عَلَيْهِ.
قَال ابْنُ جُزَيٍّ: إِذَا غَابَ الْكِتَابِيُّ عَلَى الذَّبِيحَةِ فَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يُذَكُّونَ أَكَلْنَا، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ الْمَيْتَةَ كَنَصَارَى الأَْنْدَلُسِ، أَوْ شَكَكْنَا فِي ذَلِكَ لَمْ نَأْكُل مَا غَابُوا عَلَيْهِ، وَلاَ يَنْبَغِي لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَقْصِدَ الشِّرَاءَ مِنْ ذَبَائِحِ الْيَهُودِ وَيُنْهَى الْمُسْلِمُونَ عَنْ شِرَاءِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَيُنْهَى الْيَهُودُ عَنِ الْبَيْعِ مِنْهُمْ، وَمَنِ اشْتَرَى مِنْهُمْ فَهُوَ رَجُل سُوءٍ وَلاَ يُفْسَخُ شِرَاؤُهُ، وَقَال ابْنُ شَعْبَانَ: أَكْرَهُ قَدِيدَ الرُّومِ وَجُبْنَهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ إِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ. قَال الْقَرَافِيُّ: وَكَرَاهِيَتُهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّحْرِيمِ لِثُبُوتِ أَكْلِهِمُ الْمَيْتَةَ، وَأَنَّهُمْ يَخْنُقُونَ الْبَهَائِمَ وَيَضْرِبُونَهَا حَتَّى تَمُوتَ. (1)
__________
(1) حاشية الرهوني على الزرقاني 3 / 11 - 15، والقوانين الفقهية ص 185.(21/204)
ذَبْحٌ
انْظُرْ: ذَبَائِحُ
ذِرَاعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الذِّرَاعُ فِي اللُّغَةِ تُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: الْيَدُ مِنْ كُل حَيَوَانٍ، لَكِنِ الذِّرَاعُ مِنَ الإِْنْسَانِ مِنَ الْمِرْفَقِ إِلَى أَطْرَافِ الأَْصَابِعِ. وَقَال بَعْضُهُمْ: (هِيَ السَّاعِدُ الْجَامِعُ لِعَظْمَيِ الزَّنْدِ. وَالزَّنْدُ وَصْل طَرَفِ الذِّرَاعِ بِالْكَفِّ) وَذِرَاعُ الْيَدِ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ.
الثَّانِي: ذِرَاعُ الْقِيَاسِ الَّتِي تُقَاسُ بِهَا الْمِسَاحَةُ، يُقَال: ذَرَعْتُ الثَّوْبَ ذَرْعًا أَيْ قِسْتُهُ بِالذِّرَاعِ، وَتُجْمَعُ عَلَى أَذْرُعٍ وَذُرْعَانٍ.
وَذِرَاعُ الْقِيَاسِ أُنْثَى فِي الأَْكْثَرِ، وَبَعْضُ الْعَرَبِ يُذَكِّرُهَا.
وَتُسْتَعْمَل فِي الاِصْطِلاَحِ بِالْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أَوَّلاً: بِالنِّسْبَةِ لِلْمَعْنَى الأَْوَّل:
أ - الْيَدُ:
2 - الْيَدُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْمَنْكِبِ إِلَى أَطْرَافِ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة: " ذرع "، وكشاف القناع 1 / 504، وصبح الأعشى للقلقشندي 3 / 283.(21/205)
الأَْصَابِعِ، فَهِيَ تَشْمَل الذِّرَاعَ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل، كَمَا تَشْمَل الْعَضُدَ وَالْكَفَّ. فَذِرَاعُ الإِْنْسَانِ جُزْءٌ مِنْ يَدِهِ. وَتُطْلَقُ الْيَدُ عَلَى الإِْحْسَانِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى سَبِيل التَّجَوُّزِ، فَيُقَال: يَدُهُ عَلَيْهِ، أَيْ سُلْطَانُهُ، وَالأَْمْرُ بِيَدِ فُلاَنٍ، أَيْ فِي تَصَرُّفِهِ. (1)
ب - الْمِرْفَقُ:
3 - الْمِرْفَقُ الْمَفْصِل الَّذِي يَفْصِل بَيْنَ الْعَضُدِ وَالسَّاعِدِ. (2)
ثَانِيًا: بِالنِّسْبَةِ لِلْمَعْنَى الثَّانِي:
أ - الأُْصْبُعُ، الْقَبْضَةُ، الْقَصَبَةُ، الأَْشْل، الْقَفِيزُ، الْعَشِيرُ:
4 - جَاءَ فِي الْمِصْبَاحِ: أَنَّ مَجْمُوعَ عَرْضِ كُل سِتِّ شَعِيرَاتٍ مُعْتَدِلاَتٍ يُسَمَّى أُصْبُعًا، وَالْقَبْضَةَ أَرْبَعُ أَصَابِعَ، وَالذِّرَاعَ سِتُّ قَبَضَاتٍ، وَكُل عَشَرَةِ أَذْرُعٍ تُسَمَّى قَصَبَةً، وَكُل عَشْرِ قَصَبَاتٍ تُسَمَّى أَشْلاً، (3) وَقَدْ سُمِّيَ مَضْرُوبُ الأَْشْل فِي نَفْسِهِ جَرِيبًا، وَيُسَمَّى مَضْرُوبُ الأَْشْل فِي الْقَصَبَةِ قَفِيزًا، وَمَضْرُوبُ الأَْشْل فِي الذِّرَاعِ
__________
(1) المصباح المنير في المادة، والبدائع 1 / 4، الحطاب 1 / 191، وكشاف القناع 1 / 98، ومغني المحتاج 1 / 52.
(2) المصباح المنير، مادة (رفق) ، والبناية على الهداية 1 / 106، والحطاب 1 / 191، وجواهر الإكليل 1 / 14.
(3) الأشل: حبل يقاس به، وهي نبطية معربة (اللسان) .(21/205)
عَشِيرًا. فَحَصَل مِنْ هَذَا أَنَّ الْجَرِيبَ عَشَرَةُ آلاَفِ ذِرَاعٍ. (1)
ب - الْمِيل وَالْفَرْسَخُ وَالْبَرِيدُ:
5 - الْمِيل بِالْكَسْرِ عِنْدَ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى مِقْدَارِ مَدَى الْبَصَرِ مِنَ الأَْرْضِ كَمَا نَقَلَهُ الْمِصْبَاحُ عَنِ الأَْزْهَرِيِّ. وَعِنْدَ الْقُدَمَاءِ مِنْ أَهْل الْهَيْئَةِ هُوَ ثَلاَثَةُ آلاَفِ ذِرَاعٍ. وَعِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ مِنْهُمْ أَرْبَعُهُ آلاَفِ ذِرَاعٍ. قَال فِي الْمِصْبَاحِ: وَالْخِلاَفُ لَفْظِيٌّ؛ لأَِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِقْدَارَهُ سِتَّةٌ وَتِسْعُونَ أَلْفَ أُصْبُعٍ. . وَلَكِنِ الْقُدَمَاءُ يَقُولُونَ: الذِّرَاعُ اثْنَانِ وَثَلاَثُونَ أُصْبُعًا، وَالْمُحْدَثُونَ يَقُولُونَ: أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ أُصْبُعًا.
أَمَّا الْفَرْسَخُ فَهُوَ ثَلاَثَةُ أَمْيَالٍ، وَالْبَرِيدُ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ أَيِ اثْنَا عَشَرَ مِيلاً. (2)
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالذِّرَاعِ:
الذِّرَاعُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل - أَيِ السَّاعِدُ - ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ وَبَيَّنُوا أَحْكَامَهَا فِي مَسَائِل نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:
أ - غَسْل الذِّرَاعَيْنِ فِي الْوُضُوءِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ غَسْل
__________
(1) المصباح المنير، مادة " جرب " وانظر الأحكام السلطانية للماوردي ص 152، 173؛ حيث أورد أنواع الذراع في العهود الإسلامية.
(2) المصباح المنير مواد (مال، فرسخ، برد) ، وجواهر الإكليل 1 / 88، ومغني المحتاج 1 / 266، وكشاف القناع 1 / 504.(21/206)
الذِّرَاعِ فِي الْوُضُوءِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (1) .
وَالْمِرْفَقُ مُجْتَمَعُ طَرَفِ السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ، أَوْ هُوَ آخِرُ عَظْمِ الذِّرَاعِ الْمُتَّصِل بِالْعَضُدِ فَشَمَلَتِ الآْيَةُ كُل الذِّرَاعِ إِلَى الْمِرْفَقِ، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي فَرْضِيَّةِ غَسْل الْمِرْفَقِ نَفْسِهِ. فَالْجُمْهُورُ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمِرْفَقَ يَجِبُ غَسْلُهُ كَذَلِكَ، فَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} مَعَ الْمَرَافِقِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَل يَدَيْهِ حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدَيْنِ ثُمَّ قَال: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ (2) .
وَقَال زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّهُ لاَ يَجِبُ غَسْل الْمِرْفَقَيْنِ؛ لأَِنَّ الْغَايَةَ لاَ تَدْخُل تَحْتَ الْمُغَيَّا، فَالْمِرْفَقَانِ لاَ يَدْخُلاَنِ فِي الْغَسْل، كَمَا لاَ يَدْخُل اللَّيْل فِي الصَّوْمِ (3) فِي قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} (4)
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) حديث أبي هريرة: " أنه توضأ فغسل يديه. . . " أخرجه مسلم (1 / 216 - ط الحلبي) .
(3) البناية على الهداية 1 / 106، 109، والبدائع للكاساني 1 / 4، ومواهب الجليل للحطاب 1 / 191، ومغني المحتاج 1 / 52، وأسنى المطالب شرح روض الطالب 1 / 32، وكشاف القناع 1 / 97.
(4) سورة البقرة / 187.(21/206)
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ مَعَ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وُضُوء) .
ب - افْتِرَاشُ الذِّرَاعَيْنِ فِي الصَّلاَةِ:
7 - يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَفْتَرِشَ ذِرَاعَيْهِ فِي الصَّلاَةِ، أَيْ يَبْسُطَهُمَا فِي حَالَةِ السَّجْدَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، (1) وَذَلِكَ لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ، وَلاَ يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة) بَحْثِ مَا يُكْرَهُ فِيهَا.
ج - الْجِنَايَةُ عَلَى الذِّرَاعِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَطَعَ ذِرَاعَ إِنْسَانٍ مِنَ الْمَفْصِل، أَيِ الْمِرْفَقِ، فَفِي الْعَمْدِ قِصَاصٌ، وَفِي الْخَطَأِ نِصْفُ الدِّيَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الذِّرَاعِ أَوْ كَسْرِهَا مِنْ غَيْرِ الْمَفْصِل:
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَنْ جَنَى عَلَى ذِرَاعِ إِنْسَانٍ فَكَسَرَهَا فَلاَ قِصَاصَ فِيهِ وَلاَ دِيَةَ مُعَيَّنَةٌ، عَمْدًا كَانَ أَوْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 432، والاختيار لتعليل المختار للموصلي 1 / 61، بدائع الصنائع للكاساني 1 / 210، 215، وفتح الباري 2 / 301، وكشاف القناع 1 / 37.
(2) حديث: " اعتدلوا في السجود. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 301 ط السلفية) .(21/207)
خَطَأً، بَل تَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ، (1) وَذَلِكَ لاِمْتِنَاعِ تَحْقِيقِ الْمُمَاثَلَةِ، وَهِيَ الأَْصْل فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَكْسِرُ زِيَادَةً عَنْ عُضْوِ الْجَانِي، أَوْ يَقَعُ خَلَلٌ فِيهِ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ تَقْدِيرٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الدِّيَةِ. (2)
لَكِنِ الْحَنَابِلَةُ صَرَّحُوا بِأَنَّ فِي كَسْرِ الزَّنْدِ أَرْبَعَةَ أَبْعِرَةٍ لأَِنَّهُ عَظْمَانِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ تَقْدِيرَ فِي جِرَاحِ الْبَدَنِ غَيْرَ الْخَمْسَةِ: الضِّلْعِ، وَالتَّرْقُوَتَيْنِ، وَالزَّنْدَيْنِ؛ لأَِنَّ التَّقْدِيرَ يَثْبُتُ بِالتَّوْقِيفِ، وَمُقْتَضَى الدَّلِيل وُجُوبُ الْحُكُومَةِ فِي هَذِهِ الْعِظَامِ الْبَاطِنَةِ، وَإِنَّمَا خَالَفْنَاهُ فِي هَذِهِ الْعِظَامِ لِقَضَاءِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَفِيمَا عَدَاهَا يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيل. (3)
وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الذِّرَاعِ بَعِيرَانِ، إِذَا جُبِرَ ذَلِكَ مُسْتَقِيمًا، بِأَنْ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَغَيَّرَ عَنْ صِفَتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَنْجَبِرْ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ. (4)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُقَادُ فِي كَسْرِ الْعِظَامِ إِلاَّ فِيمَا يَعْظُمُ خَطَرُهُ كَالرَّقَبَةِ وَالْفَخِذِ وَالصُّلْبِ. (5)
__________
(1) الحكومة هي ما يجب في الجناية الواقعة على ما دون النفس فيما ليس له أرش مقدر، ولمعرفة تقديرها ينظر مصطلح (حكومة عدل) .
(2) ابن عابدين 5 / 353، 354، بداية المجتهد 2 / 425، وجواهر الإكليل 2 / 260، والمغني 8 / 27، مغني المحتاج 1 / 28.
(3) المغني لابن قدامة 8 / 53، 54.
(4) كشاف القناع 6 / 57، 58.
(5) بداية المجتهد 2 / 425، وجواهر الإكليل 2 / 260.(21/207)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَة، وَقِصَاص، وَجِنَايَة) .
ثَانِيًا - الذِّرَاعُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي:
الذِّرَاعُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، أَيْ مَا يُقَاسُ بِهَا، ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مَسَائِل مِنْهَا مَا يَلِي:
أ - تَقْدِيرُ الْمَاءِ الْكَثِيرِ:
9 - قَدَّرَ الْفُقَهَاءُ الْمَاءَ الْكَثِيرَ وَالْقَلِيل بِالذِّرَاعِ فِيمَا إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مِيَاه) .
ب - تَحْدِيدُ مَسَافَةِ السَّفَرِ:
10 - الْمُسَافِرُ لَهُ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ كَجَوَازِ الإِْفْطَارِ وَقَصْرِ الصَّلاَةِ الرَّبَاعِيَةِ وَجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَسُقُوطِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَنَحْوِهَا.
وَالأَْصْل فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلاَةِ. (1)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ السَّفَرِ الَّذِي تَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الأَْحْكَامُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي صَلاَةِ الْمُسَافِرِ وَالصِّيَامِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
__________
(1) حديث: " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ". أخرجه الترمذي (3 / 85 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك الكعبي، وقال: " حديث حسن ".(21/208)
ذُرِّيَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الذُّرِّيَّةُ: إِمَّا فُعْلِيَّةٌ: مِنَ الذَّرِّ: أَيْ صِغَارِ النَّمْل أَوْ فُعُّولَةٌ: مِنَ الذَّرْءِ وَهُوَ الْخَلْقُ أُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ يَاءً، ثُمَّ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ، وَالْجَمْعُ ذُرِّيَّاتٌ وَذَرَارِيُّ، وَمَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ: قِيل: نَسْل الثَّقَلَيْنِ، وَقِيل: هِيَ وَلَدُ الرَّجُل، وَقِيل: مِنْ أَسْمَاءِ الأَْضْدَادِ تَجِيءُ تَارَةً بِمَعْنَى الأَْبْنَاءِ (1) قَال تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} (2) . وَتَجِيءُ تَارَةً بِمَعْنَى الآْبَاءِ وَالأَْجْدَادِ. (3) كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (4) . وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) الكليات 2 / 361 _ معجم متن اللغة.
(2) سورة الصافات / 77.
(3) تفسير القرطبي 15 / 34.
(4) سورة يس / 43.(21/208)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الأَْوْلاَدُ:
2 - الأَْوْلاَدُ جَمْعُ وَلَدٍ، وَيُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى. (1)
ب - النَّسْل:
3 - النَّسْل فِي الأَْصْل عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجِ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ مُطْلَقًا، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الأَْوْلاَدِ وَالذُّرِّيَّةِ.
ج - الْعَقِبُ:
4 - الْعَقِبُ هُوَ الْوَلَدُ: مِنْ أَعْقَبَ الرَّجُل إِذَا مَاتَ وَخَلَّفَ عَقِبًا أَيْ وَلَدًا. (2)
د - الأَْحْفَادُ:
5 - الأَْحْفَادُ أَوِ الْحَفَدَةُ بِفَتْحَتَيْنِ: يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ: عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ وَعَلَى الأَْعْوَانِ وَالْخَدَمِ وَالأَْخْتَانِ وَالأَْصْهَارِ، وَالْمُفْرَدُ: حَفِيدٌ وَحَافِدٌ. (3)
هـ - الأَْسْبَاطُ:
6 - الأَْسْبَاطُ: جَمْعُ سِبْطٍ، وَهُوَ وَلَدُ الاِبْنِ وَالاِبْنَةِ. (4)
__________
(1) تاج العروس والمصباح المنير.
(2) الكليات 2 / 361.
(3) مختار الصحاح.
(4) المعجم الوسيط، مادة: " سبط ".(21/209)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الذُّرِّيَّةَ تَتَنَاوَل الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، فَإِذَا وَقَفَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ دَخَل فِيهِ أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ؛ لأَِنَّ الْبَنَاتِ ذُرِّيَّتُهُ، وَأَوْلاَدُهُنَّ ذُرِّيَّةٌ لَهُ حَقِيقَةً، فَيَجِبُ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْوَقْفِ، وَدَل عَلَى صِحَّةِ هَذَا قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْل وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَعِيسَى} (1) وَهُوَ مِنْ وَلَدِ بِنْتِهِ، فَجَعَلَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّةَ " عِيسَى " وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَإِسْمَاعِيل وَإِدْرِيسَ ثُمَّ قَال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} (2) وَعِيسَى مَعَهُمْ. (3)
وَقَال الْخِرَقِيُّ: لاَ يَدْخُل أَوْلاَدُ الْبَنَاتِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ، وَاسْتَدَل بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} (4) فَدَخَل فِيهِ أَوْلاَدُ الْبَنِينَ دُونَ أَوْلاَدِ الْبَنَاتِ وَهَكَذَا كُل مَوْضُوعٍ ذُكِرَ فِيهِ الْوَلَدُ فِي الإِْرْثِ وَالْحَجْبِ يَدْخُل وَلَدُ الْبَنِينَ دُونَ وَلَدِ
__________
(1) سورة الأنعام / 84 - 85.
(2) سورة مريم / 58.
(3) المغني لابن قدامة 5 / 615، قليوبي 3 / 404، ابن عابدين 3 / 433، حاشية الدسوقي 4 / 92، شرح الزرقاني 7 / 89
(4) سورة النساء / 11.(21/209)
الْبَنَاتِ، وَالذُّرِّيَّةُ وَالنَّسْل فِي حُكْمِ الأَْوْلاَدِ. (1) يُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وَلَد) وَبَابِ الْوَقْفِ
ذَرْعِيَّاتٌ
ر مِثْلِيٌّ
__________
(1) المغني 5 / 161 - 162.(21/210)
ذَرْقٌ
1 - الذَّرْقُ فِي اللُّغَةِ خَرْءُ الطَّائِرِ، مِنْ ذَرَقَ الطَّائِرُ يَذْرِقُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا ذَرْقًا وَذُرَاقًا إِذَا رَمَى بِسَلْحِهِ. وَهُوَ مِنْ الطَّائِرِ كَالتَّغَوُّطِ مِنَ الإِْنْسَانِ. وَقَدْ يُسْتَعَارُ فِي الثَّعْلَبِ وَالسَّبُعِ. (1)
وَيُطْلَقُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الْخَرْءُ وَالذَّرْقُ وَالْخِثْيُ وَالْبَعْرُ وَالرَّوْثُ وَالنَّجْوُ وَالْعَذِرَةُ أَلْفَاظٌ تُطْلَقُ عَلَى فَضْلَةِ الْحَيَوَانِ الْخَارِجَةِ مِنَ الدُّبُرِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ كَمَا جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ أَنَّ الرَّوْثَ يَكُونُ لِلْفَرَسِ وَالْبَغْل وَالْحِمَارِ، وَالْخِثْيَ لِلْبَقَرِ وَالْفِيل، وَالْبَعْرَ لِلإِْبِل وَالْغَنَمِ، وَالْخَرْءَ لِلطُّيُورِ، وَالنَّجْوَ لِلْكَلْبِ، وَالْعَذِرَةَ لِلإِْنْسَانِ، وَالرَّجِيعُ يُطْلَقُ عَلَى الرَّوْثِ وَالْعَذِرَةِ. (3)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، ومتن اللغة في المادة.
(2) ابن عابدين 1 / 147، 213، وحاشية القليوبي 1 / 184.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 147، المصباح (رجع) .(21/210)
وَهَذَا فِي الْغَالِبِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَل بَعْضُهَا مَكَانَ بَعْضٍ تَوَسُّعًا، كَمَا وَرَدَ فِي عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ. (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً: ذَرْقُ الطُّيُورِ الَّتِي يُؤْكَل لَحْمُهَا:
3 - ذَرْقُ الطُّيُورِ مِمَّا يُؤْكَل لَحْمُهُ كَالْحَمَامِ وَالْعَصَافِيرِ، طَاهِرٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) وَذَلِكَ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ بِسَبَبِ امْتِلاَءِ الطُّرُقِ وَالْخَانَاتِ بِهَا؛
وَلإِِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَرْكِ الْحَمَامِ فِي الْمَسَاجِدِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنْ أَصَابَ شَيْءٌ مِنْهُ بَدَنَ الإِْنْسَانِ أَوْ ثَوْبَهُ دَاخِل الصَّلاَةِ أَوْ خَارِجَهَا لاَ تَفْسُدُ صَلاَتُهُ وَلاَ يَنْجُسُ ثَوْبُهُ. (2)
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ خَرْءَ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ الأَْهْلِيِّ؛ لأَِنَّهُمَا يَتَغَذَّيَانِ بِنَجَسٍ فَلاَ يَخْلُو خَرْؤُهُمَا مِنَ النَّتِنِ وَالْفَسَادِ. (3)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - بِنَجَاسَةِ خَرْءِ الطُّيُورِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ مَأْكُول اللَّحْمِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَنَزَّهُوا مِنَ الْبَوْل (4) وَلأَِنَّهُ رَجِيعٌ فَكَانَ نَجَسًا كَرَجِيعِ الآْدَمِيِّ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 147، وجواهر الإكليل 1 / 9، 217، ومغني المحتاج 1 / 79.
(2) الاختيار 1 / 34، وجواهر الإكليل 1 / 217، وكشاف القناع 1 / 193، 4 / 1، والمغني لابن قدامة 2 / 89.
(3) الاختيار 1 / 35، وجواهر الإكليل 1 / 9.
(4) حديث: " تنزهوا من البول " أخرجه الدارقطني (1 / 127 - ط دار المحاسن) من حديث أنس بن مالك، وصوب إرساله من الطريق الذي رواه، ولكن ذكر ابن أبي حاتم الرازي في علل الحديث (1 / 26 ط السلفية) طريقًا أخرى له وصوب أنه محفوظ.(21/211)
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يُعْفَى عَنْ ذَرْقِ الطُّيُورِ الْمَأْكُولَةِ اللَّحْمِ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِمَشَقَّةِ الاِحْتِرَازِ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لاَ يُعْفَى عَنْ كَثِيرِهِ.
وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا، فَقَالُوا بِالْعَفْوِ عَنْهُ فِي الصَّلاَةِ مُطْلَقًا، وَفِي خَارِجِ الصَّلاَةِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَلاَ يُعْفَى عَنْ كَثِيرِهِ. (1)
ثَانِيًا - ذَرْقُ الطُّيُورِ الَّتِي لاَ يُؤْكَل لَحْمُهَا:
4 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ ذَرْقَ الطُّيُورِ الَّتِي لاَ يُؤْكَل لَحْمُهَا كَالْبَازِ وَالشَّاهِينِ وَالرَّخَمِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ نَجَسٌ، وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ مِمَّا أَحَالَهُ طَبْعُ الْحَيَوَانِ إِلَى نَتْنٍ وَفَسَادٍ. (2)
وَفِي رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ طَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ. وَاسْتَدَلُّوا لِطَهَارَتِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَا يَنْفَصِل مِنَ الطُّيُورِ نَتْنٌ وَخَبَثُ رَائِحَةٍ.
__________
(1) حاشية القليوبي 1 / 184، ومغني المحتاج 1 / 79، 193، والمغني لابن قدامة 2 / 88.
(2) ابن عابدين 1 / 214، البناية على الهداية 1 / 747، والاختيار 1 / 34، ومغني المحتاج 1 / 79، وقليوبي 1 / 184، والمغني 2 / 86، وكشاف القناع 1 / 193، وجواهر الإكليل 1 / 9، 217، وحاشية الدسوقي 1 / 151.(21/211)
وَلاَ يُنَحَّى شَيْءٌ مِنَ الطُّيُورِ عَنِ الْمَسَاجِدِ فَعَرَفْنَا أَنَّ خَرْءَ الْجَمِيعِ طَاهِرٌ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي الْخَرْءِ بَيْنَ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ وَمَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ. (1)
5 - وَعَلَى الْقَوْل بِنَجَاسَتِهِ - كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ - قَال الْمَالِكِيَّةُ: يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ مِنْهُ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ مِقْدَارَ مَا يَصْعُبُ وَيَشُقُّ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، بِأَنْ يَكُونَ مِقْدَارَ الدِّرْهَمِ أَوْ أَقَل فِي الْمِسَاحَةِ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى وَلِعُسْرِ الاِحْتِرَازِ عَنْهُ، وَلاَ يُعْفَى عَنْ كَثِيرِهِ لِنُدْرَتِهِ وَعَدَمِ مَشَقَّةِ الاِحْتِرَازِ عَنْهُ. (3)
وَتُعْرَفُ الْكَثْرَةُ وَالْقِلَّةُ عِنْدَهُمْ بِالْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، فَمَا يَغْلِبُ عَادَةً التَّلَطُّخُ بِهِ وَيَعْسُرُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ عَادَةً قَلِيلٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ. (4)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ دَمًا أَوْ قَيْحًا يَسِيرًا مِمَّا لاَ يَفْحُشُ فِي نَظَرِ الشَّخْصِ؛ لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَةِ إِلاَّ مَا خَصَّهُ الدَّلِيل، وَلَمْ يُوجَدْ إِلاَّ فِي الدَّمِ وَالْقَيْحِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: (مَا كَانَ لإِِحْدَانَا إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ
__________
(1) البناية على الهداية 1 / 747.
(2) جواهر الإكليل 1 / 11، وحاشية الدسوقي 1 / 71، 72.
(3) حاشية القليوبي 1 / 184، ونهاية المحتاج 2 / 26، ومغني المحتاج 1 / 79، 93.
( x664 ;) المراجع السابقة(21/212)
تَحِيضُ فِيهِ، فَإِنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ بَلَّتْهُ بِرِيقِهَا ثُمَّ قَصَعَتْهُ بِرِيقِهَا) (1) وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَسْجُدُ فَيُخْرِجُ يَدَيْهِ فَيَضَعُهُمَا بِالأَْرْضِ، وَهُمَا يَقْطُرَانِ دَمًا مِنْ شِقَاقٍ كَانَ فِي يَدَيْهِ، وَعَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ دَمٍ وَقَيْحٍ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
وَعَلَى ذَلِكَ إِنْ صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ وَإِنْ قَلَّتْ أَعَادَ. (2)
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ الْقَيْءِ وَالْمَذْيِ وَرِيقِ الْبَغْل وَالْحِمَارِ وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ. قَال الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَبْوَالِهَا وَأَرْوَاثِهَا لأَِنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. (3)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَعَلَى الرِّوَايَةِ بِنَجَاسَةِ الذَّرْقِ، اعْتَبَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ لأَِنَّهَا تَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ وَالتَّحَامِي عَنْهُ مُتَعَذِّرٌ، وَاعْتَبَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنَ النَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ؛ لأَِنَّ التَّخْفِيفَ لِلضَّرُورَةِ وَلاَ ضَرُورَةَ هُنَا؛ لِعَدَمِ مُخَالَطَةِ هَذِهِ الطُّيُورِ لِلنَّاسِ. (4)
وَعَلَى ذَلِكَ فَيُعْفَى قَدْرُ مَا دُونَ رُبْعِ الثَّوْبِ أَوِ الْبَدَنِ الْمُصَابِ بِذَرْقِ الطُّيُورِ غَيْرِ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَلاَ يُعْفَى أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى أَصْل الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) حديث عائشة: " ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد " أخرجه أبو داود (1 / 254 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(2) المغني 2 / 77، 78، وكشاف القناع 1 / 193، 194.
(3) كشاف القناع 1 / 193، 194، والمغني لابن قدامة 2 / 82.
(4) البناية على الهداية 1 / 446، 447.(21/212)
مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ وَالنَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ.
وَيُعْرَفُ قَدْرُ الدِّرْهَمِ عِنْدَهُمْ فِي النَّجَاسَةِ الْمُتَجَسِّدَةِ بِالْوَزْنِ، وَفِي الْمَائِعَةِ بِالْمِسَاحَةِ بِأَنْ تَكُونَ قَدْرَ مُقَعَّرِ الْكَفِّ دَاخِل مَفَاصِل الأَْصَابِعِ. (1)
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَة) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ
: 6 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ ذَرْقِ الطُّيُورِ وَفَضَلاَتِ الْحَيَوَانَاتِ فِي أَبْوَابِ الطَّهَارَةِ وَبَحْثِ الأَْنْجَاسِ وَالْمَعْفُوَّاتِ عَنِ الأَْنْجَاسِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
__________
(1) البناية على الهداية 1 / 447، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص 83 - 84، وحاشية ابن عابدين 1 / 147.(21/213)
ذَرِيعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الذَّرِيعَةُ لُغَةً: الْوَسِيلَةُ الْمُفْضِيَةُ إِلَى الشَّيْءِ، جَاءَ فِي اللِّسَانِ: يُقَال: فُلاَنٌ ذَرِيعَتِي إِلَيْكَ أَيْ سَبَبِي وَصِلَتِي الَّذِي أَتَسَبَّبُ بِهِ إِلَيْكَ. وَالذَّرِيعَةُ السَّبَبُ إِلَى الشَّيْءِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الذَّرِيعَةَ فِي كَلاَمِهِمْ جَمَلٌ يُخْتَل بِهِ الصَّيْدُ يَمْشِي الصَّيَّادُ إِلَى جَنْبِهِ فَيَسْتَتِرُ وَيَرْمِي الصَّيْدَ إِذَا أَمْكَنَهُ، وَذَلِكَ الْجَمَل يُسَيَّبُ أَوَّلاً مَعَ الْوَحْشِ حَتَّى تَأْلَفَهُ. (1)
وَالذَّرِيعَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَا يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى الشَّيْءِ.
وَالذَّرِيعَةُ كَمَا تَكُونُ إِلَى الْمَفَاسِدِ الْمُحَرَّمَةِ، تَكُونُ إِلَى الْمَصَالِحِ أَيْضًا، فَالْوَسِيلَةُ إِلَى الْحَجِّ كَالسَّفَرِ وَالاِسْتِعْدَادِ لَهُ، فَالْحَجُّ مِنَ الْمَقَاصِدِ، وَالسَّفَرُ مِنَ الْوَسَائِل وَالذَّرَائِعِ، وَالْمَقَاصِدُ هِيَ الأُْمُورُ الْمُكَوِّنَةُ لِلْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فِي ذَاتِهَا، فَالرِّبَا مَقْصِدٌ مُحَرَّمٌ، وَبُيُوعُ الآْجَال ذَرِيعَةٌ إِلَيْهِ، وَالْحَجُّ مَقْصِدٌ مَشْرُوعٌ، وَالسَّفَرُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ.
__________
(1) لسان العرب، مادة: " ذرع ".(21/213)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - حُكْمُ الذَّرِيعَةِ يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ جِهَتَيْنِ: الأُْولَى سَدُّ الذَّرَائِعِ، وَالثَّانِيَةُ: فَتْحُهَا. (1)
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (سَدِّ الذَّرَائِعِ) وَالْمُلْحَقَ الأُْصُولِيَّ.
__________
(1) شرح تنقيح الفصول ص 200.(21/214)
ذَقَنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الذَّقَنُ فِي اللُّغَةِ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ مِنْ أَسْفَلِهِمَا، وَهُمَا الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ تَنْبُتُ عَلَيْهِمَا الأَْسْنَانُ السُّفْلَى، وَجَمْعُهُ أَذْقَانٌ. (1) وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْوَجْهِ كُلِّهِ، تَسْمِيَةً لِلْكُل بِاسْمِ الْجُزْءِ، كَمَا وَرَدَ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَخِرُّونَ لِلأَْذْقَانِ سُجَّدًا} (2) ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لِلْوُجُوهِ. وَإِنَّمَا خَصَّ الأَْذْقَانَ بِالذِّكْرِ؛ لأَِنَّ الذَّقَنَ أَقْرَبُ شَيْءٍ مِنَ الْوُجُوهِ. (3)
وَإِطْلاَقُ الذَّقَنِ عَلَى مَا يَنْبُتُ عَلَى مُجْتَمَعِ اللَّحْيَيْنِ مِنَ الشَّعْرِ مُوَلَّدٌ. (4)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلَقُ الذَّقَنُ عَلَى نَفْسِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، كَمَا نَصَّتْ عَلَيْهِ عِبَارَاتُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ فِي حَدِّ الْوَجْهِ الْمَفْرُوضِ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ. حَيْثُ قَالُوا: " حَدُّ الْوَجْهِ طُولاً مِنْ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير في المادة، وحاشية القليوبي 1 / 47.
(2) سورة الإسراء / 107.
(3) تفسير القرطبي 10 / 341.
(4) متن اللغة في المادة.(21/214)
مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ إِلَى أَسْفَل الذَّقَنِ أَيْ مُنْتَهَى اللَّحْيَيْنِ " (1) .
وَفَسَّرَهُ فِي الدُّرِّ بِأَنَّهُ مَنْبَتُ الأَْسْنَانِ السُّفْلَى. (2) وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
اللِّحْيَةُ، الْفَكُّ، الْحَنَكُ، اللَّحْيُ:
2 - اللِّحْيَةُ اسْمٌ يَجْمَعُ مِنَ الشَّعْرِ مَا نَبَتَ عَلَى الْخَدَّيْنِ وَالذَّقَنِ، أَوْ هِيَ الشَّعْرُ النَّازِل عَلَى الذَّقَنِ. (3)
وَالْفَكُّ بِالْفَتْحِ اللَّحْيُ، وَالْفَكَّانِ اللَّحْيَانِ، وَقِيل مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ عِنْدَ الصُّدْغِ مِنْ أَعْلَى وَأَسْفَل. قَال فِي اللِّسَانِ نَقْلاً عَنِ التَّهْذِيبِ: الْفَكَّانِ مُلْتَقَى الشِّدْقَيْنِ. (4)
وَاللَّحْيُ عَظْمُ الْحَنَكِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الأَْسْنَانُ. وَهُوَ مِنَ الإِْنْسَانِ حَيْثُ يَنْبُتُ الشَّعْرُ. وَالْحَنَكُ مِنَ الإِْنْسَانِ وَالدَّابَّةِ بَاطِنُ أَعْلَى الْفَمِ مِنَ الدَّاخِل، وَقِيل: هُوَ الأَْسْفَل فِي طَرَفِ مُقَدَّمِ اللَّحْيَيْنِ مِنْ أَسْفَلِهِمَا. وَمِنْهُ تَحْنِيكُ الصَّبِيِّ، وَهُوَ مَضْغُ التَّمْرِ ثُمَّ تَدْلِيكُهُ بِحَنَكِهِ. قَال الدُّسُوقِيُّ: حَاصِلُهُ أَنَّ ضَبَّةَ الْحَنَكِ السُّفْلَى قِطْعَتَانِ كُلٌّ
__________
(1) كفاية الطالب الرباني 1 / 50، وجواهر الإكليل 1 / 14، والإقناع للشربيني 1 / 35، ومطالب أولي النهى 1 / 113، وكشاف القناع 1 / 95.
(2) حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 65.
(3) لسان العرب والمصباح المنير.
(4) لسان العرب والمصباح المنير.(21/215)
مِنْهُمَا يُقَال لَهَا لَحْيٌ وَمَحَل اجْتِمَاعِهِمَا هُوَ الذَّقَنُ (1)
. الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالذَّقَنِ:
أَوَّلاً: غَسْل الذَّقَنِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الذَّقَنَ مِنَ الْوَجْهِ، فَيَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (2) .
4 - وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ غَسْل الذَّقَنِ الَّذِي نَبَتَتْ عَلَيْهِ اللِّحْيَةُ الْخَفِيفَةُ، أَيِ الَّتِي تَظْهَرُ الْبَشَرَةُ تَحْتَهَا، وَلاَ تَسْتُرُهَا عَنِ الرَّائِي.
أَمَّا مَا نَبَتَ عَلَى الذَّقَنِ مِنَ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ فَيَجِبُ غَسْل ظَاهِرِهَا لأَِنَّهَا نَبَتَتْ فِي مَحَل الْفَرْضِ، وَالْمُوَاجَهَةُ تَحْصُل بِهَا فَتَدْخُل فِي اسْمِ الْوَجْهِ. أَمَّا بَاطِنُهَا مِنَ الذَّقَنِ وَالْبَشَرَةِ فَلاَ يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ؛ لِعُسْرِ إِيصَال الْمَاءِ إِلَيْهِ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَغَرَفَ غُرْفَةً غَسَل بِهَا وَجْهَهُ (3) وَكَانَتْ لِحْيَتُهُ الْكَرِيمَةُ كَثِيفَةً، وَبِالْغُرْفَةِ الْوَاحِدَةِ لاَ يَصِل الْمَاءُ إِلَى ذَلِكَ غَالِبًا. (4)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، وحاشية القليوبي 4 / 256، والشرح الكبير للدردير 1 / 86.
(2) سورة المائدة / 6.
(3) حديث: " توضأ فغرف غرفة. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 240 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.
(4) ابن عابدين 1 / 68 - 69، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 86، ومغني المحتاج 1 / 51 - 52، وكشاف القناع 1 / 96، والمغني لابن قدامة 1 / 117، 118.(21/215)
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحَيْ: (لِحْيَة وَوُضُوء) .
ثَانِيًا: وُجُوبُ الدِّيَةِ:
5 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ فِي دِيَةِ الأَْطْرَافِ أَنَّ مَنْ فَوَّتَ مَنْفَعَةً عَلَى الْكَمَال، أَوْ أَزَال جَمَالاً مَقْصُودًا عَلَى الْكَمَال، فَإِذَا كَانَ الْعُضْوُ مِنَ الأَْفْرَادِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ فِي بَدَنِ الإِْنْسَانِ كَالأَْنْفِ وَاللِّسَانِ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. وَإِذَا كَانَ مِنَ الأَْزْوَاجِ مِثْل الْعَيْنَيْنِ وَالأُْذُنَيْنِ فَفِي كِلَيْهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ. (1)
وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ فِي اللَّحْيَيْنِ كِلَيْهِمَا؛ لأَِنَّ فِيهِمَا نَفْعًا وَجَمَالاً لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُمَا. وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ. فَإِنْ قَلَعَهُمَا بِمَا عَلَيْهِمَا مِنَ الأَْسْنَانِ وَجَبَتْ دِيَتُهُمَا وَدِيَةُ الأَْسْنَانِ مَعًا، فَلاَ تَدْخُل دِيَةُ الأَْسْنَانِ فِي اللَّحْيَيْنِ. (2)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَة، لِحْيَة) .
ذَكَاةٌ
،
ر: ذَبَائِحُ، صَيْد
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 369، وجواهر الإكليل 2 / 268.
(2) مغني المحتاج 4 / 65، وكشاف القناع 6 / 44، 45.(21/216)
ذَكَرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الذَّكَرُ اسْمٌ لِلْعُضْوِ الْمَعْرُوفِ، جَمْعُهُ ذِكَرَةٌ بِوَزْنِ (عِنَبَةٍ) وَمَذَاكِيرُ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَالذَّكَرُ أَيْضًا خِلاَفُ الأُْنْثَى، وَجَمْعُهُ ذُكْرَانٌ وَذُكُورٌ، وَالْمَصْدَرُ الذُّكُورَةُ، (1) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (ذُكُورَة) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
:
الأُْنْثَى:
2 - الأُْنْثَى: هِيَ خِلاَفُ الذَّكَرِ مِنْ كُل شَيْءٍ وَالْجَمْعُ إِنَاثٌ وَأُنُثٌ، مِثْل حِمَارٍ وَحُمُرٍ، وَالتَّأْنِيثُ خِلاَفُ التَّذْكِيرِ. (2)
الْفَرْجُ:
3 - الْفَرْجُ مِنَ الإِْنْسَانِ يُطْلَقُ عَلَى الْقُبُل وَالدُّبُرِ مِنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِجٌ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْعُرْفِ فِي الْقُبُل. (3)
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، غريب القرآن للأصفهاني مادة: " ذكر ".
(2) المصباح المنير، لسان العرب مادة: " أنث ".
(3) المصباح المنير.(21/216)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّكَرِ مِنَ الأَْحْكَامِ:
أ - انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ بِالْكَفِّ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ بِالْكَفِّ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ إِلَى عَدَمِ انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ مُطْلَقًا. (2)
وَرَاجِعِ التَّفْصِيل وَالأَْدِلَّةَ فِي (حَدَث) .
الْقِصَاصُ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ:
5 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ السَّلِيمِ إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُ الْقِصَاصِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (3) وَلأَِنَّ لَهُ نِهَايَةً مُنْضَبِطَةً فَأُلْحِقَتْ بِالْمَفَاصِل، فَيُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ.
وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ ذَكَرُ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ،
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 35، المجموع 2 / 40، المغني لابن قدامة 1 / 179، الإنصاف 1 / 202.
(2) البدائع 1 / 30، وجواهر الإكليل 1 / 20، ومغني المحتاج 1 / 35، المجموع 2 / 40، والمغني لابن قدامة 1 / 178، والإنصاف 1 / 202.
(3) سورة المائدة / 45.(21/217)
وَالشَّيْخِ وَالشَّابِّ، كَمَا يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ، وَالصَّحِيحُ وَالْمَرِيضُ؛ لأَِنَّ مَا وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهِ مِنَ الأَْطْرَافِ لَمْ يَخْتَلِفْ بِهَذِهِ الْمَعَانِي.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ مِنْ أَصْلِهِ أَوْ قَطْعِ بَعْضِهِ إِلاَّ الْحَشَفَةَ؛ لأَِنَّ الذَّكَرَ يَنْقَبِضُ مَرَّةً وَيَنْبَسِطُ أُخْرَى، فَلاَ يُمْكِنُ مُرَاعَاةُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ. وَالْمُمَاثَلَةُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَانْعِدَامُهَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ. أَمَّا قَطْعُ الْحَشَفَةِ فَفِيهِ الْقِصَاصُ؛ لإِِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْل؛ لأَِنَّ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا تَنْتَهِي إِلَيْهِ. (1)
وَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي قَطْعِ ذَكَرِ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ إِذَا كَانَ الْقَاطِعُ غَيْرَ خَصِيٍّ وَلاَ عِنِّينٍ. رَاجِعْ تَفَاصِيل هَذَا الْخِلاَفِ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص) . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ بِقَطْعِ الذَّكَرِ السَّلِيمِ بِالأَْشَل. (2)
وُجُوبُ الدِّيَةِ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ:
6 - أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ الدِّيَةَ كَامِلَةً إِذَا لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
__________
(1) البدائع 7 / 308، جواهر الإكليل 2 / 260، 268، مغني المحتاج 4 / 27، المغني لابن قدامة 7 / 713.
