طَالِقٌ، أَوْ إِنْ صَحَّتْ بَرَاءَتُكِ فَطَالِقٌ كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ، فَإِذَا رَدَّ الْوَلِيُّ أَوِ الْحَاكِمُ الْمَال مِنَ الزَّوْجِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَقَعْ طَلاَقٌ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا قَالَهُ لِرَشِيدَةٍ أَوْ رَشِيدٍ، أَوْ قَالَهُ بَعْدَ صُدُورِ الطَّلاَقِ فَلاَ يَنْفَعُهُ.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ خُلْعَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا لِصِغَرٍ أَوْ سَفَهٍ، أَوْ جُنُونٍ لاَ يَصِحُّ حَتَّى لَوْ أَذِنَ فِيهِ الْوَلِيُّ؛ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَال وَلَيْسَتْ مِنْ أَهْلِهِ، وَلاَ إِذْنَ لِلْوَلِيِّ فِي التَّبَرُّعَاتِ.
وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهَا لِفَلَسٍ فَيَصِحُّ مِنْهَا الْخُلْعُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا كَمَا ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ؛ لأَِنَّ لَهَا ذِمَّةً يَصِحُّ تَصَرُّفُهَا فِيهَا، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهَا حَال حَجْرِهَا، كَمَا لَوِ اسْتَدَانَتْ مِنْ إِنْسَانٍ فِي ذِمَّتِهَا أَوْ بَاعَهَا شَيْئًا بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهَا، وَيَكُونُ مَا خَالَعَتْ عَلَيْهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا، يُؤْخَذُ مِنْهَا إِذَا انْفَكَّ عَنْهَا الْحَجْرُ وَأَيْسَرَتْ. أَمَّا لَوْ خَالَعَتْ بِمُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهَا فَلاَ يَصِحُّ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ (1) .
__________
(1) فتح القدير 3 / 218 - ط الأميرية، بدائع الصنائع 3 / 147 - ط الجمالية، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 519 - ط المعارف، الخرشي 4 / 12 - ط بولاق، الشرح الكبير 2 / 347 - 348 - ط الفكر، روضة الطالبين 7 / 384 - 388 - ط المكتبة الإسلامية، حاشية القليوبي 3 / 308 - ط الحلبي، أسنى المطالب 3 / 245 - 247 - ط المكتب الإسلامي، كشاف القناع 5 / 214 - 215 - ط النصر، المبدع 7 / 223 - 226 - ط المكتب الإسلامي.(19/246)
الْخُلْعُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ أَوِ الْمَرَضِ الْمَخُوفِ:
أ - مَرَضُ الزَّوْجَةِ:
18 - يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ الْمَرِيضَةِ مَرَضًا مَخُوفًا أَنْ تُخَالِعَ زَوْجَهَا فِي مَرَضِهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، لأَِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ كَالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الزَّوْجُ فِي مُقَابِل ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ رَاغِبَةً فِي مُحَابَاتِهِ عَلَى حِسَابِ الْوَرَثَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ خُلْعَ الْمَرِيضَةِ يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ لأَِنَّهُ تَبَرُّعٌ فَلَهُ الأَْقَل مِنْ إِرْثِهِ، وَبَدَل الْخُلْعِ إِنْ خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ وَإِلاَّ فَالأَْقَل مِنْ إِرْثِهِ، وَالثُّلُثُ إِنْ مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ، أَمَّا لَوْ مَاتَتْ بَعْدَهَا أَوْ قَبْل الدُّخُول فَلَهُ الْبَدَل إِنْ خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ (1) .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْخُلْعَ إِنْ كَانَ بِمَهْرِ الْمِثْل نَفَذَ دُونَ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ فَالزِّيَادَةُ كَالْوَصِيَّةِ لِلزَّوْجِ، وَتُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ الثُّلُثَ وَلاَ تَكُونُ كَالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ لِخُرُوجِهِ (أَيِ الزَّوْجِ) بِالْخُلْعِ عَنِ الإِْرْثِ، وَلَوِ اخْتَلَعَتْ بِجَمَلٍ قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ (دِرْهَمًا) فَقَدْ حَابَتْ بِنِصْفِ الْجَمَل، فَيُنْظَرُ إِنْ خَرَجَتِ الْمُحَابَاةُ مِنَ الثُّلُثِ، فَالْجَمَل كُلُّهُ لِلزَّوْجِ عِوَضًا وَوَصِيَّةً.
__________
(1) الدر المختار 2 / 570 - ط الأميرية، بدائع الصنائع 3 / 149 - ط الجمالية، البحر الرائق 4 / 81 - 82 - ط الأولى العلمية، الاختيار 3 / 160 - ط المعرفة.(19/246)
وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَجْهًا أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمَل، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَيَرْجِعَ إِلَى مَهْرِ الْمِثْل؛ لأَِنَّهُ دَخَل فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْجَمَل عِوَضًا. وَالصَّحِيحُ الأَْوَّل، إِذْ لاَ نَقْصَ وَلاَ تَشْقِيصَ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ بِأَنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَمْ تَصِحَّ الْمُحَابَاةُ، وَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَ نِصْفَ الْجَمَل وَهُوَ قَدْرُ مَهْرِ الْمِثْل وَيَرْضَى بِالتَّشْقِيصِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْمُسَمَّى وَيُضَارِبَ الْغُرَمَاءَ بِمَهْرِ الْمِثْل، وَإِنْ كَانَ لَهَا وَصَايَا أُخَرُ، فَإِنْ شَاءَ الزَّوْجُ أَخَذَ نِصْفَ الْجَمَل وَضَارَبَ أَصْحَابَ الْوَصَايَا فِي النِّصْفِ الآْخَرِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْمُسَمَّى وَتَقَدَّمَ بِمَهْرِ الْمِثْل عَلَى أَصْحَابِ الْوَصَايَا وَلاَ حَقَّ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا كَانَتْ مِنْ ضِمْنِ الْمُعَاوَضَةِ وَقَدِ ارْتَفَعَتْ بِالْفَسْخِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَيْنٌ، وَلاَ وَصِيَّةٌ، وَلاَ شَيْءَ لَهَا سِوَى ذَلِكَ الْجَمَل فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَ ثُلُثَيِ الْجَمَل، نِصْفُهُ بِمَهْرِ الْمِثْل، وَسُدُسُهُ بِالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ مَهْرُ الْمِثْل (1) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ لِلزَّوْجِ مَا خَالَعَتْهُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ قَدْرَ مِيرَاثِهِ مِنْهَا فَمَا دُونَ، وَإِنْ كَانَ بِزِيَادَةٍ فَلَهُ الأَْقَل مِنَ الْمُسَمَّى فِي الْخُلْعِ أَوْ مِيرَاثُهُ مِنْهَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ تُهْمَةَ فِيهِ بِخِلاَفِ الأَْكْثَرِ مِنْهَا، فَإِنَّ
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 387 - ط المكتب الإسلامي، أسنى المطالب 3 / 247 - ط المكتب الإسلامي.(19/247)
الْخُلْعَ إِنْ وَقَعَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْمِيرَاثِ تَطَرَّقَتْ إِلَيْهِ التُّهْمَةُ مِنْ قَصْدِ إِيصَالِهَا إِلَيْهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ عَلَى وَجْهٍ لَمْ تَكُنْ قَادِرَةً عَلَيْهِ أَشْبَهَ مَا لَوْ أَوْصَتْ أَوْ أَقَرَّتْ لَهُ، وَإِنْ وَقَعَ بِأَقَل مِنَ الْمِيرَاثِ فَالْبَاقِي هُوَ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْهُ فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ، فَتَعَيَّنَ اسْتِحْقَاقُهُ الأَْقَل مِنْهُمَا، وَإِنْ شُفِيَتْ مِنْ مَرَضِهَا ذَاكَ الَّذِي خَالَعَتْهُ فِيهِ فَلَهُ جَمِيعُ مَا خَالَعَهَا بِهِ كَمَا لَوْ خَالَعَهَا فِي الصِّحَّةِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَرَضِ مَوْتِهَا (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ خُلْعُ الزَّوْجَةِ الْمَرِيضَةِ مَرَضًا مَخُوفًا إِنْ كَانَ بَدَل الْخُلْعِ بِقَدْرِ إِرْثِهِ أَوْ أَقَل لَوْ مَاتَتْ وَلاَ يَتَوَارَثَانِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. أَمَّا إِنْ زَادَ بِأَنْ كَانَ إِرْثُهُ مِنْهَا عَشَرَةً وَخَالَعَتْهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَأَوْلَى لَوْ خَالَعَتْهُ بِجَمِيعِ مَالِهَا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ لإِِعَانَتِهِ لَهَا عَلَى الْحَرَامِ، وَيَنْفُذُ الطَّلاَقُ وَلاَ تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا إِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَحِيحًا وَلَوْ مَاتَتْ فِي عِدَّتِهَا.
وَقَال مَالِكٌ: إِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فِي مَرَضِهَا وَهُوَ صَحِيحٌ بِجَمِيعِ مَالِهَا لَمْ يَجُزْ وَلاَ يَرِثُهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ لاَ يُخَالِفُهُ، كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الأَْشْيَاخِ، وَرَدَّ الزَّائِدَ عَلَى إِرْثِهِ مِنْهَا، وَاعْتُبِرَ الزَّائِدُ عَلَى إِرْثِهِ يَوْمَ مَوْتِهَا لاَ يَوْمَ الْخُلْعِ، وَحِينَئِذٍ فَيُوقَفُ جَمِيعُ الْمَال الْمُخَالَعِ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْمَوْتِ، فَإِنْ
__________
(1) المبدع 7 / 243 - المكتب الإسلامي، كشاف القناع 5 / 228 - ط النصر، المغني 7 / 88 - 89 - ط الرياض.(19/247)
كَانَ قَدْرَ إِرْثِهِ فَأَقَل، اسْتَقَل بِهِ الزَّوْجُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ، رَدَّ مَا زَادَ عَلَى إِرْثِهِ، فَإِنْ صَحَّتْ مِنْ مَرَضِهَا تَمَّ الْخُلْعُ وَأَخَذَ جَمِيعَ مَا خَالَعَتْهُ بِهِ وَلَوْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ مَالِهَا، وَلاَ تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا عَلَى كُل حَالٍ (1) .
ب - مَرَضُ الزَّوْجِ:
19 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ خُلْعَ الزَّوْجِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ جَائِزٌ وَنَافِذٌ بِالْمُسَمَّى، سَوَاءٌ أَكَانَ بِمَهْرِ الْمِثْل أَمْ أَقَل مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ لَوْ طَلَّقَ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَصَحَّ، فَلأََنْ يَصِحَّ بِعِوَضٍ أَوْلَى؛ وَلأَِنَّ الْوَرَثَةَ لاَ يَفُوتُهُمْ بِخَلْعِهِ شَيْءٌ، وَمِثْل الْمَرِيضِ فِي هَذَا الْحُكْمِ مَنْ حَضَرَ صَفَّ الْقِتَال، وَالْمَحْبُوسُ لِقَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ، وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ الإِْقْدَامَ عَلَيْهِ لاَ يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِ وَارِثٍ وَلاَ تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ أَمَاتَ فِي الْعِدَّةِ أَمْ بَعْدَهَا خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ زَوْجَتَهُ الْمُطَلَّقَةَ فِي الْمَرَضِ تَرِثُهُ إِنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ الْمَخُوفِ الَّذِي خَالَعَهَا فِيهِ، وَلَوْ خَرَجَتْ مِنَ الْعِدَّةِ وَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ وَلَوْ أَزْوَاجًا، أَمَّا هُوَ فَلاَ يَرِثُهَا إِنْ مَاتَتْ فِي مَرَضِهِ الْمَخُوفِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ وَلَوْ كَانَتْ هِيَ مَرِيضَةً أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ الَّذِي أَسْقَطَ مَا كَانَ بِيَدِهِ، وَتَرِثُهُ أَيْضًا إِذَا تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِخُلْعِهَا مِنْهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ مِنْهُ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ؛
__________
(1) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 528 - 529 - ط المعارف.(19/248)
لأَِنَّهَا لَمْ تَرْضَ بِهَذَا الطَّلاَقِ فَيُعْتَبَرَ الزَّوْجُ فَارًّا، فَلَوْ أَوْصَى الزَّوْجُ لَهَا بِمِثْل مِيرَاثِهَا أَوْ أَقَل صَحَّ كَمَا ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ؛ لأَِنَّهُ لاَ تُهْمَةَ فِي أَنَّهُ أَبَانَهَا لِيُعْطِيَهَا ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْنِهَا لأََخَذَتْهُ بِمِيرَاثِهَا، وَإِنْ أَوْصَى لَهَا بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ فَلِلْوَرَثَةِ مَنْعُهَا ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ اتُّهِمَ فِي أَنَّهُ قَصَدَ إِيصَال ذَلِكَ إِلَيْهَا؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى إِيصَالِهِ إِلَيْهَا وَهِيَ فِي عِصْمَتِهِ، فَطَلَّقَهَا لِيُوصِل ذَلِكَ إِلَيْهَا فَمُنِعَ مِنْهُ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِوَارِثٍ (1) .
خُلْعُ الْوَلِيِّ:
20 - يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِوَلِيِّ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ مِنْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهُمَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَلِيُّ أَبًا لِلزَّوْجِ أَمْ وَصِيًّا أَمْ حَاكِمًا أَمْ مُقَامًا مِنْ جِهَتِهِ، إِذَا كَانَ الْخُلْعُ مِنْهُ لِمَصْلَحَةٍ، وَلاَ يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِمَا بِلاَ عِوَضٍ، وَنَقَل ابْنُ عَرَفَةَ عَنِ اللَّخْمِيِّ جَوَازَهُ لِمَصْلَحَةٍ، إِذْ قَدْ يَكُونُ فِي بَقَاءِ الْعِصْمَةِ فَسَادٌ لأَِمْرٍ ظَهَرَ أَوْ حَدَثَ.
__________
(1) البحر الرائق 4 / 82 - ط الأولى العلمية، الشرح الكبير 2 / 352 - 353 - ط الفكر، جواهر الإكليل 1 / 332 - 333 - ط المعرفة، الشرح الصغير 2 / 527 - 528 - ط المعارف، روضة الطالبين 7 / 388 - ط المكتب الإسلامي، أسنى المطالب 3 / 248 - ط المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 5 / 229 - ط النصر، المبدع 7 / 243 - 244 - ط المكتب الإسلامي، المغني 7 / 89 - ط الرياض.(19/248)
وَأَمَّا وَلِيُّ السَّفِيهِ فَلاَ يُخَالِعُ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ بِيَدِ الزَّوْجِ الْمُكَلَّفِ وَلَوْ سَفِيهًا أَوْ عَبْدًا لاَ بِيَدِ الأَْبِ، فَأَوْلَى غَيْرُهُ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ كَالْوَصِيِّ وَالْحَاكِمِ (1) .
وَالْخُلْعُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ مِمَّنْ يَصِحُّ طَلاَقُهُ بِالْمِلْكِ، أَوِ الْوَكَالَةِ، أَوِ الْوِلاَيَةِ كَالْحَاكِمِ فِي الشِّقَاقِ (2) .
وَلاَ يَجُوزُ لِلأَْبِ أَنْ يَخْلَعَ زَوْجَةَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَعَلَى الرِّوَايَةِ الأَْشْهَرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطَّلاَقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ (4) .
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أَيَّدَهَا الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ وَرَجَّحَهَا صَاحِبُ الْمُبْدِعِ إِلَى أَنَّ الأَْبَ يَمْلِكُ ذَلِكَ، لأَِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا طَلَّقَ عَلَى ابْنٍ لَهُ مَعْتُوهٍ؛ وَلأَِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَصَحَّ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا شَأْنُهُ
__________
(1) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 526 - 527 - ط المعارف، جواهر الإكليل 1 / 332 - ط المعرفة، مواهب الجليل مع التاج والإكليل 4 / 26 - ط النجاح.
(2) كشاف القناع 5 / 213 - ط النصر.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 568 - 569 - ط المصرية، المهذب 2 / 72 - ط الحلبي، المبدع 7 / 223 - ط المكتب الإسلامي، المغني 7 / 88 - ط الرياض.
(4) حديث: " الطلاق لمن أخذ بالساق ". أخرجه ابن ماجه (1 / 672 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس، وضعف إسناده البوصيري.(19/249)
كَالْحَاكِمِ يَفْسَخُ لِلإِْعْسَارِ وَيُزَوِّجُ الصَّغِيرَ (1) .
وَأَمَّا خُلْعُ الأَْبِ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ مَنْ خَلَعَ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهَا لَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ نَظَرَ لَهَا فِيهِ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، إِذِ الْبُضْعُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، وَالْبَدَل مُتَقَوِّمٌ، بِخِلاَفِ النِّكَاحِ؛ لأَِنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الدُّخُول، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ خُلْعُ الْمَرِيضَةِ مِنَ الثُّلُثِ، وَنِكَاحُ الْمَرِيضِ بِمَهْرِ الْمِثْل مِنْ جَمِيعِ الْمَال.
وَلأَِنَّهُ بِذَلِكَ يَسْقُطُ حَقُّهَا مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالاِسْتِمْتَاعِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لاَ يَسْقُطُ الْمَهْرُ وَلاَ يَسْتَحِقُّ مَالَهَا وَلِلزَّوْجِ مُرَاجَعَتُهَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُول كَمَا فِي الْمُهَذَّبِ، وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي وُقُوعِ الطَّلاَقِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ رِوَايَتَيْنِ مَنْشَؤُهُمَا قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الْكِتَابِ لَمْ يَجُزْ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى الطَّلاَقِ وَأَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى لُزُومِ الْمَال، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الطَّلاَقَ وَاقِعٌ، وَعَدَمُ الْجَوَازِ مُنْصَرِفٌ إِلَى الْمَال، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَقَى لأَِنَّ لِسَانَ الأَْبِ كَلِسَانِهَا.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ جَوَّزُوا خُلْعَ الْمُجْبِرِ كَأَبٍ عَنِ الْمُجْبَرَةِ مِنْ مَالِهَا وَلَوْ بِجَمِيعِ مَهْرِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْبِرِ كَوَصِيٍّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ
__________
(1) المغني 7 / 87 - 88 - ط الرياض، المبدع 7 / 223 - ط المكتب الإسلامي.(19/249)
عَمَّنْ تَحْتَ إِيصَائِهِ مِنْ مَالِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا، وَكَذَا بِإِذْنِهَا عَلَى الأَْرْجَحِ.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُبْدِعِ بِلَفْظِ قِيل: إِنَّهُ لَهُ ذَلِكَ إِذَا رَأَى الْحَظَّ فِيهِ كَتَخْلِيصِهَا مِمَّنْ يُتْلِفُ مَالَهَا وَيُخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهَا وَعَقْلِهَا، وَالأَْبُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ إِذَا خَالَعُوا فِي حَقِّ الْمَجْنُونَةِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِذَا خَالَعَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ، صَرَّحَ بِهِ فِي الشَّرْحِ وَغَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الأَْجْنَبِيِّ، فَمِنَ الْوَلِيِّ أَوْلَى (1) .
خُلْعُ الْفُضُولِيِّ:
21 - لِلْفُقَهَاءِ فِي خُلْعِ الْفُضُولِيِّ اتِّجَاهَانِ:
الأَْوَّل: جَوَازُهُ وَصِحَّتُهُ وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ لَكِنْ بِقَيْدٍ وَهُوَ أَنْ يُضِيفَ الْبَدَل إِلَى نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ يُفِيدُ ضَمَانَهُ لَهُ أَوْ مِلْكَهُ إِيَّاهُ، مِثْل أَنْ يَقُول: اخْلَعْهَا بِأَلْفٍ عَلَيَّ أَوْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ أَوْ عَلَى أَلْفَيْ هَذِهِ، فَإِنْ أَرْسَل الْخُلْعَ بِأَنْ قَال عَلَى أَلْفٍ أَوْ عَلَى هَذَا الْجَمَل، فَإِنْ قَبِلَتْ لَزِمَهَا تَسْلِيمُهُ، أَوْ قِيمَتُهُ إِنْ عَجَزَتْ، وَإِنْ أَضَافَهُ إِلَى غَيْرِهِ كَجَمَل فُلاَنٍ اعْتُبِرَ قَبُول فُلاَنٍ.
__________
(1) فتح القدير مع العناية 3 / 218 - ط الأميرية، تبيين الحقائق 3 / 273 - 274 - ط بولاق، البناية 4 / 683 - 684 - ط الفكر، الخرشي 4 / 13 - ط بولاق، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 520 - ط المعارف، المهذب 2 / 72 - ط الحلبي، المبدع 7 / 223 - ط المكتب الإسلامي، الكافي 3 / 144 - ط المكتب الإسلامي، المغني 7 / 83 - 84 - ط الرياض.(19/250)
وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سَوَاءٌ قَصَدَ الْفُضُولِيُّ بِذَلِكَ جَلْبَ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءَ مَفْسَدَةِ أَوْ إِسْقَاطَ نَفَقَتِهَا عَنِ الزَّوْجِ كَمَا فِي ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَيَّدَ صِحَّتَهُ بِعَدَمِ قَصْدِ الْفُضُولِيِّ إِسْقَاطَ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ عَنِ الزَّوْجِ فَإِنْ قَصَدَ إِسْقَاطَهَا عَنْهُ فَقَدْ حُكِيَ فِيهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
أ - يُرَدُّ الْعِوَضُ وَيَقَعُ الطَّلاَقُ بَائِنًا وَتَسْقُطُ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْبُرْزُلِيُّ.
ب - يُرَدُّ الْعِوَضُ وَيَقَعُ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا وَلاَ تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ وَابْنُ عَرَفَةَ.
ج - يَقَعُ الطَّلاَقُ بَائِنًا وَلاَ تَسْقُطُ النَّفَقَةُ وَيَجْرِي مِثْل هَذَا فِيمَنْ قَصَدَ دَفْعَ الْعِوَضِ لِيَتَزَوَّجَهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا إِلَى جَوَازِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلاَقٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِلَفْظِ طَلاَقٍ أَمْ خُلْعٍ، فَخُلْعُ الْفُضُولِيِّ عِنْدَهُمْ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْقَوْل كَاخْتِلاَعِ الزَّوْجَةِ لَفْظًا وَحُكْمًا، وَذَكَرُوا أَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ ابْتِدَاءُ مُعَاوَضَةٍ فِيهَا شَوْبُ تَعْلِيقٍ، وَمِنْ جَانِبِ الأَْجْنَبِيِّ ابْتِدَاءُ مُعَاوَضَةٍ فِيهَا شَوْبُ جَعَالَةٍ، فَإِذَا قَال الزَّوْجُ لِلْفُضُولِيِّ طَلَّقْتُ امْرَأَتِي عَلَى أَلْفٍ فِي ذِمَّتِكَ فَقَبِل، أَوْ قَال الْفُضُولِيُّ لِلزَّوْجِ: طَلِّقِ امْرَأَتَكَ عَلَى أَلْفٍ فِي ذِمَّتِي فَأَجَابَ، وَقَعَ الطَّلاَقُ بَائِنًا بِالْمُسَمَّى، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ قَبْل قَبُول الْفُضُولِيِّ نَظَرًا لِشَوْبِ التَّعْلِيقِ، وَلِلْفُضُولِيِّ أَنْ يَرْجِعَ قَبْل إِجَابَةِ الزَّوْجِ نَظَرًا لِشَوْبِ الْجَعَالَةِ.(19/250)
وَخُلْعُ الْفُضُولِيِّ جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ وَلاَ تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى قَبُول الْمَرْأَةِ فَيَكُونَ الْتِزَامُهُ لِلْمَال فِدَاءً لَهَا، كَالْتِزَامِ الْمَال لِعِتْقِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ صَحِيحٌ، كَتَخْلِيصِهَا مِمَّنْ يُسِيءُ عِشْرَتَهَا وَيَمْنَعُهَا حُقُوقَهَا.
الثَّانِي: عَدَمُ الصِّحَّةِ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَبُو ثَوْرٍ وَمَنْ قَال مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ، وَاسْتَدَل أَبُو ثَوْرٍ بِأَنَّهُ يَبْذُل عِوَضًا فِي مُقَابَلَةِ مَا لاَ مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفَسْخَ بِلاَ سَبَبٍ لاَ يَنْفَرِدُ بِهِ الزَّوْجُ فَلاَ يَصِحُّ طَلَبُهُ مِنْهُ (1) .
التَّوْكِيل فِي الْخُلْعِ:
22 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ التَّوْكِيل فِي الْخُلْعِ جَائِزٌ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَمِنْ أَحَدِهِمَا مُنْفَرِدًا، وَالضَّابِطُ فِيهِ أَنَّ كُل مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِالْخُلْعِ لِنَفْسِهِ جَازَ تَوْكِيلُهُ وَوَكَالَتُهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 569 - ط المصرية، تبيين الحقائق 2 / 274 - ط بولاق، البحر الرائق 4 / 101 - ط الأولى العلمية، نتائج الأفكار 3 / 221 - ط الأميرية، شرح الزرقاني 4 / 64 - 65 - ط الفكر، الخرشي 4 / 12 - ط بولاق، جواهر الإكليل 1 / 330 - ط المعرفة، شرح المنهاج 3 / 321 - ط الحلبي، أسنى المطالب 3 / 260 - 261 - ط المكتبة الإسلامية، روضة الطالبين 7 / 427 - 430 - ط المكتب الإسلامي، نهاية المحتاج 6 / 409 - 412 - ط المكتبة الإسلامية، مغني المحتاج 3 / 276 - 277 - ط التراث، والمبدع 7 / 223 - ط المكتب الإسلامي، والكافي 3 / 144 - ط المكتب الإسلامي.(19/251)
ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ رَشِيدًا، لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ الْخُلْعَ، فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ وَكِيلاً وَمُوَكِّلاً فِيهِ. وَجَاءَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ تَوْكِيل الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ عَنِ الْبَالِغِ الْعَاقِل بِالْخُلْعِ صَحِيحٌ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ وَكِيل الْمَرْأَةِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَفِيهًا حَتَّى وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ إِلاَّ إِذَا أَضَافَ الْمَال إِلَيْهَا فَتَبِينُ وَيَلْزَمُهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا تَوْكِيل مَحْجُورٍ عَلَيْهِ فِي قَبْضِ الْعِوَضِ فِي الْخُلْعِ فَإِنْ وَكَّلَهُ وَقَبَضَ، فَفِي التَّتِمَّةِ أَنَّ الْمُخْتَلِعَ يَبْرَأُ وَالْمُوَكِّل مُضَيِّعٌ لِمَالِهِ وَأَقَرَّهُ الشَّيْخَانِ.
وَالأَْصَحُّ: عِنْدَهُمْ أَيْضًا صِحَّةُ تَوْكِيلِهِ امْرَأَةً لِخُلْعِ زَوْجَتِهِ أَوْ طَلاَقِهَا لأَِنَّ لِلْمَرْأَةِ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا بِقَوْلِهِ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ، وَذَلِكَ تَمْلِيكٌ لِلطَّلاَقِ أَوْ تَوْكِيلٌ بِهِ.
وَالثَّانِي: لاَ يَصِحُّ لأَِنَّهَا لاَ تَسْتَقِل بِالطَّلاَقِ، وَلَوْ وَكَّلَتِ الزَّوْجَةُ امْرَأَةً بِاخْتِلاَعِهَا جَازَ بِلاَ خِلاَفٍ لاِسْتِقْلاَل الْمَرْأَةِ بِالاِخْتِلاَعِ.
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ سِوَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْوَاحِدَ لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلاً فِي الْخُلْعِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْوَكِيل فِي الْخُلْعِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ يَتَوَلَّى طَرَفًا مِنْهُ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ وَكِيلِهِ، وَلاَ يَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ:(19/251)
إِنَّهُ يَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ قِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ؛ وَلأَِنَّ الْخُلْعَ يَكْفِي فِيهِ اللَّفْظُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ كَمَا لَوْ قَال: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَعْطَتْهُ ذَلِكَ، يَقَعُ الطَّلاَقُ خُلْعًا.
وَالْوَكِيل فِي الْخُلْعِ لاَ يَنْعَزِل بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
هَذَا وَيَكُونُ تَوْكِيل الْمَرْأَةِ فِي ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ: اسْتِدْعَاءُ الْخُلْعِ - أَوِ الطَّلاَقِ - وَتَقْدِيرُ الْعِوَضِ وَتَسْلِيمُهُ.
وَيَكُونُ تَوْكِيل الرَّجُل أَيْضًا فِي ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ: شَرْطُ الْعِوَضِ - وَقَبْضُهُ - وَإِيقَاعُ الطَّلاَقِ أَوِ الْخُلْعِ.
وَالتَّوْكِيل جَائِزٌ مَعَ تَقْدِيرِ الْعِوَضِ وَمِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ؛ لأَِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَصَحَّ ذَلِكَ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ إِلاَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ مُسْتَحَبٌّ لأَِنَّهُ أَسْلَمُ مِنَ الْغَرَرِ، وَأَسْهَل عَلَى الْوَكِيل لاِسْتِغْنَائِهِ عَنِ الاِجْتِهَادِ (2) .
__________
(1) البحر الرائق 4 / 102 - ط الأولى العلمية، حاشية القليوبي 3 / 311 - 312 - ط الحلبي، كشاف القناع 5 / 230 - ط النصر.
(2) نتائج الأفكار 3 / 221 - ط الأميرية، تبيين الحقائق 2 / 275 - ط بولاق، البحر الرائق 4 / 102 - ط الأولى العلمية، جواهر الإكليل 1 / 334 - ط المعرفة، الدسوقي 2 / 355 - ط الفكر، الشرح الصغير 2 / 303 - ط المدني، المهذب 2 / 75 - ط الحلبي، روضة الطالبين 7 / 391 - ط المكتب الإسلامي، حاشية القليوبي 3 / 311 - 312 - ط الحلبي، أسنى المطالب 3 / 249 - ط المكتبة الإسلامية، الكافي 3 / 156 - 157 - ط المكتب الإسلامي، كشاف القناع 5 / 229 - 230 - ط النصر، المبدع 7 / 244 - 245 - ط المكتب الإسلامي، الإنصاف 8 / 419 - 420 - ط التراث، المغني 7 / 90 - 93 - ط الرياض.(19/252)
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ تَوْكِيل الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ لاَ يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَدِّرَا الْعِوَضَ كَمِائَةٍ مَثَلاً.
وَالثَّانِي أَنْ يُطْلِقَا الْوَكَالَةَ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، كَأَنْ يُوَكِّلاَهُ فِي الْخُلْعِ فَقَطْ، وَيَنْبَغِي لِوَكِيل الزَّوْجِ أَوْ وَكِيل الزَّوْجَةِ أَنْ يَفْعَل كُلٌّ مِنْهُمَا مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعُودَ بِالنَّفْعِ عَلَى مُوَكِّلِهِ، فَلاَ يُنْقِصُ وَكِيل الزَّوْجِ عَمَّا قَدَّرَهُ لَهُ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ فَلْيَفْعَل وَكَذَا وَكِيل الزَّوْجَةِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَزِيدَ عَمَّا قَدَّرَتْهُ لَهُ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَخْلَعَهَا بِأَقَل مِنْهُ فَلْيَفْعَل. وَيَنْبَغِي لِوَكِيل الزَّوْجِ فِي حَالَةِ الإِْطْلاَقِ أَنْ لاَ يُخَالِعَ بِأَقَل مِنْ مَهْرِ الْمِثْل بَل بِأَكْثَرَ، وَيَنْبَغِي لِوَكِيل الزَّوْجَةِ أَيْضًا أَنْ لاَ يَخْلَعَهَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْل فِي حَالَةِ الإِْطْلاَقِ.
عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ:
23 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ وَهُوَ قَوْل سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ.(19/252)
وَفِي قَوْلٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَجَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّتَهَا حَيْضَةً (1) .
وَبِأَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى بِهِ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ عِدَّتَهَا عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (2) . وَلأَِنَّ الْخُلْعَ فُرْقَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْحَيَاةِ بَعْدَ الدُّخُول فَكَانَتِ الْعِدَّةُ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ كَغَيْرِ الْخُلْعِ (3) .
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُعَوَّضُ وَهُوَ الْبُضْعُ:
24 - يُشْتَرَطُ فِيهِ كَمَا جَاءَ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ، فَأَمَّا الْبَائِنُ بِخُلْعٍ وَغَيْرِهِ فَلاَ يَصِحُّ خُلْعُهَا، وَيُشْتَرَطُ فِي الْخُلْعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا أَنْ يُصَادِفَ مَحَلًّا، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ بَائِنًا وَقْتَ الْخُلْعِ، فَإِنَّ الْخُلْعَ لاَ يَقَعُ؛
__________
(1) حديث ابن عباس " إن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل. . " تقدم تخريجه (ف / 7) .
(2) سورة البقرة / 228.
(3) فتح القدير 3 / 269 - ط الأميرية، تبيين الحقائق 3 / 26 - ط بولاق، الدسوقي مع الشرح الكبير 2 / 468 - ط الفكر، روضة الطالبين 8 / 365 - ط المكتب الإسلامي، المغني 7 / 449 - 450 - ط الرياض، الإنصاف 9 / 279.(19/253)
لأَِنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا، وَتَسْتَرِدُّ الزَّوْجَةُ الْمَال الَّذِي دَفَعَتْهُ لِلزَّوْجِ، وَيَسْقُطُ عَنْهَا مَا الْتَزَمَتْهُ مِنْ رَضَاعِ وَلَدِهَا، أَوْ نَفَقَةِ حَمْلٍ، أَوْ إِسْقَاطِ حَضَانَتِهَا.
وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ مَعَ الزَّوْجَةِ الَّتِي فِي عِصْمَةِ زَوْجِهَا، حَقِيقَةً، وَهِيَ الَّتِي لَمْ تُفَارِقْ زَوْجَهَا بِطَلاَقٍ بَائِنٍ وَنَحْوِهِ، كَاللِّعَانِ مَثَلاً، أَوْ حُكْمًا، وَهِيَ الَّتِي طَلَّقَهَا زَوْجُهَا طَلاَقًا رَجْعِيًّا وَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ زَوْجَةٌ وَالنِّكَاحُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا قَائِمٌ، وَتَسْرِي عَلَيْهَا كَافَّةُ الأَْحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالزَّوْجَاتِ، وَلَوْ مَاتَ زَوْجُهَا قَبْل انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَإِنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ، وَلَوْ قَال الزَّوْجُ: كُل امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ تَدْخُل هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ فِيهِ كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلاَقُ، إِلاَّ أَنَّ الْخِرَقِيَّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَ أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرَّمَةٌ؛ لأَِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ يَدُل عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُغْنِي عَنْهُ (وَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةٌ طَلَّقَ أَمْ ثَلاَثًا؟ فَهُوَ مُتَيَقِّنٌ لِلتَّحْرِيمِ شَاكٌّ فِي التَّحْلِيل) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلَى هَذَا، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ كَمَا قَال الْقَاضِي: إِنَّهَا مُبَاحَةٌ.
وَأَمَّا مُخَالَعَةُ الزَّوْجِ لَهَا أَيِ الرَّجْعِيَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ فَتَصِحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلاَ تَسْتَرِدُّ الْمَال الَّذِي دَفَعَتْهُ لِلزَّوْجِ وَلَزِمَ الزَّوْجَ أَنْ يُوقِعَ عَلَيْهَا طَلْقَةً أُخْرَى بَائِنَةً، وَتَصِحُّ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَظْهَرِ الأَْقْوَال، وَهُوَ أَيْضًا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ سِوَى الْخِرَقِيِّ، لأَِنَّهَا زَوْجَةٌ صَحَّ طَلاَقُهَا فَصَحَّ خُلْعُهَا كَمَا قَبْل الطَّلاَقِ.(19/253)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ: إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ مُخَالَعَتِهَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى الاِفْتِدَاءِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ بِلَفْظِ، قِيل: إِلَى أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ يَصِحُّ خُلْعُهَا بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ دُونَ الثَّانِيَةِ لِتَحْصُل الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى، هَذَا وَيَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ وُقُوعِ الطَّلاَقِ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ قَبْل انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا صِحَّةُ مُخَالَعَتِهَا لأَِنَّ الْخُلْعَ عَلَى الْقَوْل الَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ طَلاَقٌ (1) .
الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْعِوَضُ:
25 - الْعِوَضُ مَا يَأْخُذُهُ الزَّوْجُ مِنْ زَوْجَتِهِ فِي مُقَابِل خُلْعِهِ لَهَا، وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ أَنْ يَصْلُحَ
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير 3 / 172 - ط الأميرية، حاشية ابن عابدين 2 / 536 - 537 - ط بولاق، البناية في شرح الهداية 4 / 611 - 612 - ط الفكر، البحر الرائق 4 / 60 - ط الأولى العلمية، تبيين الحقائق 2 / 256 - ط بولاق، الشرح الصغير 2 / 304 - ط المدني، الخرشي 4 / 21 - ط بولاق، جواهر الإكليل 1 / 334 - ط المعرفة، الدسوقي 2 / 356 - ط الفكر، شرح الزرقاني 4 / 75 - ط الفكر، روضة الطالبين 7 / 388 - ط المكتب الإسلامي، أسنى المطالب 3 / 248 - ط المكتبة الإسلامية مغني المحتاج 3 / 265 - ط التراث، نهاية المحتاج 6 / 390 - 391 - ط المكتبة الإسلامية، حاشية القليوبي 3 / 309 - ط الحلبي، تحفة المحتاج 7 / 468 - ط الميمنية، المغني 7 / 279 - ط الرياض، الكافي 3 / 228 - ط المكتب الإسلامي، المبدع 7 / 393 - ط المكتب الإسلامي.(19/254)
جَعْلُهُ صَدَاقًا، فَإِنَّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ بَدَل خُلْعٍ (1) .
وَالْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَالاً مُعَيَّنًا أَوْ مَوْصُوفًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ تَفْتَدِي بِهِ نَفْسَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْفَعَةً وَذَلِكَ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى إِرْضَاعِ وَلَدِهِ مِنْهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً مُعَيَّنَةً، كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، أَوْ مُطَلَّقَةً كَمَا ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ، فَإِنْ مَاتَتِ الْمُرْضِعَةُ، أَوِ الصَّبِيُّ، أَوْ جَفَّ لَبَنُهَا قَبْل ذَلِكَ فَعَلَيْهَا أُجْرَةُ الْمِثْل لِمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ؛ لأَِنَّهُ عِوَضٌ مُعَيَّنٌ تَلِفَ قَبْل قَبْضِهِ فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ، أَوْ مِثْلُهُ، كَمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى قَفِيزٍ فَهَلَكَ قَبْل قَبْضِهِ (2) .
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ إِخْرَاجُ
__________
(1) البناية في شرح الهداية 4 / 669 - 670 - ط الفكر، نتائج الأفكار 3 / 207 - ط الأميرية، تبيين الحقائق 2 / 269 - ط بولاق، القوانين الفقهية / 233 - ط العربي، الخرشي 4 / 13 - ط بولاق، الدسوقي 2 / 348 - ط الفكر، أسهل المدارك 2 / 158 - ط الحلبي، روضة الطالبين 7 / 389 - ط المكتب الإسلامي، الكافي 3 / 152، ط المكتب الإسلامي، المهذب 2 / 74 - ط الحلبي، مغني المحتاج 3 / 265 - ط التراث، نهاية المحتاج 6 / 391 - ط المكتبة الإسلامية، بجيرمي على الخطيب 3 / 414 - ط المعرفة، حاشية القليوبي 3 / 309 - 310 - ط الحلبي، المبدع 7 / 229 - ط المكتب الإسلامي، كشاف القناع 5 / 218 - ط النصر، الكافي 3 / 152 - ط المكتب الإسلامي.
(2) الشرح الصغير 2 / 298 - ط المدني، الخرشي 4 / 22 - ط بولاق، الدسوقي 2 / 357 - ط الفكر، روضة الطالبين 7 / 399 - ط المكتب الإسلامي، الكافي 3 / 156 - ط المكتب الإسلامي، المغني 7 / 64 - 65 - ط الرياض.(19/254)
الْمَرْأَةِ مِنْ مَسْكَنِهَا الَّذِي طَلُقَتْ فِيهِ لأَِنَّ سُكْنَاهَا فِيهِ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَقٌّ لِلَّهِ، لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ إِسْقَاطُهُ لاَ بِعِوَضٍ وَلاَ بِغَيْرِهِ، وَبَانَتْ مِنْهُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَتَحَمَّل هِيَ أُجْرَةَ الْمَسْكَنِ مِنْ مَالِهَا زَمَنَ الْعِدَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ. وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ السُّكْنَى وَلِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْل (1) .
26 - وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا أَنَّ الْعِوَضَ فِي الْخُلْعِ إِنْ كَانَ مَعْلُومًا وَمُتَمَوَّلاً وَمَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ فَإِنَّ الْخُلْعَ يُعْتَبَرُ صَحِيحًا.
أَمَّا إِذَا فَسَدَ الْعِوَضُ بِاخْتِلاَل شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ، كَاخْتِلاَل شَرْطِ الْعِلْمِ، أَوِ الْمَالِيَّةِ، أَوِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، فَإِنَّ الْخُلْعَ يُعْتَبَرُ فَاسِدًا، وَفِيهِ خِلاَفٌ، سَبَبُهُ تَرَدُّدُ الْعِوَضِ هَاهُنَا بَيْنَ الْعِوَضِ فِي الْبُيُوعِ، أَوِ الأَْشْيَاءِ الْمَوْهُوبَةِ، أَوِ الْمُوصَى بِهَا فَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْبُيُوعِ اشْتَرَطَ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْبُيُوعِ وَفِي أَعْوَاضِ الْبُيُوعِ. وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْهِبَاتِ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ ذَلِكَ (2) .
__________
(1) الخرشي 4 / 15 ط بولاق، الزرقاني 4 / 68 - ط الفكر، الدسوقي 2 / 350 - ط الفكر، مغني المحتاج 3 / 265 - ط التراث.
(2) بداية المجتهد 2 / 58 - ط التجارية.(19/255)
وَتَتَلَخَّصُ أَحْكَامُهُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ:
الأُْولَى: الْخُلْعُ بِالْمَجْهُول وَبِالْمَعْدُومِ وَبِالْغَرَرِ أَوْ بِمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ.
الْخُلْعُ بِالْمَجْهُول جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْخُلْعَ عِنْدَهُمْ إِسْقَاطٌ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ وَخُلُوُّهُ مِنَ الْعِوَضِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُحُ، فَيَجُوزُ بِالْمَجْهُول إِلَى الأَْجَل الْمَجْهُول الْمُسْتَدْرَكِ الْجَهَالَةِ وَعَلَى هَذَا الأَْصْل يَجُوزُ اخْتِلاَعُهَا عَلَى زِرَاعَةِ أَرْضِهَا، وَرُكُوبِ دَابَّتِهَا، وَخِدْمَتِهَا لَهُ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَلْزَمُ خَلْوَتُهُ بِهَا، أَوْ خِدْمَةُ الأَْجْنَبِيِّ؛ لأَِنَّ هَذِهِ تَجُوزُ مَهْرًا (1) .
وَيَجُوزُ الْخُلْعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا بِالْمَجْهُول وَالْغَرَرِ، فَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَهُمْ أَنْ تُخَالِعَ زَوْجَهَا بِمَا فِي بَطْنِ نَاقَتِهَا، وَمِثْلُهُ الآْبِقُ، وَالشَّارِدُ، وَالثَّمَرَةُ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا، وَبِحَيَوَانٍ، وَعَرْضٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ، أَوْ بِأَجَلٍ مَجْهُولٍ، وَلِلزَّوْجِ عَلَيْهَا الْوَسَطُ مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَتِ الْمُخَالَعَةُ بِهِ، لاَ مِنْ وَسَطِ مَا يُخَالَعُ بِهِ النَّاسُ وَلاَ يُرَاعَى فِي ذَلِكَ حَال الْمَرْأَةِ، وَإِذَا انْفَشَّ الْحَمْل (2) الَّذِي وَقَعَ الْخُلْعُ عَلَيْهِ فَلاَ شَيْءَ لِلزَّوْجِ؛ لأَِنَّهُ مُجَوِّزٌ لِذَلِكَ وَالطَّلاَقُ بَائِنٌ (3) .
__________
(1) فتح القدير 3 / 207 - ط الأميرية.
(2) يقال: انفشت القربة خرج ما فيها من هواء والعلة زالت.
(3) القوانين الفقهية / 233 - ط العربي، الخرشي 4 / 13 - ط بولاق، الدسوقي 2 / 348 - ط الفكر، أسهل المدارك 2 / 158 - ط الحلبي، التاج والإكليل 4 / 22، مواهب الجليل 4 / 22 - ط النجاح، المدونة 2 / 337 - ط المصرية أو دار صادر.(19/255)
وَيَصِحُّ الْخُلْعُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا بِالْمَجْهُول فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَبِالْمَعْدُومِ الَّذِي يُنْتَظَرُ وُجُودُهُ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ مَعْنًى يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الْعِوَضَ الْمَجْهُول كَالْوَصِيَّةِ؛ وَلأَِنَّ الْخُلْعَ إِسْقَاطٌ لِحَقِّهِ مِنَ الْبُضْعِ وَلَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ شَيْءٍ، وَالإِْسْقَاطُ تَدْخُلُهُ الْمُسَامَحَةُ وَلِذَلِكَ جَازَ بِغَيْرِ عِوَضٍ عَلَى رِوَايَةٍ (1) .
وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْخُلْعُ عَلَى مَا فِيهِ غَرَرٌ كَالْمَجْهُول، وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْخُلْعِ بِالْمَجْهُول وَبِالْمَعْدُومِ الَّذِي يُنْتَظَرُ وُجُودُهُ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْل أَحْمَدَ، وَجَزَمَ بِهِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ، وَمِثْلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْخُلْعُ عَلَى مُحَرَّمٍ، أَوْ عَلَى مَا لَمْ يَتِمَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، لأَِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلاَ يَجُوزُ عَلَى مَا ذُكِرَ، كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، فَلَوْ خَالَعَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ بَانَتْ بِمَهْرِ الْمِثْل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ الْمُرَادُ عِنْدَ فَسَادِ الْعِوَضِ (2) .
__________
(1) المبدع 7 / 233 - ط المكتب الإسلامي.
(2) المهذب 2 / 74 - ط الحلبي، مغني المحتاج 3 / 265 - ط التراث، 7 / 233 - ط المكتب الإسلامي، كشاف القناع 5 / 222 - ط النصر، الكافي 3 / 153 ط المكتب الإسلامي.(19/256)
الرُّكْنُ الْخَامِسُ: الصِّيغَةُ:
27 - صِيغَةُ الْخُلْعِ هِيَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول.
أَمَّا الإِْيجَابُ وَالْقَبُول فَهُمَا رُكْنَا الْخُلْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ بِعِوَضٍ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِمَا كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ إِنْ بَدَأَ الزَّوْجُ بِصِيغَةِ مُعَاوَضَةٍ، كَقَوْلِهِ خَالَعْتُكِ عَلَى كَذَا الْقَبُول لَفْظًا مِمَّنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ النُّطْقُ، وَبِالإِْشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ مِنَ الأَْخْرَسِ وَبِالْكِتَابَةِ مِنْهُمَا، وَأَنْ لاَ يَتَخَلَّل بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول كَلاَمٌ أَجْنَبِيٌّ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُطْلَبُ مِنْهُ الْجَوَابُ لإِِشْعَارِهِ بِالإِْعْرَاضِ بِخِلاَفِ الْيَسِيرِ مُطْلَقًا، وَالْكَثِيرِ مِمَّنْ لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُ الْجَوَابُ، وَأَنْ يَكُونَ الْقَبُول عَلَى وَفْقِ الإِْيجَابِ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول كَطَلَّقْتُكِ بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ بِأَلْفَيْنِ، وَعَكْسُهُ كَطَلَّقْتُكِ بِأَلْفَيْنِ فَقَبِلَتْ بِأَلْفٍ، أَوْ طَلَّقْتُكِ ثَلاَثًا بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ وَاحِدَةً بِثُلُثِ أَلْفٍ، فَلَغْوٌ فِي الْمَسَائِل الثَّلاَثِ لِلْمُخَالَفَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ.
وَأَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِصِيغَةِ تَعْلِيقٍ فِي الإِْثْبَاتِ، كَمَتَى أَوْ مَتَى مَا، أَوْ أَيْ حِينٍ، أَوْ زَمَانٍ، أَوْ وَقْتٍ أَعْطَيْتنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُول لَفْظًا؛ لأَِنَّ الصِّيغَةَ لاَ تَقْتَضِيهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الإِْعْطَاءُ فَوْرًا فِي الْمَجْلِسِ أَيْ مَجْلِسِ التَّوَاجُبِ. بِخِلاَفِ مَا لَوِ ابْتَدَأَ (بِصِيغَةِ تَعْلِيقٍ فِي النَّفْيِ، كَقَوْلِهِ مَتَى لَمْ تُعْطِنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ) وَمِثْل ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَتْ لَهُ: مَتَى طَلَّقْتَنِي فَلَكَ(19/256)
عَلَيَّ أَلْفٌ، فَإِنَّ الْجَوَابَ يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ التَّوَاجُبِ (1) .
تَعْلِيقُ الْخُلْعِ بِالشَّرْطِ:
28 - الْخُلْعُ إِنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ بِأَنْ كَانَتْ هِيَ الْبَادِئَةُ بِسُؤَال الطَّلاَقِ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْبَل التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ وَالإِْضَافَةِ إِلَى الْوَقْتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهَا مُعَاوَضَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ يَقْبَل التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالإِْضَافَةِ إِلَى الْوَقْتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهِ يَمِينٌ، وَمِثْلُهُ الطَّلاَقُ عَلَى مَالٍ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يُجَوِّزُوا تَعْلِيقَ الْخُلْعِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ (2) .
شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْخُلْعِ:
29 - يَصِحُّ لِلزَّوْجَةِ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْخُلْعِ لاَ لِلزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لاَ يَصِحُّ لَهَا أَيْضًا؛ لأَِنَّ إِيجَابَ الزَّوْجِ
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 250 - 251 - ط المكتبة الإسلامية، روضة الطالبين 7 / 395 - ط المكتب الإسلامي، مغني المحتاج 3 / 269 - 270 - ط التراث.
(2) تبيين الحقائق 2 / 272 - ط المعرفة، بدائع الصنائع 3 / 152 - ط الجمالية، جواهر الإكليل 1 / 335 - ط المعرفة، روضة الطالبين 7 / 382 - ط المكتب الإسلامي، كشاف القناع 5 / 217 - ط النصر.(19/257)
يَمِينٌ وَلِهَذَا لاَ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ وَصَحَّتْ إِضَافَتُهُ وَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ لِكَوْنِ الْمَوْجُودِ مِنْ جَانِبِهِ طَلاَقًا وَقَبُولُهَا شَرْطُ الْيَمِينِ فَلاَ يَصِحُّ خِيَارُ الشَّرْطِ فِيهِمَا؛ لأَِنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الاِنْعِقَادِ لاَ لِلْمَنْعِ مِنَ الاِنْعِقَادِ، وَالْيَمِينُ وَشَرْطُهَا لاَ يَحْتَمِلاَنِ الْفَسْخَ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهَا مُعَاوَضَةٌ لِكَوْنِ الْمَوْجُودِ مِنْ جِهَتِهَا مَالاً، وَلِهَذَا يَصِحُّ رُجُوعُهَا قَبْل الْقَبُول، وَلاَ تَصِحُّ إِضَافَتُهُ وَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ، وَلاَ نُسَلِّمُ أَنَّهُ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الاِنْعِقَادِ، بَل هُوَ مَانِعٌ مِنَ الاِنْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَكَوْنُهُ شَرْطًا لِيَمِينِ الزَّوْجِ لاَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُعَاوَضَةً فِي نَفْسِهِ (1) .
أَلْفَاظُ الْخُلْعِ:
30 - أَلْفَاظُ الْخُلْعِ سَبْعَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ: خَالَعْتُكِ - بَايَنْتُكِ - بَارَأْتُكِ - فَارَقْتُكِ - طَلِّقِي نَفْسَكِ عَلَى أَلْفٍ - وَالْبَيْعُ كَبِعْتُ نَفْسَكِ - وَالشِّرَاءُ كَاشْتَرِي نَفْسَكِ.
وَلَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ وَهِيَ: الْخُلْعُ
__________
(1) تبيين الحقائق 2 / 271 - 272 - ط بولاق، فتح القدير 3 / 213 - 214 - ط الأميرية، بدائع الصنائع 3 / 145 - ط الجمالية، حاشية ابن عابدين 2 / 559 - ط بولاق، كشاف الأسرار للبزدوي 4 / 364 - 365 - ط العربي، البحر الرائق 4 / 92 - ط الأولى العلمية.(19/257)
وَالْفِدْيَةُ، وَالصُّلْحُ، وَالْمُبَارَأَةُ وَكُلُّهَا تَئُول إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ بَذْل الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلاَقِهَا.
وَأَلْفَاظُ الْخُلْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَنْقَسِمُ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ: فَالصَّرِيحُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ لَفْظَانِ: لَفْظُ خُلْعٍ وَمَا يَشْتَقُّ مِنْهُ لأَِنَّهُ ثَبَتَ لَهُ الْعُرْفُ. وَلَفْظُ الْمُفَادَاةِ وَمَا يَشْتَقُّ مِنْهُ لِوُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ لَفْظَ فَسْخٍ لأَِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ. وَهُوَ مِنْ كِنَايَاتِ الْخُلْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمِنْ كِنَايَاتِهِ عِنْدَهُمْ أَيْضًا بَيْعٌ.
وَلَفْظُ بَارَأْتُكِ، وَأَبْرَأْتُكِ، وَأَبَنْتُكِ، وَصَرِيحُ خُلْعٍ وَكِنَايَتُهُ، كَصَرِيحِ طَلاَقٍ وَكِنَايَتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِذَا طَلَبَتِ الْخُلْعَ وَبَذَلَتِ الْعِوَضَ فَأَجَابَهَا بِصَرِيحِ الْخُلْعِ وَكِنَايَتِهِ، صَحَّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لأَِنَّ دَلاَلَةَ الْحَال مِنْ سُؤَال الْخُلْعِ، وَبَذْل الْعِوَضِ صَارِفَةٌ إِلَيْهِ فَأَغْنَى عَنِ النِّيَّةِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلاَلَةَ حَالٍ فَأَتَى بِصَرِيحِ الْخُلْعِ وَقَعَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، سَوَاءٌ قُلْنَا هُوَ فَسْخٌ أَوْ طَلاَقٌ، وَلاَ يَقَعُ بِالْكِنَايَةِ إِلاَّ بِنِيَّةٍ مِمَّنْ تَلَفَّظَ بِهِ مِنْهُمَا، كَكِنَايَاتِ الطَّلاَقِ مَعَ صَرِيحِهِ (1) .
اخْتِلاَفُ الزَّوْجَيْنِ فِي الْخُلْعِ أَوْ فِي عِوَضِهِ:
31 - إِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ الْخُلْعَ، وَالزَّوْجَةُ تُنْكِرُهُ بَانَتْ بِإِقْرَارِهِ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا دَعْوَى الْمَال فَتَبْقَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 559 - ط بولاق، بداية المجتهد 2 / 57 - ط التجارية، حاشية الجمل على المنهج 4 / 302 - ط التراث، المغني 7 / 57 - ط الرياض.(19/258)
بِحَالِهَا كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَيَكُونُ الْقَوْل قَوْلَهَا فِيهَا؛ لأَِنَّهَا تُنْكِرُ، وَالْقَوْل قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا فِي نَفْيِ الْعِوَضِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا إِذَا ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ الْخُلْعَ، وَالزَّوْجُ يُنْكِرُهُ فَإِنَّهُ لاَ يَقَعُ كَيْفَمَا كَانَ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَيُصَدَّقُ الزَّوْجُ بِيَمِينِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُهُ، وَالْقَوْل قَوْلُهُ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لأَِنَّهُ لاَ يَدَّعِيهِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَكِنْ يُفْهَمُ مِمَّا ذَكَرُوهُ فِيمَا لَوْ قَالَتِ الزَّوْجَةُ: طَلَّقْتَنِي ثَلاَثًا بِعَشَرَةٍ فَقَال الزَّوْجُ: بَل طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بِعَشَرَةٍ، فَالْقَوْل قَوْل الزَّوْجِ بِلاَ يَمِينٍ، وَوَقَعَتِ الْبَيْنُونَةُ؛ لأَِنَّ مَا زَادَ عَلَى مَا قَالَهُ الزَّوْجُ هِيَ مُدَّعِيَةٌ لَهُ، وَكُل دَعْوَى لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِعَدْلَيْنِ فَلاَ يَمِينَ بِمُجَرَّدِهَا، وَالْمَنْقُول عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَوْل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَل حُبِسَ، وَلاَ يُقَال تَحْلِفُ وَيَثْبُتُ مَا تَدَّعِيهِ، لأَِنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَثْبُتُ بِالنُّكُول مَعَ الْحَلِفِ وَتَبِينُ مِنْهُ فِي اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْخُلْعِ، وَتَكُونُ رَجْعِيَّةً فِي غَيْرِهِ.
أَمَّا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْخُلْعِ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْعِوَضِ، أَوْ جِنْسِهِ، أَوْ حُلُولِهِ، أَوْ تَأْجِيلِهِ، أَوْ صِفَتِهِ فَالْقَوْل قَوْل الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا أَبُو بَكْرٍ نَصًّا عَنْ أَحْمَدَ، وَالْقَوْل قَوْلُهَا أَيْضًا بِيَمِينِهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْقَوْل قَوْلُهَا فِي أَصْلِهِ فَكَذَا فِي صِفَتِهِ؛ وَلأَِنَّهَا مُنْكِرَةٌ لِلزِّيَادَةِ فِي الْقَدْرِ، أَوِ الصِّفَةِ، فَكَانَ الْقَوْل(19/258)
قَوْلَهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (1) وَعَلَى الْقَوْل: إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لاَ يُقَال يَتَحَالَفَانِ كَالْمُتَبَايِعِينَ؛ لأَِنَّ التَّحَالُفَ فِي الْبَيْعِ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِفَسْخِ الْعَقْدِ، وَالْخُلْعُ فِي نَفْسِهِ فَسْخٌ فَلاَ يُفْسَخُ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْقَوْل قَوْل الزَّوْجِ؛ لأَِنَّ الْبُضْعَ يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِهِ فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ فِي عِوَضِهِ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لأَِحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، أَوْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ وَتَعَارَضَتَا تَحَالَفَا كَالْمُتَبَايِعِينَ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَلِفِ وَمَنْ يَبْدَأُ بِهِ. وَيَجِبُ بِبَيْنُونَتِهَا بِفَوَاتِ الْعِوَضِ مَهْرُ الْمِثْل وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ، لأَِنَّهُ الْمَرَدُّ، فَإِنْ كَانَ لأَِحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ عُمِل بِهَا (2) .
__________
(1) حديث: " اليمين على المدعى عليه ". أخرجه بهذا اللفظ البيهقي (10 / 252 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس، وأشار إلى شذوذ هذا اللفظ، ورواه بإسناد صحيح بلفظ: " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر ".
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 564 - ط بولاق، البحر الرائق 4 / 94 - ط الأولى العلمية، جواهر الإكليل 1 / 336 - ط المعرفة، الشرح الكبير 2 / 360 - ط الفكر، الشرح الصغير 2 / 206 - ط المدني، الخرشي مع حاشية العدوي عليه 4 / 26 - 27 ط بولاق، بجيرمي على الخطيب 3 / 415 - ط المعرفة، الجمل على المنهج 4 / 318 - 319 - ط التراث، المهذب 2 / 77 - 78 - ط الحلبي، الكافي 3 / 158 - ط المكتب الإسلامي، كشاف القناع 5 / 230 - ط النصر، المبدع 7 / 246 - ط المكتب الإسلامي، المغني 7 / 93 - ط الرياض.(19/259)
خَلٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَل فِي اللُّغَةِ مَعْرُوفٌ، يُقَال: اخْتَل الشَّيْءُ إِذَا تَغَيَّرَ وَاضْطَرَبَ، وَخَلَّل الْخَمْرَ أَيْ جَعَلَهَا خَلًّا (1) . وَسُمِّيَ الْخَل بِذَلِكَ لأَِنَّهُ اخْتَل مِنْهُ طَعْمُ الْحَلاَوَةِ إِلَى الْحُمُوضَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: نِعْمَ الأُْدْمُ الْخَل (2) .
وَيُطْلَقُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَلَى نَفْسِ الْمَعْنَى.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخَمْرُ:
2 - الْخَمْرُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِكُل مُسْكِرٍ خَامَرَ الْعَقْل أَيْ غَطَّاهُ (3) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ هِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ النِّيءُ إِذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ.
وَيُقَال أَيْضًا لِكُل مَا خَامَرَ الْعَقْل وَسَتَرَهُ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْعِنَبِ أَمْ غَيْرِهِ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير ومتن اللغة مادة: (خلل) .
(2) ديث: " نعم الأدم الخل ". أخرجه مسلم (3 / 1623 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(3) لسان العرب والمصباح والقاموس في المادة.(19/259)
وَعَلَى ذَلِكَ فَهِيَ تَخْتَلِفُ عَنِ الْخَل فِي الطَّعْمِ وَفِي أَنَّهَا مُسْكِرٌ (1) .
ب - النَّبِيذُ:
3 - النَّبِيذُ فِي اللُّغَةِ مِنَ النَّبْذِ بِمَعْنَى التَّرْكِ، يُقَال: نَبَذْتُهُ نَبْذًا: أَلْقَيْتَهُ، وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ مَا يُلْقَى مِنَ التَّمْرِ أَوِ الزَّبِيبِ وَنَحْوِهِمَا أَوِ الْحُبُوبِ فِي الْمَاءِ لِيَكْسِبَهُ مِنْ طَعْمِهِ، وَالاِنْتِبَاذُ اتِّخَاذُ النَّبِيذِ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَبِيذٌ) .
ج - الْخَلِيطَانِ:
4 - الْخَلِيطَانِ شَرَابٌ خُلِطَ عِنْدَ النَّبْذِ أَوِ الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، أَوْ بُسْرٍ مَعَ رُطَبٍ، أَوْ تَمْرٍ وَحِنْطَةٍ مَعَ شَعِيرٍ، أَوْ أَحَدِهِمَا مَعَ تِينٍ (3) .
وَهُنَاكَ أَشْرِبَةٌ أُخْرَى ذَاتُ صِلَةٍ بِالْخَل لَهَا أَسْمَاءٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ خَاصَّةٌ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (أَشْرِبَةٌ) .
حُكْمُ الْخَل:
5 - الْخَل، مَالٌ مُتَقَوِّمٌ طَاهِرٌ يَحِل أَكْلُهُ وَالْمُعَامَلَةُ بِهِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 288، والمدونة 6 / 261، ونهاية المحتاج 8 / 9، وكشاف القناع 6 / 116، والمغني 9 / 159.
(2) المعجم الوسيط والمصباح المنير مادة: (نبذ) والاختيار 4 / 100، 101، وبداية المجتهد 1 / 490 وروضة الطالبين 10 / 168، والمغني لابن قدامة 8 / 317.
(3) تبيين الحقائق للزيلعي 6 / 45، 46، وجواهر الإكليل 1 / 219، والمغني 8 / 318 - 319.(19/260)
وَالاِسْتِفَادَةُ مِنْهُ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ كَسَائِرِ الأَْمْوَال الْمُتَقَوِّمَةِ. وَبِمَا أَنَّ أَصْلَهُ وَأَصْل الْخَمْرِ وَسَائِرَ الأَْشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَاحِدٌ غَالِبًا تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لأَِحْكَامِ الْخَل فِي مَوَاضِعَ نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: تَخَلُّل الْخَمْرِ وَتَخْلِيلُهَا:
6 - إِذَا تَخَلَّلَتِ الْخَمْرُ بِنَفْسِهَا بِغَيْرِ عِلاَجٍ بِأَنْ تَتَغَيَّرَ مِنَ الْخَمْرِيَّةِ إِلَى الْخَلِيَّةِ حَل ذَلِكَ الْخَل، فَيَجُوزَ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَالْمُعَامَلَةُ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِعْمَ الأُْدْمُ الْخَل (1) .
كَذَلِكَ إِذَا تَخَلَّلَتْ بِنَقْلِهَا مِنْ شَمْسٍ إِلَى ظِلٍّ وَعَكْسُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْلِيلِهَا بِالْعِلاَجِ بِإِلْقَاءِ الْخَل، أَوِ الْبَصَل، أَوِ الْمِلْحِ فِيهَا، أَوْ إِيقَادِ نَارٍ عِنْدَهَا بِقَصْدِ التَّخْلِيل:
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ: لاَ يَحِل تَخْلِيل الْخَمْرِ بِالْعِلاَجِ وَلاَ تَطْهُرُ بِالتَّخْلِيل. لِحَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ: أَنَّهُ سَأَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا فَقَال: أَهْرِقْهَا، قَال: أَفَلاَ أَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَال: لاَ (3) .
__________
(1) حديث: " نعم الأدم الخل ". تقدم تخريجه ف / 1.
(2) فتح القدير 8 / 166، 167، والزيلعي 6 / 48، 49، وبداية المجتهد 1 / 461، ومغني المحتاج 1 / 81، والروضة 4 / 72، وكشاف القناع 1 / 187.
(3) حديث أبي طلحة: " أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام. . " أخرجه أبو داود (4 / 82 - 83 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.(19/260)
وَلأَِنَّنَا أُمِرْنَا بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ، وَفِي التَّخْلِيل اقْتِرَابٌ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ التَّمَوُّل فَلاَ يَجُوزُ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: جَازَ تَخْلِيل الْخَمْرِ، وَحَل شُرْبُ ذَلِكَ الْخَل وَأَكْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: نِعْمَ الأُْدْمُ الْخَل مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ التَّخْلِيل وَالتَّخَلُّل، وَلأَِنَّ التَّخْلِيل يُزِيل الْوَصْفَ الْمُفْسِدَ، وَيَثْبُتُ وَصْفُ الصَّلاَحِيَّةِ؛ لأَِنَّ فِيهِ مَصْلَحَةَ التَّدَاوِي، وَالتَّغَذِّي وَمَصَالِحَ أُخْرَى، وَإِذَا زَال الْمُفْسِدُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ حَلَّتْ، كَمَا إِذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا؛ وَلأَِنَّ التَّخْلِيل إِصْلاَحٌ فَجَازَ قِيَاسًا عَلَى جَوَازِ دَبْغِ الْجِلْدِ (2) ، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دُبِغَ الإِْهَابُ فَقَدْ طَهُرَ (3) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَشْرِبَةٌ ج 5 27 - 29) (وَتَخْلِيلٌ ج 11 54) .
ثَانِيًا: أَكْل وَشُرْبُ الْخَل:
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ أَكْل وَشُرْبِ الْخَل، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْعِنَبِ أَمْ غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ أَكْل خَل الْخَمْرِ الَّتِي تَخَلَّلَتْ
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 461، وجواهر الإكليل 1 / 9، والمجموع 1 / 225، والمغني 8 / 319، وكشاف القناع 1 / 187.
(2) فتح القدير 8 / 166، 167، والزيلعي 6 / 48، 49 وابن عابدين 1 / 209، والاختيار 4 / 101، 102، وجواهر الإكليل 1 / 9.
(3) حديث: " إذا دبغ الإهاب فقد طهر ". أخرجه مسلم (1 / 277 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.(19/261)
بِنَفْسِهَا بِغَيْرِ عِلاَجٍ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نِعْمَ الأُْدْمُ الْخَل (1) .
وَكَمَا حَل أَكْل الْخَل حَل أَكْل دُودِهِ مَعَ الْخَل حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، كَدُودِ الْفَاكِهَةِ مَعَهَا لِعُسْرِ تَمْيِيزِهِ عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ كَجُزْئِهِ طَبْعًا وَطَعْمًا. أَمَّا أَكْلُهُ مُنْفَرِدًا فَحَرَامٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ (2)
أَمَّا إِذَا خُلِّلَتِ الْخَمْرُ بِالْعِلاَجِ بِإِلْقَاءِ الْخَل أَوِ الْمِلْحِ فِيهَا مَثَلاً، فَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي تَخَلُّل الْخَمْرِ وَتَخْلِيلِهَا ف 6.
ثَالِثًا: الطَّهَارَةُ بِالْخَل:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ أَوِ الأَْكْبَرِ بِالْخَل وَمَاءِ الْوَرْدِ وَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُعْتَصَرُ مِنْ شَجَرٍ أَوْ ثَمَرٍ؛ لأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِرَفْعِ الْحَدَثِ أَنْ يَكُونَ بِمَاءٍ مُطْلَقٍ، وَالْخَل لاَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَمَاءُ الْوَرْدِ وَالْبِطِّيخِ وَنَحْوِهِمَا لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ إِلاَّ بِالْقَيْدِ (3) .
__________
(1) الاختيار 4 / 101، 102، وجواهر الإكليل 1 / 9، 219، وأسنى المطالب 1 / 567، 568، ومطالب أولي النهى 5 / 250. وحديث: " نعم الأدم الخل ". سبق تخريجه ف / 1.
(2) فتح القدير مع الهداية 1 / 57، وأسنى المطالب 1 / 567، والمجموع 1 / 131، وكشاف القناع 6 / 204.
(3) فتح القدير 1 / 133، 177، وابن عابدين 1 / 23، والفتاوى الهندية 1 / 21، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 34، والمجموع للنووي 1 / 95 - 97، والمغني 1 / 9.(19/261)
كَذَلِكَ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ مِنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ بِالْخَل، فَالطَّهَارَةُ مِنَ النَّجَاسَةِ لاَ تَحْصُل عِنْدَهُمْ إِلاَّ بِمَا تَحْصُل بِهِ الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ، لِدُخُولِهَا فِي عُمُومِ الطَّهَارَةِ، وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْل مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (1) ، {وَيُنَزِّل عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (2) ، قَال النَّوَوِيُّ: ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى امْتِنَانًا فَلَوْ حَصَلَتِ الطَّهَارَةُ بِغَيْرِهِ لَمْ يَحْصُل الاِمْتِنَانُ بِهِ (3) .
وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ إِحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ فَلْتَقْرُصْهُ، ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِمَاءٍ ثُمَّ لِتُصَلِّيَ فِيهِ (4) . وَلَمْ يُنْقَل عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَازُ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ، فَلَوْ جَازَ بِغَيْرِ الْمَاءِ لَبَيَّنَهُ مَرَّةً فَأَكْثَرَ (5) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ
__________
(1) سورة الفرقان / 48.
(2) سورة الأنفال / 11.
(3) المجموع للنووي 1 / 95.
(4) حديث: " إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة. . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 410 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 240 - ط الحلبي) من حديث أسماء بنت أبي بكر واللفظ للبخاري.
(5) المجموع للنووي 1 / 95، والمراجع السابقة.(19/262)
الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ تَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ وَبِكُل مَائِعٍ طَاهِرٍ يُمْكِنُ إِزَالَتُهَا بِهِ، كَالْخَل وَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا إِذَا عُصِرَ انْعَصَرَ بِخِلاَفِ الدُّهْنِ وَالزَّيْتِ وَاللَّبَنِ وَالسَّمْنِ.
وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا كَانَ لإِِحْدَانَا إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ قَالَتْ بِرِيقِهَا فَقَصَعَتْهُ بِظُفْرِهَا (1) وَبِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ، فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ، وَلْيُصَل فِيهِمَا (2) . وَمَوْضِعُ الدَّلاَلَةِ أَنَّهَا طَهَارَةٌ بِغَيْرِ الْمَاءِ، فَدَل عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ؛ وَلأَِنَّ الْخَل وَنَحْوَهُ مِنَ الْمَائِعَاتِ الطَّاهِرَةِ قَالِعٌ لِلنَّجَاسَةِ وَمُزِيلٌ لَهَا كَالْمَاءِ فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ (3) .
رَابِعًا: بَيْعُ الْخَل وَالْمُعَامَلَةُ بِهِ:
9 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَكِيل أَوِ الْمَوْزُونِ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلاً وَلاَ نَسَاءً؛ لأَِنَّهُ يُعْتَبَرُ رِبًا،
__________
(1) حديث عائشة: " ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد. . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 412 - ط السلفية) .
(2) حديث: " إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر. . " أخرجه أبو داود (1 / 427 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال النووي في المجموع (2 / 179 - ط المنيرية) : " إسناده صحيح ".
(3) فتح القدير مع الهداية 1 / 133، والفتاوى الهندية 1 / 21، 43، وأسنى المطالب 1 / 18، والمجموع للنووي 1 / 95 - 97، والمغني لابن قدامة 1 / 9.(19/262)
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى، بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا الْبُرَّ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ، وَبِيعُوا الشَّعِيرَ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ (1) وَفِي رِوَايَةٍ وَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْشْيَاءُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ خَل الْعِنَبِ بِخَل الْعِنَبِ، وَلاَ بَيْعُ خَل الزَّبِيبِ بِخَل الزَّبِيبِ، وَلاَ بَيْعُ خَل التَّمْرِ بِخَل التَّمْرِ مُتَفَاضِلاً وَلاَ نَسَاءً، وَيَجُوزُ مُتَمَاثِلاً يَدًا بِيَدٍ، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لاِتِّحَادِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ؛ لأَِنَّ الْخَل مِنَ الْمَكِيلاَتِ (2) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ الْخُلُول مِنْ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ آخَرَ، كَخَل الْعِنَبِ بِخَل التَّمْرِ مَثَلاً. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ
__________
(1) حديث: " الذهب بالذهب مثلاً بمثل. . " أخرجه مسلم (3 / 1211 - ط الحلبي) والترمذي (3 / 541 - ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت، واللفظ للترمذي.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 185، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 87، 94، وجواهر الإكليل 2 / 18، 19، ومغني المحتاج 2 / 22، 23، 24، وكشاف القناع 3 / 251 - 255، وروضة الطالبين 3 / 291، وحاشية الجمل 3 / 60، 61، والمغني 4 / 4، 25 - 27.(19/263)
الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ نَوْعٍ مِنَ الْخَل بِنَوْعٍ آخَرَ مِنْهُ مُتَفَاضِلاً كَاللُّحُومِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ لأَِنَّ أُصُولَهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ حَتَّى لاَ يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ، وَأَسْمَاؤُهَا أَيْضًا مُخْتَلِفَةٌ بِاعْتِبَارِ الإِْضَافَةِ كَدَقِيقِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، وَالْمَقْصُودُ أَيْضًا مُخْتَلِفٌ، فَبَعْضُ النَّاسِ يَرْغَبُ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، وَقَدْ يَضُرُّهُ الْبَعْضُ وَيَنْفَعُهُ غَيْرُهُ، فَفُرُوعُ الأَْجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ تُعْتَبَرُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً، كَالدَّقِيقِ وَالْخُبْزِ وَالدُّهْنِ وَالْخَل؛ لأَِنَّ الْفُرُوعَ تَتْبَعُ أُصُولَهَا. وَعَلَى ذَلِكَ فَخَل التَّمْرِ جِنْسٌ وَخَل الْعِنَبِ جِنْسٌ آخَرُ يَجُوزُ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا مُتَفَاضِلاً (1) .
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ فَصَّلُوا فِي بَيْعِ الْخَل إِذَا دَخَلَهُ الْمَاءُ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مِنْ هَذَا بَيْعَ خَل عِنَبٍ بِخَل زَبِيبٍ، فَقَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِهِ وَلَوْ مُتَمَاثِلاً؛ لاِنْفِرَادِ خَل الزَّبِيبِ بِالْمَاءِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّ جَمِيعَ الْخُلُول جِنْسٌ وَاحِدٌ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنَ الْعِنَبِ، أَمْ مِنَ الزَّبِيبِ، أَوِ التَّمْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لاَ يَتَعَدَّدُ جِنْسُ الأَْنْبِذَةِ عِنْدَهُمْ. حَتَّى إِنَّ الأَْنْبِذَةَ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 185، والزيلعي 4 / 94، ومغني المحتاج 2 / 23، 24، والروضة 3 / 291، ونهاية المحتاج 3 / 416، وحاشية الجمل 3 / 60، 61، وكشاف القناع 3 / 255، والمغني 4 / 25.
(2) كشاف القناع 3 / 255.(19/263)
وَالْخُلُول اعْتُبِرَتْ جِنْسًا وَاحِدًا فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ التَّفَاضُل وَلاَ النَّسَاءُ فِي بَيْعِ الْخُلُول وَلَوْ مِنْ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لأَِنَّهَا كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، كَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالأَْنْبِذَةِ مُتَفَاضِلَةً فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ لاِعْتِبَارِهِمْ الْخُلُول وَالأَْنْبِذَةَ جِنْسًا وَاحِدًا لِتَقَارُبِ مَنْفَعَتِهَا (1) .
خَامِسًا: الضَّمَانُ فِي غَصْبِ الْخَل وَإِتْلاَفِهِ:
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ غَصَبَ أَوْ أَتْلَفَ خَل مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ طَاهِرٌ يَجُوزُ أَكْلُهُ وَاقْتِنَاؤُهُ وَالْمُعَامَلَةُ بِهِ كَمَا سَبَقَ (2) .
11 - وَلَوْ غَصَبَ خَمْرًا فَتَخَلَّلَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ يَجِبُ رَدُّهُ عَلَيْهِ إِلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا صَارَتْ خَلًّا عَلَى مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَيَدُ الْمَالِكِ لَمْ تَزُل عَنْهَا بِالْغَصْبِ، فَكَأَنَّهَا تَخَلَّلَتْ فِي يَدِ الْمَالِكِ (3) .
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 18، 19، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 49.
(2) ابن عابدين 5 / 114، ومغني المحتاج 2 / 285، والحطاب 5 / 280، وكشاف القناع 4 / 78.
(3) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 5 / 134، وجواهر الإكليل على مختصر خليل 2 / 149، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 447، ومغني المحتاج 3 / 291، ومطالب أولي النهى 4 / 5.(19/264)
وَكَذَلِكَ إِذَا خَلَّلَهَا الْغَاصِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (وَهُمْ يَقُولُونَ بِجَوَازِ التَّخْلِيل بِالْعِلاَجِ كَمَا سَبَقَ) ، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوا بِمَا إِذَا كَانَ التَّخْلِيل بِمَا لاَ قِيمَةَ لَهُ كَإِلْقَاءِ حِنْطَةٍ وَمِلْحٍ يَسِيرٍ، أَوْ تَشْمِيسٍ. أَمَّا لَوْ خَلَّلَهَا بِذِي قِيمَةٍ كَالْمِلْحِ الْكَثِيرِ وَالْخَل، فَالْخَل مِلْكُ الْغَاصِبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّ الْمِلْحَ وَالْخَل مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَالْخَمْرُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، فَيَرْجِعُ جَانِبُ الْغَاصِبِ فَيَكُونُ لَهُ بِلاَ شَيْءٍ، خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ حَيْثُ قَالاَ: يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ إِنْ شَاءَ، وَيَرُدُّ قَدْرَ وَزْنِ الْمِلْحِ مِنَ الْخَل (1) .
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْخَل لِلْغَاصِبِ مُطْلَقًا لِحُصُول الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُ (2) .
ثُمَّ إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ فَصَّلُوا بَيْنَ خَمْرِ الْمُسْلِمِ وَخَمْرِ الْكَافِرِ فَقَالُوا: إِذَا كَانَتِ الْخَمْرُ لِلْكَافِرِ وَتَخَلَّلَتْ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَخْذِ الْخَل وَبَيْنَ تَرْكِهِ وَأَخْذِ قِيمَتِهَا. وَإِذَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَخْذُ الْخَل (3) .
12 - وَلَوْ غَصَبَ عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ عِنْدَ الْغَاصِبِ، فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ عَلَى الْغَاصِبِ الضَّمَانَ بِرَدِّ مِثْلِهِ؛ لأَِنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ التَّالِفِ لِذَهَابِ مَالِيَّتِهِ بِتَخَمُّرِهِ وَانْقِلاَبِهِ إِلَى مَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين مع الدر 5 / 134، وجواهر الإكليل 2 / 149.
(2) مغني المحتاج 2 / 290، 291.
(3) جواهر الإكليل 2 / 149، وحاشية الدسوقي 3 / 447.(19/264)
لاَ يَجُوزُ تَمَلُّكُهُ (1) .
وَإِذَا تَخَلَّل عِنْدَ الْغَاصِبِ بَعْدَ التَّخَمُّرِ فَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَرُدُّهُ الْغَاصِبُ وَيَرُدُّ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَصِيرِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ بِسَبَبِ غَلَيَانِهِ، لأَِنَّهُ نَقْصٌ حَصَل فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَيَضْمَنُهُ.
وَفِي الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: يَلْزَمُهُ مِثْل الْعَصِيرِ. لأَِنَّهُ بِالتَّخَمُّرِ كَالتَّالِفِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ تَخَلَّل الْعَصِيرُ الْمَغْصُوبُ ابْتِدَاءً أَوْ بَعْدَ تَخَمُّرِهِ خُيِّرَ مَالِكُهُ بَيْنَ أَخْذِ عَصِيرِ مِثْلِهِ وَبَيْنَ أَخْذِهِ خَلًّا (3) .
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 149، ومغني المحتاج 2 / 291، وكشاف القناع 4 / 110.
(2) مغني المحتاج 2 / 291، وكشاف القناع 4 / 110.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 447.(19/265)
خَلْوَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَلْوَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ خَلاَ الْمَكَانُ وَالشَّيْءُ يَخْلُو خُلُوًّا وَخَلاَءً، وَأَخْلَى الْمَكَانُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ وَلاَ شَيْءَ فِيهِ، وَخَلاَ الرَّجُل وَأَخْلَى وَقَعَ فِي مَكَان خَالٍ لاَ يُزَاحَمُ فِيهِ.
وَخَلاَ الرَّجُل بِصَاحِبِهِ وَإِلَيْهِ وَمَعَهُ خُلُوًّا وَخَلاَءً وَخَلْوَةً: انْفَرَدَ بِهِ وَاجْتَمَعَ مَعَهُ فِي خَلْوَةٍ، وَكَذَلِكَ خَلاَ بِزَوْجَتِهِ خَلْوَةً.
وَالْخَلْوَةُ: الاِسْمُ، وَالْخِلْوُ: الْمُنْفَرِدُ، وَامْرَأَةٌ خَالِيَةٌ، وَنِسَاءٌ خَالِيَاتٌ: لاَ أَزْوَاجَ لَهُنَّ وَلاَ أَوْلاَدَ، وَالتَّخَلِّي: التَّفَرُّغُ، يُقَال: تَخَلَّى لِلْعِبَادَةِ، وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنَ الْخُلُوِّ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا الْمُصْطَلَحِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ (2) .
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، الكليات، المفردات للراغب.
(2) البدائع 2 / 293، الصاوي على الشرح الصغير 1 / 313 ط الحلبي، المجموع 4 / 155 وما بعدها، شرح منتهى الإرادات 3 / 7، شرح صحيح مسلم للنووي 2 / 198.(19/265)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ.
أ - الاِنْفِرَادُ:
2 - الاِنْفِرَادُ مَصْدَرُ انْفَرَدَ، يُقَال: انْفَرَدَ الرَّجُل بِنَفْسِهِ انْقَطَعَ وَتَنَحَّى، وَتَفَرَّدَ بِالشَّيْءِ انْفَرَدَ بِهِ، وَفَرَّدَ الرَّجُل إِذَا تَفَقَّهَ وَاعْتَزَل النَّاسَ، وَخَلاَ بِمُرَاعَاةِ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعِبَادَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ: طُوبَى لِلْمُفْرِّدِينَ (1) . وَاسْتَفْرَدَ فُلاَنًا انْفَرَدَ بِهِ (2) .
ب - الْعُزْلَةُ:
3 - الْعُزْلَةُ اسْمُ مَصْدَرٍ، يُقَال عَزَلْتُ الشَّيْءَ عَنْ غَيْرِهِ عَزْلاً نَحَّيْتَهُ عَنْهُ، وَمِنْهُ عَزَلْتُ النَّائِبَ كَالْوَكِيل إِذَا أَخْرَجْتَهُ عَمَّا كَانَ لَهُ مِنَ الْحُكْمِ، وَانْعَزَل عَنِ النَّاسِ، إِذَا تَنَحَّى عَنْهُمْ جَانِبًا، وَفُلاَنٌ عَنِ الْحَقِّ بِمَعْزِلٍ، أَيْ مُجَانِبٌ لَهُ، وَتَعَزَّلْتُ الْبَيْتَ وَاعْتَزَلْتُهُ، وَالاِعْتِزَال تَجَنُّبُ الشَّيْءِ عِمَالَةً كَانَتْ أَوْ بَرَاءَةً، أَوْ غَيْرَهُمَا، بِالْبَدَنِ كَانَ ذَلِكَ أَوْ بِالْقَلْبِ. وَتَعَازَل الْقَوْمُ انْعَزَل بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَالْعُزْلَةُ: الاِنْعِزَال نَفْسُهُ، يُقَال: الْعُزْلَةُ عِبَادَةٌ (3) .
__________
(1) حديث: " طوبى للمفردين ". أورده ابن الأثير في النهاية (3 / 425 - ط الحلبي) دون عزوه لأحد، وقد ورد بلفظ: " سبق المفردون "، أخرجه مسلم (4 / 2062 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) لسان العرب، المصباح المنير مادة: " فرد ".
(3) لسان العرب، المصباح المنير، المفردات للراغب مادة: " عزل ".(19/266)
ج - السِّتْرُ:
4 - السِّتْرُ مَا يُسْتَرُ بِهِ، أَيْ يُغَطَّى بِهِ وَيُخْفَى، وَجَمْعُهُ سُتُورٌ، وَالسُّتْرَةُ مِثْلُهُ، قَال ابْنُ فَارِسٍ: السُّتْرَةُ مَا اسْتَتَرْتَ بِهِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَالسِّتَارَةُ بِالْكَسْرِ، وَالسِّتَارُ بِحَذْفِ الْهَاءِ لُغَةً.
وَيُقَال لِمَا يَنْصِبُهُ الْمُصَلِّي قُدَّامَهُ عَلاَمَةً لِمُصَلاَّهُ مِنْ عَصًا، وَتَسْنِيمِ تُرَابٍ، وَغَيْرِهِ، سُتْرَةً، لأَِنَّهُ يَسْتُرُ الْمَارَّ مِنَ الْمُرُورِ أَيْ يَحْجُبُهُ. وَالاِسْتِتَارُ: الاِخْتِفَاءُ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - الْخَلْوَةُ بِمَعْنَى الاِنْفِرَادِ بِالنَّفْسِ فِي مَكَان خَالٍ، الأَْصْل فِيهَا الْجَوَازُ، بَل قَدْ تَكُونُ مُسْتَحَبَّةً، إِذَا كَانَتْ لِلذِّكْرِ وَالْعِبَادَةِ، وَلَقَدْ حُبِّبَ الْخَلاَءُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل الْبَعْثَةِ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ (2) ، قَال النَّوَوِيُّ: الْخَلْوَةُ شَأْنُ الصَّالِحِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ (3) .
وَالْخَلْوَةُ بِمَعْنَى الاِنْفِرَادِ بِالْغَيْرِ تَكُونُ مُبَاحَةً بَيْنَ الرَّجُل وَالرَّجُل، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةِ إِذَا لَمْ يَحْدُثْ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ شَرْعًا، كَالْخَلْوَةِ لاِرْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ، وَكَذَلِكَ هِيَ مُبَاحَةٌ بَيْنَ الرَّجُل وَمَحَارِمِهِ مِنَ النِّسَاءِ، وَبَيْنَ الرَّجُل وَزَوْجَتِهِ.
__________
(1) اللسان، المصباح المنير، مفردات الراغب مادة: " ستر ".
(2) حديث: " كان يخلو بغار حراء يتحنث فيه ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 23 - ط السلفية) من حديث عائشة.
(3) شرح صحيح مسلم 2 / 198.(19/266)
وَمِنَ الْمُبَاحِ أَيْضًا الْخَلْوَةُ بِمَعْنَى انْفِرَادِ رَجُلٍ بِامْرَأَةٍ فِي وُجُودِ النَّاسِ، بِحَيْثُ لاَ تَحْتَجِبُ أَشْخَاصُهُمَا عَنْهُمْ، بَل بِحَيْثُ لاَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَهُمَا.
فَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَْنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَلاَ بِهَا (1) وَعَنْوَنَ ابْنُ حَجَرٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِبَابِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُل بِالْمَرْأَةِ عِنْدَ النَّاسِ، وَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ: لاَ يَخْلُو بِهَا بِحَيْثُ تَحْتَجِبُ أَشْخَاصُهُمَا عَنْهُمْ، بَل بِحَيْثُ لاَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَهُمَا إِذَا كَانَ بِمَا يُخَافِتُ بِهِ كَالشَّيْءِ الَّذِي تَسْتَحِي الْمَرْأَةُ مِنْ ذِكْرِهِ بَيْنَ النَّاسِ (2) .
وَتَكُونُ الْخَلْوَةُ حَرَامًا كَالْخَلْوَةِ بِالأَْجْنَبِيَّةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
وَقَدْ تَكُونُ الْخَلْوَةُ بِالأَْجْنَبِيَّةِ وَاجِبَةً فِي حَال الضَّرُورَةِ، كَمَنْ وَجَدَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً مُنْقَطِعَةً فِي بَرِيَّةٍ، وَيَخَافُ عَلَيْهَا الْهَلاَكَ لَوْ تُرِكَتْ (3) .
الْخَلْوَةُ بِالأَْجْنَبِيَّةِ:
6 - الأَْجْنَبِيَّةُ: هِيَ مَنْ لَيْسَتْ زَوْجَةً وَلاَ مَحْرَمًا،
__________
(1) حديث: " جاءت امرأة من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 333 - ط السلفية) من حديث أنس بن مالك.
(2) فتح الباري 9 / 333.
(3) البدائع 5 / 125، ابن عابدين 5 / 235، 236، الحطاب 3 / 410، المجموع 4 / 157، تحقيق المطيعي، المغني 6 / 553، منتهى الإرادات 3 / 7.(19/267)
وَالْمَحْرَمُ مَنْ يَحْرُمُ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ، إِمَّا بِالْقَرَابَةِ، أَوِ الرَّضَاعَةِ، أَوِ الْمُصَاهَرَةِ (1) ، وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل الْخَلْوَةُ بِهَا، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ، قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ (2) .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ بِالأَْجْنَبِيَّةِ مُحَرَّمَةٌ.
وَقَالُوا: لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَتْ مِنْهُ بِمَحْرَمٍ، وَلاَ زَوْجَةٍ، بَل أَجْنَبِيَّةٌ؛ لأَِنَّ الشَّيْطَانَ يُوَسْوِسُ لَهُمَا فِي الْخَلْوَةِ بِفِعْل مَا لاَ يَحِل، قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ (3) .
وَقَالُوا: إِنْ أَمَّ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَخَلاَ بِهَا، حَرُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْخَلْوَةُ بِالأَْجْنَبِيَّةِ حَرَامٌ إِلاَّ لِمُلاَزَمَةِ مَدْيُونَةٍ هَرَبَتْ، وَدَخَلَتْ خَرِبَةً (4) .
__________
(1) البدائع 2 / 124.
(2) حديث: " لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 331 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عباس.
(3) حديث: " لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان ". أخرجه الترمذي (4 / 466 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب، وقال: " حسن صحيح ".
(4) الأشباه والنظائر لابن نجيم / 288، والفواكه الدواني 2 / 409، 410، والمجموع 4 / 155، ومطالب أولي النهى 5 / 18، وشرح منتهى الإرادات 3 / 7.(19/267)
الْخَلْوَةُ بِالأَْجْنَبِيَّةِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهَا مَعَهَا:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ خَلْوَةِ الرَّجُل بِالأَْجْنَبِيَّةِ مَعَ وُجُودِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَكَذَا خَلْوَةُ عَدَدٍ مِنَ الرِّجَال بِامْرَأَةٍ، فَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ، فَقَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل أَنْ يَخْلُوَ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، كَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْلُوَ بِنِسْوَةٍ، وَلَوْ خَلاَ رَجُلٌ بِنِسْوَةٍ، وَهُوَ مَحْرَمُ إِحْدَاهُنَّ جَازَ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَلَتِ امْرَأَةٌ بِرِجَالٍ، وَأَحَدُهُمْ مَحْرَمٌ لَهَا جَازَ، وَلَوْ خَلاَ عِشْرُونَ رَجُلاً بِعِشْرِينَ امْرَأَةً، وَإِحْدَاهُنَّ مَحْرَمٌ لأَِحَدِهِمْ جَازَ، قَال: وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يُصَلِّيَ بِنِسَاءٍ مُنْفَرِدَاتٍ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُنَّ مَحْرَمًا لَهُ.
وَحَكَى صَاحِبُ الْعِدَّةِ عَنِ الْقَفَّال مِثْل الَّذِي ذَكَرَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَحَكَى فِيهِ نَصَّ الشَّافِعِيِّ فِي تَحْرِيمِ خَلْوَةِ الرَّجُل بِنِسْوَةٍ مُنْفَرِدًا بِهِنَّ.
وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْمَجْمُوعِ بَعْدَ إِيرَادِ الأَْقْوَال السَّابِقَةِ أَنَّ الْمَشْهُورَ جَوَازُ خَلْوَةِ رَجُلٍ بِنِسْوَةٍ لاَ مَحْرَمَ لَهُ فِيهِنَّ؛ لِعَدَمِ الْمَفْسَدَةِ غَالِبًا؛ لأَِنَّ النِّسَاءَ يَسْتَحْيِينَ مِنْ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا فِي ذَلِكَ (1) .
وَفِي حَاشِيَةِ الْجَمَل: يَجُوزُ خَلْوَةُ رَجُلٍ بِامْرَأَتَيْنِ ثِقَتَيْنِ يَحْتَشِمُهُمَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. أَمَّا خَلْوَةُ رِجَالٍ بِامْرَأَةٍ، فَإِنْ حَالَتِ الْعَادَةُ دُونَ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى
__________
(1) المجموع 7 / 61، 62.(19/268)
وُقُوعِ فَاحِشَةٍ بِهَا، كَانَتْ خَلْوَةً جَائِزَةً، وَإِلاَّ فَلاَ (1) . وَفِي الْمَجْمُوعِ: إِنْ خَلاَ رَجُلاَنِ أَوْ رِجَالٌ بِامْرَأَةٍ فَالْمَشْهُورُ تَحْرِيمُهُ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَقَعُ اتِّفَاقُ رِجَالٍ عَلَى فَاحِشَةٍ بِامْرَأَةٍ، وَقِيل: إِنْ كَانُوا مِمَّنْ تَبْعُدُ مُوَاطَأَتُهُمْ عَلَى الْفَاحِشَةِ جَازَ (2) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَتَنْتَفِي عِنْدَهُمْ حُرْمَةُ الْخَلْوَةِ بِوُجُودِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، وَهَذَا يُفِيدُ جَوَازَ الْخَلْوَةِ بِأَكْثَرَ مِنَ امْرَأَةٍ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ، أَنَّ الْخَلْوَةَ الْمُحَرَّمَةَ بِالأَْجْنَبِيَّةِ تَنْتَفِي بِالْحَائِل، وَبِوُجُودِ مَحْرَمٍ لِلرَّجُل مَعَهُمَا، أَوِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ قَادِرَةٍ (3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُكْرَهُ صَلاَةُ رَجُلٍ بَيْنَ نِسَاءٍ أَيْ بَيْنَ صُفُوفِ النِّسَاءِ، وَكَذَا مُحَاذَاتُهُ لَهُنَّ بِأَنْ تَكُونَ امْرَأَةٌ عَنْ يَمِينِهِ وَأُخْرَى عَنْ يَسَارِهِ، وَيُقَال مِثْل ذَلِكَ فِي امْرَأَةٍ بَيْنَ رِجَالٍ، وَظَاهِرُهُ، وَإِنْ كُنَّ مَحَارِمَ (4) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَحْرُمُ خَلْوَةُ الرَّجُل مَعَ عَدَدٍ مِنَ النِّسَاءِ أَوِ الْعَكْسِ كَأَنْ يَخْلُوَ عَدَدٌ مِنَ الرِّجَال بِامْرَأَةٍ (5) .
الْخَلْوَةُ بِالْمَخْطُوبَةِ:
8 - الْمَخْطُوبَةُ تُعْتَبَرُ أَجْنَبِيَّةً مِنْ خَاطِبِهَا، فَتَحْرُمُ
__________
(1) حاشية الجمل 4 / 466.
(2) المجموع 4 / 156.
(3) ابن عابدين 5 / 236.
(4) بلغة السالك والشرح الصغير 1 / 158، 159.
(5) شرح منتهى الإرادات 3 / 7.(19/268)
الْخَلْوَةُ بِهَا كَغَيْرِهَا مِنَ الأَْجْنَبِيَّاتِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ (1) .
الْخَلْوَةُ بِالأَْجْنَبِيَّةِ لِلْعِلاَجِ:
9 - تَحْرُمُ الْخَلْوَةُ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَلَوْ لِضَرُورَةِ عِلاَجٍ إِلاَّ مَعَ حُضُورِ مَحْرَمٍ لَهَا، أَوْ زَوْجٍ، أَوِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ عَلَى الرَّاجِحِ؛ لأَِنَّ الْخَلْوَةَ بِهَا مَعَ وُجُودِ هَؤُلاَءِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمَحْظُورِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) . انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (ضَرُورَةٌ) .
إِجَابَةُ الْوَلِيمَةِ مَعَ الْخَلْوَةِ:
10 - تَجِبُ إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ، أَوْ تُسَنُّ، إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى الإِْجَابَةِ خَلْوَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَإِلاَّ حَرُمَتْ، كَمَا جَاءَ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ (3) .
(ر: وَلِيمَةٌ) .
الْخَلْوَةُ بِالأَْمْرَدِ:
11 - تَحْرُمُ الْخَلْوَةُ بِالأَْمْرَدِ إِنْ كَانَ صَبِيحًا،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 237، البناية في شرح الهداية 3 / 442، شرح البهجة 4 / 93، 94، الفواكه الدواني 2 / 410، مطالب أولي النهى 5 / 12.
(2) الفواكه الدواني 2 / 410، مغني المحتاج 3 / 133، مطالب أولي النهى 5 / 12.
(3) منح الجليل 2 / 167، 168، حاشية الجمل على المنهاج 4 / 272، مطالب أولي النهى 5 / 234.(19/269)
وَخِيفَتِ الْفِتْنَةُ، حَتَّى رَأَى الشَّافِعِيَّةُ حُرْمَةَ خَلْوَةِ الأَْمْرَدِ بِالأَْمْرَدِ وَإِنْ تَعَدَّدَ، أَوْ خَلْوَةِ الرَّجُل بِالأَْمْرَدِ وَإِنْ تَعَدَّدَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ رِيبَةٌ فَلاَ تَحْرُمُ، كَشَارِعٍ وَمَسْجِدٍ مَطْرُوقٍ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (أَمْرَدُ) (1) .
الْخَلْوَةُ بِالْمَحَارِمِ:
12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ خَلْوَةُ الرَّجُل بِالْمَحَارِمِ مِنَ النِّسَاءِ. وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، وَيَخْلُوَ بِهَا - يَعْنِي بِمَحَارِمِهِ - إِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَشْتَهِيهَا أَوْ تَشْتَهِيهِ إِنْ سَافَرَ بِهَا أَوْ خَلاَ بِهَا، أَوْ كَانَ أَكْبَرَ رَأْيِهِ ذَلِكَ أَوْ شَكَّ فَلاَ يُبَاحُ (2) .
وَمِمَّا يَدْخُل فِي حُكْمِ الْخَلْوَةِ بِالْمَحَارِمِ الْخَلْوَةُ بِالْمُطَلَّقَةِ طَلاَقًا رَجْعِيًّا، مَعَ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْخَلْوَةِ رَجْعَةً أَمْ لاَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ طَلاَقًا بَائِنًا فَهِيَ كَالأَْجْنَبِيَّةِ فِي الْحُكْمِ.
الْخَلْوَةُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهَا:
13 - لِلْخَلْوَةِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهَا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَثَرٌ فِي تَقَرُّرِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي تَحْدِيدِ الْخَلْوَةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ الأَْثَرُ.
__________
(1) الموسوعة الفقهية 3 / 252.
(2) الفتاوى الخانية بهامش الفتاوى الهندية 3 / 407.(19/269)
الْخَلْوَةُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرٌ:
14 - الْخَلْوَةُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرٌ هِيَ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ كَمَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ، أَوْ خَلْوَةُ الاِهْتِدَاءِ كَمَا يُطْلِقُ عَلَيْهَا الْمَالِكِيَّةُ.
وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الَّتِي لاَ يَكُونُ مَعَهَا مَانِعٌ مِنَ الْوَطْءِ، لاَ حَقِيقِيٌّ وَلاَ شَرْعِيٌّ وَلاَ طَبَعِيٌّ.
أَمَّا الْمَانِعُ الْحَقِيقِيُّ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَرِيضًا مَرَضًا يَمْنَعُ الْجِمَاعَ، أَوْ صَغِيرًا لاَ يُجَامِعُ مِثْلُهُ، أَوْ صَغِيرَةً لاَ يُجَامَعُ مِثْلُهَا، أَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ رَتْقَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ، لأَِنَّ الرَّتْقَ وَالْقَرَنَ يَمْنَعَانِ مِنَ الْوَطْءِ.
وَتَصِحُّ خَلْوَةُ الزَّوْجِ الْعِنِّينِ أَوِ الْخَصِيِّ؛ لأَِنَّ الْعُنَّةَ وَالْخِصَاءَ لاَ يَمْنَعَانِ مِنَ الْوَطْءِ، فَكَانَتْ خَلْوَتُهُمَا كَخَلْوَةِ غَيْرِهِمَا.
وَتَصِحُّ خَلْوَةُ الْمَجْبُوبِ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ لأَِنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ السَّحْقُ وَالإِْيلاَدُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ تَصِحُّ خَلْوَةُ الْمَجْبُوبِ لأَِنَّ الْجَبَّ يَمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ كَالْقَرَنِ وَالرَّتْقِ.
وَأَمَّا الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَائِمًا صَوْمَ رَمَضَانَ أَوْ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ، أَوْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ؛ لأَِنَّ كُل ذَلِكَ مُحَرِّمٌ لِلْوَطْءِ، فَكَانَ مَانِعًا مِنَ الْوَطْءِ شَرْعًا، وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ يَمْنَعَانِ مِنْهُ طَبْعًا أَيْضًا لأَِنَّهُمَا أَذًى، وَالطَّبْعُ السَّلِيمُ يَنْفِرُ مِنَ اسْتِعْمَال الأَْذَى.(19/270)
وَأَمَّا فِي غَيْرِ صَوْمِ رَمَضَانَ فَقَدْ ذَكَرَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ وَقَضَاءَ رَمَضَانَ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ لاَ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ نَفْل الصَّوْمِ كَفَرْضِهِ، فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الأَْخِيرَةِ أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ يُحَرِّمُ الْفِطْرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَصَارَ كَحَجِّ التَّطَوُّعِ وَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ.
وَفِي رِوَايَةِ بِشْرٍ أَنَّ صَوْمَ غَيْرِ رَمَضَانَ مَضْمُونٌ بِالْقَضَاءِ لاَ غَيْرُ فَلَمْ يَكُنْ قَوِيًّا فِي مَعْنَى الْمَنْعِ بِخِلاَفِ صَوْمِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ.
وَأَمَّا الْمَانِعُ الطَّبَعِيُّ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ بِحَضْرَةِ ثَالِثٍ، وَيَسْتَحِي فَيَنْقَبِضُ عَنِ الْوَطْءِ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الثَّالِثُ بَصِيرًا أَمْ أَعْمَى، يَقْظَانَ أَمْ نَائِمًا، بَالِغًا أَمْ صَبِيًّا بَعْدُ، إِنْ كَانَ عَاقِلاً، رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً، أَجْنَبِيَّةً أَوْ مَنْكُوحَتَهُ؛ لأَِنَّ الأَْعْمَى إِنْ كَانَ لاَ يُبْصِرُ فَهُوَ يُحِسُّ، وَالنَّائِمُ يَحْتَمِل أَنْ يَسْتَيْقِظَ سَاعَةً فَسَاعَةً، فَيَنْقَبِضُ الإِْنْسَانُ عَنِ الْوَطْءِ، مَعَ حُضُورِهِ. وَالصَّبِيُّ الْعَاقِل بِمَنْزِلَةِ الرَّجُل يَحْتَشِمُ الإِْنْسَانُ مِنْهُ كَمَا يَحْتَشِمُ مِنَ الرَّجُل. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَاقِلاً فَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْبَهَائِمِ، لاَ يَمْتَنِعُ الإِْنْسَانُ عَنِ الْوَطْءِ لِمَكَانِهِ، وَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَالإِْنْسَانُ يَحْتَشِمُ مِنَ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ، وَيَسْتَحْيِي، وَكَذَا لاَ يَحِل لَهَا النَّظَرُ إِلَيْهِمَا فَيَنْقَبِضَانِ لِمَكَانِهَا.(19/270)
وَلاَ تَصِحُّ الْخَلْوَةُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالطَّرِيقِ، وَالصَّحْرَاءِ، وَعَلَى سَطْحٍ لاَ حِجَابَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمَسْجِدَ يَجْمَعُ النَّاسَ لِلصَّلاَةِ، وَلاَ يُؤْمَنُ مِنَ الدُّخُول عَلَيْهِ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَكَذَا الْوَطْءُ فِي الْمَسْجِدِ حَرَامٌ، قَال عَزَّ وَجَل: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (1) .
وَالطَّرِيقُ مَمَرُّ النَّاسِ لاَ تَخْلُو عَنْهُمْ عَادَةً، وَذَلِكَ يُوجِبُ الاِنْقِبَاضَ فَيَمْنَعُ الْوَطْءَ، وَكَذَا الصَّحْرَاءُ وَالسَّطْحُ مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ، لأَِنَّ الإِْنْسَانَ يَنْقَبِضُ عَنِ الْوَطْءِ فِي مِثْلِهِ لاِحْتِمَال أَنْ يَحْصُل هُنَاكَ ثَالِثٌ، أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ أَحَدٌ.
وَلَوْ خَلاَ بِهَا فِي حَجَلَةٍ أَوْ قُبَّةٍ فَأَرْخَى السِّتْرَ عَلَيْهِ فَهِيَ خَلْوَةٌ صَحِيحَةٌ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْبَيْتِ.
وَلاَ خَلْوَةَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ فِيهِ حَرَامٌ فَكَانَ الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ قَائِمًا (2) .
15 - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ، وَهِيَ خَلْوَةُ الاِهْتِدَاءِ، مِنَ الْهُدُوءِ وَالسُّكُونِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ سَكَنٌ لِلآْخَرِ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ بِإِرْخَاءِ السُّتُورِ، كَانَ هُنَاكَ إِرْخَاءُ سُتُورٍ، أَوْ غَلْقُ بَابٍ، أَوْ غَيْرِهِ. وَمِنَ الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَهُمْ أَيْضًا، خَلْوَةُ الزِّيَارَةِ، أَيْ زِيَارَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ. وَتَكُونُ بِخَلْوَةِ
__________
(1) سورة البقرة / 187.
(2) البدائع 2 / 292 - 293.(19/271)
بَالِغٍ - وَلَوْ كَانَ مَرِيضًا - حَيْثُ كَانَ مُطِيقًا، وَلَوْ كَانَتِ - الزَّوْجَةُ الَّتِي يَخْلُو بِهَا - حَائِضًا، أَوْ نُفَسَاءَ، أَوْ صَائِمَةً، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَجْبُوبٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، خِلاَفًا لِلْقَرَافِيِّ، وَأَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ يُمْكِنُ شَغْلُهَا بِالْوَطْءِ، فَلاَ يَكُونُ مَعَهُمَا فِي الْخَلْوَةِ نِسَاءٌ مُتَّصِفَاتٌ بِالْعِفَّةِ وَالْعَدَالَةِ، أَوْ وَاحِدَةٌ كَذَلِكَ، وَبِحَيْثُ لاَ تَقْصُرُ مُدَّةُ الْخَلْوَةِ فَلاَ تَتَّسِعُ لِلْوَطْءِ، أَمَّا لَوْ كَانَ مَعَهَا نِسَاءٌ مِنْ شِرَارِ النِّسَاءِ، فَالْخَلْوَةُ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرٌ؛ لأَِنَّهَا قَدْ تُمَكِّنُ مِنْ نَفْسِهَا بِحَضْرَتِهِنَّ، دُونَ الْمُتَّصِفَاتِ بِالْعِفَّةِ وَالْعَدَالَةِ فَإِنَّهُنَّ يَمْنَعْنَهَا (1) .
وَجَاءَ فِي بُلْغَةُ السَّالِكِ وَالشَّرْحِ الصَّغِيرِ: أَنَّ الْخَلْوَةَ - سَوَاءٌ أَكَانَتْ خَلْوَةَ اهْتِدَاءٍ أَمْ خَلْوَةَ زِيَارَةٍ - هِيَ اخْتِلاَءُ الْبَالِغِ غَيْرِ الْمَجْبُوبِ بِمُطِيقَةٍ، خَلْوَةً يُمْكِنُ فِيهَا الْوَطْءُ عَادَةً، فَلاَ تَكُونُ لَحْظَةً تَقْصُرُ عَنْ زَمَنِ الْوَطْءِ وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى نَفْيِهِ (2) .
وَلاَ يَمْنَعُ مِنْ خَلْوَةِ الاِهْتِدَاءِ عِنْدَهُمْ وُجُودُ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ، كَحَيْضٍ، وَصَوْمٍ، وَإِحْرَامٍ؛ لأَِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الرَّجُل إِذَا خَلاَ بِزَوْجَتِهِ أَوَّل خَلْوَةٍ لاَ يُفَارِقُهَا قَبْل وُصُولِهِ إِلَيْهَا (3) .
16 - وَالْخَلْوَةُ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الأَْثَرُ السَّابِقُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ
__________
(1) حاشية الدسوقي والشرح الكبير 2 / 468.
(2) بلغة السالك والشرح الصغير 1 / 497، 498.
(3) الشرح الصغير 1 / 413، 498، جواهر الإكليل 1 / 308.(19/271)
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (1) الآْيَةَ وَالْمُرَادُ بِالْمَسِّ الْجِمَاعُ (2) .
17 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْخَلْوَةُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرٌ هِيَ الْخَلْوَةُ الَّتِي تَكُونُ بَعِيدًا عَنْ مُمَيِّزٍ، وَبَالِغٍ مُطْلَقًا، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، أَعْمَى أَوْ بَصِيرًا، عَاقِلاً أَوْ مَجْنُونًا، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا عِنْدَهُ، وَلَمْ تَمْنَعْهُ مِنَ الْوَطْءِ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ يَطَأُ مِثْلُهُ كَابْنِ عَشْرٍ فَأَكْثَرَ، وَكَانَتِ الزَّوْجَةُ يُوطَأُ مِثْلُهَا كَبِنْتِ تِسْعٍ فَأَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَتَقَرَّرْ بِالْخَلْوَةِ شَيْءٌ، وَلَمْ يُرَتَّبْ لَهَا أَثَرٌ.
وَلاَ يَمْنَعُ أَثَرُ الْخَلْوَةِ نَوْمَ الزَّوْجِ، وَلاَ كَوْنُهُ أَعْمَى، وَلاَ وُجُودُ مَانِعٍ حِسِّيٍّ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ كَجَبٍّ وَرَتْقٍ، وَلاَ وُجُودُ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ بِهِمَا، أَوْ بِأَحَدِهِمَا كَحَيْضٍ وَإِحْرَامٍ وَصَوْمٍ وَاجِبٍ.
وَمُجَرَّدُ الْخَلْوَةِ عَلَى الْوَجْهِ السَّابِقِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارُهَا، وَقَدْ قَال الْفَرَّاءُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (3) أَنَّهُ قَال: الإِْفْضَاءُ، الْخَلْوَةُ، دَخَل بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُل؛ لأَِنَّ الإِْفْضَاءَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْفَضَاءِ، وَهُوَ الْخَالِي، فَكَأَنَّهُ قَال: وَقَدْ خَلاَ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 237.
(2) مغني المحتاج 3 / 225.
(3) سورة النساء / 21.
(4) شرح منتهى الإرادات 3 / 76، 83، المغني 6 / 724.(19/272)
آثَارُ الْخَلْوَةِ:
أَوَّلاً: أَثَرُهَا فِي الْمَهْرِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِمَّا يَتَأَكَّدُ بِهِ الْمَهْرُ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي اسْتَوْفَتْ شَرَائِطَهَا. فَلَوْ خَلاَ الزَّوْجُ بِزَوْجَتِهِ خَلْوَةً صَحِيحَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول بِهَا فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ لِلْمَهْرِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُسَمَّى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي النِّكَاحِ تَسْمِيَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ كَمَال مَهْرِ الْمِثْل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَال زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} (1) .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَتِهِ وَنَظَرَ إِلَيْهَا وَجَبَ الصَّدَاقُ، دَخَل بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُل (2) وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ.
وَرُوِيَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ قَال: قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَنَّهُ إِذَا أَرْخَى السُّتُورَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ فَلَهَا الصَّدَاقُ كَامِلاً، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، دَخَل بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُل، حَكَى
__________
(1) سورة النساء / 20، 21.
(2) حديث: " من كشف خمار امرأة ونظر إليها. . " أخرجه الدارقطني (3 / 307 - ط دار المحاسن) من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلاً، وفي إسناده ضعف كذلك، فقد علقه عنه البيهقي في السنن (7 / 256 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال: " وهذا منقطع، وبعض رواه غير محتج(19/272)
الطَّحَاوِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ بِالْخَلْوَةِ فِي تَقَرُّرِ الْمَهْرِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (1) وَالْمُرَادُ بِالْمَسِّ الْجِمَاعُ (2) .
ثَانِيًا: أَثَرُهَا فِي الْعِدَّةِ:
19 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ، فَلاَ تَجِبُ فِي الْفَاسِدِ إِلاَّ بِالدُّخُول، أَمَّا فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَتَجِبُ بِالْخَلْوَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (3) وَلأَِنَّ وُجُوبَهَا بِطَرِيقِ اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى الاِسْتِبْرَاءِ بَعْدَ الدُّخُول لاَ قَبْلَهُ، إِلاَّ أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أُقِيمَتْ مُقَامَ الدُّخُول فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ الَّتِي فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لأَِنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى يُحْتَاطُ فِي إِيجَابِهِ؛
__________
(1) سورة البقرة / 237.
(2) البدائع 2 / 294، الشرح الصغير 1 / 413 ط الحلبي، والزرقاني 3 / 10، ومغني المحتاج 3 / 225، المغني 6 / 724.
(3) سورة الأحزاب / 49.(19/273)
وَلأَِنَّ التَّسْلِيمَ بِالْوَاجِبِ بِالنِّكَاحِ قَدْ حَصَل بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ فَتَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ كَمَا تَجِبُ بِالدُّخُول؛ لأَِنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ إِنَّمَا أُقِيمَتْ مُقَامَ الدُّخُول فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِدُخُولٍ حَقِيقَةً لِكَوْنِهَا سَبَبًا مُفْضِيًا إِلَيْهِ، فَأُقِيمَتْ مُقَامَهُ احْتِيَاطًا إِقَامَةً لِلسَّبَبِ مُقَامَ الْمُسَبَّبِ فِيمَا يُحْتَاطُ فِيهِ. وَوُجُوبُ الْعِدَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ حَتَّى وَلَوْ نَفَى الزَّوْجَانِ الْوَطْءَ فِيهَا؛ لأَِنَّ الْعِدَّةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ تَسْقُطُ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى نَفْيِ الْوَطْءِ.
وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ بَيْنَ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا مَعَ الْمَانِعِ مِنَ الْوَطْءِ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَانِعُ حَقِيقِيًّا كَالْجَبِّ، وَالْعُنَّةِ، وَالْفَتْقِ، وَالرَّتْقِ، أَوْ شَرْعِيًّا كَالصَّوْمِ، وَالإِْحْرَامِ، وَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَالظِّهَارِ؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ عُلِّقَ هَاهُنَا عَلَى الْخَلْوَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الإِْصَابَةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا.
وَفِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تَجِبُ الْعِدَّةُ بِالْخَلْوَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْوَطْءِ (1) لِمَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (2)
__________
(1) البدائع 3 / 191، الزرقاني 4 / 199، مغني المحتاج 3 / 384، المغني 7 / 451.
(2) سورة الأحزاب / 49.(19/273)
ثَالِثًا: أَثَرُ الْخَلْوَةِ فِي الرَّجْعَةِ:
20 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ لَيْسَتْ بِرَجْعَةٍ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُل عَلَى الرَّجْعَةِ لاَ قَوْلاً وَلاَ فِعْلاً (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الاِرْتِجَاعِ عِلْمُ الدُّخُول وَعَدَمُ إِنْكَارِ الْوَطْءِ، فَإِنْ أَنْكَرَتْهُ لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ، وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ اخْتَلَى بِهَا فِي زِيَارَةٍ أَوْ خَلْوَةِ اهْتِدَاءٍ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ فِي خَلْوَةِ الزِّيَارَةِ، أَمَّا خَلْوَةُ الاِهْتِدَاءِ فَلاَ عِبْرَةَ بِإِنْكَارِهَا وَتَصِحُّ الرَّجْعَةُ، وَلاَ إِنْ أَقَرَّ بِهِ فَقَطْ فِي زِيَارَةٍ بِخِلاَفِ الْبِنَاءِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا إِنْ كَانَتِ الزَّائِرَةُ صُدِّقَ فِي دَعْوَاهُ الْوَطْءَ فَتَصِحُّ الرَّجْعَةُ كَخَلْوَةِ الْبِنَاءِ، وَقَال الصَّاوِيُّ تَعْلِيقًا عَلَى قَوْلِهِ (وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ) بِقَوْلِهِ: ذُكِرَ فِي الشَّامِل أَنَّ الْقَوْل بِعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخَلْوَتَيْنِ هُوَ الْمَشْهُورُ (2) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: الْخَلْوَةُ كَالإِْصَابَةِ فِي إِثْبَاتِ الرَّجْعَةِ لِلزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي خَلاَ بِهَا فِي ظَاهِرِ قَوْل الْخِرَقِيِّ لِقَوْلِهِ: حُكْمُهَا حُكْمُ الدُّخُول فِي جَمِيعِ أُمُورِهَا.
وَقَال أَبُو بَكْرٍ: لاَ رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا إِلاَّ أَنْ يُصِيبَهَا (3) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (رَجْعَةٌ) .
__________
(1) الاختيار 3 / 147.
(2) الشرح الصغير 1 / 474.
(3) الشرح الصغير 1 / 474، المغني 7 / 290، 291.(19/274)
رَابِعًا: أَثَرُ الْخَلْوَةِ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ:
21 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْخَلْوَةِ وَلَوْ مِنَ الْمَجْبُوبِ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ رَاوِيًا عَنِ ابْنِ الشِّحْنَةِ فِي عَقْدِ الْفَرَائِدِ: إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْل الدُّخُول لَوْ وَلَدَتْ لأَِقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الطَّلاَقِ ثَبَتَ نَسَبُهُ لِلتَّيَقُّنِ بِأَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ قَبْل الطَّلاَقِ، وَأَنَّ الطَّلاَقَ بَعْدَ الدُّخُول، وَلَوْ وَلَدَتْهُ لأَِكْثَرَ لاَ يَثْبُتُ لِعَدَمِ الْعِدَّةِ، وَلَوِ اخْتَلَى بِهَا فَطَلَّقَهَا يَثْبُتُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لأَِكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، قَال: فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ تَكُونُ الْخُصُوصِيَّةُ لِلْخَلْوَةِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ تَكُونُ فِرَاشًا بِمُجَرَّدِ الْخَلْوَةِ بِهَا حَتَّى إِذَا وَلَدَتْ لِلإِْمْكَانِ مِنَ الْخَلْوَةِ بِهَا لَحِقَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِالْوَطْءِ؛ لأَِنَّ مَقْصُودَ النِّكَاحِ الاِسْتِمْتَاعُ وَالْوَلَدُ، فَاكْتَفَى فِيهِ بِالإِْمْكَانِ مِنَ الْخَلْوَةِ (2) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْخَلْوَةَ يَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ (3) .
انْظُرْ: (نَسَبٌ) .
خَامِسًا: أَثَرُ الْخَلْوَةِ بِالنِّسْبَةِ لاِنْتِشَارِ الْحُرْمَةِ:
22 - مِنَ الآْثَارِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ انْتِشَارُ الْحُرْمَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 341.
(2) شرح المنهاج للجلال المحلي 4 / 61.
(3) منتهى الإرادات 3 / 213.(19/274)
أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ تُفِيدُ حُرْمَةَ نِكَاحِ الأُْخْتِ وَأَرْبَعٍ سِوَى الزَّوْجَةِ فِي عِدَّتِهَا (1) .
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِتَحْرِيمِ بِنْتِ الزَّوْجَةِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَرَوَى ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ أَنَّ الْخَلْوَةَ بِالزَّوْجِ لاَ تَقُومُ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي تَحْرِيمِ بِنْتِهَا. وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي نَوَادِرِ أَبِي يُوسُفَ: إِذَا خَلاَ بِهَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، أَوْ حَال إِحْرَامِهِ لَمْ يَحِل لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَهَا، وَقَال مُحَمَّدٌ: يَحِل، فَإِنَّ الزَّوْجَ لَمْ يُجْعَل وَاطِئًا، حَتَّى كَانَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ.
ثُمَّ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْخِلاَفَ فِي الْخَلْوَةِ الْفَاسِدَةِ، أَمَّا الصَّحِيحَةُ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهَا تُحَرِّمُ الْبِنْتَ (2) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: الدُّخُول بِالأُْمِّ يُحَرِّمُ الْبِنْتَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (3) .
وَهَذَا نَصٌّ وَالْمُرَادُ بِالدُّخُول فِي الآْيَةِ الْوَطْءُ كَنَّى عَنْهُ بِالدُّخُول، فَإِنْ خَلاَ بِهَا وَلَمْ يَطَأْهَا لَمْ تَحْرُمِ ابْنَتُهَا، لأَِنَّ الأُْمَّ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا، وَظَاهِرُ قَوْل الْخِرَقِيِّ تَحْرِيمُهَا لِقَوْلِهِ: فَإِنْ خَلاَ بِهَا، وَقَال
__________
(1) ابن عابدين 2 / 341 نشر دار إحياء التراث.
(2) ابن عابدين 22 / 278، الطبعة السابقة، الفتاوى البزازية بهامش الفتاوى الهندية 4 / 141.
(3) سورة النساء / 23.(19/275)
لَمْ أَطَأْهَا، وَصَدَّقَتْهُ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى قَوْلِهَا، وَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الدُّخُول (1) .
وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ خِلاَفًا فِي تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ فَقَال: وَأَمَّا تَحْرِيمُ الرَّبِيبَةِ فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَحْصُل بِالْخَلْوَةِ، وَقَال الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: لاَ تَحْرُمُ، وَحَمَل الْقَاضِي كَلاَمَ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ حَصَل مَعَ الْخَلْوَةِ نَظَرٌ أَوْ مُبَاشَرَةٌ، فَيُخَرَّجُ كَلاَمُهُ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي أَنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وَالدُّخُول كِنَايَةٌ عَنِ الْوَطْءِ وَالنَّصُّ صَرِيحٌ فِي إِبَاحَتِهَا بِدُونِهِ، فَلاَ يَجُوزُ خِلاَفُهُ (2) .
(ر: نِكَاحٌ - صِهْرٌ - مُحَرَّمَاتٌ) .
__________
(1) المغني 6 / 725.
(2) المغني 6 / 570.(19/275)
خُلُوٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخُلُوُّ لُغَةً مَصْدَرُ خَلاَ، يُقَال خَلاَ الْمَكَانُ أَوِ الإِْنَاءُ خُلُوًّا وَخَلاَءً إِذَا فَرَغَ مِمَّا بِهِ، وَخَلاَ الْمَكَانُ مِنْ أَهْلِهِ وَعَنْ أَهْلِهِ، وَخَلاَ فُلاَنٌ مِنَ الْعَيْبِ: بَرِئَ مِنْهُ. وَخَلاَ بِصَاحِبِهِ خَلْوًا، وَخَلْوَةً وَخُلُوًّا وَخَلاَءً انْفَرَدَ بِهِ فِي خَلْوَةٍ، وَأَخْلَى لَهُ الشَّيْءَ: فَرَغَ لَهُ عَنْهُ، وَأَخْلَى الْمَكَانَ وَالإِْنَاءَ وَغَيْرَهُمَا: جَعَلَهُ خَالِيًا (1) .
وَالْخُلُوُّ فِي الاِصْطِلاَحِ يَكُونُ بِمَعْنَيَيْنِ:
الأَْوَّل: الْخُلُوُّ بِمَعْنَى الاِنْفِرَادِ يُقَال: خَلَوْتُ بِنَفْسِي أَوْ خَلَوْتُ بِفُلاَنٍ وَالْخُلُوُّ أَيْضًا: الاِنْفِرَادُ بِالزَّوْجَةِ، بِأَنْ يُغْلِقَ الرَّجُل الْبَابَ عَلَى زَوْجَتِهِ وَيَنْفَرِدَ بِهَا. وَأَكْثَرُ مَا يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ خَلْوَةً، وَلِذَا تُنْظَرُ أَحْكَامُهُ تَحْتَ عِنْوَانِ: (خَلْوَةٌ) .
وَالثَّانِي: وَلَيْسَ مَعْرُوفًا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، وَلَكِنْ يُوجَدُ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي كُتُبِ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَهُ بِمَعْنَى الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا الْمُسْتَأْجِرُ لِعَقَارِ الْوَقْفِ مُقَابِل مَالٍ يَدْفَعُهُ إِلَى
__________
(1) المعجم الوسيط.(19/276)
النَّاظِرِ لِتَعْمِيرِ الْوَقْفِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَا يُعَمِّرُ بِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ جُزْءٌ مِنْ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ، مَعْلُومٌ بِالنِّسْبَةِ كَنِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ، وَيُؤَدِّي الأُْجْرَةَ لِحَظِّ الْمُسْتَحِقِّينَ عَنِ الْجُزْءِ الْبَاقِي مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَيَنْشَأُ ذَلِكَ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ سَيَأْتِي بَيَانُ بَعْضِهَا.
وَعَرَّفَهُ الزُّرْقَانِيُّ بِتَعْرِيفٍ أَعَمَّ فَقَال: هُوَ اسْمٌ لِمَا يَمْلِكُهُ دَافِعُ الدَّرَاهِمِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي دَفَعَ فِي مُقَابَلَتِهَا الدَّرَاهِمَ (1) .
وَأُطْلِقَ الْخُلُوُّ أَيْضًا عَلَى حَقِّ مُسْتَأْجِرِ الأَْرْضِ الأَْمِيرِيَّةِ فِي التَّمَسُّكِ بِهَا إِنْ كَانَ لَهُ فِيهَا أَثَرٌ مِنْ غِرَاسٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ كَبْسٍ بِالتُّرَابِ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُقُوقِ لِبَيْتِ الْمَال، وَهَذَا النَّوْعُ الثَّانِي سَمَّاهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ خُلُوًّا، وَفِي أَكْثَرِ كَلاَمِ الشَّيْخِ عُلَيْشٍ قَال: هُوَ مُلْحَقٌ بِالْخُلُوِّ، وَقَال فِي مَوْضِعٍ: يَكُونُ خُلُوًّا. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ كَلاَمِهِ إِطْلاَقُ الْخُلُوِّ عَلَى نَفْسِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَنَحْوِهِمَا، الَّذِي يُقِيمُهُ مَنْ بِيَدِهِ عَقَارُ وَقْفٍ أَوْ أَرْضٍ أَمِيرِيَّةٍ (2) .
وَفِي كَلاَمِ الدُّسُوقِيِّ مِثْل ذَلِكَ (3) . وَيَكُونُ الْخُلُوُّ فِي الْعَقَارَاتِ الْمَمْلُوكَةِ أَيْضًا.
__________
(1) الزرقاني 6 / 127.
(2) ابن عابدين، وقانون العدل والإنصاف لقدري باشا (مادة 360، 361) والفتاوى الهندية 5 / 61، ومرشد الحيران م598، والفتاوى الخيرية 2 / 198. وفتح العلي المالك 2 / 243، 245، 246، 247.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير في باب الغصب 3 / 432، 467.(19/276)
وَلَعَل أَصْل اسْتِعْمَال لَفْظِ الْخُلُوِّ بِهَذَا الاِصْطِلاَحِ أَنَّهُ أُطْلِقَ أَوَّلاً عَلَى خُلُوِّ الْعَقَارِ أَيْ إِفْرَاغِهِ وَالتَّخَلِّي عَنْهُ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ (1) . وَأُطْلِقَ عَلَى الْبَدَل النَّقْدِيِّ الَّذِي يَأْخُذُهُ مَالِكُ هَذَا الْحَقِّ مُقَابِل التَّخَلِّي عَنْهُ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ الْمُتَخَلَّى عَنْهَا نَفْسِهَا. وَقَدْ وَقَعَ بِهَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا فِي كَلاَمِ الشَّيْخِ عُلَيْشٍ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْبُنَانِيِّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الزُّرْقَانِيِّ أَنَّ الْخُلُوَّ فِي الأَْوْقَافِ سَمَّاهُ شُيُوخُ الْمَغَارِبَةِ فِي فَاسَ بِالْجِلْسَةِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَكْرُ:
2 - الْحَكْرُ بِفَتْحِ الْحَاءِ قَال فِي اللِّسَانِ هُوَ ادِّخَارُ الطَّعَامِ لِلتَّرَبُّصِ. وَقَال ابْنُ سِيدَهْ: الاِحْتِكَارُ جَمْعُ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُؤْكَل وَاحْتِبَاسُهُ انْتِظَارَ وَقْتِ الْغَلاَءِ بِهِ (4) .
وَالاِحْتِكَارُ أَيْضًا، وَالاِسْتِحْكَارُ عَقْدُ إِجَارَةٍ يُقْصَدُ بِهَا اسْتِبْقَاءُ الأَْرْضِ مُقَرَّرَةً لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ أَوْ أَحَدِهِمَا (5) .
__________
(1) الفتاوى الخيرية 1 / 180.
(2) انظر مثلاً: فتح العلي المالك 2 / 250.
(3) البناني على الزرقاني 6 / 128.
(4) لسان العرب.
(5) بن عابدين 55 / 20 نقلاً عن الفتاوى الخيرية. ومرشد الحيران لقدري باشا (م590) ط بولاق 1308هـ.(19/277)
أَمَّا الْحِكْرُ بِكَسْرِ الْحَاءِ فَلَمْ نَجِدْهُ فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ، وَفِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ هُوَ الْعَقَارُ الْمَحْبُوسُ، وَيَرِدُ فِي كَلاَمِ مُتَأَخِّرِي الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى الأُْجْرَةِ الْمُقَرَّرَةِ عَلَى عَقَارِ الْوَقْفِ وَنَحْوِهِ تُؤْخَذُ مِمَّنْ لَهُ فِيهِ بِنَاءٌ أَوْ غِرَاسٌ، وَإِذَا انْتَقَل الْعَقَارُ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ انْتَقَل الْحِكْرُ مَعَهُ يُدْفَعُ لِحَظِّ مُسْتَحَقِّي الْوَقْفِ.
قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: مَنِ اسْتَوْلَى عَلَى الْخُلُوِّ يَكُونُ عَلَيْهِ لِجِهَةِ الْوَقْفِ أُجْرَةٌ لِلَّذِي يَئُول إِلَيْهِ الْوَقْفُ يُسَمَّى عِنْدَنَا بِمِصْرَ حِكْرًا لِئَلاَّ يَذْهَبَ الْوَقْفُ بَاطِلاً، وَلاَ يَصِحُّ الاِحْتِكَارُ إِلاَّ إِذَا كَانَ بِأُجْرَةِ الْمِثْل وَلاَ تَبْقَى عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ بَل تَزِيدُ الأُْجْرَةُ وَتَنْقُصُ بِاخْتِلاَفِ الزَّمَانِ (1) .
ب - الْفَرَاغُ وَالإِْفْرَاغُ:
3 - يَظْهَرُ مِنَ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا التَّنَازُل عَنْ حَقٍّ مِنْ مِثْل وَظِيفَةٍ لَهَا رَاتِبٌ مِنْ وَقْفٍ وَنَحْوِهِ (2) . أَوِ التَّنَازُل عَنِ الْخُلُوِّ مِنْ مَالِكِهِ لِغَيْرِهِ بِعِوَضٍ، فَهُوَ بَيْعٌ لِلْمَنْفَعَةِ الْمَذْكُورَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ خُصَّ بِاسْمِ الإِْفْرَاغِ تَمْيِيزًا لَهُ عَنِ الْبَيْعِ الَّذِي يَنْصَرِفُ عَنْهُ الإِْطْلاَقُ إِلَى بَيْعِ الرَّقَبَةِ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ فَرَاغًا لأَِنَّ مَالِكَهُ
__________
(1) فتح العلي المالك - فتاوى الشيخ عليش 2 / 243 القاهرة، مصطفى + الحلبي 1378هـ، وقانون العدل والإنصاف (مادة 336) وابن عابدين 4 / 18.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 386، و4 / 14، 5 / 18.(19/277)
لاَ يَمْلِكُ رَقَبَةَ الأَْرْضِ بَل يَمْلِكُ حَقَّ التَّمَسُّكِ بِالْعَقَارِ أَوْ بَعْضِ الْمَنْفَعَةِ. وَقَدْ وَقَعَ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي كَلاَمِ الشَّيْخِ عُلَيْشٍ (1) .
وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ بِذَلِكَ أَنَّ الْفَرَاغَ الْخَلاَءُ، وَالإِْفْرَاغُ الإِْخْلاَءُ، فَالْمُتَنَازِل يُفَرِّغُ الْمَحَل مِنْ حَقِّهِ لِيَكُونَ الْحَقُّ لِغَيْرِهِ.
ج - الْجَدَكُ أَوِ الْكَدَكُ:
4 - 1 - أَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يَضَعُهُ فِي الْحَانُوتِ مُسْتَأْجِرٌ مِنَ الأَْعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ الْمُتَّصِلَةِ بِمَبْنَى الْحَانُوتِ اتِّصَال قَرَارٍ، أَيْ " وُضِعَ لاَ لِيُفْصَل " كَالْبِنَاءِ، وَسُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ فِي بَعْضِ الْفَتَاوَى بِالسُّكْنَى (2) .
2 - وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُوضَعُ فِي الْحَانُوتِ مُتَّصِلاً لاَ عَلَى سَبِيل الْقَرَارِ، وَذَلِكَ كَالرُّفُوفِ الَّتِي تُرَكَّبُ فِي الْحَانُوتِ لِوَضْعِ عِدَّةِ الْحَلاَّقِ مَثَلاً فَإِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ لاَ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ.
3 - وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلدَّرَاهِمِ الَّتِي يَدْفَعُهَا صَاحِبُهَا إِلَى الْمَالِكِ أَوْ نَاظِرِ الْوَقْفِ لِتُسْتَعْمَل فِي مَرَمَّةِ الْوَقْفِ أَوْ بِنَاءِ الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ مَا يُرَمُّ بِهِ أَوْ يُبْنَى، وَيَشْتَرِطُ دَافِعُهَا أَنْ تَكُونَ لَهُ حَقُّ الْقَرَارِ فِي الْمَحَل الْمُسْتَأْجَرِ
__________
(1) فتح العلي المالك 2 / 250.
(2) حاشية الأشباه للحموي 1 / 136، والفتاوى الحامدية 2 / 199، 200.(19/278)
وَجُزْءٌ مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ الَّتِي سَبَقَ تَسْمِيَتُهَا بِالْخُلُوِّ.
4 - وَيُطْلَقُ عَلَى الأَْعْيَانِ الَّتِي تُوضَعُ لِلاِسْتِعْمَال فِي الْحَانُوتِ دُونَ اتِّصَالٍ أَصْلاً كَالْبَكَارِجِ وَالْفَنَاجِينِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَقَاهِي، وَالْفُوَطِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَمَّامِ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَدَكِ وَبَيْنَ الْخُلُوِّ، أَنَّ صَاحِبَ الْخُلُوِّ يَمْلِكُ جُزْءًا مِنْ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ وَلاَ يَمْلِكُ الأَْعْيَانَ الَّتِي أُقِيمَتْ فِي حَوَانِيتِ الْوَقْفِ بِمَال الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنَّهَا قَدْ أُقِيمَتْ فِيهِ عَلَى أَنَّهَا وَقْفٌ، أَمَّا الْجَدَكُ فَهُوَ أَعْيَانٌ مَمْلُوكَةٌ لِمُسْتَأْجِرِ الْحَانُوتِ (2) .
د - الْكِرْدَارُ:
5 - هُوَ مَا يُحْدِثُهُ الْمُزَارِعُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي الأَْرَاضِي الْمَوْقُوفَةِ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ غِرَاسٍ أَوْ كَبْسٍ بِالتُّرَابِ بِإِذْنِ الْوَاقِفِ أَوِ النَّاظِرِ فَتَبْقَى فِي يَدِهِ (3) وَالْمُرَادُ بِكَبْسِ التُّرَابِ مَا يَنْقُلُهُ مِنَ التُّرَابِ إِلَى تِلْكَ الأَْرْضِ لإِِصْلاَحِهَا إِذَا أَتَى بِهِ مِنْ خَارِجِهَا (4) فَالْكِرْدَارُ أَعْيَانٌ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي الأَْرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ.
هـ - الْمُرْصَدُ:
6 - هُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ رَجُلٌ عَقَارَ الْوَقْفِ مِنْ دَارٍ أَوْ
__________
(1) رد المحتار 4 / 17، والبكارج أباريق الشاي.
(2) مرشد الحيران م596، 597.
(3) الفتاوى الخيرية 11 / 180، والفتاوى الحامدية 2 / 199، نقلاً عن المغرب والقاموس.
(4) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 199، ومرشد الحيران م596.(19/278)
حَانُوتٍ مَثَلاً وَيَأْذَنَ لَهُ الْمُتَوَلِّي بِعِمَارَتِهِ أَوْ مَرَمَّتِهِ الضَّرُورِيَّةِ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ عَدَمِ مَالٍ حَاصِلٍ فِي الْوَقْفِ، وَعَدَمِ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ بِأُجْرَةٍ مُعَجَّلَةٍ يُمْكِنُ تَعْمِيرُهُ أَوْ مَرَمَّتُهُ بِهَا، فَيُعَمِّرُهُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ مَالِهِ عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ بِذَلِكَ فِي مَال الْوَقْفِ عِنْدَ حُصُولِهِ أَوِ اقْتِطَاعِهِ مِنَ الأَْجْرِ فِي كُل سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ مَثَلاً، وَهَذِهِ الْعِمَارَةُ لَيْسَتْ مِلْكًا لِلْمُسْتَأْجِرِ بَل هِيَ وَقْفٌ، فَلاَ تُبَاعُ وَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمُسْتَأْجِرِ لِذَلِكَ الدَّيْنِ؛ لأَِنَّ الدَّيْنَ لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ.
وَلَكِنْ إِذَا أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ الْخُرُوجَ مِنَ الدُّكَّانِ يَجُوزُ لَهُ قَبْضُ دَيْنِهِ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ الْجَدِيدِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ لَهُ كَمَا كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ السَّابِقِ (1) .
وَالْمُرْصَدُ هُوَ ذَلِكَ الدَّيْنُ الْمُسْتَقِرُّ عَلَى الْوَقْفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُلُوِّ أَنَّ صَاحِبَ الْخُلُوِّ يَكُونُ حَقُّهُ مِلْكًا فِي مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ، وَصَاحِبُ الْمُرْصَدِ يَكُونُ لَهُ دَيْنٌ مَعْلُومٌ عَلَى الْوَقْفِ (2) .
و مِشَدُّ الْمَسْكَةِ:
7 - مِشَدُّ الْمَسْكَةِ اصْطِلاَحٌ لِلْحَنَفِيَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقْصِدُونَ بِهِ اسْتِحْقَاقَ الزِّرَاعَةِ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ، وَهُوَ مِنَ الْمَسْكَةِ لُغَةً وَهِيَ مَا يُتَمَسَّكُ بِهِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فَكَأَنَّ الْمُسْلِمَ لِلأَْرْضِ (أَيِ الأَْرْضِ الْمَمْلُوكَةِ لِبَيْتِ الْمَال غَالِبًا) الْمَأْذُونَ لَهُ مِنْ صَاحِبِهَا
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 200.
(2) مرشد الحيران م599.(19/279)
فِي الْحَرْثِ صَارَ لَهُ مَسْكَةٌ يَتَمَسَّكُ بِهَا فِي الْحَرْثِ فِيهَا. قَال: وَحُكْمُهَا أَنَّهَا لاَ تَقُومُ، فَلاَ تُمْلَكُ وَلاَ تُبَاعُ وَلاَ تُورَثُ (1) .
حَقِيقَةُ مِلْكِ الْخُلُوِّ عِنْدَ مَنْ قَال بِهِ:
8 - قَال الْعَدَوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْخُلُوَّ مِنْ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ لاَ مِنْ مِلْكِ الاِنْتِفَاعِ إِذْ مَالِكُ الاِنْتِفَاعِ يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ وَلاَ يُؤَجِّرُ وَلاَ يَهَبُ وَلاَ يُعِيرُ. وَمَالِكُ الْمَنْفَعَةِ لَهُ تِلْكَ الثَّلاَثَةُ مَعَ انْتِفَاعِهِ بِنَفْسِهِ. قَال: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَالِكَ الاِنْتِفَاعِ يَقْصِدُ ذَاتَهُ مَعَ وَصْفِهِ، كَإِمَامٍ وَخَطِيبٍ وَمُدَرِّسٍ وُقِفَ عَلَيْهِ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، بِخِلاَفِ مَالِكِ الْمَنْفَعَةِ. ثُمَّ إِنَّ مَنْ مَلَكَ الاِنْتِفَاعَ وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَفِعَ غَيْرُهُ بِهِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْهُ وَيَأْخُذُهُ الْغَيْرُ عَلَى أَنَّهُ أَهْلُهُ حَيْثُ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ، وَالْخُلُوُّ مِنْ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فَلِذَلِكَ يُورَثُ (2) .
وَصَرَّحَ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ كَذَلِكَ بِأَنَّ الْخُلُوَّ الْمُشْتَرَى بِالْمَال يَكُونُ مِنْ بَابِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ (3) .
أَحْكَامُ الْخُلُوِّ:
9 - تَنْقَسِمُ الْعَقَارَاتُ مِنْ حَيْثُ اخْتِلاَفُ أَحْكَامِ الْخُلُوِّ فِيهَا إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية 22 / 198، وقانون العدل والإنصاف في القضاء على مشكلات الأوقاف لقدري باشا (مادة 330) .
(2) العدوي على الخرشي 77 / 79، وانظر مثل كلامه عند الزرقاني أول باب العارية 6 / 127، 128.
(3) مطالب أولي النهى 4 / 370.(19/279)
1 - عَقَارَاتُ الأَْوْقَافِ.
2 - الأَْرَاضِي الأَْمِيرِيَّةُ - أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال -
3 - الْعَقَارَاتُ الْمَمْلُوكَةُ مِلْكًا خَاصًّا.
وَيُقَسَّمُ الْبَحْثُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ تَبَعًا لِذَلِكَ.
الْقِسْمُ الأَْوَّل - الْخُلُوُّ فِي عَقَارَاتِ الأَْوْقَافِ:
أَحْوَال نُشُوءِ الْخُلُوِّ فِي عَقَارَاتِ الأَْوْقَافِ: يَنْشَأُ الْخُلُوُّ فِي عَقَارَاتِ الأَْوْقَافِ فِي أَحْوَالٍ مِنْهَا:
10 - الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ يَنْشَأَ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ الْوَاقِفِ أَوِ النَّاظِرِ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ.
وَهَذِهِ الْحَال لَمْ نَجِدْ فِي كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ تَعَرُّضًا لَهَا، وَقَدْ قَال بِهَا مُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ وَنَقَلَهَا عَنِ الْمَالِكِيَّةِ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ.
قَال الْعَدَوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْخُلُوَّ يُصَوَّرُ بِصُوَرٍ مِنْهَا:
11 - الصُّورَةُ الأُْولَى: أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ آيِلاً لِلْخَرَابِ، فَيُؤَجِّرُهُ نَاظِرُ الْوَقْفِ لِمَنْ يُعَمِّرُهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْحَانُوتُ مَثَلاً يُكْرَى بِثَلاَثِينَ دِينَارًا فِي السَّنَةِ، وَيُجْعَل عَلَيْهِ لِجِهَةِ الْوَصْفِ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَتَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُكْتَرِي وَبَيْنَ جِهَةِ الْوَقْفِ. وَمَا قَابَل الدَّرَاهِمَ الْمَصْرُوفَةَ فِي التَّعْمِيرِ هُوَ الْخُلُوُّ. قَال: وَشَرْطُ جَوَازِهِ أَنْ لاَ يُوجَدَ لِلْوَقْفِ رِيعٌ يُعَمَّرُ بِهِ الْوَقْفُ.
12 - الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لِمَسْجِدٍ مَثَلاً حَوَانِيتُ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ، وَاحْتَاجَ الْمَسْجِدُ لِلتَّكْمِيل(19/280)
أَوِ الْعِمَارَةِ، وَلاَ يَكُونُ الرِّيعُ كَافِيًا لِلتَّكْمِيل أَوِ الْعِمَارَةِ، فَيَعْمِدُ النَّاظِرُ إِلَى مُكْتَرِي الْحَوَانِيتِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ قَدْرًا مِنَ الْمَال يُعَمِّرُ بِهِ الْمَسْجِدَ، وَيُنْقِصُ عَنْهُ مِنْ أُجْرَةِ الْحَوَانِيتِ مُقَابِل ذَلِكَ، بِأَنْ تَكُونَ الأُْجْرَةُ فِي الأَْصْل ثَلاَثِينَ دِينَارًا فِي كُل سَنَةٍ، فَيَجْعَلَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَقَطْ فِي كُل سَنَةٍ، وَتَكُونُ مَنْفَعَةُ الْحَوَانِيتِ الْمَذْكُورَةُ شَرِكَةً بَيْنَ ذَلِكَ الْمُكْتَرِي وَبَيْنَ جِهَةِ الْوَقْفِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا لِذَلِكَ الْمُكْتَرِي هُوَ الْخُلُوُّ، وَالشَّرِكَةُ بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْخُلُوِّ وَنَاظِرُ الْوَقْفِ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ.
13 - الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَ أَرْضٌ مَوْقُوفَةٌ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ رِيعٌ تُعَمَّرُ بِهِ وَتَعَطَّلَتْ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الدَّرْدِيرُ فَيَسْتَأْجِرُهَا مِنَ النَّاظِرِ وَيَبْنِي فِيهَا أَيْ لِلْوَقْفِ، دَارًا مَثَلاً عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ لِجِهَةِ الْوَقْفِ فِي كُل شَهْرٍ ثَلاَثِينَ دِرْهَمًا، وَلَكِنَّ الدَّارَ بَعْدَ بِنَائِهَا تُكْرَى بِسِتِّينَ دِرْهَمًا. فَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي تُقَابِل الثَّلاَثِينَ الأُْخْرَى يُقَال لَهَا الْخُلُوُّ (1) .
قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ: هَذَا الَّذِي أَفْتَى بِهِ عُلَمَاؤُنَا وَوَقَعَ الْعَمَل بِهِ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ. قَال: وَيَجِبُ تَقْيِيدُ هَذَا بِمَا إِذَا بَيَّنَ الْمِلْكِيَّةَ (أَيْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّهُ يَنْوِي أَنَّهُ يَمْلِكُ مَا يُقَابِل الْبِنَاءَ أَوِ الْغَرْسَ وَهُوَ حَقُّ الْخُلُوِّ وَأَنَّهُ لَمْ يَبْنِهِ
__________
(1) العدوي على الخرشي 77 / 79 بيروت، دار صادر، والشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 467.(19/280)
مُتَبَرِّعًا بِهِ لِلْوَقْفِ) قَال: أَمَّا إِنْ بَيَّنَ التَّحْبِيسَ، أَوْ لَمْ يُبَيِّنْ شَيْئًا فَالْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ وَقْفٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، لاَ حَقَّ فِيهِمَا لِوَرَثَةِ الْبَانِي وَالْغَارِسِ؛ لأَِنَّ الْمُحْبَسَ عَلَيْهِ إِنَّمَا بَنَى لِلْوَقْفِ، وَمِلْكُهُ فَهُوَ مَحُوزٌ بِحَوْزِ الأَْصْل.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ فِي حَال بِنَاءِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ وَنَحْوِهِ أَوْ غَرْسِهِ فِي الأَْرْضِ الْمَوْقُوفَةِ، أَمَّا لَوْ بَنَى الأَْجْنَبِيُّ فِي الْوَقْفِ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَكُونُ مِلْكًا، وَالْغَرْسُ كَالْبِنَاءِ، وَإِذَا كَانَ مِلْكًا فَلَهُ نَقْضُهُ أَوْ قِيمَتُهُ مَنْقُوضًا إِنْ كَانَ فِي الْوَقْفِ مَا يُدْفَعُ مِنْهُ ذَلِكَ، هَذَا إِنْ كَانَ مَا بَنَاهُ لاَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْوَقْفُ، وَإِلاَّ فَيُوَفَّى ثَمَنُهُ مِنَ الْغَلَّةِ قَطْعًا، بِمَنْزِلَةِ مَا إِذَا بَنَاهُ النَّاظِرُ (1) .
14 - الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يُرِيدَ الْوَاقِفُ بِنَاءَ مَحَلاَّتٍ لِلْوَقْفِ، فَيَأْتِيَ لَهُ أَشْخَاصٌ يَدْفَعُونَ لَهُ دَرَاهِمَ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِكُل شَخْصٍ مَحَلٌّ مِنْ تِلْكَ الْمَحَلاَّتِ يَسْكُنُهَا بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ يَدْفَعُهَا كُل شَهْرٍ، فَكَأَنَّ الْوَاقِفَ بَاعَهُمْ حِصَّةً مِنْ تِلْكَ الْمَحَلاَّتِ قَبْل التَّحْبِيسِ وَحُبِسَ الْبَاقِي، فَلَيْسَ لِلْوَاقِفِ تَصَرُّفٌ فِي تِلْكَ الْمَحَلاَّتِ، لَكِنْ لَهُ الأُْجْرَةُ الْمَعْلُومَةُ كُل شَهْرٍ أَوْ كُل سَنَةٍ، وَكَأَنَّ دَافِعَ الدَّرَاهِمِ شَرِيكٌ لِلْوَاقِفِ بِتِلْكَ الْحِصَّةِ (2) .
__________
(1) فتح العلي المالك 22 / 243، 244، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 423 أو باب العارية.
(2) فتح العلي المالك 2 / 249، 250.(19/281)
وَقَال خَيْرُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي مِثْل هَذِهِ الصُّورَةِ الرَّابِعَةِ: " رُبَّمَا بِفِعْلِهِ تَكْثُرُ الأَْوْقَافُ، وَمِمَّا بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْمُلُوكِ عَمَّرَ مِثْل ذَلِكَ بِأَمْوَال التُّجَّارِ، وَلَمْ يَصْرِفْ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ الدِّرْهَمَ وَالدِّينَارَ، بَل فَازَ بِقُرْبَةِ الْوَقْفِ، وَفَازَ التُّجَّارُ بِالْمَنْفَعَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُحِبُّ مَا خَفَّفَ عَلَى أُمَّتِهِ (1) وَالدِّينُ يُسْرٌ وَلاَ مَفْسَدَةَ فِي ذَلِكَ فِي الدِّينِ " (2) . ا. هـ
15 - صُورَةٌ خَامِسَةٌ: تُضَافُ إِلَى الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْعَدَوِيُّ: وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِيَ حَقَّ الْخُلُوِّ شِرَاءً مِنَ النَّاظِرِ وَلَوْ لِمَصْلَحَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ النَّفْعُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْوَقْفُ نَفْسُهُ، فَظَاهِرُ كَلاَمِ الْعَدَوِيِّ نَفْسِهِ وَكَلاَمِ غَيْرِهِ عَدَمُ صِحَّةِ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ كَمَا يَأْتِي فِي شُرُوطِ صِحَّةِ الْخُلُوِّ. وَوَجْهُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ يَكُونُ كَبَيْعِ جُزْءٍ مِنَ الْعَقَارِ الْمَوْقُوفِ، إِذْ أَنَّ قِيمَتَهُ إِذَا كَانَ مُحَمَّلاً بِحَقِّ الْخُلُوِّ تَنْقُصُ عَنْ قِيمَتِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُحَمَّلاً بِذَلِكَ الْحَقِّ، وَجَازَ فِي الصُّوَرِ الأَْرْبَعِ السَّابِقَةِ لأَِنَّهُ يَكُونُ قَدْ نَقُصَ مِنَ الْوَقْفِ لِيُعِيدَهُ فِيهِ مَعَ حَاجَةِ الْوَقْفِ إِلَى ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْحَنَابِلَةَ لَمَّا أَجَازُوا بَيْعَ الْوَقْفِ إِذَا خَرِبَ وَتَعَطَّل، قَال الْبُهُوتِيُّ:
__________
(1) " كان يحب ما يخفف على أمته ". يستنبط ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: " يسروا ولا تعسروا " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 524 - ط السلفية) من حديث أنس بن مالك.
(2) الفتاوى الخيرية 1 / 180.(19/281)
الْخُلُوَّاتُ الْمَشْهُورَةُ مُمْكِنٌ تَخْرِيجُهَا عِنْدَنَا مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - أَيْ مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْوَقْفِ الْخَرِبِ - مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الْمَنْفَعَةِ مُفْرَدَةً عَنِ الْعَيْنِ كَعُلُوِّ بَيْتٍ يُبْنَى عَلَيْهِ، إِذِ الْعِوَضُ فِيهَا مَبْذُولٌ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، فَإِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ الدَّارِ عِشْرِينَ مَثَلاً، وَدَفَعَ لِجِهَةِ الْوَقْفِ شَيْئًا مَعْلُومًا عَلَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ عَشَرَةٌ فَقَطْ فَقَدِ اشْتَرَى نِصْفَ الْمَنْفَعَةِ وَبَقِيَ لِلْوَقْفِ نِصْفُهَا، فَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْحَالَةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا بَيْعُ الْوَقْفِ، بَل هَذَا أَوْلَى؛ لأَِنَّ فِيهِ بَقَاءَ عَيْنِ الْوَقْفِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَنَقَل هَذَا صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ (1) .
وَوَاضِحٌ أَنَّ الْبُهُوتِيَّ لاَ يَرَى جَوَازَ إِنْشَاءِ الْخُلُوِّ بِمَالٍ عَلَى الإِْطْلاَقِ، بَل حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ لإِِصْلاَحِ بَاقِيهِ، وَحَاصِل شُرُوطِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُ بَعْضِ الْوَقْفِ لإِِصْلاَحِ بَاقِيهِ إِذَا لَمْ تُمْكِنْ إِجَارَتُهُ وَأَنْ يَتَّحِدَ الْوَاقِفُ وَالْجِهَةُ إِنْ كَانَا عَيْنَيْنِ فَتُبَاعُ إِحْدَاهُمَا لإِِصْلاَحِ الأُْخْرَى، أَوْ كَانَ عَيْنًا وَاحِدَةً يُمْكِنُ بَيْعُ بَعْضِهَا لإِِصْلاَحِ بَاقِيهَا (2) .
وَكَذَلِكَ صُورَةُ مَا لَوِ اسْتَقَرَّ فِي عَقَارِ الْوَقْفِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ لاَ يُعْطِيهِ ذَلِكَ حَقَّ الْخُلُوِّ، وَلاَ يَلْزَمُ
__________
(1) مطالب أولي النهى في مسألة بيع الوقف المتعطل 44 / 370 دمشق، المكتب الإسلامي (د. ت) .
(2) مطالب أولي النهى 4 / 369.(19/282)
النَّاظِرَ أَنْ يُؤَجِّرَهُ لَهُ بَل لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ إِنْ شَاءَ مَتَى انْتَهَتْ إِجَارَتُهُ، لَكِنْ إِنْ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ بِنَاءٌ وَنَحْوُهُ مِمَّا يُسَمَّى الْجَدَكَ أَوِ الْكِرْدَارَ فِي الأَْرْضِ فَإِذَا لَمْ يَدْفَعْ أُجْرَةَ الْمِثْل يُؤْمَرُ بِرَفْعِهِ وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا بِإِذْنِ الْوَاقِفِ أَوْ إِذْنِ أَحَدِ النُّظَّارِ (1) .
وَلَوْ تَلَقَّى الْمُسْتَأْجِرُ الْعَقَارَ عَنْ مُسْتَأْجِرٍ قَبْلَهُ بِمَالٍ فَلاَ يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ حَقُّ الْخُلُوِّ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَمَّا مَا يَتَمَسَّكُ بِهِ صَاحِبُ الْخُلُوِّ مِنْ أَنَّهُ اشْتَرَى خُلُوَّهُ بِمَالٍ كَثِيرٍ وَأَنَّهُ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ (يَنْبَغِي أَنْ) تَصِيرَ أُجْرَةُ الْوَقْفِ شَيْئًا قَلِيلاً، فَهُوَ تَمَسُّكٌ بَاطِلٌ؛ لأَِنَّ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ صَاحِبُ الْخُلُوِّ الأَْوَّل لَمْ يَحْصُل مِنْهُ نَفْعٌ لِلْوَقْفِ، فَيَكُونُ الدَّافِعُ هُوَ الْمُضَيِّعُ لِمَالِهِ، فَكَيْفَ يَحِل لَهُ ظُلْمُ الْوَقْفِ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ أُجْرَةِ مِثْلِهِ (2) .
الْحُكْمُ فِي لُزُومِ الْخُلُوِّ فِي الْحَال الأُْولَى بِصُوَرِهَا الأَْرْبَعِ أَوْ عَدَمُ لُزُومِهِ:
16 - الْخُلُوُّ الَّذِي يَنْشَأُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مُقَابِل مَالٍ يَدْفَعُهُ إِلَى نَاظِرِ الْوَقْفِ اعْتَبَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ نَوْعًا مِنْ بَيْعِ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ، وَالْحُقُوقُ الْمُجَرَّدَةُ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَالْوَظَائِفِ فِي الأَْوْقَافِ مِنْ إِمَامَةٍ وَخَطَابَةٍ وَتَدْرِيسٍ فِي جَوَازِ النُّزُول عَنْهَا بِمَالٍ قَوْلاَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اعْتِبَارِ الْعُرْفِ الْخَاصِّ أَوْ عَدَمِ اعْتِبَارِهِ. فَمَنْ قَال بِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ، وَعَلَيْهِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 16.
(2) ابن عابدين 4 / 16.(19/282)
الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، قَال لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ وَمِنْهَا الْخُلُوُّ. قَال الشَّهِيدُ: لاَ نَأْخُذُ بِاسْتِحْسَانِ مَشَايِخِ بَلْخٍ بَل نَأْخُذُ بِقَوْل أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ لأَِنَّ التَّعَامُل فِي بَلَدٍ لاَ يَدُل عَلَى الْجَوَازِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الاِسْتِمْرَارِ مِنَ الصَّدْرِ الأَْوَّل، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى تَقْرِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ شَرْعًا مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لاَ يَكُونُ فِعْلُهُمْ حُجَّةً إِلاَّ إِذَا كَانَ مِنَ النَّاسِ كَافَّةً فِي الْبُلْدَانِ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا. وَلَيْسَ كَذَلِكَ شَأْنُ الْخُلُوِّ. ا. هـ.
قَال الشُّرُنْبُلاَلِيُّ وَأَقَرَّهُ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلأَِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ إِخْرَاجِ صَاحِبِ الْحَانُوتِ لِصَاحِبِ الْخُلُوِّ حَجْرُ الْحُرِّ الْمُكَلَّفِ عَنْ مِلْكِهِ وَإِتْلاَفُ مَالِهِ. وَفِي مَنْعِ النَّاظِرِ مِنْ إِخْرَاجِهِ تَفْوِيتُ نَفْعِ الْوَقْفِ وَتَعْطِيل مَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ مِنْ إِقَامَةِ شَعَائِرِ مَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ (1) .
وَقَال الْحَصْكَفِيُّ: لَكِنْ أَفْتَى كَثِيرُونَ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ الْخَاصِّ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ يُفْتَى بِجَوَازِ النُّزُول عَنِ الْوَظَائِفِ بِمَالٍ، وَبِلُزُومِ خُلُوِّ الْحَوَانِيتِ، فَيَصِيرُ الْخُلُوُّ فِي الْحَانُوتِ حَقًّا لَهُ، فَلَيْسَ لِرَبِّ الْحَانُوتِ إِخْرَاجُهُ مِنْهَا وَلاَ إِجَارَتُهُ لِغَيْرِهِ، قَال: وَقَدْ وَقَعَ فِي حَوَانِيتِ الْجَمَلُونِ فِي الْغُورِيَّةِ أَنَّ السُّلْطَانَ الْغُورِيَّ لَمَّا بَنَاهَا أَسْكَنَهَا لِلتُّجَّارِ
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 44 / 16، والأشباه والنظائر لابن نجيم مع حاشية الحموي في شرح قاعدة (العادة محكمة) 1 / 136.(19/283)
بِالْخُلُوِّ، وَجَعَل لِكُل حَانُوتٍ قَدْرًا أَخَذَهُ مِنْهُمْ، وَكَتَبَ ذَلِكَ بِمَكْتُوبِ الْوَقْفِ.
وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي بِنَاءِ الْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْعُرْفِ الْخَاصِّ.
وَقَدْ مَال الْحَمَوِيُّ إِلَى عَدَمِ إِثْبَاتِ الْخُلُوِّ وَعَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِهِ وَنَقَلَهُ عَنْ شَيْخِهِ وَأَنَّهُ أَلَّفَ فِي ذَلِكَ رِسَالَةً سَمَّاهَا " مُفِيدَةُ الْحُسْنَى فِي مَنْعِ ظَنِّ الْخُلُوِّ بِالسُّكْنَى " (1) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمِمَّنْ أَفْتَى بِلُزُومِ الْخُلُوِّ الَّذِي يَكُونُ مُقَابِل مَالٍ يَدْفَعُهُ لِلْمَالِكِ أَوْ مُتَوَلِّي الْوَقْفِ الْعَلاَّمَةُ الْمُحَقِّقُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْعِمَادِيُّ قَال: فَلاَ يَمْلِكُ صَاحِبُ الْحَانُوتِ إِخْرَاجَهُ مِنْهَا وَلاَ إِجَارَتَهَا لِغَيْرِهِ مَا لَمْ يَدْفَعْ لَهُ الْمَبْلَغَ الْمَرْقُومَ، فَيُفْتَى بِجَوَازِ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ قِيَاسًا عَلَى بَيْعِ الْوَفَاءِ الَّذِي تَعَارَفَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ (2) . ا. هـ
وَفِي الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ لِلرَّمْلِيِّ الْحَنَفِيِّ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْخِلاَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُعْتَبَرٌ - يَعْنِي خِلاَفَ الَّذِي أَفْتَى بِهِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الشَّيْخُ نَاصِرٌ اللَّقَانِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ، قَال: فَيَقَعُ الْيَقِينُ بِارْتِفَاعِ الْخِلاَفِ بِالْحُكْمِ (أَيْ حُكْمِ الْقَاضِي) حَيْثُ اسْتَوْفَى شَرَائِطَهُ مِنْ مَالِكِيٍّ يَرَاهُ، أَوْ غَيْرِهِ، فَيَصِحُّ الْحُكْمُ وَيَرْتَفِعُ الْخِلاَفُ،
__________
(1) ابن عابدين 4 / 14، 15، 16، والأشباه مع حاشيته 1 / 135، 139.
(2) ابن عابدين 4 / 17.(19/283)
خُصُوصًا فِيمَا لِلنَّاسِ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ وَلاَ سِيَّمَا فِي الْمُدُنِ الْمَشْهُورَةِ كَمِصْرَ وَمَدِينَةِ الْمُلْكِ - يَعْنِي إِسْتَانْبُول - فَإِنَّهُمْ يَتَعَاطَوْنَهُ وَلَهُمْ فِيهِ نَفْعٌ كُلِّيٌّ يَضُرُّ بِهِمْ نَقْصُهُ وَإِعْدَامُهُ (1) . هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّ أَوَّل فُتْيَا مَنْقُولَةٍ عِنْدَهُمْ هِيَ مَا أَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ نَاصِرُ الدِّينِ اللَّقَانِيُّ فِي إِنْشَاءِ الْخُلُوِّ وَتَمَلُّكِهِ وَجَرَيَانِ الإِْرْثِ فِيهِ، وَنَصُّهَا مَا أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ كَمَا يَلِي: (سُئِل الْعَلاَّمَةُ النَّاصِرُ اللَّقَانِيُّ) بِمَا نَصُّهُ: مَا تَقُول السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فِي خُلُوَّاتِ الْحَوَانِيتِ الَّتِي صَارَتْ عُرْفًا بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ وَغَيْرِهَا، وَبَذَلَتِ النَّاسُ فِي ذَلِكَ مَالاً كَثِيرًا حَتَّى وَصَل الْحَانُوتُ فِي بَعْضِ الأَْسْوَاقِ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ ذَهَبًا فَهَل إِذَا مَاتَ شَخْصٌ وَلَهُ وَارِثٌ شَرْعِيٌّ يَسْتَحِقُّ خُلُوَّ حَانُوتِهِ عَمَلاً بِمَا عَلَيْهِ النَّاسُ أَمْ لاَ، وَهَل إِذَا مَاتَ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ بَيْتُ الْمَال أَمْ لاَ، وَهَل إِذَا مَاتَ شَخْصٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يُخَلِّفْ مَا يَفِي بِدَيْنِهِ يُوَفَّى ذَلِكَ مِنْ خُلُوِّ حَانُوتِهِ (2) ؟
أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.
فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: نَعَمْ إِذَا مَاتَ شَخْصٌ وَلَهُ وَارِثٌ شَرْعِيٌّ يَسْتَحِقُّ خُلُوَّ حَانُوتِهِ عَمَلاً بِمَا عَلَيْهِ النَّاسُ، وَإِذَا مَاتَ مَنْ
__________
(1) الفتاوى الخيرية 1 / 180 ونقله عنها ابن عابدين 4 / 17.
(2) فتح العلي المالك 2 / 249، 250، والزرقاني على مختصر خليل 6 / 128.(19/284)
لاَ وَارِثَ لَهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ بَيْتُ الْمَال، وَإِذَا مَاتَ شَخْصٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يُخَلِّفْ مَا يَفِي بِدَيْنِهِ فَإِنَّهُ يُوَفَّى مِنْ خُلُوِّ حَانُوتِهِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ كَتَبَهُ النَّاصِرُ اللَّقَانِيُّ الْمَالِكِيُّ حَامِدًا مُصَلِّيًا مُسْلِمًا.
وَأَوْرَدَهَا الزُّرْقَانِيُّ وَنُقِل أَنَّ التَّعْوِيل فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذِهِ الْفُتْيَا.
وَقَال الْحَمَوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّعْوِيل فِيهَا عَلَى فَتْوَى اللَّقَانِيِّ وَالْقَبُول الَّذِي حَظِيَتْ بِهِ وَجَرَى عَلَيْهِ الْعَمَل (1) .
وَقَال الْغَرْقَاوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ فَتْوَى النَّاصِرِ اللَّقَانِيِّ مُخَرَّجَةٌ عَلَى النُّصُوصِ، وَقَدْ أُجْمِعَ عَلَى الْعَمَل بِهَا وَاشْتَهَرَتْ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَانْحَطَّ الْعَمَل عَلَيْهَا وَوَافَقَهُ عَلَيْهَا مَنْ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ كَأَخِيهِ الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ اللَّقَانِيِّ (2)
حَقُّ مَالِكِ الْخُلُوِّ فِي الاِسْتِمْرَارِ فِي الْعَقَارِ إِنْ كَانَ
مُقَابِل مَالٍ (أَيْ فِي الْحَال الأُْولَى) :
17 - حَيْثُ جَرَى الْعُرْفُ عِنْدَ إِنْشَاءِ الْخُلُوِّ عَلَى اسْتِمْرَارِ حَقِّ صَاحِبِهِ يُحْمَل عَلَيْهِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، قَال الْعَدَوِيُّ: جَرَى الْعُرْفُ عِنْدَنَا بِمِصْرَ أَنَّ الأَْحْكَارَ مُسْتَمِرَّةٌ لِلأَْبَدِ، وَإِنْ عَيَّنَ فِيهَا وَقْتَ
__________
(1) الحموي على الأشباه والنظائر (ضمن الكلام على قاعدة: العادة محكمة) 1 / 137، 138.
(2) كلام الغرقاوي هو في رسالة في الخلو طبعتها وزارة الأوقاف للشئون الإسلامية بالكويت.(19/284)
الإِْجَارَةِ مُدَّةً، فَهُمْ لاَ يَقْصِدُونَ خُصُوصَ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَالْعُرْفُ عِنْدَنَا كَالشَّرْطِ، فَمَنِ احْتَكَرَ أَرْضًا مُدَّةً وَمَضَتْ فَلَهُ أَنْ يَبْقَى وَلَيْسَ لِلْمُتَوَلِّي أَمْرَ الْوَقْفِ إِخْرَاجُهُ، نَعَمْ إِنْ حَصَل مَا يَدُل عَلَى قَصْدِ الإِْخْرَاجِ بَعْدَ الْمُدَّةِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الأَْبَدِ فَإِنَّهُ يُعْمَل بِذَلِكَ. (1)
لَكِنْ قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ ضَرْبَ الأَْجَل يَصِيرُ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يُقَال: ضَرَبَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَقْبُوضِ وَمَعَهُ تَأْبِيدُ الْحَكْرِ، فَتَكُونُ الدَّرَاهِمُ عُجِّلَتْ فِي نَظِيرِ شَيْئَيْنِ: الأَْجَل الْمَضْرُوبِ، وَالتَّأْبِيدِ بِالْحَكْرِ، وَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ. (2)
وَإِنَّمَا تَصِحُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْبَلَدُ قَدْ جَرَى فِيهَا ذَلِكَ الْعُرْفُ، فَيَقُومُ مَقَامَ الشَّرْطِ، وَإِلاَّ فَلاَ، قَال الدُّسُوقِيُّ: يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ شَيْءٍ مُؤَجَّرٍ مُدَّةً تَلِي مُدَّةَ الإِْجَارَةِ الأَْوْلَى لِلْمُسْتَأْجِرِ نَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، مَا لَمْ يَجْرِ عُرْفٌ بِعَدَمِ إِيجَارِهَا إِلاَّ لِلأَْوَّل، كَالأَْحْكَارِ بِمِصْرَ، وَإِلاَّ عُمِل بِهِ؛ لأَِنَّ الْعُرْفَ كَالشَّرْطِ، وَصُورَةُ ذَلِكَ إِذَا اسْتَأْجَرَ إِنْسَانٌ دَارًا مَوْقُوفَةً مُدَّةً مُعَيَّنَةً وَأَذِنَ لَهُ النَّاظِرُ بِالْبِنَاءِ فِيهَا لِيَكُونَ لَهُ خُلُوًّا وَجَعَل لَهُ حَكْرًا كُل سَنَةٍ لِجِهَةِ الْوَقْفِ فَلَيْسَ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِغَيْرِ مُسْتَأْجِرِهَا مُدَّةَ إِيجَارِ الأَْوَّل لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ بِأَنَّهُ لاَ يَسْتَأْجِرُهَا
__________
(1) العدوي على الخرشي 7 / 79.
(2) فتح العلي المالك 2 / 250 وما بعدها.(19/285)
إِلاَّ الأَْوَّل، وَالْعُرْفُ كَالشَّرْطِ، فَكَأَنَّهُ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ. (1)
وَقَدْ بَيَّنَ الدُّسُوقِيُّ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ مَالِكِ الْخُلُوِّ فِي اسْتِئْجَارِ عَقَارِ الْوَقْفِ لِمُدَّةٍ لاَحِقَةٍ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ إِنْ كَانَ يَدْفَعُ مِنَ الأَْجْرِ مِثْل مَا يَدْفَعُ غَيْرُهُ وَإِلاَّ جَازَ إِيجَارُهَا لِلْغَيْرِ. (2) وَقَال مِثْل ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ قَال: وَهُوَ مُقَيَّدٌ أَيْضًا بِمَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ أَجْرَ الْمِثْل، وَإِلاَّ كَانَتْ سُكْنَاهُ بِمُقَابَلَةِ مَا دَفَعَهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ عَيْنُ الرِّبَا، كَمَا قَالُوا فِيمَنْ دَفَعَ لِلْمُقْرِضِ دَارًا لِيَسْكُنَهَا إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ قَرْضَهُ: يَلْزَمُهُ أُجْرَةُ مِثْل الدَّارِ. (3)
وَقَدْ بَيَّنَ الزُّرْقَانِيُّ أَنَّ الاِسْتِمْرَارَ فِي الْمَأْجُورِ هُوَ الْفَائِدَةُ فِي الْخُلُوِّ إِذْ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الإِْجَارَةِ الْمُعْتَادَةِ، قَال: " الْمُسْتَأْجِرُ مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ فَمَا مَعْنَى الْخُلُوِّ وَمَا فَائِدَتُهُ، إِلاَّ أَنْ يُقَال فِي فَائِدَتِهِ إِنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَنْفَعَةِ الَّتِي اسْتَأْجَرَهَا سَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا أَوْ نَاظِرًا أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتِ الإِْجَارَةُ مُشَاهَرَةً، فَتَأَمَّلْهُ " (4)
وَفِي حَاشِيَةِ الْبُنَانِيِّ أَنَّ مُسْتَنَدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ حَقِّ الاِسْتِمْرَارِ إِنَّمَا هُوَ الْمَصْلَحَةُ قَال: وَقَعَتِ الْفَتْوَى مِنْ شُيُوخِ فَاسَ الْمُتَأَخِّرِينَ كَالشَّيْخِ الْقَصَّارِ، وَابْنِ عَاشِرٍ، وَأَبِي زَيْدٍ الْفَاسِيِّ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 11.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 11.
(3) ابن عابدين 4 / 17.
(4) الزرقاني على خليل 6 / 128.(19/285)
وَعَبْدِ الْقَادِرِ الْفَاسِيِّ، وَأَضْرَابِهِمْ بِمِثْل فَتْوَى النَّاصِرِ اللَّقَانِيِّ وَأَخِيهِ شَمْسِ الدِّينِ جَرَى الْعُرْفُ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ فَهِيَ عِنْدَهُمْ كِرَاءٌ عَلَى التَّبْقِيَةِ. (1)
مِقْدَارُ الأُْجْرَةِ (الْحَكْرِ) الَّتِي يَدْفَعُهَا صَاحِبُ الْخُلُوِّ:
18 - لاَ يَخْفَى أَنَّ الْوَقْفَ إِنَّمَا يُؤَجَّرُ بِأَجْرِ الْمِثْل وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ عَنْ أَجْرِ الْمِثْل إِلاَّ بِالْقَدْرِ الَّذِي يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ عَادَةً، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ تُؤَجَّرُ دَارُ الْوَقْفِ أَوْ دُكَّانُهُ لأَِكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، وَأَرْضُ الْوَقْفِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلاَثِ سِنِينَ، وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَبَاحِثِ الإِْجَارَةِ
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ زَادَتْ أُجْرَةُ الْمِثْل فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ زِيَادَةً مُعْتَبَرَةً وَجَبَ فَسْخُ الْعَقْدِ وَإِجَارَتُهُ بِأَجْرِ الْمِثْل مَا لَمْ يَقْبَل الْمُسْتَأْجِرُ الزِّيَادَةَ. أَمَّا إِذَا انْتَهَتِ الْمُدَّةُ فَلِلنَّاظِرِ إِجَارَتُهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ الأَْوَّل بِأَجْرِ الْمِثْل أَوْ إِخْرَاجُهُ عَنْهُ وَإِجَارَتُهُ لِغَيْرِهِ بِأَجْرِ الْمِثْل. قَال الرَّمْلِيُّ الْحَنَفِيُّ: وَهِيَ مَسْأَلَةٌ إِجْمَاعِيَّةٌ. (2) (عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) ، وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْمَكَانِ خُلُوٌّ صَحِيحٌ، أَوْ لَهُ فِيهِ حَقُّ الْقَرَارِ كَمَا
__________
(1) البناني على الزرقاني 6 / 128.
(2) الفتاوى الخيرية 1 / 173، وتنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 100، 101.(19/286)
يَأْتِي فَلاَ يَمْلِكُ إِخْرَاجَهُ.
فَإِنْ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ الْخُلُوِّ بِمَالٍ دَفَعَهُ لِلْوَاقِفِ أَوِ النَّاظِرِ لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ طِبْقًا لِلصُّوَرِ وَالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَقَدْ بَيَّنَ الدُّسُوقِيُّ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ مَالِكِ الْخُلُوِّ الاِسْتِئْجَارَ لِمُدَّةٍ لاَحِقَةٍ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ إِنْ كَانَ يَدْفَعُ مِنَ الأَْجْرِ مِثْل مَا يَدْفَعُ غَيْرُهُ، وَإِلاَّ جَازَ إِيجَارُهُ لِلْغَيْرِ. (1) وَالْمُرَادُ مِثْل إِيجَارِ الْمَكَانِ خَالِيًا عَنِ الإِْضَافَةِ الَّتِي قَابَلَتِ الْمَال الْمَدْفُوعَ إِلَى الْوَاقِفِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ لَمْ يَلْزَمْ صَاحِبَ الْخُلُوِّ أُجْرَةُ الْمِثْل لِلْمُسْتَحِقِّينَ يَلْزَمُ ضَيَاعُ حَقِّهِمْ. اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَا قَبَضَهُ الْمُتَوَلِّي صَرَفَهُ فِي عِمَارَةِ الْوَقْفِ حَيْثُ تَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا إِلَى عِمَارَتِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل مَعَ دَفْعِ ذَلِكَ الْمَبْلَغِ اللاَّزِمِ لِلْعِمَارَةِ. وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ أَجْرِ الْمِثْل أَنْ نَنْظُرَ إِلَى مَا دَفَعَهُ صَاحِبُ الْخُلُوِّ لِلْوَاقِفِ أَوِ الْمُتَوَلِّي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَإِلَى مَا يُنْفِقُهُ فِي مَرَمَّةِ الدُّكَّانِ وَنَحْوِهَا، فَإِذَا كَانَ النَّاسُ يَرْغَبُونَ فِي دَفْعِ جَمِيعِ ذَلِكَ إِلَى صَاحِبِ الْخُلُوِّ وَمَعَ ذَلِكَ يَسْتَأْجِرُونَ الدُّكَّانَ بِمِائَةٍ مَثَلاً فَالْمِائَةُ هِيَ أُجْرَةُ الْمِثْل، وَلاَ يُنْظَرُ إِلَى مَا دَفَعَهُ هُوَ لِصَاحِبِ الْخُلُوِّ السَّابِقِ مِنْ مَالٍ كَثِيرٍ طَمَعًا فِي أَنَّ أُجْرَةَ هَذَا الدُّكَّانِ عَشَرَةُ مَثَلاً؛ لأَِنَّ مَا دَفَعَهُ مِنْ مَالٍ كَثِيرٍ لَمْ يَرْجِعْ مِنْهُ نَفْعٌ لِلْوَقْفِ أَصْلاً بَل هُوَ مَحْضُ ضَرَرٍ بِالْوَقْفِ حَيْثُ لَزِمَ مِنْهُ اسْتِئْجَارُ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 11.(19/286)
الدُّكَّانِ بِدُونِ أُجْرَتِهَا بِغَبْنٍ فَاحِشٍ. وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إِلَى مَا يَعُودُ نَفْعُهُ لِلْوَقْفِ فَقَطْ. (1)
الشُّرُوطُ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا مِلْكُ الْخُلُوِّ فِي عَقَارِ الْوَقْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
19 - قَال الأُْجْهُورِيُّ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْخُلُوِّ أَنْ تَكُونَ الدَّرَاهِمُ الْمَدْفُوعَةُ (أَيْ مِنَ السَّاكِنِ الأَْوَّل) عَائِدَةً عَلَى جِهَةِ الْوَقْفِ يَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِهِ.
