أَنْ تَصِحَّ الأُْولَى، وَتَلْغُوَ الثَّانِيَةُ. وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَوَالَةَ عَلَى الْكَفِيل لاَ تَقْتَضِي بَرَاءَةَ الأَْصِيل مِنْ حَقِّ الْمُحِيل، فَيَتَسَنَّى لِلْمُحِيل أَنْ يُحِيل عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَحَال عَلَى الْكَفِيل، بِخِلاَفِ الْعَكْسِ، إِذْ إِنَّ الْحَوَالَةَ عَلَى الأَْصِيل تَقْتَضِي بَرَاءَتَهُ وَبَرَاءَةَ الْكَفِيل كِلَيْهِمَا مِنْ حَقِّ الْمُحِيل بَرَاءَةَ مُرَاعَاةٍ - وَسَمَّاهَا بَعْضُهُمْ: تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ - فَلاَ يَسَعُهُ بَعْدَ أَنْ أَحَال عَلَى الأَْوَّل أَنْ يُحِيل عَلَى الثَّانِي، وَقَدْ أَصْبَحَ بَرِيئًا. (1)
ب - الاِنْتِهَاءُ بِطَرِيقِ الإِْبْرَاءِ:
134 - إِبْرَاءُ الْمُحَال لِلْمُحَال عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِ الْحَوَالَةِ يَقَعُ تَحْتَ احْتِمَالَيْنِ فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِبْرَاءَ اسْتِيفَاءٍ، أَوْ إِبْرَاءَ إِسْقَاطٍ.
135 - (أ) فَإِذَا كَانَ إِبْرَاءَ اسْتِيفَاءٍ فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى الإِْقْرَارِ بِالْقَبْضِ. وَعِنْدَئِذٍ تَنْتَهِي الْحَوَالَةُ بِمَا دَل عَلَيْهِ هَذَا الإِْبْرَاءُ مِنْ وُقُوعِ الْوَفَاءِ فِعْلاً. وَتُصْبِحُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ قَبِيل النِّهَايَةِ بِطَرِيقِ الأَْدَاءِ، وَيَتَرَتَّبُ فِيهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى أَدَاءِ الْحَوَالَةِ مِنْ حَقِّ الْمُحَال عَلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ عَلَى الْمُحِيل إِنْ لَمْ يَكُنْ مَدِينًا لَهُ بِمِثْلِهِ. فَإِنْ كَانَ مَدِينًا لَهُ وَقَعَ التَّقَاصُّ بَيْنَهُمَا.
136 - (ب) وَأَمَّا إِذَا كَانَ إِبْرَاءُ الْمُحَال لِلْمُحَال عَلَيْهِ إِبْرَاءَ إِسْقَاطٍ قَبْل الْوَفَاءِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ
__________
(1) البحر 6 / 272.(18/231)
الْمُحَال عَلَيْهِ مِنَ الْحَوَالَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ (1) وَغَيْرُهُ. وَعِنْدَئِذٍ يَسْقُطُ حَقُّ الْمُحَال فِي دَيْنِ الْحَوَالَةِ سُقُوطًا نِهَائِيًّا، وَلَوْ كَانَتِ الْحَوَالَةُ عَلَى كَفِيل الْمَدِينِ وَمُقَيَّدَةً بِدَيْنِ الْكَفَالَةِ.
ذَلِكَ لأَِنَّ حَقَّ الْمُحَال قَدْ تَحَوَّل عَنِ الْمُحِيل بِمُقْتَضَى الْحَوَالَةِ نَفْسِهَا حَيْثُ يَبْرَأُ بِهَا الْمُحِيل وَيَحِل مَحَلَّهُ الْمُحَال عَلَيْهِ فِي الْتِزَامِ الأَْدَاءِ.
فَإِذَا أُبْرِئَ الْمُحَال عَلَيْهِ لَمْ يَبْقَ لِلْمُحَال حَقٌّ تُجَاهَ أَحَدٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُحَال عَلَيْهِ مَدِينًا أَصْلِيًّا لِلْمُحِيل أَمْ كَفِيلاً أَمْ غَيْرَ مَدِينٍ أَصْلاً، بِأَنْ كَانَتِ الْحَوَالَةُ مُطْلَقَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
137 - (ج) وَقَدْ يَقَعُ هَذَا الإِْبْرَاءُ - إِبْرَاءُ الإِْسْقَاطِ - مِنَ الْمُحَال لِلْمُحَال عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَدَّى هَذَا إِلَيْهِ دَيْنَ الْحَوَالَةِ، وَيَكُونُ هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِبْرَاءً صَحِيحًا، بِنَاءً عَلَى نَظَرِيَّتِهِمْ فِي أَنَّ إِيفَاءَ الدُّيُونِ لاَ يُسْقِطُهَا مِنَ الذِّمَمِ، وَإِنَّمَا يُؤَدِّي إِلَى الْمُقَاصَّةِ وَامْتِنَاعِ الْمُطَالَبَةِ: فَإِنَّ الدَّيْنَ قَبْل الْوَفَاءِ يَكُونُ قَائِمًا بِذِمَّةِ الْمَدِينِ، وَبِالأَْدَاءِ يَقُومُ دَيْنُ نَظِيرِهِ فِي ذِمَّةِ الدَّائِنِ الْمُسْتَوْفِي، أَيْ يُصْبِحَ الْمَدِينُ دَائِنًا أَيْضًا لِدَائِنِهِ فَيَصِيرُ كُلٌّ مِنْهُمَا دَائِنًا وَمَدِينًا لِلآْخَرِ، فَتَمْتَنِعُ الْمُطَالَبَةُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ لِعَدَمِ فَائِدَتِهَا، وَهَذِهِ هِيَ الْمُقَاصَّةُ. (2)
__________
(1) البدائع 6 / 19.
(2) وهذا معنى المبدأ الفقهي المقرر عند الحنفية: إن الديون إنما تقضى بأمثالها، أما الأعيان فتستوفى بذواتها كما قرره في رد المحتار في أواخر التصرف في المبيع والثمن وفي أوائل باب الوكالة بالخصومة والقبض) .(18/232)
فَالإِْبْرَاءُ بَعْدَ الأَْدَاءِ الأَْصْل فِيهِ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاءَ اسْتِيفَاءٍ، لَكِنْ إِذَا صَرَّحَ الْمُبَرِّئُ أَوْ دَلَّتِ الْقَرَائِنُ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الإِْسْقَاطُ فَإِنَّهُ يُصَادِفُ دَيْنًا قَائِمًا فَيُسْقِطُهُ، وَلَكِنْ هَذَا لاَ يُؤَثِّرُ فِي الْحَوَالَةِ الَّتِي تَنْتَهِي بِمُجَرَّدِ الأَْدَاءِ، وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ أَثَرُهُ عَلَى أَنْ يُصْبِحَ لِلَّذِي أُبْرِئَ - أَيِ الْمُحَال عَلَيْهِ - حَقُّ مُطَالَبَةِ الْمُحَال الَّذِي أَبْرَأهُ بِمَا كَانَ قَدْ أَدَّاهُ إِلَيْهِ، لأَِنَّهُ بَعْدَ الإِْبْرَاءِ أَصْبَحَ الْمَقْبُوضُ بِلاَ مُقَابِلٍ، فَتُنْتَقَضُ الْمُقَاصَّةُ السَّابِقَةُ التَّقْدِيرِ.
هَذَا، وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْل الْعِلْمِ وَالاِجْتِهَادِ يَقُول بِمَا يَقُول بِهِ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذَا الشَّأْنِ، أَيْ بِصِحَّةِ الإِْبْرَاءِ بَعْدَ الْوَفَاءِ، بِنَاءً عَلَى نَظَرِيَّتِهِمُ الآْنِفَةِ الذِّكْرِ.
الثَّانِيَةُ - الاِنْتِهَاءُ غَيْرُ الرِّضَائِيِّ:
وَذَلِكَ فِي أَرْبَعِ حَالاَتٍ:
1 - الاِنْتِهَاءُ بِمَوْتِ الْمُحِيل:
138 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَدَمَ انْفِسَاخِ الْحَوَالَةِ بِمَوْتِ الْمُحِيل، لأَِنَّ الْمَال قَدْ تَحَوَّل مِنْ مِلْكِ الْمُحِيل إِلَى مِلْكِ الْمُحَال (ر: ف 127) وَمَا تَأْثِيرُ مَوْتِ الْمُحِيل فِي الْحَوَالَةِ بَعْدَ صِحَّتِهَا وَلُزُومِهَا إِلاَّ كَتَأْثِيرِ مَوْتِ بَائِعِ السِّلْعَةِ بَعْدَ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَلُزُومِهِ، بَل بَعْدَ إِقْبَاضِهِ إِيَّاهَا فَضْلاً عَنِ الصِّحَّةِ وَاللُّزُومِ، لأَِنَّ الْحَوَالَةَ عِنْدَهُمْ بِمَثَابَةِ الإِْقْبَاضِ وَالتَّسْلِيمِ. نَعَمْ تَتَأَثَّرُ الْحَوَالَةُ بِمَوْتِ(18/232)
الْمُحَال عَلَيْهِ، إِذْ يَحِل بِهِ دَيْنُهَا الْمُؤَجَّل، وَفِي ذَلِكَ يَقُول صَاحِبُ نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: (لَوْ أَحَال بِمُؤَجَّلٍ عَلَى مِثْلِهِ حَلَّتِ الْحَوَالَةُ بِمَوْتِ الْمُحَال عَلَيْهِ، وَلاَ تَحِل بِمَوْتِ الْمُحِيل، لِبَرَاءَتِهِ بِالْحَوَالَةِ) .
وَيُؤْخَذُ مِثْلُهُ مِنْ نَصِّ الْمَالِكِيَّةِ فِي الضَّمَانِ، وَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلْحَنَابِلَةِ: (فَإِنْ مَاتَ الْمُحِيل أَوِ الْمُحَال فَالأَْجَل بَاقٍ بِحَالِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُحَال عَلَيْهِ انْبَنَى عَلَى (قَاعِدَةِ) حُلُول الدَّيْنِ بِالْمَوْتِ - أَيْ بِمَوْتِ الْمَدِينِ) -
وَفِيهِ رِوَايَتَانِ (وَلاَ يُعْلَمُ فِي حُلُول الدَّيْنِ بِمَوْتِ الْمَدِينِ خِلاَفٌ لأَِحَدٍ مِنْ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ سِوَى أَحْمَدَ فِي إِحْدَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ) . (1)
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَا قَبَضَهُ الْمُحَال مِنَ الْمُحَال عَلَيْهِ - قَبْل مَوْتِ الْمُحِيل أَوْ بَعْدَهُ، فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ - كُل ذَلِكَ هُوَ لَهُ خَاصَّةً لاَ يَشْرَكُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ غُرَمَاءِ الْمُحِيل، كَمَا لاَ يَشْرَكُونَهُ فِي سِلْعَةٍ كَانَ اشْتَرَاهَا فِي حَال الصِّحَّةِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْمُحِيل حَوَالَةً مُطْلَقَةً لاَ تَنْفَسِخُ هَذِهِ الْحَوَالَةُ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ لَهُ عَلَى الْمُحَال عَلَيْهِ مَالٌ (بِالْمَعْنَى الشَّامِل لِلدَّيْنِ تَوَسُّعًا، فَإِنَّهُ مَالٌ حُكْمِيٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) فَلاَ شَأْنَ لِلْمُحَال بِهَذَا الْمَال وَلاَ تَعَلُّقَ
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 243، والشرح الكبير 5 / 59، والنهاية على شرح المنهاج 4 / 412.(18/233)
لأَِنَّ حَقَّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَال تَرِكَةٌ لِلْمُحِيل، فَيَئُول إِلَى وَرَثَتِهِ، بَعْدَ أَنْ تُقْضَى مِنْهُ الْحُقُوقُ الْمُقَدَّمَةُ، كَالدُّيُونِ الأُْخْرَى غَيْرِ دَيْنِ الْمُحَال، لأَِنَّهُ لاَ يَعُودُ عَلَى الْمُحِيل مَا دَامَتِ الْحَوَالَةُ قَائِمَةً، وَمَوْتُ الْمُحِيل لاَ يُبْطِل الْحَوَالَةَ الْمُطْلَقَةَ. (1)
139 - وَأَمَّا فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ، فَقَدْ يَمُوتُ الْمُحِيل قَبْل اسْتِيفَاءِ دَيْنِهَا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَنْفَسِخُ الْحَوَالَةُ، لأَِنَّ الْمَال الَّذِي قُيِّدَتْ بِهِ قَدِ اسْتُحِقَّ مِنَ الْمُحَال عَلَيْهِ، وَدَخَل فِي تَرِكَةِ الْمُحِيل، وَعَلَى هَذِهِ التَّرِكَةِ يَعُودُ الْمُحَال بِدَيْنِهِ، وَيَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ، هَكَذَا عَلَّل صَاحِبُ - الْبَدَائِعِ - ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَوَالَةِ وَالرَّهْنِ، بِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ اخْتَصَّ بِغُرْمِ الرَّهْنِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، لأَِنَّهُ إِذَا هَلَكَ سَقَطَ دَيْنُهُ خَاصَّةً، وَلَمَّا اخْتَصَّ بِغُرْمِهِ اخْتَصَّ بِغُنْمِهِ، لأَِنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ. وَأَمَّا الْمُحَال فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ فَلَمْ يَخْتَصَّ بِغُرْمِ ذَلِكَ الْمَال، لأَِنَّهُ لَوْ تَوِيَ لاَ يَسْقُطُ دَيْنُهُ عَنِ الْمُحِيل.