(2) روضة الطالبين 9 / 192 - 195، مغني المحتاج 4 / 67، والقوانين الفقهية ص 356، المغني لابن قدامة 7 / 723.(21/217)
كِتَابِهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ (1) وَلأَِنَّهُ عُضْوٌ وَاحِدٌ فِي الْبَدَنِ فِيهِ الْمَنْفَعَةُ وَالْجَمَال فَكَمُلَتْ فِيهِ الدِّيَةُ. كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي قَطْعِ الْحَشَفَةِ - وَهِيَ رَأْسُ الذَّكَرِ - لأَِنَّ مُعْظَمَ مَنَافِعِ الذَّكَرِ وَهُوَ لَذَّةُ الْمُبَاشَرَةِ تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَأَحْكَامُ الْوَطْءِ عَلَيْهَا، فَمَا عَدَاهَا مِنَ الذَّكَرِ كَالتَّابِعِ لَهَا، كَالْكَفِّ مَعَ الأَْصَابِعِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ كَذَلِكَ فِي شَلَل الذَّكَرِ؛ لأَِنَّهُ ذَهَبَ بِنَفْعِهِ، وَلاَ فَرْقَ فِي وَحُوبِ الدِّيَةِ فِي الذَّكَرِ بَيْنَ الذَّكَرِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَلاَ بَيْنَ ذَكَرِ الشَّيْخِ وَالشَّابِّ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ، بِشَرْطِ أَنْ يُعْلَمَ صِحَّةُ ذَكَرِ الصَّغِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ بِذَكَرِ الْعِنِّينِ، وَذَلِكَ بَعْدَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ دِيَةَ فِي قَطْعِ ذَكَرِ الأَْشَل وَمَقْطُوعِ الْحَشَفَةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي ذَكَرِ الْعِنِّينِ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ؛ وَلأَِنَّهُ عُضْوٌ لاَ خَلَل فِي نَفْسِهِ بَل هُوَ سَلِيمٌ، وَعَدَمُ الاِنْتِشَارِ يَعُودُ لِضَعْفٍ فِي الْقَلْبِ أَوِ الدِّمَاغِ أَوْ لِعَوَامِل أُخْرَى؛ وَلأَِنَّهُ غَيْرُ مَيْئُوسٍ مِنْ جِمَاعِهِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ:
__________
(1) حديث: " وفي الذكر الدية " أخرجه النسائي (8 / 58 - ط المكتبة التجارية) ، ونقل ابن حجر في التلخيص (4 / 18 - ط شركة الطباعة الفنية) عن جماعة من العلماء أنهم صححوه.(21/218)
إِنَّهُ لاَ تَكْمُل فِيهِ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ مَنْفَعَةَ الذَّكَرِ هِيَ الإِْنْزَال وَالإِْحْبَال وَالْجِمَاعُ وَقَدْ عُدِمَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي حَال الْكَمَال، فَلَمْ تَكْمُل دِيَتُهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ قَتَادَةُ. (1)
7 - وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ كَذَلِكَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ بِذَكَرِ الْخَصِيِّ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَهِيَ الرَّاجِحَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ دِيَةٍ كَامِلَةٍ فِيهِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الذَّكَرِ هُوَ الإِْنْزَال وَتَحْصِيل النَّسْل.
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَإِسْحَاقُ،
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ فِي ذَكَرِ الْخَصِيِّ دِيَةً كَامِلَةً؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ (2) وَلأَِنَّ مِنْ صِفَةِ الذَّكَرِ الْجِمَاعَ وَهُوَ بَاقٍ فِيهِ. (3)
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (دِيَة، حَشَفَة، حُكُومَةُ عَدْلٍ، عِنِّين، خَصِيّ، قِصَاص) .
وَوَرَدَتْ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ أَحْكَامٌ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 33، مغني المحتاج 4 / 67، حاشية العدوي 2 / 277، جواهر الإكليل 2 / 268، حاشية ابن عابدين 5 / 369، البدائع 7 / 308، حاشية الدسوقي 4 / 273.
(2) حديث: " في الذكر الدية " سبق تخريجه ف / 6.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 370 - 372، مغني المحتاج 4 / 67، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 273، المغني لابن قدامة 8 / 33، كشاف القناع 6 / 49.(21/218)
بِالذَّكَرِ مِنْهَا: وُجُوبُ الْغُسْل بِتَغْيِيبِ حَشَفَةِ الذَّكَرِ فِي الْفَرَجِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمَهْرَ يَسْتَقِرُّ لِلْمَرْأَةِ بِالْوَطْءِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الإِْحْصَانَ يَحْصُل بِذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ.
وَمِنْهَا أَنَّ حَدَّ الزِّنَى يَجِبُ بِإِيلاَجِ شَيْءٍ مِنَ الذَّكَرِ لِلرَّجُل الْبَالِغِ فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ مُشْتَهَاةٍ مُحَرَّمَةٍ خَالِيَةٍ عَنِ الشُّبْهَةِ. (1) وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (غُسْل، وَمَهْر، وَإِحْصَان، وَزِنًى، وَحَشَفَة، وَوَطْء) .
__________
(1) القوانين الفقهية ص 207، 360، ومغني المحتاج 3 / 224، 4 / 143، 147، والمغني لابن قدامة 1 / 204، 6 / 724، 8 / 161.(21/219)
ذِكْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الذِّكْرُ لُغَةً مَصْدَرُ ذَكَرَ الشَّيْءَ يَذْكُرُهُ ذِكْرًا وَذُكْرًا، وَقَال الْكِسَائِيُّ: الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ ضِدُّ الإِْنْصَاتِ ذَالُهُ مَكْسُورَةٌ، وَبِالْقَلْبِ ضِدُّ النِّسْيَانِ وَذَالُهُ مَضْمُومَةٌ، وَقَال غَيْرُهُ: بَل هُمَا لُغَتَانِ. (1)
وَهُوَ يَأْتِي فِي اللُّغَةِ لِمَعَانٍ:
الأَْوَّل: الشَّيْءُ يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ، أَيْ مَا يُنْطَقُ بِهِ، يُقَال: ذَكَرْتُ الشَّيْءَ أَذْكُرُهُ ذُكْرًا وَذِكْرًا إِذَا نَطَقْتَ بِاسْمِهِ أَوْ تَحَدَّثْتَ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} (2) .
وَالثَّانِي: اسْتِحْضَارُ الشَّيْءِ فِي الْقَلْبِ، ضِدُّ النِّسْيَانِ. قَال تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فَتَى مُوسَى: {وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} (3) .
قَال الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ فِي بَصَائِرِهِ: " الذِّكْرُ تَارَةً يُرَادُ بِهِ هَيْئَةٌ
__________
(1) تاج العروس، ومفردات الراغب، وكشاف القناع عن متن الإقناع، الرياض، مكتبة النصر الحديثة 6 / 264.
(2) سورة مريم / 2.
(3) سورة الكهف / 63.(21/219)
لِلنَّفْسِ بِهَا يُمْكِنُ الإِْنْسَانُ أَنْ يَحْفَظَ مَا يَقْتَنِيهِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ كَالْحِفْظِ، إِلاَّ أَنَّ الْحِفْظَ يُقَال اعْتِبَارًا بِإِحْرَازِهِ، وَالذِّكْرُ يُقَال بِاعْتِبَارِ اسْتِحْضَارِهِ، وَتَارَةً يُقَال لِحُضُورِ الشَّيْءِ الْقَلْبَ أَوِ الْقَوْل. وَلِذَلِكَ قِيل: الذِّكْرُ ذِكْرَانِ: ذِكْرٌ بِالْقَلْبِ، وَذِكْرٌ بِاللِّسَانِ، وَكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَرْبَانِ: ذِكْرٌ عَنْ نِسْيَانٍ، وَذِكْرٌ لاَ عَنْ نِسْيَانٍ، بَل عَنْ إِدَامَةِ حِفْظٍ. وَكُل قَوْلٍ يُقَال لَهُ ذِكْرٌ. وَمِنَ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ مَعًا (1) قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (2) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَيُسْتَعْمَل الذِّكْرُ بِمَعْنَى ذِكْرِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَل، سَوَاءٌ بِالإِْخْبَارِ الْمُجَرَّدِ عَنْ ذَاتِهِ أَوْ صِفَاتِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ أَوْ أَحْكَامِهِ أَوْ بِتِلاَوَةِ كِتَابِهِ أَوْ بِمَسْأَلَتِهِ وَدُعَائِهِ أَوْ بِإِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِتَقْدِيسِهِ وَتَمْجِيدِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَحَمْدِهِ وَشُكْرِهِ وَتَعْظِيمِهِ. وَيُسْتَعْمَل الذِّكْرُ اصْطِلاَحًا بِمَعْنًى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى إِنْشَاءِ الثَّنَاءِ بِمَا تَقَدَّمَ، دُونَ سَائِرِ الْمَعَانِي الأُْخْرَى الْمَذْكُورَةِ. وَيُشِيرُ إِلَى الاِسْتِعْمَال بِهَذَا الْمَعْنَى الأَْخَصِّ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
__________
(1) مطالب أولي النهى 1 / 107، دمشق، المكتب الإسلامي، 1380 هـ.
(2) سورة البقرة / 200.(21/220)
اللَّهِ أَكْبَرُ} (1) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَل مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ (2) . فَجَعَلَتِ الآْيَةُ الذِّكْرَ غَيْرَ الصَّلاَةِ عَلَى التَّفْسِيرِ بِأَنَّ نَهْيَ ذِكْرِ اللَّهِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ أَعْظَمُ مِنْ نَهْيِ الصَّلاَةِ عَنْهُمَا، وَجَعَل الْحَدِيثُ الذِّكْرَ غَيْرَ تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرَ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ الدُّعَاءُ. وَهَذَا الاِسْتِعْمَال الأَْخَصُّ هُوَ الأَْكْثَرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، حَتَّى إِنَّ ابْنَ عَلاَّنَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ الْحَقِيقَةُ، وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي مَجَازٌ. قَال: " أَصْل وَضْعِ الذِّكْرِ هُوَ مَا تَعَبَّدَنَا الشَّارِعُ بِلَفْظِهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِتَعْظِيمِ الْحَقِّ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ".
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتَنَعَ مِنْ رَدِّ السَّلاَمِ عَلَى الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ حَتَّى تَوَضَّأَ ثُمَّ قَال: إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى إِلاَّ عَلَى طُهْرٍ (3) .
قَال ابْنُ عَلاَّنَ: جَوَابُ السَّلاَمِ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِذَلِكَ، أَيْ لِلثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ. فَإِطْلاَقُ الذِّكْرِ
__________
(1) سورة العنكبوت / 45.
(2) حديث: " من شغله القرآن وذكري عن مسألتي. . . " أخرجه الترمذي (5 / 184 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وقال الترمذي: " حديث حسن غريب ".
(3) حديث: " إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر " أخرجه أبو داود (1 / 23 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 167 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.(21/220)
عَلَيْهِ مَجَازٌ شَرْعِيٌّ سَبَبُهُ - أَيْ عَلاَقَتُهُ - الْمُشَابَهَةُ أَيْ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَوْلٌ يُبْنَى عَلَيْهِ الثَّوَابُ. (1)
وَأُطْلِقَ الذِّكْرُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى عِدَّةِ أُمُورٍ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ اللُّغَوِيَّيْنِ أَوْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَأُطْلِقَ عَلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ نَفْسِهِ فِي مِثْل قَوْله تَعَالَى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} (2) وَقَال: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآْيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} (3) .
وَأُطْلِقَ عَلَى التَّوْرَاةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} (4) .
وَأُطْلِقَ عَلَى كُتُبِ الأَْنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ. قَال الرَّاغِبُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْل الذِّكْرِ} (5) أَيِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَقَال الزُّبَيْدِيُّ: كُل كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الأَْنْبِيَاءِ ذِكْرٌ، وَقَال تَعَالَى: {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُل هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} (6) أَيْ هَذَا هُوَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّل عَلَى مَنْ مَعِي وَالْكِتَابُ الآْخَرُ
__________
(1) الفتوحات الربانية شرح الأذكار النووية، لمحمد بن علان الصديقي الشافعي، بيروت، المكتبة الإسلامية، بالتصوير عن طبعة القاهرة، جمعية النشر والتأليف الأزهرية 1 / 396.
(2) سورة الأنبياء / 50.
(3) سورة آل عمران / 58.
(4) سورة الأنبياء / 105.
(5) سورة الأنبياء / 7.
(6) سورة الأنبياء / 24.(21/221)
الْمُنَزَّل عَلَى مَنْ تَقَدَّمَنِي، وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَالإِْنْجِيل وَالزَّبُورُ وَالصُّحُفُ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ بِأَنْ تَتَّخِذُوا إِلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَقَدْ فُسِّرَتِ الآْيَةُ أَيْضًا بِغَيْرِ ذَلِكَ. (1)
وَأُطْلِقَ الذِّكْرُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَنْزَل اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولاً} (2) . فَقَدْ قِيل: إِنَّ الذِّكْرَ هُنَا وَصْفٌ لِلرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَنَّ الْكَلِمَةَ وَصْفٌ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بُشِّرَ بِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَأُطْلِقَ الذِّكْرُ بِمَعْنَى الصِّيتِ، وَيَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَبِمَعْنَى الشَّرَفِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ صَاحِبَهُمَا يُذْكَرُ بِهِمَا. وَقَدْ فُسِّرَ بِهِمَا قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} (3) وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} (4) .
وَأُطْلِقَ الذِّكْرُ بِمَعْنَى الاِتِّعَاظِ وَمَا يَحْصُل بِهِ الْوَعْظُ، وَقَدْ فُسِّرَ بِذَلِكَ (5) قَوْله تَعَالَى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَل مِنْ مُدَّكِرٍ} (6)
__________
(1) تفسير الرازي 22 / 148 عند الآية 24 من سورة الأنبياء.
(2) سورة الطلاق / 10، 11.
(3) سورة الأنبياء / 10.
(4) سورة الزخرف / 44.
(5) انظر تفسير الرازي وتفسير ابن كثير عند هذه الآية من سورة القمر.
(6) سورة القمر / 18.(21/221)
وقَوْله تَعَالَى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} (1) قَال الرَّازِيُّ: الْمَعْنَى: أَنَرُدُّ عَنْكُمُ النَّصَائِحَ وَالْمَوَاعِظَ. (2) وَقَدْ فُسِّرَتْ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأُطْلِقَ الذِّكْرُ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَذَلِكَ فِي قَوْل النَّبِيِّ: وَكَتَبَ اللَّهُ فِي الذِّكْرِ كُل شَيْءٍ (3) أَيْ لأَِنَّ اللَّوْحَ مَحَلٌّ لِلذِّكْرِ كَتَبَ اللَّهُ فِيهِ كُل شَيْءٍ مِنَ الْكَائِنَاتِ. (4)
وَيَشْتَمِل هَذَا الْبَحْثُ عَلَى مَا يَلِي:
1 - الذِّكْرُ بِمَعْنَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ.
2 - وَالذِّكْرُ بِمَعْنَى النُّطْقِ بِاسْمِ الشَّيْءِ.
3 - وَالذِّكْرُ بِمَعْنَى اسْتِحْضَارِ الشَّيْءِ فِي الْقَلْبِ.
4 - وَالذِّكْرُ بِمَعْنَى الشُّهْرَةِ وَالصِّيتِ وَالشَّرَفِ.
وَأَمَّا الذِّكْرُ بِسَائِرِ الْمَعَانِي فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهُ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى (ر: قُرْآن. تَوْرَاة. إِنْجِيل. وَعْظ. دُعَاء) .
أَوَّلاً: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى:
حُكْمُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى:
2 - الذِّكْرُ مَحْبُوبٌ مَطْلُوبٌ مِنْ كُل أَحَدٍ مُرَغَّبٌ فِيهِ فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال، إِلاَّ فِي حَالٍ وَرَدَ الشَّرْعُ
__________
(1) سورة الزخرف / 5.
(2) الرازي عند الآية الخامسة من سورة الزخرف.
(3) حديث: " كتب الله في الذكر كل شيء " أخرجه البخاري الفتح 6 / 286 - ط السلفية) من حديث عمران بن حصين.
(4) فتح الباري، القاهرة، المكتبة السلفية 6 / 290.(21/222)
بِاسْتِثْنَائِهَا، كَحَال الْجُلُوسِ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَحَال سَمَاعِ الْخُطْبَةِ (1) عَلَى مَا يَأْتِي.
وَدَلِيل اسْتِحْبَابِهِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَنَهَى عَنْ ضِدِّهِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ، وَعَلَّقَ الْفَلاَحَ بِاسْتِدَامَتِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ وَجَعَلَهُمْ أَهْل الاِنْتِفَاعِ بِآيَاتِهِ، وَأَنَّهُمْ أُولُو الأَْلْبَابِ، وَأَخْبَرَ عَنْ خُسْرَانِ مَنْ لَهَا عَنِ الذِّكْرِ بِغَيْرِهِ، (2) وَجَعَل ذِكْرَهُ تَعَالَى لأَِهْلِهِ جَزَاءَ ذِكْرِهِمْ لَهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُل شَيْءٍ، وَجَعَلَهُ قَرِينَ الأَْعْمَال الصَّالِحَةِ، وَجَعَلَهُ مُفْتَتَحَهَا وَمُخْتَتَمَهَا، (3) فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ يَرِدُ بَعْضُهَا أَثْنَاءَ هَذَا الْبَحْثِ لاَ نُطِيل بِذِكْرِهَا هُنَا. وَيَزْدَادُ اسْتِحْبَابُ الذِّكْرِ فِي مَوَاضِعَ يَأْتِي تَفْصِيلُهَا.
وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَمِنَ الذِّكْرِ الْوَاجِبِ بَعْضُ أَذْكَارِ الصَّلاَةِ كَتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
وَمِنَ الذِّكْرِ الْوَاجِبِ الأَْذَانُ وَالإِْقَامَةُ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُمَا يَجِبَانِ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَرَدُّ السَّلاَمِ وَالتَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبِيحَةِ. فَيُنْظَرُ تَفْصِيل أَحْكَامِ كُلٍّ مِنْهَا فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَدْ يَكُونُ الذِّكْرُ حَرَامًا، وَذَلِكَ كَأَنْ يَتَضَمَّنَ شِرْكًا كَتَلْبِيَةِ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ يَتَضَمَّنَ نَقْصًا، مِثْل مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ: السَّلاَمُ
__________
(1) فتح الباري 11 / 212، 209.
(2) نزل الأبرار لصديق حسن خان ص 10 (بيانات النشر غير متوفرة) .
(3) مدارج السالكين لابن القيم 2 / 424، 425.(21/222)
عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَقُولُوا السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ. . . (1) فَإِنَّ السَّلاَمَ إِنَّمَا يُطْلَبُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ هُوَ السَّلاَمُ، فَالسَّلاَمُ يُطْلَبُ مِنْهُ وَلاَ يُطْلَبُ لَهُ، بَل يُثْنَى عَلَيْهِ بِهِ نَحْوُ " اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ " (2) .
وَقَدْ يَحْرُمُ الذِّكْرُ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ كَالذِّكْرِ فِي حَال خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ. (3)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَة الْجُمُعَةِ) .
وَقَدْ يَكُونُ الذِّكْرُ مَكْرُوهًا وَذَلِكَ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ يَرِدُ ذِكْرُهَا أَثْنَاءَ الْبَحْثِ.
فَضَائِل الذِّكْرِ وَفَوَائِدُهُ:
3 - تَتَبَيَّنُ مَنْزِلَةُ الذِّكْرِ بَيْنَ شَعَائِرِ الدِّينِ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَا يَلِي:
الأَْوَّل: أَنَّ الذِّكْرَ بِالْمَعْنَى الشَّامِل لِتِلاَوَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ أَفْضَل الأَْعْمَال عَلَى الإِْطْلاَقِ، وَنَقَل ابْنُ عَلاَّنَ عَنْ شَرْحِ الْمِشْكَاةِ لاِبْنِ حَجَرٍ أَنَّ قَضِيَّةَ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْجِهَادَ
__________
(1) حديث: " لا تقولوا السلام على الله؛ فإن الله هو السلام " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 320 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن مسعود.
(2) حديث: " اللهم أنت السلام ومنك السلام ". أخرجه مسلم (1 / 414 - ط الحلبي) من حديث ثوبان.
(3) مجموع الفتاوى الكبرى لابن تيمية 10 / 553 وما بعدها. ط الرياض، وجواهر الإكليل 1 / 98.(21/223)
أَفْضَل مِنَ الذِّكْرِ. (1) وَوَجْهُ الأَْوَّل مَا فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَال: ذِكْرُ اللَّهِ (2) .
قَال صَاحِبُ نُزُل الأَْبْرَارِ: أَفَادَ الْحَدِيثُ أَنَّ الذِّكْرَ خَيْرُ الأَْعْمَال عَلَى الْعُمُومِ، وَأَنَّهُ أَكْثَرُهَا نَمَاءً وَبَرَكَةً وَأَرْفَعُهَا دَرَجَةً.
وَمِثْلُهُ حَدِيثُ الْغَازِي فِي سَبِيل اللَّهِ لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فِي الْكُفَّارِ حَتَّى يَنْكَسِرَ وَيَخْتَضِبَ دَمًا لَكَانَ الذَّاكِرُونَ اللَّهَ أَفْضَل مِنْهُ دَرَجَةً (3) وَاسْتَشْكَل بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَفْضِيل الذِّكْرِ عَلَى الْجِهَادِ مَعَ وُرُودِ الأَْدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ أَفْضَل الأَْعْمَال، (4) وَجَمَعَ بَعْضُ أَهْل الْعِلْمِ بَيْنَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الأَْشْخَاصِ وَالأَْحْوَال فَمَنْ كَانَ مُطِيقًا لِلْجِهَادِ قَوِيَّ الأَْثَرِ فِيهِ فَأَفْضَل أَعْمَالِهِ الْجِهَادُ، وَمَنْ كَانَ كَثِيرَ الْمَال فَأَفْضَل أَعْمَالِهِ الصَّدَقَةُ، وَغَيْرُ هَذَيْنِ
__________
(1) الفتوحات الربانية 1 / 261، ونزل الأبرار لصديق حسن خان ص 15، وشرح الإحياء للزبيدي 10 / 4.
(2) حديث: " ألا أنبئكم بخير أعمالكم. . . " أخرجه الترمذي (5 / 459 - ط الحلبي) ، والحاكم (1 / 496 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " الغازي في سبيل الله لو ضرب بسيفه. . . " أخرجه الترمذي (5 / 458 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وأعله الترمذي بقوله: " هذا حديث غريب ".
(4) نزل الأبرار ص 14 - 16.(21/223)
أَفْضَل أَعْمَالِهِ الذِّكْرُ وَالصَّلاَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَلَكِنْ يَدْفَعُ هَذَا تَصْرِيحُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَفْضَلِيَّةِ الذِّكْرِ عَلَى الْجِهَادِ نَفْسِهِ فِي هَذِهِ الأَْحَادِيثِ. (1)
وَجَمَعَ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الَّذِي هُوَ أَفْضَل مِنَ الْجِهَادِ، الذِّكْرُ الْكَامِل الْجَامِعُ بَيْنَ ذِكْرِ اللِّسَانِ وَذِكْرِ الْقَلْبِ بِالتَّفَكُّرِ وَالاِسْتِحْضَارِ، فَالَّذِي يَحْصُل لَهُ ذَلِكَ يَكُونُ أَفْضَل مِمَّنْ يُقَاتِل الْكُفَّارَ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْضَارٍ لِذَلِكَ، وَأَفْضَلِيَّةُ الْجِهَادِ هِيَ بِالنِّسْبَةِ لِلذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ الْمُجَرَّدِ. وَنُقِل عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّ وَجْهَ الْجَمْعِ أَنَّهُ مَا مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ إِلاَّ وَالذِّكْرُ مُشْتَرَطٌ فِي تَصْحِيحِهِ، فَمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ بِقَلْبِهِ فَلَيْسَ عَمَلُهُ كَامِلاً، فَصَارَ الذِّكْرُ أَفْضَل الأَْعْمَال مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ. (2)
وَأَفْضَل أَهْل كُل عَمَلٍ أَكْثَرُهُمْ فِيهِ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَفْضَل الْمُصَلِّينَ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلَّهِ، وَأَفْضَل الصَّائِمِينَ أَكْثَرُهُمْ فِي صَوْمِهِمْ ذِكْرًا لِلَّهِ، وَكَذَا الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ، (3) قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ، قَالُوا وَمَنِ الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ (4) وَذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُنَافِقِينَ بِقِلَّةِ
__________
(1) تحفة الذاكرين للشوكاني شرح عدة الحصن الحصين للجزري ص 10، دار الكتاب العربي.
(2) فتح الباري 11 / 210.
(3) نزل الأبرار ص 27 - 29، وانظر مدارج السالكين 2 / 426.
(4) حديث: " سبق المفردون. . . " أخرجه مسلم (4 / 2062 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(21/224)
الذِّكْرِ فِي صَلاَتِهِمْ، قَال تَعَالَى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} (1) .
الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ إِنَّمَا شُرِعَتْ لإِِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى (2) مِنْ ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الصَّلاَةِ {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} (3) ، وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسَاجِدِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (4) .
الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ الذَّاكِرِينَ بِالْقُرْبِ وَالْوِلاَيَةِ وَالنَّصْرِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّوْفِيقِ، وَأَنَّهُ يَذْكُرُ مَنْ ذَكَرَهُ، وَمَنْ نَسِيَ اللَّهَ نَسِيَهُ وَأَنْسَاهُ نَفْسَهُ. (5)
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (6) . وَقَال: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (7) وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍَ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍَ خَيْرٍ مِنْهُمْ (8) .
__________
(1) سورة النساء / 142.
(2) نزل الأبرار ص 27.
(3) سورة طه / 14.
(4) حديث: " إنما هي لذكر الله والصلاة وتلاوة القرآن ". أخرجه مسلم (1 / 237 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(5) نزل الأبرار ص 12، 26.
(6) سورة البقرة / 152.
(7) سورة التوبة / 67.
(8) حديث: " يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 384 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2061 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(21/224)
الرَّابِعُ: أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى يُحَصِّنُ الذَّاكِرَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَمِنْ أَذَاهُ (1) قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَّكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (2) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ عَلَى قَلْبِهِ الْوَسْوَاسُ، فَإِذَا عَقَل فَذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِذَا غَفَل وَسْوَسَ. (3)
الْخَامِسُ: مَا فِي الذِّكْرِ مِنَ الأَْجْرِ الْعَظِيمِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي الْحَدِيثِ أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلاَ يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَل مِنْكُمْ إِلاَّ مَنْ صَنَعَ مِثْل مَا صَنَعْتُمْ، قَالُوا بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ. قَال: تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُل صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ (4) .
السَّادِسُ: أَنَّ الذِّكْرَ يَكْسُو الذَّاكِرِينَ الْجَلاَلَةَ
__________
(1) نزل الأبرار ص 23، وتحفة الذاكرين ص 14.
(2) سورة الأعراف / 201.
(3) حديث: " ما من مولود إلا على قلبه الوسواس ". أخرجه ابن جرير في تفسيره (30 / 355 - ط الحلبي) ، وضعفه ابن حجر في فتح الباري (8 / 741 - ط السلفية) ، وعلقه البخاري بلفظ مقارب، ورجح ابن حجر أن الأولى ورود صيغة التضعيف من البخاري.
(4) حديث: " ألا أحدثكم شيئًا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 325 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 416 - 417 - ط الحلبي) من حيث أبي هريرة.(21/225)
وَالْمَهَابَةَ وَيُورِثُهُمْ مَحَبَّةَ اللَّهِ الَّتِي هِيَ رُوحُ الإِْسْلاَمِ، وَيُحْيِي عِنْدَهُمْ الْمُرَاقَبَةَ لَهُ وَالإِْنَابَةَ إِلَيْهِ وَالْهَيْبَةَ لَهُ وَتَتَنَزَّل السَّكِينَةُ. (1)
وَفِي الذِّكْرِ حَيَاةُ قَلْبِ الذَّاكِرِ وَلِينُهُ، وَزَوَال قَسْوَتِهِ، وَفِيهِ شِفَاءُ الْقَلْبِ مِنْ أَدْوَاءِ الْغَفْلَةِ وَحُبِّ الْمَعَاصِي، وَيُعِينُ الإِْنْسَانَ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَيُيَسِّرُ أَمْرَهَا، فَإِنَّهُ يُحَبِّبُهَا إِلَى الإِْنْسَانِ وَيُلِذُّهَا لَهُ، فَلاَ يَجِدُ لَهَا مِنَ الْكُلْفَةِ وَالْمَشَقَّةِ مَا يَجِدُهُ الْغَافِل.
وَفِي الصَّحِيحِ مَرْفُوعًا مَثَل الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَل الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ (2) .
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ التَّارِكَ لِلذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ فِي حَيَاةٍ ذَاتِيَّةٍ فَلَيْسَ لِحَيَاتِهِ اعْتِبَارٌ، بَل هُوَ شَبِيهٌ بِالأَْمْوَاتِ حِسًّا الَّذِينَ أَجْسَادُهُمْ عُرْضَةٌ لِلْهَوَامِّ، وَبَوَاطِنُهُمْ مُتَعَطِّلَةٌ عَنِ الإِْدْرَاكِ وَالْفَهْمِ. (3)
السَّابِعُ: أَنَّ الذِّكْرَ أَيْسَرُ الْعِبَادَاتِ مَعَ كَوْنِهِ أَجَلَّهَا وَأَفْضَلَهَا وَأَكْرَمَهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ حَرَكَةَ اللِّسَانِ أَخَفُّ حَرَكَاتِ الْجَوَارِحِ، فِيهِ يَحْصُل الْفَضْل لِلذَّاكِرِ وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى فِرَاشِهِ وَفِي سُوقِهِ، وَفِي حَال صِحَّتِهِ وَسَقَمِهِ، وَفِي حَال نَعِيمِهِ وَلَذَّتِهِ وَمَعَاشِهِ وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَاضْطِجَاعِهِ وَسَفَرِهِ، وَإِقَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ
__________
(1) نزل الأبرار ص 22.
(2) حديث: " مثل الذي يذكر ربه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 208 - ط السلفية) من حديث أبي موسى.
(3) تحفة الذاكرين ص 11 والفتوحات الربانية 1 / 219.(21/225)
مِنَ الأَْعْمَال الصَّالِحَةِ يَعُمُّ الأَْوْقَاتَ وَالأَْحْوَال مِثْلَهُ. (1)
هَذَا وَيَأْتِي قَرِيبًا بَعْضُ مَا وَرَدَ فِي التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ مِنَ الْفَضْل نَوْعًا نَوْعًا.
مَا يَكُونُ بِهِ الذِّكْرُ:
4 - الذِّكْرُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ وَبِالْقَلْبِ. وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ بِاللِّسَانِ أَنْ يَتَحَرَّكَ بِهِ اللِّسَانُ وَيُسْمِعَ نَفْسَهُ عَلَى الأَْقَل إِنْ كَانَ ذَا سَمْعٍ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَغَطٌ يَمْنَعُ السَّمَاعَ.
وَذِكْرُ اللِّسَانِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَيَّنِ يَتَأَدَّى بِهِ الذِّكْرُ الْمُكَلَّفُ بِهِ فِي الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا، وَلاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ مُجَرَّدُ إِمْرَارِ الذِّكْرِ الْمَطْلُوبِ عَلَى الْقَلْبِ.
قَال الْفُقَهَاءُ: وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنْ أَقْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ قَال كَذَا فَلَهُ مِنَ الأَْجْرِ كَذَا. فَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ إِلاَّ بِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْقَوْل.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ وَبِالْقَلْبِ جَمِيعًا أَفْضَل مِنَ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ دُونَ مُوَاطَأَةِ الْقَلْبِ أَيْ مَعَ عَدَمِ إِجْرَائِهِ عَلَى الْقَلْبِ تَسْبِيحًا كَانَ أَوْ تَهْلِيلاً أَوْ غَيْرَهُمَا، وَأَفْضَل مِنْ إِمْرَارِ الذِّكْرِ عَلَى الْقَلْبِ دُونَ نُطْقٍ بِاللِّسَانِ. أَمَّا فِي حَال انْفِرَادِ أَحَدِ الذِّكْرَيْنِ عَنِ الآْخَرِ فَقَدِ اخْتُلِفَ أَيُّهُمَا أَفْضَل.
__________
(1) نزل الأبرار ص 24 - 25.(21/226)
فَقِيل: ذِكْرُ الْقَلْبِ أَفْضَل، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ النَّوَوِيُّ فِي أَذْكَارِهِ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ، وَقِيل: لاَ ثَوَابَ فِي الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَحْدَهُ نَقَلَهُ الْهَيْتَمِيُّ عَنْ عِيَاضٍ وَالْبُلْقِينِيِّ، وَقِيل: ذِكْرُ اللِّسَانِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْمَعْنَى يَحْصُل بِهِ الثَّوَابُ وَهُوَ أَفْضَل مِنَ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَحْدَهُ؛ لأَِنَّ فِي ذِكْرِ اللِّسَانِ امْتِثَالاً لأَِمْرِ الشَّرْعِ مِنْ حَيْثُ الذِّكْرُ؛ لأَِنَّ مَا تَعَبَّدَنَا بِهِ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِالتَّلَفُّظِ بِهِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ، بِخِلاَفِ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَحْدَهُ فَلاَ يَحْصُل بِهِ الاِمْتِثَال.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الذِّكْرِ الْقَلْبِيِّ بِالْمَعْنَى الْمُبَيَّنِ، أَمَّا الذِّكْرُ الْقَلْبِيُّ بِمَعْنَى تَذَكُّرِ عَظَمَةِ اللَّهِ عِنْدَ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَإِرَادَةِ الْفِعْل الَّذِي فِيهِ رِضَاهُ فَيَفْعَلُهُ، أَوِ الَّذِي فِيهِ سُخْطُهُ فَيَتْرُكُهُ، وَالتَّفَكُّرُ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَبَرُوتِهِ وَآيَاتِهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَاوَاتِهِ وَمَصْنُوعَاتِهِ فَقَال عِيَاضٌ: هَذَا النَّوْعُ لاَ يُقَارِبُهُ ذِكْرُ اللِّسَانِ، فَكَيْفَ يَفْضُلُهُ. (1) وَفِي الْحَدِيثِ خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ (2) .
__________
(1) الفتوحات الربانية 1 / 106 - 108، ونزل الأبرار ص 11، ومدارج السالكين 2 / 431، ومختصر الفتاوى المصرية ص 44 مطبعة أنصار السنة المحمدية.
(2) حديث: " خير الذكر الخفي ". أخرجه أحمد (1 / 172 - ط الميمنية) من حديث سعد بن أبي وقاص، وفي إسناده انقطاع بين سعد الراوي عنه وهو محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة كما في ترجمته من التهذيب لابن حجر (9 / 301 - ط دائرة المعارف العثمانية) .(21/226)
صِيَغُ الذِّكْرِ:
5 - الأَْذْكَارُ الْقَوْلِيَّةُ قِسْمَانِ: أَذْكَارٌ مَأْثُورَةٌ، وَهِيَ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلِيمُهَا وَالأَْمْرُ بِهَا، أَوْ وَرَدَ عَنْهُ قَوْلُهَا فِي مُنَاسَبَةٍ خَاصَّةٍ أَوْ فِي غَيْرِ مُنَاسَبَةٍ، وَمِنْ قَبِيل الذِّكْرِ الْمَأْثُورِ الأَْذْكَارُ الْقُرْآنِيَّةُ كَذِكْرِ رُكُوبِ الدَّابَّةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} (1) .
الْقِسْمُ الأَْوَّل: الأَْذْكَارُ الْمَأْثُورَةُ:
6 - الأَْذْكَارُ الْوَارِدَةُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ أَفْرَدَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِالتَّأْلِيفِ مِنْهُمُ النَّوَوِيُّ وَابْنُ الْجَزَرِيِّ وَغَيْرُهُمَا. وَالْقُرْآنُ وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ ذِكْرًا بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ لِلذِّكْرِ إِلاَّ أَنَّ فِيهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ - وَهُوَ الذِّكْرُ بِالْمَعْنَى الأَْخَصِّ - الشَّيْءُ الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ. وَقَدْ جَمَعَ النَّوَوِيُّ فِي أَذْكَارِهِ جُمَلاً مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَا الشَّيْخُ صِدِّيق حَسَن خَان فِي بَابِ الدَّعَوَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ مِنْ كِتَابِهِ (2) .
فَمِنْ ذَلِكَ أَمْرُهُ تَعَالَى لَنَا بِالاِسْتِعَاذَةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (3) .
__________
(1) سورة الزخرف / 13، 14.
(2) نزل الأبرار ص 146 - 158، والقليوبي 1 / 65
(3) سورة النحل / 98.(21/227)
وَأَمَّا الْمَأْثُورَاتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَثِيرَةٌ وَسَيَأْتِي فِي أَثْنَاءِ الْبَحْثِ جُمْلَةٌ مِنْهَا.
ثُمَّ الْمَأْثُورَاتُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا مَا وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ مُطْلَقًا أَوْ لِسَبَبٍ، وَمِنْهَا مَا وَرَدَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ مُطْلَقًا أَوْ لِسَبَبٍ، فَيُتَّبَعُ بِحَسَبِ ذَلِكَ.
وَفِيمَا يَلِي مِنَ الأَْذْكَارِ الْمَأْثُورَاتِ أَنْوَاعٌ خُصَّتْ بِمَزِيدِ تَوْكِيدٍ:
التَّهْلِيل
7 - وَهُوَ قَوْل (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) (1) وَمَعْنَاهَا نَفْيُ الأُْلُوهِيَّةِ عَنْ كُل شَيْءٍ وَكُل أَحَدٍ، وَإِثْبَاتُ اسْتِحْقَاقِهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، فَلاَ رَبَّ غَيْرُهُ وَلاَ يُعْبَدُ سِوَاهُ.
وَتُسَمَّى هَذِهِ الْكَلِمَةُ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّهَا تَدُل عَلَى نَفْيِ الشَّرِيكِ عَلَى الإِْطْلاَقِ. وَتُسَمَّى أَيْضًا كَلِمَةَ الإِْخْلاَصِ (2) .
وَكَلِمَةُ التَّوْحِيدِ خُلاَصَةُ دَعْوَةِ الرُّسُل، كَمَا قَال تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (3) وَلاَ يَصِحُّ الإِْيمَانُ لِلْقَادِرِ إِلاَّ بِالنُّطْقِ بِهَا مَعَ التَّصْدِيقِ بِمَعْنَاهَا بِالْجَنَانِ، وَقِيل: يَحْصُل بِالتَّصْدِيقِ بِهَا وَهُوَ عَاصٍ بِتَرْكِ اللَّفْظِ،
__________
(1) فتح الباري 11 / 201.
(2) الفتوحات الربانية 1 / 213 - 217، وفتح الباري 11 / 203.
(3) سورة الأنبياء / 25.(21/227)
وَالْجُمْهُورُ عَلَى الأَْوَّل (1) .
وَمَنْ شَهِدَ بِهَا وَبِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل فِي الإِْسْلاَمِ حُكْمًا (ر: إِسْلاَم) ، وَقَدْ جُعِلَتِ الشَّهَادَتَانِ جُزْءًا مِنَ الأَْذَانِ، وَهُمَا ذِكْرٌ مِنْ أَذْكَارِ الصَّلاَةِ وَاجِبٌ، وَقِيل: سُنَّةٌ (ر: أَذَان، وَتَشَهُّد) .
وَفَضْل التَّهْلِيل عَظِيمٌ، وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَال لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ (2) وَقَوْلُهُ: أَفْضَل الذِّكْرِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (3) .
وَالتَّهْلِيل مُسْتَحَبٌّ فِي كُل وَقْتٍ وَحَالٍ، وَوَرَدَ فِي السُّنَّةِ الأَْمْرُ بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا:
عِنْدَ دُخُول السُّوقِ؛ لِحَدِيثِ: مَنْ دَخَل السُّوقَ فَقَال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفَ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفَ دَرَجَةٍ (4) .
__________
(1) الفتوحات الربانية 1 / 184، 213.
(2) حديث: " إن الله قد حرم على النار. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 519 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 456 - ط الحلبي) من حديث عتبان بن مالك.
(3) حديث: " أفضل الذكر لا إله إلا الله " أخرجه الترمذي (5 / 462 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وقال: " حديث حسن ".
(4) حديث: " من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده. . . " أخرجه الترمذي (5 / 491 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب، وقال الترمذي: " هذا حديث غريب ".(21/228)
وَمِنْهَا إِذَا أَصْبَحَ الإِْنْسَانُ وَإِذَا أَمْسَى، بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ وَصَلاَةِ الْمَغْرِبِ وَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ، وَمِنْهَا إِذَا سَبَقَ لِسَانُهُ بِالْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، كَمَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَلَفَ فَقَال فِي حَلِفِهِ وَاللاَّتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (1) .
التَّسْبِيحُ:
8 - وَهُوَ قَوْل " سُبْحَانَ اللَّهِ ". وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْقَائِل يُنَزِّهُ اللَّهَ تَعَالَى تَنْزِيهًا عَنْ كُل نَقْصٍ، وَمِنْهُ نَفْيُ الشَّرِيكِ وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَجَمِيعِ النَّقْصِ (2) . وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ مُرْسَلاً أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال - فِي قَوْل الْعَبْدِ سُبْحَانَ اللَّهِ -: تَنْزِيهُ اللَّهِ مِنَ السُّوءِ (3) .
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّسْبِيحِ مُطْلَقًا كَمَا فِي: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (4) وَقَوْلِهِ:
__________
(1) حديث: " من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى فليقل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 611 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1267 - 1268 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) الفتوحات الربانية 1 / 178، وفتح الباري 11 / 206، وفتاوى ابن تيمية 10 / 248.
(3) حديث موسى بن طلحة: " تنزيه الله من السوء " أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (1 / 76 - ط دار الكتاب العربي) ، وهو مرسل لأن موسى تابعي، ووصله البزار من حديث طلحة بن عبيد الله كما في " مجمع الزوائد " (10 / 94 - 95 - ط القدسي) وقال الهيثمي: " فيه عبد الرحمن بن حماد الطلحي، وهو ضعيف ".
(4) سورة الواقعة / 74.(21/228)
{وَتَوَكَّل عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} (1) .
وَالأَْكْثَرُ قَرْنُ التَّسْبِيحِ بِاسْمٍ دَالٍّ عَلَى التَّعْظِيمِ، أَوْ بِالْحَمْدِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّسْبِيحَ تَنْزِيهٌ وَتَخْلِيَةٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ السَّلْبِ، وَالْحَمْدُ ثَنَاءٌ بِصِفَاتِ الْكَمَال فَهُوَ مِنْ بَابِ الإِْيجَابِ (2) ، وَلِذَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (3) وَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} (4) وَقَال {وَتَوَكَّل عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} (5) وَقَال {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (6) .
وَفَضْل التَّسْبِيحِ عَظِيمٌ كَمَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ (7) .
وَوَرَدَ الأَْمْرُ بِالتَّسْبِيحِ فِي الْقُرْآنِ {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (8) ، وَ {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (9) {
__________
(1) سورة الفرقان / 58.
(2) الفتوحات الربانية 1 / 179، وفتاوى ابن تيمية 10 / 250، 251.
(3) سورة الواقعة / 74.
(4) سورة الأعلى / 1.
(5) سورة الفرقان / 58.
(6) سورة الإسراء / 44.
(7) حديث: " كلمتان خفيفتان على اللسان. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 566 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2072 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(8) سورة الروم / 17.
(9) سورة الأحزاب / 42.(21/229)
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْل فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} (1) .
وَفِي السُّنَّةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا دُعَاءُ الاِسْتِفْتَاحِ " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ. . . " إِلَخْ (2) .
وَالأَْمْرُ بِالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ " وَفِي السُّجُودِ " بِسُبْحَانَ رَبِّيَ الأَْعْلَى (3) " وَوَرَدَ الأَْمْرُ بِفِعْلِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ.
وَجُعِل التَّسْبِيحُ لِمَنْ فِي الصَّلاَةِ إِذَا نَابَهُ أَمْرٌ تَنْبِيهًا لِغَيْرِهِ، وَأَمَرَ بِهِ وَعِنْدَ سَمَاعِ الرَّعْدِ.
وَكَذَا إِنْ حَكَى نِسْبَةَ مَا فِيهِ نَقْصٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، كَمَا قَال تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} (4) أَوْ سَمِعَ ذَلِكَ، أَوْ سَمِعَ مَا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ جُنُبًا وَرَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْخَنَسَ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) سورة الطور / 48، 49.
(2) دعاء الاستفتاح: " سبحانك اللهم وبحمدك ". أخرجه أبو داود (1 / 491 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 235 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) الأمر بالتسبيح في الركوع بـ (سبحان ربي العظيم) . . أخرجه أبو داود (1 / 542 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 225 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عقبة بن عامر، قال الذهبي عن أحد رواته: قلت: إياس ليس بالمعروف. قال أخرى: " ليس بالقوي " كما في التهذيب لابن حجر (1 / 389 - ط دائرة المعارف العثمانية) .
(4) سورة البقرة / 116.(21/229)
سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يَنْجُسُ (1) .
وَفِي أَكْثَرِ هَذِهِ الْمَسَائِل تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَسْبِيح) .
التَّحْمِيدُ:
9 - وَيُسَمَّى أَيْضًا الْحَمْدَلَةَ، وَهُوَ قَوْل: الْحَمْدُ لِلَّهِ نُطْقًا. وَمَعْنَى كَوْنِ الْحَمْدِ لِلَّهِ: أَنَّ كُل حَمْدٍ أَوْ حَقِيقَةَ الْحَمْدِ أَوِ الْحَمْدَ الْمَعْهُودَ أَيِ الَّذِي حَمِدَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَحَمِدَهُ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ، مَمْلُوكٌ أَوْ مُسْتَحَقٌّ لَهُ، فَحَمْدُ غَيْرِهِ لاَ اعْتِدَادَ بِهِ؛ لأَِنَّ كُل النِّعَمِ مِنْهُ تَعَالَى، وَفِي الْحَدِيثِ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ (2) . وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنَّ الْمَعْنَى الاِسْتِغْرَاقُ وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ (3) .
وَحَقِيقَةُ الْحَمْدِ: الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيل الاِخْتِيَارِيِّ عَلَى قَصْدِ التَّبْجِيل، وَبِهَذَا فَارَقَ الْمَدْحَ، فَإِنَّ الْمَدْحَ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيل الاِخْتِيَارِيِّ وَغَيْرِهِ (4) . وَقِيل الْحَمْدُ الْوَصْفُ
__________
(1) حديث: " سبحان الله، إن المؤمن لا ينجس " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 390 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " اللهم لك الحمد كله ". أخرجه البيهقي كما في الترغيب للمنذري (2 / 441 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وصدره المنذري بصيغة التضعيف.