قَال: فَمَا يُفْعَل الآْنَ مِنْ أَخْذِ النَّاظِرِ الدَّرَاهِمَ مِمَّنْ يُرِيدُ الْخُلُوَّ، وَيَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِ نَفْسِهِ وَيَجْعَل لِدَافِعِهَا خُلُوًّا فِي الْوَقْفِ فَهَذَا الْخُلُوُّ غَيْرُ صَحِيحٍ وَيَرْجِعُ دَافِعُ الدَّرَاهِمِ بِهَا عَلَى النَّاظِرِ.
قَال: وَمِنَ الشُّرُوطِ أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْوَقْفِ رِيعٌ يُعَمَّرُ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ رِيعٌ يُعَمَّرُ بِهِ مِثْل أَوْقَافِ الْمُلُوكِ الْكَثِيرَةِ فَيُصْرَفُ عَلَيْهَا مِنْهُ، وَلاَ يَصِحُّ فِيهِ خُلُوٌّ، وَيَرْجِعُ دَافِعُ الدَّرَاهِمِ بِهَا عَلَى النَّاظِرِ.
لأَِنَّهُ يُنْزَعُ مِنْهُ عَلَى شَرْطٍ لَمْ يَتِمَّ، لِظُهُورِ عَدَمِ صِحَّةِ خُلُوِّهِ.
وَمِنْهَا ثُبُوتُ الصَّرْفِ فِي مَنَافِعِ الْوَقْفِ بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، فَلَوْ صَدَّقَهُ النَّاظِرُ عَلَى الصَّرْفِ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتٍ، وَلاَ ظُهُورِ عِمَارَةٍ إِنْ كَانَتْ هِيَ الْمَنْفَعَةُ، لَمْ يُعْتَبَرْ لأَِنَّ النَّاظِرَ لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي مَصْرِفِ الْوَقْفِ. (2)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 17، وتنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 199.
(2) فتح العلي المالك 2 / 250، 251، وحاشية الأشباه والنظائر للحموي 1 / 138 نقلاً عن الشيخ نور الدين على الأجهوري المالكي في شرحه على مختصر خليل.(19/287)
بَيْعُ صَاحِبِ الْخُلُوِّ خُلُوَّهُ وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ:
20 - إِذَا أَنْشَأَ الْمُسْتَأْجِرُ خُلُوَّهُ بِمَالٍ دَفَعَهُ إِلَى نَاظِرِ الْوَقْفِ بِشُرُوطِهِ الْمُبَيَّنَةِ سَابِقًا صَارَ الْخُلُوُّ مِلْكًا لَهُ، وَأَصْبَحَ مِنْ حَقِّهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ، وَالإِْجَارَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالْهِبَةِ، وَالْعَارِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي كَلاَمِ مَنْ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. (1)
وَوَاضِحٌ أَنَّهُ إِذَا بَاعَ صَاحِبُ الْخُلُوِّ خُلُوَّهُ بَعْدَ أَنْ مَلَكَهُ بِالْوَجْهِ الصَّحِيحِ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَوْصَى بِهِ فَلِمَنْ صَارَ إِلَيْهِ الْخُلُوُّ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا كَانَ لِمَنْ قَبْلَهُ.
وَصَرَّحَ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الْخُلُوَّاتِ إِذَا اشْتُرِيَتْ بِالْمَال مِنَ الْمَالِكِ تَكُونُ مَمْلُوكَةً لِمُشْتَرِيهَا مُشَاعًا لأَِنَّهُ يَكُونُ قَدِ اشْتَرَى نِصْفَ الْمَنْفَعَةِ مَثَلاً وَعَلَى هَذَا لاَ تَصِحُّ إِجَارَةُ الْخُلُوِّ وَيَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَوَفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ. (2)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلَمْ نَجِدِ التَّصْرِيحَ عِنْدَهُمْ فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ بِجَوَازِ بَيْعِ الْخُلُوِّ لَكِنْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِهِ قَاضٍ يَرَاهُ مِنْ مَالِكِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ جَازَ. (3)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ أَخْرَجَ النَّاظِرُ الْمُسْتَأْجِرَ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 467 في أثناء كتاب الاستحقاق 3 / 433 في العارية، والزرقاني 7 / 75، والعدوي على الخرشي 7 / 79، وفتاوى عليش 2 / 251.
(2) مطالب أولي النهى 4 / 370.
(3) ابن عابدين 4 / 17، نقلاً عن الفتاوى الخيرية.(19/287)
مِنَ الْمَكَانِ أَوْ آجَرَهُ لِغَيْرِهِ فَفِي فَتْوَى الْعِمَادِيِّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَدْفَعْ لَهُ الْمَبْلَغَ الْمَرْقُومَ. (1)
شُفْعَةُ صَاحِبِ الْخُلُوِّ:
21 - مِنْ صُوَرِ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْعَدَوِيُّ أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ نَاظِرِ الْوَقْفِ أَرْضًا بِثَلاَثِينَ دِينَارًا فِي كُل عَامٍ مَثَلاً وَبَنَوْا عَلَيْهَا دَارًا وَلَكِنَّ الدَّارَ تُكْرَى بِسِتِّينَ، فَحَقُّهُمْ يُقَال لَهُ الْخُلُوُّ، فَلَوْ بَاعَ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ فِي الْبِنَاءِ فَلِشُرَكَائِهِ الأَْخْذُ بِالشُّفْعَةِ. (2)
وَمِنْ صُوَرِهِ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ أَبُو السُّعُودِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ مِنْ أَنَّ مَنْ لَهُ خُلُوٌّ فِي أَرْضٍ مُحْتَكَرَةٍ وَكَانَ خُلُوُّهُ عِبَارَةً عَنْ غِرَاسٍ أَوْ بِنَاءٍ فَإِنَّهُ يَجْرِي فِيهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا اتَّصَل بِالأَْرْضِ اتِّصَال قَرَارٍ الْتَحَقَ بِالْعَقَارِ. وَلَكِنْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: هَذَا سَهْوٌ ظَاهِرٌ لِمُخَالَفَتِهِ الْمَنْصُوصَ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ (3) أَيْ مِنْ أَنَّ الْوَقْفَ لاَ شُفْعَةَ لَهُ وَلاَ شُفْعَةَ فِيهِ. (4)
وَقْفُ الْخُلُوِّ:
22 - رَجَّحَ جُمْهُورُ مُتَأَخِّرِي الْمَالِكِيَّةِ الْقَوْل بِأَنَّ الْخُلُوَّ يَجُوزُ وَقْفُهُ، فَإِنَّ مَنْفَعَةَ الْعَقَارِ الْمَوْقُوفِ بَعْضُهَا مَوْقُوفٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مَوْقُوفٍ، وَهَذَا
__________
(1) ابن عابدين 4 / 17.
(2) العدوي على الخرشي 7 / 79.
(3) رد المحتار 4 / 18.
(4) انظر مبحث الشفعة في الوقف في رد المحتار 5 / 142، وتنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 199.(19/288)
الْبَعْضُ الثَّانِي هُوَ الْخُلُوُّ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْوَقْفُ. وَبِمِثْلِهِ قَال الرَّحِيبَانِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ خَرَّجَهُ مِنْ قَوْل أَحْمَدَ بِصِحَّةِ وَقْفِ الْمَاءِ إِنْ كَانُوا قَدِ اعْتَادُوهُ. ثُمَّ قَال: وَهَذَا مَا ظَهَرَ لِي وَلَمْ أَجِدْهُ مَسْطُورًا، لَكِنَّ الْقِيَاسَ لاَ يَأْبَاهُ وَلَيْسَ فِي كَلاَمِهِمْ مَا يُخَالِفُهُ.
قَال الْعَدَوِيُّ: عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْخُلُوُّ لِكِتَابِيٍّ فِي وَقْفِ مَسْجِدٍ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ وَقْفِهِ عَلَى كَنِيسَةٍ مَثَلاً.
وَالرَّأْيُ الآْخَرُ لَدَى كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَصَرَّحَ بِهِ الشِّرْوَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّ الْخُلُوَّاتِ لاَ يَجُوزُ وَقْفُهَا؛ لأَِنَّهَا مَنْفَعَةُ وَقْفٍ، وَمَا تَعَلَّقَ الْوَقْفُ بِهِ لاَ يُوقَفُ. (1)
وَقَدْ قَال بِذَلِكَ أَحْمَدُ السَّنْهُورِيُّ وَعَلِيٌّ الأُْجْهُورِيُّ، قَال الأُْجْهُورِيُّ: مَحَل صِحَّةِ وَقْفِ الْمَنْفَعَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْفَعَةَ حَبْسٍ، لِتَعَلُّقِ الْحَبْسِ بِهَا، وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ الْحَبْسُ لاَ يُحْبَسُ، وَلَوْ صَحَّ وَقْفُ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ لَصَحَّ وَقْفُ الْوَقْفِ، وَاللاَّزِمُ بَاطِلٌ شَرْعًا وَعَقْلاً، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُل ذَاتٍ وُقِفَتْ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْوَقْفُ بِمَنْفَعَتِهَا وَأَنَّ ذَاتَهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْوَاقِفِ. قَال: وَبِهَذَا تَعْلَمُ بُطْلاَنَ تَحْبِيسِ الْخُلُوِّ. (2) وَوَافَقَ الأُْجْهُورِيُّ عَلَى فُتْيَاهُ هَذِهِ
__________
(1) العدوي على الخرشي 7 / 79، والدسوقي على الشرح الكبير 4 / 76، ومطالب أولي النهى 4 / 371.
(2) فتاوى عليش 2 / 251، والشبراملسي على نهاية المحتاج 5 / 357، وحاشية الشرواني على التحفة 6 / 37.(19/288)
الشَّيْخُ عَبْدُ الْبَاقِي، ثُمَّ لَمَّا رُوجِعَ بِفَتْوَى اللَّقَانِيِّ بِجَوَازِ بَيْعِهَا وَإِرْثِهَا أَفْتَى بِجَوَازِ وَقْفِهَا (1) قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: وَالْعَمَل عَلَى الْفَتْوَى بِجَوَازِ وَقْفِ الْخُلُوِّ، وَبِهِ جَرَى الْعَمَل فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ (2) وَلَمْ يُخَالِفِ الأُْجْهُورِيُّ فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، كَالْبَيْعِ، وَالإِْجَارَةِ، وَالإِْعَارَةِ وَالرَّهْنِ. (3)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ تَعَرُّضًا لِمَسْأَلَةِ وَقْفِ مَنْفَعَةِ الْخُلُوِّ. وَلَكِنَّهُمْ يَتَعَرَّضُونَ لِمَسْأَلَةِ وَقْفِ مَا بَنَاهُ الْمُسْتَأْجِرُ فِي الأَْرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ أَوْ غَرْسِهِ فِيهَا. مِمَّا هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ.
وَالأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ وَقْفُ الْبِنَاءِ بِدُونِ الأَْرْضِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الأَْرْضُ مَمْلُوكَةً أَوْ مَوْقُوفَةً عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: أَفْتَى بِذَلِكَ الْعَلاَّمَةُ قَاسِمٌ، وَعَزَاهُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَإِلَى هِلاَلٍ وَالْخَصَّافِ، وَعَلَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فَحَيْثُ تُعُورِفَ وَقْفُهُ جَازَ. وَقَال ابْنُ الشِّحْنَةِ: إِنَّ النَّاسَ مُنْذُ زَمَنٍ قَدِيمٍ نَحْوِ مِائَتَيْ سَنَةٍ عَلَى جَوَازِهِ، وَالأَْحْكَامُ بِهِ مِنَ الْقُضَاةِ الْعُلَمَاءِ مُتَوَاتِرَةٌ، وَالْعُرْفُ جَارٍ بِهِ، فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ فِيهِ ا. هـ. وَأَمَّا إِذَا
__________
(1) فتاوى عليش 2 / 253، وانظر شرح الزرقاني 7 / 75 أول باب الوقف فقد قرر جواز وقف الخلو، وكذا محشيه البناني.
(2) فتاوى عليش 2 / 251.
(3) حاشية الدسوقي 3 / 443، 467.(19/289)
وَقَفَهُ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي كَانَتِ الْبُقْعَةُ وَقْفًا عَلَيْهَا جَازَ اتِّفَاقًا تَبَعًا لِلْبُقْعَةِ، وَحَرَّرَ صَاحِبُ الْبَحْرِ الرَّائِقِ الْقَوْل الأَْوَّل وَوَافَقَهُ ابْنُ عَابِدِينَ. قَال: لأَِنَّ شَرْطَ الْوَقْفِ التَّأْبِيدُ، وَالأَْرْضُ إِذَا كَانَتْ مِلْكًا لِغَيْرِهِ فَلِلْمَالِكِ اسْتِرْدَادُهَا وَأَمْرُهُ بِنَقْضِ الْبِنَاءِ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ، فَإِنَّ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَهُ ذَلِكَ، فَلاَ يَكُونُ الْوَقْفُ مُؤَبَّدًا. قَال: فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ مُعَدَّةً لِلاِحْتِكَارِ؛ لأَِنَّ الْبِنَاءَ يَبْقَى فِيهَا كَمَا إِذَا كَانَ وَقْفُ الْبِنَاءِ عَلَى جِهَةِ وَقْفِ الأَْرْضِ فَإِنَّهُ لاَ مُطَالِبَ لِنَقْضِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا وَجْهُ جَوَازِ وَقْفِهِ إِذَا كَانَ مُتَعَارَفًا. (1)
وَنَقَل صَاحِبُ الدُّرِّ أَنَّ ابْنَ نُجَيْمٍ سُئِل عَنِ الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ فِي الأَْرْضِ الْمُحْتَكَرَةِ، هَل يَجُوزُ بَيْعُهُ وَوَقْفُهُ؟ فَأَجَابَ: نَعَمْ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَوَقْفُ الشَّجَرِ كَوَقْفِ الْبِنَاءِ. أَمَّا مُجَرَّدُ الْكَبْسِ بِالتُّرَابِ أَيْ وَنَحْوِهِ مِمَّا هُوَ مُسْتَهْلَكٌ كَالسَّمَادِ فَلاَ يَصِحُّ وَقْفُهُ، وَنُقِل عَنِ الإِْسْعَافِ فِي أَحْكَامِ الأَْوْقَافِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ وَقْفُ مَا بُنِيَ فِي الأَْرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ مَا لَمْ تَكُنْ مُتَقَرِّرَةً لِلاِحْتِكَارِ. (2) وَمَا يُسَمَّى الْكَدَكَ أَوِ الْجَدَكَ فِي حَوَانِيتِ الْوَقْفِ وَنَحْوِهَا مِنْ رُفُوفٍ مُرَكَّبَةٍ فِي الْحَانُوتِ عَلَى وَجْهِ
__________
(1) الدر المختار وابن عابدين 3 / 390، 391، وانظر البحر الرائق 5 / 220، ط أولى بالمطبعة العلمية.
(2) ابن عابدين 3 / 391.(19/289)
الْقَرَارِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ وَقْفُهُ لِعَدَمِ الْعُرْفِ الشَّائِعِ بِخِلاَفِ وَقْفِ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ. (1)
إِرْثُ الْخُلُوَّاتِ:
23 - الَّذِينَ قَالُوا مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنَّ الْخُلُوَّ يُمْلَكُ وَيُبَاعُ وَيُرْهَنُ ذَهَبُوا كَذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ يُورَثُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ فُتْيَا اللَّقَانِيِّ فِي ذَلِكَ وَذَكَرَ مَنْ وَافَقُوهُ عَلَيْهَا. (2) (ف 16) .
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ الْخُلُوَّ فِي الأَْوْقَافِ عِنْدَ مَنْ أَفْتَى بِأَنَّهُ يُمْلَكُ، يُورَثُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى.
تَكَالِيفُ الإِْصْلاَحَاتِ:
24 - عَلَى صَاحِبِ الْخُلُوِّ أَوْ أَصْحَابِهِ مَا يَقُومُونَ بِهِ مِنَ الإِْصْلاَحَاتِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمْ فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَى نَاظِرِ الْوَقْفِ مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا لَوِ اشْتَرَكُوا فِي بِنَاءٍ فِي أَرْضِ وَقْفٍ اكْتَرَوْهُ مِنْ نَاظِرِهِ لِذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى النَّاظِرِ بِالنِّسْبَةِ، كَمَا لَوْ عَمَّرَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ مَالِهِ حَانُوتَ الْوَقْفِ إِذَا تَخَرَّبَ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ خُلُوًّا. (3)
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ أَحْوَال نُشُوءِ حَقِّ الْخُلُوِّ فِي عَقَارَاتِ الأَْوْقَافِ:
25 - أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي عَقَارِ الْوَقْفِ حَقُّ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 391.
(2) فتح العلي المالك 2 / 249، 250، ومطالب أولي النهى 4 / 370، والفتاوى المهدية 5 / 8.
(3) العدوي على الخرشي 7 / 79.(19/290)
الْقَرَارِ بِسَبَبِ مَا يُنْشِئُهُ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ إِذَا أَنْشَأَهُ بِإِذْنِ النَّاظِرِ لأَِجْل أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لَهُ، وَخُلُوًّا يَنْتَفِعُ بِهِ، مِنْ بِنَاءٍ أَوْ غِرَاسٍ أَوْ كَبْسٍ بِالتُّرَابِ وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (الْكِرْدَارَ) أَوْ مَا يُنْشِئُهُ كَذَلِكَ فِي مَبْنَى الْوَقْفِ، مِنْ بِنَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ مُتَّصِلٍ اتِّصَال قَرَارٍ، وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ (الْجَدَكَ) قَال صَاحِبُ الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ: صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ لِصَاحِبِ الْكِرْدَارِ حَقَّ الْقَرَارِ، فَتَبْقَى فِي يَدِهِ. وَنُقِل ذَلِكَ عَنِ الْقُنْيَةِ وَالزَّاهِدِيِّ، قَال الزَّاهِدِيُّ: اسْتَأْجَرَ أَرْضًا وَقْفًا وَغَرَسَ فِيهَا أَوْ بَنَى ثُمَّ مَضَتْ مُدَّةُ الإِْجَارَةِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَسْتَبْقِيَهَا بِأَجْرِ الْمِثْل، إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ، وَلَوْ أَبَى الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ الْقَلْعَ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ. ا. هـ. (1)
لَكِنْ لَوْ كَانَ فِي الْبَقَاءِ ضَرَرٌ لَمْ يَجِبِ الاِسْتِبْقَاءُ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ وَارِثُهُ مُفَلِّسًا، أَوْ سَيِّئَ الْمُعَامَلَةِ، أَوْ مُتَغَلِّبًا يُخْشَى مِنْهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (2) ، قَال الرَّمْلِيُّ: أَصْل ذَلِكَ فِي أَوْقَافِ الْخَصَّافِ حَيْثُ قَال: " حَانُوتٌ أَصْلُهُ وَقْفٌ وَعِمَارَتُهُ لِرَجُلٍ، وَهُوَ لاَ يَرْضَى أَنْ يَسْتَأْجِرَ الأَْرْضَ بِأَجْرِ الْمِثْل "، قَالُوا: " إِنْ كَانَتِ الْعِمَارَةُ بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَتْ يَسْتَأْجِرُ الأَْصْل بِأَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَأْجِرُ صَاحِبُ الْبِنَاءِ كُلِّفَ رَفْعَهُ وَيُؤَجِّرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلاَ يُتْرَكُ فِي
__________
(1) الفتاوى الخيرية 1 / 180، وابن عابدين 3 / 399.
(2) الفتاوى الخيرية 2 / 198، وابن عابدين 5 / 20.(19/290)
يَدِهِ بِذَلِكَ الأَْجْرِ ". (1)
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ الأَْصْل فِي الإِْجَارَةِ أَنَّهُ إِذَا انْتَهَتِ الْمُدَّةُ فَالنَّاظِرُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُجَدِّدَ عَقْدَ الإِْجَارَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ الأَْوَّل أَوْ لاَ يُجَدِّدَهُ بَل تَنْتَهِي الإِْجَارَةُ، وَلَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ لِغَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ الأَْوَّل. قَال الرَّمْلِيُّ: وَهِيَ مَسْأَلَةٌ إِجْمَاعِيَّةٌ. لَكِنَّ اسْتِبْقَاءَ الأَْرْضِ الْوَقْفِيَّةِ الْمُؤَجَّرَةِ عِنْدَ مَنْ أَفْتَى بِهِ إِنْ بَنَى عَلَيْهَا مُسْتَأْجِرُهَا عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ وَجْهُهُ أَنَّهُ أَوْلَوِيٌّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ، لاَ سِيَّمَا مَعَ مَا ابْتُلِيَ بِهِ النَّاسُ كَثِيرًا. (2)
وَيُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عِنْدَ كُل مَنْ أَفْتَى بِثُبُوتِ هَذَا الْحَقِّ أَنْ لاَ تُجَدَّدَ الإِْجَارَةُ بِأَقَل مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل مَنْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْوَقْفِ، كَمَا أَنَّ حَقَّ الاِسْتِبْقَاءِ لِلْمُسْتَأْجِرِ إِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ لَوْ طُولِبَ بِرَفْعِ جَدَكَةٍ أَوْ كِرْدَارَةٍ. (3)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ يَجُوزُ إِيجَارُ الْوَقْفِ بِأُجْرَةِ الْمِثْل، فَلَوْ زَادَ أَجْرُهُ عَلَى أَجْرِ الْمِثْل أَثْنَاءَ الْمُدَّةِ زِيَادَةً فَاحِشَةً، فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ تَجْدِيدُ الْعَقْدِ بِالأُْجْرَةِ الزَّائِدَةِ، وَقَبُول الْمُسْتَأْجِرِ الزِّيَادَةَ يَكْفِي عَنْ تَجْدِيدِ الْعَقْدِ.
__________
(1) الإسعاف في أحكام الأوقاف ص66، 67، والفتاوى الخيرية 1 / 180.
(2) الفتاوى الخيرية 1 / 173.
(3) الفتاوى الخيرية 1 / 173، والفتاوى الحامدية 2 / 115، 117.(19/291)
وَالْمُرَادُ أَنْ تَزِيدَ أُجْرَةُ الْوَقْفِ فِي نَفْسِهِ لِزِيَادَةِ الرَّغْبَةِ، لاَ زِيَادَةَ مُتَعَنِّتٍ، وَلاَ بِمَا يَزِيدُ بِعِمَارَةِ الْمُسْتَأْجِرِ. فَإِنْ قَبِل الْمُسْتَأْجِرُ بِالزِّيَادَةِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ يَزُول الْمُسَوِّغُ لِلْفَسْخِ فَلاَ يَكُونُ لَهُ دَاعٍ. فَإِنْ لَمْ يَقْبَل الْمُسْتَأْجِرُ الاِلْتِزَامَ بِالزِّيَادَةِ فَلِلْمُتَوَلِّي فَسْخُ الإِْجَارَةِ، فَإِنِ امْتَنَعَ فَسَخَهَا الْقَاضِي، وَيُؤَجِّرُهَا الْمُتَوَلِّي مِنْ غَيْرِهِ.
وَهَذَا إِنْ زَادَتْ أُجْرَةُ الْمِثْل فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الْعَقْدِ، فَبَعْدَ انْتِهَائِهَا أَوْلَى. (1)
هَذَا وَيُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ حَقِّ الْقَرَارِ عِنْدَ مَنْ أَفْتَى بِهِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَا صَنَعَهُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ وَضْعِ غِرَاسِهِ، أَوْ بِنَائِهِ، أَوْ جَدَكَةٍ بِإِذْنِ النَّاظِرِ لِيَكُونَ لِلْمُسْتَأْجِرِ مِلْكًا وَخُلُوًّا، فَإِنْ وَضَعَهُ دُونَ إِذْنٍ فَلاَ عِبْرَةَ بِهِ، وَلاَ يَجِبُ تَجْدِيدُ الإِْجَارَةِ لَهُ. (2)
أَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي مَحَل الإِْجَارَةِ جَدَكٌ وَلاَ كِرْدَارٌ فَلاَ يَكُونُ لَهُ فِيهِ حَقُّ الْقَرَارِ فَلاَ يَكُونُ أَحَقَّ بِالاِسْتِئْجَارِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ اسْتِئْجَارِهِ، سَوَاءٌ أَزَادَتْ أُجْرَةُ الْمِثْل أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ قَبِل الزِّيَادَةَ أَمْ لاَ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمَنْ أَفْتَى بِأَنَّهُ إِنَّ قَبْل الزِّيَادَةِ الْعَارِضَةِ يَكُونُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، فَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا أَطْبَقَتْ عَلَيْهِ كُتُبُ الْمَذْهَبِ مِنْ مُتُونٍ، وَشُرُوحٍ، وَحَوَاشٍ، وَفِيهِ الْفَسَادُ وَضَيَاعُ الأَْوْقَافِ، حَيْثُ إِنَّ بَقَاءَ أَرْضِ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 399، والإسعاف ص63.
(2) الفتاوى الخيرية 1 / 180، والفتاوى المهدية 5 / 61.(19/291)
الْوَقْفِ بِيَدِ مُسْتَأْجِرٍ وَاحِدٍ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ يُؤَدِّي بِهِ إِلَى دَعْوَى تَمَلُّكِهَا، مَعَ أَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنْ تَطْوِيل الإِْجَارَةِ فِي الْوَقْفِ خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ. ا. هـ (1) إِذِ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْوَقْفَ لاَ يُؤَجَّرُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ لِلْبِنَاءِ، وَثَلاَثَ سِنِينَ لِلأَْرْضِ. (2)
وَلَوْ كَانَ لإِِنْسَانٍ حَقُّ الْقَرَارِ فِي عَقَارٍ وُقِفَ بِسَبَبِ كِرْدَارَهِ، ثُمَّ زَال ذَلِكَ الْكِرْدَارُ زَال حَقُّهُ فِي الْقَرَارِ. قَال الرَّمْلِيُّ: فِي أَرْضٍ فَنِيَتْ أَشْجَارُهَا، وَذَهَبَ كِرْدَارُهَا وَيُرِيدُ مُحْتَكِرُهَا أَنْ تَسْتَمِرَّ تَحْتَ يَدِهِ بِالْحَكْرِ السَّابِقِ وَهُوَ دُونَ أُجْرَةِ الْمِثْل: قَال: لاَ يُحْكَمُ لَهُ بِذَلِكَ، بَل النَّاظِرُ يَتَصَرَّفُ بِمَا فِيهِ الْحَظُّ لِجَانِبِ الْوَقْفِ مِنْ دَفْعِهَا بِطَرِيقِ الْمُزَارَعَةِ، أَوْ إِجَارَتِهَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَالْحَكْرُ لاَ يُوجِبُ لِلْمُسْتَحْكِرِ اسْتِبْقَاءَ الأَْرْضِ فِي يَدِهِ أَبَدًا عَلَى مَا يُرِيدُ وَيَشْتَهِي. (3)
ثُمَّ قَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ هَذَا الْجَدَكَ الْمُتَّصِل اتِّصَال قَرَارٍ الْمَوْضُوعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبِينِ قَال فِيهِ أَبُو السُّعُودِ: إِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خُلُوٌّ وَاسْتَظْهَرَ أَنَّهُ كَالْخُلُوِّ، وَيُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِهِ بِجَامِعِ الْعُرْفِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا. (4)
وَمِثْل ذَلِكَ فِي الْفَتَاوَى الْمَهْدِيَّةِ وَقَال: إِنَّ الْحَقَّ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 399.
(2) الإسعاف في أحكام الأوقاف ص64، والحامدية 2 / 125.
(3) الفتاوى الخيرية 1 / 161، والحامدية 2 / 131.
(4) ابن عابدين 4 / 17.(19/292)
الْمَذْكُورَ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ إِذَا بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ فِعْلاً، أَوْ غَرَسَ فِعْلاً، فَلَوْ مَاتَ قَبْل أَنْ يَبْنِيَ أَوْ يَغْرِسَ انْفَسَخَتِ الإِْجَارَةُ وَفَاتَ الْوَرَثَةَ ذَلِكَ الْحَقُّ. (1)
بَيْعُ الْخُلُوِّ الثَّابِتِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُبَيَّنَةِ:
26 - إِذَا ثَبَتَ حَقُّ الْقَرَارِ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ، أَوْ حَوَانِيتِهِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُبَيَّنَةِ سَابِقًا وَوَضَعَ أَبْنِيَةً أَوْ جَدَكًا ثَابِتًا، أَوْ أَشْجَارًا فِي أَرْضِ الْوَقْفِ، فَإِنَّ مَا يَضَعُهُ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ عَلَى وَجْهِ الْقَرَارِ، وَيَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ أَوْ بَعْدَهَا بَيْعُ مَا أَحْدَثَهُ مِنَ الأَْعْيَانِ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَنْتَقِل حَقُّ الْقَرَارِ لِلْمُشْتَرِي، وَيَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِثْل أَجْرِ الأَْرْضِ خَالِيَةً عَمَّا أَحْدَثَهُ فِيهَا، وَكَذَا الْحَانُوتُ. (2)
أَمَّا الأَْرْضُ الْمَوْقُوفَةُ إِذَا اسْتَأْجَرَهَا عَلَى وَجْهٍ لاَ يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الْقَرَارِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ كَانَ اسْتِئْجَارُهَا عَلَى وَجْهٍ يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الْقَرَارِ لَكِنْ لَمْ يَبْنِ فِعْلاً، أَوْ بَنَى شَيْئًا فَفَنِيَ وَزَال فَلاَ يُبَاعُ ذَلِكَ الْحَقُّ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لأَِنَّهُ مُجَرَّدٌ. وَقَدْ تَعَرَّضَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ لِلْفَرَاغِ عَنْ ذَلِكَ مُقَابِل عِوَضٍ مَالِيٍّ لَيْسَ مِنْ قَبِيل الْبَيْعِ بَل مِنْ قَبِيل التَّنَازُل عَنِ الْحَقِّ الْمُجَرَّدِ بِمَالٍ. فَفِي تَنْقِيحِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ أَصْلاً، وَنُقِل فِي وَاقِعَةٍ: حَكَمَ بِصِحَّتِهِ قَاضٍ حَنْبَلِيٌّ نَفَذَ لَوْ كَانَ
__________
(1) الفتاوى المهدية 5 / 23، 61.
(2) الفتاوى المهدية 5 / 61.(19/292)
مُوَافِقًا لِمَذْهَبِ أَحْمَدَ، لَكِنْ قَال إِنَّهُ لاَ يَنْفُذُ لأَِنَّ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ (لاَ يَصِحُّ الْفَرَاغُ فِي الأَْوْقَافِ الأَْهْلِيَّةِ، وَأَوْقَافِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا، سَوَاءٌ أَذِنَ فِي ذَلِكَ النَّاظِرُ أَمْ لَمْ يَأْذَنْ، بَل لِلنَّاظِرِ إِيجَارُهَا وَصَرْفُ أُجْرَتِهَا فِي جِهَاتِ الْوَقْفِ، وَلاَ يَصِحُّ الْفَرَاغُ إِلاَّ فِي مَا فُتِحَ عَنْوَةً وَلَمْ يُقْسَمْ وَضُرِبَ عَلَيْهِ خَرَاجٌ يُؤْخَذُ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ) . (1)
وَفِي الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ: سُئِل فِي أَرْضِ وَقْفٍ دَفَعَهَا النَّاظِرُ لِمُزَارِعٍ يَزْرَعُهَا بِالْحِصَّةِ هَل يَمْلِكُ الْمُزَارِعُ دَفْعَهَا لِمُزَارِعٍ آخَرَ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ لِنَفْسِهِ فِي مُقَابِلِهَا، أَمْ لاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ. فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلاَ فَرَاغُهُ، وَيَرْجِعُ الْمُزَارِعُ الثَّانِي عَلَى الأَْوَّل بِمَا دَفَعَهُ مِنْ مَالٍ؟
فَأَجَابَ: أَرْضُ الْوَقْفِ لاَ يَمْلِكُهَا الْمُزَارِعُ وَلاَ تَصَرُّفَ لَهُ فِيهَا بِالْفَرَاغِ عَنْ مَنْفَعَتِهَا بِمَالٍ يَدْفَعُهُ لَهُ مُزَارِعٌ آخَرُ لِيَزْرَعَهَا لِنَفْسِهِ؛ لأَِنَّ انْتِفَاعَ الأَْوَّل بِهَا مُجَرَّدُ حَقٍّ، لاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ بِمَالٍ، فَإِذَا أَخَذَ مَالاً فِي مُقَابَلَةِ الاِعْتِيَاضِ عَنْهُ يَسْتَرِدُّهُ مِنْهُ صَاحِبُهُ شَرْعًا. وَالْوَقْفُ مُحَرَّمٌ بِحُرُمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. (2)
وَمِثْل ذَلِكَ فِي الْفَتَاوَى الْمَهْدِيَّةِ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ. وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَابِدِينَ فِي رِسَالَتِهِ الْمُسَمَّاةِ (تَحْرِيرُ الْعِبَارَةِ فِيمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالإِْجَارَةِ) (3) وَقَال:
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 204.
(2) الفتاوى الخيرية 1 / 136.
(3) الفتاوى المهدية 5 / 61.(19/293)
لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ إِسْقَاطُ حَقِّهِ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فِي مُقَابَلَةِ مَالٍ يَأْخُذُهُ، ثُمَّ يَسْتَأْجِرُ الْمُسْقَطَ لَهُ مِنَ النَّاظِرِ إِذْ هَذَا مِنْ قَبِيل الْحُقُوقِ الْمُجَرَّدَةِ الَّتِي لاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْهَا، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ.
ثُمَّ قَال: إِنَّ هَذَا لاَ يَمْنَعُ الْمُسْتَأْجِرَ أَنْ يُؤَجِّرَ لِغَيْرِهِ إِلَى بَاقِي الْمُدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا حَقُّ الْقَرَارِ؛ لأَِنَّهُ مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ إِلَى نِهَايَةِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ فَلَهُ بَيْعُهَا بِطَرِيقِ الإِْجَارَةِ. (1)
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلَمْ نَجِدِ التَّصْرِيحَ مِنْهُمْ بِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرَ أَنَّ الشَّيْخَ عُلَيْشًا ذَكَرَ أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنَ إِنْ آجَرَ الْوَقْفَ وَأَذِنَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي الْبِنَاءِ فِيهِ ثُمَّ مَاتَ الْمُؤَجِّرُ تَنْفَسِخُ الإِْجَارَةُ، وَالْبِنَاءُ مِلْكٌ لِلْبَانِي فَلَهُ نَقْضُهُ أَوْ قِيمَتُهُ مَنْقُوضًا إِنْ كَانَ لِلْوَقْفِ رِيعٌ يَدْفَعُ مِنْهُ ذَلِكَ، وَهَذَا إِنْ كَانَ الْوَقْفُ لاَ يَحْتَاجُ لِمَا بَنَاهُ وَإِلاَّ فَيُوَفَّى لَهُ مِنَ الْغَلَّةِ قَطْعًا. قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: أَفَادَ ذَلِكَ الشَّيْخُ الْخَرَشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. (2)
وَلَمْ نَجِدْ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَا فِيهِ النَّصُّ عَلَى ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ قَاعِدَةَ الإِْجَارَةِ تَقْتَضِي إِنْهَاءَ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ بِانْتِهَاءِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ. قَال ابْنُ رَجَبٍ: غِرَاسُ الْمُسْتَأْجِرِ وَبِنَاؤُهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إِذَا لَمْ يُقْلِعْهُ الْمَالِكُ، فَلِلْمُؤَجِّرِ تَمَلُّكُهُ بِالْقِيمَةِ وَيُجْبَرُ الْمَالِكُ عَلَى الْقَبُول، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ فَصْلُهُ
__________
(1) الفتاوى المهدية 5 / 61.
(2) فتاوى عليش 2 / 241، وانظر الخرشي 7 / 32.(19/293)
بِدُونِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ مَالِكَ الأَْصْل، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَمَلُّكُهُ قَهْرًا. (1) وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْل مِنْ صَاحِبِ الْفَتَاوَى الْحَامِدِيَّةِ أَنَّ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الْفَرَاغُ مُقَابِل مَالٍ فِي الأَْوْقَافِ (2) .
الْقِسْمُ الثَّانِي:
الْخُلُوُّ فِي أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال:
26 م - الأَْرَاضِي الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَأُبْقِيَتْ بِأَيْدِي أَرْبَابِهَا مِنْ أَهْل الأَْرْضِ بِالْخَرَاجِ هِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِلْكٌ لأَِهْلِهَا يَجْرِي فِيهَا الْبَيْعُ، وَالشِّرَاءُ، وَالرَّهْنُ وَالْهِبَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
أَمَّا أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال وَهِيَ الَّتِي آلَتْ إِلَيْهِ بِمَوْتِ أَرْبَابِهَا، أَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَأَبْقَاهَا الإِْمَامُ لِبَيْتِ الْمَال، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى (أَرْضَ الْحَوْزِ) فَإِذَا دَفَعَهَا الإِْمَامُ إِلَى الرَّعِيَّةِ كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ وَلَيْسَ لَهُمْ بَيْعُهَا، وَلاَ اسْتِبْدَالُهَا إِلاَّ بِإِذْنِ الإِْمَامِ، وَلاَ تَكُونُ مِلْكًا لأَِحَدٍ إِلاَّ بِتَمْلِيكِ السُّلْطَانِ لَهُ. (3) ثُمَّ إِنَّ مَنْ هِيَ تَحْتَ يَدِهِ مِنَ الرَّعَايَا إِنْ تَسَلَّمَهَا بِوَجْهِ حَقٍّ فَهُوَ أَوْلَى بِهَا مِنْ غَيْرِهِ مَا دَامَ يَدْفَعُ أَجْرَ الْمِثْل، فَيَكُونُ لَهُ فِيهَا (مِشَدُّ مَسْكَةٍ) يَتَمَسَّكُ بِهَا مَا دَامَ حَيًّا فِي الْحَرْثِ وَغَيْرِهِ، وَحُكْمُهَا أَنَّهَا لاَ تُقَوَّمُ، وَلاَ تُمَلَّكُ، وَلاَ تُبَاعُ.
__________
(1) انظر القاعدة 77 من قواعد ابن رجب ص147.
(2) انظر القاعدة 77 من قواعد ابن رجب ص147.
(3) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 102، 201.(19/294)
وَكَذَا إِنْ أَجْرَى فِيهَا كِرَابًا أَيْ حَرْثًا، أَوْ كَرَى أَنْهَارَهَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَالاً وَلاَ بِمَعْنَى الْمَال، وَهُوَ مُجَرَّدُ الْفِلاَحَةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ مُتَقَوِّمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ بِمَعْنَى الْوَصْفِ فَلاَ يُبَاعُ وَلاَ يُورَثُ. وَقَال بَعْضُهُمْ: يُبَاعُ حَتَّى يَزُول وُجُودُهُ مِنَ الأَْرْضِ فَتَرْجِعُ إِلَى الأَْوَّل. أَمَّا إِنْ كَانَ لَهُ كِرْدَارٌ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ أَشْجَارٍ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُورَثُ دُونَ الأَْرْضِ، وَلَمْ يُسَمُّوهُ خُلُوًّا. وَإِنْ كَانَ الْمَالِكِيَّةُ سَمَّوْهُ خُلُوًّا أَوْ أَلْحَقُوهُ بِالْخُلُوِّ كَمَا يَأْتِي، عَلَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مِشَدُّ مَسْكَةٍ - وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الأَْرْضِ كِرْدَارٌ - فَلِصَاحِبِهَا تَفْوِيضُهَا لِغَيْرِهِ وَتَكُونُ فِي يَدِ الْمُفَوَّضِ إِلَيْهِ عَارِيَّةً وَالأَْوَّل أَحَقُّ بِهَا، وَلَهُ إِجَارَتُهَا، وَلَهُ أَيْضًا الْفَرَاغُ عَنْهَا لِغَيْرِهِ بِمَالٍ، جَاءَ فِي الْوَلْوَالِجِيَّة: عِمَارَةٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ بِيعَتْ فَإِنْ بِنَاءً أَوْ أَشْجَارًا جَازَ، وَإِنْ كِرَابًا أَوْ كَرْيَ أَنْهَارٍ لَمْ يَجُزْ، قَالُوا: وَمُفَادُهُ أَنَّ بَيْعَ الْمَسْكَةِ لاَ يَجُوزُ، وَكَذَا رَهْنُهَا، وَلِذَا جَعَلُوهُ الآْنَ (فَرَاغًا) أَيْ كَالنُّزُول عَنِ الْوَظَائِفِ بِمَالٍ. فَإِذَا فَرَغَ عَنْهَا لأَِحَدٍ لَمْ يَنْتَقِل الْحَقُّ فِيهَا إِلاَّ إِذَا اقْتَرَنَ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ. (1) عَلَى أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ مَالاً مُقَابِل الْفَرَاغِ ثُمَّ لَمْ يَأْذَنِ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ بِنَقْلِهَا يَكُونُ لِدَافِعِ الْمَال حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ. (2)
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَإِنَّ الأَْرْضَ الصَّالِحَةَ لِلزَّرْعِ، وَأَرْضَ الدُّورِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً فِي الشَّامِ
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 129، 198، 199، 201.
(2) ابن عابدين 4 / 15.(19/294)
وَمِصْرَ، وَالْعِرَاقِ، هِيَ وَقْفٌ وُقِفَتْ بِمُجَرَّدِ فَتْحِهَا عَنْوَةً، وَيَقْطَعُهَا الإِْمَامُ أَوْ يُكْرِيهَا لِمَنْ شَاءَ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، وَيَنْتَهِي إِقْطَاعُهَا بِمَوْتِ الْمُقْطِعِ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى وَقْفِيَّتِهَا، فَلاَ تُبَاعُ، وَلاَ تُرْهَنُ وَلاَ تُورَثُ.
لَكِنْ قَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: قَدْ أَفْتَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهُ يُورَثُ، فَإِنَّهُمْ أَلْحَقُوهُ بِالْخُلُوَّاتِ وَالْخَرَاجِ كَالْكِرَاءِ. قَال: وَإِنَّمَا يُلْحَقُ بِهَا إِنْ حَصَل مِنْ وَاضِعِ الْيَدِ عَلَى الأَْرْضِ أَثَرٌ فِيهَا كَإِصْلاَحٍ: بِإِزَالَةِ شَوْكِهَا، أَوْ حَرْثِهَا، أَوْ نَصْبِ جِسْرٍ عَلَيْهَا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُلْحَقُ بِالْبِنَاءِ فِي الأَْوْقَافِ، فَيَكُونُ الأَْثَرُ الَّذِي عَمِلَهُ فِي الأَْرْضِ خُلُوًّا يَنْتَفِعُ بِهِ وَيُمْلَكُ. فَكَأَنَّ الَّذِينَ أَفْتَوْا بِذَلِكَ نَظَرُوا إِلَى أَنَّهُ لاَ يَسْلَمُ الأَْمْرُ مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، أَوْ مِنْ دَفْعِ مَغَارِمَ لِلْمُلْتَزِمِ (وَهُوَ الَّذِي يَتَقَبَّل الأَْرَاضِيَ مِنَ السُّلْطَانِ مُقَابِل مَالٍ يَدْفَعُهُ لَهُ، وَيَأْخُذُ الْمُلْتَزِمُ الْمَال مِنَ الْفَلاَّحِينَ لِتَمْكِينِهِمْ مِنَ الأَْرْضِ) قَال: فَالَّذِي يَنْبَغِي فِي هَذِهِ الأَْزْمَانِ الإِْفْتَاءُ بِالإِْرْثِ؛ وَلأَِنَّهُ أَدْفَعُ لِلنِّزَاعِ وَالْفِتَنِ بَيْنَ الْفَلاَّحِينَ، وَلِلْمُلْتَزِمِ الْخَرَاجُ عَلَى الأَْرْضِ لاَ أَكْثَرَ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ عَزْل الْفَلاَحِ عَنْ أَثَرٍ لَهُ فِي الأَْرْضِ. (1)
__________
(1) فتاوى الشيخ عليش 2 / 245، 246، 247.(19/295)
الْقَوْل الثَّانِي: ذَهَبَ الدَّرْدِيرُ إِلَى أَنَّ الْفَتْوَى السَّابِقَ بَيَانُهَا. مَكْذُوبَةٌ عَلَى مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ. (1)
قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: مُرَاعَاةُ مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ تَقْتَضِي عَدَمَ التَّوْرِيثِ فِيمَا فُتِحَ عَنْوَةً بَل يَفْعَل السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَلاَ تُورَثُ، بَل الْحَقُّ لِمَنْ يُقَرِّرُهُ فِيهَا نَائِبُ السُّلْطَانِ لأَِنَّهَا مُكْتَرَاةٌ، وَالْخَرَاجُ كِرَاؤُهَا وَلاَ حَقَّ لِلْمُكْتَرِي فِي مِثْل هَذَا (2) ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا تَنَازَل مَنْ هِيَ بِيَدِهِ لِغَيْرِهِ مُقَابِل عِوَضٍ مَالِيٍّ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْخَرَاجُ عَلَى الْمُسْقَطِ لَهُ، فَقَدْ أَفْتَى الشَّيْخُ عُلَيْشٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا. (3)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الأَْرْضُ الْمَذْكُورَةُ قُسِمَتْ عَلَى الْغَانِمِينَ ثُمَّ طَلَبَهَا عُمَرُ مِنْهُمْ فَبَذَلُوهَا فَوَقَفَهَا عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَآجَرَهَا لأَِهْلِهَا إِجَارَةً مُؤَبَّدَةً بِالْخَرَاجِ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ لِكَوْنِهَا وَقْفًا بَيْعُهَا وَرَهْنُهَا وَهِبَتُهَا، وَلَهُمْ إِجَارَتُهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً لاَ مُؤَبَّدَةً. (4) وَهَذَا حُكْمُ الأَْرْضِ نَفْسِهَا، أَمَّا الْبِنَاءُ وَالأَْشْجَارُ الَّتِي يُحْدِثُهَا فِي الأَْرْضِ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ مِنَ الرَّعَايَا فَهُوَ مِلْكٌ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يَقِفَهُ كَمَا هُوَ
__________
(1) فتاوى الشيخ عليش 2 / 247، والشرح الكبير معه حاشية الدسوقي 2 / 189، وفيه أنها منسوبة إلى الشيخ الخرشي والشيخ عبد الباقي والشيخ يحيى الشادي.
(2) فتاوى عليش 2 / 246.
(3) فتاوى عليش 2 / 248.
(4) شرح المنهج وحاشية الجمل 5 / 203 في كتاب الجهاد فصل في حكم الأسر.(19/295)
الأَْصَحُّ فِيمَا يَبْنِيهِ فِي الأَْرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَيُرْهَنُ وَيُبَاعُ. (1)
أَمَّا النُّزُول عَنِ الأَْرْضِ الْمَذْكُورَةِ مِمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ إِلَى غَيْرِهِ مُقَابِل عِوَضٍ مَالِيٍّ فَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَعَرُّضًا لَهُ.
وَلَكِنَّهُمْ فِي الْمُتَحَجِّرِ قَالُوا إِنَّ الأَْصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بَيْعُهُ لِمَا تَحَجَّرَهُ لأَِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَالْقَوْل الثَّانِي يَصِحُّ، وَكَأَنَّهُ يَبِيعُ حَقَّ الاِخْتِصَاصِ. قَال الْمَحَلِّيُّ: كَذَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلُهَا، وَفِي الْمُحَرَّرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ هَذَا الْحَقَّ. (2)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَمَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يُسَمُّوا مِثْل هَذَا الْحَقِّ خُلُوًّا فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ مَنَافِعَ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ يَجُوزُ نَقْلُهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَمَنْ نَزَل عَنْ أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ بِيَدِهِ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْمَتْرُوكَ لَهُ أَحَقُّ بِهَا، فَيَجُوزُ نَقْلُهَا بِلاَ عِوَضٍ، وَأَجَازَ أَحْمَدُ دَفْعَهَا عِوَضًا عَمَّا تَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجَةُ مِنَ الْمَهْرِ، وَأَمَّا الْبَيْعُ فَقَدْ كَرِهَهُ أَحْمَدُ وَنَهَى عَنْهُ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي بَيْعِ الْعِمَارَةِ الَّتِي فِيهَا لِئَلاَّ تُتَّخَذَ طَرِيقًا إِلَى بَيْعِ رَقَبَةِ الأَْرْضِ الَّتِي لاَ تُمْلَكُ، بَل هِيَ إِمَّا وَقْفٌ، وَإِمَّا فَيْءٌ.
وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَلَى أَنَّهُ يَبِيعُ آلاَتِ عِمَارَتِهِ بِمَا تُسَاوِي أَيْ بِثَمَنِ الْمِثْل، وَكَرِهَ أَنْ يَبِيعَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَنَقَل عَنْهُ ابْنُ هَانِئٍ: يُقَوَّمُ دُكَّانُهُ وَمَا فِيهِ وَكُل شَيْءٍ يُحْدِثُهُ فِيهِ
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 99 في باب الوقف.
(2) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 3 / 91.(19/296)
فَيُعْطَى ذَلِكَ، وَلاَ أَرَى أَنْ يَبِيعَ سُكْنَى دَارٍ وَلاَ دُكَّانٍ. (1) وَبَيَّنَ ابْنُ رَجَبٍ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَحْمَدَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ إِلَى بَيْعِ الأَْرْضِ نَفْسِهَا بِدَعْوَى بَيْعِ مَا فِيهَا مِنَ الْعِمَارَةِ. قَال: وَالأَْظْهَرُ أَنَّ أَحْمَدَ إِنَّمَا أَرَادَ النَّهْيَ عَنْ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنْ رَقَبَةِ الأَْرْضِ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ، وَبِهَذَا قَال: هَذَا خِدَاعٌ. وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ آلاَتِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا. وَنُقِل عَنِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ تَجْوِيزُ بَيْعِهَا فَتَنْتَقِل بِخَرَاجِهَا بِخِلاَفِ بَيْعِ الْوَقْفِ عَلَى مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ يُبْطِل حَقَّ الْبَطْنِ الثَّانِي. ا. هـ (2)
وَقَال فِي الإِْقْنَاعِ وَشَرْحِهِ: إِنْ آثَرَ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ بِهَا أَحَدًا بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ صَارَ الثَّانِي أَحَقَّ بِهَا. وَمَعْنَى الْبَيْعِ هُنَا بَذْلُهَا بِمَا عَلَيْهَا مِنْ خَرَاجٍ إِنْ مَنَعْنَا بَيْعَهَا الْحَقِيقِيَّ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ، لأَِنَّ عُمَرَ وَقَفَهَا وَالْوَقْفُ لاَ يُبَاعُ. (3)
كَيْفِيَّةُ تَوَارُثِ الْخُلُوِّ فِي أَرَاضِي بَيْتِ الْمَال:
27 - إِذَا مَاتَ مَنْ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنَ الأَْرَاضِي
__________
(1) مطالب أولي النهى 4 / 191 وقواعد ابن رجب القاعدة 87 ص200 وكشاف القناع باب الأرضين المغنومة 3 / 99، وانظر، الاستخراج لأحكام الخراج لابن رجب ص76، وما بعدها فقد أطال في ذلك وذكر عن أحمد روايات ونقل فتيا للشيخ ابن تيمية وذكر تأويلات مختلفة لما رُوي عن أحمد بهذا الصدد.
(2) الاستخراج لأحكام الخراج لابن رجب ص77، 78، والقواعد لابن رجب أيضًا القاعدة 87 ص199، 200.
(3) كشاف القناع 3 / 99.(19/296)
الأَْمِيرِيَّةِ فَإِنَّهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ تُورَثُ عَنْهُ لأَِنَّ رَقَبَتَهَا لِبَيْتِ الْمَال فَتَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَلاَ يَسْتَحِقُّ انْتِقَالُهَا إِلَى وَرَثَتِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ إِلاَّ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ. وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا عَلَيْهَا مِنْ غِرَاسٍ أَوْ بِنَاءٍ فَإِنَّهُ يُورَثُ طِبْقًا لِلْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ. (1) أَمَّا مِشَدُّ الْمَسْكَةِ نَفْسُهُ فَإِنَّهُ لاَ يُورَثُ أَصْلاً لأَِنَّهُ حَقٌّ مُجَرَّدٌ. لَكِنْ جَرَتْ فَتْوَى مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَنْتَقِل إِلَى الأَْبْنَاءِ الذُّكُورِ انْتِقَالاً لاَ عَلَى سَبِيل الْمِيرَاثِ، بَل بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَكُونُونَ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَيَنْتَقِل مَجَّانًا. وَجَرَى الرَّسْمُ عَلَى ذَلِكَ فِي الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ. (2)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالأَْرَاضِي الأَْمِيرِيَّةُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلاَفِ عِنْدَهُمْ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الْخُلُوِّ فِيهَا، وَأَنَّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ قَال: إِنَّهَا لاَ تُورَثُ وَذَلِكَ مُقْتَضَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ بِأَنَّهَا وَقْفٌ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ أَحَقُّ بِتَوْجِيهِهَا مِمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ، وَمِنْ وَرَثَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: بِأَنَّهَا تُورَثُ، وَأَنَّ الإِْرْثَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ لِرَقَبَتِهَا بَل لِمَنْفَعَتِهَا مَا دَامَ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهَا مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي هُوَ كَالأُْجْرَةِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَئُول إِلَيْهِ الأَْرْضُ إِذَا مَاتَ مَنْ هِيَ تَحْتَ يَدِهِ، فَالَّذِينَ قَالُوا بِعَدَمِ التَّوْرِيثِ
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 205.
(2) وجاءت الأوامر السلطانية في أواخر الدولة العثمانية فأعطت للنساء حق وضع اليد بتفصيلات يرجع إليها في هذه الأوامر، ويجب طاعتها ما لم تخالف الشرع على أن هذه الأوامر (الآن) أصبحت غير ذات موضوع (اللجنة) .(19/297)
قَالُوا: السُّلْطَانُ أَحَقُّ بِتَوْجِيهِهَا إِلَى مَنْ شَاءَ، لَكِنْ إِنْ كَانَتِ الْعَادَةُ قَدْ جَرَتْ بِنَقْلِهَا إِلَى وَرَثَتِهِ جَمِيعًا، أَوْ لأَِوْلاَدِهِ الذُّكُورِ دُونَ الإِْنَاثِ يَعْمَل بِذَلِكَ، قَال الدَّرْدِيرُ: وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ فِي بَعْضِ قُرَى الصَّعِيدِ أَنْ يَخْتَصَّ الذُّكُورُ بِالأَْرْضِ دُونَ الإِْنَاثِ، فَيَجِبُ إِجْرَاؤُهُمْ عَلَى عَادَتِهِمْ عَلَى مَا يَظْهَرُ لأَِنَّ هَذِهِ الْعَادَةَ وَالْعُرْفَ صَارَتْ كَالإِْذْنِ مِنَ السُّلْطَانِ فِي ذَلِكَ. (1)
أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ مَنْفَعَةَ الْخُلُوِّ فِيهَا تُورَثُ قَالُوا: إِنَّهَا تُورَثُ طِبْقًا لِمَا تُوجِبُهُ أَحْكَامُ التَّوْرِيثِ فَهِيَ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنَ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ وَالأَْبَوَيْنِ وَالْعَصَبَاتِ وَالأَْوْلاَدِ الذُّكُورُ مِنْهُمْ وَالإِْنَاثُ طِبْقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: الْحَقُّ فِيهَا يُورَثُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ وَجْهَ لِتَخْصِيصِ الذُّكُورِ لأَِنَّهَا خَصْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ لاَ تَحِل فِي الإِْسْلاَمِ وَإِنِ اسْتَظْهَرَ ذَلِكَ الدَّرْدِيرُ. (2) وَقَال أَيْضًا: تَوْرِيثُ الذُّكُورِ دُونَ الإِْنَاثِ عُرْفٌ فَاسِدٌ لاَ يَجُوزُ الْعَمَل بِهِ. (3) وَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ قَال الدَّرْدِيرُ: مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ أَنَّ لِلسُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ أَنْ يَمْنَعَ الْوَرَثَةَ مِنْ وَضْعِ يَدِهِمْ عَلَيْهَا وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِمَنْ شَاءَ. ثُمَّ قَال: وَقَدْ يَظْهَرُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ فَتْحِ بَابٍ يُؤَدِّي إِلَى الْهَرَجِ وَالْفَسَادِ، وَأَنَّ لِمُوَرِّثِهِمْ نَوْعَ اسْتِحْقَاقٍ، وَأَيْضًا
__________
(1) الشرح الكبير على مختصر خليل 2 / 189.
(2) فتاوى عليش 2 / 246.
(3) فتاوى عليش 2 / 268.(19/297)
الْعَادَةُ تُنَزَّل مَنْزِلَةَ حُكْمِ السَّلاَطِينِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَنَّ كُل مَنْ بِيَدِهِ شَيْءٌ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ أَوْ لأَِوْلاَدِهِ الذُّكُورِ دُونَ الإِْنَاثِ رِعَايَةً لِحَقِّ الْمَصْلَحَةِ. نَعَمْ إِذَا مَاتَ شَخْصٌ وَتَحْتَ يَدِهِ أَرْضٌ يُؤَدِّي خَرَاجَهَا عَنْ غَيْرِ وَارِثٍ فَالأَْمْرُ لِلسُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ، أَيْ يُقَرِّرُ فِي الأَْرْضِ مَنْ يَشَاءُ، وَلاَ تُورَثُ عَنِ الْمَيِّتِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: نَعَمْ وَارِثُهُ أَوْلَى وَأَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ. (1) وَلَمْ يَتَّضِحْ لَنَا قَوْل الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ. أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَالْوَرَثَةُ أَحَقُّ بِالتَّمَسُّكِ بِالأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ فَتَنْتَقِل إِلَيْهِمْ بِوَفَاةِ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ، وَلَيْسَ لِلإِْمَامِ نَزْعُهَا مِنْهُمْ مَا دَامُوا يُؤَدُّونَ الْخَرَاجَ.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: مَنْ بِيَدِهِ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا وَتَرِثُهَا وَرَثَتُهُ كَذَلِكَ فَيَمْلِكُونَ مَنَافِعَهَا بِالْخَرَاجِ الَّذِي يَبْذُلُونَهُ. (2) وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ تَوَارُثَ هَذَا الْحَقِّ يُسْتَحَقُّ طِبْقًا لأَِنْصِبَةِ الْمِيرَاثِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ الْمَوْرُوثُ مَالاً.
وَقْفُ مَا يُنْشِئُهُ فِي أَرْضِ بَيْتِ الْمَال:
28 - نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْخَصَّافِ أَنَّهُ قَال: إِنَّ وَقْفَ حَوَانِيتِ الأَْسْوَاقِ يَجُوزُ إِنْ كَانَتِ الأَْرْضُ
__________
(1) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي 2 / 189.
(2) مطالب أولي النهى 4 / 192، والقواعد لابن رجب القاعدة (87) ، ص 200، وكشاف القناع باب الأرضين المغنومة 3 / 99.(19/298)
بِأَيْدِي الَّذِينَ بَنَوْهَا بِإِجَارَةٍ لاَ يُخْرِجُهُمُ السُّلْطَانُ عَنْهَا مِنْ قِبَل أَنَّا رَأَيْنَاهَا فِي أَيْدِي أَصْحَابِ الْبِنَاءِ تَوَارَثُوهَا وَتُقْسَمُ بَيْنَهُمْ لاَ يَتَعَرَّضُ لَهُمُ السُّلْطَانُ فِيهَا وَلاَ يُزْعِجُهُمْ مِنْهَا، وَإِنَّمَا لَهُ غَلَّةٌ يَأْخُذُهَا مِنْهُمْ وَتَدَاوَلَهَا خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ، وَمَضَى عَلَيْهَا الدُّهُورُ وَهِيَ فِي أَيْدِيهمْ يَتَبَايَعُونَهَا، وَيُؤَجِّرُونَهَا، وَتَجُوزُ فِي وَصَايَاهُمْ، وَيَهْدِمُونَ بِنَاءَهَا، وَيُعِيدُونَهُ، وَيَبْنُونَ غَيْرَهُ، فَكَذَلِكَ الْوَقْفُ جَائِزٌ. ا. هـ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَأَقَرَّهُ فِي الْفَتْحِ وَوَجْهُهُ بَقَاءُ التَّأْبِيدِ. (1)
وَإِنْ كَانَ مَا جَعَلَهُ فِي الأَْرْضِ غِرَاسًا فَالْحُكْمُ فِي وَقْفِهَا حُكْمُ الْبِنَاءِ. أَمَّا إِنْ كَانَ مَا عَمِلَهُ فِي الأَْرْضِ مُجَرَّدَ كَبْسٍ بِالتُّرَابِ أَوِ السَّمَادِ فَلاَ يَصِحُّ وَقْفُهُ. (2)
وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى كَلاَمٍ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
الْخُلُوُّ فِي الأَْمْلاَكِ الْخَاصَّةِ:
29 - فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْمِلْكِ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الْقَرَارِ فَأَثْبَتُوهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي عَقَارَاتِ الأَْوْقَافِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَنَفَوْهُ فِي الأَْمْلاَكِ الْخَاصَّةِ الْمُؤَجَّرَةِ، وَبَيَّنُوا أَنَّ الْفَرْقَ فِي ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْمَالِكَ أَحَقُّ بِمِلْكِهِ إِذَا انْتَهَى عَقْدُ الإِْجَارَةِ، ثُمَّ هُوَ قَدْ يَرْغَبُ فِي تَجْدِيدِ إِيجَارِهِ لِلْمُسْتَأْجِرِ الأَْوَّل
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار 3 / 391.
(2) رد المحتار 3 / 391.(19/298)
بِنَفْسِ الأَْجْرِ، أَوْ أَقَل، أَوْ أَكْثَرَ، وَقَدْ لاَ يَرْغَبُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ يُرِيدُ أَنْ يَسْكُنَهُ بِنَفْسِهِ، أَوْ يَبِيعَهُ، أَوْ يُعَطِّلَهُ، بِخِلاَفِ الْمَوْقُوفِ الْمُعَدِّ لِلإِْيجَارِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلنَّاظِرِ إِلاَّ أَنْ يُؤَجِّرَهُ، فَإِيجَارُهُ مِنْ ذِي الْيَدِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ أَوْلَى مِنْ إِيجَارِهِ لأَِجْنَبِيٍّ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّظَرِ لِلْوَقْفِ وَلِذِي الْيَدِ. وَلِمَالِكِ الْحَانُوتِ أَنْ يُكَلِّفَ الْمُسْتَأْجِرَ رَفْعَ جَدَكَةٍ وَإِفْرَاغَ الْمَحَل لِمَالِكِهِ. (1) وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لاَ يَثْبُتَ حَقُّ الْقَرَارِ فِي الأَْمْلاَكِ الْخَاصَّةِ حَتَّى عِنْدَ مَنْ سَمَّاهُ فِي عَقَارَاتِ الْوَقْفِ خُلُوًّا؛ وَلأَِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ إِخْرَاجِ صَاحِبِ الْحَانُوتِ لِصَاحِبِ الْخُلُوِّ حَجْرُ الْحُرِّ الْمُكَلَّفِ عَنْ مِلْكِهِ وَإِتْلاَفُ مَالِهِ. (2) وَهِيَ مَسْأَلَةٌ إِجْمَاعِيَّةٌ كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الْخَيْرِيَّةِ وَكَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَحْكَامِ الإِْجَارَةِ (3) فَإِنْ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الإِْجَارَةِ فِي الأَْرْضِ بِنَاءٌ أَوْ أَشْجَارٌ، أَوْ فِي الْحَانُوتِ بِنَاءٌ، يَلْزَمُهُ رَفْعُهُ عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي أَحْكَامِ الإِْجَارَةِ.
أَمَّا إِنْشَاءُ الْخُلُوِّ قَصْدًا بِتَعَاقُدٍ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمَالِكِ مُقَابِل دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ لِيُمَكِّنَهُ مِنْ وَضْعِ بِنَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ فِي الأَْرْضِ أَوِ الْحَانُوتِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخُلُوُّ، فَقَدْ أَفْتَى بِصِحَّتِهِ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: مِمَّنْ أَفْتَى
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 200.
(2) الدر المختار 4 / 16.
(3) الفتاوى الخيرية 1 / 173، والموسوعة الفقهية (الإجارة ف90، 92) .(19/299)
بِلُزُومِ الْخُلُوِّ بِمُقَابَلَةِ دَرَاهِمَ يَدْفَعُهَا إِلَى الْمَالِكِ الْعَلاَّمَةُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْعِمَادِيُّ وَقَال: فَلاَ يَمْلِكُ صَاحِبُ الْحَانُوتِ إِخْرَاجَهُ مِنْهَا وَلاَ إِجَارَتَهَا لِغَيْرِهِ فَيُفْتَى بِجَوَازِ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ. (1)
وَسُئِل الْمَهْدِيُّ الْعَبَّاسِيُّ فِي رَجُلٍ لَهُ حَانُوتٌ مُتَخَرِّبٌ اسْتَأْجَرَهُ مِنْهُ رَجُلٌ سَنَةً، وَأَذِنَ لَهُ بِالْبِنَاءِ وَالْعِمَارَةِ فِيهِ لِيَكُونَ مَا عَمَّرَهُ وَبَنَاهُ وَأَنْشَأَهُ خُلُوًّا لَهُ وَمِلْكًا مُسْتَحَقَّ الْبَقَاءِ وَالْقَرَارِ، وَجَعَل عَلَيْهِ أُجْرَةً لِلأَْرْضِ مِقْدَارًا مَعْلُومًا مِنَ الدَّرَاهِمِ مُسَانَهَةً (سَنَوِيًّا) فَهَل إِذَا بَنَى وَعَمَّرَ وَأَنْشَأَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ ذَلِكَ مِلْكًا لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَإِذَا مَاتَ الآْذِنُ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ أُجْرَةُ الأَْرْضِ فَقَطْ؟ فَأَجَابَ: مَا بَنَاهُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ مَالِهِ لِنَفْسِهِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فِي حَيَاتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مَمْلُوكٌ لِبَانِيهِ يُورَثُ عَنْهُ إِذَا مَاتَ، وَعَلَيْهِ الأُْجْرَةُ الْمُقَرَّرَةُ عَلَى الأَْرْضِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (2)
ثُمَّ قَرَّرَ أَنَّ الْخُلُوَّ فِي هَذِهِ الْحَال يَجُوزُ بَيْعُهُ لأَِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَعْيَانٍ مَمْلُوكَةٍ لِصَاحِبِهَا مُسْتَحَقٌّ قَرَارُهَا فِي الْمَحَل. (3)
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَقَدْ قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: الْخُلُوُّ رُبَّمَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْجَدَكُ الْمُتَعَارَفُ فِي حَوَانِيتِ مِصْرَ، فَإِنَّ الْخُلُوَّ إِذَا صَحَّ فِي الْوَقْفِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 17.
(2) الفتاوى المهدية 5 / 26، ومثله في 5 / 43 وفي 5 / 44.
(3) الفتاوى المهدية 5 / 23، 49، 61.(19/299)
فَفِي الْمِلْكِ أَوْلَى لأَِنَّ الْمَالِكَ يَفْعَل فِي مِلْكِهِ مَا يَشَاءُ. لَكِنَّ بَعْضَ الْجَدَكَاتِ بِنَاءٌ، أَوْ إِصْلاَحُ أَخْشَابٍ فِي الْحَانُوتِ مَثَلاً بِإِذْنٍ، وَهَذَا قِيَاسُهُ عَلَى الْخُلُوِّ ظَاهِرٌ خُصُوصًا وَقَدِ اسْتَنَدُوا فِي تَأْبِيدِ الْحَكْرِ لِلْعُرْفِ، وَالْعُرْفُ حَاصِلٌ فِي الْجَدَكِ. وَالْبَعْضُ الآْخَرُ مِنَ الْجَدَكَاتِ وَضْعُ أَشْيَاءَ مُسْتَقِلَّةٍ فِي الْمَحَل (أَيْ مُنْفَصِلَةٍ) غَيْرِ مُسَمَّرَةٍ فِيهِ كَمَا يَقَعُ فِي الْحَمَّامَاتِ، وَحَوَانِيتِ الْقَهْوَةِ بِمِصْرَ، فَهَذِهِ بَعِيدَةٌ عَنِ الْخُلُوَّاتِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ لِلْمَالِكِ إِخْرَاجَهَا. ا. هـ.
وَظَاهِرٌ أَنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: " إِنَّ الْخُلُوَّ إِذَا صَحَّ فِي الْوَقْفِ فَفِي الْمِلْكِ أَوْلَى "، أَنْ يَتَعَاقَدَ الْمَالِكُ وَمُسْتَأْجِرُ الْحَانُوتِ عَلَى إِنْشَاءِ الْخُلُوِّ وَتَأْبِيدِهِ لاَ إِنْ حَصَل ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الإِْذْنِ وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ (لأَِنَّ الْمَالِكَ يَفْعَل فِي مِلْكِهِ مَا يَشَاءُ) . (1)
وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ أَجَازُوا بَيْعَ الْمَنْفَعَةِ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا خَرَّجَهُ الْبُهُوتِيُّ إِنْشَاءُ الْخُلُوِّ بِمَالٍ يُدْفَعُ إِلَى نَاظِرِ الْوَقْفِ بِشُرُوطِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. (2)
أَخْذُ الْمُسْتَأْجِرِ بَدَل الْخُلُوِّ مِنْ مُسْتَأْجِرٍ لاَحِقٍ:
30 - يَدُورُ حُكْمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ الأَْوَّل إِنْ كَانَ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ بِإِجَارَةٍ صَحِيحَةٍ مَعَ الْمَالِكِ، أَوْ نَاظِرِ الْوَقْفِ،
__________
(1) فتاوى الشيخ عليش 2 / 252.
(2) مطالب أولي النهى 4 / 370.(19/300)
فَتَخَلَّى عَنِ الْحَانُوتِ أَثْنَاءَ الْمُدَّةِ لِمُسْتَأْجِرٍ آخَرَ يَحِل مَحَلَّهُ وَأَخَذَ عَلَى ذَلِكَ عِوَضًا مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي يَحِل مَحَلَّهُ جَازَ ذَلِكَ، وَمِنْ شَرْطِ ذَلِكَ فِي حَوَانِيتِ الْوَقْفِ أَنْ تَكُونَ الإِْجَارَةُ بِأَجْرِ الْمِثْل، قَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ فِي فَتَاوِيهِ: إِنَّ حَوَانِيتَ الأَْوْقَافِ بِمِصْرَ جَرَتْ عَادَةُ سُكَّانِهَا أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمُ الْخُرُوجَ مِنَ الدُّكَّانِ أَخَذَ مِنَ الآْخَرِ مَالاً عَلَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِالسُّكْنَى فِيهِ، وَيُسَمُّونَهُ خُلُوًّا وَجَدَكًا، وَيَتَدَاوَلُونَ ذَلِكَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ يَعُودُ عَلَى تِلْكَ الأَْوْقَافِ نَفْعٌ أَصْلاً غَيْرَ أُجْرَةِ الْحَانُوتِ، بَل الْغَالِبُ أَنَّ أُجْرَةَ الْحَانُوتِ أَقَل مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل بِسَبَبِ مَا دَفَعَهُ الآْخِذُ مِنْ مَالٍ. ثُمَّ قَال: وَالَّذِي يَدُورُ عَلَيْهِ الْجَوَابُ فِي ذَلِكَ أَنَّ السَّاكِنَ الَّذِي أَخَذَ الْخُلُوَّ إِنْ كَانَ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ الْحَانُوتِ مُدَّةً فَأَسْكَنَهَا غَيْرَهُ وَأَخَذَ عَلَى ذَلِكَ مَالاً فَإِنْ كَانَ الآْخِذُ بِيَدِهِ إِجَارَةٌ صَحِيحَةٌ مِنَ النَّاظِرِ أَوِ الْوَكِيل بِشُرُوطِهَا بِأُجْرَةِ الْمِثْل فَهُوَ سَائِغٌ لَهُ الأَْخْذُ عَلَى تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا، وَلاَ ضَرَرَ عَلَى الْوَقْفِ لِصُدُورِ الأُْجْرَةِ مُوَافَقَةً لأُِجْرَةِ الْمِثْل. وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْمَنْفَعَةِ بِإِجَارَةٍ صَحِيحَةٍ فَلاَ عِبْرَةَ بِخُلُوِّهِ وَيُؤَجِّرُهُ النَّاظِرُ لِمَنْ يَشَاءُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل. وَيَرْجِعُ دَافِعُ الدَّرَاهِمِ عَلَى مَنْ دَفَعَهَا لَهُ. ا. هـ (1)
وَأَمَّا بَعْدَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ عَقْدِ الإِْجَارَةِ فَالْمَالِكُ
__________
(1) فتاوى الشيخ عليش 2 / 250.(19/300)
أَحَقُّ بِمِلْكِهِ كَمَا تَقَدَّمَ (ف 29) مَا لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَأْجِرُ قَدِ اتَّفَقَ مَعَهُ عَلَى إِنْشَاءِ الْخُلُوِّ بِمَالٍ دَفَعَهُ إِلَيْهِ فَلَهُ بَيْعُ الْخُلُوِّ إِلَى مُسْتَأْجِرٍ يَأْتِي بَعْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّل هَذَا الْبَحْثِ؛ لأَِنَّ الْخُلُوَّ الصَّحِيحَ يَجُوزُ بَيْعُهُ إِنْ تَمَّتْ شُرُوطُهُ عِنْدَ مَنْ أَخَذَ بِذَلِكَ.
خُلُوُّ عَقْدِ النِّكَاحِ عَنِ الْمَهْرِ:
31 - إِذَا عُقِدَ النِّكَاحُ بِلاَ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ فَإِنَّهُ يُسَمَّى (التَّفْوِيضَ فِي النِّكَاحِ) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَفْوِيضٌ) .(19/301)
خَلِيطٌ
انْظُرْ: خُلْطَةٌ
خَلِيطَانِ
انْظُرْ: خُلْطَةٌ:(19/301)
خِمَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخِمَارُ مِنَ الْخَمْرِ، وَأَصْلُهُ السَّتْرُ، يُقَال: خَمَرَ الشَّيْءَ يَخْمُرُهُ خَمْرًا، وَأَخْمَرَهُ أَيْ سَتَرَهُ، وَكُل مُغَطًّى مُخَمَّرٌ يُقَال: خَمَّرْتُ الإِْنَاءَ أَيْ غَطَّيْتُهُ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: خَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ (1)
وَفِي رِوَايَةٍ: خَمِّرُوا الآْنِيَةَ وَأَوْكِئُوا الأَْسْقِيَةَ (2) وَكُل مَا يَسْتُرُ شَيْئًا فَهُوَ خِمَارُهُ. لَكِنَّ الْخِمَارَ غَلَبَ فِي التَّعَارُفِ اسْمًا لِمَا تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا، يُقَال: اخْتَمَرَتِ الْمَرْأَةُ وَتَخَمَّرَتْ: أَيْ لَبِسَتِ الْخِمَارَ، وَجَمْعُ الْخِمَارِ خُمُرٌ، (3) قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} . (4)
__________
(1) حديث: " خمروا آنيتكم ". أخرجه البخاري، (الفتح 10 / 88 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1595 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) حديث: " خمروا الآنية وأوكوا الأسقية ". أخرجه البخاري، (الفتح 6 / 355 - ط السلفية) من حديث جابر.
(3) المصباح المنير، والقاموس المحيط، ولسان العرب، والمفردات في غريب القرآن (مادة خمر) ، والكليات 2 / 278.
(4) سورة النور / 31.(20/5)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْخِمَارِ فِي الْجُمْلَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ السَّابِقِ، لأَِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ: مَا يَسْتُرُ الرَّأْسَ وَالصُّدْغَيْنِ أَوِ الْعُنُقَ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحِجَابُ:
2 - الْحِجَابُ: السِّتْرُ، يُقَال: حَجَبَ الشَّيْءَ يَحْجُبُهُ حَجْبًا وَحِجَابًا، وَحَجَبَهُ: سَتَرَهُ، وَامْرَأَةٌ مَحْجُوبَةٌ: قَدْ سُتِرَتْ بِسِتْرٍ، وَحِجَابُ الْجَوْفِ: مَا يَحْجِبُ بَيْنَ الْفُؤَادِ وَسَائِرِهِ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: هِيَ جِلْدَةٌ بَيْنَ الْفُؤَادِ وَسَائِرِ الْبَطْنِ.
وَالأَْصْل فِي الْحِجَابِ أَنَّهُ جِسْمٌ حَائِلٌ بَيْنَ جَسَدَيْنِ، وَاسْتُعْمِل فِي الْمَعَانِي فَقِيل: الْعَجْزُ حِجَابٌ وَالْمَعْصِيَةُ حِجَابٌ. (2)
فَالْحِجَابُ أَعَمُّ مِنَ الْخِمَارِ.
ب - الْقِنَاعُ:
3 - الْقِنَاعُ مَا تَتَقَنَّعُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ ثَوْبٍ تُغَطِّي رَأْسَهَا وَمَحَاسِنَهَا. وَنَحْوُهُ الْمِقْنَعَةُ وَهِيَ مَا تُقَنِّعُ بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا. قَال صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الْقِنَاعُ أَوْسَعُ مِنْهَا.
__________
(1) حاشية الصعيدي على كفاية الطالب الرباني 1 / 137، المجموع 1 / 171.
(2) المصباح المنير، الكليات، لسان العرب مادة: " حجب "، والتعريفات 111.(20/5)
وَيُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْقِنَاعَ عَلَى الثَّوْبِ يُلْقِيهِ الرَّجُل عَلَى كَتِفِهِ، وَيُغَطِّي بِهِ رَأْسَهُ وَيَرُدُّ طَرَفَهُ عَلَى كَتِفِهِ الآْخَرِ. (1)
وَالْقِنَاعُ أَعَمُّ وَأَشْمَل فِي السَّتْرِ مِنَ الْخِمَارِ، أَوْ هُوَ يُخَالِفُهُ بِإِطْلاَقِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.
ج - النِّقَابُ:
4 - النِّقَابُ مَا تَنْتَقِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ، يُقَال: انْتَقَبَتِ الْمَرْأَةُ وَتَنَقَّبَتْ: غَطَّتْ وَجْهَهَا بِالنِّقَابِ.
وَيُعَرِّفُ ابْنُ مَنْظُورٍ النِّقَابَ بِأَنَّهُ: الْقِنَاعُ عَلَى مَارِنِ الأَْنْفِ، ثُمَّ يَقُول: وَالنِّقَابُ عَلَى وُجُوهٍ. قَال الْفَرَّاءُ: إِذَا أَدْنَتِ الْمَرْأَةُ النِّقَابَ إِلَى عَيْنِهَا فَتِلْكَ الْوَصْوَصَةُ، فَإِنْ أَنْزَلَتْهُ دُونَ ذَلِكَ إِلَى الْمَحْجَرِ فَهُوَ النِّقَابُ، فَإِنْ كَانَ عَلَى طَرَفِ الأَْنْفِ فَهُوَ اللِّفَامُ. قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: الْوَصْوَاصُ: الْبُرْقُعُ الصَّغِيرُ. (2)
وَكُلٌّ مِنَ الْخِمَارِ وَالنِّقَابِ يُغَطَّى بِهِ جُزْءٌ مِنَ الْجِسْمِ، الْخِمَارُ يُغَطَّى بِهِ الرَّأْسُ، وَالنِّقَابُ يُغَطَّى بِهِ الْوَجْهُ.
د - الْبُرْقُعُ:
5 - الْبُرْقُعُ لُغَةً: مَا تَسْتُرُ بِهِ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا (3)
__________
(1) لسان العرب مادة (قنع) ، وجواهر الإكليل 1 / 52.
(2) القاموس المحيط، المصباح المنير، لسان العرب مادة: " نقب "، ومادة: " وصوص ".
(3) المصباح المنير مادة: " برقع ".(20/6)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْخِمَارِ:
أَوَّلاً: ارْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ الْخِمَارَ عُمُومًا:
6 - ارْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْخِمَارَ بِوَجْهٍ عَامٍّ وَاجِبٌ شَرْعًا، لأَِنَّ شَعْرَ رَأْسِهَا عَوْرَةٌ بِاتِّفَاقٍ، وَقَدْ أُمِرَتِ الْمَرْأَةُ بِضَرْبِ الْخِمَارِ عَلَى جَيْبِهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (1) قَال الْقُرْطُبِيُّ: سَبَبُ هَذِهِ الآْيَةِ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِذَا غَطَّيْنَ رُءُوسَهُنَّ بِالأَْخْمِرَةِ، وَهِيَ الْمَقَانِعُ سَدَلْنَهَا مِنْ وَرَاءِ الظَّهْرِ فَيَبْقَى النَّحْرُ وَالْعُنُقُ وَالأُْذُنَانِ لاَ سِتْرَ عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِلَيِّ الْخِمَارِ عَلَى الْجُيُوبِ، وَهَيْئَةُ ذَلِكَ أَنْ تَضْرِبَ الْمَرْأَةُ بِخِمَارِهَا عَلَى جَيْبِهَا لِتَسْتُرَ صَدْرَهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّمَا يُضْرَبُ بِالْخِمَارِ الْكَثِيفِ الَّذِي يَسْتُرُ (2)
ثَانِيًا - الْمَسْحُ عَلَى الْخِمَارِ فِي الْوُضُوءِ:
7 - مَسْحُ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ فَرْضٌ تَوَاتَرَتْ عَلَيْهِ الأَْدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ. وَالْفَرْضُ الَّذِي تَوَاتَرَتْ عَلَيْهِ الأَْدِلَّةُ هُوَ أَصْل الْمَسْحِ، أَمَّا صِفَتُهُ وَمِقْدَارُ مَا يُمْسَحُ مِنَ الرَّأْسِ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرَانِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (وُضُوءٌ) (وَمَسْحٌ) .
وَمِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ كَذَلِكَ الْمَسْحُ عَلَى الْخِمَارِ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُجْزِئُ
__________
(1) سورة النور / 31.
(2) القرطبي 12 / 230.(20/6)
فِي الْوُضُوءِ مَسْحُ الْمَرْأَةِ خِمَارَهَا وَحْدَهُ دُونَ مَسْحِ رَأْسِهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْخِمَارُ رَقِيقًا يَنْفُذُ مِنْهُ الْمَاءُ إِلَى شَعْرِهَا، فَيَجُوزُ لِوُجُودِ الإِْصَابَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَدْخَلَتْ يَدَهَا تَحْتَ الْخِمَارِ وَمَسَحَتْ بِرَأْسِهَا، وَقَالَتْ: بِهَذَا أَمَرَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1) وَلأَِنَّهُ لاَ حَرَجَ فِي نَزْعِهِ، وَالرُّخْصَةُ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، وَلأَِنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (2) يَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ مَسْحِ غَيْرِ الرَّأْسِ.
قَال نَافِعٌ: رَأَيْتُ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ تَتَوَضَّأُ وَتَنْزِعُ خِمَارَهَا ثُمَّ تَمْسَحُ بِرَأْسِهَا، قَال نَافِعٌ: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ صَغِيرٌ، قَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: بِهَذَا نَأْخُذُ، لاَ نَمْسَحُ عَلَى خِمَارٍ وَلاَ عَلَى عِمَامَةٍ، بَلَغَنَا أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْعِمَامَةِ كَانَ فَتُرِكَ.
قَال النَّوَوِيُّ: قَال الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ: وَتُدْخِل يَدَهَا تَحْتَ خِمَارِهَا حَتَّى يَقَعَ الْمَسْحُ عَلَى الشَّعْرِ، فَلَوْ وَضَعَتْ يَدَهَا الْمُبْتَلَّةَ عَلَى خِمَارِهَا قَال أَصْحَابُنَا: إِنْ لَمْ يَصِل الْبَلَل إِلَى الشَّعْرِ لَمْ يُجْزِئْهَا، وَإِنْ وَصَل فَهِيَ كَالرَّجُل إِذَا وَضَعَ يَدَهُ الْمُبْتَلَّةَ عَلَى رَأْسِهِ إِنْ أَمَرَّهَا عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ وَإِلاَّ فَوَجْهَانِ، الصَّحِيحُ الإِْجْزَاءُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ مَسَحَ نَاصِيَتَهُ وَلَمْ يَسْتَوْعِبِ الرَّأْسَ بِالْمَسْحِ أَنْ يُتِمَّ الْمَسْحَ عَلَى
__________
(1) حديث عائشة: " أنها دخلت يدها تحت الخمار. . . " أورده صاحب بدائع الصنائع (1 / 5) ، ولم نعثر عليه فيما لدينا من مراجع السنن والآثار.
(2) سورة المائدة / 6.(20/7)
الْعِمَامَةِ، وَقَالُوا: وَهَذَا حُكْمُ مَا عَلَى رَأْسِ الْمَرْأَةِ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فِي مَسْحِ الرَّأْسِ عَلَى مِقْنَعَتِهَا رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: وَهِيَ الْمُعْتَمَدَةُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا الْحَجَّاوِيُّ يَجُوزُ، لأَِنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ (2) وَلأَِنَّهُ مَلْبُوسٌ لِلرَّأْسِ مُعْتَادٌ يَشُقُّ نَزْعُهُ فَأَشْبَهَ الْعِمَامَةَ.
وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَحْمَدَ سُئِل: كَيْفَ تَمْسَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى رَأْسِهَا؟ قَال: مِنْ تَحْتِ الْخِمَارِ وَلاَ تَمْسَحُ عَلَى الْخِمَارِ، قَال: وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَمْسَحُ عَلَى خِمَارِهَا (3) .
ثَالِثًا: لُبْسُ الْخِمَارِ فِي الصَّلاَةِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الصَّلاَةِ سَتْرَ الْعَوْرَةِ، وَمِنَ الْعَوْرَةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ سَتْرُهَا فِي الصَّلاَةِ شَعْرُ الْمَرْأَةِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ أَنْ تُخَمِّرَ رَأْسَهَا فِي الصَّلاَةِ، أَيْ تُغَطِّيَهُ بِخِمَارٍ كَثِيفٍ لاَ يَشِفُّ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَل كَانَتْ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 5، فتح القدير 1 / 109، الزرقاني 1 / 130، المجموع 1 / 407 - 409.
(2) حديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين والخمار. . . " أخرجه أحمد (6 / 12 - ط. الميمنية) من حديث بلال، وإسناده صحيح وورد من فعله صلى الله عليه وسلم، أخرجه مسلم (1 / 231 - ط. الحلبي) .
(3) المغني 1 / 301، 305، كشاف القناع 1 / 112.(20/7)
صَلاَتُهَا بَاطِلَةً، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَقْبَل اللَّهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ (1) وَالْمُرَادُ بِالْحَائِضِ الْبَالِغَةُ، لأَِنَّ الْحَائِضَ فِعْلاً أَثْنَاءَ حَيْضِهَا لاَ صَلاَةَ لَهَا، لاَ بِخِمَارٍ وَلاَ بِغَيْرِهِ، فَكَانَ التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْحَائِضِ مَجَازًا عَنِ الْبَالِغَةِ لأَِنَّ الْحَيْضَ يَسْتَلْزِمُ الْبُلُوغَ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الأَْحْكَامِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ تَرَكَتِ الْحُرَّةُ الْبَالِغَةُ سَتْرَ رُبُعِ رَأْسِهَا فَأَكْثَرَ قَدْرَ أَدَاءِ رُكْنٍ بِلاَ صُنْعِهَا أَعَادَتْ.
وَفِي أَحْكَامِ الصِّغَارِ لِلأُْسْتُرُوشَنِيِّ: وَجَوَازُ صَلاَةِ الصَّغِيرَةِ بِغَيْرِ قِنَاعٍ اسْتِحْسَانٌ، لأَِنَّهُ لاَ خِطَابَ مَعَ الصِّبَا، وَالأَْحْسَنُ أَنْ تُصَلِّيَ بِقِنَاعٍ لأَِنَّهَا إِنَّمَا تُؤْمَرُ بِالصَّلاَةِ لِلتَّعَوُّدِ فَتُؤْمَرُ عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ أَدَاؤُهَا مَعَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ.
ثُمَّ قَال: الْمُرَاهِقَةُ (2) إِذَا صَلَّتْ بِغَيْرِ قِنَاعٍ لاَ تُؤْمَرُ بِالإِْعَادَةِ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ صَلَّتْ بِغَيْرِ وُضُوءٍ تُؤْمَرُ بِذَلِكَ. (3)
__________
(1) حديث: " لا يقبل صلاة حائض إلا بخمار. . . " أخرجه أبو داود (1 / 421 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 251 - ط. دار المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) المراهقة التي قد قاربت البلوغ ولم تبلغ بعد.
(3) رد المحتار 1 / 270 - 273، 276، فتح القدير 1 / 180.(20/8)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ لِلْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الصَّغِيرَةِ الْمَأْمُورَةِ بِالصَّلاَةِ سَتْرٌ لِلصَّلاَةِ - وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ - وَتُعِيدُ الصَّلاَةَ نَدْبًا إِنْ رَاهَقَتْ - أَيْ قَارَبَتِ الْبُلُوغَ - وَتَرَكَتِ الْقِنَاعَ - أَيْ تَغْطِيَةَ الرَّأْسِ - فِي الصَّلاَةِ. . . وَقَالُوا: يُكْرَهُ الْقِنَاعُ فِي الصَّلاَةِ لِلرَّجُل إِذَا كَانَ بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ هِيَ أَنْ يُلْقِيَ ثَوْبًا عَلَى كَتِفِهِ وَيُغَطِّيَ بِهِ رَأْسَهُ وَيَرُدَّ طَرَفَهُ عَلَى كَتِفِهِ الآْخَرِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِلرِّجَال لأَِنَّهُ مِنْ زِيِّ النِّسَاءِ إِلاَّ مِنْ ضَرُورَةِ حَرٍّ، أَوْ بَرْدٍ، أَوْ يَكُونُ شِعَارَ قَوْمٍ فَلاَ يُكْرَهُ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تُقْبَل صَلاَةُ الصَّبِيَّةِ الْمُمَيِّزَةِ إِلاَّ بِخِمَارٍ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: غَيْرُ الْبَالِغَةِ لاَ يَلْزَمُهَا سَتْرُ رَأْسِهَا فِي الصَّلاَةِ لِمَفْهُومِ حَدِيثِ عَائِشَةَ السَّابِقِ. (3)
رَابِعًا - لُبْسُ الْخِمَارِ فِي الإِْحْرَامِ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل تَغْطِيَةَ الرَّأْسِ، وَعَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ لاَ تَكْشِفُ رَأْسَهَا فِي الإِْحْرَامِ - كَمَا يَفْعَل الرَّجُل - لأَِنَّ رَأْسَهَا عَوْرَةٌ يَجِبُ سَتْرُهَا، وَعَلَيْهَا أَنْ تُخَمِّرَ رَأْسَهَا بِمَا يَسْتُرُهُ سَتْرًا كَامِلاً، وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ قَوْلَهُ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى
__________
(1) كفاية الطالب 1 / 137، جواهر الإكليل 1 / 42، 52.
(2) المجموع 3 / 166.
(3) المغني 1 / 602 - 606، 2 / 471.(20/8)
أَنَّ لِلْمُحْرِمَةِ لُبْسَ الْقُمُصِ وَالدُّرُوعِ وَالسَّرَاوِيلاَتِ وَالْخُمُرِ وَالْخِفَافِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ حَال إِحْرَامِهَا سَتْرُ وَجْهِهَا، أَوْ بَعْضِهِ بِمَا يُعَدُّ سَاتِرًا، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ عَلَى الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْمُحْرِمَةِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَنْ تَسْتُرَ مِنْ وَجْهِهَا مَا لاَ يَتَأَتَّى سَتْرُ جَمِيعِ رَأْسِهَا إِلاَّ بِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَكْشِفَ مِنْ رَأْسِهَا مَا لاَ يَتَأَتَّى كَشْفُ وَجْهِهَا إِلاَّ بِهِ، لأَِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى سَتْرِ الرَّأْسِ بِكَمَالِهِ لِكَوْنِهِ عَوْرَةً أَوْلَى مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى كَشْفِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي لاَ يَتَأَتَّى تَمَامُ سَتْرِ الرَّأْسِ إِلاَّ بِهِ. (1)
خَامِسًا: الْخِمَارُ فِي كَفَنِ الْمَرْأَةِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَقَل الْكَفَنِ الضَّرُورِيِّ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مَا يُغَطِّي بَدَنَ الْمَيِّتِ رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً إِلاَّ رَأْسَ الْمُحْرِمِ وَوَجْهَ الْمُحْرِمَةِ. وَعَلَى أَنَّ الأَْفْضَل فِي الْكَفَنِ لِلْمَرْأَةِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ: إِزَارٌ تَسْتُرُ بِهِ الْعَوْرَةَ، وَخِمَارٌ يُغَطَّى بِهِ الرَّأْسُ، وَقَمِيصٌ، وَلِفَافَتَانِ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ يَرَى أَنْ تُكَفَّنَ الْمَرْأَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ، وَإِنَّمَا اسْتُحِبَّ ذَلِكَ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ تَزِيدُ فِي حَال حَيَاتِهَا
__________
(1) رد المحتار 2 / 189، جواهر الإكليل 1 / 186، الجمل 2 / 505، المغني 3 / 328.(20/9)
عَلَى الرَّجُل فِي السَّتْرِ لِزِيَادَةِ عَوْرَتِهَا عَلَى عَوْرَتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ لَيْلَى بِنْتِ قَائِفٍ الثَّقَفِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ فِيمَنْ غَسَّل أُمَّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا بِنْتَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ وَفَاتِهَا، فَكَانَ أَوَّل مَا أَعْطَانَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَقْوَ (1) ثُمَّ الدِّرْعَ (2) ، ثُمَّ الْخِمَارَ، ثُمَّ الْمِلْحَفَةَ، ثُمَّ أُدْرِجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الثَّوْبِ الآْخَرِ. (3)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْجَارِيَةَ إِذَا لَمْ تَبْلُغْ لاَ تُخَمَّرُ عِنْدَ تَكْفِينِهَا، جَاءَ فِي الْمُغْنِي: قَال الْمَرْوَزِيُّ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فِي كَمْ تُكَفَّنُ الْجَارِيَةُ إِذَا لَمْ تَبْلُغْ؟ قَال: فِي لِفَافَتَيْنِ، وَقَمِيصٍ لاَ خِمَارَ فِيهِ، وَكَفَّنَ ابْنُ سِيرِينَ بِنْتًا لَهُ قَدْ أَعْصَرَتْ (4) فِي قَمِيصٍ وَلِفَافَتَيْنِ، وَلأَِنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ لاَ يَلْزَمُهَا سَتْرُ رَأْسِهَا فِي الصَّلاَةِ.
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْحَدِّ الَّذِي تَصِيرُ بِهِ فِي حُكْمِ الْمَرْأَةِ فِي التَّكْفِينِ وَيَكُونُ فِي كَفَنِهَا الْخِمَارُ، فَرُوِيَ عَنْهُ، إِذَا بَلَغَتْ، وَهُوَ ظَاهِرُ
__________
(1) في رواية الحقاء، أي الإزار.
(2) الدرع هو القميص، وفرق بعض الفقهاء بينهما بأن شق الدرع إلى الصدر والقميص إلى المنكب (رد المحتار 1 / 278) .
(3) حديث ليلى بنت قائف: " كنت فيمن غسل أم كلثوم ". . . أخرجه أبو داود (3 / 510 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وفي إسناده نوح بن حكيم الثقفي وفيه جهالة كما في ترجمته في " التهذيب " لابن حجر (10 / 482 - ط. دار المعارف العثمانية) .
(4) أعصرت أي قاربت المحيض.(20/9)
كَلاَمِهِ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَقْبَل اللَّهَ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ. (1) مَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَهَا لاَ تَحْتَاجُ إِلَى خِمَارٍ فِي صَلاَتِهَا فَكَذَلِكَ فِي كَفَنِهَا.
وَرَوَى عَنْ أَحْمَدَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ: إِذَا كَانَتْ بِنْتَ تِسْعِ سِنِينَ يُصْنَعُ بِهَا مَا يُصْنَعُ بِالْمَرْأَةِ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ (2) وَعَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: إِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ تِسْعًا فَهِيَ امْرَأَةٌ (3) .
وَفِي تَرْتِيبِ أَثْوَابِ الْكَفَنِ وَمَوْضِعِ الْخِمَارِ بَيْنَهَا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَكْفِينٌ) .
خَمْرٌ
انْظُرْ: أَشْرِبَةٌ
__________
(1) حديث: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ". .، سبق تخريجه ف / 8.
(2) حديث عائشة رضي الله تعالى عنها:. . " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بها وهي بنت تسع سنين. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 190 نشر السلفية) ، ومسلم (2 / 1038 ط. الحلبي) بهذا المعنى.
(3) رد المحتار 1 / 578، جواهر الإكليل 1 / 110، قليوبي 1 / 328، المغني 2 / 470 - 471.(20/10)
خُمُسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخُمُسُ - بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ أَوْ ضَمِّهَا - الْجُزْءُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْزَاءٍ، وَالْخَمْسُ - بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ - أَخْذُ وَاحِدٍ مِنْ خَمْسَةٍ، يُقَال: خَمَسْتُهُمْ أَخْمُسُهُمْ - بِضَمِّ الْمِيمِ فِي الْمُضَارِعِ - أَيْ أَخَذْتُ خُمْسَ أَمْوَالِهِمْ، وَخَمَسْتُهُمْ أَخْمِسُهُمْ - بِكَسْرِ الْمِيمِ فِي الْمُضَارِعِ - أَيْ كُنْتُ خَامِسَهُمْ أَوْ كَمَّلْتُهُمْ خَمْسَةً بِنَفْسِي، وَيُقَال: خَمَّسْتُ الشَّيْءَ - بِالتَّثْقِيل - أَيْ جَعَلْتُهُ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ، وَيُقَال: أَخَمَسَ الْقَوْمُ أَيْ صَارُوا خَمْسَةً (1) . وَالْخُمُسُ: خُمُسُ الْغَنِيمَةِ أَوِ الْفَيْءِ، وَالتَّخْمِيسُ: إِخْرَاجُ الْخُمُسِ مِنَ الْغَنِيمَةِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمِرْبَاعُ:
2 - الْمِرْبَاعُ هُوَ الرُّبُعُ: قَال قُطْرُبٌ: الْمِرْبَاعُ
__________
(1) المصباح المنير، القاموس المحيط، ولسان العرب في المادة.
(2) قواعد الفقه للبركتي المجددي 254.(20/10)
الرُّبُعُ، وَالْمِعْشَارُ الْعُشْرُ وَلَمْ يُسْمَعْ فِي غَيْرِهِمَا، وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَبْل إِسْلاَمِهِ: إِنَّكَ لَتَأْكُل الْمِرْبَاعَ وَهُوَ لاَ يَحِل لَكَ فِي دِينِكَ (1) كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا غَزَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَغَنِمُوا أَخَذَ الرَّئِيسُ رُبُعَ الْغَنِيمَةِ خَالِصًا دُونَ أَصْحَابِهِ وَقَال الشَّاعِرُ:
لَك الْمِرْبَاعُ مِنْهَا وَالصَّفَايَا
وَحُكْمُكَ وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُول (2)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ اخْتِلاَفُ الْقَدْرِ بَيْنَهُمَا.
ب - الصَّفِيُّ:
3 - الصَّفِيُّ: مَا كَانَ يَصْطَفِيهِ الرَّئِيسُ فِي الْحَرْبِ قَبْل الإِْسْلاَمِ لِنَفْسِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ دُونَ أَصْحَابِهِ، وَمَا لاَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقْسَمَ عَلَى الْجَيْشِ.
وَالصَّفِيُّ فِي الإِْسْلاَمِ شَيْءٌ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ قَبْل الْقِسْمَةِ كَسَيْفٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ أَمَةٍ، وَقَدِ اصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَ مُنَبِّهِ بْنِ أَبِي الْحَجَّاجِ - وَهُوَ ذُو الْفَقَارِ - يَوْمَ بَدْرٍ (3) ، وَاصْطَفَى
__________
(1) حديث: " إنك لتأكل المرباع وهو لا يحل لك في دينك ".، أخرجه أحمد (4 / 257 - ط. اليمنية) من حديث عدي بن حاتم.
(2) المصباح المنير ولسان العرب مادة: " ربع ".
(3) حديث: " اصطفى صلى الله عليه وسلم سيف منبه بن أبي الحجاج - وهو. . . " أخرجه الترمذي (4 / 130 - ط. الحلبي وابن ماجه (2 / 939 - ط. الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس، وقال الترمذي: " حديث حسن ".(20/11)
صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
(1) وَقَدِ انْقَطَعَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (2)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخُمُسِ وَالصَّفِيِّ أَنَّ الْخُمُسَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْغَنَائِمِ وَغَيْرِهَا لَهُ مَصَارِفُ مُعَيَّنَةٌ، أَمَّا الصَّفِيُّ فَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلرَّئِيسِ فِي الْحَرْبِ قَبْل الإِْسْلاَمِ.
ج - النَّشِيطَةُ:
4 - النَّشِيطَةُ مِنَ الْغَنِيمَةِ: مَا يُصِيبُهُ الْقَوْمُ قَبْل أَنْ يَصِلُوا إِلَى الْحَيِّ الَّذِي يُرِيدُونَ الإِْغَارَةَ عَلَيْهِ فَيَنْشُطُهُ الرَّئِيسُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَيَأْخُذُهُ قَبْل الْقِسْمَةِ. (3)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّشِيطَةِ وَالْخُمُسِ مِنَ الْغَنِيمَةِ أَنَّ النَّشِيطَةَ كَانَ يَسْتَأْثِرُ بِهَا الرَّئِيسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَمَّا الْخُمُسُ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مَصَارِفَهُ
د - الْفُضُول:
5 - الْفُضُول مِنَ الْغَنِيمَةِ: بَقَايَا تَبْقَى مِنْهَا لاَ تَسْتَقِيمُ قِسْمَتُهَا عَلَى الْجَيْشِ لِقِلَّتِهَا وَكَثْرَةِ الْجَيْشِ فَيَخْتَصُّ بِهَا رَئِيسُ الْجَيْشِ قَبْل
__________
(1) حديث: " اصطفى صفية بنت حيي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 480 - ط. السلفية) ، ومسلم (2 / 1044 - ط. الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(2) المصباح المنير، التعريفات 175، والمغني 6 / 409، وكشاف القناع 3 / 85.
(3) المفردات في غريب القرآن / 493، ومعجم مقاييس اللغة 5 / 426.(20/11)
الإِْسْلاَمِ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفُضُول مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْخُمُسِ أَنَّ الْفُضُول كَانَ يَخُصُّ بِهَا رَئِيسُ الْجَيْشِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَفْسَهُ وَيَسْتَأْثِرُ بِهَا دُونَ أَصْحَابِهِ، أَمَّا الْخُمُسُ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مَصَارِفَهُ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَخْمِيسِ الْغَنِيمَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} (2)
وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْمِيسِ الْفَيْءِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
الأَْمْوَال الَّتِي تُخَمَّسُ:
أَوَّلاً: الْغَنِيمَةُ:
7 - وَهِيَ الْمَال الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْكُفَّارِ بِالْقُوَّةِ وَالْقَهْرِ بِإِيجَافِ الْخَيْل وَالرِّكَابِ (3) .
وَلَمْ تَكُنِ الْغَنَائِمُ تَحِل لِمَنْ مَضَى مِنَ الأُْمَمِ، وَفِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي. . . وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ (4) وَكَانَتِ الْغَنَائِمُ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة: " فضل ".
(2) سورة الأنفال / 41.
(3) رد المحتار 3 / 228، كفاية الطالب 2 / 7، قليوبي وعميرة 3 / 191، المغني 6 / 403.
(4) حديث: " أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي. . . وأحلت لي الغنائم "، أخرجه البخاري (الفتح 1 / 436 -. ط السلفية) البخاري (ومسلم 1 / 371 -. ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.(20/12)
: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَْنْفَال قُل الأَْنْفَال لِلَّهِ وَالرَّسُول} (1) ثُمَّ صَارَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْغَانِمِينَ، وَالْخُمُسُ لِغَيْرِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول. . .} (2) فَأَضَافَ الْغَنِيمَةَ إِلَيْهِمْ وَجَعَل الْخُمُسَ لِغَيْرِهِمْ فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَائِرَهَا (الْبَقِيَّةَ) لَهُمْ، وقَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} (3) فَأَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُمْ. (4)
وَالْغَنِيمَةُ إِذَا كَانَتْ أَرْضًا فُتِحَتْ عَنْوَةً فَفِي تَخْمِيسِهَا خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يُنْظَرُ فِي: (تَخْمِيسٌ وَغَنِيمَةٌ وَأَرْضٌ وَخَرَاجٌ) .
وَإِنْ كَانَتِ الْغَنِيمَةُ مِنَ الأَْمْوَال الْمَنْقُولَةِ وَجَبَ تَخْمِيسُهَا وَقَسْمُ أَخْمَاسِهَا الأَْرْبَعَةِ عَلَى الْغَانِمِينَ، وَصَرْفُ الْخُمُسِ فِي مَصَارِفِهِ.
وَيَبْدَأُ الإِْمَامُ أَوِ الأَْمِيرُ فِي قَسْمِ الْغَنِيمَةِ بِالسَّلَبِ فَيُعْطِيهِ لِلْقَاتِل، ثُمَّ يُخْرِجُ الْمُؤَنَ اللاَّزِمَةَ كَأُجْرَةِ حَمَّالٍ وَحَافِظٍ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ يَجْعَل الْبَاقِيَ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ مُتَسَاوِيَةٍ، خُمُسٌ لأَِهْل الْخُمُسِ، وَالأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسِ لِلْغَانِمِينَ. (5)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ قَسْمِ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
__________
(1) سورة الأنفال / 1.
(2) سورة الأنفال / 41.
(3) سورة الأنفال / 69.
(4) المغني 6 / 403.
(5) روضة الطالبين 6 / 376.(20/12)
الْقَوْل الأَْوَّل:
8 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُقْسَمُ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} (1) وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ الْخُمُسَ عَلَى خَمْسَةٍ (2) وَبِهَذَا قَال عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ (3) .
وَبَيَانُ هَذِهِ الأَْسْهُمِ كَالآْتِي:
1 - سَهْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكَانَ هَذَا السَّهْمُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ يَضَعُهُ فِي مَصَارِفِهِ الَّتِي يَرَاهَا، ثُمَّ صَارَ مِنْ بَعْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْرَفُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلاَحِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، كَسَدِّ الثُّغُورِ، وَشَحْنِهَا بِالْعُدَدِ، وَالْمُقَاتِلَةِ، وَكَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ، وَالْقَنَاطِرِ، وَالْحُصُونِ، وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ، وَالأَْئِمَّةِ، وَالْعُلَمَاءِ بِعُلُومٍ تَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، لأَِنَّ بِالثُّغُورِ حِفْظَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِئَلاَّ يَتَعَطَّل مَنْ ذُكِرَ بِالاِكْتِسَابِ عَنِ الاِشْتِغَال بِهَذِهِ الْعُلُومِ وَعَنْ تَنْفِيذِ الأَْحْكَامِ وَعَنِ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ، فَيُرْزَقُونَ مَا يَكْفِيهِمْ لِيَتَفَرَّغُوا لِذَلِكَ. وَيُقَدَّمُ الأَْهَمُّ فَالأَْهَمُّ وُجُوبًا.
__________
(1) سورة الأنفال / 41.
(2) المغني 6 / 401 - 407.(20/13)
وَقَالُوا: إِنَّ سَهْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدٌ، لأَِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ بِقَوْلِهِ {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} لاِفْتِتَاحِ الْكَلاَمِ بِاسْمِهِ تَعَالَى تَبَرُّكًا بِهِ لاَ لإِِفْرَادِهِ سُبْحَانَهُ بِسَهْمٍ، فَإِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى الدُّنْيَا وَالآْخِرَةَ. (1)
2 - سَهْمٌ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ابْنَيْ عَبْدِ مَنَافٍ: وَهُمُ الْمُرَادُ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ وَإِنْ كَانَ الأَْرْبَعَةُ أَبْنَاءَ عَبْدِ مَنَافٍ، لاِقْتِصَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَسْمِ عَلَى بَنِي الأَْوَّلَيْنِ مَعَ سُؤَال ابْنِ الآْخَرَيْنِ لَهُ، رُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: لَمَّا قَسَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى مِنْ خَيْبَرَ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَتَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: يَا رَسُول اللَّهِ، أَمَّا بَنُو هَاشِمٍ فَلاَ نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ، فَمَا بَال إِخْوَانِنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتُهُمْ وَتَرَكْتَنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلاَ إِسْلاَمٍ، وَإِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. (2)
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 93، المغني 6 / 406.
(2) حديث جبير بن مطعم: " إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام ".، أخرجه البخاري (الفتح 6 / 244 -. ط السلفية) دون قوله: " إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام "، وأخرجه أحمد (4 / 81 -. ط الميمنية) ، والنسائي (7 / 131 -. ط المكتبة التجارية) .(20/13)
وَالْعِبْرَةُ فِي الاِسْتِحْقَاقِ مِنْ هَذَا السَّهْمِ بِالاِنْتِسَابِ إِلَى الآْبَاءِ، أَيْ بِكَوْنِ الأَْبِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَوْ بَنِي الْمُطَّلِبِ، أَمَّا مَنْ كَانَتْ أُمُّهُ مِنْهُمْ وَأَبُوهُ مِنْ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْفَعْ إِلَى أَقَارِبِ أُمِّهِ وَهُمْ بَنُو زُهْرَةَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا دَفَعَ إِلَى أَقَارِبِ أَبِيهِ، وَلَمْ يَدْفَعْ إِلَى بَنِي عَمَّاتِهِ وَهُمُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَالْمُهَاجِرُ ابْنَا أَبِي أُمَيَّةَ، وَبَنُو جَحْشٍ.
وَيَشْتَرِكُ فِي الاِسْتِحْقَاقِ مِنْ هَذَا السَّهْمِ الذُّكُورُ وَالإِْنَاثُ، لأَِنَّ الْقَرَابَةَ تَشْمَلُهُمْ، وَلِحَدِيثِ جُبَيْرٍ السَّابِقِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ الزُّبَيْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَأْخُذُ مَعَهُمْ أُمَّهُ صَفِيَّةَ عَمَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي النَّسَائِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِصَفِيَّةَ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا يَدْفَعُ لِلسَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مِنْ هَذَا السَّهْمِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - وَهِيَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ - أَنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَ ذَوِي الْقُرْبَى لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ، لأَِنَّهُ سَهْمٌ اسْتُحِقَّ بِقَرَابَةِ الأَْبِ شَرْعًا فَفُضِّل فِيهِ الذَّكَرُ عَلَى الأُْنْثَى كَالْمِيرَاثِ، وَيُفَارِقُ الْوَصِيَّةَ وَمِيرَاثَ وَلَدِ الأُْمِّ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ اسْتُحِقَّتْ بِقَوْل الْمُوصِي، وَمِيرَاثَ وَلَدِ الأُْمِّ اسْتُحِقَّ بِقَرَابَةِ الأُْمِّ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ وَمَا نُقِل عَنِ الْمُزَنِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ يُسَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، لأَِنَّهُمْ أُعْطُوا بِاسْمِ الْقَرَابَةِ وَالذَّكَرُ(20/14)
وَالأُْنْثَى فِيهَا سَوَاءٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَصَّى لِقَرَابَةِ فُلاَنٍ أَوْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْجَدَّ يَأْخُذُ مَعَ الأَْبِ، وَابْنَ الاِبْنِ يَأْخُذُ مِنَ الاِبْنِ، وَهَذَا يَدُل عَلَى مُخَالَفَةِ الْمَوَارِيثِ، وَلأَِنَّهُ سَهْمٌ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ لِجَمَاعَةٍ فَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَى كَسَائِرِ سِهَامِهِ.
وَيَسْتَوِي فِي الاِسْتِحْقَاقِ - عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ - الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ لاِسْتِوَائِهِمْ فِي الْقَرَابَةِ فَأَشْبَهَ الْمِيرَاثَ.
وَغَنِيُّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَفَقِيرُهُمْ فِي الاِسْتِحْقَاقِ مِنْ هَذَا السَّهْمِ سَوَاءٌ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} وَلاَ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْطِي أَقَارِبَهُ كُلَّهُمْ وَفِيهِمُ الأَْغْنِيَاءُ كَالْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ مِنْ أَغْنِيَاءِ قُرَيْشٍ، وَلَمْ يُنْقَل تَخْصِيصُ الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ، وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الزُّبَيْرَ سَهْمًا، وَأُمَّهُ سَهْمًا، وَفَرَسَهُ سَهْمَيْنِ (1)
وَإِنَّمَا أَعْطَى أُمَّهُ مِنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى وَقَدْ كَانَتْ مُوسِرَةً وَلَهَا مَوَالٍ وَأَمْوَالٌ، وَلأَِنَّهُ مَالٌ مُسْتَحَقٌّ بِالْقَرَابَةِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ
__________
(1) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الزبير سهمًا وأمه سهمًا. . . " أخرجه أحمد (1 / 166 -. ط الميمنية) ، ولمح ابن حجر إلى الانقطاع في سنده، كذا في (تعجيل المنفعة ص335 - نشر دار الكتاب العربي) . والأسهم المعطاة للزبير وفرسه هي من الغنيمة بصفته من المجاهدين(20/14)
كَالْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ لِلأَْقَارِبِ، وَلأَِنَّ عُثْمَانَ وَجُبَيْرًا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا طَلَبَا حَقَّهُمَا مِنْهُ وَسَأَلاَ عَنْ عِلَّةِ مَنْعِهِمَا وَمَنْعِ قَرَابَتِهِمَا وَهُمَا مُوسِرَانِ فَعَلَّلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنُصْرَةِ بَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَهُمْ وَكَوْنِهِمْ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَلَوْ كَانَ الْيَسَارُ مَانِعًا وَالْفَقْرُ شَرْطًا لَمْ يَطْلُبَا مَعَ عَدَمِهِ، وَلَعَلَّل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْعَهُمَا بِيَسَارِهِمَا وَانْتِفَاءِ فَقْرِهِمَا.
وَقِيل: لاَ حَقَّ فِي هَذَا السَّهْمِ لِغَنِيٍّ قِيَاسًا عَلَى بَقِيَّةِ السِّهَامِ. (1)
3 - سَهْمٌ لِلْيَتَامَى: وَهُمُ الَّذِينَ مَاتَ آبَاؤُهُمْ وَلَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ، فَإِنْ بَلَغُوا الْحُلُمَ لَمْ يَكُونُوا يَتَامَى لِحَدِيثِ: لاَ يُتْمَ بَعْدَ احْتِلاَمٍ. (2)
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ. أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لاِسْتِحْقَاقِ الْيَتِيمِ مِنْ هَذَا السَّهْمِ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا، لأَِنَّ لَفْظَ الْيَتِيمِ يُشْعِرُ بِالْحَاجَةِ، وَلأَِنَّ اغْتِنَاءَهُ بِمَال أَبِيهِ إِذَا مَنَعَ اسْتِحْقَاقَهُ فَاغْتِنَاؤُهُ بِمَالِهِ أَوْلَى بِمَنْعِهِ.
وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لاِسْتِحْقَاقِ الْيَتِيمِ مِنْ هَذَا السَّهْمِ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 94، أسنى المطالب 3 / 88، المغني 6 / 411 - 413.
(2) حديث " لا يتم بعد احتلام. . . " أخرجه أبو داود (3 / 293 - 294 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث علي بن أبي طالب وفي إسناده مقال، ولكنه صحيح لطرقه، التلخيص لابن حجر (3 / 101 -. ط شركة الطباعة الفنية) .(20/15)
لِشُمُول لَفْظِ الْيَتِيمِ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَلأَِنَّ عُمُومَ الآْيَةِ يَشْمَل الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ لاِسْتِحْقَاقِ الْيَتِيمِ الإِْسْلاَمَ، فَلاَ يُعْطَى أَيْتَامُ الْكُفَّارِ مِنْ هَذَا السَّهْمِ شَيْئًا، لأَِنَّهُ مَالٌ أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ فَلاَ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَنْدَرِجُ فِي تَفْسِيرِ الْيَتِيمِ: وَلَدُ الزِّنَى وَاللَّقِيطِ وَالْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ. (1)
4 - سَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ: وَهُمْ أَهْل الْحَاجَةِ، وَيَدْخُل فِيهِمُ الْفُقَرَاءُ، فَالْمَسَاكِينُ وَالْفُقَرَاءُ فِي الاِسْتِحْقَاقِ مِنْ هَذَا السَّهْمِ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَفِي الزَّكَاةِ صِنْفَانِ لأَِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ لَفْظَيْهِمَا بِوَاوِ الْعَطْفِ فِي آيَةِ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، وَفَرَّقَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - فِي بَابِ الزَّكَاةِ - بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ فَقَالُوا: الْفَقِيرُ: مَنْ لاَ مَال لَهُ وَلاَ كَسْبَ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ، وَالْمِسْكِينُ: مَنْ لَهُ مَالٌ أَوْ كَسْبٌ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ وَلاَ يَكْفِيهِ (2) .
5 - سَهْمٌ لاِبْنِ السَّبِيل: وَقَدِ اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي تَعْرِيفِ ابْنِ السَّبِيل الَّذِي يَسْتَحِقُّ مِنْ هَذَا السَّهْمِ وَمِنَ الزَّكَاةِ. وَانْظُرْ تَفْصِيل الْقَوْل فِي ابْنِ السَّبِيل مُصْطَلَحَ: (زَكَاةٌ) .
وَاخْتَلَفَ الرَّأْيُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي
__________
(1) المحلي على المنهاج 3 / 189، مغني المحتاج 2 / 95، المغني 6 / 413، وكشاف القناع 3 / 86.
(2) مغني المحتاج 3 / 95 - 106 - 108، المغني 6 / 413 - 421.(20/15)
تَعْمِيمِ الْمُسْتَحِقِّينَ أَصْحَابِ السِّهَامِ الأَْرْبَعَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ بِالْعَطَاءِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَنْ يَعُمَّ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْ سِهَامِ ذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل بِالْعَطَاءِ إِنْ وَفَّى الْمَال، نَعَمْ يُجْعَل مَا فِي كُل إِقْلِيمٍ لِسَاكِنِيهِ، فَإِنْ عَدِمَهُ بَعْضُ الأَْقَالِيمِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَعْضِهَا شَيْءٌ، أَوْ لَمْ يَسْتَوْعِبْهُمْ بِأَنْ لَمْ يَفِ بِمَنْ فِيهِ إِنْ وُزِّعَ عَلَيْهِمْ نُقِل إِلَيْهِمْ بِقَدْرِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَنْقُول إِلَيْهِمْ وَغَيْرِهِمْ، وَلاَ يَجُوزُ الاِقْتِصَارُ عَلَى ثَلاَثَةٍ مِنْ كُل صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ هَذِهِ السِّهَامِ الأَْرْبَعَةِ كَمَا يَقُول بَعْضُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَاضَل بَيْنَ الْيَتَامَى، وَبَيْنَ الْمَسَاكِينِ، وَبَيْنَ أَبْنَاءِ السَّبِيل، لأَِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ بِالْحَاجَةِ فَتُرَاعَى حَاجَتُهُمْ، بِخِلاَفِ ذَوِي الْقُرْبَى فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ بِالْقَرَابَةِ، فَإِنْ كَانَ الْحَاصِل يَسِيرًا لاَ يَسُدُّ مَسَدًّا بِالتَّوْزِيعِ قُدِّمَ الأَْحْوَجُ فَالأَْحْوَجُ وَلاَ يُسْتَوْعَبُ، لِلضَّرُورَةِ، وَتَصِيرُ الْحَاجَةُ مُرَجَّحَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَبَرَةً فِي الاِسْتِحْقَاقِ.
وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ: يُخَصُّ أَهْل كُل نَاحِيَةٍ بِخُمُسِ مَغْزَاهَا، لِمَا يَلْحَقُ فِي نَقْلِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَلأَِنَّهُ يَتَعَذَّرُ تَعْمِيمُ أَصْحَابِ السِّهَامِ بِهِ فَلَمْ يَجِبْ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالصَّحِيحُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّهُ لاَ يَجِبُ التَّعْمِيمُ لأَِنَّهُ يَتَعَذَّرُ.(20/16)
وَمَنْ فُقِدَ مِنْ هَذِهِ الأَْصْنَافِ أُعْطِيَ الْبَاقُونَ نَصِيبَهُ. (1)
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِيمَنِ اجْتَمَعَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ وَصْفٍ، أَوْ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الاِسْتِحْقَاقِ مِنَ الْخُمُسِ:
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنِ اجْتَمَعَ فِيهِ وَصْفَانِ أُخِذَ بِأَحَدِهِمَا بِاخْتِيَارِهِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَزْوًا جَازَ الأَْخْذُ بِهِمَا. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اجْتَمَعَ فِي وَاحِدٍ أَسْبَابٌ كَالْمِسْكِينِ إِذَا كَانَ يَتِيمًا وَابْنَ سَبِيلٍ، اسْتَحَقَّ بِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لأَِنَّهَا أَسْبَابٌ لأَِحْكَامٍ، فَوَجَبَ أَنْ نُثْبِتَ أَحْكَامَهَا كَمَا لَوِ انْفَرَدَتْ، فَلَوْ أَعْطَاهُ لِيُتْمِهِ فَزَال فَقْرُهُ لَمْ يُعْطَ لِفَقْرِهِ شَيْئًا. (3)
الْقَوْل الثَّانِي:
9 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُقْسَمُ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ ثَلاَثَةَ أَسْهُمٍ: لِلْيَتَامَى، وَالْمَسَاكِينِ (وَيَشْمَلُونَ الْفُقَرَاءَ) وَأَبْنَاءِ السَّبِيل.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} (4)
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 95، القليوبي 3 / 189، المغني 6 / 12.
(2) القليوبي 3 / 189.
(3) المغني 6 / 414.
(4) سورة الأنفال / 41.(20/16)
وَقَالُوا: إِنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّبَرُّكِ فِي افْتِتَاحِ الْكَلاَمِ إِذِ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلأَِنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ لَمْ يُفْرِدُوا هَذَا السَّهْمَ وَلَمْ يُنْقَل عَنْهُمْ، وَأَمَّا سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِالرِّسَالَةِ كَمَا كَانَ يَسْتَحِقُّ الصَّفِيَّ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَسَقَطَا بِمَوْتِهِ جَمِيعًا، وَقَدْ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لاَ يَحِل لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قَدْرُ هَذِهِ إِلاَّ الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ. (1) وَكَذَلِكَ الأَْئِمَّةُ الْمَهْدِيُّونَ لَمْ يُفْرِدُوهُ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَوْ بَقِيَ بَعْدَهُ أَوِ اسْتَحَقَّهُ غَيْرُهُ لَصَرَفُوهُ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّصْرَةِ وَبَعْدَهُ بِالْفَقْرِ، لِحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ " الَّذِي سَبَقَ " وَهُوَ يَدُل عَلَى أَنَّ الاِسْتِحْقَاقَ كَانَ بِالنُّصْرَةِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ قُرْبُ النُّصْرَةِ لاَ قُرْبُ النَّسَبِ، وَلأَِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَسَمُوهُ عَلَى ثَلاَثَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً.
وَقَالُوا: إِنَّمَا يُعْطَى مِنَ الْخُمُسِ مَنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى عَلَى صِفَةِ الأَْصْنَافِ الثَّلاَثَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: يَا بَنِي هَاشِمٍ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لَكُمْ أَوْسَاخَ النَّاسِ، وَعَوَّضَكُمْ عَنْهَا
__________
(1) حديث: " إنه لا يحل مما أفاء الله عليكم قدر هذه إلا. . . " أخرجه النسائي (7 / 131 -. ط المكتبة التجارية) من حديث عبادة بن الصامت. وإسناده حسن.(20/17)
بِخُمُسِ الْخُمُسِ (1) وَالصَّدَقَةُ إِنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، لأَِنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى أَغْنِيَائِهِمْ وَأَغْنِيَاءِ غَيْرِهِمْ، فَيَكُونُ خُمُسُ الْخُمُسِ لِمَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يُنْكِحُ مِنْهُ أَيِّمَهُمْ، وَيَقْضِي مِنْهُ غَارِمَهُمْ، وَيَخْدِمُ مِنْهُ عَائِلَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
وَقَالُوا: إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لاَ سَهْمَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَسَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَقَطَ، وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى يَسْتَحِقُّونَهُ بِالْفَقْرِ، لَمْ يَبْقَ إِلاَّ الأَْصْنَافُ الثَّلاَثَةُ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ وَابْنُ السَّبِيل فَوَجَبَ أَنْ يُقْسَمَ عَلَيْهِمْ، وَيَدْخُل ذَوُو الْقُرْبَى فِيهِمْ إِذَا كَانُوا بِصِفَتِهِمْ.
وَقَالُوا: يُشْتَرَطُ لاِسْتِحْقَاقِ الْيَتِيمِ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا، لأَِنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الأَْصْنَافِ الثَّلاَثَةِ فِي
__________
(1) حديث: " يا بني هاشم، إن الله كره لكم أوساخ الناس ". قال الزيلعي في نصب الراية 2 / 403 -. ط المجلس العلمي بالهند) : " غريب " يعني أنه لا أصل له بهذا اللفظ، ثم ذكر لفظ مسلم وهو: " إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس " وهو فيه (2 / 753 -. ط الحلبي) من حديث عبد المطلب بن ربيعة وأخرج الطبراني في الكبير (11 / 217 -. ط وزارة الأوقاف العراقية) من حديث عبد الله بن عباس مرفوعًا: " لا يحل لكما أهل البيت من الصدقات شيء ولا غسالة الأيدي إن لكن في خمس الخمس لما يغنيكم أو يكفيكم ". وأورده الهيثمي في المجمع (3 / 91 -. ط القدسي) وقال: (فيه حسين بن قيس الملقب بحنش، وفيه كلام كثير، وقد وثقه أبو محصن)(20/17)
الْخُمُسِ احْتِيَاجٌ بِيُتْمٍ، أَوْ مَسْكَنَةٍ، أَوْ كَوْنِهِ ابْنَ سَبِيلٍ، فَلاَ يَجُوزُ الصَّرْفُ لِغَنِيِّهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَصَارِفُ لاَ مُسْتَحِقُّونَ حَتَّى إِنَّهُ لَوْ صُرِفَ إِلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ:
10 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَضَعُ الإِْمَامُ الْخُمُسَ إِنْ شَاءَ فِي بَيْتِ الْمَال، أَوْ يَصْرِفُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شِرَاءِ سِلاَحٍ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ شَاءَ قَسَمَهُ فَيَدْفَعُهُ لآِل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِغَيْرِهِمْ، أَوْ يَجْعَل بَعْضَهُ فِيهِمْ وَبَقِيَّتَهُ فِي غَيْرِهِمْ.
فَالْخُمُسُ مَوْكُولٌ إِلَى نَظَرِ الإِْمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَيُعْطِي الْقَرَابَةَ بِاجْتِهَادِهِ وَيَصْرِفُ الْبَاقِيَ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِهِ قَال الْخُلَفَاءُ الأَْرْبَعَةُ وَبِهِ عَمِلُوا، وَعَلَيْهِ يَدُل قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلاَّ الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ (2) فَإِنَّهُ لَمْ يَقْسِمْهُ أَخْمَاسًا وَلاَ أَثْلاَثًا، وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِي الآْيَةِ مَنْ ذُكِرَ عَلَى وَجْهِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِمْ لأَِنَّهُمْ أَهَمُّ مَنْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ، قَال الزَّجَّاجُ مُحْتَجًّا لِمَالِكٍ: قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل: {يَسْأَلُونَك مَاذَا يُنْفِقُونَ قُل مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَْقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 236 - 237، فتح القدير 4 / 328، الاختيار 4 / 131 - 132.
(2) الحديث سبق تخريجه ف / 9.(20/18)
السَّبِيل} (1) وَجَائِزٌ لِلرَّجُل بِإِجْمَاعٍ أَنْ يُنْفِقَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الأَْصْنَافِ إِذَا رَأَى ذَلِكَ.
وَذَكَرَ النَّسَائِيُّ عَنْ عَطَاءٍ قَال: خُمُسُ اللَّهِ وَخُمُسُ رَسُولِهِ وَاحِدٌ، (2) كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِل مِنْهُ وَيُعْطِي مِنْهُ، وَيَضَعُهُ حَيْثُ شَاءَ، وَيَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ (3) .
الْقَوْل الرَّابِعُ:
11 - قَالَتْ طَائِفَةٌ: يُقْسَمُ الْخُمُسُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَسَهْمٌ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَهْمٌ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لاِبْنِ السَّبِيل، وَذَلِكَ لِظَاهِرِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ. . .} الآْيَةَ، فَعَدَّ سِتَّةً، وَجَعَل تَعَالَى لِنَفْسِهِ سَهْمًا سَادِسًا وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ أَهْل الْحَاجَةِ. (4)
الْقَوْل الْخَامِسُ:
12 - قَال أَبُو الْعَالِيَةِ: سَهْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَل هُوَ أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا عَزَل الْخُمُسَ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَيْهِ فَمَا
__________
(1) سورة البقرة / 215.
(2) الأثر عن عطاء: " خمس الله وخمس رسوله واحد ". أخرجه النسائي (7 / 132 - 133. ط المكتبة التجارية) .
(3) كفاية الطالب 2 / 7، تفسير القرطبي 8 / 11.
(4) المغني 6 / 46، تفسير القرطبي 8 / 10.(20/18)
قَبَضَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ، ثُمَّ يَقْسِمُ بَقِيَّةَ السَّهْمِ عَلَى خَمْسَةٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَوْلُهُ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى بِالْغَنِيمَةِ فَيَقْسِمُهَا عَلَى خَمْسَةٍ، تَكُونُ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ لِمَنْ شَهِدَهَا، ثُمَّ يَأْخُذُ الْخُمُسَ فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ فِيهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ الَّذِي قَبَضَ كَفُّهُ فَيَجْعَلُهُ لِلْكَعْبَةِ، وَهُوَ سَهْمُ اللَّهِ، ثُمَّ يَقْسِمُ مَا بَقِيَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ فَيَكُونُ سَهْمٌ لِلرَّسُول، وَسَهْمٌ لِذِي الْقُرْبَى، وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لاِبْنِ السَّبِيل، قَال: وَالَّذِي جَعَلَهُ لِلْكَعْبَةِ هُوَ السَّهْمُ الَّذِي لِلَّهِ. (1)
ثَانِيًا: الْفَيْءُ:
13 - الْفَيْءُ مَصْدَرُ فَاءَ إِذَا رَجَعَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (2) أَيْ تَرْجِعَ.
وَالْفَيْءُ فِي الاِصْطِلاَحِ: الْمَال - وَنَحْوُهُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ - الْحَاصِل لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ مِمَّا هُوَ لَهُمْ بِلاَ قِتَالٍ وَلاَ إِيجَافِ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ. (3)
وَيَشْمَل الْفَيْءُ: مَا جَلاَ عَنْهُ الْكُفَّارُ،
__________
(1) المغني 6 / 406، الأموال لأبي عبيد 14، تفسير القرطبي 8 / 10.، وقول أبي العالية: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالغنيمة فيقسمها على. . . " أخرجه ابن جرير في تفسيره (13 / 550 - 551. ط المعارف) .
(2) سورة الحجرات / 9.
(3) بدائع الصنائع 7 / 116، جواهر الإكليل 1 / 260، مغني المحتاج 3 / 92، المغني 6 / 403.(20/19)
وَمَا أَخَذَهُ الْعَاشِرُ مِنْهُمْ، وَالْجِزْيَةَ، وَالْخَرَاجَ، وَتَرِكَةَ ذِمِّيٍّ أَوْ نَحْوِهِ مَاتَ بِلاَ وَارِثٍ، وَتَرِكَةَ مُرْتَدٍّ مَاتَ أَوْ قُتِل عَلَى الرِّدَّةِ - عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ - وَمَا أُخِذَ مِنْ مَال تَغْلِبِيٍّ وَتَغْلِبِيَّةٍ، وَهَدِيَّةَ الْكُفَّارِ لِلإِْمَامِ عَنْ بَعْضِهِمْ (1) . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْفَيْءِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ الْقَاضِي مِنْ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْفَيْءَ لاَ يُخَمَّسُ، وَمَحَلُّهُ بَيْتُ مَال الْمُسْلِمِينَ وَيَصْرِفُهُ الإِْمَامُ بِاجْتِهَادِهِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَسَدِّ الثُّغُورِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ، وَكِفَايَةِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ وَالْقُضَاةِ وَالْعُمَّال، وَرِزْقِ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيِّهِمْ وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَبْدَأُ بِآل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدْبًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ الْخِرَقِيُّ مِنْ رِوَايَتَيْ أَحْمَدَ: يُخَمَّسُ الْفَيْءُ، وَخُمُسُهُ لأَِصْحَابِ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ - وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمْ - وَالأَْخْمَاسُ الأَْرْبَعَةُ لِلْمُرْتَزِقَةِ، وَهُمُ الأَْجْنَادُ الْمُرْصَدُونَ لِلْجِهَادِ. . فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهَا تُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُرْتَزِقَةُ (2) .
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل يُنْظَرُ: (فَيْءٌ) .
__________
(1) الدرر المختار 3 / 280، الزرقاني 3 / 127، مغني المحتاج 3 / 93، المغني 6 / 402.
(2) الدرر المختار 3 / 280، الزرقاني 3 / 127، المغني 6 / 404 - 414، مغني المحتاج 3 / 95.(20/19)
ثَالِثًا: السَّلَبُ:
14 - السَّلَبُ: ثِيَابُ الْقَتِيل - مِنَ الْكُفَّارِ - وَسِلاَحُهُ، وَمَرْكُوبُهُ وَمَا عَلَيْهِ وَمَعَهُ مِنْ قُمَاشٍ، وَمَالٍ (عَلَى تَفْصِيلٍ وَاخْتِلاَفٍ) .
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّ السَّلَبَ - إِنِ اسْتَحَقَّهُ الْقَاتِل - لاَ يُخَمَّسُ، لِمَا رَوَى عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِل وَلَمْ يُخَمِّسِ السَّلَبَ (1) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَل قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ (2) فَهُوَ بِعُمُومِهِ يَقْتَضِي أَنَّ السَّلَبَ كُلَّهُ لِلْقَاتِل وَلَوْ خُمِّسَ لَمْ يَكُنْ كُلُّهُ لَهُ.
وَمُقَابِل الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ مَا حَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَمَكْحُولٍ - أَنَّ السَّلَبَ يُخَمَّسُ فَيُدْفَعُ خُمُسُهُ لأَِهْل الْفَيْءِ، وَالْبَاقِي لِلْقَاتِل، لِعُمُومِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ. . .}
__________
(1) حديث " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلب للقاتل. . . " أخرجه أبو داود (3 / 165، تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وأورده ابن حجر في " التلخيص " (3 / 105 -. ط شركة الطباعة الفنية) ، وقال: " وهو ثابت في صحيح مسلم من حديث طويل فيه قصة لعوف بن مالك مع خالد بن الوليد ".
(2) حديث: " من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه "،. أخرجه البخاري (الفتح 6 / 247 -. ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1371 -. ط الحلبي) من حديث أبي قتادة.(20/20)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا لَمْ يُنَفَّل بِالسَّلَبِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ يُخَمَّسُ، وَلاَ يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِل لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلاَّ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ (1) فَإِذَا جَعَل الإِْمَامُ السَّلَبَ لِلْقَاتِل انْقَطَعَ حَقُّ الْبَاقِينَ عَنْهُ، وَلاَ يُخَمَّسُ السَّلَبُ إِلاَّ أَنْ يَقُول: مَنْ قَتَل قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ بَعْدَ الْخُمُسِ، فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ.
وَقَال إِسْحَاقُ: إِنِ اسْتَكْثَرَ الإِْمَامُ السَّلَبَ خَمَّسَهُ وَذَلِكَ إِلَيْهِ، لِمَا رَوَى ابْنُ سِيرِينَ أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ بَارَزَ مَرْزُبَانَ الزَّارَةِ بِالْبَحْرَيْنِ فَطَعَنَهُ فَدَقَّ صُلْبَهُ وَأَخَذَ سِوَارَيْهِ وَسَلَبَهُ، فَلَمَّا صَلَّى عُمَرُ الظُّهْرَ أَتَى أَبَا طَلْحَةَ فِي دَارِهِ فَقَال: إِنَّا كُنَّا لاَ نُخَمِّسُ السَّلَبَ، وَإِنَّ سَلَبَ الْبَرَاءِ قَدْ بَلَغَ مَالاً وَأَنَا خَامِسُهُ، فَكَانَ أَوَّل سَلَبٍ خُمِّسَ فِي الإِْسْلاَمِ سَلَبَ الْبَرَاءِ، رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي السُّنَنِ، وَفِيهَا أَنَّ سَلَبَ الْبَرَاءِ بَلَغَ ثَلاَثِينَ أَلْفًا. (2)
رَابِعًا: الرِّكَازُ:
15 - الرِّكَازُ: الْمَدْفُونُ فِي الأَْرْضِ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ رَكَزَ إِذَا أَخْفَى، يُقَال: رَكَزَ الرُّمْحَ إِذَا غَرَزَ أَسْفَلَهُ فِي الأَْرْضِ، وَمِنْهُ الرِّكْزُ وَهُوَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ
__________
( x661 ;) حديث: " ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه "،. أورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 290 -. ط المجلس العلمي) ، وقال: " رواه الطبراني، وفيه ضعف، من حديث معاذ ".
(2) الاختيار 4 / 133، جواهر الإكليل 1 / 261، مغني المحتاج 3 / 100 - 103، المغني 8 / 390 - 392.(20/20)
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} (1) وَالْوَاجِبُ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:. وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ (2) .
وَلِبَيَانِ الْوَاجِبِ فِي الرِّكَازِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْمَعَادِنِ وَالْكُنُوزِ، وَالشُّرُوطِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْوُجُوبُ مِنْ حَيْثُ طَبِيعَةُ الدَّفْنِ، وَصِفَتُهُ، وَمَوْضِعُهُ وَمَصْرِفُ الْخُمُسِ، وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ. يُنْظَرُ: (زَكَاةٌ، رِكَازٌ، مَعْدِنٌ، كَنْزٌ) .
__________
(1) سورة مريم / 98.
(2) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ". . . وفي الركاز الخمس "، أخرجه البخاري (الفتح 3 / 364 -. ط السلفية) من حديث أبي هريرة.(20/21)
خُنْثَى
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخُنْثَى فِي اللُّغَةِ: الَّذِي لاَ يَخْلُصُ لِذَكَرٍ وَلاَ أُنْثَى، أَوِ الَّذِي لَهُ مَا لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا مِنَ الْخَنَثِ، وَهُوَ اللِّينُ وَالتَّكَسُّرُ، يُقَال: خَنَّثْتُ الشَّيْءَ فَتَخَنَّثَ، أَيْ: عَطَّفْتُهُ فَتَعَطَّفَ، وَالاِسْمُ الْخُنْثُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مَنْ لَهُ آلَتَا الرِّجَال وَالنِّسَاءِ، أَوْ مَنْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْهُمَا أَصْلاً، وَلَهُ ثُقْبٌ يَخْرُجُ مِنْهُ الْبَوْل (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُخَنَّثُ:
2 - الْمُخَنَّثُ بِفَتْحِ النُّونِ: هُوَ الَّذِي يُشْبِهُ الْمَرْأَةَ فِي اللِّينِ وَالْكَلاَمِ وَالنَّظَرِ وَالْحَرَكَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ ضَرْبَانِ.
__________
(1) لسان العرب مادة: " خنث ".
(2) ابن عابدين 5 / 464، ونهاية المحتاج 6 / 31. ط مصطفى البابي الحلبي، والمغني 6 / 253، 677. ط الرياض، العذب الفائض 2 / 53، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 489.(20/21)
أَحَدُهُمَا: مَنْ خُلِقَ كَذَلِكَ، فَهَذَا لاَ إِثْمَ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ خِلْقَةً، بَل يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ فِي حَرَكَاتِهِنَّ وَكَلاَمِهِنَّ (1) ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَتِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِلَعْنِهِ. فَالْمُخَنَّثُ لاَ خَفَاءَ فِي ذُكُورِيَّتِهِ بِخِلاَفِ الْخُنْثَى.
أَقْسَامُ الْخُنْثَى:
يَنْقَسِمُ الْخُنْثَى إِلَى مُشْكِلٍ وَغَيْرِ مُشْكِلٍ:
أ - الْخُنْثَى غَيْرُ الْمُشْكِل:
3 - مَنْ يَتَبَيَّنُ فِيهِ عَلاَمَاتُ الذُّكُورَةِ أَوِ الأُْنُوثَةِ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ رَجُلٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، فَهَذَا لَيْسَ بِمُشْكِلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ فِيهِ خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ، أَوِ امْرَأَةٌ فِيهَا خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ، وَحُكْمُهُ فِي إِرْثِهِ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ حُكْمُ مَا ظَهَرَتْ عَلاَمَاتُهُ فِيهِ.
ب - الْخُنْثَى الْمُشْكِل:
4 - هُوَ مَنْ لاَ يَتَبَيَّنُ فِيهِ عَلاَمَاتُ الذُّكُورَةِ أَوِ الأُْنُوثَةِ، وَلاَ يُعْلَمُ أَنَّهُ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ تَعَارَضَتْ فِيهِ الْعَلاَمَاتُ
، فَتَحَصَّل مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُشْكِل نَوْعَانِ:
نَوْعٌ لَهُ آلَتَانِ، وَاسْتَوَتْ فِيهِ الْعَلاَمَاتُ، وَنَوْعٌ لَيْسَ لَهُ وَاحِدَةٌ مِنَ الآْلَتَيْنِ وَإِنَّمَا لَهُ ثُقْبٌ. (2)
__________
(1) ابن عابدين 3 / 183، 184.
(2) ابن عابدين 5 / 464 - 465، وفتح القدير 8 / 504، 505. ط دار صادر، ومواهب الجليل 6 / 424، الشرح الصغير 4 / 725، 726، 727، والأشباه والنظائر للسيوطي / 241، 242، والمغني 6 / 253، 254، وروضة الطالبين 1 / 78.(20/22)
مَا يَتَحَدَّدُ بِهِ نَوْعُ الْخُنْثَى:
5 - يَتَبَيَّنُ أَمْرُ الْخُنْثَى قَبْل الْبُلُوغِ بِالْمَبَال، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى قَبْل الْبُلُوغِ إِنْ بَال مِنَ الذَّكَرِ فَغُلاَمٌ، وَإِنْ بَال مِنَ الْفَرْجِ فَأُنْثَى، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الْمَوْلُودِ لَهُ قُبُلٌ وَذَكَرٌ، مِنْ أَيْنَ يُورَثُ؟ قَال يُورَثُ مِنْ حَيْثُ يَبُول (1) وَرُوِيَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِخُنْثَى مِنَ الأَْنْصَارِ، فَقَال: وَرِّثُوهُ مِنْ أَوَّل مَا يَبُول مِنْهُ (2) . وَلأَِنَّ مَنْفَعَةَ الآْلَةِ عِنْدَ الاِنْفِصَال مِنَ الأُْمِّ خُرُوجُ الْبَوْل، وَمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَنَافِعِ يَحْدُثُ بَعْدَهَا، وَإِنْ بَال مِنْهُمَا جَمِيعًا فَالْحُكْمُ لِلأَْسْبَقِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَسَائِرِ أَهْل الْعِلْمِ.
__________
(1) حديث: " سئل في المولود له قبل وذكر، من أين بورث؟ " أخرجه البيهقي (6 / 261 -. ط دائرة المعارف العثمانية) من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وضعف إسناده.، وقال ابن حجر في التلخيص (1 / 128 -. ط شركة الطباعة الفنية) : الكلبي هو محمد بن السائب: " متروك الحديث بل كذاب ".
(2) حديث: " ورثوه من أول ما يبول منه ". أورده المغني (6 / 253. ط الرياض) ولم نعثر عليه فيما لدينا من كتب السنة.(20/22)
وَإِنِ اسْتَوَيَا فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى اعْتِبَارِ الْكَثْرَةِ، وَحُكِيَ هَذَا عَنِ الأَْوْزَاعِيِّ، لأَِنَّ الْكَثْرَةَ مَزِيَّةٌ لإِِحْدَى الْعَلاَمَتَيْنِ، فَيُعْتَبَرُ بِهَا كَالسَّبْقِ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فَهُوَ حِينَئِذٍ مُشْكِلٌ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ قَال: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْكَثْرَةِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ كَيْلاً أَوْ وَزْنًا، فَإِذَا بَال مَرَّتَيْنِ مِنَ الْفَرْجِ وَمَرَّةً مِنَ الذَّكَرِ دَل عَلَى أَنَّهُ أُنْثَى، وَلَوْ كَانَ الَّذِي نَزَل مِنَ الذَّكَرِ أَكْثَر كَيْلاً أَوْ وَزْنًا.
وَيَرَى بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لاَ عِبْرَةَ بِالْكَثْرَةِ، لأَِنَّ الْكَثْرَةَ لَيْسَتْ بِدَلِيلٍ عَلَى الْقُوَّةِ، لأَِنَّ ذَلِكَ لاِتِّسَاعِ الْمَخْرَجِ وَضِيقِهِ، لاَ لأَِنَّهُ هُوَ الْعُضْوُ الأَْصْلِيُّ، وَلأَِنَّ نَفْسَ الْخُرُوجِ دَلِيلٌ بِنَفْسِهِ، فَالْكَثِيرُ مِنْ جِنْسِهِ لاَ يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ كَالشَّاهِدَيْنِ وَالأَْرْبَعَةِ، وَقَدِ اسْتَقْبَحَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ فَقَال: وَهَل رَأَيْتَ قَاضِيًا يَكِيل الْبَوْل بِالأَْوَاقِي؟
6 - وَأَمَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيَتَبَيَّنُ أَمْرُهُ بِأَحَدِ الأَْسْبَابِ الآْتِيَةِ:
إِنْ خَرَجَتْ لِحْيَتُهُ، أَوْ أَمْنَى بِالذَّكَرِ، أَوْ أَحْبَل امْرَأَةً، أَوْ وَصَل إِلَيْهَا، فَرَجُلٌ، وَكَذَلِكَ ظُهُورُ الشَّجَاعَةِ وَالْفُرُوسِيَّةِ، وَمُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ دَلِيلٌ عَلَى رُجُولِيَّتِهِ كَمَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ نَقْلاً عَنِ الإِْسْنَوِيِّ.
وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ ثَدْيٌ وَنَزَل مِنْهُ لَبَنٌ أَوْ حَاضَ، أَوْ أَمْكَنَ وَطْؤُهُ، فَامْرَأَةٌ، وَأَمَّا الْوِلاَدَةُ فَهِيَ تُفِيدُ(20/23)
الْقَطْعَ بِأُنُوثَتِهِ، وَتُقَدَّمُ عَلَى جَمِيعِ الْعَلاَمَاتِ الْمُعَارِضَةِ لَهَا.
وَأَمَّا الْمَيْل، فَإِنَّهُ يُسْتَدَل بِهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الإِْمَارَاتِ السَّابِقَةِ، فَإِنْ مَال إِلَى الرِّجَال فَامْرَأَةٌ، وَإِنْ مَال إِلَى النِّسَاءِ فَرَجُلٌ، وَإِنْ قَال أَمِيل إِلَيْهِمَا مَيْلاً وَاحِدًا، أَوْ لاَ أَمِيل إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَمُشْكِلٌ. (1)
قَال السُّيُوطِيُّ: وَحَيْثُ أُطْلِقَ الْخُنْثَى فِي الْفِقْهِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْكِل. (2)
أَحْكَامُ الْخُنْثَى الْمُشْكِل:
7 - الضَّابِطُ الْعَامُّ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْخُنْثَى الْمُشْكِل أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهِ بِالأَْحْوَطِ وَالأَْوْثَقِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَلاَ يُحْكَمُ بِثُبُوتِ حُكْمٍ وَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهِ.
وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيل بَعْضِ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْخُنْثَى.
عَوْرَتُهُ:
8 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ عَوْرَةَ الْخُنْثَى كَعَوْرَةِ الْمَرْأَةِ حَتَّى شَعْرُهَا النَّازِل عَنِ الرَّأْسِ خَلاَ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَلاَ يَكْشِفُ الْخُنْثَى لِلاِسْتِنْجَاءِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 464 - 465، وفتح القدير 8 / 504، 505 دار صادر والشرح الصغير، والأشباه والنظائر للسيوطي / 241، 242، وروضة الطالبين 1 / 78، والمغني 6 / 253، 254.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي / 248. ط دار الكتب العلمية.(20/23)
وَلاَ لِلْغُسْل عِنْدَ أَحَدٍ أَصْلاً، لأَِنَّهَا إِنْ كَشَفَتْ عِنْدَ رَجُلٍ احْتَمَل أَنَّهَا أُنْثَى، وَإِنْ كَشَفَتْ عِنْدَ أُنْثَى، احْتَمَل أَنَّهُ ذَكَرٌ. وَأَمَّا ظَهْرُ الْكَفِّ فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهَا عَوْرَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالْقَدَمَانِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَصَوْتُهَا عَلَى الرَّاجِحِ، وَذِرَاعَاهَا عَلَى الْمَرْجُوحِ (1) .
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَسْتَتِرُ سَتْرَ النِّسَاءِ فِي الصَّلاَةِ وَالْحَجِّ بِالأَْحْوَطِ، فَيَلْبَسُ مَا تَلْبَسُ الْمَرْأَةُ. (2)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالْخُنْثَى عِنْدَهُمْ كَالرَّجُل فِي ذَلِكَ، لأَِنَّ سَتْرَ مَا زَادَ عَلَى عَوْرَةِ الرَّجُل مُحْتَمَلٌ، فَلاَ يُوجَبُ عَلَيْهِ أَمْرٌ مُحْتَمَلٌ وَمُتَرَدِّدٌ. (3)
نَقْضُ وُضُوئِهِ بِلَمْسِ فَرْجِهِ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِلَمْسِ الْفَرْجِ مُطْلَقًا (4)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوُضُوءَ يُنْقَضُ بِلَمْسِ الْخُنْثَى فَرْجَهُ (5) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ فَرْجَيْهِ جَمِيعًا. (6)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 105، 207، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 384. ط دار الفكر بدمشق، وروضة الطالبين 1 / 283، والأشباه والنظائر للسيوطي / 240.
(2) الحطاب 6 / 433.
(3) المغني 1 / 605.
(4) الاختيار 1 / 10، ومواهب الجليل 1 / 299، 6 / 433.
(5) مواهب الجليل 1 / 299، 6 / 433.
(6) الأشباه والنظائر للسيوطي / 243.(20/24)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ فَصَّلُوا الْكَلاَمَ فِيهِ وَقَالُوا: إِنَّ الْخُنْثَى لَوْ لَمَسَ أَحَدَ فَرْجَيْهِ لَمْ يُنْتَقَضْ وُضُوءُهُ، لأَِنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الْمَلْمُوسُ خِلْقَةً زَائِدَةً، وَإِنْ لَمَسَهَا جَمِيعًا فَعَلَى قَوْل عَدَمِ نَقْضِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ بِمَسِّ فَرْجِهَا لاَ يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً مَسَّتْ فَرْجَهَا، أَوْ خِلْقَةً زَائِدَةً، وَيُنْقَضُ عَلَى قَوْل نَقْضِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ بِمَسِّ فَرْجِهَا، لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فَرْجًا. وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (حَدَثٌ) (وَوُضُوءٌ) (1) .
وُجُوبُ الْغُسْل عَلَى الْخُنْثَى:
10 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْغُسْل عَلَى الْخُنْثَى بِإِيلاَجٍ بِلاَ إِنْزَالٍ لِعَدَمِ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ الأَْصْلِيَّةِ بِيَقِينٍ (2) .
أَذَانُهُ:
11 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ أَذَانُ الْخُنْثَى وَأَنَّهُ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ، لأَِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ كَوْنُهُ رَجُلاً. وَلأَِنَّهُ إِنْ كَانَ أُنْثَى خَرَجَ الأَْذَانُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْبَةً، وَلَمْ يَصِحَّ (3) .
__________
(1) المغني 1 / 182، 183.
(2) ابن عابدين 1 / 109، وحاشية الزرقاني 1 / 96، 97، وروضة الطالبين 1 / 82، 83، والأشباه والنظائر للسيوطي / 243، والمغني 1 / 205.
(3) ابن عابدين 1 / 263، 264، وحاشية الدسوقي 1 / 195، والزرقاني 1 / 160، والقليوبي 1 / 129، وروضة الطالبين 1 / 202، وكشاف القناع 1 / 45، والمغني 1 / 413، ونيل المآرب 1 / 114.(20/24)
وُقُوفُهُ فِي الصَّفِّ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ:
12 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ رِجَالٌ، وَصِبْيَانٌ، وَخَنَاثَى، وَنِسَاءٌ، فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ، تَقَدَّمَ الرِّجَال، ثُمَّ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ الْخَنَاثَى، ثُمَّ النِّسَاءُ، وَلَوْ كَانَ مَعَ الإِْمَامِ خُنْثَى وَحْدَهُ، فَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الإِْمَامَ يَقِفُهُ عَنْ يَمِينِهِ، لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلاً، فَقَدْ وَقَفَ فِي مَوْقِفِهِ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهَا بِوُقُوفِهَا مَعَ الإِْمَامِ، كَمَا لاَ تَبْطُل بِوُقُوفِهَا مَعَ الرِّجَال.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مُحَاذَاتَهُ لِلرَّجُل مُفْسِدَةٌ لِلصَّلاَةِ (1) .
إِمَامَتُهُ:
13 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْخُنْثَى لاَ تَصِحُّ إِمَامَتُهُ لِرَجُلٍ وَلاَ لِمِثْلِهِ، لاِحْتِمَال أُنُوثَتِهِ، وَذُكُورَةِ الْمُقْتَدِي، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَتَصِحُّ إِمَامَةُ الْخُنْثَى لَهُنَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ أَوْ بِدُونِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، وَإِمَامَتُهَا بِالنِّسَاءِ صَحِيحَةٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهَا: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 384، 385، ومواهب الجليل 6 / 433، والأشباه والنظائر للسيوطي ص245، وكشاف القناع 1 / 488، 489، والمغني 1 / 218، 219، 2 / 199.(20/25)
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَا عَدَا ابْنَ عَقِيلٍ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى إِذَا أَمَّ النِّسَاءَ قَامَ أَمَامَهُنَّ لاَ وَسَطَهُنَّ، لاِحْتِمَال كَوْنِهِ رَجُلاً، فَيُؤَدِّي وُقُوفُهُ وَسَطَهُنَّ إِلَى مُحَاذَاةِ الرَّجُل لِلْمَرْأَةِ.
ثُمَّ يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْخُنْثَى لَوْ صَلَّى وَسَطَهُنَّ فَسَدَتْ صَلاَتُهُ بِمُحَاذَاتِهِنَّ عَلَى تَقْدِيرِ ذُكُورَتِهِ، وَتَفْسُدُ صَلاَتُهُنَّ عَلَى هَذَا الأَْسَاسِ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ التَّقَدُّمَ عَلَيْهِنَّ مُسْتَحَبٌّ، وَمُخَالَفَتُهُ لاَ تُبْطِل الصَّلاَةَ.
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: يَقُومُ وَسَطَهُنَّ وَلاَ يَتَقَدَّمُهُنَّ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّرَاوِيحِ وَغَيْرِهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ تَصِحُّ فِي التَّرَاوِيحِ إِذَا كَانَ الْخُنْثَى قَارِئًا وَالرِّجَال أُمِّيُّونَ وَيَقِفُونَ خَلْفَهُ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، لأَِنَّ الذُّكُورَةَ شَرْطٌ عِنْدَهُمْ فِي صِحَّةِ الإِْمَامَةِ، فَلاَ تَجُوزُ إِمَامَةُ الْخُنْثَى وَلَوْ لِمِثْلِهِ فِي نَفْلٍ، وَلَمْ يُوجَدْ رَجُلٌ يُؤْتَمُّ بِهِ.
وَلأَِبِي حَفْصٍ الْبَرْمَكِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْخُنْثَى لاَ تَصِحُّ صَلاَتُهُ فِي جَمَاعَةٍ، لأَِنَّهُ إِنْ قَامَ مَعَ الرِّجَال احْتَمَل أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، وَإِنْ قَامَ مَعَ النِّسَاءِ أَوْ وَحْدَهُ، أَوِ ائْتَمَّ بِامْرَأَةٍ احْتَمَل أَنْ يَكُونَ رَجُلاً، وَإِنْ أَمَّ الرِّجَال احْتَمَل أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، وَإِنْ أَمَّ النِّسَاءَ فَقَامَ وَسَطَهُنَّ احْتَمَل أَنَّهُ رَجُلٌ، إِنْ قَامَ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ احْتَمَل أَنَّهُ امْرَأَةٌ، وَيُحْتَمَل(20/25)
أَنْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَفِي صُورَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنْ يَقُومَ فِي صَفِّ الرِّجَال مَأْمُومًا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا قَامَتْ فِي صَفِّ الرِّجَال لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهَا وَلاَ صَلاَةُ مَنْ يَلِيهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
حَجُّهُ وَإِحْرَامُهُ:
14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى كَالأُْنْثَى فِي شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ، وَفِي لُبْسِ الْمَخِيطِ، وَالْقُرْبِ مِنَ الْبَيْتِ، وَالرَّمَل فِي الطَّوَافِ، وَالاِضْطِبَاعِ، وَالرَّمَل بَيْنَ الْمِيلَيْنِ فِي السَّعْيِ، وَالْوُقُوفِ، وَالتَّقْدِيمِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ، وَلاَ يَحُجُّ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ لاَ مَعَ جَمَاعَةِ رِجَالٍ فَقَطْ، وَلاَ مَعَ نِسَاءٍ فَقَطْ، إِلاَّ أَنْ يَكُونُوا مِنْ مَحَارِمِهِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْخُنْثَى إِذَا أَحْرَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ اجْتِنَابُ الْمَخِيطِ، فَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ إِنْ غَطَّى رَأْسَهُ، لاِحْتِمَال كَوْنِهِ امْرَأَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ غَطَّى وَجْهَهُ مِنْ غَيْرِ لُبْسٍ لِلْمَخِيطِ، لاِحْتِمَال كَوْنِهِ رَجُلاً، فَإِنْ غَطَّى وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ مَعًا فَدَى، لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ أُنْثَى فَقَدْ غَطَّى وَجْهَهُ، وَإِنْ كَانَ رَجُلاً فَقَدْ غَطَّى رَأْسَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَطَّى وَجْهَهُ وَلَبِسَ الْمَخِيطَ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 380، والقوانين الفقهية / 68، والتاج والإكليل على هامش مواهب الجليل 2 / 92، والدسوقي 1 / 326، وجواهر الإكليل 1 / 78. ط مكة، والقليوبي 1 / 231، وروضة الطالبين 1 / 351، والأشباه والنظائر للسيوطي / 243، والمغني 1 / 479، 2 / 199، 200، كشاف القناع 1 / 479.(20/26)
لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ أُنْثَى فَلِتَغْطِيَةِ وَجْهِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَلِلُبْسِهِ الْمَخِيطَ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ عِلْمَ لِي فِي لِبَاسِهِ، لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ ذَكَرًا يُكْرَهُ لَهُ لُبْسُ الْمَخِيطِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى يُكْرَهُ لَهُ تَرْكُهُ (1) . وَيُنْظَرُ: " حَجٌّ ".
النَّظَرُ وَالْخَلْوَةُ:
15 - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْخُنْثَى لاَ يَخْلُو بِهِ غَيْرُ مَحْرَمٍ مِنْ رَجُلٍ وَلاَ امْرَأَةٍ، وَلاَ يُسَافِرُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ مِنَ الرِّجَال احْتِيَاطًا، وَتَوَقِّيًا عَنِ احْتِمَال الْحَرَامِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَتَكَشَّفُ الْخُنْثَى الْمُرَاهِقُ لِلنِّسَاءِ، لاِحْتِمَال كَوْنِهِ رَجُلاً، وَلاَ لِلرِّجَال لاِحْتِمَال كَوْنِهِ امْرَأَةً، وَالْمُرَادُ بِالاِنْكِشَافِ هُوَ أَنْ يَكُونَ فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ، لاَ إِبْدَاءَ مَوْضِعِ الْعَوْرَةِ، لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَحِل لِغَيْرِ الأُْنْثَى أَيْضًا.
وَقَال الْقَفَّال مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: بِالْجَوَازِ اسْتِصْحَابًا لِحُكْمِ الصِّغَرِ، وَبِهِ قَطَعَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 8 / 506. ط دار صادر، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 384،. ط دار الفكر بدمشق، والخطاب 6 / 433، والأشباه والنظائر للسيوطي / 243، وأسنى المطالب 1 / 507، وحاشية الجمل 2 / 506، وكشاف القناع 2 / 421، 428، والمغني 3 / 331.
(2) الاختيار 3 / 39، وفتح القدير 8 / 507، 508، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 383، وابن عابدين 5 / 465، وأسنى المطالب 3 / 114، 4 / 169، وروضة الطالبين 7 / 29، والأشباه والنظائر للسيوطي / 244. ط دار الهلال، وكشاف القناع 5 / 15.(20/26)
نِكَاحُهُ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى إِنْ زَوَّجَهُ أَبُوهُ رَجُلاً فَوَصَل إِلَيْهِ جَازَ، وَكَذَلِكَ إِنْ زَوَّجَهُ امْرَأَةً فَوَصَل إِلَيْهَا، وَإِلاَّ أُجِّل كَالْعِنِّينِ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ النِّكَاحُ فِي حَقِّهِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ، أَيْ لاَ يَنْكِحُ وَلاَ يُنْكَحُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ يَنْكِحُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، ثُمَّ لاَ يُنْقَل عَمَّا اخْتَارَهُ، قَال الْعُقْبَانِيُّ: وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ: إِذَا اخْتَارَ وَاحِدًا، وَفَعَلَهُ، أَمَّا مُجَرَّدُ الاِخْتِيَارِ دُونَ فِعْلٍ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهُ مِنِ اخْتِيَارِ الطَّرَفِ الآْخَرِ. (2)
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي نِكَاحِهِ: فَذَكَرَ الْخِرَقِيُّ: أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ رَجُلٌ، وَأَنَّهُ يَمِيل طَبْعُهُ إِلَى نِكَاحِ النِّسَاءِ، فَلَهُ نِكَاحُهُنَّ، إِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ امْرَأَةٌ يَمِيل طَبْعُهَا إِلَى الرِّجَال زُوِّجَ رَجُلاً، لأَِنَّهُ مَعْنًى لاَ يُتَوَصَّل إِلَيْهِ إِلاَّ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِيجَابُ حَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ، فَيُقْبَل قَوْلُهُ فِيهِ، كَمَا يُقْبَل قَوْل الْمَرْأَةِ فِي حَيْضَتِهَا وَعِدَّتِهَا، وَقَدْ يَعْرِفُ نَفْسَهُ بِمَيْل طَبْعِهِ إِلَى أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ وَشَهْوَتِهِ لَهُ.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم / 382، 383، ط دار الفكر.
(2) مواهب الجليل 6 / 432. ط دار الفكر، والقليوبي 3 / 244، ونهاية المحتاج 6 / 311، والأشباه والنظائر للسيوطي / 245.(20/27)
وَقَال أَبُو بَكْرٍ: لاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ حَتَّى يَبِينَ أَمْرُهُ. وَأَوْرَدَهُ نَصًّا عَنْ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُودُ مَا يُبِيحُ لَهُ النِّكَاحَ، فَلَمْ يُبَحْ لَهُ كَمَا لَوِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ أُخْتُهُ بِنِسْوَةٍ، وَلأَِنَّهُ قَدِ اشْتَبَهَ الْمُبَاحُ بِالْمَحْظُورِ فِي حَقِّهِ فَحَرُمَ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي " نِكَاحٌ "
رَضَاعُهُ:
17 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ ثَابَ (اجْتَمَعَ) لِخُنْثَى لَبَنٌ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ التَّحْرِيمُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ امْرَأَةً، فَلاَ يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ مَعَ الشَّكِّ. (2)
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ فِي لَبَنِ الْخُنْثَى، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ كَمَا قَال بَعْضُ فُقَهَائِهِمْ: إِنَّهُ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ قِيَاسًا عَلَى مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ، فَتَيَقُّنُ حُصُول لَبَنِهِ بِجَوْفِ رَضِيعٍ كَتَيَقُّنِ الطَّهَارَةِ، وَالشَّكُّ فِي كَوْنِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى كَالشَّكِّ فِي الْحَدَثِ. (3)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُوقَفُ الأَْمْرُ حَتَّى يَنْكَشِفَ أَمْرُ الْخُنْثَى، فَإِنْ بَانَ أُنْثَى حَرُمَ، وَإِلاَّ فَلاَ، وَلَكِنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُ مَنِ ارْتَضَعَ بِلَبَنِهِ (4) .
__________
(1) المغني 6 / 677، و 678، وكشاف القناع 5 / 90.
(2) ابن عابدين 2 / 410، وكشاف القناع 5 / 445، والمغني 7 / 545.
(3) حاشية الزرقاني 4 / 239.
(4) حاشية الجمل 4 / 475، وروضة الطالبين 9 / 3، والمغني 7 / 545.(20/27)
إِقْرَارُ الْخُنْثَى:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يُقَلِّل مِيرَاثَهُ أَوْ دِيَتَهُ قُبِل مِنْهُ، وَإِنِ ادَّعَى مَا يَزِيدُ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَل لأَِنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيهِ فَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ عِبَادَاتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْبَل قَوْلُهُ فِيهِ، لأَِنَّهُ حُكْمٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي سُقُوطِ الْمَهْرِ عَنْهُ (1) .
شَهَادَةُ الْخُنْثَى وَقَضَاؤُهُ:
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى كَالأُْنْثَى فِي الشَّهَادَةِ، فَتُقْبَل شَهَادَتُهُ مَعَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فِي غَيْرِ حَدٍّ وَقَوَدٍ، وَيُعَدُّ فِي شَهَادَتِهِ امْرَأَةً. قَال ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَيُحْكَمُ فِيهِ بِالأَْحْوَطِ، وَسُلُوكُ الأَْحْوَطِ فِي شَهَادَتِهِ أَنْ لاَ تُقْبَل إِلاَّ فِي الأَْمْوَال وَيُعَدُّ فِي شَهَادَتِهِ امْرَأَةً. (2)
وَأَمَّا قَضَاؤُهُ، فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ تَوْلِيَةُ الْخُنْثَى، وَلاَ يَنْفُذُ، لأَِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ كَوْنُهُ ذَكَرًا. (3)
__________
(1) فتح القدير 8 / 508. ط دار صادر، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 322. ط مكتبة الهلال، والمغني 6 / 77، 678، و 4 / 461، 462.
(2) ابن عابدين 4 / 377، 356، والحطاب 6 / 432، وروضة الطالبين 11 / 255، والأشباه والنظائر للسيوطي / 243.
(3) الشرح الصغير 4 / 187، وروضة الطالبين 11 / 95، والأشباه والنظائر للسيوطي / 243، والكافي 3 / 433،. ط المكتب الإسلامي بدمشق.(20/28)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْخُنْثَى كَالأُْنْثَى يَصِحُّ قَضَاؤُهُ فِي غَيْرِ حَدٍّ وَقَوَدٍ بِالأَْوْلَى، وَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَصِحَّ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِشُبْهَةِ الأُْنُوثَةِ (1) .
الاِقْتِصَاصُ لِلْخُنْثَى، وَالاِقْتِصَاصُ مِنْهُ:
20 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُقْتَل كُل وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ بِالْخُنْثَى، وَيُقْتَل بِهِمَا، لأَِنَّهُ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الأَْطْرَافِ سَوَاءٌ قَطَعَهَا رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ عَلَى قَاطِعِ يَدِ الْخُنْثَى وَلَوْ عَمْدًا، وَلَوْ كَانَ الْقَاطِعُ امْرَأَةً، وَلاَ تُقْطَعُ يَدُهُ إِذَا قَطَعَ يَدَ غَيْرِهِ عَمْدًا لاِحْتِمَال عَدَمِ التَّكَافُؤِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ
دِيَةُ الْخُنْثَى:
21 - إِنْ كَانَ الْمَقْتُول خُنْثَى فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 356.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم / 383. ط دار الفكر، وابن عابدين 5 / 368، 369، ومواهب الجليل 6 / 433، وروضة الطالبين 9 / 156، 159، والمغني 7 / 679، 680، 715.(20/28)
وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِيهِ نِصْفَ دِيَةِ ذَكَرٍ وَنِصْفَ دِيَةِ أُنْثَى، لأَِنَّهُ يَحْتَمِل الذُّكُورَةَ وَالأُْنُوثَةَ احْتِمَالاً وَاحِدًا، وَقَدْ يُئِسَ مِنِ احْتِمَال انْكِشَافِ حَالِهِ، فَيَجِبُ التَّوَسُّطُ بَيْنَهُمَا، وَالْعَمَل بِكِلاَ الاِحْتِمَالَيْنِ (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْوَاجِبَ دِيَةُ أُنْثَى، لأَِنَّهُ الْيَقِينُ، فَلاَ يَجِبُ الزَّائِدُ بِالشَّكِّ (2) .
وَأَمَّا دِيَةُ جِرَاحِهِ وَأَطْرَافِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا نِصْفُ ذَلِكَ مِنَ الرَّجُل.
وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ لَدَى الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يُسَاوِي الرَّجُل فِي الأَْطْرَافِ إِلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ، فَإِذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ صَارَتْ عَلَى النِّصْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَى ثَلاَثَةِ أَرْبَاعِ دِيَةِ الذَّكَرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الدِّيَاتِ (3) .
وُجُوبُ الْعَقْل (الدِّيَةِ) عَلَى الْخُنْثَى:
22 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، بِأَنَّهُ لاَ تَدْخُل الْخُنْثَى فِي الْعَاقِلَةِ، لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، ثُمَّ إِنْ بَانَ
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 433، والمغني، 8 / 62، 63.
(2) روضة الطالبين 9 / 159، 257، والأشباه والنظائر للسيوطي / 243، والمغني 8 / 62.
(3) ابن عابدين 5 / 368، 369، والقوانين الفقهية / 345، وروضة الطالبين 9 / 257، والمغني 8 / 52، 63.(20/29)
ذَكَرًا، فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَغْرَمَ حِصَّتَهُ الَّتِي أَدَّاهَا غَيْرُهُ (1) .
دُخُولُهُ فِي الْقَسَامَةِ:
23 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْخُنْثَى لاَ يَدْخُل فِي الْقَسَامَةِ، لأَِنَّهُ لاَ يَدْخُل فِي الْعَاقِلَةِ، وَلاَ يَثْبُتُ الْقَتْل بِشَهَادَتِهِ أَشْبَهَ الْمَرْأَةَ. وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْقَتْل الْخَطَأِ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْخُنْثَى يُقْسِمُ، لأَِنَّ سَبَبَ الْقَسَامَةِ وُجِدَ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُسْتَحِقًّا لِلدَّمِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقِ الْمَانِعُ مِنْ يَمِينِهِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَحْلِفُ الْخُنْثَى الأَْكْثَرَ، وَيَأْخُذُ الأَْقَل لِلشَّكِّ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلَى الْبَيَانِ أَوِ الصُّلْحِ، وَلاَ تُعَادُ الْقِسْمَةُ بَعْدَ الْبَيَانِ فَيُعْطَى الْبَاقِي لِمَنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَهُ بِلاَ يَمِينٍ (2) .
حَدُّ قَاذِفِهِ:
24 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَنْ قَذَفَ الْخُنْثَى بِفِعْلٍ يُحَدُّ بِهِ
__________
(1) الاختيار 5 / 61، وابن عابدين 5 / 410، 413، التاج والإكليل على هامش مواهب الجليل 6 / 267، وجواهر الإكليل 2 / 271، وروضة الطالبين 9 / 355، والقليوبي 4 / 157، وحاشية الجمل 5 / 62، والأشباه والنظائر للسيوطي / 243، وكشاف القناع 6 / 60.
(2) الاختيار 3 / 40، والحطاب 6 / 273، والقليوبي 4 / 166، والمغني 8 / 81.(20/29)
الْخُنْثَى يَجِبُ فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ، فَإِذَا رَمَاهُ شَخْصٌ بِالزِّنَى بِفَرْجِهِ الذَّكَرِ، أَوْ فِي فَرْجِهِ الَّذِي لِلنِّسَاءِ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ إِذَا زَنَى بِأَحَدِهِمَا لاَ حَدَّ عَلَيْهِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُحَدُّ قَاذِفُ الْخُنْثَى، لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلاً فَهُوَ كَالْمَجْبُوبِ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَهِيَ كَالرَّتْقَاءِ، وَلاَ يُحَدُّ قَاذِفُهُمَا، لأَِنَّ الْحَدَّ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْهُمَا، وَلَكِنْ فِي ذَلِكَ التَّعْزِيرُ (2) .
خِتَانُهُ:
25 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ خِتَانِ الْخُنْثَى عَلَى أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى الصَّغِيرَ الَّذِي لاَ يُشْتَهَى يَجُوزُ أَنْ يَخْتِنَهُ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةُ. (3)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَال بَعْضُ فُقَهَائِهِمْ: لاَ يُوجَدُ نَصٌّ فِي ذَلِكَ، وَيَرَى ابْنُ نَاجِي كَمَا نَقَلَهُ الْخَطَّابُ: أَنَّ الْخُنْثَى لاَ يُخْتَتَنُ تَطْبِيقًا لِقَاعِدَةِ: تَغْلِيبِ الْحَظْرِ عَلَى الإِْبَاحَةِ. وَمَسَائِلُهُ تَدُل عَلَى ذَلِكَ. (4)
__________
(1) الشرح الصغير 4 / 463، والخطاب 6 / 433، والكافي 3 / 216، وروضة الطالبين 8 / 311، 317.
(2) البدائع 7 / 329، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 383. ط دار الفكر.
(3) الاختيار 3 / 39، والبدائع 7 / 328، وفتح القدير 8 / 506، و 507. ط دار صادر.
(4) الحطاب 3 / 259.(20/30)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْخُنْثَى لاَ يُخْتَنُ فِي صِغَرِهِ، فَإِذَا بَلَغَ فَوَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَشْهُورُ يَجِبُ خِتَانُ فَرْجَيْهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الأَْصَحُّ: أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ الْجَرْحَ لاَ يَجُوزُ بِالشَّكِّ، فَعَلَى الأَْوَّل، إِنْ أَحْسَنَ الْخِتَانَ، خَتَنَ نَفْسَهُ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَوَلاَّهُ الرِّجَال وَالنِّسَاءُ لِلضَّرُورَةِ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَخْتِنُ فَرْجَيِ الْخُنْثَى احْتِيَاطًا (2) .
لُبْسُهُ الْفِضَّةَ وَالْحَرِيرَ:
26 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْخُنْثَى فِي الْجُمْلَةِ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى يُكْرَهُ لَهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالْحُلِيِّ، لأَِنَّهُ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ وَحَالُهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ بَعْدُ، فَيُؤْخَذُ بِالاِحْتِيَاطِ، فَإِنَّ اجْتِنَابَ الْحَرَامِ فَرْضٌ، وَالإِْقْدَامَ عَلَى الْمُبَاحِ مُبَاحٌ، فَيُكْرَهُ حَذَرًا عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ (3) .
__________
(1) شرح المنهج على حاشية الجمل 5 / 174، وأسنى المطالب 4 / 164، 165، روضة الطالبين 10 / 181، والأشباه والنظائر للسيوطي / 244.
(2) كشاف القناع 1 / 80.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم / 382،. ط دار الفكر، والاختيار 3 / 39، والعناية على هامش فتح القدير 8 / 507، والبدائع 7 / 329، وابن عابدين 5 / 465، والأشباه والنظائر للسيوطي / 242، وروضة الطالبين 2 / 66، 67، وكشاف القناع 1 / 281، 2 / 238.(20/30)
غُسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ وَدَفْنُهُ:
27 - إِذَا مَاتَ الْخُنْثَى فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي غُسْلِهِ عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى إِنْ مَاتَ لَمْ يُغَسِّلْهُ رَجُلٌ وَلاَ امْرَأَةٌ، لأَِنَّ غَسْل الرَّجُل الْمَرْأَةَ، وَعَكْسَهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الشَّرْعِ، فَإِنَّ النَّظَرَ إِلَى الْعَوْرَةِ حَرَامٌ، وَالْحُرْمَةُ لَمْ تَزُل بِالْمَوْتِ فَيُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ، لِتَعَذُّرِ الْغُسْل، وَيُيَمِّمُهُ بِخِرْقَةٍ إِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا، وَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ امْرَأَةً، وَبِغَيْرِ خِرْقَةٍ إِنْ يَمَّمَهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ. (1)
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ الْقَوْل فِيهِ: فَقَالُوا: إِذَا مَاتَ الْخُنْثَى وَلَيْسَ هُنَاكَ مَحْرَمٌ لَهُ مِنَ الرِّجَال أَوِ النِّسَاءِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ حَدًّا يُشْتَهَى مِثْلُهُ جَازَ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ غَسْلُهُ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَوَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُيَمَّمُ وَيُدْفَنُ. وَالثَّانِي: يُغَسَّل، وَفِيمَنْ يَغْسِلُهُ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا وَبِهِ قَال أَبُو زَيْدٍ: يَجُوزُ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا غَسْلُهُ لِلضَّرُورَةِ وَاسْتِصْحَابًا بِحُكْمِ الصِّغَرِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي حَقِّ الرِّجَال كَالْمَرْأَةِ، وَفِي حَقِّ النِّسَاءِ كَالرَّجُل أَخْذًا بِالأَْحْوَطِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 8 / 506، 509. ط دار صادر، والبدائع 7 / 328، وابن عابدين 5 / 466.
(2) أسنى المطالب 1 / 303، وروضة الطالبين 2 / 105، ونهاية المحتاج 2 / 451، والأشباه والنظائر للسيوطي / 245.(20/31)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْخُنْثَى إِذَا كَانَ لَهُ سَبْعُ سِنِينَ فَأَكْثَرُ يُيَمَّمُ بِحَائِلٍ مِنْ خِرْقَةٍ وَنَحْوِهَا، وَالرَّجُل أَوْلَى بِتَيْمِيمِ الْخُنْثَى مِنَ الْمَرْأَةِ. (1)
28 - وَيُكَفَّنُ الْخُنْثَى كَمَا تُكَفَّنُ الْجَارِيَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ، لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ أُنْثَى فَقَدْ أُقِيمَتِ السُّنَّةُ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَقَدْ زَادُوا عَلَى الثَّلاَثِ، وَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ. فَإِنَّ لِلرَّجُل أَنْ يَلْبَسَ فِي حَيَاتِهِ أَزْيَدَ عَلَى الثَّلاَثَةِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ أُنْثَى كَانَ فِي الاِقْتِصَارِ عَلَى الثَّلاَثَةِ تَرْكُ السُّنَّةِ.
وَإِذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَعَلَى رَجُلٍ، وَعَلَى امْرَأَةٍ، وُضِعَ الْخُنْثَى بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ اعْتِبَارًا بِحَال الْحَيَاةِ، لأَِنَّهُ يَقُومُ بَيْنَ صَفِّ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ فِي الصَّلاَةِ.
وَلَوْ دُفِنَ مَعَ رَجُلٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ مِنْ عُذْرٍ جُعِل الْخُنْثَى خَلْفَ الرَّجُل، لاِحْتِمَال أَنَّهُ امْرَأَةٌ، وَيُجْعَل بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ مِنْ صَعِيدٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ قَبْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ امْرَأَةٍ قُدِّمَ الْخُنْثَى، لاِحْتِمَال أَنَّهُ رَجُلٌ.
وَتُسْتَحَبُّ تَسْجِيَةُ قَبْرِهِ عِنْدَ دَفْنِهِ، لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ أُنْثَى أُقِيمَ الْوَاجِبُ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَالتَّسْجِيَةُ لاَ تَضُرُّهُ (2) .
__________
(1) كشاف القناع 1 / 91.
(2) فتح القدير 8 / 508، 509، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 382،. ط دار الفكر، وابن عابدين 5 / 466، والبدائع 7 / 328، وكشاف القناع 2 / 106، 108.(20/31)
إِرْثُهُ:
29 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْخُنْثَى يَرِثُ نِصْفَ مِيرَاثِ ذَكَرٍ، وَنِصْفَ مِيرَاثِ أُنْثَى عَمَلاً بِالشَّبَهَيْنِ، وَهَذَا قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَهْل الْمَدِينَةِ، وَمَكَّةَ، وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ.
وَوَرَّثَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَقَل النَّصِيبَيْنِ احْتِيَاطًا، وَيُعْطِيهِ الشَّافِعِيَّةُ الْيَقِينَ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي حَتَّى يَتَبَيَّنَ الأَْمْرُ أَوْ يَصْطَلِحُوا، وَلَوْ مَاتَ الْخُنْثَى قَبْل اتِّضَاحِهِ لَمْ يَبْقَ إِلاَّ الصُّلْحُ فِي الْقَدْرِ الْمَوْقُوفِ (الْمَحْجُوزِ) ، وَبِهِ قَال أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَابْنُ جَرِيرٍ (1) .
وَفِي كَيْفِيَّةِ إِرْثِهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ " إِرْثٌ "
__________
(1) الاختيار 5 / 115، وفتح القدير 8 / 509، وابن عابدين 5 / 466، ومواهب الجليل 6 / 426، 427، ونهاية المحتاج 6 / 31، 32،. ط مصطفى البابي الحلبي، والقليوبي 3 / 150، والمغني 6 / 254، ونيل المآرب 2 / 93.(20/32)
خِنْزِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخِنْزِيرُ حَيَوَانٌ خَبِيثٌ. قَال الدَّمِيرِيُّ. الْخِنْزِيرُ يَشْتَرِكُ بَيْنَ الْبَهِيمِيَّةِ وَالسَّبُعِيَّةِ، فَالَّذِي فِيهِ مِنَ السَّبُعِ النَّابُ وَأَكْل الْجِيَفِ، وَالَّذِي فِيهِ مِنَ الْبَهِيمِيَّةِ الظِّلْفُ وَأَكْل الْعُشْبِ وَالْعَلَفِ.
أَحْكَامُ الْخِنْزِيرِ:
2 - تَدُورُ أَحْكَامُ الْخِنْزِيرِ عَلَى اعْتِبَارَاتٍ:
الأَْوَّل: تَحْرِيمُ لَحْمِهِ وَسَائِرِ أَجْزَائِهِ.
الثَّانِي: اعْتِبَارُ نَجَاسَةِ عَيْنِهِ.
وَالثَّالِثُ: اعْتِبَارُ مَالِيَّتِهِ. وَتَرَتَّبَ عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الاِعْتِبَارَاتِ أَوْ عَلَى جَمِيعِهَا جُمْلَةٌ مِنَ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
3 - أَمَّا الاِعْتِبَارُ الأَْوَّل فَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى حُرْمَةِ أَكْل لَحْمِ الْخِنْزِيرِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ. لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُل لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِل(20/32)
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . (1)
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى تَقْدِيمِ أَكْل الْكَلْبِ عَلَى الْخِنْزِيرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ لِقَوْل بَعْضِ الْفُقَهَاءِ بِعَدَمِ تَحْرِيمِ أَكْل الْكَلْبِ.
كَمَا يُقَدَّمُ شَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَكُلْيَتُهُ وَكَبِدُهُ عَلَى لَحْمِهِ، لأَِنَّ اللَّحْمَ يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَلاَ خِلاَفَ فِيهِ. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ مَيْتَةِ غَيْرِ الْخِنْزِيرِ عَلَى الْخِنْزِيرِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، لأَِنَّ الْخِنْزِيرَ حَرَامٌ لِذَاتِهِ، وَحُرْمَةَ الْمَيْتَةِ عَارِضَةٌ. (2)
4 - وَأَمَّا الاِعْتِبَارُ الثَّانِي: وَهُوَ اعْتِبَارُ نَجَاسَةِ عَيْنِهِ:
فَقَدِ اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ، وَكَذَلِكَ نَجَاسَةُ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَمَا يَنْفَصِل عَنْهُ كَعَرَقِهِ وَلُعَابِهِ وَمَنِيِّهِ (3) وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لاَ أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ
__________
(1) سورة الأنعام / 145.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 196، حاشية الدسوقي 2 / 116، 117، مطالب أولي النهى 6 / 321، المجموع 9 / 2، و 39.
(3) فتح القدير 1 / 82، بدائع الصنائع 1 / 63، شرح العناية على الهداية 1 / 82 بهامش فتح القدير، ونهاية المحتاج 1 / 19، وكشاف القناع 1 / 181.(20/33)
رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) . وَالضَّمِيرُ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} رَاجِعٌ إِلَى الْخِنْزِيرِ فَيَدُل عَلَى تَحْرِيمِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ وَجَمِيعِ أَجْزَائِهِ.
وَذَلِكَ لأَِنَّ الضَّمِيرَ إِذَا صَلَحَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمُضَافِ وَهُوَ " اللَّحْمُ " وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ " الْخِنْزِيرُ " جَازَ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِمَا.
وَعَوْدُهُ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ أَوْلَى فِي هَذَا الْمَقَامِ لأَِنَّهُ مَقَامُ تَحْرِيمٍ، لأَِنَّهُ لَوْ عَادَ إِلَى الْمُضَافِ وَهُوَ اللَّحْمُ لَمْ يَحْرُمْ غَيْرُهُ، وَإِنْ عَادَ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ حَرُمَ اللَّحْمُ وَجَمِيعُ أَجْزَاءُ الْخِنْزِيرِ.
فَغَيْرُ اللَّحْمِ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْرُمَ وَأَنْ لاَ يَحْرُمَ فَيَحْرُمُ احْتِيَاطًا وَذَلِكَ بِإِرْجَاعِ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ طَالَمَا أَنَّهُ صَالِحٌ لِذَلِكَ، وَيُقَوِّي إِرْجَاعَ الضَّمِيرِ إِلَى " الْخِنْزِيرِ " أَنَّ تَحْرِيمَ لَحْمِهِ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْخِنْزِيرَ لَيْسَ مَحَلًّا لِلتَّذْكِيَةِ فَيَنْجَسُ لَحْمُهُ بِالْمَوْتِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ حَال الْحَيَاةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الأَْصْل فِي كُل حَيٍّ الطَّهَارَةُ، وَالنَّجَاسَةُ عَارِضَةٌ، فَطَهَارَةُ عَيْنِهِ بِسَبَبِ الْحَيَاةِ، وَكَذَلِكَ طَهَارَةُ عَرَقِهِ وَلُعَابِهِ وَدَمْعِهِ وَمُخَاطِهِ (2) .
وَمِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحُكْمِ بِنَجَاسَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ::
__________
(1) سورة الأنعام / 145.
(2) الشرح الصغير 1 / 43.(20/33)
أَوَّلاً: دِبَاغُ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ جِلْدُ الْخِنْزِيرِ بِالدِّبَاغِ وَلاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ لأَِنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، وَالدِّبَاغُ كَالْحَيَاةِ، فَكَمَا أَنَّ الْحَيَاةَ لاَ تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْهُ، فَكَذَا الدِّبَاغُ. وَوَجَّهَ الْمَالِكِيَّةُ قَوْلَهُمْ بِعَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ بِالدِّبَاغِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلتَّذْكِيَةِ إِجْمَاعًا فَلاَ تَعْمَل فِيهِ فَكَانَ مَيْتَةً فَلاَ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ وَلاَ يَجُوزُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ.
وَيَتَّفِقُ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ مِنْ أَيِّ حَيَوَانٍ لاَ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، وَلَكِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ الاِنْتِفَاعَ بِهِ بَعْدَ الدِّبَاغِ فِي غَيْرِ الْمَائِعَاتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي الْمَائِعَاتِ كَذَلِكَ مَعَ الْيَابِسَاتِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ الْخِنْزِيرَ فَلاَ تَتَنَاوَلُهُ الرُّخْصَةُ. ( x661 ;)
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ.
وَيُقَابِل الرِّوَايَةَ الْمَشْهُورَةَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا شَهَرَهُ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ الْفَرَسِ مِنْ أَنَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ كَجِلْدِ غَيْرِهِ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْيَابِسَاتِ وَالْمَاءِ إِذَا دُبِغَ سَوَاءٌ ذُكِّيَ أَمْ لاَ.
ثَانِيًا: سُؤْرُ الْخِنْزِيرِ:
6 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 136، 137، فتح القدير 1 / 81، بدائع الصنائع 1 / 74، حاشية الدسوقي 1 / 54، 55، مواهب الجليل 1 / 101، المجموع 1 / 217، كشاف القناع 1 / 54، 55، المغني 1 / 66.(20/34)
نَجَاسَةِ سُؤْرِ الْخِنْزِيرِ لِكَوْنِهِ نَجِسَ الْعَيْنِ، وَكَذَا لُعَابُهُ لأَِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ عَنْهُ.
وَيَكُونُ تَطْهِيرُ الإِْنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ بِأَنْ يُغْسَل سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَفِي رِوَايَةٍ: فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَفِي أُخْرَى: طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ.
(1) قَالُوا: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْكَلْبِ فَالْخِنْزِيرُ أَوْلَى لأَِنَّهُ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ الْكَلْبِ وَتَحْرِيمُهُ أَشَدُّ، لأَِنَّ الْخِنْزِيرَ لاَ يُقْتَنَى بِحَالٍ، وَلأَِنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَى قَتْلِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، وَلأَِنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (2) فَثَبَتَ وُجُوبُ غَسْل مَا وَلَغَ فِيهِ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكُونُ تَطْهِيرُ الإِْنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ خِنْزِيرٌ بِأَنْ يُغْسَل ثَلاَثًا. (3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ نَجَاسَةِ سُؤْرِ الْخِنْزِيرِ وَذَلِكَ لِطَهَارَةِ لُعَابِهِ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ ثَبَتَ غَسْل
__________
(1) حديث: " إذا شرب الكلب في أناء أحدكم فليغسله سبع مرات ". أخرجه مسلم (1 / 234 -. ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) سورة الأنعام / 145.
(3) فتح القدير 1 / 75، 76، البحر الرائق 1 / 134، مراقي الفلاح ص5، والمجموع 1 / 173، نهاية المحتاج 1 / 236، وكشاف القناع 1 / 182.(20/34)
الإِْنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ تَعَبُّدًا فَلاَ يَدْخُل فِيهِ الْخِنْزِيرُ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْمَالِكِيَّةِ: يُنْدَبُ الْغَسْل (1) .
ثَالِثًا: حُكْمُ شَعْرِهِ:
7 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى نَجَاسَةِ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ فَلاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لأَِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِلْعَيْنِ النَّجِسَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَوْ خُرِزَ خُفٌّ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ لَمْ يَطْهُرْ مَحَل الْخَرْزِ بِالْغَسْل أَوْ بِالتُّرَابِ لَكِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، فَيُصَلَّى فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالنَّوَافِل لِعُمُومِ الْبَلْوَى. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجِبُ غَسْل مَا خُرِزَ بِهِ رَطْبًا وَيُبَاحُ اسْتِعْمَال مُنْخُلٍ مِنَ الشَّعْرِ النَّجِسِ فِي يَابِسٍ لِعَدَمِ تَعَدِّي نَجَاسَتِهِ، وَلاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الرَّطْبِ لاِنْتِقَال النَّجَاسَةِ بِالرُّطُوبَةِ.
وَأَبَاحَ الْحَنَفِيَّةُ اسْتِعْمَال شَعْرِهِ لِلْخَرَّازِينَ لِلضَّرُورَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ فَإِذَا قُصَّ بِمِقَصٍّ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ وَإِنْ وَقَعَ الْقَصُّ بَعْدَ الْمَوْتِ، لأَِنَّ الشَّعْرَ مِمَّا لاَ تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ، وَمَا لاَ تَحِلُّهُ الْحَيَاةُ لاَ يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ غَسْلُهُ لِلشَّكِّ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ. أَمَّا إِذَا نُتِفَ فَلاَ يَكُونُ طَاهِرًا (2) .
__________
(1) الخرشي 1 / 119، والشرح الصغير 1 / 86.
(2) بدائع الصنائع 1 / 63، حاشية الدسوقي 1 / 49، وأسنى المطالب 1 / 21، وكشاف القناع 1 / 56.(20/35)
رَابِعًا: حُكْمُ التَّدَاوِي بِأَجْزَائِهِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي بِالنَّجِسِ وَالْمُحَرَّمِ (فِي الْجُمْلَةِ) وَهُوَ شَامِلٌ لِلْخِنْزِيرِ.
وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ " تَدَاوِي " (1) .
خَامِسًا: تَحَوُّل عَيْنِ الْخِنْزِيرِ:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ يَطْهُرُ بِاسْتِحَالَتِهِ إِلَى عَيْنٍ أُخْرَى، فَإِذَا اسْتَحَالَتْ عَيْنُ الْخِنْزِيرِ إِلَى مِلْحٍ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ لاَ يَطْهُرُ بِالاِسْتِحَالَةِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْخَمْرَ وَجِلْدَ الْمَيْتَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَحَوُّلٌ ف 3 - 5) .
الاِعْتِبَارُ الثَّالِثُ: اعْتِبَارُ مَالِيَّةِ الْخِنْزِيرِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْخِنْزِيرِ مَالاً مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ. وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَال هُوَ مَا يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا فِي غَيْرِ الضَّرُورَاتِ، وَالْخِنْزِيرُ لاَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ وَلِنَهْيِ الشَّارِعِ عَنْ بَيْعِهِ كَمَا يَأْتِي.
وَيَظْهَرُ أَثَرُ عَدَمِ اعْتِبَارِ الْخِنْزِيرِ مَالاً فِي الآْتِي:
أَوَّلاً: عَدَمُ صِحَّةِ بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ:
أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِ الْخِنْزِيرِ
__________
(1) الموسوعة 11 / 118.(20/35)
وَشِرَائِهِ، وَلِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ، فَقِيل: يَا رَسُول اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ، فَقَال: لاَ، هُوَ حَرَامٌ، ثُمَّ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتَل اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ (1) وَلأَِنَّ مِنْ شَرْطِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ - سَوَاءٌ أَكَانَ ثَمَنًا أَمْ مُثَمَّنًا - أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا وَأَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ شَرْعًا ".
وَالأَْصْل فِي حِل مَا يُبَاعُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ لأَِنَّ بَيْعَ غَيْرِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ شَرْعًا لاَ يَتَحَقَّقُ بِهِ الرِّضَا، فَيَكُونُ مِنْ أَكْل الْمَال بِالْبَاطِل، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} . (2)
وَالْخِنْزِيرُ إِنْ كَانَ فِيهِ بَعْضُ الْمَنَافِعِ إِلاَّ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا، وَالْمَعْدُومُ شَرْعًا كَالْمَعْدُومِ حِسًّا.
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فِي حُكْمِ بَيْعِ الْخِنْزِيرِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ إِذَا بِيعَ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَفَاسِدٌ
__________
(1) حديث: " إن الله تعالى ورسوله حرم بيع الخمر والميتة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 424 -. ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1207 -. ط الحلبي) .
(2) سورة النساء / 29.(20/36)
إِذَا بِيعَ بِعَيْنٍ، عَلَى قَوْلِهِمْ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَيْعِهِ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَبَيْنَ بَيْعِهِ بِعَيْنٍ، أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِإِهَانَةِ الْخِنْزِيرِ وَتَرْكِ إِعْزَازِهِ وَفِي شِرَائِهِ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ إِعْزَازٌ لَهُ، لأَِنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ فِي الْعَقْدِ لِكَوْنِهَا وَسِيلَةً لِلتَّمَلُّكِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخِنْزِيرُ، وَلِذَا كَانَ بَيْعُهُ بِهِمَا بَاطِلاً وَيَسْقُطُ التَّقَوُّمُ.
أَمَّا إِذَا بِيعَ بِعَيْنٍ كَالثِّيَابِ، فَقَدْ وُجِدَتْ حَقِيقَةُ الْبَيْعِ لأَِنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَالْخِنْزِيرُ يُعْتَبَرُ مَالاً فِي بَعْضِ الأَْحْوَال كَمَا هُوَ عِنْدَ أَهْل الْكِتَابِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُعْتَبَرُ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَمَبِيعًا. وَرُجِّحَ اعْتِبَارُ الثَّوْبِ مَبِيعًا تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْعُقَلاَءِ الَّذِي يَقْضِي بِأَنْ يَكُونَ الإِْعْزَازُ لِلثَّوْبِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ لاَ الْخِنْزِيرُ. فَتَكُونُ تَسْمِيَةُ الْخِنْزِيرِ فِي الْعَقْدِ مُعْتَبَرَةً فِي تَمَلُّكِ الثَّوْبِ لاَ فِي نَفْسِ الْخِنْزِيرِ، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ لِفَسَادِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَتَجِبُ قِيمَةُ الثَّوْبِ دُونَ الْخِنْزِيرِ (1) .
إِقْرَارُ أَهْل الذِّمَّةِ عَلَى اقْتِنَاءِ الْخِنْزِيرِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَهْل الذِّمَّةِ يُقَرُّونَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 3، البحر الرائق 5 / 270، 277، 279، فتح القدير 5 / 186، 187، 188، والشرح الصغير 3 / 22، 4 / 724، مواهب الجليل 4 / 258، 263، وروضة الطالبين 3 / 348، حاشية القليوبي وعميرة 2 / 158، والمجموع 9 / 230، وكشاف القناع 3 / 152.(20/36)
عَلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنْ خَنَازِيرَ إِلاَّ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ إِظْهَارِهَا، وَيُمْنَعُونَ مِنْ إِطْعَامِهَا مُسْلِمًا، فَإِذَا أَظْهَرُوهَا أُتْلِفَتْ وَلاَ ضَمَانَ.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ تَمْكِينِهِمْ مِنْ إِظْهَارِهَا بِأَنْ يَكُونُوا بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا انْفَرَدُوا بِمَحَلَّةٍ مِنَ الْبَلَدِ، أَمَّا إِذَا انْفَرَدُوا بِبَلَدٍ بِأَنْ لَمْ يُخَالِطْهُمْ مُسْلِمٌ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُمْ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى إِجْبَارِ الزَّوْجَةِ الْكِتَابِيَّةِ عَلَى تَرْكِ أَكْل الْخِنْزِيرِ، لأَِنَّهُ مُنَفِّرٌ مِنْ كَمَال التَّمَتُّعِ، وَخَالَفَهُمْ فِي هَذَا الْمَالِكِيَّةُ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ عِنْدَهُمْ مَنْعُهَا مِنْهُ (2) .
سَرِقَةُ الْخِنْزِيرِ أَوْ إِتْلاَفُهُ:
12 - (أ) اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قَطْعَ وَلاَ ضَمَانَ عَلَى مَنْ سَرَقَ أَوْ أَتْلَفَ خِنْزِيرَ الْمُسْلِمِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ، وَلاَ مُتَقَوِّمٍ، لِعَدَمِ جَوَازِ تَمَلُّكِهِ وَبَيْعِهِ وَاقْتِنَائِهِ. (3)
(ب) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ خِنْزِيرَ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ وَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ إِذَا سَرَقَهُ.
__________
(1) فتح القدير 5 / 300، ونهاية المحتاج 8 / 93، الشرقاوي على التحرير 2 / 413، 414، والجمل 5 / 226، 3 / 481، الزرقاني على خليل 3 / 146، التاج والإكليل للمواق 45 / 385، كشاف القناع 3 / 127.
(2) الشرح الصغير 2 / 420، ونهاية المحتاج 6 / 287.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 193، البحر الرائق 5 / 55، نهاية المحتاج 7 / 421، حاشية الدسوقي 4 / 336، الشرح الصغير 4 / 474، كشاف القناع 6 / 131.(20/37)
وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ (1) وَهُمْ يَدِينُونَ بِمَالِيَّةِ الْخِنْزِيرِ وَهُوَ مِنْ أَنْفَسِ الأَْمْوَال عِنْدَهُمْ لأَِنَّهُ كَالشَّاةِ عِنْدَنَا. وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا قَبِلُوهَا يَعْنِي الْجِزْيَةَ أَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ (2) وَلِلْمُسْلِمِينَ التَّضْمِينُ بِإِتْلاَفِ مَا يَعْتَقِدُونَهُ مَالاً فَكَذَا يَكُونُ الذِّمِّيُّ، بِخِلاَفِ الْمُسْلِمِ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَالاً فِي حَقِّهِ أَصْلاً. (3)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا غَصَبَ مُسْلِمٌ لأَِهْل الذِّمَّةِ خِنْزِيرًا رُدَّ إِلَيْهِمْ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ (4) فَإِذَا أَتْلَفَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ كَسَائِرِ
__________
(1) حديث: " اتركوهم وما يدينون ". أورده صاحب فتح القدير (8 / 285 - نشر دار إحياء التراث العربي) ولم يعزه إلى أحد، ولم نهتد إليه في المصادر الحديثية الموجودة بين أيدينا.
(2) حديث: " إذا قبلوها - يعني الجزية - فأعلمهم أنه لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ".، أورده الزيلعي في نصب الراية (3 / 55 -. ط المجلس العلمي) ، وقال: لم أعرف الحديث الذي أشار إليه المصنف، وقال ابن حجر في الدراية (2 / 162. ط الفجالة) " لم أجده هكذا ".
(3) الاختيار 3 / 65، فتح القدير 8 / 285، 286، والشرح الصغير 4 / 474.
(4) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤديه. . . " أخرجه أبو داود (3 / 822 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث الحسن عن سمرة، وقال ابن حجر في التلخيص (3 / 53 -. ط شركة الطباعة الفنية) : (الحسن مختلف في سماعه من سمرة) .(20/37)
النَّجَاسَاتِ فَلَيْسَ لَهُ عِوَضٌ شَرْعِيٌّ، سَوَاءٌ أَظْهَرُوهُ أَوْ لَمْ يُظْهِرُوهُ. إِلاَّ أَنَّهُ يَأْثَمُ إِذَا أَتْلَفَهُ فِي حَال عَدَمِ إِظْهَارِهِمْ لَهُ (1) .
13 - الْخِنْزِيرُ الْبَحْرِيُّ: سُئِل مَالِكٌ عَنْهُ فَقَال أَنْتُمْ تُسَمُّونَهُ خِنْزِيرًا يَعْنِي أَنَّ الْعَرَبَ لاَ تُسَمِّيهِ بِذَلِكَ لأَِنَّهَا لاَ تَعْرِفُ فِي الْبَحْرِ خِنْزِيرًا وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ الدُّلْفِينُ. قَال الرَّبِيعُ سُئِل الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ خِنْزِيرِ الْمَاءِ فَقَال: يُؤْكَل وَرَوَى أَنَّهُ لَمَّا دَخَل الْعِرَاقَ قَال فِيهِ حَرَّمَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحَلَّهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَرَوَى هَذَا الْقَوْل عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ، وَامْتَنَعَ مَالِكٌ أَنْ يَقُول فِيهِ شَيْئًا وَأَبْقَاهُ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى جِهَةِ الْوَرَعِ وَحَكَى ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ ابْنِ خَيْرَانَ أَنَّ أَكَّارًا صَادَ لَهُ خِنْزِيرَ مَاءٍ وَحَمَلَهُ إِلَيْهِ فَأَكَلَهُ، وَقَال كَانَ طَعْمُهُ مُوَافِقًا لِطَعْمِ الْحُوتِ سَوَاءً، وَقَال ابْنُ وَهْبٍ سَأَلْتُ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ عَنْهُ فَقَال إِنْ سَمَّاهُ النَّاسُ خِنْزِيرًا لَمْ يُؤْكَل لأَِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ (2) .
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 218، نهاية المحتاج 5 / 165، 166، وكشاف القناع 4 / 78.
(2) حياة الحيوان للدميري 1 / 307.(20/38)
خَنِقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَنِقُ بِكَسْرِ النُّونِ وَالْخَنْقُ (بِسُكُونِهَا) مَصْدَرُ خَنَقَ يَخْنُقُ إِذَا عَصَرَ حَلْقَهُ حَتَّى يَمُوتَ، وَالتَّخْنِيقُ مَصْدَرُ خَنَّقَ وَمِنْهُ الْخِنَاقُ، وَالْخِنَاقُ الْحَبْل الَّذِي يُخْنَقُ بِهِ. (1)
وَيُسْتَعْمَل فِي الاِصْطِلاَحِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي نَفْسِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، بِأَيِّ وَسِيلَةٍ كَانَ الْخَنْقُ بِحَبْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَأَنْ جَعَل فِي عُنُقِهِ حَبْلاً ثُمَّ عَلَّقَهُ فِي شَيْءٍ عَنِ الأَْرْضِ، أَوْ خَنَقَهُ بِيَدَيْهِ أَوْ سَدَّ فَمَهُ وَأَنْفَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً - فِي الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُذْبَحَ فَإِنَّهُ لاَ يَحِل بِالْخَنْقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب في المادة.
(2) ابن عابدين 5 / 349، ومطالب أولي النهى 6 / 9، القرطبي 6 / 48.(20/38)
وَمَا أُهِل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ} (1)
كَذَلِكَ يَحْرُمُ الأَْكْل مِنَ الصَّيْدِ الَّذِي مَاتَ بِالْخِنَاقِ بِحَبْلٍ مَنْصُوبٍ لَهُ، أَوِ الَّذِي خَنَقَهُ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ مِنْ غَيْرِ جَرْحٍ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} (2)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ، ذَبَائِحُ) .
ثَانِيًا - فِي الْقَتْل:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقَتْل بِالْخَنْقِ قَتْل عَمْدٍ يُوجِبُ الْقَوَدَ، فَيُقْتَل بِهِ الْجَانِي قِصَاصًا، لأَِنَّ الْعَمْدَ قَصْدُ الْفِعْل الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْقَتْل بِمَا يُتْلِفُ غَالِبًا جَارِحًا أَوْ لاَ، كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهَذَا يَشْمَل التَّخْنِيقَ وَالتَّغْرِيقَ، كَمَا يَشْمَل الإِْلْقَاءَ مِنْ شَاهِقٍ، وَالْقَتْل بِمُثَقَّلٍ، وَلأَِنَّ قَصْدَ الْعُدْوَانِ يَكْفِي لِيَكُونَ الْقَتْل عَمْدًا مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، سَوَاءٌ أَقَصَدَ الْجَانِي قَتْل الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَمْ قَصَدَ مُجَرَّدَ ضَرْبِهِ وَتَعْذِيبِهِ فَمَاتَ. (3)
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ قِصَاصَ فِي الْقَتْل بِالْخَنْقِ
__________
(1) سورة المائدة / 3.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 186، وتفسير القرطبي 6 / 48، وأسنى المطالب 1 / 555، والمغني 8 / 545.
(3) ابن عابدين 3 / 215، 339، والاختيار 5 / 29، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 242، وحاشية الجمل 5 / 5، والمغني 7 / 640، ومغني المحتاج 4 / 6.(20/39)
وَالتَّغْرِيقِ وَالْقَتْل بِالْمُثَقَّل، لأَِنَّهُ لَيْسَ عَمْدًا، بَل شِبْهَ عَمْدٍ، وَقَال: الْعَمْدُ مَا تَعَمَّدَ قَتْلَهُ بِالْحَدِيدِ كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ وَالرُّمْحِ وَالْخِنْجَرِ وَالنُّشَّابَةِ وَالإِْبْرَةِ وَالإِْشْفَى. (1) وَنَحْوِهَا مِمَّا يُفَرِّقُ أَجْزَاءَ الْبَدَنِ. وَذَلِكَ لأَِنَّ الْعَمْدَ هُوَ الْقَصْدُ وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لاَ يُوقَفُ عَلَيْهِ إِلاَّ بِدَلِيلِهِ مِنِ اسْتِعْمَال آلَةٍ مُعَدَّةٍ لِلْقَتْل، فَلاَ قَوَدَ فِي الْقَتْل بِالْخَنْقِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ ضَرْبَهُ بِآلَةٍ جَارِحَةٍ مُعَدَّةٍ لِلْقَتْل. (2)
هَذَا إِذَا لَمْ يَتَكَرَّرِ الْقَتْل بِالْخَنْقِ، أَمَّا إِذَا اعْتَادَ الْخَنْقَ وَتَكَرَّرَ مِنْهُ وَلَوْ مَرَّتَيْنِ قُتِل بِهِ بِلاَ خِلاَفٍ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَال: مَنْ خَنَقَ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ قُتِل سِيَاسَةً (3) لِسَعْيِهِ فِي الأَْرْضِ بِالْفَسَادِ (4) .
4 - هَذَا، وَإِذَا حُكِمَ فِي الْخَنْقِ بِالْقِصَاصِ فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْجَانِيَ (الْخَانِقَ) لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ إِلاَّ بِالسَّيْفِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ (5) وَلأَِنَّ الْقَصْدَ
__________
(1) اِلإشفى مخرز الإسكافي.
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 339، 349، والاختيار 5 / 29.
(3) السياسة في الأصل استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في الدنيا والآخرة. وفي باب الزجر والتأديب عرفها بعضهم بأنها تغليظ جناية لها حكم شرعي حسمًا لمادة الفساد، والظاهر أن السياسة والتعزير مترادفان.، (ابن عابدين 3 / 147، 148) .
(4) ابن عابدين 3 / 215، 5 / 349.
(5) حديث: " لا قود إلا بالسيف ". أخرجه ابن ماجه (2 / 889 -. ط الحلبي) من حديث النعمان بن بشير، ومن حديث أبي بكرة، وأورده ابن حجر في التلخيص (4 / 19 - شركة الطباعة الفنية) ، ونقل عن عبد الحق الأشبيلي أنه قال: " طرقه كلها ضعيفة " وعن البيهقي أنه قال: " لم يثبت له إسناد ".(20/39)
مِنَ الْقَوَدِ إِتْلاَفُ جُمْلَتِهِ وَقَدْ أَمْكَنَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ فَلاَ يَجُوزُ تَعْذِيبُهُ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَاتِل يُقْتَل بِمِثْل مَا قَتَل إِلاَّ فِي حَالاَتٍ خَاصَّةٍ تُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قِصَاصٌ) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْل مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (2) وَعَلَى ذَلِكَ فَيُخْنَقُ الْخَانِقُ حَتَّى يَمُوتَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا اخْتَارَ مُسْتَحِقُّ الْقَوَدِ السَّيْفَ فَيُمَكَّنُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ أَخَفُّ مِنْ غَيْرِهِ غَالِبًا، وَلأَِنَّهُ الأَْصْل فِي الْقِصَاصِ. (3) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (جِنَايَةٌ، وَقِصَاصٌ) .
ثَالِثًا - فِي الأَْيْمَانِ:
5 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مَنْ حَلَفَ لاَ يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَخَنَقَهَا أَوْ مَدَّ شَعْرَهَا أَوْ عَضَّهَا حَنِثَ، لأَِنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ فَيَدْخُل فِيهِ الْخَنْقُ. (4)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ وَضْعُ السَّوْطِ عَلَيْهِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 346، ومطالب أولي النهى 6 / 52.
(2) سورة النحل / 126.
(3) جواهر الإكليل 2 / 265، والقليوبي 4 / 124.
(4) الاختيار للموصلي 4 / 72، والمغني لابن قدامة 8 / 726.(20/40)
وَالْعَضُّ، وَالْخَنْقُ، أَوْ نَتْفُ الشَّعْرِ ضَرْبًا، لاِنْتِفَاءِ تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ عُرْفًا، فَلاَ يَحْنَثُ إِنْ عَضَّهَا أَوْ خَنَقَهَا أَوْ نَتَفَ شَعْرَهَا (1) .
(ر: أَيْمَانٌ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ الْخَنْقِ فِي مَبَاحِثِ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ، وَفِي الْجِنَايَاتِ وَالْقِصَاصِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَفِي بَابِ الْيَمِينِ.
__________
(1) المهذب 2 / 137، 138، ونهاية المحتاج 8 / 199.(20/40)
خَوَارِجُ
انْظُرْ: فِرَقٌ
خَوْفٌ
انْظُرْ: صَلاَةُ الْخَوْفِ(20/41)
خِيَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخِيَارُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ (الاِخْتِيَارِ) وَهُوَ الاِصْطِفَاءُ وَالاِنْتِقَاءُ، وَالْفِعْل مِنْهُمَا (اخْتَارَ) . وَقَوْل الْقَائِل: أَنْتَ بِالْخِيَارِ، مَعْنَاهُ: اخْتَرْ مَا شِئْتَ. وَخَيَّرَهُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مَعْنَاهُ: فَوَّضَ إِلَيْهِ اخْتِيَارَ أَحَدِهِمَا. (1)
وَالْخِيَارُ فِي الاِصْطِلاَحِ لَهُ تَعَارِيفُ كَثِيرَةٌ إِلاَّ أَنَّهَا فِي الْغَالِبِ تَنَاوَلَتْ هَذَا اللَّفْظَ مَقْرُونًا بِلَفْظٍ آخَرَ لأَِنْوَاعِ الْخِيَارَاتِ دُونَ أَنْ يُقْصَدَ بِالتَّعْرِيفِ (الْخِيَارُ) عُمُومًا، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِخْلاَصُ تَعْرِيفٍ لِلْخِيَارِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مِنْ خِلاَل تَعَارِيفِ أَنْوَاعِ الْخِيَارِ بِأَنْ يُقَال: هُوَ حَقُّ الْعَاقِدِ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ أَوْ إِمْضَائِهِ، لِظُهُورِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ أَوْ بِمُقْتَضَى اتِّفَاقٍ عَقَدِيٍّ.
__________
(1) مقاييس اللغة لابن فارس مادة: " خير " (وموقعها في ترتيبه الخاص ص2 / 232) ، وأساس البلاغة للزمخشري، والنهاية لابن الأثير، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي، والمصباح المنير، والقاموس، وتاج العروس، ولسان العرب، ومعجم متن اللغة، والمعجم الوسيط (كلهن مادة خير) ، والكليات لأبي البقاء ص214.(20/41)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - عَدَمُ اللُّزُومِ:
2 - اللُّزُومُ: مَعْنَاهُ عَدَمُ إِمْكَانِ رُجُوعِ الْعَاقِدِ عَنِ الْعَقْدِ بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ، وَيُسَمَّى الْعَقْدُ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ (الْعَقْدَ اللاَّزِمَ) بِمَعْنَى أَنَّ الْعَاقِدَ لاَ يَحِقُّ لَهُ فَسْخُ الْعَقْدِ إِلاَّ بِرِضَا الْعَاقِدِ الآْخَرِ، فَكَمَا لاَ يُعْقَدُ الْعَقْدُ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي لاَ يُفْسَخُ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي (وَذَلِكَ بِالإِْقَالَةِ) وَمِنْ هَذَا يَتَّضِحُ تَعْرِيفُ عَدَمِ اللُّزُومِ فَهُوَ: إِمْكَانُ رُجُوعِ الْعَاقِدِ عَنِ الْعَقْدِ وَنَقْضِهِ بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى التَّرَاضِي عَلَى ذَلِكَ النَّقْضِ.
فَهَذَا اللُّزُومُ قَدْ يَتَخَلَّفُ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ فَيَسْتَطِيعُ كُلٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا أَنْ يَتَحَلَّل مِنْ رَابِطَةِ الْعَقْدِ وَيَفْسَخَهُ بِمُجَرَّدِ إِرَادَتِهِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا الآْخَرِ. وَتَخَلُّفُ اللُّزُومِ هُنَا مَبْعَثُهُ أَنَّ طَبِيعَةَ الْعَقْدِ وَغَايَتَهُ تَقْتَضِي عَدَمَ اللُّزُومِ، وَالْعَقْدُ عِنْدَئِذٍ (عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ) إِذْ يَكُونُ عَدَمُ اللُّزُومِ صِفَةً مَلْحُوظَةً فِي نَوْعِ الْعَقْدِ.
وَمِنَ السَّهْل تَبَيُّنُ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَبَيْنَ طَبِيعَةِ عَدَمِ اللُّزُومِ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، فَالتَّخْيِيرُ حَالَةٌ طَارِئَةٌ عَلَى الْعَقْدِ حَيْثُ إِنَّ الأَْصْل فِي الْعَقْدِ اللُّزُومُ، فَالْعَقْدُ الْمُقْتَرِنُ بِخِيَارٍ هُوَ قَيْدٌ أَوِ اسْتِثْنَاءٌ عَلَى ذَلِكَ الْمَبْدَأِ، ثُمَّ هُوَ فِي جَمِيعِ الْخِيَارَاتِ لَيْسَ مِمَّا تَقْتَضِيهِ طَبِيعَةُ الْعُقُودِ، بَل هُوَ مِمَّا اعْتُبِرَ قَيْدًا عَلَى تِلْكَ الطَّبِيعَةِ لأَِصَالَةِ(20/42)
اللُّزُومِ. أَمَّا فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ بِأَنْوَاعِهَا فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنْ طَبِيعَتِهَا تَقْتَضِيهِ غَايَاتُهَا وَلاَ يَنْفَصِل عَنْهَا إِلاَّ لِسَبَبٍ خَاصٍّ فِيمَا لُزُومُهُ لَيْسَ أَصْلاً.
وَالْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ تَحْتَمِل الْفَسْخَ فَقَطْ أَمَّا الإِْجَازَةُ فَلاَ مَجَال لَهَا، لأَِنَّ الإِْقْدَامَ عَلَى الْعَقْدِ وَالاِسْتِمْرَارَ فِيهِ يُغْنِي عَنْهَا، فِي حِينِ أَنَّ الْخِيَارَاتِ تَحْتَمِل الأَْمْرَيْنِ.
وَهُنَاكَ فَارِقٌ آخَرُ بَيْنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ وَبَيْنَ الْخِيَارَاتِ يَقُومُ عَلَى مُلاَحَظَةِ نَتِيجَةِ (الْفَسْخِ) الَّذِي هُوَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ، فَحُكْمُ الْفَسْخِ فِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ مُخْتَلِفٌ عَنْهُ فِي الْخِيَارَاتِ، حَيْثُ يَكُونُ فِي الصُّورَةِ الأُْولَى مُقْتَصِرًا (لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ رَجْعِيٌّ) لاَ يَمَسُّ التَّصَرُّفَاتِ السَّابِقَةَ. أَمَّا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ (الْخِيَارَاتُ) فَالْفَسْخُ مُسْتَنَدٌ (لَهُ انْعِطَافٌ وَتَأْثِيرٌ رَجْعِيٌّ) يَنْسَحِبُ فِيهِ الاِنْفِسَاخُ عَلَى الْمَاضِي فَيَجْعَل الْعَقْدَ كَأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ مِنْ أَصْلِهِ.
ب - الْفَسْخُ لِلْفَسَادِ:
3 - الْعَقْدُ الْفَاسِدُ. يُشْبِهُ الْخِيَارَ فِي فِكْرَةِ عَدَمِ اللُّزُومِ وَفِي احْتِمَالِهِ الْفَسْخَ، يَقُول الْكَاسَانِيُّ: " حُكْمُ الْبَيْعِ نَوْعَانِ، نَوْعٌ يَرْتَفِعُ بِالْفَسْخِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ بِرَفْعِهِ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ حُكْمُ كُل بَيْعٍ لاَزِمٍ كَالْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ أَحَدُ الْخِيَارَاتِ الأَْرْبَعَةِ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ " (1) كَمَا أَنَّهُ يَتَأَخَّرُ أَثَرُهُ فَلاَ
__________
(1) البدائع 5 / 306، ونحوه في 5 / 300 - 301.(20/42)
يَثْبُتُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، لَكِنَّهُ مُفْتَرِقٌ عَنْ حَالَةِ التَّخْيِيرِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَقْدِ، فَالْفَاسِدُ مِنْ بَابِ الصِّحَّةِ، أَمَّا التَّخْيِيرُ فَهُوَ مِنْ بَابِ اللُّزُومِ، ثُمَّ لِهَذَا أَثَرُهُ فِي افْتِرَاقِ الأَْحْكَامِ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْخِيَارَ (عَدَا خِيَارَ الرُّؤْيَةِ) يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الإِْسْقَاطِ، أَمَّا حَقُّ الْفَسْخِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَلاَ يَبْطُل بِصَرِيحِ الإِْبْطَال وَالإِْسْقَاطِ.
وَهُنَاكَ بَعْضُ الْعِبَارَاتِ الْفِقْهِيَّةِ تُوَضِّحُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْخِيَارِ وَالْفَسْخِ مِنْهَا تَصْرِيحُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْخِيَارَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقٌّ لأَِحَدٍ مُعَيَّنٍ (1) . وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْفَسْخَ لِلْفَسَادِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الشَّرْعِ.
ج - الْفَسْخُ لِلتَّوَقُّفِ:
4 - التَّفْرِقَةُ بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَالتَّوَقُّفِ تَكُونُ فِي الْمَنْشَأِ وَالأَْحْكَامِ وَالاِنْتِهَاءِ. (2)
فَالْخِيَارُ يَنْشَأُ لِتَعَيُّبِ الإِْرَادَةِ (وَذَلِكَ فِي الْخِيَارِ الْحُكْمِيِّ غَالِبًا) أَوْ لاِتِّجَاهِ إِرَادَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِمَنْعِ لُزُومِ الْعَقْدِ (وَذَلِكَ فِي الْخِيَارَاتِ الإِْرَادِيَّةِ) وَكِلاَهُمَا مَرْحَلَةٌ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ وَصُلُوحِهِ لِسَرَيَانِ آثَارِهِ (النَّفَاذُ) . أَمَّا الْمَوْقُوفُ فَهُوَ يَنْشَأُ لِنَقْصِ الأَْهْلِيَّةِ فِي الْعَاقِدِ، أَوْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ. فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَجَالٌ مُغَايِرٌ لِلآْخَرِ، لَيْسَ مُغَايَرَةَ
__________
(1) اللباب للقفصي ص13 - 137.
(2) البحر الرائق لابن نجيم 6 / 70.(20/43)
اخْتِلاَفٍ فِي السَّبَبِ فَقَطْ، بَل مَعَ التَّدَاعِي وَالتَّجَانُسِ بَيْنَ أَسْبَابِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَمُنَافَرَتِهَا مَا لِلآْخَرِ.
أَمَّا مِنْ حَيْثُ الطَّبِيعَةُ وَالأَْحْكَامُ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ تَكُونُ آثَارُهُ مُعَلَّقَةً بِسَبَبِ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ مِنْ نَفَاذِهَا، وَهَذَا بِالرَّغْمِ مِنِ انْعِقَادِهِ وَصِحَّتِهِ لأَِنَّ ذَلِكَ الْمَانِعَ مَنَعَ تَمَامَ الْعِلَّةِ.
أَمَّا الْخِيَارُ فَإِنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ قَدْ نَفَذَ وَتَرَتَّبَتْ آثَارُهُ وَلَكِنِ امْتَنَعَ ثُبُوتُهَا بِسَبَبِ الْخِيَارِ، فَأَحْيَانًا يَمْتَنِعُ ابْتِدَاءُ الْحُكْمِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَأَحْيَانًا يَمْتَنِعُ تَمَامُ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَأَحْيَانًا يَمْتَنِعُ لُزُومُ الْعَقْدِ بَعْدَ أَنْ سَرَتْ آثَارُهُ، كَخِيَارِ الْعَيْبِ (1) .
وَفِي الاِنْقِضَاءِ نَجِدُ أَنَّ الْمَوْقُوفَ لَمَّا كَانَ غَيْرَ تَامِّ الْعِلَّةِ لَمْ تَتِمَّ الصَّفْقَةُ، فَيَكْفِي فِي نَقْضِهِ مَحْضُ إِرَادَةِ مَنْ لَهُ النَّقْضُ، وَهُوَ لِهَذَا الضَّعْفِ فِيهِ لاَ يَرِدُ فِيهِ إِسْقَاطُ الْخِيَارِ، وَلاَ يَنْتَقِل بِالْمِيرَاثِ، بَل يَبْطُل الْعَقْدُ بِمَوْتِ مَنْ لَهُ حَقُّ إِجَازَتِهِ، فِي حِينِ يَجُوزُ إِسْقَاطُ الْخِيَارِ - فِي الْجُمْلَةِ - وَيَنْتَقِل بِالْمِيرَاثِ وَخَاصَّةً مَا كَانَ مِنْهُ مُتَّصِلاً بِالْعَيْنِ عَلَى اخْتِلاَفٍ فِي الْمَذَاهِبِ، وَيَنْقَضِي الْخِيَارُ بِإِرَادَةِ مَنْ هُوَ لَهُ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى التَّرَاضِي أَوِ التَّقَاضِي إِلاَّ حَيْثُ تَتِمُّ الصَّفْقَةُ بِحُصُول الْقَبْضِ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ.
__________
(1) فتح القدير 5 / 110.(20/43)
د - الْفَسْخُ فِي الإِْقَالَةِ:
5 - تُشْبِهُ الإِْقَالَةُ الْخِيَارَ مِنْ حَيْثُ تَأْدِيَتُهُمَا - فِي حَالٍ مَا - إِلَى فَسْخِ الْعَقْدِ، وَتُشْبِهُهُ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمَا لاَ يَدْخُلاَنِ إِلاَّ عُقُودَ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ اللاَّزِمَةِ الْقَابِلَةِ لِلْفَسْخِ.
وَلَكِنَّ الإِْقَالَةَ تُخَالِفُ الْخِيَارَ فِي أَنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ يُمْكِنُهُ فَسْخُ الْعَقْدِ بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا صَاحِبِهِ، بِخِلاَفِ الإِْقَالَةِ فَلاَ بُدَّ مِنِ الْتِقَاءِ الإِْرَادَتَيْنِ عَلَى فَسْخِ الْعَقْدِ. كَمَا أَنَّ هُنَاكَ فَرْقًا آخَرَ هُوَ أَنَّ الْخِيَارَ يَجْعَل الْعَقْدَ غَيْرَ لاَزِمٍ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ لَهُ. وَأَمَّا الإِْقَالَةُ فَلاَ تَكُونُ إِلاَّ حَيْثُ يَكُونُ الْعَقْدُ لاَزِمًا لِلطَّرَفَيْنِ (1) .
تَقْسِيمَاتُ الْخِيَارِ
أَوَّلاً - التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ طَبِيعَةِ الْخِيَارِ:
6 - يَنْقَسِمُ الْخِيَارُ بِحَسَبِ طَبِيعَتِهِ إِلَى حُكْمِيٍّ وَإِرَادِيٍّ.
فَالْحُكْمِيُّ مَا ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ حُكْمِ الشَّارِعِ فَيَنْشَأُ الْخِيَارُ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ وَتَحَقُّقِ الشَّرَائِطِ الْمَطْلُوبَةِ، فَهَذِهِ الْخِيَارَاتُ لاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى اتِّفَاقٍ أَوِ اشْتِرَاطٍ لِقِيَامِهَا، بَل تَنْشَأُ لِمُجَرَّدِ وُقُوعِ سَبَبِهَا الَّذِي رُبِطَ قِيَامُهَا بِهِ.
وَمِثَالُهُ: خِيَارُ الْعَيْبِ.
__________
(1) در الصكوك: ص268.(20/44)
أَمَّا الإِْرَادِيُّ فَهُوَ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْ إِرَادَةِ الْعَاقِدِ. (1)
وَالْخِيَارَاتُ الْحُكْمِيَّةُ تَسْتَغْرِقُ مُعْظَمَ الْخِيَارَاتِ، بَل هِيَ كُلُّهَا مَا عَدَا الْخِيَارَاتِ الإِْرَادِيَّةَ الثَّلاَثَةَ: خِيَارَ الشَّرْطِ، خِيَارَ النَّقْدِ، خِيَارَ التَّعْيِينِ.
فَمَا وَرَاءَ هَذِهِ الْخِيَارَاتِ فَإِنَّهُ حُكْمِيُّ الْمَنْشَأِ أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ رِعَايَةً لِمَصْلَحَةِ الْعَاقِدِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ دُونَ أَنْ يَسْعَى الإِْنْسَانُ لِلْحُصُول عَلَيْهِ.
ثَانِيًا - التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ غَايَةِ الْخِيَارِ:
7 - يَقُومُ هَذَا التَّقْسِيمُ لِلْخِيَارَاتِ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْغَايَةُ، هَل هِيَ التَّرَوِّي وَجَلْبُ الْمَصْلَحَةِ لِلْعَاقِدِ، أَوْ تَكْمِلَةُ النَّقْصِ وَدَرْءُ الضَّرَرِ عَنْهُ؟ .
يَقُول الْغَزَالِيُّ: يَنْقَسِمُ الْخِيَارُ إِلَى خِيَارِ التَّرَوِّي. وَإِلَى خِيَارِ النَّقِيصَةِ.
وَخِيَارُ التَّرَوِّي: مَا لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى فَوَاتِ وَصْفٍ، وَلَهُ سَبَبَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمَجْلِسُ. وَالثَّانِي: الشَّرْطُ.
وَأَمَّا خِيَارُ النَّقِيصَةِ، وَهُوَ: مَا يَثْبُتُ بِفَوَاتِ أَمْرٍ مَظْنُونٍ نَشَأَ الظَّنُّ فِيهِ مِنِ الْتِزَامٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ قَضَاءٍ عُرْفِيٍّ، أَوْ تَغْرِيرٍ فِعْلِيٍّ (2) . ثُمَّ فَرَّعَ الْغَزَالِيُّ مِنْ خِيَارِ النَّقِيصَةِ عِدَّةَ خِيَارَاتٍ.
__________
(1) البدائع 5 / 292 - 297.
(2) الوجيز 1 / 141 - 142.(20/44)
وَنَحْوُهُ لِلْمَالِكِيَّةِ (1) فَقَدْ جَرَى خَلِيلٌ عَلَى الْبَدْءِ بِخِيَارِ التَّرَوِّي ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِخِيَارِ النَّقِيصَةِ. (2)
ثَالِثًا - التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ مَوْضُوعِ الْخِيَارِ:
8 - أ - خِيَارَاتُ التَّرَوِّي.
1 - خِيَارُ الْمَجْلِسِ.
2 - خِيَارُ الرُّجُوعِ.
3 - خِيَارُ الْقَبُول.
4 - خِيَارُ الشَّرْطِ.
9 - ب - خِيَارَاتُ النَّقِيصَةِ:
1 - خِيَارُ الْعَيْبِ.
2 - خِيَارُ الاِسْتِحْقَاقِ.
3 - خِيَارُ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.
4 - خِيَارُ الْهَلاَكِ الْجُزْئِيِّ.
10 - ج - خِيَارَاتُ الْجَهَالَةِ:
1 - خِيَارُ الرُّؤْيَةِ:
2 - خِيَارُ الْكَمِّيَّةِ.
3 - خِيَارُ كَشْفِ الْحَال.
4 - خِيَارُ التَّعْيِينِ.
__________
(1) الدردير وحاشية الدسوقي 1 / 118.
(2) وسماها بعض المصنفين: خيار نقص، وخيار شهوة، فخيار النقص يراد به خيارات توقي النقيصة، أما خيار الشهوة فالمراد به خيارات التروي (مغني المحتاج 2 / 40) .(20/45)
11 - د - خِيَارَاتُ التَّغْرِيرِ:
1 - خِيَارُ التَّدْلِيسِ الْفِعْلِيِّ (بِالتَّصْرِيَةِ وَنَحْوِهَا) وَالتَّغْرِيرِ الْقَوْلِيِّ.
2 - خِيَارُ النَّجْشِ.
3 - خِيَارُ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ.
12 - هـ خِيَارَاتُ الْغَبْنِ:
1 - خِيَارُ الْمُسْتَرْسِل.
2 - خِيَارُ غَبْنِ الْقَاصِرِ وَشِبْهِهِ.
13 - و - خِيَارَاتُ الأَْمَانَةِ:
1 - خِيَارُ الْمُرَابَحَةِ.
2 - خِيَارُ التَّوْلِيَةِ.
3 - خِيَارُ التَّشْرِيكِ.
4 - خِيَارُ الْمُوَاضَعَةِ.
14 - ز - خِيَارَاتُ الْخُلْفِ:
1 - خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ.
2 - خِيَارُ فَوَاتِ الشَّرْطِ.
3 - خِيَارُ اخْتِلاَفِ الْمِقْدَارِ.
15 - ح - خِيَارَاتُ اخْتِلاَل التَّنْفِيذِ:
1 - خِيَارُ التَّأْخِيرِ.
16 - ك - خِيَارَاتُ امْتِنَاعِ التَّسْلِيمِ:
1 - خِيَارُ النَّقْدِ.
2 - خِيَارُ تَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ.(20/45)
3 - خِيَارُ تَسَارُعِ الْفَسَادِ.
4 - خِيَارُ التَّفْلِيسِ.
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْخِيَارِ:
17 - الْغَرَضُ فِي الْخِيَارَاتِ الْحُكْمِيَّةِ: بِالرَّغْمِ مِنْ تَعَدُّدِ أَسْبَابِهَا هُوَ تَلاَفِي النَّقْصِ الْحَاصِل بَعْدَ تَخَلُّفٍ شَرِيطَةَ لُزُومِ الْعَقْدِ. وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَحَقَّقَتْ شَرَائِطُ الاِنْعِقَادِ وَالصِّحَّةِ وَالنَّفَاذِ، أَيْ أَنَّ الْخِيَارَاتِ الْحُكْمِيَّةَ لِتَخْفِيفِ مَغَبَّةِ الإِْخْلاَل بِالْعَقْدِ فِي الْبِدَايَةِ لِعَدَمِ الْمَعْلُومِيَّةِ التَّامَّةِ، أَوْ لِدُخُول اللَّبْسِ وَالْغَبْنِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى الإِْضْرَارِ بِالْعَاقِدِ، أَوْ فِي النِّهَايَةِ كَاخْتِلاَل التَّنْفِيذِ.
فَالْغَايَةُ مِنَ الْخِيَارَاتِ الْحُكْمِيَّةِ تَمْحِيصُ الإِْرَادَتَيْنِ وَتَنْقِيَةُ عُنْصُرِ التَّرَاضِي مِنَ الشَّوَائِبِ تَوَصُّلاً إِلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْعَاقِدِ. وَمِنْ هُنَا قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْخِيَارَاتِ إِلَى شَطْرَيْنِ: خِيَارَاتِ التَّرَوِّي، وَخِيَارَاتِ النَّقِيصَةِ، وَمُرَادُهُمْ بِخِيَارَاتِ النَّقِيصَةِ الْخِيَارَاتُ الَّتِي تَهْدِفُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْعَاقِدِ فِي حِينِ تَهْدِفُ خِيَارَاتُ التَّرَوِّي إِلَى جَلْبِ النَّفْعِ لَهُ.
أَمَّا الْغَرَضُ مِنَ الْخِيَارَاتِ الإِْرَادِيَّةِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ عَنِ الْغَرَضِ مِنَ الْخِيَارِ فِي صَعِيدِ الْخِيَارَاتِ الْحُكْمِيَّةِ. فَفِي الْخِيَارَاتِ الإِْرَادِيَّةِ يَكَادُ الْبَاعِثُ عَلَيْهَا يَكُونُ أَمْرًا وَاحِدًا هُوَ مَا دَعَاهُ الْفُقَهَاءُ بِالتَّرَوِّي، أَيِ التَّأَمُّل فِي صُلُوحِ الشَّيْءِ لَهُ وَسَدِّ(20/46)
حَاجَتِهِ فِي الشِّرَاءِ، وَذَلِكَ لِلتَّرْفِيهِ عَنِ الْمُتَعَاقِدِ لِتَحْصِيل مَصْلَحَةٍ يَحْرِصُ عَلَيْهَا. وَالتَّرَوِّي سَبِيلُهُ أَمْرَانِ: (الْمَشُورَةُ) لِلْوُصُول إِلَى الرَّأْيِ الْحَمِيدِ، أَوِ الاِخْتِبَارُ وَهُوَ تَبَيُّنُ خَبَرِ الشَّيْءِ بِالتَّجْرِبَةِ أَوِ الاِطِّلاَعِ التَّامِّ عَلَى كُنْهِهِ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: " وَالْخِيَارُ يَكُونُ لِوَجْهَيْنِ: لِمَشُورَةٍ وَاخْتِبَارِ الْمَبِيعِ، أَوْ لأَِحَدِ الْوَجْهَيْنِ (1) . وَيَقُول بَعْدَئِذٍ: الْعِلَّةُ فِي إِجَازَةِ الْبَيْعِ عَلَى الْخِيَارِ وَحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى الْمَشُورَةِ فِيهِ، أَوِ الاِخْتِيَارِ (2) ".
عَلَى أَنَّ تَعَدُّدَ الْغَرَضِ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَقْصِدَ الْمَشُورَةَ وَالاِخْتِبَارَ مَعًا " وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمُشْتَرِي، أَمَّا الْبَائِعُ فَلاَ يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ إِلاَّ كَوْنُ الْغَرَضِ الْمَشُورَةَ، لأَِنَّ الْمُبَادَلَةَ مِنْهُ تَهْدِفُ إِلَى الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ لاَ مَجَال لاِخْتِبَارِهِ غَالِبًا، إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُرَاجِعَ الْبَائِعُ مَنْ يَثِقُ بِهِ فِي كَوْنِ الثَّمَنِ مُتَكَافِئًا مَعَ الْمَبِيعِ فَلاَ غَبْنَ وَلاَ وَكْسَ.
وَالتَّرَوِّي - كَمَا يَقُول الْحَطَّابُ - لاَ يَخْتَصُّ بِالْمَبِيعِ فَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا فِي الثَّمَنِ، أَوْ فِي أَصْل الْعَقْدِ. (3)
وَثَمَرَةُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنَ الْخِيَارِ الاِخْتِبَارَ، فَإِذَا بَيَّنَ الْغَرَضَ مِنَ الْخِيَارِ عُومِل حَسْبَ بَيَانِهِ، أَمَّا إِنْ سَكَتَ عَنِ الْبَيَانِ، فَقَدْ قَرَّرَ
__________
(1) المقدمات 2 / 557.
(2) المقدمات 2 / 559.
(3) الحطاب على خليل 4 / 414.(20/46)
ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ ذِكْرِ الْغَرَضِ يُحْمَل عَلَى أَنَّ غَرَضَهُ الْمَشُورَةُ فَهِيَ مُفْتَرَضَةٌ دَائِمًا، إِلاَّ إِذَا صَرَّحَ بِأَنَّ غَرَضَهُ الاِخْتِبَارُ وَاشْتَرَطَ قَبْضَ السِّلْعَةِ. وَنَصُّ كَلاَمِ ابْنِ رُشْدٍ فِي هَذَا: (1) " اشْتَرَطَ الْمُشْتَرِي الْخِيَارَ. وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ إِنَّمَا يَشْتَرِطُ الْخِيَارَ لِلاِخْتِبَارِ، وَأَرَادَ قَبْضَ السِّلْعَةِ لِيَخْتَبِرَهَا، وَأَبَى الْبَائِعُ مِنْ دَفْعِهَا إِلَيْهِ وَقَال: إِنَّمَا لَكَ الْمَشُورَةُ إِذَا لَمْ تَشْتَرِطْ قَبْضَ السِّلْعَةِ فِي أَمَدِ الْخِيَارِ لِلاِخْتِبَارِ، فَالْقَوْل قَوْل الْبَائِعِ، وَلاَ يَلْزَمُهُ دَفْعُهَا إِلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ". بَل ذَكَرَ أَنَّهُ لَيْسَتْ مِنَ الْقَرِينَةِ الْحَالِيَّةِ فِي الْمُشْتَرِي طُول مُدَّةِ الْخِيَارِ إِذْ يُحْتَمَل أَنَّهُ فَسْخٌ فِي الأَْجَل لِلْمَشُورَةِ الدَّقِيقَةِ.
وَهُنَاكَ ثَمَرَةٌ عَمَلِيَّةٌ أُخْرَى لِتَحْدِيدِ الْغَرَضِ مِنَ الْخِيَارِ (دُونَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ اقْتِصَارِهِ عَلَى الْمَشُورَةِ أَوِ الاِخْتِبَارِ، أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا) تِلْكَ هِيَ أَنَّ أَمَدَ الْخِيَارِ - وَهُوَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ مَلْحُوظٌ فِيهِ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ - شَدِيدُ الاِرْتِبَاطِ بِالْغَرَضِ مِنَ الْخِيَارِ فَإِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي إِجَازَةِ الْمَبِيعِ عَلَى الْخِيَارِ حَاجَةَ النَّاسِ إِلَى الْمَشُورَةِ فِيهِ، أَوِ الاِخْتِبَارِ، فَحَدُّهُ قَدْرُ مَا يُخْتَبَرُ فِيهِ الْمَبِيعُ، وَيُرْتَأَى فِيهِ وَيُسْتَشَارُ، عَلَى اخْتِلاَفِ أَجْنَاسِهِ وَإِسْرَاعِ التَّغَيُّرِ إِلَيْهِ وَإِبْطَائِهِ عَنْهُ. . فَأَمَدُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ إِنَّمَا هُوَ بِقَدْرِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الاِخْتِبَارِ وَالاِرْتِيَاءِ مَعَ
__________
(1) المقدمات لابن رشد 5 / 558.(20/47)
مُرَاعَاةِ إِسْرَاعِ التَّغَيُّرِ إِلَى الْمَبِيعِ وَإِبْطَائِهِ عَنْهُ خِلاَفًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِمَا: إِنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْخِيَارُ فِي شَيْءٍ مِنَ الأَْشْيَاءِ فَوْقَ ثَلاَثٍ. (1)
الْخِيَارُ سَالِبٌ لِلُّزُومِ:
18 - إِنَّ سَلْبَ الْخِيَارَاتِ لُزُومُ الْعَقْدِ مِنْ بَدَائِهِ الْفِقْهَ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ الْمُصَنِّفِينَ الَّذِينَ قَسَّمُوا الْعَقْدَ إِلَى لاَزِمٍ وَجَائِزٍ عَبَّرُوا عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: لاَزِمٌ، وَمُخَيَّرٌ، أَوْ لاَزِمٌ وَفِيهِ خِيَارٌ (2) .
وَمُفَادُ سَلْبِ الْخِيَارِ لُزُومُ الْعَقْدِ أَنْ يُجْعَل الْعَقْدُ الْمُشْتَمِل عَلَى خِيَارٍ مُسْتَوِيًا فِي الصِّفَةِ مَعَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ كَالْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَمَعَ هَذَا لاَ يَعْسُرُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا، لأَِنَّ عَدَمَ اللُّزُومِ فِي تِلْكَ الْعُقُودِ نَاشِئٌ عَنْ طَبِيعَتِهَا الْخَاصَّةِ، أَمَّا فِي الْخِيَارَاتِ فَعَدَمُ اللُّزُومِ طَارِئٌ بِسَبَبِهَا.
وَهُنَاكَ عِبَارَاتٌ فِقْهِيَّةٌ تَدُل عَلَى التَّفَاوُتِ فِي مَنْزِلَةِ الْخِيَارَاتِ مِنْ حَيْثُ سَلْبُ اللُّزُومِ نَظَرًا إِلَى أَثَرِ الْخِيَارِ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَالْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ هُنَا الْعَقْدُ الَّذِي لاَ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الْحُكْمُ فِي الأَْصْل، كَالْبَيْعِ هُوَ عِلَّةٌ لِحُكْمِهِ مِنْ لُزُومِ تَعَاكُسِ الْمِلْكَيْنِ فِي الْبَدَلَيْنِ، وَفِي الْبَيْعِ بِخِيَارٍ قَدْ تَخَلَّفَ عَنِ الْعِلَّةِ (أَيِ الْبَيْعُ) مُقْتَضَاهَا الَّذِي هُوَ حُكْمُ الْبَيْعِ.
وَبِمَا أَنَّ الْمَوَانِعَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي قُوَّةِ الْمَنْعِ، فَمِنْهَا
__________
(1) ابن رشد: المقدمات 2 / 559 - 560.
(2) البدائع 5 / 228.(20/47)
مَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ مِنَ الْبِدَايَةِ فَلاَ يَدَعُهَا تَمْضِي لإِِحْدَاثِ الأَْثَرِ، وَمِنْهَا مَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْعِلَّةِ، أَيْ نَفَاذَ الْعَقْدِ، بِتَخَلُّفِ إِحْدَى شَرِيطَتَيِ النَّفَاذِ (الْمِلْكِ أَوِ الْوِلاَيَةِ، وَانْتِفَاءِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ) ثُمَّ يَأْتِي دَوْرُ الْخِيَارَاتِ فِي الْمَنْعِ وَهُوَ مَنْعٌ مُسَلَّطٌ عَلَى (الْحُكْمِ) لاَ (الْعِلَّةِ) فَهِيَ قَدْ كُتِبَ لَهَا الاِنْعِقَادُ وَالنَّفَاذُ كَسَهْمٍ تَوَفَّرَتْ وَسَائِل تَسْدِيدِهِ ثُمَّ انْطَلَقَ دُونَ أَنْ يَحْجِزَهُ شَيْءٌ عَنْ بُلُوغِ الْهَدَفِ " فَخِيَارُ الشَّرْطِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ بَعْدَ انْعِقَادِ (وَنَفَاذِ) الْعِلَّةِ " إِذْ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ حُكْمِ الْبَيْعِ وَهُوَ خُرُوجُ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَشَبَّهَهُ ابْنُ الْهُمَامِ بِاسْتِتَارِ الْمَرْمِيِّ إِلَيْهِ بِتُرْسٍ يَمْنَعُ مِنْ إِصَابَةِ الْغَرَضِ مِنْهُ. (1) وَيَلِيهِ فِي قُوَّةِ الْمَنْعِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، لأَِنَّهُ يَمْنَعُ تَمَامَ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ (وَهُوَ غَيْرُ تَمَامِ الْعِلَّةِ) وَأَخِيرًا خِيَارُ الْعَيْبِ يَمْنَعُ لُزُومَ الْحُكْمِ.
وَفَضْلاً عَنِ التَّفَاوُتِ فِي أَثَرِ الْخِيَارِ عَلَى الْعَقْدِ اللاَّزِمِ لِسَلْبِ لُزُومِهِ يُلْحَظُ فَارِقٌ، فِي نَظَرِ الْحَنَفِيَّةِ، بَيْنَ خِيَارِ الْعَيْبِ وَبَيْنَ خِيَارَيِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ فِي وَضْعِهِمَا الشَّرْعِيِّ مِنْ حَيْثُ سَلْبُ اللُّزُومِ بَيْنَ أَنْ يَتَّصِفَ بِالأَْصَالَةِ أَوِ الْخُلْفِيَّةِ، لِهَذَا الْفَرْقِ فِي الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ الْفَسْخِ فِي حَقِّ الْكُل أَوْ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَحَسْبُ.
فَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ، لَمَّا أَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ
__________
(1) فتح القدير 5 / 110.(20/48)
فِيهِمَا " ثَبَتَ أَصْلاً لأَِنَّهُمَا يَسْلُبَانِ اللُّزُومَ فِي أَصْل الْعَقْدِ، فَكَانَ بِالْفَسْخِ مُسْتَوْفِيًا حَقًّا لَهُ، وَوِلاَيَةُ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ تَثْبُتُ عَلَى سَبِيل الْعُمُومِ، وَلِذَا لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ " (1)
أَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ لِمَا أَنَّ " حَقَّ الْفَسْخِ بِالْعَيْبِ مَا ثَبَتَ (بِاعْتِبَارِهِ) أَصْلاً. لأَِنَّ الصَّفْقَةَ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ بَل (ثَبَتَ) بِغَيْرِهِ، وَهُوَ اسْتِدْرَاكُ حَقِّهِ فِي صِفَةِ السَّلاَمَةِ " (2)
خِيَارُ اخْتِلاَفِ الْمِقْدَارِ
انْظُرْ: بَيْعٌ
خِيَارُ الاِسْتِحْقَاقِ
انْظُرِ: اسْتِحْقَاقٌ
__________
(1) فتح القدير 5 / 168.
(2) فتح القدير 6 / 168 وذكر بعدئذ أثر هذا الفرق في اعتبار الفسخ في حق الكل أو في حق العاقدين خاصة. وسيأتي في محله المناسب.(20/48)
خِيَارُ التَّأْخِيرِ
انْظُرْ: خِيَارُ النَّقْدِ، بَيْعٌ
خِيَارُ تَسَارُعِ الْفَسَادِ
انْظُرْ: خِيَارُ الشَّرْطِ
خِيَارُ التَّشْرِيكِ
انْظُرْ: بَيْعُ الأَْمَانَةِ
خِيَارُ التَّصْرِيَةِ
انْظُرْ: تَصْرِيَةٌ.
خِيَارُ تَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ
انْظُرْ: بَيْعٌ فَاسِدٌ، بَيْعٌ مَوْقُوفٌ(20/49)
خِيَارُ التَّعْيِينِ
التَّعْرِيفُ:
1 - سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارٍ) تَعْرِيفُ الْخِيَارِ، وَأَمَّا التَّعْيِينُ: فَهُوَ مَصْدَرٌ قِيَاسِيٌّ لِلْفِعْل الْمَزِيدِ (عَيَّنَ) يُقَال: عَيَّنْتُ الشَّيْءَ، وَعَيَّنْتُ عَلَيْهِ، وَاسْتِعْمَالُهُمَا وَاحِدٌ، فَمِنَ الأَْوَّل - وَهُوَ الأَْلْيَقُ بِهَذَا الْمَوْضُوعِ - مَا جَاءَ فِي الْمَعَاجِمِ مِنْ أَنَّ تَعْيِينَ الشَّيْءِ مَعْنَاهُ تَخْصِيصُهُ مِنَ الْجُمْلَةِ، كَمَا قَال الْجَوْهَرِيُّ. وَمِنَ الثَّانِي: عَيَّنْتُ عَلَى السَّارِقِ: خَصَصْتُهُ مِنْ بَيْنِ الْمُتَّهَمِينَ، مَأْخُوذٌ مِنْ (عَيْنِ) الشَّيْءِ، أَيْ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ. (1)
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدْ عَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الْبَيْعَ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ التَّعْيِينِ بِأَنَّهُ: شِرَاءُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الثَّلاَثَةِ عَلَى أَنْ يُعَيِّنَ أَيًّا شَاءَ. أَمَّا تَعْرِيفُ الْخِيَارِ فَيُمْكِنُ اسْتِخْلاَصُ التَّعْرِيفِ التَّالِي لَهُ وَهُوَ: أَنَّهُ (حَقُّ الْعَاقِدِ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ الأَْشْيَاءِ الَّتِي وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى أَحَدِهَا شَائِعًا، خِلاَل مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ) . وَصُورَتُهُ: أَنْ يَقُول الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي:
__________
(1) الصحاح، ولسان العرب، والمصباح المنير مادة: " عين ".(20/49)
بِعْتُكَ أَحَدَ هَذِهِ الأَْثْوَابِ الثَّلاَثَةِ وَلَكَ الْخِيَارُ فِي أَيِّهَا شِئْتَ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ، سَوَاءٌ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ مِنَ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي. (1)
تَسْمِيَتُهُ:
2 - يُسَمَّى (خِيَارُ التَّعْيِينِ) بِاسْمٍ آخَرَ هُوَ (خِيَارُ التَّمْيِيزِ) وَقَدْ أَطْلَقَهُ عَلَيْهِ الطَّحَاوِيُّ فِي مُنَاسَبَةِ مُقَارَنَتِهِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ قَائِلاً عَنْهُ: وَخِيَارُ التَّمْيِيزِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ. وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ يُعَبِّرُ عَنْهُ بِالتَّعْبِيرِ الْمُسْهَبِ دُونَ تَسْمِيَتِهِ. وَيُسَمِّي الْمَالِكِيَّةُ الْعَقْدَ الْمُشْتَمِل عَلَيْهِ: بَيْعَ الاِخْتِيَارِ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
خِيَارُ الشَّرْطِ:
3 - هُنَاكَ صُورَةٌ مِنْ خِيَارِ الشَّرْطِ يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا مِنْ صُوَرِ خِيَارِ التَّعْيِينِ، مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهُ فِي شَيْءٍ، وَهِيَ مَا إِذَا بَاعَهُ ثَلاَثَةَ أَثْوَابٍ عَلَى أَنَّ لَهُ خِيَارَ الشَّرْطِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا لاَ فِي الْجَمِيعِ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِبَارَةٌ عَنْ خِيَارِ شَرْطٍ فِي أَحَدِ أَفْرَادِ الْمَبِيعِ، يَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنْ كَوْنِ الْمَقْصُودِ بِالْبَيْعِ فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ
__________
(1) التعريفات للجرجاني ص46، الدرر لملا خسرو 2 / 151، الحطاب وبهامشه المواق 4 / 424، الدسوقي 3 / 105، وهو تعريف ابن عرفة في كتابه المشهور في الحدود (أي التعاريف) .
(2) فتح القدير 5 / 132 نقلاً عن الطحاوي، الدسوقي 3 / 105.(20/50)
وَاحِدًا، وَهُنَا الْبَيْعُ مُنْصَبٌّ عَلَى الثَّلاَثَةِ، وَلَكِنْ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الْمُتَعَدِّدِ خِيَارٌ لَمْ يُعَيَّنْ مَحَلُّهُ، وَهِيَ مِنَ الصُّوَرِ الْفَاسِدَةِ. (1)
وَهَذِهِ صُورَةٌ أُخْرَى مِنَ الاِخْتِيَارِ لاَ الْخِيَارِ، مَا لَوْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَعَلَيْهِ اخْتِيَارُ أَرْبَعَةٍ فَقَطْ.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْل الاِخْتِيَارِ فَإِنَّ " الْخِيَارَ " لاَ يَنْتَقِل إِلَى الْوَارِثِ. (2) وَهُوَ كَمَا يَبْدُو لَيْسَ خِيَارًا بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْمْضَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ قِيَامُ الْمُكَلَّفِ بِالاِخْتِيَارِ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَهُوَ يُشْبِهُ خِيَارَ التَّعْيِينِ لَكِنَّهُ ثَبَتَ حُكْمًا لاَ بِالشَّرْطِ، كَمَا أَنَّ الْوَاقِعَةَ الْمُوَلِّدَةَ لِلْخِيَارِ غَيْرُ عَقْدِيَّةٍ.
خِيَارُ التَّعْيِينِ فِي الثَّمَنِ:
4 - أَكْثَرُ مَا يُذْكَرُ لَهُ خِيَارُ التَّعْيِينِ مَا يَكُونُ فِي الْمَبِيعِ، وَلَكِنْ هُنَاكَ خِيَارٌ يَتَّصِل بِتَعْيِينِ الثَّمَنِ، لاَ يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْخِيَارِ فِيهِ، وَهُوَ مَا إِذَا بَاعَ شَيْئًا إِلَى أَجَلَيْنِ، أَوْ بَاعَهُ إِلَى أَجَلٍ أَوْ حَالًّا، بِثَمَنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَتَرَكَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ. فَهُنَا ذَكَرَ ثَمَنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَتَرَكَ لَهُ الْخِيَارَ فِي أَحَدِهِمَا مَعَ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ حُلُولٍ أَوْ تَأْجِيلٍ.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ مِنَ التَّعَاقُدِ مَشْهُورَةٌ فِي
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 52، شرح المجلة للأتاسي 2 / 260.
(2) المجموع 9 / 222.(20/50)
الْمَذَاهِبِ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ إِذَا لَمْ يَفْتَرِقَا عَلَى التَّعْيِينِ فِي الْمَجْلِسِ. وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - ذَهَبَ إِلَى الْقَوْل بِمَشْرُوعِيَّةِ هَذَا الْخِيَارِ كُلٌّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ سَبَقَ شَيْءٌ مِنِ اهْتِمَامِهِمْ بِهِ، وَقَدْ عَقَدُوا لَهُ فَصْلاً مِنْ بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى ثُبُوتِ الْعَقْدِ عَلَى أَحَدِ أَشْيَاءَ لاَ بِعَيْنِهِ، وَتَعْرِيفُهُ وَصُورَتُهُ أَنَّهُ: " بَيْعٌ جَعَل فِيهِ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي التَّعْيِينَ لِمَا اشْتَرَاهُ، كَأَبِيعُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ عَلَى الْبَتِّ بِدِينَارٍ وَجَعَلْتُ لَكَ يَوْمًا (أَوْ يَوْمَيْنِ) تَخْتَارُ فِيهِ وَاحِدًا مِنْهُمَا " وَلَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لاَ صِلَةَ لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الأَْخْذِ وَالرَّدِّ.
وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ لاَزِمٌ وَسَمَّوْهُ (بَيْعَ الاِخْتِيَارِ) تَمْيِيزًا لَهُ عَنِ الْبَيْعِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ الَّذِي يُسَمَّى أَحْيَانًا (بَيْعَ الْخِيَارِ) وَجَعَلُوا بَيْنَهُمَا تَقَابُلاً، لأَِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ خِيَارٌ فِي الْعَقْدِ " أَحَدُهَا لاَزِمٌ لَهُ، وَإِنَّمَا الْخِيَارُ فِي التَّعْيِينِ وَلاَ يَرُدُّ إِلاَّ أَحَدَهُمَا ". (1)
وَأَشَارَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ (الاِخْتِيَارَ) قَدْ يُجَامِعُ
__________
(1) حاشية الدسوقي على الدردير 3 / 106.(20/51)
الْخِيَارَ وَقَدْ يَنْفَرِدُ عَنْهُ فَيَكُونُ هُنَاكَ بَيْعُ خِيَارٍ فَقَطْ (وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ الْمَعْرُوفِ) ، وَبَيْعُ اخْتِيَارٍ فَقَطْ (وَهُوَ الْمُسَمَّى خِيَارُ التَّعْيِينِ) وَبَيْعُ خِيَارٍ وَاخْتِيَارٍ وَهُوَ " بَيْعٌ جَعَل فِيهِ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي الاِخْتِيَارَ فِي التَّعْيِينِ، وَبَعْدَهُ هُوَ فِيمَا يُعَيِّنُهُ بِالْخِيَارِ فِي الأَْخْذِ وَالرَّدِّ ". وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ انْتَبَهُوا إِلَى اسْتِبْعَادِ اخْتِيَارِ التَّعْيِينِ مِنْ صَعِيدِ (الْخِيَارِ) لاِشْتِرَاطِهِمْ تَوْقِيتَهُ، فِي حِينِ فَصَّل الْحَنَفِيَّةُ بِأَنْ جَعَلُوا اشْتِرَاطَ التَّوْقِيتِ قَاصِرًا عَلَى حَال تَجَرُّدِ خِيَارِ التَّعْيِينِ مِنْ خِيَارِ الشَّرْطِ. يُضَافُ لِذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي كُتُبِهِمُ الأُْولَى - غَالِبًا - مُلاَبِسًا لِخِيَارِ الشَّرْطِ مُقْتَرِنًا بِهِ، لِذَا لَمْ تَحْفِل عِبَارَاتُهُمْ بِالاِحْتِرَازِ مِنْهُ. (1)
وَذَكَرَ ابْنُ مُفْلِحٍ أَنَّهُ قَال بِهِ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ وَذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْمُفْرَدَاتِ - وَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِجُمْهُورِهِمْ - وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الشَّرِيفِ وَأَبِي الْخَطَّابِ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِنَحْوِ بَيْعِ شَاةٍ مُبْهَمَةٍ فِي شِيَاهٍ إِنْ تَسَاوَتِ الْقِيمَةُ. (2)
هَؤُلاَءِ مُثْبِتُوهُ، وَأَمَّا نُفَاتُهُ فَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ - إِلاَّ
__________
(1) المبسوط 13 / 55، البدائع 5 / 157، فتح القدير 5 / 131، شرح الدردير على خليل 3 / 107، الدسوقي 3 / 105، الحطاب 4 / 423، وذكر صاحب بداية المجتهد أنه إن كان الثوبان من صنفين - وهما مما لا يجوز أن يسلم أحدهما من الآخر -، فإنه لا خلاف بين مالك والشافعي في أنه لا يجوز. وإن كانا من صنف واحد فيجوز عند مالك ولا يجوز عند أبي حنيفة والشافعي (2 / 128) .
(2) الدسوقي 3 / 105، وكشاف القناع 3 / 167 - 168، ومطالب أولي النهى 3 / 31، والفروع لابن مفلح 4 / 26.(20/51)
فِي قَوْلٍ قَدِيمٍ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ يَصِحُّ (فِي مِثْل الصُّورَةِ السَّابِقَةِ لَدَى أَبِي حَنِيفَةَ) . قَال النَّوَوِيُّ: وَهَذَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ - وَالشَّافِعِيَّةُ حِينَ مَنَعُوهُ جَعَلُوهُ مِنْ مَسَائِل جَهَالَةِ عَيْنِ الْمَبِيعِ، وَنَصُّوا عَلَى بُطْلاَنِهِ، سَوَاءٌ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ مُتَعَدِّدٍ، أَوْ وَقَعَ عَلَى الْكُل إِلاَّ وَاحِدًا، وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ كَذَلِكَ، مَعَ تَنْصِيصِهِمْ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ وَلَوْ تَسَاوَتْ قِيمَةُ الأَْشْيَاءِ الْمُخْتَارِ مِنْهَا (1) وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ (صِلَتُهُ بِكِفَايَةِ تَعْيِينِ الْمَبِيعِ وَلاَ صِلَةَ لَهُ بِخِيَارِ التَّعْيِينِ) . وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا لِمَنْعِهِ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْبَيْعِ وَالثُّنْيَا، وَقَدْ نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ. (2) وَلأَِنَّ ذَلِكَ غَرَرٌ وَيُفْضِي إِلَى التَّنَازُعِ.
دَلِيل مَشْرُوعِيَّةِ خِيَارِ التَّعْيِينِ:
6 - احْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ لِمَشْرُوعِيَّتِهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ فِيهِ الشَّرْعُ، وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ فَجَازَ إِلْحَاقًا بِهِ، لأَِنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ
__________
(1) المجموع شرح المهذب 9 / 312، شرح الروض 2 / 14، سواء تساوت القيم أم لا وسواء قال: ولك الخيار في التعيين أم لا. وعلل الرملي في حاشيته المنع بأنه للغرر، ولأن العقد لم يجد موردًا يتأثر به في الحال.
(2) حديث: " نهى عن الثنيا إلا أن تعلم ". أخرجه مسلم (3 / 1175 -. ط الحلبي) من حديث جابر، دون قوله: " إلا أن تعلم "،.، وأخرجه الترمذي (3 / 576 -. ط الحلبي) بلفظ: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والثنيا إلا أن تعلم " وقال: هذا حديث حسن صحيح.(20/52)
شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إِلَى دَفْعِ الْغَبْنِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيْعِ مُتَحَقِّقَةٌ، فَكَانَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، وَبِالرَّغْمِ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ ثَبَتَ اسْتِحْسَانًا عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، وَالْمَقْصُودُ مَبْدَأُ الْقِيَاسِ عُمُومًا، أَمَّا دَلِيلُهُ فَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، لأَِنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ نَفْسَهُ ثَبَتَ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ اللُّزُومُ. وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَا فِيهِ مِنْ جَهَالَةٍ لاَ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ لاِسْتِقْلاَل الْمُشْتَرِي بِالتَّعْيِينِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مُنَازِعٌ فِيمَا يَخْتَارُ (1) .
شَرَائِطُ قِيَامِ خِيَارِ التَّعْيِينِ:
أ - ذِكْرُ شَرْطِ التَّعْيِينِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ:
7 - لاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شَرْطِ التَّعْيِينِ فِي الإِْيجَابِ وَالْقَبُول بِنَحْوِ عِبَارَةِ: عَلَى أَنَّكَ بِالْخِيَارِ فِي أَيِّهِمَا شِئْتَ، أَوْ عَلَى أَنْ تَأْخُذَ أَيَّهَا شِئْتَ، لِيَكُونَ نَصًّا فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ وَإِلاَّ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا لِلْجَهَالَةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ (الْخِيَارِ) بَل يَكْفِي مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنْ تَحْتَفِظَ بِأَحَدِهَا وَتُعِيدَ الْبَاقِيَ. (2)
ب - أَنْ يَكُونَ مَحَل الْخِيَارِ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ:
8 - الْقِيَمِيُّ هُنَا مَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ، أَوْ مَا لاَ يُوجَدُ لَهُ مِثْلٌ فِي الأَْسْوَاقِ، أَوْ يُوجَدُ لَكِنْ مَعَ التَّفَاوُتِ
__________
(1) العناية شرح الهداية 5 / 130، وفتح القدير 5 / 131، والمغني4 / 99، والمجموع 9 / 313.
(2) شرح المجلة للأتاسي 2 / 261 نقلاً عن البحر الرائق.(20/52)
الْمُعْتَدِّ بِهِ فِي الْقِيمَةِ، أَمَّا الْمِثْلِيَّاتُ الْمُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ فَقَدْ أُلْحِقَتْ بِالْقِيَمِيِّ، وَأَمَّا الْمِثْلِيُّ الْمُتَّفِقُ الْجِنْسِ فَلاَ يَصِحُّ. لأَِنَّ الْحَاجَةَ (الَّتِي شُرِعَ لأَِجْلِهَا) هِيَ فِي التَّفَاوُتِ. بِخِلاَفِ الْمِثْلِيَّاتِ فَإِنَّ اشْتِرَاطَهُ فِيهَا لاَ فَائِدَةَ فِيهِ، وَمِنْ قَبِيل الْعَبَثِ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَفَاوِتَةً فِيمَا بَيْنَهَا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ مُتَّفِقًا أَوْ مُخْتَلِفًا، فِي حِينِ اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مِنَ الْقَائِلِينَ بِهِ تَسَاوِيَ تِلْكَ الأَْشْيَاءِ فِي الْقِيمَةِ. (1)
ج - أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ الْخِيَارِ مَعْلُومَةً:
9 - هَذَا عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَذَكَرَ الزَّيْلَعِيُّ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ لِعَدَمِ الْجَدْوَى. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ يَجُوزُ زِيَادَتُهَا عَنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَأَطْلَقَ الصَّاحِبَانِ الْمُدَّةَ عَلَى أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً، وَرَجَّحَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ فَرَّقَ الْبَابَرْتِيُّ وَالزَّيْلَعِيُّ بَيْنَ الأَْخْذِ بِرَأْيِ مَنِ اسْتَلْزَمَ لِخِيَارِ التَّعْيِينِ خِيَارَ الشَّرْطِ، فَلاَ بَأْسَ عَلَى هَذَا مِنْ عَدَمِ تَوْقِيتِهِ لإِِغْنَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ عَنْهُ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْل بِجَوَازِ أَنْ يَعْرَى عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّوْقِيتِ. (2)
__________
(1) فتح القدير 5 / 130، وشرح المجلة للأتاسي 2 / 260، والفروع 4 / 26 والمبسوط 3 / 56، والفتاوى الهندية 3 / 55 - 56 نقلاً عن المحيط، الحطاب 4 / 426، " فإن اختلفا يضمن حينئذ ضمان المبيع بيعًا فاسدًا ".
(2) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 21، العناية شرح الهداية 5 / 131.(20/53)
د - عَدَمُ زِيَادَةِ الأَْفْرَادِ الْمُخْتَارِ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلاَثَةٍ:
10 - فَلاَ يَجُوزُ - عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ - أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِيَارُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ، لاِنْدِفَاعِ الْحَاجَةِ بِذَلِكَ، لاِشْتِمَال الثَّلاَثَةِ عَلَى الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ وَالرَّدِيءِ. (وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ فِي وَاحِدٍ مِنِ اثْنَيْنِ بِطَرِيقِ الأَْوْلَى) قَالُوا: وَالزَّائِدُ يَقَعُ مُكَرَّرًا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، وَقَدْ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ. (1)
هـ - الْعَدَدُ الْمُخْتَارُ مِنَ الْعَاقِدِ:
11 - هَل يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَزِيدَ الْعَدَدُ الْمُخْتَارُ مِنَ الْعَاقِدِ عَلَى وَاحِدٍ أَيْ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اخْتِيَارُهُ أَمْ لَهُ اخْتِيَارُ اثْنَيْنِ (مَثَلاً) ؟ لَمْ نَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ فِيهِ نَصًّا، لَكِنَّ الصُّوَرَ الَّتِي ذَكَرُوهَا قَائِمَةٌ عَلَى اخْتِيَارٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ إِلاَّ بِوَاحِدٍ عَلَى مَا قَال الْحَطَّابُ (2) .
و اقْتِرَانُهُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ:
12 - هَذَا الْخِيَارُ وَثِيقُ الصِّلَةِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، بَل هُوَ مُتَفَرِّعٌ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَشْرُوعِيَّتُهُ وَمُعْظَمُ أَحْكَامِهِ، كَالْمُدَّةِ وَالسُّقُوطِ، وَلِذَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي أَثْنَاءِ بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ. وَبِالرَّغْمِ مِنْ هَذَا هُوَ خِيَارٌ مُسْتَقِلٌّ، وَسَبَبُ ارْتِبَاطِهِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ إِمَّا غَلَبَةُ اشْتِرَاطِهِ مَعَهُ لِيَكُونَ الْعَقْدُ فِي أَصْلِهِ غَيْرَ
__________
(1) فتح القدير 5 / 130 والعناية أيضًا.
(2) الحطاب 4 / 424، و4 / 425 " أما اختيار ثلاثة فبعيد ".(20/53)
لاَزِمٍ بِحَيْثُ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي رَدُّ الْجَمِيعِ، وَإِمَّا عَلَى الْقَوْل بِاشْتِرَاطِ اقْتِرَانِهِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ. وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِمُحَمَّدٍ. وَهُنَاكَ رَأْيٌ آخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ بَعْدَ تَرْجِيحِ اشْتِرَاطِهِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ (1) .
مَنْ يُشْتَرَطُ لَهُ الْخِيَارُ (صَاحِبُ الْخِيَارِ) :
13 - يُمْكِنُ اشْتِرَاطُ هَذَا الْخِيَارِ لأَِيٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ. فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي إِذَا كَانَ الْعَقْدُ عَلَى أَنَّهُ يَأْخُذُ أَيًّا شَاءَ مِنَ الأَْشْيَاءِ الْمُمَيَّزِ بَيْنَهَا بِالثَّمَنِ الْمُبَيَّنِ لَهُ. فَصَاحِبُ الْخِيَارِ هُنَا هُوَ الْمُشْتَرِي وَإِلَيْهِ التَّعْيِينُ، وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ إِذَا ذَكَرَا فِي الْعَقْدِ أَنَّ الْبَائِعَ هُوَ الَّذِي يَخْتَارُ أَحَدَ الأَْشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَوْضُوعُ التَّعْيِينِ، فَالْبَائِعُ هُنَا صَاحِبُ الْخِيَارِ وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ بِالتَّعْيِينِ.
وَلاَ عِبْرَةَ بِصُدُورِ الاِشْتِرَاطِ مِنَ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي مَثَلاً بَل النَّظَرُ لِصِيغَتِهِ، فَلَوْ قَال الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَيَّهمَا شِئْتَ بِالثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ لَهُ فَالْخِيَارُ هُنَا لِلْبَائِعِ، وَهُوَ الْمُسْتَفِيدُ بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ مُشْتَرِطَ الْخِيَارِ هُوَ الْمُشْتَرِي، فَلاَ أَثَرَ لِذَلِكَ، فَحُكْمُهُ كَمَا لَوْ صَدَرَ الاِشْتِرَاطُ بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ،
__________
(1) الهداية وفتح القدير والعناية 5 / 130 - 132، البدائع 5 / 157، و261، المبسوط 13 / 55، الحطاب 4 / 423، الخرشي 4 / 37، الدسوقي 3 / 105، المقدمات 2 / 563.(20/54)
بَل هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُعْتَبَرٌ مِنْهُمَا، لِضَرُورَةِ اتِّفَاقِ الإِْرَادَتَيْنِ عَلَيْهِ، فَالْعِبْرَةُ إِذَنْ بِالْمُشْتَرَطِ لَهُ الْخِيَارُ لاَ فِي ذَاكِرِ الشَّرْطِ.
وَلاَ يَسُوغُ أَنْ يُشْتَرَطَ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي آنٍ وَاحِدٍ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ الَّتِي تُحْدِثُ التَّنَازُعَ، وَقَدِ اغْتُفِرَتْ خِفَّةُ الْجَهَالَةِ بِسَبَبِ اسْتِبْدَادِ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، أَمَّا لَوْ كَانَ الاِخْتِيَارُ لَهُمَا فَتَخْتَلِفُ رَغْبَتُهُمَا وَيَحْدُثُ التَّنَازُعُ. (1)
أَثَرُ خِيَارِ التَّعْيِينِ عَلَى الْعَقْدِ:
أَثَرُهُ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ:
14 - ذَكَرَ مُلاَّ خُسْرُو مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ حُكْمِ الْعَقْدِ، وَهُوَ انْتِقَال الْمِلْكِ نَظِيرَ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَلَكِنَّ الشُّرُنْبُلاَلِيَّ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ذَلِكَ فِي الْحَاشِيَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَّل تِلْكَ الْمُخَالَفَةَ بِقَوْلِهِ: أَحَدُ مَا فِيهِ التَّعْيِينُ غَيْرُ مَمْنُوعِ الْحُكْمِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي بَيَانِ ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْعَقْدِ خِيَارُ الشَّرْطِ، كَمَا فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَصَحَّحَهُ فَخْرُ الإِْسْلاَمِ (2) . وَهَذَا وَاضِحٌ لأَِنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ لاَ أَثَرَ لَهُ عَلَى
__________
(1) فتح القدير 5 / 130، شرح المجلة للأتاسي 2 / 260 - 261، جامع الفصولين 1 / 345، " يجوز في جانب البائع كما يجوز في جانب المشتري ".
(2) الدرر لملا خسرو وحاشية الشرنبلالي 2 / 151.(20/54)
لُزُومِ الْعَقْدِ مَا دَامَ عَارِيًا عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ، لأَِنَّهُ حَقُّ اخْتِيَارٍ، وَلَيْسَ تَعْلِيقًا لِحُكْمِ الْعَقْدِ.
فَخِيَارُ التَّعْيِينِ يَجْعَل ثُبُوتَ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ مُتَعَلِّقًا بِأَحَدِ الأَْشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَحَل الْخِيَارِ دُونَ تَخْصِيصٍ بِأَحَدِهَا وَلاَ مُجَاوَزَةَ إِلَى غَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ قَبَضَ الأَْشْيَاءَ الْمُخْتَارَ مِنْهَا كَانَ أَحَدُهَا مَبِيعًا مَضْمُونًا وَالْبَاقِي أَمَانَةً فِي يَدِهِ. (1)
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِي شَأْنِ الإِْلْزَامِ بِالاِخْتِيَارِ وَالضَّمَانِ مَا يَلِي: إِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الاِخْتِيَارِ وَلَمْ يَخْتَرْ (وَكَانَ لَهُ اخْتِيَارُ التَّعْيِينِ مُجَرَّدًا عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ) يَلْزَمُهُ النِّصْفُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الثَّوْبَيْنِ (مَثَلاً) ، لأَِنَّ ثَوْبًا قَدْ لَزِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ مَا هُوَ مِنْهُمَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا شَرِيكًا.
وَمِثْل ذَلِكَ مَا إِذَا ادَّعَى ضَيَاعَهُمَا أَوْ ضَيَاعَ أَحَدِهِمَا يَلْزَمُهُ النِّصْفُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الثَّوْبَيْنِ سَوَاءٌ أَكَانَ الثَّوْبَانِ آنَئِذٍ بِيَدِ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ أَقَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى الضَّيَاعِ أَمْ لاَ، لأَِنَّ الْبَيْعَ عَلَى اللُّزُومِ وَقَدْ قَبَضَ الشَّيْئَيْنِ عَلَى وَجْهِ الإِْلْزَامِ، أَيْ إِلْزَامِ أَنَّ لَهُ وَاحِدًا مِنَ الاِثْنَيْنِ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ. وَلُزُومُ النِّصْفِ مِنْ كُلٍّ مِنَ الثَّوْبَيْنِ إِنَّمَا هُوَ بِكُل الثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ الْبَيْعُ بِهِ.
فَالْمَالِكِيَّةُ فِي حَال مُرُورِ مُدَّةِ التَّعْيِينِ وَالاِمْتِنَاعِ
__________
(1) البدائع 5 / 261، فتح القدير 5 / 132 وفيهما تفصيلات وفروع في مسألة الضمان عند الهلاك.(20/55)
عَنْهُ لاَ يَرَوْنَ إِجْبَارَهُ عَلَى التَّعْيِينِ، بَل يُطَبِّقُونَ مُقْتَضَى شَرْطِ التَّعْيِينِ، وَإِرَادَتَهُ تَمَلُّكَ نِصْفِ مَحَل الْعَقْدِ أَوْ ثُلُثِهِ (1) .
تَبِعَةُ الْهَلاَكِ فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ:
15 - إِذَا هَلَكَ أَحَدُ الأَْشْيَاءِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهَا أَوْ تَعَيَّبَ لَزِمَ الْبَيْعُ فِيهِ بِثَمَنِهِ، وَتَعَيَّنَ الآْخَرُ لِلأَْمَانَةِ (حَتَّى إِذَا هَلَكَ الآْخَرُ بَعْدَ هَلاَكِ الأَْوَّل أَوْ تَعَيَّبَ لاَ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَتِهِ شَيْءٌ) وَهَذَا لأَِنَّ الْعَيْبَ مُمْتَنِعُ الرَّدِّ لاِعْتِبَارِ التَّعَيُّبِ اخْتِيَارًا ضَرُورَةً، (2) وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهَا قَبْل الْقَبْضِ لاَ يَبْطُل الْبَيْعُ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِثَمَنِهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ. وَإِنْ هَلَكَ الْكُل قَبْل الْقَبْضِ بَطَل الْبَيْعُ.
وَلَوْ هَلَكَ الشَّيْئَانِ مَعًا بَعْدَ الْقَبْضِ لَزِمَ الْمُشْتَرِي نِصْفُ ثَمَنِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِشُيُوعِ الْبَيْعِ وَالأَْمَانَةِ، فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِكَوْنِهِ الْمَبِيعَ مِنَ الآْخَرِ. (3)
وَتَقَدَّمَ كَلاَمُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ.
__________
(1) الدسوقي على شرح الكبير 3 / 106 - 107، الخرشي 4 / 35، المقدمات 2 / 565.
(2) البدائع 5 / 260، العناية شرح الهداية 5 / 132 وناقش الإيراد بأنه ليس أقل من سوم الشراء وفيه تجب القيمة بأن ذاك مقبوض على جهة البيع وليس هذا كذلك.
(3) فتح القدير 5 / 132 - 133، وفيه تفصيلات كثيرة، البدائع 5 / 261 - 263.(20/55)
تَوْقِيتُ خِيَارِ التَّعْيِينِ:
16 - يُشْتَرَطُ فِي الأَْرْجَحِ تَوْقِيتُ هَذَا الْخِيَارِ بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ إِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى الْقَوْل بِصِحَّةِ وُرُودِهِ بِدُونِهِ، أَمَّا إِنْ تَضَمَّنَ خِيَارَ الشَّرْطِ فَمُدَّةُ الْخِيَارِ صَالِحَةٌ لَهُمَا، وَفَائِدَةُ التَّوْقِيتِ أَنْ يُجْبَرَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ عَلَى التَّعْيِينِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الآْخَرِ إِذَا مَاطَل مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي التَّعْيِينِ. قَال ابْنُ قَاضِي سَمَاوَةَ: (وَخِيَارُ التَّعْيِينِ لَمْ يَجُزْ إِلاَّ مُؤَقَّتًا بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ خِيَارُ الشَّرْطِ) . (1)
وَقَدْ سَبَقَ فِي الشَّرَائِطِ بَيَانُ مَا يَتَّصِل بِمَعْلُومِيَّةِ الْمُدَّةِ، صِلَةُ هَذَا الْخِيَارِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ.
سُقُوطُ خِيَارِ التَّعْيِينِ:
17 - تَوَارَدَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ يَسْقُطُ بِمَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ (2) .
وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَارُ الشَّرْطِ)
انْتِقَال خِيَارِ التَّعْيِينِ:
18 - خِيَارُ التَّعْيِينِ يَنْتَقِل بِالْمَوْتِ إِلَى وَارِثِ صَاحِبِ الْخِيَارِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي تَعْيِينِ مَا يَخْتَارُهُ مِنْ
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 21، فتح القدير 5 / 131، جامع الفصولين 1 / 245.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 56، نقلاً عن الفتاوى الظهيرية، شرح المجلة للأتاسي 2 / 261.(20/56)
مَحَل الْخِيَارِ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ لِمُوَرِّثِهِ مَالاً ثَابِتًا ضِمْنَ الأَْشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَحَل الْخِيَارِ فَوَجَبَ عَلَى الْوَارِثِ أَنْ يُعَيِّنَ مَا يَخْتَارُهُ وَيَرُدَّ مَا لَيْسَ لَهُ إِلَى مَالِكِهِ.
وَيَكُونُ أَدَاءُ الثَّمَنِ مِنَ التَّرِكَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَدَّى حَال الْحَيَاةِ، ذَلِكَ أَنَّهُ انْتَقَل إِلَيْهِ مِلْكُ الْمُوَرِّثِ وَلَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا بَل مُخْتَلِطًا بِمِلْكِ غَيْرِهِ وَهُوَ الْبَائِعُ مَثَلاً، فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ لِتَعْيِينِ مِلْكِهِ وَإِفْرَازِهِ عَنْ مِلْكِ غَيْرِهِ. (1)
__________
(1) جامع الفصولين 1 / 245، الفتاوى الهندية 3 / 55، البدائع 5 / 262.(20/56)
خِيَارُ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الصَّفْقَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ الْمَرَّةِ مِنَ الصَّفْقِ وَهُوَ الضَّرْبُ بِالْيَدِ عَلَى يَدٍ أُخْرَى أَوْ عَلَى يَدِ آخَرَ عِنْدَ الْبَيْعِ أَوِ الْبَيْعَةِ. وَكَانَتْ الْعَرَبُ إِذَا وَجَبَ الْبَيْعُ ضَرَبَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَدَهُ عَلَى يَدِ صَاحِبِهِ، فَمِنْ هُنَا اسْتُعْمِلَتِ الصَّفْقَةُ بِمَعْنَى عَقْدِ الْبَيْعِ نَفْسِهِ، يُقَال: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي صَفْقَةِ يَمِينِكَ، وَمِنْهُ قَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ، أَيْ بَيْعٌ بَاتٌّ أَوْ بَيْعٌ بِخِيَارٍ. هَذَا عَنِ الصَّفْقَةِ، أَمَّا التَّفْرِيقُ فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّفْسِيرِ اللُّغَوِيِّ لأَِنَّ مَعْنَاهُ - أَوْ مَعَانِيَهُ - كُلَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ مَفْهُومَةٌ وَيَهُمُّنَا مِنْهَا الْمَعْنَى النَّاشِئُ عَنْ إِضَافَةِ لَفْظِ (تَفْرِيقٍ) إِلَى (الصَّفْقَةِ) وَهُوَ مُتَّحِدٌ مَعَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ لِهَذَا الْمُرَكَّبِ الإِْضَافِيِّ. (1)
وَمَعْنَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الاِصْطِلاَحِ أَنْ لاَ يَتَنَاوَل حُكْمُ الْعَقْدِ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَوْ يَتَنَاوَلَهُ ثُمَّ يَنْحَسِرُ عَنْهُ. فَتَكُونُ الصَّفْقَةُ الْوَاحِدَةُ
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب للمطرزي، والقاموس، والمعجم الوسيط، مادة " صفق ".(20/57)
الْمُجْتَمِعَةُ قَدْ تَفَرَّقَتْ أَوْ تَبَعَّضَتْ أَوْ تَجَزَّأَتْ وَبِكُل هَذِهِ الْمُتَرَادِفَاتِ يُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ فَيُسَمُّونَهُ (تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ) أَوْ (تَبْعِيضَهَا) أَوْ (تَجَزُّؤَهَا) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - تَعَدُّدُ الصَّفْقَةِ:
2 - التَّفْرِيقُ لاَ يُتَصَوَّرُ إِلاَّ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَتَمْيِيزُ الصَّفْقَةِ عَنِ الصَّفْقَتَيْنِ يَسْتَبْهِمُ أَحْيَانًا لاَ سِيَّمَا فِي حَال الْجَمْعِ بَيْنَ سِلْعَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، إِذْ لَيْسَ التَّعْوِيل عَلَى الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، بَل عَلَى حَقِيقَةِ التَّعَدُّدِ بِالاِعْتِبَارِ الشَّرْعِيِّ، وَقَدِ اعْتَنَى الشَّافِعِيَّةُ بِبَيَانِ ضَابِطِ اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ أَوْ تَعَدُّدِهَا (1)
فَالصَّفْقَةُ تَتَعَدَّدُ بِتَفْصِيل الثَّمَنِ عَلَى شَيْئَيْنِ بِيعَا مَعًا، عِنْدَ الإِْيجَابِ مِنَ الْمُبْتَدِئِ بِالْعَقْدِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَتَكَرَّرَ التَّفْصِيل فِي الْقَبُول، عَلَى الأَْصَحِّ، وَكَذَلِكَ تَتَعَدَّدُ الصَّفْقَةُ بِتَعَدُّدِ الْعَاقِدِ مُطْلَقًا، بَائِعًا كَانَ أَوْ مُشْتَرِيًا، وَمِثَال تَعَدُّدِهَا بِتَعَدُّدِ الْبَائِعِ قَوْل اثْنَيْنِ لِوَاحِدٍ: بِعْنَاكَ هَذَا بِكَذَا - وَالْمَبِيعُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا - فَقَبِل الْمُشْتَرِي فِيهِمَا، فَهُمَا صَفْقَتَانِ، وَلَهُ رَدُّ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِالْعَيْبِ مَثَلاً. وَمِثَال تَعَدُّدِهَا بِتَعَدُّدِ الْمُشْتَرِي أَنْ يَقُول لاِثْنَيْنِ: بِعْتُكُمَا هَذَا بِكَذَا. أَوْ يَقُول اثْنَانِ
__________
(1) الاتحاد في الشيء، الانفراد، والاتحاد في الشيئين: الاجتماع ليصيرا شيئًا واحدًا.(20/57)
لِوَاحِدٍ: اشْتَرَيْنَا مِنْكَ هَذَا بِكَذَا (1) .
فَالتَّفْرِيقُ الْمُسْتَوْجِبُ خِيَارًا هُوَ مَا يَقَعُ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْ فِي صَفْقَةٍ لَمْ يَتَعَدَّدْ عَاقِدُهَا مِنْ بَائِعٍ أَوْ مُشْتَرٍ، وَلاَ فُصِّل فِيهَا الثَّمَنُ عَلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الْمُتَعَدِّدِ.
ب - الْبَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ:
3 - الْمُرَادُ بِالْبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ: هُوَ جَمْعُ بَيْعَتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَتَسْمِيَةُ ذَلِكَ الْعَقْدِ بَيْعَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الثَّمَنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صُورَتِهَا وَبَيَانُ أَحْكَامِهَا عَلَى أَقْوَالٍ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ) .
تَقْسِيمٌ وَأَحْكَامٌ مُوجَزَةٌ:
4 - تَعَرَّضَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ تَوَصُّلاً لِحَالَةِ هَلاَكِ بَعْضِ الْمَبِيعِ فَحَسْبُ، حِينَ عَدَّدُوا الْخِيَارَاتِ، فَلَمْ يُفْرِدُوهُ بِاسْمِ الْخِيَارِ بَل قَرَنُوا التَّفَرُّقَ بِتِلْكَ الْحَالَةِ. (2) ثُمَّ اسْتَعْرَضُوا أَحْكَامَ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ فِي رَدِّ الْمَعِيبِ بِاسْتِقْصَاءٍ دُونَ أَنْ يَجْعَلُوا مِنْهُ خِيَارًا، بَل رَأَوْهُ عَيْبًا يَلْزَمُ عَنْ رَدِّ بَعْضِ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ وَيَجِبُ حِمَايَةُ الْبَائِعِ مِنْ تَحَمُّلِهِ. (3)
__________
(1) تحفة المحتاج بحاشية الشرواني 4 / 330 - 331، ومغني المحتاج 2 / 42، والوجيز 2 / 140، والمجموع شرح المهذب 9 / 432.
(2) رد المحتار 4 / 46، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص208، والبحر الرائق 6 / 3.
(3) الفتاوى الهندية 3 / 83.(20/58)
وَلَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ اخْتَلَفُوا بِحَالَةِ الاِسْتِحْقَاقِ وَتَنَاوَلُوا أَحْكَامَهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.
وَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ تَعَدُّدَ الصَّفْقَةِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: فِي الاِبْتِدَاءِ، أَوْ فِي الدَّوَامِ، أَوْ فِي اخْتِلاَفِ الأَْحْكَامِ. وَالَّذِي فِي الاِبْتِدَاءِ كُلُّهُ ذُو سَبَبٍ شَرْعِيٍّ، وَعَكْسُهُ الَّذِي فِي الدَّوَامِ فَسَبَبُهُ حِسِّيٌّ. وَالتَّقْسِيمُ بِحَسَبِ السَّبَبِ أَلْيَقُ لِقِيَامِ الْخِيَارَاتِ بِطَرِيقَيْنِ، إِرَادِيٍّ وَحُكْمِيٍّ وَلِكَثْرَةٍ تَسْمِيَةِ الْخِيَارَاتِ بِأَسْبَابِهَا. أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي دَعَوْهُ " الاِخْتِلاَفَ فِي الأَْحْكَامِ " وَمَثَّلُوا لَهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ عَقْدَيْنِ: بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ، أَوْ إِجَارَةٍ وَسَلَمٍ، فَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَيْسَ قِسْمًا بِرَأْسِهِ بَل هُوَ تَقْسِيمٌ دَاخِلِيٌّ لِلتَّفْرِيقِ فِي الاِبْتِدَاءِ. وَلِذَا لَمْ يُبْرِزْهُ ابْنُ حَجَرٍ كَقِسْمٍ ثَالِثٍ بَل أَوْرَدَهُ بِصُورَةِ مَسَائِل، وَلَمْ يُدْرِكَ (الشَّرْوَانِيُّ) مُرَادَهُ فَنَبَّهَ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى أَنَّهُ ثَالِثُ الأَْقْسَامِ. (1)
ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ صُوَرًا ثَلاَثًا لِلصَّفْقَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى وَحْدَةِ مُشْتَمَلاَتِهَا وَتَعَدُّدِهَا وَلاَ صِلَةَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ بِالصُّورَةِ الأُْولَى، الَّتِي هِيَ بَيْعُ مَعْلُومٍ وَمَجْهُولٍ، أَمَّا الصُّورَتَانِ الأُْخْرَيَانِ فَهُمَا:
1 - بَيْعُ الْجَمِيعِ فِيمَا يَمْلِكُ بَعْضَهُ.
2 - بَيْعُ الْمُتَقَوِّمِ مَعَ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ.
وَهَاتَانِ الصُّورَتَانِ أَحْكَامُهُمَا وَاحِدَةٌ مِنْ حَيْثُ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 42، تحفة المحتاج وحاشية الشرواني 4 / 330، المجموع 9 / 432.(20/58)
ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، وَلِذَا لُوحِظَ أَحْيَانًا جَمْعُهُمَا تَحْتَ عِنْوَانٍ وَاحِدٍ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَابِلَةِ، يُعَبَّرُ عَنْهُ أَحْيَانًا: (بِاشْتِمَال الصَّفْقَةِ عَلَى شَيْئَيْنِ مِمَّا لاَ يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالإِْجْزَاءِ) .
وَالْمِثَالاَنِ الْمُهِمَّانِ هُمَا:
أ - بَيْعُ مِلْكِهِ وَمِلْكِ غَيْرِهِ.
ب - بَيْعُ خَلٍّ وَخَمْرٍ، وَنَحْوِهِمَا.
أَمَّا مَا لاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِلٌ أَوْ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، وَأَمَّا الْبَاقِي فَفِيهِ رِوَايَتَانِ لَدَى الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلاَنِ لِلشَّافِعِيِّ، وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ كَمْ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ إِنْ أَجَازَ الْعَقْدَ، أَصَحُّهُمَا حِصَّةُ الْمَمْلُوكِ فَقَطْ إِذَا وَزَّعَ الْقِيمَتَيْنِ وَأَثْبَتُوا لَهُ الْخِيَارَ إِنْ صَحَّحُوا الْعَقْدَ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِالصِّحَّةِ فِي مِلْكِهِ، وَالتَّوَقُّفِ فِي الْبَاقِي عَلَى الإِْجَازَةِ. (1) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: " وَالْقَوْل بِالْفَسَادِ فِي هَذَا الْقِسْمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَظْهَرُ. وَالْحُكْمُ فِي الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ إِذَا جُمِعَتْ مَا يَجُوزُ وَمَا لاَ يَجُوزُ كَالْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ، إِلاَّ أَنَّ الظَّاهِرَ فِيهَا الصِّحَّةُ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ عُقُودَ مُعَاوَضَةٍ، فَلاَ تُوجَدُ جَهَالَةُ الْعِوَضِ فِيهَا ". (2)
__________
(1) المغني 4 / 212، مطالب أولي النهى 3 / 45، منتهى الإرادات 1 / 347، المهذب والمجموع 9 / 425.
(2) المغني 4 / 213، المجموع 9 / 383 قال النووي " فإن قلنا: الواجب الثمن فلا خيار للبائع لأنه لا ضرر عليه، فإن قلنا بالقسط فوجهان أصحهما لا خيار له ".(20/59)
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْل بِالصِّحَّةِ، إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْحَال فَلاَ خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْمْسَاكِ. وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ لأَِنَّهُ رَضِيَ بِزَوَال مِلْكِهِ عَمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِقِسْطِهِ.
وَجْهُ انْتِفَاءِ الْخِيَارِ فِي حَال الْعِلْمِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ دَخَل عَلَى بَصِيرَةٍ، أَمَّا فِي حَال الْجَهْل فَالسَّبَبُ لِلْخِيَارِ قَائِمٌ " لأَِنَّ الصَّفْقَةَ تَبَعَّضَتْ عَلَيْهِ " (1) .
ثُمَّ الْخِيَارُ بَيْنَ الرَّدِّ، أَوِ الإِْمْسَاكِ بِلاَ أَرْشٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ التَّفْرِيقُ يُنْقِصُ الْقِسْمَ الْبَاقِيَ مِنَ الصَّفْقَةِ بِأَنْ تَقِل قِيمَتُهُ بِالْبَيْعِ مُنْفَرِدًا كَمِصْرَاعَيْ بَابٍ وَزَوْجَيْ خُفٍّ. (2)
وَأَحْيَانًا أُخْرَى بِاشْتِمَال الصَّفْقَةِ عَلَى شَيْئَيْنِ مِمَّا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالأَْجْزَاءِ، كَدَابَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَفِيهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا الصِّحَّةُ فِي مِلْكِهِ فَقَطْ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَالْفَسَادُ فِيمَا لاَ يَمْلِكُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي - وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ - عَدَمُ الصِّحَّةِ فِيهِمَا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالأَْوْلَى أَنَّهُ يَصِحُّ فِيمَا يَمْلِكُهُ. (3)
وَمُسْتَنَدُ فَسَادِ الصَّفْقَةِ كُلِّهَا: أَنَّهَا جَمَعَتْ
__________
(1) المغني 4 / 214، المجموع 9 / 430 ط2.
(2) منتهى الإرادات 1 / 347، ومطالب أولي النهى 3 / 45.
(3) المهذب للشيرازي والمجموع 9 / 425، والمغني 4 / 212، ومطالب أولي النهى 3 / 45.(20/59)
حَلاَلاً وَحَرَامًا فَغَلَبَ التَّحْرِيمُ، لأَِنَّ الصَّفْقَةَ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهَا فِي جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ فِي الْكُل.
وَمُسْتَنَدُ الصِّحَّةِ فِي الْجُزْءِ: أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ حُكْمٌ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا ثَبَتَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُهُ، وَلأَِنَّ جَائِزَ الْعَقْدِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا قَدْ صَدَرَ فِيهِ الْبَيْعُ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ بِشَرْطِهِ فَصَحَّ، وَالْبَيْعُ سَبَبٌ اقْتَضَى الْحُكْمَ فِي مَحَلَّيْنِ وَامْتَنَعَ حُكْمُهُ فِي أَحَدِهِمَا فَيَصِحُّ فِي الآْخَرِ (1) .
مُوجِبُ خِيَارَاتِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ:
5 - يَنْحَصِرُ اسْتِعْمَال الْخِيَارِ فِي الإِْجَازَةِ وَالْفَسْخِ، فَيُنْظَرُ اخْتِيَارُهُ، فَإِنِ اخْتَارَ الْفَسْخَ فَلاَ إِشْكَال فِي اسْتِرْدَادِهِ الثَّمَنَ كُلَّهُ، أَمَّا إِذَا اخْتَارَ إِمْضَاءَ الْعَقْدِ فِي الْبَاقِي فَكَمْ يَدْفَعُ؟ هَل كُل الثَّمَنِ - وَفِيهِ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ - بِنَاءً عَلَى إِلْحَاقِ الطَّارِئِ بِالْمُقَارَنِ.
أَمْ يَلْزَمُهُ قِسْطُ الْبَاقِي مِنَ الثَّمَنِ - وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ - لأَِنَّ الْعِوَضَ هُنَا قَدْ قَابَل الْمَبِيعَيْنِ (أَوْ جُمْلَةَ الْمَبِيعِ الْوَاحِدِ) مُقَابَلَةً صَحِيحَةً حَال الْعَقْدِ وَانْقَسَمَ الْعِوَضُ عَلَيْهِمَا فَلاَ يَتَغَيَّرُ بِهَلاَكِ بَعْضِهِ أَوِ اسْتِحْقَاقِهِ. (2)
وَيَنْشَأُ تَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ الْمُسْتَوْجِبُ خِيَارًا - فِي
__________
(1) المغني 4 / 212 - 213.
(2) المجموع شرح المهذب 9 / 386 - 387، المغني 4 / 331.(20/60)
كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْيَانِ - عَنْ خِيَارِ الْعَيْبِ، وَعِنْدَمَا يُؤْثِرُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ. لَكِنَّ الشَّارِعَ يَمْنَعُ ذَلِكَ تَفَادِيًا لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.
وَقَدْ فَصَّل الْكَاسَانِيُّ الْحَالاَتِ الَّتِي يَنْشَأُ عَنِ الرَّدِّ لِلْمَعِيبِ فِيهَا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ حُكْمَهَا جَمِيعَهَا الْمَنْعُ بِاسْتِثْنَاءِ حَالَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ مَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ أَشْيَاءَ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ زُفَرَ (1) . -
6 - وَلِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ صُوَرٌ مُخْتَلِفَةٌ، لَكِنَّ طَابَعَ الْخِيَارَاتِ يَبْرُزُ فِي صُورَتَيْنِ، هُمَا: صُورَةُ الاِسْتِحْقَاقِ الْجُزْئِيِّ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ (وَفِي حُكْمِهِ: انْفِسَاخُ الْعَقْدِ فِي أَحَدِ شَيْئَيْنِ قَبْل الْقَبْضِ) .
وَصُورَةُ الْهَلاَكِ الْجُزْئِيِّ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، (وَمِنْ صُوَرِهِ انْقِطَاعُ بَعْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ مَحِل الأَْجَل) .
أَوَّلاً: خِيَارُ الاِسْتِحْقَاقِ الْجُزْئِيِّ:
7 - الاِسْتِحْقَاقُ (فِي عَقْدِ الْبَيْعِ) هُوَ ظُهُورُ كَوْنِ الْمَبِيعِ حَقًّا وَاجِبًا لِلْغَيْرِ، وَهُوَ اسْتِحْقَاقٌ كُلِّيٌّ أَوْ جُزْئِيٌّ.
فَالاِسْتِحْقَاقُ الْكُلِّيُّ (وَهُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْمَبِيعِ كُلِّهِ) يَجْعَل الْعَقْدَ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ،
__________
(1) البدائع 5 / 287، وبداية المجتهد 2 / 178 - 179.(20/60)
وَلاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِظُهُورِ الاِسْتِحْقَاقِ وَلاَ بِالْقَضَاءِ بِهِ، بَل يَظَل مَوْقُوفًا إِلَى أَنْ يَرْجِعَ الْمُشْتَرِي عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ، بِحَيْثُ لَوْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ بَعْدَمَا قُضِيَ لَهُ، أَوْ بَعْدَمَا قَبَضَهُ قَبْل أَنْ يَرْجِعَ الْمُشْتَرِي عَلَى بَائِعِهِ يَصِحُّ، عَلَى مَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْهُمَامِ (1) .
أَمَّا الاِسْتِحْقَاقُ الْجُزْئِيُّ فَهُوَ مَا يَقَعُ عَلَى بَعْضِ الْمَبِيعِ، سَوَاءٌ ظَهَرَ الاِسْتِحْقَاقُ بَعْدَ الْقَبْضِ، أَوْ قَبْلَهُ، أَوْ بَعْدَ قَبْضِ بَعْضِهِ، وَلاَ فَرْقَ فِي كَوْنِ الْمُسْتَحَقِّ هُوَ الْجُزْءُ الْمَقْبُوضُ أَوْ غَيْرُهُ.
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الاِسْتِحْقَاقَ الْجُزْئِيَّ إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ قَبْل الْقَبْضِ، وَإِمَّا بَعْدَهُ: فَإِذَا اسْتُحِقَّ بَعْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْل الْقَبْضِ - وَالْمُرَادُ قَبْضُ الْكُل، فَلاَ عِبْرَةَ بِقَبْضِ بَعْضِ الْمَبِيعِ فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يُقْبَضْ - فَحُكْمُ ذَلِكَ الْبَعْضِ الْمُسْتَحَقِّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، فَإِذَا لَمْ يُجِزِ الْمُسْتَحِقُّ فَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ بِثَمَنِهِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُل الْعَقْدُ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ، أَمَّا الْبَاقِي فَلِلْمُشْتَرِي فِيهِ الْخِيَارُ: إِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ. وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، سَوَاءٌ كَانَ اسْتِحْقَاقُ مَا اسْتَحَقَّ يُوجِبُ الْعَيْبَ فِي الْبَاقِي أَوْ لاَ يُوجِبُ.
وَالْوَجْهُ فِي بُطْلاَنِ الْعَقْدِ فِي بَعْضِ السِّلْعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ: التَّبَيُّنُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَمْ يَكُنْ مِلْكَ
__________
(1) أحكام الاستحقاق (الكلي) يرجع إلى فتح القدير والعناية 5 / 304، 305، ورد المحتار 5 / 190 - 208 (ط2 الحلبي) .(20/61)
الْبَائِعِ، وَلَمَّا لَمْ تُوجَدَ الإِْجَازَةُ مِنَ الْمَالِكِ - وَتَلاَهُ اسْتِرْجَاعُ الْمُشْتَرِي لِلثَّمَنِ - انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ.
أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الْبَاقِي فَلِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي قَبْل التَّمَامِ، وَتَمَامُ الصَّفْقَةِ بَعْدَ الرِّضَا بِالْقَبْضِ - وَهُوَ لَمْ يَحْصُل - فَكَانَ ظُهُورُ الاِسْتِحْقَاقِ قَبْل الْقَبْضِ مُفَرِّقًا لِلصَّفْقَةِ قَبْل تَمَامِهَا فَلَهُ خِيَارُ الرَّدِّ. (1)
وَإِذَا ظَهَرَ الاِسْتِحْقَاقُ الْجُزْئِيُّ بَعْدَ الْقَبْضِ، كَانَ حُكْمُ الْجُزْءِ الْمُسْتَحَقِّ مُمَاثِلاً لِمَا سَبَقَ، وَأَمَّا الْبَاقِي فَيَفْتَرِقُ حُكْمُهُ بِحَسَبِ كَوْنِ الْمَبِيعِ يَتَعَيَّبُ بِالاِسْتِحْقَاقِ أَوْ لاَ.
فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ، وَكَانَ شَيْئًا وَاحِدًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا، كَالدَّارِ وَالْكَرْمِ وَالثَّوْبِ وَنَحْوِهَا، أَوْ كَانَ شَيْئَيْنِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، كَمِصْرَاعَيِ الْبَابِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْبَعْضِ يَقْتَضِي الْخِيَارَ فِي الْبَاقِي، لأَِنَّ الاِسْتِحْقَاقَ أَوْجَبَ عَيْبًا فِي الْبَاقِي، هُوَ عَيْبُ الشَّرِكَةِ فِي الأَْعْيَانِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ شَيْئَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى كَالدَّارَيْنِ أَوْ الثَّوْبَيْنِ، أَوْ كَانَ مِنَ الْمَكِيلاَتِ أَوِ الْمَوْزُونَاتِ، كَصُبْرَةِ قَمْحٍ، أَوْ جُمْلَةِ وَزْنِيٍّ فَإِنَّ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 288، فتح القدير 5 / 176 - 177، رد المحتار 4 / 90، المبسوط 13 / 102، العناية شرح الهداية 5 / 176 - 177.(20/61)
اسْتِحْقَاقَ الْبَعْضِ لاَ يُوجِبُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارًا بَل يَلْزَمُهُ أَخْذُ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، لأَِنَّهُ لاَ ضَرَرَ فِي التَّبْعِيضِ. وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ لَهُ الرَّدَّ، دَفْعًا لِضَرَرِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ. (1)
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ صُورَتَهَا فِي قَوْلِهِ: " إِنْسَانٌ اشْتَرَى مِنْ آخَرَ أَرْضًا مُشْتَمِلَةً عَلَى نَخْلٍ، ثُمَّ تَقَايَلاَ، ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ بُطْلاَنَ الإِْقَالَةِ، وَحَكَمَ لَهُ الْحَاكِمُ الشَّرْعِيُّ بِذَلِكَ بِشَرْطِهِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّ مِنَ الأَْرْضِ الْمَذْكُورَةِ مَغْرَسَ نَخْلَةٍ مِنَ النَّخْل الْمَذْكُورِ مَمْلُوكًا لِغَيْرِ الْبَائِعِ حِينَ الْبَيْعِ.
فَهَل يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي حِينَئِذٍ بِهَا، وَإِذَا قُلْتُمْ نَعَمْ، فَهَل يَمْنَعُ خِيَارَهُ بِمِلْكِ الْبَائِعِ الْمَغْرَسُ الْمَذْكُورُ وَإِعْطَائِهَا لَهُ، أَوْ إِعْطَاءِ مُسْتَحِقِّهَا إِيَّاهَا لِلْمُشْتَرِي، أَوْ لاَ؟ " وَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَتَخَيَّرُ بِذَلِكَ، لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ.
وَلَوْ أَرَادَ مَالِكُ الْمَغْرَسِ (غَيْرُ الْبَائِعِ) هِبَتَهُ لِلْمُشْتَرِي لاَ يَسْقُطُ بِذَلِكَ خِيَارُهُ. وَهُوَ ظَاهِرٌ، أَمَّا الْخَفِيُّ فَهُوَ مَا إِذَا مَلَكَ الْبَائِعُ ذَلِكَ الْمَغْرَسَ، وَلَمَّا عُلِمَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي وَهَبَهُ لَهُ - أَوْ أَعْرَض عَنْهُ - فَهَذَا يَتَرَدَّدُ فِيهِ النَّظَرُ. وَعَلَى هَذَا دَلاَلاَتٌ مِنْ نُصُوصِ الْفُقَهَاءِ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 289، فتح القدير 5 / 176.
(2) الفتاوى الكبرى 2 / 242 - 246.(20/62)
ثَانِيًا: خِيَارُ الْهَلاَكِ الْجُزْئِيِّ:
8 - فِي الْهَلاَكِ الْجُزْئِيِّ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، قَبْل الْقَبْضِ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الإِْمْضَاءِ وَالرَّدِّ، لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ.
وَهَذَا أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ حَالاَتِ الْهَلاَكِ الْمُتَنَوِّعَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى السَّبَبِ، ثُمَّ تَخْتَلِفُ كَيْفِيَّةُ الإِْمْضَاءِ (بَعْدَ اسْتِبْعَادِ حَالَةِ هَلاَكِهِ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ حَيْثُ يَسْتَوِي حُكْمُهَا وَحُكْمُ الْهَلاَكِ الْكُلِّيِّ مِنَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الإِْمْضَاءِ وَتَضْمِينِ الْمُتَعَدِّي أَوِ الْفَسْخِ وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الأَْجْنَبِيِّ وَالْبَائِعِ) وَالتَّفَاوُتُ فِي الْحُكْمِ ذُو حَالَتَيْنِ: الْهَلاَكُ بِفِعْل الْبَائِعِ، وَفِيهَا يَسْقُطُ مِنَ الثَّمَنِ قَدْرُ النَّقْصِ، سَوَاءٌ كَانَ نَقْصَ قَدْرٍ، أَوْ نُقْصَانَ وَصْفٍ. وَالْهَلاَكُ بِسَبَبٍ سَمَاوِيٍّ، أَوْ بِفِعْل الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حَيْثُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ ذَلِكَ. فَمَعَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ، يُطْرَحُ مِنَ الثَّمَنِ حِصَّةُ الْفَائِتِ إِنْ كَانَ النَّقْصُ فِي الْقَدْرِ. أَمَّا إِنْ كَانَ نُقْصَانَ وَصْفٍ فَلاَ يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ " وَالْمُرَادُ بِالْوَصْفِ مَا يَدْخُل تَحْتَ الْبَيْعِ بِلاَ ذِكْرٍ كَالأَْشْجَارِ وَالْبِنَاءِ فِي الأَْرْضِ، وَالأَْطْرَافِ فِي الْحَيَوَانِ، وَالْجَوْدَةِ فِي الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ " (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَلِفَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، قَبْل الْقَبْضِ، يُفْسَخُ الْعَقْدُ فِي التَّالِفِ بِلاَ خِلاَفٍ.
أَمَّا فِي الْبَاقِي فَلَهُمْ فِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ
__________
(1) رد المحتار 4 / 46، بدائع الصنائع 5 / 239.(20/62)
عَلَى الْخِلاَفِ فِيمَنْ بَاعَ مِلْكَهُ وَمِلْكَ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ مَا يَحْدُثُ قَبْل الْقَبْضِ كَالْمَوْجُودِ فِي حَال الْعَقْدِ فِي إِبْطَال الْعَقْدِ، وَأَصَحُّهُمَا الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لاَ يَنْفَسِخُ لِعَدَمِ عِلَّتَيِ الْفَسَادِ هُنَاكَ.
فَإِذَا قِيل بِعَدَمِ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ فِي الْبَاقِي، لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ قِسْطُ الْبَاقِي، لأَِنَّ الْعِوَضَ هُنَا قَابَل الْمَبِيعَيْنِ مُقَابَلَةً صَحِيحَةً حَال الْعَقْدِ وَانْقَسَمَ الْعِوَضُ عَلَيْهِمَا فَلاَ يَتَغَيَّرُ بِهَلاَكِ بَعْضِهِ.
هَذَا إِذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ بَاقِيًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ ثُمَّ تَلِفَ الآْخَرُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَفِي الاِنْفِسَاخِ فِي الْمَقْبُوضِ خِلاَفٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الصُّورَةِ السَّابِقَةِ، وَأَوْلَى بِعَدَمِ الاِنْفِسَاخِ لِتَلَفِهِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي. وَإِذَا قِيل بِعَدَمِ الاِنْفِسَاخِ، فَهَل لَهُ الْفَسْخُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا نَعَمْ، وَيَرُدُّ قِيمَتَهُ وَيَسْتَرِدُّ الثَّمَنَ إِنْ كَانَ سَلَّمَهُ، وَأَصَحُّهُمَا لاَ، بَل عَلَيْهِ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ.
وَقَدْ عَلَّل الشَّافِعِيَّةُ حَجْبَ الْخِيَارِ عَنِ الْبَائِعِ بِأَنَّهُ لَمْ يَلْحَقْهُ نَقْصٌ فِيمَا يَخُصُّ مِلْكَهُ.
وَمِمَّا لَهُ حُكْمُ تَلَفِ بَعْضِ الصَّفْقَةِ، مَا لَوْ انْقَطَعَ بَعْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ الْمَحَل، وَكَانَ الْبَاقِي مَقْبُوضًا أَوْ غَيْرَ مَقْبُوضٍ، قَال النَّوَوِيُّ: " فَإِذَا قُلْنَا: لَوِ انْقَطَعَ الْجَمِيعُ لَمْ يَنْفَسِخِ الْعَقْدُ كَانَ(20/63)
الْمُسْلِمُ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ فِي الْجَمِيعِ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ فِي الْجَمِيعِ. وَهَل لَهُ الْفَسْخُ فِي الْقَدْرِ الْمُنْقَطِعِ وَالإِْجَازَةُ فِي الْبَاقِي؟ فِيهِ قَوْلاَنِ (1) .
خِيَارُ التَّفْلِيسِ
انْظُرْ: إِفْلاَسٌ
خِيَارُ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ
انْظُرْ: بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ
خِيَارُ التَّوْلِيَةِ
انْظُرْ: تَوْلِيَةٌ
__________
(1) المجموع شرح المهذب 9 / 383، 386 - 387.(20/63)
خِيَارُ الرُّؤْيَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - سَبَقَ تَعْرِيفُ الْخِيَارِ لُغَةً فِي مُصْطَلَحِ: " خِيَارٌ " بِوَجْهٍ عَامٍّ.
أَمَّا لَفْظُ (الرُّؤْيَةِ) مِنَ الْمُرَكَّبِ الإِْضَافِيِّ (خِيَارُ الرُّؤْيَةِ) فَهُوَ مَصْدَرٌ لِفِعْل رَأَى يَرَى وَمَعْنَاهُ لُغَةً: النَّظَرُ بِالْعَيْنِ وَبِالْقَلْبِ. (1)
أَمَّا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ اصْطِلاَحًا: فَهُوَ حَقٌّ يَثْبُتُ بِهِ لِلْمُتَمَلِّكِ الْفَسْخُ، أَوِ الإِْمْضَاءُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَحَل الْعَقْدِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي عَقَدَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرَهُ، وَالإِْضَافَةُ فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ مِنْ إِضَافَةِ السَّبَبِ إِلَى الْمُسَبَّبِ أَيْ خِيَارٌ سَبَبُهُ الرُّؤْيَةُ (2) .
وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ نَظَرًا لِلْعَاقِدِ الَّذِي أَقْدَمَ عَلَى شِرَاءِ مَا لَمْ يَرَهُ، فَرُبَّمَا لاَ يَكُونُ مُوَافِقًا لَهُ، فَقَدْ أَبَاحَ لَهُ الشَّارِعُ مُمَارَسَةَ حَقِّ الْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِهِ أَوِ الاِسْتِمْرَارِ فِيهِ، وَهَكَذَا لاَ يَحْتَاجُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ إِلَى اشْتِرَاطٍ عِنْدَ جُمْهُورِ
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب، والقاموس المحيط مادة: " رأى ".
(2) رد المحتار 4 / 22، فتح القدير 5 / 137، البحر الرائق 6 / 18.(20/64)
الْقَائِلِينَ بِهِ، إِلاَّ الْمَالِكِيَّةَ فَهُوَ عِنْدَهُمْ خِيَارٌ إِرَادِيٌّ يُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ أَحْيَانًا تَصْحِيحًا لَهُ.
وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ - بِالرَّغْمِ مِنْ سَلْكِهِ فِي عِدَادِ خِيَارَاتِ الْجَهَالَةِ - هُوَ مِنَ الْخِيَارَاتِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا إِتَاحَةُ الْمَجَال لِلْعَاقِدِ لِيَتَرَوَّى وَيَنْظُرَ هَل الْمَبِيعُ صَالِحٌ لِحَاجَتِهِ أَمْ لاَ؟
خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالْمَذَاهِبُ فِيهِ:
2 - الْقَوْل بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ إِيجَابًا أَوْ نَفْيًا مُرْتَبِطٌ كُل الاِرْتِبَاطِ بِبَيْعِ الشَّيْءِ الْغَائِبِ صِحَّةً وَفَسَادًا.
وَمِنَ الضَّرُورِيِّ التَّعْجِيل بِبَيَانِ الْمُرَادِ بِالْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِمُ (الْعَيْنُ الْغَائِبَةُ) فَالْمُرَادُ خُصُوصُ غَيْبَتِهَا عَنِ الْبَصَرِ بِحَيْثُ لَمْ تَجْرِ رُؤْيَتُهَا عِنْدَ الْعَقْدِ. سَوَاءٌ أَكَانَتْ غَائِبَةً أَيْضًا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَوْ حَاضِرَةً فِيهِ لَكِنَّهَا مَسْتُورَةٌ عَنْ عَيْنِ الْعَاقِدِ، فَهِيَ تُسَمَّى غَائِبَةً فِي كِلْتَا الْحَالَيْنِ، وَيَسْتَوِي فِي غِيَابِهَا عَنِ الْمَجْلِسِ أَنْ تَكُونَ فِي الْبَلَدِ نَفْسِهِ أَوْ فِي بَلَدٍ آخَرَ مِنْ حَيْثُ مَفْهُومُ الْغَيْبَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَ الْحُكْمُ أَحْيَانًا.
فَالْغَائِبُ هُنَا هُوَ غَيْرُ الْمَرْئِيِّ، إِمَّا لِعَدَمِ حُضُورِهِ، وَإِمَّا لاِنْتِفَاءِ رُؤْيَتِهِ بِالرَّغْمِ مِنْ حُضُورِهِ، فَلَيْسَ كُل حَاضِرٍ مَرْئِيًّا، فَقَدْ يَكُونُ حَاضِرًا غَيْرَ مَرْئِيٍّ (1) .
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 27، وتفريعات غير المالكية واستعمالاتهم تدل عليه أيضًا، والمحلى 8 / 341.(20/64)
مَشْرُوعِيَّةُ بَيْعِ الْغَائِبِ:
3 - بَيْعُ الْغَائِبِ مَعَ الْوَصْفِ صَحِيحٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ) ف 43 وَ 44 (ج 9 23)
مَشْرُوعِيَّةُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
1 - إِثْبَاتُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، بِحُكْمِ الشَّرْعِ - دُونَ حَاجَةٍ إِلَى اتِّفَاقِ الإِْرَادَتَيْنِ عَلَيْهِ - وَتَمْكِينُ الْعَاقِدِ بِمُوجَبِهِ مِنَ الْفَسْخِ أَوِ الإِْمْضَاءِ عَلَى سَبِيل التَّرَوِّي، وَلَوْ كَانَ مَا اشْتَرَاهُ مُوَافِقًا لِمَا وُصِفَ لَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ. وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ.
2 - الْقَوْل بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ يَشْتَرِطُهُ الْمُشْتَرِي فِي بَيْعِ مَا لَمْ يَرَهُ لِيَصِحَّ عَقْدُهُ، وَهُوَ لاَ يَثْبُتُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ بَل هُوَ إِرَادِيٌّ مَحْضٌ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِدِ اشْتِرَاطُهُ فِي بَعْضِ صُوَرِ بَيْعِ الْغَائِبِ وَبِدُونِهِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ، وَهَذَا تَحْقِيقُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ.
3 - نَفْيُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْقَوْل الْجَدِيدُ الْمُعْتَبَرُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ.
أَدِلَّةُ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ:
5 - احْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) . وَهَذَا عَلَى عُمُومِهِ، فَيَشْمَل بَيْعَ
__________
(1) سورة البقرة / 275.(20/65)
الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ، وَلاَ يَخْرُجُ مِنْهُ إِلاَّ بَيْعٌ مَنَعَهُ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ أَوْ إِجْمَاعٌ.
وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ. (1)
وَقَدْ جَاءَ مِنْ رِوَايَةِ مَكْحُولٍ مُرْسَلاً بِلَفْظِهِ وَزِيَادَةِ: إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ. (2)
وَمِنَ الآْثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الصَّحَابَةِ مَا أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ اشْتَرَى مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مَالاً، فَقِيل لِعُثْمَانَ: إِنَّكَ قَدْ غُبِنْتَ - وَكَانَ الْمَال بِالْكُوفَةِ لَمْ يَرَهُ عُثْمَانُ حِينَ مَلَكَهُ - فَقَال عُثْمَانُ: لِي الْخِيَارُ لأَِنِّي بِعْتُ مَا لَمْ أَرَ. فَقَال طَلْحَةُ: لِي الْخِيَارُ، لأَِنِّي اشْتَرَيْتُ مَا لَمْ أَرَ، فَحَكَّمَا بَيْنَهُمَا جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ فَقَضَى أَنَّ الْخِيَارَ لِطَلْحَةَ وَلاَ خِيَارَ لِعُثْمَانَ (3) .
__________
(1) حديث: " من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه. . . " أخرجه الدارقطني (3 / 5 - ط دار المحاسن) من حديث أبي هريرة، قال الدارقطني: " هذا باطل لا يصح "، وذلك لراوٍ متهم بالوضع في سنده، وأعله ابن القطان بعلة أخرى، وهي جهالة الراوي عن ذاك المتهم، كذا في نصب الراية للزيلعي (4 / 9 - ط المجلس العلمي بالهند) .
(2) رواية مكحول، أخرجها الدارقطني (3 / 4 - ط دار المحاسن) وقال: " هذا مرسل، وأبو بكر بن أبي مريم (الراوي عن مكحول) ضعيف ".
(3) معاني الآثار، للطحاوي 4 / 10، وقد أورده استطرادًا في (تلقي الجلب) ولم يبوب لخيار الرؤية.، ونصب الراية 4 / 10، وقال: أخرجه الطحاوي، ثم البيهقي، وكذلك في فتح الباري 5 / 524، والمجموع 9 / 316.(20/65)
وَاسْتَدَلُّوا بِهِ مِنَ الْمَعْقُول:
بِالْقِيَاسِ عَلَى النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ الزَّوْجَيْنِ بِالإِْجْمَاعِ، وَالْقِيَاسِ عَلَى بَيْعِ مَا لَهُ صَوَانِي كَالرُّمَّانِ وَالْجَوْزِ (1) .
دَلِيل الْمَانِعِينَ:
6 - وَدَلِيل مَنْ لَمْ يَقُل بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَنَّ بَيْعَ الْغَائِبِ أَصْلاً لاَ يَصِحُّ كَمَا سَبَقَ. وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ أَشْبَهُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، لأَِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِدِ اشْتِرَاطُهُ لِيَصِحَّ بَيْعُ الْغَائِبِ.
سَبَبُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ:
7 - إِنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ هَذَا الْخِيَارِ هُوَ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ، كَمَا يَدُل عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ، وَاسْمُهُ، وَتَعْرِيفُهُ، وَقَال آخَرُونَ: إِنَّ سَبَبَهُ هُوَ الرُّؤْيَةُ نَفْسُهَا، فَالإِْضَافَةُ إِلَى الرُّؤْيَةِ هِيَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى سَبَبِهِ (وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى شَرْطِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ) . (2) وَلاَ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الاِخْتِلاَفِ كَبِيرُ فَائِدَةٍ.
الْمُرَادُ بِالرُّؤْيَةِ:
8 - الْمُرَادُ بِالرُّؤْيَةِ فِي هَذَا الْمَجَال: الْعِلْمُ بِالْمَقْصُودِ الأَْصْلِيِّ مِنْ مَحَل الْعَقْدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ
__________
(1) المجموع 9 / 331.
(2) فتح القدير 5 / 137.(20/66)
يَحْصُل بِالرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ أَوْ بِأَيِّ حَاسَّةٍ مِنَ الْحَوَاسِّ، كَاللَّمْسِ، وَالْجَسِّ، أَوِ الذَّوْقِ، أَوِ الشَّمِّ، أَوِ السَّمْعِ. فَهُوَ فِي كُل شَيْءٍ بِحَسَبِهِ. (1)
وَفِي رُؤْيَةِ مَا سَبِيل الْعِلْمِ بِهِ الرُّؤْيَةُ لاَ يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ جَمِيعِهِ، بَل يَكْفِي رُؤْيَةُ مَا يَدُل عَلَى الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَحَل شَيْئًا وَاحِدًا، أَوْ أَشْيَاءَ لاَ تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا كَالْمِثْلِيَّاتِ.
فَفِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ يُعْتَبَرُ رُؤْيَةُ مَا يَدُل عَلَى الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ (2) .
الرُّؤْيَةُ فِي الْمِثْلِيَّاتِ:
9 - الْمَحَل الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ إِمَّا مِثْلِيٌّ وَإِمَّا قِيَمِيٌّ، وَتَخْتَلِفُ الرُّؤْيَةُ الْمُعْتَبَرَةُ - أَوِ الاِطِّلاَعُ وَالْعِلْمُ - فِي أَحَدِهِمَا عَنِ الآْخَرِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِيِّ هُنَا مَا كَانَ مُعَيَّنًا مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ، لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الأَْعْيَانِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ دَيْنٌ وَلاَ يَجْرِي فِي الْعَقْدِ عَلَيْهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لأَِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالأَْعْيَانِ (3) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 68 وإنما مثلوا له بالدفوف التي تنقر في الغزو حثا على الإقدام، ليكون المثل مما لا خلاف في إباحة التبايع فيه.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 62 الفصل الثاني فيما تكون رؤية بعضه كرؤية الكل في إبطال الخيار، وفتح القدير، والعناية شرح الهداية 5 / 142.
(3) المبسوط 13 / 72، والهداية، وفتح القدير، والعناية 5 / 142، والهندية 3 / 64، والبدائع للكاساني 5 / 294.(20/66)
الرُّؤْيَةُ فِي الْقِيَمِيَّاتِ:
10 - الْقِيَمِيَّاتُ أَوِ الأَْشْيَاءُ غَيْرُ الْمِثْلِيَّةِ وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا: الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَفَاوِتَةُ، كَالدَّوَابِّ، وَالأَْرَاضِي، وَالثِّيَابِ الْمُتَفَاوِتَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ رُؤْيَةِ مَا يَدُل عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، أَوْ رُؤْيَةِ ذَلِكَ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الأَْشْيَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ، كَعِدَّةِ دَوَابٍّ مَثَلاً، لأَِنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ لاَ تُعَرِّفُ الْبَاقِيَ لِلتَّفَاوُتِ فِي آحَادِهِ (1) .
صُوَرٌ خَاصَّةٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ:
أ - الرُّؤْيَةُ مِنْ خَلْفِ زُجَاجٍ: لاَ تَكْفِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يُرَى مَا فِيهِ أَوْ مَا خَلْفَهُ دُونَ حَائِلٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَكْفِي، لأَِنَّ الزُّجَاجَ لاَ يُخْفِي صُورَةَ الْمَرْئِيِّ، وَرَوَى هِشَامٌ أَنَّ قَوْل مُحَمَّدٍ مُوَافِقٌ لِقَوْل أَبِي حَنِيفَةَ (2) .
ب - الرُّؤْيَةُ لِمَا هُوَ فِي الْمَاءِ: كَسَمَكٍ (يُمْكِنُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ اصْطِيَادٍ) قَال بَعْضُهُمْ: يَسْقُطُ خِيَارُهُ، لأَِنَّهُ رَأَى عَيْنَ الْمَبِيعِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ يَسْقُطُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لأَِنَّ الْمَبِيعَ لاَ يُرَى فِي الْمَاءِ عَلَى حَالِهِ بَل يُرَى أَكْبَرَ مِمَّا هُوَ، فَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ لاَ تُعَرِّفُ الْمَبِيعَ (3) .
__________
(1) فتح القدير والعناية 5 / 142 - 143.
(2) فتح القدير 5 / 144، والفتاوى الهندية 3 / 63 نقلاً عن الخلاصة.
(3) فتح القدير 5 / 144، والفتاوى الهندية 3 / 63 نقلاً عنه وعن السراج الوهاج.(20/67)
ج - الرُّؤْيَةُ بِوَسَاطَةِ الْمِرْآةِ: قَالُوا: لاَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ، لأَِنَّهُ مَا رَأَى عَيْنَهُ بَل مِثَالَهُ (1) .
د - الرُّؤْيَةُ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رَقِيقٍ: تُعْتَبَرُ رُؤْيَةً، عَلَى مَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ (2) .
هـ - الرُّؤْيَةُ فِي ضَوْءٍ يَسْتُرُ لَوْنَ الشَّيْءِ: كَرُؤْيَةِ وَرَقٍ أَبْيَضَ أَوْ قُمَاشٍ، فِي ضَوْءٍ يَسْتُرُ مَعْرِفَةَ بَيَاضِهِ كَضَوْءِ النَّارِ، لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، لاَ تُعْتَبَرُ رُؤْيَةً مُسْقِطَةً لِقِيَامِ الْخِيَارِ (3) .
و الرُّؤْيَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْعْمَى: لاَ يَثُورُ التَّسَاؤُل فِيهِ إِلاَّ فِيمَا سَبِيل مَعْرِفَتِهِ الرُّؤْيَةُ بِالْبَصَرِ، أَمَّا مَا يُعْرَفُ بِالذَّوْقِ، أَوِ الشَّمِّ، أَوِ الْجَسِّ، فَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالْبَصِيرِ، أَمَّا مَا لاَ بُدَّ مِنْ رُؤْيَتِهِ كَالدَّارِ وَنَحْوِهَا وَالنَّمُوذَجِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ فَيُغْنِي عَنِ الرُّؤْيَةِ الْوَصْفُ بِأَبْلَغِ مَا يُمْكِنُ، فَإِذَا قَال: قَدْ رَضِيتُ، سَقَطَ خِيَارُهُ، لأَِنَّ الْوَصْفَ يُقَامُ مُقَامَ الرُّؤْيَةِ أَحْيَانًا، كَالسَّلَمِ، وَالْمَقْصُودُ رَفْعُ الْغَبْنِ عَنْهُ، وَذَلِكَ يَحْصُل بِالْوَصْفِ وَإِنْ كَانَ بِالرُّؤْيَةِ أَتَمَّ (4) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 144، ورد المحتار 4 / 68 كلاهما عن التحفة:، وهو في الهندية 3 / 63 نقلاً عن السراج. وعلى هذا يجري الحكم في رؤية صورة الشيء الفوتوغرافية، لأنه أشبه شيء بالمرآة فضلاً عن احتمال التغير ما بين رؤية الصورة ورؤية الحقيقة.
(2) الهندية 3 / 63.
(3) نهاية المحتاج 3 / 416.
(4) فتح القدير 5 / 147، والمبسوط 13 / 77، والبدائع 5 / 298، والكلام عن الرؤية بالنسبة للأعمى شامل الرؤية التي توجد قبل الشراء، أو قبل القبض فتمنع قيام الخيار وهو في ذلك كالبصير، ومثل الأعمى فاقد شيء من الحواس الأخرى (البدائع 5 / 292) .(20/67)
دُورُ الْعُرْفِ فِي تَحْدِيدِ الرُّؤْيَةِ الْجُزْئِيَّةِ الْكَافِيَةِ:
11 - تَنَاوَل الْفُقَهَاءُ بِالْبَيَانِ الْمُسْهَبِ بَعْضَ تِلْكَ الأَْشْيَاءِ الْقِيَمِيَّةِ (الْمُتَفَاوِتَةِ الآْحَادِ) وَخَاصَّةً مَا تَكْثُرُ الْحَاجَةُ إِلَى تَدَاوُلِهِ، فَذَكَرُوا مَا تَكْفِي رُؤْيَتُهُ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا لاِعْتِبَارِ الْخِيَارِ حَاصِلاً عَقِبَ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ الْمُقْتَضِبَةِ، فَيُعْتَبَرُ حِينَئِذٍ الرِّضَا وَالْفَسْخُ بَعْدَهَا. وَالْخِلاَفُ فِي الرُّؤْيَةِ الْكَافِيَةِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ قَدْ نَشَأَ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ الْمَكَانِيِّ أَوِ الزَّمَانِيِّ، وَذَلِكَ يُتِيحُ الْمَجَال لِوَسْمِ جَمِيعِ مَا ذَكَرُوهُ بِهَذَا الْمِيسَمِ، أَيْ أَنَّهُ تَصْوِيرٌ لِلْعُرْفِ فِي مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ مُعَيَّنٍ، وَأَنَّهُ لاَ ضَيْرَ فِي الاِنْعِتَاقِ عَنْ تِلْكَ الْقُيُودِ إِذَا كَانَ الْعُرْفُ قَدْ تَغَيَّرَ، أَمَّا فِيمَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي الاِجْتِزَاءِ بِرُؤْيَةِ بَعْضِهِ مُسْتَمَدَّةً مِنَ الْعَقْل أَوِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، فَذَلِكَ بَاقٍ لِبَقَاءِ عَوَامِل اعْتِبَارِهِ (1) .
شَرَائِطُ قِيَامِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ:
أ - كَوْنُ الْمَحَل الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَيْنًا:
12 - الْمُرَادُ بِالْعَيْنِ مَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ عَلَى عَيْنِهِ، لاَ عَلَى مِثْلِهِ، وَهُوَ مُقَابِل الدَّيْنِ (بِمَعْنَى مَا يُعَيَّنُ بِالْوَصْفِ وَيَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ) . قَال ابْنُ الْهُمَامِ: لاَ يُتَصَوَّرُ فِي النَّقْدِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ خِيَارُ رُؤْيَةٍ،
__________
(1) انظر الهداية، وشرحها العناية 5 / 143، وفتح القدير 5 / 143، والفتاوى الهندية 3 / 62.(20/68)
لأَِنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ عَلَى مِثْلِهَا لاَ عَلَى عَيْنِهَا. حَتَّى لَوْ بَاعَهُ هَذَا الدِّينَارُ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، لِصَاحِبِ الدِّينَارِ أَنْ يَدْفَعَ غَيْرَهُ، وَكَذَا لِصَاحِبِ الدَّرَاهِمِ. بِخِلاَفِ الأَْوَانِي وَالْحُلِيِّ.
وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لاَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْعَقْدِ لاَ يَتَعَيَّنُ لِلْفَسْخِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ، وَقِيَامُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِمِثْلِهِ، فَإِذَا قَبَضَ يَرُدُّهُ هَكَذَا إِلَى مَا لاَ نِهَايَةَ لَهُ، فَلَمْ يَكُنِ الرَّدُّ مُفِيدًا، لأَِنَّ الْعَقْدَ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْمَمْلُوكِ بِالْعَقْدِ، وَمَا لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لاَ يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ فَلاَ يَرِدُ عَلَيْهِ الْفَسْخُ. (1)
وَكَذَلِكَ لاَ حَاجَةَ لِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فِي غَيْرِ الأَْعْيَانِ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ تَحْقِيقُ الرِّضَا، وَرِضَاهُ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ مَوْكُولٌ بِالْوَصْفِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْوَصْفُ حَصَل الرِّضَا وَانْتَفَى مَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْخِيَارِ. (2)
فَيُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَنْ يَكُونَ مَحَل الْعَقْدِ (الْمَبِيعُ مَثَلاً) مِنَ الأَْعْيَانِ (أَيِ الأَْمْوَال الْعَيْنِيَّةِ) وَهِيَ مَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَلاَ يَحِقُّ لِدَافِعِهَا تَبْدِيلُهَا. (3)
__________
(1) فتح القدير 5 / 367، 139، ورد المحتار 4 / 63، والعناية 5 / 140.
(2) فتح القدير 5 / 367.
(3) فتح القدير 5 / 367، البدائع 5 / 392.(20/68)
وَمِثَال الأَْعْيَانِ: الأَْرَاضِي وَالدَّوَابُّ وَكُل مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ.
أَمَّا الْمِثْلِيَّاتُ فَبَعْضُهَا أَعْيَانٌ وَبَعْضُهَا دُيُونٌ، بِحَسَبِ تَعْيِينِ الْعَاقِدِ لَهَا، فَإِذَا عَقَدَ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مُعَيَّنٍ بِالإِْشَارَةِ أَوْ أَيَّةِ وَسِيلَةٍ تَجْعَل الْعَقْدَ يَنْصَبُّ عَلَيْهَا دُونَ أَمْثَالِهَا فَهِيَ حِينَئِذٍ عَيْنٌ، وَيَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، أَمَّا إِذَا قَال: بِعْتُكَ كَذَا مِنَ الْحِنْطَةِ، وَبَيَّنَ أَوْصَافَهَا، فَهِيَ قَدْ ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ وَلَمْ تَقَعْ عَلَى مُعَيَّنٍ، بِالرَّغْمِ مِنْ كَوْنِهَا عِنْدَهُ لَكِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْهَا لِلْعَقْدِ. وَعَلَى هَذَا قَال قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوِيهِ: " الْمَكِيل وَالْمَوْزُونُ إِذَا كَانَ عَيْنًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الأَْعْيَانِ، وَكَذَا التِّبْرُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالأَْوَانِي، وَلاَ يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِيمَا مُلِكَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ كَالسَّلَمِ (أَيِ الْمُسْلَمِ فِيهِ) ، وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا، وَالْمَكِيل وَالْمَوْزُونُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ". (1)
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: وَمِنْهُ - أَيِ الأَْعْيَانِ - بَيْعُ إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الأَْثْمَانِ الْخَالِصَةِ. وَكَذَا رَأْسُ مَال السَّلَمِ إِذَا كَانَ عَيْنًا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، أَمَّا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فَقَدْ تَمَحَّضَتْ دُيُونًا فَهِيَ لاَ تَقْبَل التَّعْيِينَ. (2)
__________
(1) فتاوى قاضيخان، بهامش الهندية 2 / 187.
(2) فتح القدير 5 / 83، 139، ورد المحتار 4 / 22، 63. .(20/69)
ب - كَوْنُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي عَقْدٍ يَقْبَل الْفَسْخَ: أَيْ يَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ:
13 - وَذَلِكَ كَالْبَيْعِ، فَإِذَا رَدَّ الْمَبِيعَ انْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَكَالإِْجَارَةِ - إِذَا رَدَّ الْعَيْنَ الْمَأْجُورَةَ - وَالصُّلْحِ عَنْ دَعْوَى الْمَال بِرَدِّ الْمَال الْمُصَالَحِ عَنْهُ، وَالْقِسْمَةِ بِرَدِّ النَّصِيبِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ تَنْفَسِخُ بِرَدِّ مَحَلِّهَا فَيَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، أَمَّا مِثْل الْمَهْرِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، أَوِ الْبَدَل فِي الْخُلْعِ، وَبَدَل الصُّلْحِ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ تِلْكَ الْعُقُودَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَيْهَا لاَ تَنْفَسِخُ بِرَدِّ هَذِهِ الأَْمْوَال بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّهَا أَعْيَانٌ.
ذَلِكَ أَنَّ الرَّدَّ لَمَّا لَمْ يُوجِبِ الاِنْفِسَاخَ بَقِيَ الْعَقْدُ قَائِمًا، وَقِيَامُهُ يُوجِبُ الْمُطَالَبَةَ بِالْعَيْنِ لاَ بِمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْقِيمَةِ. فَلَوْ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ أَبَدًا. إِذْ كُلَّمَا آلَتْ إِلَيْهِ عَيْنٌ بَدِيلَةٌ ثَبَتَ فِيهَا خِيَارُ رُؤْيَةٍ وَرَدٍّ وَهَكَذَا، فَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مِمَّا يَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ لِيَكُونَ لِثُبُوتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فِيهِ جَدْوَى. (1)
ج - عَدَمُ الرُّؤْيَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوْ قَبْلَهُ، مَعَ عَدَمِ التَّغَيُّرِ:
14 - سَبَبُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ أَنَّ الرُّؤْيَةَ السَّابِقَةَ تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْخِيَارِ إِذَا تَوَفَّرَ فِيهَا أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا: عَدَمُ التَّغَيُّرِ، فَبِالتَّغَيُّرِ يَصِيرُ شَيْئًا آخَرَ فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا شَيْئًا لَمْ يَرَهُ.
__________
(1) فتح القدير 5 / 140، وعنه رد المحتار 4 / 63.(20/69)
وَالأَْمْرُ الثَّانِي: لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا وَقْتَ الْعَقْدِ أَنَّ مَا يَعْقِدُ عَلَيْهِ هُوَ مَرْئِيُّهُ السَّابِقُ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ كَأَنْ رَأَى ثَوْبًا ثُمَّ اشْتَرَاهُ مَلْفُوفًا بِسَاتِرٍ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ أَنَّهُ ذَلِكَ الَّذِي رَآهُ فَلَهُ الْخِيَارُ. لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِالرِّضَا.
وَسَوَاءٌ فِي الرُّؤْيَةِ أَنْ تَكُونَ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كُلِّهِ، أَوْ لِنَمُوذَجٍ مِنْهُ، أَوِ الْجُزْءِ الدَّال عَلَى الْكُل.
وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ فِي الرُّؤْيَةِ السَّابِقَةِ أَنْ تَحْصُل مَعَ قَصْدِ الشِّرَاءِ حِينَئِذٍ، فَلَوْ رَآهُ لاَ لِقَصْدِ الشِّرَاءِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ عِنْدَ هَؤُلاَءِ.
وَهَذَا الْقَيْدُ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ وَجَامِعِ الْفُصُولَيْنِ مُصَدَّرًا بِلَفْظِ " قِيل " - وَهِيَ صِيغَةُ تَمْرِيضٍ - لَكِنَّ ابْنَ نُجَيْمٍ فِي الْبَحْرِ قَال عَقِبَهُ: " وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، لأَِنَّهُ لاَ يُتَأَمَّل التَّأَمُّل الْمُفِيدَ " ثُمَّ قَال الْحَصْكَفِيُّ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: " وَلِقُوَّةِ مُدْرَكِهِ عَوَّلْنَا عَلَيْهِ " غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَرُقْ لِلْخَيْرِ الرَّمْلِيِّ وَالْمَقْدِسِيِّ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ، بِحُجَّةِ أَنَّهُ خِلاَفُ الظَّاهِرِ مِنَ الرِّوَايَةِ، وَأَنَّهُ مُنَافٍ لإِِطْلاَقَاتِهِمْ (1) .
وَاعْتِبَارُ عَدَمِ رُؤْيَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْطًا لِقِيَامِ الْخِيَارِ، هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْكَاسَانِيُّ - وَهُوَ شَدِيدُ الْوُضُوحِ فِي ظَاهِرِهِ - لَكِنْ لِلْكَمَال بْنِ الْهُمَامِ عِبَارَةٌ
__________
(1) فتح القدير 4 / 544، ورد المحتار 4 / 69، البدائع 5 / 292.(20/70)
تُوهِمُ خِلاَفَهُ وَهِيَ قَوْلُهُ فِي تَحْلِيل لَفْظِ: (خِيَارُ الرُّؤْيَةِ) : الإِْضَافَةُ مِنْ قَبِيل إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى شَرْطِهِ، لأَِنَّ الرُّؤْيَةَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ، وَعَدَمَ الرُّؤْيَةِ هُوَ السَّبَبُ لِثُبُوتِ الْخِيَارِ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ. فَهُوَ قَدِ اعْتَبَرَ الرُّؤْيَةَ شَرْطًا، وَعِنْدَ الْكَاسَانِيِّ الشَّرْطُ عَكْسُهُ: عَدَمُ الرُّؤْيَةِ. (1)
د - رُؤْيَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَوْ مَا هُوَ بِمَنْزِلَتِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ:
15 - أَشَارَ ابْنُ الْهُمَامِ إِلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ كَمَا رَأَيْنَا، وَمَنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي عِدَادِ الشُّرُوطِ اكْتَفَى بِالْبَيَانِ الصَّرِيحِ بِأَنَّ وَقْتَ ثُبُوتِهِ هُوَ وَقْتُ الرُّؤْيَةِ. (2) قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الرُّؤْيَةُ بَعْدَ الشِّرَاءِ شَرْطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ (3) .
مَنْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ:
16 - هُنَاكَ اتِّجَاهَاتٌ لِلْفُقَهَاءِ فِيمَنْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ.
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: أَنَّهُ لِلْمُشْتَرِي فَقَطْ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِيمَا بَاعَهُ وَلَمْ يَرَهُ، كَمَنْ وَرِثَ شَيْئًا مِنَ الأَْعْيَانِ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ فَبَاعَهُ قَبْل رُؤْيَتِهِ،
__________
(1) فتح القدير 5 / 137، ورد المحتار 4 / 63، والبدائع 5 / 292.
(2) كالكاساني فقد قصر الشرائط على اثنتين: هما الأولى والثانية، ثم استغنى عن الثالثة بالتبويب لها بعنوان (بيان وقت ثبوت الخيار) البدائع 5 / 295.
(3) رد المحتار 4 / 63 و66، وفتح القدير 5 / 137.(20/70)
وَهُوَ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهَذَا آخِرُ الْقَوْلَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَدْ كَانَ يَقُول أَوَّلاً بِثُبُوتِهِ لِلْبَائِعِ أَيْضًا ثُمَّ رَجَعَ وَقَال: الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ لاَزِمٌ، وَالْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَقَطْ. وَاسْتَدَلُّوا بِنَصِّ الْحَدِيثِ الْمُثْبِتِ لِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ عَدَمَ الْخِيَارِ وَلُزُومَ الْعَقْدِ هُوَ الأَْصْل.
وَفِي بَيْعِ الْمُقَايَضَةِ يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِلطَّرَفَيْنِ، لأَِنَّ كِلَيْهِمَا يُعْتَبَرُ مُشْتَرِيًا. (1)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِلْبَائِعِ أَيْضًا، وَهُوَ الْقَوْل الْمَرْجُوعُ عَنْهُ لأَِبِي حَنِيفَةَ، وَالْقَوْل الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ عَلَى افْتِرَاضِ الأَْخْذِ بِالْخِيَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ صَحَّحُوا عَدَمَ الأَْخْذِ بِهِ (2) .
الْعُقُودُ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ:
17 - يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الشِّرَاءُ، لأَِنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ فِيهِ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ دُونَ الْبَائِعِ وَالْعَقْدُ مِنْ وِجْهَتِهِ شِرَاءٌ.
أَمَّا فِي (عَقْدِ السَّلَمِ) فَإِذَا كَانَ رَأْسُ مَال السَّلَمِ عَيْنًا يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِيهِ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ.
وَلاَ يَثْبُتُ فِي رَأْسِ مَال السَّلَمِ إِنْ كَانَ دَيْنًا كَمَا
__________
(1) البدائع 5 / 292، المبسوط 13 / 71، الفتاوى الهندية 3 / 58، وفتح القدير 5 / 140.
(2) فتح القدير 5 / 140، والمجموع 9 / 322، والمغني 3 / 496 م2773.(20/71)
لاَ يَثْبُتُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ بَتَاتًا، لأَِنَّ شَرْطَهُ الأَْسَاسِيَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الدُّيُونِ.
وَلاَ مَدْخَل لِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فِي الصَّرْفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لأَِنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. (1)
وَيَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِي الاِسْتِصْنَاعِ لِلْمُسْتَصْنِعِ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ أَتَى بِهِ الصَّانِعُ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ لاَزِمٍ فِي حَقِّهِ وَلاَ يَثْبُتُ لِلصَّانِعِ إِذَا أَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعَ وَرَضِيَ بِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْخِيَارُ لَهُمَا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لُزُومُهُ فِي حَقِّهِمَا. (2)
أَمَّا الصَّانِعُ فَلَيْسَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَكَذَلِكَ فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ فِي إِجَارَةِ الأَْعْيَانِ، كَإِجَارَةِ دَارٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ سَيَّارَةٍ بِذَاتِهَا، إِذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ عَقَدَ الإِْجَارَةَ دُونَ أَنْ يَرَى الْمَأْجُورَ.
وَفِي عَقْدِ الْقِسْمَةِ يَثْبُتُ فِي قِسْمَةِ غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ، أَيْ فِي نَوْعَيْنِ فَقَطْ مِنَ الأَْنْوَاعِ الثَّلاَثَةِ لِلْمَال الْمَقْسُومِ، هُمَا قِسْمَةُ الأَْجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ جَزْمًا، وَقِسْمَةُ الْقِيَمِيَّاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْجِنْسِ كَالثِّيَابِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، أَوِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، أَمَّا فِي قِسْمَةِ الْمِثْلِيَّاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْجِنْسِ كَالْمَكِيلاَتِ
__________
(1) البدائع 5 / 209 - 210، والبحر الرائق 6 / 26 - 28، جامع الفصولين 1 / 334.
(2) فتح القدير 5 / 139 و 533، البدائع 5 / 210، 292، ورد المحتار 4 / 63، 93.(20/71)
وَالْمَوْزُونَاتِ، فَلاَ يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِيهَا، لأَِنَّهَا مِمَّا لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.
وَهَذَا إِذَا كَانَ أَحَدُ الْمُقْتَسِمِينَ لَمْ يَرَ نَصِيبَهُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ.
وَفِي عَقْدِ الصُّلْحِ عَلَى مَا سَبَقَ.
وَقْتُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ:
18 - وَقْتُ ثُبُوتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ هُوَ وَقْتُ الرُّؤْيَةِ، لاَ قَبْلَهَا. وَلِذَا لَوْ أَمْضَى الْعَقْدَ قَبْل رُؤْيَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَرَضِيَ بِهِ صَرِيحًا بِأَنْ قَال: أَجَزْتُ أَوْ رَضِيتُ أَوْ مَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى، ثُمَّ رَآهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ. لأَِنَّ النَّصَّ أَثْبَتَ الْخِيَارَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ فَلَوْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الإِْجَازَةِ قَبْلَهَا وَأَجَازَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْخِيَارُ بَعْدَهَا، وَهَذَا خِلاَفُ النَّصِّ، وَلأَِنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَبْل الرُّؤْيَةِ مَجْهُول الْوَصْفِ.
وَالرِّضَا بِالشَّيْءِ قَبْل الْعِلْمِ بِهِ وَبِوُجُودِ سَبَبِهِ مُحَالٌ، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ. (1)
وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ إِسْقَاطُ الْخِيَارِ قَبْل الرُّؤْيَةِ أَوِ التَّنَازُل عَنْهُ بِقَوْلِهِ: رَضِيتُ الْمَبِيعَ أَوْ أَمْضَيْتُ الْعَقْدَ، لأَِنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِسْقَاطُ الْخِيَارِ قَبْل ثُبُوتِهِ بِالرُّؤْيَةِ، وَإِسْقَاطُ الشَّيْءِ فَرْعٌ لِثُبُوتِهِ، فَلاَ يُمْكِنُ الإِْسْقَاطُ قَبْل الثُّبُوتِ. فَلَوْ أَسْقَطَ الْمُشْتَرِي خِيَارَهُ قَبْل الرُّؤْيَةِ لَمْ يَسْقُطْ، وَظَل لَهُ
__________
(1) فتح القدير 5 / 139، البدائع 5 / 296، المعاملات الشرعية للشيخ أحمد إبراهيم ص110، ومختصر المعاملات الشرعية للشيخ علي الخفيف ص152.(20/72)
حَقُّ مُمَارَسَتِهِ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ. قَال السَّرَخْسِيُّ: إِنَّ فِي الرِّضَا قَبْل الرُّؤْيَةِ هُنَا إِبْطَال حُكْمٍ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَهُوَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ الرُّؤْيَةِ (1) .
إِمْكَانُ الْفَسْخِ قَبْل الرُّؤْيَةِ:
19 - قَوْل الْحَنَفِيَّةِ بِإِمْكَانِ الْفَسْخِ قَبْل الرُّؤْيَةِ لَيْسَ بِنَاءً عَلَى الْخِيَارِ - لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ قَبْل الرُّؤْيَةِ - بَل لِمَا فِي الْعَقْدِ مِنْ صِفَةِ عَدَمِ اللُّزُومِ لِلْجَهَالَةِ الْمُصَاحِبَةِ لَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ، حَيْثُ اشْتَرَاهُ دُونَ أَنْ يَرَاهُ، فَهُوَ كَالْعُقُودِ الأُْخْرَى غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، فَفَسْخُهُ مُمْكِنٌ لِهَذَا السَّبَبِ، ثُمَّ إِذَا رَآهُ ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، فَكَانَ سَبَبًا آخَرَ لِلْفَسْخِ وَلاَ مَانِعَ مِنِ اجْتِمَاعِ الأَْسْبَابِ عَلَى مُسَبَّبٍ وَاحِدٍ.
أَمَدُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ:
20 - لِلْفُقَهَاءِ فِي بَيَانِ مَدَى الزَّمَنِ الصَّالِحِ لِلرِّضَا أَوِ الْفَسْخِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ اتِّجَاهَانِ:
الأَْوَّل: عَلَى التَّرَاخِي، فَلَيْسَ لِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ مَدًى مَحْدُودٌ، بَل هُوَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِمُدَّةٍ.
فَهُوَ يَبْدَأُ بِالرُّؤْيَةِ وَيَبْقَى إِلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يُبْطِلُهُ - وَلَوْ فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ - وَلاَ يَتَوَقَّتُ بِإِمْكَانِ الْفَسْخِ.
وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ مِنْ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ،
__________
(1) فتح القدير والعناية 5 / 139، والمبسوط 13 / 71، والبدائع 5 / 297. ويلحظ أن ابن الهمام حقق وجود الخلاف في صحة الفسخ قبل الرؤية، وأنه لا رواية فيه عن الإمام، والخلاف عن مشايخ الحنفية.(20/72)
وَهُوَ الأَْصَحُّ وَالْمُخْتَارُ كَمَا قَال ابْنُ الْهُمَامِ وَابْنُ نُجَيْمٍ وَغَيْرُهُمَا.
وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ، وَلأَِنَّ سَبَبَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ اخْتِلاَل الرِّضَا، وَالْحُكْمُ يَبْقَى مَا بَقِيَ سَبَبُهُ.
الثَّانِي: عَلَى الْفَوْرِ، فَهُوَ مُؤَقَّتٌ بِإِمْكَانِ الْفَسْخِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ رَآهُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الْفَسْخِ وَلَمْ يَفْسَخْ سَقَطَ خِيَارُهُ بِذَلِكَ وَلَزِمَ الْعَقْدُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَصْرِيحٌ بِالرِّضَا أَوْ مُسْقِطٍ آخَرَ لِلْخِيَارِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ دَلاَلَةً عَلَى الرِّضَا. وَهَذَا قَوْلٌ لِبَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
أَثَرُ الْخِيَارِ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ قَبْل الرُّؤْيَةِ:
21 - حُكْمُ الْعَقْدِ قَبْل الرُّؤْيَةِ حُكْمُ الْعَقْدِ الَّذِي لاَ خِيَارَ فِيهِ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْحِل لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ لِلْحَال، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ لِلْحَال، لأَِنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ، أَوِ الإِْجَارَةِ، أَوِ الْقِسْمَةِ، أَوِ الصُّلْحِ صَدَرَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِهِ.
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَ الْعَقْدُ لَوْلاَ أَنَّهُ ثَبَتَ الْخِيَارُ (شَرْعًا) احْتِيَاطًا لِلْمُشْتَرِي، بِخِلاَفِ خِيَارِ الشَّرْطِ، لأَِنَّ الْخِيَارَ ثَمَّةَ ثَبَتَ بِإِرَادَةِ الْعَاقِدَيْنِ فَأَثَّرَ فِي رُكْنِ الْعَقْدِ بِالْمَنْعِ مِنَ الاِنْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ تَحْقِيقًا لِرَغْبَةِ الْعَاقِدِ فِي تَعْلِيقِ الْعَقْدِ. (2)
__________
(1) البدائع 5 / 295، والفتح 5 / 139، ورد المحتار 4 / 65، والهندية 3 / 58 منقولا عن البحر.
(2) البدائع 5 / 292.(20/73)
هَذَا عَلَى الْقَوْل بِصِحَّةِ الْفَسْخِ قَبْل الرُّؤْيَةِ، فَالْعَقْدُ غَيْرُ لاَزِمٍ عِنْدَ هَؤُلاَءِ، أَمَّا مَنْ مَنَعَ الْفَسْخَ فَهُوَ يَرَى أَنَّ الْعَقْدَ بَاتٌّ، فَلاَ يَلْحَقُهُ فَسْخٌ وَلاَ إِجَازَةٌ إِلَى أَنْ تَحْصُل الرُّؤْيَةُ، وَقَدْ مَال ابْنُ الْهُمَامِ إِلَى هَذَا (1) .
أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ:
22 - مُنْذُ قِيَامِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ (بِتَحَقُّقِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الرُّؤْيَةُ) يَغْدُو الْعَقْدُ غَيْرَ لاَزِمٍ بِالاِتِّفَاقِ، وَلَكِنْ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَيُّ أَثَرٍ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ، فَلاَ يَمْنَعُ انْتِقَال الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ، لأَِنَّ سَبَبَ الْعَقْدِ قَدْ وُجِدَ خَالِيًا مِنْ تَعْلِيقٍ حُكْمِ الْعَقْدِ، فَيَظَل أَثَرُهُ كَامِلاً كَانْتِقَال الْمِلْكِ وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ خَالَفَ فِي هَذَا الْمَالِكِيَّةُ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمِلْكَ مَعَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ لاَ يَنْتَقِل لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ بِاحْتِمَال الْفَسْخِ، وَالْمِلْكُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَقْدِ الْمُسْتَقَرِّ. وَلاَ يَخْفَى أَنَّ اسْتِقْرَارَ الْعَقْدِ لاَ يَعُوقُ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ عَنْهُ تَمَكُّنُ صَاحِبِ الْخِيَارِ مِنْ رَفْعِ الْعَقْدِ بِالْفَسْخِ (2) .
سُقُوطُ الْخِيَارِ:
23 - يَسْقُطُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ بِالأُْمُورِ التَّالِيَةِ، سَوَاءٌ حَصَلَتْ قَبْل الرُّؤْيَةِ أَوْ بَعْدَهَا:
أ - التَّصَرُّفَاتُ فِي الْمَبِيعِ بِمَا يُوجِبُ حَقًّا لِلْغَيْرِ، كَمَا
__________
(1) فتح القدير 5 / 139.