فَلَمَّا لَمْ يَخْتَصَّ بِغُرْمِهِ لَمْ يَخْتَصَّ بِغُنْمِهِ، وَيَكُونُ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ. (2)
140 - وَمِنْ نَتَائِجِ الْقَوْل بِالاِنْفِسَاخِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
(أ) إِنَّ الْمُحَال إِذَا رَجَعَ إِلَى تَرِكَةِ الْمُحِيل وَعَرَفَ نَصِيبَهُ فِي الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ نَصِيبَهُ هَذَا مِنَ الْمُحَال عَلَيْهِ بَدَلاً مِنَ التَّرِكَةِ
__________
(1) البدائع 6 / 17، وحواشي البحر 6 / 274.
(2) البدائع 6 / 17.(18/233)
لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّ مَا عَلَى الْمُحَال عَلَيْهِ صَارَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ.
(ب) لَوْ نَقَصَتْ حِصَّةُ الْمُحَال فِي الْمُقَاسَمَةِ عَنِ الْوَفَاءِ بِدَيْنِهِ، لاَ يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِمَا بَقِيَ لَهُ عَلَى الْمُحَال عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ صَارَ تَاوِيًا فَلاَ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ.
(ج) إِنْ كَانَ الْمُحَال قَدْ قَبَضَ شَيْئًا مِنْ دَيْنِ الْحَوَالَةِ قَبْل مَوْتِ الْمُحِيل - وَلَوْ فِي أَثْنَاءِ مَرَضِهِ - فَلَهُ مَا قَبَضَهُ، ثُمَّ يُحَاصُّ الْغُرَمَاءَ فِي الْبَاقِي. لَكِنْ فِي حَالَةِ الْقَبْضِ، وَالْمُحِيل مَرِيضٌ مَرَضَ الْمَوْتِ، يُوجَدُ فِي كَلاَمِ بَعْضِهِمْ تَفْرِقَةٌ بَيْنَ قَبْضِ الدَّيْنِ وَقَبْضِ الْعَيْنِ.
1 - فَفِي قَبْضِ الدَّيْنِ يُسَلَّمُ لِلْمُحَال مَا أَخَذَهُ، وَلاَ سَبِيل لِلْغُرَمَاءِ عَلَيْهِ، لَكِنْ يَكُونُ الْمُحَال عَلَيْهِ - بِأَدَائِهِ الدَّيْنَ - غَرِيمًا لِلْمُحِيل يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَلاَ يَمْلِكُ الاِسْتِئْثَارَ بِمَا كَانَ فِي ذِمَّتِهِ لِيَقَعَ التَّقَاصُّ، بَل يُشَارِكُهُ فِيهِ الْغُرَمَاءُ، وَلاَ يُسَلَّمُ لَهُ مِنْهُ إِلاَّ حِصَّتُهُ فِي الْمُحَاصَّةِ.
2 - أَمَّا فِي قَبْضِ الْعَيْنِ - كَالْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ - فَبِالْعَكْسِ: أَيْ لاَ سَبِيل حِينَئِذٍ لِغُرَمَاءِ الْمُحِيل عَلَى الْمُحَال عَلَيْهِ، لَكِنْ لاَ تُسَلَّمُ الْعَيْنُ الْمَأْخُوذَةُ لِلْمُحَال، بَل يُحَاصُّهُ فِيهَا الْغُرَمَاءُ. (1)
__________
(1) ابن عابدين على الدر 4 / 292، 294 نقلا عن البحر، الزيلعي على الكنز 4 / 174، المبسوط للسرخسي 20 / 71، الفتاوى الهندية 3 / 300، والبحر الرائق 6 / 276.(18/234)
2 - الاِنْتِهَاءُ بِمَوْتِ الْمُحَال عَلَيْهِ:
141 - نَصَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ تَنْتَهِي بِمَوْتِ الْمُحَال عَلَيْهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ لاَ تَنْتَهِي بِمَوْتِ الْمُحَال عَلَيْهِ سَوَاءٌ مَاتَ مَدِينًا أَمْ غَيْرَ مَدِينٍ. إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَاتَ مُفْلِسًا، فَإِنَّ الْحَوَالَةَ حِينَئِذٍ تَنْتَهِي فِي الدَّيْنِ كُلِّهِ - إِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً بِشَيْءٍ مِنْهُ - أَوْ تَنْتَهِيَ فِي بَاقِيهِ، إِنْ تَرَكَ وَفَاءً بِبَعْضِهِ، وَيَرْجِعُ الْبَاقِي إِنْ مَاتَ الْمُحَال عَلَيْهِ مُفْلِسًا، وَسَيَجِيءُ فِي التَّوَى (ر: ف 164) : ذَلِكَ أَنَّ التَّرِكَةَ خَلَفٌ عَنْ صَاحِبِهَا فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ. (1)
3 - الاِنْتِهَاءُ بِفَوَاتِ الْمَحَل:
(أ) ارْتِفَاعُ الْمَال الْمُحَال بِهِ أَصَالَةً:
142 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَحَال الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى ثَالِثٍ، ثُمَّ اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ، تَبْطُل الْحَوَالَةُ، لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُحِيل - وَهُوَ الْمُشْتَرِي - غَيْرَ مَدِينٍ لِلْمُحَال - الْبَائِعِ - وَمَدْيُونِيَّةُ الْمُحِيل لِلْمُحَال شَرِيطَةٌ لاِنْعِقَادِ الْحَوَالَةِ لاَ تَقُومُ بِدُونِهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ (ف (59)) .
(ب) ارْتِفَاعُ الْمَال الْمُحَال عَلَيْهِ أَصَالَةً:
143 - فِي الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ: لَوْ كَانَ لِلْمُحِيل عَلَى
__________
(1) ابن عابدين على الدر المختار 4 / 294، المبسوط 20 / 72، مجمع الضمانات لابن غانم 282.(18/234)
الْمُحَال عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ عَيْنٌ هِيَ أَمَانَةٌ أَوْ مَضْمُونَةٌ، فَاسْتُحِقَّتْ أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الدَّيْنَ لَمْ يَجِبْ أَصْلاً فِي حَقِيقَةِ الأَْمْرِ، كَمَا لَوْ كَانَ ثَمَنُ مَبِيعٍ فَاسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ، فَإِنَّ الْحَوَالَةَ تَبْقَى كَمَا هِيَ صَحِيحَةً نَافِذَةً، لاَ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا بُطْلاَنٌ أَوِ انْفِسَاخٌ، لأَِنَّ دَيْنَ الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ - كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ - وَفِي الذِّمَّةِ سَعَةٌ، فَلاَ يَتَأَثَّرُ بِمِثْل هَذِهِ الْعَوَارِضِ، وَقَدْ سَبَقَ بَحْثُ ذَلِكَ (ر: ف) . 144 - أَمَّا فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ: فَيُقَرِّرُ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّ الْمَال الَّذِي تُقَيَّدُ الْحَوَالَةُ بِإِيفَاءِ دَيْنِهَا بِهِ أَوْ مِنْهُ، إِذَا كَانَ عَيْنًا - أَمَانَةً كَانَتْ أَوْ مَضْمُونَةً كَالْمَغْصُوبَةِ - ثُمَّ تَبَيَّنَ اسْتِحْقَاقُهَا لِغَيْرِ الْمُحِيل، أَوْ كَانَ دَيْنًا ثُمَّ تَبَيَّنَ انْعِدَامُهُ مِنَ الأَْصْل لاَ بِسَبَبٍ عَارِضٍ، أَيْ إِنَّ الذِّمَّةَ لَمْ تُشْغَل بِهِ أَصْلاً، لاَ أَنَّهَا شُغِلَتْ ثُمَّ فَرَغَتْ بِسَبَبٍ طَارِئٍ: فَهُنَا يَتَبَيَّنُ بُطْلاَنُ الْحَوَالَةِ، بِمَعْنَى عَدَمِ انْعِقَادِهَا بَتَاتًا.
مِثَال ذَلِكَ فِي الأَْعْيَانِ: رَجُلٌ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ أَلْفُ دِينَارٍ. بِطَرِيقِ الْوَدِيعَةِ أَوِ الْغَصْبِ، فَأَحَال عَلَيْهِ بِهَا دَائِنًا لَهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ لَيْسَتْ مِلْكًا لِلْمُحِيل، وَلاَ لَهُ عَلَيْهَا وِلاَيَةٌ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي يَدِهِ بِطَرِيقِ السَّرِقَةِ، أَوْ ظَهَرَتْ مُسْتَحَقَّةً لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْحَوَالَةَ تَبْطُل لأَِنَّهَا عَلِقَتْ بِمَعْدُومٍ حُكْمًا.
وَمِثَالُهُ فِي الدُّيُونِ: رَجُلٌ بَاعَ آخَرَ مَنْزِلاً أَوْ خَلًّا، فَأَحَال عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ دَائِنًا لَهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ(18/235)
اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخَل خَمْرٌ، فَتَبْطُل الْحَوَالَةُ، لأَِنَّهَا قُيِّدَتْ بِدَيْنٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ وُجُودٌ قَطُّ.
وَفِي جَمِيعِ الأَْحْوَال مَتَى بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ، فَإِنَّ الدَّيْنَ يَعُودُ عَلَى الْمَدِينِ الأَْصْلِيِّ، وَهُوَ الْمُحِيل. (1)
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِمْ: مَا لَوْ بَاعَ مَنْزِلاً، وَأَحَال عَلَى ثَمَنِهِ، أَوْ أُحِيل هُوَ بِهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَنْزِل مَوْقُوفٌ، إِمَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِمَّا بِإِقْرَارِ الأَْطْرَافِ الثَّلاَثَةِ - الْمُحِيل وَالْمُحَال وَالْمُحَال عَلَيْهِ - وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَا لَوْ أَحَال عَلَى أُجْرَةِ شَهْرٍ لِدَارٍ لَهُ، فَمَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ خِلاَلَهُ، إِذْ قَالُوا: تَبْطُل الْحَوَالَةُ فِي مُقَابِل مَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ، لِبُطْلاَنِ الإِْجَارَةِ فِيهَا.
قَال الْبَاجِيُّ فِي تَعْلِيل الْقَوْل: بِأَنَّ الْحَوَالَةَ بَاطِلَةٌ، وَالدَّيْنُ كَمَا كَانَ، وَلَوْ دَفَعَ الْمُحَال عَلَيْهِ إِلَى الْمُحَال لَرَجَعَ عَلَيْهِ بِهِ، فَهُوَ أَنَّ الْمُحَال عَلَيْهِ لَيْسَ طَرَفًا فِي عَقْدِ الْحَوَالَةِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ الْمُحِيل - مُبَاشَرَةً، أَوْ بِوَاسِطَةٍ كَالْمُحَال - لأَِنَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لِلْبَائِعِ بِعَقْدٍ آخَرَ، فَإِذَا سَقَطَ اسْتِحْقَاقُهُ بِهَلاَكِ الْمَبِيعِ مَثَلاً قَبْل التَّسْلِيمِ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ فَلاَ يُكَلَّفُ أَدَاءَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَهُ حُقَّ لَهُ اسْتِرْدَادُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنْ شَرَائِطِ الْحَوَالَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُحَال عَلَيْهِ مِثْل مَا عَلَى الْمُحِيل فَإِذَا انْتَفَى الشَّرْطُ انْتَفَى
__________
(1) البحر الرائق 6 / 275، وابن عابدين على الدر 4 / 293.(18/235)
الْمَشْرُوطُ. قَال ابْنُ الْمَوَّازِ: هَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ، وَهُوَ قَوْل أَصْحَابِ مَالِكٍ كُلِّهِمْ.