(3) الفتوحات الربانية 1 / 184، ونزل الأبرار ص 158.
(4) نزل الأبرار ص 158، والقليوبي على شرح المنهاج 1 / 4، والفتوحات الربانية 3 / 185.(21/230)
بِالْجَمِيل اخْتِيَارِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ بِقَصْدِ الثَّنَاءِ (1) ، وَهَذَا أَصَحُّ. وَقِيل الْحَمْدُ فِي الْعُرْفِ يَكُونُ بِالْقَوْل وَبِالْفِعْل أَيْضًا (2) .
وَمَعْنَى الشُّكْرِ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْحَمْدِ إِلاَّ أَنَّهُ كَمَا قَال الزَّمَخْشَرِيُّ أَعَمُّ مَوْرِدًا، أَيْ لأَِنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ، وَالْحَمْدُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، وَالْحَمْدُ أَعَمُّ مُتَعَلَّقًا؛ لأَِنَّ الشُّكْرَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ، وَالْحَمْدُ يَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ وَيَكُونُ لِمُجَرَّدِ اتِّصَافِ الْمَحْمُودِ بِالْجَمِيل.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَالتَّمْجِيدُ أَخَصُّ مِنَ التَّحْمِيدِ، فَإِنَّ التَّمْجِيدَ: الْمَدْحُ بِصِفَاتِ الْجَلاَل وَالْمُلْكِ وَالسُّؤْدُدِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ (3) .
وَالذِّكْرُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَتَمْجِيدِهِ وَشُكْرِهِ مَأْمُورٌ بِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَفَضْلُهُ كَبِيرٌ، قَال اللَّهُ تَعَالَى {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (4) وَقَال {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأََزِيدَنَّكُمْ} (5) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلأَْسْوَدِ بْنِ سُرَيْعٍ: إِنَّ رَبَّكَ يُحِبُّ الْحَمْدَ (6) وَقَال:
__________
(1) القليوبي على شرح المنهاج 1 / 4.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 10.
(3) نزل الأبرار ص 158، 159، ولسان العرب، ومختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ص 94.
(4) سورة البقرة / 152.
(5) سورة إبراهيم / 7.
(6) حديث: " إن ربك يحب الحمد ". أخرجه أحمد (3 / 435 - ط الميمنية) وذكره الهيثمي في المجمع (9 / 66 - ط القدسي) وقال: " رواه أحمد والطبراني بنحوه ورجالهما ثقات، وفي بعضهم خلاف ".(21/230)
الْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأَُ الْمِيزَانَ (1) .
وَتُسَنُّ الْحَمْدَلَةُ فِي ابْتِدَاءِ كُل عَمَلٍ ذِي بَالٍ، فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَخُطْبَةِ النِّكَاحِ، وَالْخُطْبَةِ عِنْدَ عَقْدِهِ، وَفِي التَّدْرِيسِ، وَالتَّصْنِيفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبَعْدَ الأَْكْل أَوِ الشُّرْبِ وَعِنْدَ الْعُطَاسِ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْخَلاَءِ، وَفِي افْتِتَاحِ الدُّعَاءِ وَاخْتِتَامِهِ وَعِنْدَ حُصُول النِّعَمِ أَوِ انْدِفَاعِ الْمَكْرُوهِ وَيُسَنُّ لِمَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ أَنْ يَقُول: (الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُل حَالٍ) . (2) وَاسْتِيفَاؤُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَحْمِيد) .
التَّكْبِيرُ:
10 - وَهُوَ لُغَةً التَّعْظِيمُ، وَشَرْعًا قَوْل: (اللَّهُ أَكْبَرُ) .
وَوَرَدَ الأَْمْرُ بِهِ مُطْلَقًا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (3) وَقَوْلِهِ: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} (4) وَقَوْلِهِ {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (5) ، وَفِي السُّنَّةِ
__________
(1) حديث: " الحمد لله تملأ الميزان ". أخرجه مسلم (1 / 203 - ط الحلبي) من حديث أبي مالك الأشعري.
(2) الفتوحات الربانية 3 / 285 - 295، ونزل الأبرار ص 158.
(3) سورة المدثر / 3.
(4) سورة الإسراء / 111.
(5) سورة البقرة / 185.(21/231)
قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُل تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ (1) .
وَوَرَدَ الأَْمْرُ بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا فِي الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ وَمِنْهَا تَكْبِيرَةُ الإِْحْرَامِ بِالصَّلاَةِ وَتَكْبِيرَاتُ الاِنْتِقَال فِيهَا، وَالتَّكْبِيرُ فِي الْعِيدَيْنِ فِي الْخُطْبَةِ وَالصَّلاَةِ، وَالتَّكْبِيرُ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُكَبَّرُ فِي صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ.
وَيُسَنُّ التَّكْبِيرُ عَقِبَ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَعِنْدَ تَمَامِ الصَّوْمِ حَتَّى يُصَلِّيَ الْعِيدَ، وَفِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَيُكَبِّرُ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ طَوَافِهِ، وَعِنْدَ ابْتِدَاءِ سَعْيِهِ، وَفِي أَثْنَاءِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. وَيُكَبِّرُ الذَّابِحُ وَالصَّائِدُ مَعَ التَّسْمِيَةِ، وَسُنَّ التَّكْبِيرُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلاَل وَيُسَنُّ لِلْمُسَافِرِ إِذَا عَلاَ شَرَفًا أَوْ رَكِبَ دَابَّةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَكْبِير) .
وَوَرَدَ فِي فَضْلِهِ أَحَادِيثُ مِنْهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحَبُّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ فَذَكَرَ مِنْهُنَّ التَّكْبِيرَ (3) .
__________
(1) حديث: " كل تكبرة صدقة " أخرجه مسلم (1 / 499 - ط الحلبي) من حديث أبي ذر.
(2) فتاوى ابن تيمية 10 / 196.
(3) حديث: " أحب الكلام إلى الله أربع ". أخرجه مسلم (3 / 1685 - ط الحلبي) من حديث سمرة بن جندب.(21/231)
الْحَوْقَلَةُ:
11 - هِيَ قَوْل: " لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ ". وَمَعْنَاهَا عَلَى مَا قَال ابْنُ حَجَرٍ: لاَ تَحْوِيل لِلْعَبْدِ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلاَّ بِعِصْمَةِ اللَّهِ، وَلاَ قُوَّةَ لَهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلاَّ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، وَفِي الْفُتُوحَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ أَنَّ تَفْسِيرَهَا بِذَلِكَ رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا (1) وَفِي لَفْظِهِ: بِعَوْنِ اللَّهِ. وَقَال النَّوَوِيُّ: هِيَ اسْتِسْلاَمٌ وَتَفْوِيضٌ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا، وَلَيْسَ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِ شَرٍّ وَلاَ قُوَّةٌ فِي جَلْبِ نَفْعٍ، إِلاَّ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ.
وَوَرَدَ فِي فَضْلِهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لأَِبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً هِيَ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ: لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ (2) .
وَوَرَدَ الأَْمْرُ بِقَوْلِهَا مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَرَدَ الأَْمْرُ بِقَوْلِهَا فِي إِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ عِنْدَ قَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، وَحَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ (3) .
__________
(1) حديث: " تفسير لا حول ولا قوة إلا بالله ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10 / 99 - ط القدسي) وقال: " رواه البزار بإسنادين أحدهما منقطع وفيه عبد الله بن خراش والغالب عليه الضعف، والآخر متصل حسن ".
(2) حديث: " يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمة. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 500 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2076 - ط الحلبي) .
(3) فتح الباري 11 / 500، 501 ك. القدر ب 7، وكشاف القناع 1 / 246، والفتوحات الربانية 1 / 241 - 243(21/232)
وَوَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الأَْمْرُ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} (1) . وَاسْتِيفَاءُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَوْقَلَة) .
الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ:
12 - هَذِهِ الأَْنْوَاعُ الْخَمْسَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنَ الأَْذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ وَرَدَ تَسْمِيَتُهَا " الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ " وَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ. قِيل: وَمَا هِيَ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيل وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَلاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ (2) وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا قُل سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَهُنَّ يَحْطُطْنَ الْخَطَايَا كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا، وَهُنَّ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ. وَفِي لَفْظٍ خُذْهُنَّ قَبْل أَنْ يُحَال بَيْنَكَ وَبَيْنَهُنَّ (3) .
وَوَرَدَ فِي فَضْل الأَْرْبَعِ الأُْوَل مِنْهُنَّ أَحَادِيثُ
__________
(1) سورة الكهف / 39.
(2) حديث: " استكثروا من الباقيات الصالحات ". أخرجه أحمد (3 / 75 - ط الميمنية) ، وفي إسناده راو ضعفه الذهبي في الميزان (2 / 24 - 25 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله ". أورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " (10 / 90 - ط القدسي) وقال: رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما عمر بن راشد اليمامي، وقد وثق على ضعفه، وبقية رجاله رجال الصحيح ".(21/232)
جَامِعَةٌ، مِنْهَا أَنَّهُنَّ " أَحَبُّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ " (1)
وَمِنْهَا حَدِيثُ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا " هُنَّ أَفْضَل الْكَلاَمِ بَعْدَ الْقُرْآنِ، وَهُنَّ مِنَ الْقُرْآنِ، لاَ يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ " (2) وَأَنَّهُنَّ " أَحَبُّ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ " (3) . " وَأَنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنَ الْكَلاَمِ أَرْبَعًا " (4) فَذَكَرَهُنَّ (5) .
وَوَرَدَ الأَْمْرُ بِقَوْلِهِنَّ بَعْدَ السَّلاَمِ مِنَ الصَّلاَةِ، وَيَأْتِي صِيغَةُ ذَلِكَ.
الاِسْتِرْجَاعُ:
13 - هُوَ قَوْل " إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ".
وَمَعْنَى " إِنَّا لِلَّهِ " إِقْرَارُ قَائِلِهَا أَنَّنَا نَحْنُ وَأَهْلُنَا وَأَمْوَالُنَا عَبِيدٌ لِلَّهِ يَصْنَعُ فِينَا مَا يَشَاءُ. وَمَعْنَى " وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ " إِقْرَارُ قَائِلِهَا عَلَى نَفْسِهِ بِالْهَلاَكِ ثُمَّ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ إِلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحُكْمِ كَمَا كَانَ أَوَّل مَرَّةٍ.
__________
(1) حديث: " أحب الكلام إلى الله. . . " أخرجه مسلم (3 / 1685 - ط الحلبي) .
(2) حديث سمرة: " هي أفضل الكلام بعد القرآن ". أخرجه أحمد (5 / 20 - ط الميمنية) ، وإسناده صحيح.
(3) حديث: " أنهن أحب إليه صلى الله عليه وسلم مما طلعت عليه الشمس ". أخرجه مسلم (4 / 2072 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(4) حديث: " إن الله اصطفى من الكلام أربعًا ". أخرجه أحمد (2 / 302 - ط الميمنية) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد معًا، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10 / 87 - ط القدسي) وقال: " رواه أحمد والبزار ورجالهما رجال الصحيح ".
(5) تحفة الذاكرين ص 243 - 248.(21/233)
وَوَرَدَ الأَْمْرُ بِقَوْلِهَا عِنْدَ الْمُصِيبَةِ مُطْلَقًا، صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً فَإِنَّهَا تُسَهِّل عَلَى الإِْنْسَانِ فَقْدَ مَا فَقَدَ، قَال تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (1) وَوَرَدَ فِي السُّنَّةِ الأَْمْرُ بِهَا لِمَنْ مَاتَ لَهُ مَيِّتٌ، أَوْ بَلَغَهُ وَفَاةُ صَدِيقِهِ (2) ، وَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَيَانُ بَعْضِ ذَلِكَ.
التَّسْمِيَةُ:
14 - وَهِيَ قَوْل (بِسْمِ اللَّهِ) أَوْ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) .
يُقَال: سَمَّيْتُ اللَّهَ تَعَالَى أَيْ قُلْتَ بِسْمِ اللَّهِ، وَيُقَال أَيْضًا: بَسْمَلْتُ، وَالْمَصْدَرُ الْبَسْمَلَةُ.
وَمَعْنَاهَا: أَبْتَدِئُ هَذَا الْفِعْل أَوْ هَذَا الْقَوْل مُسْتَعِينًا بِاللَّهِ عَلَى إِتْمَامِهِ، أَوْ مُتَبَرِّكًا بِذِكْرِ اسْمِهِ تَعَالَى. وَقَدِ افْتَتَحَ اللَّهُ بِهَا فَاتِحَةَ كِتَابِهِ وَجَمِيعَ سُوَرِهِ مَا عَدَا سُورَةَ (بَرَاءَةٌ) . وَوَرَدَ الأَْمْرُ بِقَوْلِهَا فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ وَعِنْدَ الْغُسْل وَدُخُول الْمَسْجِدِ أَوِ الْخُرُوجِ مِنْهُ وَعَلَى الذَّبْحِ وَإِرْسَال النَّصْل أَوِ الْجَارِحَةِ عَلَى الصَّيْدِ وَعَلَى الأَْكْل أَوِ الشُّرْبِ أَوِ الْجِمَاعِ، وَكَذَا عِنْدَ دُخُول الْخَلاَءِ (3) . وَيُنْظَرُ
__________
(1) سورة البقرة / 155، 156.
(2) الأذكار النووية والفتوحات الربانية 4 / 29، 120 - 124 و 3 / 296.
(3) تفسير ابن كثير 1 / 18 القاهرة، عيسى الحلبي، وتفسير الرازي 1 / 102، 103.(21/233)
تَفْصِيل الْقَوْل فِي كُل شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ وَ (ر: تَسْمِيَة) .
قَوْل مَا شَاءَ اللَّهُ:
15 - وَرَدَ ذِكْرُهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْلاَ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} (1) قَال الْقُرْطُبِيُّ: أَيْ هَذِهِ الْجَنَّةُ هِيَ مَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَال الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ: تَقْدِيرُهُ: الأَْمْرُ مَا شَاءَ اللَّهُ.
وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَأَى شَيْئًا فَأَعْجَبَهُ فَقَال: مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ لَمْ يَضُرَّهُ الْعَيْنُ (2) وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِذَا خَرَجَ الرَّجُل مِنْ مَنْزِلِهِ فَقَال: بِسْمِ اللَّهِ قَال الْمَلَكُ: هُدِيتَ، وَإِذَا قَال: مَا شَاءَ اللَّهُ قَال: كُفِيتَ، وَإِذَا قَال: لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ قَال الْمَلِكُ: وُقِيتَ.
قَال أَشْهَبُ: قَال مَالِكٌ: يَنْبَغِي لِكُل مَنْ دَخَل مَنْزِلَهُ أَنْ يَقُول هَذَا. يَعْنِي مَا وَرَدَ فِي الآْيَةِ (3) .
__________
(1) سورة الكهف / 39.
(2) حديث: " من رأى شيئًا فأعجبه فقال: ما شاء الله " أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 106 - ط دار البيان) ، وفي إسناده أبو بكر الهذلي، وهو ضعيف كما في " ميزان الاعتدال " للذهبي (4 / 497 - ط الحلبي) .
(3) تفسير القرطبي 10 / 406، 407.(21/234)
الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
16 - وَهِيَ قَوْل " صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ " أَوْ نَحْوِهَا مِمَّا يُفِيدُ سُؤَال اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رَسُولِهِ وَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ (2) . وَمِنَ الصِّيَغِ الْوَارِدَةِ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الأَْنْصَارِيِّ أَنَّ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ قَال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ يَا رَسُول اللَّهِ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَال: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آل إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (3) .
وَالصَّلاَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ، وَقِيل: رَحْمَتُهُ لَهُ، وَصَلاَةُ الْمَلاَئِكَةِ وَالْعِبَادِ عَلَيْهِ دُعَاءٌ بِالرَّحْمَةِ مَقْرُونٌ بِالتَّعْظِيمِ (4) .
__________
(1) سورة الأحزاب / 56.
(2) حديث: " لا تجعلوا قبري عبدًا. . . " أخرجه أبو داود (2 / 534 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة، وصححه النووي في الأذكار (ص 206 - ط دار ابن كثير) .
(3) حديث أبي مسعود الأنصاري في سؤال بشير بن سعد، أخرجه مسلم (1 / 305 - ط الحلبي) .
(4) الفتوحات الربانية 2 / 340، وتحفة الذاكرين ص 24.(21/234)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) .
التَّلْبِيَةُ:
17 - وَهِيَ قَوْل " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ " وَهِيَ مِنْ أَذْكَارِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَمَعْنَاهَا: أُقِيمُ عَلَى إِجَابَتِكَ يَا رَبِّ إِقَامَةً بَعْدَ إِقَامَةٍ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل أَحْكَامِهَا فِي مَبَاحِثِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
الْحَسْبَلَةُ:
18 - وَهِيَ قَوْل " حَسْبِيَ اللَّهُ " وَمَعْنَاهُ الاِكْتِفَاءُ بِدِفَاعِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ عَنْ دِفَاعِ غَيْرِهِ وَعَوْنِهِ.
وَيُسَنُّ قَوْلُهَا لِمَنْ غَلَبَهُ أَمْرٌ (1) ، لِمَا فِي حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَال الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ: حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل. فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُل حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل (2) .
أَذْكَارٌ مَأْثُورَةٌ أُخْرَى:
19 - وَهُنَاكَ أَذْكَارٌ أُخْرَى مَأْثُورَةٌ مُرْتَبِطَةٌ بِأَسْبَابٍ أَوْ مُطْلَقَةٌ يَأْتِي بَيَانُ بَعْضِهَا فِي الْبَحْثِ.
__________
(1) أذكار النووي، والفتوحات الربانية 4 / 25.
(2) حديث: " إن الله يلوم على العجز ". أخرجه أبو داود (4 / 44 - 45 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وفي إسناده من فيه جهالة.(21/235)
وَقَدْ جَمَعَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَابْنِ السُّنِّيِّ فِي " عَمَل الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ " وَالنَّوَوِيِّ فِي " الأَْذْكَارِ " وَابْنِ الْقَيِّمِ فِي " الْوَابِل الصَّيِّبِ مِنَ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ " وَصِدِّيق حَسَن خَان فِي " نُزُل الأَْبْرَارِ ". وَيَعْرِضُ لَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ مَبَاحِثِ الْفِقْهِ.
أَفْضَل الأَْذْكَارِ:
20 - قَال النَّوَوِيُّ: الْقُرْآنُ أَفْضَل الذِّكْرِ. قَال الْقُرْطُبِيُّ: لأَِنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى جَمِيعِ الذِّكْرِ مِنْ تَذْكِيرٍ وَتَهْلِيلٍ وَتَحْمِيدٍ وَتَسْبِيحٍ وَتَمْجِيدٍ وَعَلَى الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالدُّعَاءِ وَالسُّؤَال وَالأَْمْرِ بِالتَّفَكُّرِ وَالاِعْتِبَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَمَنْ وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ وَتَدَبَّرَهُ فَقَدْ حَصَّل أَفْضَل الْعِبَادَاتِ، وَهُوَ قَبْل ذَلِكَ كَلاَمُ اللَّهِ فَلاَ يُدَانِيهِ شَيْءٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ فِي أَفْضَلِيَّتِهِ قَيْدًا فَقَال: أَفْضَل الذِّكْرِ الْقُرْآنُ لِمَنْ عَمِل بِهِ، وَنُقِل ذَلِكَ عَنْ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَل مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ وَفَضْل كَلاَمِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلاَمِ كَفَضْل اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ (1) .
وَاسْتَدَل ابْنُ تَيْمِيَّةَ لِكَوْنِ الْقُرْآنِ أَفْضَل مِنْ سَائِرِ الذِّكْرِ بِتَعَيُّنِهِ فِي الصَّلاَةِ، وَبِأَنَّهُ لاَ يَقْرَبُهُ
__________
(1) حديث: " من شغله القرآن عن مسألتي ". تقدم تخريجه في (ف / 1) .(21/235)
جُنُبٌ، وَلاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الطَّاهِرُ، بِخِلاَفِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ (1) .
وَلاَ تَخْتَلِفُ الأَْحَادِيثُ فِي أَنَّ أَفْضَل الأَْذْكَارِ بَعْدَ الْقُرْآنِ الْكَلِمَاتُ الأَْرْبَعُ " سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ " (2) . وَرَدَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، وَفِي حَدِيثٍ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لأََنْ أَقُولَهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ (3) . وَوَرَدَ أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنَ الْكَلاَمِ أَرْبَعًا (4) . فَذَكَرَهُنَّ.
وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ بِهِنَّ أَفْضَل مِنْهُ بِغَيْرِهِنَّ مِمَّا فِي الْقُرْآنِ، وَهُنَّ كَذَلِكَ أَفْضَل مِنْ سَائِرِ الأَْذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ، فَعَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: هُنَّ أَفْضَل الْكَلاَمِ بَعْدَ الْقُرْآنِ، وَهُنَّ مِنَ الْقُرْآنِ، لاَ يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ (5) .
أَمَّا الأَْفْضَل مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الأَْرْبَعِ فَهُوَ كَلِمَةُ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ وَالطِّيبِيُّ، وَاسْتَظْهَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ: {
__________
(1) مختصر الفتاوى المصرية ص 97.
(2) حديث: " سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله. . . " تقدم تخريجه في (ف / 12) .
(3) حديث: " لأن أقولهن أحب إليّ مما طلعت. . . " تقدم تخريجه في (ف / 12) .
(4) حديث: " إن الله اصطفى من الكلام أربعًا. . . . " تقدم تخريجه في (ف / 12) .
(5) حديث: " هن أفضل الكلام بعد القرآن، وهن. . . . " تقدم تخريجه في (ف / 12) .(21/236)
أَفْضَل الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَأَفْضَل مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ (1) .
وَالْحَدِيثُ الآْخَرُ الْقُدْسِيُّ لَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضَ وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي فِي كِفَّةٍ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فِي كِفَّةٍ مَالَتْ بِهِنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (2) وَالْحَدِيثُ الآْخَرُ أَفْضَل الذِّكْرِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (3) وَفِي حَدِيثٍ هِيَ أَفْضَل الْحَسَنَاتِ (4) وَلأَِنَّهَا مِفْتَاحُ الإِْسْلاَمِ وَبَابُهُ الَّذِي لاَ يَدْخُل إِلَيْهِ إِلاَّ مِنْهُ، وَعَمُودُهُ الَّذِي لاَ يَقُومُ بِغَيْرِهِ، وَهِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ (5) ".
قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَيُعَارِضُ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ
__________
(1) حديث: " أفضل الدعاء يوم عرفة. . . " أخرجه مالك في الموطأ (1 / 215 - ط الحلبي) من حديث طلحة بن عبيد الله مرسلاً، ووصله الترمذي (5 / 572 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بإسناد يشهد لإسناد الموطأ.
(2) حديث: " لو أن السماوات والأرض. . . . " أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (10 / 82 - ط القدسي) وقال: " رواه أبو يعلى، ورجاله وثقوا على ضعف فيهم ".
(3) حديث: " أفضل الذكر لا إله إلا الله. . . " تقدم تخريجه في (ف / 7) .
(4) حديث: " هي أفضل الحسنات ". أخرجه أحمد (5 / 169 - ط الميمنية) من حديث أبي ذر، وفي إسناده جهالة.
(5) التذكار في أفضل الأذكار للقرطبي ص40، وفتح الباري 11 / 207، وتحفة الذاكرين ص 232، والفتوحات الربانية 1 / 181.(21/236)
حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الْمَرْفُوعُ: أَنَّ أَحَبَّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ (1) وَجُمِعَ بَيْنَ ذَلِكَ بِأَوْجُهٍ مِنْهَا: أَنَّ أَفْضَلِيَّةَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ لِدُخُول مَعَانِي الْكَلِمَاتِ الأَْرْبَعِ تَحْتَهَا إِمَّا بِالتَّصْرِيحِ أَوْ بِالاِسْتِلْزَامِ فَقَدْ صَرَّحَتْ بِالتَّنْزِيهِ وَالتَّحْمِيدِ، وَإِذَا كَانَ مَعْنَاهَا تَنْزِيهَهُ تَعَالَى عَمَّا لاَ يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ انْدَرَجَ فِيهِ مَعْنَى لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَإِذَا كَانَ كُل فَضْلٍ وَإِفْضَالٍ مِنْهُ تَعَالَى فَلاَ شَيْءَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَأَمَّا أَفْضَلِيَّةُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَلِذِكْرِ الْوَحْدَانِيَّةِ صَرِيحًا (2) .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الذِّكْرَ أَفْضَل مِنَ الدُّعَاءِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ (3) ؛ لِحَدِيثِ مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَل مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ (4) .
أَفْضَل الأَْذْكَارِ مِنْ حَيْثُ الاِشْتِغَال بِهَا:
21 - مَا تَقَدَّمَ هُوَ الأَْفْضَلِيَّةُ فِي الذِّكْرِ الْمُطْلَقِ: أَفْضَلُهُ الاِشْتِغَال بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَهِيَ أَفْضَل مِنَ الاِشْتِغَال بِالتَّهْلِيل وَالتَّسْبِيحِ الْمُطْلَقِ. ثُمَّ الْكَلِمَاتُ الأَْرْبَعُ، ثُمَّ سَائِرُ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ، قَال
__________
(1) حديث: " أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده ". أخرجه مسلم (4 / 2094 - ط الحلبي) .
(2) الفتوحات الربانية 1 / 181، وفتح الباري 11 / 207.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية 10 / 427.
(4) حديث: " من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته. . . " تقدم تخريجه في (ف 1) .(21/237)
النَّوَوِيُّ: أَمَّا الْمَأْثُورُ فِي وَقْتٍ أَوْ نَحْوِهِ - أَيْ لِسَبَبٍ - فَالاِشْتِغَال بِهِ - أَيْ فِي الْوَقْتِ أَوْ عِنْدَ السَّبَبِ - أَفْضَل. اهـ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الاِشْتِغَال بِالذِّكْرِ الْمُؤَقَّتِ فِي وَقْتِهِ، وَالْمُقَيَّدِ بِسَبَبٍ عِنْدَ سَبَبِهِ أَفْضَل مِنَ الاِشْتِغَال بِسَائِرِ الْمَأْثُورَاتِ، حَتَّى مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَنَحْوِهِمَا وَحَتَّى مِنَ الاِشْتِغَال بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. قَال ابْنُ عَلاَّنَ: مَا وَرَدَ مِنَ الذِّكْرِ مُخْتَصًّا بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ حَالٍ كَأَذْكَارِ الطَّوَافِ وَلَيْلَةِ الْجُمُعَةِ وَحَال النَّوْمِ فَالاِشْتِغَال بِهِ أَفْضَل مِنَ الاِشْتِغَال بِالتِّلاَوَةِ (1) . قَال عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: سَأَلْتُ الأَْوْزَاعِيَّ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَعْجَبُ إِلَيْكَ أَمِ الذِّكْرُ؟ فَقَال: سَل أَبَا مُحَمَّدٍ، يَعْنِي سَعِيدًا، أَيِ ابْنَ الْمُسَيِّبِ، فَسَأَلْتُهُ فَقَال: بَل الْقُرْآنُ. فَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يَعْدِل الْقُرْآنَ، وَلَكِنْ إِنَّمَا كَانَ هَدْيُ مَنْ سَلَفَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْل الْغُرُوبِ (2) .
قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَهَكَذَا مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنَ الأَْذْكَارِ فِي الأَْوْقَاتِ وَعَقِيبَ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي الاِشْتِغَال بِمَا وَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ إِرْشَادَهُ إِلَيْهِ يَدُل عَلَى أَنَّهُ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهِ (3) . وَصَرَّحَ بِمِثْل ذَلِكَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ فِي قَوَاعِدِهِ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي فَتَاوِيهِ (4) . وَفِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى
__________
(1) الأذكار النووية والفتوحات الربانية 3 / 227، 4 / 388.
(2) التذكار في أفضل الأذكار ص 43.
(3) عدة الحصن الحصين ص 33.
(4) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 / 171، ومجموع فتاوى ابن تيمية 10 / 427.(21/237)
الْقُرْآنُ أَفْضَل مِنْ سَائِرِ الذِّكْرِ لَكِنِ الاِشْتِغَال بِالْمَأْثُورِ مِنَ الذِّكْرِ فِي مَحَلِّهِ كَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ أَفْضَل مِنْ تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ الْمَحَل (1) .
وَعَلَى هَذَا فَالأَْفْضَل عِنْدَ الأَْذَانِ الاِشْتِغَال بِإِجَابَتِهِ وَبَعْدَ الصَّلاَةِ بِالأَْذْكَارِ الْوَارِدَةِ وَعِنْدَ الإِْفْطَارِ فِي رَمَضَانَ الاِشْتِغَال بِمَا وَرَدَ مِنَ الذِّكْرِ، وَهَكَذَا.
الذِّكْرُ بِغَيْرِ الْمَأْثُورِ:
أ - فِي الأَْذْكَارِ الْمُطْلَقَةِ:
22 - يَجُوزُ فِي الأَْذْكَارِ الْمُطْلَقَةِ الإِْتْيَانُ بِمَا هُوَ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ مِمَّا يَتَضَمَّنُ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ يَسْتَلْزِمُ نَقْصًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الصِّيغَةُ مَأْثُورَةً عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا فِي الذِّكْرِ الْمُطْلَقِ مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ.
وَلاَ يَدْخُل فِي الْمَأْثُورِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا نُقِل عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَلاَّنَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، قَال: لأَِنَّ مَا وَرَدَ عَنِ الصَّحَابِيِّ مِمَّا لِلرَّأْيِ فِيهِ مَدْخَلٌ لاَ يَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ (2) . فَيَكُونُ مَا وَرَدَ مِنْ أَذْكَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَضْمُومًا إِلَى مَا نُقِل مِنَ الأَْذْكَارِ
__________
(1) مطالب أولي النهى 1 / 603.
(2) الفتوحات الربانية 4 / 388 و 1 / 119.(21/238)
عَنْ غَيْرِهِمْ فِي كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَأْثُورِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا نُقِل عَنْهُمُ الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ مِمَّا يَحْسُنُ تَعَلُّمُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الاِشْتِغَال بِالذِّكْرِ الْمَأْثُورِ أَفْضَل مِنَ الاِشْتِغَال بِذِكْرٍ يَخْتَرِعُهُ الإِْنْسَانُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ. وَوَجْهُ الأَْفْضَلِيَّةِ وَاضِحٌ وَهُوَ مَا فِيهِ مِنَ الاِقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَوْنُهُ أَعْلَمَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَكَوْنُهُ أَفْصَحَ الْعَرَبِ وَأَعْلَمَهُمْ بِمَوَاقِعِ الْكَلاَمِ، وَكَوْنُهُ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَأُمِدَّ بِالتَّسْدِيدِ الرَّبَّانِيِّ، وَكَمَال النُّصْحِ لأُِمَّتِهِ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: الْخَيْرُ وَالْفَضْل إِنَّمَا هُوَ فِي اتِّبَاعِ الْمَأْثُورِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفِيهِمَا مَا يَكْفِي فِي سَائِرِ الأَْوْقَاتِ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُنَا. وَقَال فِي مَوْضِعٍ: أَوْرَادُ الْمَشَايِخِ وَأَحْزَابُهُمْ لاَ بَأْسَ بِالاِشْتِغَال بِهَا.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْهِنْدِيَّةِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ فِي صَلاَتِهِ بِدُعَاءٍ مَحْفُوظٍ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَدْعُوَ بِمَا يَحْضُرُهُ (2) .
ب - الذِّكْرُ بِغَيْرِ الْمَأْثُورِ فِي مُنَاسِبَاتٍ مُعَيَّنَةٍ:
23 - مَا تَقَدَّمَ هُوَ فِي الذِّكْرِ الْمُطْلَقِ، أَمَّا فِي الأَْسْبَابِ وَالْمُنَاسَبَاتِ الْمُعَيَّنَةِ:
أ - فَإِنْ كَانَ فِي مِثْل تِلْكَ الْمُنَاسَبَةِ ذِكْرٌ مَأْثُورٌ فَإِنَّ
__________
(1) الفتوحات الربانية 1 / 17.
(2) رد المحتار 2 / 352.(21/238)
التَّكْلِيفَ يَتَأَدَّى بِهِ. فَلَوْ أَتَى بَدَلَهُ بِذِكْرٍ غَيْرِ مَأْثُورٍ فَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ:
فَمَا كَانَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْعِبَادَةِ أَوْ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِهَا لَمْ يُمْكِنْ إِبْدَالُهُ، وَذَلِكَ كَأَذْكَارِ الأَْذَانِ، وَأَذْكَارِ الصَّلاَةِ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا كَالْفَاتِحَةِ، وَتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، وَالتَّشَهُّدِ.
وَمَا كَانَ الإِْتْيَانُ بِهِ مِنَ الأَْذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ مُسْتَحَبًّا أَوْ جَائِزًا فَفِي إِبْدَالِهِ بِغَيْرِهِ تَفْصِيلٌ:
فَالأَْصْل أَنَّ الإِْتْيَانَ بِالذِّكْرِ الْمَأْثُورِ أَفْضَل، وَإِنْ دَعَا وَذَكَرَ بِغَيْرِهِ مِمَّا يَلِيقُ فَلاَ بَأْسَ.
فَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الطَّوَافُ، قَال النَّوَوِيُّ: قَال أَصْحَابُنَا: الْقِرَاءَةُ فِي الطَّوَافِ أَفْضَل مِنَ الدَّعَوَاتِ غَيْرِ الْمَأْثُورَةِ وَأَمَّا الْمَأْثُورَةُ فَهِيَ أَفْضَل مِنِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الصَّحِيحِ (1) .
ب - أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُنَاسَبَةِ الْمُعَيَّنَةِ ذِكْرٌ وَارِدٌ، فَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُنْكَرُ اسْتِعْمَال ذِكْرٍ مِمَّا يُحِبُّ الإِْنْسَانُ مِمَّا يَلِيقُ بِالْمُنَاسَبَةِ، أَخْذًا مِنْ إِطْلاَقِ الأَْمْرِ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فِي النُّصُوصِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالنَّبَوِيَّةِ. دُونَ أَنْ يُدَّعَى لِذَلِكَ الذِّكْرِ أَوِ الدُّعَاءِ فَضْلٌ أَوْ خُصُوصِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ.
وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ التَّهْنِئَةُ بِالْعِيدِ وَبِدُخُول الأَْعْوَامِ وَالأَْشْهُرِ، قَال صَاحِبُ الدُّرِّ: التَّهْنِئَةُ بِالْعِيدِ بِلَفْظِ تَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ لاَ تُنْكَرُ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّمَا قَال ذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ فِيهِ شَيْءٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. قَال: وَفِي
__________
(1) أذكار النووي والفتوحات الربانية 4 / 388.(21/239)
الْقُنْيَةِ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَل فِيهَا عَنْ أَصْحَابِنَا كَرَاهَةٌ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: يُمْكِنُ أَنْ يَلْحَقَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ: عِيدٌ مُبَارَكٌ وَنَحْوُهُ.
ثُمَّ قَال: عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ الدُّعَاءُ بِالْبَرَكَةِ فِي أُمُورٍ شَتَّى فَيُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ بِهَذَا أَيْضًا. وَعَنِ الْحَافِظِ الْمَقْدِسِيِّ: أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا مُخْتَلِفِينَ فِيهِ وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ لاَ سُنَّةَ فِيهِ وَلاَ بِدْعَةَ (1) . اهـ.
وَفِي الْمُغْنِي: عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: لاَ أَبْتَدِئُ بِهِ أَحَدًا وَإِنْ قَالَهُ أَحَدٌ رَدَدْتُ عَلَيْهِ (2) .
وَعَنْ مَالِكٍ فِي مِثْل " تَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ، وَغَفَرَ لَنَا وَلَكَ " يَوْمَ الْعِيدِ: قَال: لاَ أَعْرِفُهُ وَلاَ أُنْكِرُهُ. قَال ابْنُ حَبِيبٍ: أَيْ: لاَ يَعْرِفُهُ سُنَّةً وَلاَ يُنْكِرُهُ عَلَى مَنْ يَقُولُهُ لأَِنَّهُ قَوْلٌ حَسَنٌ؛ لأَِنَّهُ دُعَاءٌ. قَال صَاحِبُ الْفَوَاكِهِ: وَمِثْلُهُ قَوْل النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ " عِيدٌ مُبَارَكٌ، وَأَحْيَاكُمُ اللَّهُ لأَِمْثَالِهِ " لاَ شَكَّ فِي جَوَازِ كُل ذَلِكَ (3) .
وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: هُوَ بِدْعَةٌ (4) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا سُنَّةٌ (5) . وَانْظُرْ بَحْثَ (تَهْنِئَةٌ) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ (14 99) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 557، ونهاية المحتاج 2 / 391.
(2) المغني 2 / 399.
(3) الفواكه الدواني 1 / 322.
(4) ابن عابدين 1 / 557.
(5) القليوبي وعميرة 1 / 310، الفتوحات الربانية 1 / 119، 5 / 109، 377، الاعتصام 2 / 10 و 1 / 284.(21/239)
الزِّيَادَةُ فِي الذِّكْرِ عَلَى مَا وَرَدَ:
24 - الزِّيَادَةُ فِي الذِّكْرِ الْمُرَتَّبِ شَرْعًا عَلَى سَبَبٍ، الأَْصْل فِيهِ الْجَوَازُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيَتَقَيَّدُ بِقُيُودٍ تُفْهَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ، فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ صَحِيحَ الْمَعْنَى لاَ يَسْتَلْزِمُ نَقْصًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَأَلاَّ يَكُونَ مِمَّا عُلِمَ أَنَّ الشَّارِعَ أَرَادَ الْمُحَافَظَةَ فِيهِ عَلَى اللَّفْظِ الْوَارِدِ، فَلاَ يُزَادُ عَلَى أَلْفَاظِ الأَْذَانِ وَأَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ وَنَحْوِهِمَا، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَا وَرَدَ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا يَلِيقُ.
وَقَدْ نَقَل ابْنُ عَلاَّنَ أَنَّ زِيَادَاتِ الْعُلَمَاءِ فِي الْقُنُوتِ وَنَحْوِهِ مِنَ الأَْذْكَارِ يَكُونُ الإِْتْيَانُ بِهَا أَوْلَى، وَفَارَقَ التَّشَهُّدَ وَغَيْرَهُ بِأَنَّ الْعُلَمَاءَ فَهِمُوا أَنَّ الْمَدَارَ فِيهِ عَلَى لَفْظِهِ فَلِذَا لَمْ يَزِيدُوا فِيهِ، وَرَأَوْا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ خِلاَفُ الأَْوْلَى بِخِلاَفِ الْقُنُوتِ فَإِنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ لِلدُّعَاءِ تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي الاِسْتِجَابَةِ فَتَوَسَّعُوا فِي الدُّعَاءِ فِيهِ (1) .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُلَبِّي فِي الْحَجِّ بِتَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ، لاَ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا " لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ لَبَّيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَل
__________
(1) الفتوحات الربانية 5 / 109، مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية 92.(21/240)
وَفِي رِوَايَةٍ: قَال ابْنُ عُمَرَ: كَانَ عُمَرُ يُهِل بِهَذَا (أَيْ بِتَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَيَزِيدُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ (1) إِلَخْ.
قَال ابْنُ حَجَرٍ: قَال الطَّحَاوِيُّ: قَال قَوْمٌ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّلْبِيَةِ مَا أَحَبَّ مِنَ الذِّكْرِ لِلَّهِ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ. وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الْمَرْوِيِّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ. وَقَال آخَرُونَ: لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَى مَا عَلَّمَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ، كَمَا عَلَّمَهُمُ التَّكْبِيرَ فِي الصَّلاَةِ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُتَعَدَّى فِي ذَلِكَ شَيْئًا مِمَّا عَلَّمَهُ. اهـ. ثُمَّ قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَقَوْل مَنْ قَال: إِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى التَّلْبِيَةِ هُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ وَبِهِ صَرَّحَ أَشْهَبُ. وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَالِكٍ الْكَرَاهَةَ. قَال: وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَقَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: وَحَكَى أَهْل الْعِرَاقِ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ كَرِهَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَرْفُوعِ، وَغَلِطُوا، بَل لاَ يُكْرَهُ وَلاَ يُسْتَحَبُّ. وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ إِنْ زَادَ فِي التَّلْبِيَةِ شَيْئًا مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ فَلاَ بَأْسَ وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنْ زَادَ فِي التَّلْبِيَةِ عَمَّا وَرَدَ فَحَسَنٌ. وَحُكِيَ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا قَوْلُهُ: " لاَ ضِيقَ عَلَى أَحَدٍ فِي قَوْل مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ، غَيْرَ أَنَّ الاِخْتِيَارَ عِنْدِي أَنْ يُفْرِدَ مَا رُوِيَ
__________
(1) حديث ابن عمر في التلبية والزيادة فيها أخرجه مسلم (2 / 841، 842 - ط الحلبي) .(21/240)
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ ". قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَهَذَا أَعْدَل الْوُجُوهِ، فَيُفْرَدُ مَا جَاءَ مَرْفُوعًا، وَإِذَا اخْتَارَ قَوْل مَا جَاءَ مَوْقُوفًا، أَوْ أَنْشَأَهُ هُوَ مِنْ قِبَل نَفْسِهِ مِمَّا يَلِيقُ، قَالَهُ عَلَى انْفِرَادِهِ حَتَّى لاَ يَخْتَلِطَ بِالْمَرْفُوعِ. قَال: وَهُوَ شَبِيهٌ بِحَال الدُّعَاءِ فِي التَّشَهُّدِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِيهِ: ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ بَعْدُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ (1) . أَيْ بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ مِنَ الْمَرْفُوعِ (2) .
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ رِفَاعَةَ الزُّرَقِيِّ قَال: كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَال: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَال رَجُلٌ وَرَاءَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَال: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ قَال: أَنَا. قَال: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّل (3) ، ثُمَّ قَال ابْنُ حَجَرٍ: اسْتَدَل بِهَذَا عَلَى إِحْدَاثِ ذِكْرٍ فِي الصَّلاَةِ غَيْرِ مَأْثُورٍ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِلْمَأْثُورِ (4) .
قَال عَلِيٌّ الْقَارِيُّ: وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلاً عَطَسَ إِلَى جَنْبِهِ فَقَال:
__________
(1) حديث: " ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء ". أخرجه مسلم (1 / 302 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود.
(2) فتح الباري 3 / 410، 411.
(3) حديث: رفاعة الزرقي: أخرجه البخاري (2 / 284 - ط السلفية) .
(4) فتح الباري 2 / 284، 287.(21/241)
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُول اللَّهِ. فَقَال ابْنُ عُمَرَ. وَأَنَا أَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُول اللَّهِ وَلَيْسَ هَكَذَا عَلَّمَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
ثُمَّ بَيَّنَ الْقَارِيُّ وَجْهَ إِنْكَارِ ابْنِ عُمَرَ لِتِلْكَ الزِّيَادَةِ قَائِلاً: الزِّيَادَةُ الْمَطْلُوبَةُ هِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَمْدِ لَهُ سَوَاءٌ وَرَدَ أَمْ لاَ، وَأَمَّا زِيَادَةُ ذِكْرٍ آخَرَ بِطَرِيقِ الضَّمِّ إِلَيْهِ فَغَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ؛ لأَِنَّ مَنْ سَمِعَ رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَأْثُورِ بِهِ (2) .
التَّبْدِيل فِي أَلْفَاظِ الأَْذْكَارِ الْوَارِدَةِ:
25 - تَبْدِيل لَفْظٍ مِنَ الأَْذْكَارِ الْوَارِدَةِ بِلَفْظٍ آخَرَ اخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا، فَقِيل: هُوَ جَائِزٌ لأَِنَّهُ شَبِيهٌ بِالرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى جَائِزَةٌ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ الْبَدِيل مُسَاوِيًا فِي الْمَعْنَى لِلَّفْظِ الْوَارِدِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْمَازِرِيُّ فَقَال تَعْلِيقًا عَلَى حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ: إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأَ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَْيْمَنِ. ثُمَّ قُل: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ
__________
(1) حديث: ابن عمر في العطاس. أخرجه الترمذي (5 / 81 - ط الحلبي) وضعفه بقوله: " هذا حديث غريب ".
(2) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لعلي القاري 9 / 100، الملقان (باكستان) ، المكتبة الإمدادية د. ت، والفتوحات الربانية 6 / 14.(21/241)
نَفْسِي إِلَيْكَ. . إِلَى قَوْلِهِ: آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. . . قَال فَرَدَدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: وَرَسُولِكَ قَال: لاَ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ (1) .