(2) فتح القدير 5 / 139، البدائع 5 / 292، المجموع 9 / 299، الخرشي 5 / 34.(20/73)
لَوْ بَاعَ الشَّيْءَ الَّذِي اشْتَرَاهُ وَلَمْ يَرَهُ لِشَخْصٍ آخَرَ بَيْعًا لاَ خِيَارَ فِيهِ، أَوْ رَهَنَهُ، أَوْ آجَرَهُ، أَوْ وَهَبَهُ مَعَ التَّسْلِيمِ، لأَِنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لاَ تَكُونُ إِلاَّ مَعَ الْمِلْكِ، وَمِلْكُ صَاحِبِ الْخِيَارِ ثَابِتٌ فِيهَا، فَصَادَفَتِ الْمَحَل وَنَفَذَتْ، وَبَعْدَ نُفُوذِهَا لاَ تَقْبَل الْفَسْخَ وَالرَّفْعَ، فَبَطَل الْخِيَارُ ضَرُورَةً، كَمَا أَنَّ إِبْطَالَهَا فِيهِ ضَيَاعٌ لِحُقُوقِ الْغَيْرِ الَّتِي تَرَتَّبَتْ لَهُمْ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، فَفَسْخُ الْبَيْعِ أَوْلَى مِنْ إِبْطَال حُقُوقِهِمْ. (1)
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لاَ يُوجِبُ حَقًّا لِلْغَيْرِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ، أَوِ الْمُسَاوِمَةِ بِقَصْدِ الْعَرْضِ عَلَى الْبَيْعِ، أَوِ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ، لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَرْبُو عَلَى صَرِيحِ الرِّضَا، وَهُوَ لاَ يُبْطِلُهُ قَبْل الرُّؤْيَةِ. ثُمَّ إِنَّ التَّصَرُّفَ الَّذِي تَعَلَّقَ فِيهِ حَقُّ الْغَيْرِ لَوْ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ بِرَدٍّ قَضَائِيٍّ، أَوْ بِفَكِّ الرَّهْنِ، أَوْ فَسْخِ الإِْجَارَةِ قَبْل الرُّؤْيَةِ ثُمَّ رَآهُ فَلَهُ الْخِيَارُ. (2)
ب - تَغَيُّرُ الْمَبِيعِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ:
حُصُول التَّغَيُّرِ إِمَّا بِطُرُوءِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا (الْمُنْفَصِلَةِ أَوِ الْمُتَّصِلَةِ، الْمُتَوَلِّدَةِ أَوْ غَيْرِهَا) عَلَى أَنْ تَكُونَ مَانِعَةً لِلرَّدِّ، وَإِمَّا بِالنَّقْصِ وَالتَّعَيُّبِ - فِي
__________
(1) البدائع 5 / 295، فتح القدير 5 / 141، 149، رد المحتار 4 / 72.
(2) فتح القدير 5 / 242.(20/74)
قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ - وَالنَّقْصُ الْمُرَادُ هُنَا هُوَ مَا يَحْصُل بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ، أَوْ بِفِعْل الْبَائِعِ عَلَى التَّفْصِيل الْمَذْكُورِ فِي خِيَارَيِ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ، كَمَا ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ (1) .
ج - تَعَيُّبُ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي:
لأَِنَّهُ بِالتَّعَيُّبِ لاَ يُمْكِنُ إِرْجَاعُ الْمَبِيعِ إِلَى الْبَائِعِ كَمَا اسْتَلَمَهُ الْمُشْتَرِي، وَالْفَسْخُ يَكُونُ بِالْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمَبِيعُ عِنْدَ الْعَقْدِ وَقَدِ اسْتَلَمَهُ سَلِيمًا فَلاَ يَرُدُّهُ مَعِيبًا، وَلِذَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ.
د - إِجَازَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِيمَا اشْتَرَيَاهُ وَلَمْ يَرَيَاهُ دُونَ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، حَذَرًا مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ، كَمَا مَرَّ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ.
هـ - الْمَوْتُ: وَاعْتِبَارُهُ مُسْقِطًا مَوْضِعُ خِلاَفٍ.
وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ (2) .
حُكْمُ صَرِيحِ الإِْسْقَاطِ فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ:
ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ الأَْصْل أَنَّ كُل مَا يُبْطِل خِيَارَ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ يُبْطِل خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، إِلاَّ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الإِْسْقَاطِ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ لاَ يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الإِْسْقَاطِ لاَ قَبْل
__________
(1) البدائع 5 / 296.
(2) فتح القدير 5 / 159، والعناية شرح الهداية 5 / 159، 160، والبدائع 5 / 296.(20/74)
الرُّؤْيَةِ وَلاَ بَعْدَهَا، لأَِنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ ثَبَتَ شَرْعًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ، وَأَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ فَقَدْ ثَبَتَا بِالاِشْتِرَاطِ حَقِيقَةً، أَوْ دَلاَلَةً، وَمَا ثَبَتَ حَقًّا لِلْعَبْدِ يَحْتَمِل السُّقُوطَ بِإِسْقَاطِهِ مَقْصُودًا، لأَِنَّ الإِْنْسَانَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا، اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا، فَأَمَّا مَا ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ فَالْعَبْدُ لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ إِسْقَاطًا مَقْصُودًا، لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مَقْصُودًا، لَكِنَّهُ يَحْتَمِل السُّقُوطَ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، بِأَنْ يَتَصَرَّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ سُقُوطَ حَقِّ الشَّرْعِ، فَيَسْقُطُ حَقُّ الشَّرْعِ فِي ضِمْنِ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ (1) .
انْتِهَاءُ الْخِيَارِ:
24 - يَنْتَهِي الْخِيَارُ بِإِجَازَةِ الْعَقْدِ إِجَازَةً قَوْلِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً، وَالإِْجَازَةُ الْقَوْلِيَّةُ هِيَ الرِّضَا بِالْعَقْدِ، صَرَاحَةً أَوْ بِمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا. أَمَّا الإِْجَازَةُ الْفِعْلِيَّةُ فَتَكُونُ بِطَرِيقِ الدَّلاَلَةِ، بِأَنْ يُوجَدَ مِنَ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفٌ يَدُل عَلَى الرِّضَا. أَمَّا الْفَسْخُ فَمِنْهُ اخْتِيَارِيٌّ، وَمِنْهُ ضَرُورِيٌّ دُونَ إِرَادَةِ الْعَاقِدِ.
انْتِهَاؤُهُ بِالإِْجَازَةِ:
الإِْجَازَةُ الصَّرِيحَةُ أَوْ بِمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا:
25 - تَتِمُّ الإِْجَازَةُ الصَّرِيحَةُ بِالتَّعْبِيرِ عَنِ الرِّضَا،
__________
(1) البدائع 5 / 282 و 297 لخيار العيب، و267 لخيار الشرط.(20/75)
وَهُوَ بِكُل عِبَارَةٍ تُفِيدُ إِمْضَاءَ الْعَقْدِ، أَوِ اخْتِيَارَهُ، مِثْل: أَجَزْتُهُ، أَوْ رَضِيتُهُ، أَوِ اخْتَرْتُهُ. وَفِي مَعْنَى الرِّضَا الصَّرِيحِ مَا شَابَهَهُ وَجَرَى مَجْرَاهُ سَوَاءٌ أَعَلِمَ الْبَائِعُ بِالإِْجَازَةِ أَمْ لاَ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ اللُّزُومُ. (1)
الإِْجَازَةُ بِطَرِيقِ الدَّلاَلَةِ:
26 - هِيَ أَنْ يُوجَدَ مِنَ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفٌ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ يَدُل عَلَى الرِّضَا، وَمِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَبْضُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ.
وَالتَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ بِأَنْ كَانَ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ، أَوْ أَرْضًا فَبَنَى عَلَيْهَا، لأَِنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ دَلِيل الرِّضَا، وَلَوْلاَ هَذَا التَّقْدِيرُ لَكَانَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ حَرَامٌ، فَجَعَل ذَلِكَ إِجَازَةً، صِيَانَةً لَهُ عَنِ ارْتِكَابِهِ. (2)
انْتِهَاءُ الْخِيَارِ بِالْفَسْخِ:
27 - الْفَسْخُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارِيًّا، أَوْ ضَرُورِيًّا، كَمَا ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ، وَصُورَةُ الْفَسْخِ الاِخْتِيَارِيِّ (الَّذِي يَنْتَهِي بِهِ الْخِيَارُ تَبَعًا) هِيَ أَنْ يَقُول: فَسَخْتُ الْعَقْدَ، أَوْ نَقَضْتُهُ، أَوْ رَدَدْتُهُ، وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى.
وَأَمَّا الْفَسْخُ الضَّرُورِيُّ فَلَهُ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ
__________
(1) البدائع 5 / 295، 296، والهداية وفتح القدير 5 / 145.
(2) فتح القدير 5 / 141، العناية 5 / 141، البدائع 5 / 296.(20/75)
ذَكَرَهَا الْكَاسَانِيُّ، وَهِيَ أَنْ يَهْلَكَ الْمَبِيعُ قَبْل الْقَبْضِ، فَيَنْفَسِخَ الْعَقْدُ ضَرُورَةً، وَيَنْتَهِيَ مَعَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِذَهَابِ الْمَحَل (1) .
شَرَائِطُ الْفَسْخِ:
28 - يُشْتَرَطُ لِلْفَسْخِ مَا يَأْتِي:
أ - قِيَامُ الْخِيَارِ، لأَِنَّ الْخِيَارَ إِذَا سَقَطَ بِأَحَدِ الْمُسْقِطَاتِ لَزِمَ الْعَقْدُ، وَالْعَقْدُ اللاَّزِمُ لاَ يَحْتَمِل الْفَسْخَ.
ب - أَنْ لاَ يَتَضَمَّنَ الْفَسْخُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ، فَإِنْ رَدَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ دُونَ بَعْضِهِ لَمْ يَصِحَّ.
وَكَذَا إِذَا رَدَّ الْبَعْضَ وَأَجَازَ الْبَيْعَ فِي الْبَعْضِ لَمْ يَجُزْ. سَوَاءٌ كَانَ قَبْل قَبْضِهِ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ أَوْ بَعْدَهُ، لأَِنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ، فَفِي بَقَاءِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فِي الْبَعْضِ تَفْرِيقٌ لِلصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْل تَمَامِهَا وَهُوَ بَاطِلٌ. (2)
ج - عِلْمُ الْبَائِعِ بِالْفَسْخِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَقَدْ تَوَسَّعَ الْكَاسَانِيُّ فِي دَلاَئِل هَذَا الْخِلاَفِ.
انْتِقَال خِيَارِ الرُّؤْيَةِ:
29 - خِيَارُ الرُّؤْيَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَنْتَقِل بِالْمَوْتِ،
__________
(1) البدائع 5 / 298، فتح القدير 5 / 141.
(2) البدائع 5 / 298، 299، فتح القدير 5 / 140، الفتاوى الهندية 3 / 60 نقلا عن البحر، المبسوط 13 / 74.(20/76)
وَذَلِكَ مُنْسَجِمٌ مَعَ كَوْنِهِ عِنْدَهُمْ لِمُطْلَقِ التَّرَوِّي، لاَ لِتَحَاشِي الضَّرَرِ أَوِ الْخُلْفِ فِي الْوَصْفِ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَنْظُرَ الْمُشْتَرِي أَيَصْلُحُ لَهُ أَمْ لاَ، وَمَعَ اعْتِبَارِهِمْ إِيَّاهُ خِيَارًا حُكْمِيًّا مِنْ جِهَةِ الثُّبُوتِ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ مُرْتَبِطٌ بِالإِْرَادَةِ مِنْ حَيْثُ الاِسْتِعْمَال (1) .
خِيَارُ الرُّجُوعِ
انْظُرْ: بَيْعٌ
__________
(1) البدائع 5 / 296، وبالتوسيع أيضًا في خيار الشرط 5 / 268.(20/76)
خِيَارُ الشَّرْطِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخِيَارُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ الاِخْتِيَارِ، وَمَعْنَاهُ طَلَبُ خَيْرِ الأَْمْرَيْنِ، أَوِ الأُْمُورِ. (1)
أَمَّا (الشَّرْطُ) - بِسُكُونِ الرَّاءِ - فَمَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ: إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَالْجَمْعُ شُرُوطٌ، وَبِفَتْحِهَا: الْعَلاَمَةُ، وَالْجَمْعُ أَشْرَاطٌ، وَالاِشْتِرَاطُ: الْعَلاَمَةُ يَجْعَلُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ. (2)
2 - أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: " إِنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ صَارَ عَلَمًا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَلَى: مَا يَثْبُتُ (بِالاِشْتِرَاطِ) لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنَ الاِخْتِيَارِ بَيْنَ الإِْمْضَاءِ وَالْفَسْخِ. . . " (3)
وَقَدْ عَرَّفَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (ابْنُ عَرَفَةَ) - بِمُلاَحَظَةِ
__________
(1) لسان العرب مادة: (خير) ، والمصباح أيضًا.
(2) معجم مقاييس اللغة 3 / 260، لسان العرب مادة: (شرط) .
(3) رد المحتار 4 / 47.(20/77)
الْكَلاَمِ عَنْ (بَيْعِ الْخِيَارِ) - بِقَوْلِهِ: (بَيْعٌ وُقِفَ بَتُّهُ أَوَّلاً عَلَى إِمْضَاءٍ يُتَوَقَّعُ) . وَاحْتَرَزَ بِعِبَارَةِ وُقِفَ بَتُّهُ عَنْ بَيْعِ الْبَتِّ، وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ خِيَارٌ.
كَمَا ذَكَرُوا أَنَّ قَيْدَ (أَوَّلاً) لإِِخْرَاجِ خِيَارِ الْعَيْبِ وَنَحْوِهِ (خِيَارَاتِ النَّقِيصَةِ) لأَِنَّ أَمْثَال هَذَا الْخِيَارِ لَمْ تَتَوَقَّفْ أَوَّلاً، بَل آل أَمْرُهَا إِلَى الْخِيَارِ، أَيْ لأَِنَّ التَّخْيِيرَ فِيهَا يَثْبُتُ فِيمَا بَعْدُ، حِينَ ظُهُورِ الْعَيْبِ. (1)
3 - وَلِخِيَارِ الشَّرْطِ أَسْمَاءٌ أُخْرَى دَعَاهُ بِهَا بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ، مِنْهَا:
أ - الْخِيَارُ الشَّرْطِيُّ (بِالْوَصْفِيَّةِ لاَ بِالإِْضَافَةِ) وَالسَّبَبُ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ ظَاهِرٌ، وَالْغَرَضُ مِنْ وَصْفِهِ بِالشَّرْطِيِّ تَمْيِيزُهُ عَنِ الْخِيَارِ (الْحُكْمِيِّ) الَّذِي يَثْبُتُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى اشْتِرَاطٍ، كَخِيَارِ الْعَيْبِ.
وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ مُتَدَاوَلَةٌ كَثِيرًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. (2)
ب - خِيَارُ التَّرَوِّي، لأَِنَّهُ شُرِعَ لِلتَّرَوِّي وَهُوَ النَّظَرُ وَالتَّفَكُّرُ فِي الأَْمْرِ وَالتَّبَصُّرُ فِيهِ قَبْل إِبْرَامِهِ.
وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ يَسْتَعْمِلُهَا الشَّافِعِيَّةُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ. (3)
ج - بَيْعُ الْخِيَارِ، وَهَذَا الاِسْمُ وَاقِعٌ عَلَى الْعَقْدِ
__________
(1) حدود ابن عرفة، شرح ابن سودة على تحفة ابن عاصم 1 / 35، وشرح الخرشي لمختصر خليل 4 / 19.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 91.
(3) نهاية المحتاج 4 / 3.(20/77)
الَّذِي اقْتَرَنَ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَيُعَبِّرُ بِهِ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ كُلُّهُمْ وَبِخَاصَّةِ الْمَالِكِيَّةُ (1) .
مَشْرُوعِيَّتُهُ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى الأَْخْذِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَاعْتِبَارَهُ مَشْرُوعًا لاَ يُنَافِي الْعَقْدَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
فَأَمَّا السُّنَّةُ: فَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَال: أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَْنْصَارِ كَانَ بِلِسَانِهِ لَوْثَةٌ، وَكَانَ لاَ يَزَال يُغْبَنُ فِي الْبُيُوعِ، فَأَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَال: إِذَا بِعْتَ فَقُل: لاَ خِلاَبَةَ، مَرَّتَيْنِ
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ حِبَّانَ قَال: هُوَ جَدِّي مُنْقِذُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ رَجُلاً قَدْ أَصَابَتْهُ آمَّةٌ فِي رَأْسِهِ، فَكَسَرَتْ لِسَانَهُ وَنَازَعَتْهُ عَقْلَهُ، وَكَانَ لاَ يَدَعُ التِّجَارَةَ وَلاَ يَزَال يُغْبَنُ، فَأَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَال: إِذَا بِعْتَ فَقُل: لاَ خِلاَبَةَ، ثُمَّ أَنْتَ فِي كُل سِلْعَةٍ تَبْتَاعُهَا بِالْخِيَارِ ثَلاَثَ لَيَالٍ، فَإِنْ رَضِيتَ فَأَمْسِكْ، وَإِنْ سَخِطْتَ فَارْدُدْهَا عَلَى صَاحِبِهَا. وَقَدْ كَانَ عُمِّرَ طَوِيلاً، عَاشَ ثَلاَثِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، وَكَانَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ فَشَا النَّاسُ وَكَثُرُوا، يَتَبَايَعُ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 174.(20/78)
الْبَيْعَ فِي السُّوقِ وَيَرْجِعُ بِهِ إِلَى أَهْلِهِ وَقَدْ غُبِنَ غَبْنًا قَبِيحًا، فَيَلُومُونَهُ وَيَقُولُونَ: لِمَ تَبْتَاعُ؟ فَيَقُول: أَنَا بِالْخِيَارِ إِنْ رَضِيتُ أَخَذْتُ، وَإِنْ سَخِطْتُ رَدَدْتُ، قَدْ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَنِي بِالْخِيَارِ ثَلاَثًا، فَيَرُدُّ السِّلْعَةَ عَلَى صَاحِبِهَا مِنَ الْغَدِ وَبَعْدَ الْغَدِ فَيَقُول: وَاللَّهِ لاَ أَقْبَلُهَا، قَدْ أَخَذْتُ سِلْعَتِي وَأَعْطَيْتنِي دَرَاهِمَ، قَال يَقُول: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَعَلَنِي بِالْخِيَارِ ثَلاَثًا. فَكَانَ يَمُرُّ الرَّجُل مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُول لِلتَّاجِرِ: وَيْحَكَ إِنَّهُ قَدْ صَدَقَ، إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ جَعَلَهُ بِالْخِيَارِ ثَلاَثًا. (1)
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِإِحْدَى رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْمُتَبَايِعَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا الَّتِي فِيهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ وَفِي رِوَايَةٍ: إِلاَّ صَفْقَةَ خِيَارٍ. (2) فَحَمَل هَؤُلاَءِ ذَلِكَ الاِسْتِثْنَاءَ عَلَى حَالَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ، وَقَالُوا فِي مَعْنَاهُ: هُوَ خِيَارُ كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الإِْقْدَامِ عَلَى الْعَقْدِ، أَوِ
__________
(1) حديث ابن عمر: " إذا بعت فقل لا خلابة. . . " أخرجه الدارقطني (3 / 56 - ط دار المحاسن) هكذا مطولا وإسناده حسن. وأخرج البخاري (الفتح 4 / 337 - ط السلفية) ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم لرجل أن يقول: لا خلابة.
(2) " المتبايعان بالخيار " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 328، ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمر، وفي روايته: " إلا بيع الخيار "، ومسلم (3 / 1163 - ط. الحلبي) ، وأخرجه الترمذي (3 / 541 - ط. الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو، وفي روايته " إلا أن تكون صفقة خيار ".(20/78)
الإِْحْجَامِ عَنْهُ قَبْل التَّفَرُّقِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَمْتَدَّ فَيَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ أَطْوَل مِنْ تِلْكَ الْفَتْرَةِ إِذَا كَانَ الْبَيْعُ مُشْتَرَطًا فِيهِ خِيَارٌ. (1)
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَاسْتَدَل بِهِ لِخِيَارِ الشَّرْطِ كَثِيرُونَ، قَال النَّوَوِيُّ: " وَقَدْ نَقَلُوا فِيهِ الإِْجْمَاعَ " وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: " وَهُوَ جَائِزٌ بِالإِْجْمَاعِ ". لَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ ثَالِثٍ إِلَى أَنَّ صِحَّتَهُ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا هِيَ فِيمَا " إِذَا كَانَتْ مُدَّتُهُ مَعْلُومَةً "
وَقَال ابْنُ الْهُمَامِ: " وَشَرْطُ الْخِيَارِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ (2) ".
صِيغَةُ الْخِيَارِ:
5 - لاَ يَتَطَلَّبُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ التَّعْبِيرَ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَكَمَا يَحْصُل بِلَفْظِ اشْتِرَاطِ (الْخِيَارِ) يَحْصُل بِكُل لَفْظٍ يَدُل عَلَى ذَلِكَ الْمُرَادِ، مِثْل لَفْظِ (الرِّضَا) أَوِ (الْمَشِيئَةِ) بَل يَثْبُتُ وَلَوْ لَمْ يَتَضَمَّنُ الْكَلاَمُ لَفْظَ الْخِيَارِ أَوْ مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ، فِيمَا إِذَا وَرَدَ عِنْدَ التَّعَاقُدِ أَوْ بَعْدَهُ مَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْخِيَارِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا: " إِذَا بَاعَ مِنْ آخَرَ ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ إِنَّ الْبَائِعَ قَال لِلْمُشْتَرِي: لِي عَلَيْكَ الثَّوْبُ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 124، والدرر البهية للشوكاني وشرح صديق حسن خان 2 / 122.
(2) فتح القدير شرح الهداية 5 / 111، والمجموع شرح المهذب، للنووي 9 / 190، 225.(20/79)
(وَقَبِل الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ) قَال مُحَمَّدٌ: هَذَا عِنْدَنَا خِيَارٌ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ ". وَذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ نَقْلاً عَنِ الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ لَوْ قَال الْبَائِعُ: خُذْهُ وَانْظُرْ إِلَيْهِ الْيَوْمَ فَإِنْ رَضِيتَهُ أَخَذْتَهُ بِكَذَا، فَهُوَ خِيَارٌ. وَنُقِل عَنِ الذَّخِيرَةِ مِثْل هَذَا الاِعْتِبَارِ فِيمَا لَوْ قَال: هُوَ بَيْعٌ لَكَ إِنْ شِئْتَ الْيَوْمَ.
وَمِنْ ذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي الثَّمَنِ، أَوِ الْمَبِيعِ بَدَلاً عَنِ اشْتِرَاطِهِ فِي الْعَقْدِ، فَيَكُونُ بِمَثَابَةِ اشْتِرَاطِهِ فِيهِ، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَال الْمُشْتَرِي عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ فِي الثَّمَنِ أَوْ فِي الْمَبِيعِ. فَهُوَ كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ (فِي الْعَقْدِ) .
وَمِنْ ذَلِكَ: التَّوَاطُؤُ عَلَى أَلْفَاظٍ أَوْ تَعَابِيرَ بِأَنَّهَا يَتَوَلَّدُ عَنْهَا الْخِيَارُ، سَوَاءٌ كَانَ ارْتِبَاطُ هَذِهِ التَّعَابِيرِ بِنُشُوءِ الْخِيَارِ مُنْبَعِثًا عَنِ الاِسْتِعْمَال الشَّرْعِيِّ مُبَاشَرَةً أَوِ الْعُرْفِ. فَمِمَّا اعْتُبِرَ مِنَ الأَْلْفَاظِ الْمُتَوَاطَأِ عَلَى أَنَّهَا يُرَادُ بِهَا الْخِيَارُ، تَبَعًا لِلاِسْتِعْمَال الشَّرْعِيِّ، عِبَارَةُ " لاَ خِلاَبَةَ " شَرِيطَةَ عِلْمِ الْعَاقِدَيْنِ بِمَعْنَاهَا. (1)
قَال النَّوَوِيُّ: اشْتُهِرَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ قَوْلَهُ: " لاَ خِلاَبَةَ " عِبَارَةٌ عَنِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْمُتَعَاقِدَانِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ، وَهُمَا عَالِمَانِ بِمَعْنَاهَا كَانَ كَالتَّصْرِيحِ بِالاِشْتِرَاطِ، وَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ لَمْ يَثْبُتِ الْخِيَارُ قَطْعًا، فَإِنْ عَلِمَهُ الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، حَكَاهُمَا
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 39، 40.(20/79)
الْمُتَوَلِّي وَابْنُ الْقَطَّانِ وَآخَرُونَ (أَصَحُّهُمَا) لاَ يَثْبُتُ، (وَالْوَجْهُ الثَّانِي) يَثْبُتُ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ، بَل غَلَطٌ، لأَِنَّ مُعْظَمَ النَّاسِ لاَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ وَالْمُشْتَرِي غَيْرُ عَارِفٍ بِهِ. (1)
وَمِنْ ذَلِكَ الْعَقْدُ مَعَ شَرْطِ الاِسْتِئْمَارِ خِلاَل وَقْتٍ مُحَدَّدٍ، كَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ عَلَى أَنْ أَسْتَأْمِرَ فُلاَنًا، وَحَدَّدَ لِذَلِكَ وَقْتًا مَعْلُومًا، فَهُوَ خِيَارٌ صَحِيحٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ. وَقَالُوا: إِنَّ لَهُ الْفَسْخَ قَبْل أَنْ يَسْتَأْمِرَهُ " لأَِنَّا جَعَلْنَا ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ الْخِيَارِ " وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي جَوَازِ الْفَسْخِ قَبْل الاِسْتِئْمَارِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قَبْل أَنْ يَسْتَأْمِرَهُ. (2)
هَذَا إِذَا ضُبِطَ شَرْطُ الاِسْتِئْمَارِ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُضْبَطْ، فَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ فِي الأَْصَحِّ أَنَّهُ غَيْرُ سَائِغٍ. أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْخِيَارِ الْمَجْهُول، لاَ يَصِحُّ عَلَى الرَّاجِحِ. (3)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَادَةَ تَقُومُ مَقَامَ التَّصْرِيحِ بِالْخِيَارِ. قَال الزَّرْقَانِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: " لَوْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِاشْتِرَاطِهِ (أَيْ خِيَارِ الشَّرْطِ) كَانَ خِيَارًا، لأَِنَّهَا - أَيِ الْعَادَةَ - كَالشَّرْطِ صَرَاحَةً "
فَإِذَا تَعَارَفَ النَّاسُ عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي بَيْعِ
__________
(1) البحر الرائق 6 / 6، والمجموع شرح المهذب 9 / 192.
(2) المغني لابن قدامة 3 / 526، والشرح الكبير على المقنع 4 / 102، والمجموع شرح المهذب 9 / 210 و 212 - 213.
(3) المغني 5 / 526، والمجموع 9 / 213.(20/80)
سِلْعَةٍ مِنَ السِّلَعِ ثَبَتَ الْخِيَارُ فِيهَا بِلاَ شَرْطٍ. (1)
وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الأَْخْرَسَ تَقُومُ إِشَارَتُهُ مَقَامَ الصِّيغَةِ، فَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ أَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، قَامَ وَلِيُّهُ مِنْ أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ مَقَامَهُ (2) .
شَرَائِطُ قِيَامِ الْخِيَارِ:
6 - لاَ يَقُومُ خِيَارُ الشَّرْطِ بِمُجَرَّدِ حُدُوثِ الاِشْتِرَاطِ فِي الْعَقْدِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ وُجُودِ الشَّرَائِطِ الشَّرْعِيَّةِ لَهُ، فَإِذَا اكْتَمَلَتْ تِلْكَ الشَّرَائِطُ غَدَا خِيَارُ الشَّرْطِ قَائِمًا مَرْعِيَّ الاِعْتِبَارِ، وَإِذَا اخْتَل شَيْءٌ مِنْهَا اعْتُبِرَ الْعَقْدُ لاَزِمًا بِالرَّغْمِ مِنِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْعَقْدِ. غَيْرَ أَنَّ تِلْكَ الشَّرَائِطَ لَيْسَتْ مَوْضِعَ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَهِيَ مُتَفَاوِتَةُ الْعَدَدِ بَيْنَ مَذْهَبٍ وَآخَرَ، وَفِيمَا يَأْتِي بَيَانُهَا:
أَوَّلاً: شَرِيطَةُ الْمُقَارَنَةِ لِلْعَقْدِ:
7 - الْمُرَادُ مِنَ الْمُقَارَنَةِ لِلْعَقْدِ أَنْ يَحْصُل اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ مَعَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ أَوْ لاَحِقًا بِهِ، لاَ أَنْ يَسْبِقَ الاِشْتِرَاطُ الْعَقْدَ. فَلاَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ قَبْل إِجْرَاءِ الْعَقْدِ، إِذِ الْخِيَارُ كَالصِّفَةِ لِلْعَقْدِ فَلاَ يُذْكَرُ قَبْل الْمَوْصُوفِ. وَبَيَانُ الصُّورَةِ الْمُحْتَرَزِ مِنْهَا
__________
(1) حاشية العراقي على ابن سودة شرح منظومة الأحكام 1 / 35، والمدخل إلى الفقه الإسلامي للدكتور مصطفى شلبي 471.
(2) المغني 3 / 507.(20/80)
مَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ (1) عَنِ الْعَتَّابِيَّةِ أَنَّهُ " لَوْ قَال: جَعَلْتُكَ بِالْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ الَّذِي نَعْقِدُهُ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مُطْلَقًا لَمْ يَثْبُتِ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ".
وَيُعْتَبَرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَارَنَةِ لِلْعَقْدِ مَا لَوْ أُلْحِقَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ بِالْعَقْدِ بَعْدَئِذٍ، بِتَرَاضِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَذَلِكَ فِي حُكْمِ حُصُولِهِ فِي أَثْنَاءِ الْعَقْدِ أَوْ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ عِنْدَ الْمُلْتَزَمَيْنِ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ. (2)
ذَهَبَ إِلَى تِلْكَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُقَارَنَةِ وَاللَّحَاقِ الْحَنَفِيَّةُ. وَمِنْ مُسْتَنَدِهِمْ الْقِيَاسُ لِهَذَا عَلَى مَا فِي النِّكَاحِ مِنْ جَوَازِ الاِتِّفَاقِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَى مَا يَتَّصِل بِهِ، كَالزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ أَوِ الْحَطِّ مِنْهُ، وَدَلِيل هَذَا الْحُكْمِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} (3) . قَال ابْنُ الْهُمَامِ (4) : يَجُوزُ إِلْحَاقُ خِيَارِ الشَّرْطِ بِالْبَيْعِ، لَوْ قَال أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَلَوْ بِأَيَّامٍ: جَعَلْتُكَ بِالْخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ صَحَّ بِالإِْجْمَاعِ - أَيْ إِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ - ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ إِلْحَاقَ الْخِيَارِ بَعْدَ الْعَقْدِ جَارٍ مَجْرَى إِدْخَالِهِ فِي الْعَقْدِ تَمَامًا مِنْ حَيْثُ نَوْعُ الْخِيَارِ الْمَشْرُوطِ وَمُدَّتُهُ وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِهِ. (5)
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 40، والمجموع للنووي 9 / 194.
(2) رد المحتار 4 / 544، المادة 39 من مجلة الأحكام العدلية.
(3) سورة النساء / 24.
(4) فتح القدير 5 / 498.
(5) الفتاوى الهندية 3 / 39 نقلا عن المحيط، أيضًا.(20/81)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْحَقُ خِيَارُ الشَّرْطِ بِالْعَقْدِ بَعْدَهُ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، أَوْ فِي مَجْلِسِهِ. وَاسْتَدَل ابْنُ قُدَامَةَ لِمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ الْمَانِعِ مِنْ تَأَخُّرِ الْخِيَارِ عَنِ الْعَقْدِ بِأَنَّ الْعَقْدَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمَجْلِسِ أَصْبَحَ لاَزِمًا، فَلَمْ يَصِرْ جَائِزًا بِقَوْل الْمُتَعَاقِدَيْنِ. (1) وَذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ مِنْ أُصُول الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ إِلْحَاقَ الزِّيَادَةِ (فِي الأُْجْرَةِ) وَالشُّرُوطِ بِالْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ لاَ يَصِحُّ.
وَبَيْن هَذَيْنِ الاِتِّجَاهَيْنِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ اشْتَرَكَ مَعَ الْمَذْهَبِ الأَْوَّل فِي النَّتِيجَةِ وَاخْتَلَفَ عَنْهُ فِي تَحْدِيدِ طَبِيعَةِ هَذَا التَّصَرُّفِ، فَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ إِلْحَاقَ الْخِيَارِ بِالْعَقْدِ بَعْدَ أَنْ وَقَعَ عَلَى النِّيَّاتِ، سَوَاءٌ كَانَ إِلْحَاقُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْ كِلَيْهِمَا، فَيَصِحُّ الاِشْتِرَاطُ اللاَّحِقُ، وَيَلْزَمُ مَنِ الْتَزَمَهُ بَعْدَ صُدُورِ الْعَقْدِ خَالِيًا مِنْهُ، لَكِنَّهُ - وَهَذَا هُوَ الْفَارِقُ عَنِ الْمَذْهَبِ الأَْوَّل - بِمَثَابَةِ بَيْعٍ مُؤْتَنَفٍ، بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْمُشْتَرِي لَهَا مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ. . صَارَ فِيهِ الْمُشْتَرِي بَائِعًا. . كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ جَعَل الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، بِنَاءً عَلَى الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّ اللاَّحِقَ لِلْعُقُودِ لَيْسَ كَالْوَاقِعِ فِيهَا، فَمَا أَصَابَ السِّلْعَةَ فِي أَيَّامِ الْخِيَارِ فَهُوَ مِنَ الْمُشْتَرِي.
وَأَشَارَ خَلِيلٌ وَشُرَّاحُهُ إِلَى أَنَّ الْقَوْل بِجَوَازِ إِلْحَاقِ الْخِيَارِ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ انْتِقَادِ الْبَائِعِ الثَّمَنَ، أَمَّا إِلْحَاقُهُ قَبْل انْتِقَادِهِ فَلاَ يُسَاوِيهِ فِي الْجَوَازِ لِمَا فِي الْحَالَةِ
__________
(1) المغني 3 / 494م 2771.(20/81)
الثَّانِيَةِ مِنْ (فَسْخِ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ) وَأَصْل ابْنِ الْقَاسِمِ مَنْعُهُ.
وَقَدْ ذَكَرُوا فِي خِلاَل مُنَاقَشَةِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَجْهًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ " جَعْل الْخِيَارِ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ لَيْسَ عَقْدًا حَقِيقَةً، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَطْيِيبُ نَفْسِ مَنْ جُعِل لَهُ الْخِيَارُ لاَ حَقِيقَةُ الْبَيْعِ ". قَال الْخَرَشِيُّ وَالدُّسُوقِيُّ: لَكِنَّ الْمُرَجَّحَ الأَْوَّل وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، أَيِ اقْتِصَارُ الْجَوَازِ عَلَى مَا لَوْ نَقَدَ الثَّمَنَ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا. (1)
ثَانِيًا: شَرِيطَةُ التَّوْقِيتِ أَوْ مَعْلُومِيَّةُ الْمُدَّةِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ تَقْيِيدِ الْخِيَارِ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ مَضْبُوطَةٍ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَلاَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ خِيَارٍ غَيْرِ مُؤَقَّتٍ أَصْلاً، وَهُوَ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَسَيَأْتِي الْكَلاَمُ فِيهِ بِالتَّفْصِيل.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَالأَْصْل فِيهِ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لِلْحَال، فَكَانَ شَرْطًا مُغَيِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الأَْصْل، وَهُوَ الْقِيَاسُ، إِلاَّ أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَهُ اسْتِحْسَانًا (بِخِلاَفِ الْقِيَاسِ) بِالنَّصِّ، فَبَقِيَ
__________
(1) الدسوقي 3 / 93، 94، 177، نقلا عن المدونة بالمعنى، ونص ما في المدونة: بمنزلة بيعك إياه الثمن من غيره (4 / 177) ، والخرشي على خليل 4 / 21.(20/82)
مَا وَرَاءَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى أَصْل الْقِيَاسِ (1) .
وَالْحِكْمَةُ فِي تَوْقِيتِ الْمُدَّةِ أَنْ لاَ يَكُونَ الْخِيَارُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى التَّنَازُعِ، وَهُوَ مِمَّا تَتَحَامَاهُ الشَّرِيعَةُ فِي أَحْكَامِهَا.
9 - وَلِلْمُدَّةِ الْجَائِزِ ذِكْرُهَا حَدَّانِ: حَدٌّ أَدْنَى، وَحَدٌّ أَقْصَى.
أَمَّا الْحَدُّ الأَْدْنَى فَلاَ تَوْقِيتَ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ قَدْرٌ مَحْدُودٌ بِحَيْثُ لاَ يَقِل عَنْهُ فَيَجُوزُ مَهْمَا قَل، لأَِنَّ جَوَازَ الأَْكْثَرِ يَدُل بِالأَْوْلَوِيَّةِ عَلَى جَوَازِ الأَْقَل، وَمِنْ هُنَا نَصَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ " وَلَوْ لَحْظَةً ".
قَال الْكَاسَانِيُّ: (أَقَل مُدَّةِ الْخِيَارِ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ) . وَنَحْوُهُ نُصُوصُ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ يُعْرَفُ (2) .
وَأَمَّا الْحَدُّ الأَْقْصَى لِلْمُدَّةِ الْجَائِزَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْمَذَاهِبُ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، يُمْكِنُ حَصْرُهُ فِي الاِتِّجَاهَاتِ الْفِقْهِيَّةِ التَّالِيَةِ: التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ مُطْلَقًا - التَّفْوِيضُ لَهُمَا فِي حُدُودِ الْمُعْتَادِ - التَّحْدِيدُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ.
__________
(1) جاء في المدونة: " أرأيت لو أني بعت - أو اشتريت - من رجل سلعة، فلقيته بعد يوم أو يومين، فجعلت له الخيار - أو لي الخيار - أيامًا، أيلزم هذا الخيار أم لا؟ قال: نعم، 4 / 177.
(2) بدائع الصنائع 5 / 213، والمجموع 9 / 190.(20/82)
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل - التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ مُطْلَقًا:
10 - مُقْتَضَى هَذَا الاِتِّجَاهِ جَوَازُ اتِّفَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ عَلَى أَيِّ مُدَّةٍ مَهْمَا طَالَتْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي يُوسُفَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ، لَكِنَّهُ قَال: لاَ يُعْجِبُنِي الطَّوِيل. (1)
فَعِنْدَ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، لِمَا فِي النُّصُوصِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ مِنَ الإِْطْلاَقِ وَعَدَمِ التَّفْصِيل، وَلأَِنَّ الْخِيَارَ حَقٌّ يَعْتَمِدُ الشَّرْطَ مِنَ الْعَاقِدِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فِي تَقْدِيرِهِ. أَوْ يُقَال: هُوَ مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ فَتَقْدِيرُهَا إِلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
وَهُنَاكَ صُورَةٌ نَادِرَةٌ تُشْبِهُ مَا سَبَقَ فِي الْحَدِّ الأَْدْنَى لِلْمُدَّةِ لَكِنَّهَا تَسْتَحِقُّ الإِْشَارَةَ إِلَيْهَا، لِمَا فِي بَحْثِهَا مِنْ تَقْيِيدِ الْخِيَارِ بِأَنْ لاَ يُنَافِيَ الْعَقْدَ وَيُفْقِدَهُ غَايَتَهُ. تِلْكَ الصُّورَةُ مَا لَوْ شَرَطَ الْمُتَعَاقِدَانِ مُدَّةً طَوِيلَةً خَارِجَةً عَنِ الْعَادَةِ " كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَمِائَةِ سَنَةٍ " فَقَدِ اسْتَوْجَهَ صَاحِبُ غَايَةِ الْمُنْتَهَى أَنْ لاَ يَصِحَّ لإِِفْضَائِهِ - عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ وَنَحْوِهَا -
__________
(1) المجموع 9 / 190، واختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ص16، الأصل للإمام محمد تحقيق شحاتة ص2 و 3، المبسوط 13 / 41، مختصر الطحاوي 75، البحر الرائق 1 / 5، الفتاوى الهندية 3 / 38، المقنع 2 / 35، المغني 3 / 498م 2779، مطالب أولي النهى 3 / 89، الفروع 4 / 83، منتهى الإرادات 1 / 357.(20/83)
إِلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، وَهَذَا الْمَنْعُ مُنَافٍ لِلْعَقْدِ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ إِرْفَاقًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَقَدْ وَافَقَهُ الشَّارِحُ عَلَى ذَلِكَ. (1)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي - التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي حُدُودِ الْمُعْتَادِ:
11 - وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَحْدَهُ. فَيَتَحَدَّدُ أَقْصَى مُدَّةِ الْخِيَارِ الْجَائِزَةِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، نَظَرًا لاِخْتِلاَفِ الْمَبِيعَاتِ، فَلِلْعَاقِدِ تَعْيِينُ الْمُدَّةِ الَّتِي يَشَاءُ عَلَى أَنْ لاَ يُجَاوِزَ الْحَدَّ الْمُعْتَادَ فِي كُل نَوْعٍ. (2)
قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَأَمَّا عُمْدَةُ أَصْحَابِ مَالِكٍ فَهُوَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْخِيَارِ هُوَ اخْتِبَارُ الْمَبِيعِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْدُودًا بِزَمَانِ إِمْكَانِ اخْتِبَارِ الْمَبِيعِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ كُل مَبِيعٍ. (3)
وَبِمَا أَنَّ لِهَذَا الاِتِّجَاهِ الْفِقْهِيِّ تَقْدِيرَاتٍ مُحَدَّدَةً بِحَسَبِ الْحَاجَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا فَقَدْ جَرَى تَصْنِيفُهَا لَدَى الْمَالِكِيَّةِ إِلَى زُمَرٍ:
__________
(1) مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى وحاشيته 3 / 89.
(2) الشرح الكبير على خليل وحاشية الدسوقي 3 / 95، والخرشي على خليل، وحاشية العدوي 4 / 19، والحطاب على خليل، 4 / 412، والقوانين الفقهية ص263، ولباب اللباب لابن راشد، وبداية المجتهد لابن رشد 2 / 209.
(3) بداية المجتهد 2 / 210.(20/83)
الْعَقَارُ:
12 - وَأَقْصَى مُدَّتِهِ شَهْرٌ، وَمَا أُلْحِقَ بِهِ هُوَ سِتَّةُ أَيَّامٍ، فَأَقْصَى الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ مَدُّ الْخِيَارِ إِلَيْهَا فِي الْعَقَارِ (36) يَوْمًا. وَهُنَاكَ الْيَوْمَانِ الْمُلْحَقَانِ بِزَمَنِ الْخِيَارِ وَهُمَا لِلتَّمْكِينِ مِنْ رَدِّ الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ حِينَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ (الشَّهْرِ وَالأَْيَّامِ السِّتَّةِ) بِيَدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ يُرِيدُ الْفَسْخَ، وَالْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَلْزَمَ الْمَبِيعُ عَلَى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ دُونَ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لَهُ أَوْ لِلْعَاقِدِ الآْخَرِ. فَالْيَوْمَانِ الْمُلْحَقَانِ هُمَا لِهَذَا الْغَرَضِ (دَفْعِ اللُّزُومِ عَنِ الْمُشْتَرِي دُونَ إِرَادَتِهِ) . أَمَّا زَمَنُ الْخِيَارِ لِلْعَقَارِ فَهُوَ شَهْرٌ وَسِتَّةُ أَيَّامٍ.
الدَّوَابُّ:
13 - وَتَخْتَلِفُ الْمُدَّةُ فِيهَا بِحَسَبِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْخِيَارِ فِيهَا
، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِمَعْرِفَةِ قُوَّتِهَا وَأَكْلِهَا وَسِعْرِهَا فَأَقْصَى مُدَّتِهِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ. وَإِنْ كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ مُتَضَمِّنًا أَنَّهَا لِلاِخْتِبَارِ فِي الْبَلَدِ نَفْسِهِ فَالْمُدَّةُ يَوْمٌ وَاحِدٌ وَشَبَهُهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ خَارِجَهُ فَأَقْصَى الْمُدَّةِ بَرِيدٌ (1) عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَبَرِيدَانِ عِنْدَ أَشْهَبَ. وَقَدْ أُلْحِقَ بِالثَّلاَثَةِ الأَْيَّامِ يَوْمٌ وَاحِدٌ لِتَمْكِينِ الْمُشْتَرِي مِنْ رَدِّ الْمَبِيعِ، كَمَا سَلَفَ (2) .
بَقِيَّةُ الأَْشْيَاءِ:
14 - وَتَشْمَل: الثِّيَابَ، وَالْعُرُوضَ، وَالْمِثْلِيَّاتِ.
__________
(1) البريد: سير نصف يوم بالسير المعتاد.
(2) الدسوقي 3 / 92.(20/84)
وَأَقْصَى الْمُدَّةِ لَهَا ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ وَيَلْحَقُ بِهَا يَوْمٌ. وَقَدْ أَطْلَقَ الْخَرَشِيُّ لَفْظَ (الْمِثْلِيَّاتِ) عَلَى كُل مَا عَدَا (الرَّقِيقِ وَالْعَقَارِ وَالدَّوَابِّ) وَبِالرَّغْمِ مِنْ شُمُول الْمِثْلِيَّاتِ لِلْخُضَرِ وَالْفَوَاكِهِ إِلاَّ أَنَّ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ حُكْمًا خَاصًّا بِهِمَا مِنْ حَيْثُ الْمُدَّةُ نَظَرًا لِطَبِيعَتِهِمَا الْخَاصَّةِ مِنْ تَسَارُعِ التَّلَفِ إِلَيْهِمَا، فَالْخُضَرُ وَالْفَوَاكِهُ بِخَاصَّةٍ أَمَدُ الْخِيَارِ فِيهِمَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى الْمُدَّةُ الَّتِي لاَ تَتَغَيَّرُ فِيهَا. (1)
الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ - التَّحْدِيدُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ:
15 - وَهَذَا التَّحْدِيدُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا مَهْمَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، مَعَ الْمَنْعِ مِنْ مُجَاوَزَتِهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبِهِ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ. (2)
وَقَدِ احْتَجَّ لِهَذَا التَّحْدِيدِ بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ السَّابِقِ ذِكْرُهُ لإِِثْبَاتِ الْخِيَارِ فِيهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. (3)
وَالْبَيَانُ الدَّقِيقُ لِمُسْتَنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَحْدِيدِ الثَّلاَثَةِ الأَْيَّامِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُهُ أَبُو يُوسُفَ، فَقَدْ
__________
(1) الشرح الكبير على خليل وحاشية الدسوقي عليه 3 / 93 - 95، الخرشي على خليل بحاشية العدوي 4 / 19 - 21.
(2) البدائع 5 / 174، والبحر الرائق 6 / 6، ورد المحتار 4 / 568، والفتاوى الهندية 3 / 38، والمبسوط 13 / 41، وفتح القدير 5 / 111، والمجموع 9 / 190، ونهاية المحتاج 4 / 17.
(3) الحديث تقدم تخريجه ف4.(20/84)
قَال فِي بَيَانِ مَذْهَبِ الإِْمَامِ: لاَ يَكُونُ الْخِيَارُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، بَلَغَنَا عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُول: مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً (1) فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ: إِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. (2) فَجَعَل أَبُو حَنِيفَةَ الْخِيَارَ كُلَّهُ عَلَى قَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُول: (الْخِيَارُ جَائِزٌ شَهْرًا كَانَ أَوْ سَنَةً وَبِهِ نَأْخُذُ (3)) . وَنَحْوُهُ مُسْتَنَدُ الشَّافِعِيِّ، كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَعْرِفَةِ السُّنَنِ قَال الشَّافِعِيُّ: الأَْصْل فِي الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا، وَلَكِنْ لَمَّا شَرَطَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُصَرَّاةِ خِيَارَ ثَلاَثٍ فِي الْبَيْعِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَل لَحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ خِيَارَ ثَلاَثٍ فِيمَا ابْتَاعَ، انْتَهَيْنَا إِلَى مَا قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (4)
كَمَا احْتَجُّوا لَهُ مِنَ الْمَعْقُول بِأَنَّ الْخِيَارَ مُنَافٍ
__________
(1) المراد بالمحفلة، وهي المصراة وهي الشاة التي لم تحلب أيامًا، ليجتمع اللبن في ضرعها للبيع - مختار الصحاح.
(2) حديث: " من اشترى شاة محفلة. . . " أخرجه مسلم (3 / 1158 ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة، بلفظ: " من اشترى شاة مصراة، فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها، ورد معها صاعًا من تمر ".
(3) اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، لأبي يوسف 16، جامع الفصولين 1 / 329.
(4) نصب الراية 4 / 6 نقلا عن معرفة السنن للبيهقي، ولم يدع ابن حزم فرصة التنديد بأبي حنيفة لأنه احتج بحديث المصراة في التحديد بالثلاث ثم لم يأخذ بخيار التصرية (إحكام الأحكام 3 / 99) .(20/85)
لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَقَدْ جَازَ لِلْحَاجَةِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْقَلِيل مِنْهُ، وَآخِرُ الْقِلَّةِ ثَلاَثٌ، وَاحْتَجَّ بِمِثْل ذَلِكَ النَّوَوِيُّ بَعْدَمَا أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ حِبَّانَ (1) .
الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلاَثِ:
16 - إِذَا زَادَتْ مُدَّةُ خِيَارِ الشَّرْطَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا لَدَى هَذَا الْفَرِيقِ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْقَائِل بِالتَّحْدِيدِ بِهَا، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، وَبَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، ذَهَابًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ إِسْقَاطَ الزِّيَادَةِ لاَ يُصَحِّحُ الْعَقْدَ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْمَجْلِسِ فَقَطْ، بَل فِي الْمَجْلِسِ أَيْضًا عَلَى الْمَشْهُورِ، لأَِنَّ الْمَجْلِسَ ثَبَتَ لِعَقْدٍ صَحِيحٍ، لاَ لِفَاسِدٍ، لِوُقُوعِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَثْبُتُ دَائِمًا.
غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَحْدَهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ إِسْقَاطَ شَرْطِ الْخِيَارِ الزَّائِدِ عَنِ الثَّلاَثِ - أَوْ إِسْقَاطَ الزِّيَادَةِ - يُصَحِّحُ الْعَقْدَ، وَلَوْ حَصَل ذَلِكَ الإِْسْقَاطُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ مَا لَمْ تَمْضِ الأَْيَّامُ الثَّلاَثَةُ. وَخَالَفَهُ صَاحِبُهُ زُفَرُ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ إِسْقَاطَ الزَّائِدِ لاَ يُصَحِّحُ الْعَقْدَ لأَِنَّ
__________
(1) المجموع 9 / 190، وقد جاء في البدائع 5 / 174 مناقشة مبنية على خلاف أبي حنيفة وصاحبيه في جواز الزيادة على الثلاث اعتمد فيها على النص في الحديث على الثلاث.، كما أطال ابن الهمام في الفتح 5 0 في الاستدلال للتحديد بالثلاث بما مداره أن الخيار شرع مقيدًا بالثلاث يقصد حديث حبان وقد سبق ما فيه.(20/85)
الْبَقَاءَ عَلَى حَسَبِ الثُّبُوتِ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنَ الصُّوَرِ الْمُفْسِدَةِ: - اشْتِرَاطَ مُشَاوَرَةِ مَنْ لاَ يَعْلَمُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُدَّةِ بِأَمَدٍ، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ الْخِيَارَ فِي الْعَقَارِ لِمُدَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَعَ أَنَّ الْمُدَّةَ الْمُحَدَّدَةَ لِلْعَقَارِ أَقْصَاهَا ثَمَانِيَةٌ وَثَلاَثُونَ يَوْمًا.
- اشْتِرَاطَ مُدَّةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مُدَّةِ تِلْكَ السِّلْعَةِ بِكَثِيرٍ، أَمَّا لَوْ بِزِيَادَةِ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ فَلاَ يَضُرُّ. (2)
الْخِيَارُ الْمُطْلَقُ:
17 - فِي الْخِيَارِ الْمُطْلَقِ عَنِ الْمُدَّةِ تَتَّجِهُ الْمَذَاهِبُ إِلَى أَرْبَعَةِ اتِّجَاهَاتٍ: بُطْلاَنِ الْعَقْدِ أَوْ فَسَادِهِ - بُطْلاَنِ الشَّرْطِ دُونَ الْعَقْدِ - صِحَّةِ الْعَقْدِ وَتَعْدِيل الشَّرْطِ - صِحَّةِ الْعَقْدِ وَبَقَاءِ الشَّرْطِ بِحَالِهِ.
أ - بُطْلاَنُ الْعَقْدِ أَوْ فَسَادُهُ، فَالْبُطْلاَنُ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى فَسَادِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا هُنَا بَيْنَ الْجَهَالَةِ الْمُتَفَاحِشَةِ أَوِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالْحَصَادِ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 178، وفتح القدير 5 0 - 501، والمجموع شرح المهذب 9 / 190 و 194، الفتاوى الهندية 3 / 39، البدائع 5 / 300، والبحر الرائق 6 / 6، والمبسوط 13 / 63، المحيط البرهاني مخطوط (ورقة 765) .
(2) الشرح الكبير للدردير، وحاشية الدسوقي 3 / 94 - 95، والخرشي 4 / 21.(20/86)
مَثَلاً، كَمَا ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْخِيَارِ الْمُفْسِدِ لَوْ أَبْطَل خِيَارَهُ، أَوْ بَيَّنَهُ، أَوْ سَقَطَ بِسَبَبٍ مَا وَلَزِمَ الْبَيْعُ فِي الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ التَّالِيَةِ لِلْعَقْدِ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ (خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ الْمُشْتَرِطِ حُصُول ذَلِكَ قَبْل مُضِيِّ الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ) انْقَلَبَ الْعَقْدُ صَحِيحًا عِنْدَ الْجَمِيعِ - بَل لَوْ بَعْدَ الثَّلاَثَةِ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ - لِحَذْفِ الْمُفْسِدِ قَبْل اتِّصَالِهِ بِالْعَقْدِ لأَِنَّهُمَا يُجِيزَانِ الزِّيَادَةَ عَنِ الثَّلاَثَةِ. (1)
ب - بُطْلاَنُ الشَّرْطِ دُونَ الْعَقْدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ لأَِحْمَدَ وَمَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى
ج - صِحَّةُ الْعَقْدِ وَتَعْدِيل الشَّرْطِ، فَالْخِيَارُ الْمُطْلَقُ أَوِ الْمُؤَبَّدُ هُنَا يُخَوِّل الْقَاضِي تَحْدِيدَ الْمُدَّةِ الْمَأْلُوفَةِ فِي الْعَادَةِ لاِخْتِبَارِ مِثْل السِّلْعَةِ الَّتِي هِيَ مَحَل الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ الْخِيَارَ مُقَيَّدٌ فِي الْعَادَةِ، فَإِذَا أَطْلَقَا حُمِل عَلَيْهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ (2) .
وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ الْعَاقِدَيْنِ إِنْ أَطْلَقَا الْخِيَارَ وَلَمْ يُوَقِّتَاهُ بِمُدَّةٍ تَوَجَّهَ أَنْ يَثْبُتَ ثَلاَثًا، لِخَبَرِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ (3) .
د - صِحَّةُ الْعَقْدِ وَبَقَاءُ الشَّرْطِ بِحَالِهِ: فَيَبْقَى الْخِيَارُ مُطْلَقًا أَبَدًا كَمَا نَشَأَ حَتَّى يَصْدُرَ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 174 و 178، والفتاوى الهندية 3 / 38 - 39، والمجموع 9 / 191، والمغني لابن قدامة 3 / 527، والمقنع 2 / 35.
(2) المقدمات 2 / 560.
(3) الاختيارات، لعلاء الدين البعلي ص74.(20/86)
مَا يُسْقِطُهُ. وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَقَوْلٌ لأَِحْمَدَ (1) .
تَأْبِيدُ الْخِيَارِ:
18 - مِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ: شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَبَّدٍ فِي الْبَيْعِ بِأَنْ قَال (أَبَدًا) أَوْ (أَيَّامًا) (2) .
التَّوْقِيتُ بِوَقْتٍ مَجْهُولٍ:
19 - مِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ: شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَقَّتٍ بِوَقْتٍ مَجْهُولٍ سَوَاءٌ كَانَتْ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً، كَهُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَمَجِيءِ الْمَطَرِ، وَقُدُومِ فُلاَنٍ، وَمَوْتِ فُلاَنٍ، وَوَضْعِ الْحَامِل وَنَحْوِهِ. أَوْ جَهَالَةً مُتَقَارِبَةً، كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ، وَقُدُومِ الْحَاجِّ. (3)
ثَالِثًا - شَرِيطَةُ الاِتِّصَال، وَالْمُوَالاَةِ
20 - الْمُرَادُ بِالاِتِّصَال أَنْ تَبْدَأَ مُدَّةُ الْخِيَارِ مِنْ فَوْرِ إِبْرَامِ الْعَقْدِ، أَيْ لاَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَتَرَاخَى عَنْهُ، فَلَوْ شَرَطَ الْمُتَعَاقِدَانِ الْخِيَارَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مَثَلاً مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، أَوْ تَبْدَأُ مِنَ الْغَدِ، أَوْ تَبْدَأُ مَتَى شَاءَ. . أَوْ
__________
(1) المغني 3 / 527، والمقنع 2 / 35.
(2) البدائع 5 / 174 و 157، والفتاوى الهندية 3 / 38، البحر الرائق 6 / 5.
(3) البدائع 5 / 174، الخرشي على خليل 4 / 21 وقال: يستمر العقد لو أسقط الشرط، الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 94، شرح الروض لزكريا الأنصاري 2، والبحر 6 / 5 نقلا عن التتارخانية.(20/87)
شَرَطَا خِيَارَ الْغَدِ دُونَ الْيَوْمِ، فَسَدَ الْعَقْدُ لِمُنَافَاتِهِ لِمُقْتَضَاهُ، وَالْمُرَادُ بِالْمُقْتَضَى هُنَا: حُصُول آثَارِهِ مُبَاشَرَةً. هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَال النَّوَوِيُّ: (وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مُتَّصِلَةً بِالْعَقْدِ. لاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ خِيَارًا مُتَرَاخِيًا عَنِ الْعَقْدِ) (1) لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ لاَ يُبْطِلُونَ هَذَا الْعَقْدَ لأَِنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ نَظَرًا لِذَهَابِهِمْ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَادِ، وَالْفَاسِدُ مِنَ الْعُقُودِ مُنْعَقِدٌ وَيَحْتَمِل بَعْضُهُ التَّصْحِيحَ، وَسَبِيل ذَلِكَ هُنَا اعْتِبَارُ الْمُدَّةِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الْعَقْدِ وَبَيْنَ مَبْدَأِ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ مَشْمُولَةً بِالشَّرْطِ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ اشْتِرَاطَ خِيَارِ أَيَّامٍ غَيْرِ مُتَّصِلَةٍ بِالْعَقْدِ، مِثْل مَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ فِي آخِرِ رَمَضَانَ وَاشْتَرَطَ خِيَارَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ رَمَضَانَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ (الْيَوْمُ الآْخِرُ مِنْ رَمَضَانَ وَالْيَوْمَانِ مِمَّا بَعْدَهُ) .
وَهَكَذَا يُحْمَل كَلاَمُهُ عَلَى إِرَادَةِ الْمُدَّةِ الْمُتَّصِلَةِ وَمَا بَعْدَهَا. أَمَّا إِذَا كَانَ الاِشْتِرَاطُ غَيْرَ قَابِلٍ لِلْحَمْل عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ عَقْدٌ فَاسِدٌ مُسْتَحِقٌّ لِلْفَسْخِ بِإِرَادَةِ كُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ وَبِإِرَادَةِ الْقَاضِي، وَمِثَالُهُ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - مَا لَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لَهُ فِي رَمَضَانَ، وَلَهُ كَذَا يَوْمًا مِمَّا بَعْدَهُ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ (2) .
__________
(1) المجموع للنووي 9 / 191، والبدائع 5 / 300، والمغني 3 / 502.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 39، (نقلا عن فتاوى قاضيخان 2 / 183) ، والبحر الرائق 6 / 5.(20/87)
21 - وَيَتْبَعُ شَرِيطَةَ الاِتِّصَال شَرِيطَةٌ أُخْرَى يُمْكِنُ تَسْمِيَتُهَا " الْمُوَالاَةَ " لأَِنَّ الْمُرَادَ بِهَا: تَتَابُعُ أَجْزَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ. فَلَوْ شَرَطَا الْخِيَارَ لِمُدَّةِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ عَلَى أَنَّهُ يَوْمًا يَثْبُتُ وَيَوْمًا لاَ يَثْبُتُ فَفِيهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا - وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ -: الصِّحَّةُ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل، لإِِمْكَانِهِ، وَالْبُطْلاَنُ فِيمَا بَعْدَهُ، لأَِنَّ الْعَقْدَ إِذَا لَزِمَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَمْ يَعُدْ إِلَى عَدَمِ اللُّزُومِ.
وَالْوَجْهُ الآْخَرُ: (احْتِمَال) بُطْلاَنِ الشَّرْطِ كُلِّهِ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ وَاحِدٌ تَنَاوَل الْخِيَارَ فِي أَيَّامٍ، فَإِذَا فَسَدَ فِي بَعْضِهِ فَسَدَ جَمِيعُهُ (1) .
رَابِعًا - تَعْيِينُ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ:
22 - مُسْتَحِقُّ الْخِيَارِ أَوْ صَاحِبُ الْخِيَارِ: هُوَ ذَلِكَ الشَّخْصُ الَّذِي يَكُونُ إِلَيْهِ اسْتِعْمَال الْخِيَارِ وَمُمَارَسَتُهُ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ مُشْتَرِطَهُ أَوْ خُوِّل إِلَيْهِ مِنَ الْعَاقِدِ الآْخَرِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ طَرَفًا فِي الْعَقْدِ أَمْ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ، وَلاَ يَصِحُّ تَطَرُّقُ الْجَهَالَةِ إِلَى مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ، فَلَوِ اتَّفَقَ الْعَاقِدَانِ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لأَِحَدِهِمَا لاَ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنَا هَل هُوَ الْبَائِعُ أَمِ الْمُشْتَرِي، أَوْ تَعَاقَدَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِشَخْصٍ مَا يُعَيِّنُهُ أَحَدُهُمَا فِيمَا بَعْدُ، أَوْ لِمَنْ يَشَاءُ أَحَدُهُمَا، فَهَذَا كُلُّهُ فِيهِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ لِلنِّزَاعِ.
__________
(1) المغني 3 / 528.(20/88)
وَلِذَا صَرَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ وَلأَِنَّهُ يُفْضِي إِلَى التَّنَازُعِ. لِذَا كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ تَعْيِينًا مُشَخَّصًا أَهُوَ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ تَعْيِينُهُ بِالذَّاتِ إِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنِ الْعَقْدِ، وَعَدَمُ الاِكْتِفَاءِ بِذِكْرِ الصِّفَةِ (مَثَلاً) كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لأَِحَدِ التُّجَّارِ أَوِ الْخُبَرَاءِ دُونَ تَحْدِيدٍ. وَقَال النَّوَوِيُّ: (لَوْ يُشْرَطُ الْخِيَارُ لأَِحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ قَوْلاَنِ، الأَْصَحُّ: الصِّحَّةُ) (1) .
مَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ:
23 - خِيَارُ الشَّرْطِ لاَ يَثْبُتُ فِي غَيْرِ الْعُقُودِ، وَالْعُقُودُ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا وُقُوعُ خِيَارِ الشَّرْطِ هِيَ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ الْقَابِلَةُ لِلْفَسْخِ، لأَِنَّ فَائِدَتَهُ إِنَّمَا تَظْهَرُ فِيهَا فَقَطْ. أَمَّا الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ فَهِيَ بِمَا تَتَّصِفُ بِهِ مِنْ طَبِيعَةِ عَدَمِ اللُّزُومِ لاَ فَائِدَةَ لاِشْتِرَاطِ خِيَارٍ فِيهَا. وَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لاَ تَقْبَل الْفَسْخَ فَيَتَعَذَّرُ قِيَامُ الْخِيَارِ فِيهَا، لأَِنَّهُ يُنَاقِضُ طَبِيعَتَهَا.
وَالْبَيْعُ هُوَ الْمَجَال الأَْسَاسِيُّ لِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَجَرَيَانُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ اتِّفَاقِيٌّ، لأَِنَّهُ هُوَ الْعَقْدُ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ أَخْبَارُ مَشْرُوعِيَّتِهِ، وَالْبَيْعُ عَقْدٌ لاَزِمٌ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ (بِطَرِيقِ الإِْقَالَةِ) فَهُوَ يَقْبَل
__________
(1) المغني 3 / 499 م 2780، والمجموع 9 / 207، وقال النووي: له شرط الخيار لأحدهما دون الآخر ففي صحة البيع قولان: الأصح: الصحة.(20/88)
الْفَسْخَ بِخِيَارِ الشَّرْطِ. بَل يَدْخُل الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَمَا هُوَ نَصُّ الْهِدَايَةِ لِلْمَرْغِينَانِيِّ، كَمَا لاَ فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْبَيْعِ بَيْعَ مُسَاوَمَةٍ، أَوْ بَيْعَ أَمَانَةٍ كَالْمُرَابَحَةِ وَأَخَوَاتِهَا (1) .
أَمَّا الْمُسْتَثْنَيَاتُ مِنَ الْبَيْعِ فَهِيَ: السَّلَمُ، وَالصَّرْفُ، وَبَيْعُ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهَا بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بِقَوْلِهِ: كُل بَيْعٍ قَبْضُ عِوَضِهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ (2) . وَهِيَ عُقُودٌ يُبْطِلُهَا خِيَارُ الشَّرْطِ إِنْ لَمْ يَحْصُل إِسْقَاطُهُ فِي الْمَجْلِسِ قَبْل التَّفَرُّقِ (3) .
وَقَدْ نَبَّهَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ السَّلَمِ وَالصَّرْفِ مُخِلٌّ بِالضَّابِطِ، وَهُوَ ثُبُوتُهُ فِي الْعَقْدِ اللاَّزِمِ الْمُحْتَمَل الْفَسْخَ، فَهُمَا - أَيِ السَّلَمُ وَالصَّرْفُ - كَذَلِكَ (4) .
وَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِهِ فِي السَّلَمِ إِلَى أَجَلٍ قَصِيرٍ (5) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (سَلَمٌ) ، (صَرْفٌ) .
وَيَجْرِي خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الإِْجَارَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَيَّدُوا
__________
(1) الهداية 5 / 367 بهامش الفتح.
(2) المقنع وحواشيه 2 / 35.
(3) البدائع 5 / 201.
(4) حواشي ابن عابدين على البحر 6 / 4، البدائع 5 / 201، المبسوط 14 / 24، المقنع وحواشيه 2 / 35، المجموع 9 / 192، المغني 3 / 531.
(5) المدونة 10 / 21، والمواق 4 / 422، والمقدمات لابن رشد 2 / 190.(20/89)
الْخِيَارَ بِالإِْجَارَةِ الَّتِي فِي الذِّمَّةِ، أَمَّا الإِْجَارَةُ الْمُعَيَّنَةُ فَيَدْخُلُهَا الْخِيَارُ إِذَا كَانَتْ لِمُدَّةٍ غَيْرِ تَالِيَةٍ لِلْعَقْدِ.
أَمَّا إِنْ كَانَتْ لِمُدَّةٍ تَبْدَأُ مِنْ فَوْرِ الْعَقْدِ فَلاَ يَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهَا، لأَِنَّهُ يُفْضِي إِلَى فَوَاتِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ، أَوْ إِلَى اسْتِيفَائِهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَكِلاَهُمَا غَيْرُ جَائِزٍ، وَفِي وَجْهٍ لِلْحَنَابِلَةِ: تَجُوزُ فِي الْمُدَّةِ التَّالِيَةِ لِلْعَقْدِ أَيْضًا، فَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِقِيمَةِ الْمَنَافِعِ (1) .
وَالْحَوَالَةُ: اخْتُلِفَ فِي قَبُولِهَا خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الأَْوَّل: تَقْبَلُهُ، وَعَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ احْتِمَالٌ لِلْحَنَابِلَةِ - كَمَا ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ - فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي الْحَوَالَةِ لِكُلٍّ مِنَ الْمُحَال، وَالْمُحَال عَلَيْهِ - وَهُمَا اللَّذَانِ يَجِبُ رِضَاهُمَا فِي عَقْدِهَا - أَمَّا الْمُحِيل - وَرِضَاهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الأَْصَحِّ - فَلَيْسَ لَهُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ أَصَالَةً أَيْ بِاعْتِبَارِهِ طَرَفًا فِي الْعَقْدِ، أَمَّا إِنِ اشْتَرَطَ لَهُ كَمَا يَشْتَرِطُ الأَْجْنَبِيُّ مِنْ قِبَل أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، بِأَنِ اشْتَرَطَهُ لَهُ الْمُحَال أَوِ الْمُحَال عَلَيْهِ فَيَجُوزُ، وَلَكِنْ تُطَبَّقُ أَحْكَامُ الاِشْتِرَاطِ لأَِجْنَبِيٍّ، وَهِيَ ثُبُوتُهُ لَهُ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ فَيَكُونُ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِطِ. وَعَلَّل ابْنُ قُدَامَةَ قَبُول الْحَوَالَةِ لِخِيَارِ الشَّرْطِ بِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ يُقْصَدُ بِهَا الْعِوَضُ.
الثَّانِي: عَدَمُ قَبُول الْحَوَالَةِ لِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَهُوَ
__________
(1) البدائع 5 / 201، والمجموع 9 / 192، والمغني 3 / 531.(20/89)
مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ عَقْدَ الْحَوَالَةِ لَمْ يُبْنَ عَلَى الْمُغَابَنَةِ. وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى رَأْيٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (1) .
وَكَذَلِكَ الْقِسْمَةُ: اخْتَلَفَ الرَّأْيُ فِيهَا بِحَسَبِ النَّظَرِ إِلَيْهَا هَل هِيَ بَيْعٌ كَمَا قَال الْحَنَفِيَّةُ أَمْ هِيَ تَمْيِيزُ حُقُوقٍ كَمَا يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُفَادُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ. وَمَنْ أَثْبَتَ خِيَارَ الشَّرْطِ فِيهَا مِنَ الْحَنَابِلَةِ احْتَجَّ بِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَمْ يُشْرَعْ خَاصًّا بِالْبَيْعِ، بَل هُوَ لِلتَّرَوِّي وَتَبَيُّنِ أَرْشَدِ الأَْمْرَيْنِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْقِسْمَةِ.
وَالْقِسْمَةُ أَنْوَاعٌ: قِسْمَةُ الأَْجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَهِيَ قِسْمَةُ تَرَاضٍ لاَ إِجْبَارَ فِيهَا - وَقِسْمَةُ الْجِنْسِ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ، وَهِيَ تَقْبَل الإِْجْبَارَ وَلاَ يَدْخُلُهَا خِيَارُ الشَّرْطِ - وَقِسْمَةُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ، كَالْبَقَر وَالْغَنَمِ، أَوِ الثِّيَابُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهِيَ تَقْبَل الإِْجْبَارَ وَيَدْخُلُهَا خِيَارُ الشَّرْطِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُفْتَى بِهِ (2) .
وَالْكَفَالَةُ: يَدْخُلُهَا خِيَارُ الشَّرْطِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَلِلْكَفَالَةِ خِصِّيصَةٌ فِي بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ مِنْ حَيْثُ التَّوْقِيتُ إِذْ يَجُوزُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
__________
(1) البحر الرائق 4 / 272، ورد المحتار 4 / 48، والمهذب 1 / 338، والمغني 5 / 54، والمقنع وحواشيه 2 / 34.
(2) رد المحتار 5 / 167، وجامع الفصولين 1 / 243، وبلغة السالك 2 / 238، والمدونة 14 / 198، ومغني المحتاج 4 / 424، والقواعد لابن رجب 413.(20/90)
خِلاَفًا لِمَذْهَبِهِ فِي اشْتِرَاطِ التَّحْدِيدِ بِالثَّلاَثِ، لأَِنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ (1) .
وَالْوَقْفُ: يَجْرِي فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْوَاقِفَ إِذَا شَرَطَ فِي الْوَقْفِ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً جَازَ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ، وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ، فَالْوَقْفُ بَاطِلٌ، وَشَرْطُ الْخِيَارِ فَاسِدٌ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي (وَقْفٌ) .
اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ:
24 - مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ لأَِيِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِكِلَيْهِمَا (فَفِي الْبَيْعِ مَثَلاً: لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي) . وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَلاَ يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ شُبْرُمَةَ مِنْ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمُشْتَرِي، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَشْتَرِطَهُ لِنَفْسِهِ، (وَمُقْتَضَى هَذَا النَّقْل عَنْهُمَا أَنَّ مَجَال الْخِيَارِ عِنْدَهُمَا هُوَ عَقْدُ الْبَيْعِ فَقَطْ) وَعِنْدَ هَذَيْنِ إِذَا اشْتَرَطَهُ الْبَائِعُ فَسَدَ الْعَقْدُ (3) .
__________
(1) المبسوط 17 / 199، المجموع 9 / 177، كشاف القناع 3 / 203.
(2) رد المحتار 3 / 360، المغني 3 / 531، البحر الرائق 6 / 4، المجموع 9 / 177، وكشاف القناع 3 / 203، الأشباه بحاشية الحموي 1 / 328.
(3) المغني 3 / 524 ط4، فتح القدير 5 / 500، البحر الزخار، 3 / 348، وفتح القدير 5 / 500.(20/90)
وَفِي اشْتِرَاطِهِ لِلْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا لاَ فَرْقَ أَنْ يَنْشَأَ الاِشْتِرَاطُ مِنَ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ أَوْ مِنْهُ لِلْعَاقِدِ الآْخَرِ، وَهُوَ أَمْرٌ يَحْصُل كَثِيرًا، إِذْ يَجْعَل الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، كَمَا لَوْ قَال الْبَائِعُ: بِعْتُ لَكَ ذَا الشَّيْءَ عَلَى أَنَّكَ بِالْخِيَارِ، فَإِذَا صَدَرَ الْقَبُول مِنَ الْمُشْتَرِي كَانَ الْخِيَارُ لَهُ، وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِمَنْ شُرِطَ لَهُ وَحْدَهُ دُونَ الْعَاقِدِ الْمُشْتَرِطِ، إِلاَّ إِذَا شَرَطَهُ لِنَفْسِهِ أَيْضًا وَرَضِيَ الآْخَرُ (1) .
اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِلأَْجْنَبِيِّ عَنِ الْعَقْدِ:
25 - يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لأَِجْنَبِيٍّ عَنِ الْعَقْدِ، سَوَاءٌ وَقَعَ الاِشْتِرَاطُ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الأَْجْنَبِيُّ الْمُشْتَرَطُ لَهُ الْخِيَارُ شَخْصًا وَاحِدًا مُعَيَّنًا مِنَ الْعَاقِدَيْنِ كِلَيْهِمَا أَوْ كَانَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا شَخْصٌ غَيْرُ مَنِ اشْتَرَطَهُ الآْخَرُ، عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى نَصٍّ عَنْ غَيْرِهِمْ، لأَِنَّ دَلاَئِل الْجَوَازِ تَشْمَلُهُ.
وَأَصْل هَذَا الْحُكْمِ (صِحَّةُ الاِشْتِرَاطِ لأَِجْنَبِيٍّ) مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَجْعُول لَهُ الْخِيَارُ مِمَّنْ يَجُوزُ قَوْلُهُ - لاَ كَالطِّفْل غَيْرِ الْمُمَيِّزِ - وَإِلاَّ بَطَل الْخِيَارُ (2) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 58.
(2) فتح القدير 5 / 516، والبدائع 5 / 174، والمجموع 9 / 196، وبداية المجتهد 2 / 212، 4 / 551، ومغني المحتاج 2 / 46، ونهاية المحتاج 4 / 5، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 111.(20/91)
وَمُسْتَنَدُ هَذَا الْحُكْمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الاِسْتِحْسَانُ، فَهُوَ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، وَلِذَا خَالَفَ فِيهِ زُفَرُ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ الْخِيَارَ مِنْ مُوَاجِبِ الْعَقْدِ وَأَحْكَامِهِ، فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ اشْتِرَاطُهُ لِغَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ بِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِالاِسْتِحْسَانِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، لأَِنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً ظَاهِرَةً حِينَ يَكُونُ الْمُتَعَاقِدُ قَلِيل الْخِبْرَةِ بِالأَْشْيَاءِ يَخْشَى الْوُقُوعُ فِي الْغَبْنِ فَيَلْجَأُ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْصَرُ مِنْهُ وَيُفَوِّضُ إِلَيْهِ الْخِيَارَ. وَفَضْلاً عَنْ هَذَا أَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِلأَْجْنَبِيِّ لَيْسَ أَصَالَةً بَل هُوَ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنِ الْعَاقِدِ الَّذِي جَعَلَهُ لَهُ - عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفُقَهَاءُ - فَيُقَدَّرُ الْخِيَارُ لِلْعَاقِدِ اقْتِضَاءً، ثُمَّ يَجْعَل الأَْجْنَبِيَّ نَائِبًا عَنْهُ، تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْعَاقِدِ (1) .
فَإِذَا جَعَل الْخِيَارَ لأَِجْنَبِيٍّ، فَمَا هِيَ صِفَةُ هَذَا الْجُعْل؟ وَمَا أَثَرُهُ؟ لِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وِجْهَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِمَثَابَةِ تَوْكِيلٍ لِغَيْرِهِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ، فَالْخِيَارُ لِلْعَاقِدِ وَالأَْجْنَبِيِّ مَعًا. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. بَل إِنَّ الْحَنَابِلَةَ جَعَلُوا الْخِيَارَ لَهُمَا أَيْضًا فِيمَا لَوْ قَصَرَ الْعَاقِدُ الْخِيَارَ عَلَى الأَْجْنَبِيِّ وَقَال: هُوَ
__________
(1) البدائع 5 / 174، وفتح القدير 5 / 516 - 517، ورد المحتار 4 / 58.(20/91)
لَهُ دُونِي، وَذَهَبَ أَبُو يَعْلَى مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ حِينَئِذٍ لاَ يَصِحُّ (1) .
الْوِجْهَةُ الأُْخْرَى: أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلأَْجْنَبِيِّ وَحْدَهُ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَالُوا: إِنَّ جَعْل الْخِيَارِ لِلأَْجْنَبِيِّ تَفْوِيضٌ - أَوْ تَحْكِيمٌ - لاَ تَوْكِيلٌ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ.
شَرْطُ الاِسْتِئْمَارِ (أَوِ الْمُؤَامَرَةِ) أَوِ الْمَشُورَةِ:
26 - مِمَّا يَتَّصِل بِمَعْرِفَةِ صَاحِبِ الْخِيَارِ قَضِيَّةُ اشْتِرَاطِ مَشُورَةِ فُلاَنٍ مِنَ النَّاسِ، أَوِ اسْتِئْمَارِهِ: أَيْ مَعْرِفَةُ أَمْرِهِ وَامْتِثَالُهُ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْمُسْتَأْمِرِ وَالْمُسْتَأْمَرِ الاِسْتِقْلاَل فِي الرَّدِّ وَالإِْمْضَاءِ (بِخِلاَفِ مَا لَوْ كَانَ عَلَى خِيَارِهِ وَرِضَاهُ، فَلاَ اسْتِقْلاَل لَهُ دُونَ مَنْ شَرَطَ لَهُ، وَهَذَا فِي الْمَشُورَةِ الْمُطْلَقَةِ، أَمَّا إِذَا قَال عَلَى مَشُورَتِهِ إِنْ شَاءَ أَمْضَى وَإِنْ شَاءَ رَدَّ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْخِيَارِ) (2) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ هَاهُنَا تَفْصِيلٌ بِحَسَبِ صِيغَةِ جَعْل الْخِيَارِ لِلأَْجْنَبِيِّ، فَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِلَفْظِ الْمَشُورَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِلَفْظِ الْخِيَارِ أَوِ الرِّضَا.
فَإِذَا قَال: عَلَى مَشُورَةِ فُلاَنٍ، فَإِنَّ لِلْعَاقِدِ -
__________
(1) البدائع 5 / 174، المجموع 9 / 196، والشرح الكبير 4 / 100، كشاف القناع 3 / 204، المقدمات 2 / 560.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 98.(20/92)
بَائِعًا كَانَ أَوْ مُشْتَرِيًا - أَنْ يَسْتَبِدَّ بِإِبْرَامِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ دُونَ أَنْ يَفْتَقِرَ ذَلِكَ إِلَى مَشُورَتِهِ. لأَِنَّهُ لاَ يَلْزَمُ مِنَ الْمُشَاوِرَةِ الْمُوَافَقَةُ، وَمُشْتَرِطُ الْمَشُورَةِ اشْتَرَطَ مَا يُقَوِّي بِهِ نَظَرَهُ.
أَمَّا إِذَا قَال: عَلَى خِيَارِ فُلاَنٍ أَوْ رِضَاهُ، فَفِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ أَرْبَعَةٌ، وَالْمُعْتَمَدُ مِنْهَا أَنَّهُ تَفْوِيضٌ فَلَيْسَ لِلْعَاقِدِ - بَائِعًا كَانَ أَوْ مُشْتَرِيًا - أَنْ يَسْتَقِل بِإِبْرَامِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ، ذَلِكَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ - أَوِ الرِّضَا - لِلأَْجْنَبِيِّ عِنْدَهُمْ لَيْسَ تَوْكِيلاً بَل هُوَ تَفْوِيضٌ، حَيْثُ إِنَّهُ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِغَيْرِهِ مُعْرِضٌ عَنْ نَظَرِ نَفْسِهِ، وَقَدْ أَلْحَقُوا بِلَفْظِ الْخِيَارِ أَوِ الرِّضَا لَفْظَ الْمَشُورَةِ - السَّابِقَ ذِكْرُهُ - إِذَا جَاءَ مُقَيَّدًا بِمَا يَدْنُو بِهِ إِلَى هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ مِثْل أَنْ يَقُول: عَلَى مَشُورَةِ فُلاَنٍ إِنْ شَاءَ أَمْضَى وَإِنْ شَاءَ رَدَّ، فَحُكْمُ هَذَا كَالْخِيَارِ وَالرِّضَا (1) . وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِاللَّفْظَيْنِ مَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنْ أَلْفَاظٍ مُسْتَحْدَثَةٍ تُؤَدِّي الْمَعْنَى نَفْسَهُ كَالرَّغْبَةِ وَالرَّأْيِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي هَذَا اتِّجَاهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ حَتَّى يَقُول: اسْتَأْمَرْتُهُ فَأَمَرَنِي بِالْفَسْخِ، وَالاِتِّجَاهُ الآْخَرُ - وَعَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ -: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ اسْتِئْمَارُهُ، وَأَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْمُثْبِتُونَ قَدْ جَاءَ بِقَصْدِ الاِحْتِيَاطِ لِئَلاَّ يَكُونَ كَاذِبًا. وَنَحْوُهُ مَا ذَكَرَ
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 98، والخرشي 4 / 25.(20/92)
ابْنُ حَزْمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ فَضَّل (إِنْ أَخَذْتُ) عَلَى (إِنْ رَضِيتُ) ، إِذْ قَدْ يَرْضَى، ثُمَّ يَدَّعِي أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ، وَقَدْ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ الرَّأْيَ الأَْوَّل (1) . وَلاَ بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مَنْ سَيُشَاوِرُهُ. أَمَّا لَوْ قَال: عَلَى أَنْ أُشَاوِرَ (كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا) ، لَمْ يَكْفِ. قَال الأَْذْرَعِيُّ: وَالظَّاهِرُ يَكْفِي، وَهُوَ فِي هَذَا شَارِطُ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ (2) .
وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْحَنَفِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
النِّيَابَةُ فِي الْخِيَارِ:
27 - الْخِيَارُ يَثْبُتُ لِلْعَاقِدِ الْمُشْتَرِطِ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ مَهْمَا كَانَتْ صِفَةُ الْعَاقِدِ، فَسَوَاءٌ أَكَانَ مَالِكًا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَمْ وَصِيًّا يَعْقِدُ لِمَصْلَحَةِ الْمُوصَى عَلَيْهِ، أَمْ وَلِيًّا لِمَصْلَحَةِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، أَمْ كَانَ يَعْقِدُ بِالْوَكَالَةِ.
ذَلِكَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فِي حَال الْوِلاَيَةِ أَوِ الْوِصَايَةِ هُوَ مِنْ بَابِ النَّظَرِ وَالرِّعَايَةِ لِلصَّغِيرِ فَذَلِكَ لَهُمَا. وَأَمَّا فِي الْوَكَالَةِ، فَلأَِنَّ تَصَرُّفَهُ بِأَمْرِ الْمُوَكِّل وَقَدْ أَمَرَهُ بِالْعَقْدِ أَمْرًا مُطْلَقًا فَيَظَل عَلَى إِطْلاَقِهِ، فَيَشْمَل الْعَقْدَ بِخِيَارٍ أَوْ بِدُونِهِ.
وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ أَوِ الشَّرِيكُ شَرِكَةَ عَنَانٍ أَوْ مُفَاوَضَةٍ، يَمْلِكُ شَرْطَ الْخِيَارِ فِي مُعَامَلاَتِ الشَّرِكَةِ بِمُقْتَضَى إِطْلاَقِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ.
__________
(1) المجموع 9 / 212، شرح الروض 2 / 52، المغني 3 / 526 ط4.
(2) شرح الروض 2 / 52.(20/93)
وَهَذَا شَامِلٌ لِمَا لَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلْعَاقِدِ الآْخَرِ الَّذِي يُشَاطِرُهُ التَّعَاقُدَ عَلَى مَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا بِصِحَّتِهِ فِي الْوَكَالَةِ - فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ - إِذَا اشْتَرَطَهُ الْوَكِيل لِنَفْسِهِ أَوْ لِمُوَكِّلِهِ، لأَِنَّهُ لاَ ضَرَرَ فِيهِ، كَمَا مَنَعُوا الْوَكِيل بِالْبَيْعِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ، فَلَيْسَ لِلْوَكِيل بِالشِّرَاءِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ، فَإِنْ فَعَل الْوَكِيل ذَلِكَ بَطَل الْعَقْدُ، وَهَذَا مَا لَمْ يَأْذَنَ الْمُوَكِّل فِي الصُّورَتَيْنِ، وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَتَجَاوَزُ الْخِيَارُ مَنْ شُرِطَ لَهُ فَلاَ يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّل إِذَا اشْتَرَطَهُ الْوَكِيل لِنَفْسِهِ وَلاَ الْعَكْسُ - وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ - لأَِنَّ ثُبُوتَهُ بِالشَّرْطِ فَكَانَ لِمَنْ شَرَطَهُ خَاصَّةً. أَمَّا إِذَا أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّل فِي شَرْطِ الْخِيَارِ وَأَطْلَقَ، فَشَرْطُ الْوَكِيل كَذَلِكَ بِإِطْلاَقٍ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا أَنَّهُ لِلْوَكِيل، لأَِنَّ مُعْظَمَ أَحْكَامِ الْعَقْدِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ وَحْدَهُ (2) وَلاَ يَلْزَمُ الْعَقْدُ بِرِضَا الْمُوَكِّل، لأَِنَّ الْخِيَارَ مَنُوطٌ بِرِضَا وَكِيلِهِ.
وَالْحَنَابِلَةُ كَالشَّافِعِيَّةِ فِي صِحَّةِ اشْتِرَاطِ الْوَكِيل الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ، لاَ لِلْعَاقِدِ الآْخَرِ مَعَ احْتِمَال الْجَوَازِ عِنْدَهُمْ فِيهَا بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُول: لِلْوَكِيل
__________
(1) البدائع 5 / 174.
(2) المجموع 9 / 194، ونهاية المحتاج 4 / 15، ومغني المحتاج 2 / 46.(20/93)
التَّوْكِيل (1) .
ثُمَّ إِنَّ عَلَى الْوَكِيل أَنْ يَفْعَل مَا فِيهِ حَظُّ الْمُوَكِّل، لأَِنَّهُ مُؤْتَمَنٌ (2) .
وَكَمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِصَاحِبِهِ عَلَى وَجْهِ الاِنْفِرَادِ إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعُ وَاحِدًا، يَثْبُتُ لِلْمُتَعَدِّدِ أَيْضًا إِذَا كَانَ الطَّرَفُ الْمُتَعَاقِدُ مُتَعَدِّدًا، كَمَا لَوْ بَاعَ شَرِيكَانِ شَيْئًا، أَوْ بَاعَ الْمَالِكُ سِلْعَةً لاِثْنَيْنِ وَاشْتَرَطَا الْخِيَارَ لَهُمَا.
آثَارُ الْخِيَارِ:
أَوَّلاً: أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ:
28 - حُكْمُ الْخِيَارِ أَنَّهُ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِ الْعَقْدِ، فَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ الْمُعْتَادُ لِلْحَال فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، وَذَلِكَ مَوْضِعُ اتِّفَاقٍ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حَقِّ الْعَاقِدِ الآْخَرِ أَيْضًا، وَقَال صَاحِبَاهُ: الْحُكْمُ نَافِذٌ فِي حَقِّ مَنْ لاَ خِيَارَ لَهُ، لأَِنَّهُ لاَ مَانِعَ بِالنِّسْبَةِ لَهُ - وَسَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ انْتِقَال الْمِلْكِ عَنْهُ - وَلِذَا قَال الْكَاسَانِيُّ: (هُوَ لِلْحَال مَوْقُوفٌ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لاَ يُعْرَفُ حُكْمُهُ لِلْحَال، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ) وَالْعِلَّةُ فِي الْقَوْل بِأَنَّهُ مَوْقُوفُ الْحُكْمِ أَنَّهُ لاَ يُدْرَى أَيَتَّصِل بِهِ الْفَسْخُ أَوِ الإِْجَازَةُ. ثُمَّ قَال بَعْدَئِذٍ: " فَيَتَوَقَّفُ فِي الْجَوَابِ لِلْحَال، وَهَذَا
__________
(1) المغني 3 / 523.
(2) شرح الروض 2 / 52.(20/94)
تَفْسِيرُ التَّوَقُّفِ عِنْدَنَا، وَقَال فِي مَوْطِنٍ آخَرَ: شَرْطُ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لِلْحَال ". (1)
وَتَبَيَّنَ مِنْ مَنْعِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى الْعَقْدِ حُكْمُهُ فِي الْحَال، فَلاَ يَخْرُجُ الْمَبِيعُ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَلاَ الثَّمَنُ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي اتِّفَاقًا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، فَلاَ يَفْتَرِقُ هَذَا الْعَقْدُ عَنِ الْعَقْدِ الْبَاتِّ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ تَعَرُّضُهُ لِلْفَسْخِ بِمُوجِبِ خِيَارِ الشَّرْطِ الَّذِي زَلْزَل حُكْمَ الْعَقْدِ وَجَعَلَهُ عُرْضَةً لِلْفَسْخِ. فَفِي حَال اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِلطَّرَفَيْنِ لاَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَقْدِ أَصْلاً (2) .
وَإِلَى مِثْل ذَلِكَ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي صُورَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِلطَّرَفَيْنِ، حَيْثُ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، لاَ يُحْكَمُ بِانْتِقَالِهِ لِلْمُشْتَرِي، وَلاَ أَنَّهُ لِلْبَائِعِ خَالِصًا حَتَّى يَنْقَضِيَ الْخِيَارُ (3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِلْكِيَّةُ مَحَل الْخِيَارِ بَاقِيَةٌ لِلْبَائِعِ، وَلَمْ تَنْتَقِل إِلَى الْمُشْتَرِي، فَحُكْمُ الْعَقْدِ الْمُشْتَمِل عَلَى خِيَارٍ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ نَفَاذِهِ أَيًّا كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ (4) .
__________
(1) البدائع 5 / 264، 5 / 174.
(2) رد المحتار 4 / 53، تبيين الحقائق 4 / 16، البحر الرائق 6 / 3، الفتاوى الهندية نقلا عن قاضيخان 3 / 40، فتح القدير 5 / 367.
(3) المجموع 9 / 228.
(4) القوانين الفقهية 264، والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 103، بداية المجتهد 2 / 175.(20/94)
ثَانِيًا: أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى انْتِقَال الْمِلْكِ:
يَخْتَلِفُ أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى انْتِقَال الْمِلْكِ بَيْنَ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ كَوْنِهِ لأَِحَدِهِمَا.
أ - كَوْنُ الْخِيَارِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ:
29 - إِذَا كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ ثَابِتًا لِكُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَلاَ تَغْيِيرَ يَحْصُل فِي قَضِيَّةِ الْمِلْكِ لِلْبَدَلَيْنِ، فَمَحَل الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَالثَّمَنُ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا. ذَلِكَ مَوْقِفُ الْحَنَفِيَّةِ، يَقُول الْكَاسَانِيُّ: فَلاَ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فِي الْبَدَلَيْنِ جَمِيعًا، فَلاَ يَزُول الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلاَ يَدْخُل فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَكَذَا الثَّمَنُ. . . لأَِنَّ الْمَانِعَ مِنَ الاِنْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ مَوْجُودٌ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ الْخِيَارُ (1) . وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَوْقِفُ الشَّافِعِيَّةِ بِمُلاَحَظَةِ اخْتِيَارِهِمْ وَصْفَ هَذِهِ الْحَالَةِ بِأَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ بِانْتِظَارِ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ ظَهَرَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمِلْكَ مَا زَال لِلْبَائِعِ، وَإِنْ تَمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَل لِلْمُشْتَرِي مُنْذُ الْعَقْدِ (2) .
وَالْمَذَاهِبُ الأُْخْرَى لاَ تُفْرِدُ هَذِهِ الْحَالَةَ بِالْحُكْمِ، بَل يَنْصَبُّ نَظَرُهَا إِلَى خِيَارِ الْبَائِعِ، فَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْقَضِيَّةِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِي.
وَالرَّأْيُ الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى النَّقِيضِ مِمَّا
__________
(1) البدائع 5 / 264 - 265.
(2) المجموع 9 / 230، نهاية المحتاج 4 / 20، مغني المحتاج 2 / 48.(20/95)
سَبَقَ، فَالْمِلْكُ فِي الْعَقْدِ الْمُقْتَرِنِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ يَنْتَقِل إِلَى الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ نَفْسِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَمْ لأَِحَدِهِمَا أَيًّا كَانَ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَدْ عَلَّلُوهُ بِأَنَّ الْعَقْدَ مَعَ الْخِيَارِ كَالْعَقْدِ الْمُطْلَقِ عَنْهُ (1) .
ب - كَوْنُ الْخِيَارِ لأَِحَدِهِمَا:
30 - تَخْتَلِفُ مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ الْمَالِكِ لِمَحَل الْخِيَارِ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الآْخَرِ، وَتَنْحَصِرُ الآْرَاءُ فِي ثَلاَثَةٍ: بَقَاءُ الْمِلْكِ، انْتِقَالُهُ، التَّفْصِيل بِحَسَبِ صَاحِبِ الْخِيَارِ.
1 - ذَهَبَ الرَّأْيُ الأَْوَّل إِلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ لِصَاحِبِ الْمَحَل كَمَا كَانَ قَبْل حُصُول الْعَقْدِ وَهُوَ الْبَائِعُ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لأَِحَدِهِمَا. بِهَذَا قَال مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ اللَّيْثِ وَالأَْوْزَاعِيِّ. وَقَدْ عَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ بَيْعَ الْخِيَارِ مُنْحَلٌّ لاَ مُنْعَقِدٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ لَمْ يَنْتَقِل، فَالإِْمْضَاءُ اللاَّحِقُ بَعْدَئِذٍ نَاقِلٌ لِلْمِلْكِ لاَ مُقَرِّرٌ (2) .
فَقَدِ اعْتَبَرَ هَؤُلاَءِ يَدَ الْمُشْتَرِي عَلَى مَحَل الْخِيَارِ يَدَ أَمَانَةٍ، وَأَنَّ الْبَائِعَ هُوَ الْمَالِكُ (وَالضَّامِنُ أَيْضًا) وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِيَارُ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 206.
(2) بداية المجتهد 2 / 211، الدردير على خليل بحاشية الدسوقي 3 / 103، الخرشي 4 / 30.(20/95)
عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ، فَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ، أَيْ هُوَ عَقْدٌ غَيْرُ نَافِذٍ فِي الْجُمْلَةِ: لَمْ يَنْتَقِل الْمِلْكُ عَنِ الْبَائِعِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقَعْ قَبُولٌ مِنَ الْعَاقِدِ الآْخَرِ (الْمُشْتَرِي مَثَلاً) .
2 - الرَّأْيُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، فَالإِْمْضَاءُ تَقْرِيرٌ لاَ نَقْلٌ (1) .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَيْضًا حَتَّى يَنْقَضِيَ الْخِيَارُ (2) .
3 - وَالرَّأْيُ الثَّالِثُ قَائِمٌ عَلَى التَّفْصِيل بِحَسَبِ صَاحِبِ الْخِيَارِ.
فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَالْمِلْكُ بَاقٍ لَهُ، لأَِنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ مِنْهُ إِبْقَاءٌ عَلَى مِلْكِهِ فَلاَ يَنْتَقِل إِلَى الْمُشْتَرِي، وَلِهَذَا نَتَائِجُ عَدِيدَةٌ أَبْرَزُهَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ - بِالرَّغْمِ مِنَ الْعَقْدِ - لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَحَل الْخِيَارِ، كَمَا أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْبَائِعِ تَنْفُذُ، وَتُعْتَبَرُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَظْهَرِ الأَْقْوَال (3) . وَهَذَا الْقَوْل لِلشَّافِعِيَّةِ قَائِمٌ عَلَى التَّفْصِيل بَيْنَ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي - وَهُوَ الأَْظْهَرُ - وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ أُخْرَى (مُطَّرِدَةٌ فِي حَال كَوْنِ الْخِيَارِ
__________
(1) الخرشي 4 / 30.
(2) المغني 3 / 511، كشاف القناع 3 / 206، القواعد لابن رجب 377.
(3) البدائع 5 / 264، فتح القدير 5 / 504، البحر الرائق 6 / 9، وحاشية ابن عابدين 4 / 53، وشرح الروض 2 / 53، المجموع 9 / 230، نهاية المحتاج 4 / 20، مغني المحتاج 2 / 48.(20/96)
لَهُمَا أَوْ لأَِحَدِهِمَا) أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَبِيعَ مِلْكٌ لِلْمُشْتَرِي وَالثَّمَنَ مِلْكٌ لِلْبَائِعِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَبِيعَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَلاَ يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ مِنْ غَيْرِ فَسْخٍ، وَالثَّمَنُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ إِلَى تَمَامِ الْبَيْعِ لِلْحُكْمِ بِأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي مُنْذُ الْعَقْدِ، أَوْ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ (1) .
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَالْمِلْكُ زَائِلٌ عَنِ الْبَائِعِ عِنْدَ هَؤُلاَءِ، حَيْثُ لاَ مَانِعَ فِي حَقِّهِ، لأَِنَّ الْعَقْدَ لاَزِمٌ مِنْ جِهَةِ مَنْ لاَ خِيَارَ لَهُ وَهُوَ الْبَائِعُ. وَالتَّصَرُّفُ فِي مَحَل الْخِيَارِ مَقْصُورٌ عَلَى مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، لأَِنَّهُ شُرِعَ نَظَرًا لَهُ وَحْدَهُ، وَعَلَى هَذَا الْقَدْرِ اتَّفَقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمِلْكَ مُنْتَقِلٌ عَمَّنْ لاَ خِيَارَ لَهُ (2) .
ثَالِثًا: أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى ضَمَانِ الْمَحَل:
31 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَتَحَمَّل تَبِعَةَ هَلاَكِ مَحَل الْخِيَارِ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:
فَالْحَنَفِيَّةُ فَرَّقُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ عِدَّةِ صُوَرٍ:
__________
(1) المجموع 9 / 230.
(2) البحر الرائق 6 / 13، وتبيين الحقائق 4 / 16، وحاشية ابن عابدين 4 / 53، وشرح الروض 2 / 53، والمجموع 9 / 230، ونهاية المحتاج 4 / 20، ومغني المحتاج 2 / 48.(20/96)
1 - إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ - وَبِالأَْوْلَى إِذَا كَانَ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِي - وَهَلَكَ مَحَل الْخِيَارِ بِيَدِ الْبَائِعِ قَبْل الْقَبْضِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ بِالاِتِّفَاقِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ اتِّفَاقًا، وَلَمْ يَنْضَمَّ إِلَى الْخِيَارِ الْقَبْضُ لِيَكُونَ لَهُ أَثَرٌ فِي تَعْدِيل ارْتِبَاطِ تَبِعَةِ الْهَلاَكِ بِالْمِلْكِ، وَلاَ إِشْكَال عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي انْفِسَاخِ الْعَقْدِ، كَمَا هُوَ الْحَال فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ عَنِ الْخِيَارِ (1) .
2 - إِذَا هَلَكَ مَحَل الْخِيَارِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ فَالضَّمَانُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ غَدَا بِانْقِضَاءِ الْخِيَارِ بَيْعًا مُطْلَقًا. وَالضَّمَانُ حِينَئِذٍ بِالثَّمَنِ لأَِنَّهُ هَلَكَ بَعْدَمَا أُبْرِمَ الْبَيْعُ، وَإِبْرَامُهُ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لِعَدَمِ فَسْخِ الْبَائِعِ فِي الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَلأَِنَّ هَلاَكَهُ بِمَثَابَةِ الإِْجَازَةِ (2) .
3 - إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَقَدْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي مَحَل الْخِيَارِ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي خِلاَل مُدَّةِ الْخِيَارِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي، لأَِنَّ الْبَيْعَ قَدِ انْفَسَخَ بِهَلاَكِ الْمَحَل إِذْ كَانَ مَوْقُوفًا، لأَِجْل خِيَارِ الْبَائِعِ، وَلاَ نَفَاذَ لِلْمَوْقُوفِ إِذَا هَلَكَ الْمَحَل، فَبَقِيَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مَقْبُوضًا عَلَى جِهَةِ الْعَقْدِ (أَيِ الْمُعَاوَضَةِ) ، لاَ عَلَى وَجْهِ الأَْمَانَةِ الْمَحْضَةِ كَالإِْيدَاعِ وَالإِْعَارَةِ، لأَِنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهُ إِلاَّ عَلَى جِهَةِ الْعَقْدِ. وَكَذَلِكَ
__________
(1) فتح القدير 5 / 504، والبدائع 5 / 272.
(2) فتح القدير 5 / 504.(20/97)
الشَّافِعِيَّةُ، وَسَوَّوْا بَيْنَ هَذِهِ الْحَالَةِ وَبَيْنَ إِيدَاعِ الْمُشْتَرِي إِيَّاهُ بَعْدَ الْقَبْضِ عِنْدَ الْبَائِعِ.
أَمَّا كَيْفِيَّةُ ضَمَانِهِ فَهُوَ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِالْقِيمَةِ - إِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا (لأَِنَّ ضَمَانَهُ حِينَئِذٍ بِالْمِثْل) - وَالضَّمَانُ بِالْقِيمَةِ، لاَ بِالثَّمَنِ، هُوَ الشَّأْنُ فِيمَا قُبِضَ عَلَى جِهَةِ الْعَقْدِ، كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ (1) .
وَقَدْ جَعَل الْكَاسَانِيُّ ضَمَانَهُ أَوْلَى مِنْ ضَمَانِ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ.
4 - إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَقَدْ قَبَضَ مَحَل الْخِيَارِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، فَالضَّمَانُ مِنْهُ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الضَّمَانَ هُنَا بِالثَّمَنِ.
وَبَيْنَ هَذِهِ الْحَالَةِ وَسَابِقَتِهَا فَرْقٌ مِنْ حَيْثُ كَيْفِيَّةُ الضَّمَانِ فَهُنَا الضَّمَانُ بِالثَّمَنِ، وَهُنَاكَ الضَّمَانُ بِالْقِيمَةِ، وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ إِلَى وَجْهِ الْفَرْقِ، وَتَابَعَهُ الشُّرَّاحُ مُفَصِّلِينَ الْوَجْهَ نَفْسَهُ، بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَهَلَكَ الْمَبِيعُ فَإِنَّهُ بِمَثَابَةِ تَعَيُّبٍ آل إِلَى تَلَفٍ، لأَِنَّ التَّلَفَ لاَ يَعْرَى عَنْ مُقَدِّمَةِ عَيْبٍ، فَبِدُخُول الْعَيْبِ عَلَى مَحَل الْخِيَارِ لاَ يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي (صَاحِبُ الْخِيَارِ) الرَّدَّ عَلَى الْبَائِعِ حَال قِيَامِ الْعَيْبِ، كَائِنًا مَا كَانَ الْعَيْبُ، فَإِذَا اتَّصَل بِهِ الْهَلاَكُ لَمْ يَبْقَ الرَّدُّ
__________
(1) المقبوض على سوم الشراء هو ما أخذه المشتري على قصد الابتياع للنظر والاختبار من غير إبرام البيع فهلك في يده ومن المقرر أن ضمانه هو فيما إذا كان القبض بعد تسمية الثمن، أما إذا لم يسم ثمنًا فلا ضمان في الصحيح (فتح القدير 4 / 504) ، العناية على الهداية بهامش فتح القدير 5 / 504.(20/97)
سَائِغًا، فَيَهْلِكُ الْمَحَل بَعْدَ أَنِ انْبَرَمَ الْعَقْدُ بِمُقَدِّمَاتِ الْهَلاَكِ، وَبِلُزُومِ الْعَقْدِ يَجِبُ الثَّمَنُ لاَ الْقِيمَةُ.
أَمَّا فِي حَالَةِ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ وَتَلَفِ الْمَبِيعِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنَّ تَعَيُّبَ الْمَبِيعِ وَإِشْرَافَهُ عَلَى الْهَلاَكِ لاَ يَمْنَعُ الرَّدَّ حُكْمًا، لأَِنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ لَمْ يَسْقُطْ لأَِنَّهُ لَمْ يَعْجِزْ عَنِ التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ الَّذِي لَوْ رَضِيَ بِهِ يَتَمَكَّنُ مِنَ الاِسْتِرْدَادِ، فَإِذَا هَلَكَ عَلَى مِلْكِهِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ ضَرُورَةً لِعَدَمِ الْمَحَل فَيَكُونُ ضَمَانُهُ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، أَيْ بِالْقِيمَةِ، لاَ بِالثَّمَنِ لِفُقْدَانِ الْعَقْدِ (1) .
32 - أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَالضَّمَانُ مُنْسَجِمٌ مَعَ الْمِلْكِ الَّذِي جَعَلُوهُ ثَابِتًا مُطْلَقًا لِلْبَائِعِ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ أَيْضًا إِلاَّ فِي اسْتِثْنَاءَاتٍ يَدْعُو إِلَيْهَا إِعْوَازُ الْمُشْتَرِي الدَّلِيل عَلَى حُسْنِ نِيَّتِهِ وَعَدَمِ تَفْرِيطِهِ، لأَِنَّ ضَمَانَ الْبَائِعِ لِلتَّلَفِ خَاصٌّ بِمَا لَوْ كَانَ تَلَفًا بِحَادِثٍ سَمَاوِيٍّ، أَوْ ضَيَاعٍ، وَيَتَمَثَّل الأَْصْل فِي صُورَتَيْنِ:
الأُْولَى: إِذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي مَحَل الْخِيَارِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ، إِذْ هُوَ أَقْدَمُ مِلْكًا، فَلاَ يَنْتَقِل الضَّمَانُ عَنْهُ إِلاَّ بِتَمَامِ انْتِقَال مِلْكِهِ (2) .
وَذَلِكَ الأَْصْل ثَابِتٌ فِيمَا إِذَا كَانَ مَحَل الْخِيَارِ مِمَّا لاَ يُغَابُ عَلَيْهِ (أَيْ: مِمَّا لاَ يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ) ، حَيْثُ
__________
(1) الهداية وفتح القدير والعناية والكفاية 5 / 506.
(2) المواق على خليل نقلا عن ابن يونس 4 / 422.(20/98)
لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُ الْمُشْتَرِي فِي دَعْوَاهُ التَّلَفَ دُونَ صُنْعِهِ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ مَحَل الْخِيَارِ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ ثَبَتَ تَلَفُهُ أَوْ ضَيَاعُهُ بِبَيِّنَةٍ (لأَِنَّ هَلاَكَهُ ظَاهِرٌ بِغَيْرِ صُنْعِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي قَبْضِهِ كَالرَّهْنِ وَالْعَارِيَّةِ) .
وَفِيمَا وَرَاءَ هَذَا الأَْصْل، أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى فِيمَا كَانَ مُحْتَرِزًا عَنْهُ بِقُيُودِ الصُّورَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ (صُورَةِ مَا لاَ يُغَابُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَثْبُتْ كَذِبُ الْمُشْتَرِي، وَصُورَةِ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ وَثَبَتَ أَنَّ التَّلَفَ لَيْسَ بِصُنْعِ الْمُشْتَرِي) يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي (1) .
33 - أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ جَاءَ فِي شَرْحِ الرَّوْضِ أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ الْمَبِيعُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ، لأَِنَّهُ يَنْفَسِخُ بِذَلِكَ عِنْدَ بَقَاءِ يَدِهِ، فَعِنْدَ بَقَاءِ مِلْكِهِ أَوْلَى، وَلأَِنَّ نَقْل الْمِلْكِ بَعْدَ التَّلَفِ لاَ يُمْكِنُ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مُودَعًا مَعَ الْبَائِعِ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِتَلَفِهِ لأَِنَّ يَدَهُ كَيَدِ الْمُشْتَرِي وَيَرُدُّ الْبَائِعُ عَلَيْهِ الثَّمَنَ وَلَهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى الْمُشْتَرِي الْقِيمَةُ فِي الْمُتَقَوِّمِ، وَالْمِثْل فِي الْمِثْلِيِّ وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ أَوْ لَهُمَا فَتَلِفَ الْمَبِيعُ بَعْدَ قَبْضِهِ لَمْ يَنْفَسِخَ الْبَيْعُ لِدُخُولِهِ فِي ضَمَانِهِ بِالْقَبْضِ وَلَمْ يَنْقَطِعَ الْخِيَارُ كَمَا لاَ يَمْتَنِعُ
__________
(1) المواق على خليل 4 / 422، والخرشي على خليل 4 / 30، والدسوقي 3 / 104.(20/98)
التَّحَالُفُ بِتَلَفِ الْمَبِيعِ وَلَزِمَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إِنْ تَمَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ فُسِخَ فَالْقِيمَةُ أَوِ الْمِثْل عَلَى الْمُشْتَرِي وَاسْتَرَدَّ الثَّمَنَ، وَلَوْ أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ وَلَوْ بَعْدَ قَبْضِهِ وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ انْفَسَخَ الْبَيْعُ كَمَا فِي صُورَةِ التَّلَفِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَوْ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ وَأَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ وَلَوْ قَبْل الْقَبْضِ لَمْ يَنْفَسِخْ، أَيِ الْبَيْعُ، لِقِيَامِ الْبَدَل اللاَّزِمِ لَهُ مِنْ قِيمَةِ أَوْ مِثْلٍ مَقَامَهُ وَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ لِلْمُشْتَرِي لِفَوَاتِ عَيْنِ الْمَبِيعِ وَالْخِيَارُ بِحَالِهِ وَإِنْ أَتْلَفَهُ الْمُشْتَرِي وَلَوْ قَبْل الْقَبْضِ، وَالْخِيَارُ لَهُ أَوْ لَهُمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الثَّمَنُ، لأَِنَّهُ بِإِتْلاَفِهِ الْمَبِيعَ قَابِضٌ لَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ الْبَائِعُ، وَلَوْ بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَتَلَفِهِ بِآفَةٍ (1) .
34 - وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ جَعَلُوا الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي، وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ ضَمَانَ مَحَل الْخِيَارِ عَلَى الْمُشْتَرِي لأَِنَّهُ مِلْكُهُ، وَغَلَّتُهُ لَهُ فَكَانَ مِنْ ضَمَانِهِ كَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ. وَمَئُونَتُهُ عَلَيْهِ (2) . وَهَذَا عَلَى إِطْلاَقِهِ (قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ) إِذَا كَانَ مَحَل الْخِيَارِ مِنْ غَيْرِ الْمَكِيل أَوِ الْمَوْزُونِ وَنَحْوِهِمَا كَالْمَعْدُودِ وَالْمَذْرُوعِ، شَرِيطَةَ أَنْ لاَ يَكُونَ عَدَمُ الْقَبْضِ نَاشِئًا مِنْ مَنْعِ الْبَائِعِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مَحَل الْخِيَارِ مِنَ الْمَكِيل أَوِ الْمَوْزُونِ وَنَحْوِهِمَا فَلاَ بُدَّ مِنَ الْقَبْضِ لِيَكُونَ ضَمَانُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنْ كَانَ الْقَبْضُ لَمْ يَحْصُل فَالضَّمَانُ
__________
(1) شرح الروض 2 / 54.
(2) المغني لابن قدامة 3 / 153.(20/99)
حِينَئِذٍ عَلَى الْبَائِعِ. وَلاَ يُعْتَبَرُ الْحُكْمُ فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ اسْتِثْنَاءً، بَل هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُول الْحَنَابِلَةِ مِنِ اعْتِبَارِهِمُ الْقَبْضَ ضَمِيمَةً لاَ بُدَّ مِنْهَا فِي الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ لِيَنْتَقِل ضَمَانُهُ عَنِ الْبَائِعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، وَهُوَ حُكْمٌ يَتَّفِقُ فِيهِ الْبَيْعُ الْمُقَيَّدُ بِالْخِيَارِ، وَالْبَيْعُ الْمُطْلَقُ. وَعَلَّلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، وَجَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَبْضِ فِي الْكَيْل وَالْمَوْزُونِ هُوَ اكْتِيَالُهُ أَوْ وَزْنُهُ، وَلَيْسَ مُجَرَّدَ التَّخْلِيَةِ كَمَا هُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَبِالاِكْتِيَال يُعْرَفُ هَل وَصَل إِلَى الْمُشْتَرِي حَقُّهُ كَامِلاً أَمْ نَقَصَ مِنْهُ أَوْ زَادَ عَنْهُ (1) .
أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى زِيَادَةِ الْمَبِيعِ وَغَلَّتِهِ وَنَفَقَتِهِ.
35 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الزَّوَائِدَ الَّتِي قَدْ تَطْرَأُ عَلَى الْمَبِيعِ إِلَى الأَْقْسَامِ التَّالِيَةِ:
1 - الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ، كَالسِّمَنِ فِي الْحَيَوَانِ وَزِيَادَةِ وَزْنِهِ، وَالْبُرْءِ مِنْ دَاءٍ كَانَ فِيهِ، وَالنُّضْجِ فِي الثَّمَرِ، وَالْحَمْل الَّذِي يَحْدُثُ زَمَنَ الْخِيَارِ (أَمَّا الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَهُوَ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ، كَالأُْمِّ، فَيُقَابِلُهُ قِسْطٌ مِنَ الثَّمَنِ عَلَى مَا قَال الشَّافِعِيَّةُ) .
__________
(1) المغني 4 / 219 مع الشرح الكبير وفي المغني: وقبض كل شيء بحسبه، فإن كان مكيلا أو موزونًا بيع كيلا أو وزنًا فقبضه بكيله ووزنه (4 / 220) ، ونحوه في كشاف القناع 3 / 246.(20/99)
2 - الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الأَْصْل، وَمِثَالُهَا: الصَّبْغُ وَالْخِيَاطَةُ، وَالْبِنَاءُ فِي الأَْرْضِ، وَالْغَرْسُ فِيهَا، وَلَتُّ السَّوِيقِ بِسَمْنٍ.
3 - الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الأَْصْلِ، وَمِثَالُهَا: الْوَلَدُ، وَالثَّمَرُ، وَاللَّبَنُ، وَالْبَيْضُ، وَالصُّوفُ.
4 - الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الأَْصْل. وَمِثَالُهَا: غَلَّةُ الْمَأْجُورِ، وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى عُضْوٍ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَالْعُقْرُ وَهُوَ مَا يُعْتَبَرُ مَهْرًا لِلْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ (1) .
هَذَا تَقْسِيمُ الْحَنَفِيَّةِ لِلزَّوَائِدِ، وَهُمْ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عِنَايَةً بِتَنْوِيعِهَا، نَظَرًا لِتَفَاوُتِ أَحْكَامِهَا عِنْدَهُمْ بِحَسَبِ تِلْكَ الأَْنْوَاعِ.
أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَمَا بَيْنَ مُوَحِّدِ النَّظْرَةِ إِلَى الزِّيَادَةِ، أَوْ مُكْتَفٍ بِتَقْسِيمِ الزَّوَائِدِ إِلَى مُتَّصِلَةٍ أَوْ مُنْفَصِلَةٍ، وَإِدَارَةُ الْحُكْمِ عَلَى ذَلِكَ فَقَطْ.
وَإِنَّ لِلزَّوَائِدِ فِي مَحَل الْخِيَارِ أَحْكَامًا أَهَمُّهَا اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا: لِمَنْ يَكُونُ مِلْكُ الزَّوَائِدِ؟ وَالثَّانِي كَوْنُهَا تَمْنَعُ الرَّدَّ، أَيْ تَعْدَمُ الْخِيَارَ بِإِلْزَامِ صَاحِبِهِ بِالإِْجَازَةِ دُونَ الْفَسْخِ. ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْصْل فِي الزِّيَادَةِ أَنَّهَا تَمْنَعُ الرَّدَّ وَيَسْرِي امْتِنَاعُ الرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا سِوَى الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ اتِّفَاقًا، وَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ عَلَى خِلاَفٍ. فَحَيْثُ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ يَنْبَرِمُ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 270، والفتاوى الهندية 3 / 48 نقلا عن السراج الوهاج والنهر الفائق وغيرهما.(20/100)
الْعَقْدُ وَيَلْزَمُ، وَتَكُونُ الزَّوَائِدُ مُطْلَقًا لِلْمُشْتَرِي الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ مِلْكُ الأَْصْل. أَمَّا فِي الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ حَيْثُ لاَ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ، وَفِي الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ حَيْثُ اخْتُلِفَ فِي امْتِنَاعِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَمْلِكُ تِلْكَ الزَّوَائِدَ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي (1) .
الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ:
36 - إِذَا كَانَتْ زَوَائِدُ مَحَل الْخِيَارِ مِنْ نَوْعِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الأَْصْل، فَفِيهَا يَجْرِي الْخِلاَفُ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ. وَهَذَا الْخِلاَفُ لاَ مَجَال لَهُ إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إِمْضَاءَ الْعَقْدِ لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَمَلَّكُ الأَْصْل وَالزَّوَائِدَ اتِّفَاقًا، لأَِنَّهُ بِالإِْمْضَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ الزَّوَائِدَ كَسْبُ مِلْكِهِ فَكَانَتْ مِلْكًا لَهُ، أَمَّا إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الْفَسْخَ وَإِعَادَةَ مَحَل الْخِيَارِ إِلَى الْبَائِعِ فَهَل يُعِيدُ مَعَهَا الزَّوَائِدَ أَمْ لاَ؟ قَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَرُدُّ الأَْصْل مَعَ الزَّوَائِدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ كَانَ مَوْقُوفًا، فَإِذَا حَصَل الْفَسْخُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُل فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَالزِّيَادَةُ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَتُرَدُّ إِلَيْهِ مَعَ الأَْصْل. وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: الْمَبِيعُ دَخَل فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَانَتِ الزَّوَائِدُ حَاصِلَةً عَلَى مِلْكِهِ، فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْفَسْخِ فِي الأَْصْل لاَ فِي الزَّوَائِدِ
__________
(1) البحر الرائق 16 / 15 نقلا عن التتارخانية، ونقله عنها ابن عابدين أيضًا 4 / 54.(20/100)
لأَِنَّهَا بَقِيَتْ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذُهَا هُوَ (1) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْخِلاَفِ الْكَبِيرِ السَّابِقِ.
الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ:
37 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ. وَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّهُ حَيْثُ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ يَتَمَلَّكُ صَاحِبُ الْخِيَارِ الأَْصْل وَالزِّيَادَةَ، لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ بِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَنَّهُ الْمَالِكُ لِمَحَل الْخِيَارِ فَيَمْلِكُ زَوَائِدَهُ مَهْمَا كَانَ وَصْفُهَا. وَعِنْدَ الإِْمَامِ مُحَمَّدٍ لاَ يَبْطُل الْخِيَارُ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ بَيْنَ الإِْمْضَاءِ وَالْفَسْخِ، (2) .
وَيَكُونُ مَصِيرُ هَذِهِ الصُّورَةِ مُمَاثِلاً لِلصُّورَةِ السَّابِقَةِ (صُورَةِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ) حَيْثُ يَظَل صَاحِبُ الْخِيَارِ مُتَمَكِّنًا مِنَ اسْتِعْمَال خِيَارِهِ.
أَحْكَامُ الزَّوَائِدِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ:
لِلْمَالِكِيَّةِ مَنْحًى آخَرُ فِي شَأْنِ الزَّوَائِدِ، فَهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا إِلَى الاِتِّصَال وَالاِنْفِصَال، كَمَا لَمْ يَعْتَبِرُوا التَّوَلُّدَ عَلَى إِطْلاَقِهِ، بَل خَصُّوا مَا يُعْتَبَرُ جُزْءًا بَاقِيًا مِنَ الْمَبِيعِ فَاعْتَبَرُوهُ لاَ يَنْفَصِل عَنْهُ فِي الْعَقْدِ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِالْوَلَدِ وَالصُّوفِ، فَالْوَلَدُ لأَِنَّهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 270، والفتاوى الهندية 3 / 48 نقلا عن السراج الوهاج، شرح المجلة للأتاسي 2 / 243، والبحر الرائق 6 / 26.
(2) البدائع 2 / 270، والفتاوى الهندية 3 / 48.(20/101)
لَيْسَ بِغَلَّةٍ - وَمِثْلُهُ الصُّوفُ - تَمَّ أَمْ لاَ " لأَِنَّهُمَا كَجُزْءِ الْمَبِيعِ، أَيْ أَنَّ الْوَلَدَ كَالْجُزْءِ الْبَاقِي، بِخِلاَفِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ كَجُزْءٍ فَاتَ وَهُوَ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ " (1) يَكُونُ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي، وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ لِلْبَائِعِ، لأَِنَّهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الأَْصْل - زَمَنَ الْخِيَارِ - يَظَل لِلْبَائِعِ حَتَّى يَسْتَعْمِل صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ الزَّوَائِدُ كُلُّهَا - عَدَا الْوَلَدِ وَالصُّوفِ - لِلْبَائِعِ.
وَمِنْ ذَلِكَ:
1 - الْغَلَّةُ الْحَادِثَةُ زَمَنَ الْخِيَارِ مِنْ لَبَنٍ وَسَمْنٍ وَبَيْضٍ، لِلْبَائِعِ أَيْضًا.
2 - أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَبِيعِ بِالْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَيْضًا (2) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَتْ زَوَائِدُ مُنْفَصِلَةٌ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، كَاللَّبَنِ وَالْبَيْضِ وَالثَّمَرِ، فَهِيَ لِمَنْ لَهُ الْمِلْكُ وَهُوَ مَنِ انْفَرَدَ بِالْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ كَحُكْمِ الْبَيْعِ نَفْسِهِ، فَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ فَهِيَ لِلْبَائِعِ وَإِلاَّ فَلِلْمُشْتَرِي. أَمَّا الزَّوَائِدُ الْمُتَّصِلَةُ فَتَابِعَةٌ لِلأَْصْل.
وَالْحَمْل الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْبَيْعِ كَالأَْصْل فِي أَنَّهُ
__________
(1) الدسوقي على الدردير 3 / 104، الخرشي 4 / 30.
(2) الدردير على خليل بحاشية الدسوقي 3 / 103 - 104، والمواق على خليل 4 / 422.(20/101)
مَبِيعٌ لِمُقَابَلَتِهِ بِقِسْطٍ مِنَ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ بِيعَ مَعَهُ بَعْدَ الاِنْفِصَال لاَ كَالزَّوَائِدِ (1) . أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَالزَّوَائِدُ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا، وَيَشْتَمِل ذَلِكَ عَلَى الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ كَالْكَسْبِ وَالأُْجْرَةِ بَل لَوْ كَانَتْ نَمَاءً مُنْفَصِلاً مُتَوَلِّدًا مِنْ عَيْنِ الْمَبِيعِ كَالثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْل الْقَبْضِ (وَفِي هَذِهِ الْحَال تُعْتَبَرُ الزَّوَائِدُ أَمَانَةً عِنْدَ الْبَائِعِ فَلاَ يَضْمَنُهَا لِلْمُشْتَرِي إِنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَعَدٍّ وَلاَ تَفْرِيطٍ خِلاَفًا لِحُكْمِ الْمَبِيعِ نَفْسِهِ فَهُوَ مَضْمُونٌ قَبْل قَبْضِهِ) وَسَوَاءٌ تَمَخَّضَ الْخِيَارُ عَنْ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ.
وَقَدِ اسْتَدَل ابْنُ قُدَامَةَ لِلْمَذْهَبِ بِحَدِيثِ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (2) . وَهَذَا مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَاسْتَدَل لَهُ أَيْضًا بِانْتِقَال الْمِلْكِ إِلَى الْمُشْتَرِي، أَيْ فَهِيَ تَتْبَعُهُ فِي الاِنْتِقَال (3) .
رَابِعًا: أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلَيْنِ
38 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ تَسْلِيمُ الْبَدَلَيْنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فِي حَال الإِْطْلاَقِ وَعَدَمِ
__________
(1) شرح الروض 2 / 53.
(2) حديث: " الخراج بالضمان "، أخرجه أبو داود (3 / 780 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير لابن حجر (3 / 22 - ط. شركة الطباعة الفنية) .
(3) كشاف القناع 3 / 207 - 208، والمغني لابن قدامة 4 / 37، والشرح الكبير على المقنع 4 / 71.(20/102)
اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ ابْتِدَاءً، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الثَّمَنِ ابْتِدَاءً لاِحْتِمَال الْفَسْخِ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةُ الْخِيَارِ، أَوْ يُسْقِطُ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ (1) .
أَمَّا التَّسْلِيمُ لِلثَّمَنِ أَوِ الْمَبِيعِ اخْتِيَارًا وَطَوَاعِيَةً فَلاَ مَانِعَ مِنْهُ عِنْدَهُمْ أَيْ لاَ يَبْطُل الْخِيَارُ (2) ، فَإِذَا بَادَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا إِلَى تَسْلِيمِ مَا بِيَدِهِ - فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ - فَهُوَ جَائِزٌ، لأَِيٍّ مِنْهُمَا كَانَ الْخِيَارُ، وَلاَ أَثَرَ لِلتَّسْلِيمِ عَلَى الْخِيَارِ فَنَقْدُ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ أَوْ دَفْعُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي لاَ يُبْطِل الْخِيَارَ شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمُ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهِ الاِخْتِبَارِ وَالنَّظَرِ فِي صُلُوحِهِ أَوْ عَدَمِهِ، أَمَّا إِنْ سَلَّمَهُ الْمَبِيعَ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ - وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ - فَإِنَّ خِيَارَهُ يَبْطُلُ، (3) .
وَإِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا تَطَوُّعًا فَامْتَنَعَ الآْخَرُ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، فَأَبُو حَنِيفَةَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ الآْخَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ أَيًّا كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ وَلَهُ اسْتِرْدَادُهُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ إِجْبَارِ الآْخَرِ أَيْضًا وَهُمْ يَقُولُونَ: بِأَنَّ لِمَنْ سَلَّمَ
__________
(1) فتح القدير 5 / 499، والهندية 3 / 42، والبحر الرائق 6 / 15، والمغني 3 / 518.
(2) الدسوقي 3 / 94، 96، والمجموع 9 / 221 - 223، شرح الروض 2 / 54، والبحر الرائق 6 / 54، المجموع 9 / 223.
(3) فتاوى قاضيخان 2 / 179، والبحر الرائق 6 / 10، نقلا عن جامع الفصولين 1 / 244.(20/102)
مُؤَمِّلاً التَّسْلِيمَ مِنْ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَحْدُثْ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ (1) .
سُقُوطُ الْخِيَارِ:
39 - يَسْقُطُ الْخِيَارُ قَبْل اسْتِعْمَالِهِ بِعَدَدٍ مِنَ الأَْسْبَابِ هِيَ: الْبُلُوغُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الَّذِي عَقَدَ عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ، وَالْجُنُونُ وَنَحْوُهُ، وَمَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ عَلَى خِلاَفٍ فِي هَذَا السَّبَبِ الأَْخِيرِ:
أ - بُلُوغُ الصَّبِيِّ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ:
40 - يَرَى الإِْمَامُ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ دُخُول الصَّغِيرِ صَاحِبِ الْخِيَارِ فِي طَوْرِ الْبُلُوغِ، فِي مُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْخِيَارَاتِ الْمُحَدَّدَةِ بِوَقْتٍ يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ لِلْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ سَعْيًا مِنْهُمَا لِمَصْلَحَةِ الصَّبِيِّ، وَيَلْزَمُ بِهِ الْعَقْدُ. أَمَّا الإِْمَامُ مُحَمَّدٌ، فَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّ الْخِيَارَ لاَ يَسْقُطُ، ثُمَّ تَعَدَّدَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ فِي مَصِيرِ الْخِيَارِ بَعْدَئِذٍ هَل يَنْتَقِل إِلَى الصَّغِيرِ فِي الْمُدَّةِ أَوْ بِدُونِ تَحْدِيدِ مُدَّةٍ، أَوْ يَبْقَى لِلْوَصِيِّ أَوِ الْوَلِيِّ؟ (2)
وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ب - طُرُوءُ الْجُنُونِ وَنَحْوِهِ:
41 - قَدْ يَطْرَأُ الْجُنُونُ عَلَى الْعَاقِدِ صَاحِبِ
__________
(1) البحر الرائق 6 / 54 المراجع السابقة للحنفية، والفتاوى الهندية 3 / 42، وشرح الروض 2 / 54.
(2) البدائع 5 / 267 - 268، الفتاوى الهندية 3 / 54، قاضيخان 2 / 200.(20/103)
الْخِيَارِ، وَمِثْلُهُ (مَا هُوَ فِي حُكْمِهِ مِنْ حَيْثُ ذَهَابُ الْعَقْل وَعَجْزُ الإِْنْسَانِ عَنْ إِظْهَارِ مَوْقِفِهِ، كَالإِْغْمَاءِ وَالنَّوْمِ أَوِ السَّكْتَةِ) فَإِذَا بَقِيَ ذَلِكَ حَتَّى اسْتَغْرَقَ وَقْتَ الْخِيَارِ مِنْ حَالَةِ تَوْقِيتِهِ سَقَطَ الْخِيَارُ. لَكِنَّ سُقُوطَهُ لَيْسَ لِكَوْنِ الْجُنُونِ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْخِيَارِ، بَل لاِنْقِضَاءِ الْمُدَّةِ دُونَ صُدُورِ فَسْخٍ مِنْهُ، فَالْجُنُونُ نَفْسُهُ لَيْسَ مُسْقِطًا بَل اسْتِغْرَاقُ الْوَقْتِ كُلِّهِ دُونَ فَسْخٍ، وَلِذَا لَوْ أَفَاقَ خِلاَل الْمُدَّةِ كَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا فِي الأَْصَحِّ لَدَى الْحَنَفِيَّةِ. قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الإِْغْمَاءَ وَالْجُنُونَ لاَ يُسْقِطَانِ الْخِيَارَ وَإِنَّمَا الْمُسْقِطُ لَهُ مُضِيُّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ. وَاخْتُلِفَ فِي السُّكْرِ هَل هُوَ فِي حُكْمِ الْجُنُونِ أَمْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَحْصُل مِنْهُ بِالْبَنْجِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْوَسَائِل الْمُسْتَخْدَمَةِ فِي الطِّبِّ، وَبَيْنَ السُّكْرِ بِالْمُحَرَّمِ. وَيُنْظَرُ فِي الْمُطَوَّلاَتِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ جُنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ وَعُلِمَ أَنَّهُ لاَ يَفِيقُ أَوْ يَفِيقُ بَعْدَ طُولٍ يَضُرُّ الصَّبْرُ إِلَيْهِ بِالآْخَرِ، نَظَرَ السُّلْطَانُ فِي الأَْصْلَحِ لَهُ، أَيْ لاَ يَسْقُطُ الْخِيَارُ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي انْتِقَال الْخِيَارِ (2) .
ج - تَغَيُّرُ مَحَل الْخِيَارِ:
42 - إِذَا كَانَ تَغَيُّرُ مَحَل الْخِيَارِ بِالْهَلاَكِ وَالتَّعَيُّبِ أَوِ النُّقْصَانِ، فَإِنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ بِهَلاَكِ الْمَبِيعِ قَبْل
__________
(1) الهندية 3 / 43، البحر 6 / 50.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 103.(20/103)
الْقَبْضِ بِلاَ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أُسْوَةً بِالْعَقْدِ الْبَاتِّ، فَهَذَا أَوْلَى، لأَِنَّهُ أَضْعَفُ مِنْهُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْخِيَارِ. أَمَّا إِنْ كَانَ الْهَلاَكُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْمَذَاهِبُ، فَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا (1) . وَهُوَ بِمَثَابَةِ الْفَسْخِ لِلْعَقْدِ وَسُقُوطِ الْخِيَارِ تَبَعًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَيَرْبِطُونَهُ بِمَسْأَلَةِ انْتِقَال الْمِلْكِ، فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَفْتَرِقُ بَيْنَ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ أَوْ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِي - فَالْمِلْكُ لِلْبَائِعِ - فَإِذَا هَلَكَ لَمْ تُمْكِنُ الْمُبَادَلَةُ عَلَيْهِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَيَبْطُل الْخِيَارُ. أَمَّا إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَالْهَلاَكُ فِي عِدَادِ مُسْقِطَاتِ الْخِيَارِ الَّتِي يَلْزَمُ بِهَا الْعَقْدُ لأَِنَّهُ عَجْزٌ عَنِ التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ حِينَ أَشْرَفَتِ السِّلْعَةُ عَلَى الْهَلاَكِ. وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، لأَِنَّ الْمِلْكَ لِلْبَائِعِ وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لَهُمَا مَعًا، فَلاَ أَثَرَ لِلْهَلاَكِ عَلَى الْعَقْدِ أَوِ الْخِيَارِ إِنَّمَا تَتَأَثَّرُ تَصْفِيَةُ هَذَا الْعَقْدِ، فَإِنِ اخْتَارَ صَاحِبُ الْخِيَارِ الإِْمْضَاءَ فَالْوَاجِبُ هُوَ الثَّمَنُ وَإِنِ اخْتَارَ الْفَسْخَ فَالْوَاجِبُ رَدُّ الْمِثْل أَوِ الْقِيمَةِ بَدَلاً مِنَ الْمَبِيعِ (3) .
__________
(1) المغني 3 / 509، مطالب أولي النهى 3 / 99، كشاف القناع 3 / 209.
(2) الخرشي 4 / 31، الحطاب 4 / 423، الدسوقي 3 / 105.
(3) البدائع 5 / 269 و 272، فتح القدير 5 / 117، المبسوط 13 / 44، المجموع 9 / 219.(20/104)
وَمِثْل الْهَلاَكِ النُّقْصَانُ بِالتَّعَيُّبِ بِمَا لاَ يَحْتَمِل الاِرْتِفَاعَ أَوْ لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ مَهْمَا كَانَ قَدْرُهُ أَوْ فَاعِلُهُ، لإِِخْلاَل النُّقْصَانِ بِشَرْطِ رَدِّ الْمَبِيعِ كَمَا قُبِضَ. أَمَّا لَوْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْمَرَضِ فَالْخِيَارُ بَاقٍ وَلاَ يُرَدُّ حَتَّى يَبْرَأَ فِي الْمُدَّةِ فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ يَبْرَأْ لَزِمَ الْبَيْعُ.
43 - وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ بِالزِّيَادَةِ: إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَلاَ خِلاَفَ أَنَّهَا لاَ أَثَرَ لَهَا فِي سُقُوطِ الْخِيَارِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَلاَ أَثَرَ لَهَا أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَهْمَا كَانَ نَوْعُهَا وَكَذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ، أَمَّا الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الأَْصْل فَإِنَّهَا تُسْقِطُ الْخِيَارَ لِتَعَذُّرِ وُرُودِ الْفَسْخِ عَلَيْهَا، لأَِنَّهَا غَيْرُ مَبِيعٍ، فَالرَّدُّ بِدُونِهَا مُؤَدٍّ لِشُبْهَةِ الرِّبَا، وَإِنْ رَدَّهَا مَعَ الأَْصْل كَانَ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ (1) .
د - إِمْضَاءُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ
44 - إِذَا تَعَاقَدَ شَرِيكَانِ مَعَ آخَرَ عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فَأَجَازَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآْخَرِ سَقَطَ الْخِيَارُ بِالنِّسْبَةِ لَهُمَا جَمِيعًا وَلَزِمَ الْعَقْدُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، بِحَيْثُ لاَ يَمْلِكُ الشَّرِيكُ الآْخَرُ الْفَسْخَ، أَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ فَالْخِيَارُ لاَ يَسْقُطُ
__________
(1) البدائع 5 / 264 و 286، وفتح القدير والعناية 5 / 160، كشاف القناع 2 / 51 ط1، الخرشي 5 / 120، مغني المحتاج 2 / 482.(20/104)
عَمَّنْ لَمْ يُجِزِ الْعَقْدَ بَل يَبْقَى خِيَارُهُ عَلَى حَالِهِ (1) .
وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
هـ - مَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ
45 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى سُقُوطِ الْخِيَارِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَمْ لِلْمُشْتَرِي، وَسَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ أَصِيلاً أَمْ نَائِبًا (وَكِيلاً، أَوْ وَصِيًّا، أَوْ وَلِيًّا) فَبِمَوْتِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ يَسْقُطُ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى بَقَاءِ الْخِيَارِ لِلْوَرَثَةِ، فَمَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ عِنْدَ هَؤُلاَءِ لَيْسَ مُسْقِطًا، بَل هُوَ نَاقِلٌ فَقَطْ.
أَمَّا وَفَاةُ مَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فَلاَ يَسْقُطُ بِهَا الْخِيَارُ، بَل يَبْقَى الْخِيَارُ لِصَاحِبِهِ وَيَكُونُ رَدُّهُ إِنْ شَاءَ الرَّدَّ فِي مُوَاجِهَةِ الْوَرَثَةِ، قَال السَّرَخْسِيُّ: وَأَجْمَعُوا (أَيِ الْحَنَفِيَّةُ) أَنَّهُ إِذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فَإِنَّ الْخِيَارَ بَاقٍ (2) .
انْتِهَاءُ الْخِيَارِ:
46 - يَنْتَهِي خِيَارُ الشَّرْطِ بِأَحَدِ سَبَبَيْنِ:
__________
(1) الفتاوى الهندية 3 / 43، البحر 6 / 20.
(2) المبسوط 13 / 42، الشرح الصغير 2 / 144، مغني المحتاج 2 / 45.(20/105)
الأَْوَّل: إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِإِجَازَتِهِ أَوْ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ دُونَ فَسْخٍ،
وَالثَّانِي: فَسْخُ الْعَقْدِ.
السَّبَبُ الأَْوَّل: إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالإِْجَازَةِ أَوْ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ دُونَ فَسْخٍ:
47 - يَنْتَهِي الْخِيَارُ بِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ إِمَّا بِإِجَازَتِهِ، وَإِمَّا بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ.
إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالإِْجَازَةِ:
48 - إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالإِْجَازَةِ يُنْهِي الْخِيَارَ بِالاِتِّفَاقِ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي الْعَقْدِ اللُّزُومُ وَالاِمْتِنَاعُ يُعَارِضُ الْخِيَارَ وَقَدْ بَطَل بِالإِْجَازَةِ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ (1) .
أَنْوَاعُ الإِْجَازَةِ:
49 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الإِْجَازَةَ إِلَى نَوْعَيْنِ: صَرِيحٍ أَوْ شِبْهِ الصَّرِيحِ، وَدَلاَلَةٍ.
فَالصَّرِيحُ، بِالنِّسْبَةِ لِلْبَائِعِ، أَنْ يَقُول: أَجَزْتُ الْعَقْدَ - أَوِ الْبَيْعَ مَثَلاً - أَوْ أَمْضَيْتُهُ أَوْ أَوْجَبْتُهُ، أَوْ أَلْزَمْتُهُ، أَوْ رَضِيتُهُ، أَوْ أَسْقَطْتُ الْخِيَارَ، أَوْ أَبْطَلْتُهُ. وَشِبْهُ الصَّرِيحِ مَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَعَلِمَ الْمُشْتَرِي الإِْجَازَةَ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ (2) . وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ صَاحِبَ الْخِيَارِ لَوْ
__________
(1) البدائع 5 / 267، الشرح الصغير 3 / 142، مغني المحتاج 2 / 49، كشاف القناع 3 / 207.
(2) البدائع 5 / 267، فتح القدير 5 / 120، الهندية 3 / 42.(20/105)
قَال: هَوِيتُ أَخْذَهُ، أَوْ أَحْبَبْتُ، أَوْ أَعْجَبَنِي، أَوْ وَافَقَنِي لاَ يَبْطُل خِيَارُهُ (1) .
أَمَّا الدَّلاَلَةُ فَهِيَ أَنْ يَتَصَرَّفَ صَاحِبُ الْخِيَارِ فِي مَحَل الْخِيَارِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ، كَالْبَيْعِ، وَالْمُسَاوَمَةِ، وَالإِْجَارَةِ، وَالْهِبَةِ، وَالرَّهْنِ، سَلَّمَ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ. لأَِنَّ جَوَازَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ، فَالإِْقْدَامُ عَلَيْهَا يَكُونُ دَلِيل قَصْدِ التَّمَلُّكِ، أَوْ تَقَرُّرِ الْمِلْكِ - عَلَى اخْتِلاَفِ الأَْصْلَيْنِ - وَذَلِكَ دَلِيل الإِْمْضَاءِ (2) . هَذَا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَإِذَا كَانَ لِلْبَائِعِ فَالدَّلاَلَةُ عَلَى الإِْمْضَاءِ فِي حَقِّهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ قَبْضِهِ بِالْبَيْعِ أَوْ نَحْوِهِ، إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.
هَذَا وَلاَ يُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْمَحَل لِلإِْجَازَةِ، ذَلِكَ أَنَّهُ فِي الإِْجَازَةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ، وَلَيْسَ الإِْنْشَاءِ، فَبِالإِْجَازَةِ يَظْهَرُ أَنَّ الْعَقْدَ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ انْعَقَدَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَالْمَحَل كَانَ قَابِلاً وَقْتَ الْعَقْدِ فَهَلاَكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ الإِْجَازَةَ (3) .
كَمَا لاَ يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْعَاقِدِ الآْخَرِ بِالإِْجَازَةِ (4) . فَلَوْ أَجَازَ الْعَقْدَ فَإِنَّهُ لاَزِمٌ مُنْذُ
__________
(1) الهندية، نقلا عن البحر الرائق، (3 / 42) وهو في البحر (6 / 20) منقولا عن جامع الفصولين.
(2) البدائع 5 / 268.
(3) البدائع 5 / 264.
(4) الهداية وفتح القدير 5 / 120.(20/106)
الإِْجَازَةِ سَوَاءٌ أَبْلَغَ الْعَاقِدُ الآْخَرَ ذَلِكَ أَمْ لاَ.
وَنَحْوُ هَذَا التَّقْسِيمِ جَاءَ فِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى (1) .
إِنْهَاءُ الْخِيَارِ بِعِوَضٍ:
50 - جَاءَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ صَاحِبَ الْخِيَارِ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ، أَوْ عَلَى عَرَضٍ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْخِيَارَ وَيُمْضِيَ الْبَيْعَ جَازَ ذَلِكَ وَيَكُونُ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ. وَكَذَا لَوْ كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ هُوَ الْمُشْتَرِي فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْخِيَارَ فَيَحُطَّ عَنْهُ مِنَ الثَّمَنِ كَذَا أَوْ يَزِيدَهُ هَذَا الْعَرَضَ بِعَيْنِهِ فِي الْبَيْعِ جَازَ ذَلِكَ أَيْضًا (2) .
ثَانِيًا - انْتِهَاءُ الْخِيَارِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ:
51 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - فِي الْجُمْلَةِ - عَلَى أَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ يَنْتَهِي بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ، ذَلِكَ لأَِنَّهُ خِيَارٌ مُؤَقَّتٌ بِمُدَّةٍ (سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِتَحْدِيدِ الْعَاقِدِ، أَمْ بِتَقْدِيرِ الشَّارِعِ فِي حَال الإِْطْلاَقِ) ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي وُقِّتَ بِهَا الْخِيَارُ فَمِنَ الْبَدَهِيِّ أَنْ يَنْتَهِيَ بِمُضِيِّهَا " لأَِنَّ الْمُؤَقَّتَ إِلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ ". (3) وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ مَنَعَ
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 142، مغني المحتاج 2 / 49، كشاف القناع 3 / 207.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 45.
(3) فتح القدير 5 / 268، البدائع 5 / 267، وحاشية القليوبي على شرح المنهج 2 / 195.(20/106)
مِنْ لُزُومِ الْعَقْدِ تِلْكَ الْمُدَّةَ - وَالأَْصْل هُوَ اللُّزُومُ - فَبِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يَثْبُتُ مُوجِبُ الْعَقْدِ، وَتَرْكُ صَاحِبِ الْخِيَارِ الْفَسْخَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ رِضًا مِنْهُ بِالْعَقْدِ.
عَلَى ذَلِكَ تَوَارَدَتْ نُصُوصُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، خِلاَفًا لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنْهُمْ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ قَائِلُونَ بِأَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ يُنْهِي الْخِيَارَ، غَيْرَ أَنَّ لَهُمُ اتِّجَاهًا خَاصًّا فِيمَا يُنْتَجُ عَنْ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْحَال عِنْدَ غَيْرِهِمُ اعْتِبَارَهُ إِمْضَاءً لِلْعَقْدِ مِنْ صَاحِبِ الْخِيَارِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ انْتِهَاءٌ لِلْخِيَارِ وَلَيْسَ إِمْضَاءً لِلْعَقْدِ إِلاَّ حَيْثُ تَنْقَضِي الْمُدَّةُ، وَالْمَبِيعُ بِيَدِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي (مَثَلاً) كَانَ تَرْكُ الْمَبِيعِ فِي يَدِهِ بِمَثَابَةِ الإِْمْضَاءِ وَلُزُومِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَانْقَضَى الأَْمَدُ - وَالْمَبِيعُ فِي يَدِهِ - فَذَلِكَ بِمَثَابَةِ الْفَسْخِ مِنَ الْبَائِعِ. هَذَا مِنْ حَيْثُ أَدَاؤُهُ إِلَى إِمْضَاءِ الْعَقْدِ. أَمَّا اعْتِبَارُ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَسْخًا أَوْ إِجَازَةً فَيُنْظَرُ إِلَى مَنْ يَنْقَضِي زَمَنُ الْخِيَارِ وَالْمَبِيعُ بِيَدِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبَ الْخِيَارِ أَمْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ بِيَدِ الْبَائِعِ آنَئِذٍ فَهُوَ فَسْخٌ، وَإِنْ كَانَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ إِمْضَاءٌ، قَال الدُّسُوقِيُّ: " يَلْزَمُ
__________
(1) المغني 3 / 592، والشرح الكبير على المقنع 4 / 69 - 71، ومطالب أولي النهى 3 / 94 - 96، وكشاف القناع 3 / 251 - 254.(20/107)
الْمَبِيعُ بِالْخِيَارِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ مِنْهُمَا كَانَ صَاحِبَ الْخِيَارِ أَوْ غَيْرَهُ بِانْقِضَاءِ زَمَنِ الْخِيَارِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ وَهُوَ الْيَوْمُ وَالْيَوْمَانِ. وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي كُتُبِهِمْ (1) .
السَّبَبُ الثَّانِي: انْتِهَاءُ الْخِيَارِ بِفَسْخِ الْعَقْدِ
52 - يَنْقَسِمُ الْفَسْخُ إِلَى صَرِيحٍ وَدَلاَلَةٍ، أَوْ بِنَظْرَةٍ أُخْرَى إِلَى فَسْخٍ قَوْلِيٍّ، وَفَسْخٍ فِعْلِيٍّ، فَالْفَسْخُ الْقَوْلِيُّ أَوِ الصَّرِيحُ يَقَعُ بِمِثْل قَوْلِهِ: فَسَخْتُ الْبَيْعَ، أَوِ اسْتَرْجَعْتُ الْمَبِيعَ، أَوْ رَدَدْتُهُ، أَوْ رَدَدْتُ الثَّمَنَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكُل هَذَا فَسْخٌ صَرِيحٌ، وَمِنْهُ قَوْل الْبَائِعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ: لاَ أَبِيعُ حَتَّى تَزِيدَ فِي الثَّمَنِ، مَعَ قَوْل الْمُشْتَرِي لاَ أَفْعَل، وَكَذَلِكَ مِنْهُ عَكْسُ هَذِهِ الصُّورَةِ بِأَنْ يَقُول الْمُشْتَرِي: لاَ أَشْتَرِي حَتَّى يُنْقِصَ عَنِّي مِنَ الثَّمَنِ، عَلَى قَوْل الْبَائِعِ لاَ أَفْعَل. وَكَذَا مِنْهُ طَلَبُ الْبَائِعِ حُلُول الثَّمَنِ الْمُؤَجَّل، وَطَلَبُ الْمُشْتَرِي تَأْجِيل الثَّمَنِ الْحَال فَكُل هَذَا فَسْخٌ (2) .
وَصُورَةُ الْفَسْخِ دَلاَلَةً - وَيُسَمَّى الْفَسْخَ الْفِعْلِيَّ - (أَوِ الْفَسْخَ بِالْفِعْل كَمَا سَمَّاهُ ابْنُ الْهُمَامِ) :
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 23، الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 95، الحطاب والمواق 4 / 416، الصاوي 2 / 125.
(2) البحر الرائق 6 / 20، المجموع 9 / 202، فتح القدير 5 / 122، الخرشي 5 / 120، كشاف القناع 2 / 51، شرح الروض 2 / 53.(20/107)
أَنْ يَتَصَرَّفَ صَاحِبُ الْخِيَارِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الْمَبِيعِ. هَذَا إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ هُوَ الْبَائِعُ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِي فَبِأَنْ يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الثَّمَنِ، شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ عَيْنًا. أَمَّا إِنْ كَانَ دَيْنًا فَلاَ يُتَصَوَّرُ الْفَسْخُ دَلاَلَةً فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَلِذَلِكَ أَغْفَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ مُقْتَصِرًا عَلَى تَصْوِيرِهِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، لأَِنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ فِي الثَّمَنِ - وَهُوَ دَيْنٌ - يُحْمَل عَلَى أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ الْخَاصِّ لاَ فِي الثَّمَنِ " لأَِنَّ الأَْثْمَانَ لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ". (1)
وَالسَّبَبُ فِي الاِعْتِدَادِ بِالتَّصَرُّفِ كَالْمُلاَّكِ فِي إِسْقَاطِ الْخِيَارِ أَنَّ الْخِيَارَ إِذَا كَانَ لِلْبَائِعِ فَتَصَرُّفُهُ فِي الْمَبِيعِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ دَلِيل اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ. إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَتَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الثَّمَنِ إِذَا كَانَ عَيْنًا دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ. وَاسْتِبْقَاءُ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالْفَسْخِ، فَالإِْقْدَامُ عَلَى التَّصَرُّفِ الْمَذْكُورِ يَكُونُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ دَلاَلَةً، قَال ابْنُ الْهُمَامِ، وَمِنْ قَبْلِهِ الْكَاسَانِيُّ: " وَالْحَاصِل أَنَّ مَا وُجِدَ مِنَ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ لَوْ وُجِدَ مِنْهُ فِي الثَّمَنِ لَكَانَ إِجَازَةً لِلْبَيْعِ: يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ دَلاَلَةً ".
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 267، فتح القدير 5 / 121، والفتاوى الهندية 3 / 43، المجموع للنووي 5 / 201، الحطاب 4 / 419، وجامع الفصولين 1 / 244.(20/108)
وَالْفَسْخُ دَلاَلَةً مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الآْخَرِ بِهِ، أَمَّا فِي الْفَسْخِ الصَّرِيحِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَفِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
ثُمَّ إِنَّ لِلْفَسْخِ دَلاَلَةً بَعْدَ هَذَا الضَّابِطِ تَفَارِيعَ مِنْهَا:
- أَكْل الْمَبِيعِ وَشُرْبُهُ وَلُبْسُهُ، يُسْقِطُ الْخِيَارَ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: إِذَا لَبِسَهُ مَرَّةً لاَ يَبْطُل خِيَارُهُ.
- النَّسْخُ مِنَ الْكِتَابِ، لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، لاَ يُسْقِطُ الْخِيَارَ، وَلَوْ دَرَسَ فِيهِ يَسْقُطُ.
- رُكُوبُ الدَّابَّةِ لِيَسْقِيَهَا، أَوْ يَرُدَّهَا، وَيَعْلِفَهَا، إِجَازَةٌ. وَقِيل: إِنْ كَانَ لاَ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِدُونِ الرُّكُوبِ لاَ يَكُونُ إِجَازَةً. وَأَطْلَقَ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّهُ لاَ يَبْطُل خِيَارُهُ فَقَال: وَرُكُوبُهَا لِيَسْقِيَهَا أَوْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ لاَ يُبْطِل خِيَارَهُ اسْتِحْسَانًا، فَجَعَلَهُ مِنَ الاِسْتِحْسَانِ.
- بَيْعُ مَحَل الْخِيَارِ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ هِبَتُهُ أَوْ رَهْنُهُ - مَعَ التَّسْلِيمِ - مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ، أَمَّا لَوْ وَهَبَهُ أَوْ رَهَنَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْ لاَ يَنْفَسِخُ.
- إِيجَارُ مَحَل الْخِيَارِ فَسْخٌ وَلَوْ لَمْ يُسَلِّمْ، وَقِيل: لَيْسَ فَسْخًا مَا لَمْ يُسَلِّمْ.
- تَسْلِيمُ مَحَل الْخِيَارِ إِلَى الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَفَرَّقَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْفَضْل بَيْنَ التَّسْلِيمِ عَلَى وَجْهِ الاِخْتِيَارِ فَلاَ يُبْطِل خِيَارَهُ وَلاَ يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي،
__________
(1) البدائع 5 / 272، وفتح القدير 5 / 121، والفتاوى الهندية 3 / 43.(20/108)
وَالتَّسْلِيمُ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ فَيَبْطُل خِيَارُهُ.
قَال الزَّيْلَعِيُّ: وَكَذَا كُل تَصَرُّفٍ لاَ يَحِل إِلاَّ فِي الْمِلْكِ، وَكَذَا كُل تَصَرُّفٍ لاَ يَنْفُذُ إِلاَّ فِي الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ (1) .
شَرَائِطُ الْفَسْخِ:
53 - يُشْتَرَطُ لاِعْتِبَارِ الْفَسْخِ نَافِذًا الشَّرَائِطُ التَّالِيَةُ:
1 - قِيَامُ الْخِيَارِ، لأَِنَّ الْخِيَارَ إِذَا زَال، بِالسُّقُوطِ مَثَلاً، يَلْزَمُ الْعَقْدُ، فَلاَ أَثَرَ لِلْفَسْخِ حِينَئِذٍ.
2 - عِلْمُ الْعَاقِدِ الآْخَرِ بِالْفَسْخِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْمَرَاجِعِ الْفِقْهِيَّةِ بِعِبَارَةِ الْفَسْخِ بِحَضْرَةِ الْعَاقِدِ، وَعَكْسُهُ الْفَسْخُ فِي غَيْبَتِهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَضْرَةِ، الْعِلْمُ لاَ الْحُضُورُ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنْ جَرَى الْفَسْخُ مِنْ صَاحِبِ الْخِيَارِ دُونَ عِلْمِ الْعَاقِدِ الآْخَرِ فَالْفَسْخُ مَوْقُوفٌ: إِنْ عَلِمَ بِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ لَزِمَ الْعَقْدُ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْفَسْخِ. وَفِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ - حَيْثُ يُعْتَبَرُ مَوْقُوفًا - لَوْ عَادَ الْعَاقِدُ عَنْ فَسْخِهِ فَأَمْضَى الْعَقْدَ قَبْل عِلْمِ الآْخَرِ فَذَلِكَ مِنْهُ مُعْتَبَرٌ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ وَيَبْطُل فَسْخُهُ السَّابِقُ.
أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ نُقِلَتْ عَنْهُ أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ: الأَْوَّل مِثْل مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَدْ رَجَعَ
__________
(1) فتح القدير 5 / 121، والفتاوى الهندية 3 / 43، والبدائع 5 / 267، تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 19.(20/109)
عَنْهُ، وَقَوْلٌ آخَرُ لَهُ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الآْخَرِ، وَقَوْلٌ ثَالِثٌ بِالنَّظَرِ إِلَى صَاحِبِ الْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْبَائِعُ فَلاَ يُشْتَرَطُ بَل يَقْتَصِرُ اشْتِرَاطُ الْعِلْمِ فِي خِيَارِ الْمُشْتَرِي لَكِنَّ الْقَوْل الْمَشْهُورَ عَنْهُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الآْخَرِ بِالْفَسْخِ وَرَجَّحَ ابْنُ الْهُمَامِ قَوْل أَبِي يُوسُفَ هَذَا، وَبَيَّنَ أَنَّ الْفَسْخَ بِالْقَوْل هُوَ الَّذِي وَقَعَ الْخِلاَفُ فِي جَوَازِهِ بِغَيْرِ عِلْمِ الآْخَرِ، وَأَمَّا الْفَسْخُ بِالْفِعْل فَيَجُوزُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ اتِّفَاقًا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الآْخَرِ بِالْفَسْخِ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالرِّوَايَاتُ السَّابِقَةُ لِبَعْضِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، عَلَى مَا ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفَاسِخَ مِنْهَا مُسَلَّطٌ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ الَّذِي لاَ خِيَارَ لَهُ فَلاَ يَتَوَقَّفُ فَسْخُهُ عَلَى عِلْمِهِ، فَهُوَ كَبَيْعِ الْوَكِيل مَعَ عَدَمِ عِلْمِ الْمُوَكِّل وَهُوَ جَائِزٌ، فَلاَ يُشْتَرَطُ الرِّضَا هُنَا وَلاَ هُنَاكَ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ، مِنْهَا: أَنَّ الْفَسْخَ كَالإِْجَازَةِ فِي هَذَا، لأَِنَّهُمَا شَقِيقَانِ كِلاَهُمَا لاِسْتِعْمَال الْخِيَارِ فَهُوَ - كَمَا قَال الْبَابَرْتِيُّ - قِيَاسٌ
__________
(1) البدائع 5 / 273، الفتاوى الهندية 3 / 43، فتح القدير 5 / 122، البحر الرائق 6 / 18.
(2) المجموع 9 / 200، والمغني 3 / 529، وكشاف القناع 3 / 51، والخرشي 5 / 120، اختلاف الفقهاء للطبري (جزء البيوع) ص45.(20/109)
لأَِحَدِ شِطْرَيِ الْعَقْدِ عَلَى الآْخَرِ (1) .
3 - أَنْ لاَ يَنْشَأَ عَنِ الْفَسْخِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، أَيْ أَنْ يَقَعَ الْفَسْخُ عَلَى جَمِيعِ الصَّفْقَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْضِيَ الْعَقْدَ فِي بَعْضِ الصَّفْقَةِ وَيَفْسَخَ فِي بَعْضِهَا الآْخَرِ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.
وَمِثْل ذَلِكَ يُقَال فِي الإِْجَازَةِ فِي الْبَعْضِ، فَيَنْشَأُ عَنْهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فِي اللُّزُومِ وَهُوَ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا.
وَالْمَالِكِيَّةُ يُجْبِرُونَ الْعَاقِدَ عَلَى رَدِّ الْجَمِيعِ إِنْ أَجَازَ الْعَقْدَ فِي الْبَعْضِ وَرَدَّ الْبَعْضَ حَيْثُ لَمْ يَرْضَ الْعَاقِدُ الشَّرِكَةَ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَرَادَ الْفَسْخَ فِي أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ فِيهِمَا الْخِيَارُ فَالأَْصَحُّ لاَ يَجُوزُ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، أَمَّا لَوِ اشْتَرَى اثْنَانِ شَيْئًا مِنْ وَاحِدٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَلأَِحَدِهِمَا الْفَسْخُ فِي نَصِيبِهِ (2) .
الأَْدِلَّةُ: لِكُلٍّ مِنَ الْقَائِلِينَ بِاشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الآْخَرِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ أَدِلَّةٌ تَدُورُ بَيْنَ وُجُوهٍ مِنَ الْمَعْقُول وَالاِسْتِشْهَادِ بِالنَّظَائِرِ الْفِقْهِيَّةِ.
__________
(1) الشرح الكبير على المقنع 4 / 69، والمجموع 9 / 200، والخرشي 5 / 120، وفتح القدير 5 / 122.
(2) البدائع 5 / 264 و 273، وفيه تعليل جيد للمنع، وتصريح بجواز هذا التفريق في المثليات، الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 102، وتذكرة الفقهاء 1 / 522، والمجموع 9 / 193.(20/110)
انْتِقَال خِيَارِ الشَّرْطِ:
أَوَّلاً - انْتِقَال الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ:
54 - ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَنْتَقِل إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ الْمَوْرُوثِ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهًا بِإِرْثِ خِيَارِ الشَّرْطِ مُطْلَقًا.
وَقَدْ عَلَّل الْقَائِلُونَ بِانْتِقَال الْخِيَارِ لِلْوَارِثِ بِاعْتِبَارِ الْخِيَارِ مِنْ مُشْتَمِلاَتِ التَّرِكَةِ؛ لأَِنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لإِِصْلاَحِ الْمَال، كَالرَّهْنِ وَحَبْسِ الْمَبِيعِ عَلَى تَحْصِيل الثَّمَنِ. وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنَ السُّنَّةِ وَالْمَعْقُول. فَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَرَكَ مَالاً أَوْ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ (1) ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ حَقٌّ لِلْمَوْرُوثِ فَيَنْتَقِل إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِهِ كَمَا يَقْضِي الْحَدِيثُ.
ثُمَّ قَاسُوا خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى خِيَارَيِ الْعَيْبِ وَالتَّعْيِينِ الْمُتَّفَقِ عَلَى انْتِقَالِهِمَا لِلْوَارِثِ بِالْمَوْتِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْخِيَارَاتِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ فَيَنْتَقِل إِلَى الْوَارِثِ بِمُجَرَّدِ انْتِقَالِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لاَ يُورَثُ، وَمِنْ عِبَارَاتِهِمْ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ قَوْل الزَّيْلَعِيِّ: الْخِيَارُ صِفَةٌ لِلْمَيِّتِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِلاَّ مَشِيئَةً وَإِرَادَةً فَلاَ يَنْتَقِل عَنْهُ كَسَائِرِ أَوْصَافِهِ.
__________
(1) حديث: " من ترك مالا أو حقا فلورثته " أورده العيني (البناية 6 / 283) عند مناقشته أدلة القائلين بانتقال الخيار ولم نعثر على تخريج للرواية المشتملة على كلمة (حقا) فيما لدينا من كتب السنن والآثار، وأما قوله: " من ترك مالا فلورثته " فأخرجه البخاري (12 / 9 - ط. السلفية) ، ومسلم (3 / 1237 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة.(20/110)
وَاسْتَدَلُّوا لِمَذْهَبِهِمْ بِأَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ لاَ يَصِحُّ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ فَلَمْ يُورَثْ، نَظِيرُ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ قَبْل الْقَبْضِ إِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ. وَقَالُوا أَيْضًا: خِيَارُ الشَّرْطِ لَيْسَ وَصْفًا بِالْمَبِيعِ حَتَّى يُورَثَ بِإِرْثِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَشِيئَةٌ وَإِرَادَةٌ، فَهُوَ وَصْفٌ قَائِمٌ بِشَخْصِ مَنْ ثَبَتَ لَهُ فَلاَ يُورَثُ عَنْهُ، لأَِنَّ الإِْرْثَ يَجْرِي فِيمَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ، وَالْوَصْفُ الشَّخْصِيُّ لاَ يَقْبَل النَّقْل بِحَالٍ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَحْدَهُمْ إِلَى التَّفْصِيل بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْمَيِّتِ بِالْخِيَارِ قَبْل مَوْتِهِ أَوْ عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ، فَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْخِيَارِ دُونَ أَنْ يُطَالِبَ بِحَقِّهِ فِي الْخِيَارِ، بَطَل الْخِيَارُ وَلَمْ يُورَثْ، أَمَّا إِنْ طَالَبَ بِذَلِكَ قَبْل مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يُورَثُ عَنْهُ. فَالأَْصْل أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ غَيْرُ مَوْرُوثٍ إِلاَّ بِالْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمُشْتَرِطِ (2) .
وَقَدْ صَوَّرَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ نَقْلٌ، وَتَوْرِيثٌ مِنَ الْمُوَرِّثِ لِوَرَثَتِهِ بِإِرَادَاتِهِ، حَيْثُ جَاءَ فِي الْفَوَاكِهِ الْعَدِيدَةِ قَوْل الْفَقِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَهْلاَنَ - شَيْخِ الْمُؤَلِّفِ -: " إِذَا مَاتَ وَوَرِثَ خِيَارَهُ وَرَثَتُهُ، لِشَرْطِهِ لَهُمْ فَأَسْقَطَهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ سَقَطَ
__________
(1) المجموع 9 / 222، والدسوقي 3 / 102، والقواعد لابن رجب 316، الخرشي 4 / 29، وفتح القدير 5 / 125، والعناية 5 / 125.
(2) المغني 3 / 518، الفروع لابن مفلح مع تصحيح الفروع للمرداوي 4 / 91، ومنتهى الإرادات 1 / 359، وكشاف القناع 4 / 210 و 225، ومطالب أولي النهى 3 / 99.(20/111)
خِيَارُ الْجَمِيعِ ". (1) وَقَدْ جَاءَتْ تِلْكَ الْعِبَارَةُ إِيضَاحًا وَتَقْيِيدًا لِعِبَارَةِ أَحَدِ الْكُتُبِ الَّتِي جَاءَتْ مُوهِمَةً أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يُورَثُ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ الأَْمْرُ كَذَلِكَ بَل يُشْتَرَطُ لِذَلِكَ مُطَالَبَةُ الْمُوَرِّثِ بِحَقِّ الْخِيَارِ.
وَأَمَّا ابْنُ قُدَامَةَ فَقَال: الْمَذْهَبُ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ مِنْهُمَا يَبْطُل بِمَوْتِهِ، وَيَبْقَى خِيَارُ الآْخَرِ بِحَالِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ قَدْ طَالَبَ بِالْفَسْخِ قَبْل مَوْتِهِ فِيهِ فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ (2) .
ثَانِيًا: انْتِقَال الْخِيَارِ بِالْجُنُونِ وَحَالاَتِ الْغَيْبُوبَةِ:
55 - سَبَقَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الْجُنُونَ يُسْقِطُ الْخِيَارَ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي فِقْرَةِ 41
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلاَ فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا طَرَأَ الْجُنُونُ - أَوِ الإِْغْمَاءُ - عَلَى صَاحِبِ الْخِيَارِ لَمْ يَنْقَطِعْ خِيَارُهُ، بَل يَقُومُ وَلِيُّهُ أَوِ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فَيَفْعَل مَا فِيهِ الأَْحَظُّ مِنَ الْفَسْخِ وَالإِْجَازَةِ وَكَذَلِكَ إِذَا أَصَابَهُ خَرَسٌ - وَلَمْ تَكُنْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ أَوْ كِتَابَةٌ - نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَائِبًا عَنْهُ (3) .
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَابِلَةِ كَلاَمًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ:
__________
(1) الفواكه العديدة، للمنقور 1 / 237.
(2) المقنع لابن قدامة، وحاشيته 2 / 41، والمغني 3 / 494 م 2769، 3 / 503 م 2789، والقواعد لابن رجب 316.
(3) المجموع 9 / 225.(20/111)
أ - فَفِي الْجُنُونِ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لاَ يَفِيقُ، أَوْ يَفِيقُ بَعْدَ وَقْتٍ طَوِيلٍ يَضُرُّ الاِنْتِظَارُ إِلَيْهِ بِالْعَاقِدِ الآْخَرِ، يَنْظُرُ السُّلْطَانُ أَوْ نُوَّابُهُ فِي الأَْصْلَحِ لَهُ مِنْ إِمْضَاءٍ أَوْ رَدٍّ، وَلَوْ لَمْ يَنْظُرِ السُّلْطَانُ حَتَّى مَضَى جُزْءٌ مِنَ الْمُدَّةِ فَزَال الْجُنُونُ يُحْتَسَبُ مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَلَوْ لَمْ يُنْظَرْ حَتَّى أَفَاقَ بَعْدَ أَمَدِ الْخِيَارِ لاَ يُسْتَأْنَفُ لَهُ أَجَلٌ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْمَبِيعُ لاَزِمٌ لِمَنْ هُوَ بِيَدِهِ. وَمِثْل الْمَجْنُونِ - فِي الْحُكْمِ - الْمَفْقُودُ، عَلَى الرَّاجِحِ، وَقِيل: هُوَ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.
ب - وَفِي الإِْغْمَاءِ يُنْتَظَرُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لِكَيْ يَفِيقَ وَيَخْتَارَ لِنَفْسِهِ، إِلاَّ إِذَا مَضَى زَمَنُ الْخِيَارِ وَطَال إِغْمَاؤُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بِمَا يَحْصُل بِهِ الضَّرَرُ لِلآْخَرِ فَيُفْسَخُ. وَلاَ يَنْظُرُ لَهُ السُّلْطَانُ.
فَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ حَتَّى أَفَاقَ بَعْدَ أَيَّامِ الْخِيَارِ اسْتُؤْنِفَ لَهُ الأَْجَل، وَهَذَا الْحُكْمُ خِلاَفُ مَا مَرَّ فِي الْمَجْنُونِ (1) .
هَذَا وَقَدْ يَزُول الطَّارِئُ الَّذِي نُقِل الْخِيَارُ بِسَبَبِهِ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَى غَيْرِهِ، كَالْجُنُونِ النَّاقِل لِلْخِيَارِ إِلَى السُّلْطَانِ، لَوْ أَفَاقَ بَعْدَهُ لاَ عِبْرَةَ بِمَا يَخْتَارُهُ بَل الْمُعْتَبَرُ بِمَا نَظَرَهُ السُّلْطَانُ.
هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَخَالَفَهُمْ فِيهِ الشَّافِعِيَّةُ، فَفِي هَذِهِ الْحَال: لَوْ أَفَاقَ الْعَاقِدُ وَادَّعَى أَنَّ الْغِبْطَةَ خِلاَفُ مَا فَعَلَهُ الْقَيِّمُ عَنْهُ يَنْظُرُ
__________
(1) الدسوقي 3 / 103، الخرشي 4 / 29.(20/112)
الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ وَجَدَ الأَْمْرَ كَمَا يَقُول الْمُفِيقُ مَكَّنَهُ مِنَ الْفَسْخِ وَالإِْجَازَةِ وَنَقَضَ فِعْل الْقَيِّمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا ادَّعَاهُ الْمُفِيقُ ظَاهِرًا، فَالْقَوْل قَوْل الْقَيِّمِ مَعَ يَمِينِهِ، لأَِنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا فَعَلَهُ إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ الْمُفِيقُ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ (1) .
__________
(1) الدسوقي 3 / 103، والمجموع 9 / 225 - 226.(20/112)
خِيَارُ الْعَيْبِ
التَّعْرِيفُ:
1 - (خِيَارُ الْعَيْبِ) (1) مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ مِنَ الْكَلِمَتَيْنِ (خِيَارٌ) (وَعَيْبٌ) . أَمَّا كَلِمَةُ " خِيَارٌ " فَقَدْ سَبَقَ عِنْدَ تَعْرِيفِ الْخِيَارِ بِوَجْهٍ عَامٍّ بَيَانُ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ وَالاِصْطِلاَحِيِّ أَيْضًا.
أَمَّا كَلِمَةُ عَيْبٍ، فَهِيَ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ الْفِعْل عَابَ، يُقَال: عَابَ الْمَتَاعَ يَعِيبُ عَيْبًا: أَيْ صَارَ ذَا عَيْبٍ، وَجَمْعُهُ عُيُوبٌ وَأَعْيَابٌ. قَال الْفَيُّومِيُّ: اسْتُعْمِل الْعَيْبُ اسْمًا وَجُمِعَ عَلَى عُيُوبٍ. وَالْمَعِيبُ مَكَانُ الْعَيْبِ وَزَمَانُهُ (2) .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَلِلْفُقَهَاءِ تَعَارِيفُ مُتَعَدِّدَةٌ لِلْعَيْبِ، مِنْهَا: مَا عَرَّفَهُ بِهِ ابْنُ نُجَيْمٍ وَابْنُ الْهُمَامِ بِأَنَّهُ: مَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْل الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مِمَّا يُعَدُّ بِهِ نَاقِصًا (3) . وَعَرَّفَهُ ابْنُ رُشْدٍ بِأَنَّهُ: مَا نَقَصَ عَنِ
__________
(1) هذه التسمية خاصة بالجمهور، ويسمى عند المالكية خيار النقيصة في الغالب.
(2) القاموس المحيط، وتاج العروس، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، ولسان العرب، 2 / 124 - 125، كلها مادة: (عيب) .
(3) حدود الفقه لابن نجيم، من مجموعة رسائله المطبوعة عقب الأشباه 1 / 327، فتح القدير 5 / 151(20/113)
الْخِلْقَةِ الطَّبِيعِيَّةِ أَوْ عَنِ الْخَلْقِ الشَّرْعِيِّ نُقْصَانًا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ (1) .
وَعَرَّفَهُ الْغَزَالِيُّ بِأَنَّهُ: كُل وَصْفٍ مَذْمُومٍ اقْتَضَى الْعُرْفُ سَلاَمَةَ الْمَبِيعِ عَنْهُ غَالِبًا (2) .
مَشْرُوعِيَّةُ خِيَارِ الْعَيْبِ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ: فَمِنَ الْكِتَابِ: اسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) وَالْوَجْهُ فِي الاِسْتِدْلاَل أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ مُنَافٍ لِلرِّضَا الْمَشْرُوطِ فِي الْعُقُودِ، فَالْعَقْدُ الْمُلْتَبِسُ بِالْعَيْبِ تِجَارَةٌ عَنْ غَيْرِ تَرَاضٍ (4) .
فَالآْيَةُ تَدُل عَلَى أَنَّ الْعَاقِدَ لاَ يَلْزَمُهُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْمَعِيبُ، بَل لَهُ رَدُّهُ وَالاِعْتِرَاضُ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ طَرِيقَةِ الرَّدِّ وَالإِْصْلاَحِ لِذَلِكَ الْخَلَل فِي تَكَافُؤِ الْمُبَادَلَةِ (5) .
وَمِنَ السُّنَّةِ: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلاً ابْتَاعَ غُلاَمًا، فَاسْتَغَلَّهُ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ بِالْعَيْبِ، فَقَال الْبَائِعُ: غَلَّةُ عَبْدِي، فَقَال
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 173.
(2) الوجيز 2 / 142.
(3) سورة النساء / 29.
(4) الإيضاح للشماخي 3 / 131.
(5) بداية المجتهد 2 / 173.(20/113)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ وَفِي رِوَايَةٍ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (1) . وَاسْتَدَل الْكَاسَانِيُّ بِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ خِيَارِ الْعَيْبِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْخِيَارِ فِي الْمُصَرَّاةِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا عَدَمُ حُصُول الْمَبِيعِ السَّلِيمِ، لأَِنَّهُ بَذَل الثَّمَنَ لِيُسَلَّمَ لَهُ مَبِيعٌ سَلِيمٌ وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ ذَلِكَ (3) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: إِثْبَاتُ النَّبِيِّ الْخِيَارَ بِالتَّصْرِيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى ثُبُوتِهِ بِالْعَيْبِ (4) .
وُجُوبُ الإِْعْلاَمِ بِالْعَيْبِ، وَأَدِلَّتُهُ:
3 - وُجُوبُهُ عَلَى الْعَاقِدِ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عَلَى الْبَائِعِ إِعْلاَمَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ الَّذِي فِي مَبِيعِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارٌ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَبِّبًا لِلْخِيَارِ فَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُ لَيْسَ مِنَ التَّدْلِيسِ الْمُحَرَّمِ كَمَا قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَقَدْ صَرَّحَ هَؤُلاَءِ بِأَنَّ
__________
(1) حديث عائشة: أخرجه أحمد (6 / 80 ط. الميمنية) ، وأخرج اللفظ الثاني أبو داود (3 / 780 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3 / 22 - ط. شركة الطباعة الفنية.
(2) بدائع الصنائع 5 / 274، وحديث المصراة أخرجه مسلم (3 / 1158 - ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة، ونصه: " من اشترى شاة مصراة، فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها وإن شاء ردها، ورده معها صاعًا من تمر ".
(3) تكملة المجموع للتقي السبكي 12 / 116 - 117.
(4) المغني 4 / 109 م 2999.(20/114)
الإِْعْلاَمَ بِالْعَيْبِ مَطْلُوبٌ عَلَى سَبِيل الْوُجُوبِ، فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْهُ فَهُوَ آثِمٌ عَاصٍ، وَلاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ وَالسُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُمَا - (1) وَجَعَلَهُ ابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ مِنْ أَكْل الْمَال بِالْبَاطِل وَتَحْرِيمُهُ مَعْرُوفٌ (2) .
وَدَل عَلَى هَذَا عِدَّةُ أَحَادِيثَ، مِنْهَا:
حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَلاَ يَحِل لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا وَفِيهِ عَيْبٌ إِلاَّ بَيَّنَهُ لَهُ (3) .
وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَْسْقَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لأَِحَدٍ يَبِيعُ شَيْئًا إِلاَّ يُبَيِّنُ مَا فِيهِ، وَلاَ يَحِل لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلاَّ بَيَّنَهُ (4) .
وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى تَشْهَدُ لِلْمَعْنَى السَّابِقِ
__________
(1) رد المحتار 5 / 47، المغني 4 / 109 م 2998، تكملة المجموع 12 / 110، 112.
(2) المقدمات ص / 569، الدسوقي 3 / 119، معالم القربة في الحسبة لابن الأخوة 113، 135، 153، الدرر البهية للشوكاني 2 / 119، كفاية الطالب 2 / 121.
(3) حديث عقبة بن عامر: " المسلم أخو المسلم " أخرجه ابن ماجه (2 / 755 - ط. الحلبي) ، والحاكم (2 / 8 - ط. دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) حديث واثلة: " لا يحل لأحد يبيع شيئًا إلا يبين ما فيه " أخرجه أحمد (3 / 491 - ط. الميمنية) ، وقال الشوكاني: " في إسناده أبو جعفر الرازي وأبو سباع، والأول مختلف فيه، والثاني قيل إنه مجهول "، كذا في نيل الأوطار (5 / 239 - ط. الحلبي) .(20/114)
لِوُرُودِهَا بِتَحْرِيمِ الْغِشِّ، وَكِتْمَانُ الْعَيْبِ غِشٌّ - كَمَا صَرَّحَ السُّبْكِيُّ - وَذَلِكَ كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَهُوَ وَارِدٌ فِي قِصَّةٍ هِيَ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَل يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً، فَقَال: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَال: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُول اللَّهِ يَعْنِي الْمَطَرَ قَال: أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي (1) . وَهَذَا الْحَدِيثُ يُشِيرُ إِلَى الإِْعْلاَمِ بِالْعَيْبِ بِالْفِعْل الْمُجْزِئِ عَنْ صَرِيحِ الْقَوْل:
وَهَل يَظَل الإِْثْمُ لَوْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ بَعْدَ ظُهُورِهِ، ذَلِكَ مَا جَزَمَ بِهِ الشَّوْكَانِيُّ فِي الدُّرَرِ الْبَهِيَّةِ قَائِلاً: (إِنْ رَضِيَهُ فَقَدْ أَثِمَ الْبَائِعُ، وَصَحَّ الْبَيْعُ) (2) .