يَرَى ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْحَوَالَةَ مَعْرُوفٌ، وَأَنَّهَا لاَ تَبْطُل بِتَبَيُّنِ أَنْ لاَ دَيْنَ عَلَى الْمُحَال عَلَيْهِ، وَيَرْجِعُ بَعْدَ أَدَائِهِ عَلَى الْمُحِيل. وَعَلَّل الْبَاجِيُّ تَعْلِيل كِلاَ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَهُمْ. (1)
أَمَّا تَعْلِيل قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ بِعَدَمِ الْبُطْلاَنِ فَهُوَ أَنَّ الْحَوَالَةَ عَقْدٌ لاَزِمٌ، فَلاَ يَنْتَقِصُ فِي حَقِّ الْمُحَال بِاسْتِحْقَاقِ سِلْعَةٍ لَمْ يُعَاوِضْ هُوَ عَلَيْهَا بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ سَوَاءٌ قَبَضَهُ أَمْ لَمْ يَقْبِضْهُ بَعْدُ.
ج - ارْتِفَاعُ الْمَال الْمُحَال بِهِ عُرُوضًا:
145 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَحَال الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى ثَالِثٍ، حَوَالَةً مُقَيَّدَةً (أَوْ مُطْلَقَةً) ، ثُمَّ هَلَكَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْبَائِعِ قَبْل تَسْلِيمِهِ إِلَى الْمُشْتَرِي أَوْ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، تَبْطُل الْحَوَالَةُ، لأَِنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُحِيل وَهُوَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ مَدِينٍ (2)
__________
(1) فتاوى التقي السبكي 1 / 349، ونهاية المحتاج 4 / 418، الإنصاف 5 / 229، والمنتقى على الموطأ 5 / 67 - 68، مطالب أولي النهى 3 / 329. ولا ريبة في وضوح النهج الذي سلكه أشهب. وليس يضيره أن تكون طبيعة عقد الحوالة اللزوم، فإن ذلك إنما هو حين تصادف محلها الصالح لها وتستوفي شرائط الصحة.
(2) البحر 6 / 275، وابن عابدين 4 / 294.(18/236)
د - ارْتِفَاعُ الْمَال الْمُحَال عَلَيْهِ عُرُوضًا:
146 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَال الْمُحَال عَلَيْهِ إِذَا كَانَ ثَابِتًا ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الاِرْتِفَاعُ لَهُ ثَلاَثُ حَالاَتٍ.
(الْحَالَةُ الأُْولَى) - ارْتِفَاعُ الْمُحَال عَلَيْهِ عُرُوضًا فِي الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ:
147 - إِذَا كَانَ لِلْمُحِيل مَالٌ عِنْدَ الْمُحَال عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الْحَوَالَةَ صَدَرَتْ مُطْلَقَةً لَمْ يُقَيَّدْ فِيهَا الْوَفَاءُ بِذَلِكَ الْمَال، فَإِنَّ هَذِهِ الْحَوَالَةَ الْمُطْلَقَةَ لاَ تَبْطُل بِفَوَاتِ الْمَال الَّذِي لِلْمُحِيل عِنْدَ الْمُحَال عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ بِخُلُوِّ يَدِهِ مِنَ الْعَيْنِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ بِهَلاَكٍ، أَمْ كَانَ بِاسْتِرْدَادِ الْمُحِيل مَالَهُ مِنَ الْمُحَال عَلَيْهِ، إِذْ إِنَّ حَقَّ الطَّالِبِ إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ، لاَ بِشَيْءٍ، عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَفِي الذِّمَّةِ سَعَةٌ. فَلِلْمُحِيل أَنْ يُطَالِبَ الْمُحَال عَلَيْهِ بِمَا لَهُ عِنْدَهُ، كَمَا أَنَّ لِلْمُحَال أَنْ يُطَالِبَهُ بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ. فَإِذَا أَدَّى هَذَا الدَّيْنَ الأَْخِيرَ، سَقَطَ عَنْهُ الدَّيْنُ الأَْوَّل بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ بَيْنَ دَيْنِ الْحَوَالَةِ الَّذِي أَدَّاهُ وَدَيْنِ الْمُحِيل.
وَقَدْ سُئِل ابْنُ نُجَيْمٍ عَنْ مَدِينٍ بَاعَ دَائِنَهُ شَيْئًا بِمِثْل دَيْنِهِ، ثُمَّ أَحَال عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ أَوْ بِنَظِيرِهِ، هَل تَصِحُّ الْحَوَالَةُ؟ فَأَجَابَ: (إِنْ وَقَعَتْ بِنَظِيرِ الثَّمَنِ صَحَّتْ، لأَِنَّهَا لَمْ تُقَيَّدْ بِالثَّمَنِ - وَلاَ يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا دَيْنٌ عَلَى الْمُحَال عَلَيْهِ - وَإِنْ وَقَعَتْ بِالثَّمَنِ فَهِيَ مُقَيَّدَةٌ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ مُسْتَحَقٌّ(18/236)
لِلْمُحَال عَلَيْهِ، لِوُقُوعِ الْمُقَاصَّةِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ الدَّيْنَ إِذَا اسْتُحِقَّ لِلْغَيْرِ فَإِنَّهَا تَبْطُل) . (1)
(الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ) - ارْتِفَاعُ الْمَال الْمُحَال عَلَيْهِ عُرُوضًا فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِعَيْنٍ:
148 - لاَ تَبْطُل الْحَوَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ إِذَا كَانَ الْمَال الَّذِي قُيِّدَتْ بِهِ الْحَوَالَةُ عَيْنًا مَضْمُونَةً، ثُمَّ لَحِقَهَا الْهَلاَكُ بِسَبَبٍ طَارِئٍ، كَمَا لَوْ ضَاعَتْ أَوْ سُرِقَتْ أَوْ تَلِفَتْ فِي حَرِيقٍ مَثَلاً، فَإِنَّ الْحَوَالَةَ تَبْقَى كَمَا هِيَ، وَمُطَالَبَةُ الْمُحَال عَلَيْهِ مُتَوَجِّهَةٌ، كَمَا كَانَتْ قَبْل التَّلَفِ لأَِنَّ الْحَوَالَةَ قُيِّدَتْ حِينَ عُقِدَتْ بِشَيْءٍ مَوْجُودٍ فِعْلاً، فَلاَ يَضِيرُ ارْتِفَاعُهُ الطَّارِئُ، لأَِنَّ الْعَيْنَ الْمَضْمُونَةَ كَالْمَغْصُوبِ مَثَلاً إِذَا هَلَكَتْ وَجَبَ عَلَى ضَامِنِهَا مِثْلُهَا، إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَقِيمَتُهَا إِنْ كَانَتْ قِيَمِيَّةً، فَيَكُونُ فَوَاتُهَا إِلَى خَلَفٍ. وَالْفَوَاتُ إِلَى خَلَفٍ كَالْبَقَاءِ حُكْمًا، لأَِنَّ الْخَلَفَ قَائِمٌ مَقَامَ الأَْصْل، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُحَال.
وَهَذَا مُنْطَبِقٌ تَمَامًا عَلَى الأَْمَانَاتِ الَّتِي تَفُوتُ بِتَعَدِّي مَنْ هِيَ عِنْدَهُ، إِذْ هِيَ إِذْ ذَاكَ تَدْخُل فِي عِدَادِ الأَْعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِخِلاَفِ الْفَوَاتِ بِطَرِيقِ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ لِلْغَيْرِ، وَلَوْ كَانَتْ مَغْصُوبَةً، فَإِنَّ الذِّمَّةَ تَبْرَأُ فِيهِ مِنْ ضَمَانَاتِ الْفَائِتِ بِعَوْدِهِ
__________
(1) البحر 6 / 275، وابن عابدين على الدر 4 / 293 - 294.(18/237)
إِلَى مَالِكِهِ، فَيَفُوتُ إِلَى غَيْرِ خَلَفٍ، وَلِذَا تَبْطُل الْحَوَالَةُ بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ (ر: ف 143)
أَمَّا فَوَاتُ الأَْمَانَاتِ بِغَيْرِ تَعَدِّي مَنْ هِيَ عِنْدَهُ، كَالْوَدِيعَةِ إِذَا احْتَرَقَتْ أَوْ سُرِقَتْ، فَإِنَّهُ يُنْهِي الْحَوَالَةَ، وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُحَال عَلَيْهِ وَيَعُودُ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحِيل. (1)
وَإِذَا اسْتَرَدَّ الْمُحِيل مِنَ الْمُحَال عَلَيْهِ الْعَيْنَ الَّتِي قَيَّدَتِ الْحَوَالَةَ بِالأَْدَاءِ مِنْهَا، لاَ تَبْطُل الْحَوَالَةُ وَلاَ تَتَأَثَّرُ بِذَلِكَ، لأَِنَّ الْمُحَال عَلَيْهِ مُتَعَدٍّ بِدَفْعِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحَال إِلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ حَقُّ أَخْذِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ هَذَا كَيْدًا يَكِيدُهُ لِلْمُحَال، فَيَضْمَنُ الْمُحَال عَلَيْهِ لِلْمُحَال، وَيَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْمُحِيل بِمَا أَخَذَهُ. (2)
(الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ) - ارْتِفَاعُ الْمَال الْمُحَال عَلَيْهِ عُرُوضًا فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِدَيْنٍ:
149 - إِذَا اسْتَوْفَى الْمُحِيل مِنَ الْمُحَال عَلَيْهِ دَيْنَهُ الَّذِي قُيِّدَتْ بِهِ الْحَوَالَةُ، لاَ تَبْطُل الْحَوَالَةُ بِذَلِكَ وَلاَ تَتَأَثَّرُ بِهِ فِي شَيْءٍ لِلسَّبَبِ الْمَذْكُورِ فِي حَالَةِ اسْتِرْدَادِ الْمُحِيل الْعَيْنَ الَّتِي قُيِّدَتْ بِهَا الْحَوَالَةُ. (3)
150 - لاَ تَبْطُل الْحَوَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ إِذَا كَانَ الْمَال
__________
(1) مجمع الأنهر 2 / 141، والعناية على الهداية 5 / 250، وقد نصت المجلة على البطلان في المادة / 694.
(2) مجمع الأنهر 2 / 141 - 142.
(3) المراجع السابقة.(18/237)
الَّذِي قُيِّدَتْ بِهِ الْحَوَالَةُ دَيْنًا فَاتَ بِأَمْرٍ عَارِضٍ بَعْدَ الْحَوَالَةِ كَذَلِكَ.
مِثَالُهُ: رَجُلٌ بَاعَ بِضَاعَةً بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَأَحَال عَلَى الْمُشْتَرِي بِثَمَنِهَا، ثُمَّ احْتَرَقَتْ الْبِضَاعَةُ مَثَلاً أَوْ غَرِقَتْ قَبْل تَسْلِيمِهَا إِلَى الْمُشْتَرِي، أَوْ رُدَّتْ بِعَيْبٍ، أَوْ خِيَارٍ مَا - وَلَوْ بَعْدَ التَّسْلِيمِ - أَوْ تَقَايَلاَ الْبَيْعَ، فَإِنَّ الثَّمَنَ يَسْقُطُ عَنِ الْمُشْتَرِي، وَلَكِنْ لاَ تَبْطُل الْحَوَالَةُ، لأَِنَّ الدَّيْنَ الَّذِي قُيِّدَتْ بِهِ كَانَ قَائِمًا عِنْدَ عَقْدِهَا، فَلَيْسَ يَضُرُّ سُقُوطُهُ بَعْدُ. ثُمَّ إِذَا أَدَّى الْمُحَال عَلَيْهِ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُحِيل، لأَِنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ. (1)
فَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي فِي الْمِثَال الآْنِفِ هُوَ الْمُحِيل لِلْبَائِعِ بِالثَّمَنِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفِقْرَةِ (145) حُكْمُهُمْ بِبُطْلاَنِ الْحَوَالَةِ.
151 - وَالشَّافِعِيَّةُ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ عَلَى هَذِهِ التَّفْرِقَةِ تَمَامَ الْمُوَافَقَةِ، فِيمَا اعْتَمَدُوهُ، وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، فِيمَا عَلَيْهِ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ، وَإِنْ كَانُوا كَسَائِرِ الْحَنَابِلَةِ لاَ يُبْطِلُونَ الْحَوَالَةَ بَعْدَ قَبْضِ دَيْنِهَا، وَيَقُولُونَ: يَتْبَعُ صَاحِبُ الْمَال مَالَهُ حَيْثُ كَانَ. (2) وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) البحر الرائق 6 / 275 والفتاوى الهندية 3 / 306.