قَال الْمَازِرِيُّ عَقِبَهُ: سَبَبُ هَذَا الإِْنْكَارِ أَنَّ هَذَا ذِكْرٌ وَدُعَاءٌ، فَيَنْبَغِي فِيهِ الاِقْتِصَارُ عَلَى الذِّكْرِ الْوَارِدِ بِحُرُوفِهِ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ الْجَزَاءُ بِتِلْكَ الْحُرُوفِ، وَلَعَلَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ، فَتَعَيَّنَ أَدَاؤُهَا بِحُرُوفِهَا (2) . وَإِلَى مِثْل ذَلِكَ مَال ابْنُ حَجَرٍ (3) . وَهَذَا كَمَا هُوَ وَاضِحٌ فِي الأَْذْكَارِ الْمُقَيَّدَةِ الَّتِي رَتَّبَ الشَّارِعُ عَلَيْهَا فَضْلاً خَاصًّا، لاَ فِي الذِّكْرِ الْمُطْلَقِ.
الذِّكْرُ بِالاِسْمِ الْمُفْرَدِ، وَبِالضَّمِيرِ الْمُفْرَدِ:
26 - ذَكَرَ الرَّشِيدِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى النِّهَايَةِ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ فِي الذِّكْرِ بِالاِسْمِ الْمُفْرَدِ (اللَّهُ، اللَّهُ، اللَّهُ) خِلاَفًا فِي أَنَّهُ ذِكْرٌ أَمْ لاَ.
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الاِسْمُ الْمُفْرَدُ مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا لَيْسَ بِكَلاَمٍ تَامٍّ وَلاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ إِيمَانٌ وَلاَ كُفْرٌ، وَلاَ أَمْرٌ، وَلاَ نَهْيٌ، وَلاَ يُعْطِي الْقَلْبَ
__________
(1) حديث البراء بن عازب: " إذا أتيت مضجعك ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 357 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2081 - 2082 - ط الحلبي) .
(2) الفتوحات الربانية 3 / 144، وشرح صحيح مسلم للأبي 7 / 135.
(3) فتح الباري 11 / 112.(21/242)
مَعْرِفَةً مُفِيدَةً، وَإِنَّمَا يُعْطِيهِ تَصَوُّرًا مُطْلَقًا. وَالذِّكْرُ بِالاِسْمِ الْمُضْمَرِ أَبْعَدُ عَنِ السُّنَّةِ (1) .
آدَابُ الذَّاكِرِينَ:
لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ آدَابٌ يَسْتَدْعِيهَا كَمَال الْمَذْكُورِ وَجَلاَلُهُ، وَإِذَا رُوعِيَتْ كَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُول وَالإِْجَابَةِ، فَمِنْ تِلْكَ الآْدَابِ:
أ - طَلَبُ الْعَوْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الذِّكْرِ:
27 - وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا عَلَى أَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ (2) .
ب - أَنْ يَكُونَ الذَّاكِرُ مُتَطَهِّرًا مِنَ الْحَدَثِ:
28 - وَاسْتَدَل لِذَلِكَ بِحَدِيثِ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ قَال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبُول، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ حَتَّى تَوَضَّأَ، ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيَّ وَقَال: إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إِلاَّ عَلَى طُهْرٍ، أَوْ قَال: عَلَى طَهَارَةٍ (3) .
وَقَال ابْنُ عَلاَّنَ: يُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ
__________
(1) نهاية المحتاج وحاشية الرشيدي 1 / 117، مختصر الفتاوى المصرية ص96، ومجموع فتاوى ابن تيمية 10 / 226، 227، 556 - 565.
(2) حديث: " اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك ". أخرجه أحمد (5 / 247 - ط الميمنية) ، والحاكم (3 / 273 - 274 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث معاذ بن جبل، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) الحديث تقدم تخريجه ف 1.(21/242)
الأَْفْضَل أَلاَّ تُوجَدَ الأَْذْكَارُ إِلاَّ فِي أَكْمَل الأَْحْوَال، كَالطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثَيْنِ، وَطَهَارَةِ الْفَمِ مِنَ الْخَبَثِ (1) .
وَلَمْ يَقُولُوا بِاشْتِرَاطِ ذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُل أَحْيَانِهِ (2) ". وَ " كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْغَائِطِ قَال: غُفْرَانَكَ (3) "، وَ " كَانَ يَقُول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الأَْذَى وَعَافَانِي " (4)
. فَهَذَا ذِكْرٌ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ لِلْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ (5) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا فِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا أَنَّ الذَّاكِرَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَضِّئًا. وَمِنْ ذَلِكَ الأَْذَانُ وَالإِْقَامَةُ، فَإِنْ أَذَّنَ بِلاَ وُضُوءٍ جَازَ بِلاَ كَرَاهَةٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الذِّكْرِ، وَإِنْ أَقَامَ بِلاَ وُضُوءٍ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ
__________
(1) الفتوحات الربانية 1 / 396.
(2) حديث: " كان يذكر الله على كل أحيانه ". أخرجه مسلم (1 / 282 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(3) حديث: " كان إذا خرج من الغائط قال: غفرانك ". أخرجه الترمذي (1 / 12 - ط الحلبي) من حديث عائشة، وقال: " حديث حسن غريب ".
(4) حديث: " الحمد لله الذي أذهب عني الأذى ". أخرجه ابن ماجه (1 / 110 - ط الحلبي) من حديث أنس، وقال البوصيري: " هذا حديث ضعيف، ولا يصح فيه بهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، كذا في " مصباح الزجاجة " (ص 92 - ط دار الجنان) .
(5) الفتوحات الربانية 1 / 127.(21/243)
الْفَصْل بَيْنَ الإِْقَامَةِ وَالصَّلاَةِ بِالاِشْتِغَال بِأَعْمَال الْوُضُوءِ، وَالإِْقَامَةُ شُرِعَتْ مُتَّصِلَةً (1) .
وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ اسْتِحْبَابَ التَّطَهُّرِ لِلذِّكْرِ إِنَّمَا هُوَ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ كَخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَالأَْذَانِ (2) ، وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: الْوُضُوءُ لِمُطْلَقِ الذِّكْرِ مَنْدُوبٌ وَلَوْ لِلْجُنُبِ، وَتَرْكُهُ خِلاَفُ الأَْوْلَى (3) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: إِنْ كَانَ فِي فَمِهِ نَجَاسَةٌ أَزَالَهَا بِالْمَاءِ، فَلَوْ ذَكَرَ وَلَمْ يَغْسِلْهَا فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَلاَ يَحْرُمُ، وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَفَمُهُ نَجَسٌ كُرِهَ، وَفِي تَحْرِيمِهِ وَجْهَانِ لأَِصْحَابِنَا أَصَحُّهُمَا لاَ يَحْرُمُ (4) .
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: تَنْظِيفُ الْفَمِ عِنْدَ الذِّكْرِ بِالسِّوَاكِ أَدَبٌ حَسَنٌ؛ لأَِنَّهُ الْمَحَل الَّذِي يَكُونُ الذِّكْرُ بِهِ فِي الصَّلاَةِ، وَقَدْ صَحَّ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ تَيَمَّمَ مِنْ جِدَارِ الْحَائِطِ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ (5) ، فَهَذَا فِي مُجَرَّدِ رَدِّ السَّلاَمِ فَذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَوْلَى (6) .
وَيُسْتَثْنَى مِنَ الأَْحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْقُرْآنُ،
__________
(1) الهداية وفتح القدير 1 / 176، 414.
(2) فتح القدير 1 / 414.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 1 / 117، 195.
(4) الفتوحات الربانية 1 / 143.
(5) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم لما سلم عليه بعض الصحابة تيمم ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 444 - ط السلفية) من حديث أبي جهم بن الحارث.
(6) شرح عدة الحصن الحصين ص 32، ونزل الأبرار ص 29.(21/243)
فَتَحْرُمُ قِرَاءَتُهُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ؛ لِحَدِيثِ: لاَ يَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلاَ الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (قُرْآن، جَنَابَة، وَحَيْض) .
فَإِنْ قَرَأَ شَيْئًا مِنَ الأَْذْكَارِ الَّتِي تُوَافِقُ الْقُرْآنَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْل، وَكَانَ يَنْوِي بِهَا الذِّكْرَ لاَ الْقُرْآنَ، فَلاَ بَأْسَ، وَذَلِكَ كَالْبَسْمَلَةِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَكَآيَتَيِ الرُّكُوبِ {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا. . .} (2) وَآيَةِ النُّزُول: {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكًا. . .} (3) وَآيَةِ الاِسْتِرْجَاعِ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (4) . وَقِيل: يَحْرُمُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ غُسْلٌ قِرَاءَةُ آيَةٍ وَلَوْ بِقَصْدِ ذِكْرٍ سَدًّا لِلْبَابِ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى (5) .
ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى حَال قَضَاءِ الْحَاجَةِ:
29 - يُكْرَهُ لِمَنْ هُوَ فِي الْخَلاَءِ لِحَاجَتِهِ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ
__________
(1) حديث: " لا يقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن ". أخرجه الترمذي (1 / 236 - ط الحلبي) من حديث ابن عمر، ثم نقل الترمذي عن البخاري تضعيف راو في سنده.
(2) سورة الزخرف / 13.
(3) سورة المؤمنون / 29.
(4) سورة البقرة / 156.
(5) كشاف القناع 1 / 148، مطالب أولي النهى 1 / 170، والفتوحات الربانية 1 / 130، والمجموع 2 / 352، ونزل الأبرار ص 10، ونهاية المحتاج 1 / 204.(21/244)
تَعَالَى، أَوْ أَنْ يَتَكَلَّمَ، صَرَّحَ بِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ. وَقَال ابْنُ كَجٍّ: إِنَّهُ يَحْرُمُ الذِّكْرُ فِي تِلْكَ الْحَال، وَإِلَيْهِ مَال الأَْذْرَعِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ
وَنُقِلَتْ إِجَازَةُ الذِّكْرِ فِي الْمِرْحَاضِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَنِ النَّخَعِيِّ.
وَصَرَّحَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ بِأَنَّهُ إِذَا عَطَسَ فِي الْخَلاَءِ فَلاَ يَحْمَدُ اللَّهَ بِلِسَانِهِ بَل بِقَلْبِهِ وَقَال فِي الأَْذْكَارِ: وَصَرَّحَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِأَنَّهُ لاَ يُشَمِّتُ عَاطِسًا وَلاَ يَرُدُّ السَّلاَمَ وَلاَ يُجِيبُ الْمُؤَذِّنَ. وَكَذَا فِي حَال الْجِمَاعِ (1) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (قَضَاء الْحَاجَةِ) .
ج - التَّحَرِّي فِي الأَْمْكِنَةِ:
30 - يُجْتَنَبُ الذِّكْرُ فِي الْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ وَمَوْضِعِ التَّخَلِّي كَمَا تَقَدَّمَ (2) . وَمِنَ الأَْدَبِ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُهُ نَظِيفًا خَالِيًا عَمَّا يَشْغَل الْبَال (3) .
أَمَّا الْحَمَّامُ فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، أَوْ عَلَى سَطْحِهِ وَنَحْوِهِ مِنْ كُل مَا يَتْبَعُهُ فِي بَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ؛ لِمَا رَوَى
__________
(1) الفتوحات الربانية 1 / 392، 387، وكشاف القناع 1 / 63، وابن عابدين 1 / 230، وفتح القدير 1 / 414.
(2) نزل الأبرار ص 369.
(3) الفتوحات الربانية 1 / 142.(21/244)
النَّخَعِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ دَخَل الْحَمَّامَ فَقَال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ (1) .
وَلاَ يُكْرَهُ ذِكْرُ اللَّهِ فِي الطَّرِيقِ (2) ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا سَلَكَ رَجُلٌ طَرِيقًا لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَزَّ وَجَل فِيهِ إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِ تِرَةٌ (3) . وَالأَْصْل فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْضِعِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْكَرَاهَةِ (4) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَْرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (5) .
د - تَحَرِّي الأَْمَاكِنِ الْفَاضِلَةِ:
31 - كَالْمَسَاجِدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (6) .
__________
(1) كشاف القناع 1 / 160، ومطالب أولي النهى 1 / 187، والفتوحات الربانية 1 / 146.
(2) نزل الأبرار ص 369، والفتوحات الربانية 1 / 146.
(3) حديث: " ما سلك رجل طريقًا لم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة ". أخرجه أحمد (2 / 432 - ط الميمنية) ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 93 - ط دار البيان) من حديث أبي هريرة، واللفظ لابن السني، وقال الهيثمي في المجمع (10: 80) : " رواه أحمد، وأبو إسحاق مولى عبد الله بن الحارث لم يوثقه أحد ولم يخرجه، وبقية رجال أحد إسنادي أحمد رجال الصحيح ". والترة: النقص أو التبعة. النهاية. مادة: " وتر ".
(4) الفتوحات الربانية 6 / 176.
(5) سورة الجمعة / 10.
(6) سورة النور / 36.(21/245)
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا: إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (1) . وَمِنْهَا الْمَشَاعِرُ الْمُعَظَّمَةُ، كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} (2) .
هـ - تَحَرِّي الأَْزْمِنَةِ الْفَاضِلَةِ:
32 - وَذَلِكَ كَالْغُدُوِّ وَالآْصَال، وَأَطْرَافِ اللَّيْل وَالنَّهَارِ، لِمَا وَرَدَ مِنَ الأَْمْرِ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِْبْكَارِ} (3) وَقَوْلِهِ {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْل غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافِ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} (4) وَقَوْلِهِ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ اللَّيْل فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} (5) .
قِيل وَإِنَّمَا خَصَّ مِنَ النَّهَارِ الْبُكْرَةَ وَالْعَشِيَّ؛ لأَِنَّ الشُّغْل فِيهِمَا غَالِبٌ عَلَى النَّاسِ.
قَال النَّوَوِيُّ: أَشْرَفُ أَوْقَاتِ الذِّكْرِ فِي النَّهَارِ الذِّكْرُ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ، قَال ابْنُ عَلاَّنَ: إِنَّمَا فُضِّل الذِّكْرُ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِكَوْنِهِ تَشْهَدُهُ
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه ف / 3.
(2) سورة البقرة / 198.
(3) سورة غافر / 55.
(4) سورة طه / 130.
(5) سورة الإنسان / 25، 26.(21/245)
الْمَلاَئِكَةُ (1) ، قَال تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (2) وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حِجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ (3) وَمِنْ هُنَا كَرِهَ مَالِكٌ الْكَلاَمَ بَعْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ لأَِجْل الاِنْشِغَال بِالذِّكْرِ وَيُكْرَهُ النَّوْمُ عِنْدَهُمْ حِينَئِذٍ (4) .
وَمِنْ أَفْضَل مَوَاسِمِ الذِّكْرِ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ. قَال النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ الإِْكْثَارُ مِنَ الذِّكْرِ فِيهَا زِيَادَةً عَلَى غَيْرِهَا، وَيُسْتَحَبُّ مِنْ ذَلِكَ يَوْمُ عَرَفَةَ مَا لاَ يُسْتَحَبُّ فِي غَيْرِهِ (5) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (6) .
وَالأَْصْل أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَحَبٌّ فِي كُل وَقْتٍ، وَلاَ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَوْقَاتُ النَّهْيِ، بَل قَدْ نُقِل عَنِ الْغَزَالِيِّ فِي الإِْحْيَاءِ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَنْ قَال: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ قَامَتْ مَقَامَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ،
__________
(1) الأذكار والفتوحات الربانية 3 / 63، 74، 75، 76.
(2) سورة الإسراء / 78.
(3) حديث: " من صلى الغداة في جماعة ". أخرجه الترمذي (2 / 481 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك، وقال: " حديث حسن غريب ".
(4) مواهب الجليل 2 / 74، وحاشية الدسوقي 1 / 317، وجواهر الإكليل 1 / 74.
(5) الأذكار النووية والفتوحات الربانية 4 / 248.
(6) سورة الحج / 28.(21/246)
فَيَنْبَغِي اسْتِعْمَالُهُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ لِمَكَانِ الْخِلاَفِ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْحَطَّابُ (1) .
و الدُّعَاءُ بَعْدَ الأَْعْمَال الصَّالِحَةِ:
33 - وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي شَأْنِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَْرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وَقَوْلُهُ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جَنُوبِكُمْ} (3) وَقَوْلُهُ فِي الاِنْتِهَاءِ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (4) وَقَال النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، وَجَاءَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ فِي أَنْوَاعٍ مِنْهُ مُتَعَدِّدَةٍ (5) ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (6) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 314، والقليوبي 1 / 215.
(2) سورة الجمعة / 10.
(3) سورة النساء / 103.
(4) سورة البقرة / 200.
(5) الفتوحات الربانية 3 / 27 - 29.
(6) حديث ابن عباس: " أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 324 - 325 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 410 - ط الحلبي) .(21/246)
ز - تَجَنُّبُ الذِّكْرِ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ:
34 - وَنَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:
1 - حَال قَضَاءِ الْحَاجَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
2 - حَال الْجِمَاعِ. قَال ابْنُ عَلاَّنَ: الذِّكْرُ عِنْدَ نَفْسِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوِ الْجِمَاعِ لاَ يُكْرَهُ بِالْقَلْبِ بِالإِْجْمَاعِ. وَأَمَّا الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ حِينَئِذٍ فَلَيْسَ مِمَّا شُرِعَ لَنَا وَلاَ نَدَبَنَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ نُقِل عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، بَل يَكْفِي فِي هَذِهِ الْحَال الْحَيَاءُ وَالْمُرَاقَبَةُ (1) .
أَمَّا عِنْدَ إِرَادَةِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوِ الْجِمَاعِ فَهُنَاكَ أَذْكَارٌ مَأْثُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ.
3 - حَال خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ لِمَنْ يَسْمَعُ صَوْتَ الْخَطِيبِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) وَلأَِنَّ الإِْنْصَاتَ إِلَى الْخُطْبَةِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (3) . وَمِثَالُهُ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيل (4) . لَكِنْ إِنْ كَانَ لاَ يَسْمَعُ لِبُعْدِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْسْبَابِ فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مِنَ الْكَلاَمِ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ، قَال أَحْمَدُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ:
__________
(1) الفتوحات الربانية 1 / 143.
(2) سورة الأعراف / 204.
(3) الفتوحات الربانية 1 / 144، والقليوبي 1 / 280.
(4) مواهب الجليل 2 / 176، والدسوقي 1 / 385، وجواهر الإكليل 1 / 98، والزرقاني 2 / 63(21/247)
وَرَخَّصَ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ عَطَاءٌ وَسَعِيدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ. وَاحْتَجَّ لِهَذَا بِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ: رَجُلٌ حَضَرَهَا يَلْغُو وَهُوَ حَظُّهُ مِنْهَا، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا يَدْعُو، فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ إِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ. . الْحَدِيثَ ". (1)
وَإِنْ كَانَ لِلذِّكْرِ سَبَبٌ كَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَرَدِّ السَّلاَمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ فَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّهُ يَفْعَلُهُ وَإِنْ كَانَ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا كَتَحْذِيرِ ضَرِيرٍ، وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى إِلَى أَنَّهُ لاَ يَرُدُّ سَلاَمًا وَلاَ يُشَمِّتُ عَاطِسًا إِنْ كَانَ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ، وَيَفْعَلُهُ إِذَا لَمْ يَسْمَعْ (2) ، وَكَالتَّأْمِينِ عَلَى دُعَاءِ الْخَطِيبِ وَالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّعَوُّذِ عِنْدَ ذِكْرِ مَا يَسْتَدْعِيهِ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِهِ عَلَى اخْتِلاَفٍ فِي أَنَّهُ يُسِرُّهُ أَوْ يَجْهَرُ بِهِ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ عَطَسَ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ حَمِدَ اللَّهَ سِرًّا (3) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَحِل التَّحْرِيمِ لِلذِّكْرِ
__________
(1) حديث: " يحضر الجمعة ثلاثة نفر ". أخرجه أبو داود (1 / 666 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وإسناده حسن.
(2) المغني 2 / 320 - 324، والقليوبي على شرح المنهاج 1 / 280.
(3) مواهب الجليل 2 / 176، والدسوقي 1 / 385، وجواهر الإكليل 1 / 98.(21/247)
أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ هُوَ فِي حَالَةِ كَوْنِ الْخَطِيبِ فِي ذِكْرِ أَرْكَانِ الْخُطْبَةِ دُونَ مَا عَدَاهَا، فَلاَ يَحْرُمُ قَبْلَهَا وَلاَ بَيْنَهَا وَلاَ بَعْدَهَا وَلاَ يُكْرَهُ (1) .
ح - اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ:
35 - مِنْ آدَابِ الذِّكْرِ اسْتِقْبَال الذَّاكِرِ الْقِبْلَةَ. قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا الْجِهَةُ الَّتِي يَتَوَجَّهُ إِلَيْهَا الْعَابِدُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالدَّاعُونَ لَهُ وَالْمُتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ (2) .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ لِكُل شَيْءٍ سَيِّدًا وَإِنَّ سَيِّدَ الْمَجَالِسِ قُبَالَةُ الْقِبْلَةِ (3) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ فِي الاِسْتِسْقَاءِ اسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ (4) .
ط - الرَّغْبَةُ وَالْخُشُوعُ وَالتَّدَبُّرُ:
36 - مِنْ آدَابِ الذِّكْرِ أَنْ يَجْلِسَ الذَّاكِرُ مُتَذَلِّلاً
__________
(1) القليوبي 1 / 280.
(2) تحفة الذاكرين ص 34، 35، الفتوحات الربانية 1 / 136.
(3) حديث: " إن لكل شيء سيدًا، وإن سيد المجالس قبالة القبلة ". أورده الهيثمي في المجمع (8 / 59 - ط القدسي) ، وقال: " رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن ".
(4) حديث: " لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو في الاستسقاء استقبل القبلة ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 515 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن زيد الأنصاري.(21/248)
مُتَخَشِّعًا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ. قَال النَّوَوِيُّ: وَلَوْ ذَكَرَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الأَْحْوَال جَازَ وَلاَ كَرَاهَةَ، وَيَكُونُ تَارِكًا لِلأَْفْضَل. اهـ.
قَال ابْنُ عَلاَّنَ: قَوْلُهُ مُتَخَشِّعًا أَيْ ذَا خُشُوعٍ فِي الْبَاطِنِ وَلَوْ بِتَكَلُّفِهِ، وَقِيل الْخُشُوعُ فِي الْجَوَارِحِ وَالْخُضُوعُ فِي الْقَلْبِ (1) . وَمِمَّا يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} (2) وَقَال ابْنُ كَثِيرٍ: أَيِ اذْكُرِ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً وَبِالْقَوْل (3) . وَقَال أَبُو حَيَّانَ: أَيْ يَذْكُرُهُ بِالْقَوْل الْخَفِيِّ الَّذِي يُشْعِرُ بِالتَّذَلُّل وَالْخُضُوعِ كَمَا يُنَاجِي الْمُلُوكَ (4) .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الذَّاكِرُ مُتَدَبِّرًا مُتَعَقِّلاً لِمَا يَذْكُرُ بِهِ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيل وَذِكْرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَإِنْ جَهِل شَيْئًا مِمَّا يَذْكُرُ بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَبَيَّنَهُ وَلاَ يَحْرِصَ عَلَى تَحْصِيل الْكَثْرَةِ بِالْعَجَلَةِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَدَاءِ الذِّكْرِ مَعَ الْغَفْلَةِ وَهُوَ خِلاَفُ الْمَطْلُوبِ، وَقَلِيل الذِّكْرِ مَعَ حُضُورِ الْقَلْبِ خَيْرٌ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْهُ مَعَ الْجَهْل وَالْفُتُورِ.
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: التَّدَبُّرُ لِلذِّكْرِ أَكْمَل لأَِنَّ الذَّاكِرَ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمُخَاطِبِ وَالْمُنَاجِي. ثُمَّ قَال: وَيَكُونُ أَجْرُهُ أَتَمَّ وَأَوْفَى، وَلاَ يُنَافِي ثُبُوتَ
__________
(1) الفتوحات الربانية 1 / 136، وتحفة الذاكرين ص 36.
(2) سورة الأعراف / 205.
(3) تفسير ابن كثير عند تفسير آخر سورة الأعراف.
(4) الفتوحات الربانية 3 / 75.(21/248)
مَا وَرَدَ الْوَعْدُ بِهِ مِنَ الأَْذْكَارِ لِمَنْ جَاءَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَتَدَبَّرْ مَعْنَاهَا؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ تَقْيِيدُ مَا وَعَدَ بِهِ مِنْ ثَوَابِهَا بِالتَّدَبُّرِ وَالْفَهْمِ. وَوَافَقَهُ الشَّيْخُ صِدِّيق حَسَن خَان (1) .
أَمَّا ابْنُ عَلاَّنَ فَقَال: نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ فَهْمِ مَعْنَى التَّهْلِيلَةِ، وَإِلاَّ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا صَاحِبُهَا فِي الإِْنْقَاذِ مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، قَال: وَمِثْلُهَا بَاقِي الأَْذْكَارِ لاَ بُدَّ فِي حُصُول ثَوَابِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَلَوْ بِوَجْهٍ (2) .
ي - الْحِرْصُ عَلَى الذِّكْرِ فِي الْعُزْلَةِ وَالاِنْفِرَادِ عَنِ النَّاسِ:
37 - الذِّكْرُ فِي حَال الْعُزْلَةِ عَنِ النَّاسِ وَالاِنْفِرَادِ عَنْهُمْ وَحَيْثُ لاَ يَعْلَمُ بِهِ إِلاَّ اللَّهُ تَعَالَى أَفْضَل مِنَ الذِّكْرِ فِي الْمَلأَِ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْحَالَيْنِ فَضْلُهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍَ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍَ خَيْرٍ مِنْهُمْ (3) . قَال ابْنُ حَجَرٍ: " قَال بَعْضُ أَهْل الْعِلْمِ: يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الذِّكْرَ الْخَفِيَّ أَفْضَل مِنَ الذِّكْرِ الْجَهْرِيِّ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ بِثَوَابٍ لاَ أُطْلِعُ عَلَيْهِ أَحَدًا (4) . وَفِي
__________
(1) تحفة الذاكرين ص 32، والفتوحات الربانية 1 / 148، ونزل الأبرار ص 10.
(2) الفتوحات الربانية 1 / 148.
(3) الحديث تقدم تخريجه في ف / 3.
(4) فتح الباري 13 / 386.(21/249)
الْحَدِيثِ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِل إِلاَّ ظِلُّهُ فَذَكَرَ مِنْهُمْ: وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: ذَكَرَ اللَّهَ فِي خَلاَءٍ (1) قَال ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ لأَِنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ (2) .
وَسَيَأْتِي حُكْمُ الاِجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ (ف 40) .
حُكْمُ إِخْفَاءِ الذِّكْرِ:
38 - لاَ يُعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِمَّا رَتَّبَ الشَّارِعُ الأَْجْرَ عَلَى الإِْتْيَانِ بِهِ مِنَ الأَْذْكَارِ الْوَاجِبَةِ أَوِ الْمُسْتَحَبَّةِ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِهِ الذَّاكِرُ وَيُسْمِعَ نَفْسَهُ إِذَا كَانَ صَحِيحَ السَّمْعِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَكْثَرَ مِنْ مُنَاسَبَةٍ بِأَنَّ مَنْ قَال كَذَا كَانَ لَهُ مِنَ الأَْجْرِ كَذَا لاَ يَحْصُل لَهُ ذَلِكَ الأَْجْرُ إِلاَّ بِمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَعْنَى الْقَوْل، وَهُوَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالتَّلَفُّظِ بِاللِّسَانِ. وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِمُجَرَّدِ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِغَيْرِ صَوْتٍ أَصْلاً بَل لاَ بُدَّ مِنْ صَوْتٍ، وَأَقَلُّهُ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا هُوَ ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ شَفَتَاهُ (3) .
__________
(1) حديث: " سبعة يظلهم الله في ظله ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 143 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة، ورواية: " ذكر الله في خلاء " أخرجها البخاري (الفتح 12 / 112) .
(2) فتح الباري 2 / 147، وعمدة القاري 5 / 179، 180.
(3) حديث: " أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت شفتاه ". أخرجه أحمد (2 / 540 - ط الميمنية) من حديث أبي هريرة، والحاكم (1 / 496 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي الدرداء، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(21/249)
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: لَمْ يَرِدْ مَا يَدُل عَلَى اشْتِرَاطِ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ بَل يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَوْلٌ بِمُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ وَهُوَ تَحْرِيكُ اللِّسَانِ وَإِنْ لَمْ يُسْمِعْ نَفْسَهُ (1) .
وَمَعَ هَذَا فَالإِْسْرَارُ بِالذِّكْرِ بِالْقَلْبِ بِدُونِ تَلَفُّظٍ وَلاَ تَحْرِيكٍ لِلِّسَانِ بَل بِإِمْرَارِ الْكَلاَمِ الَّذِي يَذْكُرُ بِهِ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ تَسْبِيحٍ وَتَحْمِيدٍ وَتَهْلِيلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلِّهِ جَائِزٌ وَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ فَاعِلُهُ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي (2) .
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الذِّكْرِ جَائِزٌ حَيْثُ يَمْتَنِعُ الذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ، كَحَال قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْجِمَاعِ وَعِنْدَ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ إِمْرَارُ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَلْبِ لِلْجُنُبِ أَوِ الْحَائِضِ، قَال ابْنُ عَلاَّنَ: وَمِنْ ذَلِكَ الْهَمْسُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِقِرَاءَةٍ فَلاَ يَشْمَلُهَا النَّهْيُ (3) .
رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ:
39 - يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى مِقْدَارُ رَفْعِ الصَّوْتِ
__________
(1) تحفة الذاكرين ص 32، ونزل الأبرار ص 11، والفتوحات الربانية 1 / 155 وما بعدها
(2) الحديث تقدم تخريجه في ف / 3.
(3) الفتوحات الربانية 1 / 127 - 129.(21/250)
الْمَأْذُونِ بِهِ فِي الذِّكْرِ، فَالأَْصْل أَنَّ الذَّاكِرَ يُنَاجِي رَبَّهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ وَسِعَ سَمْعُهُ الأَْصْوَاتَ،
فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَجْهَرَ بِالذِّكْرِ فَوْقَ مَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ لِلْخُشُوعِ وَأَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْل بِالْغُدُوِّ وَالآْصَال وَلاَ تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (1) وَقَال: {ادْعُوَا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (2) قَال بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَيِ الْمُعْتَدِينَ بِرَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ فِي الدُّعَاءِ (3) .
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ (4) .
قَال فِي نُزُل الأَْبْرَارِ: الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَجْهَرَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الْجَهْرُ، وَيُسِرَّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الإِْسْرَارُ، وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ مُبَيَّنَةٌ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ الدَّلِيل عَلَى الْجَهْرِ أَوِ السِّرِّ فَالذَّاكِرُ فِيهِ بِالْخِيَارِ، وَلَكِنْ لاَ بُدَّ لِلذَّاكِرِ فِيهِ مِنْ مُلاَحَظَةِ
__________
(1) سورة الأعراف / 205.
(2) سورة الأعراف / 55.
(3) تحفة الذاكرين ص 36، وابن عابدين 2 / 175، وجواهر الإكليل 1 / 256.
(4) حديث: " اربعوا على أنفسكم ". أخرجه مسلم (4 / 2076، 2077 - ط الحلبي) من حديث أبي موسى الأشعري.(21/250)
قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} (1) لِئَلاَّ يَتَجَاوَزَ الْحُدُودَ الْمَضْرُوبَةَ لَهُ (2) وَلِذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ مَعَ الْجِنَازَةِ (3) .
وَقَدِ اضْطَرَبَ كَلاَمُ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا الأَْصْل، فَنُقِل عَنِ الْقَاضِي أَنَّ الْجَهْرَ بِالذِّكْرِ فِي غَيْرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا حَرَامٌ لِمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَخْرَجَ جَمَاعَةً مِنَ الْمَسْجِدِ يُهَلِّلُونَ وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهْرًا، وَقَال لَهُمْ: مَا أَرَاكُمْ إِلاَّ مُبْتَدِعِينَ. وَقَال فِي الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ: إِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْخَاصِ وَالأَْحْوَال فَالإِْسْرَارُ أَفْضَل حَيْثُ خِيفَ الرِّيَاءُ أَوْ تَأَذِّي الْمُصَلِّينَ أَوِ النِّيَامِ، وَالْجَهْرُ أَفْضَل حَيْثُ خَلاَ مِمَّا ذُكِرَ (4) .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الأَْصْل مَوَاضِعُ يَنْبَغِي فِيهَا الْجَهْرُ بِالذِّكْرِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الَّتِي قَدَّرَهَا الشَّرْعُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهَا:
1 - مَا قُصِدَ بِهِ الإِْسْمَاعُ وَالتَّبْلِيغُ، كَالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ وَتَكْبِيرَاتِ الإِْمَامِ وَقِرَاءَتِهِ فِي الْجَهْرِيَّةِ وَتَكْبِيرَاتِ الْمُبَلِّغِ وَإِلْقَاءِ السَّلاَمِ وَجَوَابِهِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَجْهَرُ فِي ذَلِكَ بِالْقَدْرِ الَّذِي يَحْصُل بِهِ الْمَقْصُودُ (5) .
__________
(1) سورة الإسراء / 110.
(2) نزل الأبرار ص 8.
(3) فتح القدير 1 / 469.
(4) ابن عابدين 5 / 255.
(5) ابن عابدين 2 / 175.(21/251)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (إِسْرَار، جَهْر) .
2 - بَعْضُ أَنْوَاعِ أَذْكَارِ الصَّلاَةِ وَرَدَتِ السُّنَّةُ فِيهَا بِالْجَهْرِ كَالْبَسْمَلَةِ، وَالتَّأْمِينِ، وَالْقُنُوتِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَالتَّلْبِيَةِ فِي الْحَجِّ (1) وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ خِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ، وَفِي مُصْطَلَحَيْ: (إِسْرَار، وَجَهْر) .
3 - بَعْضُ الأَْذْكَارِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا التَّنْبِيهُ أَوِ التَّعْلِيمُ، أَوْ فَائِدَةٌ أُخْرَى كَأَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ حَتَّى يُنَبِّهَ غَيْرَهُ، أَوْ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلاَةِ اللَّيْل لِيُسْمِعَ أَهْلَهُ (2) . قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَرَفْعُ صَوْتِ مُرَابِطٍ وَحَارِسِ بَحْرٍ بِالتَّكْبِيرِ فِي حَرَسِهِمْ لأَِنَّهُ شِعَارُهُمْ لَيْلاً وَنَهَارًا (3) .
الاِجْتِمَاعُ لِلذِّكْرِ:
40 - أَوْرَدَ صَاحِبُ نُزُل الأَْبْرَارِ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ لاَ يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ حَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ (4) ثُمَّ قَال: فِي الْحَدِيثِ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 256.
(2) كشاف القناع 1 / 366 - 368.
(3) جواهر الإكليل 1 / 256.
(4) حديث: " لا يقعد قوم يذكرون الله " أخرجه مسلم (4 / 2074 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد.(21/251)
تَرْغِيبٌ عَظِيمٌ فِي الاِجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْخَصَائِصَ الأَْرْبَعَ فِي كُل وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَا يُثِيرُ رَغْبَةَ الرَّاغِبِينَ، وَيُقَوِّي عَزِيمَةَ الصَّالِحِينَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ (1) .
وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلاَئِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطَّرِيقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْل الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. الْحَدِيثَ، وَفِي آخِرِهِ فَيَقُول اللَّهُ عَزَّ وَجَل: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ لَهُمْ. فَيَقُول مَلَكٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ: فِيهِمْ فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَال: هُمُ الْجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى جَلِيسُهُمْ (2) .
وَمِنْ هُنَا مَال النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ الْجُلُوسُ فِي حِلَقِ الذِّكْرِ (3) . وَأَوْرَدَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَال: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلإِْسْلاَمِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. . إِلَى أَنْ قَال: أَتَانِي جِبْرِيل فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلاَئِكَةَ (4) .
__________
(1) نزل الأبرار ص 17.
(2) حديث: " إن لله ملائكة يطوفون في الطرق " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 208 - 209 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2069 - 2070 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) الفتوحات الربانية 1 / 89 - 106.
(4) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه " أخرجه مسلم (4 / 2075 - ط الحلبي) من حديث معاوية.(21/252)
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الاِجْتِمَاعُ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ حَسَنٌ إِذَا لَمْ يُتَّخَذْ سُنَّةً رَاتِبَةً وَلاَ اقْتَرَنَ بِهِ مُنْكَرٌ مِنْ بِدْعَةٍ (1) .
وَقَال عَطَاءٌ: " مَجَالِسُ الذِّكْرِ هِيَ مَجَالِسُ الْحَلاَل وَالْحَرَامِ، أَيْ مَجَالِسُ الْعِلْمِ " وَلاَ يَعْنِي ذَلِكَ انْحِصَارَ مَجَالِسِ الذِّكْرِ الْمَشْرُوعَةِ بِهَا، بَل هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَجَالِسِ الذِّكْرِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ عَطَاءٌ التَّنْصِيصَ عَلَى أَخَصِّ أَنْوَاعِهِ، وَلَيْسَتْ مَجَالِسَ الْبِدَعِ وَمَزَامِيرَ الشَّيْطَانِ (2) .
وَعَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: لَوِ اجْتَمَعَ الْقَوْمُ لِقِرَاءَةٍ وَدُعَاءٍ وَذِكْرٍ فَعَنْهُ أَنَّهُ قَال: وَأَيُّ شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْهُ، وَعَنْهُ: لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ. وَعَنْهُ: أَنَّهُ مُحْدَثٌ.
وَنَقَل عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ: مَا أَكْرَهُهُ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى غَيْرِ وَعْدٍ إِلاَّ أَنْ يُكْثِرُوا. قَال ابْنُ مَنْصُورٍ يَعْنِي يَتَّخِذُوهُ عَادَةً. وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنْ جُمُوعِ أَهْل وَقْتِنَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ فِي لَيَالٍ يُسَمُّونَهَا إِحْيَاءً. وَكَرِهَهُ مَالِكٌ (3) .
الذِّكْرُ الْجَمَاعِيُّ:
41 - وَهُوَ مَا يَنْطِقُ بِهِ الذَّاكِرُونَ الْمُجْتَمِعُونَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ يُوَافِقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَدْ جَعَلَهُ
__________
(1) مختصر الفتاوى المصرية ص 86 مطبعة المدني.
(2) الفتوحات الربانية 1 / 114.
(3) كشاف القناع 1 / 432.(21/252)
الشَّاطِبِيُّ إِذَا الْتُزِمَ بِدْعَةً إِضَافِيَّةً تُجْتَنَبُ (1) ، قَال: إِذَا نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ فَالْتَزَمَ قَوْمٌ الاِجْتِمَاعَ عَلَيْهِ عَلَى لِسَانٍ وَاحِدٍ وَصَوْتٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ فِي نَدْبِ الشَّرْعِ مَا يَدُل عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ الْمُلْتَزَمِ؛ لأَِنَّ الْتِزَامَ الأُْمُورِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ يُفْهَمُ عَلَى أَنَّهُ تَشْرِيعٌ، وَخُصُوصًا مَعَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ كَالْمَسَاجِدِ، فَإِذَا أُظْهِرَتْ هَذَا الإِْظْهَارَ وَوُضِعَتْ فِي الْمَسَاجِدِ كَسَائِرِ الشَّعَائِرِ كَالأَْذَانِ وَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفِ، فُهِمَ مِنْهَا بِلاَ شَكٍّ أَنَّهَا سُنَّةٌ إِنْ لَمْ تُفْهَمْ مِنْهَا الْفَرْضِيَّةُ، فَلَمْ يَتَنَاوَلْهَا الدَّلِيل الْمُسْتَدَل بِهِ، فَصَارَتْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ بِدَعًا مُحْدَثَةً. وَنَحْوُهُ لاِبْنِ الْحَاجِّ (2) فِي الْمَدْخَل (3) .
__________
(1) الاعتصام للشاطبي 1 / 200 القاهرة، المكتبة التجارية، وينظر ابن عابدين 5 / 255.
(2) اللجنة ترى أن اشتراك مجموعة في الأذكار المأثورة أو الأدعية الواردة أو قراءة القرآن بصوت واحد جائز بشرط عدم التشويش على المصلين أو غيرهم مما هم فيه من عمل مشروع ولا سيما إذا كانت هذه الطريقة تساعد على النشاط وتعليم غير المتعلم، وبشرط ألا تعتقد هذه الكيفية
(3) المدخل لابن الحاج 1 / 297.(21/253)
حَال الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الذِّكْرِ:
42 - ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى حَال الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الذِّكْرِ، فَنَعَتَهُمْ تَارَةً بِالْوَجَل، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (1) ، وَبِالْخُشُوعِ، كَمَا قَال تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَل مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْل فَطَال عَلَيْهِمُ الأَْمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} (2) وَنَعَتَهُمْ تَارَةً أُخْرَى بِالطُّمَأْنِينَةِ عِنْدَ الذِّكْرِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (3) .
وَجَمَعَ بَيْنَ الأَْمْرَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّل أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمِنْ يُضْلِل اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (4) .
فَأَمَّا الْوَجَل فَهُوَ الْخَوْفُ وَالْخَشْيَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنَ الرَّهْبَةِ عِنْدَ ذِكْرِ عَظَمَتِهِ وَجَلاَلِهِ وَنَظَرِهِ إِلَى الْقُلُوبِ وَالأَْعْمَال، وَذِكْرِ أَمْرِ الآْخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْحِسَابِ وَالْعِقَابِ، فَيَقْشَعِرُّ الْجَلْدُ بِسَبَبِ الْخَوْفِ الآْخِذِ بِمَجَامِعِ الْقُلُوبِ،
__________
(1) سورة الأنفال / 2.
(2) سورة الحديد / 16.
(3) سورة الرعد / 28.
(4) سورة الزمر / 23.(21/253)
وَخَاصَّةً عِنْدَ تَذَكُّرِهِمْ مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَالتَّفْرِيطِ فِي جَنْبِ اللَّهِ.
وَأَمَّا الطُّمَأْنِينَةُ فَهِيَ مَا يَحْصُل مِنْ لِينِ الْقَلْبِ وَرِقَّتِهِ وَسُكُونِهِ، وَذَلِكَ إِذَا سَمِعُوا مَا أُعِدَّ لِلْمُتَّقِينَ مِنْ جَزِيل الثَّوَابِ، وَذَكَرُوا رَحْمَتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَصِدْقَ وَعْدِهِ لِمَنْ فَعَل الطَّاعَاتِ وَاسْتَقَامَ عَلَى شَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى (1) .
وَقَدْ يَصْحَبُ الْخَشْيَةَ الْبُكَاءُ وَفَيْضُ الدَّمْعِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَال: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَل مِنَ الْبُكَاءِ (2) . وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِل إِلاَّ ظِلُّهُ. . فَذَكَرَ مِنْهُمْ: وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ (3) .
أَمَّا مَا يَتَكَلَّفُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ التَّغَاشِي وَالصَّعْقِ وَالصِّيَاحِ وَالشَّطْحِ فَقَدْ قَال الشَّاطِبِيُّ وَغَيْرُهُ: هُوَ بِدَعٌ مُسْتَنْكَرَةٌ. وَقَال ابْنُ كَثِيرٍ: قَال قَتَادَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {
__________
(1) تفسير الرازي 19 / 49، عند الآية 28 من سورة الرعد، وتفسير ابن كثير عند الآية نفسها، وتفسير القرطبي 9 / 315، 15 / 250.
(2) حديث عبد الله بن الشخير: " انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي " أخرجه النسائي (3 / 13 - ط المكتبة التجارية) ، والحاكم (1 / 264 دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) الحديث تقدم تخريجه في ف / 37.(21/254)
ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (1) .
هَذَا نَعْتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْعَتْهُمْ بِذَهَابِ عُقُولِهِمْ وَالْغَشَيَانِ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا هَذَا فِي أَهْل الْبِدَعِ (2) .
وَقَال الشَّاطِبِيُّ: وَقَدْ مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْل الْعِرَاقِ سَاقِطٍ، وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَقَال: مَا هَذَا؟ قَالُوا: إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَوْ سَمِعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَل يُذْكَرُ، خَرَّ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، قَال ابْنُ عُمَرَ: وَاللَّهِ إِنَّا لَنَخْشَى اللَّهَ وَلاَ نَسْقُطُ، ثُمَّ قَال: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُل فِي جَوْفِ أَحَدِهِمْ، مَا كَانَ هَذَا صَنِيعَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَال الشَّاطِبِيُّ: وَهَذَا إِنْكَارٌ.
وَقِيل لأَِسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: إِنَّ نَاسًا هَاهُنَا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ تَأْخُذُهُمْ غَشْيَةٌ، فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ". ر وَقِيل لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ قَوْمًا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ يُغْشَى عَلَيْهِمْ. فَقَالَتْ: إِنَّ الْقُرْآنَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ تُنْزَفَ عَنْهُ عُقُول الرِّجَال، وَلَكِنَّهُ كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ. . .} الآْيَةَ (3) .
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِل عَنِ الْقَوْمِ يُقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ فَيُصْعَقُونَ، قَال: " ذَلِكَ فِعْل الْخَوَارِجِ وَهَذَا تَنْبِيهٌ مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّ هَذَا فِعْل مَنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنَ الدِّينِ إِلاَّ ظَاهِرَهُ، وَلَمْ
__________
(1) سورة الزمر / 23.
(2) تفسير ابن كثير 4 / 510 عند الآية 22 من سورة الزمر.