حُكْمُ الْبَيْعِ مَعَ الْكِتْمَانِ:
4 - الْبَيْعُ دُونَ بَيَانِ الْعَيْبِ الْمُسَبِّبِ لِلْخِيَارِ صَحِيحٌ مَعَ الْمَعْصِيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ الْمُثْبِتِ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ، وَالتَّصْرِيَةُ عَيْبٌ، وَهَاهُنَا التَّدْلِيسُ لِلْعَيْبِ وَكِتْمَانُهُ لاَ يُبْطِل الْبَيْعَ، لأَِنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي الْعَقْدِ، فَلاَ
__________
(1) حديث: " من غشنا فليس منا. . . " وحديث: " من غش فليس مني. . . " أخرجهما مسلم (1 / 99 - ط. الحلبي) .
(2) الدرر البهية للشوكاني بشرح صديق حسن خان (2 / 119) .(20/115)
يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِمَعْنًى فِيهِ، أَوْ لاِسْتِلْزَامِهِ أَمْرًا مَمْنُوعًا، أَمَّا هُنَا فَالْعَقْدُ لَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَصْلاً (لاَ لِمَعْنًى فِيهِ وَلاَ لاِسْتِلْزَامِهِ مَمْنُوعًا) بَل قَدْ تَحَقَّقَ بِكِتْمَانِ الْعَيْبِ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَهُوَ الْغِشُّ، وَتِلْكَ أَدْنَى مَرَاتِبِ النَّهْيِ الثَّلاَثِ فَلاَ إِثْمَ فِي الْعَقْدِ، بَل الإِْثْمُ فِي الْكِتْمَانِ، لأَِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْكِتْمَانِ لاَ عَنِ الْعَقْدِ (1) .
وَمِمَّا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْبَابِ مِنْ فِعْل الصَّحَابَةِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اشْتَرَى إِبِلاً هِيمًا (2) ، فَلَمَّا أُخْبِرَ بِعَيْبِهَا رَضِيَهَا وَأَمْضَى الْعَقْدَ (3) .
وُجُوبُهُ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِدِ:
5 - وُجُوبُ الإِْعْلاَمِ بِالْعَيْبِ لاَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْبَائِعِ، بَل يَمْتَدُّ إِلَى كُل مَنْ عَلِمَ بِالْعَيْبِ لِحَدِيثِ وَاثِلَةَ - وَالْقِصَّةِ الْمَرْوِيَّةِ بِأَنَّهُ فَعَل ذَلِكَ حِينَ كَتَمَ الْبَائِعُ الْعَيْبَ - (4) وَالأَْحَادِيثِ الأُْخْرَى الْعَدِيدَةِ فِي وُجُوبِ النُّصْحِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذَا
__________
(1) تكملة المجموع 12 / 112 - 114، المغني 3 / 355 - 356، 4 / 109 م 2998، الدرر البهية للشوكاني 2 / 129.
(2) مصابة بداء كالحمى، يجعلها تعطش فلا تروى، المصباح المنير.
(3) أثر ابن عمر أخرجه البخاري (الفتح 4 / 321 - ط. السلفية) .
(4) حديث واثلة تقدم هامش4 ف3.(20/115)
مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ، وَالنَّوَوِيُّ، وَقَال السُّبْكِيُّ: وَذَلِكَ مِمَّا لاَ أَظُنُّ فِيهِ خِلاَفًا.
وَيَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ حَيْثُ يَنْفَرِدُ الأَْجْنَبِيُّ بِعِلْمِ الْعَيْبِ دُونَ الْبَائِعِ نَفْسِهِ، أَمَّا إِنْ كَانَا يَعْلَمَانِهِ فَالْوُجُوبُ حَيْثُ يَعْلَمُ، أَوْ يَظُنُّ، أَوْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهِ، أَمَّا إِنْ عَلِمَ قِيَامَ الْبَائِعِ بِذَلِكَ - أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَقُومُ بِذَلِكَ لِتَدَيُّنِهِ - فَهُنَاكَ احْتِمَالاَنِ
أَحَدُهُمَا: عَدَمُ الْوُجُوبِ خَشْيَةَ إِيغَارِ صَدْرِ الْبَائِعِ لِتَوَهُّمِهِ سُوءَ الظَّنِّ بِهِ، وَالاِحْتِمَال الثَّانِي: وُجُوبُ الاِسْتِفْسَارِ مِنَ الْمُشْتَرِي هَل أَعْلَمَهُ الْبَائِعُ بِالْعَيْبِ.
وَوَقْتُ الإِْعْلاَمِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَالأَْجْنَبِيِّ قَبْل الْبَيْعِ، لِيَكُفَّ عَنِ الشِّرَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الأَْجْنَبِيُّ حَاضِرًا، أَوْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ فَبَعْدَهُ، لِيَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ (1) .
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ خِيَارِ الْعَيْبِ:
الْحِكْمَةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ خِيَارِ الْعَيْبِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ الْعَاقِدِ (الْمُشْتَرِي) لأَِنَّهُ رَضِيَ بِالْمُبَادَلَةِ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ يَقْتَضِي سَلاَمَةَ الْمَبِيعِ عَنِ الْعَيْبِ، وَوَصْفُ السَّلاَمَةِ يَفُوتُ بِوُجُودِ الْعَيْبِ، فَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَتَخَيَّرُ، لأَِنَّ الرِّضَا دَاخِلٌ فِي حَقِيقَةِ
__________
(1) تكملة المجموع 12 / 122.(20/116)
الْبَيْعِ، وَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَنْتَفِي الرِّضَا، فَيَتَضَرَّرُ بِلُزُومِ مَا لاَ يَرْضَى بِهِ (1) .
شَرَائِطُ خِيَارِ الْعَيْبِ:
6 - يَثْبُتُ خِيَارُ الْعَيْبِ لِلْمُشْتَرِي بِشَرَائِطَ ثَلاَثٍ:
1 - ظُهُورُ عَيْبٍ مُعْتَبَرٍ.
2 - أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْعَيْبِ عِنْدَ الْعَقْدِ.
3 - أَنْ لاَ يَكُونَ الْبَائِعُ قَدِ اشْتَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْعَيْبِ.
(الشَّرِيطَةُ الأُْولَى) ظُهُورُ عَيْبٍ مُعْتَبَرٍ:
7 - الْمُرَادُ بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ بُرُوزُ الْعَيْبِ وَانْكِشَافُهُ بَعْدَمَا كَانَ خَفِيًّا عَنِ الْمُشْتَرِي، فَلاَ حُكْمَ لِلْعَيْبِ قَبْل ظُهُورِهِ، لأَِنَّ الْمُفْتَرَضَ أَنَّهُ خَفِيٌّ وَمَجْهُولٌ لِلْمُشْتَرِي فَكَأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ سَالِمًا - فِي نَظَرِهِ - حَتَّى وَجَدَ فِيهِ عَيْبًا.
وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مُعْتَبَرًا أَنْ يَكُونَ عَيْبًا بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِقْهًا - لاَ مُطْلَقَ الْعَيْبِ لُغَةً - وَأَنَّ ذَلِكَ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِأَنْ يَتَحَقَّقَ فِيهِ أَمْرَانِ هُمَا:
1 - كَوْنُ الْعَيْبِ مُؤَثِّرًا فِي نَقْصِ الْقِيمَةِ أَوْ فَوَاتِ غَرَضٍ صَحِيحٍ.
2 - كَوْنُ الأَْصْل فِي جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ السَّلاَمَةُ مِنَ الْعَيْبِ.
__________
(1) البدائع 5 / 274، والفتاوى الهندية 3 / 66 نقلا عن السراج الوهاج، العناية شرح الهداية للبابرتي 5 / 151 - 152.(20/116)
الأَْمْرُ الأَْوَّل - نَقْصُ الْقِيمَةِ، أَوْ فَوَاتُ غَرَضٍ صَحِيحٍ:
8 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الضَّابِطَ لِلْعَيْبِ: هُوَ كُل مَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الْقِيمَةِ عِنْدَ أَهْل الْخِبْرَةِ سَوَاءٌ نَقَّصَ الْعَيْنَ أَمْ لَمْ يُنَقِّصْهَا (1) .
وَقَدْ يُعَبِّرُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ - وَغَيْرُهُمْ - بِالثَّمَنِ بَدَل الْقِيمَةِ، وَهِيَ الْمُرَادَةُ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لَمَّا كَانَ الثَّمَنُ فِي الْغَالِبِ مُسَاوِيًا لِلْقِيمَةِ عَبَّرُوا بِهِ عَنْهَا.
وَالْعَيْبُ الْفَاحِشُ فِي الْمَهْرِ كُل مَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْجَيِّدِ إِلَى الْوَسَطِ، وَمِنَ الْوَسَطِ إِلَى الرَّدِيءِ.
وَإِنَّمَا لاَ يُرَدُّ الْمَهْرُ بِيَسِيرِ الْعَيْبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَيْلِيًّا أَوْ وَزْنِيًّا، وَأَمَّا الْكَيْلِيُّ وَالْوَزْنِيُّ فَيُرَدُّ بِيَسِيرِهِ أَيْضًا (2) .
قَال فِي " مُخْتَارِ الْفَتَاوَى ": وَالْحَدُّ الْفَاصِل فِيهِ: كُل عَيْبٍ يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، بِأَنْ يُقَوِّمَهُ مُقَوِّمٌ صَحِيحًا بِأَلْفٍ، وَمَعَ الْعَيْبِ بِأَقَل، وَيُقَوِّمَهُ مُقَوِّمٌ آخَرُ مَعَ هَذَا الْعَيْبِ بِأَلْفٍ فَهُوَ يَسِيرٌ، وَمَا لاَ
__________
(1) رد المحتار 4 / 74، فتح القدير 5 / 151، العناية 5 / 153، البدائع 5 / 274، وذكر أنه يستوي في الحكم أن يكون النقصان الناشئ عن العيب فاحشًا أو يسيرًا، ويقارن هذا بتفرقة المالكية بين العيب الكثير، والمتوسط، واليسير، وستأتي.، مغني المحتاج 2 / 51، فتح القدير 6 / 11.
(2) جامع الفصولين (1 / 250) نقلا عن عدة المتقين للنسفي، والفتاوى الهندية (3 / 66) نقلاً عن شرح الطحاوي والبحر الرائق.(20/117)
يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ بِأَنِ اتَّفَقَ الْمُقَوِّمُونَ فِي تَقْوِيمِهِ صَحِيحًا بِأَلْفٍ، وَاتَّفَقُوا فِي تَقْوِيمِهِ مَعَ هَذَا بِأَقَل فَهُوَ فَاحِشٌ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ لاَ يَدْخُل فِي الزَّوَاجِ، وَقَال مُحَمَّدٌ: لِلْمَرْأَةِ حَقُّ الْفَسْخِ بِعُيُوبٍ ثَلاَثَةٍ: الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، لأَِنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تُطِيقُ الْمُقَامَ مَعَ زَوْجٍ فِيهِ أَحَدُهَا، وَجَاءَ فِي الزَّيْلَعِيِّ وَالْبَدَائِعِ أَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ عَلَى سَبِيل التَّمْثِيل، وَأَنَّ كُل عَيْبٍ تَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَرْأَةُ تَسْتَحِقُّ بِهِ فَسْخَ الْعَقْدِ. وَذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ إِلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بِسَبَبِ الْعَيْبِ، وَلَكِنْ بِعُيُوبٍ تُخِل بِمَقْصِدِ الزَّوَاجِ كَالْعُيُوبِ الثَّلاَثَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: " نِكَاحٌ ".
وَضَابِطُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْمُنْقِصُ لِلْقِيمَةِ أَوِ الْعَيْنِ نُقْصَانًا يَفُوتُ بِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ فِي أَمْثَال الْمَبِيعِ عَدَمَهُ. وَقَدِ اشْتَمَل هَذَا الضَّابِطُ عَلَى الْعُنْصُرَيْنِ الْمُقَوِّمَيْنِ لَهُ فِي حِينِ خَلاَ مِنْهُ تَعْرِيفُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَال السُّبْكِيُّ: إِنَّ هَذَا الضَّابِطَ يُرَجَّحُ عَنْ ضَوَابِطَ كَثِيرَةٍ أُحِيل فِيهَا عَلَى الْعُرْفِ دُونَ ضَبْطِ الْعَيْبِ، وَمُجَرَّدُ الإِْحَالَةِ عَلَى الْعُرْفِ قَدْ يَقَعُ مِنْهَا فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ إِلْبَاسٌ (2) . وَأَنَّ اشْتِرَاطَ فَوَاتِ
__________
(1) الفتاوى الهندية (1 / 66) متبوعًا بعبارة " وهذا هو المختار للفتوى ".
(2) تكملة المجموع 12 / 340.(20/117)
غَرَضٍ صَحِيحٍ هُوَ لِلاِحْتِرَازِ عَنِ النَّقْصِ الْيَسِيرِ فِي فَخِذِ شَاةٍ أَوْ سَاقِهَا بِشَكْلٍ لاَ يُورِثُ شَيْئًا، وَلاَ يَفُوتُ بِهِ غَرَضُ صِحَّةِ الأُْضْحِيَّةِ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قُطِعَ مِنْ أُذُنِهَا مَا يَمْنَعُ التَّضْحِيَةَ بِهَا.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ نَقْصَ الْعَيْنِ وَحْدَهُ كَافٍ وَلَوْ لَمْ تَنْقُصْ بِهِ الْقِيمَةُ، بَل زَادَتْ، وَبِالْمُقَابِل إِنَّ مِنَ الْعَيْبِ نَقْصَ الْقِيمَةِ (أَوِ الْمَالِيَّةِ بِعِبَارَةِ ابْنِ قُدَامَةَ) عَادَةً فِي عُرْفِ التُّجَّارِ وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْ عَيْنُهُ، عَلَى أَنْ تَكُونَ تِلْكَ نَقِيصَةً يَقْتَضِي الْعُرْفُ سَلاَمَةَ الْمَبِيعِ عَنْهَا غَالِبًا، لأَِنَّ الْمَبِيعَ إِنَّمَا صَارَ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فَمَا يُوجِبُ نَقْصًا فِيهَا يَكُونُ عَيْبًا (1) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مِمَّا يُعَدُّ عَيْبًا، الْبَيْتُ الَّذِي قُتِل فِيهِ إِنْسَانٌ وَأَصْبَحَ يُوحِشُ سَاكِنِيهِ وَتَنْفِرُ نُفُوسُهُمْ عَنْهُ، وَيَأْبَى الْعِيَال وَالأَْوْلاَدُ سُكْنَاهُ وَتَتَرَاءَى لَهُمْ بِسَبَبِ تِلْكَ الْوَحْشَةِ خَيَالاَتٌ شَيْطَانِيَّةٌ مُفْزِعَةٌ مُقْلِقَةٌ. وَقَدْ جَعَلُوهُ مِمَّا يَنْفِرُ النَّاسُ عَنْهُ، وَتَقِل الرَّغْبَةُ فِيهِ، فَيُبْخَسُ ثَمَنُهُ، فَهُوَ مِنْ تَطْبِيقَاتِ نَقْصِ الْقِيمَةِ (2) .
الأَْمْرُ الثَّانِي - كَوْنُ الأَْصْل سَلاَمَةَ أَمْثَال الْمَبِيعِ. مِنَ الْعَيْبِ:
9 - الْمُرَادُ أَنَّ السَّلاَمَةَ مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ الْعَارِضِ
__________
(1) كشاف القناع 3 / 215، والمغني 4 / 115 م 3010.
(2) المعيار للونشريسي، طبعة حجرية بالمغرب 5 / 180، والخرشي 5 / 127.(20/118)
هِيَ الأَْصْل فِي نَوْعِ الْمَبِيعِ وَأَمْثَالِهِ، أَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمَأْلُوفِ وُجُودُهُ فِي أَمْثَالِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُعَدُّ عَيْبًا مُعْتَبَرًا. وَقَدِ اخْتَلَفَتْ تَعَابِيرُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الأَْمْرِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ. وَقَدِ اسْتَدْرَكَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ضَابِطِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ قَائِلاً: وَقَوَاعِدُنَا لاَ تَأْبَاهُ (1) . وَضَرَبُوا لِذَلِكَ مَثَلاً بِوُجُودِ الثُّفْل فِي الزَّيْتِ بِالْحَدِّ الْمُعْتَادِ، فَمِنْ تَعَابِيرِ الْفُقَهَاءِ فِي اعْتِمَادِ هَذَا الأَْمْرِ، لِيَكُونَ الْعَيْبُ مُعْتَبَرًا، التَّعْبِيرُ بِكَوْنِ الْغَالِبِ فِي جِنْسِ الْمَبِيعِ عَدَمُهُ، أَوِ اقْتِضَاءُ الْعُرْفِ سَلاَمَةَ الْمَبِيعِ عَنْهُ غَالِبًا، أَوْ مَا خَالَفَ الْخِلْقَةَ الأَْصْلِيَّةَ، أَوْ أَصْل الْخِلْقَةِ، أَوِ الْخُرُوجُ عَنِ الْمَجْرَى الطَّبِيعِيِّ، أَوْ مَا نَقَصَ عَنِ الْخِلْقَةِ الأَْصْلِيَّةِ أَوِ الْخَلْقِ الشَّرْعِيِّ (كَمَا يَقُول ابْنُ رُشْدٍ) ، أَوْ مَا خَالَفَ الْمُعْتَادَ، أَوْ مَا تَخْلُو عَنْهُ أَصْل الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ (2) .
الرُّجُوعُ لِلْعُرْفِ فِي تَحَقُّقِ ضَابِطِ الْعَيْبِ
10 - تَوَارَدَتْ نُصُوصُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي كَوْنِ الْعَيْبِ مُؤَثِّرًا (أَيْ مُؤَدِّيًا إِلَى نُقْصَانِ الْقِيمَةِ، وَكَوْنِ الأَْصْل فِي جِنْسِ الْمَبِيعِ عَدَمَهُ)
__________
(1) رد المحتار 4 / 71.
(2) بداية المجتهد 2 / 174، مغني المحتاج 2 / 51، الوجيز 2 / 142، المكاسب 267 نقلا عن قواعد الحلي، تذكرة الفقهاء 1 / 540، فتح القدير 5 / 151، شرح المجلة لعلي حيدر (ترجمة الحسيني) 284، وشرح المجلة للمحاسني 1 / 267 " ما تقتضي النظرة السليمة أن يكون خاليًا منه ".(20/118)
إِلَى أَهْل الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ. قَال ابْنُ الْهُمَامِ: وَهُمُ التُّجَّارُ، أَوْ أَرْبَابُ الصَّنَائِعِ إِنْ كَانَ الشَّيْءُ مِنَ الْمَصْنُوعَاتِ، وَقَال الْكَاسَانِيُّ: التَّعْوِيل فِي الْبَابِ عَلَى عُرْفِ التُّجَّارِ، فَمَا نَقَّصَ الثَّمَنَ (أَيِ الْقِيمَةَ) فِي عُرْفِهِمْ فَهُوَ عَيْبٌ يُوجِبُ الْخِيَارَ (1) .
وَقَال الْحَطَّابُ: التَّعْوِيل فِي اعْتِبَارِ الشَّيْءِ عَيْبًا أَوْ عَدَمَهُ هُوَ عَلَى عُرْفِ التُّجَّارِ. . وَإِنْ كَانَ عَامَّةُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ التُّجَّارِ يَرَوْنَهُ، أَوْ لاَ يَرَوْنَهُ (2) . وَلاَ شَكَّ أَنَّ ذِكْرَ التُّجَّارِ لَيْسَ تَخْصِيصًا، بَل الْمُرَادُ أَهْل الْخِبْرَةِ فِي كُل شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.
وَهَل يُشْتَرَطُ إِجْمَاعُ أَهْل الْخِبْرَةِ عَلَى الْحُكْمِ بِكَوْنِ الشَّيْءِ عَيْبًا؟ هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ التُّجَّارُ فَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ عَيْبٌ، وَقَال بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِعَيْبٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ، إِذْ لَمْ يَكُنْ عَيْبًا بَيِّنًا عِنْدَ الْكُل.
وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يُطْلَبُ هَذَا الإِْجْمَاعُ بَل التَّعَدُّدُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ عَلَى مَا نَقَل السُّبْكِيُّ عَنْ صَاحِبَيِ التَّهْذِيبِ وَالْعُدَّةِ، وَالاِكْتِفَاءُ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ، وَعَنْ صَاحِبِ التَّتِمَّةِ لاَ بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ. ثُمَّ قَال: لَوِ اخْتَلَفَا هَل هُوَ عَيْبٌ وَلَيْسَ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 274، الهداية وفتح القدير 5 / 153، والفتاوى الهندية 3 / 67، والمغني 4 / 137، والمبسوط للسرخسي 13 / 106، وقال: " وفي كل شيء إنما يرجع إلى أهل تلك الصنعة ".، والمجموع 12 / 344.
(2) الحطاب على خليل 4 / 436.(20/119)
هُنَاكَ مَنْ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فَالْقَوْل قَوْل الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ (1) .
شَرَائِطُ تَأْثِيرِ الْعَيْبِ:
1 - أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ فِي مَحَل الْعَقْدِ نَفْسِهِ:
11 - فَفِي الْبَيْعِ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، وَهَذَا طَبِيعِيٌّ، فَالْعُيُوبُ فِي غَيْرِ الْمَبِيعِ لاَ أَثَرَ لَهَا كَالْعُيُوبِ فِي شَخْصِ الْعَاقِدِ الآْخَرِ، أَوِ الْعَيْبِ فِي الرَّهْنِ الْمُقَدَّمِ، أَوِ الْكَفِيل وَنَحْوِهِ. . وَضَرَبَ لَهُ ابْنُ عَابِدِينَ مَثَلاً بِمَا إِذَا بَاعَ حَقَّ الْكَدَكِ (مِنْ حُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ فِي الْعَقَارِ) فِي حَانُوتٍ لِغَيْرِهِ فَأَخْبَرَ الْمُشْتَرِي أَنَّ أُجْرَةَ الْحَانُوتِ كَذَا فَظَهَرَ أَنَّهَا أَكْثَرُ، فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بِهَذَا السَّبَبِ، لأَِنَّ هَذَا لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الْمَبِيعِ (2) .
2 - أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ قَدِيمًا:
12 - وَالْمُرَادُ بِالْقَدِيمِ مَا قَارَنَ الْعَقْدَ أَوْ حَدَثَ قَبْل الْقَبْضِ. فَالْمُقَارِنُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَدَلِيل مَا وُجِدَ قَبْل الْقَبْضِ، أَنَّ الْمَبِيعَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ فَكَذَا جُزْؤُهُ وَصِفَتُهُ (3) .
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَيْبُ قَدِيمًا بَل حَدَثَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ فَلاَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ، لأَِنَّهُ لِفَوَاتِ صِفَةِ
__________
(1) تكملة المجموع 12 / 343 - 344.
(2) رد المحتار 4 / 72.
(3) شرح الروض 2 / 60، بداية المجتهد لابن رشد 2 / 176.(20/119)
السَّلاَمَةِ الْمَشْرُوطَةِ دَلاَلَةً فِي الْعَقْدِ، وَقَدْ حَصَل الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ سَلِيمًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، إِذِ الْعَيْبُ لَمْ يَحْدُثْ إِلاَّ بَعْدَ التَّسْلِيمِ.
قَال الْمَرْغِينَانِيُّ: الْعَيْبُ قَدْ يَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْل التَّسْلِيمِ وَهُوَ يُوجِبُ الرَّدَّ (1) .
وَقَدْ خَالَفَ فِي هَذَا الْمَالِكِيَّةُ فَأَخَذُوا بِقَضِيَّةِ الْعُهْدَةِ: وَهِيَ عُهْدَتَانِ، الأُْولَى فِي عُيُوبِ الرَّقِيقِ وَيَقُولُونَ فِيهَا بِعُهْدَةِ الثَّلاَثِ، وَالثَّانِيَةُ فِي عُيُوبِ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ، وَيَقُولُونَ فِيهَا بِعُهْدَةِ السُّنَّةِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عُهْدَةٌ) . (2)
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ عَقْدُ الإِْجَارَةِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهَا تُفْسَخُ بِعَيْبٍ حَادِثٍ وَذَلِكَ لأَِنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، وَهِيَ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَوُجُودُ الْعَيْبِ يَحُول دُونَ الاِنْتِفَاعِ فَيُعْتَبَرُ وَلَوْ كَانَ حَادِثًا (3) .
3 - أَنْ لاَ يَكُونَ الْعَيْبُ بِفِعْل الْمُشْتَرِي قَبْل الْقَبْضِ:
13 - يُعْتَبَرُ فِي مَنْزِلَةِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَ
__________
(1) الهدية وفتح القدير 5 / 171، والبدائع 5 / 275، والفتاوى الهندية 3 / 66، والمقدمات ص580، وتحفة المحتاج بحاشية الشرواني 4 / 140، والشرح الكبير على المقنع 4 / 90.
(2) بداية المجتهد 2 / 144.
(3) رد المحتار نقلا عن جامع الفصولين 4 / 71، وترتيب الأشباه 263.(20/120)
الْمُشْتَرِي مَا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ قَدِيمًا (حَصَل قَبْل الْقَبْضِ) وَلَكِنَّهُ وُجِدَ بِفِعْلٍ وَقَعَ عَلَى الْمَبِيعِ مِنَ الْمُشْتَرِي قَبْل أَنْ يَقْبِضَهُ. وَهَذَا الْقَيْدُ كَالاِسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَيَدُل عَلَيْهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ - وَقَوَاعِدُ غَيْرِهِمْ لاَ تَأْبَاهُ - وَقَدْ صَرَّحَ الشِّيرَازِيُّ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَفْقِدُ الْعَيْبُ أَثَرَهُ (1) .
4 - أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ بَاقِيًا بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَمُسْتَمِرًّا حَتَّى الرَّدِّ:
14 - وَالْمُرَادُ مِنْ بَقَائِهِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّسْلِيمِ، إِمَّا بِأَنْ يَظَل مَوْجُودًا فِي مَحَل الْعَقْدِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَإِمَّا بِأَنْ يَخْفَى عِنْدَ التَّسْلِيمِ ثُمَّ يَظْهَرَ ثَانِيَةً فَلاَ يُكْتَفَى بِثُبُوتِ قِدَمِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَظُهُورِهِ قَبْل الْعَقْدِ عِنْدَهُ فَقَطْ، كَمَا لاَ يُكْتَفَى بِظُهُورِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ خَفَائِهِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَعُودَ لِلظُّهُورِ ثَانِيَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَيَسْتَمِرَّ بَاقِيًا إِلَى حِينِ الرَّدِّ.
فَفِي شَرِيطَةِ الْبَقَاءِ - أَوِ الْمُعَاوَدَةِ - احْتِرَازٌ عَنِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ إِذَا ظَهَرَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَعَزَمَ عَلَى الرَّدِّ، ثُمَّ زَال الْعَيْبُ قَبْل الرَّدِّ (2) . لأَِنَّ الرَّدَّ إِنَّمَا هُوَ لِلْعَيْبِ - فَهُوَ سَبَبُهُ - وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَضْحَى سَلِيمًا فَلاَ قِيَامَ لِلْخِيَارِ مَعَ
__________
(1) المجموع شرح المهذب 12 / 126، وحاشية الشرواني على التحفة 4 / 140.
(2) الهندية 3 / 69 نقلا عن السراج الوهاج.(20/120)
سَلاَمَتِهِ. هَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ صَرَّحَ الْكَاسَانِيُّ بِأَنَّ الْعَيْبَ الثَّابِتَ عِنْدَ الْبَائِعِ مُحْتَمِل الزَّوَال قَابِل الاِرْتِفَاعِ، فَلاَ يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِالاِحْتِمَال، فَلاَ بُدَّ فِي صِفَةِ الْعَيْبِ مِنْ ثُبُوتِهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِيُعْلَمَ أَنَّهَا قَائِمَةٌ. وَذَكَرَ الشِّرْوَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْعَيْبَ الْمُعْتَبَرَ هُوَ مَا قَارَنَ الْعَقْدَ، أَوْ حَدَثَ قَبْل الْقَبْضِ، وَقَدْ بَقِيَ إِلَى الْفَسْخِ (1) .
5 - أَنْ لاَ تُمْكِنَ إِزَالَةُ الْعَيْبِ بِلاَ مَشَقَّةٍ:
15 - أَمَّا لَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فَلاَ يَقُومُ حَقُّ الْخِيَارِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى الْقُمَاشِ طَابَعُ الْمَصْنَعِ مَثَلاً، وَكَانَ مِمَّا لاَ يَضُرُّهُ الْغَسْل، أَوْ يُمْكِنُ جَعْلُهُ مِنْ جِهَةِ الْبِطَانَةِ، وَكَمَا لَوْ كَانَ بِالثَّوْبِ نَجَاسَةٌ وَهُوَ مِمَّا لاَ يَفْسُدُ بِالْغَسْل وَلاَ يُنْتَقَصُ، لِلتَّمَكُّنِ مِنْ غَسْلِهِ (2) .
وَكَثِيرًا مَا يُهَوِّنُ الْبَائِعُ مِنْ شَأْنِ الْعَيْبِ وَأَنَّهُ سَهْل الإِْزَالَةِ، أَوْ لاَ يُكَلِّفُ إِلاَّ قَلِيلاً لإِِصْلاَحِهِ ثُمَّ يَظْهَرُ الْعَكْسُ فَمَا مَصِيرُ خِيَارِ الْعَيْبِ بَعْدَ الرِّضَا مِنَ الْمُشْتَرِي؟ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى ثُبُوتِ خِيَارِ الرَّدِّ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَئِذٍ مَا لَمْ يَحْدُثْ لَدَيْهِ عَيْبٌ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الرَّدِّ وَالأَْرْشِ، جَاءَ فِي نَوَازِل
__________
(1) الشرواني على تحفة المحتاج لابن حجر 4 / 140، الفتاوى الهندية 3 / 69، البدائع 5 / 276، فتح القدير 5 / 153 - 154.
(2) رد المحتار 4 / 72، وفتح القدير 6 / 2.(20/121)
الْوَنْشَرِيسِيِّ أَنَّهُ سُئِل عَمَّنْ اشْتَرَى دَابَّةً وَبِهَا جُرْحُ رُمْحٍ، فَرَضِيَ بَعْدَمَا قَال الْبَائِعُ لَهُ هُوَ جُرْحٌ لاَ يَضُرُّهَا،، فَتَغَيَّبَ هَذَا الْمُشْتَرِي نَحْوًا مِنْ سَنَةٍ ثُمَّ ظَهَرَ الْجُرْحُ فَادِحًا.
(فَأَجَابَ) إِنْ لَمْ يَحْدُثْ بِهَا عِنْدَهُ عَيْبٌ مُفْسِدٌ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا أَوْ يَتَمَاسَكَ وَلاَ شَيْءَ لَهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْبِ، فَإِنْ حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ بَعْدُ، فَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَقِيمَةَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَأَخَذَ قِيمَةَ الْعَيْبِ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالدَّاءِ (1) .
طُرُقُ إِثْبَاتِ الْعَيْبِ (2) :
16 - إِثْبَاتُ الْعَيْبِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْعَيْبِ مِنْ حَيْثُ دَرَجَةُ الظُّهُورِ. وَالْعَيْبُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
1 - عَيْبٌ ظَاهِرٌ مُشَاهَدٌ.
2 - عَيْبٌ بَاطِنٌ خَفِيٌّ، لاَ يَعْرِفُهُ إِلاَّ أَهْل الْخِبْرَةِ.
3 - عَيْبٌ لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ النِّسَاءُ.
4 - عَيْبٌ لاَ يُعْرَفُ بِالْمُشَاهَدَةِ الْمُجَرَّدَةِ بَل يَحْتَاجُ إِلَى التَّجْرِبَةِ وَالاِمْتِحَانِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ.
1 - الْعَيْبُ الْمُشَاهَدُ: لاَ حَاجَةَ لِتَكْلِيفِ
__________
(1) المعيار للونشريسي (طبعة حجرية بالمغرب) 5 / 178.
(2) رد المحتار 4 / 92، والبدائع 5 / 279، مع الإحالة إلى مواطن لهذا الموضوع، كالفتاوى الهندية 3 / 86 - 94، جامع الفصولين 2 / 250، فتح القدير 5 / 176، تذكرة الفقهاء 7 / 524، كشاف القناع 3 / 173، الشرح الكبير على المقنع 4 / 100، الحرشي 5 / 149، مغني المحتاج 2 / 61، المبسوط 13 / 111.(20/121)
الْمُشْتَرِي إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى وُجُودِ الْعَيْبِ عِنْدَهُ؛ لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بِالْعِيَانِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَلِلْمُشْتَرِي حَقُّ خُصُومَةِ الْبَائِعِ بِسَبَبِ هَذَا الْعَيْبِ، وَلِلْقَاضِي حِينَئِذٍ النَّظَرُ فِي الأَْمْرِ.
فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ لاَ يَحْدُثُ مِثْلُهُ عَادَةً فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، كَالأُْصْبُعِ الزَّائِدَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَى الْبَائِعِ، وَلاَ يُكَلَّفُ الْمُشْتَرِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ لِتَيَقُّنِ ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ الرِّضَا بِهِ وَالإِْبْرَاءَ عَنْهُ، فَتُطْلَبُ الْبَيِّنَةُ مِنْهُ.
فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ قُضِيَ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ اسْتُحْلِفَ الْمُشْتَرِي عَلَى دَعْوَاهُ، فَإِنْ نَكَل (أَحْجَمَ عَنِ الْيَمِينِ) لَمْ يُرَدَّ الْمَبِيعُ الْمَعِيبُ عَلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ حَلَفَ رُدَّ عَلَى الْبَائِعِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ مِثْلُهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ بِاللَّهِ عَلَى الْبَتَاتِ، أَيْ بِشَكْلٍ بَاتٍّ قَاطِعٍ جَازِمٍ، لاَ عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ الْعِلْمِ: " لَقَدْ بِعْتُهُ وَسَلَّمْتُهُ، وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْبُ، لاَ عِنْدَ الْبَيْعِ وَلاَ عِنْدَ التَّسْلِيمِ ". (1)
2 - الْعَيْبُ إِذَا كَانَ بَاطِنًا خَفِيًّا لاَ يَعْرِفُهُ إِلاَّ الْمُخْتَصُّونَ كَالأَْطِبَّاءِ وَالْبَيَاطِرَةِ مِثْل وَجَعِ الْكَبِدِ وَالطِّحَال وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِمُمَارَسَةِ حَقِّ الْخُصُومَةِ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ مِنْ أَهْل الْخِبْرَةِ.
__________
(1) رد المحتار 4 / 92، ومختصر الطحاوي ص80.(20/122)
3 - الْعَيْبُ الَّذِي لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ النِّسَاءُ: يَرْجِعُ الْقَاضِي فِيهِ إِلَى قَوْل النِّسَاءِ بَعْدَ أَنْ يَرَيْنَ الْعَيْبَ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِيهِنَّ، بَل يَكْفِي قَوْل امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ عَدْلٍ، وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ، لأَِنَّ قَوْل الْمَرْأَةِ فِيمَا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال حُجَّةٌ فِي الشَّرْعِ، كَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ فِي النَّسَبِ.
فَإِذَا شَهِدَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الْعَيْبِ، فَهُنَاكَ رِوَايَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَنْ كُل وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَصِّلُهَا أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ أَوِ الثِّنْتَيْنِ يَثْبُتُ بِهَا الْعَيْبُ الَّذِي لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَال فِي حَقِّ تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ، لاَ فِي حَقِّ الرَّدِّ.
4 - الْعَيْبُ الَّذِي لَيْسَ بِمُشَاهَدٍ عِنْدَ الْخُصُومَةِ وَلاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِالتَّجْرِبَةِ: كَالإِْبَاقِ: فَلاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ (1) .
وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْمُشْتَرِي إِثْبَاتَ الْعَيْبِ عِنْدَهُ، هَل يَسْتَحْلِفُ الْقَاضِي الْبَائِعَ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لاَ؟
قَال الصَّاحِبَانِ: يَسْتَحْلِفُ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَسْتَحْلِفُ.
وَكَيْفِيَّةُ اسْتِحْلاَفِ الْبَائِعِ: هِيَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْعِلْمِ، لاَ عَلَى الْبَتَاتِ أَيِ الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ فَيَقُول: بِاللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَيْبَ مَوْجُودٌ فِي هَذَا الشَّيْءِ الآْنَ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ: هُوَ أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ، يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ، لأَِنَّهُ لاَ عِلْمَ لَهُ بِمَا
__________
(1) تكملة المجموع 1 / 116.(20/122)
لَيْسَ بِفِعْلِهِ، أَمَّا مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْل نَفْسِهِ فَيَحْلِفُ عَلَى الْبَتَاتِ (أَيْ بِصِيغَةِ الْبَتِّ وَالْجَزْمِ) ، فَإِنْ نَكَل - أَيِ الْبَائِعُ - عَنِ الْيَمِينِ، ثَبَتَ الْعَيْبُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ، وَإِنْ حَلَفَ بُرِّئَ (1) .
(الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ) الْجَهْل بِالْعَيْبِ:
17 - فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ بِالْعَيْبِ، قَال السُّبْكِيُّ: " عِنْدَ الْعِلْمِ لاَ خِيَارَ ". (2)
وَسَوَاءٌ فِي الْعِلْمِ الْمُحْتَرَزِ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوْ بَعْدَهُ عِنْدَ الْقَبْضِ، فَلَوِ اشْتَرَى شَيْئًا وَهُوَ عَالِمٌ بِعَيْبِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، أَوِ اشْتَرَاهُ جَاهِلاً بِعَيْبِهِ ثُمَّ عَلِمَ بِهِ عِنْدَ الْقَبْضِ فَقَبَضَهُ عَالِمًا بِعَيْبِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْخِيَارِ، لأَِنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى الشِّرَاءِ مَعَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ رِضًا بِهِ دَلاَلَةً، وَكَذَلِكَ عِلْمُهُ عِنْدَ الْقَبْضِ؛ لأَِنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَبْضِ، فَكَانَ الْعِلْمُ عِنْدَهُ كَالْعِلْمِ عِنْدَ الْعَقْدِ، فَكَانَ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ حَقِّهِ فِي الْخِيَارِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ الْقَبْضِ عِنْدَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَل كَانَ رَاضِيًا بِهِ. قَال ابْنُ الْهُمَامِ: (الْعِلْمُ بِالْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ أَوِ الْقَبْضِ مُسْقِطٌ لِلرَّدِّ وَالأَْرْشِ) (3) .
__________
(1) تكملة المجموع 12 / 116.
(2) المرجع نفسه.
(3) البدائع 5 / 276، الهندية 3 / 67، فتح القدير 5 / 81 و 153، ونص ما في الهداية 5 / 153: " والمراد عيب كان = عند البائع لم يره المشتري عند البيع ولا عند القبض، لأن ذلك رضا به ".(20/123)
18 - وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ إِنَّمَا هُوَ لِلْعُيُوبِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لاَ تُدْرَكُ بِالنَّظَرِ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ بَارِزًا لاَ يَخْفَى عِنْدَ الرُّؤْيَةِ غَالِبًا فَيُعْتَبَرُ الْمُتَعَاقِدُ عَالِمًا بِهِ. وَمِثْلُهُ مَا لَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ تَأَمُّلٍ فَدَل الْبَائِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى مَوْضِعِ الْعَيْبِ أَوْ صِفَتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحُول دُونَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُتَعَاقِدِ الآْخَرِ الَّذِي تَعَامَى عَنْ إِبْصَارِ الْعَيْبِ الْوَاضِحِ. كَمَا لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ لَمْ أَرَهُ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ لاَ يُعَايَنُ، فَهُوَ عَلَى الأَْصْل مِنْ قِيَامِ الْخِيَارِ بِشَرَائِطِهِ (1) .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ خَفِيًّا، لَكِنَّ الْمُتَعَاقِدَ صَرَّحَ بِهِ وَذَكَرَهُ عَلَى سَبِيل اشْتِرَاطِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ ظَاهِرٌ. كَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَوْرًا بَاعَهُ عَلَى شَرْطِ أَنَّهُ يَرْقُدُ فِي الْمِحْرَاثِ أَوْ يَعْصِي فِي الطَّاحُونِ، أَوْ بَاعَ فَرَسًا عَلَى شَرْطِ أَنَّهَا جَمُوحٌ، ثُمَّ تَبَيَّنَ كَذَلِكَ، فَالْبَائِعُ بَرِيءٌ.
وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَى خِبْرَةٍ خَاصَّةٍ، وَمَثَّلُوا لِذَلِكَ بِمَا إِذَا أَقْبَضَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ، وَقَال لِلْبَائِعِ اسْتَنْقِذْهُ فَإِنَّ فِيهِ زَيْفًا، فَقَال: رَضِيتُ بِزَيْفِهِ فَطَلَعَ فِيهِ زَيْفٌ، ذَكَرَ ابْنُ حَجَرِ الْهَيْتَمِيُّ: أَنَّ بَعْضَهُمْ أَفْتَى بِأَنَّهُ لاَ رَدَّ لَهُ بِهِ، وَلَمْ يَرْتَضِهِ قَائِلاً: وَوَجْهُ رَدِّهِ أَنَّ الزَّيْفَ
__________
(1) تحفة المحتاج شرح المنهاج لابن حجر الهيثمي 4 / 151.(20/123)
لاَ يُعْرَفُ قَدْرُهُ فِي الدِّرْهَمِ بِمُجَرَّدِ مُشَاهَدَتِهِ فَلَمْ يُؤَثِّرَ الرِّضَا بِهِ. وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الإِْعْلاَمَ بِالْعَيْبِ - الَّذِي يَنْتَفِي بِهِ الْخِيَارُ - هُوَ الإِْعْلاَمُ الْمُفِيدُ، وَهُنَا لَمْ يَسْتَفِدْ إِلاَّ وُجُودَ زَيْفٍ فِي الثَّمَنِ، أَمَّا كَمْ هُوَ؟ فَلَمْ يُحَدِّدْ (1) .
19 - وَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ إِلَى صُورَةٍ رُبَّمَا كَانَتْ نَادِرَةً فِي السَّابِقِ، إِلاَّ أَنَّهَا أَصْبَحَتِ الآْنَ مُحْتَمِلَةَ الْوُقُوعِ كَثِيرًا لِتَنَوُّعِ خَصَائِصِ الأَْشْيَاءِ وَخَفَاءِ عِلَلِهَا، بِحَيْثُ يَرَى الْمَرْءُ الأَْمْرَ الَّذِي يُلاَبِسُهُ الْعَيْبُ وَلَكِنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ، أَوْ يَعْلَمُهُ عَيْبًا وَلَكِنْ يَحْسِبُهُ لاَ يُنْقِصُ الْقِيمَةَ وَهُوَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ. فَإِذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالأَْمْرِ الْمُعْتَبَرِ عَيْبًا دُونَ أَنْ يَدْرِيَ أَنَّهُ عَيْبٌ وَقَبَضَهُ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ الْقَبْضِ أَنَّهُ عَيْبٌ، فَالْحُكْمُ هُنَا أَنْ يُنْظَرَ: إِنْ كَانَ عَيْبًا بَيِّنًا لاَ يَخْفَى عَلَى النَّاسِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ، وَإِنْ كَانَ يَخْفَى وَلاَ يَعْرِفُهُ إِلاَّ ذَوُو الْخِبْرَةِ أَوِ الْمُخْتَصُّونَ بِتِلْكَ الأَْشْيَاءِ فَلَهُ الرَّدُّ.
(الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ) عَدَمُ الْبَرَاءَةِ:
20 - يُشْتَرَطُ لِقِيَامِ الْخِيَارِ أَنْ لاَ يَكُونَ الْبَائِعُ قَدِ اشْتَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْعَيْبِ أَوِ الْعُيُوبِ الَّتِي فِي الْمَبِيعِ. وَلِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ تَفَاصِيل وَافِيَةٌ، بَل اقْتِرَانُهَا بِالْبَيْعِ يَجْعَل مِنْهُ نَوْعًا خَاصًّا مِنْ أَنْوَاعِ الْبُيُوعِ يُدْعَى بَيْعَ الْبَرَاءَةِ (2) .
__________
(1) الشرواني على تحفة المحتاج 4 / 151 - 152.
(2) قال السبكي: هذا الفصل باب مستقل، بوب عليه المزني والأصحاب بباب بيع البراءة وكثير من الأصحاب = أدرجوه في هذا الباب (أي خيار العيب) لأنه من مسائله (12 / 398) ، وشرح المنهج للقاضي زكريا 3 / 132 - 133، وهو صنيع ابن رشد 2 / 184، وقد جعل بيع البراءة قسيمًا للبيع المطلق.(20/124)
مَسَائِل الْبَرَاءَةِ:
21 - حُكْمُهَا وَمَجَالُهَا: اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَيْبِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ مَعْلُومًا لِلْمُشْتَرِطِ أَمْ مَجْهُولاً لَهُ، وَمَهْمَا كَانَ مَحَل الْعَقْدِ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْحَيَوَانِ وَحْدَهُ (1) . لأَِنَّ الْحَيَوَانَ قَلَّمَا يَنْفَكُّ عَنْ عَيْبٍ خَفِيٍّ أَوْ ظَاهِرٍ فَيَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى شَرْطِ الْبَرَاءَةِ لِيَثِقَ بِلُزُومِ الْبَيْعِ فِيمَا لاَ يَعْلَمُهُ مِنَ الْخَفِيِّ دُونَ مَا يَعْلَمُهُ (2) .
وَالأَْصْل فِي اعْتِبَارِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْعَيْبِ أَثَرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ بَاعَ غُلاَمًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَبَاعَهُ بِالْبَرَاءَةِ، فَقَال الَّذِي ابْتَاعَهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: بِالْغُلاَمِ دَاءٌ لَمْ تُسَمِّهِ لِي. فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَال الرَّجُل: بَاعَنِي عَبْدًا وَبِهِ دَاءٌ لَمْ يُسَمِّهِ. وَقَال عَبْدُ اللَّهِ: بِعْتُهُ بِالْبَرَاءَةِ. فَقَضَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ لَهُ: لَقَدْ بَاعَهُ الْعَبْدَ وَمَا بِهِ دَاءٌ يَعْلَمُهُ. فَأَبَى عَبْدُ اللَّهِ أَنْ
__________
(1) قال ابن جزي: وقيل يجوز في كل مبيع (القوانين الفقهية 256) ، الدسوقي 3 / 119.
(2) في المقدمات لابن رشد 580 التصريح بأن البراءة لا تفيد إلا في عيب لم يعلمه البائع، أما إن كان علمه فدلس به فلا.(20/124)
يَحْلِفَ، وَارْتَجَعَ الْعَبْدَ، فَصَحَّ عِنْدَهُ، فَبَاعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ (1) .
تَلْخِيصُ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ:
22 - الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: أَنْ يُبَرَّأَ مِنْ كُل عَيْبٍ، عَلِمَهُ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَزَيْدٍ.
الثَّانِي: لاَ يُبَرَّأُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ حَتَّى يُسَمِّيَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يُعَايَنُ أَمْ لاَ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.
الثَّالِثُ: لاَ يُبَرَّأُ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْعُيُوبِ حَتَّى يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِوَضْعِ الْيَدِ، إِمَّا الْمُعَايَنَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فِيمَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ، وَإِمَّا حَقِيقَةُ وَضْعِ الْيَدِ، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّقْل عَنْ شُرَيْحٍ وَعَطَاءٍ وَرِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَمَذْهَبِ إِسْحَاقَ.
الرَّابِعُ: لاَ يُبَرَّأُ إِلاَّ مِنَ الْعَيْبِ الْبَاطِنِ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فِي الْحَيَوَانِ خَاصَّةً، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْمُوَطَّأِ وَالْقَوْل الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْبَرَاءَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي بَيْعِ
__________
(1) أثر عبد الله بن عمر حين باع غلامًا له. أخرجه مالك في الموطأ (2 / 613 - ط. الحلبي) ،، وعند البيهقي في السنن (5 / 328 - ط. دائرة المعارف العثمانية) ،، وأورده القاضي زكريا الأنصاري في شرح الروض 2 / 63، وقال في الشامل: إن المشتري زيد بن ثابت.(20/125)
السُّلْطَانِ لِلْمَغْنَمِ، أَوْ عَلَى مُفْلِسٍ، أَوْ فِي دُيُونِ الْمَيِّتِ، كَمَا قَال بَعْضُهُمْ.
السَّادِسُ: بُطْلاَنُ الْبَيْعِ أَصْلاً وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
أَقْسَامُ وَأَحْكَامُ الْبَرَاءَةِ:
23 - تَنْقَسِمُ الْبَرَاءَةُ أَوَّلاً إِلَى نَوْعَيْنِ: خَاصَّةٍ، مِنْ عَيْبٍ مُعَيَّنٍ مُسَمًّى، وَعَامَّةٍ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ - أَوْ مِنْ كُل عَيْبٍ - وَلاَ أَثَرَ لِهَذَا التَّقْسِيمِ فِي الْحُكْمِ غَيْرُ أَثَرِ الشُّمُول لِكُل عَيْبٍ أَوِ الاِخْتِصَاصِ بِالْعَيْبِ الْمُسَمَّى. عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ مَنَعَ الْعَامَّةَ لأَِنَّهَا تَشْمَل الْعَيْبَ الَّذِي يَحْدُثُ قَبْل التَّسْلِيمِ وَلَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ، فِي حِينِ أَجَازَهَا الآْخَرُونَ وَحَمَلُوهَا عَلَى مَا يَرَوْنَهُ جَائِزًا: دُخُول الْحَادِثِ أَوْ عَدَمُهُ.
24 - لَكِنَّ لِلْبَرَاءَةِ تَقْسِيمًا آخَرَ ذَا أَثَرٍ كَبِيرٍ (2) ، وَهُوَ أَنَّهَا: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِالْعَيْبِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ تَصْدُرَ مُضَافَةً إِلَى الْعَيْبِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْل الْقَبْضِ مَعَ الْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ تَرِدَ مُطْلَقَةً لاَ مُقَيَّدَةً وَلاَ مُضَافَةً.
أ - فَإِذَا كَانَ اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ فِي صُورَةِ الْقَيْدِ بِالْعَيْبِ - أَوِ الْعُيُوبِ - الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنْ عِبَارَةِ: " عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ
__________
(1) تكملة المجموع 12 / 399 - 400 و 406 - 407.
(2) البدائع 5 / 277، فتح القدير 5 / 183.(20/125)
ذكُل عَيْبٍ بِهِ "، أَوْ " مِنْ عَيْبِ كَذَا بِهِ "، فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الْبَرَاءَةَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَنَحْوِهَا لاَ تَتَنَاوَل إِلاَّ مَا كَانَ قَائِمًا وَقْتَ الْعَقْدِ، دُونَ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ إِلَى حِينِ التَّسَلُّمِ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ صُدُورِ الْبَرَاءَةِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ أَوِ الْخُصُوصِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ اللَّفْظَ الْمُقَيَّدَ بِوَصْفٍ لاَ يَتَنَاوَل غَيْرَ الْمَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ.
ب - إِذَا كَانَ اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ فِيهِ إِضَافَةٌ لِلْمُسْتَقْبَل، بِأَنْ كَانَتْ صَرِيحَةً بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْعَيْبِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْل الْقَبْضِ فَلاَ يَصِحُّ هَذَا الاِشْتِرَاطُ، وَالْعَقْدُ مَعَهُ فَاسِدٌ، أَمَّا عَدَمُ صِحَّةِ الشَّرْطِ فَلأَِنَّ الإِْبْرَاءَ لاَ يَحْتَمِل الإِْضَافَةَ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ (وَلاَ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ) فَهُوَ - وَإِنْ كَانَ إِسْقَاطًا - فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَلِهَذَا لاَ يَحْتَمِل الاِرْتِدَادَ بِالرَّدِّ. وَأَمَّا فَسَادُ الْعَقْدِ، فَلأَِنَّهُ بَيْعٌ أُدْخِل فِيهِ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَفْسُدُ. وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ شَامِلٌ لِمَا لَوْ نَصَّ عَلَى الْعَيْبِ الْكَائِنِ وَالْحَادِثِ، أَوْ أَفْرَدَ الْحَادِثَ بِالذِّكْرِ، وَالأَْخِيرُ أَوْلَى بِالْفَسَادِ.
ج - إِذَا كَانَ اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ بِصُورَةِ الإِْطْلاَقِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُرَادِ أَهُوَ الْبَرَاءَةُ مِنَ الْعَيْبِ الْمَوْجُودِ أَمْ مِنْهُ وَمِنَ الْحَادِثِ (وَيَسْتَوِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا أَنْ تَجِيءَ عَامَّةً: عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنَ الْعُيُوبِ، أَوْ مِنْ كُل عَيْبٍ، أَوْ خَاصَّةً: مِنْ عَيْبِ كَذَا - وَسَمَّاهُ -) فَلأَِئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ رَأْيَانِ فِي الْمُرَادِ بِهَا:
أَحَدُهَا: شُمُول الْبَرَاءَةِ لِمَا هُوَ قَائِمٌ عِنْدَ(20/126)
الْعَقْدِ، وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ إِلَى الْقَبْضِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا (1) .
وَالرَّأْيُ الثَّانِي: اقْتِصَارُ الْبَرَاءَةِ عَلَى الْعُيُوبِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ، وَهُوَ قَوْلٌ لأَِبِي يُوسُفَ أَيْضًا (2) .
الْعُقُودُ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الْعَيْبِ (3) .
25 - ذَكَرَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ يَثْبُتُ فِي الْعُقُودِ التَّالِيَةِ: الْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ، وَالإِْجَارَةِ، وَالْقِسْمَةِ، وَالصُّلْحِ عَنِ الْمَال، وَبَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَفِي الْمَهْرِ، وَبَدَل الْخُلْعِ (4) .
1 - أَمَّا ذِكْرُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَعًا فَلِمُرَاعَاةِ ظُهُورِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ، فَيُذْكَرُ ثُبُوتُهُ فِي الشِّرَاءِ إِذَا لُوحِظَ كَوْنُ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، وَإِذَا لُوحِظَ كَوْنُ الْعَيْبِ فِي الثَّمَنِ ذُكِرَ ثُبُوتُهُ فِي الْبَيْعِ، لَكِنَّهُمْ يُصَوِّرُونَهُ غَالِبًا فِي الشِّرَاءِ، وَأَنَّ الْعَيْبَ فِي الْمَبِيعِ لأَِنَّ الْغَالِبَ فِي الثَّمَنِ الاِنْضِبَاطُ فَيَقِل ظُهُورُ
__________
(1) البدائع 5 / 277، ونهاية المحتاج 4 / 38، والشربيني 2 / 53، وشرح المنهج 3 / 132، وتكملة المجموع 12 / 414 - 415.
(2) البدائع 5 / 277، وفتح القدير 5 / 183، ونقله عن الشافعي - وقد عرفنا من كتبهم خلافه -، والمبسوط 13 / 94، والدسوقي 3 / 119 نقلا عن ابن عرفة.
(3) من مراجعة بداية المجتهد 2 / 199، المبسوط 15 / 102.
(4) رد المحتار 4 / 71، نقلا عن جامع الفصولين، وهو فيه 1 / 250 بتطويل.(20/126)
الْعَيْبِ فِيهِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْبَيْعِ (أَوِ الشِّرَاءِ) الصَّحِيحُ لاَ الْفَاسِدُ، لِوُجُوبِ فَسْخِهِ بِدُونِ الْخِيَارِ (1) .
وَيَشْمَل الْبَيْعُ عَقْدَ الصَّرْفِ، لأَِنَّ السَّلاَمَةَ عَنِ الْعَيْبِ مَطْلُوبَةٌ عَادَةً فِيهِ، سَوَاءٌ - أَكَانَ بَدَل الصَّرْفِ مِنَ الأَْثْمَانِ كَالتِّبْرِ وَالنُّقْرَةِ، أَمِ الدُّيُونِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ، إِلاَّ أَنَّ بَدَل الصَّرْفِ إِذَا كَانَ عَيْنًا فَرَدُّهُ بِالْعَيْبِ يَفْسَخُ الْعَقْدَ سَوَاءٌ رَدَّهُ فِي الْمَجْلِسِ أَمْ بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا نَقَدَ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا بِأَنْ وَجَدَ الدَّرَاهِمَ الْمَقْبُوضَةَ زُيُوفًا فَرَدَّهَا فِي الْمَجْلِسِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالرَّدِّ، حَتَّى لَوِ اسْتَبْدَل مَكَانَهُ مَضَى الصَّرْفُ، وَإِنْ رَدَّهَا بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ بَطَل الصَّرْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.
2 - الإِْجَارَةُ: وَلَوْ حَدَثَ الْعَيْبُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ، بِخِلاَفِ الْبَيْعِ، أَيْ يَثْبُتُ فِيهَا الْخِيَارُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ قَدِيمًا أَمْ حَادِثًا. كَمَا أَنَّهُ يَنْفَرِدُ صَاحِبُ الْخِيَارِ بِالرَّدِّ فِيهَا قَبْل الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ. وَفِي الْبَيْعِ يَنْفَرِدُ قَبْلَهُ فَقَطْ (2) .
3 - الْقِسْمَةُ: فَإِذَا وَجَدَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ عَيْبًا قَدِيمًا. كَانَ لَهُ الْخِيَارُ (3) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 63 نقلاً عن البحر، لكن في جامع الفصولين عكسه 1 / 245.
(2) جامع الفصولين 1 / 250 نقلاً عن الزيادات، ورد المحتار 4 / 63.
(3) رد المحتار 4 / 63، جامع الفصولين 1 / 250.(20/127)
4 - الصُّلْحُ عَنِ الْمَال.
5 - الْمَهْرُ.
6 - بَدَل الْخُلْعِ.
7 - بَدَل الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ.
وَهِيَ تُفَارِقُ مَا سَبَقَ مِنْ مَجَال خِيَارِ الْعَيْبِ، بِأَنَّ الرَّدَّ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ بِفَاحِشِ الْعَيْبِ لاَ بِيَسِيرِهِ.
26 - وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ الْعَقْدَ بِالنِّسْبَةِ لِكَوْنِهِ مَجَالاً لِخِيَارِ الْعَيْبِ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:
1 - مَا هُوَ مَجَالٌ لَهُ بِلاَ خِلاَفٍ، وَهُوَ الْعُقُودُ الْمَقْصُودُ بِهَا الْمُعَاوَضَةُ.
2 - مَا لَيْسَ مَجَالاً لَهُ بِلاَ خِلاَفٍ، وَهُوَ الْعُقُودُ الَّتِي لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَا الْمُعَاوَضَةَ. وَذَلِكَ مِثْل الْهِبَةِ لِغَيْرِ الْعِوَضِ، وَالصَّدَقَةِ.
3 - مَا فِيهِ خِلاَفٌ، وَالأَْظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مَجَالاً لَهُ، وَهُوَ الْعُقُودُ الَّتِي جَمَعَتْ قَصْدَ الْمُكَارَمَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ مِثْل الْهِبَةِ بِقَصْدِ الْعِوَضِ (1) . وَهَذَا الضَّابِطُ لِمَجَال خِيَارِ الْعَيْبِ تَشْهَدُ لَهُ تَفْرِيعَاتُ الْمَذَاهِبِ وَلَمْ نَجِدْ تَعْدَادًا لِلْعُقُودِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ.
تَوْقِيتُ خِيَارِ الْعَيْبِ:
27 - فِيهِ ثَلاَثَةُ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل - أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ:
فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ لِلْفَسْخِ وَإِلاَّ سَقَطَ. وَمُرَادُهُمْ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 174.(20/127)
مِنَ الْفَوْرِيَّةِ: الزَّمَنُ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ الْفَسْخُ بِحَسَبِ الْعَادَةِ. فَلَوْ عَلِمَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَمْ يَفْسَخْ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ وَلاَ يَرْجِعُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ (1) . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنْ تَعَدُّدِ الرِّوَايَةِ فِيهِ. وَهُوَ رَأْيٌ لَدَى الْحَنَفِيَّةِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْحَاوِي وَمُفَادُهُ: أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ الْمَعِيبَ بَعْدَ الاِطِّلاَعِ عَلَى الْعَيْبِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الرَّدِّ كَانَ رِضًا. وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ عَنْ هَذَا الرَّأْيِ: إِنَّهُ غَرِيبٌ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي (2) .
وَالْمُرَادُ مِنَ الْمُبَادَرَةِ الَّتِي يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِتَرْكِهَا، أَنْ يُبَادِرَ عَلَى الْعَادَةِ.
وَلَوْ قَال: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى الْفَوْرِ يُقْبَل قَوْلُهُ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ.
وَحَيْثُ بَطَل حَقُّ الرَّدِّ بِالتَّقْصِيرِ يَبْطُل حَقُّ الأَْرْشِ أَيْضًا وَلاَ بُدَّ مِنْ يَمِينِهِ (3)
قَال الْقَاضِي زَكَرِيَّا: هَذَا فِي بَيْعِ الأَْعْيَانِ،
__________
(1) شرح الروضة 2 / 61 و 66، تكملة المجموع 12 / 134، فتح القدير 5 / 178.
(2) فتح القدير 5 / 178، رد المحتار 4 / 90، المغني 4 / 109م 3000، كشاف القناع 3 / 218 ونقل عن الاختيارات: ويجبر المشتري على الرد أو أخذ الأرش لتضرر البائع بالتأخير.
(3) تكملة المجموع 12 / 137 - 139، وذكر أن محل الكلام في المبادرة وما يكون تقصيرًا وما لا، محله كتاب الشفعة، ومغني المحتاج 2 / 56، وشرح المنهج بحاشية الجمل 3 / 141.(20/128)
بِخِلاَفِ مَا فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُهُ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا إِلاَّ بِالرِّضَا - وَلَوْ قَبَضَهُ - لأَِنَّهُ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ لاَ يَجِبُ الْفَوْرُ فِي طَلَبِ الأَْرْشِ (1) .
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ بِدَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الأَْصْل فِي الْبَيْعِ اللُّزُومُ ثُمَّ ثَبَتَ خِيَارُ الْعَيْبِ بِالإِْجْمَاعِ وَغَيْرِهِ، وَالْقَدْرُ الْمُحَقَّقُ مِنَ الإِْجْمَاعِ ثُبُوتُهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَالزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَدُل عَلَيْهِ إِجْمَاعٌ وَلاَ نَصٌّ، فَيَكُونُ عَلَى مُقْتَضَى اللُّزُومِ تَقْلِيلاً لِمُخَالَفَةِ الدَّلِيل مَا أَمْكَنَ، وَلأَِنَّ الضَّرَرَ الْمَشْرُوعَ لأَِجْل الْخِيَارِ يَنْدَفِعُ بِالْمُبَادَرَةِ، فَالتَّأْخِيرُ تَقْصِيرٌ، فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ اللُّزُومِ.
وَالدَّلِيل الثَّانِي: الْقِيَاسُ عَلَى حَقِّ الشُّفْعَةِ لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهَا وَكِلاَهُمَا خِيَارٌ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ لاَ لِلتَّرَوِّي، بَل لِدَفْعِ الضَّرَرِ (2) .
الرَّأْيُ الثَّانِي - أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي:
28 - فَلاَ يَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ - عَلَى الْمُعْتَمَدِ - مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا.
وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ - عَلَى الْمُعْتَمَدِ - وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُصَحَّحَةِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَصَنِيعُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنْهُمْ أَنَّهُ هُوَ الْمَذْهَبُ دُونَ أَنْ يُشِيرَ إِلَى تَعَدُّدِ الرِّوَايَةِ فِيهِ.
__________
(1) شرح المنهج بحاشية الجمل 3 / 139، نهاية المحتاج 4 / 47 - 49.
(2) تكملة المجموع 12 / 135 - 136.(20/128)
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي بِأَنَّهُ خِيَارٌ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُتَحَقَّقٍ، فَكَانَ عَلَى التَّرَاخِي، كَالْقِصَاصِ. وَلَمْ يُسَلِّمُوا بِدَلاَلَةِ الإِْمْسَاكِ عَلَى الرِّضَا بِهِ.
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: تَوْقِيتُهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ:
29 - وَيَفْتَرِقُ الْحُكْمُ بِالرَّدِّ فَإِنْ حَصَل فِي يَوْمٍ فَأَقَل لَمْ يَحْتَجْ لِرَدِّهِ إِلَى الْيَمِينِ، بِعَدَمِ حُصُول رِضَاهُ، وَإِنْ تَأَخَّرَ إِلَى يَوْمَيْنِ رَدَّهُ مَعَ الْيَمِينِ بِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ.
وَمُسْتَنَدُهُمْ كَالْمُسْتَنَدِ السَّابِقِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ جَعَلُوا مِنِ انْقِضَاءِ الْيَوْمِ أَوِ الْيَوْمَيْنِ بِلاَ رَدٍّ دَلِيلاً عَلَى الرِّضَا (1) .
أَثَرُ خِيَارِ الْعَيْبِ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ:
30 - إِنَّ وُجُودَ خِيَارِ الْعَيْبِ فِي الْعَقْدِ لاَ أَثَرَ لَهُ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ انْتِقَال الْمِلْكِ، فَمِلْكُ الْمَبِيعِ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي حَالاً، وَمِلْكُ الثَّمَنِ يَنْتَقِل إِلَى الْبَائِعِ فِي الْحَال، لأَِنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ مُطْلَقٌ عَنِ الشَّرْطِ. وَالثَّابِتُ بِدَلاَلَةِ النَّصِّ شَرْطُ السَّلاَمَةِ لاَ شَرْطُ السَّبَبِ (كَمَا فِي خِيَارِ الشَّرْطِ) وَلاَ شَرْطُ الْحُكْمِ (كَمَا فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ) وَأَثَرُ شَرْطِ السَّلاَمَةِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَنْعِ لُزُومِ الْعَقْدِ وَلاَ سُلْطَانَ لَهُ عَلَى مَنْعِ أَصْل حُكْمِ الْعَقْدِ (2) .
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 121، الخرشي 5 / 142، والحطاب 4 / 443.
(2) البدائع 5 / 273 - 274.(20/129)
صِفَةُ الْعَقْدِ مَعَ خِيَارِ الْعَيْبِ:
31 - الْمِلْكُ مَعَ خِيَارِ الْعَيْبِ غَيْرُ لاَزِمٍ، لأَِنَّ السَّلاَمَةَ شَرْطٌ فِي الْعَقْدِ دَلاَلَةً، فَمَا لَمْ يُسَلَّمِ الْمَبِيعُ، لاَ يَلْزَمُ الْبَيْعُ فَلاَ يَلْزَمُ حُكْمُهُ. وَقَدِ اسْتَدَل الْكَاسَانِيُّ (1) لِكَوْنِ السَّلاَمَةِ مَشْرُوطَةً فِي الْعَقْدِ دَلاَلَةً بِأَنَّهَا فِي الْبَيْعِ مَطْلُوبَةُ الْمُشْتَرِي عَادَةً إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، لأَِنَّ غَرَضَهُ الاِنْتِفَاعُ بِالْمَبِيعِ، وَلاَ يَتَكَامَل انْتِفَاعُهُ إِلاَّ بِقَيْدِ السَّلاَمَةِ، وَلأَِنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ جَمِيعَ الثَّمَنِ إِلاَّ لِيُسَلَّمَ لَهُ جَمِيعُ الْمَبِيعِ، فَكَانَتِ السَّلاَمَةُ مَشْرُوطَةً فِي الْعَقْدِ دَلاَلَةً (فَكَانَتْ كَالْمَشْرُوطَةِ نَصًّا) فَإِذَا فَاتَتِ الْمُسَاوَاةُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ.
- 32 - وَلِلْفُقَهَاءِ اتِّجَاهَاتٌ ثَلاَثَةٌ فِي تَحْدِيدِ مَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ قِيَامِ خِيَارِ الْعَيْبِ:
1 - التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ هُمَا الرَّدُّ، أَوِ الإِْمْسَاكُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. وَبِعِبَارَةٍ أَوْضَحَ هِيَ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ: أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَيَرُدَّ الْمَبِيعَ الْمَعِيبَ وَيَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ، أَوْ أَنْ يُمْضِيَ الْعَقْدَ وَيُمْسِكَ الْمَعِيبَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ دُونَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالأَْرْشِ (نُقْصَانِ الْمَعِيبِ) فَعَلَى هَذَا الاِتِّجَاهِ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُمْسِكَ الْمَعِيبَ وَيَأْخُذَ الأَْرْشَ وَهُوَ نُقْصَانُ الْمَعِيبِ، إِلاَّ فِي حَال تَعَذُّرِ الرَّدِّ بِأَحَدِ الْمَوَانِعِ الَّتِي سَتَأْتِي، فَحِينَئِذٍ لَهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 274، المبسوط 15 / 10.(20/129)
الإِْمْسَاكُ مَعَ الأَْرْشِ لَكِنَّهُ عَلَى سَبِيل الْخُلْفِ عَنِ الرَّدِّ وَلاَ يَثْبُتُ أَصَالَةً.
وَهَذَا الاِتِّجَاهُ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. قَال الشِّيرَازِيُّ لأَِنَّهُ لَمْ يَرْضَ إِلاَّ بِمَبِيعٍ سَلِيمٍ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى إِمْسَاكِ مَعِيبٍ بِبَعْضِ الثَّمَنِ. وَقَال الْكَاسَانِيُّ: لَوْ قَال الْمُشْتَرِي: أَنَا أُمْسِكُ الْمَعِيبَ وَآخُذُ النُّقْصَانَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّ قَوْلَهُ: أُمْسِكُ الْمَعِيبَ دَلاَلَةُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ. وَقَال بَعْدَئِذٍ: لأَِنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ كَالْخُلْفِ عَنِ الرَّدِّ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الأَْصْل تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إِلَى الْخُلْفِ (1) .
2 - التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ أَيْضًا، لَكِنَّهُمَا هُنَا: الرَّدُّ - كَمَا سَبَقَ - أَوِ الإِْمْسَاكُ مَعَ الأَْرْشِ وَلَوْ لَمْ يَتَعَذَّرِ الرَّدُّ وَسَوَاءٌ رَضِيَ الْبَائِعُ بِدَفْعِ الأَْرْشِ أَوْ سَخِطَ بِهِ. فَفِي هَذَا الاِتِّجَاهِ الْفِقْهِيِّ لاَ مَكَانَ لِلإِْمْسَاكِ بِدُونِ أَرْشٍ بَل هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ.
وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ -
وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مَا إِذَا كَانَ الإِْمْسَاكُ مَعَ الأَْرْشِ يُؤَدِّي إِلَى الرِّبَا، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الرَّدِّ أَوِ الإِْمْسَاكِ مَجَّانًا، وَمِثَالُهُ: شِرَاءُ حُلِيٍّ
__________
(1) المبسوط 13 / 103، البدائع 5 / 288 و 289، فتح القدير 5 / 152، البحر الرائق 6 / 39، الفتاوى الهندية 3 / 66، نهاية المحتاج 4 / 24، المهذب للشيرازي وتكملة المجموع 12 / 165.(20/130)
فِضَّةٍ بِزِنَتِهِ دَرَاهِمَ فِضَّةً، وَشِرَاءُ قَفِيزٍ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا، إِذَا اشْتَرَاهُ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَعِيبًا، وَذَلِكَ لأَِنَّ أَخْذَ الأَْرْشِ يُؤَدِّي إِلَى رِبَا الْفَضْل، أَوْ إِلَى مَسْأَلَةِ (مُدِّ عَجْوَةٍ) (1) .
وَسَبَبُ الْخِلاَفِ النَّظَرُ إِلَى نَقْصِ الْعَيْبِ، هَل هُوَ نَقْصُ أَصْلٍ أَوْ نَقْصُ وَصْفٍ؟ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الْعَيْبِ الْكَثِيرِ) هُوَ نَقْصُ وَصْفٍ وَلِذَا يُخَيَّرُ بَيْنَ الرَّدِّ وَالإِْمْسَاكِ بِدُونِ شَيْءٍ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هُوَ نَقْصُ أَصْلٍ، وَلِذَا يُخَيَّرُ بَيْنَ الرَّدِّ وَالإِْمْسَاكِ مَعَ الرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ (2) .
3 - التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْعَيْبِ الْكَثِيرِ، وَالْعَيْبِ الْيَسِيرِ - وَيُسَمُّونَهُ غَالِبًا: الْقَلِيل الْمُتَوَسِّطَ - (بَعْدَ إِخْرَاجِ الْعَيْبِ الْقَلِيل جِدًّا الَّذِي لاَ يَنْفَكُّ عَنْهُ الْمَبِيعُ لأَِنَّهُ لاَ حُكْمَ لَهُ كَمَا قَال ابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ) .
فَفِي الْعَيْبِ الْكَثِيرِ - وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حَدِّهِ، وَأَنَّ الرَّاجِحَ فِي تَقْدِيرِهِ عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ: عَشَرَةٌ فِي الْمِائَةِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ: الثُّلُثُ - لاَ يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (أَصْحَابِ الاِتِّجَاهِ الأَْوَّل) يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الرَّدِّ وَالإِْمْسَاكِ مَجَّانًا، بِلاَ أَرْشٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي الْعَيْبِ الْكَثِيرِ سَمَّاهُ ابْنُ جُزَيٍّ: (عَيْبَ رَدٍّ) .
__________
(1) المغني 4 / 109 و 111م 2999 و 3004، ومطالب أولي النهى 3 / 112، كشاف القناع 3 / 218، ومنتهى الإرادات 1 / 362.
(2) الإيضاح للشماخي 3 / 442.(20/130)
أَمَّا فِي الْعَيْبِ الْمُتَوَسِّطِ فَالْمَشْهُورُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الأُْصُول (الْعَقَارَاتِ مِنْ دُورٍ وَنَحْوِهَا) وَبَيْنَ الْعُرُوضِ (وَهِيَ مَا عَدَا الْعَقَارِ) :
فَفِي الْعَقَارَاتِ لاَ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ بِهَذَا الْعَيْبِ الْمُتَوَسِّطِ بَل لَهُ الرُّجُوعُ بِالأَْرْشِ.
أَمَّا فِي الْعُرُوضِ، فَظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا الرَّدُّ سَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ مُتَوَسِّطًا أَوْ كَثِيرًا. وَقِيل: إِنَّ الْعُرُوضَ كَالأُْصُول لاَ يَجِبُ الرَّدُّ فِي الْعَيْبِ الْمُتَوَسِّطِ وَإِنَّمَا فِيهِ الرُّجُوعُ بِالْقِيمَةِ (1) .
وَذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ أَنَّ شَيْخَهُ الْفَقِيهَ أَبَا بَكْرِ بْنَ رِزْقٍ كَانَ يَحْمِل ظَاهِرَ الرِّوَايَاتِ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعُرُوضِ وَالأُْصُول فِي أَنَّ حُكْمَهَا الرُّجُوعُ بِالْقِيمَةِ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ مُتَوَسِّطًا، وَأَشَارَ ابْنُ رُشْدٍ إِلَى أَنَّ لِتَأْوِيلِهِ هَذَا مَا يُؤَيِّدُهُ مِنْ رِوَايَةِ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الثِّيَابِ (2) . وَلَعَلَّهُ اسْتِنَادًا لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ كَانَ بَعْضُ شُيُوخِ ابْنِ يُونُسَ يَرَوْنَ أَنَّ الثِّيَابَ فِي ذَلِكَ كَالدُّورِ.
الرَّدُّ وَشَرَائِطُهُ
33 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْفَسْخِ أَوِ الرَّدِّ مَا يَلِي:
1 - قِيَامُ الْخِيَارِ، وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ يَقْتَضِيهَا أَنَّ
__________
(1) المقدمات 570، بداية المجتهد 2 / 178.
(2) المقدمات 570، الحطاب والمواق 4 / 435، والخرشي بحاشية العدوي 4 / 42، والدسوقي على شرح الدردير لخليل 3 / 114.(20/131)
الْفَسْخَ فِي الْخِيَارِ إِنَّمَا هُوَ لأَِنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لاَزِمٍ، فَإِذَا سَقَطَ الْخِيَارُ لَزِمَ الْعَقْدُ، وَالْعَقْدُ اللاَّزِمُ لاَ يَحْتَمِل الْفَسْخَ (1) .
2 - أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ مَقْبُوضًا:
وَالْمُرَادُ أَنْ لاَ يَلْحَقَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ زَائِدٌ عَنِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، فَكَمَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ غَيْرَ مَعِيبٍ بِعَيْبٍ زَائِدٍ كَعَيْبِ الشَّرِكَةِ النَّاشِئِ عَنْ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ، أَوِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ (2) .
3 - أَنْ لاَ يَتَضَمَّنَ الْفَسْخُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ قَبْل التَّمَامِ:
وَهُوَ مَا قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ كُلِّهِ، لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّفْرِيقِ مِنْ عُيُوبٍ، أَحَدُهَا عَيْبُ الشَّرِكَةِ كَمَا سَيَأْتِي. قَال الْكَاسَانِيُّ: وَهَذَا الْمَنْعُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ، إِذْ لَوْ رَضِيَ لَجَازَ، لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ مِنْ جِهَتِهِ لاَ يَجِبُ دَفْعُهُ عَنْهُ (3) وَفِي هَذَا يَقُول ابْنُ حَجَرٍ:
__________
(1) البدائع 5 / 273 و 286 و 298، الفتاوى الهندية 3 / 81 - 82، رد المحتار 4 / 93، الخرشي 4 / 46، وغيره من شروح خليل.
(2) البدائع 5 / 283 و 284 مستخلصًا من توجيه قول أبي حنيفة في منع أحد المشترين لشيء واحد من رد نصيبه على البائع.
(3) البدائع 5 / 287، فتح القدير 5 / 175، الفتاوى الهندية 3 / 76 و 81 و 82 و83، وفيه تفصيلات دقيقة لما يعتبر صفقة واحدة يمتنع تفريقها وما ليس كذلك.(20/131)
إِذَا اتَّحَدَ الْمَبِيعُ صَفْقَةً لاَ يَرُدُّ الْمُشْتَرِي بَعْضَهُ بِعَيْبٍ قَهْرًا، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْبَعْضُ الآْخَرُ لِلْبَائِعِ فَحِينَئِذٍ يَرُدُّ عَلَيْهِ الْبَعْضَ قَهْرًا، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ مِنَ الْقَاضِي وَمَنْ تَبِعَهُ، لأَِنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ فِي امْتِنَاعِ رَدِّ الْبَعْضِ إِنَّمَا هِيَ الضَّرَرُ النَّاشِئُ مِنْ تَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ. . وَالتَّعْلِيل بِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَتَفْرِيقِهَا بِمُجَرَّدِهِ لاَ يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيل، وَإِنَّمَا وَجْهُ الْعِلَّةِ مَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ غَالِبًا فَآلَتِ الْعِلَّتَانِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ انْتِفَاءُ الضَّرَرِ) (1) .
34 - وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْل قَبْضِ الْمَبِيعِ كُلِّهِ لاَ يَجُوزُ مَهْمَا كَانَ الْمَبِيعُ، سَوَاءٌ كَانَ شَيْئًا وَاحِدًا كَالثَّوْبِ، وَالدَّارِ، أَوِ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ فِي وِعَاءٍ أَوْ أَوْعِيَةٍ، أَوْ كَانَ شَيْئَيْنِ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا كَالثَّوْبَيْنِ وَالدَّارَيْنِ، أَمْ شَيْئَيْنِ حَقِيقَةً شَيْئًا وَاحِدًا تَقْدِيرًا كَمِصْرَاعَيْ بَابٍ. وَدَلِيل عَدَمِ جَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْل تَمَامِهَا مَا يَلْحَقُ بِالْبَائِعِ مِنْ ضَرَرٍ يَجِبُ دَفْعُهُ مَا أَمْكَنَ، وَالضَّرَرُ هُوَ إِلْزَامُ الْبَائِعِ بِالشَّرِكَةِ، وَالشَّرِكَةُ فِي الأَْعْيَانِ عَيْبٌ. هَذَا فِي تَفْرِيقِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ أَشْيَاءَ فَفِيهِ ضَرَرٌ آخَرُ وَهُوَ لُزُومُ الْبَيْعِ فِي الْجَيِّدِ بِثَمَنِ الرَّدِيءِ لأَِنَّ ضَمَّ الرَّدِيءِ إِلَى الْجَيِّدِ وَالْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي الصَّفْقَةِ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ تَرْوِيجًا لِلرَّدِيءِ بِوَسَاطَةِ الْجَيِّدِ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُ قَبْضِ الْبَعْضِ بِمَثَابَةِ عَدَمِ الْقَبْضِ
__________
(1) الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي 2 / 422 - 423.(20/132)
فَلأَِنَّ الصَّفْقَةَ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِقَبْضِ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ - وَسَوَاءٌ وُجِدَ الْعَيْبُ فِي الْمَقْبُوضِ أَوْ فِي غَيْرِهِ - وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ فِي الْمَقْبُوضِ فَلَهُ رَدُّهُ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ (1) .
وَفِي تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ يَفْصِل الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ بَقَاءِ السَّالِمِ (غَيْرِ الْمَعِيبِ) وَفَوَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ فَائِتًا فَلَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ مُطْلَقًا وَأَخْذُ حِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، لأَِنَّهُ لَوْ رَدَّ الْجَمِيعَ هُنَا رَدَّ قِيمَةَ الْهَالِكِ عَيْنًا وَرَجَعَ فِي عَيْنٍ وَهُوَ الثَّمَنُ لِلْعَيْنِ وَقِيمَةُ الْعَرْضِ الَّذِي قَدْ فَاتَ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَرَدُّ الْعَيْنِ وَالرُّجُوعُ فِيهَا لاَ فَائِدَةَ فِيهِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ بَاقِيًا فَلَهُ رَدُّ الْبَعْضِ بِحِصَّتِهِ بِشَرِيطَتَيْنِ:
1 - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَعِيبُ هُوَ الأَْكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ وَلَوْ بِيَسِيرٍ، فَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ بِحِصَّتِهِ، بَل إِمَّا أَنْ يَتَمَاسَكَ بِالْجَمِيعِ أَوْ يَرُدَّ الْجَمِيعَ، أَوْ يَتَمَاسَكَ بِالْبَعْضِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ.
2 - أَنْ لاَ يَكُونَ الْمَعِيبُ وَجْهَ الصَّفْقَةِ فَلَيْسَ لِلْمُبْتَاعِ إِلاَّ رَدُّ الْجَمِيعِ أَوِ الرِّضَا بِالْجَمِيعِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ أَحَدَ مُزْدَوَجَيْنِ (2) .
__________
(1) البدائع 5 / 287، فتح القدير 5 / 175.
(2) الخرشي 4 / 57 - 58، الدسوقي 3 / 134 - 135، المواق 4 / 459، الحطاب 4 / 459 - 460، وفيه نقلاً عن التوضيح: ولهذا كان الصحيح فيمن استهلك إحدى مزدوجين وجوب قيمتهما.(20/132)
وَلَمْ يُصَوِّرَ الْمَالِكِيَّةُ التَّفَرُّقَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لاِعْتِبَارِهِمْ ذَلِكَ مِنَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ (الْمُتَوَسِّطِ) وَحُكْمُهُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الإِْمْسَاكِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْقَدِيمِ، أَوِ الرَّدِّ وَدَفْعِ أَرْشِ الْحَادِثِ مَا لَمْ يَقْبَلْهُ الْبَائِعُ بِالْحَادِثِ (1) .
35 - وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ مَانِعٌ مِنَ الرَّدِّ قَطْعًا إِذَا كَانَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَفِي الشَّيْئَيْنِ مِمَّا يُنْقِصُهُمَا التَّفْرِيقُ، أَوْ مِمَّا لاَ يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، دَفْعًا لِضَرَرِ الْبَائِعِ. أَمَّا إِذَا كَانَا شَيْئَيْنِ مِمَّا لاَ يَنْقُصُ بِالتَّفْرِيقِ وَمَا كَانَ فِي وِعَاءَيْنِ فَهُوَ كَشَيْئَيْنِ عِنْدَهُمْ وَوَجَدَهُمَا مَبِيعَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ أَحَدِهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ. قَال الْمِرْدَاوِيُّ: وَهُوَ الصَّوَابُ. فَإِنْ وَجَدَ بِأَحَدِهَا عَيْبًا فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ رَدُّ الْمَعِيبِ فَقَطْ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ مِنْ ثَلاَثِ رِوَايَاتٍ (2) .
وَكَذَلِكَ قَال الشَّافِعِيَّةُ لاَ يَرُدُّ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ، وَإِنْ زَال الْبَاقِي عَنْ مِلْكِهِ وَانْتَقَل لِلْبَائِعِ، عَلَى مَا جَزَمَ بِهِ الْمُتَوَلِّي وَالسُّبْكِيُّ وَالْبَغَوِيُّ، لأَِنَّهُ وَقْتَ الرَّدِّ لَمْ يَرُدَّ كَمَا تَمَلَّكَ. وَقَال الْقَاضِي حُسَيْنُ: إِنَّ لَهُ الرَّدَّ إِذْ لَيْسَ فِيهِ تَبْعِيضٌ عَلَى الْبَائِعِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ كَانَا شَيْئَيْنِ تَتَّصِل مَنْفَعَةُ أَحَدِهِمَا بِالآْخِرِ. أَمَّا الشَّيْئَانِ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ -
__________
(1) الدسوقي 3 / 126، وبقية شروح خليل.
(2) المغني 4 / 121م 3017 و 3018، والفروع وتصحيحه 4 / 111 - 112، وكشاف القناع 3 / 225 - 226.(20/133)
سَوَاءٌ كَانَا مَعِيبَيْنِ أَوْ ظَهَرَ الْعَيْبُ بِأَحَدِهِمَا - فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ أَحَدِهِمَا بَل يَرُدُّهُمَا. وَيُفَرِّقُ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ تَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ وَتَفَرُّدِهَا.
فَإِنْ تَعَدَّدَتِ الصَّفْقَةُ (وَذَلِكَ بِتَعَدُّدِ الْبَائِعِ أَوْ تَعَدُّدِ الْمُشْتَرِي، أَوْ تَفْصِيل الثَّمَنِ) فَلَهُ رَدُّ أَحَدِهِمَا فِي الأَْظْهَرِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَحْصُل تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ. أَمَّا إِنْ تَفَرَّدَتْ (بِعَدَمِ تَوَافُرِ شَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ تَعَدُّدِهَا) فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الْبَعْضِ (1) .
تَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ بِتَعَدُّدِ الْعَاقِدِ:
36 - تَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ لاَ تَنْحَصِرُ صُوَرُهُ فِي مَحَل الْعَقْدِ، بَل قَدْ يَنْشَأُ عَنْ تَعَدُّدِ الْعَاقِدِ. كَمَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَيَا شَيْئًا وَاحِدًا وَاطَّلَعَا عَلَى عَيْبٍ بِالْمَبِيعِ، فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ دُونَ صَاحِبِهِ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَنْفَرِدُ.
وَحُجَّةُ الصَّاحِبَيْنِ أَنَّهُ رَدَّ الْمُشْتَرِي كَمَا اشْتَرَاهُ، فَالرَّدُّ صَالِحٌ فِي النِّصْفِ لأَِنَّهُ مُشْتَرٍ نِصْفَهُ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الرَّدَّ لَمْ يُوجَدْ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ مَقْبُوضًا لأَِنَّهُ قَبَضَهُ غَيْرَ مَعِيبٍ بِعَيْبٍ زَائِدٍ - وَهُوَ هُنَا عَيْبُ الشَّرِكَةِ - فَلاَ يَصِحُّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْبَائِعِ (2) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 60، ونهاية المحتاج 4 / 25، وتكملة المجموع 12 / 155، وشرح المنهج للقاضي زكريا بحاشية الجمل 3 / 149.
(2) البدائع 5 / 283 - 284.(20/133)
وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ قُدَامَةَ مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ وَمُوَافَقَتَهُ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ فَقَال: لَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ شَيْئًا فَوَجَدَهُ مَعِيبًا فَلَهُ رَدُّهُ عَلَيْهِمَا فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا رَدَّ عَلَى الْحَاضِرِ حِصَّتَهُ بِقِسْطِهَا مِنَ الثَّمَنِ وَيَبْقَى نَصِيبُ الْغَائِبِ فِي يَدِهِ حَتَّى يَقْدَمَ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَاعَ الْعَيْنَ كُلَّهَا بِوَكَالَةِ الآْخَرِ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَاضِرُ الْوَكِيل أَمِ الْمُوَكِّل نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى قَرِيبٍ مِنْ هَذَا، فَإِنْ أَرَادَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا وَإِمْسَاكَ نَصِيبِ الآْخَرِ جَازَ لأَِنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْبَائِعِ جَمِيعَ مَا بَاعَهُ، وَلاَ يَحْصُل بِرَدِّهِ تَشْقِيصٌ، لأَِنَّ الْمَبِيعَ كَانَ مُشَقَّصًا فِي الْبَيْعِ (1) .
4 - عِلْمُ الْعَاقِدِ الآْخَرِ بِالْفَسْخِ:
37 - فَلَوْ فَسَخَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ، وَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْ فَسْخِهِ وَكَانَ ذَلِكَ الْفَسْخُ مَوْقُوفًا.
إِنْ عَلِمَ بِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ كَانَ ذَلِكَ إِجَازَةً لِلْعَقْدِ.
وَيُعَبِّرُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنْ شَرِيطَةِ الْعِلْمِ هَذِهِ بِقَوْلِهِمْ: أَنْ يُجِيزَ - أَوْ يَفْسَخَ - فِي حَضْرَةِ صَاحِبِهِ، وَهُمْ مُجْمِعُونَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحَضْرَةِ الْعِلْمُ وَلَيْسَ الْحُضُورَ.
وَاشْتِرَاطُ الْعِلْمِ لِلْفَسْخِ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ. سَوَاءٌ أَكَانَ الرَّدُّ قَبْل الْقَبْضِ أَمْ بَعْدَهُ.
وَلَيْسَ الْعِلْمُ بِمُشْتَرَطٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
__________
(1) المغني 4 / 145.(20/134)
فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى رِضَا الْبَائِعِ وَحُضُورِهِ (وَلاَ حُكْمِ حَاكِمٍ قَبْل الْقَبْضِ وَلاَ بَعْدَهُ) (1) . وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ كَلاَمًا فِي هَذَا، وَالْحَنَفِيَّةُ لاَ يَشْتَرِطُونَ لِلرَّدِّ قَبْل الْقَبْضِ الْقَضَاءَ أَوِ التَّرَاضِي، أَمَّا إِذَا كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا لأَِنَّهُ قَبْل الْقَبْضِ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ عِنْدَ رَفْعِ الْعَقْدِ لِحُضُورِ مَنْ لاَ يُعْتَبَرُ رِضَاهُ فِيهِ.
وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَهُوَ رَفْعٌ لِعَقْدٍ مُسْتَحَقٍّ لَهُ بِالْعَيْبِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ رِضَا الْبَائِعِ نَظِيرَ مَا قَبْل الْقَبْضِ (2) .
كَيْفِيَّةُ الرَّدِّ:
38 - الرَّدُّ إِمَّا أَنْ يَتِمَّ بِمَحْضِ إِرَادَةِ صَاحِبِ الْخِيَارِ، وَإِمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ لِحُصُولِهِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - وُجُودُ التَّرَاضِي بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ أَوِ التَّرَافُعُ لِلْقَضَاءِ. وَذَلِكَ يَتْبَعُ حَال الصَّفْقَةِ مِنْ حَيْثُ التَّمَامُ وَعَدَمُهُ. وَتَمَامُهَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا لَمْ تَتِمَّ الصَّفْقَةُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّرَاضِي أَوِ التَّقَاضِي. قَال الْكَاسَانِيُّ: لأَِنَّ الصَّفْقَةَ قَبْل الْقَبْضِ لَيْسَتْ تَامَّةً بَل تَمَامُهَا بِالْقَبْضِ فَكَانَ
__________
(1) البدائع 5 / 273، 286 في خيار الشرط، فتح القدير 5 / 122، الفتاوى الهندية 3 / 81 نقلاً عن الذخيرة، المغني 4 / 119م 3013، كشاف القناع 3 / 424، تكملة المجموع 12 / 157.
(2) الحطاب 4 / 159 - 160، الدسوقي 3 / 118، وما بعدها.(20/134)
بِمَنْزِلَةِ الْقَبُول كَأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِهِ (1) .
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الصَّفْقَةُ قَدْ تَمَّتْ، فَالرَّدُّ لاَ يَكُونُ مُجَرَّدَ نَقْضٍ وَانْفِسَاخٍ تَكْفِي فِيهِ إِرَادَةُ صَاحِبِ الْخِيَارِ، بَل هُوَ فَسْخٌ لِصَفْقَةٍ تَمَّتْ فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّرَاضِي أَوِ التَّقَاضِي، وَيُعَلِّل الْكَاسَانِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّفْقَةَ قَدْ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ فَلاَ تَحْتَمِل الاِنْفِسَاخَ بِنَفْسِ الرَّدِّ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةِ الْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَا. وَبِعِبَارَةِ السَّرَخْسِيِّ: " الْفَسْخُ بَعْدَ تَمَامِ الصَّفْقَةِ نَظِيرُ الإِْقَالَةِ، وَهِيَ لاَ تَتِمُّ إِلاَّ بِاتِّفَاقِ الْعَاقِدَيْنِ " (2) وَلاَ فَرْقَ فِي الرَّدِّ بَيْنَ وُقُوعِهِ قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ نَوْعُ فَسْخٍ فَلاَ تُفْتَقَرُ صِحَّتُهُ إِلَى الْقَضَاءِ وَلاَ لِلرِّضَا، كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ (بِالإِْجْمَاعِ) وَكَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَبْل الْقَبْضِ فَكَذَا بَعْدَهُ. وَلأَِنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عِنْدَهُمْ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ، فَلَمْ يَتَفَاوَتِ الرَّدُّ (3) .
صِيغَةُ الْفَسْخِ وَإِجْرَاءَاتُهُ:
39 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - كَمَا ذَكَرْنَا - إِلَى أَنَّ الْفَسْخَ قَبْل الْقَبْضِ يَحْصُل بِالإِْرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ وَالْمُرَادُ قَوْل
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 281، الفتاوى الهندية 3 / 66، فتح القدير 5 / 168.
(2) المبسوط للسرخسي 13 / 103، وكرر التشبيه بالإقالة في شرح السير الكبير 2 / 294، " الرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء يكون بمنزلة الإقالة فيه ".
(3) المهذب 1 / 284، الشرح الكبير على المقنع 4 / 86، تكملة المجموع للسبكي 12 / 157.(20/135)
الْمُشْتَرِي رَدَدْتُ أَوْ فَسَخْتُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ. أَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَلاَ بُدَّ مِنَ الاِتِّفَاقِ بِأَنْ يَفْسَخَ صَاحِبُ الْخِيَارِ وَيَقْبَل الْعَاقِدُ الآْخَرُ أَوْ يَتَقَاضَيَانِ. قَال الْكَاسَانِيُّ (1) : (لأَِنَّ الْفَسْخَ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْعَقْدِ لأَِنَّهُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ، ثُمَّ الْعَقْدُ لاَ يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَلاَ يَنْفَسِخُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ رِضَا الآْخَرِ. أَمَّا قَبْل الْقَبْضِ فَالصَّفْقَةُ لَمْ تَتِمَّ، فَكَانَ مِنَ السَّهْل الرَّدُّ لأَِنَّهُ كَالاِمْتِنَاعِ مِنَ الْقَبْضِ، وَهُوَ تَصَرُّفُ دَفْعٍ وَامْتِنَاعٍ وَذَلِكَ خَالِصُ حَقِّهِ) .
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَالْفَسْخُ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي مَهْمَا كَانَتِ الْكَيْفِيَّةُ: فِي حُضُورِ الْبَائِعِ أَوْ غَيْبَتِهِ، بِرِضَاهُ أَوْ عَدَمِهِ، وَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَى الْحَاكِمِ (2) وَلَكِنْ نَظَرًا لِذَهَابِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ يَثْبُتُ عَلَى الْفَوْرِ، لاَ التَّرَاخِي، وَأَنَّهُ تَجِبُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْفَسْخِ وَإِلاَّ سَقَطَ، فَقَدِ احْتِيجَ إِلَى الْقِيَامِ بِبَعْضِ الإِْجْرَاءَاتِ دُونَ أَنْ تَخْتَصَّ صُورَةٌ مِنْهَا بِالْوُجُوبِ، بَل يُجْزِئُ عَنْهَا مَا يُؤَدِّي الْمُرَادَ وَهُوَ إِثْبَاتُ مُبَادَرَتِهِ لِلْفَسْخِ.
وَخُلاَصَةُ هَذِهِ الإِْجْرَاءَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْخَصْمِ وَالْحَاكِمِ بِالْبَلَدِ وَجَبَ الذَّهَابُ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنْ أَخَّرَ سَقَطَ حَقُّهُ وَإِنْ فَسَخَ، وَلَكِنْ هُنَاكَ صُورَةٌ بَدِيلَةٌ عَنِ الذَّهَابِ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 281.
(2) تكملة المجموع 12 / 157.(20/135)
إِلَى الْبَائِعِ أَوِ الْحَاكِمِ، وَهِيَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الْفَسْخِ فَلاَ يَسْقُطُ حَقُّهُ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الذَّهَابُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ لِلتَّسْلِيمِ وَفَصْل الْخُصُومَةِ، عَلَى مَا حَقَّقَهُ السُّبْكِيُّ خِلاَفًا لِمَا تُوهِمُهُ بَعْضُ عِبَارَاتِ الْمُتُونِ (1) .
طَبِيعَةُ الرَّدِّ، وَآثَارُهَا فِي تَعَاقُبِ الْبَيْعِ
40 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الرَّدُّ بِالتَّرَاضِي بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَهُوَ فَسْخٌ فِي حَقِّهِمَا بَيْعٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ فِي الرَّدِّ بَعْدَ الْقَبْضِ (أَمَّا قَبْل الْقَبْضِ فَهُوَ رَدٌّ بِإِرَادَةٍ مُنْفَرِدَةٍ) وَإِذَا كَانَ الرَّدُّ بِالْقَضَاءِ كَانَ فَسْخًا فِي حَقِّهِمَا وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمَا. أَمَّا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فَالْفَسْخُ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ مُطْلَقًا (2) .
وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذِهِ الطَّبِيعَةِ فِي حَال تَعَاقُبِ بَيْعَيْنِ عَلَى الْمَعِيبِ بِعَيْبٍ قَدِيمٍ، حَيْثُ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَبُول الرَّدِّ مِنَ الْبَائِعِ الثَّانِي حَصَل بِالتَّرَاضِي أَوْ بِالْقَضَاءِ، فَإِنْ تَمَّ بِالْقَضَاءِ بِإِقَامَةِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 57، وشرح المنهج بحاشية الجمل 3 / 143، تكملة المجموع 12 / 139 - 150، وأسهب كثيرًا في بيان الوجوه والتأويلات حتى تعذر استخلاص المذهب مما ذكره إلا عن طريق الكتب المؤلفة بعده والمعتمدة على ما فيه، ولم يتعرض الحنابلة لذلك كله؛ لأن الخيار عندهم على التراخي.
(2) الهندية 3 / 66، نقلاً عن السراج الوهاج، تكملة المجموع 12 / 157، فتح القدير 5 / 165.(20/136)
الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَهُ بَعْدَمَا أَنْكَرَ الْعَيْبَ. أَوْ بِنُكُولِهِ عَنِ الْيَمِينِ عَلَى الْعَيْبِ، أَوْ بِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْبِ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ، وَالْمَقْصُودُ صُدُورُ إِقْرَارٍ مِنْهُ ثُمَّ إِنْكَارُهُ، فَيُقِيمُ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ الإِْقْرَارِ (أَمَّا الإِْقْرَارُ الْمُبْتَدَأُ فَلاَ حَاجَةَ مَعَهُ إِلَى الْقَضَاءِ أَصْلاً) فَفِي هَذِهِ الْحَال لِلْبَائِعِ الثَّانِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ الأَْوَّل فَيُخَاصِمَهُ وَيَفْعَل الإِْجْرَاءَاتِ الْوَاجِبَةَ لِرَدِّهِ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ قَبُول الْمُشْتَرِي الأَْوَّل لِلرَّدِّ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ بَل بِرِضَاهُ فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ عَلَى بَائِعِهِ، لأَِنَّ الرَّدَّ بِالتَّرَاضِي بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ - أَوْ كَمَا يُعَبِّرُونَ: فِي حَقِّ الثَّالِثِ - وَالْبَائِعُ الأَْوَّل هُنَا غَيْرُ الْمُشْتَرِي الأَْوَّل وَالْمُشْتَرِي الثَّانِي، كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الأَْوَّل اشْتَرَاهُ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَفِي هَذِهِ الْحَال لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ الأَْوَّل.
وَلأَِنَّهُ إِذَا قَبِلَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَقَدْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَلاَ يَرُدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ الأَْوَّل، وَلاَ يُقَال: إِنَّهُمَا بِالتَّرَاضِي عَلَى الرَّدِّ فَعَلاَ عَيْنَ مَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي، لأَِنَّ الْحُكْمَ الأَْصْلِيَّ فِي هَذَا هُوَ الْمُطَالَبَةُ بِالسَّلاَمَةِ مِنَ الْعَيْبِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَى الرَّدِّ لِلْعَجْزِ، فَإِذَا نَقَلاَهُ إِلَى الرَّدِّ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، أَلاَ يُرَى أَنَّ الرَّدَّ إِذَا امْتَنَعَ وَجَبَ الرُّجُوعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ (1) .
41 - هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا كَانَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ مِنَ
__________
(1) فتح القدير 5 / 167 - 168.(20/136)
الْمُشْتَرِي الثَّانِي بَعْدَ قَبْضِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ قَبْل قَبْضِهِ فَلِلْمُشْتَرِي الأَْوَّل أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ الأَْوَّل سَوَاءٌ كَانَ بِقَضَاءٍ أَمْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ - كَمَا لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي الأَْوَّل لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ - أَوْ بَيْعًا فِيهِ خِيَارُ رُؤْيَةٍ فَإِنَّهُ إِذَا فَسَخَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِحُكْمِ الْخِيَارِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي الأَْوَّل أَنْ يَرُدَّهُ مُطْلَقًا. قَال فِي الإِْيضَاحِ: (الْفِقْهُ فِيهِ أَنَّهُ قَبْل الْقَبْضِ لَهُ الاِمْتِنَاعُ مِنَ الْقَبْضِ عِنْدَ الاِطِّلاَعِ عَلَى الْعَيْبِ، فَكَانَ هَذَا تَصَرُّفُ دَفْعٍ وَامْتِنَاعٍ مِنَ الْقَبْضِ، وَوِلاَيَةُ الدَّفْعِ عَامَّةٌ فَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي حَقِّ الْكُل وَلِهَذَا لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ) (1) .
وَتَعَرَّضَ ابْنُ قُدَامَةَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَذَكَرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الأَْوَّل إِنْ عَادَ الْمَعِيبُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُشْتَرِي (الثَّانِي) فَأَرَادَ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ حِينَ بَاعَهُ عَالِمًا بِالْعَيْبِ، أَوْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى رِضَاهُ فَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ، لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ رِضًا بِالْعَيْبِ. وَإِلاَّ كَانَ لَهُ رَدُّهُ. . سَوَاءٌ رَجَعَ إِلَى الْمُشْتَرِي الأَْوَّل بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ أَوْ بِإِقَالَةٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ شِرَاءٍ ثَانٍ، أَوْ مِيرَاثٍ (2) .
الإِْمْسَاكُ مَعَ الأَْرْشِ (أَوِ الرُّجُوعُ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ) (3)
42 - هُنَاكَ أُمُورٌ تَطْرَأُ عَلَى الْمَبِيعِ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ
__________
(1) فتح القدير 5 / 168.
(2) المغني 4 / 248.
(3) الأرش: هو في اللغة دية الجراحات، وأصله من الفساد، يقال: أرّشت الحرب والنار إذا أوريتهما، والتأريش بين القوم: الإفساد بينهم، ولما كان نقصان الأعيان فسادًا فيها سمي نقصان الثمن: الأرش. وهو في الشرع عبارة عن الشيء المقدر الذي يحصل به الجبر عن الفائت والمغرب للمطرزي، والقاموس، تكملة المجموع للسبكي 12 / 167) .(20/137)
نُقْصَانٍ أَوْ تَصَرُّفٍ تَمْنَعُ رَدَّ الْمَبِيعِ، وَحِينَئِذٍ يَنْتَقِل حَقُّ الْمُشْتَرِي مِنَ الرَّدِّ إِلَى الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ، عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي هَذَا الْمُوجِبِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمُوجِبُ بَدِيلاً عَنِ الْخِيَارِ بَيْنَ الرَّدِّ وَالإِْمْسَاكِ (الَّذِي هُوَ الأَْصْل) أَمْكَنَ تَسْمِيَتُهُ (الْمُوجِبَ الْخَلَفِيَّ) وَكَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ لاَ يَجْتَمِعُ الْخَلَفُ وَالأَْصْل بَل يَتَعَاقَبَانِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الأَْصْل يُصَارُ إِلَى مَا هُوَ خَلَفٌ لَهُ.
هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَقَدْ عَرَّفَ غَيْرُهُمْ هَذَا الْمُوجِبَ مَعَ اخْتِلاَفِ الْمَجَال، فَالْمَالِكِيَّةُ حِينَ جَعَلُوا الْعُيُوبَ أَنْوَاعًا ثَلاَثَةً: الْعَيْبُ الْيَسِيرُ (لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ) ، وَعَيْبُ الرَّدِّ (وَهُوَ الْفَاحِشُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ الرَّدِّ وَالإِْمْسَاكِ بِلاَ أَرْشٍ) ، وَعَيْبُ الْقِيمَةِ، أَرَادُوا بِهَذَا الأَْخِيرِ الْعَيْبَ الْمُتَوَسِّطَ الَّذِي يُنْقِصُ مِنَ الثَّمَنِ، وَمُوجِبُ عَيْبِ الْقِيمَةِ أَنْ يَحُطَّ عَنِ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ بِقَدْرِ نَقْصِ الْعَيْبِ، فَمِثْل هَذَا النَّوْعِ نُقْصَانُ الثَّمَنِ هُوَ مُوجِبُهُ الأَْصْلِيُّ.
كَمَا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يُثْبِتُونَ الْخِيَرَةَ لِلْمُشْتَرِي بَيْنَ الإِْمْسَاكِ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ أَوِ الرَّدِّ وَلَوْ لَمْ يَتَعَذَّرَ(20/137)
الرَّدُّ (1) . فَهَذَا هُوَ الْمُوجِبُ الأَْصْلِيُّ لِلْخِيَارِ عِنْدَهُمْ، أَمَّا الْمُوجِبُ الْخَلَفِيُّ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ بِسَبَبِ عَيْبٍ حَادِثٍ فَهُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الرَّدِّ وَإِعْطَاءِ أَرْشِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ وَبَيْنَ الإِْمْسَاكِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ. وَهُوَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا.
طَرِيقَةُ مَعْرِفَةِ الأَْرْشِ (2) :
43 - هِيَ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَبِيعُ بِلاَ عَيْبٍ، ثُمَّ يُقَوَّمُ مَعَ الْعَيْبِ وَيُنْظَرُ إِلَى التَّفَاوُتِ وَتُؤْخَذُ نِسْبَتُهُ إِلَى الْقِيمَةِ هَل هُوَ عُشْرٌ أَوْ ثُمُنٌ أَوْ رُبْعٌ. . إِلَخْ. فَإِنْ كَانَ التَّفَاوُتُ عُشْرَ الْقِيمَةِ رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِعُشْرِ الثَّمَنِ (3) . وَهَكَذَا (4) .
قَال صَاحِبُ الأَْشْبَاهِ: وَلَمْ يَذْكُرْ قَاضِي خَانْ
__________
(1) القوانين الفقهية 258، وذكر أن هذا التقسيم في غير الحيوان، وأما فيه فيرد بكل ما يحط من القيمة. المغني 4 / 111م 3003، كشاف القناع 3 / 224، الفروع 4 / 106 بداية المجتهد 2 / 177، المقدمات 570، الخرشي 4 / 42، الحطاب والمواق 4 / 434، الدسوقي 3 / 114.
(2) للأرش مباحث مفصلة في تكملة المجموع للسبكي 12 / 265 - 294 و 12 / 303 - 309.
(3) لما كانت الأثمان قديمًا هي الذهب والفضة وما شابهها، فقد تعرض بعض الفقهاء إلى أن الأرش هل يؤخذ من (عين الثمن) أو يدفعه البائع من حيث شاء؟ وللحنابلة فيه احتمالان، وصحح ابن نصر الله الاحتمال الثاني بترك الأمر للبائع، قال في تصحيح الفروع: وهو ظاهر كلام
(4) فتح القدير 6 / 12، الفتاوى الهندية 3 / 83، المغني 4 / 111، تكملة المجموع 12 / 265، وترتيب الأشباه والنظائر 262.(20/138)
وَلاَ الزَّيْلَعِيُّ وَلاَ ابْنُ الْهُمَامِ هَل الْقِيمَةُ (الَّتِي يُنْسَبُ إِلَيْهَا النُّقْصَانُ) يَوْمَ الْعَقْدِ أَوِ الْقَبْضِ؟ وَيَنْبَغِي اعْتِبَارُهَا يَوْمَ الْعَقْدِ.
وَفِي الْمُغْنِي أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ قَال: يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ فِي الثَّمَنِ يَوْمَ اشْتَرَاهُ قَال أَحْمَدُ: هَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ. وَقَال فِي شَرْحِ الرَّوْضِ " هُوَ أَقَل قِيمَتَيْ وَقْتِ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ " (1) .
مَوَانِعُ الرَّدِّ:
44 - تَنْقَسِمُ مَوَانِعِ الرَّدِّ إِلَى مَانِعٍ طَبِيعِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ أَوْ عَقْدِيٍّ.
أَوَّلاً - الْمَانِعُ الطَّبِيعِيُّ:
45 - ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ هَلاَكَ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ يَمْنَعُ الرَّدَّ، لِفَوَاتِ مَحَل الرَّدِّ، وَلاَ يَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ مِنَ الثَّمَنِ، لأَِنَّهُ يَحْمِل تَبِعَةَ الْهَلاَكِ قَبْل الْقَبْضِ. أَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَقَدْ أَفَادَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَنَّ مَوْتَ مَحَل الرَّدِّ بِيَدِ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ وَيَجْعَل مُوجِبَ الْخِيَارِ الرُّجُوعُ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ هَلاَكَ الْمَبِيعِ بِسَبَبٍ سَمَاوِيٍّ
__________
(1) ترتيب الأشباه والنظائر 262، المغني 4 / 112، شرح الروض 2 / 63، وتكملة المجموع 12 / 272.(20/138)
يَمْتَنِعُ مَعَهُ الْمُوجِبُ الأَْصْلِيُّ الَّذِي هُوَ الرَّدُّ لِيَحِل مَحَلَّهُ الْمُوجِبُ الْخَلَفِيُّ (نُقْصَانُ الثَّمَنِ) .
وَيَسْتَوِي فِي الْهَلاَكِ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ سَمَاوِيٍّ أَوْ بِاسْتِهْلاَكِ الْمُشْتَرِي لَهُ عَلَى سَبِيل الاِسْتِعْمَال وَالاِنْتِفَاعِ الْمَشْرُوعِ، لاَ الإِْتْلاَفِ، وَذَلِكَ بِأَكْل الطَّعَامِ أَوْ لُبْسِ الثَّوْبِ حَتَّى يَتَخَرَّقَ، وَفِي هَذَا النَّوْعِ خِلاَفٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَاعْتِبَارُهُ فِي مَوَانِعِ الرَّدِّ دُونَ الأَْرْشِ هُوَ مَذْهَبُ الصَّاحِبَيْنِ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ صَنَعَ بِالْمَبِيعِ مَا يُقْصَدُ بِشِرَائِهِ وَيُعْتَادُ فِعْلُهُ فِيهِ مِنَ الأَْكْل وَاللُّبْسِ حَتَّى انْتَهَى الْمِلْكُ بِهِ. وَلأَِبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ مِنْهُ لَوْ وُجِدَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، وَقَدِ انْتَفَى الضَّمَانُ لِمِلْكِهِ فَكَانَ كَالْمُسْتَفِيدِ بِهِ عِوَضًا. وَإِنِ اقْتَصَرَ الاِسْتِهْلاَكُ عَلَى بَعْضِهِ، فَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ فِي الأَْكْل وَفِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ يَرُدُّ مَا بَقِيَ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ مَا أَكَل (1) .
وَمِثْل الْهَلاَكِ فِي امْتِنَاعِ الرَّدِّ: انْتِهَاءُ الْمِلْكِ عَنِ الشَّيْءِ بِالْمَوْتِ، لأَِنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ الْمِلْكُ لاَ بِفِعْل الْمُشْتَرِي، فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ حُكْمًا وَيَبْقَى لَهُ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ.
وَقَدْ سَوَّى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ هَلاَكِ
__________
(1) البدائع 5 / 283، فتح القدير 5 / 161 - 163، رد المحتار 4 / 82 - 83، تبيين الحقائق 4 / 35، مغني المحتاج 2 / 54، الخرشي 5 / 138، كشاف القناع 2 / 63.(20/139)
الْمَعِيبِ بِالْعَيْبِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَهُمَا، فَوَافَقُوهُمْ فِي الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ فِي الْهَلاَكِ بِغَيْرِ الْعَيْبِ الْمُدَلَّسِ، أَمَّا فِيهِ فَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ (1) . أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَالتَّفْرِقَةُ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ بِحَسَبِ الْهَلاَكِ بِالْعَيْبِ أَوْ غَيْرِهِ بَل بِحَسَبِ وُقُوعِ التَّدْلِيسِ وَعَدَمِهِ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ سَيِّئَ النِّيَّةِ وَدَلَّسَ الْعَيْبَ ثُمَّ هَلَكَ الْمَبِيعُ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يُدَلِّسَ الْبَائِعُ فَرُجُوعُهُ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ فَقَطْ. وَيَرْبِطُ الْمَالِكِيَّةُ مِقْدَارَ الْجَزَاءِ بِأَثَرِ الْعَمَل، فَلاَ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ الْمُدَلَّسُ هُوَ الَّذِي أَوْدَى بِالْمَبِيعِ (2) . وَيُسَمِّي الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِالْفَوْتِ وَيُقَسِّمُونَهُ إِلَى فَوْتٍ حِسِّيٍّ، وَفَوْتٍ حُكْمِيٍّ (3) .
ثَانِيًا - الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ:
46 - هَذَا الْمَانِعُ عِبَارَةٌ عَنْ حُصُول زِيَادَةٍ فِي الْمَبِيعِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ تَكُونَ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً (بَعْدَ الْقَبْضِ) أَوْ مُتَّصِلَةً غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ (مُطْلَقًا، قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ) فَظُهُورُ الزِّيَادَةِ
__________
(1) البحر الرائق 6 / 39، فتح القدير 5 / 161، مغني المحتاج 2 / 54، المهذب 1 / 291، نهاية المحتاج 4 / 24.
(2) المغني 4 / 135، كشاف القناع 3 / 180 " سواء تعيّب المبيع عند المشتري أو تلف بفعل الله كالمرض، أو بفعل المشتري مما هو مأذون شرعًا ".
(3) الخرشي 4 / 48، الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 124.(20/139)
بَعْدَمَا ظَهَرَ عَيْبٌ فِي الْمَبِيعِ يَمْتَنِعُ بِهِ الرَّدُّ وَلَوْ قَبِل الْبَائِعُ، لأَِنَّ الْمَنْعَ لِحَقِّ الشَّرْعِ. وَفِيمَا يَأْتِي تَفْصِيل هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ الْمَانِعَتَيْنِ مِنَ الرَّدِّ وَالنَّاقِلَتَيْنِ الْمُوجِبَ إِلَى الأَْرْشِ.
أَوَّلاً - الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ (مُطْلَقًا: قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ) كَالصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ فِي الثَّوْبِ، وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ فِي الأَْرْضِ، لأَِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ تَابِعَةً، بَل هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا فَتَعَذَّرَ مَعَهَا رَدُّ الْمَبِيعِ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ رَدُّهُ بِدُونِ الزِّيَادَةِ لِتَعَذُّرِ الْفَصْل، وَلاَ يُمْكِنُ رَدُّهُ مَعَ الزِّيَادَةِ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ تَابِعَةً فِي الْعَقْدِ فَلاَ تَكُونُ تَابِعَةً فِي الْفَسْخِ (إِلاَّ إِنْ تَرَاضَيَا عَلَى الْفَسْخِ فَهُوَ إِقَالَةٌ وَكَبَيْعٍ جَدِيدٍ) وَلَوْ قَال الْبَائِعُ: أَنَا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ، وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي لاَ يَجُوزُ أَيْضًا، لأَِنَّ الْمَنْعَ لِحَقِّ الشَّرْعِ لاِسْتِلْزَامِهِ الرِّبَا.
ثَانِيًا - الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ، بَعْدَ الْقَبْضِ خَاصَّةً، كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ. وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ أَيْضًا لأَِنَّ الزِّيَادَةَ مَبِيعَةٌ تَبَعًا لِثُبُوتِ حُكْمِ الأَْصْل وَحَصَلَتْ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، فَإِنْ رَدَّهَا مَعَ الأَْصْل كَانَتْ لِلْبَائِعِ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَإِنِ اسْتَبْقَاهَا وَرَدَّ الأَْصْل فَإِنَّهَا تَبْقَى فِي يَدِهِ بِلاَ ثَمَنٍ، وَهَذَا مِنْ صُوَرِ الرِّبَا.
وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ، فَعَدَّهَا كَالْكَسْبِ، لإِِمْكَانِ الْفَصْل عَنِ الأَْصْل بِدُونِهَا،(20/140)
وَالزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي، فَهِيَ لاَ تَمْنَعُ الرَّدَّ (1) .
47 - أَمَّا صُوَرُ الزِّيَادَةِ الأُْخْرَى فَلاَ تَمْنَعُ الرَّدَّ، وَلِذَا لاَ رُجُوعَ مَعَهَا بِالأَْرْشِ، وَهِيَ:
1 - الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ، كَالْكِبَرِ وَالسِّمَنِ، وَمِنْهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْجَنِينُ قَبْل الْوَضْعِ وَالثَّمَرَةُ قَبْل التَّأْبِيرِ. وَهِيَ لاَ تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِرَدِّهَا مَعَ الأَْصْل وَإِنْ أَبَى الْمُشْتَرِي الرَّدَّ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِالأَْرْشِ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ.
وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ الزِّيَادَةَ تَمَحَّضَتْ تَابِعَةً لِلأَْصْل بِتَوَلُّدِهَا مِنْهُ مَعَ عَدَمِ انْفِصَالِهَا فَكَأَنَّ الْفَسْخَ لَمْ يَرِدْ عَلَى زِيَادَةٍ أَصْلاً - كَمَا قَال ابْنُ الْهُمَامِ - أَوْ كَمَا قَال الْكَاسَانِيُّ: كَانَتِ الزِّيَادَةُ مَبِيعَةً تَبَعًا، وَمَا كَانَ تَبَعًا فِي الْعَقْدِ يَكُونُ تَبَعًا فِي الْفَسْخِ. وَلاَ فَرْقَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ بَيْنَ أَنْ تَحْدُثَ قَبْل الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ (2) .
__________
(1) البدائع 5 / 285 - 286، فتح القدير 160 - 161، رد المحتار 4 / 80 - 81، الفتاوى الهندية 3 / 77، تكملة المجموع 12 / 254.
(2) البدائع 5 / 284، فتح القدير 5 / 161، المغني 4 / 130. وقد جاء حكم هذه الصورة عند ابن الهمام موهمًا العكس، حيث قال: " وهي تمنع الرد لتعذر الفسخ عليها؛ لأن العقد لم يرد عليها، ولا يمكن التبعية للانفصال " ثم قال بعد: " فيكون المشتري بالخيار قبل القبض إن شاء ردهما جميعًا، وإن شاء رضي بهما بجميع الثمن ". والفتح 5 / 161 تفصيلات بشأن وجود عيب بالزيادة وحدها، وفروع أخرى تنظر هناك.(20/140)
2 - الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ: قَبْل الْقَبْضِ كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرِ فِي بَيْعِ الشَّجَرِ وَهِيَ لاَ تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ، لَكِنْ لاَ يُرَدُّ الأَْصْل وَحْدَهُ، بَل إِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي رَدَّهُمَا جَمِيعًا وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُرَدُّ الأَْصْل دُونَ الزِّيَادَةِ، فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي.
3 - الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ، كَالْغَلَّةِ وَالْكَسْبِ، وَهِيَ لاَ تَمْنَعُ مِنَ الرَّدِّ وَهُوَ الْحُكْمُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ فِي الأَْصْل دُونَ الزِّيَادَةِ وَيُسَلَّمُ الْكَسْبُ لِلْمُشْتَرِي لأَِنَّهُ حَصَل فِي ضَمَانِهِ، وَدَلِيل ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ قَوْل الْبَائِعِ: إِنَّهُ اسْتَغَل غُلاَمَهُ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (1) وَلأَِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ وَإِنَّمَا هِيَ مَمْلُوكَةٌ بِمِلْكِ الأَْصْل، فَبِالرَّدِّ يُفْسَخُ الْعَقْدُ فِي الأَْصْل وَتَبْقَى الزِّيَادَةُ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ ثَمَنٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (لَكِنَّهَا لاَ تَطِيبُ لَهُ، لأَِنَّهَا وَإِنْ حَدَثَتْ عَلَى مِلْكِهِ هِيَ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ، وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: الزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ وَلاَ تَطِيبُ لَهُ) هَذَا إِذَا اخْتَارَ الرَّدَّ، أَمَّا إِنْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ وَاخْتَارَ الْبَيْعَ فَالزِّيَادَةُ لاَ تَطِيبُ لَهُ بِلاَ خِلاَفٍ لأَِنَّهَا رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلأَِنَّهَا زِيَادَةٌ لاَ يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فِي الْعَقْدِ وَهُوَ رِبًا، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْكَسْبُ لِلْمُشْتَرِي بِمُقَابَلَةِ ضَمَانِهِ، دُونَ فَرْقٍ بَيْنَ مَا يَقْبَل الْقَبْضَ أَوْ بَعْدَهُ.
__________
(1) حديث: " الخراج بالضمان ". تقدم تخريجه ف / 2.(20/141)
48 - هَذَا إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ قَائِمَةً فَإِنْ هَلَكَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَمْ يَتَغَيَّرَ الْحُكْمُ، وَإِنْ هَلَكَتْ بِفِعْل الْمُشْتَرِي فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقَبُول وَرَدِّ جَمِيعِ الثَّمَنِ وَبَيْنَ الرَّفْضِ وَرَدِّ النُّقْصَانِ، وَإِنْ هَلَكَتْ بِفِعْل أَجْنَبِيٍّ امْتَنَعَ الرَّدُّ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَال الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ إِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
1 - زِيَادَةٌ لِحَوَالَةِ الأَْسْوَاقِ.
2 - وَزِيَادَةٌ فِي حَالَةِ الْبَيْعِ وَكِلاَهُمَا لاَ يُعْتَبَرُ وَلاَ يُوجِبُ لِلْمُبْتَاعِ خِيَارًا. صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعُيُوبِ مِنَ الْمُدَوَّنَةِ فَقَال فِي أَوَّلِهِ وَلاَ يُفِيتُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ حَوَالَةَ الأَْسْوَاقِ.
3 - وَزِيَادَةٌ فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ بِنَمَاءٍ حَادِثٍ فِيهِ كَالدَّابَّةِ تَسْمَنُ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ مُضَافٍ إِلَيْهِ كَالْوَلَدِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ.
4 - وَزِيَادَةٌ مُضَافَةٌ لِلْمَبِيعِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ مِثْل أَنْ يَشْتَرِيَ النَّخْل وَلاَ ثَمَرَ فِيهِ فَتُثْمِرَ عِنْدَهُ ثُمَّ يَجِدَ عَيْبًا، فَهَذَا لاَ اخْتِلاَفَ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يُوجِبُ لَهُ خِيَارًا، وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ النَّخْل وَثَمَرَتَهَا مَا لَمْ يَطِبْ وَيَرْجِعَ بِالْعِلاَجِ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَوْ يُمْسِكَ وَلاَ شَيْءَ لَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَقَوْلُهُ مَا لَمْ يَطِبْ أَيْ مَا لَمْ تُزْهُ.
5 - وَزِيَادَةٌ أَحْدَثَهَا الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ مِنْ صَنْعَةٍ
__________
(1) البدائع 5 / 284 - 285، المغني 4 / 130 تكملة المجموع 12 / 254.(20/141)
مُضَافَةٍ إِلَيْهِ كَالصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِمَّا لاَ يَنْفَصِل عَنْهُ إِلاَّ بِفَسَادٍ، فَلاَ اخْتِلاَفَ أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ لَهُ الْخِيَارَ بَيْنَ أَنْ يَتَمَسَّكَ وَيَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ أَوْ يَرُدَّ وَيَكُونَ شَرِيكًا لَهُ، وَنَحْوُهُ لِلْبَاجِيِّ. فِي الْمُنْتَقَى وَذَكَرَ الْبَاجِيُّ خَمْسَةَ الأَْوْجُهِ.
49 - قَال الْحَطَّابُ: وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّقْوِيمِ فَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ غَازِيٍّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إِذَا حَدَثَتْ زِيَادَةٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَحْدُثْ عِنْدَهُ عَيْبٌ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ، فَإِنِ اخْتَارَ الإِْمْسَاكَ فَيُقَوَّمُ الْمَبِيعُ تَقْوِيمَيْنِ، يُقَوَّمُ سَالِمًا، ثُمَّ مَعِيبًا، وَيَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ بِنِسْبَةِ ذَلِكَ، وَإِنِ اخْتَارَ الرَّدَّ قُوِّمَ تَقْوِيمَيْنِ أَيْضًا فَيُقَوَّمُ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ غَيْرَ مَصْبُوغٍ ثُمَّ يُقَوَّمُ مَصْبُوغًا، فَمَا زَادَتْ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا عَلَى قِيمَتِهِ غَيْرَ مَصْبُوغٍ نُسِبَ إِلَى قِيمَتِهِ مَصْبُوغًا وَكَانَ الْمُشْتَرِي شَرِيكًا فِي الثَّوْبِ بِنِسْبَتِهِ، كَمَا إِذَا قُوِّمَ غَيْرَ مَصْبُوغٍ بِثَمَانِينَ، وَقُوِّمَ مَصْبُوغًا بِتِسْعِينَ، فَيَنْسِبُ الْعَشَرَةَ الزَّائِدَةَ إِلَى تِسْعِينَ فَتَكُونُ تِسْعًا فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي شَرِيكًا فِي الثَّوْبِ بِالتِّسْعِ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ مَصْبُوغًا وَغَيْرَ مَصْبُوغٍ يَوْمَ الْبَيْعِ عِنْدَ ابْنِ يُونُسَ، وَيَوْمَ الْحُكْمِ عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ، وَأَمَّا إِذَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ وَزِيَادَةٌ فَإِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الإِْمْسَاكَ قُوِّمَ الْمَبِيعُ تَقْوِيمَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنِ اخْتَارَ الرَّدَّ فَقَال ابْنُ الْحَاجِبِ: لاَ بُدَّ مِنْ أَرْبَعِ تَقْوِيمَاتٍ، يُقَوَّمُ سَالِمًا ثُمَّ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ، ثُمَّ بِالْحَادِثِ، ثُمَّ بِالزِّيَادَةِ، وَقَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: لاَ حَاجَةَ إِلَى تَقْوِيمِهِ سَالِمًا وَلاَ إِلَى(20/142)
تَقْوِيمِهِ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ وَإِنَّمَا يُقَوَّمُ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ ثُمَّ بِالزِّيَادَةِ فَيُشَارِكُ فِي الْمَبِيعِ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ (1) .
ثَالِثًا - الْمَانِعُ الْعَقَدِيُّ: (الْعَيْبُ الْحَادِثُ)
50 - الْعَقْدُ الْمُبْرَمُ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ يَقُومُ عَلَى الاِلْتِزَامِ بِمَا أَلْزَمَ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمَا نَفْسَهُ مِنْ مَبِيعٍ وَثَمَنٍ، بِمُوجَبِ الْعَقْدِ، وَلِذَا كَانَ حَقُّ الرَّدِّ لِلْمَعِيبِ مُقَيَّدًا بِأَنْ لاَ يَقَعَ مَا يُخِل بِالاِلْتِزَامَاتِ الْمُوَزَّعَةِ فِي الْعَقْدِ، فَإِذَا تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ حَادِثٍ، سَوَاءٌ كَانَ بِفِعْل الْمُشْتَرِي أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْل الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ ذَا حَيَاةٍ، فَإِنَّ الرَّدَّ لِلْمَعِيبِ - وَهُوَ الْمُوجِبُ الأَْصْلِيُّ - يَمْتَنِعُ، وَيَنْتَقِل إِلَى الْمُوجِبِ الْخَلَفِيِّ وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ لأَِنَّ شَرْطَ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ عِنْدَ الرَّدِّ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عِنْدَ الْقَبْضِ وَلَمْ يُوجَدْ لِخُرُوجِهِ مَعِيبًا بِعَيْبٍ وَاحِدٍ فَقَطْ، وَلأَِنَّ فِي الرَّدِّ إِضْرَارًا بِالْبَائِعِ وَهُوَ إِخْلاَلٌ بِطَبِيعَةِ الْعَقْدِ، لأَِنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ سَالِمًا مِنَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ فَلَوْ أُلْزِمَ بِهِ مَعِيبًا تَضَرَّرَ، لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ يَضْمَنُ الْعَيْبَ الْقَدِيمَ لاَ يَضْمَنُ الْحَادِثَ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْمَبِيعُ بِيَدِ الْمُشْتَرِي فَانْعَدَمَ شَرْطُ الرَّدِّ، وَبِمَا أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمُشْتَرِي لِمُقَابَلَةِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ الَّذِي صَارَ مُسْتَحِقًّا لَهُ
__________
(1) الحطاب 4 / 447، المقدمات لابن رشد 2 / 571 - 574 الطبعة الأولى.(20/142)
بِالْعَقْدِ فَقَدْ تَعَيَّنَ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ وَرَدِّ حِصَّةِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ بِالثَّمَنِ
وَلَمْ يَجْعَل الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ لِلْمُشْتَرِي حَقَّ الرَّدِّ لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ السَّبَبُ بِالْعَجْزِ عَنِ الرَّدِّ بِمَا بَاشَرَهُ فِي الْبَيْعِ - أَوْ بِمَا حَصَل فِيهِ عَلَى ضَمَانِهِ - وَفِي إِلْزَامِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ إِضْرَارٌ بِالْبَائِعِ لاَ لِفِعْلٍ بَاشَرَهُ (وَتَقْصِيرُهُ بِعَدَمِ بَيَانِ الْعَيْبِ لاَ يَمْنَعُ عِصْمَةَ مَالِهِ) فَكَانَ الأَْنْظَرُ لِلطَّرَفَيْنِ هُوَ دَفْعَ الأَْرْشِ لِلْعَيْبِ الْقَدِيمِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لِلْحَنَابِلَةِ - يُخَيَّرُ بَيْنَ الإِْمْسَاكِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ وَبَيْنَ الرَّدِّ مَعَ أَرْشِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ مَا لَمْ يَقْبَلْهُ الْبَائِعُ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي عَيْبٌ سَقَطَ الرَّدُّ قَهْرًا ثُمَّ إِنْ رَضِيَ بِهِ الْبَائِعُ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي أَوْ قَنَعَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْبَائِعُ مَعِيبًا ضَمَّ الْمُشْتَرِي أَرْشَ الْحَادِثِ إِلَى الْمَبِيعِ وَرَدَّ، أَوْ غَرِمَ أَرْشَ الْقَدِيمِ وَلاَ يَرُدُّ. فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى أَحَدِ الأَْمْرَيْنِ فَذَاكَ وَإِلاَّ فَالأَْصَحُّ إِجَابَةُ مَنْ طَلَبَ الإِْمْسَاكَ. وَيَجِبُ أَنْ يُعْلِمَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ عَلَى الْفَوْرِ بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ لِيَخْتَارَ، فَإِنْ أَخَّرَ إِعْلاَمَهُ بِلاَ عُذْرٍ فَلاَ رَدَّ وَلاَ أَرْشَ.
أَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الرَّدِّ مَعَ أَرْشِ
__________
(1) البدائع 5 / 283، والعناية 5 / 160، وفتح القدير 5 / 159 - 160، المغني 4 / 113 م 3006، الفتاوى الهندية 2 / 255.(20/143)
الْعَيْبِ الْحَادِثِ وَبَيْنَ الإِْمْسَاكِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ (1) .
سُقُوطُ الْخِيَارِ وَانْتِهَاؤُهُ:
51 - خِيَارُ الْعَيْبِ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ أَيْ فَسْخِهِ، فَيَكُونُ الْخِيَارُ مُنْتَهِيًا تَبَعًا لَهُ، لَكِنَّ ذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ آثَارَهُ أَحْيَانًا فِيمَا إِذَا عَادَ الْمَبِيعُ الْمَعِيبُ إِلَى الْبَائِعِ وَفِيهِ عَيْبٌ حَادِثٌ لَدَى الْمُشْتَرِي. كَمَا يَنْتَهِي خِيَارُ الْعَيْبِ بِاخْتِيَارِ إِمْسَاكِ الْبَيْعِ الْمَعِيبِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْعَيْبِ، وَهَذَا الاِخْتِيَارُ إِمَّا أَنْ يَقَعَ صَرَاحَةً بِالْقَوْل الْمُعَبِّرِ عَنِ الرِّضَا، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ بِالتَّصَرُّفِ الدَّال عَلَى الرِّضَا، (أَمَّا غَيْرُ الدَّال عَلَى الرِّضَا فَيُسْقِطُ الرَّدَّ دُونَ الأَْرْشِ) .
وَقَدْ يَنْتَهِي الْخِيَارُ بِزَوَال الْعَيْبِ قُبَيْل اسْتِعْمَال حَقِّ الرَّدِّ، وَفِي بَعْضِ صُوَرِ الْوِلاَيَةِ عَنِ الصَّغِيرِ وَغَيْرِهِ، أَوِ الْوَكَالَةِ، يَتَعَيَّنُ التَّنَازُل عَنِ الْخِيَارِ لِكَوْنِ الإِْمْسَاكِ لِلْعَقْدِ أَكْثَرَ حَظْوَةً وَفَائِدَةً، وَنَظَرُ الْوِلاَيَةِ وَالنِّيَابَةِ عَنِ الْغَيْرِ مَبْنِيٌّ عَلَى الأَْصْلَحِ.
وَلاَ يَخْفَى أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأَْسْبَابِ الْمُسْقِطَةِ إِرَادِيٌّ يَصْدُرُ مِنَ الْعَاقِدِ، وَبَعْضُهَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَرْعًا أَوْ يَقَعُ دُونَ إِرَادَتِهِ، وَلِهَذَا تَفَرَّقَتِ الْمُسْقِطَاتُ، لاِجْتِذَابِ هَذِهِ الْعَوَامِل لَهَا إِلَى:
1 - زَوَال الْعَيْبِ قَبْل الرَّدِّ.
__________
(1) الهداية وفتح القدير والعناية 5 / 159 - 160، والمغني 4 / 131، مغني المحتاج 2 / 58 - 59، شرح الروض 2 / 68، الدسوقي 3 / 126.(20/143)
2 - إِسْقَاطُ الْخِيَارِ بِصَرِيحِ الإِْسْقَاطِ وَالإِْبْرَاءِ عَنْهُ، أَوِ التَّنَازُل بِمُقَابِلٍ.
3 - وُجُوبُ تَرْكِ الرَّدِّ رِعَايَةً لِلْمَصْلَحَةِ، بِحُكْمِ الشَّرْعِ.
4 - الرِّضَا بِالْعَيْبِ صَرَاحَةً.
5 - التَّصَرُّفَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الرِّضَا.
أَوَّلاً: زَوَال الْعَيْبِ قَبْل الرَّدِّ.
52 - يَسْقُطُ خِيَارُ الْعَيْبِ - الرَّدُّ وَالأَْرْشُ - إِذَا زَال الْعَيْبُ قَبْل الرَّدِّ، لأَِنَّ الشَّرِيطَةَ الأُْولَى لِقِيَامِ الْخِيَارِ قَدْ تَخَلَّفَتْ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ أَنْ يَزُول بِنَفْسِهِ أَوْ بِإِزَالَةِ الْبَائِعِ، عَلَى أَنْ يَتِمَّ ذَلِكَ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ وَمِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ بِالْمُشْتَرِي. . وَلِهَذَا الزَّوَال بَعْضُ الصُّوَرِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي تَعَرَّضَ لَهَا ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتَاوَاهُ، مِنْهَا:
تَدَارُكُ الْعَيْبِ بِزَمَنٍ يَسِيرٍ يَمْنَعُ الْخِيَارَ، وَذَلِكَ فِيمَا لَوْ بِيعَتْ أَرْضٌ وَفِي الْمَبِيعِ بَذْرٌ تَعَهَّدَ الْبَائِعُ بِتَرْكِهِ أَوْ بِالْفَرَاغِ مِنْهُ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ، لاَ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي، كَمَا لَوِ اشْتَرَى دَارًا ثُمَّ رَأَى خَلَلاً بِسَقْفِهَا أَوْ بَالُوعَةً. . يَلْزَمُ الْقَبُول، وَلاَ نَظَرَ لِلْمِنَّةِ اللاَّحِقَةِ بِهِ. وَنَحْوُهُ شِرَاءُ أَرْضٍ فِيهَا دَفِينٌ مِنْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ. . لاَ تُدْخَل، وَتَرْكُهَا غَيْرُ مُضِرٍّ وَقَلْعُهَا مُضِرٌّ يُسْقِطُ الْخِيَارَ، لِكَوْنِ النَّقْل يُنْقِصُ قِيمَتَهَا أَوْ يَحْتَاجُ لِمُدَّةٍ لَهَا أُجْرَةٌ (وَلاَ نَظَرَ لِمَا فِي التَّرْكِ مِنَ الْمِنَّةِ لأَِنَّهُ ضِمْنَ عَقْدٍ) وَهَذَا التَّرْكُ إِعْرَاضٌ لاَ تَمْلِيكٌ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهِ، فَإِذَا رَجَعَ عَادَ(20/144)
خِيَارُ الْمُشْتَرِي، فَلَوْ وَهَبَهَا لَهُ بِشُرُوطِهِ لَزِمَهُ الْقَبُول وَسَقَطَ خِيَارُهُ وَلاَ رُجُوعَ لِلْبَائِعِ (1) .
زَوَال الْعَيْبِ بِالتَّرْكِ مِنْ غَيْرِ لُحُوقِ مِنَّةٍ: فِيمَا لَوْ أَنْعَل الْمُشْتَرِي الدَّابَّةَ ثُمَّ بَانَ عَيْبُهَا، فَلَوْ نَزَعَ النَّعْل تَعَيَّبَتْ وَامْتَنَعَ الرَّدُّ، وَإِنْ تَرَكَهُ فَلَهُ الرَّدُّ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ الاِمْتِنَاعُ عَنِ الْقَبُول.
وَجْهُ عَدَمِ الْمِنَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا يَقَعُ فِي ضِمْنِ عَقْدٍ يَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ تَوْفِيرِ غَرَضٍ لِبَاذِلِهِ فَلَمْ تُوجَدْ فِيهِ حَقِيقَةُ الْمِنَّةِ، لاَ سِيَّمَا وَقَدِ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ إِجْبَارُ الشَّرْعِ لَهُ عَلَى الْقَبُول فَهُوَ كَارِهٌ لَهُ، وَالْكَارِهُ لِلشَّيْءِ لاَ يُتَوَهَّمُ لُحُوقُ مِنَّةٍ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ (2) .
ثَانِيًا - وُجُوبُ تَرْكِ الرَّدِّ رِعَايَةً لِلْمَصْلَحَةِ:
53 - وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ فِي إِمْسَاكِ الْمَعِيبِ وَالْعَاقِدُ مُقَيَّدُ التَّصَرُّفِ: وَذَلِكَ مَا إِذَا كَانَ فِي الْعَقْدِ غِبْطَةٌ، أَيْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ، وَلِهَذَا صُوَرٌ:
أ - لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا، لأَِنَّ فِي الرَّدِّ وَالْحَالَةُ هَذِهِ تَفْوِيتَ الْفَرْقِ عَلَى الْغُرَمَاءِ.
ب - لَوْ كَانَ وَلِيًّا يَشْتَرِي لِمُوَلِّيهِ فِي حَالٍ يَصِحُّ فِيهَا شِرَاؤُهُ لَهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ سَلِيمًا ثُمَّ تَعَيَّبَ قَبْل الْقَبْضِ. لأَِنَّ الرَّدَّ تَصَرُّفٌ ضَارٌّ بِحَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فَلاَ يَصِحُّ.
__________
(1) الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي 2 / 244.
(2) الفتاوى الكبرى لابن حجر 2 / 243.(20/144)
ج - أَوْ كَانَ عَامِل قِرَاضٍ وَلَمْ يُصَرِّحَ الْمَالِكُ بِطَلَبِ الرَّدِّ، لِلْعِلَّةِ نَفْسِهَا (1) .
ثَالِثًا - إِسْقَاطُ الْخِيَارِ بِصَرِيحِ الإِْسْقَاطِ، وَالإِْبْرَاءِ عَنْهُ
54 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ إِسْقَاطَ الْمُشْتَرِي خِيَارَ الْعَيْبِ إِسْقَاطٌ سَائِغٌ، لأَِنَّ الْخِيَارَ حَقٌّ خَالِصٌ لِلْمُشْتَرِي فَلَهُ النُّزُول عَنْهُ. وَهُوَ فِي هَذَا يُخَالِفُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ الَّذِي لاَ يَصِحُّ إِنْهَاؤُهُ بِصَرِيحِ الإِْسْقَاطِ لأَِنَّهُ خِيَارٌ حُكْمِيٌّ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ بَل يَسْقُطُ تَبَعًا وَضِمْنًا.
هَذَا عَنْ إِسْقَاطِ خِيَارِ الرَّدِّ، وَأَمَّا حَقُّ الرُّجُوعِ بِالأَْرْشِ (نُقْصَانِ الثَّمَنِ) فَكَذَلِكَ الأَْمْرُ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ صَرِيحُ الإِْبْطَال، لأَِنَّهُ حَقُّهُ كَخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لِثُبُوتِهِ بِالشَّرْطِ (وَهِيَ السَّلاَمَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي الْعَقْدِ دَلاَلَةً) وَالإِْنْسَانُ بِسَبِيلٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّهِ مَقْصُودًا اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا (2) .
وَمِثْل الإِْسْقَاطِ فِي الْحُكْمِ الإِْبْرَاءُ، بِأَنْ يُبَرِّئَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ مِنَ الْعَيْبِ، لأَِنَّ (الإِْبْرَاءَ) فِي حَقِيقَتِهِ إِسْقَاطٌ، وَلِلْمُشْتَرِي هُنَا وِلاَيَةُ الإِْسْقَاطِ لأَِنَّ الْخِيَارَ حَقُّهُ وَالْمَحَل قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ (3) .
هَذَا وَلاَ يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِعِوَضٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
__________
(1) تحفة المحتاج بحاشية الشرواني 4 / 140.
(2) بدائع الصنائع 5 / 282.
(3) البدائع 5 / 282.(20/145)
فَقَدْ سُئِل ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ عَنْ بَذْل عِوَضٍ لِتَرْكِ رَدِّ الْعَيْبِ، هَل يَجُوزُ كَعِوَضِ الْخُلْعِ؟ فَأَجَابَ: " لاَ يَجُوزُ بَذْل الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ تَرْكِ خِيَارِ الْعَيْبِ، لاَ مِنَ الأَْجْنَبِيِّ وَلاَ مِنَ الْبَائِعِ، لأَِنَّهُ خِيَارُ فَسْخٍ فَأَشْبَهَ خِيَارَ التَّرَوِّي فِي كَوْنِهِ غَيْرَ مُتَقَوِّمٍ " (1) . وَهَذَا غَيْرُ الأَْرْشِ لأَِنَّهُ لَيْسَ عِوَضًا لِتَرْكِ الْخِيَارِ أَصْلاً، بَل هُوَ تَقْوِيمٌ لِنُقْصَانِ الثَّمَنِ اعْتِرَافًا بِالْخِيَارِ وَعَمَلاً بِمَضْمُونِهِ.
رَابِعًا - الرِّضَا بِالْعَيْبِ صَرَاحَةً:
55 - رِضَا الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ إِذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِصُورَةٍ صَرِيحَةٍ، كَلَفْظِ: رَضِيتُ بِالْعَيْبِ، أَسْقَطْتُ خِيَارَ الْعَيْبِ، أَجَزْتُ الْعَقْدَ، أَمْضَيْتُهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ الْمُفِيدَةِ لِلرِّضَا، فَإِنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ أَصْلاً أَيْ يَنْتَهِي حَقُّ الرَّدِّ وَالأَْرْشِ مَعًا.
ذَلِكَ لأَِنَّ حَقَّ الرَّدِّ إِنَّمَا هُوَ لِفَوَاتِ السَّلاَمَةِ الْمَشْرُوطَةِ دَلاَلَةً فِي الْعَقْدِ، وَإِذَا رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ فَقَدْ دَل عَلَى أَنَّهُ نَزَل عَنْ هَذَا الشَّرْطِ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْهُ ابْتِدَاءً وَأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطِ السَّلاَمَةَ دَلاَلَةً، وَقَدْ ثَبَتَ الْخِيَارُ نَظَرًا لَهُ فَإِذَا لَمْ يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ وَرَضِيَ بِالضَّرَرِ فَذَاكَ لَهُ.
وَكَذَلِكَ الْحَال إِذَا تَنَاوَل الرِّضَا بِالْعَيْبِ حَقَّ الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الثَّمَنِ، كَمَا لَوِ انْتَقَصَ الْمَبِيعُ فِي
__________
(1) الفتاوى الكبرى لابن حجر 2 / 136 - 137.(20/145)
يَدِ الْمُشْتَرِي وَامْتَنَعَ الرَّدُّ بِسَبَبِ النُّقْصَانِ وَوَجَبَ الأَْرْشُ، لَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ حِينَئِذٍ أَظْهَرَ رِضَاهُ بِالْعَيْبِ فَإِنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ جُمْلَةً.
خَامِسًا: التَّصَرُّفَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى الرِّضَا:
56 - الرِّضَا بِالْعَيْبِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالدَّلاَلَةِ وَمَجَالُهَا الأَْفْعَال (أَوِ التَّصَرُّفَاتُ) وَذَلِكَ بِأَنْ يُوجَدَ مِنَ الْمُشْتَرِي (بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ) تَصَرُّفٌ فِي الْمَبِيعِ يَدُل عَلَى الرِّضَا بِالْعَيْبِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: " كُل تَصَرُّفٍ يُوجَدُ مِنَ الْمُشْتَرِي فِي الْمُشْتَرَى بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ يَدُل عَلَى الرِّضَا بِالْعَيْبِ يُسْقِطُ الْخِيَارَ " (1)
وَالتَّصَرُّفَاتُ بِالنِّسْبَةِ لِهَذَا الْمُسْقِطِ يُمْكِنُ تَصْنِيفُهَا إِلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:
1 - تَصَرُّفَاتِ اسْتِعْمَالٍ لِلْمَبِيعِ وَاسْتِغْلاَلٍ لَهُ وَانْتِفَاعٍ مِنْهُ:
57 - وَذَلِكَ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ دُونَ انْتِقَاصٍ لِعَيْنِهِ أَوْ إِتْلاَفٍ لَهُ، كَلُبْسِ الثَّوْبِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ (لِغَيْرِ الرَّدِّ، أَوِ السَّقْيِ، أَوْ شِرَاءِ الْعَلَفِ) وَسَقْيِ الأَْرْضِ أَوْ زَرْعِهَا أَوْ حَصَادِهَا، أَوْ عَرْضِ الْمَبِيعِ عَلَى الْبَيْعِ أَوِ الإِْجَارَةِ، أَوْ مُدَاوَاتِهِ وَاسْتِخْدَامِهِ وَلَوْ مَرَّةً. فَإِذَا تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ فَهُوَ دَلاَلَةٌ عَلَى الرِّضَا، وَهُوَ
__________
(1) البدائع 5 / 282.(20/146)
دَلِيلٌ قَصْدُهُ الاِسْتِبْقَاءُ. وَدَلِيل الشَّيْءِ فِي الأُْمُورِ الْبَاطِنَةِ - كَالرِّضَا - يَقُومُ مَقَامَهَا (1) .
2 - تَصَرُّفَاتُ إِتْلاَفٍ لِلْمَبِيعِ:
58 - وَالْمُرَادُ مَا كَانَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الاِسْتِعْمَال، كَالتَّمْزِيقِ لِلثَّوْبِ، وَقَتْل الدَّابَّةِ، فَمِثْل هَذَا التَّصَرُّفِ لِغَيْرِ مَصْلَحَتِهِ، وَيَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ (2) .
3 - تَصَرُّفَاتُ إِخْرَاجٍ عَنْ مِلْكِهِ:
59 - إِذَا أَخْرَجَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ عَنْ مِلْكِهِ بِأَنْ عَقَدَ عَلَيْهِ عَقْدًا مِنْ عُقُودِ التَّمْلِيكِ كَالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ (مَعَ التَّسْلِيمِ) أَوِ الصُّلْحِ، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ فِيهِ، سَقَطَ خِيَارُهُ لِتَعَذُّرِ رَدِّ الْمَبِيعِ إِلَى الْبَائِعِ، فَفِي هَذِهِ الْحَال لاَ سَبِيل إِلَى فَسْخِ الْبَيْعِ بَيْنَ الْمُشْتَرِي الأَْوَّل وَبَيْنَ بَائِعِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالْمَبِيعِ، لأَِنَّهُ بِالْبَيْعِ صَارَ حَابِسًا لَهُ فَكَانَ مُفَوِّتًا لِلرَّدِّ، وَلَمَّا كَانَ امْتِنَاعُ الرَّدِّ هُنَا بِسَبَبِ الْمُشْتَرِي فَلاَ رُجُوعَ لَهُ بِالنُّقْصَانِ أَيْضًا لأَِنَّ مِنْ شَرَائِطِهِ أَنْ لاَ يَكُونَ امْتِنَاعُ الرَّدِّ بِسَبَبِ الْمُشْتَرِي. وَالإِْقْدَامُ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ دَلِيل الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَسُقُوطِ الْخِيَارِ مِنْ أَسَاسِهِ.
__________
(1) فتح القدير والعناية 5 / 177 - 178، والبدائع 5 / 282، ورد المحتار 5 / 90 - 91.
(2) شرح مختصر الطحاوي لقاضيخان، نقلاً عن حاشية الشلبي على الزيلعي 4 / 36.(20/146)
وَلَكِنْ لَوْ فُسِخَ التَّصَرُّفُ وَرُدَّ إِلَيْهِ الْبَيْعُ بِخِيَارِ شَرْطٍ أَوْ رُؤْيَةٍ (مَثَلاً) فَإِنْ كَانَ قَبْل الْقَبْضِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ سَوَاءٌ كَانَ الرَّدُّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِالتَّرَاضِي (بِالإِْجْمَاعِ) وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنْ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ (بِلاَ خِلاَفٍ) ، وَإِنْ كَانَ قَبُول الْبَائِعِ لَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ (1) .
60 - هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ - الَّذِي عَلَيْهِ التَّبْوِيبُ وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْحَنَابِلَةُ - وَقَدِ اخْتَلَفَتْ آرَاءُ غَيْرِهِمْ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ إِنْ كَانَتْ بِعِوَضٍ فَهِيَ مُسْقِطَةٌ لِلْخِيَارِ: لِلرَّدِّ وَالأَْرْشِ مَعًا، وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَهُ نُقْصَانُ الثَّمَنِ. وَمُسْتَنَدُهُمْ فِكْرَةُ اسْتِفَادَةِ عِوَضٍ يُسْتَدْرَكُ بِهِ الْعَيْبُ الْفَائِتُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ تَصَرُّفٍ يَحْصُل بِهِ الْيَأْسُ مِنْ عَوْدِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، كَالْوَقْفِ، فَهُوَ مَانِعٌ لِلرَّدِّ، وَبَيْنَ تَصَرُّفٍ يُرْجَى مَعَهُ الْعَوْدُ لِمِلْكِهِ، كَالْبَيْعِ فَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى إِطْلاَقِ الْحُكْمِ فِي التَّصَرُّفَاتِ كُلِّهَا - إِذَا تَصَرَّفَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْعَيْبِ - فَإِنَّهُ مَانِعٌ لِلرَّدِّ وَنَاقِلٌ إِلَى الْمُوجَبِ
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 35 و 37، فتح القدير 5 / 160، البدائع 5 / 282 و 289 " لو باعه المشتري أو وهبه ثم علم بالعيب لم يرجع بالنقصان؛ لأن امتناع الرد ها هنا من قبل المشتري؛ لأنه بالبيع صار ممسكًا عن الرد؛ لأن المشتري قام مقامه فصار مبطلاً للرد الذي هو الحق فلا يرجع بشيء. وذكر من التصرفات المسقطة للخيار إع(20/147)
الْخَلَفِيِّ (نُقْصَانِ الثَّمَنِ) لِتَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْعَيْبِ فَلَمْ يَكُنْ فِي تَصَرُّفِهِ دَلاَلَةٌ عَلَى الرِّضَا بِالْعَيْبِ، فَيَقْتَصِرُ أَثَرُهُ عَلَى مَنْعِ الرَّدِّ (1) .
إِثْبَاتُ خِيَارِ الْعَيْبِ:
61 - ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّهُ إِذَا اتَّفَقَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى حَالَةٍ مِنْ أَحْوَال خِيَارِ الْعَيْبِ وَجَبَ الْحُكْمُ الْخَاصُّ بِتِلْكَ الْحَال. فَإِنْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ دَعْوَى الْعَيْبِ الْمَوْجُودِ فَإِمَّا أَنْ يُنْكِرَ وُجُودَ الْعَيْبِ، أَوْ يُنْكِرَ قِدَمَهُ.
فَفِي إِنْكَارِ الْعَيْبِ إِمَّا أَنْ يَسْتَوِيَ فِي إِدْرَاكِهِ جَمِيعُ النَّاسِ وَحِينَئِذٍ يَكْفِي شَاهِدَانِ عَدْلاَنِ مِنْ أَيِّ النَّاسِ كَانُوا، وَإِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ بِعِلْمِهِ أَهْل صِنَاعَةٍ مَا، فَلاَ بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ أَهْل تِلْكَ الصِّنَاعَةِ، وَفِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ خِلاَفٌ فِيمَا يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ:
قِيل: لاَ بُدَّ مِنْ عَدْلَيْنِ. وَقِيل: لاَ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ الْعَدَالَةُ وَلاَ الْعَدَدُ وَلاَ الإِْسْلاَمُ.
وَكَذَلِكَ الْحَال إِنِ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا فِي الْقِيمَةِ، وَفِي قِدَمِهِ أَوْ حُدُوثِهِ، ثُمَّ لَمْ يَتَحَدَّثْ عَنْ أَجْوِبَةِ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِانْصِيَاعِ أَحْوَالِهَا لأُِصُول الإِْثْبَاتِ الْمَعْرُوفَةِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 159 - 162، والبدائع 5 / 289، وشرح التحفة بحاشية الشرواني 4 / 362، والمقدمات لابن رشد 248، والخرشي 5 / 130، المغني لابن قدامة 4 / 123 - 125م 3032 - 3027.
(2) بداية المجتهد 2 / 183.(20/147)
إِثْبَاتُ الْعَيْبِ، وَالاِخْتِلاَفُ فِيهِ:
62 - الدَّعْوَى فِي الْعَيْبِ وَالْخُصُومَةِ فِيهِ إِمَّا أَنْ تَحْتَاجَ إِلَى الْبَرْهَنَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَعْتَوِرَهَا النِّزَاعُ مِنَ الْخَصْمِ، وَيَقَعُ الاِخْتِلاَفُ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ فِي مَسَائِل الْعَيْبِ بِأَنْوَاعِهَا مِنْ قِدَمٍ وَحُدُوثٍ، وَهَل الرَّدُّ لِعَيْنِ الْمَرْدُودِ أَوْ غَيْرِهِ. . إِلَخْ.
وَفِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلاَتٌ فِي تَنَازُعِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الْعَيْبِ أَوْ فِي سَبَبِ الرَّدِّ بِهِ مُعْظَمُهَا تَخْضَعُ لِطَرَائِقِ الإِْثْبَاتِ الْعَامَّةِ بَعْدَ شَيْءٍ مِنَ التَّصَوُّرِ لِلْمُدَّعِي الْمُنْكِرِ.
كَمَا تَعَرَّضَ الْحَنَابِلَةُ لِلاِخْتِلاَفِ فِي قِدَمِ الْعَيْبِ وَحُدُوثِهِ، بِمَا لاَ يَخْرُجُ عَنْ طُرُقِ الإِْثْبَاتِ الْعَامَّةِ، لَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا يَخْتَصُّ بِمَوْضُوعِنَا أَنَّهُ فِي الْعَيْبِ الَّذِي لاَ يُحْتَمَل فِيهِ إِلاَّ قَوْل أَحَدِهِمَا، وَادَّعَى الْمُشْتَرِي كَوْنَهُ قَدِيمًا، كَالْجُرْحِ الطَّرِيِّ، فَالْقَوْل قَوْل مَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ بِغَيْرِ يَمِينٍ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (قَضَاءٌ، وَدَعْوَى) .
انْتِقَال خِيَارِ الْعَيْبِ:
63 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ يَنْتَقِل إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ.
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 132 - 133، وغيره من شروح خليل، شرح الروض 2 / 71 - 73، نهاية المحتاج 4 / 92 ط 2، حاشية البجيرمي على شرح المنهج 2 / 262، والإقناع 2 / 101، والمغني 2 / 125 - 126 م 3028.(20/148)
خِيَارُ الْغَبْنِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْغَبْنُ فِي اللُّغَةِ: النَّقْصُ، فِعْلُهُ: غَبَنَ - مِنْ بَابِ ضَرَبَ - يُقَال غَبَنَهُ فَانْغَبَنَ، وَغُبِنَ (بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُول) فَهُوَ مَغْبُونٌ أَيْ مَنْقُوصٌ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ غَيْرِهِ.
وَغَبَنَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ غَبْنًا، وَغَبِينَةً (وَهِيَ اسْمُ الْمَصْدَرِ) أَيْ غَلَبَهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: غَبَنَهُ فِي الْبَيْعِ: خَدَعَهُ (1) .
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْغَبْنِ مُسْتَمَدٌّ مِنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ فَهُوَ - كَمَا يَقُول ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ -: " النَّقْصُ فِي الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ " وَمِثْلُهُ النَّقْصُ فِي الْبَدَل فِي بَاقِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ. وَمَعْنَى النَّقْصِ هُنَا إِذَا كَانَ الْمَغْبُونُ هُوَ الْمُشْتَرِي أَنْ لاَ يُقَابَل جُزْءٌ مِنَ الثَّمَنِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَبِيعِ لِزِيَادَةِ الثَّمَنِ عَنْ أَكْثَرِ تَقْوِيمٍ لِلْمَبِيعِ مِنْ أَهْل الْخِبْرَةِ.
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب، ومقاييس اللغة، ورد المحتار 1 / 159.(20/148)
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَغْبُونُ هُوَ الْبَائِعُ فَالنَّقْصُ فِي الثَّمَنِ حَقِيقِيٌّ (1) .
الْخِيَارَاتُ الْمُرْتَبِطَةُ بِالْغَبْنِ:
2 - لِلْغَبْنِ تَأْثِيرٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَحْيَانًا يُنَاطُ بِهِ الْحُكْمُ صَرَاحَةً، وَأَحْيَانًا يُنَاطُ بِسَبَبٍ مَادِّيٍّ أَشَدَّ مِنْهُ وُضُوحًا، وَيَكُونُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ الْوَحِيدُ، أَوْ أَحَدُ الْمُؤَثِّرَاتِ.
فَمِنَ الْمَوَاطِنِ الَّتِي يُؤَثِّرُ فِيهَا: الْمُبَادَلاَتُ الرِّبَوِيَّةُ بَيْنَ الأَْجْنَاسِ الْمُتَّحِدَةِ، وَالاِحْتِكَارُ، وَأَنْوَاعٌ مِنَ الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، كَالنَّجْشِ، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَالْمُصَرَّاةِ وَنَحْوِهَا مِنْ صُوَرِ التَّغْرِيرِ الْفِعْلِيِّ، وَالْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ غَيْرِهِ (أَيْ دُخُول أَجْنَبِيٍّ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ لِلاِسْتِئْثَارِ بِالْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ) . وَبَيْعِ الْمُسْتَرْسِل، وَبُيُوعِ الأَْمَانَةِ، وَحَالَةِ التَّغْرِيرِ الْقَوْلِيِّ الْمُقْتَرِنِ بِالْغَبْنِ، لِذَا كَانَ مِنَ الضَّرُورِيِّ اسْتِخْلاَصُ أَحْكَامٍ عَامَّةٍ فِي الْغَبْنِ الَّذِي تَنْشَأُ بِسَبَبِهِ بِضْعَةُ خِيَارَاتٍ تَخْتَلِفُ الْمَذَاهِبُ تُجَاهَهَا بَيْنَ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ.
وَقَدِ اتَّخَذَ ابْنُ قُدَامَةَ (2) مِنَ الْغَبْنِ مَدَارًا لِثَلاَثَةِ خِيَارَاتٍ هِيَ:
1 - تَلَقِّي الرُّكْبَانِ، إِذَا اشْتَرَى مِنْهُمْ - أَوْ بَاعَهُمْ - بِغَبْنٍ.
__________
(1) البحر الرائق 7 / 169.
(2) المغني 3 / 522 ط 4 م 2777.(20/149)
2 - بَيْعُ النَّجْشِ، بِالزِّيَادَةِ فِي السِّلْعَةِ مِمَّنْ يَعْمَل لِمَصْلَحَةِ الْبَائِعِ دُونَ إِرَادَةِ الشِّرَاءِ لِيَقَعَ الْمُشْتَرِي فِي غَبْنٍ.
3 - الْمُسْتَرْسِل (1) : وَلاَ رَيْبَ فِي أَنَّ خِيَارَ الْمُسْتَرْسِل مِنْ صَمِيمِ خِيَارَاتِ الْغَبْنِ، لأَِنَّهُ لاَ تَغْرِيرَ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ، إِنَّمَا هِيَ خِيَانَةٌ طَارِئَةٌ مِنَ الْبَائِعِ بَعْدَمَا رَكَنَ إِلَيْهِ الْمُشْتَرِي فَتَرَكَ الْمُسَاوَمَةَ فِي الثَّمَنِ، وَلاَذَ بِالْبَائِعِ لِيُجِيرَهُ مِنَ الْغَبْنِ فَأَوْقَعَهُ فِيهِ، فَهُوَ خِيَارُ غَبْنٍ حَقًّا.
وَتَلْخِيصُ مَوَاقِفِ الْمَذَاهِبِ مِنَ الْغَبْنِ وَاسْتِلْزَامُهُ الْخِيَارَ أَوْ عَدَمَهُ هُوَ بِالصُّورَةِ التَّالِيَةِ:
الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَرَوْنَ لِلْمَغْبُونِ خِيَارًا إِلاَّ إِذَا كَانَ مُغَرَّرًا بِهِ عَلَى الرَّاجِحِ، أَوْ كَانَ غَبْنًا لِلْقَاصِرِ.
الْمَالِكِيَّةُ: يَقُولُونَ (فِي رَأْيٍ) بِالْخِيَارِ لِلْمَغْبُونِ مُطْلَقًا، أَوْ إِذَا كَانَ مُسْتَرْسِلاً لِبَائِعِهِ.
الشَّافِعِيَّةُ: يَقُولُونَ (فِي رَأْيٍ) بِالْخِيَارِ
الْحَنَابِلَةُ: يَقْتَصِرُونَ عَلَى إِثْبَاتِ الْخِيَارِ لِمَنْ كَانَ مُسْتَرْسِلاً وَغُبِنَ.
ضَابِطُ الْغَبْنِ الْمُعْتَبَرِ، وَشَرْطُهُ:
3 - الْغَبْنُ الَّذِي يُرَدُّ بِهِ شَرْعًا هُوَ الْغَبْنُ
__________
(1) المسترسل هو الجاهل بقيمة السلعة ولا يحسن المبايعة. قال الإمام أحمد: المسترسل هو الذي لا يماكس، فكأنه استرسل إلى البائع فأخذ ما أعطاه من غير مماسكة ولا معرفة بغبنه. المغني 3 / 584.(20/149)
الْفَاحِشُ، وَالإِْطْلاَقُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ كُلَّمَا ذُكِرَ فِي مَجَال الرَّدِّ.
وَالْمُرَادُ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الرَّاجِحِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلٍ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي تَقْدِيرِ الْغَبْنِ عَلَى عَادَةِ التُّجَّارِ. وَإِنِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فَإِنَّهَا كُلَّهَا تُؤَدِّي إِلَى هَذَا الْمَعْنَى.
وَإِنَّمَا كَانَتِ الْعِبْرَةُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، لأَِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي الْعُيُوبِ وَنَحْوِهَا مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي تَقْتَضِي الْخِبْرَةَ فِي الْمُعَامَلاَتِ (1) .
وَالْقَوْل الثَّانِي لِكُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْغَبْنِ الثُّلُثُ، وَالْقَوْل الثَّالِثُ لِلْمَالِكِيَّةِ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ (2) .
شَرْطُ خِيَارِ الْغَبْنِ:
4 - يُشْتَرَطُ لِقِيَامِ خِيَارِ الْغَبْنِ أَنْ يَكُونَ الْمَغْبُونُ جَاهِلاً بِوُقُوعِهِ فِي الْغَبْنِ عِنْدَ التَّعَاقُدِ. وَفِي تِلْكَ الْحَال وَرَدَ حَدِيثُ حِبَّانَ (3) . الَّذِي احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِالْخِيَارِ (وَفِيهِ أَنَّهُ هُنَاكَ اشْتِرَاطُ عَدَمِ الْخِلاَبَةِ أَوِ الْغَبْنِ) أَمَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْغَبْنِ
__________
(1) رد المحتار 4 / 159، البحر الرائق 7 / 169، جامع الفصولين 2 / 31، الفتاوى الخيرية 1 / 220، شرح المجلة لعلي حيدر عند المادة / 165، والبدائع 6 / 30.
(2) الحطاب شرح خليل 4 / 472.
(3) حديث حبان بن منقذ، تقدم في بحث (خيار) وتقدم تخريجه.(20/150)
وَأَقْدَمَ عَلَى التَّعَاقُدِ فَلاَ خِيَارَ لَهُ، لأَِنَّهُ أُتِيَ مِنْ قِبَل نَفْسِهِ فَكَأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ رَاضِيًا (1) .
مُوجِبُ الْخِيَارِ:
5 - إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّ الْمَغْبُونَ مُسْتَرْسِلٌ، وَكَانَ الْغَبْنُ خَارِجًا عَنِ الْمُعْتَادِ فَلِلْمَغْبُونِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْمْضَاءِ مَجَّانًا، فَهَذَا هُوَ الْمُوجِبُ لَيْسَ غَيْرُ، أَيْ إِنْ أَمْسَكَ الْمَغْبُونُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالأَْرْشِ، وَهُوَ هُنَا مِقْدَارُ الْغَبْنِ (2) .
مُسْقِطَاتُهُ:
6 - يَسْقُطُ خِيَارُ الْغَبْنِ (مَعَ التَّغْرِيرِ) عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْمَجَلَّةُ الْعَدْلِيَّةُ - بِمَا يَلِي:
1 - هَلاَكُ الْمَبِيعِ، أَوِ اسْتِهْلاَكُهُ، أَوْ تَغَيُّرُهُ، أَوْ تَعَيُّبُهُ: وَفِي حُكْمِ الاِسْتِهْلاَكِ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ بِشَيْءٍ مُقَابَلَةً لِنُقْصَانِ ثَمَنِ الْمَبِيعِ.
2 - السُّكُوتُ وَالتَّصَرُّفُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْغَبْنِ: فَإِذَا تَصَرَّفَ الْمَغْبُونُ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْغَبْنِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ بِأَنْ عَرَضَ الْمَبِيعَ لِلْبَيْعِ مَثَلاً، سَقَطَ حَقُّ الْفَسْخِ.
3 - مَوْتُ الْمَغْبُونِ: فَلاَ تَنْتَقِل دَعْوَى (التَّغْرِيرِ مَعَ
__________
(1) البحر الزخار 3 / 354، المكاسب 235 - 236.
(2) المغني 4 / 102، دليل الطالب ص 110.(20/150)
الْغَبْنِ) إِلَى الْوَارِثِ، أَمَّا مَوْتُ الْغَابِنِ فَلاَ يَمْنَعُ (1) .
خِيَارُ غَبْنِ الْمُسَاوَمَةِ:
7 - لاَ يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ خِيَارَ الْغَبْنِ فِي الْمُسَاوَمَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ، وَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ قَدِ اقْتَصَرُوا عَلَى خِيَارِ الْغَبْنِ لِلْمُسْتَرْسِل (كَمَا سَيَأْتِي) وَلاَ بُدَّ مِنْ إِفْرَادِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِالذِّكْرِ لِتَحْقِيقِ مَذْهَبِهِمْ فِي خِيَارِ الْغَبْنِ.
خِيَارُ الْغَبْنِ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ:
8 - اخْتَلَفَ النَّقْل عَنِ الْمَالِكِيَّةِ فِي كُتُبِ الْخِلاَفِ فِي شَأْنِ خِيَارِ الْغَبْنِ الْمُجَرَّدِ وَالرَّاجِحُ نَفْيُهُمْ لَهُ، وَالَّذِي رَجَّحَهُ شُرَّاحُ خَلِيلٍ هُوَ أَنَّ الْغَبْنَ لِغَيْرِ الْمُسْتَرْسِل لاَ خِيَارَ فِيهِ مَهْمَا كَانَ فَاحِشًا (2) .
وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ لِلْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ (لُزُومِ الْعَقْدِ مَعَ الْغَبْنِ الْمُجَرَّدِ) بِحَدِيثِ شِرَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَل جَابِرٍ، فَقَدْ قَال لَهُ مُسَاوِمًا: أَتَبِيعُهُ بِدِرْهَمٍ؟ فَقَال: لاَ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ بَاعَ بِخَمْسِ أَوَاقٍ عَلَى أَنَّ لَهُ ظَهْرَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ (3) .
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية (المستمدة من المذهب الحنفي) المواد 358 - 360.
(2) الحطاب 4 / 470 - 472.
(3) حديث جابر: أخرجه البخاري (الفتح 5 / 314 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1223 - ط الحلبي) ، وأحمد (3 / 376 - الميمنية) .(20/151)
فَالثَّمَنُ الأَْوَّل بِالنِّسْبَةِ لِلأَْخِيرِ غَبْنٌ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ خِيَارٌ لَمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
حُكْمُ الْغَبْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
9 - فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ خِلاَفٌ حَوْل الْغَبْنِ الْمُجَرَّدِ فِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ التَّغْرِيرِ عَلَى ثَلاَثِ رِوَايَاتٍ:
1 - لاَ يَرُدُّ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ مُطْلَقًا (صَاحَبَهُ تَغْرِيرٌ أَوْ لاَ) .
2 - ثُبُوتُ حَقِّ الرَّدِّ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ مُطْلَقًا (بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ التَّغْرِيرِ) .
3 - ثُبُوتُ الرَّدِّ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ إِنْ صَاحَبَهُ تَغْرِيرٌ، أَيْ لاَ يَكُونُ الْخِيَارُ لِلْمَغْبُونِ مُطْلَقًا، بَل لِلْمَغْبُونِ الْمَغْرُورِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ (2) .
خِيَارُ غَبْنِ الْمُسْتَرْسِل
تَعْرِيفُ الْمُسْتَرْسِل:
10 - عَرَّفَ الْمَالِكِيَّةُ الْمُسْتَرْسِل بِأَنَّهُ: الْمُسْتَسْلِمُ لِبَائِعِهِ (3) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَهُوَ عِنْدَهُمْ: الْجَاهِل بِقِيمَةِ السِّلْعَةِ، وَلاَ يُحْسِنُ الْمُبَايَعَةَ. وَيُلْحَظُ هُنَا أَنَّ
__________
(1) الحطاب 4 / 469.
(2) رد المحتار 4 / 159 - 161، تحبير التحرير في إبطال القضاء بالفسخ بالغبن الفاحش بلا تغرير، وهي في مجموعة رسائله 2 / 68 - 82.
(3) الحطاب 4 / 471.(20/151)
الْمُعَوَّل عَلَى الْوَصْفِ الأَْخِيرِ وَهُوَ عَدَمُ الْخِبْرَةِ بِالْمُبَايَعَةِ، أَمَّا جَهْل قِيمَةِ السِّلْعَةِ فَيَقَعُ فِيهِ كُل مَغْبُونٍ، إِذْ لَوْ عَرَفَ الْقِيمَةَ لَمَا رَضِيَ بِالْغَبْنِ إِلاَّ مُضْطَرًّا، أَوْ بَاذِلاً لِقَاءَ رَغْبَةٍ شَدِيدَةٍ فِي السِّلْعَةِ، وَسَبْقُ الْعِلْمِ بِالْغَبْنِ مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ تَعْرِيفٌ آخَرُ لِلْمُسْتَرْسِل مِنْ كَلاَمِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ بِأَنَّهُ: الَّذِي لاَ يُحْسِنُ أَنْ يُمَاكِسَ، وَبِلَفْظٍ آخَرَ: الَّذِي لاَ يُمَاكِسُ، وَالْفَارِقُ أَنَّ الأَْوَّل قَلِيل الْخِبْرَةِ بِالْمُجَادَلَةِ فِي الْمُبَايَعَةِ لِلْوُصُول إِلَى ثَمَنِ الْمِثْل دُونَ غَبْنٍ، أَمَّا الأَْخِيرُ فَهُوَ الَّذِي لاَ يَسْلُكُ طَرِيقَ الْمُمَاكَسَةِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إِتْقَانِهِ لَهَا أَوْ جَهْلِهِ بِهَا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَأَمَّا الْعَالِمُ بِذَلِكَ وَالَّذِي لَوْ تَوَقَّفَ لَعَرَفَ، إِذَا اسْتَعْجَل فِي الْحِل فَغُبِنَ، فَلاَ خِيَارَ لَهُ (1) .
خِيَارُ غَبْنِ الْمُسْتَرْسِل (عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) :
11 - صَرَّحَ خَلِيلٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهُ لاَ يَرُدُّ بِالْغَبْنِ وَلَوْ خَالَفَ الْعَادَةَ. وَأَفَادَ شُرَّاحُهُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَأَنَّ هُنَاكَ قَوْلاً بِأَنَّهُ يَرُدُّ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْغَبْنُ يَسِيرًا فَالاِتِّفَاقُ عَلَى لُزُومِ الْعَقْدِ مَعَهُ وَعَدَمِ الرَّدِّ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ أَنَّ حُكْمَ الْغَبْنِ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْبَيْعِ، فَفِي بَيْعِ الْمُكَايَسَةِ (الْمُسَاوَمَةِ) لاَ قِيَامَ بِالْغَبْنِ (قَال) : " وَلاَ أَعْرِفُ فِي
__________
(1) المغني م2777، 3 / 398، والفروع 4 / 97.(20/152)
الْمَذْهَبِ فِي ذَلِكَ نَصَّ خِلاَفٍ " وَبَعْدَ أَنْ رَدَّ عَلَى مَنْ وَهِمَ فِي حَمْل مَسْأَلَةِ سَمَاعِ أَشْهَبَ عَلَى الْخِلاَفِ، عَادَ فَأَشَارَ إِلَى حِكَايَةِ بَعْضِ الْبَغْدَادِيِّينَ وُجُوبَ الرَّدِّ بِالْغَبْنِ إِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ. وَجَعَلَهُ مَوْضِعَ تَأَمُّلٍ، وَأَمَّا بَيْعُ الاِسْتِنَامَةِ وَالاِسْتِرْسَال. . فَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزٌ. . وَالْقِيَامُ بِالْغَبْنِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ إِذَا كَانَ عَلَى الاِسْتِرْسَال وَالاِسْتِنَامَةِ وَاجِبٌ بِإِجْمَاعٍ، لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَبْنُ الْمُسْتَرْسِل ظُلْمٌ (1) . هَذَا مَا اسْتَدَل بِهِ ابْنُ رُشْدٍ (2) .
خِيَارُ الْمُسْتَرْسِل (عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) :
12 - الْحَنَابِلَةُ يُثْبِتُونَ خِيَارَ الْغَبْنِ لِلْمُسْتَرْسِل فَقَطْ، عَلَى الرَّاجِحِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهِيَ مِنَ الْمَسَائِل الَّتِي اخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنْ مَسَائِل
__________
(1) حديث: " غبن المسترسل ظلم ". أخرجه الطبراني في الكبير (8 / 149 - ط وزارة الأوقاف العراقية) من حديث أبي أمامة بلفظ: " غبن المسترسل حرام ". وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " (4 / 76 - ط القدسي) وقال: " فيه موسى بن عمير الأعمى، وهو ضعيف ".
(2) لقد أورد الحطاب عبارته وأشار إلى أن المفهوم المخالف لهذا الاستدلال دليل للحالة الأخرى فقال: وما لم يكن فيه ظلم فهو حق لا يجب القيام به (4 / 470) ، المقدمات 2 / 601 - 602، الخرشي 4 / 62، الدسوقي 3 / 140، وقال الحطاب: إذا كان من أهل المعرفة بقيمة ما اشتراه، وإنما وقع في الغبن غلطًا يعتقد أنه غير غالط فلا رد له، أما إذا علم بالقيمة فزاد عليها فهو كالواهب، أو فعل ذلك لغرض فلا مقال له. (الحطاب 4 / 471) .(20/152)
الْخِلاَفِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، لأَِنَّ الْغَبْنَ لَحِقَهُ لِجَهْلِهِ. بِالْمَبِيعِ، خِلاَفًا لِغَيْرِ الْمُسْتَرْسِل فَقَدْ دَخَل عَلَى بَصِيرَةٍ فَهُوَ كَالْعَالِمِ بِالْعَيْبِ، وَهُوَ مَقِيسٌ عَلَى النَّجْشِ وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ ذَكَرَهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى (بِصِيغَةِ: قِيل) مُقْتَضَاهَا أَنَّ الْغَبْنَ لاَزِمٌ لِلْمُسْتَرْسِل أَيْضًا، لأَِنَّ نُقْصَانَ قِيمَةِ السِّلْعَةِ مَعَ سَلاَمَتِهَا لاَ يَمْنَعُ لُزُومَ الْعَقْدِ، كَبَيْعِ غَيْرِ الْمُسْتَرْسِل، وَكَالْغَبْنِ الْيَسِيرِ (1) .
خِيَارُ غَبْنِ الْقَاصِرِ (وَشَبَهِهِ) :
13 - أَثْبَتَ هَذَا الْخِيَارَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَال غَبْنِ الْوَصِيِّ عَنِ الْقَاصِرِ أَوِ الْوَكِيل عَمَّنْ وَكَّلَهُ دَرْءًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْقَاصِرِ وَالْمُوَكِّل، وَبَعْضُ الْمَذَاهِبِ لَجَأَتْ إِلَى إِبْطَال الْعَقْدِ الْمُشْتَمِل عَلَى غَبْنِهِمَا (2) .