(2) المغني لابن قدامة 5 / 56 والإنصاف 5 / 229، ونصت المادة 693 من المجلة على أن المحال عليه يرجع على المحيل. . . كما نص مرشد الحيران في المادة / 902 على أنه إذا أحال البائع أحدا بالثمن على المشتري فأداه إلى المحال له، ثم استحق المبيع بالبينة يرجع المشتري بما أداه على البائع لا على المحال الذي قبضه، وإن لم يظفر بالبائع.(18/238)
(ر: ف 150) وَقَدْ عَلَّل الشَّافِعِيَّةُ وَمُوَافِقُوهُمْ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الدَّيْنَ سَقَطَ فِي الْحَالَيْنِ بَعْدَ ثُبُوتٍ، فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، نَظِيرُ مَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ثَمَنُ خَمْرٍ مَوْقُوفٍ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ بُطْلاَنُ الْحَوَالَةِ فِيهِمَا، إِلاَّ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ فِي حَالَةِ الْحَوَالَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ، وَهَذَا الْغَيْرُ هُوَ الْمُحَال.
وَقَدِ اسْتَنْبَطَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ مِنْ هَذَا التَّعْلِيل أَنَّهُ فِي حَالَةِ الْحَوَالَةِ بِهِ - أَيْ بِالثَّمَنِ مِنْ قِبَل الْمُشْتَرِي - لَوْ أَنَّ الْمُحَال - وَهُوَ الْبَائِعُ - كَانَ قَدْ أَحَل مَكَانَهُ دَائِنًا لَهُ، بِطَرِيقِ الْحَوَالَةِ، قَبْل سُقُوطِ الدَّيْنِ، لَمْ تَبْطُل الْحَوَالَةُ أَيْضًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ. (1)
152 - ثُمَّ الأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - فِي حَالَتَيِ الْبُطْلاَنِ وَعَدَمِهِ - بَيْنَ أَنْ يَكُونَ طُرُوءُ الطَّارِئِ الْمُسْقِطِ لِلدَّيْنِ قَدْ وَقَعَ بَعْدَ قَبْضِ دَيْنِ الْحَوَالَةِ أَوْ قَبْلَهُ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى بُطْلاَنِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ، أَنْ يَرْجِعَ صَاحِبُ الْمَال (الْمُحِيل) عَلَى الْمُحَال الَّذِي قَبَضَهُ - إِمَّا بِعَيْنِهِ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ بِبَدَلِهِ إِنْ كَانَ تَالِفًا - وَلَوْ رَدَّهُ الْمُحَال عَلَى الْمُحَال عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ الْحَقَّ فِي هَذَا الرَّدِّ، فَقَدْ قَبَضَ بِإِذْنٍ، فَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْقَبْضُ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَعَ عَنِ الآْذِنِ، وَيَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِيمَا قَبَضَهُ.
__________
(1) مغني المحتاج على المنهاج 2 / 196.(18/238)
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى بَقَاءِ صِحَّتِهَا قَبْل الْقَبْضِ أَنَّ الْمُحَال عَلَيْهِ لاَ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَلَى الْمُحِيل إِلاَّ بَعْدَ الدَّفْعِ.
وَيُفَرِّقُ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا قَبْل الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ: فَبَعْدَ الْقَبْضِ لاَ تَبْطُل الْحَوَالَةُ عِنْدَهُمْ جَزْمًا، بَل يَتْبَعُ صَاحِبُ الْمَال مَالَهُ حَيْثُ كَانَ. أَمَّا قَبْل الْقَبْضِ فَعِنْدَهُمْ قَوْلاَنِ: بِالْبُطْلاَنِ وَبِعَدَمِهِ. (1)
أَمَّا أَشْهَبُ - وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَ مُتَأَخِّرُو الْمَالِكِيَّةِ طَرِيقَتَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ - فَيُطْلِقُ الْقَوْل هُنَا بِعَدَمِ الْبُطْلاَنِ، لأَِنَّ الْفَسْخَ عَارِضٌ - إِلاَّ أَنَّهُ يُبْطِل الْحَوَالَةَ بِالثَّمَنِ أَوْ عَلَيْهِ، إِذَا رَدَّ الْمَبِيعَ بِعَيْبٍ. (2)
153 - وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْحَوَالَةِ بِالدَّيْنِ وَالْحَوَالَةِ عَلَيْهِ، جَارِيَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَى قَوْل الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمِنْ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ مُخَالِفُونَ: يُسَوُّونَ بَيْنَ الْحَوَالَةِ بِالدَّيْنِ وَالْحَوَالَةِ عَلَيْهِ فِي الْبُطْلاَنِ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ هُنَاكَ، وَلاَ يَأْبَهُونَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ، لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْحَوَالَةِ. (3)
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 196 والمغني 5 / 56 والإنصاف 5 / 229.
(2) وهذا الإبطال لا يتفق مع التأصيل الذي أصله، إلا إذا جرينا على أن الرد بالعيب رفع للعقد من أصله، لا من حينه، وهما قولان عند المالكية وغيرهم (الخرشي على خليل 4 / 236) .
(3) المغني لابن قدامة 5 / 56.(18/239)
وَآخَرُونَ: يُسَوُّونَ بَيْنَهُمَا فِي الصِّحَّةِ - مِنْهُمْ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - فَهُمْ لاَ يَنْظُرُونَ إِلَى تَعَلُّقِ حَقِّ أَجْنَبِيٍّ، بَل إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ كَانَ قَائِمًا عِنْدَ عَقْدِ الْحَوَالَةِ عَلَى أَيَّةِ حَالٍ وَصَحَّتِ الْحَوَالَةُ وَبَرِئَتْ بِهَا ذِمَّةُ الْمُحِيل، فَلاَ يَضُرُّ سُقُوطُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، لأَِنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الْبَقَاءِ مَا لاَ يُغْتَفَرُ فِي الاِبْتِدَاءِ.
وَالْقِيَاسُ الَّذِي كَانَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ نَفْسُهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ: هُوَ أَنَّ الْحَوَالَةَ بِالدَّيْنِ وَعَلَيْهِ، إِذَا طَرَأَ فَاسِخٌ لِسَبَبِ وُجُوبِهِ، تُقَاسُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي أَحَدِ عِوَضَيِ الْبَيْعِ، إِذَا طَرَأَ مَا يَفْسَخُهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى زَيْدٌ بِثَوْبِهِ شَيْئًا مَا مِنْ عَمْرٍو، وَبَاعَ زَيْدٌ هَذَا الشَّيْءَ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ الثَّوْبَ بِعَيْبٍ، فَإِنَّ الصَّفْقَةَ الثَّانِيَةَ مَاضِيَةٌ. وَالْجَامِعُ فِي هَذَا الْقِيَاسِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَفْقَةٌ سَبَقَتْهَا أُخْرَى، فَلاَ يُؤَثِّرُ فِي الثَّانِيَةِ طُرُوءُ انْفِسَاخِ الأُْولَى. (1)
4 - الاِنْتِهَاءُ بِالتَّوَى:
154 - التَّوَى فِي اللُّغَةِ: وِزَانُ الْهَوَى - وَقَدْ يُمَدُّ - التَّلَفُ وَالْهَلاَكُ. هَكَذَا عُمِّمَ فِي - الْمِصْبَاحِ - وَقَصَرَهُ صَاحِبُ - الصِّحَاحِ - عَلَى هَلاَكِ الْمَال. وَيُشْتَقُّ مِنْهُ فَيُقَال: تَوِيَ الْمَال - مِنْ بَابِ فَرِحَ - يَتْوَى، فَهُوَ تَوٍ وَتَاوٍ. (2)
__________
(1) البجيرمي على المنهج 3 / 23، والأشباه للسيوطي 124، والمهذب 1 / 338 والمغني لابن قدامة 5 / 56 والفروع 2 / 627.
(2) المغرب، وتاج العروس.(18/239)
أَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ هُنَا: فَالتَّوَى هُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْوُصُول إِلَى الْحَقِّ، (1) أَيْ عَجْزُ الْمُحَال عَنِ الْوُصُول إِلَى حَقِّهِ مِنْ طَرِيقِ الْمُحَال عَلَيْهِ. (2)
155 - الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيل إِذَا تَوِيَ الْمَال عَلَى الْمُحَال عَلَيْهِ، لَمْ يَقُل بِهِ سِوَى الْحَنَفِيَّةِ.
وَالَّذِينَ وَافَقُوا عَلَى الرُّجُوعِ بِسَبَبِ الْعَجْزِ عَنِ الْوُصُول إِلَى الْحَقِّ فِي حَالاَتِ الْغُرُورِ خَاصَّةً، لَمْ يَعْتَبِرُوهُ فَاسِخًا لِلْحَوَالَةِ - إِنْ صَحَّحُوا انْعِقَادَهَا - بَل سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْخِيَارِ فِي الإِْبْقَاءِ عَلَى عُقْدَةِ الْحَوَالَةِ أَوْ فَسْخِهَا.
لَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: إِنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْحَوَالَةِ، يَتَحَوَّل الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ نَتِيجَةً لاِعْتِبَارِهَا كَالْقَبْضِ، وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُحِيل نِهَائِيًّا، فَلاَ رُجُوعَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ فَلَسِ الْمُحَال عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْفَلَسُ قَائِمًا عِنْدَ الْحَوَالَةِ، وَلاَ بِجَحْدِهِ لِلدَّيْنِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ، إِلاَّ أَنْ غَرَّهُ الْمُحِيل، بِأَنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ ظَنًّا قَوِيًّا فَقْرَ الْمُحَال عَلَيْهِ أَوْ جَحْدَهُ، فَكَتَمَهُ عَنِ الْمُحَال، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا الْعِلْمُ أَوِ
__________
(1) العناية مع فتح القدير 5 / 449.
(2) وهذا القيد بكونه (من طريق المحال عليه) ضروري في التعريف، وإن لم يصرحوا به اتكالا على فهمه، ليخرج العجز عن الوصول إلى الحق من طريق المحيل، فإن هذا لا يحقق التوى بالمعنى المقصود هنا اصطلاحا والذي تترتب عليه آثار معينة سيجيء بيانها.(18/240)
الظَّنُّ، بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، لَمْ يَتَحَوَّل الدَّيْنُ وَلَمْ تَبْرَأْ ذِمَّةُ الْمُحِيل. (1)
وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ الْحَوَالَةَ بَاطِلَةٌ.
156 - نِعْمَ إِذَا شَرَطَ الْمُحَال الرُّجُوعَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْوُصُول إِلَى الْحَقِّ مِنْ قِبَل الْمُحَال عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مَعِينٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَهُنَا يَخْتَلِفُ نُفَاةُ الرُّجُوعِ بِالتَّوَى: فَالْمَالِكِيَّةُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، يَقُولُونَ إِنَّ لَهُ شَرْطَهُ. وَيُعَلِّلُهُ الْبَاجِيُّ قَائِلاً: (وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَوَالَةَ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ شَرَطَ فِيهَا سَلاَمَةَ ذِمَّتِهِ، فَلَهُ شَرْطُهُ) .
أَمَّا جَمَاهِيرُ الشَّافِعِيَّةِ فَيَرَوْنَ أَنَّ شَرْطَ الرُّجُوعِ عِنْدَ الْعَجْزِ شَرْطٌ مُنَافٍ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيَبْطُل، ثُمَّ الأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَبْطُل الْعَقْدُ نَفْسُهُ أَيْضًا. (2)
157 - يَعْتَبِرُ الْحَنَفِيَّةُ التَّوَى نِهَايَةً لِلْحَوَالَةِ عَلَى التَّفْصِيل الَّذِي سَيَأْتِي. يُخَالِفُهُمْ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ الأُْخْرَى وَغَيْرُهُمْ:
فَالشَّافِعِيَّةُ وَاللَّيْثُ وَأَبُو عُبَيْدٍ عَلَى أَنَّ التَّوَى لاَ يُعْتَبَرُ نِهَايَةً لِلْحَوَالَةِ، وَبِالتَّالِي لاَ رُجُوعَ بِهِ لِلْمُحَال عَلَى الْمُحِيل. وَكَذَلِكَ يَقُول أَحْمَدُ
__________
(1) الخرشي على خليل 4 / 236، والدسوقي على الشرح الكبير 3 / 368.
(2) المنتقى على الموطأ 5 / 67. وهذا هو بعينه الذي يسألون عن مستند صحته لأنهم مقرون بأن عدم الرجوع على المحيل هو مقتضى عقد الحوالة. (الخرشي على خليل 4 / 235) فيكون هذا الشرط مخالفا لمقتضى العقد. (مغني المحتاج 2 / 196) .(18/240)
إِلاَّ أَنَّهُ اسْتَثْنَى فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ مَا إِذَا كَانَ الْمُحَال عَلَيْهِ مُفْلِسًا عِنْدَ الْحَوَالَةِ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُحَال بِإِفْلاَسِهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيل - إِلاَّ أَنْ يَثْبُتَ عِلْمُ الْمُحَال بِذَلِكَ وَرِضَاهُ بِهِ - (1) وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ تَتَّفِقُ مَعَ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ أَيْضًا بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الرُّجُوعِ فِي حَالَةِ التَّوَى مَقْبُولٌ وَيُعْمَل بِهِ، وَلَكِنْ بِشَرِيطَةِ عِلْمِ الْمُحِيل بِهَذَا الإِْفْلاَسِ. (2)
وَأَلْحَقُوا بِهِ عِلْمَهُ بِجَحْدِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا (ف 155) .