(3) سورة الزمر / 23.(21/254)
يَفْقَهْ حُدُودَهُ، وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الأَْمْرَ كَانَ فِي الْخَوَارِجِ فَاشِيًا، كَمَا قَال أَبُو حَمْزَةَ الشَّارِي يَمْدَحُ أَصْحَابَهُ مِنَ الشُّرَاةِ " كُلَّمَا مَرُّوا بِآيَةِ خَوْفٍ شَهِقُوا خَوْفًا مِنَ النَّارِ، وَإِذَا مَرُّوا بِآيَةِ رَحْمَةٍ شَهِقُوا شَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ (1) ".
وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَال: جِئْتُ أَبِي، فَقَال: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْتُ: وَجَدْتُ أَقْوَامًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، فَيُرْعَدُ أَحَدُهُمْ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَقَعَدْتُ مَعَهُمْ. فَقَال: لاَ تَقْعُدْ بَعْدَهَا. فَرَآنِي كَأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ ذَلِكَ فِيَّ. فَقَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو الْقُرْآنَ، وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَتْلُوَانِ الْقُرْآنَ، فَلاَ يُصِيبُهُمْ هَذَا، أَفَتَرَاهُمْ أَخْشَعَ لِلَّهِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ فَرَأَيْتُ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَرَكْتُهُمْ (2) .
الرَّقْصُ وَالدَّوَرَانُ وَالطَّبْل وَالزَّمْرُ عِنْدَ الذِّكْرِ:
43 - يَزِيدُ بَعْضُ أَهْل الْبِدَعِ عِنْدَ الذِّكْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أُمُورًا أُخْرَى، قَال الشَّاطِبِيُّ: يَا لَيْتَهُمْ وَقَفُوا عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ الْمَذْمُومِ، وَلَكِنَّهُمْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ الرَّقْصَ وَالزَّمْرَ وَالدَّوَرَانَ وَالضَّرْبَ عَلَى الصُّدُورِ، وَبَعْضُهُمْ يَضْرِبُ عَلَى رَأْسِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعَمَل الْمُضْحِكِ لِلْحَمْقَى، لِكَوْنِهِ مِنْ أَعْمَال الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ، الْمُبْكِي
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير 10 / 36 (38) في حوادث سنة 130 هـ.
(2) المدخل لابن الحاج 2 / 6.(21/255)
لِلْعُقَلاَءِ، رَحْمَةً لَهُمْ، إِذْ لَمْ يُتَّخَذْ مِثْل هَذَا طَرِيقًا إِلَى اللَّهِ وَتَشَبُّهًا بِالصَّالِحِينَ (1) .
وَقَال الآْجُرِّيُّ: يُقَال لِمَنْ فَعَل هَذَا: اعْلَمْ أَنَّ أَصْدَقَ النَّاسِ مَوْعِظَةً، وَأَنْصَحَ النَّاسِ لأُِمَّتِهِ، وَأَرَقَّ النَّاسِ قَلْبًا، وَخَيْرَ النَّاسِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ - أَيْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاَ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ عَاقِلٌ، مَا صَرَخُوا عِنْدَ مَوْعِظَةٍ، وَلاَ زَعَقُوا، وَلاَ رَقَصُوا، وَلاَ زَفَنُوا، وَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانُوا أَحَقَّ بِهِ أَنْ يَفْعَلُوهُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُ بِدْعَةٌ وَبَاطِلٌ وَمُنْكَرٌ (2) . اهـ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي الْمُلْتَقَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَرِهَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْجِنَازَةِ وَالزَّحْفِ وَالتَّذْكِيرِ، فَمَا ظَنُّكَ عِنْدَ الْغِنَاءِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ وَجْدًا وَمَحَبَّةً فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ لاَ أَصْل لَهُ فِي الدِّينِ (3) .
قَسْوَةُ الْقَلْبِ عِنْدَ الذِّكْرِ:
44 - هَذِهِ حَالٌ مُقَابِلَةٌ لِحَال الْمُؤْمِنِينَ، وَمُشَابِهَةٌ لِحَال الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (4) فَكَانَ وَجَل الْقُلُوبِ عِنْدَ
__________
(1) الاعتصام للشاطبي 1 / 223 - 225، وتفسير القرطبي 15 / 249.
(2) الاعتصام للشاطبي 1 / 226.
(3) ابن عابدين 5 / 255.
(4) سورة الأنفال / 2.(21/255)
الذِّكْرِ عَلاَمَةً عَلَى صِدْقِ إِيمَانِهِمْ وَإِنَابَتِهِمْ، وَقَال فِي شَأْنِ الْكُفَّارِ {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآْخِرَةِ} (1) وَفِي شَأْنِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} (2) .
وَقَدْ حَذَّرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَسْوَةِ الْقَلْبِ عِنْدَ الذِّكْرِ بِسَبَبِ طُول الأَْمَدِ وَالاِنْشِغَال بِمَا يَصْرِفُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالاِتِّعَاظِ بِهِ فَقَال: {رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ. . .} (3) وَقَال تَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَل مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْل فَطَال عَلَيْهِمُ الأَْمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (4) .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَال: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلاَمِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الآْيَةِ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} إِلاَّ أَرْبَعَ سِنِينَ (5) .
وَعَنْ أَنَسٍ قَال: اسْتَبْطَأَ اللَّهُ قُلُوبَ الْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ نُزُول الْقُرْآنِ فَأَنْزَل اللَّهُ: {
__________
(1) سورة الزمر / 45.
(2) سورة الزمر / 22.
(3) سورة النور / 37.
(4) سورة الحديد / 16.
(5) حديث ابن مسعود: أخرجه مسلم (4 / 2319 - ط الحلبي) .(21/256)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} (1) .
الإِْكْثَارُ مِنَ الذِّكْرِ:
45 - الإِْكْثَارُ مِنَ الذِّكْرِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (2) وَقَوْلِهِ: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (3) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ قَالُوا وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ (4) . وَقَال رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ شَرَائِعَ الإِْسْلاَمِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ؟ فَقَال: لاَ يَزَال لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ (5) .
وَذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّهُمْ: {إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} (6) وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي
__________
(1) حديث أنس: أورده السيوطي في الدر المنثور (6 / 57 - ط دار الفكر) وعزاه لابن مردويه.
(2) سورة الأحزاب / 41، 42.
(3) سورة الأحزاب / 35.
(4) الحديث تقدم تخريجه في ف / 3.
(5) حديث: " لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله " أخرجه الترمذي (5 / 458 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن غريب ".
(6) سورة النساء / 142.(21/256)
الذِّكْرِ الْكَثِيرِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الآْيَةِ، فَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَغُدُوًّا وَعَشِيًّا وَفِي الْمَضَاجِعِ وَكُلَّمَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ وَكُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى. وَيُوَضِّحُهُ مَا قَالَهُ أَبُو عَمْرِو بْنِ الصَّلاَحِ عَمَّا يَصِيرُ بِهِ الْعَبْدُ مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ، قَال: إِذَا وَاظَبَ عَلَى الأَْذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ الْمُثْبَتَةِ صَبَاحًا وَمَسَاءً فِي الأَْوْقَاتِ وَالأَْحْوَال الْمُخْتَلِفَةِ لَيْلاً وَنَهَارًا كَانَ مِنْهُمْ. أَيْ لأَِنَّهُ إِنْ وَاظَبَ عَلَيْهَا فَهِيَ تَشْمَل الأَْوْقَاتَ وَالأَْحْوَال. وَقَال عَطَاءٌ: مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بِحُقُوقِهَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الآْيَةِ (1) .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُل أَهْلَهُ مِنَ اللَّيْل فَصَلَّيَا، أَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَا فِي الذَّاكِرِينَ وَالذَّاكِرَاتِ (2) .
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: صِدْقُ كَثْرَةِ الذِّكْرِ عَلَى مَنْ وَاظَبَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَلَوْ قَلِيلاً أَكْمَل مِنْ صِدْقِهِ عَلَى مَنْ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ مُوَاظَبَةٍ (3) . وَفِي
__________
(1) الأذكار النووية والفتوحات الربانية 114 - 126، ونزل الأبرار ص9.
(2) حديث: " إذا أيقظ الرجل أهله من الليل " أخرجه أبو داود (2 / 74 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (2 / 416 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) نزل الأبرار ص 9، وعدة الحصن الحصين ص 33.(21/257)
الْحَدِيثِ: أَحَبُّ الأَْعْمَال إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَل (1) .
وَيَتَعَلَّقُ بِالإِْكْثَارِ مِنَ الذِّكْرِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ أُمُورٌ مِنْهَا:
أ - التَّحْزِيبُ وَالأَْوْرَادُ وَقَضَاءُ مَا يَفُوتُ:
46 - قَال ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْحِزْبُ مِنَ الْقُرْآنِ الْوِرْدُ، وَهُوَ شَيْءٌ يَفْرِضُهُ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ يَقْرَؤُهُ كُل يَوْمٍ. اهـ. وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يُرَتِّبُهُ الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الأَْذْكَارِ. وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَصَلاَةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْل (2) . وَهَذَا وَارِدٌ فِي الْحِزْبِ مِنَ الْقُرْآنِ، لَكِنْ قَال النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ لَهُ وَظِيفَةٌ مِنَ الذِّكْرِ فِي وَقْتٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، أَوْ عَقِبَ صَلاَةٍ، أَوْ حَالَةً مِنَ الأَْحْوَال، فَفَاتَتْهُ، أَنْ يَتَدَارَكَهَا وَيَأْتِيَ بِهَا إِذَا تَمَكَّنَ مِنْهَا وَلاَ يُهْمِلُهَا، فَإِنَّهُ إِذَا اعْتَادَ عَلَيْهَا لَمْ يُعَرِّضْهَا لِلتَّفْوِيتِ وَإِذَا تَسَاهَل فِي قَضَائِهَا سَهُل عَلَيْهِ تَضْيِيعُهَا فِي وَقْتِهَا. قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَقَدْ كَانَ
__________
(1) حديث: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 294 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2171 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(2) حديث: " من نام عن حزبه أو عن شيء منه " أخرجه مسلم (1 / 515 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب.(21/257)
الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَقْضُونَ مَا فَاتَهُمْ مِنْ أَذْكَارِهِمُ الَّتِي يَفْعَلُونَهَا فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ.
وَقَال ابْنُ عَلاَّنَ: الْمُرَادُ بِالأَْحْوَال: الأَْحْوَال الْمُتَعَلِّقَةُ بِالأَْوْقَاتِ، لاَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالأَْسْبَابِ كَالذِّكْرِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلاَل وَسَمَاعِ الرَّعْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلاَ يُنْدَبُ تَدَارُكُهُ عِنْدَ فَوَاتِ سَبَبِهِ. وَمَنْ تَرَكَ الأَْوْرَادَ بَعْدَ اعْتِيَادِهَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ (1) .
ب - تَكْرَارُ الأَْذْكَارِ وَعَدُّهَا:
47 - تَكْرَارُ الذِّكْرِ مَشْرُوعٌ. وَقَدْ وَرَدَتِ الأَْحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ بِتَرْتِيبِ الأَْجْرِ عَلَى أَذْكَارٍ تُكَرَّرُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ مَنْ قَال لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْل عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ الْحَدِيثَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَل مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِل أَكْثَرَ مِنْهُ (2) .
وَالتَّكْرَارُ لِعَدَدٍ مَحْدُودٍ يَقْتَضِي عَدَّ الذِّكْرِ بِشَيْءٍ يَحْسِبُهُ بِهِ، وَوَرَدَ عَنْ يَسِيرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيل وَالتَّقْدِيسِ، وَاعْقِدْنَ
__________
(1) الفتوحات الربانية والأذكار النووية 1 / 149 وما بعدها، وعدة الحصن الحصين ص 33، ونزل الأبرار ص 10.
(2) حديث: " من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 201 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2071 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(21/258)
بِالأَْنَامِل فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولاَتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ (1) يَعْنِي أَنَّ الأَْنَامِل تَشْهَدُ لِلذَّاكِرِ، فَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَعْقِدْنَ عَدَدَ التَّسْبِيحِ مُسْتَعِينَاتٍ بِالأَْنَامِل.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْقِدُ التَّسْبِيحَ. وَفِي رِوَايَةٍ قَال: يَعْقِدُ التَّسْبِيحَ بِيَمِينِهِ (2) .
قَال ابْنُ عَلاَّنَ: يُحْتَمَل أَنَّ الْمُرَادَ الْعَقْدُ بِنَفْسِ الأَْنَامِل، أَوْ بِجُمْلَةِ الأَْصَابِعِ. قَال: وَالْعَقْدُ بِالْمَفَاصِل أَنْ يَضَعَ إِبْهَامَهُ فِي كُل ذِكْرٍ عَلَى مِفْصَلٍ، وَالْعَقْدُ بِالأَْصَابِعِ أَنْ يَعْقِدَهَا ثُمَّ يَفْتَحَهَا. وَفِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ: الْعَقْدُ هُنَا بِمَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ (3) .
وَيَجُوزُ التَّسْبِيحُ بِالْحَصَى وَالنَّوَى وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ عَقَدَ أَبُو دَاوُدَ بَابًا بِعِنْوَانِ: بَابُ التَّسْبِيحِ بِالْحَصَى (4) . أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَى امْرَأَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهَا نَوًى أَوْ حَصًى تُسَبِّحُ بِهِ، فَقَال: أُخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا أَوْ أَفْضَل،
__________
(1) حديث: " عليكن بالتسبيح. . . " أخرجه الترمذي (5 / 571 - ط الحلبي) ، وقال: " هذا حديث غريب ".
(2) حديث عبد الله بن عمرو: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح " أخرجه أبو داود (2 / 170 - 171 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 547 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وصححه الذهبي.
(3) الفتوحات الربانية 3 / 250.
(4) عون المعبود 4 / 366 نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.(21/258)
فَقَال: سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الأَْرْضِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِثْل ذَلِكَ، وَلاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ مِثْل ذَلِكَ. (1)
اسْتِخْدَامُ السُّبْحَةِ فِي عَدَدِ الأَْذْكَارِ:
48 - السُّبْحَةُ كَمَا قَال ابْنُ مَنْظُورٍ هِيَ الْخَرَزَاتُ الَّتِي يَعُدُّ بِهَا الْمُسَبِّحُ تَسْبِيحَهُ قَال: وَهِيَ كَلِمَةٌ مُوَلَّدَةٌ، وَقَدْ قَال: الْمِسْبَحَةُ.
قَال الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ شَمْسُ الْحَقِّ شَارِحُ السُّنَنِ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ حَدِيثَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ السَّابِقِ ذِكْرُهُ: الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ عَدِّ التَّسْبِيحِ بِالنَّوَى وَالْحَصَى، وَكَذَا بِالسُّبْحَةِ لِعَدَمِ الْفَارِقِ، لِتَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ إِنْكَارِهِ، وَالإِْرْشَادُ إِلَى مَا هُوَ أَفْضَل مِنْهُ لاَ يُنَافِي الْجَوَازَ. قَال: وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ، وَلَمْ يُصِبْ مَنْ قَال إِنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ (2) . وَجَرَى صَاحِبُ الْحِرْزِ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ إِلاَّ أَنَّهُ قَال: إِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَنَقَل
__________
(1) حديث: " دخل على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح به " أخرجه أبو داود (2 / 169 - 170 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وقال الذهبي عن راويه " خزيمة " في الميزان (1 / 653 - ط الحلبي) : " لا يعرف ". وألمح إلى روايته لهذا الحديث.
(2) عون المعبود 4 / 367 نشر دار الفكر بالتصوير عن طبعة السلفية بالمدينة.(21/259)
ابْنُ عَلاَّنَ عَنْ شَرْحِ الْمِشْكَاةِ لاِبْنِ حَجَرٍ قَوْلَهُ: فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ نَدْبُ اتِّخَاذِ السُّبْحَةِ، وَزَعْمُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِلاَّ أَنْ يُحْمَل عَلَى تِلْكَ الْكَيْفِيَّاتِ الَّتِي اخْتَرَعَهَا بَعْضُ السُّفَهَاءِ، مِمَّا يُمَحِّضُهَا لِلزِّينَةِ أَوِ الرِّيَاءِ أَوِ اللَّعِبِ (1) . اهـ.
وَرَدَّ ابْنُ عَلاَّنَ الْقَوْل بِأَنَّهَا بِدْعَةٌ بِأَنَّ إِقْرَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ عَلَى الْعَدِّ بِالْحَصَى أَوِ النَّوَى يَنْفِي أَنَّهَا بِدْعَةٌ فَإِنَّ الإِْقْرَارَ هُوَ مِنَ السُّنَّةِ، وَالسُّبْحَةُ فِي مَعْنَى الْعَدِّ بِالْحَصَى، إِذْ لاَ يَخْتَلِفُ الْغَرَضُ مِنْ كَوْنِهَا مَنْظُومَةً - أَيْ مَنْظُومَةً بِخَيْطٍ - أَوْ مَنْثُورَةً. قَال: وَقَدْ أَفْرَدْتُ السُّبْحَةَ بِجُزْءٍ لَطِيفٍ سَمَّيْتُهُ " إِيقَادُ الْمَصَابِيحِ لِمَشْرُوعِيَّةِ اتِّخَاذِ الْمَسَابِيحِ " أَوْرَدْتُ فِيهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الأَْخْبَارِ وَالآْثَارِ وَالاِخْتِلاَفِ فِي تَفَاضُل الاِشْتِغَال بِهَا أَوْ بِعَقْدِ الأَْصَابِعِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْعَقْدَ بِالأَْنَامِل أَفْضَل لاَ سِيَّمَا مَعَ الأَْذْكَارِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، أَمَّا فِي الأَْعْدَادِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي يُلْهِي الاِشْتِغَال بِعَدِّهَا عَنِ التَّوَجُّهِ لِلذِّكْرِ فَالأَْفْضَل اسْتِعْمَال السُّبْحَةِ (2) .
الْحِرْصُ عَلَى جَوَامِعِ الذِّكْرِ:
49 - الْمُرَادُ بِجَوَامِعِ الذِّكْرِ مَا يُقَيِّدُ فِيهِ الذَّاكِرُ لَفْظَ
__________
(1) في جعله اتخاذ السبحة للزينة أو اللعب بدعة نظر، لأن البدعة في الدين واتخاذها للزينة أو للعب أمر دنيوي لا حرج فيه لقوله تعالى: (قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) الآية.
(2) الفتوحات الربانية 1 / 251، 252.(21/259)
الذِّكْرِ بِعَدَدٍ كَبِيرٍ أَوْ مِقْدَارٍ عَظِيمٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الإِْرْشَادِ إِلَى ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الْمُتَقَدِّمُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ جُوَيْرِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَمَا أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَال: مَا زِلْتُ عَلَى الْحَال الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ (1) .
وَنَحْوُ مَا وَرَدَ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلاَل وَجْهِكَ وَعَظِيمِ سُلْطَانِكَ (2) . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى (3) .
__________
(1) حديث جويرية: " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها " أخرجه مسلم (4 / 2090 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك " أخرجه ابن ماجه (2 / 1249 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2 / 261 - ط دار الجنان) : " هذا إسناد فيه مقال، وقدامة بن إبراهيم ذكره ابن حبان في الثقات، وصدقة ابن بشير لم أر من جرحه ولا من وثقه، وبقية رجال الإسناد ثقات ".
(3) حديث: " الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا " أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 289 - ط مؤسسة الرسالة) من حديث أنس، وصححه ابن حبان (الإحسان 2 / 104 - ط دار الكتب العلمية) .(21/260)
قَال الأَْبِيُّ: يَدُل الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ الْجَامِعَ يَحْصُل بِهِ مِنَ الثَّوَابِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِبُّ الْجَوَامِعَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيَدَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ (1) . ثُمَّ قَال: وَالأَْظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْكَثْرَةِ لاَ أَنَّهَا مِثْل كَلِمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَدَدِ؛ لأَِنَّ كَلِمَاتِهِ تَعَالَى غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ.
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَال: عَدَدَ كَذَا، وَزِنَةَ كَذَا كُتِبَ لَهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ، وَفَضْل اللَّهِ يَمُنُّ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. قَال: وَلاَ يُتَّجَهُ هُنَا أَنْ يُقَال إِنَّ مَشَقَّةَ مَنْ قَال هَذَا أَخَفُّ مِنْ مَشَقَّةِ مَنْ كَرَّرَ اللَّفْظَ كَثِيرًا، فَإِنَّ هَذَا بَابٌ مَنَحَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِبَادِ اللَّهِ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ، وَتَكْثِيرًا لأُِجُورِهِمْ دُونَ تَعَبٍ وَلاَ نَصَبٍ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَنَقَل ابْنُ عَلاَّنَ عَنِ الشَّيْخِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ النُّوَيْرِيِّ قَوْلَهُ: قَدْ يَكُونُ الْعَمَل الْقَلِيل أَفْضَل مِنَ الْعَمَل الْكَثِيرِ كَقَصْرِ الصَّلاَةِ فِي السَّفَرِ أَفْضَل مِنَ الإِْتْمَامِ، لَكِنْ لَوْ نَذَرَ إِنْسَانٌ أَنْ يَقُول: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَشْرَ مَرَّاتٍ، فَقَال سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ لاَ يَخْرُجُ
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك " أخرجه أبو داود (2 / 163 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة، وجود إسناده النووي في الأذكار (ص 596 - ط دار ابن كثير) .(21/260)
عَنْ عُهْدَةِ نَذْرِهِ لأَِنَّ الْعَدَدَ هُنَا مَقْصُودٌ. وَجَعَل إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ نَظِيرَ ذَلِكَ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَلْفَ صَلاَةٍ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ صَلاَةً وَاحِدَةً، أَوْ نَذَرَ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَقَرَأَ سُورَةَ الإِْخْلاَصِ (1) .
كِتَابَةُ ذِكْرِ اللَّهِ وَأَحْكَامُ الذِّكْرِ الْمَكْتُوبِ:
50 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ كِتَابَةُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِشَيْءٍ نَجَسٍ أَوْ عَلَى شَيْءٍ نَجَسٍ، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ قَصْدًا لِلإِْهَانَةِ اسْتَحَقَّ الْقَتْل؛ لأَِنَّهُ رِدَّةٌ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا.
وَحَيْثُ كُتِبَ بِنَجَسٍ وَجَبَ غَسْلُهُ بِطَاهِرٍ أَوْ حَرْقُهُ لِصِيَانَتِهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ طَاهِرًا فَتَنَجَّسَ، أَمَّا إِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ مَاءٌ نَجَسٌ أَوْ نَارٌ نَجِسَةٌ فَلاَ يَجُوزُ الْغَسْل وَالتَّحْرِيقُ بِهِمَا وَيُعْدَل إِلَى دَفْنِ الذِّكْرِ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ لاَ تَطَؤُهُ الأَْقْدَامُ. وَلاَ تُكْرَهُ فِي الذِّكْرِ كِتَابَتُهُ فِي السُّتُورِ أَوْ غَيْرِهَا بِغَيْرِ مَسْجِدٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ تُدَاسُ، فَإِنْ كَانَتْ تُدَاسُ كُرِهَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَيَحْرُمُ دَوْسُ الذِّكْرِ. قَالُوا: وَيُكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَى حِيطَانِ الْمَسَاجِدِ ذِكْرٌ أَوْ غَيْرُهُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يُلْهِي الْمُصَلِّي.
وَكَرِهَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ شِرَاءَ ثَوْبٍ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ يُجْلَسُ عَلَيْهِ وَيُدَاسُ (2) ، وَكَرِهَ بَيْعَ
__________
(1) عدة الحصن الحصين ص 240، والفتوحات الربانية 1 / 195 - 199، 3 / 298، وشرح الأبي على صحيح مسلم 7 / 142، 143.
(2) كشاف القناع 1 / 137، ومطالب أولي النهى 1 / 155، 156، 159.(21/261)
الثِّيَابِ الَّتِي عَلَيْهَا ذِكْرُ اللَّهِ لأَِهْل الذِّمَّةِ (1) . وَفِي الْفُرُوعِ: يَحْرُمُ مَسُّ ذِكْرِ اللَّهِ بِنَجَسٍ. وَلاَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ الذِّكْرُ أَوْ مَسُّ مَا فِيهِ ذِكْرٌ بِخِلاَفِ الْقُرْآنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَدَثُ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ لَوْ كَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ (2) .
وَفِي تَعْلِيقِ الذِّكْرِ الْمَكْتُوبِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ وَاقِعٍ خِلاَفٌ. (ر: تَعْوِيذ ف 23) .
الأَْذْكَارُ الَّتِي رَتَّبَهَا الشَّارِعُ:
51 - رَتَّبَ الشَّارِعُ كَثِيرًا مِنَ الأَْذْكَارِ، فِي أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ.
فَمِنْهَا أَذْكَارٌ مُرَتَّبَةٌ بِحَسَبِ الزَّمَانِ كَأَذْكَارِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَالظَّهِيرَةِ وَدُخُول الشَّهْرِ وَرُؤْيَةِ الْهِلاَل.
وَمِنْهَا أَذْكَارٌ بِحَسَبِ الْمَكَانِ.
وَمِنْهَا أَذْكَارٌ فِي الْعِبَادَاتِ، كَأَذْكَارِ الصَّلاَةِ وَمَا قَبْلَهَا، وَأَذْكَارُ الصَّوْمِ وَالإِْفْطَارِ مِنْهُ وَالْحَجِّ. وَمِنْهَا أَذْكَارٌ مُرَتَّبَةٌ لِلأَْفْعَال وَالأَْحْوَال، كَأَذْكَارِ النَّوْمِ وَالاِسْتِيقَاظِ مِنْهُ، وَأَذْكَارِ الْمَلْبَسِ وَالأَْكْل وَالشُّرْبِ وَالذَّبْحِ. وَأَذْكَارِ عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْمُعَاشَرَةِ، وَأَذْكَارِ الْعُطَاسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَأَذْكَارٍ تُقَال عِنْدَ التَّطَيُّرِ وَالتَّشَاؤُمِ، وَعِنْدَ الْكَرْبِ وَالشِّدَّةِ، وَعِنْدَ السَّفَرِ وَالنُّزُول، وَالرُّكُوبِ وَالْعَوْدَةِ، وَأَذْكَارِ
__________
(1) المغني 8 / 535.
(2) مطالب أولي النهى 1 / 155، 156.(21/261)
الْمَجَالِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ أَلَّفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ تَآلِيفَ مَشْهُورَةً. وَيُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا بِالرُّجُوعِ إِلَى مَوَاضِعِهَا فِي هَذِهِ الْمَوْسُوعَةِ أَوْ فِي الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي الأَْذْكَارِ.
أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى الذِّكْرِ:
52 - مَا كَانَ مِنَ الأَْذْكَارِ وَاجِبًا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَيْهِ.
قَال الْقَلْيُوبِيُّ: مَا كَانَ عَلَى مَسْنُونٍ كَالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ الْقُرْآنِ تَجُوزُ الإِْجَارَةُ عَلَيْهَا وَأَخْذُ الأُْجْرَةِ حَيْثُ كَانَ فِي ذَلِكَ كُلْفَةٌ (1) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُ أَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَى الأَْذَانِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ: أَنَّهُ يُكْرَهُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى الأَْذَانِ (2) .
ثَانِيًا: الذِّكْرُ بِمَعْنَى النُّطْقِ بِاسْمِ الشَّخْصِ أَوِ الشَّيْءِ:
53 - وَهُوَ بِمَعْنَى الْقَوْل أَوِ الْحِكَايَةِ.
وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِحَسَبِ الشَّيْءِ الْمَذْكُورِ أَوِ الشَّخْصِ الْمَذْكُورِ، وَبِحَسَبِ مَا يَقُولُهُ عَنْهُ. وَالأَْصْل أَنَّ الذِّكْرَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُبَاحٌ، وَتَعْرِضُ لَهُ
__________
(1) القليوبي 3 / 74.
(2) المغني 1 / 415.(21/262)
الأَْحْكَامُ الأُْخْرَى: فَمِنْهُ مَا يَكُونُ وَاجِبًا كَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِحَقٍّ. فَإِنَّهَا ذِكْرٌ لِلْمَشْهُودِ بِهِ.
وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُسْتَحَبًّا، كَذِكْرِ مَا يَكُونُ فِيهِ الْخَيْرُ، كَإِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَدَلاَلَتِهِمْ عَلَى الْمَعْرُوفِ، وَكَذِكْرِ الْفَاسِقِ الْمُجَاهِرِ بِمَا فِيهِ لِيُعْرَفَ، وَذِكْرِ أَهْل الْبِدَعِ لِئَلاَّ يُغْتَرَّ بِهِمْ.
وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مَكْرُوهًا كَالنُّطْقِ بِأَمْرٍ فِيهِ شُبْهَةُ التَّحْرِيمِ أَوِ الدَّلاَلَةُ عَلَيْهِ.
وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُحَرَّمًا كَالْغِيبَةِ (1) ، وَهِيَ كَمَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، قِيل: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُول؟ قَال: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُول فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ. وَقَدْ يَكُونُ مُكَفِّرًا كَمَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ رَسُولَهُ أَوْ كِتَابَهُ بِاسْتِهْزَاءٍ أَوِ اسْتِخْفَافٍ فَيَسْتَحِقُّ قَائِلُهُ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الرِّدَّةِ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَيُنْتَقَضُ عَهْدُهُ إِنْ كَانَ ذِمِّيًّا. وَانْظُرْ: (غِيبَة، رِدَّة، اسْتِخْفَاف) .
ثَالِثًا: الذِّكْرُ بِمَعْنَى اسْتِحْضَارِ الشَّيْءِ فِي الْقَلْبِ:
54 - وَهُوَ يُقَابِل النِّسْيَانَ. وَالذَّاكِرُ فِي حَال الْمُخَالَفَةِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْ فِعْل الْمُحَرَّمِ مُسْتَحِقٌّ لِلإِْثْمِ، وَتَلْزَمُهُ الأَْحْكَامُ
__________
(1) حديث: " ذكرك أخاك بما يكره " أخرجه مسلم (4 / 2001 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(21/262)
الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ سَوَاءٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ.
أَمَّا النِّسْيَانُ فَهُوَ مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ، وَهُوَ عَدَمُ الاِسْتِحْضَارِ وَقْتَ الْحَاجَةِ. قَال شَارِحُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: النِّسْيَانُ عُذْرٌ فِي حَقِّ الإِْثْمِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ. وَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ مَعَ مُذَكِّرٍ فَلاَ عُذْرَ، كَأَكْل النَّاسِي فِي الصَّلاَةِ مُطْلَقًا إِذْ هَيْئَاتُهَا مُذَكِّرَةٌ، وَصَيْدِ الْمُحْرِمِ نَاسِيًا إِذِ الإِْحْرَامُ مُذَكِّرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُذَكِّرٌ فَيَكُونُ عُذْرًا، كَالأَْكْل فِي نَهَارِ رَمَضَانَ نَاسِيًا، وَسَلاَمِ الْمُصَلِّي فِي الْقَعْدَةِ الأُْولَى نَاسِيًا وَتَرْكِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ نَاسِيًا (1) .
وَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ تَفْصِيل ذَلِكَ وَالْخِلاَفِ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (نِسْيَان) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّذَكُّرِ:
55 - الذِّكْرُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا يَطْرَأُ فِي الْغَالِبِ عَلَى الإِْنْسَانِ دُونَ إِرَادَتِهِ، لَكِنْ قَدْ يَتَكَلَّفُ التَّذَكُّرَ فَيَتَذَكَّرُ، وَمِنْ هُنَا فَقَدْ يَكُونُ مُكَلَّفًا بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَذَكُّرِ نِعَمِهِ لِيُشْكَرَ وَلِيَعْرِفَ الإِْنْسَانُ حَقَّ رَبِّهِ تَعَالَى مِنْ تَوْحِيدِهِ وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، كَمَا قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَل مِنْ
__________
(1) فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 1 / 170.(21/263)
خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَْرْضِ} (1) وَأَمَرَ تَعَالَى بِذِكْرِ الآْخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْهَوْل وَالْحِسَابِ وَنَعِيمِ الْجَنَّةِ وَعَذَابِ النَّارِ وَمَصَارِعِ الظَّالِمِينَ مِمَّنْ سَاقَ ذِكْرَهُمْ فِي كِتَابِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ. (2)
وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآْخِرَةَ (3) . وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِكُل إِنْسَانٍ صَحِيحًا كَانَ أَوْ مَرِيضًا ذِكْرُ الْمَوْتِ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ نَصْبَ عَيْنَيْهِ؛ لأَِنَّهُ أَزْجَرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَأَدْعَى لِلطَّاعَةِ (4) .
رَابِعًا: الذِّكْرُ بِمَعْنَى الصِّيتِ وَالشَّرَفِ:
56 - امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (5) وَامْتَنَّ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ بِقَوْلِهِ: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ
__________
(1) سورة فاطر / 3.
(2) حديث: " أكثروا ذكر هاذم اللذات " أخرجه الترمذي (4 / 553 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة. وقال: " هذا حديث حسن غريب ".
(3) حديث: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور " أخرجه مسلم (3 / 1654 - ط الحلبي) من حديث بريدة، وقوله: (فإنها تذكر الآخرة) أخرجه أحمد (5 / 355 - ط الحلبي) .
(4) نهاية المحتاج 2 / 422، والمغني 2 / 448.
(5) سورة الشرح / 4.(21/263)
تَعْقِلُونَ} (1) وَقَال: {بَل أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} (2) قَال الْقُرْطُبِيُّ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا الشَّرَفُ (3) . وَأَخْبَرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَقَال: {وَاجْعَل لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآْخِرِينَ} (4) قَال مُجَاهِدٌ: هُوَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، وَقَال ابْنُ عَطِيَّةَ: هُوَ الثَّنَاءُ وَخُلْدُ الْمَكَانَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ دَعَوْتَهُ فَكُل أُمَّةٍ تَتَمَسَّكُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَمِنْ هُنَا رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُل أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ صَالِحًا، وَيُرَى فِي عَمَل الصَّالِحِينَ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَل لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (5) أَيْ حُبًّا فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَثَنَاءً حَسَنًا (6) . فَنَبَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَاجْعَل لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآْخِرِينَ} (7) عَلَى اسْتِحْبَابِ اكْتِسَابِ مَا يُورِثُ الذِّكْرَ الْجَمِيل.
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَال الْمُحَقِّقُونَ: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الْعَمَل الصَّالِحِ الَّذِي يُكْسِبُ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ.
__________
(1) سورة الأنبياء / 10.
(2) سورة المؤمنون / 71.
(3) تفسير القرطبي 11 / 273.
(4) سورة الشعراء / 84.
(5) سورة مريم / 96.
(6) تفسير القرطبي 13 / 113.
(7) سورة الشعراء / 84.(21/264)
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُثْنِي عَلَى مَنْ تَمَيَّزَ بِفِعْلٍ أَوْ فَضْلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَيَحْمَدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانُوا يُظْهِرُونَ سُرُورَهُمْ بِذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: إِنِّي أَكِل قَوْمًا إِلَى مَا جَعَل اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْغِنَى مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ قَال عَمْرٌو: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُمْرَ النَّعَمِ. (1) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُلِئَ عَمَّارٌ إِيمَانًا إِلَى مُشَاشِهِ (2) .
لَكِنْ عَلَى الْمُؤْمِنِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يَتَجَنَّبَ أُمُورًا:
الأَْوَّل: لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبَ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ بِمَا لَيْسَ حَقًّا وَمَا لَمْ يَفْعَل، بِأَنْ يُرَائِيَ فَيُظْهِرَ لِلنَّاسِ مَا لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْفَضَائِل، أَوْ يَدَّعِيَ بِأَفْعَال خَيْرٍ لَمْ يَفْعَلْهَا، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} (3) وَقَوْلُهُ: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا
__________
(1) حديث: " إني أكل قومًا إلى ما جعل الله في قلوبهم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 250 - ط السلفية) من حديث عمرو بن تغلب.
(2) حديث: " ملئ عمار إيمانًا إلى مشاشه " أخرجه النسائي (8 / 111 - ط المكتبة التجارية) ، والحاكم (3 / 392 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. والمشاش رؤوس العظام اللينة التي يمكن مضغها. ومفرده مشاشة وهو ما أشرف من عظم المنكب. (لسان العرب والنهاية لابن الأثير) .
(3) سورة آل عمران / 188.(21/264)
لاَ تَفْعَلُونَ} (1) نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَقُولُونَ جَاهَدْنَا وَأَبْلَيْنَا وَلَمْ يُجَاهِدُوا، وَقِيل فِي تَفْسِيرِهَا غَيْرُ ذَلِكَ (2) .
الثَّانِي: أَنْ لاَ يَكُونَ قَصْدُهُ مِنَ الْعَمَل مُجَرَّدَ الثَّنَاءِ وَالذِّكْرِ الْجَمِيل، بَل يَعْمَل الْعَمَل الصَّالِحَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَسُرُّهُ أَنْ يَظْهَرَ لِيُقْتَدَى بِهِ فِيهِ، أَوْ يَعْلَمَ مَكَانَهُ مِنَ الْفَضْل سُرُورًا بِالْخَيْرِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: سُئِل مَالِكٌ عَنِ الرَّجُل يُحِبُّ أَنْ يَلْقَى فِي طَرِيقِهِ الْمَجْدَ، وَيَكْرَهُ أَنْ يَلْقَى فِي طَرِيقِهِ السُّوءَ. فَأَمَّا رَبِيعَةُ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَال: إِذَا كَانَ أَوَّل أَمْرِهِ ذَلِكَ وَأَصْلُهُ لِلَّهِ فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} (3) .
وَقَال تَعَالَى: {وَاجْعَل لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآْخِرِينَ} (4) قَال مَالِكٌ: فَأَيُّ شَيْءٍ هَذَا إِلاَّ هَذَا؟ فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ لاَ يَمْلِكُهُ، هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَمْنَعَهُ الْعَمَل (5) .
وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ مَنْ صَلَّى صَلاَةً لِيَرَاهَا النَّاسُ وَيَرَوْهُ فِيهَا فَيَشْهَدُوا لَهُ بِالإِْيمَانِ، أَوْ أَرَادَ طَلَبَ الْمَنْزِلَةِ وَالظُّهُورِ لِقَبُول الشَّهَادَةِ وَجَوَازِ الإِْمَامَةِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِالرِّيَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا الرِّيَاءُ الْمَعْصِيَةُ: أَنْ يُظْهِرَهَا صَيْدًا لِلنَّاسِ وَطَرِيقًا
__________
(1) سورة الصف / 3.
(2) تفسير القرطبي 18 / 78.
(3) سورة طه / 39.
(4) سورة الشعراء / 84.
(5) المقدمات لابن رشد 1 / 30.(21/265)
لِلأَْكْل (1) . وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَنْ طَلَبَ بِالْعِبَادَةِ فَضْل اللَّهِ تَعَالَى فِي الآْخِرَةِ بِدُخُول جَنَّتِهِ وَالْخَلاَصِ مِنْ نَارِهِ لاَ يَكُونُ فِعْلُهُ مُنَافِيًا لِلإِْخْلاَصِ.
فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ مِنَ الْعَمَل الصَّالِحِ مُجَرَّدَ الْعُلُوِّ فِي الأَْرْضِ وَتَحْصِيل الْمَصَالِحِ الْعَاجِلَةِ وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الأَْوَّل وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ مُحْبِطًا لأَِجْرِهِ، بَل كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا وَفِيهِ فَيَقُول اللَّهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأََنْ يُقَال جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيل، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ (2) وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا فَعَل الْعِبَادَةَ لِطَلَبِ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ فَهُوَ الرِّيَاءُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَهُوَ الشِّرْكُ الْخَفِيُّ (3) .
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَكُونُ الدِّينُ مَقْصُودَهُ وَالدُّنْيَا وَسِيلَةً، وَبَيْنَ مَنْ تَكُونُ الدُّنْيَا مَقْصُودَهُ وَالدِّينُ وَسِيلَةً، وَالأَْشْبَهُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ لَهُ فِي الآْخِرَةِ خَلاَقٌ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ (4) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّة) .
__________
(1) تفسير القرطبي 5 / 423، وانظر الموافقات 2 / 402.
(2) حديث: " ولكنك قاتلت لأن يقال جريء " أخرجه مسلم (3 / 1514 - ط الحلبي) ، من حديث أبي هريرة.
(3) تفسير القرطبي 5 / 181، وفتح الباري 11 / 136، والداء والدواء لابن القيم ص 191، والفروق للقرافي 3 / 12.
(4) مجموع الفتاوى 26 / 20.(21/265)
ذُكُورَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الذُّكُورَةُ لُغَةً خِلاَفُ الأُْنُوثَةِ، وَالتَّذْكِيرُ خِلاَفُ التَّأْنِيثِ، وَجَمْعُ الذَّكَرِ ذُكُورٌ، وَذُكُورَةٌ، وَذُكْرَانٌ، وَذِكَارَةٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} (1) .
وَمَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ هُوَ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - الْخُنُوثَةُ: حَالَةٌ بَيْنَ الذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: خُنْثَى) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالذُّكُورَةِ:
تَنَاوَل الْفُقَهَاءُ الأَْحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالذُّكُورَةِ فِي عِدَّةِ أَبْوَابٍ مِنْهَا:
__________
(1) سورة الشورى / 42.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، وغريب القرآن للأصفهاني مادة: (ذكر) .(21/266)
فِي الصَّلاَةِ:
أ - الإِْمَامَةُ:
3 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الذُّكُورَةَ شَرْطٌ لإِِمَامَةِ الصَّلاَةِ، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ تَؤُمَّ الْمَرْأَةُ رَجُلاً وَلاَ امْرَأَةً مِثْلَهَا، سَوَاءٌ كَانَتِ الصَّلاَةُ فَرِيضَةً أَوْ نَافِلَةً، وَسَوَاءٌ عُدِمَتِ الرِّجَال أَوْ وُجِدَتْ لِحَدِيثِ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً (1) .
وَتَبْطُل صَلاَةُ الْمَأْمُومِ دُونَ الْمَرْأَةِ الَّتِي صَلَّتْ إِمَامًا فَتَصِحُّ صَلاَتُهَا.
وَوَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ - مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ - فِي مَنْعِ إِمَامَتِهَا لِلرِّجَال، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: خَطَبَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: لاَ تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلاً (2) ، إِلاَّ أَنَّهُمْ خَالَفُوا الْمَالِكِيَّةَ فِي مَسْأَلَةِ إِمَامَةِ الْمَرْأَةِ لِلنِّسَاءِ فَيَرَوْنَ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ، وَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ كَرَاهَةَ إِمَامَتِهَا لِلنِّسَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَمَّتْ نِسْوَةً فِي صَلاَةِ الْعَصْرِ وَقَامَتْ وَسْطَهُنَّ وَكَذَا أُمُّ سَلَمَةَ. كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْحَنَابِلَةِ يَرَوْنَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَؤُمَّ الْمَرْأَةُ الرِّجَال فِي صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ وَتَكُونُ وَرَاءَهُمْ؛ لِمَا رُوِيَ
__________
(1) حديث: " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 53 - ط السلفية) من حديث أبي بكرة.
(2) حديث جابر: " لا تؤمنَّ امرأة رجلاً " أخرجه ابن ماجه (1 / 343 - ط الحلبي) وضعفه النووي في المجموع (4 / 255 - ط المنيرية) .(21/266)
عَنْ أُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَل لَهَا مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ لَهَا وَأَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْل دَارِهَا (1) .
وَذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ إِلَى صِحَّةِ صَلاَةِ الرِّجَال وَرَاءَ الْمَرْأَةِ (2) .
ب - صَلاَةُ الْجُمُعَةِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ الذُّكُورَةُ الْمُحَقَّقَةُ، فَلاَ تَجِبُ عَلَى امْرَأَةٍ وَلاَ عَلَى خُنْثَى مُشْكِلٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلاَّ أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ مَرِيضٌ، (3) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلاَّ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا، فَمَنِ اسْتَغْنَى بِلَهْوٍ أَوْ تِجَارَةٍ اسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (4) .
__________
(1) حديث أم ورقة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل لها مؤذنًا. . . " أخرجه أبو داود (1 / 397 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وصححه ابن خزيمة (3 / 89 - ط المكتب الإسلامي) .
(2) المجموع للإمام النووي 4 / 254، ومواهب الجليل 2 / 92، وجواهر الإكليل 1 / 78، والفواكه الدواني 1 / 238، والبدائع 1 / 157، والمغني لابن قدامة 2 / 198.
(3) حديث: " الجمعة حق واجب على كل مسلم " أخرجه أبو داود (1 / 644 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 288 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث طارق بن شهاب، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) حديث: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه. . . . . " أخرجه الدارقطني (2 / 3 - ط دار المحاسن) من حديث جابر بن عبد الله، وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (2 / 65 - ط شركة الطباعة الفنية) .(21/267)
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ حَضَرَتْ وَصَلَّتِ الْجُمُعَةَ صَحَّتْ مِنْهَا؛ لأَِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُصَلِّينَ خَلْفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ النِّسَاءُ فِي الْعَدَدِ الْمُشْتَرَطِ لاِنْعِقَادِ الْجُمُعَةِ عَلَى اخْتِلاَفِ الأَْقْوَال فِي الْعَدَدِ الْمُعْتَبَرِ. (1)
فِي النِّكَاحِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَتَوَلَّى عَقْدَ النِّكَاحِ. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ - وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي الْوَلِيِّ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تَمْلِكُ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا وَلاَ غَيْرِهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، شَرِيفَةً أَوْ دَنِيئَةً، رَشِيدَةً أَوْ سَفِيهَةً، حُرَّةً أَوْ أَمَةً فَإِنْ فَعَلَتْ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ (2) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ
__________
(1) البدائع (1 / 258) ، والفواكه الدواني (1 / 309) ، ومغني المحتاج (1 / 276) ، والمغني لابن قدامة (2 / 327) .