فَإِذَا كَانَ الْبَائِعُ - أَوِ الْمُشْتَرِي - بِالْغَبْنِ وَكِيلاً أَوْ وَصِيًّا. فَيَرُدُّ مَا صَدَرَ مِنْهُمَا مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ (أَيْ يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ) .
وَخِيَارُ غَبْنِ الْقَاصِرِ يَثْبُتُ فِي عَقْدِ الشِّرَاءِ اتِّفَاقًا بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ، فَأَجَازُوا الْبَيْعَ بِالْغَبْنِ لِلصَّبِيِّ أَوْ لِلْمُتَصَرِّفِ عَنِ الْغَيْرِ، لأَِنَّ الْبَيْعَ إِزَالَةُ مِلْكٍ، فَلاَ يَتَحَقَّقُ الْغَبْنُ
__________
(1) المغني 3 / 498 م 2777، الاختيارات، للعلاء البعلي ص 74.
(2) نصت مجلة الأحكام العدلية (المستمدة من المذهب الحنفي) في المادة 356 على أنه استثناء من عدم التخيير في الغبن المجرد عن التغرير " إذا وجد الغبن (وحده) في مال اليتيم لا يصح البيع. ومال الوقف وبيت المال حكمه حكم اليتيم ". وقال الشراح: إنه يكون باطلاً.(20/153)
فِيهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قِيل: الْبَيْعُ مُرْتَخَصٌ وَغَالٍ. فَإِذَا بَاعَ الْقَاصِرُ بِغَبْنٍ لاَ خِيَارَ لَهُ عِنْدَ هَؤُلاَءِ (1) .
مُوجِبُ خِيَارِ غَبْنِ الْقَاصِرِ:
14 - هَل لِلْقَائِمِ فِي الْغَبْنِ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْوَصِيِّ وَالْوَكِيل نَقْضُ الْبَيْعِ أَوِ الْمُطَالَبَةُ بِتَكْمِيل الثَّمَنِ؟ وَكَيْفَ لَوْ تَصَرَّفَ الْمُبْتَاعُ فِي ذَلِكَ بِبَيْعٍ؟
أَفَاضَ الْحَطَّابُ فِي الْمَسْأَلَةِ نَاقِلاً عَنِ ابْنِ رُشْدٍ فِي فَتْوَى لَهُ ثُمَّ قَال: وَالرَّاجِحُ مِنَ الأَْقْوَال أَنَّ لِلْقَائِمِ بِالْغَبْنِ نَقْضُ الْبَيْعِ فِي قِيَامِ السِّلْعَةِ، وَأَمَّا فِي فَوَاتِهَا فَلاَ نَقْضَ، وَأَنَّ الْقِيَامَ بِالْغَبْنِ يَفُوتُ بِالْبَيْعِ (أَيْ فَيُلْجَأُ إِلَى تَكْمِيل الثَّمَنِ) ، أَمَّا مَعَ إِمْكَانِ الرَّدِّ فَهُوَ الْمُوجِبُ (2) .
مُسْقِطَاتُ خِيَارِ غَبْنِ الْقَاصِرِ:
15 - ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ هَذَا الْخِيَارَ يَسْقُطُ بِمَا يَلِي:
1 - التَّصَرُّفُ فِي الْمَبِيعِ.
2 - التَّلَفُ، أَوْ مَا يُسَمِّيهِ الْمَالِكِيَّةُ (فَوَاتَ الْمَبِيعِ) قَال الْحَطَّابُ: فَإِنْ فَاتَ الْمَبِيعُ رَجَعَ الْمُوَكِّل وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا وَقَعَ الْغَبْنُ وَالْمُحَابَاةُ بِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُشْتَرِي رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ - وَهُوَ الْوَكِيل وَالْوَصِيُّ - بِذَلِكَ.
__________
(1) الحطاب 4 / 472، الدسوقي 3 / 140.
(2) الحطاب 4 / 473.(20/153)
وَإِنِ اشْتَرَيَا بِغَبْنٍ، وَفَاتَ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي، رَجَعَ الْمُوَكِّل وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا وَقَعَتِ الْمُحَابَاةُ وَالْغَبْنُ بِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ رَجَعَا عَلَى الْمُشْتَرِي وَهُوَ الْوَكِيل أَوِ الْوَصِيُّ. صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَتَّابٍ وَغَيْرُهُ.
وَلاَ يَتَقَيَّدُ الرُّجُوعُ هُنَا بِالثُّلُثِ، فَيَرْجِعُ بِكُل مَا نَقَصَ عَنِ الْقِيمَةِ نَقْصًا بَيِّنًا، أَوْ زَادَ عَلَيْهَا زِيَادَةً بَيِّنَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الثُّلُثُ. وَهُوَ الصَّوَابُ عَلَى مَا قَال ابْنُ عَرَفَةَ، وَهُوَ مُقْتَضَى الرِّوَايَاتِ فِي الْمُدَوَّنَةِ (1) .
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 140، الحطاب 4 / 472 - 473.(20/154)
خِيَارُ فَوَاتِ الشَّرْطِ
التَّعْرِيفُ:
1 - سَبَقَ تَعْرِيفُ الْخِيَارِ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارٌ) وَكَذَلِكَ سَبَقَ تَعْرِيفُ الشَّرْطِ فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الشَّرْطِ) وَفَوَاتُ الشَّرْطِ: هُوَ عَدَمُ تَحْقِيقِ الْغَرَضِ مِنْهُ، وَخِيَارُ فَوَاتِ الشَّرْطِ: هُوَ خِيَارٌ يَثْبُتُ بِفَوَاتِ الْفِعْل الْمَشْرُوطِ مِنَ الْعَاقِدِ فَوْقَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - لِهَذَا الْخِيَارِ صِلَةٌ بِأَنْوَاعِ الْخِيَارَاتِ الأُْخْرَى مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا جَمِيعًا تَسْلُبُ لُزُومَ الْعَقْدِ مَعَ انْفِرَادِ كُل خِيَارٍ بِالإِْضَافَةِ الْمُثْبِتَةِ لَهُ، كَالْعَيْبِ أَوِ الرُّؤْيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيُنْظَرُ مَا يَتَّصِل بِكُل خِيَارٍ فِي مُصْطَلَحِهِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِخِيَارِ فَوَاتِ الشَّرْطِ:
3 - مِنَ الْمَبَادِئِ الْمُقَرَّرَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْعَاقِدَ إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الْوَفَاءِ بِشَرْطٍ الْتَزَمَ بِهِ لِلْعَاقِدِ الآْخَرِ فِي الْعَقْدِ - وَكَانَ شَرْطًا صَحِيحًا - فَإِنَّ الأَْصْل أَنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 5 / 171، شرح منتهى الإرادات 2 / 160 - 161.(20/154)
يَتَوَصَّل الْمُشْتَرِطُ إِلَى تَنْفِيذِهِ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْقَضَاءِ لِيُوَفِّيَ الْمُتَخَلِّفَ عَنِ الشَّرْطِ جَبْرًا. وَهَذَا فِي شَرْطٍ يُمْكِنُ الإِْجْبَارُ عَلَيْهِ، بِخِلاَفِ مَا لاَ يُمْكِنُ إِجْبَارُ الْمُمْتَنِعِ عَلَى فِعْلِهِ. كَالْتِزَامِهِ بِأَنْ يُقَدِّمَ رَهْنًا بِالثَّمَنِ. فَهَاهُنَا يُثْبِتُونَ خِيَارَ فَوَاتِ الشَّرْطِ وَإِنْ كَانُوا لاَ يُسَمُّونَهُ بِذَلِكَ، بَل يُعَبِّرُونَ بِأَنَّ لَهُ حَقَّ فَسْخِ الْعَقْدِ، يَقُول الْكَاسَانِيُّ: يُقَال لَهُ: إِمَّا أَنْ تَدْفَعَ الرَّهْنَ - أَوْ قِيمَتَهُ - أَوْ تُؤَدِّيَ الثَّمَنَ (عَاجِلاً) أَوْ يَفْسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ. . وَلَوِ امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَالْغَرَضِ.
ثُمَّ نَصَّ عَلَى أَنَّ مِنْهُ الْبَيْعَ بِشَرْطِ إِعْطَاءِ الْكَفِيل، وَلَمْ يُجْعَل مِنْهُ شَرْطُ الْحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ أَخَذُوا بِمَبْدَأِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُقْرِضَهُ، أَوِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِشَرْطِ أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ، أَوْ زَرْعًا بِشَرْطِ أَنْ يَحْصُدَهُ الْبَائِعُ. لَكِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ صُوَرًا حَكَمُوا بِصِحَّتِهَا، كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ
__________
(1) البدائع 5 / 171 و 172 وذكر صورًا من الشروط، منها " ما لو اشترى نعلاً (جلدًا) على أن يحذوه البائع أو جرابًا على أن يخرزه له خفًا. جائز استحسانًا، للتعامل، وأما شراء ثوب على أن يخيطه البائع له فهو مفسد لعدم التعامل، ويظهر من هذا التعليل إمكان إلحاق كل(20/155)
الأَْجَل، أَوِ الرَّهْنِ، أَوِ الْكَفِيل - مَعَ الْمَعْلُومِيَّةِ وَالتَّعْيِينِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ - أَوْ بِشَرْطِ الإِْشْهَادِ.
فَإِنْ لَمْ يُوَفِّ الْمُلْتَزِمُ بِالشَّرْطِ بِأَنْ لَمْ يَرْهَنْ أَوْ لَمْ يَتَكَفَّل الْكَفِيل الْمُعَيَّنُ ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِطِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ.
وَلاَ يُجْبَرُ مَنْ شَرَطَ عَلَيْهِ الشَّرْطَ عَلَى الْقِيَامِ بِمَا شَرَطَ، لِزَوَال الضَّرَرِ بِالْفَسْخِ، كَمَا لاَ يَقُومُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ مَقَامَهُ إِذَا تَلِفَ (1) .
وَنَحْوُ ذَلِكَ لِلْحَنَابِلَةِ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الرَّهْنِ وَالْكَفِيل إِنْ وَفَّى الْمُلْتَزِمُ بِالشَّرْطِ لَزِمَ الْعَقْدُ، وَإِنْ أَبَى فَلِلْمُشْتَرِطِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْمْضَاءِ بِدُونِ مُقَابِلٍ عَنْ تَرْكِ الرَّهْنِ وَالْكَفِيل (2) .
وَالْمَذْهَبُ الْحَنْبَلِيُّ هُوَ أَوْسَعُ الْمَذَاهِبِ عِنَايَةً بِالشُّرُوطِ وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الأَْصْل فِي الْعُقُودِ رِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَنَتِيجَتُهَا هُوَ مَا أَوْجَبَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالتَّعَاقُدِ (3) . وَقَدِ اعْتَدُّوا بِمَبْدَأِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فِي اعْتِبَارِ الشُّرُوطِ بَعْدَمَا وَسَّعُوا مِنْ مَفْهُومِهِ، عَلَى
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 32، نهاية المحتاج 3 / 455، الجمل على شرح المنهج 3 / 75 - 78، وهو على الفور؛ لأنه خيار نقص. المجموع 9 / 419 للشروط الجائزة فقط دون موجب فواتها.
(2) منتهى الإرادات 2 / 160 - 161، المغني م3355 وذكروا من صور هذا الخيار أن يتلف الرهن المشروط فللبائع المرتهن الخيار (المغني م 3288) .
(3) فتاوى ابن تيمية 3 / 239.(20/155)
أَسَاسِ أَنَّ مَصْلَحَةَ الْعَاقِدِ هِيَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَوْ لَمْ يُوجِبْهَا الْعَقْدُ فَأَبَاحُوا أَكْثَرَ مِنْ شَرْطِ الرَّهْنِ وَالْكَفِيل الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ، عَلَى أَنْ يَكُونَ مِمَّا لاَ يُصَادِمُ نَصًّا شَرْعِيًّا أَوْ أَصْلاً مِنْ أُصُول الشَّرِيعَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشَّرْطَ قَدْ يَكُونُ فِي ذَاتِهِ غَيْرَ مُلْزِمٍ شَرْعًا لِلْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ، وَتَكُونُ ثَمَرَةُ صِحَّةِ اشْتِرَاطِهِ تَمْكِينَ الشُّرُوطِ لَهُ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ عِنْدَ عَدَمِ وَفَاءِ الْمُشْتَرِطِ (1) .
وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَنَابِلَةُ مَعَ هَذَا خِيَارَ فَوَاتِ الشَّرْطِ فِي عِدَادِ مَا أَوْرَدُوهُ مِنْ خِيَارَاتٍ (2) . إِلاَّ أَنَّ صَاحِبَ " غَايَةِ الْمُنْتَهَى " اسْتَوْجَهَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْخِيَارَاتِ الثَّمَانِيَةِ الْمُتَدَاوَلَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (بِاسْتِمْرَارِ) قِسْمًا تَاسِعًا مِنْ أَقْسَامِ الْخِيَارِ وَهُوَ الْخِيَارُ الَّذِي ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي لِفَقْدِ شَرْطٍ صَحِيحٍ، أَوْ فَقْدِ شَرْطٍ فَاسِدٍ، سَوَاءٌ كَانَ يُبْطِل الْعَقْدَ أَوْ لاَ يُبْطِلُهُ، وَقَدْ أَقَرَّهُ الشَّارِحُ عَلَى ذَلِكَ الاِسْتِدْرَاكِ، وَإِنْ كَانَتْ فَائِدَتُهُ شَكْلِيَّةً فَالْخِيَارُ كَمَا رَأَيْنَا مُعْتَبَرٌ فِي الْمَرَاجِعِ الْفِقْهِيَّةِ لِلْحَنَابِلَةِ وَإِنْ لَمْ
__________
(1) الشرح الكبير على المقنع 4 / 375، والمغني 4 / 430، وكشاف القناع 3 / 351.
(2) المقنع وحاشيته 2 / 75، والمغني 4 / 430، ومنتهى الإرادات 2 / 166 - 167، كشاف القناع 3 / 177 و 198 وهو أوسعها سردًا للخيارات.(20/156)
تُبْرِزْهُ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِمَا يُورِدُونَهُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ مِنْ صُوَرِهِ وَقُيُودِهِ (1) .
انْتِقَالُهُ بِالْمَوْتِ:
4 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ الثَّابِتَ لِلْبَائِعِ عِنْدَ عَجْزِ الْمُشْتَرِي عَنْ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ الْمَشْرُوطِ فِي الْبَيْعِ يَنْتَقِل إِلَى الْوَارِثِ بِلاَ خِلاَفٍ (2) .
سُقُوطُهُ وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِهِ::
5 - يُطَبَّقُ مَا يَجْرِي فِي خِيَارِ الْعَيْبِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكَلاَمِ عَنْ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ، (ر: خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ) .
__________
(1) مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى 3 / 137.
(2) المجموع 9 / 210، فتح القدير 5 / 135.(20/156)
خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّعْرِيفُ الْمُخْتَارُ لِخِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ مُسْتَمَدًّا مِنْ مَاهِيَّةِ هَذَا الْخِيَارِ، هُوَ (حَقُّ الْفَسْخِ لِتَخَلُّفِ وَصْفٍ مَرْغُوبٍ اشْتَرَطَهُ الْعَاقِدُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ) .
وَمِثَالُهُ: أَنْ يَشْتَرِيَ إِنْسَانٌ شَيْئًا وَيَشْتَرِطَ فِيهِ وَصْفًا مَرْغُوبًا لَهُ، كَمَنْ اشْتَرَى حِصَانًا عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ أَصِيلٌ فَإِذَا هُوَ هَجِينٌ، أَوِ اشْتَرَى جَوَادًا عَلَى أَنَّهُ هِمْلاَجٌ (سَرِيعُ الْمَشْيِ فِي سُهُولَةٍ) فَإِذَا هُوَ بَطِيءٌ، أَوْ سَرِيعٌ فِي اضْطِرَابٍ وَعُسْرٍ، وَكَذَلِكَ شِرَاءُ الْبَقَرَةِ عَلَى أَنَّهَا حَلُوبٌ (كَثِيرَةُ اللَّبَنِ زِيَادَةً عَنِ الْمُعْتَادِ فِي أَمْثَالِهَا) .
وَمِنَ الأَْمْثِلَةِ الْعَمَلِيَّةِ: اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْكَلْبِ صَائِدًا، وَشَرْطُ كَوْنِ الثَّمَنِ مَكْفُولاً بِهِ (1) .
تَسْمِيَتُهُ:
2 - يُسَمَّى هَذَا الْخِيَارُ أَيْضًا بِخِيَارِ خُلْفِ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ، وَقَدْ يَقْتَصِرُ عَلَى (خِيَارِ الْخُلْفِ) أَوْ
__________
(1) فتح القدير 5 / 135، ومطالب أولي النهى 3 / 137.(20/157)
يُدْعَى (تَخَلُّفُ الصِّفَةِ) ، وَأَحْيَانًا يُسَمِّيهِ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ (خِيَارَ الْوَصْفِ) لَكِنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ مُوهِمَةٌ لأَِنَّ خِيَارَ الْوَصْفِ يُطْلَقُ عِنْدَ الأَْكْثَرِينَ عَلَى مُطَابَقَةِ الْمَبِيعِ الْغَائِبِ لِلْوَصْفِ إِذَا بِيعَ عَلَى الصِّفَةِ، وَهُوَ مِمَّا يَنْتَفِي بِهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ إِلاَّ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ لِلتَّرَوِّي وَلَوْ طَابَقَ، كَمَا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَبْحَثُهُ مُسْتَقِلًّا، وَآخَرُونَ يُلْحِقُونَهُ بِخِيَارِ الْعَيْبِ أَوْ خِيَارِ الشَّرْطِ (1) .
مَشْرُوعِيَّةُ اشْتِرَاطِ الْوَصْفِ فِي الْبَيْعِ:
3 - لاَ سَبِيل إِلَى إِثْبَاتِ مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا الْخِيَارِ إِلاَّ بِإِثْبَاتِ مَوْضُوعِهِ وَهُوَ (اشْتِرَاطُ صِفَةٍ مَرْغُوبَةٍ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَوْلاَ الاِشْتِرَاطُ لَمْ تَثْبُتْ) ، وَمُسْتَنَدُ صِحَّةِ هَذَا الاِشْتِرَاطِ هُوَ تَسْوِيغُ الشُّرُوطِ الْعَقْدِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ لِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ النَّظَرِيَّةِ مَوَاقِفُ مُخْتَلِفَةٌ مَعَ صَعِيدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمْ هُوَ الصِّحَّةُ، بَعْدَ تَوَافُرِ مَا يَتَطَلَّبُهُ كُل مَذْهَبٍ مِنْ شَرَائِطَ. وَهَذَا الْمَوْضُوعُ وَاقِعٌ فِي النِّطَاقِ الَّذِي لاَ خِلاَفَ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ (الشَّرْطُ الَّذِي يُعْتَبَرُ مِنْ مَصَالِحِ الْعَقْدِ) كَاشْتِرَاطِ الرَّهْنِ أَوِ
__________
(1) فتح القدير 5 / 135 (جعله صاحب الهداية مسألة في خيار الشرط) تكملة المجموع 12 / 364 (ألحقه بخيار العيب) وكذلك المالكية فقد ابتدأ به (خليل) أحكام العيب بعدما مهد بقسم موجب الرد إلى قسمين: أولهما: بعدم مشروط فيه غرض (وهو هذا) . والثاني: بما العادة السلامة منه (وهو خيار العيب) ، الخرشي على خليل 4 / 35، الدسوقي 3 / 108.(20/157)
الْكَفِيل، أَمَّا اشْتِرَاطُ صِفَةٍ زَائِدَةٍ فَهُوَ مَقِيسٌ عَلَيْهِ.
وَسَبَبُ اعْتِبَارِ الْحَنَفِيَّةِ اشْتِرَاطَ الْوُصُوفِ سَائِغًا أَنَّهُمْ أَنْزَلُوهُ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ إِذَا كَانَ لاَ غَرَرَ فِيهِ، ذَلِكَ أَنَّ الْوَصْفَ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْبَيْعِ، دُونَ الْتِفَاتٍ إِلَى اشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي لَهُ، فَإِنَّهُ يَدْخُل فِي الْعَقْدِ وَيَكُونُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ، فَكَانَ اشْتِرَاطُهُ صَحِيحًا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَرَرٌ (1) .
ثُمَّ إِنَّ الْوَصْفَ الْمَرْغُوبَ فِيهِ يَرْجِعُ إِلَى صِفَةِ الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ، فَهُوَ مُلاَئِمٌ لِلْعَقْدِ (2) .
3 م - وَلَمَّا كَانَ الْمُهِمُّ فِي تَسْوِيغِ اشْتِرَاطِ الصِّفَةِ الأَْثَرَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى الإِْخْلاَل بِالشَّرْطِ هَل هُوَ الْفَسَادُ - كَمَا هُوَ الْحَال فِي الاِشْتِرَاطِ فِي غَيْرِ الصِّفَاتِ - أَمِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا الرَّدُّ؟
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الأَْثَرَ هُوَ التَّخْيِيرُ، وَلَمْ يَقُولُوا بِفَسَادِ الْعَقْدِ حِينَ تَخَلَّفَ الْوَصْفُ؛ لأَِنَّ تَخَلُّفَهُ لاَ يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلاَفِ الْجِنْسِ وَذَلِكَ حَيْثُ يَقَعُ فِيهِ الْعَقْدُ عَلَى جِنْسٍ فَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَبِيعَ جِنْسٌ آخَرُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ هُنَا؛ لأَِنَّ فَوَاتَ الْوَصْفِ رَاجِعٌ إِلَى اخْتِلاَفِ النَّوْعِ
__________
(1) فتح القدير 5 / 135.
(2) العناية شرح الهداية 5 / 136، والبدائع 5 / 169، والمغني 4 / 139، على أحد وجهين وهو الأولى؛ لأن فيه مقصدًا صحيحًا.(20/158)
لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ فِي الأَْغْرَاضِ، فَلاَ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِفَوَاتِهِ. وَصَارَ كَفَوَاتِ وَصْفِ السَّلاَمَةِ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ الْعَيْبِ، فَيَكُونُ فِي هَذَا خِيَارُ الْوَصْفِ بِالْقِيَاسِ (1) .
مَشْرُوعِيَّةُ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ:
4 - ذَهَبَ إِلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْخِيَارِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ (2) .
وَيَسْتَنِدُ ثُبُوتُهُ عَلَى ثُبُوتِ خِيَارِ الْعَيْبِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ فَوَاتَ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ بَعْدَ أَنْ حَصَل فِي الْعَقْدِ الاِلْتِزَامُ مِنَ الْبَائِعِ بِهِ، هُوَ فِي مَعْنَى فَوَاتِ وَصْفِ السَّلاَمَةِ فِي الْمَبِيعِ إِذَا ظَهَرَ فِيهِ عَيْبٌ، فَكَمَا يَثْبُتُ فِي الصُّورَةِ الأَْخِيرَةِ خِيَارُ الْعَيْبِ يَثْبُتُ فِي الصُّورَةِ الأُْولَى خِيَارُ الْوَصْفِ. وَكُلٌّ مِنَ الْخِيَارَيْنِ ثَبَتَ لِتَخَلُّفِ شَرْطٍ فِي الْحِل، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ ثَابِتٌ دَلاَلَةً، كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ، أَمَّا فِي خِيَارِ الْوَصْفِ فَهُوَ ثَابِتٌ نَصًّا (3) .
وَلِهَذَا أَوْرَدَ الشَّافِعِيَّةُ خِيَارَ فَوَاتِ الْوَصْفِ تَالِيًا لِخِيَارِ الْعَيْبِ أَوْ مُخْتَلِطًا بِهِ، كَمَا فَعَل الشِّيرَازِيُّ، وَقَدْ عَلَّل حَقَّ الْخِيَارِ فِيهِ بِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنْقَصَ مِمَّا شَرَطَ،
__________
(1) الهداية وشرحها العناية 5 / 136.
(2) البدائع 5 / 169، المهذب وتكملة المجموع 12 / 364، الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 108.
(3) الكاساني: بدائع الصنائع 5 / 273 و 169.(20/158)
وَأَضَافَ السُّبْكِيُّ: فَصَارَ كَالْمَعِيبِ الَّذِي يَخْرُجُ أَنْقَصَ مِمَّا اقْتَضَاهُ الْعُرْفُ (1) .
شَرَائِطُ قِيَامِ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ:
5 - هَذِهِ الشَّرَائِطُ بَعْضُهَا يَنْبَغِي وُجُودُهُ فِي الْوَصْفِ لِيَكُونَ مُعْتَبَرًا اشْتِرَاطُهُ، وَبَعْضُهَا يَتَّصِل بِتَخَلُّفِ الْوَصْفِ أَوْ فَوَاتِهِ لِيَنْشَأَ عَنْ ذَلِكَ صِحَّةُ الْبَيْعِ مَعَ الْخِيَارِ بَدَلاً مِنَ الْفَسَادِ أَوِ الْبُطْلاَنِ.
شَرَائِطُ الْوَصْفِ الْمُعْتَبَرِ:
6 - يُشْتَرَطُ لِكَوْنِ الْوَصْفِ مُعْتَبَرًا:
1 - أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ وُجُودَهُ وَصْفًا: أَمَّا لَوْ كَانَ مِلْكِيَّةَ عَيْنٍ أُخْرَى أَوْ مَنْفَعَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ لَيْسَ مِنْ قَبِيل الأَْوْصَافِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ فَوَاتِ الْوَصْفِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الشُّرُوطِ. وَمِنْ هُنَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى فَسَادِ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الشَّاةِ حَامِلاً، لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَصْفٍ بَل اشْتِرَاطُ مِقْدَارٍ مِنَ الْمَبِيعِ مَجْهُولٍ، وَضَمُّ الْمَعْلُومِ إِلَى الْمَجْهُول يَجْعَل الْكُل مَجْهُولاً، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْوَصْفَ، مَا يَدْخُل تَحْتَ الْمَبِيعِ بِلاَ
__________
(1) المهذب وشرحه (تكملة المجموع) للسبكي 12 / 364 - 365، وقد رأينا في خيارات النقيصة كيف جعل الغزالي تخلف الوصف أحد أسباب النقيصة الثلاثة (الوجيز 2 / 141) .(20/159)
ذِكْرٍ، كَالْجَوْدَةِ، وَالأَْشْجَارِ، وَالْبِنَاءِ وَالأَْطْرَافِ (1) .
2 - أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْمَرْغُوبُ مُبَاحًا فِي الشَّرْعِ، (أَوْ مُقَرَّرًا مِنْهُ) : فَاشْتِرَاطُ الْمَحْظُورِ مِنَ الأَْوْصَافِ لاَغٍ، كَاشْتِرَاطِهِ فِي الْكَبْشِ كَوْنَهُ نَطَّاحًا، أَوِ الدِّيكِ صَائِلاً (لاِسْتِعْمَالِهِ فِي صُوَرٍ مِنَ اللَّهْوِ مَحْظُورَةٍ) لأَِنَّ مَا لاَ يُقِرُّهُ الشَّارِعُ يَمْتَنِعُ الاِلْتِزَامُ بِهِ (2) .
3 - أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُنْضَبِطًا (لَيْسَ فِيهِ غَرَرٌ) : وَذَلِكَ بِحَيْثُ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ وَالْحُكْمُ بِوُجُودِهِ وَعَدَمِهِ.
4 - أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مَرْغُوبًا فِيهِ: وَذَلِكَ بِحَسَبِ الْعَادَةِ، فَلَوِ اشْتَرَطَ مَا لَيْسَ بِمَرْغُوبٍ أَصْلاً، كَأَنْ يَكُونَ مَعِيبًا فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ فَلاَ خِيَارَ لَهُ. وَيَتَّصِل بِالْكَلاَمِ عَنْ مَرْغُوبِيَّةِ الْوَصْفِ أَنْ يَتَحَقَّقَ فِي الْمَبِيعِ وَصْفٌ أَفْضَل مِنَ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَصْفَ خَيْرٌ مِمَّا اشْتَرَطَهُ فَالْعَقْدُ لاَزِمٌ وَلاَ خِيَارَ لَهُ، وَذَكَرُوا مِنْ أَمْثِلَتِهِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الْجَمَل أَنَّهُ بَعِيرٌ فَإِذَا هُوَ نَاقَةٌ، وَالْمُشْتَرِي مِنْ أَهْل الْبَادِيَةِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ مَا فِيهِ
__________
(1) البدائع 5 / 172؛ لأن المشروط صفة محضة للمبيع أو الثمن لا يتصور انقلابها بها أصلاً ولا يكون لها حصة من الثمن بحال، ولو كان موجودًا عند العقد يدخل فيه من غير تسمية. وقال في شرط (الحمل في الجارية) : الشرط هناك عين وهو الحمل فلا يصلح شرطًا.
(2) فتح القدير 5 / 135، والعناية 5 / 136، ورد المحتار 4 / 46.(20/159)
الدَّرُّ وَالنَّسْل (1) . وَلأَِصْحَابِ الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلٌ فِي ضَبْطِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ، فَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ مَا فِيهِ غَرَضٌ لِلْعَاقِدِ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ مَالِيَّةٌ أَمْ لاَ، لأَِنَّ الْغَرَضَ أَعَمُّ مِنَ الْمَالِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهُ مَا فِيهِ مَالِيَّةٌ لاِخْتِلاَفِ الْقِيَمِ بِوُجُودِهِ وَعَدَمِهِ، وَأَوْجَزَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِقَوْلِهِ: الَّذِي يَدُل عَلَيْهِ كَلاَمُهُمْ: أَنَّهُ كُل وَصْفٍ مَقْصُودٍ مُنْضَبِطٍ فِيهِ مَالِيَّةٌ. وَذَكَرَ السُّبْكِيُّ تَقْسِيمَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ وَالرَّافِعِيِّ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةَ إِلَى ثَلاَثَةٍ:
1 - أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا زِيَادَةٌ مَالِيَّةٌ يَصِحُّ الْتِزَامُهَا وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ بِتَخَلُّفِهَا.
2 - أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا غَرَضٌ صَحِيحٌ غَيْرُ الْمَال وَتَخَلُّفُهَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ عَلَى خِلاَفٍ.
3 - أَنْ لاَ يَتَعَلَّقَ بِهَا مَالِيَّةٌ وَلاَ غَرَضٌ مَقْصُودٌ، وَاشْتِرَاطُهَا لَغْوٌ لاَ خِيَارَ بِفَقْدِهِ، ثُمَّ اسْتُحْسِنَ مِنَ النَّوَوِيِّ جَعْلُهَا قِسْمَيْنِ بِالاِقْتِصَارِ عَلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ أَوْ عَدَمِهِ (2) .
__________
(1) العناية وفتح القدير 5 / 136، وقد فصّل ابن الهمام وغيره مسألة اشتراط الحمل في الأمة المبيعة. المجموع 9 / 324، المغني 4 / 139، مغني المحتاج 2 / 34، الفتاوى الكبرى لابن حجر 2 / 139.
(2) البدائع 5 / 172، الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 108، الفتاوى الكبرى لابن حجر 2 / 139، تكملة المجموع 12 / 365 وفي 12 / 366: الأجود اعتبار قوة الغرض وضعفه دون اعتبار المالية، والغرض قد يتعلق بصفة ولا يقوم غيرها مقامها وإن كان أفضل منها من جهة أخرى.(20/160)
5 - أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُشْتَرِي الْوَصْفَ الْمَرْغُوبَ، وَيُوَافِقَ عَلَى ذَلِكَ الْبَائِعُ فِي الْعَقْدِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ حَال الْمُشْتَرِي قَرِينَةً كَافِيَةً عَنِ الاِشْتِرَاطِ.
وَذَلِكَ لأَِنَّ هَذَا الْوَصْفَ يَسْتَحِقُّ فِي الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ - لاَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ - فَلَوْلاَهُ لَمَا اسْتُحِقَّ (1) .
عَلَى أَنَّهُ تُعْتَبَرُ حَال الْمُشْتَرِي فِي تَفْسِيرِ الْوَصْفِ فِيمَا إِذَا حَصَل اشْتِرَاطُهُ بِصُورَةٍ مُقْتَضِبَةٍ. وَكَذَلِكَ يُؤْخَذُ حَال الْمُشْتَرِي بِالاِعْتِبَارِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَوْجُودِ فِي الْبَيْعِ، هَل هُوَ أَفْضَل مِنَ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ أَمْ دُونَهُ. وَلَوِ اشْتَرَى كَلْبًا مَعْرُوفًا بِأَنَّهُ صَائِدٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ نِسْيَانُهُ، يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْوَصْفِ وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ صَرَاحَةً، كَكَوْنِ الْكَلْبِ صَائِدًا، لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ رَغْبَةً فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، فَصَارَتْ مَشْرُوطَةً دَلاَلَةً (2) .
وَفِي مَنْزِلَةِ الشَّرْطِ الصَّادِرِ مِنَ الْمُشْتَرِي مَا يَصْدُرُ مِنَ الْبَائِعِ مِنَ الْمُنَادَاةِ عَلَى السِّلْعَةِ حَال الْبَيْعِ أَنَّهَا كَذَا وَكَذَا، فَتُرَدُّ بِعَدَمِ هَذَا الْوَصْفِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: وَلاَ يُعَدُّ مَا يَقَعُ فِي الْمُنَادَاةِ مِنْ تَلْفِيقِ السِّمْسَارِ حَيْثُ كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّهُمْ يُلَفِّقُونَ مِثْل ذَلِكَ، فَلاَ رَدَّ عِنْدَ عَدَمِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُنَادَاةِ
__________
(1) العناية وفتح القدير 5 / 136.
(2) فتح القدير 5 / 137.(20/160)
عَلَى الظَّاهِرِ لِدُخُول الْمُشْتَرِي عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ (1) .
شَرَائِطُ تَخَلُّفِ الْوَصْفِ (أَوْ فَوَاتِهِ) :
7 - يُشْتَرَطُ فِي تَخَلُّفِ الْوَصْفِ (لِبَقَاءِ الْعَقْدِ صَحِيحًا وَاسْتِلْزَامِهِ الْخِيَارَ) :
1 - أَنْ يَكُونَ التَّخَلُّفُ دَاخِلاً تَحْتَ جِنْسِ الْمَبِيعِ، أَمَّا لَوِ اشْتَرَطَ أَنَّ الثَّوْبَ قُطْنٌ فَإِذَا هُوَ كَتَّانٌ فَالْعَقْدُ غَيْرُ صَحِيحٍ لاِخْتِلاَفِ الْجِنْسِ. وَلَمَّا كَانَ فَوَاتُ الْوَصْفِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلاَفِ حَال الْمَبِيعِ عَنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ غَامِضًا، وَضَعَ الْفُقَهَاءُ لَهُ ضَابِطًا يُرَاعَى لإِِعْطَاءِ كُل حَالَةٍ حُكْمَهَا الْمُنَاسِبَ مِنْ بَيْنِ الأَْحْكَامِ التَّالِيَةِ: الْفَسَادِ، الصِّحَّةِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ، الصِّحَّةِ دُونَ خِيَارٍ (2) .
وَالضَّابِطُ هُوَ فُحْشُ التَّفَاوُتِ فِي الأَْغْرَاضِ وَعَدَمُهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَارِنَ الْمَبِيعَ بِالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ وَيَرَى مَدَى الاِخْتِلاَفِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى وَالاِخْتِلاَفُ فِي النَّوْعِ فَحَسْبُ، فَفِيهِ الْخِيَارُ، أَمَّا إِنْ كَانَ التَّفَاوُتُ فِي الْجِنْسِ فَحُكْمُهُ الْفَسَادُ.
وَلِهَذَا تَفْصِيلٌ جَيِّدٌ أَوْرَدَهُ ابْنُ الْهُمَامِ (3) ، وَهُوَ مِثَالٌ يُحْتَذَى لِلتَّمْيِيزِ فِي غَيْرِ الذَّوَاتِ الَّتِي اتَّخَذَهَا
__________
(1) الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 108.
(2) فتح القدير 5 / 137.
(3) فتح القدير 5 / 137.(20/161)
مَوْضُوعًا لِلتَّوْضِيحِ، فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ ضَابِطَ اخْتِلاَفِ الْمَوْجُودِ عَنِ الْمَشْرُوطِ هُوَ إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى فَفِيهِ الْخِيَارُ (1) وَذَكَرَ أَنَّ مَا فَحُشَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ أَغْرَاضِهِ فَهُوَ أَجْنَاسٌ، وَمَا لَمْ يَفْحُشُ فَهُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَأَوْرَدَ فِيمَا يُعْتَبَرُ مِنَ الثِّيَابِ أَجْنَاسًا كَالْكَتَّانِ، وَالْقُطْنِ. وَأَنَّ الذَّكَرَ مَعَ الأُْنْثَى.
وَأَمَّا اخْتِلاَفُ النَّوْعِ دُونَ الْجِنْسِ فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: شِرَاءُ لَحْمٍ عَلَى أَنَّهُ لَحْمُ مَعْزٍ فَإِذَا هُوَ لَحْمُ ضَأْنٍ، وَعَكْسُهُ (2) .
حَدُّ الْفَوَاتِ:
8 - إِذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ قَبْضِهِ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَطِ فَلاَ يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَجِدَ الْوَصْفَ أَصْلاً أَوْ وَجَدَ مِنْهُ شَيْئًا يَسِيرًا نَاقِصًا بِحَيْثُ لاَ يَنْطَلِقُ الاِسْمُ عَلَيْهِ فَلَهُ حَقُّ الرَّدِّ.
وَمِثَالُهُ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي شِرَاءِ الْكَلْبِ أَنْ يَكُونَ كَلْبًا صَائِدًا، فَوَصْفُ الصَّيْدِ لَهُ مَفْهُومٌ وَهُوَ الاِسْتِجَابَةُ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الاِنْقِضَاضِ عَلَى الصَّيْدِ. وَالاِئْتِمَارُ بِأَمْرِ مُرْسِلِهِ بِحَيْثُ يَرْجِعُ إِنِ اسْتَدْعَاهُ أَوْ
__________
(1) ونحوه ضابط الشافعية بالجنس وتعليلهم عدم الصحة في بعض الصور بأن العقد وقع على جنس فلا ينعقد على جنس آخر (تكملة المجموع 12 / 334) .
(2) فتح القدير 5 / 137، تكملة المجموع 12 / 371.(20/161)
يَنْطَلِقُ إِنْ أَغْرَاهُ، فَمَتَى وُجِدَ هَذَا الْوَصْفُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِالصُّورَةِ الْمُثْلَى الَّتِي يَنْدُرُ مَعَهَا إِفْلاَتُ الْفَرِيسَةِ مِنْهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ. أَمَّا إِذَا كَانَ لاَ يَصِيدُ أَصْلاً، أَوْ يَصِيدُ بِصُورَةٍ نَاقِصَةٍ لاَ يَسْتَحِقُّ مَعَهَا أَنْ يُسَمَّى (صَائِدًا) فَلَهُ حَقُّ الرَّدِّ (1) .
2 - أَنْ يَكُونَ فَوَاتُ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَطِ لَيْسَ عَيْبًا:
9 - وَقَدْ تَوَارَدَتْ عِبَارَاتُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْمُثْبِتِينَ لِهَذَا الْخِيَارِ عَلَى أَنَّ الصِّفَةَ الْمَقْصُودَةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِمَّا لاَ يُعَدُّ فَقْدُهَا عَيْبًا، وَإِلاَّ كَانَتِ الْقَضِيَّةُ مِنْ بَابِ خِيَارِ الْعَيْبِ (2) .
مُوجِبُ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ:
10 - إِذَا تَحَقَّقَ فَوَاتُ الْوَصْفِ الْمَشْرُوطِ - كَمَا سَبَقَ - وَكَانَ مُسْتَوْفِيًا الشَّرَائِطَ ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ. وَمَاهِيَّةُ هَذَا الْخِيَارِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقُّ رَدِّ الْمَبِيعِ، أَوْ أَخْذِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ دُونَ أَرْشٍ لِلْوَصْفِ الْفَائِتِ (3) .
__________
(1) فتح القدير والعناية 5 / 135، وتكملة المجموع 12 / 365 يكفي أن يوجد من الصفة المذكورة ما ينطلق عليه الاسم ولا يشترط النهاية فيها، البدائع 5 / 169، الحطاب 4 / 447، كشاف القناع 2 / 37.
(2) المجموع شرح المهذب 9 / 324، المغني 4 / 139، تذكرة الفقهاء 1 / 540.
(3) فتح القدير 5 / 136، المغني 4 / 839 ط 4.(20/162)
هَذَا، إِذَا لَمْ يَمْتَنِعَ الرَّدُّ، فَإِنِ امْتَنَعَ الرَّدُّ بِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِحِصَّةِ الْوَصْفِ الْفَائِتِ مِنَ الثَّمَنِ. وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَوَّمَ الْمَبِيعُ مَوْصُوفًا بِذَلِكَ. الْوَصْفِ وَغَيْرَ مُتَّصِفٍ بِهِ، وَيَرْجِعَ بِالتَّفَاوُتِ.
وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يَرْجِعُ بِشَيْءٍ، لأَِنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي بِالشَّرْطِ لاَ بِالْعَقْدِ، وَتَعَذُّرُ الرَّدِّ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ لاَ يُوجِبُ الرُّجُوعَ عَلَى الْبَائِعِ، فَكَذَا هَذَا، وَالصَّحِيحُ الرِّوَايَةُ السَّابِقَةُ - وَهِيَ مِنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. لأَِنَّ الْبَائِعَ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ وَصْفَ السَّلاَمَةِ، كَمَا فِي الْعَيْبِ.
أَمَّا انْحِصَارُ الْخِيَارِ فِي أَمْرَيْنِ، هُمَا الرَّدُّ أَوِ الأَْخْذُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَعَدَمُ تَخْوِيل الْمُشْتَرِي الرُّجُوعَ بِحِصَّةِ الْفَوَاتِ إِلاَّ عِنْدَ امْتِنَاعِ الرَّدِّ، فَهُوَ أَنَّ الْفَائِتَ وَصْفٌ، وَالأَْوْصَافُ لاَ يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، لِكَوْنِهَا تَابِعَةً فِي الْعَقْدِ تَدْخُل مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ، وَلَوْ فَاتَتْ بِيَدِ الْبَائِعِ قَبْل التَّسْلِيمِ لَمْ يَنْقُصْ مِنَ الثَّمَنِ شَيْءٌ (1) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 135، والعناية 5 / 136، ولينظر لتفصيل قضية الأوصاف وعدم مقابلتها بشيء من الثمن (5 / 91 - 93) من الفتح والعناية. تكملة المجموع " إذا ظهر الخلف في الصفة المشترطة وقد تقدم فسخ العقد بهلاك أو حدوث عيب فله أخذ الأرش على التفصيل المتقدم في خيار العيب " 12 / 371.(20/162)
الْعُقُودُ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ فَوَاتِ الْوَصْفِ:
11 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مَجَال هَذَا الْخِيَارِ هُوَ مَجَال خِيَارِ الْعَيْبِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ عَلَى مَا يَتَعَيَّنُ، فَلاَ يَثْبُتُ فِي الْمَبِيعِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِالتَّعْيِينِ، وَهُوَ الْمَبِيعُ الَّذِي يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ عَلَى طِبْقِ الْوَصْفِ فَهُوَ غَيْرُ الْمَبِيعِ:
وَكَذَلِكَ لاَ يَثْبُتُ فِي الْمَبِيعِ الْغَائِبِ، لأَِنَّ لِلْمَبِيعِ الْغَائِبِ خِيَارًا خَاصًّا بِهِ وَهُوَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ.
تَوْقِيتُ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ عَلَى التَّرَاخِي وَلاَ يَتَوَقَّتُ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ إِلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يُسْقِطُهُ مِمَّا يَدُل عَلَى الرِّضَا. وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ تَوْقِيتَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَهُوَ عِنْدَهُمْ عَلَى الْفَوْرِ. وَذَلِكَ كُلُّهُ مُنْسَجِمٌ مَعَ اعْتِبَارِ خِيَارِ فَوَاتِ الْوَصْفِ بِخِيَارِ الْعَيْبِ وَابْتِنَائِهِ عَلَيْهِ (1) .
انْتِقَالُهُ بِالْمَوْتِ:
13 - هَذَا الْخِيَارُ يُورَثُ بِمَوْتِ مُسْتَحِقِّهِ، فَيَنْتَقِل إِلَى وَرَثَتِهِ، لأَِنَّهُ فِي ضِمْنِ مِلْكِ الْعَيْنِ، هَكَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَالاِنْتِقَال عِنْدَهُمْ مُقَرَّرٌ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ مِنَ الْخِيَارَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْعَيْنِ (2)
__________
(1) العناية 5 / 136، الحطاب 4 / 448، تكملة المجموع 12 / 370، كشاف القناع 2 / 39.
(2) البحر الرائق 6 / 19، وفتح القدير 5 / 135.(20/163)
سُقُوطُهُ:
14 - يَسْقُطُ بِمَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الْعَيْبِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (خِيَارُ الْعَيْبِ) .
خِيَارُ الْقَبُول
انْظُرْ: بَيْعٌ(20/163)
خِيَارُ كَشْفِ الْحَال
التَّعْرِيفُ:
1 - الْكَشْفُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الإِْظْهَارُ، وَرَفْعُ شَيْءٍ عَمَّا يُوَارِيهِ وَيُغَطِّيهِ، يُقَال: كَشَفَهُ فَانْكَشَفَ. وَالتَّكَشُّفُ مِنْ تَكَشَّفَ أَيْ ظَهَرَ، كَانْكَشَفَ. وَالْحَال مَعْرُوفُ الْمَعْنَى (1) .
وَالتَّعْرِيفُ الاِصْطِلاَحِيُّ مُسْتَمَدٌّ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، فَخِيَارُ الْكَشْفِ هُوَ: حَقُّ الْفَسْخِ لِمَنْ ظَهَرَ لَهُ مِقْدَارُ الْمَبِيعِ عَلَى غَيْرِ مَا ظَنَّهُ (2) .
وَسَمَّاهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَسْمَاءٍ عَدِيدَةٍ مِنْ نَفْسِ الْمَادَّةِ اللُّغَوِيَّةِ، فَقَدْ دَعَوْهُ: كَشْفَ الْحَال، وَانْكِشَافَ الْحَال، وَالتَّكَشُّفَ.
وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْخِيَارِ يَظْهَرُ مِنِ اسْتِعْرَاضِ مَجَالِهِ، فَهُوَ يَجْرِي فِي الْمَقَايِيسِ الشَّخْصِيَّةِ الَّتِي يَلْجَأُ إِلَيْهَا الْمُتَعَاقِدَانِ أَحْيَانًا بَدَلاً مِنَ الْمَقَايِيسِ الْمُتَعَارَفِ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَ الْمِقْيَاسُ مِنْ وَسَائِل الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ.
وَمِثَالُهُ الْمُتَدَاوَل لَدَى الْفُقَهَاءِ. أَنْ يَبِيعَ
__________
(1) المصباح المنير، والمغرب، والقاموس المحيط مادة: " كشف ".
(2) رد المحتار 4 / 27 و 45.(20/164)
شَخْصٌ شَيْئًا مِمَّا يُبَاعُ بِالْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ فَلاَ يُسْتَعْمَل لِتَقْدِيرِهِ الْمَكَايِيل أَوِ الْمَوَازِينُ الْمُتَعَارَفُ عَلَيْهَا، بَل يَبِيعُهُ بِإِنَاءٍ بِعَيْنِهِ لاَ يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ، كَصُنْدُوقٍ أَوْ كِيسٍ. أَوْ بِوَزْنِ حَجَرٍ بِعَيْنِهِ كَذَلِكَ. فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ (سَيَأْتِي بَيَانُهَا) وَمُسْتَتْبَعُ حَقِّ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي، أَيْ أَنَّ الْبَيْعَ غَيْرُ لاَزِمٍ (1) .
وَفِي صِحَّتِهِ خِلاَفٌ عُنِيَتْ بِذِكْرِهِ كُتُبُ الْحَنَفِيَّةِ.
مَشْرُوعِيَّتُهُ:
2 - أَخَذَ الْحَنَفِيَّةُ بِهَذَا الْخِيَارِ فِي رِوَايَةٍ وَذَكَرُوهُ فِي عِدَادِ الْخِيَارَاتِ الْمُسَمَّاةِ عِنْدَهُمْ. وَأَثْبَتَ هَذَا الْخِيَارَ أَيْضًا الشَّافِعِيَّةُ، وَإِنْ أَطْلَقُوا عَلَيْهِ غَيْرَ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ، وَأَحْيَانًا لَمْ يُسَمُّوهُ بَل عَبَّرُوا عَنْهُ.
فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّهُ لَوْ قَال: " بِعْتُكَ مِلْءَ هَذَا الْكُوزِ أَوِ الْبَيْتِ مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ، أَوْ زِنَةَ هَذِهِ الْحَصَاةِ مِنْ هَذَا الذَّهَبِ، هُوَ صَحِيحٌ. لإِِمْكَانِ الأَْخْذِ مِنَ الْمُعَيَّنِ قَبْل تَلَفِهِ. وَالْعِلْمُ بِالْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ لاَ يُشْتَرَطُ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ قَال: فِي ذِمَّتِي صِفَتُهَا كَذَا " (2) .
وَقَدْ مَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَعَدُّوهُ مِنْ أَنْوَاعِ بَيْعِ الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا (3) .
__________
(1) رد المحتار 4 / 27.
(2) الفتاوى الكبرى لابن حجر 2 / 157.
(3) القوانين الفقهية 248، المحلى 8 / 377 م1420.(20/164)
وَالْمَنْعُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَوَجْهُ الْقَوْل بِالْجَوَازِ أَنَّ الْجَهَالَةَ الثَّابِتَةَ فِي هَذَا الْعَقْدِ لاَ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، لأَِنَّهُ يَتَعَجَّل تَسْلِيمُهُ فِي الْمَجْلِسِ (وَهُوَ أَحَدُ الشُّرُوطِ الْخَاصَّةِ) وَإِنَّمَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ لِلنِّزَاعِ.
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: الْوَجْهُ يَقْتَضِي أَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ إِذَا كَال بِهِ أَوْ وَزَنَ لِلْمُشْتَرِي، كَمَا فِي الشِّرَاءِ بِوَزْنِ هَذَا الْحَجَرِ ذَهَبًا، نَصَّ فِي جَمِيعِ النَّوَازِل (أَيْ كُتُبِ الْفَتَاوَى) عَلَى أَنَّ فِيهِ الْخِيَارَ إِذَا عَلِمَ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بِالْوَزْنِ. ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ ابْنُ الْهُمَامِ بِمَا نُقِل، بَل أَتَى بِنَظِيرٍ لِهَذَا الْحُكْمِ فَقَال: وَأَقْرَبُ الأُْمُورِ إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إِذَا بَاعَ صُبْرَةً كُل قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ: أَنَّهُ إِذَا كَال فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى عَرَفَ الْمِقْدَارَ صَحَّ وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي كَمَا إِذَا رَآهُ وَلَمْ يَكُنْ رَآهُ وَقْتَ الْبَيْعِ، مَعَ أَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ رَأَى الصُّبْرَةَ قَبْل الْكَيْل وَوَقَعَتِ الإِْشَارَةُ إِلَيْهَا.
أَمَّا الْقَوْل بِالْمَنْعِ فَوَجْهُهُ أَنَّ الْبَيْعَ فِي الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجَازَفَةً أَوْ بِذِكْرِ الْقَدْرِ، فَفِي الْمُجَازَفَةِ: الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَا يُشَارُ إِلَيْهِ، وَعِنْدَ ذِكْرِ الْقَدْرِ: الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَا سُمِّيَ مِنَ الْقَدْرِ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْهُمَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُجَازَفَةٍ، وَلاَ سُمِّيَ قَدْرٌ مَعِينٌ إِذْ لَمْ يَكُنَ الْمِكْيَال مَعْلُومًا (1) .
__________
(1) الكفاية شرح الهداية 5 / 471، وفتح القدير والعناية (أيضًا) .(20/165)
شَرَائِطُ صِحَّةِ الْعَقْدِ مَعَ خِيَارِ الْكَشْفِ:
3 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ الْمَذْكُورِ الْمُسْتَلْزِمِ خِيَارَ كَشْفِ الْحَال:
1 - بَقَاءُ الْمِكْيَال، أَوِ الْمِيزَانِ، غَيْرِ الْمَعْرُوفِ عَلَى حَالِهِمَا:
فَلَوْ تَلِفَا قَبْل التَّسْلِيمِ فَسَدَ الْبَيْعُ، لأَِنَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَبْلَغَ مَا بَاعَهُ إِيَّاهُ. وَهَذَا الشَّرْطُ ذَكَرَهُ فِي الْبَحْرِ نَقْلاً عَنِ السِّرَاجِ وَأَوْرَدَهُ ابْنُ عَابِدِينَ مُقِرًّا لَهُ (1) .
2 - تَعْجِيل تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ:
أَيْ: تَسْلِيمُهُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ قَال ابْنُ الْهُمَامِ: " كُل الْعِبَارَاتِ تُفِيدُ تَقْيِيدَ صِحَّةِ الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ بِالتَّعْجِيل " وَمِنْ ذَلِكَ عِبَارَةُ السَّرَخْسِيِّ:
لَوِ اشْتَرَى بِهَذَا الإِْنَاءِ يَدًا بِيَدٍ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ إِنَّ فِي الْمُعَيَّنِ الْبَيْعَ مُجَازَفَةً يَجُوزُ، فَبِمِكْيَالٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ أَوْلَى (2) . وَهَذَا لأَِنَّ التَّسْلِيمَ: عَقِيبَ الْبَيْعِ (3) .
3 - يُشْتَرَطُ (فِي الْكَيْل خَاصَّةً) أَنْ لاَ يَحْتَمِل الْمِكْيَال الشَّخْصِيُّ النُّقْصَانَ، بِأَنْ لاَ يَنْكَبِسَ وَلاَ يَنْقَبِضَ، كَأَنْ يَكُونَ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ. أَمَّا إِذَا كَانَ كَالزِّنْبِيل وَالْجُوَالِقِ فَلاَ يَجُوزُ.
__________
(1) رد المحتار 4 / 27.
(2) رد المحتار 4 / 27.
(3) فتح القدير 5 / 86، المبسوط 13 / 250، ولهذه الشريطة لا يصح السلم بإناء غير معلوم، وبالتالي ليس هو محلاً للخيار.(20/165)
وَمِنْ ذَلِكَ الْقَبِيل بَيْعُ مِلْءِ قِرْبَةٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ رَاوِيَةٍ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّ الْمَاءَ لَيْسَ عِنْدَهُ وَلاَ يُعْرَفُ قَدْرُ الْقِرْبَةِ، لَكِنْ أَطْلَقَ فِي الْمُجَرَّدِ جَوَازَهُ. وَلاَ بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ الْقِرَبِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي الْبَلَدِ مَعَ غَالِبِ السَّقَّائِينَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إِذَا مَلأََهَا ثُمَّ تَرَاضَيَا جَازَ. قَال ابْنُ الْهُمَامِ: وَلاَ شَكَّ أَنَّ الْقِيَاسَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَمَّا الاِسْتِحْسَانُ الثَّابِتُ بِالتَّعَامُل فَمُقْتَضَاهُ الْجَوَازُ بَعْدَ أَنْ يُسَمِّيَ نَوْعَ الْقِرْبَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ يَسِيرٌ أُهْدِرَ فِي الْمَاءِ.(20/166)
خِيَارُ الْكَمِّيَّةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - (الْكَمِّيَّةُ) ، مَصْدَرٌ صِنَاعِيٌّ مِنْ (كَمْ) وَهِيَ الأَْدَاةُ الْمَوْضُوعَةُ فِي اللُّغَةِ لِلسُّؤَال عَنِ الْمِقْدَارِ (1) . وَخِيَارُ الْكَمِّيَّةِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ، عَلَى مَا عَرَّفَهُ صَاحِبُ الْفَتَاوَى السِّرَاجِيَّةِ: خِيَارُ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ (2) . وَالْمُرَادُ بِهِ (حَقُّ الْبَائِعِ فِي الْفَسْخِ لِخَفَاءِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ عِنْدَ التَّعَاقُدِ) .
وَيُسَمَّى هَذَا الْخِيَارُ خِيَارَ الْكَمِّيَّةِ، لأَِنَّهُ بِسَبَبِ جَهْل كَمِّيَّةِ الثَّمَنِ، لِعَدَمِ رُؤْيَتِهِ رُؤْيَةً مُفِيدَةً، بَل يُرَى فِي وِعَاءٍ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ.
وَهَذَا الْخِيَارُ شَدِيدُ الشَّبَهِ مِنْ حَيْثُ الْغَرَضُ، بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْدَرِجْ فِيهِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لاَ يَثْبُتُ فِي النُّقُودِ (3) .
وَلِهَذَا الْخِيَارِ تَطْبِيقَاتُهُ - عَلَى قِلَّتِهَا - لَكِنَّهُ يَقَعُ
__________
(1) القاموس المحيط مادة: " كم "، مغني اللبيب 2 / 183، والمصباح المنير.
(2) حاشية الحموي على الأشباه لابن نجيم 1 / 327، ورسالة حدود الفقه لابن نجيم.
(3) فتح القدير 5 / 82، رد المحتار 4 / 22، والفتاوى الهندية 3 / 127، نقلاً عن قاضيخان.(20/166)
فِي حَال الْمُسَاوَمَاتِ الْوُدِّيَّةِ، وَفِي الْمُصَالَحَةِ عَنِ الْحُقُوقِ، فَيَلْجَأُ الْمُبَادِل إِلَى تَقْدِيمِ صُرَّةٍ مِنَ الْمَال أَوْ رَبْطَةٍ مِنَ الأَْوْرَاقِ النَّقْدِيَّةِ. بَل فِي الْمُبَايَعَاتِ الْعَادِيَةِ أَحْيَانًا يَشْتَرِي الشَّخْصُ شَيْئًا بِمَا فِي جَيْبِهِ أَوْ حَقِيبَتِهِ مِنَ النُّقُودِ دُونَ بَيَانِ الْمِقْدَارِ، وَإِثْبَاتُ هَذَا الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ عِنْدَ مَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ، يُحَقِّقُ تَمَامَ التَّرَاضِي.
مَشْرُوعِيَّتُهُ:
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى إِثْبَاتِ هَذَا الْخِيَارِ، وَأَدْرَجُوهُ فِي عِدَادِ الْخِيَارَاتِ الَّتِي أَحْصَوْهَا، وَرَأَوْا أَنَّهُ مُكَمِّلٌ لِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا لِثُبُوتِهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى خِيَارِ الْعَيْبِ، فَهُوَ عَلَى هَذَا خِيَارُ نَقِيصَةٍ، وَرُبَّمَا كَانَ ثُبُوتُهُ عِلاَجًا لِلْجَهَالَةِ - وَهِيَ الَّتِي ثَبَتَ لأَِجْلِهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ - دَرْءًا لِلْجَهَالَةِ وَتَخْفِيفًا لِلْغَرَرِ. وَصَنِيعُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمُقَارَنَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ يَدْنُو بِهِ إِلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، فَكَأَنَّهُ هُوَ، لَوْلاَ تَخْصِيصُ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ بِالأَْعْيَانِ، وَأَمَّا خِيَارُ الْكَمِّيَّةِ فَهُوَ لِلنُّقُودِ (2) .
أَحْكَامُ خِيَارِ الْكَمِّيَّةِ:
3 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ الثَّمَنِ
__________
(1) رد المحتار 4 / 46، والأشباه والنظائر لابن نجيم، والبحر الرائق له 2 / 3.
(2) البدائع 5 / 220.(20/167)
وَوَصْفُهُ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مِنَ الزُّمْرَةِ الَّتِي تُدْعَى: الأَْثْمَانُ الْمُطْلَقَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ مُطْلَقَةً عَنِ الإِْشَارَةِ إِلَيْهَا. وَلِذَا اشْتُرِطَ مَعْرِفَةُ الْمِقْدَارِ وَالْوَصْفِ لِتَنْتَفِيَ الْجَهَالَةُ الْفَاحِشَةُ الَّتِي تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ وَالتَّسَلُّمَ. بِخِلاَفِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ. فَالْعِلْمُ بِالْمِقْدَارِ: كَأَنْ يَقُول عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَالْعِلْمُ بِالصِّفَةِ: أَنْ يُحَدِّدَ الدَّرَاهِمَ بِأَنْ يَنْسُبَهَا النِّسْبَةَ الْمُمَيِّزَةَ لَهَا عَنْ غَيْرِهَا إِذَا كَانَ ثَمَّةَ دَرَاهِمُ مُخْتَلِفَةٌ، فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ دَفْعَ الأَْدْوَنِ، وَالْبَائِعُ يَطْلُبُ الأَْرْفَعَ، فَلاَ يَحْصُل مَقْصُودُ شَرْعِيَّةِ الْعَقْدِ.
وَالْعَقْدُ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا بِقِيمَتِهِ أَوْ بِمَا حَل بِهِ، أَوْ بِمَا يُرِيدُ الْمُشْتَرِي، أَوْ بِمَا يُحِبُّ، أَوْ أَنْ يَجْعَل الثَّمَنَ رَأْسَ الْمَال أَوْ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ أَوْ بِمِثْل مَا اشْتَرَى فُلاَنٌ، وَلَمْ يَعْلَمَ الْمُشْتَرِي بِقَدْرِ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ. أَمَّا لَوْ عَلِمَ بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ (1) .
وَمِنْهُ مَا لَوْ بَاعَهُ بِمِثْل مَا يَبِيعُ النَّاسُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا لاَ يَتَفَاوَتُ. وَمِنْهُ أَنْ يَبِيعَ عَلَى قَدْرِ مَا بَاعَ بِهِ - وَقَدِ اخْتَلَفَ مَا بَاعَ بِهِ - أَوْ عَلَى مَا يَبِيعُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَل فَهَذَا فَاسِدٌ (2) .
4 - وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ مُسَمًّى بِالْعَدَدِ وَالنَّوْعِ بَل كَانَ مُشَارًا إِلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الإِْشَارَةُ إِلَى ذَاتِهِ
__________
(1) البدائع 5 / 220، ويشكل هذا صورة رئيسة لخيار الكمية مجالها بيوع الأمانة.
(2) فتح القدير 5 / 83، رد المحتار 4 / 21.(20/167)
أَوْ إِلَى وِعَائِهِ، فَفِي الإِْشَارَةِ الْمُبَاشِرَةِ إِلَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ فِي يَدِهِ وَهِيَ مَرْئِيَّةٌ لَهُ، فَإِنَّهُ بِقَبُول الْعَقْدِ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ، فَلاَ خِيَارَ لَهُ، وَالْوَجْهُ فِي هَذَا أَنَّ الْبَاقِيَ هِيَ جَهَالَةُ الْوَصْفِ (يَعْنِي الْقَدْرَ) وَهِيَ لاَ تَضُرُّ، إِذْ لاَ تَمْنَعُ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُشَارًا إِلَيْهِ وَلَكِنَّهُ فِي وِعَاءٍ مَانِعٍ مِنْ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهِ - وَلَوْ عَلَى سَبِيل التَّقْرِيبِ - كَمَا لَوْ كَانَ فِي صُنْدُوقٍ أَوْ خَابِيَةٍ، ثُمَّ رَأَى الثَّمَنَ بَعْدَئِذٍ بَادِيًا دُونَ وِعَاءٍ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ قَبْل مِقْدَارَهُ مِنَ الْخَارِجِ. كَمَا لَوْ كَانَ فِي صُرَّةٍ. فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمُ التَّخْيِيرِ، لأَِنَّهُ عَرَفَ الْمِقْدَارَ.
أَمَّا صَاحِبُ الدُّرِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدْ فَصَّل فِي الْعِبْرَةِ عَلَى أَسَاسِ مَعْرِفَةِ مَا فِيهَا مِنْ خَارِجٍ، فَإِنْ كَانَتْ تُعْرَفُ فَلاَ خِيَارَ، وَإِنْ كَانَتْ لاَ تُعْرَفُ مِنَ الْخَارِجِ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ بِمَثَابَةِ الْخَابِيَةِ. وَالضَّابِطُ فِي هَذَا: " أَنَّ الْوِعَاءَ الْمُشْتَمِل عَلَى الثَّمَنِ إِنْ كَانَ يَدُل عَلَى مَا فِيهِ. (دَلاَلَةً تَقْرِيبِيَّةً) فَلاَ يَثْبُتُ مَعَهُ خِيَارُ الْكَمِّيَّةِ، وَإِلاَّ ثَبَتَ الْخِيَارُ " (1) .
وَقَدْ تَعَرَّضَ الشَّافِعِيَّةُ لِمَا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُسَمًّى وَلاَ مُحَدَّدًا، بَل كَانَ صُرَّةً مِنَ الدَّرَاهِمِ تَمَّتِ الْمُبَادَلَةُ بِهَا جُزَافًا لاَ يَعْلَمُ وَاحِدٌ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَدْرَهَا، لَكِنَّهَا مُشَاهَدَةٌ مِنْهُمَا، صَحَّ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 22، والفتح 5 / 82.(20/168)
الْبَيْعُ بِلاَ خِلاَفٍ. لَكِنْ هَل يُكْرَهُ الْبَيْعُ بِصُرَّةِ الدَّرَاهِمِ جُزَافًا؟ فِيهِ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ حَكَاهُمَا الْخُرَاسَانِيُّونَ، أَصَحُّهُمَا: يُكْرَهُ، وَبِهِ قَطَعَ الشِّيرَازِيُّ وَآخَرُونَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ. وَالثَّانِي: لاَ يُكْرَهُ، لأَِنَّهَا مُشَاهَدَةٌ (1) .
__________
(1) المجموع شرح المهذب 9 / 343.(20/168)
خِيَارُ الْمَجْلِسِ
التَّعْرِيفُ:
1 - سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْ كَلِمَةِ (خِيَارٌ) فِي مُصْطَلَحِ خِيَارٌ بِوَجْهٍ عَامٍّ، وَأَمَّا كَلِمَةُ (الْمَجْلِسِ) - بِكَسْرِ اللاَّمِ - فَهِيَ تَرِدُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرًا مِيمِيًّا، وَاسْمًا لِلزَّمَانِ، وَاسْمًا لِلْمَكَانِ، مِنْ مَادَّةِ (الْجُلُوسِ) وَاسْتِعْمَالُهُ الْمُنَاسِبُ هُنَا هُوَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ، أَيْ مَوْضِعِ الْجُلُوسِ. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ كَلِمَةَ (الْمَجْلِسِ) تَحْمِل مَعْنَى (مَجْلِسِ الْعَقْدِ) فَهِيَ لَيْسَتْ لِمُطْلَقِ مَجْلِسٍ، بَل لِمَجْلِسِ الْعَقْدِ خَاصَّةً، وَهَذَا التَّقْيِيدُ تُشِيرُ إِلَيْهِ (أَل) فَهِيَ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الذِّهْنِ. وَالْمُرَادُ مَكَانُ التَّبَايُعِ أَوِ التَّعَاقُدِ (1) . فَمَا دَامَ الْمَكَانُ الَّذِي يَضُمُّ كِلاَ الْعَاقِدَيْنِ وَاحِدًا، فَلَهُمَا الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ، إِلَى أَنْ يَتَفَرَّقَا وَيَكُونَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجْلِسُهُ الْمُسْتَقِل.
وَمَجْلِسُ الْعَقْدِ: هُوَ الْوِحْدَةُ الزَّمَنِيَّةُ الَّتِي تَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ صُدُورِ الإِْيجَابِ، وَتَسْتَمِرُّ طِوَال الْمُدَّةِ الَّتِي يَظَل فِيهَا الْعَاقِدَانِ مُنْصَرِفَيْنِ إِلَى التَّعَاقُدِ،
__________
(1) مطالب أولي النهى 3 / 83، ونهاية المحتاج 3 / 85.(20/169)
دُونَ ظُهُورِ إِعْرَاضٍ مِنْ أَحَدِهِمَا عَنِ التَّعَاقُدِ، وَتَنْتَهِي بِالتَّفَرُّقِ، وَهُوَ مُغَادَرَةُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ لِلْمَكَانِ الَّذِي حَصَل فِيهِ الْعَقْدُ.
وَفِي حُكْمِ التَّفَرُّقِ حُصُول التَّخَايُرِ. وَهُوَ أَنْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فِي إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ رَدِّهِ.
لَكِنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ لاَ يَبْدَأُ مِنْ صُدُورِ الإِْيجَابِ بَل مِنْ لَحَاقِ الْقَبُول بِهِ مُطَابِقًا لَهُ، أَمَّا قَبْل وُقُوعِ الْقَبُول فَإِنَّ الْعَاقِدَيْنِ يَمْلِكَانِ خِيَارًا فِي إِجْرَاءِ الْعَقْدِ أَوْ عَدَمِهِ، لَكِنَّهُ خِيَارٌ يُدْعَى خِيَارُ الْقَبُول، وَهُوَ يَسْبِقُ تَمَامَ التَّعَاقُدِ. هَذَا، وَإِنَّ حَقِيقَةَ الْجُلُوسِ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً فِي هَذَا الْخِيَارِ الْمُسَمَّى (بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ) ، لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْفَتْرَةُ الزَّمَنِيَّةُ الَّتِي تَعْقُبُ عَمَلِيَّةَ التَّعَاقُدِ دُونَ طُرُوءِ التَّفَرُّقِ مِنْ مَكَانِ التَّعَاقُدِ. فَالْجُلُوسُ ذَاتُهُ لَيْسَ مُعْتَبَرًا فِي ثُبُوتِهِ، وَلاَ تَرْكُ الْمَجْلِسِ مُعْتَبَرٌ فِي انْقِضَائِهِ، بَل الْعِبْرَةُ لِلْحَال الَّتِي يَتَلَبَّسُ بِهَا الْعَاقِدَانِ، وَهِيَ الاِنْهِمَاكُ فِي التَّعَاقُدِ.
فَخِيَارُ الْمَجْلِسِ هُوَ: حَقُّ الْعَاقِدِ فِي إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ رَدِّهِ، مُنْذُ التَّعَاقُدِ إِلَى التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ.
وَمُعْظَمُ الْمُؤَلِّفِينَ يَدْعُونَ هَذَا الْخِيَارَ (خِيَارَ الْمَجْلِسِ) غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ دَعَاهُ (خِيَارَ الْمُتَبَايِعَيْنِ) (1) وَلَعَل هَذِهِ التَّسْمِيَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُثْبِتِ لِهَذَا الْخِيَارِ، وَهُوَ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ
__________
(1) هو ابن قدامة في المغني 3 / 482.(20/169)
مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا. فَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ الْمَرْوِيَّةِ: الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ (1) . وَبَعْضُ مَنْ لاَ يَأْخُذُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ قَدْ يَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ أَيْضًا لَكِنَّهُمْ لاَ يُرِيدُونَهُ، بَل يَقْصِدُونَ حَالاَتِ تَخْيِيرٍ أُخْرَى نَاشِئَةً بِأَسْبَابٍ شَرْعِيَّةٍ، تَتَقَيَّدُ مُدَّتُهَا بِمَجْلِسِ نُشُوءِ الْخِيَارِ الَّذِي ثَبَتَ لِمُدَّةٍ لاَ تُجَاوِزُ زَمَنَ الْمَجْلِسِ، نَحْوُ تَفْوِيضِ الطَّلاَقِ لِلزَّوْجَةِ، حَيْثُ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا مَا لَمْ تَقُمْ فَتُبَدِّل مَجْلِسُهَا، أَوْ تَعْمَل مَا يَقْطَعُ الْمَجْلِسَ (2) .
مَشْرُوعِيَّةُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَذَهَبَ مُعْظَمُهُمْ إِلَى الْقَوْل بِهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى إِنْكَارِهِ وَاعْتِبَارِ الْعَقْدِ لاَزِمًا مِنْ فَوْرِ انْعِقَادِهِ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول.
فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، ذَهَبُوا إِلَى إِثْبَاتِهِ، فَلاَ يَلْزَمُ الْعَقْدُ عِنْدَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ عَنِ الْمَجْلِسِ أَوِ التَّخَايُرِ وَاخْتِيَارِ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ (3) .
__________
(1) حديث: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 328 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1164 - ط الحلبي) من حديث حكيم بن حزام. وأخرج الرواية الأخرى: " المتبايعان بالخيار " البخاري (الفتح4 / 328 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1164 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر، والسياق للبخاري.
(2) رد المحتار 3 / 316.
(3) المجموع 9 / 169، المغني 3 / 482، والمحلى 8 / 409، نيل الأوطار 5 / 197.(20/170)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ السَّلَفِ إِلَى نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ (1) . كَمَا نَفَاهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَمْ تُدَوَّنْ مَذَاهِبُهُمْ، الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْعَنْبَرِيُّ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ مِنَ السُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمُتَبَايِعَانِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ وَفِي رِوَايَةٍ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُونُ الْبَيْعُ خِيَارًا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ (2) . وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل إِثْبَاتُ الْخِيَارِ مِنَ الشَّرْعِ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ، وَهُمَا مُتَبَايِعَانِ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول. أَمَّا قَبْل ذَلِكَ فَهُمَا مُتَسَاوِمَانِ. وَالْحَدِيثُ وَإِنْ جَاءَ بِلَفْظِ (الْمُتَبَايِعَيْنِ) يَشْمَل مَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ (3) . وَوَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلُهُ: كَانَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا (4) . وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي أُصُول الْحَدِيثِ، وَأُصُول الْفِقْهِ، أَنَّ قَوْل الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا، لَهُ حُكْمُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ.
__________
(1) فتح القدير 5 / 81، البدائع 5 / 228، الحطاب 4 / 310، المحلى 8 / 409 م1417 نيل الأوطار 5 / 197.
(2) حديث " المتبايعان بالخيار " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 326، 328، 333 ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمر برواياته.
(3) المهذب 1 / 257.
(4) نصب الراية 4 / 3، وجامع الأصول 2 / 9 - 10.(20/170)
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ السُّنَّةِ الْفِعْلِيَّةِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ الْبَيْعِ، أَيْ قَال لَهُ: اخْتَرْ، لِكَيْ يَنْبَرِمَ الْعَقْدُ، وَذَلِكَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْحَدِيثِ بِرِوَايَتِهِ الأُْخْرَى، أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَايَعَ رَجُلاً فَلَمَّا بَايَعَهُ قَال لَهُ: اخْتَرْ، ثُمَّ قَال: هَكَذَا الْبَيْعُ (1) .
وَهُنَاكَ آثَارٌ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَظَانِّهَا.
وَاسْتَدَلُّوا لَهُ أَيْضًا بِالْمَعْقُول، كَحَاجَةِ النَّاسِ الدَّاعِيَةِ إِلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ، لأَِنَّ الإِْنْسَانَ بَعْدَ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا قَدْ يَبْدُو لَهُ فَيَنْدَمُ، فَبِالْخِيَارِ الثَّابِتِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ (2) .
وَاحْتَجَّ النُّفَاةُ بِدَلاَئِل مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ:
فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (3) فَهَذِهِ الآْيَةُ أَبَاحَتْ أَكْل الْمَال بِالتِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ، مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ التَّفَرُّقِ عَنْ مَكَانِ الْعَقْدِ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَوَازُ الأَْكْل فِي
__________
(1) حديث: " خير أعرابيًا بعد البيع ". أخرجه الترمذي (3 / 542 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله. والرواية الأخرى، أخرجها البيهقي (5 / 270 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عباس.
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 / 126، المجموع 9 / 187.
(3) سورة النساء / 29.(20/171)
الْمَجْلِسِ قَبْل التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ، وَعِنْدَ الْقَائِلِينَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، إِذَا فَسَخَ أَحَدُهُمَا الْعَقْدَ فِي الْمَجْلِسِ لاَ يُبَاحُ لَهُ الأَْكْل، فَكَانَ ظَاهِرُ النَّصِّ حُجَّةً عَلَيْهِمْ (1) .
وقَوْله تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2) فَإِذَا لَمْ يَقَعِ الْعَقْدُ لاَزِمًا لَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِهِ، وَهُوَ مَا تَقْضِي بِهِ الآْيَةُ (3) .
وَاحْتَجُّوا مِنَ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ (4) فَدَل عَلَى أَنَّهُ لاَ تَقْيِيدَ بِالتَّفَرُّقِ، فَلَوْ كَانَ قَيْدًا لَذَكَرَهُ، كَمَا ذَكَرَ قَيْدَ الاِسْتِيفَاءِ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ.
كَمَا أَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِإِحْدَى رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْمُتَبَايِعَيْنِ الَّتِي فِيهَا: فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ (5) ، حَيْثُ تَدُل عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ لاَ يَمْلِكُ الْفَسْخَ إِلاَّ مِنْ جِهَةِ الاِسْتِقَالَةِ (6) .
وَحَدِيثِ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ وَفِي
__________
(1) البدائع 5 / 228، فتح القدير 5 / 81، المجموع 9 / 184.
(2) سورة المائدة / 1.
(3) فتح القدير 5 / 81، وبداية المجتهد 2 / 140.
(4) حديث: " من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 349 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1160 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(5) أخرج هذه الرواية أبو داود (3 / 736 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمرو.
(6) المجموع 9 / 184.(20/171)
رِوَايَةٍ: عِنْدَ شُرُوطِهِمْ (1) وَالْقَوْل بِالْخِيَارِ بَعْدَ الْعَقْدِ يُفْسِدُ الشَّرْطَ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ يَعْتَبِرُ الشُّرُوطَ.
وَقَاسُوا الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ مِنَ الْمُعَامَلاَتِ الْمَالِيَّةِ فِي هَذَا عَلَى النِّكَاحِ، وَالْخُلْعِ، وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، وَالْكِتَابَةِ، وَكُلٌّ مِنْهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَتِمُّ بِلاَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ الدَّال عَلَى الرِّضَا، فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ.
كَمَا قَاسُوا مَا قَبْل التَّفَرُّقِ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قِيَاسٌ جَلِيٌّ (2) .
وَمِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ قَالُوا: إِنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ خِيَارٌ بِمَجْهُولٍ، فَإِنَّ مُدَّةَ الْمَجْلِسِ مَجْهُولَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَا خِيَارًا مَجْهُولاً، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ مَمْنُوعَةٌ فِي الشَّرْعِ (3) .
وَكَذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الْبَيْعَ صَدَرَ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطٍ، وَالْعَقْدُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ فِي الْحَال. فَالْفَسْخُ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي الْعَقْدِ الثَّابِتِ
__________
(1) حديث: " المسلمون على شروطهم " وفي رواية: " عند شروطهم " أخرجه أبو داود (4 / 20 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة، وإسناده حسن، والرواية الأخرى أخرجها (الدارقطني (3 / 27 - ط دار المحاسن) من حديث عائشة، وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (3 / 23 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) نيل الأوطار 5 / 210، فتح القدير 5 / 82.
(3) المجموع 9 / 184.(20/172)
بِتَرَاضِيهِمَا، أَوْ تَصَرُّفًا فِي حُكْمِهِ بِالرَّفْعِ وَالإِْبْطَال مِنْ غَيْرِ رِضَا الآْخَرِ وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، كَمَا لَمْ تَجُزِ الإِْقَالَةُ أَوِ الْفَسْخُ مِنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ (1) .
زَمَنُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ:
3 - الزَّمَنُ الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، هُوَ الْفَتْرَةُ الَّتِي أَوَّلُهَا لَحْظَةُ انْبِرَامِ الْعَقْدِ، أَيْ بَعْدَ صُدُورِ الْقَبُول مُوَافِقًا لِلإِْيجَابِ.
أَمَدُ الْخِيَارِ:
4 - أَمَدُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لاَ يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ، لأَِنَّهُ مَوْكُولٌ لإِِرَادَةِ كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَيَطُول بِرَغْبَتِهِمَا فِي زِيَادَةِ التَّرَوِّي، وَيَقْصُرُ بِإِرَادَةِ الْمُسْتَعْجِل مِنْهُمَا حِينَ يُخَايِرُ صَاحِبَهُ أَوْ يُفَارِقُهُ. فَهُوَ يُخَالِفُ فِي هَذَا خِيَارَ الشَّرْطِ الْقَائِمَ عَلَى تَعْيِينِ الأَْمَدِ بِصُورَةٍ مُحَدَّدَةٍ. فَانْتِهَاءُ الْخِيَارِ عَلَى هَذَا غَيْرُ مُنْضَبِطٍ لاِرْتِبَاطِهِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ. وَكِلاَهُمَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ زَمَنُ حُصُولِهِ.
وَلَكِنَّ هُنَاكَ وَجْهًا فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَصَفَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ، مُفَادُهُ: أَنَّ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ أَمَدًا أَقْصَى هُوَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ كَيْ لاَ يَزِيدَ عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ.
وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّ مِنْ مُسْقِطَاتِهِ شُرُوعَ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي أَمْرٍ آخَرَ، وَإِعْرَاضَهُ عَمَّا يَتَعَلَّقُ
__________
(1) البدائع 5 / 228، والعناية على الهداية 5 / 81، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 3.(20/172)
بِالْعَقْدِ مَعَ طُول الْفَصْل. فَهَذَا الْمُسْقِطُ يُقَصِّرُ مِنْ أَجَل الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنَ التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ. لأَِنَّهُ يَحْصُرُهُ فِي حَالَةِ التَّعَاقُدِ الْجَادَّةِ وَهِيَ بُرْهَةٌ يَسِيرَةٌ. وَالرَّاجِحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الْوَجْهُ الأَْوَّل الْقَائِل بِأَنَّهُ ثَابِتٌ حَتَّى التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ (1) .
انْتِهَاءُ الْخِيَارِ:
5 - أَسْبَابُ انْتِهَاءِ الْخِيَارِ مُنْحَصِرَةٌ فِي التَّفَرُّقِ، وَالتَّخَايُرِ (اخْتِيَارِ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ) . وَهُنَاكَ سَبَبٌ ثَالِثٌ يَنْتَهِي بِهِ الْخِيَارُ تَبَعًا لاِنْتِهَاءِ الْعَقْدِ، أَصْلاً، وَهُوَ فَسْخُ الْعَقْدِ، ذَلِكَ أَنَّ الْفَسْخَ هُوَ الَّذِي شُرِعَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ لإِِتَاحَتِهِ، لَكِنَّهُ يَأْتِي عَلَى الْعَقْدِ وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ، وَبِالْمَوْتِ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْقَائِلَةِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ.
أَوَّلاً: التَّفَرُّقُ:
6 - يَنْتَهِي خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِالتَّفَرُّقِ، وَهُوَ سَبَبٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُثْبِتِينَ لَهُ، وَيُرَاعَى فِيهِ عُرْفُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ (2) .
ثَانِيًا - التَّخَايُرُ:
اخْتِيَارُ لُزُومِ الْعَقْدِ:
7 - مِنْ أَسْبَابِ انْتِهَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ اخْتِيَارُ لُزُومِ الْعَقْدِ، عَلَى أَنْ يَحْصُل ذَلِكَ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ
__________
(1) المجموع 9 / 180.
(2) المجموع 9 / 180، والمغني 3 / 507، ونهاية المحتاج 4 / 8، ومغني المحتاج 2 / 45، والمكاسب 222.(20/173)
كِلَيْهِمَا، فَيَسْقُطَ بِهِ الْخِيَارُ، وَسَبِيلُهُ أَنْ يَقُولاَ: اخْتَرْنَا لُزُومَ الْعَقْدِ، أَوْ أَمْضَيْنَاهُ، أَوْ أَلْزَمْنَاهُ، أَوْ أَجَزْنَاهُ أَوْ نَحْوَهُ. وَاجْتِمَاعُهُمَا عَلَى اخْتِيَارِ اللُّزُومِ يُسَمَّى: التَّخَايُرُ (1) ، وَلَهُ نَظِيرُ الأَْثَرِ الَّذِي يَحْدُثُ بِالتَّفَرُّقِ.
الْخِلاَفُ فِي التَّخَايُرِ:
8 - اخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي انْتِهَائِهِ بِالتَّخَايُرِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَصَفَهَا ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهَا أَصَحُّ إِلَى انْتِهَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالتَّخَايُرِ.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى عَدَمِ انْتِهَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالتَّخَايُرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ (2) . مُسْتَنَدُ الرِّوَايَةِ الْمُقْتَصِرَةِ عَلَى التَّفَرُّقِ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ وَلاَ تَخْصِيصٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَأَبِي بَرْزَةَ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
أَمَّا مُسْتَنَدُ الرِّوَايَةِ الْمُصَحَّحَةِ الَّتِي تَجْعَل الْمُسْقِطَ أَحَدَ الأَْمْرَيْنِ: التَّفَرُّقَ أَوِ التَّخَايُرَ، فَهُوَ الرِّوَايَاتُ الأُْخْرَى الْمُتَضَمَّنَةُ لِذَيْنِكَ الأَْمْرَيْنِ، كَرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الْمَرْفُوعَةِ: فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا
__________
(1) ومن صور اختيار اللزوم أن يقولا: تخايرنا العقد.
(2) المجموع 9 / 190، شرح المنهج 3 / 106، المغني 3 / 486 م 2757.(20/173)
صَاحِبَهُ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ أَيْ لَزِمَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا: الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالأَْخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى (1) .
أَحْكَامُ التَّخَايُرِ:
9 - التَّخَايُرُ إِمَّا أَنْ يَحْصُل صَرَاحَةً بِنَحْوِ عِبَارَةِ: اخْتَرْنَا إِمْضَاءَ الْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ ضِمْنًا، وَمِثَالُهُ: أَنْ يَتَبَايَعَ الْعَاقِدَانِ الْعِوَضَيْنِ (اللَّذَيْنِ جَرَى عَلَيْهِمَا الْعَقْدُ الأَْوَّل) بَعْدَ قَبْضِهِمَا فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُتَضَمِّنٌ لِلرِّضَا بِلُزُومِ الْعَقْدِ الأَْوَّل. بَل يَكْفِي تَصَرُّفُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ مَعَ الآْخَرِ بِالْعِوَضِ الَّذِي لَهُ، أَيْ لاَ يُشْتَرَطُ تَبَايُعُ الْعِوَضَيْنِ، بَل هُوَ مُجَرَّدُ تَصْوِيرٍ، وَيَكْفِي بَيْعُ أَحَدِهِمَا لِسُقُوطِ الْخِيَارِ وَإِمْضَاءِ الْعَقْدِ (2) .
وَانْتِهَاءُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالتَّخَايُرِ، إِنَّمَا هُوَ إِذَا وَقَعَ اخْتِيَارُ الْفَسْخِ أَوِ الإِْمْضَاءِ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ قَال كُلٌّ مِنْهُمَا لِلآْخَرِ: اخْتَرْ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ لِسُقُوطِ الْخِيَارِ. أَمَّا إِذَا قَال أَحَدُهُمَا لِلآْخَرِ: اخْتَرْ، فَسَكَتَ وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ، فَمَا حُكْمُ خِيَارِ السَّاكِتِ؟ وَمَا حُكْمُ خِيَارِ الْقَائِل؟
__________
(1) المغني 4 / 486.
(2) نهاية المحتاج 4 / 8 بحاشية الشبراملسي، المجموع 9 / 191.(20/174)
خِيَارُ السَّاكِتِ بَعْدَ التَّخْيِيرِ:
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ السَّاكِتَ لاَ يَنْقَطِعُ خِيَارُهُ (1) .
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ: سُقُوطُ خِيَارِهِ. وَاسْتُدِل لِلاِتِّجَاهِ الأَْوَّل بِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُبْطِل خِيَارَهُ فَلَمْ يَحْصُل الرِّضَا، إِنَّمَا سَكَتَ عَنِ الْفَسْخِ أَوِ الإِْمْضَاءِ. فَإِسْقَاطُ خِيَارِهِ يَتَنَافَى مَعَ حَقِّهِ فِي الْخِيَارِ وَالاِخْتِيَارِ بِنَفْسِهِ (2) .
وَاسْتُدِل لِلاِتِّجَاهِ الثَّانِي بِقِيَاسِ السُّقُوطِ عَلَى الثُّبُوتِ، فَكَمَا أَنَّ ثُبُوتَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لاَ يَتَجَزَّأُ فَلاَ يَثْبُتُ لأَِحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ، فَكَذَلِكَ سُقُوطُهُ، لِيَتَسَاوَيَا فِي انْتِهَاءِ الْعَقْدِ، كَمَا تَسَاوَيَا فِي قِيَامِهِ وَنُشُوئِهِ (3) .
خِيَارُ الْمُنْفَرِدِ بِالتَّخْيِيرِ:
أَمَّا خِيَارُ الَّذِي بَادَرَ إِلَى تَخْيِيرِ صَاحِبِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ هَذَا بِشَيْءٍ، فَفِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: سُقُوطُ خِيَارِهِ - وَهُوَ الأَْصَحُّ - بِدَلاَلَةِ تَعْلِيقِ الْحَدِيثِ مَصِيرَ خِيَارِ الْعَاقِدِ عَلَى صُدُورِ
__________
(1) المهذب والمجموع 9 / 185 و 9 / 191.
(2) المغني 3 / 486، منتهى الإرادات 1 / 357، المقنع 2 / 34.
(3) للشافعية نحو هذا الخلاف فيما لو (اختار) أحدهما إمضاء العقد وسكت الآخر. وهذه المسألة غير المذكورة آنفًا فتلك فيما لو (خير) صاحبه. . (المجموع 9 / 191) .(20/174)
التَّخْيِيرِ مِنْهُ، وَلأَِنَّهُ جَعَل لِصَاحِبِهِ مَا مَلَكَهُ مِنَ الْخِيَارِ فَسَقَطَ خِيَارُهُ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: لاَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ، لأَِنَّهُ خَيَّرَ صَاحِبَهُ فَلَمْ يَخْتَرْ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ، لأَِنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى التَّخْيِيرِ كَانَ بِقَصْدِ الاِجْتِمَاعِ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ لَهُمَا، فَلَمَّا لَمْ يَحْصُل بَقِيَ لَهُ خِيَارُهُ (1) .
اخْتِيَارُ فَسْخِ الْعَقْدِ:
10 - سَوَاءٌ حَصَل الْفَسْخُ لِلْعَقْدِ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ جَمِيعًا، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ بِصُدُورِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ تَمَسَّكَ الآْخَرُ بِإِجَازَةِ الْعَقْدِ، ذَلِكَ أَنَّ الْفَسْخَ مُقَدَّمٌ عَلَى الإِْجَازَةِ حِينَ اخْتِلاَفِ رَغْبَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لأَِنَّ إِثْبَاتَ الْخِيَارِ إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ التَّمَكُّنُ مِنَ الْفَسْخِ دُونَ الإِْجَازَةِ لأَِصَالَتِهَا. وَالْفَسْخُ - كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ - مَقْصُودُ الْخِيَارِ (2) .
وَفَسْخُ الْعَقْدِ مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ تَبَعًا، لأَِنَّ سُقُوطَهُ كَانَ لِسُقُوطِ الْعَقْدِ أَصْلاً، فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ أَيْضًا لاِبْتِنَائِهِ عَلَيْهِ، وَحَسَبَ الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ " إِذَا بَطَل الشَّيْءُ بَطَل مَا فِي ضِمْنِهِ " (3) .
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ حُصُول الْفَسْخِ مُبَاشَرَةً، أَوْ
__________
(1) المجموع 9 / 185، مغني المحتاج 2 / 45، نهاية المحتاج 4 / 8، المغني 3 / 486، الفروع 4 / 83.
(2) مغني المحتاج 2 / 44، المجموع 9 / 191.
(3) من القواعد الكلية التي صدرت بها المجلة المادة / 52.(20/175)
عَقِبَ تَخْيِيرِ أَحَدِهِمَا الآْخَرَ، فَالأَْثَرُ لِلْفَسْخِ، لأَِنَّهُ هُوَ مَقْصُودُ الْخِيَارِ (1) .
ثَالِثًا - التَّصَرُّفُ:
11 - يَفْتَرِقُ الشَّافِعِيَّةُ عَنِ الْحَنَابِلَةِ فِي هَذَا الْمُسْقِطِ، فَفِي حِينِ يَأْبَاهُ الأَْوَّلُونَ، وَيُصَرِّحُونَ بِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ لاَ يُسْقِطُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي غَيْرِ صُورَةِ الْبَيْعِ كَمَا سَبَقَ، يَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْصِيل، فَفِي عِدَّةِ صُوَرٍ يَسْقُطُ بِالتَّصَرُّفِ مِنَ الْمُشْتَرِي - أَوِ الْبَائِعِ - خِيَارُهُمَا جَمِيعًا، أَوْ خِيَارُ أَحَدِهِمَا (2) .
وَتَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ اكْتَفَوْا بِالْبَيَانِ دَلاَلَةً دُونَ التَّصْرِيحِ بِعَدَمِ الأَْثَرِ لِلتَّصَرُّفِ فِي إِسْقَاطِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، حَيْثُ نَصُّوا فِي بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ عَلَى إِسْقَاطِهِ إِيَّاهُ، وَسَكَتُوا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَنِ اعْتِبَارِهِ مُسْقِطًا، لَكِنَّ بَعْضَهُمْ عَزَّزَ هَذَا الْبَيَانَ بِالتَّصْرِيحِ، فَفِي شَرْحِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا لِمُخْتَصَرِهِ " الْمَنْهَجِ " عِنْدَمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْمُسْقِطَيْنِ: التَّخَايُرِ وَالتَّفَرُّقِ، أَضَافَ مُحَشِّيهِ سُلَيْمَانُ الْجَمَل قَائِلاً مِنْ طَرِيقِ الْحَاشِيَةِ عَلَى نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ (3) عَنْ شَرْحِ الْعُبَابِ: إِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ حَصْرِهِ لِقَاطِعِ الْخِيَارِ فِيهِمَا، أَنَّ رُكُوبَ الْمُشْتَرِي الدَّابَّةَ الْمَبِيعَةَ لاَ يَقْطَعُ، وَهُوَ أَحَدُ
__________
(1) المجموع 9 / 191.
(2) مغني المحتاج 2 / 45، المغني 3 / 491.
(3) نهاية المحتاج بحاشية الشبراملسي 4 / 7 - 8.(20/175)
وَجْهَيْنِ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ لاِخْتِبَارِهَا، وَالثَّانِي يَقْطَعُ، لِتَصَرُّفِهِ، وَالَّذِي يُتَّجَهُ تَرْجِيحُهُ الأَْوَّل، وَلاَ نُسَلِّمُ أَنَّ مِثْل هَذَا التَّصَرُّفِ يَقْطَعُهُ، وَيُقَاسُ بِالْمَذْكُورِ مَا فِي مَعْنَاهُ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا بِأَنَّهُ مِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ (1) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَلَدَيْهِمْ صُوَرٌ يَسْقُطُ بِهَا خِيَارُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَهَمُّهَا: تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ لَهُ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ، فَإِنَّهُ مُسْقِطٌ لِخِيَارِهِمَا، وَالتَّصَرُّفُ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ لِدَلاَلَتِهِ عَلَى تَرَاضِيهِمَا بِإِمْضَائِهِ، فَلَيْسَ أَقَل أَثَرًا مِنَ التَّخَايُرِ. أَمَّا تَصَرُّفُ الْبَائِعِ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي، فَالرَّاجِحُ أَنَّهُ مُمَاثِلٌ فِي الْحُكْمِ لِتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمُغْنِي أَنَّ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ، وَأَنَّ الْوَجْهَ فِي احْتِمَال عَدَمِ إِسْقَاطِهِ لِلْخِيَارِ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الإِْذْنِ، فَتَصَرُّفُهُ كَمَا لَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنٍ (2) .
أَمَّا تَصَرُّفُ أَحَدِهِمَا بِتَصَرُّفٍ نَاقِلٍ، كَالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ، أَوِ الْوَقْفِ، أَوْ بِتَصَرُّفٍ شَاغِلٍ كَالإِْجَارَةِ، أَوِ الرَّهْنِ. . فَلاَ يُسْقِطُ الْخِيَارَ، لأَِنَّ الْبَائِعَ تَصَرَّفَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ - بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَهُمْ - وَأَمَّا الْمُشْتَرِي
__________
(1) شرح المنهج بحاشية الجمل 33 / 106، وقد استوجه بعدئذ قيدًا على الإطلاق في إسقاط التصرف لخيار الشرط 3 / 119.
(2) المغني 3 / 491 م 2764، وكشاف القناع 3 / 209، وقد سوى بين صورتي البائع والمشتري في الإذن.(20/176)
فَإِنَّهُ يُسْقِطُ حَقَّ الْبَائِعِ مِنَ الْخِيَارِ، وَاسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْبَائِعِ بِهِ تَعَلُّقًا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فَمَنَعَ صِحَّتَهُ أَيْضًا (1) .
رَابِعًا: إِسْقَاطُ الْخِيَارِ ابْتِدَاءً:
12 - الْمُرَادُ هُنَا بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ: التَّنَازُل عَنْهُ قَبْل اسْتِعْمَالِهِ، وَذَلِكَ قَبْل التَّعَاقُدِ، أَوْ فِي بِدَايَةِ الْعَقْدِ قَبْل إِبْرَامِهِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ: التَّبَايُعُ بِشَرْطِ نَفْيِ الْخِيَارِ. وَعَلَى هَذَا الاِصْطِلاَحِ لاَ يُعْتَبَرُ مِنْهُ التَّخَلِّي عَنِ الْخِيَارِ بَعْدَ التَّعَاقُدِ، أَثَرُ اسْتِحْقَاقِ الْعَاقِدَيْنِ لَهُ وَسَرَيَانُ الْمَجْلِسِ، فَالتَّخَلِّي عَنْهُ حِينَئِذٍ بِالتَّخَايُرِ يَسْتَحِقُّ اسْمَ (الاِنْتِهَاءِ) لِلْخِيَارِ، لاَ الإِْسْقَاطِ لَهُ. أَمَّا حُكْمُ هَذَا الإِْسْقَاطِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْقَائِلُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَكَانَ لَهُمْ فِيهِ الآْرَاءُ التَّالِيَةُ:
الأَْوَّل: صِحَّةُ الإِْسْقَاطِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهٌ لَيْسَ بِالْمُصَحَّحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
الثَّانِي: امْتِنَاعُ الإِْسْقَاطِ وَبُطْلاَنُ الْبَيْعِ أَيْضًا، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْبُوَيْطِيِّ، وَكُتُبِ الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ.
الثَّالِثُ: امْتِنَاعُ الإِْسْقَاطِ وَصِحَّةُ الْبَيْعِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ غَيْرُ مُصَحَّحٍ (2) .
__________
(1) المغني 3 / 490 م 2763، وكشاف القناع 3 / 208، 209.
(2) المغني 3 / 486 م 2757، كشاف القناع 3 / 200، الشرح الكبير على المقنع 4 / 64، المهذب والمجموع 9 / 185 و190، مغني المحتاج 2 / 44، ونهاية المحتاج 4 / 8.(20/176)
وَسَوَاءٌ فِي إِسْقَاطِ الْخِيَارِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ أَنْ يُسْقِطَاهُ كِلاَهُمَا، أَوْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِإِسْقَاطِ خِيَارِهِ، أَوْ يَشْتَرِطَا سُقُوطَ خِيَارِ أَحَدِهِمَا بِمُفْرَدِهِ. فَفِي إِسْقَاطِ خِيَارَيْهِمَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ، وَفِي إِسْقَاطِ خِيَارِ أَحَدِهِمَا يَبْقَى خِيَارُ الآْخَرِ (1) .
وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ صَحَّحَ إِسْقَاطَ الْخِيَارِ قَبْل الْعَقْدِ بِحَدِيثِ الْخِيَارِ نَفْسِهِ، حَيْثُ جَاءَ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِهِ: فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ وَفِي رِوَايَةٍ: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ (2) . وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا التَّخَايُرَ فِي الْمَجْلِسِ، فَهِيَ عَامَّةٌ تَشْمَلُهُ وَتَشْمَل التَّخَايُرَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، فَهُمَا فِي الْحُكْمِ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَلأَِنَّ مَا أَثَّرَ فِي الْخِيَارِ فِي الْمَجْلِسِ، أَثَّرَ فِيهِ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ، فَكَمَا يَكُونُ لِلْعَاقِدِ التَّنَازُل عَنِ الْخِيَارِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ ذَلِكَ قُبَيْل التَّعَاقُدِ، وَتَشْبِيهُهُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فِي جَوَازِ إِخْلاَءِ الْعَقْدِ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ.
وَمِمَّا اسْتَدَل بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ
__________
(1) كشف القناع 3 / 200.
(2) حديث: " فإن خير أحدهما الآخر " أخرجه مسلم (3 / 1163 - ط الحلبي) . من حديث عبد الله بن عمر. والرواية الثانية أخرجها النسائي (7 / 248 - ط المكتبة التجارية) .(20/177)
الَّذِينَ نَحَوْا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَنْحَى الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ الْخِيَارَ جُعِل رِفْقًا بِالْمُتَعَاقِدِينَ، فَجَازَ لَهُمَا تَرْكُهُ. وَلأَِنَّ الْخِيَارَ غَرَرٌ فَجَازَ إِسْقَاطُهُ.
أَمَّا دَلِيل الْمَنْعِ - وَهُوَ الأَْصَحُّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - فَهُوَ أَنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ قَبْل ثُبُوتِ سَبَبِهِ، إِذْ هُوَ خِيَارٌ يَثْبُتُ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُهُ قَبْل تَمَامِهِ، وَلَهُ نَظِيرٌ هُوَ (خِيَارُ الشُّفْعَةِ) فَإِنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ فِي ذَلِكَ لاَ يُمْكِنُ إِسْقَاطُهُ قَبْل ثُبُوتِهِ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ إِسْقَاطَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ يُنَافِي مُقْتَضَى الْبَيْعِ لِثُبُوتِهِ شَرْعًا مَصْحُوبًا بِالْخِيَارِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لاَ يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ.
أَمَّا دَلِيل جَوَازِ إِسْقَاطِ الشَّرْطِ فَقَطْ وَصِحَّةُ الْبَيْعِ، فَهُوَ مَا فِي الشَّرْطِ مِنْ مُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لاَ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةٍ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، يَبْطُل وَحْدَهُ وَلاَ يُبْطِل الْعَقْدَ (1) .
أَسْبَابُ انْتِقَال الْخِيَارِ:
أَوَّلاً: الْمَوْتُ:
13 - اخْتَلَفَتِ الآْرَاءُ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى الصُّورَةِ التَّالِيَةِ:
__________
(1) المغني 3 / 485 - 486 م 2757، والمجموع شرح المهذب 9 / 185، مغني المحتاج 2 / 44، الشرح الكبير على المقنع 4 / 64 - 65، كشاف القناع 2 / 445.(20/177)
الأَْوَّل: انْتِقَال الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ إِلَى الْوَارِثِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.
الثَّانِي: سُقُوطُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ.
الثَّالِثُ: التَّفْصِيل بَيْنَ وُقُوعِ الْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمَيِّتِ بِهِ فِي وَصِيَّتِهِ، وَعَدَمِ تِلْكَ الْمُطَالَبَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ (1) .
اسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِانْتِقَال الْخِيَارِ - بِالْمَوْتِ - إِلَى الْوَرَثَةِ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَالأَْحَادِيثِ، فِي انْتِقَال مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ مِنْ حَقٍّ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ: مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ (2) . وَخِيَارُ الْمَجْلِسِ خِيَارٌ ثَابِتٌ لِفَسْخِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَبْطُل بِالْمَوْتِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى خِيَارِ الْعَيْبِ، فَكِلاَهُمَا حَقٌّ لاَزِمٌ ثَابِتٌ فِي الْبَيْعِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي انْتِقَال خِيَارِ الْعَيْبِ بِالْمَوْتِ، فَكَذَلِكَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ. وَيُقَاسُ أَيْضًا عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، وَهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّهُ مِمَّا يُورَثُ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِإِبْطَال الْخِيَارِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، بِأَنَّهُ إِرَادَةٌ وَمَشِيئَةٌ، تَتَّصِل بِشَخْصِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 45، المجموع 9 / 206، الفروع 4 / 91، المغني 3 / 486.
(2) أخرجه البخاري (الفتح 12 2 ? / 9 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1237 - الحلبي) ، من حديث أبي هريرة.(20/178)
الْعَاقِدِ، وَانْتِقَال ذَلِكَ إِلَى الْوَارِثِ لاَ يُتَصَوَّرُ (1) . ثَانِيًا: الْجُنُونُ وَنَحْوُهُ:
14 - إِذَا أُصِيبَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ بِالْجُنُونِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، انْتَقَل الْخِيَارُ - فِي الأَْصَحِّ - إِلَى الْوَلِيِّ، مِنْ حَاكِمٍ أَوْ غَيْرِهِ: كَالْمُوَكِّل عِنْدَ مَوْتِ الْوَكِيل، وَقَدِ ارْتَأَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ يُئِسَ مِنْ إِفَاقَتِهِ أَوْ طَالَتْ مُدَّتُهُ، لَكِنَّ الرَّاجِحَ عَدَمُ الاِنْتِظَارِ مُطْلَقًا (2) .
وَكَذَلِكَ إِنْ خَرِسَ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ، وَلاَ كِتَابَةَ لَهُ، نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَائِبًا عَنْهُ، وَإِنْ أَمْكَنَتِ الإِْجَازَةُ مِنْهُ بِالتَّفَرُّقِ، وَلَيْسَ هُوَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الْحَاكِمُ نَابَ عَنْهُ فِيمَا تَعَذَّرَ مِنْهُ بِالْقَوْل، أَمَّا إِذَا فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ، أَوْ كَانَ لَهُ كِتَابَةٌ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ فِي الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ، لأَِنَّ مُفَارَقَةَ الْعَقْل لَيْسَتْ أَوْلَى مِنْ مُفَارَقَةِ الْمَكَانِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجُنُونَ لاَ يُبْطِلُهُ، فَهُوَ
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 8، ومغني المحتاج 2 / 46، والمجموع 9 / 222، المغني 3 / 486، الفروع 4 / 91، وفيه: وقيل: كخيار الشرط، أي: لا يورث إلا بمطالبة الميت به في وصيته.
(2) حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 108.
(3) مغني المحتاج 2 / 46.(20/178)
عَلَى خِيَارِهِ إِذَا أَفَاقَ، أَمَّا فِي مُطْبِقِ الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ، فَيَقُومُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ أَوِ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ، بِخِلاَفِ الْمَوْتِ لأَِنَّهُ أَعْظَمُ الْفُرْقَتَيْنِ (1) .
آثَارُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ:
15 - لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ آثَارٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْعَقْدِ، لَكِنَّ أَحَدَهَا يُعْتَبَرُ الأَْثَرَ الأَْصْلِيَّ لِلْخِيَارِ، فِي حِينِ تَكُونُ الأُْخْرَى آثَارًا فَرْعِيَّةً، هَذَا الأَْثَرُ الأَْصْلِيُّ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخِيَارِ مِنْ كُل الْخِيَارَاتِ. وَلِذَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّى (الأَْثَرُ الْعَامُّ) ، وَهُوَ مَنْعُ لُزُومِ الْعَقْدِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى امْتِنَاعِ لُزُومِ الْعَقْدِ آثَارٌ مُتَفَرِّعَةٌ عَنْهُ تَتَّصِل بِانْتِقَال الْمِلْكِ وَغَيْرِهِ. أَوَّلاً: الأَْثَرُ الأَْصْلِيُّ:
مَنْعُ لُزُومِ الْعَقْدِ:
16 - مُفَادُ ذَلِكَ اعْتِبَارُ الْعَقْدِ غَيْرَ لاَزِمٍ إِلَى أَنْ يَحْصُل التَّفَرُّقُ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، أَوِ اخْتِيَارُ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ. فَيَكُونُ لِكُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ قَبْل ذَلِكَ.
وَهَذَا الأَْثَرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، ذَلِكَ أَنَّ مَقْصُودَ الْخِيَارِ الْفَسْخُ (2) ،
__________
(1) الإقناع 2 / 84، مطالب أولي النهى 3 / 86، منتهى الإرادات 1 / 357، منار السبيل 1 / 316، المغني 3 / 486، القواعد والفوائد الأصولين لابن اللحام البعلي ص 36.
(2) المجموع 9 / 191.(20/179)
وَلاَ يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَقْصُودُ إِلاَّ بِتَقَاصُرِ الْعَقْدِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْقُوَّةِ، وَالاِسْتِعْصَاءِ عَنِ الْفَسْخِ. وَهَذَا التَّقَاصُرُ سَبِيلُهُ أَنْ يَظَل الْعَقْدُ غَيْرَ لاَزِمٍ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْخِيَارُ.
ثَانِيًا: الآْثَارُ الْفَرْعِيَّةُ:
انْتِقَال الْمِلْكِ
17 - هَذَا الأَْثَرُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: فِقْدَانُ الأَْثَرِ:
وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ - فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ - (وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ) (1) . وَعَلَى هَذَا يَنْتَقِل الْمِلْكُ إِلَى الْمُشْتَرِي مَعَ وُجُودِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ. وَلاَ أَثَرَ لَهُ عَلَى نَفَاذِ الْعَقْدِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يَتَوَقَّفُ، كَمَا لاَ أَثَرَ لَهُ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ، فَهُوَ يُنْتِجُ أَحْكَامَهُ كُلَّهَا - مَعَ بَقَائِهِ قَابِلاً لِلْفَسْخِ - خِلاَل الْمَجْلِسِ إِلَى حُصُول مَا يُنْهِي الْخِيَارَ مِنْ تَفَرُّقٍ أَوْ تَخَايُرٍ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: تَقْيِيدُ النَّفَاذِ:
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ - فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ مِنْ ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ - أَنَّ لِلْخِيَارِ أَثَرًا فِي نَفَاذِ أَحْكَامِ الْعَقْدِ، فَهُوَ يُعْتَبَرُ مَوْقُوفًا مُرَاعًى مِنْ حَيْثُ انْتِقَال
__________
(1) المغني 3 / 488 م 2760، الفروع 4 / 86، كشاف القناع 2 / 50، المجموع 9 / 230، مغني المحتاج 2 / 44.(20/179)
الْمِلْكِ، فَلاَ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمُشْتَرِي وَلاَ لِلْبَائِعِ، بَل يُنْتَظَرُ، فَإِنْ تَمَّ الْعَقْدُ، حُكِمَ بِأَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِلاَّ فَقَدْ بَانَ أَنَّهُ مِلْكُ الْبَائِعِ لَمْ يَزُل عَنْ مِلْكِهِ. وَهَكَذَا يَكُونُ الثَّمَنُ مَوْقُوفًا (1) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ الرَّأْيِ الأَْوَّل (الْقَائِل بِانْتِقَال الْمِلْكِ) بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ، أَهَمُّهَا الاِسْتِدْلاَل بِالسُّنَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ (2) وَحَدِيثُ: مَنْ بَاعَ نَخْلاً بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ. (3) وَجْهُ الدَّلاَلَةِ فِيهِمَا: أَنَّهُ جَعَل الْمَال الْمُصَاحِبَ لِلْعَبْدِ، وَالثَّمَرَةَ لِلْمُبْتَاعِ بِمُجَرَّدِ اشْتِرَاطِهِ، وَاسْتَدَلُّوا مِنْ وُجُوهِ الْمَعْقُول، بِأَنَّ الْبَيْعَ مَعَ وُجُودِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بَيْعٌ صَحِيحٌ، فَيَنْتَقِل الْمِلْكُ فِي أَثَرِهِ، وَلأَِنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ، فَيَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ فِيهِ لاَ يُنَافِيهِ (4) .
__________
(1) المجموع 9 / 230، نهاية المحتاج 4 / 20.
(2) حديث: " من باع عبدًا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع ". أخرجه أبو داود (3 / 716 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث جابر بن عبد الله، وقال المنذري: " في إسناده مجهول "، كذا في مختصر السنن (5 / 80 - نشر دار المعرفة) .
(3) حديث: " من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 313 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1172 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر، واللفظ للبخاري.
(4) المغني 3 / 488، وكشاف القناع 2 / 51.(20/180)
أَمَّا أَصْحَابُ الرَّأْيِ الثَّانِي (الْقَائِل بِأَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْخِيَارُ، فَيُعْرَفُ كَيْفَ كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ) وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْخِيَارَ (كَخِيَارِ الشَّرْطِ مَثَلاً) إِذَا ثَبَتَ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ لَمْ يَنْتَقِل الْمِلْكُ فِي الْعِوَضَيْنِ، وَإِذَا ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ انْتَقَل الْمِلْكُ فِيهِمَا، فَإِذَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْعَاقِدَيْنِ (وَذَلِكَ مَا يَحْصُل فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ) فَإِنَّ مُقْتَضَى ثُبُوتِهِ لِلْبَائِعِ عَدَمُ انْتِقَال الْمِلْكِ، وَمُقْتَضَى ثُبُوتِهِ لِلْمُشْتَرِي انْتِقَالُهُ، فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّوَقُّفِ وَالْمُرَاعَاةِ (التَّرَقُّبِ) إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْخِيَارُ بِالتَّفَرُّقِ، أَوِ التَّخَايُرِ، أَوْ غَيْرِهِمَا (1) .
أَثَرُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى الْعَقْدِ بِخِيَارِ شَرْطٍ:
18 - لاَ أَثَرَ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، فَإِنَّ مُدَّةَ خِيَارِ الشَّرْطِ تُحْسَبُ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ الْوَاقِعِ فِيهِ الشَّرْطُ. هَذَا إِذَا كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ قَدِ اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ، أَمَّا إِنِ اشْتُرِطَ فِي الْمَجْلِسِ فَإِنَّ الْمُدَّةَ تُحْسَبُ مِنْ حِينِ الشَّرْطِ (2) .
__________
(1) نهاية المحتاج بحاشية الشبراملسي 4 / 20، ومغني المحتاج 2 / 44، والمجموع 9 / 228.
(2) نهاية المحتاج 4 / 19.(20/180)
خِيَارُ الْمُرَابَحَةِ
انْظُرْ: بَيْعُ الأَْمَانَةِ
خِيَارُ الْمُسْتَرْسِل
انْظُرْ: بَيْعُ الأَْمَانَةِ
خِيَارُ الْمُوَاضَعَةِ
انْظُرْ: بَيْعُ الأَْمَانَةِ
خِيَارُ النَّجْشِ
انْظُرْ: بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ(20/181)
خِيَارُ النَّقْدِ
التَّعْرِيفُ
1 - سَبَقَ تَعْرِيفُ الْخِيَارِ. أَمَّا النَّقْدُ فَمِنْ مَعَانِيهِ لُغَةً: الإِْعْطَاءُ وَالْقَبْضُ، يُقَال: نَقَدْتُ الرَّجُل الدَّرَاهِمَ، فَانْتَقَدَهَا بِمَعْنَى أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا فَقَبَضَهَا.
وَخِيَارُ النَّقْدِ اصْطِلاَحًا هُوَ: (حَقٌّ يَشْتَرِطُهُ الْعَاقِدُ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْفَسْخِ لِعَدَمِ النَّقْدِ) (1) .
وَلَهُ صُورَتَانِ:
1 - التَّعَاقُدُ وَاشْتِرَاطُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا لَمْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ فَلاَ عَقْدَ بَيْنَهُمَا. وَمُسْتَعْمِل الْخِيَارِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ هُوَ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ كَانَتْ فَائِدَتُهُ الْكُبْرَى لِلْبَائِعِ. وَقَدْ وَصَفُوا هَذِهِ الصُّورَةَ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ (خِيَارِ الشَّرْطِ) لِلْمُشْتَرِي.
2 - التَّعَاقُدُ ثُمَّ قِيَامُ الْمُشْتَرِي بِالنَّقْدِ مَعَ الاِتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ إِذَا رَدَّ الْعِوَضَ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ فَلاَ عَقْدَ بَيْنَهُمَا. وَمُسْتَعْمِل الْخِيَارِ هُنَا هُوَ الْبَائِعُ، وَهُوَ
__________
(1) المصباح مادة: " نقد "، رد المحتار 4 / 75، البدائع 5 / 175.(20/181)
وَحْدَهُ الْمُنْتَفِعُ بِالْخِيَارِ. وَهَذِهِ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ ذَاتُ شَبَهٍ تَامٍّ بِبَيْعِ الْوَفَاءِ مِمَّا جَعَل بَعْضَهُمْ يُدْخِل بَيْعَ الْوَفَاءِ فِي خِيَارِ النَّقْدِ، وَهُوَ قَوْل الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ بِكَذَا بِشَرْطِ أَنِّي مَتَى رَدَدْتُ إِلَيْكَ الثَّمَنَ فِي مَوْعِدِ كَذَا تَرُدَّ إِلَيَّ الْمَبِيعَ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ (خِيَارِ الشَّرْطِ) لِلْبَائِعِ (1) .
مَشْرُوعِيَّتُهُ:
2 - أَثْبَتَ هَذَا الْخِيَارَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ، إِلاَّ زُفَرَ بْنَ الْهُذَيْل. وَقَال بِهِ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ، وَقَال بِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ مُحْتَجًّا بِأَثَرِ عُمَرَ فِيهِ.
وَخَالَفَ فِي هَذَا الْخِيَارِ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ، وَزُفَرُ (2) .
وَاسْتَدَل مُثْبِتُو هَذَا الْخِيَارِ بِالْقِيَاسِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَوُجُوهٍ مِنَ الْمَعْقُول.
أَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ مَقِيسٌ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ لاِتِّحَادِ الْعِلَّةِ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ التَّرَوِّي. فَهَاهُنَا
__________
(1) رد المحتار 4 / 49، الفتاوى الهندية نقلاً عن الذخيرة 3 / 39، المعاملات الشرعية ص 125.
(2) البدائع 5 / 175، فتح القدير 5 / 502، الفتاوى الهندية 3 / 39، البحر الرائق 6 / 6، المجموع 9 / 193، المغني 5 / 504، الاختيارات ص 73.(20/182)
يَتَرَوَّى الْبَائِعُ أَيَحْصُل لَهُ الثَّمَنُ أَمْ لاَ. وَكَذَلِكَ يَتَرَوَّى الْمُشْتَرِي أَيُنَاسِبُهُ الْبَيْعُ أَمْ لاَ، فَيَسْتَرِدُّ مَا نَقَدَ (بِاشْتِرَاطِ ذَلِكَ مَعَ الْبَائِعِ) (1) .
وَأَمَّا آثَارُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ رُوِيَ الأَْخْذُ بِهِ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ أَثْبَتَهُ، وَقَضَى بِهِ شُرَيْحٌ فِي وَاقِعَةٍ، وَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ جَاءَ بِالثَّمَنِ مِنَ الْغَدِ فَاخْتَصَمَا إِلَى شُرَيْحٍ فَقَال: أَنْتَ أَخْلَفْتَهُ (2) . وَاحْتَجُّوا لَهُ مِنْ وُجُوهِ الْمَعْقُول بِدَاعِي الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، كَالْحَاجَةِ إِلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، لِلتَّرَوِّي مِنَ الْمُشْتَرِي فِي مَعْرِفَةِ قُدْرَتِهِ عَلَى النَّقْدِ، وَمِنَ الْبَائِعِ لِيَتَأَمَّل هَل يَصِل إِلَيْهِ الثَّمَنُ فِي الْمُدَّةِ تَحَرُّزًا عَنِ الْمُمَاطَلَةِ مِنَ الْعَاقِدِ الآْخَرِ (3) .
وَاسْتَدَل مَنْ لَمْ يُثْبِتْ هَذَا الْخِيَارَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطِ خِيَارٍ، بَل هُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ، لأَِنَّهُ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ شَرْطًا مُطْلَقًا وَعَلَّقَ فَسْخَهُ عَلَى غَرَرٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَقَدَ بَيْعًا مَثَلاً بِشَرْطِ أَنَّهُ إِنْ قَدِمَ زَيْدٌ الْيَوْمَ فَلاَ بَيْعَ بَيْنَنَا. وَاحْتَجَّ زُفَرُ لِنَفْيِهِ بِقِيَاسٍ آخَرَ هُوَ أَنَّهُ بَيْعٌ شُرِطَتْ فِيهِ إِقَالَةٌ فَاسِدَةٌ لِتَعَلُّقِهَا بِالشَّرْطِ، وَاشْتِرَاطُ الإِْقَالَةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْبَيْعِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فَكَيْفَ بِاشْتِرَاطِ الْفَاسِدَةِ؟ (4)
__________
(1) فتح القدير 5 / 502 ط 2، البدائع 5 / 175، المغني 3 / 531.
(2) المغني 3 / 531 - 532، المصنف 8 / 58.
(3) فتح القدير 5 / 502.
(4) المغني 5 / 504 ط 4، المجموع 9 / 193، فتح القدير 5 / 502.(20/182)
وَمَا ذَكَرَهُ زُفَرُ هُوَ الْقِيَاسُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ ثُبُوتَ خِيَارِ النَّقْدِ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، فَهُوَ جَائِزٌ بِالاِسْتِحْسَانِ، وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ أَنَّ الْبَيْعَ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ النَّقْدِ هُوَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ بِجَامِعِ التَّعْلِيقِ فِي كِلَيْهِمَا، كُل مَا فِي الأَْمْرِ اخْتِلاَفُ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ بَيْنَ كَوْنِهِ مُرُورَ الْمُدَّةِ دُونَ فَسْخٍ أَوْ مُرُورَهَا دُونَ نَقْدٍ. وَلاَ يُمْنَعُ ثُبُوتُهُ بِالْقِيَاسِ (أَوْ بِالدَّلاَلَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى مِنْهُ) أَنَّهُ ثَبَتَ اسْتِحْسَانًا عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، فَالْمُرَادُ قِيَاسُهُ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ وَكِلاَهُمَا ثَبَتَا عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، أَيْ مُخَالِفَيْنِ لِلأُْصُول الْعَامَّةِ الْقَاضِيَةِ بِلُزُومِ الْعَقْدِ كَأَصْلٍ ثَابِتٍ.
صَاحِبُ الْخِيَارِ:
3 - يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْخِيَارِ الْمُشْتَرِيَ أَوِ الْبَائِعَ بِحَسَبِ الصُّورَةِ الَّتِي اشْتُرِطَ فِيهَا، فَإِذَا ظَهَرَ بِعِبَارَةٍ (عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا نَقَدَ فِي الْمُدَّةِ، وَإِلاَّ فَلاَ بَيْعَ) فَصَاحِبُهُ هُوَ الْمُشْتَرِي، لأَِنَّهُ هُوَ الْمُتَمَكِّنُ مِنَ الْفَسْخِ بِعَدَمِ النَّقْدِ. وَأَمَّا إِنْ ظَهَرَ بِعِبَارَةِ (إِنْ رَدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ خِلاَل الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ) فَصَاحِبُ الْخِيَارِ هُوَ الْبَائِعُ، وَرَدُّهُ الثَّمَنَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ بِالْفَسْخِ.
وَفَائِدَةُ الْبَائِعِ مِنْ هَذَا الْخِيَارِ أَكْثَرُ مِنَ الْمُشْتَرِي لأَِنَّهُ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي،(20/183)
أَمْ كَانَ الْبَائِعُ صَاحِبَ الْخِيَارِ، لاِنْتِفَاعِهِ بِحُصُول الْفَسْخِ إِذَا مَطَل الْمُشْتَرِي (1) .
مُدَّةُ خِيَارِ النَّقْدِ:
4 - لَمْ تَتَّفِقَ الآْرَاءُ الْفِقْهِيَّةُ فِي مُدَّتِهِ، بَل اخْتَلَفَتْ، أُسْوَةً بِالْخِلاَفِ الْوَاقِعِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، مَعَ بَعْضِ الْمُغَايَرَةِ نَظَرًا لِثُبُوتِ خِيَارِ الشَّرْطِ بِالنَّصِّ وَثُبُوتِ هَذَا الْخِيَارِ بِالاِجْتِهَادِ، وَالآْرَاءُ فِي مُدَّتِهِ هِيَ:
1 - التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ: فَلَهُمَا أَنْ يُحَدِّدَا الأَْمَدَ الَّذِي يَرَيَانِ فِيهِ مَصْلَحَتَهُمَا، وَلَوْ زَادَ عَنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَحْدَهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ جَرَى عَلَى مُوجِبِ قَوْلِهِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَعَلَيْهِ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ.
2 - التَّحْدِيدُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ مَا يُقَارِبُهَا: وَلَيْسَ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنْ يَشْتَرِطَا مُدَّةً زَائِدَةً. فَالتَّحْدِيدُ بِالثَّلاَثِ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبِهِ أَبِي يُوسُفَ (وَقَدْ خَالَفَ صَنِيعَهُ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ لِتَفْرِيقِهِ بَيْنَهُمَا، لِوُرُودِ آثَارٍ فِيهِ بِمَا فَوْقَ الثَّلاَثِ، وَبَقِيَ خِيَارُ النَّقْدِ عَلَى أَصْل الْمَنْعِ) وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَأَمَّا التَّحْدِيدُ بِمَا يُقَارِبُ الثَّلاَثَ عَلَى أَنْ لاَ يُجَاوِزَ الْعِشْرِينَ يَوْمًا فَهُوَ قَوْل مَالِكٍ.
هَذَا، وَإِنِ اشْتُرِطَ مَا يَزِيدُ عَنِ الثَّلاَثِ،
__________
(1) البحر الرائق 6 / 7، فتح القدير 5 / 502، رد المحتار 4 / 49.(20/183)
عَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، يُنْظَرُ إِنْ نَقَدَ فِي الثَّلاَثِ جَازَ، وَإِلاَّ فَسَدَ الْبَيْعُ وَلَمْ يَنْفَسِخْ، كَمَا حَقَّقَهُ ظَهِيرُ الدِّينِ، وَأَقَرَّ ذَلِكَ ابْنُ الْهُمَامِ وَابْنُ عَابِدِينَ. وَقَدْ جَعَلُوا ذَلِكَ قَيْدًا مُوَضِّحًا لِلْمُرَادِ مِنْ عِبَارَةِ (فَلاَ بَيْعَ بَيْنَنَا) فِي صُورَتَيْ خِيَارِ النَّقْدِ، فَإِنَّهَا بِظَاهِرِهَا تَقْتَضِي الاِنْفِسَاخَ بَعْدَ النَّقْدِ أَوْ بِالرَّدِّ بَعْدَ النَّقْدِ، لَكِنَّهُمْ حَمَلُوا الْمُرَادَ عَلَى أَنَّهُ لِلْفَسَادِ، أَيْ يَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ وَيُمْكِنُ انْقِلاَبُهُ صَحِيحًا إِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ فَسَادُهُ، كَمَا فِي النَّقْدِ قَبْل انْقِضَاءِ الأَْيَّامِ الثَّلاَثَةِ (1) .
سُقُوطُهُ وَانْتِقَالُهُ:
5 - خِيَارُ النَّقْدِ يُمَاثِل خِيَارَ الشَّرْطِ فِي أَسْبَابِ السُّقُوطِ وَأَحْكَامِهِ، وَكَذَلِكَ انْتِقَالُهُ، فَهُوَ لاَ يُورَثُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أُسْوَةً بِخِيَارِ الشَّرْطِ (أَصْلُهُ) (2) ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَارُ الشَّرْطِ) .
صُورَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنْ خِيَارِ النَّقْدِ (بَيْعُ الْوَفَاءِ) .
6 - جَعَل ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ الْمَكَانَ الأَْنْسَبَ لِبَحْثِ بَيْعِ الْوَفَاءِ هُوَ خِيَارُ النَّقْدِ، وَعَلَّل ذَلِكَ بِأَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ مِنْ أَفْرَادِ مَسْأَلَةِ خِيَارِ النَّقْدِ. لَكِنَّ صَاحِبَ الْحَاشِيَةِ عَلَى كِتَابِهِ ابْنَ عَابِدِينَ لَمْ
__________
(1) رد المحتار 44 / 49، فتح القدير 5 / 502، الفتاوى الهندية نقلاً عن الخانية 3 / 39، البدائع 5 / 175، المغني 3 / 531.
(2) رد المحتار 4 / 75.(20/184)
يَرْتَضِ ذَلِكَ التَّعْلِيل حَيْثُ نَقَل عَنِ " النَّهْرِ " أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ أَفْرَادِهِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْل بِفَسَادِ بَيْعِ الْوَفَاءِ إِنْ زَادَ عَلَى الثَّلاَثِ، لاَ عَلَى الْقَوْل بِصِحَّتِهِ، إِذْ خِيَارُ النَّقْدِ مُقَيَّدٌ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَبَيْعُ الْوَفَاءِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِهَا، فَأَنَّى يَكُونُ مِنْ أَفْرَادِهِ؟ (1) ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعُ الْوَفَاءِ) .
خِيَارُ الْهَلاَكِ
انْظُرْ: بَيْعٌ
خِيَاطَةٌ
انْظُرْ: أَلْبِسَةٌ
خَيْطٌ
انْظُرْ: أَلْبِسَةٌ
__________
(1) البحر الرائق وحاشيته لابن عابدين " منحة الخالق " 6 / 8.(20/184)
خِيَانَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخِيَانَةُ وَالْخَوْنُ لُغَةً: أَنْ يُؤْتَمَنَ الإِْنْسَانُ فَلاَ يَنْصَحُ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} (1) وَنَقِيضُ الْخِيَانَةِ الأَْمَانَةُ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغِشُّ:
2 - الْغِشُّ لُغَةً: نَقِيضُ النُّصْحِ، وَقَدْ غَشَّهُ يَغُشُّهُ غِشًّا، تَرَكَ نُصْحَهُ وَزَيَّنَ لَهُ غَيْرَ الْمَصْلَحَةِ. وَاصْطِلاَحًا: هُوَ تَدْلِيسٌ يَرْجِعُ لِذَاتِ الْمَبِيعِ، كَتَجْعِيدِ الشَّعْرِ، وَدَقِّ الثَّوْبِ، وَالْخِيَانَةُ أَعَمُّ مِنْهُ.
__________
(1) سورة الأنفال / 58.
(2) القرطبي 7 / 395، والمفردات للراغب الأصفهاني، والصحاح والمصباح مادة: " خون ".
(3) الزرقاني 88 / 92، وروضة الطالبين 10 / 240، والعناية على الهداية 4 / 233 ط الأميرية، والبناية 5 / 556.(20/185)
إِذْ هِيَ تَدْلِيسٌ يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِ الْمَبِيعِ، أَوْ إِلَى صِفَتِهِ، كَأَنْ يَصِفَهُ بِصِفَاتٍ كَاذِبَةٍ، أَوْ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ، كَأَنْ يَذْكُرَ ثَمَنًا عَلَى وَجْهِ الْكَذِبِ (1) .
ب - النِّفَاقُ:
3 - النِّفَاقُ: الدُّخُول فِي الإِْسْلاَمِ مِنْ وَجْهٍ وَالْخُرُوجُ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَالْخِيَانَةُ تُقَال فِي شَأْنِ الْعَهْدِ وَالأَْمَانَةِ، وَالنِّفَاقُ يُقَال فِي شَأْنِ الدِّينِ (2) .
ج - الْغَصْبُ وَالسَّرِقَةُ:
4 - فَرَّقَ الْعُلَمَاءُ بَيْنَ الْخَائِنِ وَالسَّارِقِ وَالْغَاصِبِ، بِأَنَّ الْخَائِنَ هُوَ الَّذِي خَانَ مَا جُعِل عَلَيْهِ أَمِينًا، وَالسَّارِقُ مَنْ أَخَذَ خِفْيَةً مِنْ مَوْضِعٍ كَانَ مَمْنُوعًا مِنَ الْوُصُول إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا قِيل كُل سَارِقٍ خَائِنٌ دُونَ عَكْسٍ، وَالْغَاصِبُ مَنْ أَخَذَ جِهَارًا مُعْتَمِدًا عَلَى قُوَّتِهِ (3) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْخِيَانَةِ:
5 - خِيَانَةُ الأَْمَانَةِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُول وَتَخُونُوا
__________
(1) الشرقاوي على التحرير 2 / 3 ط الحلبي.
(2) لكليات لأبي البقاء الكفوي 22 / 311، والمفردات للراغب الأصفهاني.
(3) المصباح المنير مادة: " خون ".(20/185)
أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ (2) .
وَقَدْ عَدَّ الذَّهَبِيُّ وَابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ، الْخِيَانَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ، ثُمَّ قَال: الْخِيَانَةُ قَبِيحَةٌ فِي كُل شَيْءٍ، لَكِنَّ بَعْضَهَا أَشَدُّ وَأَقْبَحُ مِنْ بَعْضٍ، إِذْ مَنْ خَانَكَ فِي فَلْسٍ لَيْسَ كَمَنْ خَانَكَ فِي أَهْلِكَ (3) .
الْخِيَانَةُ فِي بُيُوعِ الأَْمَانَةِ:
6 - الأَْصْل فِي بُيُوعِ الأَْمَانَةِ أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الثِّقَةِ وَالاِطْمِئْنَانِ فِي التَّعَامُل بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ: الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي (4) . فَعَلَى الْبَائِعِ الصِّدْقُ فِي الإِْخْبَارِ عَمَّا اشْتَرَى بِهِ وَعَمَّا قَامَ بِهِ عَلَيْهِ إِنْ بَاعَ بِلَفْظِ الْقِيَامِ (5) ، لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ ائْتَمَنَ الْبَائِعَ فِي إِخْبَارِهِ عَنِ الثَّمَنِ الأَْوَّل مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلاَ اسْتِحْلاَفٍ، فَتَجِبُ صِيَانَةُ بُيُوعِ الأَْمَانَةِ عَنِ الْخِيَانَةِ وَعَنْ سَبَبِ الْخِيَانَةِ وَالتُّهْمَةِ، لأَِنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
__________
(1) سورة الأنفال / 27.
(2) حديث: " آية المنافق ثلاث " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 89 - ط السلفية) ومسلم (1 / 78 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) الزواجر 1 / 248 - 249، تفسير القرطبي 7 / 395، الكبائر للذهبي 108.
(4) بدائع الصنائع 5 / 223، وروضة الطالبين 3 / 529، والموسوعة الفقهية 9 / 50.
(5) روضة الطالبين 3 / 529.(20/186)
آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُول وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا (2) .
وَالاِحْتِرَازُ عَنِ الْخِيَانَةِ وَعَنْ شُبْهَتِهَا إِنَّمَا يَحْصُل بِبَيَانِ مَا يَجِبُ بَيَانُهُ (3) .
أَمَّا حُكْمُ الْخِيَانَةِ إِذَا ظَهَرَتْ فِي بُيُوعِ الأَْمَانَةِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ خِلاَفٌ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعُ الأَْمَانَةِ) .
خِيَانَةُ عَامِل الْمُسَاقَاةِ:
7 - الْعَامِل أَمِينٌ وَالْقَوْل قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ هَلاَكٍ وَمَا يُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ خِيَانَةٍ (4) . فَإِنْ ثَبَتَتْ خِيَانَةُ الْعَامِل بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ، أَوْ يَمِينٍ مَرْدُودَةٍ، ضُمَّ إِلَيْهِ مَنْ يُشْرِفُ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَتِمَّ الْعَمَل وَلاَ تُزَال يَدُهُ، لأَِنَّ الْعَمَل حَقٌّ عَلَيْهِ وَيُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَتَعَيَّنَ سُلُوكُهُ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، وَأُجْرَةُ الْمُشْرِفِ عَلَى الْعَامِل (5) .
أَمَّا إِذَا لَمْ تَثْبُتِ الْخِيَانَةُ وَلَكِنِ ارْتَابَ الْمَالِكُ فِيهِ
__________
(1) سورة الأنفال / 27.
(2) حديث: " من غشنا فليس منا " أخرجه مسلم (1 1 ? / 99 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) بدائع الصنائع 5 / 223.
(4) المغني لابن قدامة 5 / 409، 410 ط الرياض.
(5) مغني المحتاج 2 2 ? / 331 نشر دار إحياء التراث العربي، والمغني لابن قدامة 5 / 410، ومطالب أولي النهى 3 / 571.(20/186)
فَإِنَّهُ يُضَمُّ إِلَيْهِ مُشْرِفٌ وَأُجْرَتُهُ حِينَئِذٍ عَلَى الْمَالِكِ (1) . هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَعْتَبِرُونَ كَوْنَ الْعَامِل سَارِقًا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ سَرِقَةِ السَّعَفِ وَالثَّمَرِ قَبْل الإِْدْرَاكِ، مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ عُذْرٌ فِي فَسْخِ الْمُسَاقَاةِ، لأَِنَّهُ يُلْزِمُ صَاحِبَ الأَْرْضِ ضَرَرًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ فَتَنْفَسِخُ بِهِ (2) .
وَيَقُول الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْمُسَاقَاةَ مِنَ الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ فَلَيْسَ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ دُونَ الآْخَرِ مَا لَمْ يَتَرَاضَيَا عَلَيْهِ، وَبِنَاءً عَلَيْهِ إِذَا كَانَ الْعَامِل لِصًّا أَوْ ظَالِمًا، لَمْ يَنْفَسِخَ الْعَقْدُ بِذَلِكَ، وَلاَ يُقَامُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ بَل يُحْفَظُ مِنْهُ، لأَِنَّ فِسْقَهُ لاَ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْمَنَافِعِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَسَقَ بِغَيْرِ الْخِيَانَةِ (3) .
أَخْذُ اللُّقَطَةِ بِنِيَّةِ الْخِيَانَةِ:
8 - مَنْ أَخَذَ اللُّقَطَةَ بِنِيَّةِ الْخِيَانَةِ وَالاِسْتِيلاَءِ يَكُونُ ضَامِنًا غَاصِبًا لَمْ يُبَرَّأْ مِنْ ضَمَانِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا إِلَى صَاحِبِهَا (4) ، وَفِي بَرَاءَةِ الْمُلْتَقِطِ بِدَفْعِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 331، ومطالب أولي النهى 3 / 571.
(2) تكملة فتح القدير 8 / 403 ط دار إحياء التراث العربي، والفتاوى الهندية 5 / 278.
(3) الشرح الصغير 3 / 713، وبداية المجتهد 2 / 250 ط دار المعرفة، والمغني 5 / 410.
(4) روضة الطالبين 5 / 406، والجوهرة النيرة 2 / 46 ط ملتان باكستان.(20/187)
اللُّقَطَةِ إِلَى الْحَاكِمِ أَوْ رَدِّهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (لُقَطَةٌ) .
خِيَانَةُ أَهْل الصَّنَائِعِ:
9 - يُرَاعِي الْمُحْتَسِبُ أَحْوَال أَهْل الصَّنَائِعِ مِنْ حَيْثُ الأَْمَانَةُ وَالْخِيَانَةُ، فَيُقِرُّ أَهْل الثِّقَةِ وَالأَْمَانَةِ مِنْهُمْ، وَيُبْعِدُ مَنْ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ، وَيُشْهِرُ أَمْرَهُ لِئَلاَّ يَغْتَرَّ بِهِ مَنْ لاَ يَعْرِفُهُ (1) .
وَلَمَّا لَمْ تَدْخُل الإِْحَاطَةُ بِأَفْعَال السُّوقَةِ تَحْتَ وُسْعِ الْمُحْتَسِبِ جَازَ لَهُ أَنْ يَجْعَل لأَِهْل كُل صَنْعَةٍ عَرِّيفًا مِنْ صَالِحِ أَهْلِهَا خَبِيرًا بِصِنَاعَتِهِمْ، بَصِيرًا بِغُشُوشِهِمْ وَتَدْلِيسَاتِهِمْ، مَشْهُورًا بِالثِّقَةِ وَالأَْمَانَةِ، يَكُونُ مُشْرِفًا عَلَى أَحْوَالِهِمْ وَيُطَالِعُهُ بِأَخْبَارِهِمْ وَمَا يُجْلَبُ إِلَى سُوقِهِمْ مِنَ السِّلَعِ وَالْبَضَائِعِ، وَمَا تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ مِنَ الأَْسْعَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْسْبَابِ الَّتِي يَلْزَمُ الْمُحْتَسِبَ مَعْرِفَتُهَا (2) . فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: اسْتَعِينُوا عَلَى كُل صَنْعَةٍ بِصَالِحِ أَهْلِهَا (3) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حِسْبَةٌ) .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 256 نشر دار الكتب العلمية، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 303 نشر دار الكتب العلمية.
(2) نهاية الرتبة في طلب الحسبة ص 12 ط مطبعة لجنة التأليف والترجمة بالقاهرة.
(3) حديث: " استعينوا على كل صنعة بصالح أهلها ". أورده الشيزري في نهاية السنية (ص 12 مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر) ولم يعزه إلى أحد، ولم نهتد إليه في المصادر الحديثية الموجودة لدينا.(20/187)
قَطْعُ يَدِ الْخَائِنِ: (1)
10 - لاَ تُقْطَعُ يَدُ خَائِنٍ وَلاَ خَائِنَةٍ (2) . فَقَدْ رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلاَ مُنْتَهِبٍ وَلاَ مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ (3) .
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: وَقَدْ حُكِيَ الإِْجْمَاعُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ (4) . وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ، وَالْخَائِنُ غَيْرُ سَارِقٍ لِقُصُورٍ فِي الْحِرْزِ، لأَِنَّ الْمَال قَدْ كَانَ فِي يَدِ الْخَائِنِ وَحِرْزِهِ لاَ حِرْزِ الْمَالِكِ عَلَى الْخُلُوصِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ حِرْزَهُ وَإِنْ كَانَ حِرْزَ الْمَالِكِ فَإِنَّهُ أَحْرَزَهُ بِإِيدَاعِهِ عِنْدَهُ لَكِنَّهُ حِرْزٌ مَأْذُونٌ لِلأَْخْذِ فِي دُخُولِهِ (5) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَطْعِ جَاحِدِ الْعَارِيَّةِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ جَاحِدَ الْعَارِيَّةِ
__________
(1) الخائن هنا هو أن يؤتمن على شيء بطريق العارية أو الوديعة فيأخذه ويدعي ضياعه أو ينكر أنه كان عنده وديعة أو عارية (فتح القدير 4 / 233 الأميرية) .
(2) فتح القدير 44 / 233 ط الأميرية، والشرقاوي على التحرير 2 / 432 ط الحلبي، والملتقى 7 / 186، وكشاف القناع 6 / 129.
(3) حديث: " ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع ". أخرجه الترمذي (4 / 52 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(4) فتح القدير 4 / 233.
(5) المغني لابن قدامة 8 / 240 ط الرياض، وفتح القدير 4 / 233 ط الأميرية.(20/188)
لاَ قَطْعَ عَلَيْهِ لِقَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلاَ مُنْتَهِبٍ وَلاَ مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ، وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ قَطْعُ السَّارِقِ، وَالْجَاحِدُ غَيْرُ سَارِقٍ وَإِنَّمَا هُوَ خَائِنٌ فَأَشْبَهَ جَاحِدَ الْوَدِيعَةِ (1) .
وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: إِنَّ جَاحِدَ الْعَارِيَّةِ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِ يَدِهَا (2) . وَوَجْهُ دَلاَلَةِ الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ وَاضِحَةٌ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَتَّبَ الْقَطْعَ عَلَى جَحْدِ الْعَارِيَّةِ (3) .
وَقَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ الْقَطْعَ كَانَ عَنْ سَرِقَةٍ صَدَرَتْ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ أَيْضًا مَشْهُورَةً بِجَحْدِ الْعَارِيَّةِ فَعَرَفَتْهَا عَائِشَةُ بِوَصْفِهَا الْمَشْهُورِ، فَالْمَعْنَى امْرَأَةٌ كَانَ وَصْفُهَا جَحْدَ الْعَارِيَّةِ فَسَرَقَتْ فَأَمَرَ بِقَطْعِهَا (4) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: أَمَّا جَاحِدُ الْوَدِيعَةِ وَغَيْرِهَا
__________
(1) المغني لابن قدامة 88 / 241، وسبل السلام 4 / 43 ط دار الكتاب العربي، وفتح القدير 4 / 233.
(2) حديث عائشة: " أن امرأة كان تستعير المتاع " أخرجه مسلم (3 / 1316 - ط الحلبي) .
(3) المغني لابن قدامة 8 / 240، 241، وفتح القدير 4 / 233، وسبل السلام 4 / 43.
(4) فتح القدير 4 / 233.(20/188)
مِنَ الأَْمَانَاتِ فَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا يَقُول بِوُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَيْهِ (1) .
(ر: سَرِقَةٌ: عَارِيَّةٌ) .
خِيَانَةُ الْمُهَادِنِينَ:
11 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَشْعَرَ الإِْمَامُ خِيَانَةَ الْمُهَادَنِينَ بِأَمَارَاتٍ تَدُل عَلَيْهَا، لاَ بِمُجَرَّدِ تَوَهُّمٍ، لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُمْ بَل يَنْبِذُ إِلَيْهِمُ الْعَهْدَ جَوَازًا، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} (2) أَيْ أَعْلِمْهُمْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ حَتَّى تَصِيرَ أَنْتَ وَهُمْ سَوَاءً فِي الْعِلْمِ، فَيُعْلِمُهُمْ بِنَقْضِ عَهْدِهِمْ وُجُوبًا قَبْل الإِْغَارَةِ عَلَيْهِمْ وَقِتَالِهِمْ، لِلآْيَةِ.
وَمَتَى نَقَضَ الإِْمَامُ الْهُدْنَةَ وَفِي دَارِنَا مِنْهُمْ أَحَدٌ وَجَبَ رَدُّهُمْ إِلَى مَأْمَنِهِمْ، لأَِنَّهُمْ دَخَلُوا بِأَمَانٍ فَوَجَبَ أَنْ يُرَدُّوا آمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ حَقٌّ اسْتُوْفِيَ مِنْهُمْ كَغَيْرِهِمْ لِلْعُمُومِيَّاتِ (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ اسْتَشْعَرَ الإِْمَامُ أَيْ ظَنَّ خِيَانَةَ أَهْل الْحَرْبِ قَبْل الْمُدَّةِ بِظُهُورِ أَمَارَتِهَا نَبَذَ الْعَهْدَ الْوَاقِعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى الْمُهَادَنَةِ وَتَرَكَ الْجِهَادَ وُجُوبًا، لِئَلاَّ يُوقِعَ التَّمَادِي عَلَيْهِ فِي
__________
(1) المغني 8 / 241، وانظر قليوبي وعميرة 4 / 194.
(2) سورة الأنفال / 58.
(3) أسنى المطالب 4 / 266، والمهذب 2 / 263 ط الحلبي، والمغني لابن قدامة 8 / 463، وكشاف القناع 3 / 116.(20/189)
الْهَلَكَةِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْعَهْدُ الْمُتَيَقَّنُ بِالظَّنِّ الَّذِي ظَهَرَتْ عَلاَمَاتُهُ لِلضَّرُورَةِ.
وَإِنَّمَا يُنْذِرُهُمُ الإِْمَامُ وُجُوبًا بِأَنَّهُ لاَ عَهْدَ لَهُمْ، فَإِنْ تَحَقَّقَ خِيَانَتَهُمْ نَبَذَهُ بِلاَ إِنْذَارٍ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيُجِيزُونَ لِلإِْمَامِ نَقْضَ الصُّلْحِ بَعْدَ أَنْ صَالَحَ أَهْل الْحَرْبِ مُدَّةً، وَالنَّبْذُ إِلَيْهِمْ، إِذَا رَأَى نَقْضَ الصُّلْحِ أَنْفَعَ حَتَّى لَوْ لَمْ يَسْتَشْعِرْ خِيَانَتَهُمْ لأَِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَبَذَ الْمُوَادَعَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْل مَكَّةَ (2) ، وَلأَِنَّ الْمَصْلَحَةَ لَمَّا تَبَدَّلَتْ كَانَ النَّبْذُ جِهَادًا. وَإِيفَاءُ الْعَهْدِ تَرْكُ الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلاَ بُدَّ مِنَ النَّبْذِ تَحَرُّزًا عَنِ الْغَدْرِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالْعُمُومَاتِ (3) .
وَيَنْقُل ابْنُ الْهُمَامِ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ نَبْذَ الْمُوَادَعَةِ لاَ يَتَقَيَّدُ بِخُطُورِ الْخَوْفِ، لأَِنَّ الْمُهَادَنَةَ فِي الأَْوَّل مَا صَحَّتْ، إِلاَّ لأَِنَّهَا أَنْفَعُ، فَلَمَّا تَبَدَّل الْحَال عَادَ إِلَى الْمَنْعِ (4) .
وَإِنْ بَدَءُوا بِخِيَانَةٍ قَاتَلَهُمُ الإِْمَامُ وَلَمْ يَنْبِذْ إِلَيْهِمْ
__________
(1) حاشية الدسوقي 22 / 206 ط الحلبي، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 860.
(2) حديث: " نبذ الموادعة التي كانت بينه وبين أهل مكة ". ذكر قصتها البيهقي في دلائل النبوة (5 / 9 - 12 - ط دار الكتب العلمية) .
(3) فتح القدير 4 / 294 ط الأميرية، والبناية 5 / 669 - 670، وبدائع الصنائع 7 / 109 ط الجمالية، وشرح السير الكبير 5 / 1709.
(4) فتح القدير 4 / 294.(20/189)
إِذَا كَانَ نَقْضُ الْعَهْدِ بِاتِّفَاقِهِمْ، لأَِنَّهُمْ صَارُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى نَقْضِهِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (هُدْنَةٌ) .
خِيَانَةُ أَهْل الذِّمَّةِ:
12 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ أَهْل الذِّمَّةِ إِذَا خِيفَ مِنْهُمْ الْخِيَانَةُ لَمْ يَنْبِذْ إِلَيْهِمُ الْعَهْدَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْل الْهُدْنَةِ أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ وَجَبَ لَهُمْ، وَلِهَذَا إِذَا طَلَبُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ وَجَبَ الْعَقْدُ لَهُمْ فَلَمْ يُنْقَضْ لِخَوْفِ الْخِيَانَةِ، وَالنَّظَرُ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا لَوْ طَلَبَ الْكُفَّارُ الْهُدْنَةَ كَانَ النَّظَرُ فِيهَا إِلَى الإِْمَامِ، إِنْ رَأَى عَقْدَهَا عَقَدَ، وَإِنْ لَمْ يَرَ عَقْدَهَا لَمْ يَعْقِدْ، فَكَانَ النَّظَرُ إِلَيْهِ فِي نَقْضِهَا عِنْدَ الْخَوْفِ؛ وَلأَِنَّ أَهْل الذِّمَّةِ فِي قَبْضَةِ الإِْمَامِ وَتَحْتَ وِلاَيَتِهِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ مِنْهُمْ خِيَانَةٌ أَمْكَنَ اسْتِدْرَاكُهَا بِخِلاَفِ أَهْل الْهُدْنَةِ فَإِنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنْ قَبْضَةِ الإِْمَامِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُمْ لَمْ يُمْكِنَ اسْتِدْرَاكُهَا فَجَازَ نَقْضُهَا بِالْخَوْفِ (2) .
خِيَانَةُ الْمُسْلِمِ أَهْل الْحَرْبِ:
13 - مَنْ دَخَل مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ
__________
(1) البناية شرح الهداية 5 / 671، وانظر أحكام القرآن لابن العربي 2 / 860.
(2) المهذب 2 / 263 ط الحلبي، وأسنى المطالب 4 / 226، والمغني لابن قدامة 8 / 463 ط الرياض.(20/190)
بِأَمَانٍ لَمْ يَخُنْهُمْ فِي مَالِهِمْ، لأَِنَّهُمْ إِنَّمَا أَعْطَوْهُ الأَْمَانَ مَشْرُوطًا بِتَرْكِهِ خِيَانَتَهُمْ وَتَأْمِينِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ مَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ بِأَمَانٍ فَخَانَنَا كَانَ نَاقِضًا لِعَهْدِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ تَحِل لَهُ خِيَانَتُهُمْ لأَِنَّهُ غَدْرٌ وَلاَ يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ (1) . وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْل الْحَرْبِ) .
خُرُوجُ الْخَائِنِ فِي الْجَيْشِ:
14 - يُمْنَعُ الْخَائِنُ مِنَ الْخُرُوجِ فِي الْجَيْشِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَجَسَّسُ لِلْكُفَّارِ وَيُطْلِعُهُمْ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ (3) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ: (جِهَادٌ، وَتَجَسُّسٌ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
15 - يَأْتِي ذِكْرُ الْخِيَانَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ كَالْبَيْعِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ، وَاللُّقَطَةِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْوَصَايَا، وَالْحَضَانَةِ وَالشَّهَادَةِ، وَالسِّيَرِ.
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 458.
(2) حديث: " المسلمون على شروطهم ". أخرجه أبو داود (4 / 20 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة. وإسناده حسن.
(3) روضة الطالبين 10 / 240، والمغني 8 / 351.(20/190)
خَيْلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَيْل جَمَاعَةُ الأَْفْرَاسِ. وَالْخَيْل مُؤَنَّثَةٌ وَلاَ وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، أَوْ وَاحِدُهَا خَائِلٌ، وَالْجَمْعُ خُيُولٌ وَأَخْيَالٌ، وَسُمِّيَتْ خَيْلاً لاِخْتِيَالِهَا أَيْ إِعْجَابِهَا بِنَفْسِهَا مَرَحًا.
قَال بَعْضُهُمْ: وَتُطْلَقُ عَلَى الْعِرَابِ وَالْبَرَاذِينِ (1) ذُكُورِهِمَا وَإِنَاثِهِمَا، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} (2) .
وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْفُرْسَانِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} (3) أَيْ بِفُرْسَانِكَ وَرَجَّالَتِكَ (4) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ بِالإِْطْلاَقِ الأَْوَّل.
__________
(1) العراب: الخيل العربية، والبراذين: الخيل غير العربية.
(2) سورة النحل / 8.
(3) سورة الإسراء / 64.
(4) مختار الصحاح، والمغرب للمطرزي، والمصباح، والقاموس مادة: " خيل "، وابن عابدين 2 / 19.(20/191)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - حَثَّ الشَّارِعُ عَلَى اقْتِنَاءِ الْخَيْل لِلْجِهَادِ وَارْتِبَاطِهَا فِي سَبِيل اللَّهِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل} (1) . وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْخَيْل مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (2) . وَتُنْظَرُ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (فَرُوسِيَّةٌ) .
وَتَتَعَلَّقُ بِالْخَيْل أَحْكَامٌ مِنْهَا:
زَكَاتُهَا:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي الْخَيْل إِلاَّ إِذَا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَغُلاَمِهِ صَدَقَةٌ (3) . وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: قَدْ عَفَوْتُ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْل وَالرَّقِيقِ (4) . وَلأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ فَلَمْ
__________
(1) سورة الأنفال / 60.
(2) حديث: " الخيل معقود. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 56 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1493 - ط الحلبي) من حديث عروة البارقي.
(3) حديث: " ليس على المسلم في فرسه. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 427 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 675 - 676 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(4) حديث: " قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق. . . . " أخرجه الترمذي (3 / 7 - ط الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب، ونقل عن البخاري أنه صححه.(20/191)
تَجِبْ زَكَاتُهَا كَالْوُحُوشِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: الْخَيْل السَّائِمَةُ إذَا كَانَتْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ الْكُل إنَاثًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَإِنْ كَانَ الْكُل ذُكُورًا فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لاَ تَجِبُ، وَفِي مَسَائِل النَّوَادِرِ أَنَّهَا تَجِبُ (1) .
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إلَى: (زَكَاةٌ) .
أَكْلُهَا:
4 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ) أَنَّ الْخَيْل مُبَاحٌ أَكْلُهَا. وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: إنَّ أَكْلَهَا حَلاَلٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ، وَبِهِ قَال الأَْوْزَاعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ وَنَحْوُهُ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا (2) ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: " أَطْعِمَةٌ " (3) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 19 ط دار إحياء التراث العربي، والفتاوى الهندية 1 / 178، والخانية على هامشها 1 / 249، والتاج والإكليل على هامش مواهب الجليل 2 / 256، والوجيز 1 / 79 ط دار المعرفة، والمغني 1 / 620، 621 ط الرياض.
(2) ابن عابدين 1 / 150، وجواهر الإكليل 1 / 8 ط السعودية، مكة المكرمة، ونهاية المحتاج 8 / 152 ط مصطفى البابي الحلبي، والمغني 8 / 591.
(3) ينظر كتاب " توفية الكيل لمن حرم لحوم الخيل " للحافظ العلائي. نشر وطبع وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت.(20/192)
سَهْمُهَا فِي الْغَنِيمَةِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْغَنِيمَةَ يُقْسَمُ مِنْهَا لِلْفَارِسِ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ، سَهْمٌ لَهُ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ، وَحُسَيْنُ بْنُ ثَابِتٍ وَالثَّوْرِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ. لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَارِسِ ثَلاَثَةَ أَسْهُمٍ، سَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ وَسَهْمًا لَهُ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لِلْفَرَسِ سَهْمٌ وَاحِدٌ، لِمَا رَوَى مُجَمِّعُ بْنُ حَارِثَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَسَمَ خَيْبَرَ عَلَى أَهْل الْحُدَيْبِيَةِ فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَأَعْطَى الرَّاجِل سَهْمًا (2) ، وَلأَِنَّهُ حَيَوَانٌ ذُو سَهْمٍ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى سَهْمٍ كَالآْدَمِيِّ.
وَلاَ يُسْهَمُ لأَِكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ - وَالْمَالِكِيَّةَ، وَالشَّافِعِيَّةَ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَاتِل عَلَى أَكْثَرَ مِنْهَا، فَلاَ يُسْهَمُ لِمَا زَادَ عَلَيْهَا.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ
__________
(1) حديث: " أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم، سهمين. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 7 / 484 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمر.
(2) حديث: " قسم خيبر على أهل الحديبية فأعطى الفارس. . . . " أخرجه أبو داود (3 / 174 - 175 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث مجمع بن جارية، وضعفه ابن حجر في الفتح (6 / 68 - ط السلفية) .(20/192)
الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّهُ يُسْهَمُ لِفَرَسَيْنِ وَلاَ يُسْهَمُ لأَِكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. لِمَا رَوَى الأَْوْزَاعِيُّ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسْهِمُ لِلْخَيْل، وَكَانَ لاَ يُسْهِمُ لِلرَّجُل فَوْقَ فَرَسَيْنِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ عَشَرَةُ أَفْرَاسٍ (1) . وَلأَِنَّ بِهِ إِلَى الثَّانِي حَاجَةً، فَإِنَّ إِدَامَةَ رُكُوبِ وَاحِدٍ تُضْعِفُهُ، وَتَمْنَعُ الْقِتَال عَلَيْهِ، فَيُسْهَمُ لَهُ كَالأَْوَّل بِخِلاَفِ الثَّالِثِ فَإِنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ (2) .
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (غَنَائِمُ) .
الْمُسَابَقَةُ بَيْنَهَا:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ بَيْنَ الْخَيْل سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِعِوَضٍ أَمْ بِغَيْرِهِ (3) ، وَفِي كَيْفِيَّةِ تَحَقُّقِ السَّبْقِ بَيْنَهَا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (رَمْيٌ، وَسَبْقٌ) .
7 - وَبِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا سَبَقَ يَتَعَلَّقُ بِالْخَيْل مَسَائِل أُخْرَى بَحَثَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مَوَاطِنِهَا، فَمَسْأَلَةُ إِنْزَاءِ
__________
(1) حديث: " كان لا يسهم للرجل فوق فرسين، وإن كان. . . . . " أخرجه سعيد بن منصور في سننه كما في المغني لابن قدامة (8 / 407 - 408 - ط الرياض) وفيه إرسال.
(2) ابن عابدين 3 / 234، وجواهر الإكليل 1 / 262 ط دار الباز، مكة المكرمة، والقليوبي 3 / 194 ط دار إحياء الكتب العربية، والمغني 8 / 404، 405، 408 - ط الرياض.
(3) ابن عابدين 5 / 257، 258، 479، وجواهر الإكليل 1 / 271، وشرح المنهاج على هامش القليوبي 4 / 256، ونهاية المحتاج 8 / 164، 165، والمغني 8 / 651، 652، 659، 660.(20/193)
الْحَمِيرِ عَلَيْهَا تَطَرَّقَ إِلَيْهَا الْفُقَهَاءُ فِي الزَّكَاةِ (1) ، وَطَهَارَةُ بَوْلِهَا لِلْمُجَاهِدِ أَصَابَهُ بِأَرْضِ حَرْبٍ، بُحِثَ فِي بَابِ النَّجَاسَاتِ (2) ، وَرُكُوبُ الْمَرْأَةِ عَلَيْهَا بُحِثَ فِي مَبَاحِثِ الْحَظْرِ وَالإِْبَاحَةِ (3) . وَمَنْعُ الذِّمِّيِّ مِنْ رُكُوبِهَا بُحِثَ فِي الْجِزْيَةِ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ تَمْيِيزِ أَهْل الذِّمَّةِ فِي الْمَلْبَسِ (4) ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأُْمُورِ.
خُيَلاَءُ
انْظُرْ: اخْتِيَالٌ
دَاتُورَةٌ
انْظُرْ: مُخَدِّرٌ
__________
(1) القليوبي 3 / 203.
(2) جواهر الإكليل 1 / 12.
(3) ابن عابدين 5 / 271، 272.
(4) ابن عابدين 3 / 273.(20/193)
دَاخِلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّاخِل فِي اللُّغَةِ: فَاعِلٌ مِنْ دَخَل الشَّيْءُ دُخُولاً، وَدَاخِل الشَّيْءِ خِلاَفُ خَارِجِهِ، وَدَخَلْتُ الدَّارَ وَنَحْوَهَا دُخُولاً صِرْتَ دَاخِلَهَا، فَهِيَ حَاوِيَةٌ لَكَ (1) .
وَالْمُرَادُ بِالدَّاخِل فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ: وَاضِعُ الْيَدِ عَلَى الْعَيْنِ، وَيُعَبِّرُ عَنْهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِذِي الْيَدِ، وَصَاحِبِ الْيَدِ، وَالْحَائِزِ (2) . يَقُول الْبَعْلِيُّ الْحَنْبَلِيُّ: الدَّاخِل: مِنَ الْعَيْنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا فِي يَدِهِ (3) .
وَجَاءَ فِي الْمَجَلَّةِ فِي تَعْرِيفِ ذِي الْيَدِ: (هُوَ الَّذِي وَضَعَ يَدَهُ عَلَى عَيْنٍ بِالْفِعْل، أَوِ الَّذِي ثَبَتَ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ) (4) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ (الدَّاخِل) بِالْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا.
__________
(1) المصباح المنير في المادة.
(2) كشاف القناع 6 / 390، ومغني المحتاج 4 / 480، والمطلع على أبواب المقنع ص 404.
(3) المطلع على أبواب المقنع ص 404.
(4) مجلة الأحكام العدلية م (1679) .(20/194)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخَارِجُ:
2 - الْخَارِجُ خِلاَفُ الدَّاخِل. وَيُرَادُ بِهِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ مَنْ لاَ شَيْءَ فِي يَدِهِ، بَل جَاءَ مِنَ الْخَارِجِ، وَيُنَازِعُ الدَّاخِل (1) (ذَا الْيَدِ) . فَهُوَ الْبَرِيءُ عَنْ وَضْعِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ (2) .
وَيَكْثُرُ اسْتِعْمَال كَلِمَتَيِ الدَّاخِل وَالْخَارِجِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي مَبَاحِثِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَاتِ.
وَإِذَا تَمَيَّزَ الدَّاخِل عَنِ الْخَارِجِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ يَتَمَيَّزُ الْمُدَّعِي عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَالْخَارِجُ هُوَ الْمُدَّعِي، وَالدَّاخِل هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الأَْصْل فِي الدَّعْوَى، لأَِنَّ الدَّاخِل لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الدَّعْوَى لِوُجُودِ الْعَيْنِ فِي يَدِهِ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي الدَّعَاوَى وَتَرْجِيحِ الْبَيِّنَاتِ صُوَرًا تُرَجَّحُ فِيهَا بَيِّنَةُ الْخَارِجِ عَلَى الدَّاخِل، وَأُخْرَى تُرَجَّحُ فِيهَا بَيِّنَةُ الدَّاخِل عَلَى الْخَارِجِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ حَال إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، نَذْكُرُ مِنْهَا الصُّوَرَ الْمَشْهُورَةَ التَّالِيَةَ مَعَ بَيَانِ أَدِلَّتِهِمْ
__________
(1) المطلع ص 404، ومغني المحتاج 4 / 480، 481.
(2) مجلة الأحكام العدلية م (1680) .
(3) ابن عابدين 4 4 ? / 437، والبدائع 6 / 225، وتبصرة الحكام 1 / 248، ومغني المحتاج 4 / 480، والمغني 9 / 275، 276، وكشاف القناع 6 / 390، 391.(20/194)
إِجْمَالاً تَارِكِينَ التَّفْصِيل إِلَى مَوَاضِعِهِ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ: (تَعَارُضٌ، دَعْوَى، شَهَادَةٌ) .
أَوَّلاً: الْبَيِّنَةُ عَلَى دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ (1) :
4 - إِذَا تَدَاعَى الرَّجُلاَنِ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ بِأَنِ ادَّعَيَا مِلْكَ عَيْنٍ دُونَ سَبَبِ الْمِلْكِيَّةِ مِنَ الإِْرْثِ أَوِ الشِّرَاءِ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَأَقَامَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْل عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يُقْضَى بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ، وَلاَ تُعْتَبَرُ بَيِّنَةُ الدَّاخِل (ذِي الْيَدِ) فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْخَارِجَ هُوَ الْمُدَّعِي، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (2) . فَجَعَل جِنْسَ الْبَيِّنَةِ فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعِي فَلاَ يَبْقَى فِي جَنْبَةِ
__________
(1) الملك المطلق هو الذي لم يتقيد بأحد أسباب الملك كالإرث والشراء ونحوهما. وغير المطلق هو المضاف إلى سبب، وهو أن يبين سبب الملك مثل أن يقيم بينة بأن هذه العين ملكه نتجت في ملكه، أو أن هذا الثوب ملكه نسجه في ملكه. وهذا السبب على نوعين: منه ما يمكن أن يتكر والاختيار 2 / 117) .
(2) حديث: " البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه ". أخرجه بهذا اللفظ البيهقي (10 / 252 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس، وأشار إلى شذوذ هذا اللفظ، ورواه بإسناد صحيح بلفظ: " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر ".(20/195)
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ. وَلأَِنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي أَكْثَرُ فَائِدَةً، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا، كَتَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْجَرْحِ عَلَى التَّعْدِيل، وَدَلِيل كَثْرَةِ فَائِدَتِهَا أَنَّهَا تُثْبِتُ سَبَبًا لَمْ يَكُنْ، وَبَيِّنَةُ الْمُنْكِرِ إِنَّمَا تُثْبِتُ ظَاهِرًا تَدُل عَلَيْهِ الْيَدُ، فَلَمْ تَكُنْ مُفِيدَةً، لأَِنَّ الشَّهَادَةَ بِالْمِلْكِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهَا رُؤْيَةَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَأَقَامَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ (الدَّاخِل) ، لأَِنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِل بِيَدِهِ، كَالْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ مَعَ أَحَدِهِمَا قِيَاسٌ، فَيُقْضَى لَهُ بِهَا (2) .
قَال ابْنُ فَرْحُونَ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِل عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عِنْدَ التَّكَافُؤِ (3) .
وَهَل يُحْكَمُ لِلدَّاخِل بِبَيِّنَةٍ مَعَ الْيَمِينِ أَوْ بِغَيْرِ الْيَمِينِ؟ قَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ بَيِّنَتِهِ فِي الأَْصَحِّ، وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الدُّسُوقِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَذَكَرَ ابْنُ فَرْحُونَ أَنَّهُ يُحْكَمُ لِلْحَائِزِ مَعَ الْيَمِينِ، وَبِهِ قَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 437، والبدائع 6 / 225، والاختيار 2 / 116، 117، وتبصرة الحكام 1 / 248، وكشاف القناع 6 / 390، والمغني 9 / 275، 276.
(2) مغني المحتاج 4 / 481، والدسوقي 4 / 223، وتبصرة الحكام 1 / 248، والمغني 9 / 275، 276.
(3) تبصرة الحكام 1 / 248، 249.
(4) الدسوقي 4 / 223، وتبصرة الحكام 1 / 248، والمهذب 2 / 312.(20/195)
ثَانِيًا: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمِلْكِ الْمُضَافِ إِلَى سَبَبٍ:
5 - إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى عَلَى مِلْكٍ مُسْتَنِدٍ إِلَى سَبَبٍ مِنَ الإِْرْثِ، أَوِ الشِّرَاءِ، أَوْ غَيْرِهِمَا فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنِ اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ بِاخْتِلاَفِ الصُّوَرِ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:
أ - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ إِذَا كَانَ قَابِلاً لِلتَّكْرَارِ، كَالشِّرَاءِ، وَنَسْجِ ثَوْبِ الْخَزِّ، وَزَرْعِ الْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ، لِكَوْنِهَا فِي حُكْمِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ. إِلاَّ إِذَا ادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ قَال كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا: إِنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ زَيْدٍ مَثَلاً. فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِل.
أَمَّا إِذَا كَانَ سَبَبُ الْمِلْكِ غَيْرَ قَابِلٍ لِلتَّكْرَارِ، كَالنِّتَاجِ، أَوْ نَسْجِ ثَوْبِ الْقُطْنِ مَثَلاً، فَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِل، لأَِنَّ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَمْرٌ زَائِدٌ لاَ تَدُل عَلَيْهِ الْيَدُ فَتَعَارَضَتَا، فَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْيَدِ (1) . وَلِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلاَنِ فِي دَابَّةٍ أَوْ بَعِيرٍ، فَأَقَامَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَتَهُ بِأَنَّهَا لَهُ نُتِجَهَا، فَقَضَى بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ (2) .
__________
(1) الاختيار 2 / 117، وحاشية ابن عابدين 4 / 237 وما بعدها، والفتاوى الهندية 4 / 73، ومجلة الأحكام العدلية م (1758، 1759) .
(2) حديث جابر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان في دابة. . . " أخرجه البيهقي (10 / 256 - ط دائرة المعارف العثمانية) . وضعفه ابن حجر في التلخيص (4 / 210 - ط شركة الطباعة الفنية) .(20/196)
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَرْجِيحُ بَيِّنَةِ الدَّاخِل (ذِي الْيَدِ) إِذَا تَسَاوَتَا فِي الْعَدَالَةِ (1) ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الدَّعْوَى فِي مِلْكٍ مُطْلَقٍ أَوْ فِي مِلْكٍ مُضَافٍ إِلَى سَبَبٍ يَتَكَرَّرُ أَوْ لاَ يَتَكَرَّرُ. وَقَال ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لاَ يَنْتَفِعُ الْحَائِزُ (الدَّاخِل) بِبَيِّنَتِهِ، وَبَيِّنَةُ الْمُدَّعِي أَوْلَى.
أَمَّا إِذَا ذَكَرَتْ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ سَبَبَ الْمِلْكِ مِنْ نِتَاجٍ أَوْ زِرَاعَةٍ، وَالأُْخْرَى لَمْ تَذْكُرْ سِوَى مُجَرَّدِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ يُرَجَّحُ مَنْ ذَكَرَ السَّبَبَ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ (الدَّاخِل) فِي الْمِلْكِ الْمُضَافِ إِلَى سَبَبٍ أَيْضًا، كَمَا فِي الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، إِلاَّ إِذَا أَطْلَقَ الدَّاخِل دَعْوَى الْمِلْكِ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً. وَقَيَّدَهُ الْخَارِجُ بِقَوْلِهِ: (اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ) ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ، لِزِيَادَةِ عِلْمِهَا، لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لاَ تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الدَّاخِل إِلاَّ بَعْدَ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي جَانِبِهِ الْيَمِينُ فَلاَ يَعْدِل عَنْهَا مَا دَامَتْ كَافِيَةً (3) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَهُمْ ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ: الأُْولَى:
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 248، 249.
(2) نفس المرجع.
(3) مغني المحتاج 2 / 480، 481، ونهاية المحتاج 8 / 340 وما بعدها.(20/196)
وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَهُمْ تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي (الْخَارِجِ) ، وَعَدَمُ سَمَاعِ بَيِّنَةِ الدَّاخِل بِحَالٍ، سَوَاءٌ أَشَهِدَتْ بِأَنَّ الْعَيْنَ لَهُ نَتَجَتْ فِي مِلْكِهِ، أَوْ قَطِيعَةُ الإِْمَامِ أَمْ لاَ، إِلاَّ إِذَا أَقَامَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنَ الآْخَرِ فَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِل.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِل بِسَبَبِ الْمِلْكِ فَقَالَتْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَتَجَتْ فِي مِلْكِهِ، أَوِ اشْتَرَاهَا، أَوْ نَسَجَهَا. . قُدِّمَتْ، وَإِلاَّ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي (الْخَارِجِ) .
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (الدَّاخِل) تُقَدَّمُ بِكُل حَالٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُسْتَنِدَةً إِلَى سَبَبٍ أَمْ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ، لأَِنَّ جَنْبَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقْوَى، لأَِنَّ الأَْصْل مَعَهُ وَيَمِينُهُ تُقَدَّمُ عَلَى يَمِينِ الْمُدَّعِي، فَإِذَا تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ وَجَبَ إِبْقَاءُ يَدِهِ عَلَى مَا فِيهَا، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَحَدِيثُ جَابِرٍ يَدُل عَلَى هَذَا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا قُدِّمَتْ بَيِّنَتُهُ لِيَدِهِ (1) .
ثَالِثًا: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمِلْكِ الْمُؤَرَّخِ:
6 - إِذَا أَقَامَ كُلٌّ مِنَ الدَّاخِل وَالْخَارِجِ بَيِّنَةً عَلَى مِلْكِ عَيْنٍ وَذَكَرَ التَّارِيخَ، فَبَيِّنَةُ مَنْ تَارِيخُهُ مُقَدَّمٌ أَوْلَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ
__________
(1) المغني 9 / 275، 276، وكشاف القناع 6 / 390 وما بعدها.(20/197)
الْحَنَابِلَةِ، مَثَلاً إِذَا ادَّعَى أَحَدٌ أَنَّ الْعَرْصَةَ الَّتِي فِي يَدِ غَيْرِهِ مَلَكَهَا هُوَ مُنْذُ سَنَةٍ، وَقَال ذُو الْيَدِ (الدَّاخِل) : إِنَّهُ مَلَكَهَا مُنْذُ سَنَتَيْنِ، تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ.
وَإِنْ قَال الدَّاخِل: (مَلَكْتُهَا مُنْذُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ) تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ بَيِّنَةَ مَنْ يَكُونُ تَارِيخُهُ مُقَدَّمًا تُثْبِتُ الْمِلْكَ لَهُ وَقْتَ التَّارِيخِ، وَالآْخَرُ لاَ يَدَّعِيهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لاَ يَثْبُتُ لِغَيْرِهِ إِلاَّ بِالتَّلَقِّي مِنْهُ، إِذِ الأَْصْل فِي الثَّابِتِ دَوَامُهُ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ هَذَا الأَْصْل دَعْوَى النِّتَاجِ، فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فِيهَا أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ مُطْلَقًا، دُونَ اعْتِبَارِ التَّارِيخِ، كَمَا يَدُل عَلَيْهِ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَتِ الْيَدُ لِمُتَقَدِّمِ التَّارِيخِ قُدِّمَتْ قَطْعًا، وَإِذَا كَانَتْ لِمُتَأَخِّرِ التَّارِيخِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا تُقَدَّمُ أَيْضًا، لأَِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَتَانِ فِي إِثْبَاتِ الْمِلْكِ فِي الْحَال فَيَتَسَاقَطَانِ فِيهِ، وَتَبْقَى الْيَدُ فِيهِ مُقَابِلَةَ الْمِلْكِ السَّابِقِ، وَهِيَ أَقْوَى مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمِلْكِ السَّابِقِ بِدَلِيل أَنَّهَا لاَ تُزَال بِهَا.
وَفِي الْقَوْل الثَّانِي: يُرَجَّحُ السَّبْقُ، وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ: يَتَسَاوَيَانِ (2) .
__________
(1) الاختيار 2 / 117، وحاشية ابن عابدين 4 / 437، وما بعدها، ومجلة الأحكام العدلية م (1760) ، وتبصرة الحكام 1 / 248، 249، والمغني 9 / 275، 276.
(2) نهاية المحتاج 8 / 343.(20/197)
وَفِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَلاَ اعْتِبَارَ لِلتَّارِيخِ (1) .
وَهُنَاكَ صُوَرٌ وَفُرُوعٌ أُخْرَى يُرْجَعُ لِحُكْمِهَا وَأَدِلَّةِ الْفُقَهَاءِ فِيهَا فِي مُصْطَلَحَاتِ: (دَعْوَى، شَهَادَةٌ) .
__________
(1) المغني 9 / 275.(20/198)
دَارٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الدَّارُ لُغَةً اسْمٌ جَامِعٌ لِلْعَرْصَةِ وَالْبِنَاءِ وَالْمَحَلَّةِ. وَفِي كُلِّيَّاتِ أَبِي الْبَقَاءِ: الدَّارُ اسْمٌ لِمَا يَشْتَمِل عَلَى بُيُوتٍ وَمَنَازِل وَصَحْنٍ غَيْرِ مَسْقُوفٍ.
وَهِيَ مِنْ دَارَ يَدُورُ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ حَرَكَاتِ النَّاسِ فِيهَا وَاعْتِبَارًا بِدَوَرَانِهَا الَّذِي لَهَا بِالْحَائِطِ، وَجَمْعُهَا أَدْوُرٌ، وَدُورٌ، وَالْكَثِيرُ دِيَارٌ، وَهِيَ الْمَنَازِل الْمَسْكُونَةُ وَالْمَحَال.
وَكُل مَوْضِعٍ حَل بِهِ قَوْمٌ فَهُوَ دَارُهُمْ، وَمِنْ هُنَا سُمِّيَتِ الْبَلْدَةُ دَارًا، وَالصَّقْعُ دَارًا.
وَقَدْ تُطْلَقُ الدَّارُ عَلَى الْقَبَائِل مَجَازًا (1) .
وَمَعْنَاهَا الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْتَلِفُ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْتُ:
2 - أَصْل الْبَيْتِ لُغَةً مَأْوَى الإِْنْسَانِ بِاللَّيْل، لأَِنَّهُ
__________
(1) لسان العرب، غريب القرآن للأصفهاني، المصباح المنير مادة: " دار " مغني المحتاج 2 / 84.(20/198)
يُقَال: بَاتَ: أَيْ أَقَامَ بِاللَّيْل، كَمَا يُقَال: ظَل بِالنَّهَارِ، وَيُقَال: لِلْمَسْكَنِ بَيْتٌ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ اللَّيْل فِيهِ.
وَيَقَعُ اسْمُ الْبَيْتِ عَلَى الْمُتَّخَذِ مِنْ حَجَرٍ، أَوْ مَدَرٍ، أَوْ صُوفٍ، أَوْ وَبَرٍ، أَوْ غَيْرِهَا.
وَيُعَبَّرُ عَنْ مَكَانِ الشَّيْءِ بِأَنَّهُ بَيْتُهُ، وَفِي التَّنْزِيل: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} (1) وَبَيْتُ اللَّهِ مَحَل عِبَادَتِهِ. وَالْبَيْتُ الْعَتِيقُ، وَالْبَيْتُ الْحَرَامُ هُوَ الْكَعْبَةُ أَوِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ كُلُّهُ (2) .
فَبَيْنَ الْبَيْتِ وَالدَّارِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ (3) .
ب - الْحُجْرَةُ:
3 - الْحُجْرَةُ هِيَ الْوَاحِدَةُ مِنْ حُجَرِ الدَّارِ، وَالْجَمْعُ حُجَرٌ، وَحُجُرَاتٌ، مِثْل غُرَفٍ وَغُرُفَاتٍ (4) .