158 - وَبِهَذَا يَتَحَرَّرُ: أَنَّ الْمَذَاهِبَ فِي الرُّجُوعِ بِالتَّوَى ثَلاَثَةٌ:
1 - إِطْلاَقُ الْقَوْل بِهِ: عَلَى خِلاَفٍ فِي تَحْدِيدِ أَسْبَابِهِ أَوْ إِطْلاَقِهَا.
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (مَا عَدَا زُفَرَ) ، وَرَأْيُ بَعْضِ السَّلَفِ. (3)
2 - إِطْلاَقُ رَفْضِهِ: وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الشَّافِعِيَّةِ.
3 - وُجُوبُ اسْتِحْقَاقِ الرُّجُوعِ إِذَا شُرِطَ، وَإِلاَّ
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 / 58.
(2) وهذا التقرير لمذهب مالك هو الموافق لما رجح الرهوني في حاشيته على شرح الزرقاني لمختصر خليل 5 / 405 لكن الذي قرره الخرشي (4 / 236) والعراقي في حواشي التحفة (2 / 35) بطلان الحوالة في هذه الحالة.
(3) نص مرشد الحيران في المادة / 890 على براءة المحيل وكفيله مقيد بسلامة حق المحال.(18/241)
فَلاَ رُجُوعَ إِلاَّ فِي حَالاَتِ الْغُرُورِ - وَعَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ.
أَدِلَّةُ الْحَنَفِيَّةِ:
يَسْتَدِل الْحَنَفِيَّةُ لِقَوْلِهِمْ بِالرُّجُوعِ فِي حَالَةِ التَّوَى بِمَا يَلِي:
(أ) إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ:
159 - فَقَدْ جَاءَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمُحَال عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ مُفْلِسًا أَنَّهُ يَعُودُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيل، وَقَال: (لَيْسَ عَلَى مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَوًى) (1)
وَلَمْ يُنْقَل عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ خِلاَفُهُ، فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَجَاءَ عَنْ شُرَيْحٍ مِثْلُهُ. (2)
(ب) - الْمَعْقُول:
160 - قَالُوا: لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَوَالَةِ أَنْ يَنُوبَ الثَّانِي عَنِ الأَْوَّل فِي الإِْيفَاءِ، لاَ مُجَرَّدَ نَقْل الْوُجُوبِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ، إِذِ الذِّمَمُ لاَ تَتَفَاوَتُ فِي أَصْل الْوُجُوبِ، هَذَا هُوَ مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ، وَمَا تَعَارَفُوهُ فَهُوَ كَالْمَشْرُوطِ.
__________
(1) حديث: " ليس على مال امرئ مسلم توى " أخرجه البيهقي (6 / 71 - ط دائرة المعارف العثمانية) موقوفا على عثمان وأعله.
(2) البدائع 6 / 18 (أي إجماعا سكوتيا) والمغني لابن قدامة 5 / 59.(18/241)
وَعَلَى هَذَا، فَبَرَاءَةُ الْمُحِيل لَمْ تَثْبُتْ مُطْلَقَةً، بَل مَشْرُوطَةً بِعِوَضٍ. فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ هَذَا الْعِوَضُ عَادَ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيل فَشَغَلَهَا كَمَا كَانَ. نَظِيرُهُ أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ قَبْل قَبْضِهِ، أَوْ يَخْرُجَ مُسْتَحَقًّا، أَوْ يَتَبَيَّنَ بِهِ عَيْبٌ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ، إِذِ الْعُرْفُ قَاضٍ بِأَنَّهُ مَا بَذَل الثَّمَنَ إِلاَّ لِيَحْصُل عَلَى مَبِيعٍ سَلِيمٍ، فَإِذَا فَاتَ هَذَا الْمَقْصُودُ الَّذِي هُوَ فِي قُوَّةِ الْمَشْرُوطِ، عَادَ بِالثَّمَنِ الَّذِي بَذَلَهُ. هَذَا قِيَاسٌ لاَ شَكَّ فِي جَلاَئِهِ. (1)
أَدِلَّةُ الشَّافِعِيَّةِ وَمُوَافِقِيهِمْ:
وَيَسْتَدِل الشَّافِعِيَّةُ وَمُوَافِقُوهُمْ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ فِي حَالَةِ التَّوَى مُطْلَقًا بِالأَْدِلَّةِ التَّالِيَةِ:
أ - السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ:
161 - فَقَدْ جَاءَ فِي قَوْلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الأَْوْسَطِ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ مَنْ أُحِيل عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ (2) هَذَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ تَوًى وَغَيْرِهِ، وَلاَ يُوجَدُ مُخَصِّصٌ لِهَذَا الْعُمُومِ. (3)
ب - آثَارُ الصَّحَابَةِ:
162 - مِنْ ذَلِكَ: (أَنَّ حَزْنًا جَدَّ سَعِيدِ بْنِ
__________
(1) الزيلعي على الكنز 4 / 172، وفتح القدير على الهداية 5 / 448.
(2) الحديث تقدم تخرجه ف / 7.
(3) نهاية المحتاج 4 / 415.(18/242)
الْمُسَيِّبِ كَانَ لَهُ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَيْنٌ فَأَحَالَهُ بِهِ، فَمَاتَ الْمُحَال عَلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَال: اخْتَرْتَ عَلَيْنَا، أَبْعَدَكَ اللَّهُ) وَرَوَى ابْنُ حَزْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّهُ كَانَ لأَِبِيهِ الْمُسَيِّبِ دَيْنٌ عَلَى إِنْسَانٍ أَلْفَا دِرْهَمٍ، وَلِرَجُلٍ آخَرَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَلْفَا دِرْهَمٍ: فَقَال ذَلِكَ الرَّجُل لِلْمُسَيِّبِ: أَنَا أُحِيلُكَ عَلَى عَلِيٍّ، وَأَحِلْنِي أَنْتَ عَلَى فُلاَنٍ، فَفَعَلاَ. فَانْتَصَفَ الْمُسَيِّبُ مِنْ عَلِيٍّ، وَتَلِفَ مَال الَّذِي أَحَالَهُ الْمُسَيِّبُ عَلَيْهِ. فَأَخْبَرَ الْمُسَيِّبُ بِذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَال لَهُ عَلِيٌّ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ. (1)
أَدِلَّةُ الْمَالِكِيَّةِ وَمُوَافِقِيهِمْ:
162 م - الْمَالِكِيَّةُ فِي اسْتِدْلاَلِهِمْ عَلَى عَدَمِ الرُّجُوعِ فِي التَّوَى إِلاَّ فِي حَالَتَيِ الشَّرْطِ أَوِ الْغُرُورِ يَقُولُونَ:
إِنَّ أَدِلَّةَ الشَّافِعِيَّةِ فِي رَفْضِ الرُّجُوعِ مُطْلَقًا مُخَصَّصَةٌ بِهَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ التَّالِيَيْنِ وَلَيْسَتْ عَلَى إِطْلاَقِهَا:
(1) الْمُحَال عَلَى مُفْلِسٍ يَجْهَل إِفْلاَسَهُ كَمُشْتَرِي السِّلْعَةِ يَجْهَل عَيْبَهَا، إِذِ الإِْفْلاَسُ عَيْبٌ فِي الْمُحَال عَلَيْهِ، فَيَكُونُ لَهُ الرُّجُوعُ، كَمَا أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ بِالْعَيْبِ. وَهَكَذَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ
__________
(1) العناية على الهداية بهامش فتح القدير 5 / 447، والمغني مع الشرح الكبير 5 / 59، والمحلى 8 / 109 و 110.(18/242)
(2) الْمُحِيل الَّذِي يَكْتُمُ إِفْلاَسَ الْمُحَال عَلَيْهِ كَالْبَائِعِ يُدَلِّسُ عَيْبَ الْمَبِيعِ، فَيَجِبُ أَنْ تَقَعَ الْمَسْئُولِيَّةُ عَلَى الْمُدَلِّسِ، وَلاَ تَقْتَصِرَ عَلَى الْمُفْلِسِ. هَكَذَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ، وَإِنَّمَا خَصُّوا بِالذِّكْرِ فِي قِيَاسِهِمْ حَالَةَ التَّدْلِيسِ مِنْ حَالاَتِ الرَّدِّ بِعَيْبِ الْمَبِيعِ، مَعَ أَنَّهُ عَامٌّ سَوَاءٌ أَدَلَّسَ الْبَائِعُ أَمْ لَمْ يُدَلِّسْ، لأَِنَّ لِلذِّمَمِ خَفَاءً وَسَرِيَّةً لاَ تُعْلَمُ، فَصَارَتْ أَشْبَهَ بِالْمَبِيعِ الَّذِي يُجْهَل بَاطِنُهُ، وَهَذَا لاَ رَدَّ بِعَيْبِهِ عِنْدَهُمْ إِلاَّ عَنْ تَدْلِيسٍ. (1)
أَسْبَابُ التَّوَى:
163 - لِلتَّوَى - فِي الْحَوَالَةِ بِنَوْعَيْهَا الْمُطْلَقَةِ وَالْمُقَيَّدَةِ - سَبَبَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَثَلاَثَةُ أَسْبَابٍ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ. وَتَنْفَرِدُ الْحَوَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ بِسَبَبٍ مُسْتَقِلٍّ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ الأَْسْبَابِ أَرْبَعَةً فِي الْجُمْلَةِ. (2)
(أَوَّلاً) مَوْتُ الْمُحَال عَلَيْهِ مُفْلِسًا قَبْل الأَْدَاءِ.
(ثَانِيًا) جَحْدُ الْمُحَال عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ وَلاَ بَيِّنَةَ.
(ثَالِثًا) تَفْلِيسُ الْقَاضِي لِلْمُحَال عَلَيْهِ.
(رَابِعًا) تَلَفُ الأَْمَانَةِ الَّتِي قُيِّدَتْ بِهَا الْحَوَالَةُ، أَوْ ضَيَاعُهَا.
أَوَّلاً - مَوْتُ الْمُحَال عَلَيْهِ مُفْلِسًا قَبْل الأَْدَاءِ:
164 - وَذَلِكَ بِأَنْ لاَ يَتْرُكَ مَا يَقْضِي مِنْهُ دَيْنَ
__________
(1) المنتقى للباجي على الموطأ 5 / 68.
(2) هذه هي أسباب التوى الذي هو إحدى نهايات الحوالة، أما مطلق التوى فأسبابه لا تحصر.(18/243)
الْمُحَال، وَلاَ كَفِيلاً بِهِ.
أَمَّا إِذَا تَرَكَ مَا يُقْضَى مِنْهُ دَيْنُ الْمُحَال - مَهْمَا كَانَ مَا تَرَكَهُ، وَلَوْ دَيْنًا فِي ذِمَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ - فَإِنَّهُ لاَ يَتَحَقَّقُ إِفْلاَسُهُ، وَلاَ يُمْكِنُ حِينَئِذٍ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيل، مَهْمَا تَكُنِ الأَْسْبَابُ وَالْمَعَاذِيرُ. حَتَّى إِنَّهُ لَوْ مَاتَ الْمُحَال عَلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مَلِيئًا وَلَهُ دَيْنٌ سَيُفْضِي انْتِظَارُ قِسْمَتِهِ إِلَى تَأْخِيرِ أَدَاءِ الْحَوَالَةِ لِمَا بَعْدَ الأَْجَل لاَ يَكُونُ لِلطَّالِبِ أَنْ يَتَعَلَّل بِذَلِكَ لِيَرْجِعَ عَلَى الْمُحِيل، لِبَقَاءِ الْحَوَالَةِ، إِذِ التَّرِكَةُ خَلَفٌ عَنْ صَاحِبِهَا فِي الْمَقْصُودِ هُنَا، وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ.