(2) حديث: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " أخرجه الدارقطني (3 / 227 - ط دار المحاسن) من حديث عائشة، وفي إسناده مقال، ولكن له طرق يقوي بعضها بعضًا، ذكر بعضها الدارقطني، ويراجع نيل الأوطار للشوكاني (6 / 259 - ط دار الجيل) .(21/267)
فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ. (1)
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ - وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الرَّشِيدَةِ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا وَنَفْسَ غَيْرِهَا، وَأَنْ تُوَكِّل فِي النِّكَاحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} ، (2) وَلأَِنَّ التَّزْوِيجَ خَالِصُ حَقِّهَا وَهِيَ مِنْ أَهْل الْمُبَاشَرَةِ، كَبَيْعِهَا وَبَاقِي تَصَرُّفَاتِهَا الْمَالِيَّةِ. (3)
فِي الْجِهَادِ:
6 - اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ الذُّكُورَةَ الْمُحَقَّقَةَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْجِهَادِ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَلاَ يَجِبُ جِهَادٌ عَلَى امْرَأَةٍ، وَلاَ عَلَى خُنْثَى مُشْكِلٍ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ هَل عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لاَ قِتَال فِيهِ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ.} (4)
__________
(1) حديث: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها. . . " أخرجه الترمذي (3 / 299 - ط الحلبي) من حديث عائشة، وقال: " حديث حسن ".
(2) سورة البقرة / 232.
(3) البدائع (2 / 247) ، والقوانين الفقهية (ص202) ، والجمل على شرح المنهج (4 / 138) ، والمغني لابن قدامة (7 / 449) .
(4) حديث عائشة: " هل على النساء جهاد. . . . . . . " أخرجه ابن ماجةماجه (2 / 968 - ط الحلبي) ، وإسناده صحيح.(21/268)
وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْل الْقِتَال لِضَعْفِهَا، وَبِنْيَتُهَا لاَ تَحْتَمِل الْحَرْبَ عَادَةً، وَلِذَلِكَ لاَ يُسْهَمُ لَهَا مِنَ الْغَنِيمَةِ فِي حَالَةِ حُضُورِهَا. أَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِل فَلأَِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ كَوْنُهُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ مَعَ الشَّكِّ فِي هَذَا الشَّرْطِ.
وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ النَّفِيرُ عَامًّا - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ - فَأَمَّا إِذَا عَمَّ النَّفِيرُ بِأَنْ هَجَمَ الْعَدُوُّ عَلَى بَلَدٍ فَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ يُفْتَرَضُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَيَخْرُجُ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوْلاَهُ، وَالْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا وَالْوَلَدُ بِغَيْرِ إِذْنِ وَالِدَيْهِ. (1)
فِي الْجِزْيَةِ:
7 - قَال الْفُقَهَاءُ: لاَ تُضْرَبُ الْجِزْيَةُ إِلاَّ عَلَى الرِّجَال فَلاَ جِزْيَةَ عَلَى امْرَأَةٍ، وَلاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ. (2) . لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَْجْنَادِ أَنِ اضْرِبُوا الْجِزْيَةَ وَلاَ تَضْرِبُوهَا عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. (3)
__________
(1) البدائع (7 / 98) ، والفواكه الدواني (1 / 463) ، ومغني المحتاج (4 / 216) ، والمغني لابن قدامة (8 / 347) .
(2) البدائع (7 / 111) ، ومغني المحتاج (4 / 245) ، والمغني لابن قدامة (8 / 507) ، والقوانين الفقهية (ص 161) .
(3) أثر عمر: " ألا يضربوا الجزية على النساء ولا على الصبيان " أخرجه عبد الرزاق في المصنف (10 / 331 - ط المجلس العلمي) ، والبيهقي (9 / 195 - ط دائرة المعارف العثمانية) .(21/268)
فِي الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ:
أ - الإِْمَامَةُ الْعُظْمَى:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الإِْمَامِ الأَْعْظَمِ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا فَلاَ تَصِحُّ وِلاَيَةُ امْرَأَةٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً (1) . وَلِكَيْ يَتَمَكَّنَ مِنْ مُخَالَطَةِ الرِّجَال وَيَتَفَرَّغَ لِتَصْرِيفِ شُئُونِ الْحُكْمِ؛ وَلأَِنَّ هَذَا الْمَنْصِبَ تُنَاطُ بِهِ أَعْمَالٌ خَطِيرَةٌ، وَأَعْبَاءٌ جَسِيمَةٌ تُلاَئِمُ الذُّكُورَةَ. (2)
ب - الْقَضَاءُ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي الْقَضَاءِ. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي الْقَاضِي، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ تَتَوَلَّى الْمَرْأَةُ وَظِيفَةَ الْقَضَاءِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً (3) . وَلَمْ يُوَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ وَلاَ مَنْ بَعْدَهُمُ امْرَأَةً قَضَاءً وَلاَ وِلاَيَةَ بَلَدٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمْ يَخْل مِنْهُ جَمِيعُ الزَّمَانِ غَالِبًا.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَاضِيَةً فِي
__________
(1) حديث: " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " سبق تخريجه (ف / 3) .
(2) حاشية ابن عابدين (1 / 368) ، والقوانين الفقهية (ص22) ، ومغني المحتاج (4 / 130) ، وكشاف القناع (6 / 159) .
(3) حديث: " لن يفلح قوم ولوا. . . . " سبق تخريجه (ف / 3) .(21/269)
غَيْرِ الْحُدُودِ؛ لأَِنَّ شَهَادَتَهَا تُقْبَل فِي ذَلِكَ، وَأَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ - عِنْدَهُمْ - تَدُورُ مَعَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ فَمَا يُقْبَل شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ فِيهِ يَجُوزُ أَنْ تَتَوَلَّى الْقَضَاءَ فِيهِ، وَمَا لاَ فَلاَ. قَال الْكَاسَانِيُّ: أَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ مِنْ شُرُوطِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، بَل يَجُوزُ أَنْ تَتَوَلَّى الْمَرْأَةُ الْقَضَاءَ فِيمَا لاَ حُدُودَ فِيهِ وَلاَ قِصَاصَ. وَذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ إِلَى جَوَازِ تَوَلِّي الْمَرْأَةِ الْقَضَاءَ مُطْلَقًا؛ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُفْتِيَةً، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَاضِيَةً. (1)
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: قَضَاء.
10 - وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ أُخْرَى تَخْتَصُّ بِالذُّكُورَةِ مِنْهَا: فِي الْعَقِيقَةِ، وَالْمِيرَاثِ، وَتَطْهِيرِ بَوْل الرَّضِيعِ، وَفِي الْعَوْرَةِ، وَلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ، وَالشَّهَادَةِ فِي الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ، وَفِي الشَّهَادَاتِ عَامَّةً، وَفِي زَكَاةِ الأَْنْعَامِ، وَفِي الدِّيَاتِ. وَتُنْظَرُ هَذِهِ كُلُّهَا وَغَيْرُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (أُنُوثَة) .
__________
(1) البدائع (7 / 3) ، والقوانين الفقهية (ص299) ، ومغني المحتاج (4 / 375) ، والمغني لابن قدامة (9 / 39) .(21/269)
ذَمٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الذَّمُّ فِي اللُّغَةِ: خِلاَفُ الْمَدْحِ، قَال فِي الْمِصْبَاحِ: ذَمَمْتُهُ أَذُمُّهُ ذَمًّا خِلاَفُ مَدَحْتُهُ فَهُوَ ذَمِيمٌ وَمَذْمُومٌ أَيْ: غَيْرُ مَحْمُودٍ، وَالذِّمَامُ بِالْكَسْرِ مَا يُذَمُّ الرَّجُل عَلَى إِضَاعَتِهِ مِنَ الْعَهْدِ، وَالْمَذَمَّةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتُفْتَحُ الذَّال وَتُكْسَرُ مِثْلُهُ، وَالذَّمَامُ أَيْضًا: الْحُرْمَةُ. (1)
وَالذَّمُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ خِلاَفَ الْمَدْحِ، وَإِلْحَاقَ الأَْذَى بِالْغَيْرِ، كَأَنْ يَقْذِفَهُ أَوْ يَسُبَّهُ أَوْ يُعَيِّرَهُ بِحِرْفَتِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ كَالْقَذْفِ، أَوِ التَّعْزِيرِ كَغَيْرِ الْقَذْفِ مِنَ الأَْلْفَاظِ الَّتِي لاَ حَدَّ عَلَى قَائِلِهَا وَالَّتِي مَحَلُّهَا مُصْطَلَحُ: (قَذْف) وَمُصْطَلَحُ: (تَعْزِير) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الشَّتْمُ:
2 - الشَّتْمُ فِي اللُّغَةِ: السَّبُّ، وَالاِسْمُ الشَّتِيمَةُ.
__________
(1) المصباح، والمغرب مادة (ذمم) .(21/270)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يُتَكَلَّمَ أَمَامَ إِنْسَانٍ بِمَا فِيهِ أَوْ بِمَا لَيْسَ فِيهِ (1) .
ب - الْبُهْتَانُ:
3 - الْبُهْتَانُ فِي اللُّغَةِ: الْقَذْفُ بِالْبَاطِل وَافْتِرَاءُ الْكَذِبِ، وَهُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ، فِعْلُهُ بَهَتَ مِنْ بَابِ نَفَعَ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَتَكَلَّمَ خَلْفَ إِنْسَانٍ مَسْتُورٍ بِمَا لَيْسَ فِيهِ (2) .
ج - الْغِيبَةُ:
4 - الْغِيبَةُ فِي اللُّغَةِ: ذِكْرُ الْغَيْرِ بِمَا يَكْرَهُ مِنَ الْعُيُوبِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَتَكَلَّمَ خَلْفَ إِنْسَانٍ بِمَا هُوَ فِيهِ (3) .
د - الْقَذْفُ:
5 - مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ، وَالرَّمْيُ بِالْفَاحِشَةِ، وَالْقَذِيفَةُ الْقَبِيحَةُ وَهِيَ الشَّتْمُ.
وَفِي الشَّرْعِ: رَمْيٌ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا صَرِيحًا وَهُوَ الْقَذْفُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ. (4)
__________
(1) الصحاح مادة: " (شتم ") ، والكليات، والتعريفات للجرجاني.
(2) المصباح، مادة: (بهت) ، والكليات، والتعريفات.
(3) المصباح، مادة: (غيب) ، والكليات، والتعريفات.
(4) المصباح، مادة: (قذف) ، تبيين الحقائق (3 / 199 - ط بولاق) ، الدسوقي (4 / 324 ط الفكر) ، حاشية القليوبي (4 / 184 - ط الحلبي) ، وكشاف القناع (6 / 104 - ط النصر) .(21/270)
هـ - اللَّعْنُ:
6 - مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الطَّرْدُ وَالإِْبْعَادُ عَلَى سَبِيل السُّخْطِ، وَذَلِكَ مِنَ اللَّهِ فِي الآْخِرَةِ عُقُوبَةٌ، وَفِي الدُّنْيَا انْقِطَاعٌ مِنْ قَبُول رَحْمَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَمِنَ الإِْنْسَانِ دُعَاءٌ عَلَى غَيْرِهِ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ الاِصْطِلاَحُ الْفِقْهِيُّ عَنْ ذَلِكَ.
و الْمَدْحُ:
7 - وَهُوَ خِلاَفُ الذَّمِّ وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الثَّنَاءُ عَلَى الْغَيْرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ تِلْكَ الصِّفَاتُ خِلْقِيَّةً أَمِ اخْتِيَارِيَّةً وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيل الاِخْتِيَارِيِّ قَصْدًا. (2)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أ - ذَمُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَذَمُّ الْمُؤْمِنِينَ:
8 - التَّجَرُّؤُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَيِّ لَوْنٍ مِنْ أَلْوَانِ الإِْيذَاءِ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الإِْيذَاءِ حُرْمَةً بَل هُوَ كُفْرٌ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا
__________
(1) مفردان الراغب الأصفهاني، مادة: (لعن) .
(2) المصباح، مادة: (مدح) ، التعريفات.(21/271)
مُهِينًا} . (1) وَذَمُّ الْمُؤْمِنِ أَوِ الْمُؤْمِنَةِ وَإِيذَاؤُهُمَا بِالأَْقْوَال الْقَبِيحَةِ، كَالْبُهْتَانِ، وَالتَّكْذِيبِ الْفَاحِشِ الْمُخْتَلَقِ، وَالتَّعْيِيرِ بِحَسَبٍ مَذْمُومٍ، أَوْ حِرْفَةٍ مَذْمُومَةٍ، أَوْ بِشَيْءٍ يَثْقُل عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا سَمِعَهُ حَرَامٌ فِي الْجُمْلَةِ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: بَل هُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} . (2) وَإِيذَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ مِنْهُ مَا يَكُونُ بِحَقٍّ، كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِغَيْرِ حَقٍّ، كَالْغِيبَةِ وَالْقَذْفِ وَالْكَذِبِ وَغَيْرِهِ. (3)
9 - وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَهَى عَنْ أَنْ يَسْخَرَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٌ مِنِ امْرَأَةٍ، وَنَهَى عَنِ اللَّمْزِ أَيِ الْعَيْبِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْيَدِ، أَمْ بِالْعَيْنِ، أَمْ بِاللِّسَانِ، أَمْ بِالإِْشَارَةِ، وَنَهَى عَنِ التَّنَابُزِ بِالأَْلْقَابِ الَّتِي تُغْضِبُ مَنْ لُقِّبَ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَْلْقَابِ} . (4)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ يَنْبَغِي مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ أَلاَّ يَجْتَرِئَ أَحَدٌ عَلَى الاِسْتِهْزَاءِ عَلَى مَنْ
__________
(1) سورة الأحزاب / 57.
(2) سورة الأحزاب / 58.
(3) تفسير القرطبي (14 / 240 - ط الثانية) ، روح المعاني (22 / 87 - 88 - ط المنيرية) .
(4) سورة الحجرات / 11.(21/271)
يَقْتَحِمُهُ بِعَيْنِهِ إِذَا رَآهُ رَثَّ الْحَال أَوْ ذَا عَاهَةٍ فِي بَدَنِهِ، أَوْ غَيْرَ لَبِقٍ فِي مُحَادَثَتِهِ، فَلَعَلَّهُ أَخْلَصُ ضَمِيرًا وَأَنْقَى قَلْبًا مِمَّنْ هُوَ عَلَى ضِدِّ صِفَتِهِ، فَيَظْلِمُ نَفْسَهُ بِتَحْقِيرِ مَنْ وَقَّرَهُ اللَّهُ، وَالاِسْتِهْزَاءُ بِمَنْ عَظَّمَهُ اللَّهُ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ تَلْقِيبُ الشَّخْصِ بِمَا يَغْلِبُ فِيهِ الاِسْتِعْمَال وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ كَسْبٌ وَلاَ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الأُْمَّةِ كَالأَْعْرَجِ وَالأَْحْدَبِ، وَقَدْ سُئِل عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ الرَّجُل يَقُول: حُمَيْدُ الطَّوِيل، وَسُلَيْمَانُ الأَْعْمَشُ، وَحُمَيْدٌ الأَْعْرَجُ، وَمَرْوَانُ الأَْصْغَرُ، فَقَال: إِذَا أَرَدْتَ صِفَتَهُ وَلَمْ تُرِدْ عَيْبَهُ فَلاَ بَأْسَ بِهِ. (1)
10 - وَأَمَّا سَبُّ الْمُسْلِمِ بِشَتْمِهِ وَالتَّكَلُّمِ فِي عِرْضِهِ بِمَا يَعِيبُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَحَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الأُْمَّةِ وَفَاعِلُهُ فَاسِقٌ، وَأَمَّا قِتَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلاَ يَكْفُرُ بِهِ عِنْدَ أَهْل الْحَقِّ كُفْرًا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْمِلَّةِ إِلاَّ إِذَا اسْتَحَلَّهُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ (2) .
ب - ذَمُّ الْمُبْتَدَعِينَ وَبِدَعِهِمْ:
11 - ذَمُّ الْمُبْتَدَعِينَ وَالْبِدَعِ مَطْلُوبٌ وَارِدٌ فِي الشَّرْعِ يَدُل عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
__________
(1) تفسير القرطبي (16 / 329 - 330 - ط الأولى) .
(2) حديث: " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 464 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 81 - ط الحلبي) .(21/272)
قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ - وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مَا لَيْسَ فِيهِ - فَهُوَ رَدٌّ. (1)
وَمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ عَمِل عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ. (2)
ج - ذَمُّ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ:
12 - ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَمَّ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَمِنْ تِلْكَ الآْيَاتِ قَوْله تَعَالَى فِي ذَمِّ الْكُفَّارِ {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} . (3)
وَالْمَعْنَى كَمَا فِي رُوحِ الْمَعَانِي أَنَّ شَرَّ مَنْ يَدِبُّ عَلَى الأَْرْضِ أَوْ شَرَّ الْبَهَائِمِ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ فِي حُكْمِهِ وَقَضَائِهِ الصُّمُّ الَّذِينَ لاَ يَسْمَعُونَ الْحَقَّ، الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَنْطِقُونَ بِهِ، وَوُصِفُوا بِذَلِكَ؛ لأَِنَّ مَا خُلِقَ لَهُ الْحَاسَّتَانِ سَمَاعُ الْحَقِّ وَالنُّطْقُ بِهِ، وَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ صَارُوا كَأَنَّهُمْ فَاقِدُونَ لَهُمَا رَأْسًا. ثُمَّ وُصِفُوا بِعَدَمِ التَّعَقُّل فِي قَوْله تَعَالَى {الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} ، تَحْقِيقًا
__________
(1) حديث: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 301 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1343 - ط الحلبي) ، واللفظ لمسلم، والرواية الأخرى للبخاري.
(2) حديث: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا. . . . . . " أخرجه مسلم (3 / 1344 - ط الحلبي) .
(3) سورة الأنفال / 22.(21/272)
لِكَمَال سُوءِ حَالِهِمْ، فَإِنَّ الأَْصَمَّ الأَْبْكَمَ إِذَا كَانَ لَهُ عَقْلٌ رُبَّمَا يَفْهَمُ بَعْضَ الأُْمُورِ وَيُفْهِمُهُ غَيْرَهُ وَيَهْتَدِي إِلَى بَعْضِ مَطَالِبِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ فَاقِدًا لِلْعَقْل أَيْضًا فَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الشَّرِّيَّةِ وَسُوءِ الْحَال وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ كَوْنُهُمْ شَرَّ الدَّوَابِّ حَيْثُ أَبْطَلُوا مَا بِهِ يَمْتَازُونَ عَنْهَا. (1)
وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَقَدْ ذَمَّهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبْكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ. . .} (2)
13 - هَذَا وَأَمَّا سَبُّ الْكُفَّارِ وَمَعْبُودَاتِهِمْ فَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} . (3) فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ سَبِّ أَوْثَانِ الْكُفَّارِ وَأَصْنَامِهِمْ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا سَبُّوهَا ازْدَادَ هَؤُلاَءِ الْكُفَّارُ كُفْرًا وَنُفُورًا فَيَسُبُّوا الْمُؤْمِنِينَ بِمِثْل مَا سَبُّوهُمْ بِهِ، وَحُكْمُ هَذِهِ الآْيَةِ كَمَا قَال الْعُلَمَاءُ بَاقٍ فِي هَذِهِ الأُْمَّةِ عَلَى كُل حَالٍ، فَمَتَى كَانَ الْكَافِرُ فِي مَنَعَةٍ وَخِيفَ أَنْ يَسُبَّ الإِْسْلاَمَ أَوِ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَوِ اللَّهَ عَزَّ وَجَل، فَلاَ يَحِل لِمُسْلِمٍ أَنْ يَسُبَّ صُلْبَانَهُمْ وَلاَ دِينَهُمْ وَلاَ
__________
(1) روح المعاني (9 / 188 - 189 - ط المنيرية) .
(2) سورة المنافقين الآية / 4.
(3) سورة الأنعام / 108.(21/273)
كَنَائِسَهُمْ، وَلاَ يَتَعَرَّضَ إِلَى مَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَعْثِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ (1) .
د - ذَمُّ الْمَعَاصِي وَمُرْتَكِبِيهَا:
14 - ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَعَاصِيَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الآْيَاتِ وَحَذَّرَ مِنْهَا؛ لأَِنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلْهَلاَكِ وَمُبْعِدَةٌ عَنْ دَارِ السَّلاَمِ، وَتُلْحِقُ بِمُرْتَكِبِيهَا الْخِزْيَ وَالْهَوَانَ وَالذُّل. وَقَدْ وَرَدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَعْنُ الظَّالِمِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَلَعْنُ أَصْحَابِ السَّبْتِ، وَلَعْنُ مَنْ نَقَضَ مِيثَاقَهُ، وَلَعْنُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} ، (2) وَقَال تَعَالَى: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} . (3) وَتُنْظَرُ سَائِرُ أَحْكَامِ الذَّمِّ فِي مُصْطَلَحِ: (سَبّ) .
ذِمِّيٌّ
انْظُرْ: أَهْل الذِّمَّةِ
ذَنْبٌ
انْظُرْ: تَوْبَة
__________
(1) تفسير القرطبي (7 / 61 - ط الأولى) .
(2) سورة الأحزاب / 64.
(3) سورة النساء / 47.(21/273)
ذِمَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الذِّمَّةُ فِي اللُّغَةِ تُفَسَّرُ بِالْعَهْدِ وَبِالأَْمَانِ كَتَسْمِيَةِ الْمُعَاهَدِ بِالذِّمِّيِّ، وَفُسِّرَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ (1) بِالأَْمَانِ، وَالذِّمَّةُ أَيْضًا الضَّمَانُ، فَإِذَا قُلْتَ فِي ذِمَّتِي كَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى فِي ضَمَانِي، وَتُجْمَعُ عَلَى ذِمَمٍ، كَسِدْرَةٍ وَسِدَرٍ.
وَأَمَّا الذِّمَّةُ فِي الشَّرْعِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهَا كَمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا وَصْفًا، وَعَرَّفَهَا: بِأَنَّهَا وَصْفٌ يَصِيرُ الشَّخْصُ بِهِ أَهْلاً لِلإِْيجَابِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَبِي زَيْدٍ فِي التَّقْوِيمِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّمَّةِ الْعَقْل، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا ذَاتًا، وَهُوَ اخْتِيَارُ فَخْرِ الإِْسْلاَمِ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، وَلِهَذَا عَرَّفَهَا بِأَنَّهَا نَفْسٌ لَهَا عَهْدٌ، فَإِنَّ الإِْنْسَانَ يُولَدُ وَلَهُ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ لِلْوُجُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَمِلْكُ
__________
(1) حديث: " ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 42 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 998 - ط الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب.(21/274)
النِّكَاحِ، وَيَلْزَمُهُ عُشْرُ أَرْضِهِ وَخَرَاجُهَا بِالإِْجْمَاعِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأَْحْكَامِ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَهَا الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى الْعَهْدِ، وَاسْتَعْمَلَهَا بَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ بِمَعْنَى أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَجَاءَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّ الذِّمَّةَ تُطْلَقُ عَلَى مَحَل الاِلْتِزَامِ كَقَوْلِهِمْ: ثَبَتَ فِي ذِمَّتِي، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَقُول: هِيَ مَحَل الضَّمَانِ وَالْوُجُوبِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُول: هِيَ مَعْنًى يَصِيرُ بِسَبَبِهِ الآْدَمِيُّ عَلَى الْخُصُوصِ أَهْلاً لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِلْتِزَامُ:
2 - أَصْل الاِلْتِزَامِ اللُّزُومُ، وَمَعْنَى اللُّزُومِ فِي اللُّغَةِ الثُّبُوتُ وَالدَّوَامُ، يُقَال لَزِمَ الشَّيْءُ يَلْزَمُ لُزُومًا أَيْ ثَبَتَ وَدَامَ، وَلَزِمَهُ الْمَال وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَزِمَهُ: وَجَبَ حُكْمُهُ، وَأَلْزَمْتُهُ الْمَال وَالْعَمَل فَالْتَزَمَهُ، وَالاِلْتِزَامُ أَيْضًا الاِعْتِنَاقُ.
وَالاِلْتِزَامُ أَيْضًا: إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لاَزِمًا لَهُ، أَيْ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ قَبْل، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى شَامِلٌ لِلْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ.
__________
(1) الصحاح، والمصباح، والمغرب مادة: (ذمم) ، التعريفات للجرجاني / 143 ط. دار الكتاب العربي، والكليات (2 / 346 ط. دمشق) ، التلويح على التوضيح (3 / 153 ط الأولى) ، وكشف الأسرار للبزدوي (4 / 239 ط. دار الكتاب العربي) ، وحاشية الجمل على المنهج (5 / 205 ط. إحياء التراث) ، ونهاية المحتاج (8 / 75 - 76 ط. المكتبة الإسلامية) .(21/274)
وَهَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ جَرَتْ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالاَتُ الْفُقَهَاءِ حَيْثُ تَدُل تَعْبِيرَاتُهُمْ عَلَى أَنَّ الاِلْتِزَامَ عَامٌّ فِي التَّصَرُّفَاتِ الاِخْتِيَارِيَّةِ، وَهِيَ تَشْمَل جَمِيعَ الْعُقُودِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُعَاوَضَاتُ وَالتَّبَرُّعَاتُ، وَهُوَ مَا اعْتَبَرَهُ الْحَطَّابُ اسْتِعْمَالاً لُغَوِيًّا.
قَال الْحَطَّابُ: وَالاِلْتِزَامُ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ هُوَ إِلْزَامُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا عَلَى شَيْءٍ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْعَطِيَّةِ، فَدَخَل فِي ذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ وَالْحَبْسُ (الْوَقْفُ) وَالْعَارِيَّةُ، وَالْعُمْرَى، وَالْعَرِيَّةُ، وَالْمِنْحَةُ، وَالإِْرْفَاقُ وَالإِْخْدَامُ، وَالإِْسْكَانُ، وَالنَّذْرُ، قَال الْحَطَّابُ فِي كِتَابِهِ تَحْرِيرِ الْكَلاَمِ: وَقَدْ يُطْلَقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْتِزَامُ الْمَعْرُوفِ بِلَفْظِ الاِلْتِزَامِ.
وَالذِّمَّةُ أَعَمُّ مِنَ الاِلْتِزَامِ (1) .
ب - الأَْهْلِيَّةُ:
3 - الأَْهْلِيَّةُ هِيَ مَصْدَرٌ صِنَاعِيٌّ لِكَلِمَةِ أَهْلٍ، وَمَعْنَاهَا لُغَةً كَمَا فِي أُصُول الْبَزْدَوِيِّ: الصَّلاَحِيَّةُ وَيَتَّضِحُ تَعْرِيفُ الأَْهْلِيَّةِ فِي الاِصْطِلاَحِ مِنْ خِلاَل تَعْرِيفِ نَوْعَيْهَا: أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ وَأَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ، فَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ هِيَ صَلاَحِيَّةُ الإِْنْسَانِ لِوُجُوبِ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (لزم) ، وتحرير الكلام في مسائل الالتزام (ص 68 ط. دار الغرب الإسلامي) ، المنثور (3 / 392) ، وقواعد الأحكام (2 / 69، 73) ، والبدائع (5 / 168) ، وأحكام القرآن للجصاص (2 / 360) .(21/275)
الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَأَهْلِيَّةُ الأَْدَاءِ هِيَ صَلاَحِيَّةُ الإِْنْسَانِ لِصُدُورِ الْفِعْل مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا (1) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الذِّمَّةِ وَالأَْهْلِيَّةِ أَنَّ الأَْهْلِيَّةَ أَثَرٌ لِوُجُودِ الذِّمَّةِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ فِي الإِْنْسَانِ ذَاتُ عُنْصُرَيْنِ: -
أَحَدُهُمَا: قَابِلِيَّتُهُ لِثُبُوتِ الْحُقُوقِ لَهُ أَيْ صَلاَحِيَّتُهُ لِلإِْلْزَامِ.
الثَّانِي: قَابِلِيَّتُهُ لِثُبُوتِ الْحُقُوقِ عَلَيْهِ أَيْ صَلاَحِيَّتُهُ لِلاِلْتِزَامِ.
فَالْعُنْصُرُ الأَْوَّل يَثْبُتُ لِلشَّخْصِ مُنْذُ كَوْنِهِ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ وَلاَ يَسْتَدْعِي وُجُوبَ ذِمَّةٍ مُقَدَّرَةٍ فِي شَخْصِهِ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُ لاَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا نَاحِيَةُ الاِلْتِزَامِ أَيْ نَاحِيَةُ ثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعُنْصُرُ الثَّانِي مِنْ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ فَتَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَابِلِيَّةُ التَّحَمُّل بِأَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ عَلَيْهِ وَهَذَا لاَ يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ.
وَالثَّانِي: الذِّمَّةُ بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ
__________
(1) القاموس المحيط ولسان العرب والمصباح مادة: (أهل) ، التلويح على التوضيح (2 / 161 ط.، صبيح) ، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي (4 / 237) ، والتقرير والتحبير (3 / 164 ط.، الأولى بولاق) ، فواتح الرحموت (1 / 156 ط.، دار صادر) .(21/275)
الشَّخْصِ مَحَلٌّ مُقَدَّرٌ لاِسْتِقْرَارِ تِلْكَ الْحُقُوقِ فِيهِ بِحَيْثُ تَشْغَلُهُ تِلْكَ الْحُقُوقُ حَال ثُبُوتِهَا وَيَفْرُغُ مِنْهَا حَال سُقُوطِهَا.
وَهَذَانِ الأَْمْرَانِ اللَّذَانِ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِمَا تَصَوُّرُ الاِلْتِزَامِ هُمَا مُتَلاَزِمَانِ فِي الْوُجُودِ مُتَغَايِرَانِ فِي الْمَفْهُومِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّخْصِ أَهْلاً لِتَحَمُّل الْحُقُوقِ أَنْ يَكُونَ فِي شَخْصِهِ مُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ لَهَا وَبِالْعَكْسِ، فَمَتَى اعْتُبِرَتْ لِلشَّخْصِ أَهْلِيَّةُ التَّحَمُّل شَرْعًا اعْتُبِرَتْ لَهُ ذِمَّةٌ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ تِلْكَ الأَْهْلِيَّةُ هِيَ الذِّمَّةَ نَفْسَهَا، بَل بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَرْقِ مَا بَيْنَ مَعْنَى الْقَابِلِيَّةِ وَمَعْنَى الْمَحَل.
ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ فِي الْعَلاَقَةِ بَيْنَ الذِّمَّةِ وَأَهْلِيَّةِ الْمُعَامَلَةِ أَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ، فَهُمَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْحُرِّ الْبَالِغِ الْكَامِل الأَْهْلِيَّةِ فَيُقَال: هُوَ ذُو ذِمَّةٍ وَذُو أَهْلِيَّةٍ، وَتَنْفَرِدُ الذِّمَّةُ فِي الْعَبْدِ فَهُوَ ذُو ذِمَّةٍ وَلاَ أَهْلِيَّةَ لَهُ، وَتَنْفَرِدُ الأَْهْلِيَّةُ فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فَيُقَال هُوَ ذُو أَهْلِيَّةٍ وَلاَ ذِمَّةَ مُسْتَقِلَّةً لَهُ. (1)
ج - الْعَهْدُ:
4 - الْعَهْدُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الاِلْتِزَامِ وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْوَصِيَّةُ، يُقَال عَهِدَ إِلَيْهِ يَعْهَدُ إِذَا أَوْصَاهُ، وَالْعَهْدُ: الأَْمَانُ وَالْمَوْثِقُ وَالذِّمَّةُ، وَالْعَهْدُ كُل
__________
(1) الفروق للقرافي (3 / 226 - 229) فرق 183 ط. المعرفة.(21/276)
مَا عُوهِدَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَكُل مَا بَيْنَ الْعِبَادِ مِنَ الْمَوَاثِيقِ فَهُوَ عَهْدٌ، وَالْعَهْدُ: الْيَمِينُ يَحْلِفُ بِهَا الرَّجُل. (1)
وَالْعَهْدُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنْ ذِي ذِمَّةٍ وَلِذَا سُمِّيَ الْعَهْدُ ذِمَّةً.
خَصَائِصُ الذِّمَّةِ:
5 - تَخْتَصُّ الذِّمَّةُ بِأُمُورٍ:
الأَْوَّل: الذِّمَّةُ مِنْ صِفَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الإِْنْسَانِيَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ، وَهِيَ الشَّخْصِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ أَوْ مِنْ صِفَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْحُكْمِيَّةِ كَبَيْتِ الْمَال وَالْوَقْفِ.
الثَّانِي: الذِّمَّةُ مِنْ تَوَابِعِ الشَّخْصِيَّةِ، فَهِيَ تُلاَزِمُ الْعُنْصُرَ الثَّانِيَ مِنْ عُنْصُرَيْ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ عُنْصُرُ الاِلْتِزَامِ، وَهَذِهِ الأَْهْلِيَّةُ مَنَاطُهَا الصِّفَةُ الإِْنْسَانِيَّةُ، فَتُلاَزِمُ الإِْنْسَانَ مُنْذُ وُجُودِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ حَمْلاً فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَلاَ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ إِنْسَانٍ بِلاَ ذِمَّةٍ حَتَّى لَوْ كَانَتْ تِلْكَ الذِّمَّةُ فَارِغَةً أَيْ خَالِيَةً مِنَ الاِلْتِزَامِ.
الثَّالِثُ: لِكُل شَخْصٍ ذِمَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَتِلْكَ الذِّمَّةُ لاَ تَتَعَدَّدُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ وَلاَ يَجُوزُ الاِشْتِرَاكُ فِيهَا.
الرَّابِعُ: الذِّمَّةُ لاَ حَدَّ لِسَعَتِهَا فَهِيَ تَتَّسِعُ لِكُل الدُّيُونِ مَهْمَا عَظُمَتْ؛ لأَِنَّ الذِّمَّةَ ظَرْفٌ اعْتِبَارِيٌّ يَتَّسِعُ لِكُل الاِلْتِزَامَاتِ.
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب، مادة: (عهد) وأحكام القرآن للجصاص (2 / 361) .(21/276)
الْخَامِسُ: الذِّمَّةُ تَتَعَلَّقُ بِالشَّخْصِ لاَ بِأَمْوَالِهِ وَثَرْوَتِهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ مُمَارَسَةِ أَعْمَالِهِ الْمَالِيَّةِ بِحُرِّيَّةٍ مُطْلَقَةٍ تُمَكِّنُهُ مِنْ سَدَادِ دُيُونِهِ، فَلَهُ التِّجَارَةُ وَالْبَيْعُ وَلَوْ كَانَ مَدِينًا بِأَكْثَرَ مِمَّا يَمْلِكُ، وَلَهُ وَفَاءٌ أَيْ دَيْنٌ مُتَقَدِّمٌ أَوْ مُتَأَخِّرٌ فِي الثُّبُوتِ، وَلاَ يَحِقُّ لِلدَّائِنِينَ الاِعْتِرَاضُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ كَالرَّهْنِ أَوِ الْحَجْرِ أَوِ التَّفْلِيسِ.
السَّادِسُ: الذِّمَّةُ ضَمَانٌ لِكُل الْحُقُوقِ بِلاَ تَرْجِيحٍ وَلاَ يَقْتَضِي ذَلِكَ مَنْعَ الْمَدِينِ مِنَ التَّصَرُّفِ بِأَمْوَالِهِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ الذِّمَّةَ لاَ حَدَّ لِسَعَتِهَا إِذْ هِيَ شَرْعًا مُسْتَقِلَّةٌ عَمَّا يَمْلِكُ صَاحِبُهَا فَتَتَسَاوَى فِيهَا الدُّيُونُ فِي الأَْصْل وَلاَ يَكُونُ سَبْقُ بَعْضِهَا فِي الثُّبُوتِ سَبَبًا لِتَرْجِيحِهِ، وَمَا يَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الإِْنْسَانِ مِنْ حُقُوقٍ عَلَيْهِ لاَ يَتَقَيَّدُ وَفَاؤُهَا بِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِجُزْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْهُ، فَالدُّيُونُ مَتَى اسْتَقَرَّتْ فِي الذِّمَّةِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ تَسَاوَتْ فِي احْتِرَامِهَا وَانْتَفَى التَّرْجِيحُ، وَإِلاَّ لَتَعَذَّرَ التَّعَامُل إِذْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْرِفَ مَا عَلَى مَنْ يُرِيدُ مُعَامَلَتَهُ مِنْ دُيُونٍ سَابِقَةٍ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ رُتْبَةِ دَيْنِهِ. (1)
انْتِهَاءُ الذِّمَّةِ:
6 - الذِّمَّةُ تَبْدَأُ مَعَ الشَّخْصِ مُنْذُ الْحَمْل بِهِ وَتَبْقَى
__________
(1) ابن عابدين (5 / 425 ط. المصرية) ، جواهر الإكليل (2 / 317 ط. - المعرفة) ، مغني المحتاج (3 / 42 ط. - إحياء التراث) ، الإنصاف (7 / 235 - 236 ط. - إحياء التراث) ، القواعد لابن رجب (ص 195 ط. المعرفة) .(21/277)
مَعَهُ طِيلَةَ حَيَاتِهِ، فَإِذَا مَاتَ ذَلِكَ الشَّخْصُ فَإِنَّ تِلْكَ الذِّمَّةِ تَنْتَهِي إِذْ لاَ بَقَاءَ لَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي انْتِهَاءِ الذِّمَّةِ فَوْرًا بِمُجَرَّدِ حُصُول الْمَوْتِ، أَوْ أَنَّ الْمَوْتَ يُضْعِفُهَا، أَوْ أَنَّ الذِّمَّةَ تَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى تُسْتَوْفَى الْحُقُوقُ مِنَ الْمَيِّتِ عَلَى ثَلاَثَةِ آرَاءٍ:
- الرَّأْيُ الأَْوَّل:
7 - وَهُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ) أَنَّ الذِّمَّةَ تَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى تُصَفَّى الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّرِكَةِ فَيَصِحُّ لِلْمَيِّتِ اكْتِسَابُ حُقُوقٍ جَدِيدَةٍ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ سَبَبًا لَهَا، كَمَنْ نَصَبَ شَبَكَةً لِلاِصْطِيَادِ فَوَقَعَ فِيهَا حَيَوَانٌ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ وَتَظَل ذِمَّةُ الْمَيِّتِ بَاقِيَةً بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى تُسَدَّدَ دُيُونُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ (1) وَيُمْكِنُ أَنْ تُشْغَل ذِمَّةُ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِدُيُونٍ جَدِيدَةٍ كَشَغْلِهَا بِثَمَنِ الْمَبِيعِ الَّذِي رَدَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِسَبَبِ عَيْبٍ ظَهَرَ فِيهِ، وَكَالْتِزَامِهِ بِضَمَانِ قِيمَةِ مَا وَقَعَ فِي حُفْرَةٍ حَفَرَهَا الشَّخْصُ قَبْل مَوْتِهِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ.
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْمَيِّتِ فَتَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ
__________
(1) حديث: " نفس المؤمن معلقة بدَينه حتى يقضى عنه " أخرجه الترمذي (3 / 381 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة. وقال: " حديث حسن ".(21/277)
عَلِمَ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ نَفْعُهُ بِهَا فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ.
وَلاَ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْمَيِّتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ سَوَاءٌ أَعَلِمَ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُتَصَوَّرُ لَهُ الْمِلْكُ، فَأَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ يَقْتَصِرُ عَلَى عَدَمِ مُطَالَبَةِ الْمَيِّتِ بِالْحُقُوقِ، وَإِنَّمَا يُطَالَبُ وَرَثَتُهُ بِأَدَاءِ الْحُقُوقِ لأَِصْحَابِهَا. (1)
الرَّأْيُ الثَّانِي:
8 - وَهُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَوْتَ لاَ يُنْهِي الذِّمَّةَ بَل يُضْعِفُهَا، وَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ فَإِنَّ ذِمَّةَ الْمَيِّتِ تَبْقَى بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ لِتَصْفِيَةِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّرِكَةِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ فِي حَال الْحَيَاةِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَيِّتَ يُمْكِنُ أَنْ يَكْتَسِبَ بَعْدَ مَوْتِهِ مِلْكًا جَدِيدًا كَمَا لَوْ نَصَبَ قَبْل الْمَوْتِ شَبَكَةً فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ، كَمَا أَنَّ الْمَيِّتَ يَلْتَزِمُ بِالدُّيُونِ الَّتِي تَسَبَّبَ بِهَا قَبْل مَوْتِهِ كَرَدِّ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ عَلَيْهِ، وَالْتِزَامِهِ بِالثَّمَنِ، وَضَمَانِ مَا وَقَعَ فِي حُفْرَةٍ حَفَرَهَا فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ.
لَكِنْ لاَ تَصِحُّ كَفَالَةُ دَيْنٍ عَلَى مَيِّتٍ مُفْلِسٍ
__________
(1) مواهب الجليل مع التاج والإكليل (6 / 368 ط. النجاح) ، والدسوقي (4 / 426 - ط الفكر) ، وجواهر الإكليل (2 / 317 ط -. المعرفة) ، وروضة الطالبين (6 / 116 ط. المكتب الإسلامي) ، ومغني المحتاج (3 / 40 ط -. إحياء التراث) ، وحاشية القليوبي (3 / 157 ط -. الحلبي) ، والمغني مع الشرح الكبير (6 / 436 ط -. الأولى) .(21/278)
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ عِبَارَةٌ عَنِ الْفِعْل، وَالْمَيِّتَ عَاجِزٌ عَنِ الْفِعْل، فَكَانَتْ هَذِهِ كَفَالَةً بِدَيْنٍ سَاقِطٍ فَلاَ تَصِحُّ، كَمَا لَوْ كَفَل إِنْسَانًا بِدَيْنٍ وَلاَ دَيْنَ عَلَيْهِ، وَإِذَا مَاتَ مَلِيئًا فَهُوَ قَادِرٌ بِنَائِبِهِ، وَكَذَا إِذَا مَاتَ عَنْ كَفِيلٍ؛ لأَِنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ فَتَصِحُّ كَفَالَةُ دَيْنِ الْمَيِّتِ؛ لأَِنَّ الْمَوْتَ لاَ يُنَافِي بَقَاءَ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّهُ مَالٌ حُكْمِيٌّ فَلاَ يَفْتَقِرُ بَقَاؤُهُ إِلَى الْقُدْرَةِ، وَلِهَذَا بَقِيَ إِذَا مَاتَ مَلِيئًا حَتَّى تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ، وَكَذَا بَقِيَتِ الْكَفَالَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُفْلِسًا، وَإِذَا مَاتَ عَنِ الْكَفِيل تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْهُ بِالدَّيْنِ، فَكَذَا يَصِحُّ الإِْبْرَاءُ عَنْهُ وَالتَّبَرُّعُ.
وَمِثْل الْكَفَالَةِ فِي هَذَا الْوَصِيَّةُ، فَإِنَّهَا لاَ تَصِحُّ لِلْمَيِّتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَوَاءٌ أَعَلِمَ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ أَمْ لاَ. خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ فَلَوْ أَوْصَى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ لِلْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ؛ لأَِنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْوَصِيَّةِ فَلاَ يُزَاحِمُ الْحَيَّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِهَا، لَكِنْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِمَوْتِهِ فَإِنَّ تِلْكَ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ عَلِمَ بِمَوْتِهِ فَلاَ تَصِحُّ؛ لأَِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَيِّتِ لَغْوٌ. (1)
الرَّأْيُ الثَّالِثُ:
9 - وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ الذِّمَّةَ تَنْتَهِي
__________
(1) بدائع الصنائع (6 / 6 ط -. الجمالية) ، فتح القدير (8 / 448 - 449 ط. الأميرية) ، ابن عابدين (5 / 431 - المصرية) .(21/278)
بِمُجَرَّدِ الْمَوْتِ؛ لأَِنَّهَا مِنْ خَصَائِصِ الشَّخْصِ الْحَيِّ، وَثَمَرَةُ الذِّمَّةِ صِحَّةُ مُطَالَبَةِ صَاحِبِهَا بِتَفْرِيغِهَا مِنَ الدَّيْنِ الشَّاغِل لَهَا، فَبِالْمَوْتِ يَخْرُجُ الشَّخْصُ عَنْ صَلاَحِيَّةِ الْمُطَالَبَةِ فَتَنْهَدِمُ الذِّمَّةُ.
وَعَلَى هَذَا إِنْ تُوُفِّيَ الشَّخْصُ الْمَدِينُ دُونَ أَنْ يَتْرُكَ مَالاً فَمَصِيرُ دُيُونِهِ السُّقُوطُ.