ح - الْغُرْفَةُ:
4 - الْغُرْفَةُ: الْعُلِّيَّةُ، وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْحُجْرَةِ، وَالْجَمْعُ غُرَفٌ، ثُمَّ غُرُفَاتٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا (5) .
__________
(1) سورة العنكبوت / 41.
(2) لسان العرب، المصباح المنير مادة: " بيت ".
(3) لسان العرب، المصباح المنير، غريب القرآن للأصفهاني، مادة " بيت ".
(4) المصباح المنير.
(5) المصباح المنير.(20/199)
د - الْخِدْرُ:
5 - الْخِدْرُ: السِّتْرُ، وَالْجَمْعُ خُدُورٌ، وَيُطْلَقُ الْخِدْرُ عَلَى الْبَيْتِ إِنْ كَانَ فِيهِ امْرَأَةٌ وَأَوْلاَدٌ (1) .
هـ - الْمَنْزِل:
6 - الْمَنْزِل: الْمَنْهَل، وَالدَّارُ، وَمَوْضِعُ النُّزُول، وَقَدْ تَكُونُ اسْمًا لِمَا يَشْتَمِل عَلَى بُيُوتٍ، وَصَحْنٍ مُسَقَّفٍ، وَمَطْبَخٍ، يَسْكُنُهُ الرَّجُل لِعِيَالِهِ، وَهُوَ دُونَ الدَّارِ وَفَوْقَ الْبَيْتِ. وَأَقَلُّهُ بَيْتَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ (2) .
و الْمُخْدَعُ:
7 - الْمُخْدَعُ بِضَمِّ الْمِيمِ، بَيْتٌ صَغِيرٌ يُحْرَزُ فِيهِ الشَّيْءُ، وَكَسْرُ الْمِيمِ وَفَتْحُهَا لُغَتَانِ، مَأْخُوذٌ مِنْ أَخْدَعْتُ الشَّيْءَ بِالأَْلِفِ إِذَا أَخْفَيْتَهُ (3) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالدَّارِ:
8 - أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الدَّارِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي عِدَّةِ أَبْوَابٍ مِنْهَا: الْبَيْعُ، وَالإِْجَارَةُ، وَالْوَصِيَّةُ، وَالْوَقْفُ.
وَبَحَثُوا فِيمَا لَوْ بَاعَ الشَّخْصُ الدَّارَ، أَوْ آجَرَهَا أَوْ أَوْصَى بِهَا، أَوْ وَقَفَهَا، مَا يَدْخُل فِي هَذَا الْعَقْدِ وَمَا لاَ يَدْخُل فِيهِ.
فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الدَّارِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ
__________
(1) المصباح المنير.
(2) المغرب، والمصباح، والمختار، والكليات، والمبسوط للسرخسي 8 / 164، 168.
(3) المصباح المنير.(20/199)
يَدْخُل فِيهِ الأَْرْضُ وَالْبِنَاءُ وَكُل مَا هُوَ مُثَبَّتٌ فِيهَا كَالأَْجْنِحَةِ وَالرَّوَاشِنِ، وَالدَّرَجِ وَالْمَرَاقِي الْمَعْقُودَةِ، وَالسُّقُفِ، وَالْجُسُورِ، وَالْبَلاَطِ الْمَفْرُوشِ الْمُثَبَّتِ فِي الأَْرْضِ، وَالأَْبْوَابِ الْمَنْصُوبَةِ وَغَلْقِهَا الْمُثَبَّتِ، وَالْخَوَابِي، وَمَعَاجِنِ الْخَبَّازِينَ وَخَشَبِ الْقَصَّارِينَ، وَالإِْجَّانَاتِ الْمُثَبَّتَةِ (وَهِيَ آنِيَةٌ تُغْسَل فِيهَا الثِّيَابُ) وَالرُّفُوفِ، وَالسَّلاَلِمِ، وَالسُّرُرِ عَلَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الثَّلاَثَةُ مُسَمَّرَةً.
كَمَا يَدْخُل فِي هَذَا الْعَقْدِ الأَْشْجَارُ الرَّطْبَةُ الْمَغْرُوسَةُ فِي الدَّارِ، وَالْبِئْرُ الْمَحْفُورَةُ، وَالأَْوْتَادُ الْمَغْرُوزَةُ فِيهَا، لأَِنَّ اسْمَ الدَّارِ يَقَعُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ عُرْفًا.
وَكَذَلِكَ يَدْخُل فِي هَذَا الْعَقْدِ حَجَرُ الرَّحَى إِذَا كَانَ الأَْسْفَل مِنْهُمَا مُثَبَّتًا (1) .
وَفِي قَوْلٍ لِكُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لاَ يَدْخُل الْحَجَرُ الأَْعْلَى إِذَا كَانَ مُنْفَصِلاً.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَنْقُولاَتِ الْمُنْفَصِلَةَ وَغَيْرَ الْمُثَبَّتَةِ لاَ تَدْخُل فِي الْعَقْدِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ، وَذَلِكَ كَالسَّرِيرِ، وَالْفُرُشِ، وَالسَّتَائِرِ، وَالرُّفُوفِ الْمَوْضُوعَةِ بِغَيْرِ تَسْمِيرٍ وَلاَ غَرْزٍ فِي الْحَائِطِ، وَكَذَلِكَ الأَْقْفَال وَالْحِبَال، وَالدَّلْوُ، وَالْبَكَرَةُ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُرَكَّبَةً بِالْبِئْرِ بِأَنْ كَانَتْ مَشْدُودَةً بِحَبْلٍ أَوْ مَوْضُوعَةً.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 373، 4 / 33، جواهر الإكليل 2 / 59، مغني المحتاج 2 / 84، 346، المغني لابن قدامة 4 / 88، 5 / 458.(20/200)
وَكَذَلِكَ السَّلاَلِمُ الْمَوْضُوعَةُ غَيْرُ الْمُرَكَّبَةِ. وَكُل مَا لاَ يَكُونُ مِنْ بِنَاءِ الدَّارِ وَلاَ مُتَّصِلاً بِهَا مِنْ خَشَبٍ وَحَجَرٍ، وَحَيَوَانٍ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَنْقُولاَتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الدَّارِ.
وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ.
أَمَّا إِذَا اتَّفَقَ الطَّرَفَانِ عَلَى أَنْ يَشْمَل الْعَقْدُ جَمِيعَ الْمَنْقُولاَتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الدَّارِ أَوْ بَعْضَهَا، أَوْ قَال: وَقَفْتُ الدَّارَ بِجَمِيعِ مَا فِيهَا، فَإِنَّ الْمَنْقُولاَتِ الْمَوْجُودَةَ تَدْخُل فِي الْعَقْدِ تَبَعًا لِلدَّارِ أَوْ حَسْبَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الطَّرَفَانِ (1) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ، وَقْفٌ)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْفِ عُلْوِ الدَّارِ دُونَ سُفْلِهَا، أَوْ سُفْلِهَا دُونَ عُلْوِهَا، أَوْ جَعْل وَسَطِ دَارِهِ مَسْجِدًا وَلَمْ يَذْكُرِ الاِسْتِطْرَاقَ (2) .
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى صِحَّةِ هَذَا الْوَقْفِ؛ لأَِنَّهُ كَمَا يَصِحُّ بَيْعُهُ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ وَقْفُهُ، كَوَقْفِ الدَّارِ جَمِيعًا، وَلأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ يُزِيل الْمِلْكَ إِلَى مَنْ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الاِسْتِقْرَارِ وَالتَّصَرُّفِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ (3) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 373، مغني المحتاج 2 / 346، جواهر الإكليل 2 / 59.
(2) الاستطراق كما في المغرب، هو استفعال من الطريق، وهو اتخاذ المكان طريقًا. مادة: (طرق) .
(3) روضة الطالبين 5 / 315، والمغني لابن قدامة 5 / 607.(20/200)
دَارُ الإِْسْلاَمِ
التَّعْرِيفُ:
1 - دَارُ الإِْسْلاَمِ هِيَ: كُل بُقْعَةٍ تَكُونُ فِيهَا أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ ظَاهِرَةً (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هِيَ كُل أَرْضٍ تَظْهَرُ فِيهَا أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ - وَيُرَادُ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ: كُل حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهِ غَيْرِ نَحْوِ الْعِبَادَاتِ كَتَحْرِيمِ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ - أَوْ يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ فِيهَا أَهْل ذِمَّةٍ، أَوْ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَأَقَرُّوهَا بِيَدِ الْكُفَّارِ، أَوْ كَانُوا يَسْكُنُونَهَا، ثُمَّ أَجَلاَهُمُ الْكُفَّارُ عَنْهَا (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - دَارُ الْحَرْبِ:
2 - دَارُ الْحَرْبِ هِيَ: كُل بُقْعَةٍ تَكُونُ فِيهَا أَحْكَامُ الْكُفْرِ ظَاهِرَةً (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 130 - 131، ابن عابدين 3 / 253، المبسوط 10 / 114، كشاف القناع 3 / 43، الإنصاف 4 / 121، المدونة 2 / 22.
(2) حاشية البجيرمي 4 / 220 وهو ما يفهم من نهاية المحتاج 8 / 81 وما بعدها.
(3) المصادر السابقة.(20/201)
ب - دَارُ الْعَهْدِ:
3 - دَارُ الْعَهْدِ: وَتُسَمَّى دَارَ الْمُوَادَعَةِ وَدَارَ الصُّلْحِ وَهِيَ: كُل نَاحِيَةٍ صَالَحَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَهَا بِتَرْكِ الْقِتَال عَلَى أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ لأَِهْلِهَا (1) .
ج - دَارُ الْبَغْيِ:
4 - دَارُ الْبَغْيِ هِيَ: نَاحِيَةٌ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ تَحَيَّزَ إِلَيْهَا مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ شَوْكَةٌ خَرَجَتْ عَلَى طَاعَةِ الإِْمَامِ بِتَأْوِيلٍ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - إِذَا اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى بُقْعَةٍ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ صَارَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ النَّاحِيَةِ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْكُفَّارُ، رِجَالاً وَنِسَاءً، صِغَارًا وَكِبَارًا، أَصِحَّاءَ وَمَرْضَى، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَهْل النَّاحِيَةِ دَفْعَ الْعَدُوِّ عَنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ، صَارَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ أَهْل النَّوَاحِي الأُْخْرَى مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَهَكَذَا حَتَّى يَكُونَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ يَجُوزُ تَمْكِينُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ. وَيَأْثَمُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 178، وفتح القدير 5 / 334.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 38، فتح القدير 5 / 334، بدائع الصنائع 7 / 130 - 131، أسنى المطالب 4 / 111.(20/201)
إِذَا تَرَكُوا غَيْرَهُمْ يَسْتَوْلِي عَلَى شَيْءٍ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ. (ر: جِهَادٌ) .
وَيَجِبُ عَلَى أَهْل بُلْدَانِ دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَقُرَاهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِقَامَةُ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ، وَإِظْهَارُهَا فِيهَا كَالْجُمُعَةِ، وَالْجَمَاعَةِ، وَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ، وَالأَْذَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ تَرَكَ أَهْل بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ إِقَامَةَ هَذِهِ الشَّعَائِرِ أَوْ إِظْهَارَهَا قُوتِلُوا وَإِنْ أَقَامُوهَا سِرًّا (1) .
وَلاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ دُخُول دَارِ الإِْسْلاَمِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الإِْمَامِ أَوْ أَمَانٍ فِي مُسْلِمٍ. وَلاَ يَجُوزُ لَهُمْ إِحْدَاثُ دُورِ عِبَادَةٍ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ: كَالْكَنَائِسِ، وَالصَّوَامِعِ، وَبَيْتِ النَّارِ، عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي.
تَحَوُّل دَارِ الإِْسْلاَمِ إِلَى دَارِ كُفْرٍ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحَوُّل دَارِ الإِْسْلاَمِ إِلَى دَارٍ لِلْكُفْرِ.
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تَصِيرُ دَارُ الإِْسْلاَمِ دَارَ كُفْرٍ بِحَالٍ مِنَ الأَْحْوَال، وَإِنِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْكُفَّارُ، وَأَجْلَوُا الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا، وَأَظْهَرُوا فِيهَا أَحْكَامَهُمْ (2) . لِخَبَرِ: الإِْسْلاَمُ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى عَلَيْهِ (3)
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 174، روضة الطالبين 10 / 217، بدائع الصنائع 1 / 232، و 7 / 98، وكشاف القناع 1 / 134، ونهاية المحتاج 2 / 136 - 137.
(2) نهاية المحتاج 8 / 82، وأسنى المطالب 4 / 204.
(3) حديث: " الإسلام يعلو ولا يعلى عليه " أخرجه الدارقطني (3 / 252 - ط دار المحاسن) من حديث عائذ بن عمرو المزني، وحسنه ابن حجر في الفتح (3 / 220 - ط السلفية) .(20/202)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ (أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ) : تَصِيرُ دَارُ الإِْسْلاَمِ دَارَ كُفْرٍ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا (1) . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَصِيرُ دَارَ كُفْرٍ إِلاَّ بِثَلاَثِ شَرَائِطَ:
1 - ظُهُورُ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا.
2 - أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْكُفْرِ.
3 - أَنْ لاَ يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ، وَلاَ ذِمِّيٌّ آمِنًا بِالأَْمَانِ الأَْوَّل، وَهُوَ أَمَانُ الْمُسْلِمِينَ.
وَوَجْهُ قَوْل الصَّاحِبَيْنِ وَمَنْ مَعَهُمَا أَنَّ دَارَ الإِْسْلاَمِ وَدَارَ الْكُفْرِ: أُضِيفَتَا إِلَى الإِْسْلاَمِ وَإِلَى الْكُفْرِ لِظُهُورِ الإِْسْلاَمِ أَوِ الْكُفْرِ فِيهِمَا، كَمَا تُسَمَّى الْجَنَّةُ دَارَ السَّلاَمِ، وَالنَّارُ دَارَ الْبَوَارِ، لِوُجُودِ السَّلاَمَةِ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَوَارِ فِي النَّارِ، وَظُهُورُ الإِْسْلاَمِ وَالْكُفْرِ إِنَّمَا هُوَ بِظُهُورِ أَحْكَامِهِمَا، فَإِذَا ظَهَرَتْ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِي دَارٍ فَقَدْ صَارَتْ دَارَ كُفْرٍ، فَصَحَّتِ الإِْضَافَةُ، وَلِهَذَا صَارَتِ الدَّارُ دَارَ إِسْلاَمٍ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ شَرِيطَةٍ أُخْرَى، فَكَذَا تَصِيرُ دَارَ كُفْرٍ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا.
وَوَجْهُ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 130 - 131، وابن عابدين 3 / 253، وكشاف القناع 3 / 43، والإنصاف 4 / 121، والمدونة 2 / 22.(20/202)
إِضَافَةِ الدَّارِ إِلَى الإِْسْلاَمِ وَالْكُفْرِ لَيْسَ هُوَ عَيْنُ الإِْسْلاَمِ وَالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ: الأَْمْنُ، وَالْخَوْفُ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الأَْمْنَ إِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدَّارِ عَلَى الإِْطْلاَقِ وَالْخَوْفَ لِغَيْرِهِمْ عَلَى الإِْطْلاَقِ فَهِيَ دَارُ إِسْلاَمٍ، وَإِنْ كَانَ الأَْمْنُ فِيهَا لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الإِْطْلاَقِ وَالْخَوْفُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الإِْطْلاَقِ فَهِيَ دَارُ كُفْرٍ، فَالأَْحْكَامُ عِنْدَهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الأَْمَانِ وَالْخَوْفِ، لاَ عَلَى الإِْسْلاَمِ وَالْكُفْرِ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الأَْمْنِ وَالْخَوْفِ أَوْلَى (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (دَارُ الْحَرْبِ) .
دُخُول الْحَرْبِيِّ دَارَ الإِْسْلاَمِ:
7 - لَيْسَ لِلْحَرْبِيِّ دُخُول دَارِ الإِْسْلاَمِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، فَإِنِ اسْتَأْذَنَ فِي دُخُولِهَا فَإِنْ كَانَ فِي دُخُولِهِ مَصْلَحَةٌ، كَإِبْلاَغِ رِسَالَةٍ، أَوْ سَمَاعِ كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ حَمْل مِيرَةٍ أَوْ مَتَاعٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِمَا الْمُسْلِمُونَ، جَازَ الإِْذْنُ لَهُ بِدُخُول دَارِ الإِْسْلاَمِ إِلاَّ الْحَرَمَ، وَلاَ يُقِيمُ فِي الْحِجَازِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، لأَِنَّ مَا زَادَ عَلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ فِي حُكْمِ الإِْقَامَةِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَفِي غَيْرِ الْحِجَازِ يُقِيمُ قَدْرَ الْحَاجَةِ. أَمَّا الْحَرَمُ فَلاَ يَجُوزُ دُخُول كَافِرٍ فِيهِ وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا بِحَالٍ مِنَ الأَْحْوَال عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (2) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) الأم للشافعي 4 / 177، ونهاية المحتاج 8 / 91، وحاشية الدسوقي 2 / 184، وكشاف القناع 3 / 118 - 134، وروضة الطالبين 10 / 309، وأسنى المطالب 4 / 214 وحاشية ابن عابدين 3 / 275، وبدائع الصنائع 7 / 114.(20/203)
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (1) . وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ: (أَرْضُ الْعَرَبِ، حَرَمٌ) .
مَال الْمُسْتَأْمَنِ وَأَهْلُهُ:
8 - إِذَا دَخَل الْحَرْبِيُّ دَارَ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ مِنَ الإِْمَامِ كَانَ مَا مَعَهُ مِنْ مَالٍ، وَزَوْجَةٍ، وَأَوْلاَدٍ صِغَارٍ فِي أَمَانٍ، أَمَّا مَا خَلَّفَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلاَ يَدْخُل فِي الأَْمَانِ، إِلاَّ بِالشَّرْطِ فِي عَقْدِ الأَْمَانِ.
وَإِنْ نَقَضَ الْعَهْدَ وَالْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَقِيَ الأَْمَانُ لِمَا تَرَكَهُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَلَهُ أَنْ يَدْخُل فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ لِتَحْصِيل مَا تَرَكَهُ مِنْ دَيْنٍ وَوَدِيعَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ مَاتَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَتَرِكَتُهُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ لِوَرَثَتِهِ (2) .
وَإِنْ دَخَل لِتِجَارَةٍ جَازَ لِلإِْمَامِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ عُشْرَ مَا مَعَهُ مِنْ مَال التِّجَارَةِ، وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ (3) .
__________
(1) سورة التوبة / 28.
(2) روضة الطالبين 10 / 289، ونهاية المحتاج 8 / 80، 89، وأسنى المطالب 4 / 206، ومواهب الجليل 3 / 362، وابن عابدين 3 / 249، وكشاف القناع 3 / 108.
(3) روضة الطالبين 10 / 319، ونهاية المحتاج 8 / 91، وكشاف القناع 3 / 137.(20/203)
اسْتِيطَانُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ دَارَ الإِْسْلاَمِ:
9 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ دَارَ الإِْسْلاَمِ إِلَى قِسْمَيْنِ: جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهَا: فَجَزِيرَةُ الْعَرَبِ لاَ يُمَكَّنُ غَيْرُ الْمُسْلِمِ مِنَ الاِسْتِيطَانِ فِيهَا، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ: لاَ يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ (2) .
وَخَبَرِ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ (3) .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ.
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الْمُرَادُ بِالْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْحِجَازُ، فَتَجُوزُ إِقَامَتُهُمْ فِي غَيْرِ الْحِجَازِ مِنَ الْجَزِيرَةِ، لأَِنَّ أَحَدًا مِنَ الْخُلَفَاءِ لَمْ يُخْرِجِ الْكُفَّارَ مِنَ الْيَمَنِ، وَتَيْمَاءَ، وَنَجْرَانَ. وَقَال غَيْرُهُمْ: الْمُرَادُ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ كُلُّهَا مِنْ عَدَنِ أَبْيَنَ إِلَى رِيفِ الْعِرَاقِ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (أَرْضُ الْعَرَبِ) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 114، ومواهب الجليل 3 / 381.
(2) حديث: " لا يترك بجزيرة العرب دينان " أخرجه أحمد (6 / 275 - ط الميمنية) من حديث عائشة، وقال الهيثمي في المجمع (5 / 325 - ط القدسي) : " رواه أحمد بإسنادين، ورجال طريقين منها ثقات متصل إسنادهما ".
(3) حديث: " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 271 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1258 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.
(4) نهاية المحتاج 8 90، وأسنى المطالب 4 / 114، وروضة الطالبين 10 / 309، وكشاف القناع 3 / 136.(20/204)
إِحْدَاثُ دُورِ عِبَادَةٍ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ:
10 - لاَ يَجُوزُ إِحْدَاثُ كَنِيسَةٍ، أَوْ صَوْمَعَةٍ، أَوْ بَيْتِ نَارٍ لِلْمَجُوسِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، بِتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ: إِلَى مُصْطَلَحِ: (مَعَابِدُ) .
اللَّقِيطُ وَأَثَرُ الدَّارِ فِي دِينِهِ:
11 - إِذَا وُجِدَ طِفْلٌ مَنْبُوذٌ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ حُكِمَ بِإِسْلاَمِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ مُسْلِمِينَ (انْظُرْ: لَقِيطٌ) .
إِحْيَاءُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ مَوَاتَ دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَحَفْرُ مَعَادِنِهِ
12 - لَيْسَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ إِحْيَاءُ مَوَاتٍ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ لاَ يَمْلِكُهُ بِالإِْحْيَاءِ، وَلاَ حَفْرُ مَعَادِنِهَا، وَلاَ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ. وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ، وَزَكَاةُ الْمَعَادِنِ) .(20/204)
دَارُ الْبَغْيِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّارُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْعَرْصَةِ وَالْبِنَاءِ وَالْمَحَلَّةِ، وَكُل مَوْضِعٍ حَل بِهِ قَوْمٌ فَهُوَ دَارُهُمْ.
وَالْبَغْيُ لُغَةً: مَصْدَرُ بَغَى يَبْغِي بَغْيًا إِذَا ظَلَمَ وَتَعَدَّى، وَيُقَال: بَغَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا طَلَبْتَهُ.
وَأَصْل الْبَغْيِ الظُّلْمُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَبَغَى الْجُرْحُ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي فَسَادِهِ. وَبَغَتِ الْمَرْأَةُ بَغْيًا، وَبَاغَتَ مُبَاغَاةً، وَتَبْغِي بِغَاءً فَهِيَ بَغِيٌّ، إِذَا فَجَرَتْ، وَذَلِكَ لِتَجَاوُزِهَا إِلَى مَا لَيْسَ لَهَا.
وَبَغَتِ السَّمَاءُ تَجَاوَزَتْ فِي الْمَطَرِ الْحَدَّ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ. وَبَغَى تَكَبَّرَ وَاسْتَطَال وَعَدَل عَنِ الْحَقِّ وَقَصَدَ الْفَسَادَ (1) .
وَالْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ هِيَ الظَّالِمَةُ الْخَارِجَةُ عَنْ طَاعَةِ الإِْمَامِ الْعَادِل، وَمِنْهُ قَوْل الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارِ بْنِ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة " دار "، ولسان العرب مادة " بغي "، ومغني المحتاج 4 / 123، وحاشية ابن عابدين 3 / 308.(20/205)
يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ (1) .
وَهَذَا هُوَ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ، فَالْبَاغِي هُوَ الْمُخَالِفُ لإِِمَامِ الْعَدْل الْخَارِجُ عَنْ طَاعَتِهِ بِامْتِنَاعِهِ مِنْ أَدَاءِ وَاجِبٍ عَلَيْهِ كَزَكَاةٍ وَخَرَاجِ أَرْضٍ وَغَيْرِهِمَا (2) .
2 - وَدَارُ الْبَغْيِ فِي الاِصْطِلاَحِ: جُزْءٌ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ تَفَرَّدَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَرَجُوا عَلَى طَاعَةِ الإِْمَامِ الْحَقِّ بِحُجَّةٍ تَأَوَّلُوهَا مُبَرِّرَةٍ لِخُرُوجِهِمْ، وَامْتَنَعُوا وَتَحَصَّنُوا بِتِلْكَ الأَْرْضِ الَّتِي أَصْبَحَتْ فِي حَوْزَتِهِمْ، وَأَقَامُوا عَلَيْهِمْ حَاكِمًا مِنْهُمْ، وَصَارَ لَهُمْ جَيْشٌ وَمَنَعَةٌ (3) .
أَحْكَامُ دَارِ الْبَغْيِ:
3 - إِذَا اسْتَوْلَى الْبُغَاةُ عَلَى بَلَدٍ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَنَصَّبُوا لَهُمْ إِمَامًا، وَأَحْدَثَ إِمَامُهُمْ تَصَرُّفَاتٍ بِاعْتِبَارِهِ حَاكِمًا كَالْجِبَايَةِ، مِنْ جَمْعِ الزَّكَاةِ، وَالْعُشُورِ، وَالْجِزْيَةِ، وَالْخَرَاجِ، وَاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ، وَالتَّعَازِيرِ، وَإِقَامَةِ الْقُضَاةِ، فَفِي نَفَاذِ هَذِهِ
__________
(1) حديث: " ويح عمار، تقتله الفئة الباغية " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 541 - ط السلفية) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) لسان العرب مادة: " بغا " حاشية ابن عابدين 3 / 308، جواهر الإكليل 2 / 277، مغني المحتاج 4 / 123، روضة الطالبين 10 / 50.
(3) فتح القدير 4 / 408، وما بعدها، البدائع 7 / 140، والدر المختار والحاشية 3 / 338، والمغني 8 / 107.(20/205)
التَّصَرُّفَاتِ وَتَرَتُّبِ آثَارِهَا عَلَيْهَا فِي حَقِّ أَهْل الْعَدْل تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بُغَاةٌ) (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 140 - 141، حاشية ابن عابدين 3 / 308، وجواهر الإكليل 2 / 277، روضة الطالبين 10 / 50، مغني المحتاج 4 / 123.(20/206)
دَارُ الْحَرْبِ
التَّعْرِيفُ:
1 - دَارُ الْحَرْبِ: هِيَ كُل بُقْعَةٍ تَكُونُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِيهَا ظَاهِرَةً (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَارِ الْحَرْبِ:
الْهِجْرَةُ:
2 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ النَّاسَ فِي شَأْنِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ:
أ - مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ، وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَلاَ يُمْكِنُهُ إِظْهَارُ دِينِهِ مَعَ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى لاَ تَجِدُ مَحْرَمًا، إِنْ كَانَتْ تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا فِي الطَّرِيقِ، أَوْ كَانَ خَوْفُ الطَّرِيقِ أَقَل مِنْ خَوْفِ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ (2) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 30 - 31، كشاف القناع 3 / 43، الإنصاف 4 / 121، المدونة 2 / 22.
(2) نهاية المحتاج 8 / 82، كشاف القناع 3 / 43، أسنى المطالب 4 / 204، المغني 8 / 456، عمدة القاري 1 / 35، الإنصاف 4 / 121، فتح العلي المالك 1 / 313 مطبعة مصطفى محمد.(20/206)
أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) .
وَفِي الآْيَةِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ.
وَلِحَدِيثِ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُل مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ لاَ تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا (2) وَحَدِيثِ: لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا دَامَ الْعَدُوُّ يُقَاتِل (3) أَمَّا حَدِيثُ: لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ (4) فَمَعْنَاهُ لاَ هِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ فَتْحِهَا، لِصَيْرُورَةِ مَكَّةَ دَارَ إِسْلاَمٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ب - مَنْ لاَ هِجْرَةَ عَلَيْهِ: وَهُوَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْهَا، إِمَّا لِمَرَضٍ، أَوْ إِكْرَاهٍ عَلَى الإِْقَامَةِ فِي دَارِ الْكُفْرِ، أَوْ ضَعْفٍ كَالنِّسَاءِ، وَالْوِلْدَانِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ
__________
(1) سورة النساء / 97.
(2) حديث: " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تتراءى ناراهما " أخرجه الترمذي (4 / 155 - ط الحلبي) من حديث جرير بن عبد الله، وإسناده صحيح.
(3) حديث: " لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل ". أخرجه أحمد (1 / 192 - ط الميمنية) من حديث عبد الله بن السعدي، وقال الهيثمي في المجمع (5 / 251 - ط السعادة) : " رجاله ثقات ".
(4) حديث: " لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 3 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1487 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.(20/207)
لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} (1) .
ج - مَنْ تُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ، وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ: مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْجِهَادِ، وَتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ (2) .
د - وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ قِسْمًا رَابِعًا: وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَيَقْدِرُ عَلَى الاِعْتِزَال فِي مَكَانٍ خَاصٍّ، وَالاِمْتِنَاعِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَهَذَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ، لأَِنَّ مَكَانَ اعْتِزَالِهِ صَارَ دَارَ إِسْلاَمٍ بِامْتِنَاعِهِ، فَيَعُودُ بِهِجْرَتِهِ إِلَى حَوْزَةِ الْكُفَّارِ، وَهُوَ أَمْرٌ لاَ يَجُوزُ، لأَِنَّ كُل مَحَلٍّ قَدَرَ أَهْلُهُ عَلَى الاِمْتِنَاعِ مِنَ الْكُفَّارِ صَارَ دَارَ إِسْلاَمٍ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لِخَبَرِ: لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ (4) .
أَمَّا حَدِيثُ: ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّل مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ (5) . فَمَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ: لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ.
التَّزَوُّجُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّزَوُّجِ فِي دَارِ
__________
(1) سورة النساء / 98.
(2) المصادر الفقهية السابقة.
(3) روضة الطالبين 10 / 282، نهاية المحتاج 8 / 82.
(4) المبسوط م 5 ج 10 / 6، والحديث تقدم تخريجه.
(5) حديث: " ادعهم إلى التحول من دارهم. . . " أخرجه مسلم (3 / 1357 - ط الحلبي) من حديث بريدة بن الحصيب.(20/207)
الْحَرْبِ لِمَنْ دَخَل فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَمَانٍ، لِتِجَارَةٍ، أَوْ لِغَيْرِهَا، وَلَوْ بِمُسْلِمَةٍ، وَتَشْتَدُّ الْكَرَاهَةُ إِذَا كَانَتْ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْكَرَاهَةُ تَحْرِيمِيَّةٌ فِي الْحَرْبِيَّةِ لاِفْتِتَاحِ بَابِ الْفِتْنَةِ، وَتَنْزِيهِيَّةٌ فِي غَيْرِهَا، لأَِنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا لِلذُّرِّيَّةِ لِفَسَادٍ عَظِيمٍ، إِذْ أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا نَشَأَ فِي دَارِهِمْ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَنْشَأَ عَلَى دِينِهِمْ، وَإِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ مِنْهُمْ فَقَدْ تَغْلِبُ عَلَى وَلَدِهَا فَيَتْبَعُهَا عَلَى دِينِهَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلاَ يَحِل لَهُ التَّزَوُّجُ مَا دَامَ أَسِيرًا، لأَِنَّهُ إِذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ كَانَ لَهُمْ رَقِيقًا (2)
الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ الرِّبَا حَرَامٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَحُرْمَتِهِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَمَا كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، سَوَاءٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْل الْحَرْبِ، أَوْ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ لَمْ يُهَاجِرَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّ النُّصُوصَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا عَامَّةٌ، وَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ، وَلاَ بَيْنَ مُسْلِمٍ
__________
(1) المغني 8 / 455، أسنى المطالب / 161، الخرشي 3 / 226، المبسوط م 5 ج 10 / 96، ورد المحتار 2 / 289.
(2) المغني 8 / 455.(20/208)
وَغَيْرِهِ (1) . (رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: رِبًا) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لاَ يَحْرُمُ الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَأَهْل الْحَرْبِ، وَلاَ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ لَمْ يُهَاجِرَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ (2) . لِحَدِيثِ: لاَ رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ (3) وَلأَِنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ فِي دَارِهِمْ، فَبِأَيِّ طَرِيقٍ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُ أَخَذَ مَالاً مُبَاحًا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَدْرٌ، وَلأَِنَّ مَال أَهْل الْحَرْبِ مُبَاحٌ بِغَيْرِ عَقْدٍ، فَبِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ أَوْلَى.
وَلأَِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَاطَرَ قُرَيْشًا قَبْل الْهِجْرَةِ حِينَ أَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَْرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (4) وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: أَتَرَوْنَ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ؟ قَال: نَعَمْ. فَقَالُوا: هَل لَكَ أَنْ تُخَاطِرَنَا فِي ذَلِكَ؟ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اذْهَبْ إِلَيْهِمْ فَزِدْ فِي الْخَطَرِ وَزِدْ فِي الأَْجَل فَفَعَل، وَغَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسًا فَأَخَذَ
__________
(1) المجموع شرح المهذب 9 / 191، المغني 4 / 45، 8 / 458، المدونة 4 / 271.
(2) شرح فتح القدير 6 / 177.
(3) حديث: " لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب " قال الزيلعي في نصب الراية (4 / 44 - ط المجلس العلمي) : " غريب " يعني أنه لا أصل له. ثم ذكر أن الشافعي قال عن رواية مرفوعة ذكرها مكحول بلفظ: " لا ربا بين أهل الحرب " قال الشافعي: هذا ليس بثابت، ولا حجة
(4) سورة الروم / 1.(20/208)
أَبُو بَكْرٍ خَطَرَهُ، فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْقِمَارُ بِعَيْنِهِ (1) .
وَكَانَتْ مَكَّةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دَارَ حَرْبٍ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَخْذَ مَال الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَا لَمْ يَكُنْ غَدْرًا (2) .
إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ زَنَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ سَرَقَ، أَوْ قَذَفَ مُسْلِمًا، أَوْ شَرِبَ خَمْرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ.
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، لأَِنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ فَرْضٌ كَالصَّلاَةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ، وَلاَ تُسْقِطُ دَارُ الْحَرْبِ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
إِذَا قَتَل مُسْلِمٌ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ يَسْتَوْفِي مِنْهُ الْقِصَاصَ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ كَانُوا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
__________
(1) حديث أبي بكر في نزول سورة الروم. أورده الزمخشري في الكشاف (3 / 466 - 467 - ط دار الكتاب العربي) وقال ابن حجر في تخريجه: " قصة أبي بكر في المراهنة رواها الترمذي وغيره من حديث نيار بن مكرم الأسلمي وسياقها مخالف لسياق هذه القصة ".
(2) حاشية الطحطاوي 3 / 112، بدائع الصنائع 5 / 192.
(3) الخرشي 3 / 111، والأم 4 / 248.(20/209)
لاَ تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ (1) . وَقَوْلِهِ: مَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَصَابَ بِهَا حَدًّا ثُمَّ هَرَبَ فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَإِنَّهُ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ (2) وَلأَِنَّ الإِْمَامَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِعَدَمِ الْوِلاَيَةِ، وَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، لأَِنَّ الْفِعْل لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا أَصْلاً، وَكَذَلِكَ إِذَا قَتَل مُسْلِمًا فِيهَا لاَ يُؤْخَذُ بِالْقِصَاصِ وَإِنْ كَانَ الْقَتْل عَمْدًا لِتَعَذُّرِ الاِسْتِيفَاءِ، وَلأَِنَّ كَوْنَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْوُجُوبِ، وَالْقِصَاصُ لاَ يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَيَضْمَنُ الدِّيَةَ وَتَكُونُ فِي مَالِهِ لاَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، لأَِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْقَاتِل ابْتِدَاءً، ثُمَّ الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّل عَنْهُ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّنَاصُرِ، وَلاَ تَنَاصُرَ عِنْدَ اخْتِلاَفِ الدَّارِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: تَجِبُ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ، وَلَكِنَّهَا لاَ تُقَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَتُقَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) حديث: " لا تقام الحدود في دار الحرب ". قال الزيلعي في نصب الراية (3 / 343 - ط المجلس العلمي) : " غريب " يعني أنه لا أصله له. ثم ذكر أنه ورد من قول زيد بن ثابت: لا تقام الحدود في دار الحرب مخافة أن يلحق أهلها بالعدو.
(2) حديث: " من زنى أو سرق في دار الحرب. . . " لم نهتد إليه في المصادر الحديثية التي بين أيدينا.
(3) بدائع الصنائع 7 / 131، وابن عابدين 3 / 156، وفتح القدير 4 / 153، ونصب الراية 3 / 343.(20/209)
كَتَبَ إِلَى النَّاسِ لاَ يَجْلِدَنَّ أَمِيرُ جَيْشٍ وَلاَ سَرِيَّةٍ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَدًّا وَهُوَ غَازٍ حَتَّى يَقْطَعَ الدَّرْبَ قَافِلاً لِئَلاَّ يَلْحَقَهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ، فَيَلْحَقَ، بِالْكُفَّارِ (1) .
حَدُّ مَنْ أَصَابَ حَدًّا مِنْ أَفْرَادِ الْجَيْشِ:
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَصَابَ أَحَدُ أَفْرَادِ الْجَيْشِ حَدًّا، أَوْ قَتَل مُسْلِمًا خَطَأً أَوْ عَمْدًا فِي دَارِ الْحَرْبِ خَارِجَ الْمُعَسْكَرِ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوِ الْقِصَاصُ، أَمَّا إِذَا زَنَى أَحَدُهُمْ فِي مُعَسْكَرِ الْجَيْشِ لَمْ يَأْخُذْهُ أَمِيرُ الْجَيْشِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الإِْمَامُ لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِ إِقَامَةَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُضَمِّنُهُ الْمَسْرُوقَ وَالدِّيَةَ فِي الْقَتْل، لأَِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ ضَمَانِ الْمَال.
أَمَّا إِذَا غَزَا مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، سَوَاءٌ غَزَا الْخَلِيفَةُ بِنَفْسِهِ، أَوْ أَمِيرُ مِصْرٍ مِنَ الأَْمْصَارِ، فَفَعَل رَجُلٌ مِنَ الْجَيْشِ ذَلِكَ فِي مُعَسْكَرِهِ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَاقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْعَمْدِ، وَضَمَّنَهُ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ فِي مَالِهِ، لأَِنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ إِلَى الإِْمَامِ، وَبِمَا لَهُ مِنَ الشَّوْكَةِ، وَانْقِيَادِ الْجُيُوشِ لَهُ يَكُونُ لِعَسْكَرِهِ حُكْمُ دَارِ الإِْسْلاَمِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أَصَابَ الرَّجُل حَدًّا وَهُوَ مُحَاصِرٌ لِلْعَدُوِّ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَقَالُوا:
__________
(1) المغني 8 / 473 - 474.
(2) بدائع الصنائع 7 / 131 - 132، وابن عابدين 3 / 156، وفتح القدير 4 / 153.(20/210)
وَلاَ يَمْنَعُنَا الْخَوْفُ عَلَيْهِ مِنَ اللُّحُوقِ بِالْمُشْرِكِينَ أَنْ نُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ. وَلَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ تَوَقِّيًا مِنْ أَنْ يَغْضَبَ مَا أَقَمْنَا الْحَدَّ أَبَدًا، لأَِنَّهُ يُمْكِنُهُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَيُعَطَّل حُكْمُ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقَامَ الْحُدُودَ بِالْمَدِينَةِ وَالشِّرْكُ قَرِيبٌ مِنْهَا، وَفِيهَا مُشْرِكُونَ مُوَادَعُونَ.
وَضَرَبَ الشَّارِبَ بِحُنَيْنٍ. وَالشِّرْكُ قَرِيبٌ مِنْهَا (1) .
حُصُول الْفُرْقَةِ بِاخْتِلاَفِ الدَّارِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:
7 - اخْتِلاَفُ الْفُقَهَاءِ فِي انْقِطَاعِ عِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ بِاخْتِلاَفِ الدَّارَيْنِ.
فَقَال الْجُمْهُورُ: لاَ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلاَفِ الدَّارِ، فَإِنْ أَسْلَمَ زَوْجُ كِتَابِيَّةٍ، وَهَاجَرَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَبَقِيَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، لأَِنَّ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُ فَالاِسْتِمْرَارُ أَوْلَى، سَوَاءٌ كَانَ قَبْل الدُّخُول، أَوْ بَعْدَهُ. وَإِنْ أَسْلَمَتْ كِتَابِيَّةٌ تَحْتَ كِتَابِيٍّ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ غَيْرَ الْكِتَابِيِّينَ، قَبْل الدُّخُول حَصَلَتِ الْفُرْقَةُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (2) وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الدُّخُول، وَقَفَ الأَْمْرُ عَلَى انْتِهَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الآْخَرُ فِي الْعِدَّةِ بَقِيَ نِكَاحُهُمَا، وَإِلاَّ تَبَيَّنَّا فَسْخَهُ مُنْذُ أَسْلَمَ الأَْوَّل،
__________
(1) الأم للشافعي 4 / 248، الخرشي 3 / 117.
(2) سورة الممتحنة / 10.(20/210)
لأَِنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ اخْتِلاَفُ الدِّينِ لاَ اخْتِلاَفُ الدَّارِ (1) . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ قَال: كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْلِمُ الرَّجُل قَبْل الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ قَبْلَهُ، فَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ قَبْل انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَلاَ نِكَاحَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الأَْثَرِ دَارَ حَرْبٍ، وَلاَ دَارَ إِسْلاَمٍ، فَسَبَبُ الْفُرْقَةِ إِذًا اخْتِلاَفُ الدِّينِ.
فَكَوْنُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لاَ يُوجِبُ فُرْقَةً (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَحْصُل بِاخْتِلاَفِ الدَّارَيْنِ، فَإِنْ خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَتَرَكَ الآْخَرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا، لأَِنَّهُ بِاخْتِلاَفِ الدَّارَيْنِ يَخْرُجُ الْمِلْكُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ، لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ عَادَةً، فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَائِهِ فَائِدَةٌ (3) .
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اخْتِلاَفُ الدَّارِ) .
قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
__________
(1) كشاف القناع 5 / 118 - 119، القوانين الفقهية ص 201، أسنى المطالب 3 / 163، شرح الزرقاني 3 / 225.
(2) المصادر السابقة.
(3) بدائع الصنائع 2 / 338 - 339، رد المحتار 2 / 537.(20/211)
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ قِسْمَتُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَتَبَايُعُهَا فِيهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ قَال: قُلْتُ لِلأَْوْزَاعِيِّ: هَل قَسَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنَ الْغَنَائِمِ بِالْمَدِينَةِ؟ فَقَال: لاَ أَعْلَمُهُ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يَتَّبِعُونَ غَنَائِمَهُمْ، وَيَقْسِمُونَهَا فِي أَرْضِ عَدُوِّهِمْ، وَلَمْ يَغْفُل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غَزَاةٍ قَطُّ أَصَابَ فِيهَا غُنَيْمَةً إِلاَّ خَمَّسَهَا وَقَسَّمَهَا مِنْ قَبْل أَنْ يَغْفُل، مِنْ ذَلِكَ غُزَاةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَهَوَازِنَ، وَخَيْبَرَ، وَلأَِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهَا بِالْقَهْرِ وَالاِسْتِيلاَءِ فَصَحَّتْ قِسْمَتُهُ، وَلأَِنَّ قِسْمَةَ أَمْوَالِهِمْ فِي دَارِهِمْ أَنْكَى لَهُمْ، وَأَطْيَبُ لِقُلُوبِ الْمُجَاهِدِينَ، وَأَحْفَظُ لِلْغَنِيمَةِ، وَأَرْفَقُ بِهِمْ فِي التَّصَرُّفِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْقِسْمَةُ نَوْعَانِ:
1 - قِسْمَةُ حَمْلٍ وَنَقْلٍ.
2 - وَقِسْمَةُ مِلْكٍ.
أَمَّا قِسْمَةُ الْحَمْل، فَهِيَ إِنْ عَزَّتِ الدَّوَابُّ، وَلَمْ يَجِدِ الإِْمَامُ حَمُولَةً يُفَرِّقُ الْغَنَائِمَ عَلَى الْغُزَاةِ فَيَحْمِل كُل رَجُلٍ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا مِنْهُمْ، فَيَقْسِمُهَا قِسْمَةَ مِلْكٍ.
أَمَّا قِسْمَةُ الْمِلْكِ فَلاَ تَجُوزُ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى
__________
(1) المغني 8 / 422، كشاف القناع 3 / 82، الإنصاف 4 / 162، الخرشي 3 / 136، نهاية المحتاج 8 / 76، مغني المحتاج 4 / 234.(20/211)
يُخْرِجُوهَا إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَيُحْرِزُوهَا، وَقَالُوا: إِنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الأَْخْذِ، وَيَتَأَكَّدُ بِالإِْحْرَازِ، وَيَتَمَكَّنُ بِالْقِسْمَةِ كَحَقِّ الشَّفِيعِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ، وَيَتَأَكَّدُ بِالطَّلَبِ، وَيَتِمُّ الْمِلْكُ بِالأَْخْذِ، وَمَا دَامَ الْحَقُّ ضَعِيفًا لاَ تَجُوزُ الْقِسْمَةُ لأَِنَّهُ دُونَ الْمِلْكِ الضَّعِيفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ، وَلأَِنَّ السَّبَبَ هُوَ الْقَهْرُ، وَقَبْل الإِْحْرَازِ هُمْ قَاهِرُونَ يَدًا مَقْهُورُونَ دَارًا، وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ يَكُونُ ضَعِيفًا (1) .
9 - وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْجُمْهُورِ أَحْكَامٌ.
مِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لاَ يُورَثُ مِنَ الْغَنِيمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُورَثُ.
وَمِنْهَا: إِذَا لَحِقَ الْجَيْشَ أَحَدٌ بَعْدَ الْحِيَازَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لاَ يُشَارِكُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُشَارِكُهُمْ إِذَا لَحِقَ قَبْل الْحِيَازَةِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ.
وَإِذَا أَتْلَفَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَضْمَنُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلاَ يَضْمَنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 121، المبسوط م 5 ج 10 / 33.
(2) نهاية المحتاج 8 / 74، بدائع الصنائع 7 / 121، والمغني 8 / 419 - 420، مغني المحتاج 4 / 232 - 234.(20/212)
اسْتِيلاَءُ الْكُفَّارِ عَلَى أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ، وَأَثَرُ الدَّارِ فِي ذَلِكَ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَمَلُّكِ أَهْل الْحَرْبِ أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ بِالاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمْ لاَ يَمْلِكُونَهَا وَإِنْ أَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ، لأَِنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ طَرَأَتْ عَلَيْهِ يَدٌ عَادِيَةٌ، فَلَمْ يَمْلِكْ بِهَا كَالْغَصْبِ.
وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ لاَ يَمْلِكُ مَال الْمُسْلِمِ بِالاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهِ بِغَصْبٍ، فَالْمُشْرِكُ أَوْلَى أَلاَّ يَمْلِكَ (1) .
وَخَبَرُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الأَْنْصَارِيَّةِ الَّتِي أُسِرَتْ، ثُمَّ امْتَطَتْ نَاقَةَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَعْجَزَتْ مَنْ طَلَبَهَا، فَنَذَرَتِ الأَْنْصَارِيَّةُ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ رَآهَا النَّاسُ، فَقَالُوا: الْعَضْبَاءُ، نَاقَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ: إِنَّهَا نَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَأَتَوْا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَال: سُبْحَانَ اللَّهِ، بِئْسَمَا جَزَتْهَا، نَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ. (2)
وَلَوْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَمْلِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
__________
(1) الأم للشافعي 4 / 255.
(2) حديث عمران بن حصين: " في الأنصارية التي أسرت. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1263 - ط الحلبي) .(20/212)
أَمْوَالَهُمْ لَمَلَكَتِ الأَْنْصَارِيَّةُ النَّاقَةَ. لأَِنَّهَا تَكُونُ أَخَذَتْ مَالاً غَيْرَ مَعْصُومٍ فِي دَارِ حَرْبٍ وَأَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ، وَلَكِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّهَا نَذَرَتْ فِيمَا لاَ تَمْلِكُ وَأَخَذَ نَاقَتَهُ، وَبِهِ قَال أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، قَال: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ أَهْل دَارِ الْحَرْبِ إِذَا دَخَلُوا دَارَ الإِْسْلاَمِ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِهِمْ لاَ يَمْلِكُونَهَا، أَمَّا إِذَا أَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا. وَقَالُوا: لأَِنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ يَزُول بِالإِْحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَتَزُول الْعِصْمَةُ، فَكَأَنَّهُمُ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، لأَِنَّ الْمِلْكَ هُوَ: الاِخْتِصَاصُ بِالْمَحَل فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ، أَوْ شُرِعَ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَل، وَقَدْ زَال بِالإِْحْرَازِ بِالدَّارِ. فَإِذَا زَال مَعْنَى الْمِلْكِ أَوْ مَا شُرِعَ لَهُ الْمِلْكُ، يَزُول الْمِلْكُ ضَرُورَةً (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ: يَمْلِكُونَهَا بِالاِسْتِيلاَءِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ. وَقَالُوا: لأَِنَّ الْقَهْرَ سَبَبٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمُسْلِمُ مَال الْكَافِرِ، فَمَلَكَ بِهِ الْكَافِرُ مَال الْمُسْلِمِ كَالْبَيْعِ، وَلأَِنَّ الاِسْتِيلاَءَ سَبَبُ الْمِلْكِ فَيَثْبُتُ قَبْل الْحِيَازَةِ إِلَى الدَّارِ، كَاسْتِيلاَءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَال الْكُفَّارِ، وَلأَِنَّ مَا كَانَ سَبَبًا
__________
(1) المصدر السابق، المغني 8 / 434.
(2) بدائع الصنائع 7 / 227 - 228، المبسوط م 5 ج 10 / 52.(20/213)
لِلْمِلْكِ أَثْبَتَ الْمِلْكَ حَيْثُ وُجِدَ، كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ (1) .
وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ، اخْتِلاَفُهُمْ فِي حُكْمِ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ أَهْل دَارِ الْحَرْبِ مِنْ أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ الْمُسْلِمُونَ، فَمَنْ رَأَى أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ أَمْوَال الْمُسْلِمِينَ: يَرَى أَنَّهُ إِذَا وَجَدَهُ مَالِكُهُ الْمُسْلِمُ أَوِ الذِّمِّيُّ قَبْل الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِدُونِ رَدِّ قِيمَتِهِ، أَمَّا إِذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ لاَ يَمْلِكُونَهُ: يَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا وَجَدَ مَالَهُ فِي الْغَنِيمَةِ أَخَذَهُ قَبْل الْقِسْمَةِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِلاَ رَدِّ شَيْءٍ (2) .
قَضَاءُ الْقَاضِي الْمُسْلِمِ فِي مُنَازَعَاتٍ حَدَثَتْ أَسْبَابُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ:
11 - إِذَا دَخَل مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، وَأَخَذَ مَالاً مِنْ حَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُضَارَبَةً، أَوْ وَدِيعَةً، أَوْ بِشِرَاءٍ أَوْ بِبَيْعٍ فِي الذِّمَّةِ أَوْ قَرْضٍ، فَالثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ، عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَإِذَا خَرَجَ الْحَرْبِيُّ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ مُسْتَأْمَنًا قَضَى الْقَاضِي عَلَى الْمُسْلِمِ بِمَالِهِ كَمَا يَقْضِي بِهِ لِلْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، لأَِنَّ الْحُكْمَ جَارٍ عَلَى الْمُسْلِمِ حَيْثُ كَانَ، لاَ نُزِيل
__________
(1) المغني 8 / 434، الإنصاف 4 / 162، المدونة 2 / 12، الخرشي 3 / 138.
(2) المصادر السابقة، الأم للشافعي 4 / 283.(20/213)
الْحَقَّ عَنْهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ. كَمَا لاَ تَزُول الصَّلاَةُ عَنْهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ إِنِ اقْتَرَضَ حَرْبِيٌّ مِنْ حَرْبِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ مَالاً ثُمَّ دَخَل إِلَيْنَا فَأَسْلَمَ، فَعَلَيْهِ الْبَدَل وَيُقْضَى عَلَيْهِ لاِلْتِزَامِهِ بِعَقْدٍ (1) .
أَمَّا إِنْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالَهُ أَوْ غَصَبَهُ مِنْهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَقَدِمَا إِلَيْنَا بِإِسْلاَمٍ، أَوْ أَمَانٍ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا، وَالإِْتْلاَفُ لَيْسَ عَقْدًا يُسْتَدَامُ، وَلأَِنَّ مَال الْحَرْبِيِّ لاَ يَزِيدُ عَلَى مَال الْمُسْلِمِ، وَهُوَ لاَ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْحَرْبِيِّ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَضْمَنَ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ لِلْقَاضِي الْمُسْلِمِ الْقَضَاءُ مِنْ حَرْبِيَّيْنِ إِذَا خَرَجَا إِلَيْنَا مُسْتَأْمَنَيْنِ، لأَِنَّ الْمُدَايَنَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتْ هَدَرًا لاِنْعِدَامِ وِلاَيَتِنَا عَلَيْهِمْ. أَمَّا لَوْ خَرَجَا إِلَيْنَا مُسْلِمَيْنِ فَإِنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا لِثُبُوتِ الْوِلاَيَةِ، أَمَّا فِي الْغَصْبِ وَالإِْتْلاَفِ فَلاَ يَقْضِي، وَإِنْ خَرَجَا إِلَيْنَا مُسْلِمَيْنِ (3) .
عِصْمَةُ الأَْنْفُسِ وَالأَْمْوَال فِي دَارِ الْحَرْبِ:
12 - الأَْصْل أَنَّ أَمْوَال أَهْل الْحَرْبِ وَدِمَاءَهُمْ
__________
(1) الأم للشافعي 4 / 288، كشاف القناع 3 / 109، مغني المحتاج 4 / 230.
(2) مغني المحتاج 4 / 230، والمغني 8 / 483 ط الرياض.
(3) بدائع الصنائع 7 / 132 - 133.(20/214)
مُبَاحَةٌ لاَ عِصْمَةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلِلْمُسْلِمِينَ الاِسْتِيلاَءُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِشَتَّى الطُّرُقِ، لأَِنَّهُمْ يَسْتَبِيحُونَ دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنْ ذَكَرُوا حَالاَتٍ تُثْبِتُ لأَِنْفُسِهِمْ وَلأَِمْوَالِهِمُ الْعِصْمَةَ وَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، مِنْهَا:
13 - أ - إِذَا دَخَل الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ أَوْ بِأَسْرٍ، وَائْتَمَنُوهُ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ لَمْ يَحِل لَهُ خِيَانَتُهُمْ فِي شَيْءٍ، لأَِنَّهُمْ أَعْطَوْهُ الأَْمَانَ مَشْرُوطًا بِتَرْكِهِ خِيَانَتَهُمْ، وَأَمْنِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي اللَّفْظِ، فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى، فَلَمْ يَحِل لَهُ خِيَانَتُهُمْ، لأَِنَّهُ غَدْرٌ، وَلاَ يَصْلُحُ الْغَدْرُ فِي الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ سَرَقَ مِنْهُمْ شَيْئًا أَوْ غَصَبَ، وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى أَرْبَابِهِ، فَإِنْ جَاءَ أَرْبَابُهُ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، وَإِلاَّ بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِمْ، لأَِنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ فَلَزِمَهُ رَدُّهُ، كَمَا لَوْ أَخَذَ مَال مُسْلِمٍ (1) .
وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ حُقِنَ دَمُهُ، وَأَحْرَزَ مَالَهُ وَأَوْلاَدَهُ الصِّغَارَ مِنَ السَّبْيِ، فَإِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا اقْتُصَّ مِنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ فِي عِصْمَةِ دَمِ الْمُسْلِمِ وَمَالِهِ
__________
(1) البدائع 7 / 133، والخرشي 2 / 116، والأم للشافعي 4 / 248 - 249، ومغني المحتاج 4 / 239، والمغني لابن قدامة 8 / 458.(20/214)
أَيْنَمَا كَانَ وَحَيْثُ وُجِدَ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ خَطَأً فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إِلاَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْخَطَأِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (2) وَلَمْ يَذْكُرِ الدِّيَةَ. وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (قَتْل عَمْدٍ) .
أَمَّا أَوْلاَدُهُ الصِّغَارُ فَأَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ تَبَعًا لَهُ أَمَّا مَالُهُ فَمَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ مَنْقُولٍ فَهُوَ لَهُ.
وَكَذَلِكَ مَا كَانَ بِيَدِ مُسْلِمٍ وَدِيعَةً، أَوْ بِيَدِ ذِمِّيٍّ فَهُوَ لَهُ، لأَِنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمَالِكِ فَكَانَ مَعْصُومًا.
أَمَّا الْعَقَارُ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ غَنِيمَةٌ، لأَِنَّهَا بُقْعَةٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَجَازَ اغْتِنَامُهَا (3) .
14 - ب - وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، أَوْ خَرَجَ إِلَيْهَا، وَلَهُ أَوْلاَدٌ صِغَارٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ صَارُوا مُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَجُزْ سَبْيُهُمْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. وَقَالُوا: إِنَّهُمْ أَوْلاَدُ مُسْلِمٍ، فَيَجِبُ أَنْ يَتْبَعُوهُ فِي الإِْسْلاَمِ كَمَا لَوْ كَانُوا
__________
(1) المغني 8 / 94، 428، كشاف القناع 3 / 58، ومغني المحتاج 4 / 226، الأم للشافعي 4 / 245، الخرشي 3 / 142.
(2) سورة النساء: الآية 92.
(3) بدائع الصنائع 7 / 105، رد المحتار 3 / 233.(20/215)
مَعَهُ فِي الدَّارِ، وَلأَِنَّ مَالَهُ مَال مُسْلِمٍ فَلاَ يَجُوزُ اغْتِنَامُهُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهَاجَرَ إِلَيْنَا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ، فَأَمْوَالُهُ فَيْءٌ، إِلاَّ مَا كَانَ فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَدِيعَةً.
وَإِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَجَمِيعُ أَمْوَالِهِ وَأَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ فَيْءٌ، لأَِنَّ اخْتِلاَفَ الدَّارِ يَمْنَعُ التَّبَعِيَّةَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا دَخَل الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ فَأَصَابَ مَالاً، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْنَا (3) .
التِّجَارَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
15 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلتَّاجِرِ أَنْ يَحْمِل إِلَى دَارِ الْحَرْبِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ أَهْل الْحَرْبِ عَلَى الْحَرْبِ، كَالسِّلاَحِ بِأَنْوَاعِهِ، وَالسُّرُوجِ، وَالنُّحَاسِ، وَالْحَدِيدِ، وَكُل مَا مِنْ شَأْنِهِ تَقْوِيَتِهِمْ فِي الْحَرْبِ، لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِمْدَادَهُمْ وَإِعَانَتَهُمْ عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِلْحَرْبِيِّ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) المدونة 2 / 19، بدائع الصنائع 7 / 105 - 106.
(3) بدائع الصنائع 7 / 105 - 106.(20/215)
إِذَا دَخَل دَارَ الإِْسْلاَمِ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلاَحًا، وَإِذَا اشْتَرَى لاَ يُمَكَّنُ مِنْ إِدْخَالِهِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ (1) .
أَمَّا الاِتِّجَارُ بِغَيْرِ السِّلاَحِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لاَ يُسْتَخْدَمُ فِي الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ، كَالثِّيَابِ، وَالطَّعَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لاِنْعِدَامِ عِلَّةِ الْمَنْعِ مِنَ الْبَيْعِ. إِلاَّ أَنْ يَحْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلْعَةِ فَلاَ يُحْمَل إِلَيْهِمْ، وَجَرَتِ الْعَادَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ التُّجَّارِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ دَارَ الْحَرْبِ لِلتِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ الْمَنْعِ وَلاَ إِنْكَارَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ الأَْفْضَل أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ، لأَِنَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْكَفُّ وَالإِْمْسَاكُ عَنِ الدُّخُول فِي دَارِهِمْ مِنْ بَابِ صِيَانَةِ النَّفْسِ عَنِ الْهَوَانِ، وَالدِّينِ عَنِ الزَّوَال (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ الْمُتَاجَرَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَلاَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى بِلاَدِهِمْ حَيْثُ تَجْرِي أَحْكَامُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ (3) .
أَثَرُ اخْتِلاَفِ الدَّارِ فِي أَحْكَامِ الأُْسْرَةِ وَالتَّوَارُثِ:
16 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ
__________
(1) المدونة 4 / 270، ابن عابدين 3 / 226، قليوبي 2 / 156، الفتاوى الهندية 2 / 192، بدائع الصنائع 7 / 102، جواهر الإكليل 2 / 3.
(2) بدائع الصنائع 7 / 102.
(3) المدونة 4 / 270.(20/216)
الْمُسْلِمَ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالآْخَرُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَوَارُثِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الدَّارِ.
(ر: اخْتِلاَفُ الدَّارِ) .(20/216)
دَارُ الْعَهْدِ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْعَهْدِ فِي اللُّغَةِ: الأَْمَانُ، وَالذِّمَّةُ، وَالْيَمِينُ، وَالْحِفَاظُ، وَرِعَايَةُ الْحُرْمَةِ، وَكُل مَا بَيْنَ الْعِبَادِ مِنَ الْمَوَاثِيقِ فَهُوَ عَهْدٌ (1) .
وَدَارُ الْعَهْدِ هِيَ: كُل بَلَدٍ صَالَحَ الإِْمَامُ أَهْلَهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الأَْرْضُ لَهُمْ، وَلِلْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجُ عَنْهَا (2) .
وَتُسَمَّى دَارَ الْمُوَادَعَةِ، وَدَارَ الصُّلْحِ، وَدَارَ الْمُعَاهَدَةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - دَارُ الْحَرْبِ:
2 - دَارُ الْحَرْبِ هِيَ كُل بُقْعَةٍ تَكُونُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِيهَا ظَاهِرَةً.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هِيَ كُل مَكَانٍ يَسْكُنُهُ غَيْرُ
__________
(1) تاج العروس: مادة عهد.
(2) بدائع الصنائع 7 / 30 - 31، الأحكام السلطانية للماوردي ص 138، وكشاف القناع 3 / 43، 96، الإنصاف 4 / 121، والمدونة 2 / 22.(20/217)
الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَسْبِقْ فِيهِ حُكْمٌ إِسْلاَمِيٌّ، أَوْ لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ قَطُّ أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ (1) .
فَدَارُ الْعَهْدِ أَخَصُّ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لِوُجُودِ الْمَوَاثِيقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْلِهَا، فَلِذَا اخْتَصَّتْ عَنْ دَارِ الْحَرْبِ بِأَحْكَامٍ سَيَأْتِي بَيَانُهَا.
ب - دَارُ الإِْسْلاَمِ:
3 - دَارُ الإِْسْلاَمِ هِيَ كُل بَلَدٍ أَوْ إِقْلِيمٍ تَظْهَرُ فِيهِ أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ (2) .
ج - دَارُ الْبَغْيِ:
4 - دَارُ الْبَغْيِ هِيَ الْمَكَانُ الَّذِي يَنْحَازُ إِلَيْهِ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ الإِْمَامِ بِتَأْوِيلٍ، وَغَلَبُوا عَلَيْهِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَارِ الْعَهْدِ:
5 - يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ الإِْمَامُ مَعَ أَهْل الْحَرْبِ عَهْدًا لِلْمَصْلَحَةِ يَتْرُكُ بِمُوجَبِهِ الْقِتَال مُدَّةً بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَتَكُونُ تِلْكَ الدَّارُ دَارَ عَهْدٍ. وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (هُدْنَةٌ) .
وَقَسَّمَ الْفُقَهَاءُ عَقْدَ الصُّلْحِ مَعَ أَهْل الْحَرْبِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
__________
(1) المبسوط 10 / 86، والبدائع 7 / 108، ونهاية المحتاج 8 / 82، أسنى المطالب ص 204، حاشية البجيرمي 4 / 220.
(2) المصادر السابقة.(20/217)
أ - قِسْمٌ يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الأَْرَاضِي لَنَا، وَنُقِرُّهَا بِأَيْدِيهِمْ بِخَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ لَنَا. فَهَذَا الصُّلْحُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَيَكُونُ الْخَرَاجُ الَّذِي يُؤَدُّونَهُ أُجْرَةً لاَ يَسْقُطُ بِإِسْلاَمِهِمْ، وَيُؤْخَذُ خَرَاجُهَا إِذَا انْتَقَلَتْ إِلَى مُسْلِمٍ، وَهُمْ يَصِيرُونَ أَهْل عَهْدٍ. وَالدَّارُ دَارُ إِسْلاَمٍ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِيهَا بِالْبَيْعِ، أَوِ الرَّهْنِ، فَإِنْ دَفَعُوا الْجِزْيَةَ عَنْ رِقَابِهِمْ جَازَ إِقْرَارُهُمْ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَإِنْ مَنَعُوا الْجِزْيَةَ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهَا، وَلَمْ يُقَرُّوا فِيهَا إِلاَّ الْمُدَّةَ الَّتِي يُقَرُّ فِيهَا أَهْل الْهُدْنَةِ (1) .
ب - وَقِسْمٌ يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ مَعَهُمْ أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ لَهُمْ، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ عَقْدٌ صَحِيحٌ، وَالْخَرَاجُ الَّذِي يُؤَدُّونَهُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ مَتَى أَسْلَمُوا يَسْقُطُ عَنْهُمْ، وَلاَ تَصِيرُ الدَّارُ دَارَ إِسْلاَمٍ، وَتَكُونُ دَارَ عَهْدٍ وَلَهُمْ بَيْعُهَا، وَرَهْنُهَا، وَإِذَا انْتَقَلَتْ إِلَى مُسْلِمٍ لَمْ يُؤْخَذْ خَرَاجُهَا، وَيُقَرُّونَ فِيهَا مَا أَقَامُوا عَلَى الْعَهْدِ، وَلاَ تُؤْخَذُ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ، لأَِنَّهُمْ فِي غَيْرِ دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَلَهُمْ إِحْدَاثُ كَنِيسَةٍ فِيهَا، لأَِنَّ الأَْرْضَ لَهُمْ وَلَيْسَتْ دَارَ إِسْلاَمٍ فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا، وَلاَ يُمْنَعُونَ مِنْ إِظْهَارِ شَعَائِرِهِمْ فِيهَا كَالْخَمْرِ،
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 138، الأم للشافعي 4 / 182، المغني 8 / 526، كشاف القناع 3 / 95، الخرشي م 2 ج 3 / 147.(20/218)
وَالْخِنْزِيرِ، وَضَرْبِ النَّاقُوسِ، وَلاَ يُمْنَعُونَ إِلاَّ مِمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ كَإِيوَاءِ جَاسُوسٍ، وَنَقْل أَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الأَْعْدَاءِ، وَسَائِرِ مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ. وَيَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ مِنَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا عُقِدَ الْعَهْدُ مَعَ الْكُفَّارِ عَلَى أَنْ تُجْرَى فِي دَارِهِمْ أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ صَارَتْ دَارُهُمْ بِالصُّلْحِ دَارَ إِسْلاَمٍ، وَصَارُوا أَهْل ذِمَّةٍ تُؤْخَذُ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ، وَإِذَا طَلَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ الْمُوَادَعَةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ سِنِينَ مَعْلُومَةً عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا الْخَرَاجَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ لاَ تَجْرِيَ أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ عَلَيْهِمْ فِي دَارِهِمْ لَمْ يُقْبَل مِنْهُمْ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا رَأَى الإِْمَامُ مَصْلَحَةً فِي عَقْدِ الْعَهْدِ مَعَهُمْ بِهَذَا الشَّرْطِ جَازَ بِشَرْطِ الضَّرُورَةِ، وَهِيَ ضَرُورَةُ الاِسْتِعْدَادِ لِلْقِتَال بِأَنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةُ الْمُجَاوَزَةِ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ، فَلاَ تَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ، لأَِنَّ الْمُوَادَعَةَ تَرْكُ الْقِتَال الْمَفْرُوضِ، فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ فِي حَالٍ يَقَعُ وَسِيلَةً إِلَى الْقِتَال، لأَِنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ قِتَالاً مَعْنًى، قَال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَْعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} (2) وَعِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ لاَ بَأْسَ بِهِ، لِقَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا
__________
(1) المصادر السابقة، ومغني المحتاج 4 / 254.
(2) سورة محمد / 35.(20/218)
لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ} (1) وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَادَعَ أَهْل مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ تُوضَعَ الْحَرْبُ عَشْرَ سِنِينَ. (2)
وَلاَ يُشْتَرَطُ إِذْنُ الإِْمَامِ بِالْمُوَادَعَةِ، حَتَّى لَوْ وَادَعَهُمْ فَرِيقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الإِْمَامِ جَازَتْ مُوَادَعَتُهُمْ، لأَِنَّ الْمُعَوَّل عَلَيْهِ كَوْنُ عَقْدِ الْمُوَادَعَةِ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ (3) .
وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَخْرُجُونَ بِهَذِهِ الْمُوَادَعَةِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَهْل حَرْبٍ، فَإِذَا صَالَحَهُمْ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحَاطَ مَعَ الْجَيْشِ بِبِلاَدِهِمْ فَمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ عَلَى الصُّلْحِ يَكُونُ غَنِيمَةً يُخَمِّسُهَا، وَيَقْسِمُ الْبَاقِي عَلَى الْجَيْشِ، لأَِنَّهُ تَوَصَّل إِلَيْهِ بِقُوَّةِ السَّيْفِ، فَإِنْ لَمْ يَنْزِل بِسَاحَتِهِمْ، وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ وَطَلَبُوا مِنْهُ الْمُوَادَعَةَ بِالْمَال، فَمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ، لاَ خُمُسَ فِيهِ، بَل يُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْجِزْيَةِ.
الأَْمَانُ لأَِهْل دَارِ الْعَهْدِ:
6 - يَمْنَعُ الإِْمَامُ الْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ مِنْ إِيذَاءِ أَهْل دَارِ الْعَهْدِ وَالتَّعَرُّضِ لَهُمْ، لأَِنَّهُمْ اسْتَفَادُوا الأَْمَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ بِالْمُوَادَعَةِ، أَمَّا إِنْ
__________
(1) سورة الأنفال / 61.
(2) حديث: " وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية ". أخرجه أبو داود (3 / 210 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ورجاله ثقات.
(3) بدائع الصنائع 7 / 108.(20/219)
أَغَارَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الدِّفَاعُ عَنْهُمْ، لأَِنَّهُمْ بِهَذَا الْعَهْدِ " الْمُوَادَعَةِ " مَا خَرَجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَهْل حَرْبٍ، لأَِنَّهُمْ لَمْ يَنْقَادُوا لِحُكْمِ الإِْسْلاَمِ، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نُصْرَتُهُمْ (1) . وَهَذَا الْعَهْدُ أَوِ الْمُوَادَعَةُ: عَقْدٌ غَيْرُ لاَزِمٍ مُحْتَمِلٌ لِلنَّقْضِ، فَلِلإِْمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} (2) أَمَّا إِذَا وَقَعَ عَلَى أَنْ تَجْرِيَ فِي دَارِهِمْ أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ فَهُوَ عَقْدٌ لاَزِمٌ، لاَ يَحْتَمِل النَّقْضَ مِنَّا، لأَِنَّ الْعَهْدَ الْوَاقِعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَقْدُ ذِمَّةٍ. وَالدَّارُ دَارُ إِسْلاَمٍ يَجْرِي فِيهَا حُكْمُ الإِْسْلاَمِ (3) . فَإِنْ نَقَضُوا الصُّلْحَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ مَعَهُمْ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ دَارَهُمْ تَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ فِي دَارِهِمْ مُسْلِمٌ أَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ بَلَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَتَبْقَى دَارُهُمْ دَارَ إِسْلاَمِ يَجْرِي عَلَى أَهْلِهَا حُكْمُ الْبُغَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ مُسْلِمٌ وَلاَ بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ بَلَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَتَكُونُ دَارَ حَرْبٍ (4) .
__________
(1) المبسوط 10 / 86، البدائع 7 / 108، والفتاوى الهندية 2 / 196، 197.
(2) سورة الأنفال / 58.
(3) المصادر السابقة.
(4) الماوردي ص 138، وأبو يعلى ص 146، والدسوقي 2 / 206.(20/219)
وَإِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ وَكَانَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِدَارِنَا يُبَلَّغُ مَأْمَنَهُ، أَيْ مَا يَأْمَنُونَ فِيهِ مِنَّا وَمِنْ أَهْل الْعَهْدِ، ثُمَّ كَانُوا حَرْبًا لَنَا (1) .
__________
(1) الشرقاوي على التحرير 2 / 24.(20/220)
دَالِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الدَّالِيَةِ فِي اللُّغَةِ: الدَّلْوُ وَنَحْوُهَا، وَخَشَبٌ يُصْنَعُ كَهَيْئَةِ الصَّلِيبِ، وَيُشَدُّ بِرَأْسِ الدَّلْوِ، ثُمَّ يُؤْخَذُ حَبْلٌ يُرْبَطُ طَرَفُهُ بِذَلِكَ، وَطَرَفُهُ بِجِذْعٍ قَائِمٍ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ وَيُسْقَى بِهَا، فَهِيَ فَاعِلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، وَالْجَمْعُ: الدَّوَالِي (1) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِالْمَعْنَى نَفْسِهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السَّانِيَةُ:
2 - السَّانِيَةُ: الدَّلْوُ الْكَبِيرَةُ تُنْصَبُ عَلَى الْمَسْنَوِيَّةِ، ثُمَّ تَجُرُّهُ الْمَاشِيَةُ ذَاهِبَةً وَرَاجِعَةً، وَالسَّانِيَةُ أَيْضًا النَّاضِحَةُ، وَهِيَ النَّاقَةُ الَّتِي يُسْتَقَى عَلَيْهَا (3) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: " دلو ".
(2) العناية بهامش تكملة فتح القدير 8 / 149 ط الأميرية، وكشاف القناع 2 / 209.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " سنا " والمعجم الوسيط، وكشاف القناع 2 / 209.(20/220)
النَّاعُورَةُ:
3 - النَّاعُورَةُ وَاحِدَةُ النَّوَاعِيرِ الَّتِي يُسْتَقَى بِهَا يُدِيرُهَا الْمَاءُ وَلَهَا صَوْتٌ (1) . فَالدَّالِيَةُ، وَالسَّانِيَةُ، وَالنَّاعُورَةُ وَسَائِل رَفْعِ الْمَاءِ إِلَى الأَْرْضِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - زَكَاةُ مَا سُقِيَ بِالدَّالِيَةِ:
كُل مَا سُقِيَ بِكُلْفَةٍ وَمُؤْنَةٍ مِنْ دَالِيَةٍ، أَوْ سَانِيَةٍ، أَوْ دُولاَبٍ، أَوْ نَاعُورَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ. لِحَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: بَعَثَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ، وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِمَّا سَقَتِ السَّمَاءُ وَمَا سُقِيَ بَعْلاً (3) الْعُشْرَ، وَمَا سُقِيَ بِالدَّوَالِي نِصْفَ الْعُشْرِ. (4) وَلأَِنَّ لِلْكُلْفَةِ تَأْثِيرًا فِي إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ جُمْلَةً بِدَلِيل الْمَعْلُوفَةِ، فَلأََنْ يُؤَثِّرَ فِي تَخْفِيفِهَا أَوْلَى، وَلأَِنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي الْمَال النَّامِي، وَلِلْكُلْفَةِ تَأْثِيرٌ فِي تَقْلِيل النَّمَاءِ، فَأَثَّرَتْ فِي تَقْلِيل الْوَاجِبِ فِيهَا (5) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " نعر "، وكشاف القناع 2 / 209.
(2) المغني 2 / 699، وكشاف القناع 2 / 209.
(3) البعل: الزرع الذي يشرب بعروقه فيستغني عن السقي (المعجم الوسيط والمصباح)
(4) حديث معاذ: " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وأمرني أن آخذ مما سقت السماء " أخرجه ابن ماجه (1 / 581 - ط الحلبي) وإسناده حسن.
(5) المغني لابن قدامة 2 / 699 ط الرياض، ومطالب أولي النهى 2 / 61، والاختيار لتعليل المختار 1 / 113، نشر دار المعرفة، وأسنى المطالب 1 / 371، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 418، نشر دار المعرفة.(20/221)
وَلِلتَّفْصِيل فِي زَكَاةِ مَا سُقِيَ سَيْحًا (1) وَبِدَالِيَةٍ وَنَحْوِهَا. يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (زَكَاةٌ) .
نَصْبُ الدَّالِيَةِ عَلَى الأَْنْهَارِ:
5 - يَجُوزُ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَصْبُ الدَّالِيَةِ عَلَى الأَْنْهَارِ الْعَامَّةِ، كَالنِّيل، وَدِجْلَةَ، وَالْفُرَاتِ، وَنَحْوِهَا. إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالنَّهْرِ، لأَِنَّ هَذِهِ الأَْنْهَارَ لَمْ تَدْخُل تَحْتَ يَدِ أَحَدٍ فَلاَ يَثْبُتُ الاِخْتِصَاصُ بِهَا لأَِحَدٍ، فَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهَا عَلَى السَّوَاءِ، وَكَانَ لِكُل وَاحِدٍ الْحَقُّ فِي الاِنْتِفَاعِ، لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ الضَّرَرِ بِالنَّهْرِ، كَالاِنْتِفَاعِ بِطَرِيقِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ أَضَرَّ بِالنَّهْرِ فَلِكُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْعُهُ، لأَِنَّهُ حَقٌّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِبَاحَةُ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّهِمْ مَشْرُوطَةٌ بِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ، كَالتَّصَرُّفِ فِي الطَّرِيقِ الأَْعْظَمِ (2) . أَمَّا النَّهْرُ الْمُشْتَرَكُ إِذَا أَرَادَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ نَصْبَ دَالِيَةٍ عَلَيْهِ فَيُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ لاَ يَضُرُّ بِالشُّرْبِ وَالنَّهْرِ، وَكَانَ مَوْضِعُ الْبِنَاءِ أَرْضَ صَاحِبِهِ جَازَ، وَإِلاَّ فَلاَ، لأَِنَّ رَقَبَةَ النَّهْرِ وَمَوْضِعَ الْبِنَاءِ مِلْكٌ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَحَقُّ الْكُل مُتَعَلِّقٌ بِالْمَاءِ، وَلاَ سَبِيل إِلَى التَّصَرُّفِ فِي
__________
(1) السيح: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض أي من غير آلة ولا كلفة (المعجم الوسيط) .
(2) بدائع الصنائع 6 / 192 ط الجمالية، ومجلة الأحكام العدلية المادة (1238) ، والمغني لابن قدامة 5 / 583، وروضة الطالبين 5 / 304 - 306.(20/221)
الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ وَالْحَقِّ الْمُشْتَرَكِ إِلاَّ بِرِضَا الشُّرَكَاءِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي: (مِيَاهٌ، نَهْرٌ) .
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 190، وابن عابدين 5 / 285.(20/222)
دَامِعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّامِعَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ دَمَعَتِ الْعَيْنُ دَمْعًا، أَيْ سَال دَمْعُهَا، وَالدَّمْعُ: مَاءُ الْعَيْنِ، وَشَجَّةٌ دَامِعَةٌ: تَسِيل دَمًا، فَالدَّامِعَةُ مِنَ الشِّجَاجِ هِيَ الَّتِي يَسِيل مِنْهَا الدَّمُ كَدَمْعِ الْعَيْنِ (1) .
وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي مَعْنَى الدَّامِعَةِ: فَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَقَاضِي زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يُسَايِرُونَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ، وَالْحَنَابِلَةُ يُسَمُّونَهَا الْبَازِلَةَ وَالدَّامِيَةَ أَيْضًا.
وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا جَاءَ فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِمْ، كَالْبَدَائِعِ وَالْكَافِي وَابْنِ عَابِدِينَ وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ: هِيَ الَّتِي تُظْهِرُ الدَّمَ وَلاَ تُسِيلُهُ كَالدَّمْعِ فِي الْعَيْنِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الدَّامِعَةُ وَالدَّامِيَةُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهِيَ الَّتِي تَصْعَقُ الْجِلْدَ فَيَرْشَحُ مِنْهُ دَمٌ، كَالدَّمْعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْشَقَّ الْجِلْدُ (2) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمغرب، مادة: " دمع ".
(2) ابن عابدين 5 / 372، والبدائع 7 / 296، وتكملة فتح القدير 9 / 217 دار إحياء التراث العربي، والزرقاني 8 / 15، والدسوقي 4 / 251، ومغني المحتاج 4 / 26، ونهاية المحتاج 7 / 268، وكشاف القناع 6 / 51، والمغني 8 / 54 - 55.(20/222)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - الدَّامِعَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً.
فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَفِيهَا الْقِصَاصُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لإِِمْكَانِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الاِسْتِيفَاءِ، وَلِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} . (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ، إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيهَا لِعَدَمِ إِمْكَانِ الاِسْتِيفَاءِ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ، وَإِنَّمَا فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ (2) ، لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَلاَ يُمْكِنُ إِهْدَارُهَا فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّخَعِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَإِنْ كَانَتِ الدَّامِعَةُ خَطَأً فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ، لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهَا شَيْءٌ مُقَدَّرٌ مِنَ الشَّرْعِ، وَلاَ يُمْكِنُ إِهْدَارُهَا فَوَجَبَ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.
وَهَذَا إِذَا لَمْ تَبْرَأِ الشَّجَّةُ، أَوْ بَرِئَتْ عَلَى شَيْنٍ، فَإِذَا بَرِئَتْ دُونَ أَثَرٍ فَلاَ شَيْءَ فِيهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ، لأَِنَّ الأَْرْشَ إِنَّمَا يَجِبُ
__________
(1) سورة المائدة / 45.
(2) حكومة العدل هي التعويض الذي يقدره أهل الخبرة وينظر مصطلح: (حكومة عدل) .(20/223)
بِالشَّيْنِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ بِالأَْثَرِ، وَقَدْ زَال فَسَقَطَ الأَْرْشُ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ حُكُومَةُ الأَْلَمِ لأَِنَّ الشَّجَّةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَلاَ سَبِيل إِلَى إِهْدَارِهَا، وَقَدْ تَعَذَّرَ إِيجَابُ أَرْشِ الشَّجَّةِ، فَيَجِبُ أَرْشُ الأَْلَمِ، وَقَال مُحَمَّدٌ: يَجِبُ قَدْرُ مَا أَنْفَقَ مِنْ أُجْرَةِ الطَّبِيبِ وَثَمَنِ الدَّوَاءِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا بَرِئَتْ وَلَمْ تُنْقِصْ شَيْئًا فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى التَّعْزِيرِ كَمَا لَوْ لَطَمَهُ أَوْ ضَرَبَهُ بِمُثْقِلٍ فَزَال الأَْلَمُ.
وَالثَّانِي: يَفْرِضُ الْقَاضِي شَيْئًا بِاجْتِهَادِهِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، شِجَاجٌ، قِصَاصٌ، دِيَةٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 354، 373، 376، والبدائع 7 / 309، 316، 324، والهداية 4 / 82، 187، والاختيار 5 / 42، وحاشية الدسوقي 4 / 250، 251، 269، 270، والفواكه الدواني 2 / 263، ومغني المحتاج 4 / 26، 59، ونهاية المحتاج 7 / 268، 306، 325، وروضة الطالبين 9 / 265، 309، والمغني 7 / 710 و 8 / 56 - 57، وكشاف القناع 6 / 51 - 52.(20/223)
دَامِغَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّامِغَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ دَمَغَهُ أَيْ أَصَابَ دِمَاغَهُ، وَشَجَّهُ حَتَّى بَلَغَتِ الشَّجَّةُ الدِّمَاغَ، وَالدَّامِغَةُ مِنَ الشِّجَاجِ هِيَ الَّتِي تُهَشِّمُ الدِّمَاغَ وَلاَ حَيَاةَ مَعَهَا غَالِبًا (1) .
وَهِيَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَذَلِكَ، فَقَدْ قَالُوا: هِيَ الَّتِي تَخْرِقُ خَرِيطَةَ الدِّمَاغِ (الْجِلْدَةَ الرَّقِيقَةَ السَّاتِرَةَ لِلْمُخِّ) وَتَصِل إِلَيْهِ. وَهِيَ مُذَفِّفَةٌ غَالِبًا. وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الشِّجَاجِ لِلْمَوْتِ بَعْدَهَا عَادَةً، فَتَكُونُ عِنْدَهُ قَتْلاً لاَ شَجًّا (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ.
2 - الدَّامِغَةُ مِنَ الشِّجَاجِ إِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَلاَ
__________
(1) المغرب، والمصباح المنير، ولسان العرب مادة: " دمغ ".
(2) ابن عابدين 5 / 372 - 373، والاختيار 5 / 41، والدسوقي 4 / 252، وجواهر الإكليل 2 / 260، ومغني المحتاج 4 / 26، والمغني 8 / 47، وكشاف القناع 6 / 52.(20/224)
قِصَاصَ فِيهَا إِنْ لَمْ تُفْضِ إِلَى الْمَوْتِ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِالْمِثْل لِعِظَمِ خَطَرِهَا وَخَشْيَةِ السِّرَايَةِ إِلَى النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ يَسْتَوِي فِي الْحُكْمِ فِيهَا عَمْدُهَا وَخَطَؤُهَا. وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَفِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ قِيَاسًا عَلَى الْمَأْمُومَةِ (الآْمَّةِ) لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى أَهْل الْيَمَنِ كِتَابًا فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ، وَفِيهِ: فِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ. (1)
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَجِبُ عَلَى الْجَانِي أَرْشُ مَأْمُومَةٍ وَحُكُومَةُ عَدْلٍ، لأَِنَّ خَرْقَ الْجِلْدِ جِنَايَةٌ بَعْدَ الْمَأْمُومَةِ فَوَجَبَ لأَِجْلِهَا حُكُومَةٌ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصَّ مُوضِحَةً، لأَِنَّهُ يَقْتَصُّ بَعْضَ حَقِّهِ، وَلأَِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْجِنَايَةِ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهَا، وَيَأْخُذُ الأَْرْشَ فِي الْبَاقِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ لأَِنَّهُ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ فِيهِ فَانْتَقَل إِلَى الْبَدَل، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُصْبُعَيْهِ وَلَمْ يُمْكِنِ الاِسْتِيفَاءُ إِلاَّ مِنْ وَاحِدَةٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَيْسَ لَهُ أَرْشُ
__________
(1) حديث عمرو بن حزم: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابًا " أخرجه النسائي (8 / 58 - ط المكتبة التجارية) . وذكر ابن حجر في التلخيص (4 / 18 - ط شركة الطباعة الفنية) أن جماعة من العلماء صححوه.(20/224)
الْبَاقِي، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، لأَِنَّهُ جُرْحٌ وَاحِدٌ فَلاَ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ قِصَاصٍ وَدِيَةٍ.
ثُمَّ إِنَّ الْحُكْمَ بِثُلُثِ الدِّيَةِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا عَاشَ الْمَشْجُوجُ، أَمَّا إِذَا مَاتَ بِهَا فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا فَفِيهَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَفِيهَا دِيَةُ نَفْسٍ كَامِلَةً (1) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 372 - 373، والبدائع 7 / 316، وتكملة فتح القدير 9 / 218، وجواهر الإكليل 2 / 260، 267، والدسوقي 4 / 270، ومغني المحتاج 4 / 26، 58، والمهذب 2 / 179، 200، والمغني 7 / 710 و 8 / 47، وكشاف القناع 6 / 52.(20/225)
دَامِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّامِيَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ دَمِيَ الْجُرْحُ يَدْمَى دَمْيًا وَدَمًى: خَرَجَ مِنْهُ الدَّمُ، وَالشَّجَّةُ الدَّامِيَةُ: هِيَ الَّتِي يَخْرُجُ دَمُهَا وَلاَ يَسِيل (1) .
وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي مَعْنَى الدَّامِيَةِ.
فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يُسَايِرُونَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ، إِذْ يَقُول الْمَالِكِيَّةُ: هِيَ الَّتِي تُضْعِفُ الْجِلْدَ فَيَرْشَحُ مِنْهُ دَمٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْشَقَّ الْجِلْدُ.
وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: هِيَ الَّتِي تَدْمَى مِنْ غَيْرِ سَيَلاَنِ الدَّمِ (2) .
وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الدَّامِيَةَ هِيَ الَّتِي تُخْرِجُ الدَّمَ وَتُسِيلُهُ وَلاَ تُوضِحُ الْعَظْمَ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ الَّذِينَ يُسَمُّونَهَا أَيْضًا الْبَازِلَةَ وَالدَّامِغَةَ (3) .
__________
(1) المغرب، والمصباح المنير، ولسان العرب: مادة: " دمى ".
(2) منح الجليل 4 / 264، والدسوقي 4 / 250 - 251، ومغني المحتاج 4 / 26.
(3) تكملة فتح القدير 9 / 217 نشر دار إحياء التراث العربي، وابن عابدين 5 / 372 - 373، والبدائع 7 / 296، والاختيار 5 / 41، والمغني 8 / 55، وكشاف القناع 6 / 51.(20/225)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - حُكْمُ الدَّامِيَةِ هُوَ حُكْمُ الدَّامِعَةِ بِكُل تَفَاصِيلِهِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَمْدًا أَمْ خَطَأً.
(ر: دَامِعَةٌ) .(20/226)
دِبَاغَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدِّبَاغَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ دَبَغَ الْجِلْدَ يَدْبُغُهُ دَبْغًا وَدِبَاغَةً، أَيْ عَالَجَهُ وَلَيَّنَهُ بِالْقَرَظِِ وَنَحْوِهِ لِيَزُول مَا بِهِ مِنْ نَتْنٍ وَفَسَادٍ وَرُطُوبَةٍ.
وَالدِّبَاغَةُ أَيْضًا اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى حِرْفَةِ الدَّبَّاغِ وَهُوَ صَاحِبُهَا.
أَمَّا الدِّبْغُ وَالدِّبَاغُ بِالْكَسْرِ فَهُمَا مَا يُدْبَغُ بِهِ الْجِلْدُ لِيَصْلُحَ. وَالْمَدْبَغَةُ مَوْضِعُ الدَّبْغِ (1) .
وَتُطْلَقُ الدِّبَاغَةُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ (2) .
قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: الدَّبْغُ نَزْعُ فُضُول الْجِلْدِ، وَهِيَ مَائِيَّتُهُ وَرُطُوبَاتُهُ الَّتِي يُفْسِدُهُ بَقَاؤُهَا، وَيُطَيِّبُهُ نَزْعُهَا بِحَيْثُ لَوْ نُقِعَ فِي الْمَاءِ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ النَّتْنُ وَالْفَسَادُ (3) .
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ الدَّبْغُ
__________
(1) المصباح المنير، ومتن اللغة، والمعجم الوسيط مادة: " دبغ ".
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 136، ونهاية المحتاج 1 / 232، والخرشي 1 / 88.
(3) مغني المحتاج 1 / 82، وانظر الخرشي 1 / 88، والدسوقي 1 / 53.(20/226)
بِمَا يَحْرِفُ الْفَمَ، أَيْ يَلْذَعُ اللِّسَانَ بِحَرَافَتِهِ كَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ وَنَحْوِهِمَا (1) ، كَمَا سَيَأْتِي: (ف 7)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصِّبَاغَةُ:
2 - الصِّبَاغَةُ حِرْفَةُ الصَّبَّاغِ، وَالصِّبْغُ وَالصِّبْغَةُ وَالصِّبَاغُ بِالْكَسْرِ كُلُّهَا بِمَعْنًى، وَهُوَ مَا يُصْبَغُ بِهِ، وَالصَّبْغُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ، يُقَال: صَبَغَ الثَّوْبَ صَبْغًا: أَيْ لَوَّنَهُ بِالصِّبَاغِ، وَالأَْصْل فِي مَعْنَاهُ التَّغْيِيرُ، وَيَعْرِضُ لِلْجِلْدِ وَغَيْرِهِ (2) .
ب - التَّشْمِيسُ:
3 - التَّشْمِيسُ مَصْدَرُ شَمَّسْتُ الشَّيْءَ إِذَا وَضَعْتَهُ فِي الشَّمْسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يُبْسَطَ الْجِلْدُ فِي الشَّمْسِ لِتَجِفَّ مِنْهُ الرُّطُوبَةُ، وَتَزُول عَنْهُ الرَّائِحَةُ الْكَرِيهَةُ. وَاعْتَبَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ دِبَاغًا حُكْمِيًّا (3) كَمَا سَيَأْتِي.
ج - التَّتْرِيبُ:
4 - التَّتْرِيبُ مَصْدَرُ تَرَّبَ، يُقَال: تَرَّبْتُ الإِْهَابَ تَتْرِيبًا، إِذَا نَثَرَ عَلَيْهِ التُّرَابَ لإِِزَالَةِ مَا عَلَيْهِ مِنْ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 82، ونهاية المحتاج 1 / 233، وحاشية القليوبي 1 / 73.
(2) المصباح المنير، ومتن اللغة، مادة: " صبغ ".
(3) البناية على الهداية 1 / 472، وابن عابدين 1 / 136.(20/227)
رُطُوبَةٍ وَرَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ، وَيُقَال أَيْضًا: تَرَّبْتُ الشَّيْءَ إِذَا وَضَعْتَ عَلَيْهِ التُّرَابَ. وَهُوَ أَيْضًا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الدِّبَاغِ الْحُكْمِيِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ (1) .
مَشْرُوعِيَّةُ الدِّبَاغَةِ:
5 - الدِّبَاغَةُ مُبَاحَةٌ، وَهِيَ مِنَ الْحِرَفِ الَّتِي فِيهَا مَصْلَحَةٌ لِلنَّاسِ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا لِجَوَازِ الدِّبَاغَةِ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا:
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ (2) وَلأَِنَّ الدِّبَاغَةَ وَسِيلَةٌ لِتَطْهِيرِ الْجُلُودِ بِإِزَالَةِ مَا بِهَا مِنْ نَتْنٍ وَفَسَادٍ فَيُنْتَفَعُ بِهَا، كَمَا يُنْتَفَعُ مِنْ سَائِرِ الأَْشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ (3) .
مَا يَقْبَل الدِّبَاغَةَ:
6 - الْجُلُودُ هِيَ الَّتِي تُدْبَغُ غَالِبًا وَتَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي بَيَانُهُ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ - مِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ - أَنَّ الْمَثَانَةَ وَالْكَرِشَ، مِثْل الإِْهَابِ فِي قَبُول الدِّبَاغِ وَالطَّهَارَةِ بِهِ، وَكَذَلِكَ الأَْمْعَاءُ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ
__________
(1) المرجعان نفسهما.
(2) حديث: " أيما إهاب دبغ فقد طهر " أخرجه النسائي (7 / 173 - ط المكتبة التجارية) من حديث ابن عباس، وأصله في صحيح مسلم (1 / 277 - ط الحلبي) .
(3) ابن عابدين 1 / 136، ومواهب الجليل مع المواق 1 / 101، ومغني المحتاج 1 / 82 - 83، وكشاف القناع 1 / 54 - 55.(20/227)
الْبَحْرِ: فَلَوْ دُبِغَتِ الْمَثَانَةُ وَجُعِل فِيهَا لَبَنٌ جَازَ.
وَكَذَلِكَ الْكَرِشُ إِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إِصْلاَحِهِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِنَّهُ لاَ يَطْهُرُ، لأَِنَّهُ كَاللَّحْمِ، وَإِذَا أَصْلَحَ أَمْعَاءَ شَاةٍ مَيِّتَةٍ فَصَلَّى وَهِيَ مَعَهُ جَازَ، لأَِنَّهُ يَتَّخِذُ مِنْهَا الأَْوْتَارَ وَهُوَ كَالدِّبَاغِ (1) .
وَقَال الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَجَعْل الْمُصْرَانِ وِتْرًا دِبَاغٌ، وَكَذَا جَعْل الْكَرِشِ، لأَِنَّهُ هُوَ الْمُعْتَادُ فِيهِ (2) .
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا أَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ مِنَ الْحَيَّةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَهَا دَمٌ، وَكَذَلِكَ الْفَأْرَةُ لاَ يَقْبَلاَنِ الدِّبَاغَ فَلاَ يَطْهُرَانِ بِالْعِلاَجِ (3) .
مَا تَحْصُل بِهِ الدِّبَاغَةُ:
7 - مَا يَحْصُل بِهِ الدِّبَاغَةُ يُسَمَّى دَبْغًا وَدِبَاغًا، وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الدِّبَاغِ أَنْ يَكُونَ مُنَشِّفًا لِلرُّطُوبَةِ مُنَقِّيًا لِلْخَبَثِ، مُزِيلاً لِلرِّيحِ، وَلاَ يُشْرَطُ أَنْ تَكُونَ الدِّبَاغَةُ بِفِعْل فَاعِلٍ، فَإِنْ وَقَعَ الْجِلْدُ فِي مَدْبَغَتِهِ بِنَحْوِ رِيحٍ، أَوْ أُلْقِيَ الدَّبْغُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ فَانْدَبَغَ بِهِ كَفَى. كَمَا لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الدَّابِغُ مُسْلِمًا.
وَذَهَبَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الدِّبَاغُ طَاهِرًا، فَإِنَّ حِكْمَةَ الدِّبَاغِ إِنَّمَا هِيَ بِأَنْ يُزِيل
__________
(1) ابن عابدين 1 / 135.
(2) كشاف القناع 1 / 56.
(3) ابن عابدين 1 / 136، والزيلعي 1 / 25.(20/228)
عُفُونَةَ الْجِلْدِ وَيُهَيِّئَهُ لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ عَلَى الدَّوَامِ. فَمَا أَفَادَ ذَلِكَ جَازَ بِهِ، طَاهِرًا كَانَ كَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ، أَوْ نَجِسًا كَزَرْقِ الطُّيُورِ (1) .
وَهَل يُشْتَرَطُ غَسْل الْجِلْدِ أَثْنَاءَ أَوْ بَعْدَ الدِّبَاغَةِ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ يَأْتِي بَيَانُهُ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الدِّبَاغُ طَاهِرًا، لأَِنَّهَا طَهَارَةٌ مِنْ نَجَاسَةٍ فَلَمْ تَحْصُل بِنَجِسٍ، كَالاِسْتِجْمَارِ وَالْغَسْل (2) .
وَصَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) بِأَنَّهُ لاَ يَكْفِي فِي الدِّبَاغَةِ التَّشْمِيسُ، وَلاَ التَّتْرِيبُ (3) . ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا يُدْبَغُ بِهِ. فَنُقِل عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَا دُبِغَ بِهِ جِلْدُ الْمَيْتَةِ مِنْ دَقِيقٍ أَوْ مِلْحٍ أَوْ قَرَظٍ فَهُوَ طَهُورٌ، ثُمَّ قَال: وَهُوَ صَحِيحٌ، فَإِنَّ حِكْمَةَ الدِّبَاغِ إِنَّمَا هِيَ بِأَنْ يُزِيل عُفُونَةَ الْجِلْدِ وَيُهَيِّئَهُ لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ عَلَى الدَّوَامِ فَمَا أَفَادَ ذَلِكَ جَازَ بِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الدَّبْغُ نَزْعُ فُضُولِهِ، وَذَلِكَ يَحْصُل بِمَا يَحْرِفُ الْفَمَ أَيْ يَلْذَعُ اللِّسَانَ بِحَرَافَتِهِ، كَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ وَقُشُورِ الرُّمَّانِ، وَالشَّثِّ وَالشَّبِّ (4) . وَلَوْ بِإِلْقَائِهِ عَلَى الدِّبْغِ بِنَحْوِ رِيحٍ، أَوْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 136، والدسوقي 1 / 55، ومغني المحتاج 1 / 82، وكشاف القناع 1 / 56، والمغني 1 / 70.
(2) المغني 1 / 70، وكشاف القناع 1 / 76.
(3) الدسوقي 1 / 55، والحطاب 1 / 101، ومغني المحتاج 1 / 82، وكشاف القناع 1 / 56، والمغني 1 / 70.
(4) الشث: شجر مر الطعم طيب الريح يدبغ به، والشب: معدن يشبه الزاج يدبغ به.(20/228)
إِلْقَاءِ الدِّبْغِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ. لاَ شَمْسٍ وَتُرَابٍ وَتَجْمِيدٍ وَتَمْلِيحٍ مِمَّا لاَ يَنْزِعُ الْفُضُول وَإِنْ جَفَّتْ وَطَابَتْ رَائِحَتُهُ، لأَِنَّ الْفَضَلاَتِ لَمْ تَزُل، وَإِنَّمَا جَمَدَتْ، بِدَلِيل أَنَّهُ لَوْ نُقِعَ فِي الْمَاءِ عَادَتْ إِلَيْهِ الْعُفُونَةُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَحْصُل الدَّبْغُ بِنَجِسٍ، وَلاَ بِغَيْرِ مُنَشِّفٍ لِلرُّطُوبَةِ مُنَقٍّ لِلْخَبَثِ بِحَيْثُ لَوْ نُقِعَ الْجِلْدُ بَعْدَهُ فِي الْمَاءِ فَسَدَ، وَلاَ بِتَشْمِيسٍ وَلاَ بِتَتْرِيبٍ وَلاَ بِرِيحٍ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَتَحْصُل الدِّبَاغَةُ عِنْدَهُمْ بِكُل مَا يَمْنَعُ النَّتْنَ وَالْفَسَادَ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمَا يَمْنَعُ عَلَى نَوْعَيْنِ حَقِيقِيٍّ كَالْقَرَظِ وَالشَّبِّ وَالْعَفْصِ وَنَحْوِهِ، وَحُكْمِيٍّ كَالتَّتْرِيبِ وَالتَّشْمِيسِ وَالإِْلْقَاءِ فِي الرِّيحِ. وَلَوْ جَفَّ وَلَمْ يَسْتَحِل لَمْ يَطْهُرْ (2) .
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الدِّبَاغِ الْحَقِيقِيِّ وَالْحُكْمِيِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ الْمَاءُ جِلْدَ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ الْحَقِيقِيِّ لاَ يَعُودُ نَجِسًا بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَهُمْ، وَفِيمَا بَعْدَ الدِّبَاغِ الْحُكْمِيِّ رِوَايَتَانِ (3) .
__________
(1) كشاف القناع 1 / 56.
(2) ابن عابدين 1 / 136.
(3) المرجع السابق نفسه، وترى اللجنة أن الدباغ يحصل بالأشياء المعتادة في ذلك، ولا يشترط فيه مادة خاصة أو آلة، والمرجع في ذلك إلى أهل الصنعة، والحكمة في ذلك إنما هي زوال عفونة الجلد وفساده وتهيئته للانتفاع، فما أفاد ذلك جاز به (انظر البناية 1 / 373، والحطاب 1 / 101) .(20/229)
أَثَرُ الدِّبَاغَةِ فِي تَطْهِيرِ الْجُلُودِ:
8 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ جِلْدَ الآْدَمِيِّ طَاهِرٌ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَأَنَّهُ لَيْسَ مَحَلًّا لِلدِّبَاغَةِ أَصْلاً. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ جِلْدَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ كَالإِْبِل وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالظِّبَاءِ وَنَحْوِهَا طَاهِرٌ قَبْل الذَّبْحِ وَبَعْدَهُ، سَوَاءٌ أَدُبِغَ أَمْ لَمْ يُدْبَغْ.
وَكَذَلِكَ مَيْتَةُ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لاَ نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي نَجَاسَةِ جُلُودِ مَيْتَةِ الْحَيَوَانَاتِ قَبْل الدِّبَاغِ، وَعَرَّفُوا الْمَيْتَةَ بِأَنَّهَا الْمَيِّتُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ الَّذِي لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ، مَأْكُولَةُ اللَّحْمِ أَوْ غَيْرُهُ، مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ بِذَكَاةٍ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ، كَمُذَكَّى الْمَجُوسِيِّ أَوِ الْكِتَابِيِّ لِصَنَمِهِ، أَوِ الْمُحْرِمِ لِصَيْدٍ، أَوِ الْمُرْتَدِّ أَوْ نَحْوِهِ (1) .
(ر: مَيْتَةٌ) .
9 - وَاخْتَلَفُوا فِي طَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي جِلْدِ مَيْتَةِ مَأْكُول اللَّحْمِ - إِلَى أَنَّ الدِّبَاغَةَ وَسِيلَةٌ لِتَطْهِيرِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَأْكُولَةَ اللَّحْمِ أَمْ غَيْرَ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ، فَيَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ جِلْدُ مَيْتَةِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ إِلاَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ عِنْدَ الْجَمِيعِ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ، وَإِلاَّ جِلْدَ الآْدَمِيِّ لِكَرَامَتِهِ
__________
(1) الخرشي 1 / 188، ومغني المحتاج 1 / 78، وكشاف القناع 1 / 54.(20/229)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (1) وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا جِلْدَ الْكَلْبِ، كَمَا اسْتَثْنَى مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ جِلْدَ الْفِيل (2) .
وَاسْتَدَلُّوا لِطَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ بِأَحَادِيثَ، مِنْهَا:
أ - قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ. (3)
ب - وَبِمَا رَوَى سَلَمَةُ بْنُ الْمُحَبِّقِ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ دَعَا بِمَاءٍ مِنْ عِنْدِ امْرَأَةٍ، قَالَتْ: مَا عِنْدِي إِلاَّ فِي قِرْبَةٍ لِي مَيْتَةٍ. قَال: أَلَيْسَ قَدْ دَبَغْتِهَا؟ قَالَتْ: بَلَى. قَال: فَإِنَّ دِبَاغَهَا ذَكَاتُهَا. (4)
ج - وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: تَصَدَّقَ عَلَى مَوْلاَةٍ لِمَيْمُونَةَ بِشَاةٍ فَمَاتَتْ، فَمَرَّ بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: هَلاَّ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ؟ فَقَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَال: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا. (5)
__________
(1) سورة الإسراء / 70.
(2) ابن عابدين 1 / 136، والبدائع 1 / 85، ومغني المحتاج 1 / 78، والمغني لابن قدامة 1 / 66، 67.
(3) الإهاب هو الجلد قبل الدبغ، فإذا دبغ يسمى أديمًا (المصباح) والحديث تقدم تخريجه (ف / 5) .
(4) أخرجه النسائي (7 / 173 - 174 - ط المكتبة التجارية) وصححه ابن حجر في التلخيص (1 / 49 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(5) حديث: " هلا أخذتم إهابها فدبغتموه " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 413 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 276 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.(20/230)
وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُول أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ الدَّبْغَ يُزِيل سَبَبَ النَّجَاسَةِ وَهُوَ الرُّطُوبَةُ وَالدَّمُ، فَصَارَ الدَّبْغُ لِلْجِلْدِ كَالْغَسْل لِلثَّوْبِ، وَلأَِنَّ الدِّبَاغَ يَحْفَظُ الصِّحَّةَ لِلْجِلْدِ وَيُصْلِحُهُ لِلاِنْتِفَاعِ بِهِ كَالْحَيَاةِ، ثُمَّ الْحَيَاةُ تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنِ الْجُلُودِ فَكَذَلِكَ الدِّبَاغُ (1) .
أَمَّا اسْتِثْنَاءُ جِلْدِ الْخِنْزِيرِ فَلأَِنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، أَيْ أَنَّ ذَاتَهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا نَجِسَةٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، فَلَيْسَتْ نَجَاسَتُهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّمِ أَوِ الرُّطُوبَةِ كَنَجَاسَةِ غَيْرِهِ مِنْ مَيْتَةِ الْحَيَوَانَاتِ، فَلِذَا لَمْ يَقْبَل التَّطْهِيرَ (2) .
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ لاِسْتِثْنَاءِ الْكَلْبِ بِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ. (3)
وَالطَّهَارَةُ تَكُونُ لِحَدَثٍ أَوْ خَبَثٍ، وَلاَ حَدَثَ عَلَى الإِْنَاءِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْوُلُوغَ سَبَبٌ لِلْخَبَثِ بِسَبَبِ نَجَاسَةِ فَمِ الْكَلْبِ، فَبَقِيَّةُ أَجْزَاءِ الْكَلْبِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 136، والبدائع 1 / 85، والبناية 1 / 236، 362، والمجموع 1 / 216 وما بعدها، ومغني المحتاج 1 / 78، وكشاف القناع 1 / 54، والمغني 1 / 67.
(2) روي عن أبي يوسف وسحنون من المالكية طهارة جلد الخنزير أيضًا بالدباغ (ابن عابدين 1 / 136، والدسوقي 1 / 54، والمجموع 1 / 214) .
(3) حديث: " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب. . . . " أخرجه مسلم (1 / 234 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(20/230)
أَوْلَى بِالنَّجَاسَةِ، وَإِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ لاَ تَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنِ الْكَلْبِ فَالدِّبَاغُ أَوْلَى، لأَِنَّ الْحَيَاةَ أَقْوَى مِنَ الدِّبَاغِ بِدَلِيل أَنَّهَا سَبَبٌ لِطَهَارَةِ الْجُمْلَةِ، وَالدِّبَاغُ وَسِيلَةٌ لِطَهَارَةِ الْجِلْدِ فَقَطْ (1) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ لِطَهَارَةِ جِلْدِ الْكَلْبِ بِالدِّبَاغَةِ بِعُمُومِ الأَْحَادِيثِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ (2) .
وَالْكَلْبُ لَيْسَ نَجِسَ الْعَيْنِ عِنْدَهُمْ فِي الأَْصَحِّ، وَكَذَلِكَ الْفِيل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَشِطُ بِمُشْطٍ مِنْ عَاجٍ (3) ، وَفَسَّرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ بِعَظْمِ الْفِيل.
10 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ بِعَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُكَيْمٍ قَال: أَتَانَا كِتَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْل وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ: أَلاَّ تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلاَ عَصَبٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: كُنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ، فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلاَ عَصَبٍ. (4)
__________
(1) المجموع 1 / 211، 214، 220، ومغني المحتاج 1 / 78.
(2) المراجع السابقة للحنفية.
(3) حديث: " كان يمتشط بمشط من عاج " أخرجه البيهقي (1 / 26 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أنس، وضعف إسناده. وانظر ابن عابدين 1 / 136.
(4) حديث عبد الله بن عكيم بروايتيه: " أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته " أخرجه الترمذي (4 / 222 - ط الحلبي) ، وأبو داود (4 / 370 - تحقيق عزت عبيد دعاس) بألفاظ متقاربة، وحسنه الترمذي.(20/231)
وَأَجَابَ الْمَالِكِيَّةُ عَنِ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ بِالدِّبَاغِ بِأَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الطَّهَارَةِ اللُّغَوِيَّةِ أَيِ النَّظَافَةِ، وَلِذَا جَازَ الاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي حَالاَتٍ خَاصَّةٍ كَمَا سَيَأْتِي.
وَرُوِيَ عَنْ سَحْنُونَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلُهُمَا: بِطَهَارَةِ جِلْدِ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ بِالدِّبَاغَةِ حَتَّى الْخِنْزِيرِ (1) .
11 - وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغَةِ جِلْدُ مَيْتَةِ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ، مِنْ إِبِلٍ وَبَقَرٍ وَظِبَاءٍ وَنَحْوِهَا، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُول اللَّحْمِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ (2) فَيَتَنَاوَل الْمَأْكُول وَغَيْرَهُ، وَخَرَجَ مِنْهُ مَا كَانَ نَجِسًا فِي حَال الْحَيَاةِ لِكَوْنِ الدَّبْغِ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي دَفْعِ نَجَاسَةٍ حَادِثَةٍ بِالْمَوْتِ فَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ.
كَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ قَوْلُهُ: بِطَهَارَةِ جُلُودِ مَيْتَةِ مَأْكُول اللَّحْمِ فَقَطْ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَكَاةُ الأَْدِيمِ دِبَاغُهُ (3) وَالذَّكَاةُ إِنَّمَا تَعْمَل فِيمَا يُؤْكَل لَحْمُهُ،
__________
(1) الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 54، والمحلى 9 / 32 م 1549، والمغني 1 / 66، 67، وكشاف القناع 1 / 54.
(2) تقدم تخريج الحديث ف / 5.
(3) حديث: " ذكاة الأديم دباغه ". أخرجه أحمد (3 / 476 - ط الميمنية) من حديث سلمة بن المحبق، وفي إسناده جهالة، ولكن له شاهد من حديث عائشة أخرجه النسائي (7 / 174 - ط المكتبة التجارية) وإسناده صحيح.(20/231)
فَكَذَلِكَ الدِّبَاغُ (1)
غَسْل الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ:
12 - لَمْ يَذْكُرِ الْحَنَفِيَّةُ ضَرُورَةَ غَسْل الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ أَثْنَاءَ الدِّبَاغَةِ وَلاَ بَعْدَهَا، فَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ طَهَارَةُ الْجِلْدِ بِمُجَرَّدِ الدَّبْغِ قَبْل الْغَسْل، كَمَا هُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ (2) وَلأَِنَّهُ طَهُرَ بِانْقِلاَبِهِ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى اسْتِعْمَال الْمَاءِ كَالْخَمْرَةِ إِذَا انْقَلَبَتْ خَلًّا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الطَّهَارَةَ لاَ تَحْصُل بِمُجَرَّدِ الدَّبْغِ بَل تَحْتَاجُ إِلَى الْغَسْل لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِلْدِ الشَّاةِ الْمَيِّتَةِ: يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ. (3)
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ غَسْل الْجِلْدِ أَثْنَاءَ الدِّبَاغَةِ تَغْلِيبًا لِمَعْنَى الإِْحَالَةِ، وَلِحَدِيثِ مُسْلِمٍ. إِذَا دُبِغَ الإِْهَابُ فَقَدْ طَهُرَ (4) وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْغَسْل.
__________
(1) المغني 1 / 68، 69، وكشاف القناع 1 / 54، 55.
(2) تقدم تخريج الحديث (ف / 5) .
(3) البدائع 1 / 185، وابن عابدين 1 / 136، والزيلعي 1 / 25، والمغني 1 / 70، 71، وكشاف القناع 1 / 54، 55، وانظر المجموع 1 / 226، والحديث: " يطهرها الماء والقرظ ". أخرجه أبو داود (4 / 369، 370 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والنسائي (7 / 174 - ط المكتبة التجارية) من حديث ميمونة، وفي إسناده جهالة.
(4) حديث: " إذا دبغ الإهاب فقد طهر " أخرجه مسلم (1 / 277 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.(20/232)
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ يُشْتَرَطُ غَسْلُهُ أَثْنَاءَ الدِّبَاغَةِ تَغْلِيبًا لِمَعْنَى الإِْزَالَةِ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الآْخَرِ: يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ وَحُمِل الأَْوَّل عَلَى النَّدْبِ، أَمَّا بَعْدَ الدِّبَاغَةِ فَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ وُجُوبُ غَسْلِهِ بِالْمَاءِ، لأَِنَّ الْمَدْبُوغَ يَصِيرُ كَثَوْبٍ نَجِسٍ أَيْ مُتَنَجِّسٍ لِمُلاَقَاتِهِ لِلأَْدْوِيَةِ النَّجِسَةِ. أَوِ الَّتِي تَنَجَّسَتْ بِهِ قَبْل طُهْرِهِ فَيَجِبُ غَسْلُهُ لِذَلِكَ (1) .
طُرُقُ الاِنْتِفَاعِ بِالْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ:
أ - أَكْل جِلْدِ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغِ:
13 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ جَوَازِ أَكْل جِلْدِ الْمَيْتَةِ مِنَ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَأْكُول اللَّحْمِ سَوَاءٌ أَكَانَ قَبْل الدَّبْغِ أَمْ بَعْدَهُ. وَكَذَلِكَ فِي جِلْدِ مَيْتَةِ مَأْكُول اللَّحْمِ قَبْل دَبْغِهِ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ اتِّفَاقًا، أَمَّا بَعْدَ دَبْغِهِ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) عَلَى عَدَمِ جَوَازِ أَكْلِهِ أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (2) وَالْجِلْدُ جُزْءٌ مِنْهَا.
وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَيْتَةِ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا. (3)
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَامِدٍ، وَهُوَ وَجْهٌ لأَِصْحَابِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 82، 83، والمجموع 1 / 225، 226.
(2) سورة المائدة / 3.
(3) حديث: " إنما حرم أكلها ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 413 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 276 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس.(20/232)
الشَّافِعِيِّ جَوَازُ أَكْلِهِ بَعْدَ الدَّبْغِ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَكَاةُ الأَْدِيمِ دِبَاغُهُ. (1) وَلأَِنَّهُ جِلْدٌ طَاهِرٌ مِنْ حَيَوَانٍ مَأْكُول اللَّحْمِ فَأَشْبَهَ الْمُذَكَّى (2) .
ب - اسْتِعْمَال الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ وَالتَّعَامُل بِهِ:
14 - إِذَا قُلْنَا بِطَهَارَةِ الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ - غَيْرِ جِلْدِ السِّبَاعِ - فَيَصِحُّ بَيْعُهُ، وَإِجَارَتُهُ، وَاسْتِعْمَالُهُ، وَالاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي كُل مَا يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ سِوَى الأَْكْل.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ جَوَازَ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْيَابِسَاتِ فَقَطْ، حَيْثُ قَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْيَابِسَاتِ بِأَنْ يُوعَى فِيهِ الْعَدَسُ وَالْفُول وَنَحْوُهُمَا، وَيُغَرْبَل عَلَيْهَا، وَلاَ يُطْحَنُ لأَِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى تَحْلِيل بَعْضِ أَجْزَائِهِ فَتَخْتَلِطُ بِالدَّقِيقِ. لاَ فِي نَحْوِ عَسَلٍ وَلَبَنٍ وَسَمْنٍ وَمَاءِ زَهْرٍ. وَيَجُوزُ لُبْسُهَا فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ لاَ فِيهَا.
كَمَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَاءِ أَيْضًا، لأَِنَّ لَهُ قُوَّةَ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ لِطَهُورِيَّتِهِ فَلاَ يَضُرُّهُ إِلاَّ إِذَا تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ (3) .
أَمَّا جُلُودُ السِّبَاعِ فَفِيهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (جِلْدٌ ف / 14) .
__________
(1) تقدم تخريجه (ف / 11) .
(2) ابن عابدين 1 / 136، جواهر الإكليل 1 / 10، والمجموع 1 / 229، 230، والمغني 1 / 70.
(3) الدسوقي 1 / 55، والخرشي 1 / 88، 89، والمغني 1 / 70، وكشاف القناع 1 / 54.(20/233)
دُبَّاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدُّبَّاءُ فِي اللُّغَةِ: الْقَرْعُ، قِيل: الدُّبَّاءُ الْمُسْتَدِيرُ مِنْهُ وَقِيل: الْيَابِسُ، وَوَاحِدُهُ الدُّبَّاءَةُ (1) .
وَالْمُرَادُ بِهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي مَوْضُوعِ الأَْشْرِبَةِ الْقُرْعَةُ الْيَابِسَةُ الْمُتَّخَذَةُ وِعَاءً لِلاِنْتِبَاذِ فِيهِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَنْتَمُ:
2 - الْحَنْتَمُ جِرَارٌ مَدْهُونَةٌ خُضْرٌ، كَانَتْ تُحْمَل الْخَمْرُ فِيهَا إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْل التَّحْرِيمِ ثُمَّ اتُّسِعَ فِيهَا فَقِيل لِلْخَزَفِ كُلِّهِ: حَنْتَمٌ، وَوَاحِدَتُهَا حَنْتَمَةٌ (3) .
__________
(1) تاج العروس، مادة: " دبب "، والصحاح مادة: " دبى "، والنهاية لابن الأثير 2 / 96.
(2) كشاف القناع 6 / 120، وصحيح مسلم بشرح النووي 1 / 185، والموسوعة الفقهية 5 / 21.
(3) النهاية لابن الأثير 1 / 448، والعناية بهامش فتح القدير 9 / 38 نشر دار إحياء التراث العربي، وكشاف القناع 6 / 120، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 390 نشر دار المعرفة.(20/233)
ب - الْمُزَفَّتُ:
3 - الْمُزَفَّتُ هُوَ الإِْنَاءُ الَّذِي طُلِيَ بِالزِّفْتِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْقَارِ، وَيُقَال لَهُ أَيْضًا: الْمُقَيَّرُ (1) .
ج - النَّقِيرُ.
4 - النَّقِيرُ هُوَ جِذْعُ النَّخْلَةِ يُنْقَرُ وَيُجْعَل ظَرْفًا كَالْقَصْعَةِ (2) .
وَهَذِهِ الأَْوْعِيَةُ كُلُّهَا تَشْتَرِكُ فِي أَنَّ مَا يُوضَعُ مِنَ الشَّرَابِ فِِيهَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ التَّخَمُّرُ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
الاِنْتِبَاذُ فِي الدُّبَّاءِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ) إِلَى جَوَازِ الاِنْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الاِنْتِبَاذِ فِيهَا إِنَّمَا كَانَ أَوَّلاً ثُمَّ نُسِخَ (4) ،
__________
(1) النهاية لابن الأثير 2 / 304، والعناية 9 / 38، وكشاف القناع 9 / 38، وعمدة القاري 21 / 171.
(2) حاشية العدوي على شرح الرسالة 2 / 390، وعمدة القاري 21 / 171، وصحيح مسلم بشرح النووي 1 / 185، والموسوعة الفقهية 5 / 21.
(3) الموسوعة الفقهية 1 / 122، والمنتقى 3 / 149، صحيح مسلم بشرح النووي 1 / 185
(4) الزيلعي 6 / 48، والبناية 9 / 553 - 554، وعمدة القاري 21 / 178، وصحيح مسلم بشرح النووي 1 / 185 - 186، 13 / 158 - 159، والمجموع 2 / 566 نشر السلفية، والمغني لابن قدامة 8 / 318، ونيل الأوطار 8 / 184 ط العثمانية، والموسوعة الفقهية 5 / 21.(20/234)
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الأَْشْرِبَةِ فِي ظُرُوفِ الأَْدَمِ فَاشْرَبُوا فِي كُل وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لاَ تَشْرَبُوا مُسْكِرًا وَفِي رِوَايَةٍ: نَهَيْتُكُمْ مِنَ الظُّرُوفِ وَإِنَّ الظُّرُوفَ - أَوْ ظَرْفًا - لاَ يُحِل شَيْئًا وَلاَ يُحَرِّمُهُ وَكُل مُسْكِرٍ حَرَامٌ. (1)
قَال النَّوَوِيُّ: كَانَ الاِنْتِبَاذُ فِي الْمُزَفَّتِ وَالدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَصِيرَ مُسْكِرًا فِيهَا، وَلاَ يُعْلَمُ بِهِ لِكَثَافَتِهَا فَتَتْلَفُ مَالِيَّتُهُ، وَرُبَّمَا شَرِبَهُ الإِْنْسَانُ ظَانًّا أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُسْكِرًا، فَيَصِيرُ شَارِبًا لِلْمُسْكِرِ، وَكَانَ الْعَهْدُ قَرِيبًا بِإِبَاحَةِ الْمُسْكِرِ فَلَمَّا طَال الزَّمَانُ وَاشْتَهَرَ تَحْرِيمُ الْمُسْكِرِ، وَتَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ، نُسِخَ النَّهْيُ وَأُبِيحَ لَهُمُ الاِنْتِبَاذُ فِي كُل وِعَاءٍ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَشْرَبُوا مُسْكِرًا، وَهَذَا صَرِيحُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ (2) .
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ إِلَى كَرَاهَةِ الاِنْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (3) ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الاِنْتِبَاذِ فِي
__________
(1) حديث بريدة: " كنت نهيتكم عن الأشربة " أخرجه مسلم (3 / 1585 - ط الحلبي) بروايتيه.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 13 / 159 ط المطبعة المصرية بالأزهر.
(3) بداية المجتهد 1 / 407، 408 ط المكتبة التجارية، ونيل الأوطار 8 / 184، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 390، والمغني 8 / 318، والبناية 9 / 554.(20/234)
الدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ وَالْحَنْتَمِ. (1)
وَيَرَى هَذَا الْفَرِيقُ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ النَّهْيَ الْمُتَقَدِّمَ الَّذِي نُسِخَ إِنَّمَا كَانَ نَهْيًا عَنِ الاِنْتِبَاذِ مُطْلَقًا، أَمَّا النَّهْيُ عَنِ الاِنْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَغَيْرِهَا مِنَ الأَْوْعِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ فَهُوَ بَاقٍ - عِنْدَهُمْ - سَدًّا لِلذَّرَائِعِ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْوْعِيَةَ تُعَجِّل شِدَّةَ النَّبِيذِ (2) . (ر: أَشْرِبَةٌ ف 18 ج 5 ص 21) .
هَذَا وَلِلتَّفْصِيل فِي تَطْهِيرِ الدُّبَّاءِ (3) وَغَيْرِهَا مِنَ الأَْوْعِيَةِ إِذَا اسْتُعْمِل فِيهَا الْخَمْرُ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (نَجَاسَةٌ) .
__________
(1) حديث: " نهى عن الانتباذ في الدباء والنقير. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1579 - الحلبي) من حديث عائشة.
(2) بداية المجتهد 1 / 408، ونيل الأوطار 8 / 184، وصحيح مسلم بشرح النووي 1 / 186.
(3) الزيلعي 6 / 48، والبناية 9 / 556، وفتح القدير 9 / 39.(20/235)
دُبُرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدُّبُرُ بِضَمَّتَيْنِ خِلاَفُ الْقُبُل. وَدُبُرُ كُل شَيْءٍ عَقِبَهُ. وَمِنْهُ يُقَال لآِخِرِ الأَْمْرِ دُبُرٌ. وَأَصْلُهُ مَا أَدْبَرَ عَنْهُ الإِْنْسَانُ. وَالدُّبُرُ الْفَرْجُ وَجَمْعُهُ أَدْبَارٌ. وَوَلاَّهُ دُبُرَهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْهَزِيمَةِ (1) . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} . (2)
وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا خِلاَفُ الْقُبُل مِنَ الإِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقُبُل:
2 - الْقُبُل بِضَمَّتَيْنِ وَبِسُكُونِ الْبَاءِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ فَرْجُ الإِْنْسَانِ مِنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى. وَقِيل هُوَ لِلأُْنْثَى خَاصَّةً. وَالْقُبُل مِنْ كُل شَيْءٍ خِلاَفُ دُبُرِهِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَالْقُبُل مُقَابِل الدُّبُرِ (3) .
ب - الْفَرْجُ:
3 - الْفَرْجُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْخَلَل بَيْنَ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب في المادة.
(2) سورة القمر / 45.
(3) المصباح واللسان في المادة.(20/235)
الشَّيْئَيْنِ، وَجَمْعُهُ فُرُوجٌ، وَالْفُرْجَةُ كَالْفَرْجِ، وَالْفَرْجُ الْعَوْرَةُ.
وَالْغَالِبُ اسْتِعْمَال الْفَرْجِ فِي الْقُبُل مِنَ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى. وَقَدْ يَشْمَل الْقُبُل وَالدُّبُرَ مَعًا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ (1)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالدُّبُرِ.
النَّظَرُ إِلَى الدُّبُرِ وَمَسُّهُ:
4 - الدُّبُرُ مِنَ الْعَوْرَةِ الْمُغَلَّظَةِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، فَلاَ يَجُوزُ كَشْفُهُ وَالنَّظَرُ إِلَيْهِ لِغَيْرِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، بِدُونِ ضَرُورَةٍ.
أَمَّا الزَّوْجَانِ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى جَوَازِ نَظَرِ الزَّوْجِ لِجَمِيعِ أَجْزَاءِ بَدَنِ الزَّوْجَةِ، كَمَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ مِنْهُ مَا أُبِيحَ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْهَا (2) .
وَصَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ بِكَرَاهَةِ النَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ مُطْلَقًا وَلَوْ مِنْ نَفْسِهِ بِلاَ حَاجَةٍ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْهُ وَلاَ رَأَى مِنِّي. (3)
__________
(1) المغرب والمصباح المنير ولسان العرب في المادة، وفتح القدير 2 / 265، وابن عابدين 2 / 100، وجواهر الإكليل 1 / 22، وحاشية الدسوقي 1 / 523، وحاشية الجمل 5 / 129، ومواهب الجليل 3 / 405، والمغني لابن قدامة 1 / 578.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 234، وجواهر الإكليل 1 / 275، وأسنى المطالب 3 / 112 - 113، ونهاية المحتاج 6 / 196، والمغني لابن قدامة 1 / 578.
(3) حديث عائشة: " ما رأيت منه ولا رأى مني " أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في أخلاق النبي (ص 251 - 252 - ط مطابع الهلالي بمصر) . وفي إسناده متهم بالكذب كما في الميزان للذهبي (4 / 11 - ط الحلبي) . وانظر نهاية المحتاج 6 / 196.(20/236)
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحَيْ: (عَوْرَةٌ، وَنَظَرٌ) .
نَقْضُ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الدُّبُرِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ الْقَوْل الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الدُّبُرِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نَفْسِهِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ بِحَائِلٍ أَمْ بِغَيْرِ حَائِلٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ حَلْقَةِ الدُّبُرِ بِبَاطِنِ الْكَفِّ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ نَفْسِهِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ أَنْ يَكُونَ الْمَسُّ بِتَلَذُّذٍ عِنْدَهُمْ.
وَكَذَا قَال الْحَنَابِلَةُ - فِي الْمُعْتَمَدِ - غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يُقَيِّدُوهُ بِبَاطِنٍ، بَل يُنْتَقَضُ بِمَسِّهِ بِظَهْرِ الْيَدِ أَوْ بَاطِنِهَا أَوْ حَرْفِهَا (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ (3) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 99، ومغني المحتاج 1 / 36، وكشاف القناع 8 / 128، والمغني 1 / 178 - 179.
(2) مغني المحتاج 1 / 35 - 36، وكشاف القناع 1 / 128.
(3) حديث: " من مس فرجه فليتوضأ " أخرجه ابن ماجه (1 / 162 - ط الحلبي) من حديث أم حبيبة، وصححه الإمام أحمد كما في التلخيص لابن حجر (1 / 124 ط شركة الطباعة الفنية) .(20/236)
بِيَدِهِ إِلَى فَرْجِهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سِتْرٌ أَوْ حِجَابٌ فَلْيَتَوَضَّأْ. (1)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ عِنْدَهُمْ بِمَسِّ الدُّبُرِ إِذَا كَانَ مِنْ نَفْسِهِ. أَمَّا مَسُّ دُبُرِ الْغَيْرِ فَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ حُكْمُ اللَّمْسِ، إِذَا الْتَذَّ بِهِ صَاحِبُهُ أَوْ قَصَدَ اللَّذَّةَ يُنْتَقَضُ، وَإِلاَّ لاَ يُنْتَقَضُ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَدَثٌ) .
الاِسْتِنْجَاءُ:
6 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي آدَابِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالاِسْتِنْجَاءِ أَنَّهُ يُنْدَبُ إِزَالَةُ مَا فِي الْمَحَل مِنْ أَذًى بِمَاءِ أَوْ حَجَرٍ بِالْيَدِ الْيُسْرَى، وَيُنْدَبُ إِعْدَادُ مُزِيل الأَْذَى مِنْ جَامِدٍ طَاهِرٍ أَوْ مَائِعٍ، كَمَا يُنْدَبُ اسْتِعْمَال الْجَامِدِ وِتْرًا، وَتَقْدِيمُ الْقُبُل عَلَى الدُّبُرِ احْتِرَازًا مِنْ تَنَجُّسِ يَدِهِ بِمَا عَلَى الْمَخْرَجِ (3) عَلَى خِلاَفٍ لِلْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الأُْمُورِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَيْ: " اسْتِنْجَاءٌ وَاسْتِجْمَارٌ ".
__________
(1) حديث: " إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه، وليس. . . . " أخرجه ابن حبان (الإحسان 2 / 222 - ط دار الكتب العلمية) من حديث أبي هريرة، وصححه.
(2) جواهر الإكليل 1 / 20 - 21.
(3) ابن عابدين 1 / 223، 226، وحاشية الدسوقي 1 / 105 - 106، ومغني المحتاج 1 / 43، 46، وكشاف القناع 1 / 60 - 62.(20/237)
أَثَرُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الدُّبُرِ:
7 - الْخَارِجُ الْمُعْتَادُ مِنَ الدُّبُرِ كَالنَّجَاسَةِ وَالرِّيحِ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا الْخَارِجُ غَيْرُ الْمُعْتَادِ كَالْحَصَى وَالدُّودِ وَالشَّعْرِ فَفِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ نُجْمِلُهُ فِيمَا يَأْتِي:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّهُ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ جَافًّا أَمْ مَبْلُولاً بِنَجَاسَةٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ: إِنَّ الْخَارِجَ غَيْرَ الْمُعْتَادِ كَحَصًى تَوَلَّدَ بِالْبَطْنِ، وَدُودٍ، لاَ يُنْقِضُ الْوُضُوءَ وَلَوْ مَبْلُولاً بِغَائِطٍ غَيْرِ مُتَفَاحِشٍ بِحَيْثُ يُنْسَبُ الْخُرُوجُ لِلْحَصَى وَالدُّودِ لاَ لِلْغَائِطِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ إِذَا كَانَ غَيْرَ نَقِيٍّ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي: (حَدَثٌ) .
أَثَرُ مَا يَدْخُل فِي دُبُرِ الصَّائِمِ:
8 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ وُصُول عَيْنٍ مِنَ الأَْعْيَانِ مِنَ الْخَارِجِ إِلَى الْجَوْفِ وَإِنْ قَلَّتْ أَوْ لَمْ تَكُنْ مِمَّا يُؤْكَل كَسِمْسِمَةٍ أَوْ حَصَاةٍ، وَلَوْ بِالْحُقْنَةِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 92، ومغني المحتاج 1 / 32 - 33، وكشاف القناع 1 / 122 و 124.
(2) جواهر الإكليل 1 / 19، 20، وحاشية الدسوقي 1 / 115.(20/237)
مُفْطِرٌ لِلصَّوْمِ، لأَِنَّ الصَّوْمَ إِمْسَاكٌ عَنْ كُل مَا يَصِل إِلَى الْجَوْفِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَمَا دَخَل فِي دُبُرِ الصَّائِمِ مِنْ خَشَبَةٍ أَوْ حَصَاةٍ وَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً وَغَيْرَ مَبْلُولَةٍ يُفْطِرُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَدْخَل أُصْبُعَهُ فِي دُبُرٍ جَافَّةً كَانَتْ أَمْ مَبْلُولَةً (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الصَّوْمُ يَفْسُدُ بِالدُّخُول، وَالْوُضُوءُ يُنْتَقَضُ بِالْخُرُوجِ، فَإِذَا أَدْخَل عُودًا جَافًّا وَلَمْ يُغَيِّبْهُ لاَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ مِنْ كُل وَجْهٍ. وَمِثْلُهُ الأُْصْبُعُ الْجَافَّةُ.
وَإِنْ غَيَّبَ الْعُودَ أَوْ نَحْوَهُ فَسَدَ وَإِنْ كَانَ جَافًّا لِتَحَقُّقِ الدُّخُول الْكَامِل.
وَكَذَلِكَ يَفْسُدُ الصَّوْمُ إِذَا أَدْخَل شَيْئًا مِنَ الْعُودِ أَوِ الأُْصْبُعِ فِي دُبُرِهِ مُبْتَلًّا، كَمَا فِي حَالَةِ الاِسْتِنْجَاءِ، لاِسْتِقْرَارِ الْبِلَّةِ فِي الْجَوْفِ. وَإِذَا أَدْخَلَهُمَا يَابِسَةً لاَ يَفْسُدُ الصَّوْمُ عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَهُمْ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ آلَةَ الْجِمَاعِ وَلاَ تُعْتَبَرُ دَاخِلَةً مِنْ كُل وَجْهٍ وَلَمْ تَنْقُل الْبِلَّةَ إِلَى الدَّاخِل (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَا وَصَل لِلْمَعِدَةِ مِنْ مَنْفَذٍ عَالٍ مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ مُتَحَلِّلاً أَمْ غَيْرَ مُتَحَلِّلٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ عَمْدًا أَمْ سَهْوًا. وَهَذَا هُوَ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 115 - 116، ومغني المحتاج 1 / 427 - 428، وكشاف القناع 2 / 318، والمغني لابن قدامة 3 / 105.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 101، 112، وحاشية الطحطاوي على الدر 1 / 85، 94، والبدائع 2 / 93، 94.(20/238)
الْمُخْتَارُ عِنْدَ اللَّخْمِيِّ. وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ إِلَى أَنَّ لِلْحَصَاةِ حُكْمَ الطَّعَامِ يُوجِبُ فِي السَّهْوِ الْقَضَاءَ، وَفِي الْعَمْدِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ مَنْفَذٍ سَافِلٍ - كَالدُّبُرِ مَثَلاً - فَلاَ يُفْسِدُ إِذَا كَانَ جَامِدًا، وَيُفْسِدُ إِذَا كَانَ مُتَحَلِّلاً، وَالْمُرَادُ بِالْمُتَحَلِّل الْمَائِعُ، أَيْ مَا يَنْمَاعُ وَلَوْ فِي الْمَعِدَةِ، بِخِلاَفِ غَيْرِ الْمُتَحَلِّل الَّذِي لاَ يَنْمَاعُ فِي الْمَعِدَةِ، كَدِرْهَمٍ وَحَصَاةٍ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْحُقْنَةَ مِنْ مَائِعٍ فِي الدُّبُرِ تُوجِبُ الْقَضَاءَ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ بِخِلاَفِ الْحُقْنَةِ بِالْجَامِدِ فَلاَ قَضَاءَ، كَمَا لاَ قَضَاءَ فِي فَتَائِل عَلَيْهَا دُهْنٌ لِخِفَّتِهَا (1) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (صَوْمٌ) .
الاِسْتِمْتَاعُ بِدُبُرِ الزَّوْجَةِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِجَوَازِ اسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ بِظَاهِرِ دُبُرِ زَوْجَتِهِ وَلَوْ بِغَيْرِ حَائِلٍ، بِشَرْطِ عَدَمِ الإِْيلاَجِ، لأَِنَّهُ كَسَائِرِ جَسَدِهَا، وَجَمِيعُهُ مُبَاحٌ، إِلاَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ الإِْيلاَجِ.
وَهَذَا فِي غَيْرِ الْحَائِضِ. أَمَّا فِي الْحَائِضِ فَقَيَّدُوا جَوَازَ الاِسْتِمْتَاعِ بِمَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهَا وَسُرَّتِهَا دُونَ الإِْيلاَجِ بِأَنْ يَكُونَ بِحَائِلٍ (2) . عَلَى خِلاَفٍ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 523 - 524، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25 / 233.
(2) ابن عابدين 5 / 194، 234، والمغني 7 / 23، وجواهر الإكليل 1 / 275، وأسنى المطالب 3 / 113، وكشاف القناع 5 / 189.(20/238)
وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَيْضٌ) .
الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ:
أ - وَطْءُ الذُّكُورِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الإِْتْيَانِ فِي دُبُرِ الرِّجَال، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِاللِّوَاطِ (1) ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ، وَعَابَ مَنْ فَعَلَهُ، فَقَال: {وَلُوطًا إِذْ قَال لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَال شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَل أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} . (2) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنِ اللَّهُ مَنْ عَمَل عَمَل قَوْمِ لُوطٍ ثَلاَثًا (3) .
وَفِي عُقُوبَةِ فَاعِلِهِ، وَالأَْحْكَامِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (لِوَاطٌ)
ب - وَطْءُ الأَْجْنَبِيَّةِ فِي دُبُرِهَا:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ إِتْيَانِ الأَْجْنَبِيَّةِ فِي
__________
(1) ابن عابدين 3 / 155، 156، وجواهر الإكليل 2 / 283، 285، وحاشية القليوبي 4 / 124، 179، والمغني 8 / 187، وكشاف القناع 6 / 94.
(2) سورة الأعراف 80، 81.
(3) حديث: " لعن الله من عمل عمل قوم لوط " أخرجه ابن حبان (الإحسان 6 / 299 - ط دار الكتب العلمية) ، وحسنه الذهبي في كتاب الكبائر (ص 81 - ط دار ابن كثير) .(20/239)
دُبُرِهَا، وَأَلْحَقَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ بِالزِّنَى فِي الْحُكْمِ (1) .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (زِنًى، لِوَاطٌ) .
ج - وَطْءُ الزَّوْجَةِ فِي دُبُرِهَا:
12 - لاَ يَحِل وَطْءُ الزَّوْجَةِ فِي الدُّبُرِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (وَطْءٌ) .
د - وَطْءُ الْبَهِيمَةِ وَالْحَيَوَانِ:
13 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ وَطْءِ الْحَيَوَانِ فِي دُبُرِهِ أَوْ قُبُلِهِ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (وَطْءٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 155 - 156، التاج والإكليل مع الحطاب 6 / 291، ومغني المحتاج 4 / 144، وكشاف القناع 6 / 94.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 155 - 156، والحطاب 3 / 407، ومغني المحتاج 4 / 143، وحاشية الجمل 5 / 129، والمغني 7 / 22، وكشاف القناع 5 / 188، 189.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 155، والحطاب مع المواق 6 / 293، ومغني المحتاج 4 / 145، والمغني لابن قدامة 8 / 188، 191.(20/239)
دُخَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - دُخَانُ النَّارِ مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ أَدْخِنَةٌ، وَدَوَاخِنُ، وَدَوَاخِينُ، يُقَال: دَخَنَتِ النَّارُ: ارْتَفَعَ دُخَانُهَا، وَدَخَنَتْ: إِذَا فَسَدَتْ بِإِلْقَاءِ الْحَطَبِ عَلَيْهَا حَتَّى هَاجَ دُخَانُهَا، وَقَدْ يَضَعُ الْعَرَبُ الدُّخَانَ مَوْضِعَ الشَّرِّ إِذَا عَلاَ، فَيَقُولُونَ: كَانَ بَيْنَنَا أَمْرٌ ارْتَفَعَ لَهُ دُخَانٌ. وَقَدْ قِيل: إِنَّ الدُّخَانَ قَدْ مَضَى (1) .
وَمِنْ إِطْلاَقَاتِهِ أَيْضًا: التَّبَغُ وَالْبُخَارُ (2) ، وَقَدْ مَرَّ تَفْصِيل أَحْكَامِهِمَا فِي مُصْطَلَحَيْ: " بُخَارٌ " " وَتَبَغٌ ".
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالدُّخَانِ:
دُخَانُ النَّجَاسَةِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي طَهَارَةِ الدُّخَانِ الْمُتَصَاعِدِ
__________
(1) مختار الصحاح، ولسان العرب المحيط، والصحاح في اللغة والعلوم مادة: " دخن ".
(2) لسان العرب المحيط، والصحاح في اللغة والعلوم مادة: " بخر " و " تبغ ".(20/240)
مِنَ النَّجَاسَةِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ دُخَانَ النَّجَاسَةِ طَاهِرٌ. قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيل الاِسْتِحْسَانِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَلِلضَّرُورَةِ وَتَعَذُّرِ التَّحَرُّزِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ دُخَانَ النَّجَاسَةِ كَأَصْلِهَا، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الرَّمْلِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ قَلِيلَهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَعَلَى هَذَا فَمَنِ اسْتَصْبَحَ بِدُهْنٍ نَجِسٍ، يُعْفَى عَمَّا يُصِيبُهُ مِنْ دُخَانِ الْمِصْبَاحِ لِقِلَّتِهِ.
وَأَمَّا عِنْدَ ابْنِ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيِّ فَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مُغَلَّظٍ، وَإِلاَّ فَلاَ يُعْفَى عَنْهُ قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيرًا (1) .
فَسَادُ الصَّوْمِ بِالدُّخَانِ:
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الصَّائِمَ لَوْ أَدْخَل فِي حَلْقِهِ الدُّخَانَ أَفْطَرَ، سَوَاءٌ كَانَ دُخَانَ تَبَغٍ، أَوْ عُودٍ، أَوْ عَنْبَرٍ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ إِذَا كَانَ ذَاكِرًا لِلصَّوْمِ. إِذْ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. وَأَمَّا إِذَا وَصَل
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 47، وابن عابدين 1 / 216 ط دار إحياء التراث العربي، وحاشية الدسوقي 1 / 57 - 58، ومواهب الجليل 1 / 106 - 107 ط دار الفكر، والإقناع للخطيب الشربيني 1 / 22، وحاشية الجمل 1 / 179 ط دار إحياء التراث العربي، ونهاية المحتاج 1 / 247 ط مصطفى البابي الحلبي، وأسنى المطالب 1 / 278، والمغني 1 / 72، وكشاف القناع 1 / 186.(20/240)
إِلَى حَلْقِهِ دُونَ قَصْدٍ، فَلاَ يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ، لِعَدَمِ إِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ، لأَِنَّهُ إِذَا أَطْبَقَ الْفَمَ، دَخَل مِنَ الأَْنْفِ.
وَفِي اسْتِنْشَاقِ الدُّخَانِ عَمْدًا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ، يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: " صَوْمٌ (1) ".
الْقَتْل بِالدُّخَانِ:
4 - مَنْ حَبَسَ شَخْصًا فِي بَيْتٍ وَسَدَّ مَنَافِذَهُ فَاجْتَمَعَ فِيهِ الدُّخَانُ وَضَاقَ نَفَسُهُ فَمَاتَ، فَفِيهِ الْقِصَاصُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ مَوْتَهُ، أَمَّا إِنْ قَصَدَ مُجَرَّدَ التَّعْذِيبِ فَالدِّيَةُ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَوَاعِدُهُمْ تَأْبَى وُجُوبَ الْقِصَاصِ (2) ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاصٌ، وَدِيَةٌ) .
إِيذَاءُ الْجَارِ بِالدُّخَانِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ فِي دَارِهِ تَنُّورًا لِلْخَبْزِ الدَّائِمِ كَمَا يَكُونُ فِي الدَّكَاكِينِ، يُمْنَعُ،
__________
(1) ابن عابدين 2 / 97، و5 / 295، وفتح القدير 2 / 258 ط دار إحياء التراث العربي، وشرح الزرقاني 2 / 204 ط دار الفكر، والدسوقي 1 / 525، والقليوبي 2 / 56، ونهاية المحتاج 3 / 169، وكشاف القناع 2 / 321.
(2) ابن عابدين 5 / 348 - 349 وما بعدها، والشرح الصغير 4 / 339، وروضة الطالبين 9 / 254، ومطالب أولي النهى 6 / 8.(20/241)
لأَِنَّهُ يَضُرُّ بِجِيرَانِهِ ضَرَرًا فَاحِشًا لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، إِذْ يَأْتِي مِنْهُ الدُّخَانُ الْكَثِيرُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَبِهِ قَال بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: إِلَى أَنَّهُ لاَ يُمْنَعُ، لأَِنَّهُ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ كَمَا لَوْ طَبَخَ فِي دَارِهِ أَوْ خَبَزَ فِيهَا.
أَمَّا دُخَانُ التَّنُّورِ الْمُعْتَادِ فِي الْبُيُوتِ، وَدُخَانُ الْخَبْزِ وَالطَّبِيخِ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ لاَ يُمْنَعُ، لأَِنَّ ضَرَرَهُ يَسِيرٌ، وَلاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَتَدْخُلُهُ الْمُسَامَحَةُ (1) .
وَإِذَا طَبَخَ الْجَارُ مَا يَصِل دُخَانُهُ أَوْ رَائِحَتُهُ إِلَى جَارِهِ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُهْدِيَهُ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي ذِكْرِ حُقُوقِ الْجَارِ، ذَكَرَ مِنْهَا: وَلاَ تُؤْذِهِ بِقُتَارِ رِيحِ قِدْرِكَ إِلاَّ أَنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا. (2)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 361، جواهر الإكليل 2 / 122، ونهاية المحتاج 5 / 337، والقليوبي 3 / 90.
(2) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: " ولا تؤذه بقتار ريح قدرك إلا أن تغرف له منها " ذكره المنذري في الترغيب (3 / 357 - ط الحلبي) وعزاه إلى مكارم الأخلاق للخرائطي، وصدره بصيغة التضعيف.(20/241)
دُخُولٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الدُّخُول فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ الْخُرُوجِ (1) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الاِنْفِصَال مِنَ الْخَارِجِ إِلَى الدَّاخِل (2) . وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْوَطْءِ عَلَى سَبِيل الْكِنَايَةِ. قَال الْمُطَرِّزِيُّ: سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَطْءُ مُبَاحًا أَوْ مَحْظُورًا (3) .
وَقَال الْفَيُّومِيُّ: " دَخَل بِامْرَأَتِهِ دُخُولاً، كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ أَوَّل مَرَّةٍ وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْوَطْءِ الْمُبَاحِ " وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} . (4)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخُرُوجُ:
2 - الْخُرُوجُ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ الدُّخُول. وَالْخُرُوجُ
__________
(1) لسان العرب المحيط مادة: " دخل ".
(2) الاختيار 4 / 54.
(3) كشاف القناع 5 / 72، والمغرب للمطرزي والمصباح للفيومي والمعجم الوسيط مادة: " دخل ".
(4) سورة النساء / 23.(20/242)
أَيْضًا: أَوَّل مَا يَنْشَأُ مِنَ السَّحَابِ، قَال الأَْخْفَشُ: يُقَال لِلْمَاءِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ السَّحَابِ: خُرُوجٌ (1) . فَالدُّخُول، وَالْخُرُوجُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل ضِدَّانِ، وَبِالْمَعْنَى الثَّانِي مُتَبَايِنَانِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - لِلدُّخُول بِإِطْلاَقَيْهِ أَحْكَامٌ تَعْتَرِيهِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ مَوَاطِنِهَا، وَاخْتِلاَفِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الدُّخُول. وَنُجْمِل أَهَمَّهَا فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: أَحْكَامُ الدُّخُول بِالإِْطْلاَقِ الأَْوَّل:
دُخُول الْمَسْجِدِ:
4 - يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ دُخُول الْمَسْجِدِ أَنْ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَيُؤَخِّرَ الْيُسْرَى عِنْدَ الدُّخُول، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ (2) وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ يُقَال: أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (3) وَبِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ صَل
__________
(1) لسان العرب المحيط، ومتن اللغة مادة " خرج ".
(2) دليل قوله: اللهم افتح لي أبواب رحمتك. حديث أبي حميد أو أبي أسيد أخرجه مسلم (1 / 494 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم ". أخرجه أبو داود (1 / 318 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمر، وجوّد إسناده النووي في الأذكار (ص 85 - ط دار ابن كثير) .(20/242)
عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ وَسَلِّمْ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ. (1) وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ صَلاَةُ رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: " مَسْجِدٌ ".
دُخُول مَكَّةَ:
5 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ دُخُول مَكَّةَ بِاخْتِلاَفِ الدَّاخِل: فَالآْفَاقِيُّ لاَ يَجُوزُ لَهُ دُخُولُهَا إِلاَّ مُحْرِمًا، سَوَاءٌ أَدَخَلَهَا حَاجًّا أَمْ مُعْتَمِرًا، وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا دَخَلَهَا لِغَيْرِ النُّسُكِ.
وَمَنْ كَانَ دَاخِل الْمِيقَاتِ فَلَهُ أَنْ يَدْخُل مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لِحَاجَتِهِ، لأَِنَّهُ يَتَكَرَّرُ دُخُولُهُ لِحَاجَتِهِ، وَأَمَّا لِلْحَجِّ فَلاَ يَجُوزُ لَهُ دُخُولُهَا مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ، لأَِنَّهُ لاَ يَتَكَرَّرُ، وَكَذَا لأَِدَاءِ الْعُمْرَةِ، لأَِنَّهُ الْتَزَمَهَا بِنَفْسِهِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: " إِحْرَامٌ ".
وَلاَ بَأْسَ بِدُخُول مَكَّةَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ نَهَارًا.
__________
(1) حديث: " بسم الله، اللهم صل على محمد " أخرجه الترمذي (2 / 128 - ط الحلبي) من حديث فاطمة، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 25 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وإسناداهما متكلم فيهما، إلا أنه يقوي أحدهما الآخر، وانظر: القوانين الفقهية / 55، والمجموع 2 / 179، والأذكار للنووي 32 - 33، والمغني 1 / 455.(20/243)
وَيُسْتَحَبُّ الدُّخُول مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ عِنْدَ دُخُول مَكَّةَ اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول عِنْدَ الدُّخُول الأَْدْعِيَةَ الْمَأْثُورَةَ (2) ،
وَتَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (حَجٌّ) (وَإِحْرَامٌ) .
دُخُول الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ الْمَسْجِدَ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ دُخُول الْمَسْجِدِ، وَالْمُكْثُ فِيهِ وَلَوْ بِوُضُوءٍ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْجُنُبِ سَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلاً أَمِ امْرَأَةً، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُيُوتُ أَصْحَابِهِ شَارِعَةً فِي الْمَسْجِدِ، فَقَال: وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ، فَإِنِّي لاَ أُحِل الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلاَ جُنُبٍ. (3)
وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ الدُّخُول فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا كَانَ لِلضَّرُورَةِ كَالْخَوْفِ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، أَوْ
__________
(1) حديث: " الدخول من باب بني شيبة عند دخول مكة " عزاه ابن حجر في التلخيص (2 / 243 - ط شركة الطباعة الفنية) إلى الطبراني من حديث عبد الله بن عمر، وأعله براو ضعيف في إسناده.
(2) الاختيار (1 / 141، 142، 145 ط دار المعرفة، وجواهر الإكليل 1 / 170، 179 ط مكة المكرمة، والقليوبي 2 / 101، 102 ط دار إحياء الكتب العربية، والمغني 3 / 368 - ط الرياض.
(3) حديث: " وجهوا هذه البيوت. . . " أخرجه أبو داود (1 / 158 - 159 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والبيهقي (2 / 442 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، ولمح البيهقي إلى تضعيفه.(20/243)
كَأَنْ يَكُونَ بَابُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَلاَ يُمْكِنُهُ تَحْوِيلُهُ وَلاَ السُّكْنَى فِي غَيْرِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي دُخُولِهِ مَارًّا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ دُخُولُهُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ وَلَوْ مَارًّا مِنْ بَابٍ لِبَابٍ. إِلاَّ أَنْ لاَ يَجِدَ بُدًّا فَيَتَيَمَّمُ وَيَدْخُل. وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يُمْنَعُ الْجُنُبُ مِنَ الْعُبُورِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْحَائِضَ إِذَا أَرَادَتْ الْعُبُورَ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنْ خَافَتْ تَلْوِيثَهُ حَرُمَ الْعُبُورُ عَلَيْهَا، وَإِنْ أَمِنَتِ التَّلْوِيثَ جَازَ الْعُبُورُ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تُمْنَعُ الْحَائِضُ مِنَ الْمُرُورِ فِي الْمَسْجِدِ إِنْ خَافَتْ تَلْوِيثَهُ (1) .
دُخُول الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ الْمَسْجِدَ:
7 - قَال النَّوَوِيُّ: يَجُوزُ إِدْخَال الصَّبِيِّ الْمَسْجِدَ وَإِنْ كَانَ الأَْوْلَى تَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عَمَّنْ لاَ يُؤْمَنُ مِنْهُ تَنْجِيسُهُ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِعَدَمِ جَوَازِ إِدْخَالِهِ الْمَسْجِدَ إِنْ
__________
(1) الاختيار 1 / 13، وابن عابدين 1 / 115، 194 ط دار إحياء التراث العربي، وفتح القدير 1 / 114، 115 ط الأميرية، وجواهر الإكليل 1 / 32 و 1 / 23، ونهاية المحتاج 1 / 218 ط مصطفى الحلبي، وروضة الطالبين 1 / 135 ط المكتب الإسلامي، ونيل المآرب 1 / 106، والمغني 1 / 140(20/244)
كَانَ لاَ يَكُفُّ عَنِ الْعَبَثِ إِذَا نُهِيَ عَنْهُ، وَإِلاَّ فَيُكْرَهُ. وَكَذَلِكَ الْمَجَانِينُ (1) ، لِمَا وَرَدَ مَرْفُوعًا: جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ، وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ، وَخُصُومَاتِكُمْ، وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ، وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ، وَسَل سُيُوفِكُمْ، وَاتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ. (2)
دُخُول الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ دُخُول الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ دُخُولُهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَلاَ يُكْرَهُ دُخُولُهُ غَيْرَهُ. إِلاَّ أَنَّ جَوَازَ الدُّخُول مُقَيَّدٌ بِالإِْذْنِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ جُنُبًا أَمْ لاَ، لأَِنَّهُ لاَ يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ. فَلَوْ جَلَسَ الْحَاكِمُ فِيهِ لِلْحُكْمِ، فَلِلذِّمِّيِّ دُخُولُهُ لِلْمُحَاكَمَةِ، وَيُنَزَّل جُلُوسُهُ مَنْزِلَةَ إِذْنِهِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَهُ مُطْلَقًا إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَل وَفْدَ ثَقِيفٍ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 441، وجواهر الإكليل 1 / 80، والمجموع 2 / 176، وروضة الطالبين 1 / 297، وتحفة الراكع والساجد للجراعي 204
(2) حديث: " جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم " أخرجه ابن ماجه (1 / 247 - ط الحلبي) من حديث واثلة بن الأسقع، وضعفه البوصيري في الزوائد (1 / 162 - ط دار الجنان) .(20/244)
فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانُوا كُفَّارًا، وَقَال: لَيْسَ عَلَى الأَْرْضِ مِنْ نَجَسِهِمْ شَيْءٌ (1) وَكَرِهَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، كَعِمَارَةٍ لَمْ تُمْكِنْ مِنْ مُسْلِمٍ، أَوْ كَانَتْ مِنَ الْكَافِرِ أَتْقَنَ (2) .
دُخُول الْحَمَّامِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ دُخُول الْحَمَّامِ مَشْرُوعٌ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ، لِمَا رُوِيَ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل الْحَمَّامَ وَتَنَوَّرَ (3) (اسْتَخْدَمَ النُّوْرَةَ) ، وَدَخَل خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَمَّامَ حِمْصَ، وَكَانَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ يَدْخُلاَنِ الْحَمَّامَ، وَلَكِنَّ إِبَاحَةَ الدُّخُول مُقَيَّدَةٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ، وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ كَوْنِ الدَّاخِل رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً (4) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: " حَمَّامٌ ".
__________
(1) حديث: " ليس على الأرض من نجسهم شيء " أورده الجصاص في أحكام القرآن (3 / 88 - نشر دار الكتاب العربي) بلفظ مقارب من حديث عثمان بن أبي العاص معلقًا، ورواه أبو داود في المراسيل (ص 80 - ط الرسالة) من حديث الحسن مرسلا بلفظ: " إن الأرض لا تنجس إنما ينجس ابن آدم ".
(2) الاختيار 4 / 166، وابن عابدين 1 / 115، و 5 / 248، وجواهر الإكليل 1 / 23، و1 / 383 - ط مكة المكرمة، والمجموع 2 / 174، وروضة الطالبين 1 / 296، 297، ونهاية المحتاج 1 / 218، 219، والمغني 8 / 532
(3) حديث: " دخل الحمام وتنور " أخرجه البيهقي (1 / 152 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ثوبان، وضعفه بقوله: " ليس بالمعروف بعض رجاله ".
(4) الفتاوى الهندية 1 / 13، والاختيار 4 / 168، وابن عابدين 5 / 31، والقوانين الفقهية / 433، 444، وحاشية البناني على هامش الزرقاني 7 / 45، وأسنى المطالب 1 / 72، والمغني 1 / 230، 231، والآداب الشرعية 3 / 337(20/245)
دُخُول الْخَلاَءِ:
10 - يُسَنُّ لِدَاخِل الْخَلاَءِ تَقْدِيمُ رِجْلِهِ الْيُسْرَى، وَيَقُول عِنْدَ الدُّخُول: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ. لأَِنَّ التَّسْمِيَةَ يَبْدَأُ بِهَا لِلتَّبَرُّكِ، ثُمَّ يَسْتَعِيذُ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: " قَضَاءُ الْحَاجَةِ ".
دُخُول مَكَانٍ فِيهِ مُنْكَرٌ:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الدُّخُول بِقَصْدِ الْمُكْثِ وَالْجُلُوسِ إِلَى مَحَلٍّ فِيهِ مُنْكَرٌ.
وَيَجِبُ الدُّخُول إِذَا كَانَ الْمُنْكَرُ يَزُول بِدُخُولِهِ لِنَحْوِ عِلْمٍ أَوْ جَاهٍ، لإِِزَالَةِ الْمُنْكَرِ (2) .
دُخُول الْمُسْلِمِ الْكَنِيسَةَ وَالْبِيعَةَ:
12 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ دُخُول الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ، لأَِنَّهُ مَجْمَعُ الشَّيَاطِينِ، لاَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الدُّخُول. وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي رَأْيٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ دُخُولُهَا
__________
(1) ابن عابدين 1 / 230، وجواهر الإكليل 1 / 18، والقليوبي 1 / 38، 41، 42، ونيل المآرب 1 / 51
(2) الاختيار 4 / 166، جواهر الإكليل 1 / 326، وقليوبي 4 / 235، الآداب الشرعية 3 / 440 - 441(20/245)
إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ، وَذَهَبَ الْبَعْضُ الآْخَرُ فِي رَأْيٍ آخَرَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِ دُخُول بِيعَةٍ وَكَنِيسَةٍ وَنَحْوِهِمَا وَالصَّلاَةَ فِي ذَلِكَ، وَعَنْ أَحْمَدَ يُكْرَهُ إِنْ كَانَ ثَمَّ صُورَةٌ، وَقِيل مُطْلَقًا، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الرِّعَايَةِ، وَقَال فِي الْمُسْتَوْعِبِ: وَتَصِحُّ صَلاَةُ الْفَرْضِ فِي الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَقَال ابْنُ تَمِيمٍ. لاَ بَأْسَ بِدُخُول الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ الَّتِي لاَ صُوَرَ فِيهَا، وَالصَّلاَةِ فِيهَا. وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: يُكْرَهُ كَالَّتِي فِيهَا صُوَرٌ، وَحَكَى فِي الْكَرَاهَةِ رِوَايَتَيْنِ. وَقَال فِي الشَّرْحِ. لاَ بَأْسَ بِالصَّلاَةِ فِي الْكَنِيسَةِ النَّظِيفَةِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى وَحَكَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَكَرِهَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَالِكٌ الصَّلاَةَ فِي الْكَنَائِسِ لأَِجْل الصُّوَرِ، وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: تُكْرَهُ الصَّلاَةُ فِيهَا لأَِنَّهُ كَالتَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيل لَهَا، وَقِيل: لأَِنَّهُ يَضُرُّ بِهِمْ (1) .
وَيُكْرَهُ دُخُول كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ نَيْرُوزِهِمْ وَمَهْرَجَانِهِمْ. قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ تَدْخُلُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ، فَإِنَّ السَّخْطَةَ تَنْزِل عَلَيْهِمْ (2)
دُخُول الْبُيُوتِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمَرْءِ دُخُول
__________
(1) ابن عابدين 5 / 248، وجواهر الإكليل 1 / 383، والقليوبي 4 / 235، والآداب الشرعية 3 / 440 - 441
(2) الآداب الشرعية 3 / 442(20/246)
بَيْتٍ مَسْكُونٍ غَيْرِ بَيْتِهِ إِلاَّ بَعْدَ الاِسْتِئْذَانِ وَالإِْذْنِ لَهُ بِالدُّخُول، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِئْذَانٌ) .
ثَانِيًا: أَحْكَامُ الدُّخُول بِالإِْطْلاَقِ الثَّانِي (الْوَطْءُ) :
أَثَرُ الدُّخُول فِي الْمَهْرِ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ سَمَّى مَهْرًا لَزِمَهُ بِالدُّخُول، لأَِنَّهُ تَحَقَّقَ بِهِ تَسْلِيمُ الْمُبْدَل، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُول لَزِمَهُ نِصْفُهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} . (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مَهْرٌ) .
أَثَرُ الدُّخُول فِي الْعِدَّةِ:
15 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الطَّلاَقَ إِذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُول، فَالْعِدَّةُ لِغَيْرِ الْحَامِل ثَلاَثَةُ قُرُوءٍ، أَوْ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ عَلَى حَسَبِ الأَْحْوَال، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} (2) وقَوْله تَعَالَى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ
__________
(1) سورة البقرة / 237 وانظر فتح القدير 3 / 234 ط دار إحياء التراث العربي، والاختيار 3 / 102، والقوانين الفقهية / 206، والقليوبي 3 / 220، ونيل المآرب 2 / 193، 195، 196
(2) سورة البقرة / 228(20/246)
نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} . (1)
وَعِدَّةُ الْحَامِل وَضْعُ حَمْلِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاَتُ الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2) وَعِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} . (3)
وَإِذَا كَانَ الطَّلاَقُ قَبْل الدُّخُول فَلاَ عِدَّةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} . (4) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عِدَّةٌ (5)) .
دَرْءُ الْحَدِّ
انْظُرْ: (شُبْهَةٌ، حُدُودٌ) .
__________
(1) سورة الطلاق / 4
(2) سورة الطلاق / 4
(3) سورة البقرة / 234
(4) سورة الأحزاب / 49
(5) الاختيار 3 / 172 - 173، والقوانين الفقهية 234، 235، والقليوبي 4 / 39، ونيل المآرب 2 / 272، 273(20/247)
دَرَاهِمُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّرَاهِمُ جَمْعُ دِرْهَمٍ، وَهُوَ لَفْظٌ مُعَرَّبٌ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ النَّقْدِ ضُرِبَ مِنَ الْفِضَّةِ كَوَسِيلَةٍ لِلتَّعَامُل، وَتَخْتَلِفُ أَنْوَاعُهُ وَأَوْزَانُهُ بِاخْتِلاَفِ الْبِلاَدِ الَّتِي تَتَدَاوَلُهُ وَتَتَعَامَل بِهِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّنَانِيرُ:
2 - الدَّنَانِيرُ جَمْعُ دِينَارٍ، وَهُوَ مُعَرَّبٌ، قَال أَبُو مَنْصُورٍ: دِينَارٌ أَصْلُهُ أَعْجَمِيٌّ غَيْرَ أَنَّ الْعَرَبَ تَكَلَّمَتْ بِهِ فَصَارَ عَرَبِيًّا.
وَالدِّينَارُ اسْمٌ لِلْقِطْعَةِ مِنَ الذَّهَبِ الْمَضْرُوبَةِ الْمُقَدَّرَةِ بِالْمِثْقَال (2) . فَهِيَ تَخْتَلِفُ عَنِ الدَّرَاهِمِ فِي أَنَّهَا مِنَ الذَّهَبِ فِي حِينِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ مِنَ الْفِضَّةِ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير والمعجم الوسيط والمغرب مادة: " دره ".
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، والأموال لأبي عبيد / 629، وفتوح البلدان / 451، ومقدمة ابن خلدون / 183(20/247)
ب - النَّقْدُ.
3 - لِلنَّقْدِ ثَلاَثَةُ مَعَانٍ فَيُطْلَقُ عَلَى الْحُلُول أَيْ خِلاَفِ النَّسِيئَةِ، وَعَلَى إِعْطَاءِ النَّقْدِ، وَعَلَى تَمَيُّزِ الدَّرَاهِمِ وَإِخْرَاجِ الزَّيْفِ مِنْهَا، وَمُطْلَقِ النَّقْدِ وَيُرَادُ بِهِ مَا ضُرِبَ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي يَتَعَامَل بِهَا النَّاسُ (1) .
ج - الْفُلُوسُ:
4 - الْفُلُوسُ جَمْعُ فَلْسٍ، وَتُطْلَقُ الْفُلُوسُ وَيُرَادُ بِهَا مَا ضُرِبَ مِنَ الْمَعَادِنِ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَصَارَتْ عُرْفًا فِي التَّعَامُل وَثَمَنًا بِاصْطِلاَحِ النَّاسِ (2) .
د - سِكَّةٌ:
5 - السَّكُّ: تَضْبِيبُ الْبَابِ أَوِ الْخَشَبِ بِالْحَدِيدِ. وَالسِّكَّةُ: حَدِيدَةٌ قَدْ كُتِبَ عَلَيْهَا، وَيُضْرَبُ عَلَيْهَا الدَّرَاهِمُ، وَهِيَ الْمَنْقُوشَةُ ثُمَّ نُقِل إِلَى أَثَرِهَا وَهِيَ النُّقُوشُ الْمَاثِلَةُ عَلَى الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ نُقِل إِلَى الْقِيَامِ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ الْوَظِيفَةُ فَصَارَ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير ومغني المحتاج 1 / 389، والمغني 4 / 54، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 179
(2) لسان العرب والمصباح المنير والبدائع 5 / 236، والشرح الصغير 1 / 218 ط الحلبي، والأحكام السلطانية لأبي يعلى / 179(20/248)
عَلَمًا عَلَيْهَا فِي عُرْفِ الدُّوَل، وَتُسَمَّى الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ سِكَّةً (1) .
الدِّرْهَمُ الإِْسْلاَمِيُّ وَكَيْفِيَّةُ تَحْدِيدِهِ وَتَقْدِيرِهِ:
6 - كَانَتِ الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ قَبْل الإِْسْلاَمِ مُتَعَدِّدَةً مُخْتَلِفَةَ الأَْوْزَانِ، وَكَانَتْ تَرِدُ إِلَى الْعَرَبِ مِنَ الأُْمَمِ الْمُجَاوِرَةِ فَكَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهَا، لاَ بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ بَل بِأَوْزَانٍ اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا، وَجَاءَ الإِْسْلاَمُ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى هَذِهِ الأَْوْزَانِ كَمَا جَاءَ فِي قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَزْنُ وَزْنُ أَهْل مَكَّةَ، وَالْمِكْيَال مِكْيَال أَهْل الْمَدِينَةِ. (2)
وَلَمَّا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى تَقْدِيرِ الدِّرْهَمِ فِي الزَّكَاةِ كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ وَزْنٍ مُحَدَّدٍ لِلدِّرْهَمِ يُقَدَّرُ النِّصَابُ عَلَى أَسَاسِهِ، فَجُمِعَتِ الدَّرَاهِمُ الْمُخْتَلِفَةُ الْوَزْنِ وَأُخِذَ الْوَسَطُ مِنْهَا، وَاعْتُبِرَ هُوَ الدِّرْهَمُ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ الَّذِي تَزِنُ الْعَشَرَةُ مِنْهُ سَبْعَةَ مَثَاقِيل مِنَ الذَّهَبِ، فَضُرِبَتِ الدَّرَاهِمُ الإِْسْلاَمِيَّةُ عَلَى هَذَا الأَْسَاسِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فُقَهَاءَ وَمُؤَرِّخِينَ،
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 183، وللماوردي ص 155، ومقدمة ابن خلدون / 183
(2) حديث: " الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة ". أخرجه أبو داود (3 / 633 - 634 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ابن عمر، وصححه الدارقطني والنووي كما في التلخيص لابن حجر (2 / 175) - ط شركة الطباعة الفنية) .(20/248)
لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْعَهْدِ الَّذِي تَمَّ فِيهِ هَذَا التَّحْدِيدُ، فَقِيل إِنَّ ذَلِكَ تَمَّ فِي عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَقِيل إِنَّ ذَلِكَ تَمَّ فِي عَهْدِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ تَمَّ فِي عَهْدِ عُمَرَ أَمْ فِي عَهْدِ بَنِي أُمَيَّةَ فَإِنَّ الدِّرْهَمَ الشَّرْعِيَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ الأَْمْرُ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي ضُرِبَ فِي عَهْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَكَانَ هُوَ أَسَاسَ التَّقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ.
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ وَالْمُؤَرِّخِينَ أَثْبَتُوا أَنَّ الدِّرْهَمَ الشَّرْعِيَّ لَمْ يَبْقَ عَلَى الْوَضْعِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الإِْجْمَاعُ فِي عَهْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ، بَل أَصَابَهُ تَغْيِيرٌ كَبِيرٌ فِي الْوَزْنِ وَالْعِيَارِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَصَارَ أَهْل كُل بَلَدٍ يَسْتَخْرِجُونَ الْحُقُوقَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ نَقْدِهِمْ بِمَعْرِفَةِ النِّسْبَةِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَقَادِيرِهَا الشَّرْعِيَّةِ إِلَى أَنْ قِيل: يُفْتَى فِي كُل بَلَدٍ بِوَزْنِهِمْ (1) .
وَنَشَأَ مِنْ ذَلِكَ اضْطِرَابٌ فِي مَعْرِفَةِ الأَْنْصِبَةِ، وَهَل تُقَدَّرُ بِالْوَزْنِ أَوْ بِالْعَدَدِ؟ وَأَصْبَحَ الْوُصُول
__________
(1) فتوح البلدان للبلاذري / 451 إلى 454، وهامش الأحكام السلطانية لأبي يعلى 175 - 178 والأحكام السلطانية للماوردي / 153 - 154، ومقدمة ابن خلدون / 183 - 184، والأموال لأبي عبيد / 629 - 630، وحاشية ابن عابدين 2 / 28 - 30، وبدائع الصنائع 2 / 16، والأبيّ شرح صحيح مسلم 3 / 109، والمجموع 5 / 474 - 476 تحقيق المطيعي، ومغني المحتاج 1 / 389، ونهاية المحتاج 3 / 84، والمغني 3 / 4 ط الرياض.(20/249)
إِلَى مَعْرِفَةِ الدِّينَارِ الشَّرْعِيِّ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ غَايَةً تَمْنَعُ هَذَا الاِضْطِرَابَ. وَإِلَى عَهْدٍ قَرِيبٍ لَمْ يَصِل الْفُقَهَاءُ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ حَتَّى أَثْبَتَ الْمُؤَرِّخُ عَلِيُّ بَاشَا مُبَارَكٌ - بِوَاسِطَةِ اسْتِقْرَاءِ النُّقُودِ الإِْسْلاَمِيَّةِ الْمَحْفُوظَةِ فِي دُورِ الآْثَارِ بِالدُّوَل الأَْجْنَبِيَّةِ - أَنَّ دِينَارَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَزِنُ 4، 25. جِرَامٍ مِنَ الذَّهَبِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ وَزْنُ الدِّرْهَمِ. 2، 975 جِرَامًا مِنَ الْفِضَّةِ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعْتَبَرُ مِعْيَارًا فِي اسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ زَكَاةٍ، وَدِيَةٍ، وَتَحْدِيدِ صَدَاقٍ، وَنِصَابِ سَرِقَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ (1) .
مَنْ يَتَوَلَّى ضَرْبَ الدَّرَاهِمِ:
7 - ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ وَظِيفَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لِلدَّوْلَةِ، إِذْ بِهَا يَتَمَيَّزُ الْخَالِصُ مِنَ الْمَغْشُوشِ بَيْنَ النَّاسِ فِي النُّقُودِ عِنْدَ الْمُعَامَلاَتِ، وَيُتَّقَى الْغِشُّ بِخَتْمِ السُّلْطَانِ عَلَيْهَا بِالنُّقُوشِ الْمَعْرُوفَةِ (2) . وَقَدْ قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: لاَ يَصْلُحُ ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ إِلاَّ فِي دَارِ الضَّرْبِ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ، لأَِنَّ النَّاسَ إِنْ رُخِّصَ لَهُمْ رَكِبُوا الْعَظَائِمَ، فَقَدْ مَنَعَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ مِنَ الضَّرْبِ بِغَيْرِ إِذْنِ السُّلْطَانِ لِمَا فِيهِ مِنَ الاِفْتِيَاتِ عَلَيْهِ (3) .
__________
(1) فقه الزكاة 1 / 253، والخراج للدكتور الريس / 352 - 354
(2) مقدمة ابن خلدون / 183
(3) الأحكام السلطانية لأبي يعلى / 181(20/249)
وَفِي الرَّوْضَةِ لِلنَّوَوِيِّ: يُكْرَهُ لِلرَّعِيَّةِ ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ وَإِنْ كَانَتْ خَالِصَةً، لأَِنَّ ضَرْبَ الدَّرَاهِمِ مِنْ شَأْنِ الإِْمَامِ (1) .
وَذَكَرَ الْبَلاَذُرِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أُتِيَ بِرَجُلٍ يَضْرِبُ عَلَى غَيْرِ سِكَّةِ السُّلْطَانِ فَعَاقَبَهُ وَسَجَنَهُ وَأَخَذَ حَدِيدَهُ فَطَرَحَهُ فِي النَّارِ، وَحَكَى الْبَلاَذُرِيُّ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ أَخَذَ رَجُلاً يَضْرِبُ عَلَى غَيْرِ سِكَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَأَرَادَ قَطْعَ يَدِهِ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَعَاقَبَهُ، قَال الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ: فَرَأَيْتُ مَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ شُيُوخِنَا حَسَّنُوا ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ (2) .
حُكْمُ كَسْرِ الدَّرَاهِمِ وَقَطْعِهَا:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ كَسْرِ الدَّرَاهِمِ وَقَطْعِهَا، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ إِلَى كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ مُطْلَقًا، لِحَاجَةٍ وَلِغَيْرِ حَاجَةٍ، لأَِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَسَادِ فِي الأَْرْضِ وَيُنْكَرُ عَلَى فَاعِلِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ كَسْرِ سِكَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْجَائِزَةِ بَيْنَهُمْ. (3)
وَالْكَرَاهَةُ عِنْدَ الإِْمَامِ أَحْمَدَ لِلتَّحْرِيمِ عَلَى مَا
__________
(1) الروضة للنووي 2 / 258، والمجموع 5 / 468
(2) فتوح البلدان للبلاذري عن طريق الواقدي / 455
(3) حديث: " نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم ". أخرجه ابن ماجه (2 / 761 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود، ونقل المناوي في فيض القدير (6 / 346 - ط المكتبة التجارية) عن العراقي وعبد الحق الأشبيلي أنهما ضعفاه.(20/250)
جَاءَ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَرِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ وَرِوَايَةِ حَرْبٍ - وَقَدْ سُئِل عَنْ كَسْرِ الدَّرَاهِمِ - فَقَال: هُوَ عِنْدِي مِنَ الْفَسَادِ فِي الأَْرْضِ وَكَرِهَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً. لَكِنَّهُ صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، قَال أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنِ الدَّرَاهِمِ تُقَطَّعُ فَقَال: لاَ، نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْرِ سِكَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقِيل لَهُ: فَمَنْ كَسَرَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ؟ قَال: لاَ، وَلَكِنْ قَدْ فَعَل مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال أَبُو يَعْلَى: وَقَوْلُهُ: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، مَعْنَاهُ لاَ مَأْثَمَ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَفُقَهَاءُ الْعِرَاقِ إِلَى أَنَّ كَسْرَهَا غَيْرُ مَكْرُوهٍ.
وَفَصَّل قَوْمٌ، فَقَال الشَّافِعِيُّ. إِنْ كَسَرَهَا لِحَاجَةٍ لَمْ يُكْرَهُ لَهُ، وَإِنْ كَسَرَهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ كُرِهَ لَهُ، لأَِنَّ إِدْخَال النَّقْصِ عَلَى الْمَال مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ سَفَهٌ.
وَاعْتَبَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ حَال الْبَلَدِ فَقَال: إِنَّ كَرَاهَةَ الْقَطْعِ مَحْمُولٌ عِنْدِي عَلَى بَلَدٍ لاَ يَجُوزُ فِيهِ الْقَطْعُ، وَلاَ يَنْفُقُ الْمَقْطُوعُ مِنَ الدَّرَاهِمِ نَفَاقَ الصَّحِيحِ.
وَاعْتَبَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَطْعَ السِّكَّةِ مَانِعًا مِنَ الشَّهَادَةِ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْمَوَّازِ: إِلاَّ أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلٍ، وَقَال عَنْهُ الْعُتْبِيُّ: لاَ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً.