فَإِنْ كَانَ مَا تَرَكَهُ الْمُحَال عَلَيْهِ لاَ يَفِي إِلاَّ بِبَعْضِ دَيْنِ الْمُحَال، فَلاَ إِفْلاَسَ وَلاَ تَوَى إِلاَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِيهِ. وَلِذَا يَقُولُونَ: (إِذَا مَاتَ الْمُحَال عَلَيْهِ مَدْيُونًا، قُسِمَ مَالُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَبَيْنَ الْمُحَال بِالْحِصَصِ، وَمَا بَقِيَ لَهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُحِيل) . (1)
165 - كَذَلِكَ إِذَا تَرَكَ كَفِيلاً بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ، لاَ يُعَدُّ مُفْلِسًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ - لأَِنَّ الْكَفِيل قَائِمٌ
__________
(1) ابن عابدين على الدر المختار 4 / 292، والمبسوط للسرخسي 20 / 72 وأطلق السرخسي انفساخ الحوالة بموت المحال عليه مفلسا، فشمل ذلك موت المحال عليه الأول والثاني فلما تنفسخ الحوالة الواحدة بموت المحال عليه مفلسا، تنفسخ الحوالة الثانية بموت المحال عليه الثاني مفلسا (في صورة الأداء الحكمي بطريق ال(18/243)
مَقَامَ الأَْصِيل، وَخَلَفٌ عَنْهُ - إِلاَّ أَنْ يَمُوتَ الْكَفِيل أَيْضًا مُفْلِسًا، أَوْ يُبَرِّئَهُ الْمُحَال - لأَِنَّ هَذَا الإِْبْرَاءَ كَالْفَسْخِ لِلْكَفَالَةِ مَعْنًى - وَهَذَا وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ صَاحِبُ الْخُلاَصَةِ، حِينَ قَال: (إِنَّ الْمُحَال لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيل بَعْدَ مَوْتِ الْمُحَال عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِدَيْنِهِ عَلَى الْمُحِيل) . (1)
هَذَا، وَفِي حَالَةِ الْكَفَالَةِ بِبَعْضِ الدَّيْنِ يَكُونُ التَّوَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِيهِ لاَ غَيْرُ.
166 - وَلِهَذَا وَذَاكَ يَقُول فِي " الْبَزَّازِيَّةِ ": أَخَذَ الْمُحَال مِنَ الْمُحَال عَلَيْهِ بِالْمَال كَفِيلاً، ثُمَّ مَاتَ الْمُحَال عَلَيْهِ مُفْلِسًا، لاَ يَعُودُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيل، سَوَاءٌ كَفَل بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْكَفَالَةُ حَالَّةً أَمْ مُؤَجَّلَةً، أَمْ كَفَل حَالًّا ثُمَّ أَجَّلَهُ الْمَكْفُول لَهُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ - أَيْ بِالْمَال - كَفِيلٌ، وَلَكِنْ تَبَرَّعَ رَجُلٌ وَرَهَنَ بِهِ رَهْنًا، ثُمَّ مَاتَ الْمُحَال عَلَيْهِ مُفْلِسًا، عَادَ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيل، وَلَوْ كَانَ الْمُحَال مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ فَبَاعَهُ، وَلَمْ يَقْبِضِ الثَّمَنَ حَتَّى مَاتَ الْمُحَال عَلَيْهِ مُفْلِسًا، بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ، وَالثَّمَنُ لِصَاحِبِ الرَّهْنِ. (2)
ثَانِيًا - جَحْدُ الْمُحَال عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ، وَلاَ بَيِّنَةَ: (3)
167 - إِذَا جَحَدَ الْمُحَال عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ، وَلاَ بَيِّنَةَ
__________
(1) الزيلعي على الكنز 4 / 173، والبحر 6 / 273، وابن عابدين 4 / 292 وغيرها.
(2) البحر 6 / 273.
(3) انظر ما أسلفناه في الفقرة / 67 لمعرفة رأي غير الحنفية.(18/244)
عَلَيْهَا، فَقَدْ تَحَقَّقَ التَّوَى بِهَذَا السَّبَبِ. فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يَقْبَل هَذَا الْجَحْدَ مَعَ وُجُودِ بَيِّنَةٍ عَلَى الْحَوَالَةِ، سَوَاءٌ أَقَامَهَا الْمُحَال أَمِ الْمُحِيل. فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لأَِحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ عَلَى الْحَوَالَةِ يَحْلِفُ الْمُحَال عَلَيْهِ الْيَمِينَ: أَنْ لاَ حَوَالَةَ عَلَيْهِ، وَفْقًا لِلْقَاعِدَةِ الْقَائِلَةِ: " الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ".
فَإِذَا قَبِل مِنَ الْمُحَال عَلَيْهِ جَحْدَهُ هَذَا وَقَضَى بِمَنْعِ الْمُحَال عَنْهُ فَقَدْ تَحَقَّقَ عَجْزُ الْمُحَال عَنِ الْوُصُول إِلَى الْحَقِّ، أَيْ أَنَّهُ تَوَى. (1)
ثُمَّ إِذَا أَرَادَ الْمُحَال الرُّجُوعَ عَلَى الْمُحِيل بِحُجَّةِ التَّوَى بِسَبَبِ هَذَا الْجَحْدِ لاَ يَثْبُتُ الْجَحْدُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْمُحَال لأَِجْل الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيل، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ الْجَحْدِ بِالْبَيِّنَةِ.
عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ لاَ يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِمُقْتَضَاهَا إِلاَّ بِحُضُورِ الْمُحَال عَلَيْهِ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى غَائِبٍ، لَكِنِ الْمُحَال يَكْفِي مَئُونَةَ هَذَا الْقَضَاءِ إِذَا صَدَّقَهُ الْمُحِيل فِي دَعْوَى الْجَحْدِ، فَيَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ. (2)
__________
(1) الزيلعي على الكنز 4 / 172.
(2) البحر 6 / 272.(18/244)
ثَالِثًا - تَفْلِيسُ الْقَاضِي الْمُحَال عَلَيْهِ: (1)
168 - وَمَعْنَاهُ أَنْ يَحْكُمَ الْقَاضِي بِإِفْلاَسِهِ بَعْدَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ حَالُهُ.
وَلَيْسَ حَتْمًا أَنْ يَكُونَ ظُهُورُ الْحَال الَّذِي يَبْنِي عَلَيْهِ الْقَاضِي حُكْمَهُ بِالإِْفْلاَسِ عَنْ شَهَادَةِ شُهُودٍ - وَإِنْ كَانَ هَذَا احْتِيَاطًا حَسَنًا - فَإِنَّهَا شَهَادَةُ نَفْيٍ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ، بَل يَكْفِيهِ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ. وَفِي مَوْضُوعِنَا هَذَا لاَ يَكُونُ التَّفْلِيسُ إِلاَّ بَعْدَ الْحَبْسِ. (2)
169 - وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الأَْصْل الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَهُوَ إِمْكَانُ تَحَقُّقِ التَّوَى بِالتَّفْلِيسِ، مَا إِذَا مَاتَ الْمُحَال عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ إِلاَّ دَيْنًا عَلَى مُفْلِسٍ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لاَ تَوَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: بَل يَحْصُل التَّوَى بِتَفْلِيسِ الْقَاضِي لِهَذَا الْمَدِينِ. (3)
رَابِعًا - تَلَفُ الأَْمَانَةِ الَّتِي قُيِّدَتْ بِهَا الْحَوَالَةُ أَوْ ضَيَاعُهَا: (4)
170 - إِذَا أَصَابَ الْوَدِيعَةَ مَثَلاً تَلَفٌ أَوْ ضَيَاعٌ وَلَوْ
__________
(1) الإفلاس: مأخوذ من قولهم: أفلس الرجل إذا صار ذا فلس، بعد أن كان ذا درهم ودينار، أو إذا صار إلى حال ليس له فلوس، كما يقال أقهر: إذا صار إلى حال يقهر عليه كما في " المصباح " فهو في الأصل كناية عن الفقر. ثم اشتهر عرفا في فقر خاص هو فقر المدين الذي لا ي
(2) ابن عابدين على الدر 4 / 316، 319، 320.
(3) ابن عابدين على الدر 4 / 292.
(4) انظر الفقرة / 26 لتعلم عدم تصور ذلك عند غير الحنفية.(18/245)
بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْوَدِيعِ - كَمَا لَوِ ادَّعَى ضَيَاعَ الدَّنَانِيرِ الْمُودَعَةِ عِنْدَهُ - تَكُونُ النَّتِيجَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ انْفِسَاخَ الْحَوَالَةِ الَّتِي قُيِّدَتْ بِهَا، وَبَرَاءَةُ الْمُحَال عَلَيْهِ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِمُقْتَضَاهَا، وَإِذَنْ يَعُودُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيل كَمَا كَانَ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ، ذَلِكَ أَنَّ الْمُحَال عَلَيْهِ لَمْ يَلْتَزِمِ التَّسْلِيمَ مُطْلَقًا، بَل مُقَيَّدًا بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ الشَّيْءُ الْمُعَيَّنُ، فَلَمْ تَبْقَ عَلَيْهِ مُطَالَبَةٌ بِشَيْءٍ مَا.
بِخِلاَفِ الْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ - كَالْمَغْصُوبِ - فَإِنَّ الْحَوَالَةَ الْمُقَيَّدَةَ بِهَا لاَ تَنْفَسِخُ بِفَوَاتِهَا، لأَِنَّهَا تَفُوتُ - إِنْ فَاتَتْ - إِلَى خَلَفٍ، مِنْ مِثْلٍ أَوْ قِيمَةٍ، فَتَتَعَلَّقُ الْحَوَالَةُ بِهَذَا الْخَلَفِ، فَإِنْ فَاتَتْ لاَ إِلَى خَلَفٍ بِأَنْ ظَهَرَتْ مُسْتَحَقَّةً - بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ مِنْ أَصْلِهَا، (1) كَمَا سَبَقَ إِيضَاحُهُ (ر: ف 144) .
آثَارُ التَّوَى:
171 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مَتَى تَحَقَّقَ التَّوَى فِي دَيْنِ الْحَوَالَةِ وَثَبَتَ بِأَحَدِ أَسْبَابِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرَانِ:
(أَوَّلاً) - انْتِهَاءُ الْحَوَالَةِ، فَتَنْتَهِي بِانْتِهَائِهَا أَحْكَامُهَا.
(ثَانِيًا) - رُجُوعُ الْمُحَال عَلَى الْمُحِيل بِدَيْنِهِ: لأَِنَّ بَرَاءَةَ الْمُحِيل مِنْ هَذَا الدَّيْنِ كَانَتْ مَشْرُوطَةً بِسَلاَمَةِ عَاقِبَةِ الْحَوَالَةِ، أَيْ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنَ
__________
(1) الزيلعي على الكنز 4 / 172، والبحر 6 / 274.(18/245)
الْمَحَل الثَّانِي، فَلَمَّا انْتَفَتِ الشَّرِيطَةُ انْتَفَى الْمَشْرُوطُ، وَعَادَ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيل كَمَا كَانَ. وَإِذَنْ تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ لِلْمُحَال جَمِيعُ حُقُوقِ الدَّائِنِينَ تُجَاهَ مَدِينِهِمْ، كَالْمُطَالَبَةِ وَالْمُقَاضَاةِ.
نَعَمْ لاَ رُجُوعَ عَلَى الْمُحَال عَلَيْهِ إِذَا هُوَ أَحَال الطَّالِبَ عَلَى الْمُحَال نَفْسِهِ، فَتَوِيَ الْمَال عِنْدَهُ - وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ (أَيْ عَلَى الْمُحَال عَلَيْهِ) حِينَئِذٍ أَنَّهُ مَحَلٌّ تَوِيَ مَال حَوَالَتِهِ -
وَفِي عَقْدِ الْحَوَالَةِ إِذَا اشْتُرِطَتْ بَرَاءَةُ الأَْصِيل صَرَاحَةً - رَغْمَ أَنَّ مُقْتَضَاهَا هَذِهِ الْبَرَاءَةَ دُونَ شَرْطٍ - هَل يَرْجِعُ الْمُحَال عَلَى الْمُحِيل فِي حَالَةِ التَّوَى؟ إِنَّ مُقْتَضَى كَوْنِهَا حَوَالَةً أَنْ تَثْبُتَ أَحْكَامُ الْحَوَالَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيل بِسَبَبِ التَّوَى، وَمُقْتَضَى شَرْطِ الْبَرَاءَةِ صَرَاحَةً عَدَمُ هَذَا الرُّجُوعِ، لَكِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ بِالتَّوَى فَي هَذِهِ الْحَالَةَ. (1)
وَهْم يَخْتَلِفُونَ فِي كَيْفِيَّةِ عَوْدِ الدَّيْنِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيل حِينَئِذٍ:
(1) فَمِنْ قَائِلٍ إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ طَرِيقَ الْفَسْخِ: أَيْ أَنَّ الْمُحَال هُوَ الَّذِي يَفْسَخُ الْحَوَالَةَ مَتَى تَحَقَّقَ
__________
(1) تح القدير على الهداية 5 5 ? / 488، والبحر 6 / 269، والمبسوط للسرخسي 20 / 46، فكأنهم حملوها على البراءة المؤقتة مع أن هذه قد لا تكون مقصود الدائن، وقد نص في الخانية على أنه لا رجوع هنا بعد الأداء (الخانية بهامش الفتاوى الهندية 3 / 75) يعني لا رجوع للمحال عليه على المدين إلا أن كلامه في الحوالة المعقودة بين الدائن والمحال عليه دون إذن المدين.(18/246)
سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّوَى، وَمِنْ ثَمَّ يُعَادُ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحِيل، كَالْمُشْتَرِي إِذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا، لِفَوَاتِ وَصْفِ السَّلاَمَةِ الْمَشْرُوطِ عُرْفًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
(2) وَمِنْ قَائِلٍ: بَل عَنْ طَرِيقِ الاِنْفِسَاخِ التِّلْقَائِيِّ: دُونَ حَاجَةٍ إِلَى تَدَخُّل الْمُحَال، نَظِيرُ الْبَيْعِ إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْل قَبْضِهِ، فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ دُونَ تَدَخُّلٍ مِنْ أَحَدٍ، لِفَوَاتِ وَصْفِ السَّلاَمَةِ، وَيَعُودُ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ، فَكَذَلِكَ هُنَا - بِنَفْسِ الْعِلَّةِ - تَنْفَسِخُ الْحَوَالَةُ تِلْقَائِيًّا عِنْدَ التَّوَى، وَيَعُودُ الدَّيْنُ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحِيل.