وَإِنْ تَرَكَ مَالاً تَعَلَّقَتِ الدُّيُونُ بِمَالِهِ. هَذَا وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ قَضَاءُ مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ دَيْنٍ إِنْ لَمْ يَتْرُكْ مَالاً لَكِنْ يُسْتَحَبُّ. (1)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
10 - مَسَائِل الْفِقْهِ وَفُرُوعُهُ وَالَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الذِّمَّةُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، فَهِيَ مَنْثُورَةٌ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ وَفُصُولِهِ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهَا فِي الأَْبْوَابِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا وَغَيْرِهَا. وَيُنْظَرُ مَا يَتَّصِل بِأَهْل الذِّمَّةِ فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْل الذِّمَّةِ) وَمَا يَتَّصِل بِالذِّمَّةِ بِمَعْنَى الْعَهْدِ فِي مُصْطَلَحِ: (أَمَان، وَحَلِف، وَمُعَاهَدَة) .
__________
(1) المغني (3 / 144 ط. الرياض) ، القواعد لابن رجب / 193 - 194 ط. المعرفة.(21/279)
ذَهَبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الذَّهَبُ: مَعْدِنٌ مَعْرُوفٌ، وَالْجَمْعُ: أَذَهَابٌ، مِثْل سَبَبٍ وَأَسْبَابٍ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى ذُهْبَانٍ وَذُهُوبٍ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ، وَيُؤَنَّثُ فَيُقَال: هِيَ الذَّهَبُ الْحَمْرَاءُ، وَقَدْ يُؤَنَّثُ بِالْهَاءِ فَيُقَال: ذَهَبَةٌ. وَقَال الأَْزْهَرِيُّ: الذَّهَبُ مُذَكَّرٌ وَلاَ يَجُوزُ تَأْنِيثُهُ إِلاَّ أَنْ يُجْعَل الذَّهَبُ جَمْعًا لِذَهَبَةٍ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالذَّهَبِ:
التَّوَضُّؤُ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ التَّوَضُّؤِ مِنْ إِنَاءِ الذَّهَبِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الأَْصَحِّ) إِلَى صِحَّةِ الْوُضُوءِ مَعَ تَحْرِيمِ الْفِعْل لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلاَ تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا، (2) فَقِيسَ غَيْرُ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب.
(2) حديث: " لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 554 - ط. السلفية) ، ومسلم (3 / 1638 - ط الحلبي) .(21/279)
الأَْكْل وَالشُّرْبِ مِنْ سَائِرِ الاِسْتِعْمَالاَتِ عَلَيْهِمَا؛ لأَِنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ وُجُودُ عَيْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ فِي الاِسْتِعْمَالاَتِ الأُْخْرَى كَالطَّهَارَةِ فَتَكُونُ مُحَرَّمَةً أَيْضًا. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ مِنْهُمَا قِيَاسًا عَلَى الصَّلاَةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ. (1) ر: مُصْطَلَحُ: (آنِيَةٌ ف - 3) . (2)
التَّيَمُّمُ بِالذَّهَبِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِالْمَعَادِنِ الْمَسْبُوكَةِ، كَالذَّهَبِ وَغَيْرِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَسْبُوكًا وَكَانَ مُخْتَلَطًا بِالتُّرَابِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِهَذَا الْخَلِيطِ سَوَاءٌ أَكَانَ قَلِيلاً أَمْ كَثِيرًا، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِتُرَابٍ خَالَطَهُ غَيْرُهُ مِمَّا لاَ يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِهِ إِنْ كَانَ لَهُ غُبَارٌ وَكَانَتِ الْغَلَبَةُ لِغَيْرِ التُّرَابِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِهِ إِذَا كَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلتُّرَابِ.
وَنَقَل الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْل اللَّخْمِيِّ: لاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِمَا لاَ يَقَعُ بِهِ التَّوَاضُعُ لِلَّهِ تَعَالَى،
__________
(1) ابن عابدين (5 / 217 وما بعدها) ، وفتح القدير (8 / 507) ، والروضة (1 / 46) ، وأسنى المطالب (1 / 27) ، وجواهر الإكليل (1 / 10) ، والقوانين الفقهية ص 37 - 38، والمغني (1 / 75 - 76) .
(2) الموسوعة (1 / 117 - 118) .(21/280)
كَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَنَقْدِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ فِي مَعَادِنِهِ وَلَمْ يَجِدْ سِوَاهُ فَيَتَيَمَّمُ بِهِ. (1)
اتِّخَاذُ الرَّجُل لِحُلِيِّ الذَّهَبِ:
4 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَال حُلِيِّ الذَّهَبِ عَلَى الرِّجَال لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُحِل الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لإِِنَاثِ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا. (2)
وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ تَجْوِيزُ فَصِّ الْخَاتَمِ مِنَ الذَّهَبِ إِنْ كَانَ يَسِيرًا، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ. (3)
اتِّخَاذُ الذَّهَبِ خَاتَمًا:
5 - التَّخَتُّمُ بِالذَّهَبِ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَال بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الإِْسْلاَمِ، لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ (4) وَمَعْلُومٌ أَنَّ الأَْصْل فِي النَّهْيِ التَّحْرِيمُ (5) .
__________
(1) الفتاوى الهندية (1 / 27 وما بعدها) ، والحطاب (1 / 351) ، والمجموع (2 / 220) ، والإقناع (1 / 172 - 173) ، والمغني (1 / 250) ، وكشاف القناع (1 / 173) .
(2) حديث: " أحل الذهب والحرير لإناث من أمتي، وحرم على ذكورها " أخرجه النسائي (8 / 161 - ط المكتبة التجارية) من حديث أبي موسى الأشعري، وحسنه ابن المديني كما في التلخيص لابن حجر (1 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) فتح القدير (8 / 95) ، والروضة (2 / 262) ، ومواهب الجليل (1 / 125) ، وكشاف القناع (2 / 236) .
(4) حديث: " نهى عن خاتم الذهب " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 315 - ط السلفية) من حديث البراء بن عازب.
(5) فتح القدير (8 / 96) ، وحاشية ابن عابدين (6 / 359) .(21/280)
اتِّخَاذُ الرَّجُل لِلذَّهَبِ فِي آلَةِ الْحَرْبِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَنْعِ تَحْلِيَةِ آلَةِ الْحَرْبِ بِشَيْءٍ مِنَ الذَّهَبِ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ الْقَاضِيَةِ بِتَحْرِيمِ اسْتِعْمَال الذَّهَبِ لِلرِّجَال وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالشَّافِعِيَّةُ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلذَّكَرِ أَنْ يَتَّخِذَ قَبِيعَةَ سَيْفِهِ مِنَ الذَّهَبِ؛ لأَِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ لَهُ سَيْفٌ فِيهِ سَبَائِكُ مِنْ ذَهَبٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ كَانَ فِي سَيْفِهِ مِسْمَارٌ مِنْ ذَهَبٍ، ذَكَرَهُمَا أَحْمَدُ لِذَا رَخَّصَ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ مِثْل الْجُمْهُورِ. (2)
اتِّخَاذُ السِّنِّ مِنَ الذَّهَبِ:
7 - يَجُوزُ اتِّخَاذُ السِّنِّ مِنَ الذَّهَبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ قِيَاسًا عَلَى الأَْنْفِ؛ لأَِنَّ عَرْفَجَةَ بْنَ أَسْعَدَ قُطِعَ أَنْفُهُ يَوْمَ وَقْعَةِ كِلاَبٍ فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ فِضَّةٍ فَأَنْتَنَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّخَاذِ أَنْفٍ مِنْ ذَهَبٍ. . . (3) فَعُلِمَ أَنَّ كُل مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مِنَ الذَّهَبِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ
__________
(1) الروضة (2 / 263) ، ومواهب الجليل (1 / 126) ، وحاشية ابن عابدين (6 / 359) .
(2) المغني (2 / 610) ، وكشاف القناع (2 / 278) ، ومطالب أولي النهى (2 / 93) ، وترى اللجنة أن التعليل بإباحة الذهب في آلة الحرب - الآن - فيه نظر.
(3) حديث عرفجة بن أسعد أخرجه أبو داود (4 / 434 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (4 / 240 - ط الحلبي) .(21/281)
وَالْحَنَابِلَةُ (1) . وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ وَإِنْ أَمْكَنَ اتِّخَاذُهُ مِنْ فِضَّةٍ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى الْمَنْعِ وَقَال: إِنَّ الأَْصْل فِي الذَّهَبِ تَحْرِيمُهُ عَلَى الرِّجَال وَالإِْبَاحَةُ لِلضَّرُورَةِ، وَقَدِ انْدَفَعَتْ بِالْفِضَّةِ وَهِيَ الأَْدْنَى فَيَبْقَى الذَّهَبُ عَلَى التَّحْرِيمِ. غَيْرَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَافَقَ الْجُمْهُورَ وَكَذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ فِي قَوْلٍ. (2)
اتِّخَاذُ أُصْبُعٍ قُطِعَتْ مِنَ الذَّهَبِ:
8 - صَرَّحَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ أَوْ أُصْبُعُهُ أَنْ يَتَّخِذَهُمَا مِنْ ذَهَبٍ، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ فِي الْمَذْهَبِ وَجْهًا بِجَوَازِهِ؛ وَعِلَّةُ الْمَنْعِ هِيَ أَنَّ أُصْبُعَ الذَّهَبِ لاَ يَعْمَل فَيَكُونُ تَرْكِيبُهُ لِمُجَرَّدِ الزِّينَةِ بِخِلاَفِ السِّنِّ وَالأُْنْمُلَةِ. (3)
اتِّخَاذُ الْعَلَمِ لِلنِّسَاءِ مِنْ ذَهَبٍ:
9 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ (4) بِأَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِالْعَلَمِ الْمَنْسُوجِ
__________
(1) مواهب الجليل (1 / 126) ، والروضة (2 / 262) ، والمغني (2 / 616) .
(2) فتح القدير (8 / 96) ، وابن عابدين (6 / 361 - 362) .
(3) روضة الطالبين (2 / 262) ، والمجموع (1 / 256) ، وأسنى المطالب (1 / 379) .
(4) الفتاوى الهندية (5 / 332) .(21/281)
بِالذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ، فَأَمَّا الرِّجَال فَقَدْرُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ، وَمَا فَوْقَهُ يُكْرَهُ.
اتِّخَاذُ الْمُدْهُنِ وَالْمُسْعُطِ وَالْمُكْحُلَةِ مِنَ الذَّهَبِ:
10 - صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِتَحْرِيمِ كُل مَا يَصْلُحُ تَسْمِيَتُهُ آنِيَةً مِنَ الذَّهَبِ كَالْمُدْهُنِ وَالْمُسْعُطِ وَالْمُكْحُلَةِ وَالْمِجْمَرَةِ وَنَحْوِهَا، لأَِنَّ النُّصُوصَ وَرَدَتْ بِتَحْرِيمِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ مِنْ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى الرِّجَال وَالنِّسَاءِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْخُيَلاَءِ وَكَسْرِ نُفُوسِ الْفُقَرَاءِ، وَقِيسَ غَيْرُ الأَْكْل وَالشُّرْبِ مِنْ سَائِرِ الاِسْتِعْمَالاَتِ عَلَيْهِمَا. (1)
الإِْسْرَافُ فِي التَّحَلِّي كَاتِّخَاذِ الْمَرْأَةِ أَكْثَرَ مِنْ خَلْخَالٍ مِنَ الذَّهَبِ:
11 - إِذَا اتَّخَذَتِ امْرَأَةٌ خَلاَخِل كَثِيرَةً لِلْمُغَايَرَةِ فِي اللُّبْسِ جَازَ؛ لأَِنَّهُ يَجُوزُ لَهَا اتِّخَاذُ مَا جَرَتْ عَادَتُهُنَّ بِلُبْسِهِ مِنَ الذَّهَبِ، قَل ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ، لإِِطْلاَقِ الأَْدِلَّةِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُحِل الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لإِِنَاثِ أُمَّتِي وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا. (2)
وَفِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجْهٌ بِالْمَنْعِ إِذَا كَانَ فِيهِ سَرَفٌ ظَاهِرٌ، وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ. (3)
__________
(1) فتح القدير (8 / 81) ، والمجموع (6 / 41) ، وأسنى المطالب (1 / 27) ، وكشاف القناع (1 / 283) ، والروضة (1 / 44) .
(2) حديث: " أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي. . . . " سبق تخريجه (ف 4) .
(3) المجموع (6 / 40) ، وكشاف القناع (2 / 239) ، والقوانين الفقهية (ص430) ، وابن عابدين (5 / 224، 229، 270) .(21/282)
اتِّخَاذُ الْمَرْأَةِ نَعْلاً مِنَ الذَّهَبِ:
12 - ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَالرَّافِعِيِّ إِلَى إِبَاحَةِ النِّعَال الذَّهَبِيَّةِ لِلنِّسَاءِ كَسَائِرِ الْمَلْبُوسَاتِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى تَحْرِيمِهَا لِمَا فِي لُبْسِهَا مِنَ الإِْسْرَافِ الْكَبِيرِ، وَالإِْسْرَافُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ. وَأَيْضًا لَمْ تَجْرِ عَادَةُ النِّسَاءِ بِالتَّجَمُّل بِالنِّعَال الذَّهَبِيَّةِ فَلاَ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا حُلِيًّا لَهُنَّ (1) لِذَلِكَ، وَصَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا اتَّخَذَتِ النِّعَال الذَّهَبِيَّةَ حَرُمَ ذَلِكَ وَوَجَبَ فِيهَا الزَّكَاةُ. (2)
اتِّخَاذُ الْيَدِ مِنَ الذَّهَبِ:
13 - نَصَّ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ أَنْ يَتَّخِذَ يَدًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ؛ لِكَوْنِ الْيَدِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْهُمَا لاَ تَعْمَل فَيَكُونُ لِمُجَرَّدِ الزِّينَةِ، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ جَوَازُ اتِّخَاذِ أَيِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الإِْنْسَانِ مِنَ الذَّهَبِ إِذَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى ذَلِكَ.
وَبِنَاءً عَلَيْهِ فَمَنْ فَقَدَ أُنْمُلَةً فِي أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ يَدِهِ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنَّ لَهُ تَعْوِيضَهَا بِالذَّهَبِ قِيَاسًا عَلَى الأَْنْفِ. فَقَدْ رَخَّصَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَرْفَجَةَ بْنِ أَسْعَدَ أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ سَائِرُ الأَْعْضَاءِ.
__________
(1) المجموع (6 / 40) ، والروضة (2 / 263) .
(2) كشاف القناع (2 / 279) ، ومطالب أولي النهى (2 / 94) ، والمغني (3 / 14 - 15) ، والموسوعة (18 / 112) .(21/282)
وَنُقِل عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْجَوَازُ، كَمَا نُقِل عَنْهُ عَدَمُ جَوَازِ الذَّهَبِ.
وَقَال الأَْذْرَعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: " يَجِبُ أَنْ يُقَيَّدَ جَوَازُ تَعْوِيضِ الأُْنْمُلَةِ بِمَا إِذَا كَانَ مَا تَحْتَهَا سَلِيمًا دُونَ مَا إِذَا كَانَ أَشَل؛ لأَِنَّ الأُْنْمُلَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ تَسْتَطِيعُ الْعَمَل فَيَكُونُ اتِّخَاذُهَا مِنَ الذَّهَبِ لِمُجَرَّدِ الزِّينَةِ ". (1)
وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجْهًا بِجَوَازِ اتِّخَاذِ يَدٍ مِنَ الذَّهَبِ لِلضَّرُورَةِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ (2) .
اتِّخَاذُ الأَْنْفِ مِنْ ذَهَبٍ:
14 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ (3) عَلَى أَنَّ مَنْ فَقَدَ أَنْفَهُ لِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ اتِّخَاذُ أَنْفٍ مِنْ ذَهَبٍ لِوُرُودِ النَّصِّ بِذَلِكَ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عَرْفَجَةَ بْنَ أَسْعَدَ قُطِعَ أَنْفُهُ يَوْمَ وَقْعَةِ الْكِلاَبِ، فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ.
(4)
__________
(1) أسنى المطالب (1 / 179) ، وكشاف القناع (2 / 2238) ، ومواهب الجليل (1 / 126) ، وابن عابدين (6 / 362) .
(2) الروضة (2 / 262) ، والمجموع (1 / 238، 6 / 38) ، وأسنى المطالب (1 / 379) .
(3) الروضة (2 / 262) ، وحاشية ابن عابدين (6 / 362) ، ومواهب الجليل على الخليل (1 / 126) ، والشرح الكبير على متن المقنع (2 / 615 - 616) .
(4) حديث عرفجة بن أسعد تقدم تخريجه ف / 4.(21/283)
اتِّخَاذُ الْمَرْأَةِ لِحُلِيِّ الذَّهَبِ:
15 - سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (حُلِيّ) (1) إِجْمَاعُ الْفُقَهَاءِ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْمَرْأَةِ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْحُلِيِّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
لُبْسُ الصَّبِيِّ الذَّهَبَ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى تَحْرِيمِ لُبْسِ الذُّكُورِ الذَّهَبَ سَوَاءٌ كَانُوا صِغَارًا أَوْ كِبَارًا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ لُبْسِ الصَّبِيِّ الذَّهَبَ مَعَ الْكَرَاهَةِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ (2) - إِلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا. وَفِي وَجْهٍ يَجُوزُ قَبْل سَنَتَيْنِ وَيَحْرُمُ بَعْدَهَا وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ.
اسْتِعْمَال أَوَانِي الذَّهَبِ وَاتِّخَاذُهَا:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الأَْكْل وَالشُّرْبِ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، لِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ: نَهَانَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنْ نَأْكُل فِيهَا. (3) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الَّذِي يَشْرَبُ
__________
(1) الموسوعة (18 / 111) .
(2) ابن عابدين (6 / 362) ، وتكملة فتح القدير (8 / 96) ، ومواهب الجليل (1 / 124 - 125) ، وأسنى المطالب (1 / 276) ، والروضة (2 / 67) ، وكشاف القناع (2 / 2238) ، والإنصاف (3 / 144 - 145) ، والمغني (3 / 15 - 16) .
(3) حديث: " نهانا رسول الله (صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب. . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 291 - ط السلفية) .(21/283)
فِي إِنَاءِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ. (1)
وَقَاسَ الْفُقَهَاءُ غَيْرَ الأَْكْل وَالشُّرْبِ مِنْ سَائِرِ الاِسْتِعْمَالاَتِ عَلَيْهِمَا لِوُجُودِ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَهِيَ عَيْنُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلِلْخُيَلاَءِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا إِلَى عَدَمِ جَوَازِ اتِّخَاذِ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا؛ لأَِنَّ اتِّخَاذَهَا يَجُرُّ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا كَآلَةِ اللَّهْوِ. وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَحْرُمُ الاِتِّخَاذُ دُونَ اسْتِعْمَالٍ؛ لأَِنَّ النَّصَّ إِنَّمَا وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الاِسْتِعْمَال، فَيَبْقَى الاِتِّخَاذُ عَلَى مُقْتَضَى الأَْصْل فِي الإِْبَاحَةِ. (2)
اسْتِعْمَال الْمُضَبَّبِ بِالذَّهَبِ:
18 - الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ فِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (آنِيَة) . (3)
التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ حَالَةَ الإِْحْدَادِ:
19 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ الإِْحْدَادِ عَلَى
__________
(1) حديث: " الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 96 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1634 - ط الحلبي) من حديث أم سلمة، واللفظ للبخاري، وليس عندهما ذكر " (الذهب ") ورواه مسلم (3 / 1635) بلفظ: " من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه نارًا من جهنم ".
(2) فتح القدير (8 / 81) ، والعدوي (1 / 373) ، وجواهر الإكليل (1 / 10) ، وأسنى المطالب (1 / 37) ، والروضة (1 / 44 - 46) ، والمغني (1 / 77) ، وحاشية ابن عابدين (5 / 226) ، الموسوعة (1 / 117 - 118) .
(3) الموسوعة (1 / 118) .(21/284)
الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ بِالزَّوْجَةِ. وَالإِْحْدَادُ: تَرْكُ الزِّينَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى إِغْرَاءِ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ عَادَةً. وَلَمَّا كَانَ لُبْسُ الْحُلِيِّ مِنَ الزِّينَةِ الْمُغْرِيَةِ عَادَةً فَيُمْنَعُ التَّحَلِّي بِهِ فِي الْعِدَّةِ.
وَنَقَل الرُّويَانِيُّ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازَ لُبْسِهَا لِلْحُلِيِّ لَيْلاً، وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَلَوْ فَعَلَتْهُ لإِِحْرَازِ الْمَال مَثَلاً لَمْ يُكْرَهْ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (إِحْدَاد، وَتَحْلِيَة، وَحُلِيّ) .
تَحْلِيَةُ الْكَعْبَةِ وَأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَجُدُرِهَا بِالذَّهَبِ:
20 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى تَحْرِيمِ تَحْلِيَةِ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَجُدْرَانِهَا وَمَحَارِيبِهَا بِالذَّهَبِ، وَتَجِبُ إِزَالَتُهُ، إِلاَّ إِذَا اسْتُهْلِكَ الذَّهَبُ فَلَمْ يَجْتَمِعْ مِنْهُ شَيْءٌ لَوْ أُزِيل، فَلاَ تَحْرُمُ اسْتِدَامَتُهُ، لأَِنَّ مَالِيَّتَهُ ذَهَبَتْ فَلاَ فَائِدَةَ فِي إِتْلاَفِهِ وَإِزَالَتِهِ.
وَلَمَّا وُلِّيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخِلاَفَةَ أَرَادَ جَمْعَ مَا فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ مِمَّا مُوِّهَ بِهِ مِنَ الذَّهَبِ، فَقِيل: إِنَّهُ لاَ يُجْمَعُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَتَرَكَهُ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَال صَاحِبُ الدُّرِّ: " وَلاَ بَأْسَ بِنَقْشِهِ خَلاَ مِحْرَابِهِ بِجِصٍّ وَمَاءِ ذَهَبٍ مِنْ مَالِهِ لاَ مِنْ مَال الْوَقْفِ ".(21/284)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فِي هَذَا التَّعْبِيرِ كَمَا قَال شَمْسُ الأَْئِمَّةِ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُؤْجَرُ، وَيَكْفِيهِ أَنْ يَنْحُوَ رَأْسًا بِرَأْسٍ. اهـ.
قَال فِي النِّهَايَةِ: لأَِنَّ لَفْظَ " لاَ بَأْسَ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ غَيْرُهُ؛ لأَِنَّ الْبَأْسَ الشِّدَّةُ. وَلِهَذَا نُقِل فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ عَنِ الْمُضْمَرَانِ أَنَّ الصَّرْفَ إِلَى الْفُقَرَاءِ أَفْضَل وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. اهـ.
وَقِيل: يُكْرَهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُزَيَّنَ الْمَسَاجِدُ (1) الْحَدِيثَ.
وَقِيل: يُسْتَحَبُّ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِكْرَامِ الْمَسَاجِدِ وَرَفْعِ شَأْنِهَا. وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ قَدْ يَشْغَل الْمُصَلِّيَ، فَإِنْ زُيِّنَ الْمَسْجِدُ بِالذَّهَبِ بِطَرِيقَةٍ لاَ تَشْغَل الْمُصَلِّيَ جَازَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ (2) .
وَقَدْ صَرَّحَ عُلَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَصَحِّ وَجْهَيْنِ بِتَحْرِيمِ تَحْلِيَةِ الْكَعْبَةِ وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ بِالذَّهَبِ لِمَا
__________
(1) حديث: " إن من أشراط الساعة أن تزين المساجد. . . . " ورد في حاشية ابن عابدين (1 / 658 - ط الحلبي) ، ولم نهتد إليه في المصادر الموجودة لدينا، ولكن ورد عن أنس مرفوعًا: " لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد " أخرجه أبو داود (1 / 311 - تحقيق عزت عبيد
(2) فتح القدير (1 / 299) ، وحاشية ابن عابدين (1 / 658 ط مصطفى الحلبي) ، والفتاوى الهندية (5 / 319) ، ومواهب الجليل (1 / 130، 2 / 300) ، والمجموع (6 / 42) ، ونهاية المحتاج (1 / 91) ، ومغني المحتاج (1 / 29، 393) ، وكشاف القناع (1 / 238) ، ومطالب أولي النهى (2 / 91) .(21/285)
فِي ذَلِكَ مِنَ السَّرَفِ وَكَسْرِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ، وَلِكَوْنِهِ لَمْ يَعْمَل بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ. (1) وَالْوَجْهُ الآْخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ الْجَوَازُ.
تَحْلِيَةُ الْمُصْحَفِ بِالذَّهَبِ:
21 - تَحْلِيَةُ الْكُتُبِ بِالذَّهَبِ لاَ يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَغَيْرُهُمْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَضْيِيقِ النَّقْدَيْنِ وَلأَِنَّ الْكُتُبَ الأُْخْرَى لاَ يَجِبُ تَعْظِيمُهَا كَالْقُرْآنِ. (2) أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدِ اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي جَوَازِ تَحْلِيَتِهِ بِالذَّهَبِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا - كَمَا قَال الرَّافِعِيُّ - جَوَازُهُ فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَال، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: جَوَازُهُ مُطْلَقًا تَعْظِيمًا لِلْقُرْآنِ، وَبِهِ قَال الْحَنَفِيَّةُ، وَإِنْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ تَرْكَهُ أَوْلَى لأَِنَّهُمْ قَالُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ.
وَقَدْ صَرَّحَ عُلَمَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ مَتَى قَالُوا كَلِمَةَ " لاَ بَأْسَ " فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ غَيْرُهُ. (3)
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَحْرِيمُ تَحْلِيَةِ الْقُرْآنِ بِالذَّهَبِ مُطْلَقًا.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ - عِنْدَهُمْ - جَوَازُ تَحْلِيَةِ نَفْسِ الْمُصْحَفِ بِهِ دُونَ غِلاَفِهِ
__________
(1) نهاية المحتاج (1 / 91) ، وكشاف القناع (1 / 238) .
(2) مواهب الجليل (1 / 126) ، والمجموع (6 / 42) ، ومطالب أولي النهى (1 / 157) .
(3) حاشية ابن عابدين (1 / 658) .(21/285)
الْمُنْفَصِل عَنْهُ. (1) وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِهِمْ إِلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ الْمُصْحَفِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْحِلْيَةُ مُقْتَصِرَةً عَلَى غِلاَفِهِ الْخَارِجِيِّ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ بِالذَّهَبِ، وَلاَ أَنْ يُجْعَل عَلَى الأَْحْزَابِ وَالأَْعْشَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ مِنْ زَخْرَفَةِ الْمُصْحَفِ وَذَلِكَ يُلْهِي الْقَارِئَ وَيَشْغَلُهُ عَنْ تَدَبُّرِ آيَاتِهِ وَمَعَانِيهِ، وَلِنَفْسِ السَّبَبِ كَرِهَتِ الْحَنَابِلَةُ تَحْلِيَةَ الْمُصْحَفِ بِالذَّهَبِ. (2)
زَكَاةُ الذَّهَبِ:
22 - تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الذَّهَبِ بِالإِْجْمَاعِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاة) .
بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ:
23 - لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ؛ لأَِنَّ الذَّهَبَ مِنَ الأَْصْنَافِ السِّتَّةِ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ التَّفَاضُل فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مِنْهَا، كَمَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ، إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى. (3) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْع، وَصَرْف) .
__________
(1) المجموع (6 / 42) .
(2) مواهب الجليل (1 / 126) ، ومطالب أولي النهى (1 / 157) .
(3) حديث عبادة قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (ينهى عن بيع الذهب. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1210 - ط الحلبي) .(21/286)
بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ:
24 - لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ بِالتَّفَاضُل إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ، لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (بَيْع، وَصَرْف) .
بَيْعُ الذَّهَبِ جُزَافًا:
25 - لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ وَمِنْهُ الذَّهَبُ مُجَازَفَةً؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِثْلاً بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلاَمُ عَلَى هَذَا فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْع) . (1)
الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ فِي الأَْرْضِ الْمَبِيعَةِ:
26 - مَنْ وَجَدَ رِكَازًا فِي مَوَاتٍ، أَوْ فِي مِلْكِهِ بِالإِْحْيَاءِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ فِي الْجُمْلَةِ. أَمَّا مَنْ وَجَدَ رِكَازًا فِي مِلْكِهِ الْمُنْتَقِل إِلَيْهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لِلْمَالِكِ الأَْوَّل، وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لِلْمَالِكِ الأَْخِيرِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِكَاز) .
الْمُعَامَلَةُ بِالْمَغْشُوشِ مِنَ الذَّهَبِ:
27 - يُكْرَهُ لِلإِْمَامِ وَالْحَاكِمِ ضَرْبُ الْعُمْلَةِ بِالذَّهَبِ الْمَغْشُوشِ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) الموسوعة (9 / 76) ، فتح القدير (5 / 470) ، والدسوقي (3 / 23) ، وروضة الطالبين (3 / 383) ، والمجموع (10 / 353) ، وكشاف القناع (3 / 253) .(21/286)
الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (1) وَلِمَا فِيهِ مِنْ إِفْسَادِ النُّقُودِ وَالإِْضْرَارِ بِذَوِي الْحُقُوقِ وَغَلاَءِ الأَْسْعَارِ وَانْقِطَاعِ الأَْجْلاَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَغُشَّ بِهَا النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. فَلَوْ قَدَرَ أَنْ ضَرَبَهَا الإِْمَامُ وَكَانَ مِعْيَارُهَا مَعْلُومًا صَحَّتِ الْمُعَامَلَةُ بِهَا مُعَيَّنَةً وَفِي الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ الْحَال إِذَا لَمْ يَعْلَمْ عِيَارَهَا وَكَانَتْ رَائِجَةً لأَِنَّ الْمَقْصُودَ رَوَاجُهَا. وَقَالُوا أَيْضًا: " يُكْرَهُ لِغَيْرِ الإِْمَامِ ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَلَوْ خَالِصَةً؛ لأَِنَّهُ مِنْ شَأْنِ الإِْمَامِ، فَيَكُونُ فِي ضَرْبِهِ لِغَيْرِهِ افْتِيَاتًا عَلَيْهِ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ فِيهِ الْغِشُّ.
قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: " لاَ يَصْلُحُ ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ إِلاَّ فِي دَارِ الضَّرْبِ وَبِإِذْنِ السُّلْطَانِ؛ لأَِنَّ النَّاسَ إِنْ رُخِّصَ لَهُمْ رَكِبُوا الْعَظَائِمَ ". (2)
وَمَنْ مَلَكَ دَرَاهِمَ مَغْشُوشَةً يُكْرَهُ لَهُ إِمْسَاكُهَا بَل يَسْبِكُهَا وَيُصَفِّيهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ دَرَاهِمُ الْبَلَدِ مَغْشُوشَةً فَلاَ يُكْرَهُ إِمْسَاكُهَا.
وَقَدْ نَصَّ الإِْمَامُ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى كَرَاهَةِ إِمْسَاكِ الدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ وَاتَّفَقَ أَصْحَابُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ يَضْرِبُهُ وَرَثَتُهُ إِذَا مَاتَ، وَيَضْرِبُهُ غَيْرُهُمْ فِي حَال حَيَاتِهِ كَذَلِكَ، عَلَّلَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. (3)
__________
(1) حديث: " من غشنا فليس منا " أخرجه مسلم (1 / 99 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) كشاف القناع (2 / 271) .
(3) المجموع (6 / 10 - 11) ، وكشاف القناع (2 / 269 - 271) .(21/287)
إِسْلاَفُ الذَّهَبِ فِي الذَّهَبِ:
28 - لاَ يَجُوزُ إِسْلاَفُ الذَّهَبِ فِي الذَّهَبِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ بَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِالرِّبَوِيِّ فَلاَ يُقْبَل التَّأْجِيل. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (سَلَم) . (1)
الْقِرَاضُ بِالذَّهَبِ الْمَغْشُوشِ:
29 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ عَلَى دَنَانِيرَ خَالِصَةٍ. وَقَال النَّوَوِيُّ: بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ، وَالْحُلِيِّ، وَالتِّبْرِ، هَل تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِهَا أَمْ لاَ؟ (2)
فَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْقِرَاضُ بِالذَّهَبِ الْمَغْشُوشِ عَلَى الأَْصَحِّ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِهِ مَضْرُوبًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ الْغِشُّ النِّصْفَ فَأَقَل جَازَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ لَمْ يَجُزِ الْمُقَارَضَةُ بِهِ.
وَقَال الْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ هَذَا الْخِلاَفَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الذَّهَبُ الْمَغْشُوشُ سِكَّةً يَتَعَامَل بِهَا النَّاسُ، فَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْقِرَاضُ
__________
(1) بدائع الصنائع (7 / 3173) ، والدسوقي (3 / 221) ، والقوانين الفقهية (ص 265) ، والمغني مع الشرح الكبير (4 / 338) .
(2) ابن عابدين (3 / 340، 4 / 484) ، والحطاب (5 / 358 - 359) ، ومغني المحتاج (2 / 310) ، وكشاف القناع (3 / 498، 506) .(21/287)
بِهَا. لأَِنَّهَا قَدْ صَارَتْ عَيْنًا وَصَارَتْ مِنْ أُصُول الأَْمْوَال وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ؛ لِذَلِكَ تَتَعَلَّقُ الزَّكَاةُ بِأَعْيَانِهَا، وَلَوْ كَانَتْ عُرُوضًا لَمْ تَتَعَلَّقِ الزَّكَاةُ بِأَعْيَانِهَا. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَاض) .
اسْتِئْجَارُ مَا احْتِيجَ إِلَيْهِ مِنَ الذَّهَبِ:
30 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ دَنَانِيرِ الذَّهَبِ مُدَّةً مَعْلُومَةً لِلتَّحَلِّي وَالْوَزْنِ، وَكَذَلِكَ كُل مَا احْتِيجَ إِلَيْهِ كَأَنْفٍ مِنْ ذَهَبٍ؛ لأَِنَّهُ نَفْعٌ مُبَاحٌ يُسْتَوْفَى مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَكُل مَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ اسْتِئْجَارُهُ بِلاَ خِلاَفٍ. وَمَنَعَ الشَّافِعِيَّةُ اسْتِئْجَارَ الدَّنَانِيرِ لِلتَّزْيِينِ، وَنَصُّوا عَلَى جَوَازِ اسْتِئْجَارِ الْحُلِيِّ. (2)
الأُْجْرَةُ عَلَى صُنْعِ أَوَانِي الذَّهَبِ:
31 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ صَنَعَ إِنَاءَ ذَهَبٍ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ، إِذْ لاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَال إِنَاءِ الذَّهَبِ بِالإِْجْمَاعِ (3) .
إِعَارَةُ آنِيَةِ الذَّهَبِ:
32 - لاَ تَصِحُّ إِعَارَةُ آنِيَةِ الذَّهَبِ؛ لِمَا فِي إِعَارَتِهَا
__________
(1) مواهب الجليل (5 / 358 - 359) .
(2) مطالب أولي النهى (3 / 603) ، والقليوبي (3 / 69) .
(3) أسنى المطالب (1 / 27) ، ونهاية المحتاج (5 / 270) ، وكشاف القناع (6 / 551) .(21/288)
مِنَ الإِْعَانَةِ عَلَى الإِْثْمِ؛ لأَِنَّ اسْتِعْمَال آنِيَةِ الذَّهَبِ مُحَرَّمٌ بِالإِْجْمَاعِ. وَمِنَ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الإِْعَارَةَ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ فِي عَيْنٍ يُنْتَفَعُ بِهَا مَنْفَعَةً مُبَاحَةً مَعَ بَقَائِهَا عَلَى الدَّوَامِ. (1)
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِعَارَة) .
إِعَارَةُ حُلِيِّ الذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ:
33 - يَجُوزُ إِعَارَةُ حُلِيِّ الذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ بِدُونِ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّ التَّحَلِّيَ بِالذَّهَبِ مُبَاحٌ فِي حَقِّهِنَّ، وَكُل عَيْنٍ يُنْتَفَعُ بِهَا مَنْفَعَةً مُبَاحَةً يَجُوزُ إِعَارَتُهَا. (2)
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِعَارَة) .
إِتْلاَفُ آنِيَةِ الذَّهَبِ:
34 - ضَمَانُ الْمُتْلَفِ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْل بِجَوَازِ اقْتِنَائِهَا وَعَدَمِهِ. فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ الاِقْتِنَاءِ قَال بِالضَّمَانِ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى حُرْمَةِ اقْتِنَائِهَا قَال بِعَدَمِ ضَمَانِ الصَّنْعَةِ، وَيَضْمَنُ مَا يُتْلِفُهُ مِنَ الْعَيْنِ.
وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (آنِيَة (3) ، وَإِتْلاَف (4)) .
__________
(1) المغني والشرح الكبير (5 / 359) ، وكشاف القناع (4 / 68 - 69) .
(2) المغني (5 / 359) .
(3) الموسوعة (1 / 124) .
(4) الموسوعة (1 / 220) .(21/288)
إِحْيَاءُ مَعَادِنِ الذَّهَبِ وَإِقْطَاعُهَا:
35 - الذَّهَبُ مِنَ الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ وَهِيَ الَّتِي لاَ تَخْرُجُ إِلاَّ بِعَمَلٍ وَمُؤْنَةٍ، فَهِيَ مِلْكٌ لِمَنِ اسْتَخْرَجَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ احْتِمَالٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الذَّهَبَ كَالْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ أَمْرُهَا إِلَى الإِْمَامِ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْيَاء) .
الذَّبْحُ بِالذَّهَبِ:
36 - لاَ يَجُوزُ الذَّبْحُ بِسِكِّينٍ مِنَ الذَّهَبِ كَغَيْرِهِ مِنَ الاِسْتِعْمَالاَتِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ ذُبِحَ بِهَا حَلَّتِ الذَّبِيحَةُ بِشُرُوطِ التَّذْكِيَةِ. (2)
مِقْدَارُ الدِّيَةِ مِنَ الذَّهَبِ:
37 - اخْتُلِفَ هَل الأَْصْل فِي تَقْدِيرِ الدِّيَةِ الإِْبِل، أَوِ الذَّهَبُ، أَوِ الْفِضَّةُ. (3)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَة) .
سَرِقَةُ الذَّهَبِ:
38 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين (5 / 383) ، وحاشية الدسوقي (1 / 486 - 487) ، والمقدمات لابن رشد (1 / 224 - 225) ، وحاشية الباجوري (2 / 40) ، وشرح الزبد غاية البيان (255) ، والبجيرمي على الخطيب (3 / 199) ، والمغني (5 / 575) .
(2) نهاية المحتاج (8 / 113) .
(3) المحلى (10 / 389) ، وسنن النسائي (7 / 44) .(21/289)
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ قَطْعِ يَدِ سَارِقِ الذَّهَبِ أَنْ يَبْلُغَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ رُبْعَ دِينَارٍ وَزْنًا وَقِيمَةً مَعًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ قَطْعَ فِي أَقَل مِنْ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ.
وَيُعْتَبَرُ فِي غَيْرِ الذَّهَبِ بُلُوغُ قِيمَتِهِ رُبْعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (سَرِقَة) .
__________
(1) حديث: " تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 96 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1312 - ط الحلبي) من حديث عائشة، واللفظ للبخاري، وأما لفظ مسلم فهو: " لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدًا ".
(2) تبيين الحقائق (3 / 211 - 213) ، وشرح منح الجليل (4 / 520) ، ومغني المحتاج (4 / 158) ، وكشاف القناع (6 / 131) ، نشر مكتبة النصر الحديثة.(21/289)
ذُو الْحُلَيْفَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحُلَيْفَةُ: بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَضْمُومَةِ، تَصْغِيرُ الْحَلْفَاءِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللاَّمِ. وَالْحَلْفَاءُ: نَبْتٌ مَعْرُوفٌ. وَقِيل: قَصَبٌ لَمْ يُدْرَكْ.
وَذُو الْحُلَيْفَةِ: مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ بَنِي جُشَمَ، ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ الْمَوْضِعُ، وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْل الْمَدِينَةِ (1) ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سِتَّةُ أَمْيَالٍ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مِائَتَا مِيلٍ إِلاَّ مِيلَيْنِ.
وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي
__________
(1) أما ذو الحليفة الذي ذكر في حديث رواه البخاري (الفتح 9 / 623 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1558 - 1559 - ط الحلبي) من حديث رافع بن خديج قال: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم (بذي الحليفة، فأصاب الناس جوع، فأصبنا إبلاً وغنمًا. . . . " الحديث، فهذا موضع آخر من تهامة كما بينته رواية مسلم.، وهذا الموضع يقع بين الحرة وذات عرق. شرح الأبي على صحيح مسلم ".(21/290)
الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ. (1)
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُئِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسٍ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، قِيل لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ. (2)
قَال الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: " وَبِهَا مَسْجِدُ يُعْرَفُ بِمَسْجِدِ الشَّجَرَةِ، خَرَابٌ، وَبِهَا بِئْرٌ يُقَال لَهَا: بِئْرُ عَلِيٍّ ". (3)
أَمَّا الآْنَ فَالْمَكَانُ وَالْمَسْجِدُ عَامِرَانِ، وَفِيهَا مَرَافِقُ لِلْمُسَافِرِينَ وَالْحُجَّاجِ.
وَيُعْرَفُ ذُو الْحُلَيْفَةِ الآْنَ بِاسْمِ " آبَارُ عَلِيٍّ "، وَكَأَنَّهُ نِسْبَةٌ إِلَى الْبِئْرِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَذُو الْحُلَيْفَةِ مِنْ مَوَاقِيتِ الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَهِيَ مِيقَاتُ الإِْحْرَامِ لأَِهْل الْمَدِينَةِ وَتَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْمَوَاقِيتِ. (انْظُرْ: مِيقَات، وَإِحْرَام)
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان إذا خرج إلى مكة يصلي. . . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 391 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمر.
(2) حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم (رئي وهو في معرس. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 392 - ط السلفية) .
(3) فتح الباري (3 / 247 طبع السلفية) ، وانظر مادة: (حلف) في النهاية لابن الأثير والقاموس المحيط، ومعجم البلدان (الحليفة) طبع دار صادر (2 / 295) ، ومراصد الإطلاع (1 / 420) ، والروض المعطار في خبر الأمصار للحميري تحقيق إحسان عباس (ص 296) .(21/290)
ذُو الرَّحِمِ
انْظُرْ: أَرْحَام
ذُو غَفْلَةٍ
انْظُرْ: غَفْلَة
ذُو الْقُرْبَى
انْظُرْ: قَرَابَةٌ.
ذُو الْقَعْدَةِ
انْظُرْ: الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ(21/291)
ذَوْدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الذَّوْدُ فِي اللُّغَةِ: الْقَطِيعُ مِنَ الإِْبِل مَا بَيْنَ الثَّلاَثِ إِلَى الْعَشْرِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ لاَ وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَجَمْعُهُ أَذْوَادٌ. وَفِي الْمُغْرِبِ: الذَّوْدُ مِنَ الإِْبِل مِنَ الثَّلاَثِ إِلَى الْعَشْرِ، وَقِيل: مِنَ الثِّنْتَيْنِ إِلَى التِّسْعِ مِنَ الإِْنَاثِ دُونَ الذُّكُورِ. (1)
وَأَمَّا الذَّوْدُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ الثَّلاَثُ إِلَى الْعَشْرِ مِنَ الإِْبِل. (2)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالذَّوْدِ:
2 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ الأَْحْكَامَ الْخَاصَّةَ بِمُصْطَلَحِ: (ذَوْدٌ) فِي زَكَاةِ الإِْبِل مِنْ كِتَابِ الزَّكَاةِ.
وَخُلاَصَةُ مَا قَالُوهُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ زَكَاةَ الذَّوْدِ
__________
(1) الصحاح، والمصباح، والمغرب، واللسان، وأساس البلاغة مادة: (ذود) .
(2) العناية مع فتح القدير (1 / 494 ط - الأميرية) .(21/291)
وَاجِبَةٌ كَغَيْرِهَا مِنَ النَّعَمِ عِنْدَ وُجُودِ النِّصَابِ مَعَ بَاقِي شُرُوطِ الزَّكَاةِ وَأَقَل نِصَابٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فِي الذَّوْدِ مِنَ الإِْبِل خَمْسٌ، فَلاَ زَكَاةَ فِيمَا دُونَهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلاَّ أَرْبَعٌ مِنَ الإِْبِل فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ (1)
وَقَال: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الإِْبِل صَدَقَةٌ. (2) وَالْوَاجِبُ الَّذِي يَجِبُ إِخْرَاجُهُ عَنِ الْخَمْسِ مِنَ الإِْبِل شَاةٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا مِنَ الإِْبِل فَفِيهَا شَاةٌ. (3)
فَإِذَا بَلَغَتِ الذَّوْدُ عَشْرًا فَفِيهَا شَاتَانِ.
وَفِي إِخْرَاجِ الذَّكَرِ مِنَ الْغَنَمِ عَنِ الذَّوْدِ أَيْ إِنَاثِ الإِْبِل، أَوْ إِخْرَاجِ الْبَعِيرِ عَمَّا وَجَبَتْ فِيهِ الشَّاةُ الْوَاحِدَةُ أَوِ الشَّاتَانِ خِلاَفٌ، وَفِي إِخْرَاجِ قِيمَةِ الشَّاةِ أَيْضًا خِلاَفٌ.