وَقَال سَحْنُونُ: لَيْسَ قَطْعُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ بِجُرْحَةٍ.(20/250)
قَال بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَهَذَا الاِخْتِلاَفُ إِنَّمَا هُوَ إِذَا قَطَعَهَا وَهِيَ وَازِنَةٌ فَرَدَّهَا نَاقِصَةً وَالْبَلَدُ لاَ تَجُوزُ فِيهِ إِلاَّ وَازِنَةٌ، وَهِيَ تَجْرِي فِيهِ عَدَدًا بِغَيْرِ وَزْنٍ، فَانْتَفَعَ بِمَا قَطَعَ مِنْهَا، وَيُنْفِقُهَا بِغَيْرِ وَزْنٍ فَتُجْرَى مَجْرَى الْوَازِنَةِ، فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ ذَلِكَ جُرْحَةٌ، وَلَوْ قَطَعَهَا وَكَانَ التَّبَايُعُ بِهَا بِالْمِيزَانِ فَلاَ خِلاَفَ أَنَّ التَّبَايُعَ بِهَا لَيْسَ بِجُرْحَةٍ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ.
أَمَّا قَطْعُ الدَّرَاهِمِ لِصِيَاغَتِهَا حُلِيًّا لِلنِّسَاءِ، فَقَدْ قَال ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَقْطَعَ الرَّجُل الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ حُلِيًّا لِبَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ.
وَقَدْ مَنَعَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ أَنْ تُقْطَعَ لِلصِّيَاغَةِ، قَال فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ - وَقَدْ سَأَلَهُ عَنِ الرَّجُل يَقْطَعُ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ يَصُوغُ مِنْهَا - قَال: لاَ تَفْعَل، فِي هَذَا ضَرَرٌ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنْ يَشْتَرِي تِبْرًا مَكْسُورًا بِالْفِضَّةِ (1) .
إِنْفَاقُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِنْفَاقِ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ.
فَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ الشِّرَاءَ بِالدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ
__________
(1) الكافي لابن عبد البر 2 / 644، والتبصرة بهامش فتح العلي 1 / 219، والأحكام السلطانية للماوردي / 155 - 156، والأحكام السلطانية لأبي يعلى / 182 - 183، وفتوح البلدان للبلاذري / 455(20/251)
وَلاَ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا، بَل يَتَعَلَّقُ بِجِنْسِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ الزُّيُوفِ إِنْ كَانَ الْبَائِعُ يَعْلَمُ بِحَالِهَا خَاصَّةً لأَِنَّهُ رَضِيَ بِجِنْسِ الزُّيُوفِ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لاَ يَعْلَمُ لاَ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِجِنْسِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَيِّدِ مِنْ نَقْدِ تِلْكَ الْبَلَدِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَرْضَ إِلاَّ بِهِ إِذَا كَانَ لاَ يَعْلَمُ بِحَالِهَا.
وَيُجِيزُ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ تُبَاعَ لِمَنْ لاَ يَغُشُّ بِهَا النَّاسَ بَل لِمَنْ يُكَسِّرُهَا وَيَجْعَلُهَا حُلِيًّا أَوْ غَيْرَهُ.
فَإِنْ بَاعَ لِمَنْ يَغُشُّ بِهِ فُسِخَ الْبَيْعُ.
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ إِنْ عُلِمَ مِعْيَارُ الْفِضَّةِ فِي الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ صَحَّتِ الْمُعَامَلَةُ بِهَا مُعَيَّنَةً، وَفِي الذِّمَّةِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولاً فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، أَصَحُّهَا الصِّحَّةُ مُطْلَقًا، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ رَوَاجُهَا وَهِيَ رَائِجَةٌ، وَلِحَاجَةِ الْمُعَامَلَةِ بِهَا. . ثُمَّ قَال: وَمَنْ مَلَكَ دَرَاهِمَ مَغْشُوشَةً كُرِهَ لَهُ إِمْسَاكُهَا بَل يَسْبِكُهَا وَيُصَفِّيهَا، قَال الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: إِلاَّ إِنْ كَانَتْ دَرَاهِمُ الْبَلَدِ مَغْشُوشَةً فَلاَ يُكْرَهُ إِمْسَاكُهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ الْغِشُّ يَخْفَى لَمْ يَجُزِ التَّعَامُل بِهَا رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ: الْمَنْعُ وَالْجَوَازُ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (صَرْفٌ، رِبًا، غِشٌّ) .
__________
(1) البدائع 5 / 198، والشرح الصغير 2 / 22 ط الحلبي، ومغني المحتاج 1 / 390، والأحكام السلطانية لأبي يعلى / 179، والمغني 4 / 57(20/251)
مَسُّ الْمُحْدِثِ لِلدَّرَاهِمِ الَّتِي عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسِّ الْمُحْدِثِ - حَدَثًا أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ - الدَّرَاهِمَ الَّتِي عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ.
فَأَجَازَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَسَبَبُ الْجَوَازِ أَنَّهُ لاَ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ فَأَشْبَهَتْ كُتُبَ الْفِقْهِ، وَلأَِنَّ فِي الاِحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ مَشَقَّةً، وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَالْبَلْوَى تَعُمُّ فَعُفِيَ عَنْهُ.
مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ الدَّرَاهِمَ الَّتِي عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ كَالْوَرَقَةِ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا قُرْآنٌ.
وَكَرِهَ ذَلِكَ عَطَاءٌ وَالْقَاسِمُ وَالشَّعْبِيُّ لأَِنَّ الْقُرْآنَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا (1) .
دُخُول الْخَلاَءِ مَعَ حَمْل الدَّرَاهِمِ الَّتِي عَلَيْهَا اسْمُ اللَّهِ:
11 - يُكْرَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) البدائع 1 / 37، والهندية 1 / 339، والدسوقي 1 / 125، والمجموع 2 / 70 - 71، ومغني المحتاج 1 / 38، والمغني 1 / 148، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 180(20/252)
وَالشَّافِعِيَّةِ) دُخُول الْخَلاَءِ مَعَ حَمْل الدَّرَاهِمِ الَّتِي نُقِشَ عَلَيْهَا اسْمُ اللَّهِ أَوْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ، لَكِنْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنِ اتَّخَذَ الإِْنْسَانُ لِنَفْسِهِ مَبَالاً طَاهِرًا فِي مَكَانٍ طَاهِرٍ لاَ يُكْرَهُ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ مَسْتُورَةً بِشَيْءٍ أَوْ خَافَ عَلَيْهَا الضَّيَاعَ جَازَ الدُّخُول بِهَا.
وَاخْتَلَفَتِ الأَْقْوَال عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. فَجَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِدُخُول الْخَلاَءِ وَمَعَ الرَّجُل الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ عَلَيْهَا اسْمُ اللَّهِ، قَال أَحْمَدُ: أَرْجُو أَلاَّ يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ، وَفِي الْمُسْتَوْعِبِ إِنَّ إِزَالَةَ ذَلِكَ أَفْضَل، قَال فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ: ظَاهِرُ كَلاَمِ كَثِيرٍ مِنَ الأَْصْحَابِ أَنَّ حَمْل الدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهَا كَغَيْرِهَا فِي الْكَرَاهَةِ، وَذَكَرَ ابْنُ رَجَبٍ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ هَانِئٍ وَقَال فِي الدَّرَاهِمِ: إِذَا كَانَ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ أَوْ مَكْتُوبًا عَلَيْهِ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يُكْرَهُ أَنْ يُدْخَل اسْمُ اللَّهِ الْخَلاَءَ (1) .
التَّصْوِيرُ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهَا مِنَ النُّقُودِ:
12 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الصُّوَرَ الَّتِي عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ جَائِزَةٌ، وَعَلَّل الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ لِصِغَرِهَا وَعَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا مُمْتَهَنَةٌ. وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَصْوِيرٌ) ف - 57 (ج 12 122) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 323، والدسوقي 1 / 107، وأسنى المطالب 1 / 46، وكشاف القناع 1 / 59(20/252)
تَقْدِيرُ بَعْضِ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ بِالدَّرَاهِمِ:
حَدَّدَ الإِْسْلاَمُ مَقَادِيرَ مُعَيَّنَةً بِالدَّرَاهِمِ فِي بَعْضِ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - الزَّكَاةُ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نِصَابَ الْفِضَّةِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الإِْسْلاَمِ. وَقَدْ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ. (1)
وَالأُْوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا بِغَيْرِ خِلاَفٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ (2) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (زَكَاةٌ) .
ب - الدِّيَةُ:
14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ إِنْ كَانَتْ مِنَ الْفِضَّةِ فَإِنَّهَا تُقَدَّرُ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي عَدِيٍّ قُتِل،
__________
(1) حديث: " ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 323 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 675 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد.
(2) المغني 3 / 3(20/253)
فَجَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الدِّيَةَ بِالدَّرَاهِمِ تُقَدَّرُ بِعَشَرَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ بِعَشَرَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ (2) ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل الْمُسْلِمِ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (دِيَاتٌ) .
ج - السَّرِقَةُ:
15 - حَدَّدَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ النِّصَابَ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ السَّارِقُ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّرَاهِمِ بِثَلاَثَةِ دَرَاهِمَ، أَوْ مَا قِيمَتُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ. (4)
وَحَدَّدَ الْحَنَفِيَّةُ النِّصَابَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ،
__________
(1) حديث ابن عباس: " أن رجلا من بني عدي قتل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفًا ". أخرجه أبو داود (4 / 681 - 682 تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وصوب النسائي وابن حبان وغيرهما إرساله، كذا في نصب الراية للزيلعي (4 / 361 - ط المجلس العلمي) .
(2) حديث عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية في قتيل بعشرة آلاف درهم ". أورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 362 - ط المجلس العلمي) وقال: " غريب " يعني: أنه لا أصل له كما ذكر في مقدمة كتابه.
(3) المغني 7 / 759 - 760، والهداية 4 / 178
(4) حديث ابن عمر: " قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجن ثمنه ثلاثة دراهم ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 97 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1313 - ط الحلبي) .(20/253)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ يُقْطَعُ السَّارِقُ إِلاَّ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ.
(1) أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَدَّرُوا نِصَابَ السَّرِقَةِ بِرُبْعِ دِينَارٍ أَوْ مَا قِيمَتُهُ رُبْعُ دِينَارٍ (2) ، كَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْطَعُ السَّارِقَ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا. (3)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلاَتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي: (سَرِقَةٌ) .
د - الْمَهْرُ.
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَل يَتَقَدَّرُ أَقَل الصَّدَاقِ أَمْ لاَ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَقَل الصَّدَاقِ يَتَقَدَّرُ بِمَا تُقْطَعُ فِيهِ يَدُ السَّارِقِ، وَذَلِكَ مُقَدَّرٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِثَلاَثَةِ
__________
(1) حديث: " لا يقطع السارق إلا في عشرة دراهم " أخرجه الدارقطني (3 / 193 - ط دار المحاسن) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ونقل الزيلعي في نصب الراية (3 / 359 - ط المجلس العلمي) عن ابن عبد الهادي في التنقيح أنه أعله بعدم سماع الراوي عن عمرو بن شعيب منه.
(2) البدائع 7 / 77، وجواهر الإكليل 2 / 290، والمهذب 2 / 278، والمغني 8 / 242
(3) حديث عائشة: " كان يقطع السارق في ربع دينار فصاعدًا ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 96 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1312 - ط الحلبي) ، واللفظ لمسلم.(20/254)
دَرَاهِمَ، وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال. لاَ مَهْرَ دُونَ عَشَرَةٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ حَدَّ لأَِقَلِّهِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (صَدَاقٌ) .
اعْتِبَارُ وَزْنِ الدِّرْهَمِ الشَّرْعِيِّ فِي الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُقَدَّرَةِ بِالدَّرَاهِمِ:
17 - مَا حَدَّدَهُ الإِْسْلاَمُ فِي الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ مُقَدَّرًا بِالدَّرَاهِمِ، كَالزَّكَاةِ، وَالدِّيَةِ، وَنِصَابِ السَّرِقَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ الْوَزْنُ دُونَ الْعَدَدِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ الْوَزْنُ فِي الدَّرَاهِمِ دُونَ الْعَدَدِ، لأَِنَّ الدَّرَاهِمَ اسْمٌ لِلْمَوْزُونِ، لأَِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قَدْرٍ مِنَ الْمَوْزُونِ مُشْتَمِلٍ عَلَى جُمْلَةٍ مَوْزُونَةٍ مِنَ الدَّوَانِيقِ وَالْحَبَّاتِ، حَتَّى لَوْ كَانَ وَزْنُهَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ وَعَدَدُهَا مِائَتَانِ، أَوْ قِيمَتُهَا لِجَوْدَتِهَا وَصِيَاغَتِهَا تُسَاوِي مِائَتَيْنِ فَلاَ زَكَاةَ فِيهَا (2) . وَاعْتِبَارُ الْوَزْنِ فِي الدَّرَاهِمِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحُقُوقِ الْمُقَدَّرَةِ مِنْ قِبَل الشَّرْعِ، أَمَّا الْمُعَامَلاَتُ الَّتِي تَتِمُّ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ، وَإِجَارَةٍ، وَقَرْضٍ، وَرَهْنٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَلِكَ، وَإِنَّمَا
__________
(1) البدائع 2 / 275 - 276، والشرح الصغير 2 / 409 ط الحلبي، والمهذب 2 / 56، والمغني 6 / 680
(2) بدائع الصنائع 2 / 16، وابن عابدين 2 / 28 - 29، والمجموع للنووي 5 / 478 تحقيق المطيعي، والمغني 3 / 3(20/254)
يَجْرِي فِيهَا مَا يَتَعَامَل بِهِ النَّاسُ، وَلِذَلِكَ يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا أُطْلِقَ الدِّرْهَمُ فِي الْعَقْدِ انْصَرَفَ إِلَى الْمُتَعَارَفِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَطْلَقَ الْوَاقِفُ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهَا.
مَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالدَّرَاهِمِ وَمَا لاَ يَجُوزُ:
18 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ، هَل يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالدَّرَاهِمِ أَوْ لاَ يَجُوزُ؟ وَمِنْ ذَلِكَ مَثَلاً: إِجَارَةُ الدَّرَاهِمِ، أَوْ رَهْنُهَا، أَوْ وَقْفُهَا عَلَى الإِْقْرَاضِ، أَوْ عَلَى الْقِرَاضِ (الْمُضَارَبَةِ) أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
فَفِي الْوَقْفِ مَثَلاً يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: مَا لاَ يُمْكِنُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ كَالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ لاَ يَصِحُّ وَقْفُهُ فِي قَوْل عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَأَهْل الْعِلْمِ.
وَأَجَازَ مَالِكٌ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَقْفَهَا (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهَا.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 30
(2) المغني 5 / 640، وجواهر الإكليل 2 / 305، والمهذب 1 / 447(20/255)
دُرْدِيُّ الْخَمْرِ
انْظُرْ: أَشْرِبَةٌ
دَرَكٌ
انْظُرْ: ضَمَانُ الدَّرَكِ(20/255)
دُعَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الدُّعَاءُ لُغَةً مَصْدَرُ دَعَوْتُ اللَّهَ أَدْعُوهُ دُعَاءً وَدَعْوَى، أَيِ ابْتَهَلْتُ إِلَيْهِ بِالسُّؤَال وَرَغِبْتُ فِيمَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ. وَهُوَ بِمَعْنَى النِّدَاءِ يُقَال: دَعَا الرَّجُل دَعْوًا وَدُعَاءً أَيْ: نَادَاهُ، وَدَعَوْتُ فُلاَنًا صِحْتُ بِهِ وَاسْتَدْعَيْتُهُ، وَدَعَوْتُ زَيْدًا نَادَيْتُهُ وَطَلَبْتُ إِقْبَالَهُ. وَدَعَا الْمُؤَذِّنُ النَّاسَ إِلَى الصَّلاَةِ فَهُوَ دَاعِي اللَّهِ، وَالْجَمْعُ: دُعَاةٌ وَدَاعُونَ. وَدَعَاهُ يَدْعُوهُ دُعَاءً وَدَعْوَى: أَيْ: رَغِبَ إِلَيْهِ، وَدَعَا زَيْدًا: اسْتَعَانَهُ، وَدَعَا إِلَى الأَْمْرِ: سَاقَهُ إِلَيْهِ. (1)
وَالدُّعَاءُ فِي الاِصْطِلاَحِ: الْكَلاَمُ الإِْنْشَائِيُّ الدَّال عَلَى الطَّلَبِ مَعَ الْخُضُوعِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا سُؤَالاً. (2)
وَقَدْ قَال الْخَطَّابِيُّ: حَقِيقَةُ الدُّعَاءِ اسْتِدْعَاءُ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ الْعِنَايَةَ وَاسْتِمْدَادُهُ إِيَّاهُ الْمَعُونَةَ، وَحَقِيقَتُهُ إِظْهَارُ الاِفْتِقَارِ إِلَيْهِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الْحَوْل وَالْقُوَّةِ الَّتِي لَهُ، وَهُوَ سِمَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَإِظْهَارُ الذِّلَّةِ
__________
(1) لسان العرب المحيط، وتاج العروس، والمصباح المنير.
(2) قواعد الفقه للبركتي.(20/256)
الْبَشَرِيَّةِ، وَفِيهِ مَعْنَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَإِضَافَةُ الْجُودِ وَالْكَرَمِ إِلَيْهِ. (1)
2 - وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِمَعَانٍ مِنْهَا:
أ - الاِسْتِغَاثَةُ: كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قُل أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَل إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} . (2)
ب - الْعِبَادَةُ: كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} . (3) وقَوْله تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} . (4) وقَوْله تَعَالَى {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} . (5)
ج - النِّدَاءُ: وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} . (6) وَقَوْلُهُ: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} . (7)
د - الطَّلَبُ وَالسُّؤَال مِنَ اللَّهِ: وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي
__________
(1) إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين 5 / 27 - 28 دار الفكر.
(2) سورة الأنعام 40 - 41
(3) سورة الأعراف / 194
(4) سورة الكهف / 28
(5) سورة الكهف / 14
(6) سورة الإسراء / 52
(7) سورة القصص / 25(20/256)
قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} . (1) وقَوْله تَعَالَى
: {وَقَال رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} . (2)
وَيُوَافِقُ هَذَا الْمَعْنَى مَا يُقَال: دَعَوْتُ اللَّهَ أَدْعُوهُ دُعَاءً، أَيِ ابْتَهَلْتُ إِلَيْهِ بِالسُّؤَال، وَرَغِبْتُ فِيمَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَالدَّاعِي اسْمُ الْفَاعِل مِنَ الدُّعَاءِ، وَالْجَمْعُ دُعَاةٌ، وَدَاعُونَ، مِثْل قَاضٍ وَقُضَاةٌ وَقَاضُونَ. (3)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِغْفَارُ:
3 - الاِسْتِغْفَارُ فِي اللُّغَةِ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِالْقَوْل وَالْفِعْل، وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا يُسْتَعْمَل فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى.
وَالْمَغْفِرَةُ فِي الأَْصْل السَّتْرُ، وَالْمُرَادُ بِالاِسْتِغْفَارِ طَلَبُ التَّجَاوُزِ عَنِ الذَّنْبِ، فَالْمُسْتَغْفِرُ يَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْمَغْفِرَةَ، أَيْ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ وَالتَّجَاوُزَ عَنْهُ. (4) قَال تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} . (5)
وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الاِسْتِغْفَارِ وَالدُّعَاءِ الْعُمُومُ
__________
(1) سورة البقرة / 186
(2) سورة غافر / 60
(3) لسان العرب المحيط، والمصباح المنير
(4) البحر المحيط 5 / 301 طبع مطبعة السعادة.
(5) سور ة آل عمران / 135(20/257)
وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ، فَكُل اسْتِغْفَارٍ دُعَاءٌ، وَلَيْسَ كُل دُعَاءٍ اسْتِغْفَارًا. (1)
ب - الذِّكْرُ:
4 - الذِّكْرُ هُوَ التَّلَفُّظُ بِالشَّيْءِ وَإِحْضَارُهُ فِي الذِّهْنِ بِحَيْثُ لاَ يَغِيبُ عَنْهُ. (2)
وَذِكْرُ اللَّهِ بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ شَامِلٌ لِلدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ. وَبِالْمَعْنَى الأَْخَصِّ الَّذِي هُوَ تَمْجِيدُ اللَّهِ وَتَقْدِيسُهُ وَذِكْرُ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا مُبَايِنٌ لِلدُّعَاءِ، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (ذِكْرٌ) .
حُكْمُ الدُّعَاءِ:
5 - قَال النَّوَوِيُّ: إِنَّ الْمَذْهَبَ الْمُخْتَارَ الَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَالْمُحَدِّثُونَ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الطَّوَائِفِ كُلِّهَا مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ الدُّعَاءَ مُسْتَحَبٌّ. (3)
وَقَدْ يَكُونُ الدُّعَاءُ وَاجِبًا كَالدُّعَاءِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ. وَكَالدُّعَاءِ الْوَارِدِ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ، وَكَالدُّعَاءِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. ر: (صَلاَةٌ، صَلاَةُ الْجِنَازَةِ، خُطْبَةٌ) .
__________
(1) مدارج السالكين 1 / 308 طبع السنة المحمدية، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 3 / 460، وشرح ثلاثيات مسند أحمد 3 / 902
(2) قواعد الفقه للبركتي
(3) الأذكار ص 608 تحقيق محيي الدين.(20/257)
ثُمَّ هَل الأَْفْضَل الدُّعَاءُ أَمِ السُّكُوتُ وَالرِّضَا بِمَا سَبَقَ بِهِ الْقَدَرُ؟
نَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الْقُشَيْرِيِّ قَوْلَهُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّ الأَْفْضَل الدُّعَاءُ أَمِ السُّكُوتُ وَالرِّضَا؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَال: الدُّعَاءُ عِبَادَةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ. (1) وَلأَِنَّ الدُّعَاءَ إِظْهَارُ الاِفْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: السُّكُوتُ تَحْتَ جَرَيَانِ الْحُكْمِ أَتَمُّ، وَالرِّضَا بِمَا سَبَقَ بِهِ الْقَدَرُ أَوْلَى.
وَقَال قَوْمٌ: يَكُونُ صَاحِبَ دُعَاءٍ بِلِسَانِهِ وَرِضًا بِقَلْبِهِ لِيَأْتِيَ بِالأَْمْرَيْنِ جَمِيعًا. (2)
فَضْل الدُّعَاءِ:
6 - وَرَدَ فِي فَضْل الدُّعَاءِ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نُورِدُ بَعْضَهَا فِيمَا يَلِي:
قَال تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} . (3)
وَمَعْنَى الْقُرْبِ هُنَا كَمَا نُقِل عَنِ الزَّرْكَشِيِّ، أَنَّهُ إِذَا أَخْلَصَ فِي الدُّعَاءِ، وَاسْتَغْرَقَ فِي
__________
(1) حديث: " الدعاء هو العبادة " أخرجه أبو داود (2 / 161 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والترمذي (5 / 456 - ط الحلبي) من حديث النعمان بن بشير، وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".
(2) الأذكار ص 609
(3) سورة البقرة / 186(20/258)
مَعْرِفَةِ اللَّهِ، امْتَنَعَ أَنْ يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِّ وَاسِطَةٌ، وَذَلِكَ هُوَ الْقُرْبُ. (1)
وَقَال تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . (2)
وَقَال تَعَالَى: {قُل ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَْسْمَاءُ الْحُسْنَى} . (3)
وَقَال تَعَالَى: {وَقَال رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . (4)
وَرَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ. (5) ثُمَّ قَرَأَ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآْيَةَ.
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ (6)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُل إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ. (7)
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَيْسَ شَيْءٌ
__________
(1) إتحاف السادة المتقين 5 / 28
(2) سورة الأعراف / 55
(3) سورة الإسراء / 110
(4) سورة غافر / 60
(5) حديث: " إن الدعاء هو العبادة ". سبق تخريجه ف / 5
(6) حديث " الدعاء مخ العبادة ". أخرجه الترمذي (5 / 456 ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك، وقال: " هذا حديث غريب ".
(7) حديث: " إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه. . . " أخرجه الترمذي (5 / 557 - ط الحلبي) من حديث سلمان، وقال: " حديث حسن غريب ".(20/258)
أَكْرَم عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل مِنَ الدُّعَاءِ. (1)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا عَلَى الأَْرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ. (2)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَلُوا اللَّهَ تَعَالَى مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُسْأَل، وَأَفْضَل الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ. (3)
أَثَرُ الدُّعَاءِ:
7 - الدُّعَاءُ عِبَادَةٌ، وَلَهُ أَثَرٌ بَالِغٌ وَفَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْنَا الْحَقُّ عَزَّ وَجَل بِالدُّعَاءِ وَلَمْ يَرْغَبِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، فَكَمْ رُفِعَتْ مِحْنَةٌ بِالدُّعَاءِ، وَكَمْ مِنْ مُصِيبَةٍ أَوْ كَارِثَةٍ كَشَفَهَا اللَّهُ بِالدُّعَاءِ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ جُمْلَةً مِنَ الأَْدْعِيَةِ اسْتَجَابَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ النَّصْرِ فِي بَدْرٍ دُعَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث: " ليس شيء أكرم على الله من الدعاء ". أخرجه الترمذي (5 / 455 - ط الحلبي) وقال ابن القطان: " رواته كلهم ثقات، وما موضع في إسناده ينظر فيه إلا عمران، وفيه خلاف " كذا في فيض القدير (5 / 366 ط المكتبة التجارية) .
(2) حديث: " ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة " أخرجه الترمذي (5 / 566 - ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت، وقال: " حسن صحيح ".
(3) حديث: " سلوا الله تعالى من فضله " أخرجه الترمذي (5 / 565 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود، وقال الترمذي: " هكذا روى حماد بن واقد هذا الحديث، وليس بالحافظ " وانظر إتحاف السادة المتقين مع الإحياء 5 / 30(20/259)
وَالدُّعَاءُ سَبَبٌ أَكِيدٌ لِغُفْرَانِ الْمَعَاصِي، وَلِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، وَلِجَلْبِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ.
وَمَنْ تَرَكَ الدُّعَاءَ فَقَدْ سَدَّ عَلَى نَفْسِهِ أَبْوَابًا كَثِيرَةً مِنَ الْخَيْرِ.
وَقَال الْغَزَالِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا فَائِدَةُ الدُّعَاءِ وَالْقَضَاءُ لاَ مَرَدَّ لَهُ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْقَضَاءِ رَدُّ الْبَلاَءِ بِالدُّعَاءِ، فَالدُّعَاءُ سَبَبٌ لِرَدِّ الْبَلاَءِ وَاسْتِجْلاَبِ الرَّحْمَةِ، كَمَا أَنَّ التُّرْسَ سَبَبٌ لِرَدِّ السِّهَامِ، وَالْمَاءُ سَبَبٌ لِخُرُوجِ النَّبَاتِ مِنَ الأَْرْضِ، فَكَمَا أَنَّ التُّرْسَ يَدْفَعُ السَّهْمَ فَيَتَدَافَعَانِ، فَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ وَالْبَلاَءُ يَتَعَالَجَانِ.
وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الاِعْتِرَافِ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لاَ يُحْمَل السِّلاَحُ، وَقَدْ قَال تَعَالَى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (1) ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لاَ يَسْقِيَ الأَْرْضَ بَعْدَ بَثِّ الْبَذْرِ، فَيُقَال: إِنْ سَبَقَ الْقَضَاءُ بِالنَّبَاتِ نَبَتَ الْبَذْرُ وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ لَمْ يَنْبُتْ، بَل رَبْطُ الأَْسْبَابِ بِالْمُسَبَّبَاتِ هُوَ الْقَضَاءُ الأَْوَّل الَّذِي هُوَ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ، وَتَرْتِيبُ تَفْصِيل الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى تَفَاصِيل الأَْسْبَابِ عَلَى التَّدْرِيجِ وَالتَّقْدِيرُ هُوَ الْقَدَرُ، وَالَّذِي قَدَّرَ الْخَيْرَ قَدَّرَهُ بِسَبَبٍ، وَالَّذِي قَدَّرَ الشَّرَّ قَدَّرَ لِرَفْعِهِ سَبَبًا، فَلاَ تَنَاقُضَ بَيْنَ هَذِهِ الأُْمُورِ عِنْدَ مَنِ انْفَتَحَتْ بَصِيرَتُهُ.
__________
(1) سورة النساء / 102(20/259)
ثُمَّ فِي الدُّعَاءِ مِنَ الْفَائِدَةِ أَنَّهُ يَسْتَدْعِي حُضُورَ الْقَلْبِ مَعَ اللَّهِ وَهُوَ مُنْتَهَى الْعِبَادَاتِ، وَلِذَلِكَ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ. (1)
وَالْغَالِبُ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ لاَ تَنْصَرِفَ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل إِلاَّ عِنْدَ إِلْمَامِ حَاجَةٍ وَإِرْهَاقِ مُلِمَّةٍ، فَإِنَّ الإِْنْسَانَ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ.
فَالْحَاجَةُ تُحْوِجُ إِلَى الدُّعَاءِ، وَالدُّعَاءُ يَرُدُّ الْقَلْبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل بِالتَّضَرُّعِ وَالاِسْتِكَانَةِ، فَيَحْصُل بِهِ الذِّكْرُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْعِبَادَاتِ.
وَلِذَلِكَ صَارَ الْبَلاَءُ مُوَكَّلاً بِالأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ، ثُمَّ الأَْوْلِيَاءِ، ثُمَّ الأَْمْثَل فَالأَْمْثَل، لأَِنَّهُ يَرُدُّ الْقَلْبَ بِالاِفْتِقَارِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل، وَيَمْنَعُ مِنْ نِسْيَانِهِ، وَأَمَّا الْغِنَى فَسَبَبٌ لِلْبَطَرِ فِي غَالِبِ الأُْمُورِ، فَإِنَّ الإِْنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى. (2)
وَقَال الْخَطَّابِيُّ: فَإِنْ قِيل فَمَا تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (3) وَهُوَ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلاَ يَجُوزُ وُقُوعُ الْخُلْفِ فِيهِ؟ قِيل هَذَا مُضْمَرٌ فِيهِ الْمَشِيئَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَل إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} (4)
__________
(1) حديث: " الدعاء مخ العبادة ". سبق تخريجه ف / 6
(2) إحياء علوم الدين 1 / 336 - 337، 339 ط الاستقامة بالقاهرة.
(3) سورة غافر / 60
(4) سورة الأنعام / 41(20/260)
وَقَدْ يَرِدُ الْكَلاَمُ بِلَفْظٍ عَامٍّ مُرَادُهُ خَاصٌّ، وَإِنَّمَا يُسْتَجَابُ مِنَ الدُّعَاءِ مَا وَافَقَ الْقَضَاءَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لاَ تَظْهَرُ لِكُل دَاعٍ اسْتِجَابَةُ دُعَائِهِ، فَعَلِمْتَ أَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْهُ بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ. وَقَدْ قِيل: مَعْنَى الاِسْتِجَابَةِ: أَنَّ الدَّاعِيَ يُعَوَّضُ مِنْ دُعَائِهِ عِوَضًا مَا، فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ إِسْعَافًا بِطَلَبَتِهِ الَّتِي دَعَا لَهَا، وَذَلِكَ إِذَا وَافَقَ الْقَضَاءَ، فَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْهُ الْقَضَاءُ، فَإِنَّهُ يُعْطَى سَكِينَةً فِي نَفْسِهِ، وَانْشِرَاحًا فِي صَدْرِهِ، وَصَبْرًا يَسْهُل مَعَهُ احْتِمَال ثِقَل الْوَارِدَاتِ عَلَيْهِ، وَعَلَى كُل حَالٍ فَلاَ يَعْدَمُ فَائِدَةَ دُعَائِهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الاِسْتِجَابَةِ. (1)
آدَابُ الدُّعَاءِ:
8 - أ - أَنْ يَكُونَ مَطْعَمُ الدَّاعِي وَمَسْكَنُهُ وَمَلْبَسُهُ وَكُل مَا مَعَهُ حَلاَلاً. (2) بِدَلِيل مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لاَ يَقْبَل إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُل كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} (3) وَقَال تَعَالَى:
__________
(1) شأن الدعاء للخطابي ص 12 - 13 دمشق دار المأمون للتراث.
(2) إحياء علوم الدين للغزالي 1 / 312 وما بعدها والبركة في فضل السعي والحركة 3 / 4 وما بعدها، تحفة الذاكرين ص 34 وما بعدها
(3) سورة المؤمنون / 51(20/260)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (1) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُل يُطِيل السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ. (2)
ب - أَنْ يَتَرَصَّدَ لِدُعَائِهِ الأَْوْقَاتَ الشَّرِيفَةَ كَيَوْمِ عَرَفَةَ مِنَ السَّنَةِ، وَرَمَضَانَ مِنَ الأَْشْهُرِ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنَ الأُْسْبُوعِ، وَوَقْتَ السَّحَرِ مِنْ سَاعَاتِ اللَّيْل. قَال تَعَالَى: {وَبِالأَْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (3) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَنْزِل اللَّهُ تَعَالَى كُل لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْل الآْخِرُ يَقُول: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ. (4)
ج - أَنْ يَغْتَنِمَ الأَْحْوَال الشَّرِيفَةَ. قَال أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ تُفْتَحُ عِنْدَ زَحْفِ الصُّفُوفِ فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى، وَعِنْدَ نُزُول الْغَيْثِ، وَعِنْدَ إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، فَاغْتَنِمُوا الدُّعَاءَ فِيهَا. وَقَال مُجَاهِدٌ: إِنَّ الصَّلاَةَ جُعِلَتْ فِي خَيْرِ السَّاعَاتِ فَعَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ خَلْفَ
__________
(1) سورة البقرة / 172
(2) حديث: " أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا ". أخرجه مسلم (2 / 703 - ط الحلبي) .
(3) سورة الذاريات / 18
(4) حديث: " ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 29 - ط السلفية) ومسلم (1 / 521 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(20/261)
الصَّلَوَاتِ. وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُرَدُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ الأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ. (1) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا: الصَّائِمُ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُ (2)
وَبِالْحَقِيقَةِ يَرْجِعُ شَرَفُ الأَْوْقَاتِ إِلَى شَرَفِ الْحَالاَتِ أَيْضًا، إِذْ وَقْتُ السَّحَرِ وَقْتُ صَفَاءِ الْقَلْبِ وَإِخْلاَصِهِ وَفَرَاغِهِ مِنَ الْمُشَوِّشَاتِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقْتُ اجْتِمَاعِ الْهِمَمِ وَتَعَاوُنِ الْقُلُوبِ عَلَى اسْتِدْرَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل، فَهَذَا أَحَدُ أَسْبَابِ شَرَفِ الأَْوْقَاتِ سِوَى مَا فِيهَا مِنْ أَسْرَارٍ لاَ يَطَّلِعُ الْبَشَرُ عَلَيْهَا. وَحَالَةُ السُّجُودِ أَيْضًا أَجْدَرُ بِالإِْجَابَةِ، قَال أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَل وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ (3)
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ تَعَالَى، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ
__________
(1) حديث: " لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة " أخرجه أبو داود (1 / 358 - 359 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أنس بن مالك، وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية (2 / 135 - ط المنيرية) .
(2) حديث: " الصائم لا ترد دعوته " أخرجه الترمذي (5 / 578 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال: " حديث حسن ".
(3) حديث: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ". أخرجه مسلم (1 / 350 - ط الحلبي) .(20/261)
أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ. (1)
د - أَنْ يَدْعُوَ مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ وَيَرْفَعَ يَدَيْهِ بِحَيْثُ يُرَى بَيَاضُ إِبِطَيْهِ. رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَوْقِفَ بِعَرَفَةَ وَاسْتَقْبَل الْقِبْلَةَ وَلَمْ يَزَل يَدْعُو حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ. (2) وَقَال سَلْمَانُ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا (3) وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّهُ رَأَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطَيْهِ. (4)
هـ - أَنْ يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ فِي آخِرِ الدُّعَاءِ. قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَدَّ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَرُدَّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ. (5) وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَعَا
__________
(1) حديث: " إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا " أخرجه مسلم (1 / 348 - ط الحلبي) .
(2) حديث جابر: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الموقف بعرفة ". أخرجه مسلم (2 / 890 - ط الحلبي) دون قوله: " يدعو " فقد أخرجه من حديث أسامة بن زيد؛ النسائيُّ (5 / 254 - ط المكتبة التجارية) ، وقال العراقي: " رجاله ثقات ". كذا في تخريجه لأحاديث إحياء علوم الدين (1 / 313 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه. . . . " سبق تخريجه ف / 6
(4) حديث أنس: " أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء ". أخرجه مسلم (2 / 612 - ط الحلبي) .
(5) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مد يديه في الدعاء لم يردهما ". أخرجه الترمذي (5 / 464 - ط الحلبي) ، وضعفه العراقي في تخريج إحياء علوم الدين (1 / 313) .(20/262)
ضَمَّ كَفَّيْهِ وَجَعَل بُطُونَهُمَا مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ. (1)
فَهَذِهِ هَيْئَاتُ الْيَدِ، وَلاَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ. قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ عِنْدَ الدُّعَاءِ فِي الصَّلاَةِ إِلَى السَّمَاءِ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ. (2)
و خَفْضُ الصَّوْتِ بَيْنَ الْمُخَافَتَةِ وَالْجَهْرِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} ، (3)
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَْشْعَرِيَّ قَال: قَدِمْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ كَبَّرَ، وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ: ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَيْسَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَالَّذِي تَدْعُونَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَةِ أَحَدِكُمْ (4) وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَل:
__________
(1) حديث: " كان صلى الله عليه وسلم إذا دعا ضم كفيه وجعل بطونهما. . . . " أخرجه الطبراني (11 / 435 - ط وزارة الأوقاف العراقية) وضعف إسناده العراقي في تخريجه لإحياء علوم الدين (1 / 313 - ط الحلبي) ولكن له شواهد تقويه.
(2) حديث: " لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم " أخرجه مسلم (1 / 321 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) سورة الأعراف / 55
(4) حديث: " يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم؛ إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، والذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 135 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2076 - 2077 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.(20/262)
{وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} (1) أَيْ بِدُعَائِك، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَل عَلَى نَبِيِّهِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (2)
ز - أَنْ لاَ يَتَكَلَّفَ السَّجْعَ فِي الدُّعَاءِ فَإِنَّ حَال الدَّاعِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَال مُتَضَرِّعٍ، وَالتَّكَلُّفُ لاَ يُنَاسِبُهُ. قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ، (3) وَقَدْ قَال عَزَّ وَجَل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ، وَقِيل مَعْنَاهُ التَّكَلُّفُ لِلأَْسْجَاعِ، وَالأَْوْلَى أَنْ لاَ يُجَاوِزَ الدَّعَوَاتِ الْمَأْثُورَةَ، فَإِنَّهُ قَدْ يَعْتَدِي فِي دُعَائِهِ فَيَسْأَل مَا لاَ تَقْتَضِيهِ مَصْلَحَتُهُ، فَمَا كُل أَحَدٍ يُحْسِنُ الدُّعَاءَ، وَلِلْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَانْظُرِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ، فَإِنِّي عَهِدْتُ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ ذَلِكَ. (4)
ح - التَّضَرُّعُ وَالْخُشُوعُ وَالرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ
__________
(1) سورة الإسراء / 110
(2) سورة مريم / 3
(3) حديث: " سيكون قوم يعتدون في الدعاء ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1271 - ط الحلبي) والحاكم (1 / 540 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن مغفل، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) حديث ابن عباس: " انظر السجع في الدعاء فاجتنبه ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 138 - ط السلفية) .(20/263)
وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} (1) وَقَال عَزَّ وَجَل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} .
ط - أَنْ يَجْزِمَ الدُّعَاءَ وَيُوقِنَ بِالإِْجَابَةِ. قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لاَ مُسْتَكْرِهَ لَهُ. (2) وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ. (3) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِْجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ. (4) وَقَال سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ مِنَ الدُّعَاءِ مَا يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل أَجَابَ دُعَاءَ شَرِّ الْخَلْقِ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ إِذْ {قَال رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَال فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} . (5)
__________
(1) سورة الأنبياء / 90
(2) حديث: " لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 139 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 2063 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء " أخرجه ابن حبان (الإحسان 2 / 127 - ط دار الكتب العلمية) من حديث أبي هريرة، وأصله في صحيح مسلم (4 / 2063 - ط الحلبي) .
(4) حديث: " ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة " أخرجه الترمذي (5 / 517 - ط الحلبي) والحاكم (1 / 493 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة، وضعف الذهبي إسناده لضعف أحد رواته.
(5) سورة الحجر / 36(20/263)
ي - أَنْ يُلِحَّ فِي الدُّعَاءِ وَيُكَرِّرَهُ ثَلاَثًا. قَال ابْنُ مَسْعُودٍ: كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلاَثًا، وَإِذَا سَأَل سَأَل ثَلاَثًا. (1)
ك - أَنْ لاَ يَسْتَبْطِئَ الإِْجَابَةَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُسْتَجَابُ لأَِحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَل، يَقُول قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي. فَإِذَا دَعَوْتَ فَاسْأَل اللَّهَ كَثِيرًا فَإِنَّكَ تَدْعُو كَرِيمًا. (2)
ل - أَنْ يَفْتَتِحَ الدُّعَاءَ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل وَبِالصَّلاَةِ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْحَمْدِ لِلَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَيَخْتِمَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ أَيْضًا، لِمَا وَرَدَ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَال: سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً يَدْعُو فِي صَلاَتِهِ لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ وَلَمْ يُصَل عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَجِل هَذَا ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَال لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ. (3) وَدَلِيل خَتْمِهِ بِذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى:
__________
(1) حديث: " كان عليه السلام إذا دعا دعا ثلاثًا ". أخرجه مسلم (3 / 1418 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود.
(2) حديث: " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 140 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2095 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 162 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية (3 / 62 - ط المنيرية) .(20/264)
{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1)
وَأَمَّا الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَجْعَلُونِي كَقَدَحِ الرَّاكِبِ يَجْعَل مَاءَهُ فِي قَدَحِهِ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ شَرِبَهُ، وَإِلاَّ صَبَّهُ، اجْعَلُونِي فِي أَوَّل كَلاَمِكُمْ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ. (2)
م - وَهُوَ الأَْدَبُ الْبَاطِنُ، وَهُوَ الأَْصْل فِي الإِْجَابَةِ:
التَّوْبَةُ وَرَدُّ الْمَظَالِمِ وَالإِْقْبَال عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل بِكُنْهِ الْهِمَّةِ، فَذَلِكَ هُوَ السَّبَبُ الْقَرِيبُ فِي الإِْجَابَةِ.
الدُّعَاءُ مَعَ التَّوَسُّل بِصَالِحِ الْعَمَل:
9 - يُسْتَحَبُّ لِمَنْ وَقَعَ فِي شِدَّةٍ أَنْ يَدْعُوَ بِصَالِحِ عَمَلِهِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَل فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ. قَال رَجُلٌ مِنْهُمْ. . . الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَهُوَ مَذْكُورٌ ضِمْنَ بَحْثِ (تَوَسُّلٌ - ف 7) (3)
__________
(1) سورة يونس / 10
(2) حديث: " لا تجعلوني كقدح الراكب. . . . " أخرجه ابن النجار في ذيل تاريخ بغداد كما في كنز العمال (1 / 509 - ط الرسالة) من حديث جابر بن عبد الله.
(3) حديث: " انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 449 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2099 - ط الحلبي) . وانظر الأذكار ص 612 دار ابن كثير بدمشق.(20/264)
تَعْمِيمُ الدُّعَاءِ:
10 - يُسْتَحَبُّ تَعْمِيمُ الدُّعَاءِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: (1) يَا عَلِيُّ عَمِّمْ (2) وَلِحَدِيثِ: مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَدْعُ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فَهِيَ خِدَاجٌ (3) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلاً يَقُول: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، فَقَال: وَيْحَكَ لَوْ عَمَّمْتَ لاَسْتُجِيبَ لَكَ (4)
الاِعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ:
11 - نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الاِعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (5) وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ.
(6) قَال الْقُرْطُبِيُّ: الْمُعْتَدِي هُوَ الْمُجَاوِزُ لِلْحَدِّ وَمُرْتَكِبُ الْحَظْرِ، وَقَدْ يَتَفَاضَل بِحَسَبِ مَا يُعْتَدَى فِيهِ، ثُمَّ قَال: وَالاِعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى وُجُوهٍ:
__________
(1) كشاف القناع 1 / 367
(2) حديث: " يا علي عمم. . . " أورده صاحب كشاف القناع (1 / 365 - ط عالم الكتب) ولم يعزه للمصدر الذي أخرجه، ولم نهتد إليه في المصادر الموجودة بين أيدينا.
(3) حديث: " من صلى صلاة لم يدع فيها للمؤمنين. . . " لم نهتد إليه في المصادر الحديثية الموجودة بين أيدينا.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 350 ط بولاق. وحديث: " لو عممت لاستجيب لك ". لم نهتد إليه في المصادر الحديثية الموجودة بين أيدينا.
(5) سورة الأعراف / 55
(6) حديث: " سيكون قوم يعتدون في الدعاء ". سبق تخريجه ف / 8(20/265)
مِنْهَا الْجَهْرُ الْكَثِيرُ وَالصِّيَاحُ، وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ أَنْ تَكُونَ لَهُ مَنْزِلَةُ نَبِيٍّ، أَوْ يَدْعُوَ بِمُحَالٍ وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الشَّطَطِ. وَمِنْهَا أَنْ يَدْعُوَ طَالِبًا مَعْصِيَةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ. (1)
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَحْرُمُ سُؤَال الْعَافِيَةِ مَدَى الدَّهْرِ، وَالْمُسْتَحِيلاَتِ الْعَادِيَّةِ كَنُزُول الْمَائِدَةِ، وَالاِسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّنَفُّسِ فِي الْهَوَاءِ، أَوْ ثِمَارًا مِنْ غَيْرِ أَشْجَارٍ، كَمَا يَحْرُمُ الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ لِلْكُفَّارِ. (2)
الدُّعَاءُ بِالْمَأْثُورِ وَغَيْرِ الْمَأْثُورِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ كُل دُعَاءٍ دُنْيَوِيٍّ وَأُخْرَوِيٍّ، وَلَكِنَّ الدُّعَاءَ بِالْمَأْثُورِ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهِ. (3)
الدُّعَاءُ فِي الصَّلاَةِ:
13 - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ الدُّعَاءُ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ بَعْدَ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يُشْبِهُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ، أَوْ بِمَا يُشْبِهُ أَلْفَاظَ السُّنَّةِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ الدُّعَاءُ بِمَا يُشْبِهُ كَلاَمَ النَّاسِ كَأَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ زَوِّجْنِي فُلاَنَةَ، أَوِ اعْطِنِي كَذَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمَنَاصِبِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ: يُسَنُّ
__________
(1) تفسير القرطبي 7 / 226
(2) حاشية ابن عابدين (1 / 350 ط بولاق) .
(3) روضة الطالبين للنووي 1 / 265، وأسنى المطالب 1 / 16(20/265)
الدُّعَاءُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَقَبْل السَّلاَمِ بِخَيْرَيِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ بِشَيْءٍ مُحَرَّمٍ أَوْ مُسْتَحِيلٍ أَوْ مُعَلَّقٍ، فَإِنْ دَعَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، وَالأَْفْضَل أَنْ يَدْعُوَ بِالْمَأْثُورِ. (1)
طَلَبُ الدُّعَاءِ مِنْ أَهْل الْفَضْل:
14 - يُسْتَحَبُّ طَلَبُ الدُّعَاءِ مِنْ أَهْل الْفَضْل وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ أَفْضَل مِنَ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ، (2) فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُمْرَةِ، فَأَذِنَ، وَقَال: لاَ تَنْسَنَا يَا أَخِي مِنْ دُعَائِكَ (3) فَقَال كَلِمَةً مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا.
فَضْل الدُّعَاءِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ:
15 - قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِْيمَانِ} . (4) وَقَال تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 351، ونهاية المحتاج للرملي 1 / 511، ومواهب الجليل وكشاف القناع 1 / 360 - 361، وروضة الطالبين للنووي 1 / 365، وأسنى المطالب 1 / 166، وحاشية الشرقاوي 1 / 311، والفتاوى الهندية 1 / 72، والمغني لابن قدامة 1 / 585، والدسوقي 1 / 52، 232، البدائع 1 / 213، قليوبي 1 / 168
(2) الأذكار ص 615
(3) حديث: " لا تنسنا يا أخيّ من دعائك ". أخرجه أبو داود (2 / 169 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وفي إسناده راو ضعيف مترجم في ميزان الاعتدال للذهبي (2 / 353 - 354 - ط الحلبي) .
(4) سورة الحشر / 10(20/266)
لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . (1) وَقَال تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (2) وَقَال تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ نُوحٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَل بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . (3)
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لأَِخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إِلاَّ قَال الْمَلَكُ، وَلَكَ بِمِثْلٍ (4) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُول: دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لأَِخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لأَِخِيهِ بِخَيْرٍ، قَال الْمَلَكُ الْمُوَكَّل بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ.
(5) وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ أَسْرَعَ الدُّعَاءِ إِجَابَةً دَعْوَةُ غَائِبٍ لِغَائِبٍ. (6)
__________
(1) سورة محمد / 19
(2) سورة إبراهيم / 41
(3) سورة نوح / 28
(4) حديث: " ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب. . . " أخرجه مسلم (4 / 2094 - ط الحلبي) .
(5) حديث: " دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة ". أخرجه مسلم (4 / 2094 - ط الحلبي) .
(6) حديث: " إن أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب. . . " أخرجه أبو داود (2 / 186 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (4 / 352 - ط الحلبي) ، وضعف الترمذي إسناده.(20/266)
اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ:
16 - قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَال لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ. (1)
وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ. (2)
الدُّعَاءُ لِلذِّمِّيِّ إِذَا فَعَل مَعْرُوفًا:
17 - قَال النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى لَهُ (أَيِ الذِّمِّيِّ) بِالْمَغْفِرَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِمَّا لاَ يُقَال لِلْكُفَّارِ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى لَهُ بِالْهِدَايَةِ وَصِحَّةِ الْبَدَنِ وَالْعَافِيَةِ وَشِبْهِ ذَلِكَ. (3)
لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: اسْتَسْقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَقَاهُ يَهُودِيٌّ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَمَّلَكَ اللَّهُ فَمَا رَأَى الشَّيْبَ حَتَّى مَاتَ. (4)
__________
(1) حديث: " من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرًا. . . " أخرجه الترمذي (4 / 380 - ط الحلبي) من حديث أسامة بن زيد، وقال: " حديث حسن جيد ".
(2) حديث: " من صنع إليكم معروفًا فكافئوه ". أخرجه أبو داود (2 / 310 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 412 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي
(3) الأذكار ص 496
(4) حديث: " استسقى النبي صلى الله عليه وسلم فسقاه يهودي ". أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 143 - ط دار البيان) وفيه راو ضعيف ترجم له الذهبي في " الميزان " (1 / 327 - ط الحلبي) .(20/267)
دُعَاءُ الإِْنْسَانِ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ أَوْ ظَلَمَ الْمُسْلِمِينَ:
18 - قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْل إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} (1) قَال الْقُرْطُبِيُّ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الآْيَةِ أَنَّ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَنْتَصِرَ مِنْ ظَالِمِهِ، وَلَكِنْ مَعَ اقْتِصَادٍ، إِنْ كَانَ الظَّالِمُ مُؤْمِنًا، كَمَا قَال الْحَسَنُ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَأَرْسِل لِسَانَكَ وَادْعُ بِمَا شِئْتَ مِنَ الْهَلَكَةِ وَبِكُل دُعَاءٍ، كَمَا فَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَال: اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ. (2) وَقَال: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِفُلاَنٍ وَفُلاَنٍ سَمَّاهُمْ (3) وَإِنْ كَانَ مُجَاهِرًا بِالظُّلْمِ دَعَا عَلَيْهِ جَهْرًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِرْضٌ مُحْتَرَمٌ، وَلاَ بَدَنٌ مُحْتَرَمٌ، وَلاَ مَالٌ مُحْتَرَمٌ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ قَال: سُرِقَ لَهَا شَيْءٌ فَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَيْهِ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُسَبِّخِي عَنْهُ أَيْ لاَ تُخَفِّفِي عَنْهُ الْعُقُوبَةَ بِدُعَائِكِ عَلَيْهِ. (4)
__________
(1) سورة النساء / 148
(2) حديث: " اللهم اشدد وطأتك على مضر ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 492 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " اللهم عليك بفلان وفلان ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 106 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن مسعود.
(4) القرطبي 6 / 2 وحديث: " لا تسبخي عنه ". أخرجه أبو داود (2 / 168 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . وفي إسناده انقطاع.(20/267)
قَال النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنْ هَذَا الْبَابَ وَاسِعٌ جِدًّا، وَقَدْ تَظَاهَرَ عَلَى جَوَازِهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَفْعَال سَلَفِ الأُْمَّةِ وَخَلَفِهَا، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مَعْلُومَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ عَنِ الأَْنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِمْ بِدُعَائِهِمْ عَلَى الْكُفَّارِ. (1)
وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال يَوْمَ الأَْحْزَابِ: مَلأََ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا حَبَسُونَا وَشَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى. (2)
وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَْكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلاً أَكَل بِشِمَالِهِ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: كُل بِيَمِينِكَ قَال: لاَ أَسْتَطِيعُ، قَال: لاَ اسْتَطَعْتَ مَا مَنَعَهُ إِلاَّ الْكِبْرُ قَال: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ.
قَال النَّوَوِيُّ: هَذَا الرَّجُل هُوَ بُسْرٌ - بِضَمِّ الْبَاءِ وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ - ابْنُ رَاعِي الْعِيرِ الأَْشْجَعِيُّ، صَحَابِيٌّ، فَفِيهِ جَوَازُ الدُّعَاءِ عَلَى مَنْ خَالَفَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ.
(3) وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَال: شَكَا أَهْل الْكُوفَةِ
__________
(1) الأذكار ص 479
(2) حديث: " ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 105 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 436 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(3) حديث: " كل بيمينك ". أخرجه مسلم (3 / 1599 ط الحلبي) .(20/268)
سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَل عَلَيْهِمْ. . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَال: أَرْسَل مَعَهُ عُمَرُ رِجَالاً أَوْ رَجُلاً إِلَى الْكُوفَةِ يَسْأَل عَنْهُ، فَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَل عَنْهُ وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَل مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَال لَهُ: أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ، يُكَنَّى أَبَا سَعْدَةَ فَقَال: أَمَّا إِذَا نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِل فِي الْقَضِيَّةِ. قَال سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ لأََدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَأَطِل عُمُرَهُ، وَأَطِل فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ. فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُول: شَيْخٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ. قَال عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ الرَّاوِي عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ فَيَغْمِزُهُنَّ.
وَعَنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، خَاصَمَتْهُ أَرْوَى بِنْتُ أَوْسٍ - وَقِيل: أُوَيْسٍ - إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَادَّعَتْ أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِهَا، فَقَال سَعِيدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئًا بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَال: مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَال سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الأَْرْضِ ظُلْمًا طُوِّقَهَ(20/268)
إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ. (1) قَال مَرْوَانُ: لاَ أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا، فَقَال سَعِيدٌ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا، قَال: فَمَا مَاتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا، وَبَيْنَمَا هِيَ تَمْشِي فِي أَرْضِهَا إِذْ وَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ فَمَاتَتْ.
نَهْيُ الْمُكَلَّفِ عَنْ دُعَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ:
19 - قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَل فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ. (2)
الأَْدْعِيَةُ فِي الْمُنَاسَبَاتِ:
20 - هُنَاكَ أَدْعِيَةٌ تُقَال أَثْنَاءَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَبَعْدَهَا، وَعِنْدَ صَلاَةِ الْكُسُوفِ، وَالْخُسُوفِ، وَالاِسْتِسْقَاءِ، وَالْحَاجَةِ، وَالاِسْتِخَارَةِ، تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا، وَأَدْعِيَةٌ تَتَعَلَّقُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل، وَأَثْنَاءَ الصِّيَامِ، وَعِنْدَ الإِْفْطَارِ، وَفِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ) .
وَأَدْعِيَةٌ تُقَال فِي أَعْمَال الْحَجِّ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجٌّ) .
__________
(1) حديث: " من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا طوقه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 293 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1231 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " لا تدعوا على أنفسكم ". أخرجه مسلم (4 / 2304 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.(20/269)
وَأَدْعِيَةٌ تُقَال بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَعِنْدَ الزِّفَافِ تُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٌ) .
وَهُنَاكَ أَدْعِيَةٌ فِي الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ، وَعِنْدَ الْمُهِمَّاتِ، أُلِّفَتْ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ، كَكِتَابِ الأَْذْكَارِ لِلنَّوَوِيِّ، وَعَمَل الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِلنَّسَائِيِّ، وَلاِبْنِ السُّنِّيِّ وَغَيْرِهَا.(20/269)
دَعْوَى
التَّعْرِيفُ:
1 - الدَّعْوَى فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنَ الاِدِّعَاءِ، مَصْدَرُ ادَّعَى، وَتُجْمَعُ عَلَى دَعَاوَى بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا.
وَلَهَا فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا: الطَّلَبُ وَالتَّمَنِّي، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} . (1) وَمِنْهَا: الدُّعَاءُ، كَمَا فِي قَوْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . (2) وَمِنْهَا: الزَّعْمُ. وَلاَ تُطْلَقُ الدَّعْوَى عَلَى الْقَوْل الْمُؤَيَّدِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، بَل يَكُونُ ذَلِكَ حَقًّا، وَصَاحِبُهُ مُحِقًّا لاَ مُدَّعِيًا، فَلاَ تُطْلَقُ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَّ مَا صَدَرَ عَنْهُ مَقْرُونٌ بِالْحُجَّةِ السَّاطِعَةِ، وَهِيَ الْمُعْجِزَةُ. وَكَانُوا يُسَمُّونَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ مُدَّعِيًا لِلنُّبُوَّةِ.
وَالدَّعْوَى فِي الاِصْطِلاَحِ: قَوْلٌ يَطْلُبُ بِهِ
__________
(1) سورة يس / 57
(2) سورة يونس / 10(20/270)
الإِْنْسَانُ إِثْبَاتَ حَقٍّ عَلَى الْغَيْرِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي أَوِ الْمُحَكَّمِ. (1)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَضَاءُ:
2 - الْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْحُكْمُ. وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ: تَبْيِينُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالإِْلْزَامُ بِهِ، وَفَصْل الْخُصُومَةِ. (2) وَالصِّلَةُ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالْقَضَاءِ أَنَّ الدَّعْوَى طَلَبُ حَقٍّ، وَالْقَضَاءُ نَهْوِ الْحُكْمِ فِي هَذَا الطَّلَبِ وَالإِْلْزَامِ بِهِ.
ب - التَّحْكِيمُ:
3 - التَّحْكِيمُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ حَكَّمَ، يُقَال:
__________
(1) لسان العرب، المصباح المنير، تاج العروس، التعريفات ص 72، المبسوط 17 / 29 مطبعة السعادة بمصر - الطبعة الأولى، وانظر تنوير الأبصار 1 / 370، 372 ط مصطفى الحلبي 1386 هـ، والفروق 4 / 72 مطبعة عيسى الحلبي - الطبعة الأولى 1346، وتحفة المحتاج 10 / 285 المطبعة الميمنية بمصر - الطبعة الثالثة 1315 هـ، والمغني 9 / 271مطعة دار المنار الطبعة الثالثة 1367 هـ، وكشاف القناع 4 / 227 المطبعة العامرة الشرقية - الطبعة الأولى 1319 هـ وغاية المنتهى 3 / 476 مؤسسة دار السلام للطباعة والنشر بدمشق - الطبعة الأولى، ومنتهى الإرادات - القسم الثاني ص 628 - مطبعة دار الجيل الجديد 1381 هـ. تحقيق الشيخ عبد الغني عبد الخالق.
(2) بدائع الصنائع 7 / 2، ومغني المحتاج 4 / 372، ومطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 6 / 453(20/270)
حَكَّمُوهُ بَيْنَهُمْ: أَيْ فَوَّضُوهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ،
وَيُقَال: حَكَّمْنَا فُلاَنًا فِيمَا بَيْنَنَا أَيْ أَجَزْنَا حُكْمَهُ بَيْنَنَا.
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: تَوْلِيَةُ الْخَصْمَيْنِ حَاكِمًا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا. (1)
وَعَلَى هَذَا يَشْتَرِكُ التَّحْكِيمُ وَالدَّعْوَى فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَتَضَمَّنُ طَلَبَ الْفَصْل فِي الْخُصُومَةِ، وَيَخْتَلِفَانِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ، وَالأَْثَرُ، وَالْمَحَل:
فَالتَّحْكِيمُ فِي حَقِيقَتِهِ عَقْدٌ مَبْنَاهُ عَلَى اتِّفَاقِ إِرَادَتَيْنِ، حَيْثُ يَكُونُ بِتَرَاضِي الْخُصُومِ عَلَى اخْتِيَارِ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا، وَلاَ يَصِحُّ بِإِرَادَةِ أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ. (2) أَمَّا الدَّعْوَى فَهِيَ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ يَقُومُ بِهِ الْمُدَّعِي بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ.
وَلِلتَّحْكِيمِ أَثَرٌ إِنْشَائِيٌّ، حَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِنْشَاءُ وِلاَيَةٍ خَاصَّةٍ لِلْمُحَكَّمِ لَمْ تَكُنْ لَهُ قَبْل التَّحْكِيمِ، أَمَّا الدَّعْوَى فَلَيْسَ لَهَا مِثْل هَذَا الأَْثَرِ، إِذْ تُرْفَعُ إِلَى الْقَاضِي الَّذِي يَسْتَمِدُّ وِلاَيَتَهُ مِنْ عَقْدِ التَّوْلِيَةِ.
وَالتَّحْكِيمُ يَجُوزُ فِي الأَْمْوَال بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. (3)
__________
(1) البحر الرائق 7 / 24 طبع دار الكتب العربية الكبرى بمصر.
(2) فتح القدير 5 / 500 طبعة بولاق 1318 هـ، أدب القضاء لابن أبي الدم ص 139 طبع دمشق 1975 م
(3) روضة القضاة ص 80 طبع بغداد 1970 م، تبصرة الحكام 1 / 55، أدب القضاء ص 138طبع دمشق، الإنصاف 11 / 198 - مطبعة السنة المحمدية 1958م.(20/271)
أَمَّا الدَّعْوَى فَتَصِحُّ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ بِلاَ خِلاَفٍ.
ج - الاِسْتِفْتَاءُ:
4 - الاِسْتِفْتَاءُ طَلَبُ الإِْفْتَاءِ، وَالإِْفْتَاءُ هُوَ:
الإِْخْبَارُ عَنْ حُكْمِ الشَّارِعِ فِي أَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ بِنَاءً عَلَى اسْتِقْرَاءِ الأَْدِلَّةِ وَاتِّبَاعِ مُقْتَضَيَاتِهَا. (1) وَعَلَيْهِ فَإِنَّ الاِسْتِفْتَاءَ هُوَ طَلَبُ بَيَانِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي أَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ.
وَتَخْتَلِفُ الدَّعْوَى عَنْهُ أَنَّ فِيهَا طَلَبَ إِلْزَامِ الْخَصْمِ بِحَقٍّ، فَتَقْتَضِي وُجُودَ خَصْمٍ يُطْلَبُ إِلْزَامُهُ بِالْحَقِّ، وَلَيْسَ فِي الاِسْتِفْتَاءِ طَلَبُ إِلْزَامٍ، وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ وُجُودُ خَصْمٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - لَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَى فِي حَقِيقَتِهَا إِخْبَارًا يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ حَقٍّ أَمَامَ الْقَضَاءِ، وَهِيَ تَحْتَمِل الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، فَمِنَ الْبَدَهِيِّ أَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً إِذَا كَانَتْ دَعْوَى كَاذِبَةً، وَكَانَ الْمُدَّعِي يَعْلَمُ ذَلِكَ، أَوْ يَغْلِبُ ذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي دَعْوَاهُ، فَهِيَ عِنْدَئِذٍ تَصَرُّفٌ مُبَاحٌ، فَلَهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ يَقْصِدُ بِهَا الضِّرَارَ، فَتَكُونُ مُحَرَّمَةً، كَمَا لَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ غَرِيمَهُ لاَ يُنْكِرُ حَقَّهُ، وَأَنَّهُ عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِتَوْفِيَتِهِ إِيَّاهُ، فَيَرْفَعُ الدَّعْوَى لِلتَّشْهِيرِ بِهِ، فَتَكُونُ مُحَرَّمَةً.
__________
(1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 5 مطبعة الأنوار بمصر - الطبعة الأولى 1938 م، والإنصاف 11 / 186(20/271)
أَرْكَانُ الدَّعْوَى:
6 - أَرْكَانُ الدَّعْوَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ هِيَ: الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْمُدَّعَى، وَالْقَوْل الَّذِي يَصْدُرُ عَنِ الْمُدَّعِي يَقْصِدُ بِهِ طَلَبَ حَقٍّ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ يُمَثِّلُهُ. وَلِكُل رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الأَْرْكَانِ شُرُوطٌ خَاصَّةٌ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِيمَا بَعْدُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رُكْنُ الدَّعْوَى هُوَ التَّعْبِيرُ الْمَقْبُول الَّذِي يَصْدُرُ عَنْ إِنْسَانٍ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يَقْصِدُ بِهِ طَلَبَ حَقٍّ لَهُ أَوْ لِمَنْ يُمَثِّلُهُ، مِثْل قَوْل الرَّجُل: لِي عَلَى فُلاَنٍ أَوْ قِبَل فُلاَنٍ كَذَا، أَوْ قَضَيْتُ حَقَّ فُلاَنٍ، أَوْ أَبْرَأَنِي عَنْ حَقِّهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الرُّكْنَ هَل هُوَ مُجَرَّدُ التَّعْبِيرِ الطَّلَبِيِّ مِنْ قَوْلٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ، أَوْ أَنَّهُ هُوَ مَدْلُول ذَلِكَ التَّعْبِيرِ، أَوْ أَنَّهُ كِلاَ الأَْمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى هَل رُكْنُ الدَّعْوَى هُوَ الدَّال أَوِ الْمَدْلُول أَوْ كِلاَهُمَا؟ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَْقْوَال جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ. (1)
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 222 مطبعة الجمالية بالقاهرة 1910 م، حاشية الشرنبلالي على درر الحكام 2 / 329 المطبعة العامرة الشرقية 1304 هـ، تبيين الحقائق وحاشية الشلبي 4 / 290 - المطبعة الأميرية - الطبعة الأولى 1314 هـ، الدرر المنتقى في شرح الملتقى 2 / 205 مطبوع على هامش مجمع الأنهر - المطبعة العثمانية - الطبعة الأولى 1327هـ، المجاني الزهرية على الفواكه البدرية ص18 مطبعة النيل بالقاهرة(20/272)
كَيْفِيَّةُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
7 - تَمْيِيزُ الْقَاضِي الْمُدَّعِي مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُعْتَبَرُ مِنْ أَهَمِّ الأُْمُورِ الَّتِي تُعِينُهُ عَلَى إِصَابَةِ الْحَقِّ فِي الأَْحْكَامِ الَّتِي يُصْدِرُهَا، ذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ جَعَل عِبْءَ الإِْثْبَاتِ فِي الدَّعْوَى عَلَى الْمُدَّعِي. وَعِبْءَ دَفْعِهَا بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْمُدَّعِي إِثْبَاتَهَا بِالْبَيِّنَةِ. وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ الْعِبْءَ الأَْوَّل أَثْقَل مِنَ الْعِبْءِ الثَّانِي، فَإِنْ أَخْطَأَ الْقَاضِي فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُ سَيُحَمِّل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْعِبْءَ الأَْثْقَل، وَيَجْعَل عَلَى الْمُدَّعِي الْعِبْءَ الأَْخَفَّ، مِمَّا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ وَالظُّلْمِ فِي الْقَضَاءِ.
لِذَلِكَ اجْتَهَدَ الْفُقَهَاءُ فِي وَضْعِ الضَّوَابِطِ الَّتِي تُعِينُ الْقُضَاةَ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي أَيَّةِ خُصُومَةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ حَصْرُ أَقْوَالِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي اتِّجَاهَيْنِ:
8 - الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَاعْتَمَدُوا فِيهِ عَلَى النَّظَرِ إِلَى جَنَبَةِ كُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَنَازِعَيْنِ: فَمَنْ كَانَتْ جَنَبَتُهُ قَوِيَّةً بِشَهَادَةِ أَيِّ أَمْرٍ مُصَدِّقٍ لِقَوْلِهِ كَانَ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالآْخَرُ مُدَّعِيًا. وَمَعَ اتِّفَاقِ أَصْحَابِ هَذَا الاِتِّجَاهِ عَلَى هَذَا الأَْصْل، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الأَْمْرِ الْمُصَدِّقِ الَّذِي إِذَا تَجَرَّدَ عَنْهُ قَوْل أَحَدِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ كَانَ هُوَ الْمُدَّعِي، فَتَبَايَنَتْ - بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ - تَعْرِيفَاتُهُمْ لِلْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:(20/272)
أَوَّلاً: ذَهَبَ مُعْظَمُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ مَنْ تَجَرَّدَتْ دَعْوَاهُ عَنْ أَمْرٍ يُصَدِّقُهُ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ: أَوْ كَانَ أَضْعَفَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ أَمْرًا فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى الصِّدْقِ. (1)
وَفَسَّرَ آخَرُونَ مِنْهُمْ هَذَا الأَْمْرَ الْمُصَدِّقَ بِقَوْلِهِمِ: الْمُدَّعِي هُوَ مَنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ قَوْلُهُ بِمَعْهُودٍ أَوْ أَصْلٍ. وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَكْسُهُ. وَالْمَعْهُودُ هُوَ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ وَالْغَالِبُ. (2)
وَرَأَى بَعْضُهُمْ تَقْيِيدَ التَّعْرِيفِ السَّابِقِ لِلْمُدَّعِي بِقَوْلِهِ " حَال الدَّعْوَى "، أَيْ أَنَّ: التَّجَرُّدَ الْمَقْصُودَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ حَال الدَّعْوَى، وَقَبْل إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَلِذَلِكَ قَال بَعْضُهُمْ " بِمُصَدِّقٍ غَيْرِ بَيِّنَةٍ "، أَيْ أَنْ لاَ يَكُونَ الأَْمْرُ الْمُصَدِّقُ الَّذِي تَجَرَّدَ عَنْهُ قَوْل الْمُدَّعِي هُوَ الْبَيِّنَةُ، فَإِنَّهُ يَظَل مُدَّعِيًا وَلَوْ لَمْ يَتَجَرَّدْ قَوْلُهُ مِنْهَا. (3)
__________
(1) حاشية الأمير 2 / 316 المطبعة البهية الشرقية 1304 هـ، مواهب الجليل 6 / 124 مطبعة السعادة بمصر - الطبعة الأولى 1325 هـ.
(2) تبصرة الحكام 1 / 123 مطبعة مصطفى الحلبي 1958 م مطبوع على هامش فتح العلي المالك، القوانين الفقهية ص 288 مطبعة النهضة بتونس 1926م، البهجة في شرح التحفة 1 / 28 المطبعة البهية بمصر، ياقوتة الحكام ص 4، المطبعة المولوية بفاس العليا - الطبعة الأولى 1327 هـ، العقد المنظم للحكام 2 / 198 مطبوع على هامش تبصرة الحكام - المطبعة العامرة الشرقية - الطبعة الأولى 1301 هـ، الخرشي 7 / 154 - المطبعة الأميرية الكبرى ببولاق - الطبعة الثانية 1317 هـ
(3) حاشية الدسوقي 4 / 143 - مطبعة عيسى الحلبي، التاج والإكليل ومواهب الجليل 6 / 124 مطبعة السعادة بمصر - الطبعة الأولى 1329 هـ، شرح حدود ابن عرفة ص 470 - المطبعة التونسية بتونس - الطبعة الأولى 1350 هـ، حاشية الأمير 2 / 316(20/273)
ثُمَّ إِنَّ الأَْمْرَ الْمُصَدِّقَ الَّذِي إِذَا اعْتَضَدَ بِهِ جَانِبُ أَحَدِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ كَانَ دَلِيلاً عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ شَيْئَيْنِ هُمَا:
الأَْصْل وَالظَّاهِرُ:
9 - أَمَّا الأَْصْل فَهُوَ الْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمَعْمُول بِهَا فِي الْوَاقِعَةِ الْمَخْصُوصَةِ، أَوِ الدَّلاَلَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ، أَوِ اسْتِصْحَابُ الْحَال الأَْوَّل. (1) وَقَدْ ذَكَرُوا مِنَ الأُْصُول:
1 - الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنَ الْحُقُوقِ قَبْل عِمَارَتِهَا:
فَمَنِ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى آخَرَ، فَأَنْكَرَ الْمَطْلُوبُ كَانَ الْمُنْكِرُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، لأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَقَدْ عَضَّدَهُ هَذَا الأَْصْل، فَكَانَ الْقَوْل لَهُ بِيَمِينِهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ. وَلَوِ اعْتَرَفَ الْمَطْلُوبُ بِالدَّيْنِ وَادَّعَى الْقَضَاءَ، لَكَانَ الطَّالِبُ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي هَذَا الدَّفْعِ، لأَِنَّ الأَْصْل اسْتِصْحَابُ عِمَارَةِ الذِّمَّةِ بَعْدَ ثُبُوتِ شُغْلِهَا، فَكَانَ الْقَوْل لَهُ بِيَمِينِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلآْخَرِ بَيِّنَةٌ.
2 - الأَْصْل فِي الإِْنْسَانِ الصِّحَّةُ قَبْل ثُبُوتِ مَرَضِهِ، وَيَكُونُ مُدَّعِي الْمَرَضِ مُدَّعِيًا خِلاَفَ الأَْصْل، فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، فَإِذَا وَقَعَ طَلاَقُ رَجُلٍ لِزَوْجَتِهِ طَلاَقًا بَائِنًا، ثُمَّ مَاتَ، فَقَامَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 122(20/273)
الْوَرَثَةِ تَدَّعِي أَنَّهُ طَلَّقَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لِكَيْ تَرِثَ مِنْهُ، فَأَنْكَرَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ، كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُدَّعِيَةً خِلاَفَ الأَْصْل الَّذِي يَقْضِي بِأَنَّ الإِْنْسَانَ سَلِيمٌ حَتَّى يَثْبُتَ مَرَضُهُ، فَعَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ وَالْقَوْل لِلْوَرَثَةِ.
3 - الأَْصْل عَدَمُ الْمَضَارَّةِ وَالتَّعَدِّي، فَلَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى الطَّبِيبِ الْعَمْدَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَادَّعَى الطَّبِيبُ الْخَطَأَ، فَإِنَّ الْقَوْل لَهُ.
4 - الأَْصْل فِي الإِْنْسَانِ الْجَهْل بِالشَّيْءِ حَتَّى يَقُومَ عَلَيْهِ الدَّلِيل بِالْعِلْمِ، فَإِذَا قَامَ الشَّرِيكُ يَطْلُبُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ بِالشُّفْعَةِ مِمَّنِ اشْتَرَاهَا، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مُرُورِ عَامٍ عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ، فَادَّعَى الْمُشْتَرِي عِلْمَ الشَّرِيكِ بِالْبَيْعِ، وَادَّعَى هُوَ جَهْلَهُ بِذَلِكَ كَانَ الْقَوْل قَوْل الشَّرِيكِ، وَالْمُشْتَرِي هُوَ الْمُدَّعِي، وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ الَّتِي تَشْهَدُ أَنَّ الشَّرِيكَ كَانَ عَلَى عِلْمٍ بِالْعَقْدِ.
5 - الأَْصْل فِي الإِْنْسَانِ الْفَقْرُ، لِسَبْقِهِ، حَيْثُ يُولَدُ خَالِيَ الْيَدِ، فَيَكْتَسِبُ بِعَمَلِهِ، فَيُصْبِحُ غَنِيًّا، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ مَحْمُولُونَ عَلَى الْمُلاَءِ لِغَلَبَتِهِ، فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا تَعَارَضَ فِيهِ الأَْصْل وَالْغَالِبُ، وَقُدِّمَ الأَْخِيرُ فِيهِ، وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ زَاعِمَ الإِْعْسَارِ يُعْتَبَرُ مُدَّعِيًا، وَإِنْ وَافَقَهُ الأَْصْل الَّذِي هُوَ الْفَقْرُ، فَهُوَ الْمُدَّعِي وَالْمَطَالِبُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الإِْعْسَارِ.
10 - وَأَمَّا الظَّاهِرُ فَيُسْتَفَادُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: الْعُرْفُ، وَالْقَرَائِنُ الْمُغَلِّبَةُ عَلَى الظَّنِّ.(20/274)
الأَْوَّل: الْعُرْفُ، وَيُسَمِّيهِ بَعْضُهُمُ الْمَعْهُودَ وَالْغَالِبَ وَالْعَادَةَ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى حُجِّيَّتِهِ بِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} . (1)
وَقَدْ قَالُوا: الْعُرْفُ مُقَدَّمٌ عَلَى الأَْصْل، وَكُل أَصْلٍ كَذَّبَهُ الْعُرْفُ، رُجِّحَ هَذَا الأَْخِيرُ عَلَيْهِ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَسَائِل، مِنْهَا مَا لَوِ ادَّعَى الصَّالِحُ التَّقِيُّ الْعَظِيمُ الْمَنْزِلَةَ أَوِ الشَّأْنَ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ عَلَى أَفْسَقِ النَّاسِ وَأَدْنَاهُمْ عِلْمًا وَدِينًا دِرْهَمًا وَاحِدًا، فَإِنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهُ، وَالأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، فَيُقَدَّمُ الأَْصْل عَلَى الْغَالِبِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. (2)
الأَْمْرُ الثَّانِي: الْقَرَائِنُ وَظَوَاهِرُ الْحَال وَغَلَبَةُ الظَّنِّ، فَمَنْ حَازَ شَيْئًا مُدَّةً يَتَصَرَّفُ فِيهِ، ثُمَّ ادَّعَاهُ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ يُرَجَّحُ قَوْل الْحَائِزِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِيَّةِ، وَيَكُونُ الآْخَرُ مُدَّعِيًا، لأَِنَّ قَوْلَهُ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ الْمُسْتَنْبَطَ مِنَ الْوَاقِعِ وَالْقَرَائِنِ، فَيُكَلَّفُ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا وَقَعَتْ دَعْوَاهُ بِيَمِينِ الْحَائِزِ. (3)
وَقَدِ اسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنَ الْقَاعِدَةِ السَّابِقَةِ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْضَ الْمَسَائِل، إِمَّا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ،
__________
(1) سورة الأعراف / 199
(2) القوانين الفقهية ص 288، العقد المنظم للحكام 2 / 198، وتهذيب الفروق 4 / 119 - 120
(3) القوانين الفقهية ص 288(20/274)
وَإِمَّا لِلضَّرُورَةِ: كَمَا فِي قَوْل الأُْمَنَاءِ فِي تَلَفِ الأَْمَانَاتِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَإِنَّهُ يُقْبَل مَعَ أَنَّ الأَْصْل عَدَمُهُ، لأَِنَّهُ أَمْرٌ عَارِضٌ، وَإِنَّمَا قُبِل كَيْلاَ يَزْهَدَ النَّاسُ فِي قَبُول الأَْمَانَاتِ، فَتَفُوتُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ. (1) وَكَمَا فِي قَوْل الْغَاصِبِ بِتَلَفِ الْمَغْصُوبِ، فَإِنَّهُ يُقْبَل مَعَ يَمِينِهِ، لِلضَّرُورَةِ، وَيُعْتَبَرُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، إِذْ لَوْ لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ، وَاعْتُبِرَ مُدَّعِيًا لَكَانَ مَصِيرُهُ الْخُلُودَ فِي السِّجْنِ. (2)
ثَانِيًا: ذَهَبَ مُعْظَمُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ: مَنْ يَلْتَمِسُ خِلاَفَ الظَّاهِرِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ: مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ. (3) وَالظَّاهِرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ نَوْعَانِ: ظَاهِرٌ بِنَفْسِهِ، وَظَاهِرٌ بِغَيْرِهِ، وَيُطْلِقُونَ كَثِيرًا لَفْظَ " الأَْصْل " عَلَى النَّوْعِ الأَْوَّل، وَإِذَا ذَكَرُوا الظَّاهِرَ فِي مُقَابَلَةِ الأَْصْل كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ النَّوْعَ الثَّانِيَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ بِغَيْرِهِ. وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي التَّعْرِيفِ الْمُتَقَدِّمِ لِلْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُقْصَدُ بِهِ النَّوْعَانِ جَمِيعًا.
__________
(1) تهذيب الفروق 4 / 122 بهامش الفروق - مطبعة عيسى الحلبي بمصر - الطبعة الأولى 1346 هـ.
(2) تبصرة الحكام 1 / 126
(3) الوجيز للغزالي 2 / 260 - مطبعة الآداب 1317 هـ، المنهاج ومغني المحتاج 4 / 464 طبع الحلبي 1377هـ، قواعد الأحكام 2 / 32 - دار الشرق للطباعة بالقاهرة 1388هـ، شرح المحلي 4 / 336 مطبعة مصطفى الحلبي 1956م، حاشية الباجوري 2 / 401 مطبعة السعادة - الطبعة الأولى 1910 م(20/275)
وَالظَّاهِرُ بِنَفْسِهِ هُوَ أَقْوَى أَنْوَاعِ الظَّاهِرِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مُسْتَفَادًا مِنَ الأُْصُول، كَالظَّاهِرِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْبَرَاءَةِ الأَْصْلِيَّةِ: بَرَاءَةِ الذِّمَمِ مِنَ الْحُقُوقِ، وَالأَْجْسَادِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ وَبَرَاءَةِ الإِْنْسَانِ مِنَ الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال جَمِيعِهَا. (1)
وَالظَّاهِرُ بِغَيْرِهِ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْعُرْفِ وَالْعَوَائِدِ، أَوْ مِنَ الْقَرَائِنِ وَدَلاَئِل الْحَال.
وَإِذَا تَعَارَضَ الظَّاهِرُ بِنَفْسِهِ مَعَ الظَّاهِرِ بِغَيْرِهِ فَغَالِبًا مَا يُقَدِّمُ الشَّافِعِيَّةُ الأَْوَّل، وَيَكُونُ الَّذِي يَدَّعِي خِلاَفَهُ مُدَّعِيًا يُكَلَّفُ بِالْبَيِّنَةِ إِنْ لَمْ يُقِرَّ خَصْمُهُ، وَالآْخَرُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَمِثَال ذَلِكَ: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوِ ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا الْحَاضِرِ أَنَّهُ لاَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا، فَالأَْصْل يَقْضِي بِعَدَمِ الإِْنْفَاقِ، وَالظَّاهِرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَرَائِنِ الْحَال يَقْضِي بِأَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا، وَالشَّافِعِيَّةُ يُقَدِّمُونَ الأَْوَّل عَلَى الثَّانِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَيَكُونُ الْقَوْل قَوْل الْمَرْأَةِ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الزَّوْجِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، حَيْثُ يَجْعَلُونَ الْمَرْأَةَ مُدَّعِيَةً، وَالزَّوْجُ مُدَّعًى عَلَيْهِ. (2)
أَمَّا إِذَا تَعَارَضَ ظَاهِرَانِ فِي قُوَّةٍ وَاحِدَةٍ، كَأَنْ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 70 - 71 - طبع مكة 1331 هـ، وقواعد الأحكام 2 / 32، مغني المحتاج 4 / 464 طبع الحلبي 1377 هـ
(2) لب اللباب ص 255 - المطبعة التونسية بتونس 1346 هـ(20/275)
يَكُونَا مُسْتَفَادَيْنِ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ أَصْلَيْنِ فِي قُوَّةٍ وَاحِدَةٍ، كَانَ كُلٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مُدَّعِيًا مُكَلَّفًا بِالْبَيِّنَةِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي كِتَابِ الأُْمِّ مَا نَصُّهُ: إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَكْرَاهُ بَيْتًا مِنْ دَارٍ شَهْرًا بِعَشَرَةٍ، وَادَّعَى الْمُكْتَرِي أَنَّهُ اكْتَرَى الدَّارَ كُلَّهَا ذَلِكَ الشَّهْرَ بِعَشَرَةٍ، فَكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ عَلَى صَاحِبِهِ، وَعَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ. (1)
وَيَظْهَرُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الشُّقَّةَ لَيْسَتْ بَعِيدَةً بَيْنَ الْمِعْيَارِ الَّذِي قَال بِهِ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَجْل التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَبَيْنَ الْمِعْيَارِ الَّذِي قَال بِهِ الشَّافِعِيَّةُ، بَل إِنَّهُمَا يَكَادَانِ يَتَشَابَهَانِ، وَالْخِلاَفُ بَيْنَهُمَا مُنْحَصِرٌ فِي التَّطْبِيقِ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا يَتَعَارَضُ أَمْرَانِ مِنْ أُمُورِ الظَّاهِرِ: فَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ الأَْصْل أَقْوَى مَنَابِعِ الظُّهُورِ غَالِبًا، وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ دَلاَئِل الْحَال مِنْ عُرْفٍ وَقَرَائِنَ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدَّمَ الأَْقْوَى فِي نَظَرِهِ، وَجَعَل مُخَالِفَهُ مُدَّعِيًا وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ.
11 - الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُعْظَمُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، وَبَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى، وَهُوَ تَعْرِيفُ الْمُدَّعِي بِأَنَّهُ: مَنْ إِذَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ لاَ يُجْبَرُ عَلَيْهَا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ. مَنْ إِذَا تَرَكَهَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا. (2) وَمِثْلُهُ قَوْل الْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ
__________
(1) الأم 6 / 241 - المطبعة الأميرية ببولاق - الطبعة الأولى 1324 هـ
(2) المبسوط 17 / 31، وبدائع الصنائع 6 / 224، وتبيين الحقائق 4 / 291، وتبصرة الحكام 1 / 124، والوجيز 2 / 260، والمغني 9 / 272(20/276)
ذَهَبُوا إِلَى اشْتِقَاقِ تَعْرِيفِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ تَعْرِيفِ الدَّعْوَى نَفْسِهَا: فَالْمُدَّعِي - عِنْدَهُمْ - هُوَ مُنْشِئُ الدَّعْوَى، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ مَنْ تَوَجَّهَتْ ضِدُّهُ الدَّعْوَى، وَلِذَلِكَ قَال بَعْضُهُمْ:
الْمُدَّعِي هُوَ مَنْ يُضِيفُ إِلَى نَفْسِهِ اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ عَلَى الآْخَرِ وَإِذَا سَكَتَ تُرِكَ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ مَنْ يُضَافُ اسْتِحْقَاقُ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَإِذَا سَكَتَ لَمْ يُتْرَكْ. (1) وَقَال بَعْضُهُمْ: الْمُدَّعِي هُوَ مَنْ يُطَالِبُ غَيْرَهُ بِحَقٍّ يَذْكُرُ اسْتِحْقَاقَهُ عَلَيْهِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُطَالِبُهُ غَيْرُهُ بِحَقٍّ يَذْكُرُ اسْتِحْقَاقَهُ عَلَيْهِ. وَقَال آخَرُونَ: الْمُدَّعِي هُوَ مَنْ يَلْتَمِسُ قِبَل غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا أَوْ حَقًّا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ مَنْ يَدْفَعُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ. (2)
الْفَائِدَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
12 - أَهَمُّ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ تَعْيِينُ الطَّرَفِ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ عِبْءُ الإِْثْبَاتِ، وَالطَّرَفُ الَّذِي لاَ يُكَلَّفُ إِلاَّ بِالْيَمِينِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لِلطَّرَفِ الأَْوَّل. وَهَذَا الأَْمْرُ هُوَ مَدَارُ الْقَضَاءِ وَعَمُودُهُ، إِذْ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ لاَ يَبْقَى عَلَى الْقَاضِي سِوَى تَطْبِيقِ الْقَوَاعِدِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الْبَيِّنَاتِ وَالتَّرْجِيحِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَال: أَيُّمَا رَجُلٍ عَرَفَ
__________
(1) المغني 9 / 272
(2) كشاف القناع 4 / 227، بدائع الصنائع 6 / 224(20/276)
الْمُدَّعِي مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَلْتَبِسْ عَلَيْهِ مَا يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا. (1)
وَإِنَّمَا جُعِلَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، لأَِنَّ جَانِبَهُ ضَعِيفٌ، إِذْ هُوَ يُرِيدُ تَغْيِيرَ الْحَال الْمُسْتَقِرِّ بِمَا يَزْعُمُهُ، وَفِي هَذَا يَقُول ابْنُ رُشْدٍ: " فَالْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كَانَ الْقَوْل لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، هُوَ أَنَّ لَهُ سَبَبًا يَدُل عَلَى صِدْقِهِ دُونَ الْمُدَّعِي فِي مُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، وَهُوَ كَوْنُ السِّلْعَةِ بِيَدِهِ إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، أَوْ كَوْنُ ذِمَّتِهِ بَرِيئَةً عَلَى الأَْصْل فِي بَرَاءَةِ الذِّمَمِ إِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِيمَا فِي ذِمَّتِهِ.
وَالْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَ مِنْ أَجْلِهِ عَلَى الْمُدَّعِي إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى دَعْوَاهُ هُوَ تَجَرُّدُ دَعْوَاهُ مِنْ سَبَبٍ يَدُل عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ. (2)
وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَذَهَبَ دِمَاءُ قَوْمٍ وَأَمْوَالُهُمْ. (3)
مَكَانُ الدَّعْوَى:
13 - الْكَلاَمُ فِي مَكَانِ الدَّعْوَى يَقْتَضِي بَيَانَ أَمْرَيْنِ: الأَْوَّل: الْمَجْلِسُ الَّذِي تُرْفَعُ فِيهِ
__________
(1) المقدمات الممهدات 2 / 318 - مطبعة السعادة بمصر - الطبعة الأولى 1325 هـ
(2) المقدمات الممهدات 2 / 316 - 317
(3) حديث: " لو يعطى الناس بدعواهم لذهب دماء قوم وأموالهم ". أخرجه البخاري (الفتح 8 / 213 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1336 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.(20/277)
الدَّعْوَى وَتُنْظَرُ فِيهِ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ.
وَالثَّانِي: الْقَاضِي الْمُخْتَصُّ بِنَظَرِ الدَّعْوَى.
أَوَّلاً: مَجْلِسُ الْقَضَاءِ:
14 - الأَْصْل أَنَّ جَمِيعَ الأَْمْكِنَةِ صَالِحَةٌ لِتَلَقِّي الْمُتَنَازِعَيْنِ وَالنَّظَرِ فِي خُصُومَاتِهِمْ، وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ يَحْرُمُ فِيهِ ذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِهْدَارُ حَقٍّ أَوْ فِعْل مُحَرَّمٍ، كَمَا لَوِ اسْتَخْدَمَ الْقَاضِي مِلْكَ إِنْسَانٍ مِنْ أَجْل الْقِيَامِ بِإِجْرَاءَاتِ التَّقَاضِي مِنْ غَيْرِ الْحُصُول عَلَى إِذْنِهِ.
وَلَكِنْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِفَاتٍ وَخَصَائِصَ يُسْتَحَبُّ تَوَافُرُهَا فِي الأَْمَاكِنِ الَّتِي تُرْفَعُ فِيهَا الدَّعَاوَى، وَيُفْصَل فِيهَا بَيْنَ الْخُصُومِ. وَيُمْكِنُ إِرْجَاعُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْخَصَائِصِ إِلَى أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ تَوَفَّرَ التَّيْسِيرُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ فِي الْوُصُول إِلَيْهَا، وَالاِهْتِدَاءِ إِلَى مَوْضِعِهَا، وَأَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ يُتَوَخَّى الْعَدْل وَالإِْنْصَافُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا يَبْذُلُونَهُ مِنَ الْجَهْدِ لِلْوُصُول إِلَيْهَا. (1)
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ تَوَفَّرَ الاِسْتِقْرَارُ النَّفْسِيُّ وَالرَّاحَةُ الْجَسَدِيَّةُ لِلنَّاسِ الَّذِينَ يَقْصِدُونَهَا لِلتَّقَاضِي، وَلِلْقُضَاةِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَهَا مَجْلِسًا لِلْقِيَامِ بِوَظَائِفِهِمْ.
وَيَنْبَنِي عَلَى الأَْمْرِ الأَْوَّل أَنْ يَكُونَ مَجْلِسُ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 387 طبع الحلبي 1377 هـ(20/277)
الْقَضَاءِ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ، بِحَيْثُ يَصِل إِلَيْهِ كُل قَاصِدٍ لِلتَّقَاضِي، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ بَارِزٍ، وَلَيْسَ فِي مَوْضِعٍ مُسْتَتِرٍ غَيْرِ مَشْهُورٍ، حَتَّى وَإِنْ أَقَامَ الْقَاضِي عَلَى بَابِهِ مَنْ يَأْذَنُ لِلنَّاسِ بِالدُّخُول عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لاَ يَظْهَرُ جُلُوسُهُ بِهِ، وَلاَ يَهْتَدِي إِلَيْهِ الْغُرَبَاءُ. (1)
وَيَنْبَنِي عَلَى الأَْمْرِ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَجْلِسُ الْقَضَاءِ فَسِيحًا لاَ يَتَأَذَّى الْحَاضِرُونَ بِضِيقِهِ، وَأَنْ يَكُونَ نَزِهًا لاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ وَالْغُبَارُ وَالدُّخَانُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَيَجْلِسُ الْقَاضِي لِلصَّيْفِ حَيْثُ يَلِيقُ بِهِ، وَلِلرِّيَاحِ وَالشِّتَاءِ حَيْثُ يَلِيقُ. (2)
وَلِلْفُقَهَاءِ اخْتِلاَفَاتٌ وَتَفْصِيلاَتٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ مِنِ اتِّخَاذِ الْبَوَّابِ وَالْحَاجِبِ، وَاتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ مَجْلِسًا لِلتَّقَاضِي وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ، وَمَسْجِدٌ، وَحَاجِبٌ ج 16 - 244) .
ثَانِيًا: الْقَاضِي الْمُخْتَصُّ بِنَظَرِ الدَّعْوَى:
15 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ
__________
(1) درر الحكام وحاشية الشرنبلالي عليه 2 / 406، المنهاج ومغني المحتاج 4 / 387 طبع الحلبي 1377 هـ. القوانين الفقهية ص 284، أسهل المدارك 3 / 199 - مطبعة عيسى الحلبي - الطبعة الأولى، المهذب 2 / 293 طبع دار إحياء الكتب العربية، الفروع 3 / 793 - مطبعة المنار بمصر 1339هـ.
(2) المهذب 2 / 293 طبع دار إحياء الكتب العربية، المنهاج ومغني المحتاج 4 / 390 - طبع 1377 هـ.(20/278)
وَاحِدٌ يَخْتَصُّ بِالطَّرَفَيْنِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي تُرْفَعُ إِلَيْهِ الدَّعْوَى. أَمَّا إِذَا تَعَدَّدَ الْقُضَاةُ، وَاسْتَقَل كُلٌّ بِمَحَلَّةٍ يَخْتَصُّ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ أَهْلِهَا، وَلاَ يَتَعَدَّاهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْقَاضِي الْمُخْتَصِّ بِنَظَرِ الدَّعْوَى عَلَى الآْرَاءِ الآْتِيَةِ.
16 - الرَّأْيُ الأَْوَّل: أَنَّ الدَّعْوَى تُرْفَعُ إِلَى الْقَاضِي الَّذِي يَخْتَارُهُ الْمُدَّعِي. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَمُعْظَمُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (1) وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِذَا تَعَدَّدَ الْقُضَاةُ فِي نِطَاقِ بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ الْمُتَنَازِعَانِ مِنْ أَهْل هَذَا الْبَلَدِ. (2)
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ بِأَنَّ الْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي لاَ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ، بِحَيْثُ إِذَا تَرَكَهَا تُرِكَ وَشَأْنُهُ، فَهُوَ الْمُنْشِئُ لِلْخُصُومَةِ، فَيُعْطَى الْخِيَارَ: إِنْ شَاءَ أَنْشَأَهَا عِنْدَ قَاضِي مَكَانِهِ هُوَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْشَأَهَا عِنْدَ قَاضِي مَكَانِ خَصْمِهِ، فَلأَِنَّ الْحَقَّ لَهُ فِي الدَّعْوَى جُعِل الْحَقُّ لَهُ فِي تَعْيِينِ الْقَاضِي. (3)
__________
(1) البحر الرائق 7 / 193 - مطبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر 1333 هـ، نهاية المحتاج 8 / 86 - المطبعة البهية المصرية 1304 هـ، حاشية الشرواني وحاشية العبادي على تحفة المحتاج 10 / 119، القواعد لابن رجب ص 362 - الطبعة الأولى 1933م، منتهى الإرادات القسم الثاني ص 575، غاية المنتهى 3 / 431
(2) حاشية الدسوقي 4 / 164
(3) حاشية الدسوقي 4 / 135، كشاف القناع 4 / 172، تكملة حاشية ابن عابدين 7 / 401 المطبعة العثمانية 1327 هـ.(20/278)
17 - الرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَقَّ فِي تَعْيِينِ الْقَاضِي الَّذِي يَنْظُرُ فِي الدَّعْوَى يَكُونُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ لاَ لِلْمُدَّعِي، وَإِلَى هَذَا الرَّأْيِ ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ.
وَيَسْتَنِدُ هَذَا الرَّأْيُ إِلَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُدَافِعُ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْمَدَافِعُ يَطْلُبُ السَّلاَمَةَ لِنَفْسِهِ، وَالأَْصْل بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُ، فَأَخْذُهُ إِلَى مَنْ يَأْبَاهُ لِرِيبَةٍ يَثْبُتُ عِنْدَهُ رُبَّمَا يُوقِعُهُ فِي ارْتِبَاكٍ يَحْصُل لَهُ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى إِثْبَاتِ مَا لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ، فَالأَْوْلَى مُرَاعَاةُ جَانِبِهِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ وَاعْتِبَارُ اخْتِيَارِهِ، لأَِنَّهُ يُرِيدُ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَخَصْمُهُ يُرِيدُ أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِ، وَمَنْ طَلَبَ السَّلاَمَةَ أَوْلَى بِالنَّظَرِ مِمَّنْ طَلَبَ ضِدَّهَا. (1)
وَيَرَى بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَذْهَبَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ لَيْسَ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ عِنْدَهُ فِي تَعْيِينِ الْقَاضِي الَّذِي تُرْفَعُ إِلَيْهِ الدَّعْوَى وَيُنْظَرُ فِيهَا هِيَ لِمَكَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَنَّ قَاضِيَ هَذَا الْمَكَانِ هُوَ الْمُخْتَصُّ فِيهِ، فَلَيْسَتِ الْعِبْرَةُ لاِخْتِيَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا لِمَكَانِهِ. (2)
18 - الرَّأْيُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ،
__________
(1) الدر المختار مع تكملة الحاشية 7 / 401، البحر الرائق 7 / 193
(2) الفواكه البدرية ص 76، البحر الرائق 7 / 193(20/279)
فَقَدِ اتَّفَقُوا مَعَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ فِي أَنَّ الاِخْتِيَارَ يَكُونُ لِلْمُدَّعِي فِي تَحْدِيدِ الْقَاضِي الْمُخْتَصِّ بِنَظَرِ الدَّعْوَى فِي حَالَةِ تَعَدُّدِ الْقُضَاةِ فِي نِطَاقِ الْبَلَدِ الْوَاحِدِ. إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا مَعَهُمْ فِي تَحْدِيدِهِ عِنْدَمَا يَتَعَدَّدُ الْقُضَاةُ، وَتَتَعَدَّدُ الْبِلاَدُ، وَاخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ فِي ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الْمُدَّعَى بِهِ أَيْضًا عَلَى النَّحْوِ الآْتِي:
1 - فَفِي دَعَاوَى الدَّيْنِ، اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الدَّعْوَى تُنْظَرُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ فِيهِ الطَّالِبُ بِالْمَطْلُوبِ. (1)
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مُدَّعِيَ الدَّيْنِ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مَنْ يَشَاءُ مِنَ الْقُضَاةِ إِذَا كَانَ هُوَ وَخَصْمُهُ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَتَعَدَّدَ قُضَاتُهُ، وَكَانُوا مُسْتَقِلِّينَ بِالنَّظَرِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الدَّعَاوَى. فَإِنْ لَمْ يَكُونَا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يَتَعَلَّقَ بِخَصْمِهِ فِي أَيِّ مَكَانٍ يَجِدُهُ، وَيُطَالِبُ بِحَقِّهِ عِنْدَ قَاضِي ذَلِكَ الْمَكَانِ.
2 - وَفِي دَعَاوَى الْعَيْنِ يُنْظَرُ: إِنْ كَانَ الْمُتَخَاصِمَانِ مِنْ بَلَدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَكِلاَهُمَا فِي وِلاَيَةِ قَاضٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الدَّعْوَى تُرْفَعُ إِلَى ذَلِكَ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي بَلَدِ الْمُدَّعِي أَمْ فِي بَلَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَحَيْثُمَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ. (2)
__________
(1) التاج والإكليل ومواهب الجليل 6 / 146، الخرشي 7 / 174، العقد المنظم للحكام 2 / 201، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 164
(2) حاشية الدسوقي 4 / 164(20/279)
وَأَمَّا إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي وِلاَيَةِ قَاضٍ، فَعِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلاَنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: وَهُوَ لاِبْنِ الْمَاجِشُونِ كَمَا نَقَل عَنْهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَفِيهِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الدَّعْوَى يَنْبَغِي أَنْ تُرْفَعَ إِلَى الْقَاضِي الْمَوْجُودِ فِي مَحَل الشَّيْءِ الْمُدَّعَى. (1) فَإِذَا رُفِعَتْ إِلَيْهِ الدَّعْوَى فَإِنَّهُ يَسْمَعُ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي، وَيَضْرِبُ لِمَنْ عِنْدَهُ الْحَقُّ الْمُدَّعَى أَجَلاً حَتَّى يَأْتِيَ، فَيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ يُوَكِّل لَهُ وَكِيلاً يَقُومُ عَنْهُ بِالْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ. (2)
وَنَقَل فَضْل بْنُ سَلَمَةَ أَنَّ هَذَا الرَّأْيَ ذَهَبَ إِلَيْهِ سَحْنُونُ وَابْنُ كِنَانَةَ. (3)
الْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ قَوْل مُطَرِّفِ وَأَصْبَغَ، وَيَرَيَانِ أَنَّ الدَّعْوَى إِنَّمَا تُرْفَعُ إِلَى قَاضِي مَوْضِعِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى مَوْضِعِ الْمُدَّعِي وَلاَ مَوْضِعِ الْمُدَّعَى بِهِ. (4) وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ، وَقَدْ نَقَلَهُ فَضْل بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَنَقَل بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا هُوَ عَمَل أَهْل الْمَدِينَةِ، (5) غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مِنْ حَقِّ
__________
(1) التاج والإكليل ومواهب الجليل 6 / 146، الخرشي 7 / 174، تبصرة الحكام 1 / 84، العقد المنظم للحكام 2 / 200، حاشية الدسوقي 4 / 164
(2) حاشية الدسوقي 4 / 164
(3) تبصرة الحكام 1 / 84
(4) الشرح الكبير 4 / 164 مطبوع على هامش حاشية الدسوقي، تبصرة الحكام 1 / 84
(5) حاشية الدسوقي 4 / 164(20/280)
الْمُدَّعِي أَنْ يَبْدَأَ بِقَاضِي مَحَلَّتِهِ، فَيَرْفَعَ إِلَيْهِ أَمْرَهُ، وَيُثْبِتَ عِنْدَهُ بَيِّنَتَهُ، ثُمَّ يَكْتُبَ قَاضِيهِ إِلَى قَاضِي مَحَلَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَيَأْخُذَ الْمُدَّعِي كِتَابَ قَاضِيهِ لِيُقَدِّمَهُ إِلَى قَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ وَكَّل غَيْرَهُ، وَأَرْسَلَهُ بِالْكِتَابِ، فَإِذَا قَدِمَ الْمُدَّعِي أَوْ وَكِيلُهُ إِلَى قَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَلَّمَهُ كِتَابَ قَاضِيهِ، فَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ، قَرَأَهُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَسَأَلَهُ الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ، وَإِلاَّ أَنْفَذَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَفْعَل الْمُدَّعِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا قَدِمَ مُبَاشَرَةً إِلَى قَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ مَعَهُ، نُظِرَتِ الدَّعْوَى، وَطُلِبَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمَخْرَجُ. أَمَّا إِذَا أَعْلَمَهُ الْمُدَّعِي أَنَّ بَيِّنَتَهُ فِي مَكَانِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى، كَتَبَ إِلَى قَاضِي مَحَلَّةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَطَلَبَ مِنْهُ تَزْوِيدَهُ بِالْبَيِّنَةِ. وَفِي جَمِيعِ الأَْحْوَال يُعْطَى الْمُدَّعِي أَوِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُدَّةَ الْكَافِيَةَ لِتَحْضِيرِ الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ.
غَيْرَ أَنَّ أَصْبَغَ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ وَجَدَ الْمُدَّعِي خَصْمَهُ فِي مَحَلَّتِهِ أَوْ مَحَلَّةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى، وَتَعَلَّقَ بِهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي وَجَدَهُ فِيهِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ الَّذِي يَنْظُرُ فِي الدَّعْوَى فِي هَذِهِ الْحَال هُوَ قَاضِي الْمَكَانِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ فِيهِ. (1)
تِلْكَ الآْرَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْقَاضِي الْمُخْتَصِّ بِنَظَرِ الدَّعْوَى مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِهَا فِيمَا إِذَا تَمَيَّزَ الْمُدَّعِي
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 84(20/280)
مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مُدَّعِيًا وَمُدَّعًى عَلَيْهِ فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ كَاخْتِلاَفِهِمَا فِي قِسْمَةِ الْمِلْكِ، أَوْ كَمَا إِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ صَدَاقٍ اخْتِلاَفًا يُوجِبُ تَحَالُفَهُمَا، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يُمْكِنُ تَطْبِيقُ أَحَدِ تِلْكَ الآْرَاءِ السَّابِقَةِ، وَإِنَّمَا تُرْفَعُ الدَّعْوَى إِلَى أَقْرَبِ الْقُضَاةِ مِنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْمَسَافَةِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ كَانَ الْقَوْل لَهُ فِي تَعْيِينِ الْقَاضِي الْمُخْتَصِّ. (1)
الرَّأْيُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ، هُوَ مَنْعُ الْمُتَنَازِعَيْنِ مِنَ التَّقَاضِي إِلَى أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى قَاضٍ مُعَيَّنٍ. (2) وَإِنَّمَا ضَعَّفَهُ فُقَهَاءُ الْحَنَابِلَةِ لأَِنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى ظُلْمِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، إِذْ لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُحْتَاجًا إِلَى رَفْعِ الدَّعْوَى أَكْثَرَ مِنَ الآْخَرِ، وَغَالِبًا مَا يَكُونُ هَذَا الْمُحْتَاجُ هُوَ الْمُدَّعِي، وَبِذَلِكَ تُتَاحُ لِلآْخَرِ الْفُرْصَةُ فِي التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ إِذَا طَلَبَ مِنْهُ الاِتِّفَاقَ عَلَى قَاضٍ مُعَيَّنٍ
أَنْوَاعُ الدَّعَاوَى:
19 - لِلدَّعَاوَى تَقْسِيمَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ
__________
(1) حاشية الشرواني وحاشية العبادي على تحفة المحتاج 10 / 119، منتهى الإرادات - القسم الثاني ص 575، كشاف القناع 4 / 172، القواعد لابن رجب ص 363، 364
(2) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 69 - مطبعة مصطفى الحلبي - الطبعة الثانية 1386هـ - 1966 م(20/281)
يَعُودُ مُعْظَمُهَا إِلَى اعْتِبَارَيْنِ:
الاِعْتِبَارُ الأَْوَّل: يَعُودُ إِلَى مَدَى صِحَّةِ الدَّعَاوَى، وَهَذَا بِدَوْرِهِ يَعُودُ إِلَى مِقْدَارِ تَوَفُّرِ الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ فِيهَا.
الاِعْتِبَارُ الثَّانِي: يَعُودُ إِلَى تَنَوُّعِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى.
أَنْوَاعُ الدَّعَاوَى بِاعْتِبَارِ صِحَّتِهَا:
20 - أَوَّلاً: الدَّعْوَى الصَّحِيحَةُ: وَهِيَ الدَّعْوَى الْمُسْتَوْفِيَةُ لِجَمِيعِ شَرَائِطِهَا، وَتَتَضَمَّنُ طَلَبًا مَشْرُوعًا. وَهَذِهِ الدَّعْوَى يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا جَمِيعُ أَحْكَامِهَا، فَيُكَلَّفُ الْخَصْمُ بِالْحُضُورِ، وَبِالْجَوَابِ إِذَا حَضَرَ، وَتُطْلَبُ الْبَيِّنَةُ مِنَ الْمُدَّعِي إِذَا أَنْكَرَ خَصْمُهُ، وَتُوَجَّهُ الْيَمِينُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنْ عَجَزَ الْمُدَّعِي عَنِ الْبَيِّنَةِ.
21 - ثَانِيًا: الدَّعْوَى الْفَاسِدَةُ: وَهِيَ الدَّعْوَى الَّتِي اسْتَوْفَتْ جَمِيعَ شَرَائِطِهَا الأَْسَاسِيَّةِ، وَلَكِنَّهَا مُخْتَلَّةٌ فِي بَعْضِ أَوْصَافِهَا بِصُورَةٍ يُمْكِنُ إِصْلاَحُهَا وَتَصْحِيحُهَا، كَأَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ عَلَى آخَرَ بِدَيْنٍ، وَلاَ يُبَيِّنُ مِقْدَارَهُ، أَوْ يَدَّعِي عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ عَقَارٍ، وَلاَ يُبَيِّنُ حُدُودَهُ. وَتَرْجِعُ أَسْبَابُ الْفَسَادِ فِي الدَّعْوَى إِلَى تَخَلُّفِ أَحَدِ شَرْطَيْنِ هُمَا:
أ - شَرْطُ الْمَعْلُومِيَّةِ: مَعْلُومِيَّةُ الْمُدَّعَى، كَمَا فِي الْمِثَالَيْنِ السَّابِقَيْنِ، أَوْ مَعْلُومِيَّةُ سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُهُ مِنَ الدَّعَاوَى.(20/281)
ب - الشُّرُوطُ الْمَطْلُوبَةُ فِي التَّعْبِيرِ الْمُكَوِّنِ لِلدَّعْوَى، كَمَا لَوْ كَانَتِ الدَّعْوَى فِي طَلَبِ عَيْنٍ مِنَ الأَْعْيَانِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُدَّعِي فِيهَا أَنَّهَا بِيَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ مُتَرَدِّدًا فِي الأَْلْفَاظِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا، كَأَنْ يَقُول: أَشُكُّ أَوْ أَظُنُّ أَنَّ لِي عَلَى فُلاَنٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مَثَلاً. فَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْحَالاَتِ لاَ تُرَدُّ الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ مِنَ الْمُدَّعِي إِكْمَال مَا يَنْقُصُهَا، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ نُظِرَتْ دَعْوَاهُ، وَطَلَبَ الْجَوَابَ مِنْ خَصْمِهِ، وَإِلاَّ فَتُرَدُّ إِلَى أَنْ يُصَحِّحَهَا. (1)
وَهَذَا الاِصْطِلاَحُ فِي تَسْمِيَةِ هَذِهِ الأَْنْوَاعِ مِنَ الدَّعَاوَى بِالْفَاسِدَةِ اخْتَصَّ بِهِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ.
غَيْرَ أَنَّ فُقَهَاءَ الشَّافِعِيَّةِ ذَكَرُوا هَذَا النَّوْعَ مِنَ الدَّعَاوَى، وَجَعَلُوا لَهُ الأَْحْكَامَ ذَاتَهَا، إِلاَّ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَهَا بِالدَّعَاوَى النَّاقِصَةِ. وَالدَّعْوَى النَّاقِصَةُ عِنْدَهُمْ هِيَ: كُل دَعْوَى يَفْتَقِرُ الْحَاكِمُ فِي فَصْل الْخُصُومَةِ مَعَهَا إِلَى شَيْءٍ آخَرَ. (2) وَقَدْ جَعَلُوا الدَّعْوَى النَّاقِصَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: نَاقِصَةُ الصِّفَةِ وَنَاقِصَةُ الشَّرْطِ:
أَمَّا نَاقِصَةُ الصِّفَةِ فَهِيَ الدَّعْوَى الَّتِي لَمْ يُفَصِّل الْمُدَّعِي فِيهَا أَوْصَافَ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى اللاَّزِمَ ذِكْرُهَا، كَأَنْ يُهْمِل ذِكْرَ حُدُودِ الْعَقَارِ الْمُدَّعَى، أَوْ
__________
(1) المبسوط 16 / 78، تبصرة الحكام 1 / 104، تحفة المحتاج 10 / 297، المغني 9 / 86
(2) أدب القضاء للغزي ق10 أ - مخطوط بدار الكتب (907 فقه شافعي) .(20/282)
مِقْدَارَ الدَّيْنِ، وَفِيهَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْأَل الْمُدَّعِيَ عَنِ النَّقْصِ، فَإِنْ أَكْمَلَهُ صَحَّتِ الدَّعْوَى وَإِلاَّ فَلاَ.
وَأَمَّا نَاقِصَةُ الشَّرْطِ فَيَقْصِدُونَ بِهَا دَعْوَى النِّكَاحِ الَّتِي لاَ يُذْكَرُ فِيهَا الْوَلِيُّ وَالشُّهُودُ. (1)
وَلاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُ هَذِهِ الدَّعَاوَى عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى عَمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
وَهُنَاكَ نَوْعٌ مِنَ الدَّعَاوَى عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ تَكُونُ نَاقِصَةً فِي حُكْمِهَا لِنُقْصَانِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهَا. وَهَذِهِ هِيَ الدَّعَاوَى الَّتِي يَنْقِصُهَا حُصُول خِلْطَةٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنَّهَا تُسْمَعُ، وَلَكِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لاَ يُطَالَبُ بِالْيَمِينِ إِذَا عَجَزَ الْمُدَّعِي عَنْ إِثْبَاتِهَا بِالْبَيِّنَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا النَّوْعِ وَالدَّعْوَى الْفَاسِدَةِ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ، أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى صَحِيحَةٌ فِي ذَاتِهَا، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامُهَا جَمِيعُهَا إِلاَّ الْيَمِينَ. وَالشَّرْطُ النَّاقِصُ فِيهَا لاَ يُمْكِنُ اسْتِكْمَالُهُ خِلاَفًا لِلدَّعْوَى الْفَاسِدَةِ.
22 - ثَالِثًا: الدَّعْوَى الْبَاطِلَةُ: وَهِيَ الدَّعْوَى غَيْرُ الصَّحِيحَةِ أَصْلاً، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ، لأَِنَّ إِصْلاَحَهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَتَعُودُ أَسْبَابُ الْبُطْلاَنِ فِي الدَّعَاوَى إِلَى فَقْدِ أَحَدِ الشُّرُوطِ الأَْسَاسِيَّةِ الْمَطْلُوبَةِ فِيهَا. وَمِنْ أَمْثِلَةِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ
__________
(1) الحاوي للماوردي جـ 13 ق 45 ب - مخطوط بدار الكتب المصرية (501 فقه شافعي)(20/282)
الدَّعْوَى الَّتِي يَرْفَعُهَا الشَّخْصُ، وَلاَ يَكُونُ لَهُ فِي رَفْعِهَا صِفَةٌ، كَأَنْ يَكُونَ فُضُولِيًّا، فَلاَ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتَكُونُ بَاطِلَةً. وَكَذَلِكَ الدَّعْوَى الْمَرْفُوعَةُ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِخَصْمٍ، وَالدَّعْوَى الْمَرْفُوعَةُ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالدَّعْوَى الَّتِي لاَ تَسْتَنِدُ إِلَى حَقٍّ وَلَوْ فِي الظَّاهِرِ، كَمَنْ يَطْلُبُ فِي دَعْوَاهُ الْحُكْمَ عَلَى آخَرَ بِوُجُوبِ إِقْرَاضِهِ مَالاً لأَِنَّهُ مُعْسِرٌ، وَدَعْوَى مَا لَيْسَ مَشْرُوعًا، كَدَعْوَى الْمُطَالَبَةِ بِثَمَنِ خَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، أَوْ مَيْتَةٍ. وَقَدْ تُسَمَّى هَذِهِ الدَّعَاوَى عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ بِالدَّعَاوَى الْفَاسِدَةِ، وَهُوَ اصْطِلاَحٌ عَامٌّ عِنْدَهُمْ يَدْخُل تَحْتَهُ جَمِيعُ الدَّعَاوَى الْمُخْتَلَّةِ فِي أَيَّةِ نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِيهَا الأَْسَاسِيَّةِ، وَقَدْ صَنَّفَهَا الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى صِنْفَيْنِ:
الصِّنْفُ الأَْوَّل: مَا عَادَ فَسَادُهُ إِلَى الْمُدَّعِي، وَذَلِكَ كَمُسْلِمٍ ادَّعَى نِكَاحَ مَجُوسِيَّةٍ، فَهَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ لاِمْتِنَاعِ مَقْصُودِهَا فِي حَقِّ الْمُدَّعِي.
الصِّنْفُ الثَّانِي: مَا عَادَ فَسَادُهُ إِلَى الشَّيْءِ الْمُدَّعَى، وَجُعِل هَذَا الصِّنْفُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ:
الضَّرْبُ الأَْوَّل: دَعْوَى مَا لاَ تُقَرُّ الْيَدُ عَلَيْهِ، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: دَعْوَى مَا تُقَرُّ عَلَيْهِ الْيَدُ، وَلاَ تَصِحُّ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهُ، كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ وَالسَّمَادِ النَّجِسِ، فَهَذِهِ تُقَرُّ عَلَيْهَا الْيَدُ، لِلاِنْتِفَاعِ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبِغَ، وَبِالسِّمَادِ فِي الزُّرُوعِ وَالشَّجَرِ،(20/283)
فَإِذَا تَوَجَّهَتِ الدَّعْوَى إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا، لَمْ يَخْل مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاقِيًا أَوْ تَالِفًا، فَإِنْ كَانَ تَالِفًا كَانَتِ الدَّعْوَى بَاطِلَةً، لأَِنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ بِتَلَفِهَا مِثْلٌ وَلاَ قِيمَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً لَمْ يَخْل أَنْ يَدَّعِيَهَا بِمُعَاوَضَةٍ أَوْ بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الأُْولَى، كَأَنْ يَدَّعِيَهَا بِالاِبْتِيَاعِ، كَانَتِ الدَّعْوَى بَاطِلَةً، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَفَعَ ثَمَنَهَا، فَتَكُونَ دَعْوَاهُ مُتَوَجِّهَةً إِلَى الثَّمَنِ إِنْ طَلَبَهُ، وَيَكُونَ ذِكْرُ ابْتِيَاعِهَا إِخْبَارًا عَنِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لاِسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ. أَمَّا إِذَا ادَّعَاهَا بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ، فَقَدْ صَحَّتْ دَعْوَاهُ مِنْ أَحَدِ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ: دَعْوَى غَصْبِهَا، وَدَعْوَى الْوَصِيَّةِ بِهَا، وَدَعْوَى هِبَتِهَا.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: دَعْوَى مَا تُقَرُّ الْيَدُ عَلَيْهِ مِلْكًا، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِل مِنْ مَالِكٍ إِلَى مَالِكٍ، وَهَذَا كَالْوَقْفِ، فَالدَّعْوَى فِيهِ عَلَى الْمَالِكِ فَاسِدَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَهَا الْقَاضِي عَلَى مَالِكٍ، لاِسْتِحَالَةِ انْتِقَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ. (1)
23 - الدَّعَاوَى الْمَمْنُوعُ سَمَاعُهَا: وَهَذِهِ الدَّعَاوَى صَحِيحَةٌ فِي أَصْلِهَا، وَإِنَّمَا مَنَعَ الْقُضَاةُ مِنْ سَمَاعِهَا، لاِقْتِضَاءِ الْمَصْلَحَةِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ كَدَعْوَى مَا تَقَادَمَ زَمَانُهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ ذِمَّتِهِ، قَال فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: (الْقَضَاءُ مُظْهِرٌ لاَ مُثْبِتٌ، وَيَتَخَصَّصُ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ وَخُصُومَةٍ،
__________
(1) الحاوي للماوردي ج 13 ق 44 ب، 45 أ(20/283)
حَتَّى لَوْ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِعَدَمِ سَمَاعِ الدَّعْوَى بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَسَمِعَهَا لَمْ يَنْفُذْ) قَال ابْنُ عَابِدِينَ: (سَلاَطِينُ آل عُثْمَانَ يَأْمُرُونَ قُضَاتَهُمْ فِي جَمِيعِ وِلاَيَاتِهِمْ أَنْ لاَ يَسْمَعُوا دَعْوَى بَعْدَ مُضِيِّ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً سِوَى الْوَقْفِ وَالإِْرْثِ، وَنَقَل فِي الْحَامِدِيَّةِ فَتَاوَى مِنَ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ بِعَدَمِ سَمَاعِهَا بَعْدَ النَّهْيِ الْمَذْكُورِ، لَكِنْ هَل يَبْقَى النَّهْيُ بَعْدَ مَوْتِ السُّلْطَانِ الَّذِي نَهَى بِحَيْثُ لاَ يَحْتَاجُ بَعْدَهُ إِلَى نَهْيٍ جَدِيدٍ؟ أَفْتَى فِي الْخَيْرِيَّةِ بِأَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ النَّهْيِ، وَلاَ يَسْتَمِرُّ. . .) . (1)
وَعَدَمُ سَمَاعِ الدَّعْوَى بِمُرُورِ الزَّمَانِ إِنَّمَا هُوَ لِلنَّهْيِ عَنْهُ مِنَ السُّلْطَانِ، فَيَكُونُ الْقَاضِي مَعْزُولاً عَنْ سَمَاعِهَا، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْقَضَاءَ يَتَخَصَّصُ بِالزَّمَانِ، فَإِذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ بِسَمَاعِهَا بِالرَّغْمِ مِنْ مُرُورِ الزَّمَانِ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تُسْمَعُ، وَالْغَرَضُ مِنَ النَّهْيِ قَطْعُ الْحِيَل وَالتَّزْوِيرِ، وَعَدَمُ سَمَاعِ الْقَاضِي لَهَا إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ إِنْكَارِ الْخَصْمِ، فَلَوِ اعْتَرَفَ تُسْمَعُ، إِذْ لاَ تَزْوِيرَ مَعَ الإِْقْرَارِ.
وَعَدَمُ سَمَاعِهَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ حَيْثُ يَتَحَقَّقُ تَرْكُهَا الْمُدَّةَ الْمُقَرَّرَةَ، فَلَوِ ادَّعَى الْمُدَّعِي فِي أَثْنَائِهَا، لَمْ يُمْنَعْ مِنْ سَمَاعِ دَعْوَاهُ ثَانِيَةً، مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الدَّعْوَى الأُْولَى وَالثَّانِيَةِ هَذِهِ الْمُدَّةُ، وَشَرْطُ الدَّعْوَى الْقَاطِعَةِ لِلْمُدَّةِ أَنْ تَكُونَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَلَوْ أَنَّ شَخْصًا تَرَكَ دَعْوَاهُ مُدَّةَ خَمْسَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 342 - مطبعة مصطفى الحلبي 1386هـ.(20/284)
عَشْرَةَ سَنَةً وَلَمْ يَدَّعِ عِنْدَ الْقَاضِي، بَل طَالَبَ خَصْمَهُ بِحَقِّهِ مِرَارًا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَمُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ أَنْ لاَ تُسْمَعَ دَعْوَاهُ. وَتَرْكُ الدَّعْوَى إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ ثُبُوتِ حَقِّ طَلَبِهَا، فَلَوْ مَاتَ زَوْجُ الْمَرْأَةِ، أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً مَثَلاً مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ فَلَهَا طَلَبُ مُؤَخَّرِ الْمَهْرِ، لأَِنَّ حَقَّ طَلَبِهِ إِنَّمَا ثَبَتَ لَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَوِ الطَّلاَقِ، لاَ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ. وَمِثْلُهُ مَا لَوْ أَخَّرَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ مُدَّةَ التَّقَادُمِ لإِِعْسَارِ الْمَدْيُونِ، ثُمَّ ثَبَتَ يَسَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَتُحْسَبُ الْمُدَّةُ مِنْ وَقْتِ ثُبُوتِ الْيَسَارِ. (1)
أَنْوَاعُ الدَّعَاوَى بِاعْتِبَارِ تَنَوُّعِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى:
24 - الْمُدَّعَى فِي الدَّعْوَى لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ الْحُقُوقِ الَّتِي قَرَّرَهَا الشَّارِعُ، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ تَعُودُ فِي مُجْمَلِهَا إِمَّا إِلَى حِفْظِ النَّوْعِ الإِْنْسَانِيِّ وَبَقَاءِ النَّسْل وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، وَإِمَّا إِلَى حِفْظِ الْفَرْدِ الإِْنْسَانِيِّ وَمَا يَتَّبِعُهُ مِنْ حِفْظِ عِرْضِهِ وَعَقْلِهِ وَدِينِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (2)
وَقَدْ شُرِعَتِ الدَّعَاوَى مِنْ أَجْل حِمَايَةِ هَذِهِ الْحُقُوقِ، فَتَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِهَا، وَذَلِكَ مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ:
25 - أَوَّلاً: الْمُدَّعَى قَدْ يَكُونُ فِعْلاً مُحَرَّمًا وَقَعَ مِنْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 343
(2) العناية 6 / 137 بهامش فتح القدير - مطبعة مصطفى محمد 1356 هـ.(20/284)
شَخْصٍ وَيُوجِبُ عُقُوبَتَهُ، كَالْقَتْل، أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، أَوِ السَّرِقَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْعُدْوَانِ، وَقَدْ لاَ يَكُونُ كَذَلِكَ، بِأَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ عَقْدًا مِنْ بَيْعٍ، أَوْ قَرْضٍ، أَوْ رَهْنٍ، أَوْ غَيْرِهَا. فَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ تَقْسِيمُ الدَّعَاوَى إِلَى قِسْمَيْنِ رَئِيسِيَّيْنِ هُمَا: دَعَاوَى التُّهْمَةِ، وَدَعَاوَى غَيْرِ التُّهْمَةِ.
وَفَائِدَةُ هَذَا التَّقْسِيمِ تَظْهَرُ فِي الإِْجْرَاءَاتِ وَطُرُقِ الإِْثْبَاتِ الْمُتَّبَعَةِ فِي كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ:
1 - فَإِنَّ بَعْضَ دَعَاوَى التُّهَمِ وَالْعُدْوَانِ لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِنِصَابٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الشُّهُودِ يَزِيدُ عَلَى النِّصَابِ الْمَطْلُوبِ فِي الدَّعَاوَى الأُْخْرَى. وَكَثِيرٌ مِنْهَا لاَ يَثْبُتُ بِالنُّكُول إِذَا صَدَرَ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
2 - ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ قَدْ أَجَازُوا فِي حَقِّ الْمُتَّهَمِ فِي دَعَاوَى التُّهْمَةِ أَسَالِيبَ مِنَ الإِْجْرَاءَاتِ لاَ يَجُوزُ اتِّخَاذُهَا فِي الدَّعَاوَى الأُْخْرَى، وَذَلِكَ كَحَبْسِ الْمُتَّهَمِ إِذَا كَانَ مِمَّنْ تَلْحَقُهُمُ التُّهْمَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ مَجْهُول الْحَال. (1)
26 - ثَانِيًا: الْمُدَّعَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا، أَوْ دَيْنًا، أَوْ حَقًّا شَرْعِيًّا مَحْضًا. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ يُمْكِنُ تَصْنِيفُ الدَّعَاوَى إِلَى ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ:
الصِّنْفُ الأَْوَّل: دَعَاوَى الْعَيْنِ: وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ مَحَلُّهَا عَيْنًا مِنَ الأَْعْيَانِ، وَالْعَيْنُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَقَارًا فَتُسَمَّى بِدَعْوَى الْعَقَارِ، أَوْ تَكُونَ مَنْقُولاً فَتُسَمَّى دَعْوَى الْمَنْقُول.
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 153، 158 - 159(20/285)
الصِّنْفُ الثَّانِي: دَعَاوَى الدَّيْنِ: وَهِيَ مَا يَكُونُ مَحَلُّهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، مَهْمَا كَانَ سَبَبُ هَذَا الدَّيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَقْدَ قَرْضٍ، أَمْ ثَمَنَ مَبِيعٍ، أَمْ ضَمَانًا لِشَيْءٍ أَتْلَفَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: دَعَاوَى الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ: وَيُقْصَدُ بِهَا الدَّعَاوَى الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا الْحُقُوقُ الأُْخْرَى الَّتِي لاَ تَدْخُل فِي زُمْرَةِ الأَْعْيَانِ وَلاَ زُمْرَةِ الدُّيُونِ، وَلَيْسَ لَهَا خَصَائِصُهَا مِنْ قَابِلِيَّةِ الاِنْتِقَال بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَمُعْظَمُهَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُقُوقِ الْعَائِلِيَّةِ مِنْ نَسَبٍ وَنِكَاحٍ وَحَضَانَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْهَا دَعَاوَى الشُّفْعَةِ. (1)
وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا التَّصْنِيفِ لأَِنْوَاعِ الدَّعَاوَى أَمْرَانِ هُمَا:
1 - مَعْرِفَةُ الْخَصْمِ الَّذِي تُوَجَّهُ إِلَيْهِ الدَّعْوَى، فَقَدْ وَضَعَ الْفُقَهَاءُ قَوَاعِدَ - سَيَأْتِي ذِكْرُهَا - لَتَعْيِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي كُل صِنْفٍ مِنْ تِلْكَ الأَْصْنَافِ، وَجَعَلُوا لِكُل نَوْعٍ قَاعِدَةً خَاصَّةً، لِمَعْرِفَةِ مَنْ هُوَ الْخَصْمُ فِي الدَّعْوَى.
2 - مَعْرِفَةُ الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا الْمُدَّعَى فِي كُل نَوْعٍ، فَجَعَلُوا لِمَعْلُومِيَّةِ الْمُدَّعَى فِي دَعَاوَى الدَّيْنِ قَاعِدَةً عَامَّةً، وَكَذَلِكَ لِدَعَاوَى الْعَيْنِ، وَدَعَاوَى الْحُقُوقِ الْمَحْضَةِ. وَفِي كُل مَرَّةٍ يُرِيدُ الْقَاضِي تَحْدِيدَ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى فِي الدَّعْوَى يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ هِيَ.
__________
(1) أدب القضاء لابن أبي الدم ص 154 - ط دار الكتب الحديثة - الكويت(20/285)
27 - ثَالِثًا: الْمُدَّعَى قَدْ يَكُونُ حَقًّا أَصْلِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ يَدًا وَتَصَرُّفًا، وَبِنَاءً عَلَيْهِ تَنْقَسِمُ الدَّعَاوَى إِلَى قِسْمَيْنِ: دَعَاوَى الْحَقِّ، وَدَعَاوَى الْحِيَازَةِ أَوْ دَعَاوَى وَضْعِ الْيَدِ، وَفِي الأُْولَى يُطْلَبُ الْحُكْمُ بِالْحَقِّ الأَْصْلِيِّ، وَهُوَ حَقُّ الْمِلْكِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَنْهُ مِنَ الْحُقُوقِ، وَيُطْلَبُ فِي الثَّانِي الْحُكْمُ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْعَيْنِ مَحَل الدَّعْوَى.
وَالْحِيَازَةُ مَصْلَحَةٌ يَرْعَاهَا الشَّارِعُ وَيَحْمِيهَا إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ ارْتِكَازُهَا عَلَى سَبَبٍ بَاطِلٍ، فَلاَ يُعْتَرَفُ بِهَا عِنْدَئِذٍ وَإِنْ طَالَتْ. وَلِذَلِكَ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْيَدَ أَوِ (الْحِيَازَةَ) حَقٌّ مَقْصُودٌ لِلإِْنْسَانِ، (1) فَيَصِحُّ أَنْ تُطْلَبَ بِالدَّعْوَى، سَوَاءٌ أَطُلِبَ الْحُكْمُ بِهَا أَمْ طُلِبَتْ إِعَادَتُهَا لِمَنْ سُلِبَتْ مِنْهُ، أَمْ طُلِبَ دَفْعُ التَّعَرُّضِ لَهَا أَمْ غَيْرُ ذَلِكَ. وَمِنَ الدَّعَاوَى الَّتِي شُرِعَتْ لِهَذَا الْغَرَضِ:
28 - أ - دَعْوَى دَفْعِ التَّعَرُّضِ: وَالتَّعَرُّضُ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ أَنْ يُحَاوِل غَيْرُ ذِي حَقٍّ الاِسْتِيلاَءَ عَلَى مَا هُوَ لِغَيْرِهِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، أَوْ بِالاِسْتِعَانَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، فَيَرْفَعُ صَاحِبُ الْحَقِّ دَعْوَى يَطْلُبُ بِهَا مَنْعَ تَعَرُّضِهِ لَهُ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ دَفْعَهُ بِنَفْسِهِ.
وَقَدْ قَرَّرَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ التَّعَرُّضَ هُوَ كُل مَا يَسْتَضِرُّ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ الْمُدَّعَى: إِمَّا بِمَدِّ الْيَدِ إِلَى مِلْكِهِ. أَوْ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، أَوْ
__________
(1) المبسوط 17 / 35، العناية 6 / 256 - 257، الشرح الصغير 4 / 320(20/286)
بِمُلاَزَمَتِهِ عَلَيْهِ وَقَطْعِهِ عَنْ أَشْغَالِهِ. (1)
وَقَدْ أَجَازَ الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الدَّعْوَى مَهْمَا كَانَ مَحَلُّهَا عَقَارًا أَوْ مَنْقُولاً، (2) بَل ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِهَا لِدَفْعِ تَعَرُّضٍ مُوَجَّهٍ إِلَى ذِمَّةِ شَخْصٍ آخَرَ، كَأَنْ يُطَالِبَهُ بِدَيْنٍ يَدَّعِيهِ فِي ذِمَّتِهِ، فَيَتَضَرَّرُ مِنْ هَذِهِ الْمُطَالَبَةِ، كَأَنْ يُلاَزِمَهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ يُشَنِّعَ عَلَيْهِ فِي جَاهِهِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُطَالَبَتُهُ لاَ تَضُرُّهُ، فَإِنَّهَا لاَ تَصِحُّ دَعْوَى دَفْعِ التَّعَرُّضِ مِنْهُ. (3)
وَتَخْتَلِفُ هَذِهِ الدَّعْوَى عَنْ دَعْوَى قَطْعِ النِّزَاعِ بِأَنَّ هَذِهِ الأَْخِيرَةَ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ إِنْسَانٍ غَيْرَهُ عِنْدَ الْقَاضِي بِدُونِ أَنْ يُعَارِضَهُ فِي شَيْءٍ يَضُرُّهُ، وَيَقُول لِلْقَاضِي: بَلَغَنِي أَنَّ فُلاَنًا يُرِيدُ مُنَازَعَتِي وَمُخَاصَمَتِي، وَأُرِيدُ قَطْعَ النِّزَاعِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَأَطْلُبُ إِحْضَارَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ فَلْيُبَيِّنْهُ أَمَامَكَ بِالْحُجَّةِ، وَإِلاَّ فَلْيَعْتَرِفْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ كُل حَقٍّ يَدَّعِيهِ، فَهَذَا الْقَوْل لاَ يُسْمَعُ مِنْهُ، لأَِنَّ الْمُدَّعِيَ لاَ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ. (4)
29 - ب - دَعْوَى اسْتِرْدَادِ الْحِيَازَةِ: يَجُوزُ
__________
(1) الحاوي للماوردي ج 13 ق 44 ب، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 507 - 508 - طبع دار الكتب العلمية، بيروت.
(2) البحر الرائق 7 / 194، الحاوي جـ 13 ق 44 ب، المغني 9 / 85
(3) الحاوي جـ 13 ق 44 ب
(4) البحر الرائق 7 / 194(20/286)
لِصَاحِبِ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ الْقَاضِي إِعَادَةَ حِيَازَتِهِ الْمَغْصُوبَةِ مِنْهُ بِالْقَهْرِ أَوِ الْحِيلَةِ أَوِ الْخِدَاعِ، فَلِمَالِكِ الْعَيْنِ أَوْ مُسْتَعِيرِهَا أَوْ مُسْتَأْجِرِهَا أَوْ مُرْتَهِنِهَا أَنْ يَرْفَعَ الدَّعْوَى لاِسْتِرْدَادِ مَا سُلِبَ مِنْهُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ سَالِبُ الْحِيَازَةِ مُحِقًّا فِيمَا فَعَل فَيُقْضَى لَهُ بِحَقِّهِ وَحِيَازَتِهِ.
شُرُوطُ الدَّعْوَى:
30 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى جُمْلَةُ شُرُوطٍ بَعْضُهَا فِي الْقَوْل الَّذِي يَصْدُرُ عَنِ الْمُدَّعِي يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ حَقٍّ لِنَفْسِهِ، وَبَعْضُهَا فِي الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا فِي الْمُدَّعَى بِهِ، وَبَعْضُهَا فِي رُكْنِ الدَّعْوَى.
أَوَّلاً: مَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَوْل الَّذِي يَصْدُرُ عَنِ الْمُدَّعِي وَيَطْلُبُ بِهِ حَقًّا لِنَفْسِهِ:
يُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْقَوْل عِدَّةُ شُرُوطٍ، وَهِيَ:
31 - الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ لاَ تَكُونَ الدَّعْوَى مُنَاقِضَةً لأَِمْرٍ سَبَقَ صُدُورُهُ عَنِ الْمُدَّعِي. (1)
وَالتَّنَاقُضُ فِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ تَقَابُل
__________
(1) المبسوط 17 / 96، بدائع الصنائع 6 / 223 - 224، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 87 - المطبعة الحسينية بمصر 1322 هـ، القوانين الفقهية لابن جزي ص 291، تبصرة الحكام 1 / 136 - 137، شرح المحلي على المنهاج 4 / 334، تحفة المحتاج 10 / 296، مغني المحتاج 4 / 110 طبع سنة 1377 هـ، الفروع 3 / 808، غاية المنتهى 3 / 448، كشاف القناع 4 / 203(20/287)
الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ. (1)
وَالْمَقْصُودُ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يَسْبِقَ مِنَ الْمُدَّعِي مَا يُعَارِضُ دَعْوَاهُ بِحَيْثُ بِهِ يَسْتَحِيل الْجَمْعُ بَيْنَ السَّابِقِ وَاللاَّحِقِ، (2) وَذَلِكَ كَمَا لَوْ ادَّعَى شَخْصٌ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وَقْفٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ ادَّعَاهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَلاَ تُقْبَل لِوُجُودِ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الدَّعْوَيَيْنِ، إِذِ الْوَقْفُ لاَ يَصِيرُ مِلْكًا. (3)
وَالتَّنَاقُضُ الْمَانِعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى قَدْ يَقَعُ مِنَ الْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى الأَْصْلِيَّةِ، كَمَا لَوْ طَلَبَ شَخْصٌ شِرَاءَ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ هِبَتَهُ مِنْهُ، أَوْ إِيدَاعَهُ عِنْدَهُ أَوْ إِجَارَتَهُ لَهُ، ثُمَّ ادَّعَى مِلْكِيَّةَ هَذَا الشَّيْءِ، وَكَمَا لَوْ خَطَبَ رَجُلٌ امْرَأَةً يُرِيدُ نِكَاحَهَا، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ زَوْجُهَا. (4) وَقَدْ يَقَعُ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي دَفْعٍ مِنَ الدُّفُوعِ الَّتِي يُقَدِّمُهَا، كَمَا لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ وَدِيعَةً، فَأَنْكَرَهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الإِْيدَاعِ، فَدَفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِرَدِّهَا أَوْ هَلاَكِهَا،
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون المجلد الثاني ص 1413
(2) الفواكه البدرية ص 98
(3) درر الحكام وحاشية الشرنبلالي 2 / 355، تنوير الأبصار والدر المختار ص 7 / 18
(4) جامع الفصولين 1 / 149 - المطبعة الأزهرية - الطبعة الأولى 1300 هـ، شرح المحلي على المنهاج 4 / 344(20/287)
فَلاَ يُقْبَل دَفْعُهُ، لِتَنَاقُضِهِ مَعَ إِنْكَارِهِ السَّابِقِ. (1)
وَيَجْمَعُ هَذِهِ الأَْمْثِلَةَ وَأَشْبَاهَهَا أَنَّ مَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ مِنَ الْحُقُوقِ فَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَلَمَّا خَافَ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ أَقَرَّ بِهِ وَادَّعَى فِيهِ وَجْهًا مِنْ وُجُوهِ الإِْسْقَاطِ، لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَلَمْ يُقْبَل مِنْهُ. (2)
وَلاَ يَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ الْمَانِعُ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى إِلاَّ بِشُرُوطٍ هِيَ:
32 - أ - أَنْ يَكُونَ الأَْمْرَانِ الْمُتَنَاقِضَانِ (وَهُمَا الدَّعْوَى وَمَا صَدَرَ قَبْلَهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ) صَادِرَيْنِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمُدَّعِي، أَوْ عَنْ شَخْصَيْنِ هُمَا فِي حُكْمِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، كَمَا هُوَ الْحَال فِي الْوَكِيل وَالْمُوَكِّل، وَالْوَارِثِ وَالْمُوَرِّثِ. فَلَوْ أَنَّ الْوَكِيل ادَّعَى عَيْنًا لِمُوَكِّلِهِ، وَكَانَ هَذَا الْمُوَكِّل قَدْ سَبَقَ مِنْهُ إِقْرَارٌ بِأَنَّ تِلْكَ الْعَيْنَ لَيْسَتْ لَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ لِغَيْرِهِ، لَمْ تُقْبَل دَعْوَى الْوَكِيل لِمُنَاقَضَتِهَا لإِِقْرَارِ الْمُوَكِّل. (3)
33 - ب - أَنْ لاَ يَقَعَ مِنَ الْمُدَّعِي تَوْفِيقٌ بَيْنَ دَعْوَاهُ وَمَا صَدَرَ عَنْهُ مِمَّا يُنَاقِضُهَا، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا
__________
(1) جامع الفصولين 1 / 149، العقد المنظم للحكام 2 / 198، تبصرة الحكام 1 / 136 - 137
(2) تبصرة الحكام 1 / 136
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 87، تحفة المحتاج وحاشية الشرواني 10 / 296(20/288)
جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) . (1)
وَأَمَّا فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ فِي هَذَا الشَّرْطِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: مِثْل رَأْيِ الْجُمْهُورِ. (2)
الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ وُقُوعُ التَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ مِنَ الْمُدَّعِي بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ إِمْكَانِ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ التَّنَاقُضِ، وَسَوَاءٌ أَوَقَعَ فِي الدَّعْوَى الأَْصْلِيَّةِ، أَمْ وَقَعَ فِي الدَّفْعِ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيِّنًا أَمْ مُبْهَمًا. (3)
فَبِنَاءً عَلَى هَذَا الرَّأْيِ إِذَا دَفَعَ الْخَصْمُ بِتَنَاقُضِ خَصْمِهِ فِي دَعْوَاهُ اكْتُفِيَ لِرَدِّ هَذَا الدَّفْعِ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْقَاضِي إِمْكَانَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ سُؤَال الْمُتَنَاقِضِ - ظَاهِرًا - أَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَهُمَا فِعْلاً.
فَلَوْ أَنَّ شَخْصًا ادَّعَى دَارًا بِهِبَةٍ أَوْ شِرَاءٍ مِنْ أَبِيهِ، ثُمَّ ادَّعَاهَا إِرْثًا مِنْهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ الثَّانِيَةُ لإِِمْكَانِ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْكَلاَمَيْنِ، بِأَنْ يَكُونَ قَدِ ابْتَاعَ الدَّارَ مِنْ أَبِيهِ، فَعَجَزَ عَنْ إِثْبَاتِ ذَلِكَ لِعَدَمِ
__________
(1) القوانين الفقهية ص 291، أدب القضاء لابن أبي الدم ق 51 ب، مختصر الفتاوى المصرية ص 608، جامع الفصولين 1 / 128، درر الحكام 2 / 35
(2) جامع الفصولين 1 / 152
(3) جامع الفصولين 1 / 151 - 152، طبع 1300 هـ، حاشية ابن عابدين 7 / 14 طبع 1386 هـ(20/288)
الْبَيِّنَةِ، ثُمَّ وَرِثَهَا بَعْدَ ذَلِكَ. غَيْرَ أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى أَوَّلاً انْتِقَال الدَّارِ إِلَيْهِ بِالإِْرْثِ، ثُمَّ ادَّعَاهَا بِالشِّرَاءِ لَمْ تُقْبَل دَعْوَاهُ الأُْخْرَى، لِلتَّنَاقُضِ وَتَعَذُّرِ التَّوْفِيقِ. (1)
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عَدَمُ إِمْكَانِ التَّوْفِيقِ إِذَا وَقَعَ التَّنَاقُضُ فِي كَلاَمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (أَيْ: فِي دَفْعِهِ لِلدَّعْوَى الأَْصْلِيَّةِ) . أَمَّا إِذَا وَقَعَ التَّنَاقُضُ مِنَ الْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى الأَْصْلِيَّةِ، فَلاَ يُشْتَرَطُ فِي اعْتِبَارِهِ عَدَمُ إِمْكَانِ التَّوْفِيقِ، وَإِنَّمَا عَدَمُ وُقُوعِ التَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ مِنَ الْمُتَنَاقِضِ. وَيُعْتَبَرُ التَّنَاقُضُ مَانِعًا مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى، وَإِنْ كَانَ التَّوْفِيقُ مُمْكِنًا، إِذَا لَمْ يَقُمِ الْمُدَّعِي بِالتَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ بَيْنَ أَقْوَالِهِ الْمُتَنَاقِضَةِ. (2)
الرَّابِعُ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عَدَمُ التَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ لاِعْتِبَارِ التَّنَاقُضِ مَانِعًا مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى إِذَا كَانَ ظَاهِرًا لِنَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ، وَكَانَ التَّوْفِيقُ خَفِيًّا، وَإِلاَّ فَيُشْتَرَطُ عَدَمُ الإِْمْكَانِ، فَمَنْ كَانَ قَدِ ادَّعَى لِغَيْرِهِ عَيْنًا لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَهَا لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ قَدِ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بَعْدَ تَأْرِيخِ الدَّعْوَى السَّابِقَةِ، فَإِنْ وَفَّقَ بِهَذَا فِعْلاً، وَبَرْهَنَ عَلَيْهِ قُبِلَتْ دَعْوَاهُ وَسُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِلاَّ فَلاَ، (3) لأَِنَّ دَعْوَاهُ الأُْولَى إِقْرَارٌ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ
__________
(1) جامع الفصولين 1 / 128
(2) الدر المختار مع تكملة حاشية ابن عابدين 7 / 16، المجاني الزهرية ص 10
(3) درر الحكام 2 / 355، جامع الفصولين 1 / 124 درر الحكام 2 / 355، جامع الفصولين 1 / 124(20/289)
وَنَفْيٌ لِلْمِلْكِ عَنْ نَفْسِهِ، وَدَعْوَاهُ الثَّانِيَةُ إِيجَابُ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ وَنَفْيُهُ عَنْ غَيْرِهِ، فَتَنَاقَضَ النَّافِي وَالْمُثْبِتُ، فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّوْفِيقِ الْفِعْلِيِّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، لِظُهُورِ التَّنَاقُضِ وَخَفَاءِ التَّوْفِيقِ.
بِخِلاَفِ مَا لَوْ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ مَبْلَغًا مِنَ ذ0 الْمَال، فَدَفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَدَّاهُ لَهُ فِي مَكَانِ كَذَا، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَطِعْ إِثْبَاتَ ذَلِكَ دَفَعَ بِأَنَّهُ أَدَّاهُ الدَّيْنَ فِي مَكَانٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الدَّفْعِ الأَْوَّل، فَيُقْبَل دَفْعُهُ الثَّانِي، لإِِمْكَانِ التَّوْفِيقِ بِأَنْ يَكُونَ أَدَّاهُ مَرَّتَيْنِ لِقَطْعِ مُطَالَبَتِهِ. (1)
34 - ج - وَيُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ التَّنَاقُضِ الْمَانِعِ مِنْ سَمَاعِ الدَّعْوَى أَنْ لاَ يَكُونَ الْكَلاَمُ الأَْوَّل قَدْ كُذِّبَ شَرْعًا بِالْقَضَاءِ، (2) فَلَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ كَفَل لَهُ عَنْ مَدْيُونِهِ بِأَلْفٍ، فَأَنْكَرَ الْكَفَالَةَ، وَبَرْهَنَ الدَّائِنُ أَنَّهُ كَفَل عَنْ مَدْيُونِهِ، وَحَكَمَ بِهِ الْقَاضِي، وَأَخَذَ الْمَكْفُول لَهُ مِنْهُ الْمَال، ثُمَّ إِنَّ الْكَفِيل ادَّعَى عَلَى الْمَدْيُونِ أَنَّهُ كَفَل عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَبَرْهَنَ عَلَى ذَلِكَ، قُبِلَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى وَسُمِعَتِ الْبَيِّنَةُ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى مُنَاقِضَةً لِمَا سَبَقَ مِنْهُ مِنْ إِنْكَارِ الْكَفَالَةِ عِنْدَمَا ادَّعَاهَا عَلَيْهِ الدَّائِنُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ إِنْكَارَهُ السَّابِقَ
__________
(1) جامع الفصولين 1 / 146
(2) الفواكه البدرية ص 99، الدر المختار وتكملة حاشية ابن عابدين 7 / 18، جامع الفصولين 1 / 140(20/289)
بَطَل أَثَرُهُ بِتَكْذِيبِ الْحَاكِمِ لَهُ. (1)
هَذَا وَقَدْ قَرَّرَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ التَّنَاقُضَ يُغْتَفَرُ فِي الدَّعْوَى فِي الْمَسَائِل الَّتِي تَخْفَى أَسْبَابُهَا مِثْل مَسَائِل النَّسَبِ وَبَعْضِ الْمَسَائِل الْمُتَعَلِّقَةِ بِالطَّلاَقِ وَغَيْرِهَا. (2)
مَا يَرْتَفِعُ بِهِ التَّنَاقُضُ.
35 - يَرْتَفِعُ التَّنَاقُضُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بِأَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ هُمَا: التَّوْفِيقُ الْفِعْلِيُّ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الإِْشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَتَصْدِيقُ الْخَصْمِ. فَلَوْ أَنَّ شَخْصًا ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَلْفَ دِينَارٍ بِسَبَبِ الْقَرْضِ، ثُمَّ ادَّعَاهُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ، فَصَدَّقَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ بِالرَّغْمِ مِنْ تَنَاقُضِهِ. (3)
هَذَا وَقَدْ قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ التَّنَاقُضَ يُغْتَفَرُ فِيمَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَفَاءِ.
فَفِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ (م 1655) : " يُعْفَى عَنِ التَّنَاقُضِ إِذَا ظَهَرَتْ مَعْذِرَةُ الْمُدَّعِي وَكَانَ مَحَل خَفَاءٍ ".
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا أَفْتَى بِهِ فِي الْحَامِدِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ زَيْدٌ عَنْ وَرَثَةٍ بَالِغِينَ، وَخَلَّفَ حِصَّتَهُ
__________
(1) جامع الفصولين 1 / 140، تكملة حاشية ابن عابدين 7 / 18
(2) بدائع الصنائع 6 / 224، درر الحكام 2 / 256، الفواكه البدرية ص 100، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 87، جامع الفصولين 1 / 135 - 136
(3) الدر المختار مع التكملة 7 / 17 - 18(20/290)
مِنْ دَارٍ، وَصَدَّقَ الْوَرَثَةُ أَنَّ بَقِيَّةَ الدَّارِ لِفُلاَنٍ وَفُلاَنٍ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ مُوَرِّثَهُمُ الْمَذْكُورَ اشْتَرَى بَقِيَّةَ الدَّارِ مِنْ وَرَثَةِ فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ فِي حَال صِغَرِ الْمُصَدِّقِينَ، وَأَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، تُسْمَعُ دَعْوَاهُمْ، لأَِنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ فِي مَحَل الْخَفَاءِ فَيَكُونُ عَفْوًا.
وَمِنْ ذَلِكَ دَعْوَى النَّسَبِ أَوِ الطَّلاَقِ، لأَِنَّ النَّسَبَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ وَهُوَ الْعُلُوقُ، إِذْ هُوَ مِمَّا يَغْلِبُ خَفَاؤُهُ عَلَى النَّاسِ، فَالتَّنَاقُضُ فِي مِثْلِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَالطَّلاَقُ يَنْفَرِدُ بِهِ الزَّوْجُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: الْمَدِينُ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ لَوْ بَرْهَنَ عَلَى إِبْرَاءِ الدَّائِنِ لَهُ. وَالْمُخْتَلِعَةُ بَعْدَ أَدَاءِ بَدَل الْخُلْعِ لَوْ بَرْهَنَتْ عَلَى طَلاَقِ الزَّوْجِ قَبْل الْخُلْعِ. (1) وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَهَكَذَا كُل مَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَفَاءِ فَإِنَّهُ يُعْفَى فِيهِ عَنِ التَّنَاقُضِ.
هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا أَفْتَى فِي الْحَامِدِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل الأَْكْثَرِينَ مِنْ فُقَهَاءِ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، فَقَدْ نَقَل الْحَطَّابُ عَنِ الْقَرَافِيِّ أَنَّهُ: إِذَا أَقَرَّ الْوَارِثُ أَنَّ مَا تَرَكَهُ أَبُوهُ مِيرَاثٌ بَيْنَ الْوَرَثَةِ عَلَى مَا عُهِدَ فِي الشَّرِيعَةِ وَعَلَى مَا تُحْمَل عَلَيْهِ الدِّيَانَةُ، ثُمَّ جَاءَ بِشُهُودٍ أَخْبَرُوهُ أَنَّ أَبَاهُ أَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ بِهَذِهِ الدَّارِ
__________
(1) مجلة الأحكام وشرحها للأتاسي 5 / 144 - 145، ودرر الحكام 4 / 228، وتنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 29 - 30 و 175، والزيلعي وهامشه 4 / 99 - 100، والبدائع 6 / 224(20/290)
وَحَازَهَا لَهُ، أَوْ أَقَرَّ الأَْبُ أَنَّهُ مَلَكَهَا عَلَيْهِ بِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ، فَإِنَّهُ إِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ بِأَنَّ التَّرِكَةَ كُلَّهَا مَوْرُوثَةٌ إِلاَّ هَذِهِ الدَّارَ الْمَشْهُودَ لَهُ بِهَا دُونَ الْوَرَثَةِ وَاعْتَذَرَ بِإِخْبَارِ الْبَيِّنَةِ لَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا، بِذَلِكَ بَل أَقَرَّ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ وَمُقْتَضَى ظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَيُقْبَل عُذْرُهُ وَيُقِيمُ بَيِّنَتَهُ، وَلاَ يَكُونُ إِقْرَارُهُ السَّابِقُ مُكَذِّبًا لِلْبَيِّنَةِ وَقَادِحًا فِيهَا، لأَِنَّ هَذَا عُذْرٌ عَادِيٌّ يُسْمَعُ مِثْلُهُ.
وَنُقِل عَنْ سَحْنُونَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ. (1)
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُقْبَل لِلْعُذْرِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ لاَ تُقْبَل لِلْمُنَاقَضَةِ. (2)
وَهَذَا عَلَى مَا جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ وَالْقَلْيُوبِيِّ.
وَفِي حَوَاشِي الشِّرْوَانِيِّ وَابْنِ قَاسِمٍ عَلَى تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ: لَوْ أَقَرَّ مَدِينٌ لآِخَرَ، ثُمَّ ادَّعَى أَدَاءَهُ إِلَيْهِ وَأَنَّهُ نَسِيَ ذَلِكَ حَالَةَ الإِْقْرَارِ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ لِلتَّحْلِيفِ فَقَطْ. فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِالأَْدَاءِ قُبِلَتْ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُهُمْ لاِحْتِمَال مَا قَالَهُ، فَلاَ تَنَاقُضَ، كَمَا لَوْ قَال: لاَ بَيِّنَةَ لِي، ثُمَّ أَتَى بِبَيِّنَةٍ تُسْمَعُ. (3)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ بَعْدَ الإِْنْكَارِ، فَمَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ فَأَنْكَرَهُ، ثُمَّ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَقُّ فَادَّعَى الْقَضَاءَ أَوْ إِبْرَاءَ الْمُدَّعِي لَهُ سَابِقًا
__________
(1) الحطاب 5 / 223، والفروق للقرافي 4 / 38
(2) نهاية المحتاج 8 / 250، وقليوبي 4 / 305
(3) حواشي الشرواني وابن قاسم على تحفة المحتاج 5 / 399(20/291)
عَلَى زَمَنِ إِنْكَارِهِ، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفًا مِنْ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَقَال: مَا اقْتَرَضْتُ مِنْهُ وَمَا اشْتَرَيْتُ مِنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ اقْتَرَضَ أَوِ اشْتَرَى مِنْهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ فَقَال: قَضَيْتُهُ أَوْ أَبْرَأَنِي قَبْل هَذَا الْوَقْتِ، لَمْ يُقْبَل مِنْهُ ذَلِكَ وَإِنْ أَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً، لأَِنَّ إِنْكَارَ الْحَقِّ يَقْتَضِي نَفْيَ الْقَضَاءِ أَوِ الإِْبْرَاءَ مِنْهُ، لأَِنَّهُمَا لاَ يَكُونَانِ إِلاَّ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ، فَيَكُونُ مُكَذِّبًا لِنَفْسِهِ. (1)
36 - الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِتَعْبِيرَاتٍ جَازِمَةٍ وَقَاطِعَةٍ وَلاَ تَرَدُّدَ فِيهَا، فَلاَ تَصِحُّ الدَّعْوَى بِنَحْوِ: أَشُكُّ أَوْ أَظُنُّ أَنَّ لِي عَلَى فُلاَنٍ مَبْلَغَ كَذَا، أَوْ أَنَّهُ غَصَبَ مِنِّي دَابَّتِي. (2)
وَقَدِ اسْتُثْنِيَ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ دَعَاوَى الاِتِّهَامِ (الدَّعَاوَى الْجِنَائِيَّةُ) ، فَإِنَّهَا تَجُوزُ بِالأَْلْفَاظِ الْمُتَرَدِّدَةِ، فَإِذَا قَال: أَتَّهِمُهُ بِسَرِقَةِ دِينَارٍ مَثَلاً، فَإِنَّ دَعْوَاهُ تُسْمَعُ، لأَِنَّ دَعَاوَى الاِتِّهَامِ تَرْجِعُ فِي أَسَاسِهَا إِلَى الشَّكِّ وَالظَّنِّ. (3)
37 - الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَذْكُرَ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ يُطَالِبُ بِالْحَقِّ الَّذِي يَدَّعِيهِ: وَهَذَا الشَّرْطُ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، وَفِي مُعْظَمِ الْمَذَاهِبِ قَوْلاَنِ بِخُصُوصِهِ. الرَّاجِحُ مِنْهُمَا: عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ، وَالاِكْتِفَاءُ بِدَلاَلَةِ الْحَال. وَاشْتَرَطَهُ أَصْحَابُ
__________
(1) شرح منتهى الإرادات 3 / 493، والمغني 9 / 236 - 237
(2) حاشية الدسوقي 4 / 144، لب اللباب ص 255
(3) حاشية الدسوقي 4 / 144(20/291)
الْمُتُونِ وَالشُّرُوحِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَلَمْ يُصَرِّحُوا بِتَصْحِيحِهِ، بَيْنَمَا صَرَّحَ أَصْحَابُ الْفَتَاوَى مِنْهُمْ بِتَصْحِيحِ خِلاَفِهِ.
وَعَدَمُ اشْتِرَاطِهِ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِاشْتِرَاطِهِ بِأَنَّ حَقَّ الإِْنْسَانِ يَجِبُ إِيفَاؤُهُ بِطَلَبِهِ، وَالْحُكْمُ حَقُّ الْمُدَّعِي، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ طَالِبٍ لَهُ إِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْقَضِيَّةَ عَلَى سَبِيل الْحِكَايَةِ وَالاِسْتِفْتَاءِ، فَإِذَا طَلَبَهُ تَبَيَّنَ غَرَضُهُ، وَبِأَنَّ الْقَاضِيَ نُصِّبَ لِقَطْعِ الْخُصُومَاتِ، لاَ لإِِنْشَائِهَا، فَإِذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي الْقَضَاءَ لَهُ بِحَقِّهِ أَجَابَهُ إِلَى طَلَبِهِ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ، فَإِنْ نَظَرَ فِي الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ مَا طُلِبَ لِلْحَقِّ مِنَ الْمُدَّعِي كَانَ مُنْشِئًا لِلْخُصُومَةِ، وَهُوَ مَا لَمْ يُجْعَل الْقَضَاءُ لأَِجْلِهِ.
وَاحْتَجَّ الآْخَرُونَ بِأَنَّ الْمُقَدِّمَاتِ وَدَلاَئِل الْحَال تُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ لاَ يَقْصِدُ بِدَعْوَاهُ إِلاَّ الْحُكْمَ لَهُ بِحَقِّهِ، وَتَسْلِيمَهُ إِلَيْهِ، وَكَوْنُ الْمُدَّعِي يَقُول ذَلِكَ حِكَايَةً بَعِيدٌ جِدًّا، لأَِنَّ مَجَالِسَ الْقَضَاءِ لَمْ تُنْشَأْ لِهَذَا الْغَرَضِ. (1)
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 222، العناية وتكملة فتح القدير 6 / 144، الفواكه البدرية ص 106، الهداية وتكملة فتح القدير 6 / 147، تبصرة الحكام 1 / 38 طبع 1301 هـ، الحاوي الكبير ج 13 ق 44 أ، المغني 9 / 86، الروض الندي ص 512، غاية المنتهى 3 / 499، كشاف القناع 4 / 203(20/292)
38 - الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِلِسَانِ الْمُدَّعِي عَيْنًا: وَهَذَا الشَّرْطُ اخْتَصَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ، فَلَمْ يَجُزِ التَّوْكِيل إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُدَّعِي عُذْرٌ مَقْبُولٌ، أَوْ يَرْضَى خَصْمُهُ بِالتَّوْكِيل.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، وَجَوَازِ التَّوْكِيل بِالْخُصُومَةِ شَاءَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَمْ أَبَى. (1)
39 - الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَذْكُرَ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَى الْعَيْنِ أَنَّ الْمُدَّعَى بِهِ فِي يَدِ الْخَصْمِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الشَّرْطِ دَعْوَى مَنْعِ التَّعَرُّضِ، لأَِنَّ الْخَصْمَ فِيهَا يَتَعَرَّضُ لِلْمُدَّعِي وَيَكُونُ الْعَيْنُ فِي يَدِ هَذَا الأَْخِيرِ. (2)
ثَانِيًا: شُرُوطُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ: يُشْتَرَطُ فِي كُلٍّ مِنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ شَرْطَانِ: شَرْطُ الأَْهْلِيَّةِ، وَشَرْطُ الصِّفَةِ.
40 - شَرْطُ الأَْهْلِيَّةِ: لَمَّا كَانَتِ الدَّعْوَى تَصَرُّفًا
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 222، تبصرة الحكام 1 / 111 طبع 1301 هـ، فتح المعين وترشيح المستفيدين ص 245، منتهى الإرادات - القسم الأول ص 444
(2) العناية 6 / 144، مواهب الجليل 6 / 125، مغني المحتاج 4 / 465، الشرواني على تحفة المحتاج 10 / 296، الحاوي الكبير 13 / ق 43 ب(20/292)
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْهَا، فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَهْلاً لِلْقِيَامِ بِالتَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. (1) وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ أَهْلاً فَيُطَالِبُ لَهُ بِحَقِّهِ مُمَثِّلُهُ الشَّرْعِيُّ مِنْ وَلِيٍّ أَوْ وَصِيٍّ.
وَالْحَنَفِيَّةُ لاَ يَشْتَرِطُونَ كَمَال الأَْهْلِيَّةِ فِي كِلاَ الطَّرَفَيْنِ، وَيَكْتَفُونَ بِالأَْهْلِيَّةِ النَّاقِصَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي، (2) وَيُشْتَرَطُ الرُّشْدُ عِنْدَهُمْ فِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَسْتَثْنُونَ بَعْضَ الْحَالاَتِ وَلاَ يَشْتَرِطُونَ فِيهَا كَمَال الأَْهْلِيَّةِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
1 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الْمَأْذُونِ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ الدَّعْوَى وَأَنْ يَكُونَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، (3) وَذَلِكَ لأَِنَّ الدَّعْوَى وَالْجَوَابَ عَلَيْهَا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ، فَتَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ الَّذِي أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ، وَلاَ تَصِحُّ مِمَّنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ.
2 - وَالْمَالِكِيَّةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ:
__________
(1) درر الحكام 2 / 330، الفتاوى الهندية 4 / 2، تبصرة الحكام 1 / 133، المنهاج مع شرح المحلي 4 / 163، مغني المحتاج 4 / 407 - 408، إعانة الطالبين 4 / 241، الفروع 3 / 808، كشاف القناع 4 / 277
(2) جامع أحكام الصغار على هامش جامع الفصولين 1 / 303 - 304، مغني المحتاج 4 / 407 - 408
(3) درر الحكام 2 / 303، المجاني الزهرية على الفواكه البدرية ص 88، جامع أحكام الصغار 1 / 37(20/293)
فَأَمَّا الْمُدَّعِي فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الرُّشْدُ، وَتَصِحُّ الدَّعْوَى مِنَ السَّفِيهِ وَالصَّبِيِّ، وَلاَ يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ كَمَا هُوَ الْحَال عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (1)
وَأَمَّا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَتُشْتَرَطُ فِيهِ الأَْهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ، فَإِنْ كَانَ عَدِيمَهَا أَوْ نَاقِصَهَا لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى عَلَيْهِ.
3 - وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالأَْصْل عِنْدَهُمُ اشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ فِي الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا: تُسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُمْ بِهِ، فَتُسْمَعُ الدَّعْوَى بِالْقَتْل عَلَى السَّفِيهِ. (2)
4 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَى السَّفِيهِ فِيمَا يُؤْخَذُ بِهِ حَال سَفَهِهِ، فَتَصِحُّ عَلَيْهِ دَعْوَى الطَّلاَقِ وَالْقَذْفِ. (3)
وَالْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يُجِيزُونَ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ، وَهُمْ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ قَالُوا بِسَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَى الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَيِّتِ إِذَا كَانَ مَعَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ بِمَا يَدَّعِيهِ، وَكَانَتْ حَاضِرَةً لَدَيْهِ وَبِشُرُوطٍ أُخْرَى سَتَأْتِي. وَيُحَلِّفُهُ الْقَاضِي يَمِينًا سَمَّاهَا بَعْضُهُمْ " يَمِينَ الاِسْتِظْهَارِ "، وَيَذْكُرُ فِيهَا
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 127
(2) المنهاج وشرح المحلي وحاشية قليوبي 4 / 163 - 164، تحفة المحتاج 10 / 293، مغني المحتاج 4 / 110 طبع 1377 هـ.
(3) منتهى الإرادات - القسم الثاني ص 628، الفروع 3 / 808، كشاف القناع 4 / 277(20/293)
أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ مَا ادَّعَى بِهِ مِمَّنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ أَبْرَأَهُمْ مِنْ ذَلِكَ. (1)
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَلأَِنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ الدَّعْوَى إِلاَّ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ وَمُكَلَّفٍ، وَلاَ يُجِيزُونَ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ، وَإِنْ أَحْضَرَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ، فَهُمْ مِنْ طَرِيقِ أَوْلَى لاَ يُجِيزُونَ سَمَاعَ الدَّعْوَى عَلَى الصَّغِيرِ أَوِ الْمَجْنُونِ أَوِ الْمَيِّتِ، حَيْثُ هُمْ أَضْعَفُ حَالاً مِنَ الْغَائِبِ.
شَرْطُ الصِّفَةِ:
41 - الْمَقْصُودُ بِهِ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَا شَأْنٍ فِي الْقَضِيَّةِ الَّتِي أُثِيرَتْ حَوْلَهَا الدَّعْوَى، وَأَنْ يَعْتَرِفَ الشَّارِعُ بِهَذَا الشَّأْنِ وَيَعْتَبِرَهُ كَافِيًا لِتَخْوِيل الْمُدَّعِي حَقَّ الاِدِّعَاءِ، وَلِتَكْلِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ وَالْمُخَاصَمَةِ.
وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْمُدَّعِي إِذَا كَانَ يَطْلُبُ الْحَقَّ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِمَنْ يُمَثِّلُهُ. (2) وَيَحِقُّ لِلدَّائِنِ أَنْ يَرْفَعَ دَعْوَى لِمَدِينِهِ يُطَالِبُ فِيهِ بِحُقُوقِهِ إِذَا أَحَاطَ الدَّيْنُ بِأَمْوَالِهِ وَأُشْهِرَ إِفْلاَسُهُ.
وَالْقَاعِدَةُ فِي هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنْ يَدَّعِي حَقًّا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَقُّ مُنْتَقِلاً إِلَيْهِ صَحَّتْ دَعْوَاهُ، وَإِلاَّ فَلاَ، فَتَصِحُّ الدَّعْوَى مِنَ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 407 - 408، والدسوقي 4 / 162، 227
(2) تبصرة الحكام 1 / 109(20/294)
الْوَارِثِ فِيمَا يَدَّعِيهِ لِمُورِثِهِ، وَلاَ تَصِحُّ مِنَ الدَّائِنِ الَّذِي يَرْفَعُ دَعْوَى لِمَدِينِهِ إِذَا لَمْ يُشْهَرْ إِفْلاَسُهُ. (1) وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَيْضًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَا صِفَةٍ، فَلاَ تَصِحُّ الدَّعْوَى إِلاَّ إِذَا رُفِعَتْ فِي وَجْهِ مَنْ يَعْتَبِرُهُ الْمُشَرِّعُ خَصْمًا، وَيُجْبِرُهُ عَلَى الدُّخُول فِي الْقَضِيَّةِ، لِيُجِيبَ بِالاِعْتِرَافِ أَوْ بِالإِْنْكَارِ.
وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ مَنِ ادَّعَى عَلَى إِنْسَانٍ شَيْئًا، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ أَقَرَّ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِإِنْكَارِهِ خَصْمًا فِي الدَّعْوَى، وَتَصِحُّ بِتَوْجِيهِهَا إِلَيْهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ لاَ يَتَرَتَّبُ عَلَى إِقْرَارِهِ حُكْمٌ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا بِإِنْكَارِهِ، (2) وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ حَدَّدَ الْفُقَهَاءُ الْخَصْمَ فِي مُخْتَلَفِ أَنْوَاعِ الدَّعَاوَى:
أ - فَفِي دَعَاوَى الْعَيْنِ يَكُونُ الْخَصْمُ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ. (3) وَذَلِكَ لأَِنَّ أَيَّ شَخْصٍ لَيْسَتِ الْعَيْنُ الْمُدَّعَاةُ فِي يَدِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا، وَالْحَائِزُ لَهَا هُوَ الَّذِي يَمْلِكُ أَنْ يَقْرَبَهَا، فَهُوَ إِذَنِ الْخَصْمُ فِي دَعْوَاهَا.
وَالْيَدُ الَّتِي يَكُونُ صَاحِبُهَا خَصْمًا فِي الدَّعْوَى هِيَ الَّتِي تَدُل عَلَى الْمِلْكِ فِي الظَّاهِرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ
__________
(1) تحفة المحتاج 11 / 310، مغني المحتاج 2 / 147 طبع الحلبي 1377 هـ
(2) مواهب الجليل 6 / 125
(3) الهداية والعناية والتكملة 6 / 146، درر الحكام 2 / 330، جامع الفصولين 1 / 38، تبصرة الحكام 1 / 104 طبع 1301 هـ، الأم 6 / 236، إعانة الطالبين 4 / 241(20/294)
كَذَلِكَ بِأَنْ كَانَتْ يَدًا طَارِئَةً، كَيَدِ مُسْتَأْجِرٍ، أَوْ مُسْتَعِيرٍ، أَوْ مُرْتَهِنٍ، لَمْ يَصِحَّ تَوْجِيهُ الدَّعْوَى إِلَى صَاحِبِهَا مُنْفَرِدًا، وَلَكِنْ يُطْلَبُ مِنَ الْحَائِزِ الْعَرَضِيِّ الْحُضُورُ إِلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لِيُؤْمَرَ بِتَسْلِيمِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى عِنْدَ إِثْبَاتِ الدَّعْوَى. وَإِذَا وَجَّهَهَا الْمُدَّعِي إِلَيْهِ، كَانَ لِهَذَا الْحَائِزِ الْعَرَضِيِّ أَنْ يَدْفَعَ الدَّعْوَى بِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ يَدَ مِلْكٍ، وَإِنَّمَا هِيَ يَدٌ عَارِضَةٌ، بِشَرْطِ أَنْ يُبَرْهِنَ عَلَى دَفْعِهِ، وَعِنْدَئِذٍ تُرَدُّ دَعْوَى الْمُدَّعِي. وَيُطْلَبُ مِنْهُ رَفْعُهَا فِي مُوَاجَهَةِ الْمَالِكِ. (1)
وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ مُخْتَصٌّ بِدَعَاوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ عَنِ السَّبَبِ، أَمَّا إِذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّ فُلاَنًا غَصَبَ مِنْهُ مَالَهُ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَفْعُ هَذِهِ الدَّعْوَى بِحُجَّةِ أَنَّ الْعَيْنَ الْمُدَّعَاةَ لَيْسَتْ فِي يَدِهِ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي دَعْوَى الْفِعْل - كَمَا سَيَأْتِي - أَنَّهَا يَصِحُّ تَوْجِيهُهَا ضِدَّ الْفَاعِل. (2)
42 - وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَا يَأْتِي:
1 - إِذَا بَاعَ رَجُلٌ مِلْكَ غَيْرِهِ، وَسَلَّمَهُ بِدُونِ إِذْنِهِ، كَانَ الْخَصْمُ هُوَ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنَّ مَحَل
__________
(1) الهداية 6 / 212، درر الحكام 2 / 343، جامع الفصولين 1 / 130 - 131، نهاية المحتاج 8 / 168، 169، المغني 9 / 301، كشاف القناع 6 / 275 طبع 1367 هـ
(2) الهداية والتكملة 6 / 112، درر الحكام 2 / 343، جامع الفصولين 1 / 130 - 131، الفتاوى الهندية 4 / 43، نهاية المحتاج 8 / 168، المغني 9 / 301، كشاف القناع 6 / 275 طبع 1367 هـ.(20/295)
ذَلِكَ إِذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي اسْتِرْدَادَ الْعَيْنِ، أَمَّا إِذَا أَرَادَ التَّضْمِينَ سُمِعَتِ الدَّعْوَى عَلَى الْبَائِعِ الْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ غَيْرِهِ، لأَِنَّهَا تَكُونُ دَعْوَى فِعْلٍ عِنْدَئِذٍ.
2 - إِذَا تُوُفِّيَ شَخْصٌ عَنْ تَرِكَةٍ فِيهَا أَعْيَانٌ وَلَهُ وَرَثَةٌ، وَأَرَادَ شَخْصٌ الاِدِّعَاءَ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِهَا كَانَ الْخَصْمُ لَهُ هُوَ الْوَارِثُ الَّذِي فِي يَدِهِ تِلْكَ الْعَيْنُ، وَلاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى بِهَا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْوَرَثَةِ. (1)
3 - إِذَا بِيعَ عَقَارٌ، فَطَلَبَ الشَّفِيعُ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ، فَإِنْ تَسَلَّمْهُ الْمُشْتَرِي كَانَ هُوَ الْخَصْمُ لِلشَّفِيعِ، وَإِنْ لَمْ يَتَسَلَّمْهُ كَانَ الْخَصْمُ لَهُ كُلًّا مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، لأَِنَّ الأَْوَّل وَاضِعُ الْيَدِ، فَيَحْضُرُ مِنْ أَجْل التَّسْلِيمِ، وَالآْخَرُ مَالِكٌ، فَلاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى إِلاَّ بِحُضُورِهِمَا جَمِيعًا. (2)
4 - إِذَا بَاعَ شَخْصٌ لِغَيْرِهِ عَيْنًا، وَلَمْ يُسَلِّمْهَا إِلَيْهِ، فَأَرَادَ آخَرُ ادِّعَاءَ مِلْكِيَّتِهَا، كَانَ الْخَصْمُ لَهُ كُلًّا مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، لأَِنَّ الأَْوَّل وَاضِعُ الْيَدِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ لِيُؤْمَرَ بِالتَّسْلِيمِ عِنْدَ ثُبُوتِ الدَّعْوَى، وَأَمَّا إِذَا سَلَّمَهَا الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي كَانَ الْخَصْمُ هُوَ الْمُشْتَرِي. فَفِي جَمِيعِ الْحَالاَتِ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الْعَيْنُ الْمُدَّعَاةُ فِي يَدِ غَيْرِ
__________
(1) البحر الرائق 7 / 194، جامع الفصولين ص 52، أدب القضاء للغزي ق 2 أ.
(2) جامع الفصولين 1 / 52(20/295)
الْمَالِكِ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى بِالْمِلْكِ حُضُورُ الاِثْنَيْنِ. (1)
وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمَالِكُ لِلْعَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ يَدُهُ عَلَى الْمُدَّعَى بِهِ فِعْلاً، وَلَكِنَّهَا عَلَيْهِ حُكْمًا، وَالآْخَرُ حِيَازَتُهُ لَهَا عَرَضِيَّةٌ وَمُؤَقَّتَةٌ، وَلأَِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى إِقْرَارِهِ حُكْمٌ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ حُضُورُ الآْخَرِينَ لِغَايَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ لِلْمُدَّعِي عِنْدَ ثُبُوتِ الدَّعْوَى.
5 - وَفِي دَعَاوَى الدَّيْنِ، الْخَصْمُ هُوَ مَنْ كَانَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ نَائِبُهُ، لأَِنَّ الْمَدِينَ هُوَ الَّذِي إِذَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ حَمَل نَتِيجَةَ إِقْرَارِهِ وَأُلْزِمَ بِهِ. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لاَ تُوَجَّهُ الدَّعْوَى ضِدُّ حَائِزِ الْعَيْنِ الَّتِي يَتَمَلَّكُهَا الْمَدِينُ، كَالْمُسْتَأْجَرِ مِنْهُ، وَلاَ الْغَاصِبِ مِنْهُ، وَلاَ الْمُسْتَعِيرِ مِنْهُ.
6 - وَفِي دَعْوَى الْفِعْل كَالْغَصْبِ وَغَيْرِهِ، الْخَصْمُ هُوَ الْفَاعِل، (2) أَيِ الَّذِي يُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَامَ بِالْفِعْل.
7 - وَفِي دَعْوَى الْقَوْل، الْخَصْمُ هُوَ الْقَائِل، أَيِ الَّذِي يُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَال الْقَوْل، فَدَعْوَى الطَّلاَقِ تُقِيمُهَا الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا، وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْقَذْفِ أَوِ الشَّتْمِ.
8 - وَفِي دَعْوَى الْعَقْدِ، الْخَصْمُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لَهُ، أَوْ
__________
(1) البحر الرائق 7 / 194، جامع الفصولين 1 / 38
(2) درر الحكام 2 / 344(20/296)