(3) وَمِنْ قَائِلٍ: إِنْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْجُحُودَ فَالطَّرِيقُ هُوَ الْفَسْخُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَوْتَ عَنْ إِفْلاَسٍ فَالطَّرِيقُ هُوَ الاِنْفِسَاخُ. (1)
وَلاَ يَخْفَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الاِخْتِلاَفِ مِنْ آثَارٍ عَمَلِيَّةٍ.
حَوْزٌ
ر: أَرْضُ الْحَوْزِ.
__________
(1) فتح القدير على الهداية 5 / 448.(18/246)
حَوْضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَوْضُ فِي اللُّغَةِ: مُجْتَمَعُ الْمَاءِ. وَالْجَمْعُ أَحْوَاضٌ وَحِيَاضٌ. وَحَوْضُ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي يَسْقِي مِنْهُ أُمَّتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
حَكَى أَبُو زَيْدٍ: سَقَاكَ اللَّهُ بِحَوْضِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ حَوْضِهِ، وَالتَّحْوِيضُ: عَمَل الْحَوْضِ. وَالاِحْتِيَاضُ: اتِّخَاذُهُ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ الْحَوْضِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ:
2 - فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، فَالْكَثِيرُ يَجُوزُ بِهِ التَّوَضُّؤُ وَالاِغْتِسَال فِيهِ، وَلاَ يَتَنَجَّسُ جَمِيعُهُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِي طَرَفٍ مِنْهُ، إِلاَّ أَنْ يَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ، أَوْ طَعْمُهُ، أَوْ رِيحُهُ، وَالْقَلِيل عَكْسُهُ.
وَأَمَّا نَجَاسَةُ مَكَانِ الْوُقُوعِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ.
__________
(1) لسان العرب المحيط، ومختار الصحاح، ومتن اللغة في المادة.(18/247)
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي قِلَّةِ الْمَاءِ وَكَثْرَتِهِ هِيَ بِالْقُلَّتَيْنِ فَمَا دُونَهُمَا فَهُوَ قَلِيلٌ. (1) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ حَدَّ لِلْكَثْرَةِ فِي الْمَذْهَبِ (2)
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْحَوْضَ: إِذَا كَانَ بِحَالٍ إِذَا اغْتَسَل إِنْسَانٌ فِي جَانِبٍ مِنْهُ، لاَ يَرْتَفِعُ وَلاَ يَنْخَفِضُ الطَّرَفُ الَّذِي يُقَابِلُهُ، فَهُوَ كَبِيرٌ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ صَغِيرٌ.
وَقَال عَامَّةُ مَشَايِخِهِمُ: الْحَوْضُ إِذَا كَانَ مُرَبَّعًا فَالْكَبِيرُ مَا كَانَ عَشْرًا فِي عَشْرٍ، وَإِذَا كَانَ مُدَوَّرًا فَمَا كَانَ حَوْلَهُ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَقِيل سِتَّةٌ وَثَلاَثُونَ ذِرَاعًا.
وَإِذَا كَانَ مُثَلَّثًا فَمَا كَانَ مِنْ كُل جَانِبٍ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَرُبْعًا أَوْ خُمُسًا مِنَ الذِّرَاعِ.
وَأَمَّا الصَّغِيرُ فَقِيل: مَا كَانَ أَرْبَعًا فِي أَرْبَعٍ.
وَقِيل: خَمْسًا فِي خَمْسٍ.
وَقِيل: أَقَل مِنْ عَشْرٍ فِي عَشْرٍ. (3)
وَالْمُرَادُ بِالذِّرَاعِ فِي تَحْدِيدِ الْحَوْضِ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 19، 20، وكشاف القناع 1 / 43، 44، 45، والمغني 1 / 23.
(2) مواهب الجليل 1 / 72، والقوانين الفقهية / 36.
(3) فتح القدير 1 / 55 ط بولاق، ابن عابدين 1 / 131 ط دار إحياء التراث العربي، ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص16، والفتاوى الهندية 1 / 17، 18، 19، والخانية على هامش الفتاوى الهندية 1 / 5 وما بعدها، والبزازية على هامش الفتاوى الهندية 4 / 5 ط المطبعة الأميرية ببولاق.(18/247)
هُوَ ذِرَاعُ الْمِسَاحَةِ. وَهُوَ سَبْعُ قَبَضَاتٍ فَوْقَ كُل قَبْضَةٍ أُصْبُعٌ، لأَِنَّ ذِرَاعَ الْمِسَاحَةِ بِالْمَمْسُوحَاتِ أَلْيَقُ.
وَفِي ابْنِ عَابِدِينَ: أَنَّ الْمُخْتَارَ عَشْرٌ فِي عَشْرٍ بِذِرَاعِ الْكِرْبَاسِ، وَهُوَ سَبْعُ قَبَضَاتٍ فَقَطْ. فَيَكُونُ ثَمَانِيًا فِي ثَمَانٍ بِذِرَاعِ زَمَانِنَا. وَذَكَرَ نَقْلاً عَنِ الْهِدَايَةِ أَنَّ عَلَيْهِ الْفَتْوَى. (1)
وَقِيل: إِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي كُل زَمَانٍ وَمَكَانٍ ذِرَاعُهُمْ. قَال فِي النَّهْرِ: هُوَ الأَْنْسَبُ.
وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِي قَدْرِ عُمْقِهِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَقَال بَعْضُهُمْ: إِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ رُفِعَ الْمَاءُ بِكَفِّهِ لاَ يَنْحَسِرُ مَا تَحْتَهُ مِنَ الأَْرْضِ فَهُوَ عَمِيقٌ.
وَقَال الْبَعْضُ الآْخَرُ: الْعَمِيقُ مَا كَانَ بِحَالٍ لَوِ اغْتَرَفَ لاَ تُصِيبُ يَدُهُ وَجْهَ الأَْرْضِ. (2)
وَالتَّفْصِيل فِي (طَهَارَةٌ، وَمِيَاهٌ، وَنَجَاسَةٌ) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) ابن عابدين 1 / 127، والفتاوى الهندية 1 / 17، 18، 19، والخانية على هامش الهندية 1 / 5، 6، 7، 18، والبزازية على هامش الهندية 4 / 5.(18/248)
حَوْقَلَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْحَوْقَلَةِ فِي اللُّغَةِ: سُرْعَةُ الْمَشْيِ، وَمُقَارَبَةُ الْخَطْوِ. (1)
وَأَمَّا فِي الْعُرْفِ فَهِيَ: قَوْل: لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، كَمَا عَبَّرَ عَنْهَا الأَْزْهَرِيُّ وَالأَْكْثَرُونَ، قَال ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَال: قَدْ أَكْثَرْتَ مِنَ الْحَوْلَقَةِ: إِذَا أَكْثَرْتَ مِنْ قَوْل: لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ.
وَقَال الْجَوْهَرِيُّ: الْحَوْلَقَةُ لاَ الْحَوْقَلَةُ، وَاخْتَارَهُ الْحَرِيرِيُّ.
فَعَلَى الأَْوَّل (الْحَوْقَلَةُ) وَهُوَ الْمَشْهُورُ: الْحَاءُ وَالْوَاوُ مِنَ الْحَوْل.
وَالْقَافُ مِنَ الْقُوَّةِ، وَاللاَّمُ مِنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. قَال الإِْسْنَوِيُّ: وَهَذَا أَحْسَنُ، لِتَضْمِينِهِ جَمِيعَ الأَْلْفَاظِ.
وَعَلَى الثَّانِي: (الْحَوْلَقَةُ) الْحَاءُ وَاللاَّمُ مِنَ الْحَوْل، وَالْقَافُ مِنَ الْقُوَّةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَيْعَلَةُ:
1 - الْحَيْعَلَةُ قَوْل حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، أَوْ حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ
__________
(1) لسان العرب المحيط، ومتن اللغة.(18/248)
وَالْبَسْمَلَةُ قَوْل بِسْمِ اللَّهِ، وَالْحَمْدَلَةُ قَوْل الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالْهَيْلَلَةُ قَوْل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَالسَّبْحَلَةُ قَوْل سُبْحَانَ اللَّهِ. (1)
مَعْنَى الْحَوْقَلَةِ:
2 - قَال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَال أَبُو الْهَيْثَمِ: الْحَوْل: الْحَرَكَةُ مِنْ حَال الشَّيْءُ إِذَا تَحَرَّكَ، أَيْ لاَ حَرَكَةَ وَلاَ اسْتِطَاعَةَ إِلاَّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَبِهِ قَال ثَعْلَبُ وَآخَرُونَ.
وَقَال ابْنُ مَسْعُودٍ: مَعْنَاهُ: لاَ حَوْل عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلاَّ بِعِصْمَتِهِ، وَلاَ قُوَّةَ عَلَى طَاعَتِهِ إِلاَّ بِمَعُونَتِهِ، قَال الْخَطَّابِيُّ: هَذَا أَحْسَنُ مَا جَاءَ فِيهِ. (2)
وَفِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ: لاَ حَوْل لِي عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَلاَ قُوَّةَ لِي عَلَى مَا دَعَوْتَنِي إِلَيْهِ إِلاَّ بِكَ (3) .
أَحْكَامُ الْحَوْقَلَةِ:
أ - عِنْدَ سَمَاعِ الْمُؤَذِّنِ:
3 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا قَال الأَْمِيرُ، بِأَنَّهُ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 130، ونيل المآرب 1 / 116، 118، وكشاف القناع 1 / 246 ط عالم الكتب، ونيل الأوطار 2 / 53 ط المطبعة العثمانية المصرية.
(2) نيل المآرب 1 / 118، وكشاف القناع 1 / 246، ونيل الأوطار 2 / 53.
(3) أسنى المطالب 1 / 130 ط المكتبة الإسلامية.(18/249)
يُسْتَحَبُّ لِسَامِعِ الآْذَانِ أَنْ يُحَوْقِل عِنْدَ قَوْل الْمُؤَذِّنِ: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ، أَيْ أَنْ يَقُول: لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. وَالْقَوْل الآْخَرُ الْمَشْهُورُ لِلْمَالِكِيَّةِ، أَنَّهُ لاَ يُحَوْقِل وَلاَ يَحْكِي عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ.
وَقَدْ رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا قَال الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَال أَحَدُكُمْ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَال: حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ فَقَال: لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، ثُمَّ قَال: حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ، قَال: لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ، دَخَل الْجَنَّةَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1) .
فَهَذَا الْحَدِيثُ مُقَيِّدٌ لإِِطْلاَقِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الَّذِي جَاءَ فِيهِ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْل مَا يَقُول الْمُؤَذِّنُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (2)
وَلأَِنَّ الْمَعْنَى مُنَاسِبٌ لإِِجَابَةِ الْحَيْعَلَةِ مِنَ السَّامِعِ بِالْحَوْقَلَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا دُعِيَ إِلَى مَا فِيهِ الْفَوْزُ وَالْفَلاَحُ وَالنَّجَاةُ، وَإِصَابَةُ الْخَيْرِ، نَاسَبَ أَنْ يَقُول: هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ، لاَ أَسْتَطِيعُ مَعَ ضَعْفِي الْقِيَامَ بِهِ، إِلاَّ إِذَا وَفَّقَنِي اللَّهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَلأَِنَّ أَلْفَاظَ الأَْذَانِ ذِكْرُ اللَّهِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُجِيبَ بِهَا، إِذْ
__________
(1) حديث: " إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر. . . " أخرجه مسلم (1 / 289 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 90 - ط السلفية) ومسلم (1 / 288 ط الحلبي) .(18/249)
هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْحَيْعَلَةُ فَإِنَّمَا هِيَ دُعَاءٌ إِلَى الصَّلاَةِ، وَالَّذِي يَدْعُو إِلَيْهَا هُوَ الْمُؤَذِّنُ، وَأَمَّا السَّامِعُ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ الاِمْتِثَال وَالإِْقْبَال عَلَى مَا دُعِيَ إِلَيْهِ، وَإِجَابَتُهُ فِي ذِكْرِ اللَّهِ لاَ فِيمَا عَدَاهُ.