__________
(1) حديث: " من لم يكن معه إلا أربع من الإبل. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 317 - ط السلفية) من حديث أبي بكر الصديق.
(2) حديث: " ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 323 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 674 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) حديث: " إذا بلغت خمسًا من الإبل ففيها شاة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 317 - ط السلفية) من حديث أبي بكر الصديق.(21/292)
وَالتَّفْصِيل مَحَلُّهُ زَكَاةُ الإِْبِل فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاة) . (1)
__________
(1) العناية مع فتح القدير (1 / 494 ط الأميرية) ، والفتاوى الهندية (1 / 177 - ط المكتبة الإسلامية) ، وبدائع الصنائع (2 / 26 - ط الجمالية) ، وحاشية الدسوقي (1 / 432 - 433 - ط الفكر) ، وحاشية العدوي على شرح الرسالة (1 / 439 - ط المعرفة) ، وجواهر الإكليل (1 / 119 - ط المعرفة) ، وشرح الزرقاني على مختصر خليل (2 / 116 - ط الفكر) ، الخرشي (2 / 149 - 150 - ط بولاق) ، وروضة الطالبين (2 / 151 - 152 ط المكتب الإسلامي) ، وحاشية القليوبي (2 / 3 - 4 - ط الحلبي) ، المهذب (1 / 152 - 153 - ط الحلبي) ، وكشاف القناع (2 / 184 - 189 - ط النصر) ، والإنصاف (3 / 48، 49، 54، 55 - ط التراث العربي) ، والمغني (2 / 575 - 579 - ط الرياض) .(21/292)
ذَوْقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الذَّوْقُ: إِدْرَاكُ طَعْمِ الشَّيْءِ بِوَاسِطَةِ الرُّطُوبَةِ الْمُنْبَثَّةِ بِالْعَصَبِ الْمَفْرُوشِ عَلَى عَضَل اللِّسَانِ. وَهُوَ أَحَدُ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالذَّوْقِ:
أ - ذَوْقُ الصَّائِمِ الطَّعَامَ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الصَّوْمَ لاَ يَبْطُل بِذَوْقِ الصَّائِمِ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا إِنْ لَمْ يَصِل إِلَى الْجَوْفِ. وَلَكِنِ الأَْفْضَل تَجَنُّبُهُ. (2)
ب - الْجِنَايَةُ عَلَى الذَّوْقِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ دِيَةٍ كَامِلَةٍ، فِي إِذْهَابِ الذَّوْقِ بِالْجِنَايَةِ؛ لأَِنَّهُ مِنَ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ فَأَشْبَهَ الشَّمَّ. (3)
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ.
__________
(1) المصباح المنير، مادة: (ذوق) ، والتعريفات للجرجاني، ومغني المحتاج (4 / 73 - 74) ، وشرح الزرقاني (8 / 35) .
(2) المغني (2 / 110) ، وابن عابدين (2 / 101) .
(3) مغني المحتاج (4 / 73) ، والمغني لابن قدامة (8 / 11) ، والزرقاني (8 / 35) ، والاختيار (5 / 37) .(21/293)
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ - إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي ذَهَابِ الذَّوْقِ بِجِنَايَةِ الْعَمْدِ، وَقَالُوا: لأَِنَّ لَهُ مَحَلًّا مَضْبُوطًا، وَلأَِهْل الْخِبْرَةِ طُرُقًا فِي إِبْطَالِهِ. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَعَانِي، إِلاَّ الْبَصَرَ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ إِتْلاَفَهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى مَحَلِّهَا، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ فَلاَ تُمْكِنُ الْمُسَاوَاةُ فِيهِ، فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ. (2) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (دِيَة، جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ) .
ج - الْيَمِينُ عَلَى الذَّوْقِ:
4 - إِذَا حَلَفَ أَنَّهُ لاَ يَذُوقُ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا، فَأَكَل أَوْ شَرِبَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، أَمَّا إِذَا حَلَفَ أَنَّهُ لاَ يَأْكُل أَوْ لاَ يَشْرَبُ فَذَاقَ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا فَلاَ يَحْنَثُ؛ لأَِنَّ كُل أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ ذَوْقٌ، وَلاَ عَكْسَ. (3)
وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ الْيَمِينِ.
ذَيْلٌ
انْظُرْ: أَلْبِسَةٌ وَاخْتِيَالٌ.
__________
(1) مغني المحتاج (4 / 29) ، وشرح الزرقاني (8 / 17) .
(2) المغني (8 / 11) ، وبدائع الصنائع (7 / 307) .
(3) فتح القدير (4 / 44) ، والبحر الرائق (4 / 344) .(21/293)
رَأْسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرَّأْسُ مُفْرَدٌ، وَجَمْعُ الْقِلَّةِ فِيهِ: أَرْؤُسٌ، وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ رُءُوسٌ.
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: أَعْلَى كُل شَيْءٍ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى سَيِّدِ الْقَوْمِ، وَعَلَى الْقَوْمِ إِذَا كَثُرُوا وَعَزُّوا. وَرَأْسُ الْمَال: أَصْلُهُ (1) .
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرَّأْسِ:
2 - تَخْتَلِفُ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرَّأْسِ بِاخْتِلاَفِ مَوْضُوعِ الْحُكْمِ.
فَفِي الْوُضُوءِ يَجِبُ الْمَسْحُ بِالرَّأْسِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَأَمَّا مِقْدَارُ مَا يُمْسَحُ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (وُضُوءٌ) .
وَفِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل الْمُحْرِمِ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهُ، وَتَجِبُ الْفِدْيَةُ فِيهِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ) .
وَفِي الْجِنَايَةِ عَلَى الرَّأْسِ قِصَاصٌ، أَوْ دِيَةٌ، أَوْ
__________
(1) تاج العروس، متن اللغة.(22/5)
أَرْشٌ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ، دِيَةٌ، أَرْشٌ) .
كَشْفُ الرَّأْسِ فِي الصَّلاَةِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الرَّأْسِ فِي الصَّلاَةِ لِلرَّجُل، بِعِمَامَةٍ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَذَلِكَ يُصَلِّي (1) .
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُ رَأْسِهَا فِي الصَّلاَةِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (صَلاَةٌ وَعَوْرَةٌ) .
سَتْرُ الرَّأْسِ عِنْدَ دُخُول الْخَلاَءِ:
3 - يُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يَدْخُل الْخَلاَءَ حَاسِرَ الرَّأْسِ (2) ، لِخَبَرِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَل الْخَلاَءَ لَبِسَ حِذَاءَهُ، وَغَطَّى رَأْسَهُ (3) .
ضَرْبُ الرَّأْسِ فِي الْحَدِّ، وَالتَّأْدِيبِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُضْرَبُ رَأْسُ الْمَجْلُودِ لِلْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ؛ لأَِنَّهُ مِنَ الْمَقَاتِل، وَرُبَّمَا
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالعمامة " ذكره صاحب كشاف القناع (1 / 267 - ط عالم الكتب) نقلاً عن المجد ابن تيمية في شرحه. وانظر: فتح القدير 1 / 297، وكشاف القناع 1 / 266 - 267، وأسنى المطالب 1 / 178، وروضة الطالبين 1 / 288.
(2) روضة الطالبين 1 / 66، وكشاف القناع 1 / 59، ابن عابدين 1 / 230.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء. . . " ذكره صاحب كشاف القناع 1 / 59 - ط عالم الكتب) وعزاه إلى ابن سعد من حديث حبيب بن صالح مرسلاً.(22/5)
يُفْضِي ضَرْبُهُ إِلَى ذَهَابِ سَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، وَعَقْلِهِ، أَوْ قَتْلِهِ، وَالْمَقْصُودُ تَأْدِيبُهُ لاَ قَتْلُهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال لِلْجَلاَّدِ: اتَّقِ الْوَجْهَ، وَالرَّأْسَ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهُ يُضْرَبُ الرَّأْسُ فِي الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُخَافُ التَّلَفُ بِسَوْطٍ أَوْ سَوْطَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: اضْرِبُوا الرَّأْسَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
الْيَمِينُ عَلَى أَكْل الرُّءُوسِ:
5 - إِذَا حَلَفَ لاَ يَأْكُل رَأْسًا وَأَطْلَقَ، حُمِل عَلَى رُءُوسِ الأَْنْعَامِ، وَهِيَ الْغَنَمُ، وَالإِْبِل، وَالْبَقَرُ؛ لأَِنَّهَا هِيَ الَّتِي تُبَاعُ وَتُشْتَرَى فِي السُّوقِ مُنْفَرِدَةً، وَهِيَ الْمُتَعَارَفَةُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَقَال الصَّاحِبَانِ: يُحْمَل عَلَى رَأْسِ الْغَنَمِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا إِنْ عَمَّمَ أَوْ خَصَّصَ فَإِنَّهُ يُتَّبَعُ، وَإِنْ قَصَدَ مَا يُسَمَّى رَأْسًا حَنِثَ بِالْكُل (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مَبَاحِثِ الأَْيْمَانِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِشَعْرِ الرَّأْسِ مِنَ الأَْحْكَامِ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَعْرٌ) .
__________
(1) الاختيار 4 / 85، ومغني المحتاج 4 / 190، والمغني 8 / 314، ومواهب الجليل 6 / 318.
(2) مغني المحتاج 4 / 335، والاختيار 4 / 64، وابن عابدين 3 / 91، وأسنى المطالب 4 / 255.(22/6)
رَأْسُ الْمَال
التَّعْرِيفُ:
1 - رَأْسُ الْمَال فِي اللُّغَةِ: أَصْل الْمَال بِلاَ رِبْحٍ وَلاَ زِيَادَةٍ، وَهُوَ جُمْلَةُ الْمَال الَّتِي تُسْتَثْمَرُ فِي عَمَلٍ مَا (1) . قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2 - يُذْكَرُ هَذَا الْمُصْطَلَحُ فِي: الزَّكَاةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالسَّلَمِ، وَالرِّبَا، وَالْقَرْضِ، وَبُيُوعِ الأَْمَانَاتِ، وَالْمُرَابَحَةِ، وَالتَّوْلِيَةِ، وَالْحَطِيطَةِ. وَيُرْجَعُ إِلَى الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الْمُصْطَلَحِ فِي مَظَانِّهَا الْمَذْكُورَةِ.
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، والمعجم الوسيط.
(2) سورة البقرة / 279.(22/6)
رُؤْيَا
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّؤْيَا عَلَى وَزْنِ فُعْلَى مَا يَرَاهُ الإِْنْسَانُ فِي مَنَامِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لأَِلِفِ التَّأْنِيثِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ، وَتُجْمَعُ عَلَى رُؤًى.
وَأَمَّا الرُّؤْيَةُ بِالْهَاءِ فَهِيَ رُؤْيَةُ الْعَيْنِ وَمُعَايَنَتُهَا لِلشَّيْءِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ، وَتَأْتِي أَيْضًا بِمَعْنَى الْعِلْمِ كَمَا فِي الصِّحَاحِ وَاللِّسَانِ، فَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى النَّظَرِ بِالْعَيْنِ فَإِنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْعِلْمِ فَإِنَّهَا تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ (1) .
وَالرُّؤْيَا فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ تَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْلْهَامُ:
2 - الإِْلْهَامُ فِي اللُّغَةِ: تَلْقِينُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخَيْرَ لِعَبْدِهِ، أَوْ إِلْقَاؤُهُ فِي رُوعِهِ (2) .
__________
(1) المصباح، والقاموس مادة: (روى) ، الصحاح واللسان، مادة: (رأى) ، والكليات 2 / 384 ط - دمشق.
(2) القاموس، واللسان، والصحاح، مادة: (لهم) .(22/7)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: إِيقَاعُ شَيْءٍ يَطْمَئِنُّ لَهُ الصَّدْرُ يَخُصُّ بِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِلْهَامٌ) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرُّؤْيَا وَالإِْلْهَامِ أَنَّ الإِْلْهَامَ يَكُونُ فِي الْيَقَظَةِ، بِخِلاَفِ الرُّؤْيَا فَإِنَّهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ فِي النَّوْمِ.
ب - الْحُلُمُ:
3 - الْحُلُمُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ اللاَّمِ وَقَدْ تُسَكَّنُ تَخْفِيفًا هُوَ الرُّؤْيَا، أَوْ هُوَ اسْمٌ لِلاِحْتِلاَمِ وَهُوَ الْجِمَاعُ فِي النَّوْمِ (2) . وَالْحُلُمُ وَالرُّؤْيَا وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَحْدُثُ فِي النَّوْمِ إِلاَّ أَنَّ الرُّؤْيَا اسْمٌ لِلْمَحْبُوبِ فَلِذَلِكَ تُضَافُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْحُلُمُ اسْمٌ لِلْمَكْرُوهِ فَيُضَافُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرُّؤْيَا مِنَ اللَّهِ، وَالْحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ (3) ، وَقَال عِيسَى بْنُ دِينَارٍ: الرُّؤْيَا رُؤْيَةُ مَا يُتَأَوَّل عَلَى الْخَيْرِ وَالأَْمْرِ الَّذِي يُسَرُّ بِهِ، وَالْحُلُمُ هُوَ الأَْمْرُ الْفَظِيعُ الْمَجْهُول يُرِيهِ الشَّيْطَانُ لِلْمُؤْمِنِ لِيُحْزِنَهُ وَلِيُكَدِّرَ عَيْشَهُ (4) .
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون.
(2) القاموس المحيط، مادة: (حلم) ، صحيح مسلم بشرح النووي 15 / 16 ط - المصرية، تفسير القرطبي 9 / 124 ط - المصرية.
(3) حديث: " الرؤيا من الله والحلم من الشيطان " أخرجه البخاري الفتح (12 / 369 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1771 - ط الحلبي) ، من حديث أبي قتادة، وعند البخاري: " الرؤيا الصادقة ".
(4) المنتقى 7 / 277 ط - العربي.(22/7)
ج - الْخَاطِرُ:
4 - الْخَاطِرُ هُوَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَرَاتِبِ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ مَا يَخْطِرُ فِي الْقَلْبِ مِنْ تَدْبِيرِ أَمْرٍ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ مَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنَ الْخِطَابِ أَوِ الْوَارِدُ الَّذِي لاَ عَمَل لِلْعَبْدِ فِيهِ، وَالْخَاطِرُ غَالِبًا يَكُونُ فِي الْيَقَظَةِ بِخِلاَفِ الرُّؤْيَا (1) .
د - الْوَحْيُ:
5 - مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ كَمَا قَال ابْنُ فَارِسٍ الإِْشَارَةُ وَالرِّسَالَةُ وَالْكِتَابَةُ وَكُل مَا أَلْقَيْتَهُ إِلَى غَيْرِك لِيَعْلَمَهُ، وَهُوَ مَصْدَرُ وَحَى إِلَيْهِ يَحِي مِنْ بَابِ وَعَدَ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ بِالأَْلِفِ مِثْلُهُ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَال الْوَحْيِ فِيمَا يُلْقَى إِلَى الأَْنْبِيَاءِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى (2) . فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّؤْيَا وَاضِحٌ، وَرُؤْيَا الأَْنْبِيَاءِ وَحْيٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: أَوَّل مَا بُدِئَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ (3) .
الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ وَمَنْزِلَتُهَا:
6 - الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ حَالَةٌ شَرِيفَةٌ وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ كَمَا
__________
(1) المصباح مادة: (مطر) ، والمنثور للزركشي 2 / 33 ط - الأولى، والتعريفات للجرجاني / 129 ط - العربي، والكليات 2 / 309 ط - دمشق.
(2) المصباح مادة: (وحي) .
(3) حديث: " أول ما بدئ به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 22 - ط السلفية) من حديث عائشة.(22/8)
ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ، قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ (1) . وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْل مِصْرَ سَأَل أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (2) قَال: مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ مُنْذُ سَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا، فَقَال: مَا سَأَلَنِي عَنْهَا أَحَدٌ غَيْرُك مُنْذُ أُنْزِلَتْ، هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ (3) .
وَقَدْ حَكَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ (4) وَرُوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَالْمُرَادُ بِالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ غَالِبُ رُؤَى الصَّالِحِينَ
__________
(1) حديث: " لم يبق من مبشرات النبوة. . . . " أخرجه مسلم (1 / 348 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(2) سورة يونس / 64.
(3) حديث أبي الدرداء: ما سألني عنها أحد غيرك. أخرجه الترمذي (5 / 286 - 287 - ط الحلبي) ، وفي إسناده جهالة، ولكن له شاهد من حديث عبادة بن الصامت، أخرجه أحمد (5 / 315 - ط الميمنية) وآخر من حديث أبي هريرة أخرجه الطبري في تفسيره (15 / 131 - ط المعارف) يتقوى به.
(4) فتح الباري 12 / 362 - 363 ط الرياض، صحيح مسلم بشرح النووي 15 / 20 - 21 ط المصرية، تحفة الأحوذي 6 / 549 ط. الفجالة، وتفسير القرطبي 9 / 122 - 123 ط المصرية. وحديث: " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 373 - ط السلفية) من حديث أبي سعيد الخدري.(22/8)
كَمَا قَال الْمُهَلَّبُ، وَإِلاَّ فَالصَّالِحُ قَدْ يَرَى الأَْضْغَاثَ وَلَكِنَّهُ نَادِرٌ لِقِلَّةِ تَمَكُّنِ الشَّيْطَانِ مِنْهُمْ، بِخِلاَفِ عَكْسِهِمْ، فَإِنَّ الصِّدْقَ فِيهَا نَادِرٌ لِغَلَبَةِ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ، فَالنَّاسُ عَلَى هَذَا ثَلاَثُ دَرَجَاتٍ.
- الأَْنْبِيَاءُ وَرُؤَاهُمْ كُلُّهَا صِدْقٌ، وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ.
- وَالصَّالِحُونَ وَالأَْغْلَبُ عَلَى رُؤَاهُمُ الصِّدْقُ، وَقَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ.
- وَمَنْ عَدَاهُمْ وَقَدْ يَقَعُ فِي رُؤَاهُمُ الصِّدْقُ وَالأَْضْغَاثُ.
وَقَال الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْعَرَبِيُّ: إِنَّ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ هِيَ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَى أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ لِصَلاَحِهَا وَاسْتِقَامَتِهَا، بِخِلاَفِ رُؤْيَا الْفَاسِقِ فَإِنَّهَا لاَ تُعَدُّ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَقِيل تُعَدُّ مِنْ أَقْصَى الأَْجْزَاءِ، وَأَمَّا رُؤْيَا الْكَافِرِ فَلاَ تُعَدُّ أَصْلاً. وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ أَنَّ الْمُسْلِمَ الصَّادِقَ الصَّالِحَ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ حَالُهُ حَال الأَْنْبِيَاءِ فَأُكْرِمَ بِنَوْعٍ مِمَّا أُكْرِمَ بِهِ الأَْنْبِيَاءُ وَهُوَ الاِطِّلاَعُ عَلَى الْغَيْبِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ وَالْمُخَلِّطُ فَلاَ، وَلَوْ صَدَقَتْ رُؤْيَاهُمْ أَحْيَانًا فَذَاكَ كَمَا قَدْ يَصْدُقُ الْكَذُوبُ، وَلَيْسَ كُل مَنْ حَدَّثَ عَنْ غَيْبٍ يَكُونُ خَبَرُهُ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ كَالْكَاهِنِ وَالْمُنَجِّمِ (1) .
__________
(1) فتح الباري (12 / 362 - 391 ط - الرياض، وصحيح مسلم بشرح النووي 15 / 20 - 21 ط المصرية، وتفسير القرطبي 9 / 124 ط الأولى.(22/9)
هَذَا، وَقَدِ اسْتُشْكِل كَوْنُ الرُّؤْيَا جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ مَعَ أَنَّ النُّبُوَّةَ انْقَطَعَتْ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ فَقِيل فِي الْجَوَابِ: إِنْ وَقَعَتِ الرُّؤْيَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ حَقِيقَةً، وَإِنْ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ فَهِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ عَلَى سَبِيل الْمَجَازِ. وَقَال الْخَطَّابِيُّ: قِيل مَعْنَاهُ: أَنَّ الرُّؤْيَا تَجِيءُ عَلَى مُوَافَقَةِ النُّبُوَّةِ لاَ أَنَّهَا جُزْءٌ بَاقٍ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقِيل الْمَعْنَى: إِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ عِلْمِ النُّبُوَّةِ؛ لأَِنَّ النُّبُوَّةَ وَإِنِ انْقَطَعَتْ فَعِلْمُهَا بَاقٍ (1) .
رُؤْيَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْمَنَامِ:
7 - اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ رُؤْيَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْمَنَامِ فَقِيل: لاَ تَقَعُ، لأَِنَّ الْمَرْئِيَّ فِيهِ خَيَالٌ وَمِثَالٌ، وَذَلِكَ عَلَى الْقَدِيمِ مُحَالٌ، وَقِيل: تَقَعُ لأَِنَّهُ لاَ اسْتِحَالَةَ لِذَلِكَ فِي الْمَنَامِ (2) .
رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ:
8 - ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ بَابًا بِعِنْوَانِ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَذَكَرَ فِيهِ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: " سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) فتح الباري 12 / 363، 364
(2) الفروق 4 / 446، وتهذيب الفروق 4 / 271، وفتح الباري 12 / 387.(22/9)
يَقُول: مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ وَلاَ يَتَمَثَّل الشَّيْطَانُ بِي (1) .
وَهَذِهِ الأَْحَادِيثُ تَدُل عَلَى جَوَازِ رُؤْيَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ، وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَقْوَالاً مُخْتَلِفَةً فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ.
وَالصَّحِيحُ مِنْهَا أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنَّ رُؤْيَتَهُ فِي كُل حَالَةٍ لَيْسَتْ بَاطِلَةً وَلاَ أَضْغَاثًا، بَل هِيَ حَقٌّ فِي نَفْسِهَا، وَلَوْ رُئِيَ عَلَى غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَصَوُّرُ تِلْكَ الصُّورَةِ لَيْسَ مِنَ الشَّيْطَانِ بَل هُوَ مِنْ قِبَل اللَّهِ، وَقَال: وَهَذَا قَوْل الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ (2) أَيْ رَأَى الْحَقَّ الَّذِي قَصَدَ إِعْلاَمَ الرَّائِي بِهِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا وَإِلاَّ سَعَى فِي تَأْوِيلِهَا وَلاَ يُهْمِل أَمْرَهَا، لأَِنَّهَا إِمَّا بُشْرَى بِخَيْرٍ، أَوْ إِنْذَارٌ مِنْ شَرٍّ إِمَّا لِيُخِيفَ الرَّائِيَ، إِمَّا لِيَنْزَجِرَ عَنْهُ، وَإِمَّا لِيُنَبِّهَ عَلَى حُكْمٍ يَقَعُ لَهُ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ (3) .
وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ أَنَّ رُؤْيَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا تَصِحُّ لأَِحَدِ رَجُلَيْنِ: -
__________
(1) حديث: " من رآني في المنام فسيراني في اليقظة " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 383 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1775 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.
(2) حديث: " فقد رأى الحق " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 383 - ط السلفية) من حديث أبي قتادة.
(3) فتح الباري (12 / 384 - 385 ط الرياض) .(22/10)
أَحَدُهُمَا: صَحَابِيٌّ رَآهُ فَعَلِمَ صِفَتَهُ فَانْطَبَعَ فِي نَفْسِهِ مِثَالُهُ فَإِذَا رَآهُ جَزَمَ بِأَنَّهُ رَأَى مِثَالَهُ الْمَعْصُومَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَيَنْتَفِي عَنْهُ اللَّبْسُ وَالشَّكُّ فِي رُؤْيَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَثَانِيهِمَا: رَجُلٌ تَكَرَّرَ عَلَيْهِ سَمَاعُ صِفَاتِهِ الْمَنْقُولَةِ فِي الْكُتُبِ حَتَّى انْطَبَعَتْ فِي نَفْسِهِ صِفَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمِثَالُهُ الْمَعْصُومُ، كَمَا حَصَل ذَلِكَ لِمَنْ رَآهُ، فَإِذَا رَآهُ جَزَمَ بِأَنَّهُ رَأَى مِثَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا يَجْزِمُ بِهِ مَنْ رَآهُ، فَيَنْتَفِي عَنْهُ اللَّبْسُ وَالشَّكُّ فِي رُؤْيَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَمَّا غَيْرُ هَذَيْنِ فَلاَ يَحِل لَهُ الْجَزْمُ بَل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَآهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمِثَالِهِ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مِنْ تَخْيِيل الشَّيْطَانِ، وَلاَ يُفِيدُ قَوْل الْمَرْئِيِّ لِمَنْ رَآهُ أَنَا رَسُول اللَّهِ، وَلاَ قَوْل مَنْ يَحْضُرُ مَعَهُ هَذَا رَسُول اللَّهِ؛ لأَِنَّ الشَّيْطَانَ يَكْذِبُ لِنَفْسِهِ وَيَكْذِبُ لِغَيْرِهِ، فَلاَ يَحْصُل الْجَزْمُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ صَرِيحًا فِي أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ مِثَالِهِ الْمَخْصُوصِ لاَ يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ فِي التَّعْبِيرِ أَنَّ الرَّائِيَ يَرَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَيْخًا وَشَابًّا وَأَسْوَدَ، وَذَاهِبَ الْعَيْنَيْنِ، وَذَاهِبَ الْيَدَيْنِ، وَعَلَى أَنْوَاعٍ شَتَّى مِنَ الْمُثُل الَّتِي لَيْسَتْ مِثَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ صِفَاتُ الرَّائِينَ وَأَحْوَالُهُمْ تَظْهَرُ فِيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ كَالْمِرْآةِ لَهُمْ (1) .
__________
(1) الفروق (4 / 245 ط الأولى) .(22/10)
تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِعْلِهِ فِي الرُّؤْيَا:
9 - مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ يَقُول قَوْلاً أَوْ يَفْعَل فِعْلاً فَهَل يَكُونُ قَوْلُهُ هَذَا أَوْ فِعْلُهُ حُجَّةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ أَوْ لاَ؟ .
ذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ فِي ذَلِكَ ثَلاَثَةَ أَقْوَالٍ: -
الأَْوَّل: أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً وَيَلْزَمُ الْعَمَل بِهِ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ مِنْهَا الأُْسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ؛ لأَِنَّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ حَقٌّ وَالشَّيْطَانُ لاَ يَتَمَثَّل بِهِ.
الثَّانِيَ: أَنَّهُ لاَ يَكُونُ حُجَّةً وَلاَ يَثْبُتُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ؛ لأَِنَّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَا حَقٍّ وَأَنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّل بِهِ لَكِنِ النَّائِمُ لَيْسَ مِنْ أَهْل التَّحَمُّل لِلرِّوَايَةِ لِعَدَمِ حِفْظِهِ.
الثَّالِثَ: أَنَّهُ يُعْمَل بِذَلِكَ مَا لَمْ يُخَالِفْ شَرْعًا ثَابِتًا.
قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَلاَ يَخْفَاكَ أَنَّ الشَّرْعَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَمَّلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل وَقَال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (1) .
وَلَمْ يَأْتِنَا دَلِيلٌ يَدُل عَلَى أَنَّ رُؤْيَتَهُ فِي النَّوْمِ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَال فِيهَا بِقَوْلٍ، أَوْ فَعَل فِيهَا فِعْلاً يَكُونُ دَلِيلاً وَحُجَّةً، بَل قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ كَمَّل لِهَذِهِ الأُْمَّةِ مَا شَرَعَهُ لَهَا عَلَى لِسَانِهِ وَلَمْ يَبْقَ
__________
(1) سورة المائدة / 3.(22/11)
بَعْدَ ذَلِكَ حَاجَةٌ لِلأُْمَّةِ فِي أَمْرِ دِينِهَا، وَقَدِ انْقَطَعَتِ الْبَعْثَةُ لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ وَتَبْيِينِهَا بِالْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ رَسُولاً حَيًّا وَمَيِّتًا، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا ضَبْطَ النَّائِمِ لَمْ يَكُنْ مَا رَآهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ فِعْلِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ وَلاَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الأُْمَّةِ (1) .
وَذَكَرَ صَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ أَيْضًا أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الرُّؤْيَا التَّعْوِيل عَلَيْهَا فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لاِحْتِمَال الْخَطَأِ فِي التَّحَمُّل وَعَدَمِ ضَبْطِ الرَّائِي، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ مَا يَثْبُتُ فِي الْيَقَظَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا ثَبَتَ بِالنَّوْمِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ لِرَجُلٍ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ يَقُول لَهُ إِنَّ فِي الْمَحَل الْفُلاَنِيِّ رِكَازًا اذْهَبْ فَخُذْهُ وَلاَ خُمُسَ عَلَيْكَ فَذَهَبَ وَوَجَدَهُ وَاسْتَفْتَى ذَلِكَ الرَّجُل الْعُلَمَاءَ، فَقَال لَهُ الْعِزُّ: أَخْرِجِ الْخُمُسَ فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ، وَقُصَارَى رُؤْيَتِكَ الآْحَادُ، فَلِذَلِكَ لَمَّا اضْطَرَبَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ بِالتَّحْرِيمِ وَعَدَمِهِ فِيمَنْ رَآهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَنَامِ فَقَال لَهُ إِنَّ امْرَأَتَكَ طَالِقٌ ثَلاَثًا وَهُوَ يَجْزِمُ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا لِتَعَارُضِ خَبَرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ تَحْرِيمِهَا فِي النَّوْمِ، وَإِخْبَارِهِ فِي الْيَقَظَةِ فِي شَرِيعَتِهِ الْمُعَظَّمَةِ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ لَهُ، اسْتَظْهَرَ الأَْصْل أَنَّ إِخْبَارَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْيَقَظَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْخَبَرِ فِي النَّوْمِ لِتَطَرُّقِ الاِحْتِمَال لِلرَّائِي بِالْغَلَطِ فِي ضَبْطِهِ الْمِثَال قَال: فَإِذَا عَرَضْنَا عَلَى
__________
(1) إرشاد الفحول / 249 ط. الحلبي.(22/11)
أَنْفُسِنَا احْتِمَال طُرُوِّ الطَّلاَقِ مَعَ الْجَهْل بِهِ وَاحْتِمَال طُرُوِّ الْغَلَطِ فِي الْمِثَال فِي النَّوْمِ وَجَدْنَا الْغَلَطَ فِي الْمِثَال أَيْسَرَ وَأَرْجَحَ، أَمَّا ضَبْطُ عَدَمِ الطَّلاَقِ فَلاَ يَخْتَل إِلاَّ عَلَى النَّادِرِ مِنَ النَّاسِ، وَالْعَمَل بِالرَّاجِحِ مُتَعَيِّنٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَال عَنْ حَلاَلٍ إِنَّهُ حَرَامٌ، أَوْ عَنْ حَرَامٍ إِنَّهُ حَلاَلٌ، أَوْ عَنْ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ قَدَّمْنَا مَا ثَبَتَ فِي الْيَقَظَةِ عَلَى مَا رَأَى فِي النَّوْمِ، كَمَا لَوْ تَعَارَضَ خَبَرَانِ مِنْ أَخْبَارِ الْيَقَظَةِ صَحِيحَانِ فَإِنَّا نُقَدِّمُ الأَْرْجَحَ بِالسَّنَدِ، أَوْ بِاللَّفْظِ، أَوْ بِفَصَاحَتِهِ، أَوْ قِلَّةِ الاِحْتِمَال فِي الْمَجَازِ أَوْ غَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ خَبَرُ الْيَقَظَةِ وَخَبَرُ النَّوْمِ يَخْرُجَانِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ (1) .
تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا:
10 - التَّعْبِيرُ كَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ خَاصٌّ بِتَفْسِيرِ الرُّؤْيَا، وَمَعْنَاهُ الْعُبُورُ مِنْ ظَاهِرِهَا إِلَى بَاطِنِهَا، وَقِيل: هُوَ النَّظَرُ فِي الشَّيْءِ، فَيُعْتَبَرُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ حَتَّى يَحْصُل عَلَى فَهْمِهِ حَكَاهُ الأَْزْهَرِيُّ، وَبِالأَْوَّل جَزَمَ الرَّاغِبُ، وَقَال أَصْلُهُ مِنَ الْعَبْرِ بِفَتْحٍ ثُمَّ سُكُونٍ، وَهُوَ التَّجَاوُزُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَخَصُّوا تَجَاوُزَ الْمَاءِ بِسِبَاحَةٍ أَوْ فِي سَفِينَةٍ أَوْ غَيْرِهَا بِلَفْظِ الْعُبُورِ بِضَمَّتَيْنِ، وَعَبَرَ الْقَوْمُ إِذَا مَاتُوا كَأَنَّهُمْ جَازُوا الْقَنْطَرَةَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الآْخِرَةِ، قَال: وَالاِعْتِبَارُ وَالْعِبْرَةُ الْحَالَةُ الَّتِي يُتَوَصَّل بِهَا مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُشَاهَدِ إِلَى مَا لَيْسَ
__________
(1) تهذيب الفروق (4 / 270 - 271 ط - الأولى) .(22/12)
بِمُشَاهَدٍ، وَيُقَال: عَبَرْتُ الرُّؤْيَا بِالتَّخْفِيفِ إِذَا فَسَّرْتَهَا، وَعَبَّرْتُهَا بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ (1) .
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} (2) أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ عُبُورِ النَّهْرِ، فَعَابِرُ الرُّؤْيَا يَعْبُرُ بِمَا يَؤُول إِلَيْهِ أَمْرُهَا، وَيَنْتَقِل بِهَا كَمَا فِي رُوحِ الْمَعَانِي مِنَ الصُّورَةِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الْمَنَامِ إِلَى مَا هِيَ صُورَةٌ وَمِثَالٌ لَهَا مِنَ الأُْمُورِ الآْفَاقِيَّةِ وَالأَْنْفُسِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْخَارِجِ (3) .
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلاَمِ الْمُوَقِّعِينَ صُوَرًا لِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَتَأْوِيلِهَا، وَمِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ: تَأْوِيل الثِّيَابِ بِالدِّينِ وَالْعِلْمِ، فَإِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّل الْقَمِيصَ فِي الْمَنَامِ بِالدِّينِ وَالْعِلْمِ (4) .
وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَسْتُرُ صَاحِبَهُ وَيُجَمِّلُهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَالْقَمِيصُ يَسْتُرُ بَدَنَهُ، وَالْعِلْمُ وَالدِّينُ يَسْتُرُ رُوحَهُ وَقَلْبَهُ، وَيُجَمِّلُهُ بَيْنَ النَّاسِ.
وَتَأْوِيل اللَّبَنِ بِالْفِطْرَةِ لِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ التَّغْذِيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَيَاةِ وَكَمَال النَّشْأَةِ. وَتَأْوِيل
__________
(1) المصباح المنير، فتح الباري (12 / 352 ط - الرياض) .
(2) سورة يوسف / 43.
(3) تفسير القرطبي (9 / 200 ط - المصرية) ، روح المعاني (12 / 250 ط المنيرية) .
(4) حديث: " إن الرسول صلى الله عليه وسلم أوَّل القميص في المنام بالدين والعلم " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 395 - ط السلفية) دون قوله (والعلم) .(22/12)
الْبَقَرِ بِأَهْل الدِّينِ وَالْخَيْرِ الَّذِينَ بِهِمْ عِمَارَةُ الأَْرْضِ كَمَا أَنَّ الْبَقَرَ كَذَلِكَ.
وَتَأْوِيل الزَّرْعِ وَالْحَرْثِ بِالْعَمَل، لأَِنَّ الْعَامِل زَارِعٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
وَتَأْوِيل الْخَشَبِ الْمَقْطُوعِ الْمُتَسَانِدِ بِالْمُنَافِقِينَ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُنَافِقَ لاَ رُوحَ فِيهِ وَلاَ ظِل وَلاَ ثَمَرَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَشَبِ الَّذِي هُوَ كَذَلِكَ.
وَتَأْوِيل النَّارِ بِالْفِتْنَةِ لإِِفْسَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَمُرُّ عَلَيْهِ وَيَتَّصِل بِهِ.
وَتَأْوِيل النُّجُومِ بِالْعُلَمَاءِ وَالأَْشْرَافِ لِحُصُول هِدَايَةِ أَهْل الأَْرْضِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَلاِرْتِفَاعِ الأَْشْرَافِ بَيْنَ النَّاسِ كَارْتِفَاعِ النُّجُومِ.
وَتَأْوِيل الْغَيْثِ بِالرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةِ وَصَلاَحِ حَال النَّاسِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصُّوَرِ الْوَارِدَةِ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَالْمَأْخُوذَةِ مِنَ الأَْمْثِلَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ قَال: وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْثَال الْقُرْآنِ كُلِّهَا أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ لِعِلْمِ التَّعْبِيرِ لِمَنْ أَحْسَنَ الاِسْتِدْلاَل بِهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ فَهِمَ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يُعَبِّرُ بِهِ الرُّؤْيَا أَحْسَنَ تَعْبِيرٍ، وَأُصُول التَّعْبِيرِ الصَّحِيحَةُ إِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ مِشْكَاةِ الْقُرْآنِ، فَالسَّفِينَةُ تُعَبَّرُ بِالنَّجَاةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} (1) وَتُعَبَّرُ بِالتِّجَارَةِ. وَالطِّفْل الرَّضِيعُ يُعَبَّرُ بِالْعَدُوِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
__________
(1) سورة العنكبوت / 15.(22/13)
: {فَالْتَقَطَهُ آل فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} (1) .
وَالرَّمَادُ بِالْعَمَل الْبَاطِل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَل الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} (2) فَإِنَّ الرُّؤْيَا أَمْثَالٌ مَضْرُوبَةٌ لِيَسْتَدِل الرَّائِي بِمَا ضُرِبَ لَهُ مِنَ الْمَثَل عَلَى نَظِيرِهِ، وَيَعْبُرُ مِنْهُ إِلَى شَبَهِهِ (3) .
هَذَا وَمِمَّا وَرَدَ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا مِنَ السُّنَّةِ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ، وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا وَاللَّهُ خَيْرٌ، فَإِذَا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِي أَتَانَا اللَّهُ بِهِ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ (4) .
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أُوتِيتُ خَزَائِنَ الأَْرْضِ فَوُضِعَ فِي يَدَيَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَبُرَا عَلَيَّ وَأَهَمَّانِي، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنِ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ
__________
(1) سورة القصص / 8.
(2) سورة إبراهيم / 18.
(3) أعلام الموقعين 1 / 190 - 195 ط - الكليات.
(4) حديث أبي موسى: " رأيت في المنام أني أهاجر إلى مكة " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 421 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1779 - 1780 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.(22/13)
اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا: صَاحِبَ صَنْعَاءَ وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ (1) .
وَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: رَأَيْتُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةَ، فَأَوَّلْتُ أَنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ نُقِل إِلَى مَهْيَعَةَ وَهِيَ الْجُحْفَةُ (2) .
وَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: رَأَيْتُ فِي رُؤْيَايَ أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ (3) .
هَذَا وَلاَ تُقَصُّ الرُّؤْيَا عَلَى غَيْرِ شَفِيقٍ وَلاَ نَاصِحٍ، وَلاَ يُحَدَّثُ بِهَا إِلاَّ عَاقِلٌ مُحِبٌّ، أَوْ نَاصِحٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَال يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} (4) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُقَصُّ الرُّؤْيَا إِلاَّ عَلَى عَالِمٍ أَوْ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " بينا أنا نائم إذ أتيت خزائن الأرض " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 423 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1781 - ط الحلبي) واللفظ للبخاري.
(2) حديث ابن عمر: " رأيت امرأة سوداء. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 426 - ط السلفية) .
(3) حديث أبي موسى: " رأيت في رؤياي أني هززت سيفًا " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 427 - ط السلفية) .
(4) سورة يوسف / 5.(22/14)
نَاصِحٍ (1) . وَأَنْ لاَ يَقُصَّهَا عَلَى مَنْ لاَ يُحْسِنُ التَّأْوِيل، لِقَوْل مَالِكٍ: لاَ يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا إِلاَّ مَنْ يُحْسِنُهَا، فَإِنْ رَأَى خَيْرًا أَخْبَرَ بِهِ، وَإِنْ رَأَى مَكْرُوهًا فَلْيَقُل خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، قِيل: فَهَل يُعَبِّرُهَا عَلَى الْخَيْرِ وَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ لِقَوْل مَنْ قَال: إِنَّهَا عَلَى مَا تَأَوَّلَتْ عَلَيْهِ، فَقَال: لاَ، ثُمَّ قَال: الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَلاَ يُتَلاَعَبُ بِالنُّبُوَّةِ.
وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ، وَلْيَتْفُل ثَلاَثًا، وَلاَ يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ، وَإِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْمَدَ، وَأَنْ يُحَدِّثَ بِهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ قَال: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يَقُول: " لَقَدْ كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا فَتُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُول: وَأَنَا كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا تُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلاَ يُحَدِّثْ بِهِ إِلاَّ مَنْ يُحِبُّ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَلْيَتْفُل ثَلاَثًا، وَلاَ يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ (2) .
__________
(1) حديث: " لا تقص الرؤيا إلا على عالم أو ناصح " أخرجه الترمذي (4 / 537 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) حديث أبي قتادة: " الرؤيا الحسنة من الله " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 430 - ط السلفية) .(22/14)
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يُحِبُّهَا فَإِنَّهَا مِنَ اللَّهِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا وَلاَ يَذْكُرْهَا لأَِحَدٍ فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ (1) .
__________
(1) تفسير القرطبي 9 / 126 ط الأولى، فتح الباري 12 / 421 - 430 ط الرياض، وصحيح مسلم بشرح النووي 15 / 31 - 34، وحديث أبي سعيد الخدري: " إذا رأى أحدكم الرؤيا " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 430 - ط السلفية) .(22/15)
رُؤْيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الرُّؤْيَةُ لُغَةً: إدْرَاكُ الشَّيْءِ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ، وَقَال ابْنُ سِيدَهْ: الرُّؤْيَةُ: النَّظَرُ بِالْعَيْنِ وَالْقَلْبِ.
وَالْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ هُوَ الْمَعْنَى الأَْوَّل، وَذَلِكَ كَمَا فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَل، وَرُؤْيَةِ الْمَبِيعِ، وَرُؤْيَةِ الشَّاهِدِ لِلشَّيْءِ الْمَشْهُودِ بِهِ وَهَكَذَا.
وَقَال الْجُرْجَانِيُّ: الرُّؤْيَةُ: الْمُشَاهَدَةُ بِالْبَصَرِ حَيْثُ كَانَ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْدْرَاكُ:
2 - الإِْدْرَاكُ: هُوَ الْمَعْرِفَةُ فِي أَوْسَعِ مَعَانِيهَا، وَيَشْمَل الإِْدْرَاكَ الْحِسِّيَّ وَالْمَعْنَوِيَّ (2) .
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: انْطِبَاعُ صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الذِّهْنِ.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والصحاح، والتعريفات للجرجاني.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والصحاح.(22/15)
وَبِذَلِكَ يَكُونُ الإِْدْرَاكُ أَعَمَّ مِنَ الرُّؤْيَةِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِالْبَصَرِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الْحَوَاسِّ، وَلِذَلِكَ يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: مُدْرَكُ الْعِلْمِ الَّذِي تَقَعُ بِهِ الشَّهَادَةُ: الرُّؤْيَةُ وَالسَّمَاعُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَاللَّمْسُ (1) .
ب - النَّظَرُ:
3 - النَّظَرُ: طَلَبُ ظُهُورِ الشَّيْءِ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْحَوَاسِّ. وَالنَّظَرُ بِالْقَلْبِ مِنْ جِهَةِ التَّفَكُّرِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّظَرِ وَالرُّؤْيَةِ أَنَّ النَّظَرَ تَقْلِيبُ الْعَيْنِ حِيَال مَكَانِ الْمَرْئِيِّ طَلَبًا لِرُؤْيَتِهِ، وَالرُّؤْيَةُ هِيَ إِدْرَاكُ الْمَرْئِيِّ. وَقَال الْبَاقِلاَّنِيُّ: النَّظَرُ هُوَ الْفِكْرُ الَّذِي يُطْلَبُ بِهِ عِلْمٌ أَوْ غَلَبَةُ ظَنٍّ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِطَلَبِ الرُّؤْيَةِ بِاخْتِلاَفِ مَا تُسْتَعْمَل فِيهِ الرُّؤْيَةُ فَقَدْ تَكُونُ الرُّؤْيَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْكِفَايَةِ كَرُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ. وَقَدْ تَكُونُ الرُّؤْيَةُ مُسْتَحَبَّةً كَرُؤْيَةِ الْمَخْطُوبَةِ. وَقَدْ تَكُونُ حَرَامًا كَرُؤْيَةِ عَوْرَةِ الأَْجْنَبِيِّ. وَقَدْ تَكُونُ مُبَاحَةً كَرُؤْيَةِ الأَْشْيَاءِ الْعَادِيَّةِ.
وَسَيَأْتِي تَفْصِيلٌ لِذَلِكَ فِي الْبَحْثِ.
__________
(1) المغني 9 / 158 ط الرياض.
(2) الفروق للعسكري 67، وكشاف اصطلاحات الفنون 6 / 1386.(22/16)