وَقِيل يَجْمَعُ السَّامِعُ بَيْنَ الْحَيْعَلَتَيْنِ وَالْحَوْقَلَةِ عَمَلاً بِالْحَدِيثَيْنِ. (1)
وَيَرَى الْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يَقُول كَمَا يَقُول، وَاسْتَدَل فِي ذَلِكَ بِظَاهِرِ مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ السَّابِقِ ذِكْرُهُ. (2)
وَصَرَّحَ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ يُحَوْقِل أَرْبَعَةً، وَنَقَل عَنِ ابْنِ الرِّفْعَةِ أَنَّهُ يُحَوْقِل مَرَّتَيْنِ. (3)
وَكَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُقِيمِ فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول فِي الإِْقَامَةِ مِثْل مَا يَقُول فِي الأَْذَانِ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ بِلاَلاً أَخَذَ فِي الإِْقَامَةِ، فَلَمَّا أَنْ قَال: قَدْ قَامَتِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 266 ط دار إحياء التراث العربي، وبدائع الصنائع 1 / 155 ط دار الكتاب العربي، وحاشية الزرقاني 1 / 161 ط دار الفكر، وحاشية الدسوقي 1 / 197 ط دار الفكر، والقوانين الفقهية / 54 دار الكتاب العربي، وأسنى المطالب 1 / 130، والقليوبي 1 / 131 ط دار إحياء الكتب العربية، والأذكار 37، 38 ط دار الكتاب العربي، وسبل السلام 1 / 201، 202 ط مصطفى محمد، والمغني 1 / 426، 427، 428 ط الرياض، وكشاف القناع 1 / 245، ونيل المآرب 1 / 117.
(2) المغني 1 / 426، 427.
(3) مغني المحتاج 1 / 141.(18/250)
الصَّلاَةُ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا (1) وَقَال فِي سَائِرِ الإِْقَامَةِ كَنَحْوِ حَدِيثِ عُمَرَ فِي الأَْذَانِ. (2)
ب - الْحَوْقَلَةُ فِي الصَّلاَةِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ حَوْقَل فِي الصَّلاَةِ لأُِمُورِ الدُّنْيَا تَفْسُدُ الصَّلاَةُ، وَإِنْ كَانَ لأُِمُورِ الآْخِرَةِ، أَوْ لِدَفْعِ الْوَسْوَسَةِ لاَ تَفْسُدُ. (3) وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ قَالَهَا فِي الصَّلاَةِ لِحَاجَةٍ فَلاَ حَرَجَ. (4)
وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ - وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ - أَنَّ الْحَوْقَلَةَ فِي الصَّلاَةِ غَيْرُ مُبْطِلَةٍ إِذَا قُصِدَ بِهَا الذِّكْرُ، لأَِنَّ الأَْذْكَارَ وَالتَّسْبِيحَاتِ وَالأَْدْعِيَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ لاَ يَضُرُّ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ الْمَسْنُونُ وَغَيْرُهُ. (5)
مَوَارِدُ ذِكْرِ الْحَوْقَلَةِ:
5 - الْحَوْقَلَةُ مِنَ الأَْذْكَارِ الَّتِي وَرَدَ ذِكْرُهَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا:
__________
(1) حديث: " أن بلالا أخذ في الإقامة. . . " أخرجه أبو داود (1 / 361 - 362 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وفي إسناده راو مبهم، وراويان فيهما مقال، كذا في نتائج الأفكار لابن حجر (1 / 371 - ط مكتبة المثنى - بغداد) .
(2) ابن عابدين 1 / 268، وأسنى المطالب 1 / 130، والقليوبي 1 / 131، ونيل المآرب 1 / 117، وكشاف القناع 1 / 245، والمغني 1 / 426، 427.
(3) الدر المختار 1 / 418 طبعة بولاق.
(4) مواهب الجليل 2 / 29 ط دار الفكر.
(5) روضة الطالبين 1 / 292، والقليوبي 1 / 189، والمغني 1 / 428(18/250)
إِذَا وَقَعَ الشَّخْصُ فِي هَلَكَةٍ. (1) أَوْ إِذَا مَرِضَ. (2) أَوْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ وَخَافَ أَنْ يُصِيبَهُ بِعَيْنِهِ. (3)
وَإِذَا تَطَيَّرَ بِشَيْءٍ (4) وَأَثْنَاءَ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ، (5) وَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْل، (6) وَإِذَا اسْتَيْقَظَ فِي اللَّيْل وَأَرَادَ النَّوْمَ بَعْدَهُ، (7) وَبَعْدَ كُل صَلاَةٍ (8) فَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْحَالاَتِ وَغَيْرِهَا وَرَدَ ذِكْرُ الْحَوْقَلَةِ ضِمْنَ أَدْعِيَةٍ أُخْرَى، ذَكَرَهَا الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِهِ الأَْذْكَارِ، مُسْتَدِلًّا بِالأَْحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرِيفَةِ، وَكَذَلِكَ وَرَدَ ذِكْرُ الْحَوْقَلَةِ ضِمْنَ أَذْكَارِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ (9) وَضِمْنَ دَعَوَاتٍ مُسْتَحَبَّةٍ فِي جَمِيعِ الأَْوْقَافِ غَيْرِ مُخْتَصَّةٍ بِوَقْتٍ، أَوْ حَالٍ مَخْصُوصٍ. (10)
كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ: قَال: قَال لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ
__________
(1) الأذكار / 113.
(2) الأذكار / 124.
(3) الأذكار / 284.
(4) الأذكار / 285.
(5) الأذكار / 24، 25.
(6) الأذكار / 27.
(7) الأذكار / 90.
(8) الأذكار / 67.
(9) الأذكار / 79.
(10) الأذكار / 18، 347، 351.(18/251)
الْجَنَّةِ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ، قَال: قُل: لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. (1) .
__________
(1) حديث أبي موسى الأشعري: " ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 187 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2076 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.(18/251)
حَوْلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَوْل فِي اللُّغَةِ: السَّنَةُ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْقُوَّةِ وَالتَّغَيُّرِ، وَالاِنْقِلاَبِ، وَبِمَعْنَى الإِْقَامَةِ، وَالْحَوْل مِنْ حَال الشَّيْءُ حَوْلاً: إِذَا دَارَ.
وَسُمِّيَتِ السَّنَةُ حَوْلاً لاِنْقِلاَبِهَا وَدَوَرَانِ الشَّمْسِ فِي مَطَالِعِهَا، وَمَغَارِبِهَا، وَهُوَ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ، وَالْجَمْعُ: أَحْوَالٌ، وَحُؤُولٌ، وَحُوُولٌ، بِالْهَمْزَةِ، وَبِغَيْرِ الْهَمْزَةِ، وَالْحَوْلِيُّ: كُل مَا أَتَى عَلَيْهِ حَوْلٌ مِنْ ذِي حَافِرٍ وَغَيْرِهِ.
يُقَال جَمَلٌ حَوْلِيٌّ، وَنَبْتٌ حَوْلِيٌّ. وَأَحْوَل الصَّبِيُّ، فَهُوَ مُحْوِلٌ: أَتَى عَلَيْهِ حَوْلٌ مِنْ مَوْلِدِهِ. (1)
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَوْل:
أ - الْحَوْل فِي الزَّكَاةِ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَوْل شَرْطٌ لِوُجُوبِ
__________
(1) تاج العروس، المصباح المنير ومعجم مقاييس اللغة مادة: " حول ".(18/252)
الزَّكَاةِ فِي نِصَابِ السَّائِمَةِ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ، وَفِي الأَْثْمَانِ، وَهِيَ الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، وَفِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ لِحَدِيثِ: لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل. (1)
قَالُوا: لأَِنَّ هَذِهِ الأَْمْوَال مُرْصَدَةٌ لِلنَّمَاءِ، فَالْمَاشِيَةُ مُرْصَدَةٌ لِلدَّرِّ وَالنَّسْل، وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ مُرْصَدَةٌ لِلرِّبْحِ وَكَذَا الأَْثْمَانُ، فَاعْتُبِرَ فِي الْكُل الْحَوْل، لأَِنَّ النَّمَاءَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَال، وَهُوَ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِالاِسْتِنْمَاءِ، وَلاَ بُدَّ لِذَلِكَ مِنْ مُدَّةٍ، وَأَقَل مُدَّةٍ يُسْتَنْمَى الْمَال فِيهَا بِالتِّجَارَةِ وَالإِْسَامَةِ عَادَةً: الْحَوْل، فَصَارَ مَظِنَّةَ النَّمَاءِ فَاعْتُبِرَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ حَقِيقَةُ النَّمَاءِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ، وَلِكَثْرَةِ اخْتِلاَفِهِ، وَكُل مَا اعْتُبِرَ مَظِنَّتُهُ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى حَقِيقَتِهِ كَالْحُكْمِ مَعَ الأَْسْبَابِ.
وَلأَِنَّ الزَّكَاةَ فِي هَذِهِ الأَْمْوَال تَتَكَرَّرُ فَلاَ بُدَّ مِنْ ضَابِطٍ كَيْ لاَ يُفْضِيَ إِلَى تَعَاقُبِ الْوُجُوبِ فِي الزَّمَنِ الْوَاحِدِ مَرَّاتٍ فَيَنْفَدُ مَال الْمَالِكِ. (2)
__________
(1) حديث: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ". أخرجه ابن ماجه (1 / 571 - ط الحلبي) من حديث عائشة، وضعف إسناده البوصيري، ولكن له شواهد قال النووي لأجلها هو حديث صحيح أو حسن. نقله عنه الزيلعي في نصب الراية (2 / 328 - ط المجلس العلمي بالهند) .
(2) بدائع الصنائع 2 / 13، وحاشية الدسوقي 1 / 431، والمجموع للنووي 5 / 361، ونهاية المحتاج 3 / 63، والمغني 2 / 625.(18/252)
أَمَّا الزَّرْعُ وَالثِّمَارُ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا حَوْلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (1) . وَلأَِنَّهَا نَمَاءٌ بِنَفْسِهَا مُتَكَامِلَةٌ عِنْدَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهَا، فَتُؤْخَذُ زَكَاتُهَا حِينَئِذٍ، ثُمَّ تَأْخُذُ فِي النَّقْصِ لاَ فِي النَّمَاءِ، فَلاَ تَجِبُ فِيهَا زَكَاةٌ ثَانِيَةٌ، لِعَدَمِ إِرْصَادِهَا لِلنَّمَاءِ. (2)
وَالْمَعْدِنُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنَ الأَْرْضِ كَالزَّرْعِ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ حَوْلٌ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ خُمُسٍ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. (3)
فَيُؤْخَذُ زَكَاتُهُ عِنْدَ حُصُولِهِ، قَالُوا: إِلاَّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الأَْثْمَانِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ كُل حَوْلٍ، لأَِنَّهُ مَظِنَّةُ النَّمَاءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الأَْثْمَانَ قِيَمُ الأَْمْوَال، وَرَأْسُ مَال التِّجَارَةِ، وَبِهَا تَحْصُل الْمُضَارَبَةُ وَالشَّرِكَةُ. (4)
وَالتَّفْصِيل، فِي مُصْطَلَحَاتِ (زَكَاةٌ، رِكَازٌ، مَعْدِنٌ) .
ابْتِدَاءُ الْحَوْل:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِنْ مَلَكَ نِصَابًا مِنْ مَال الزَّكَاةِ مِمَّا يُعْتَبَرُ لَهُ الْحَوْل، وَلاَ مَال لَهُ
__________
(1) سورة الأنعام / 141.
(2) بدائع الصنائع 2 / 63، وحاشية الدسوقي 1 / 451، والمجموع للنووي 5 / 361، وقليوبي 2 / 19، والمغني 2 / 625.
(3) بدائع الصنائع 2 / 67، وحاشية الدسوقي 1 / 456 - 457، وقليوبي 2 / 25، والمغني 2 / 625.
(4) المغني 2 / 625.(18/253)
سِوَاهُ: انْعَقَدَ حَوْلُهُ مِنْ حِينِ حُصُول الْمِلْكِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لاَ يَبْلُغُ نِصَابًا، فَمَلَكَ مَالاً آخَرَ بَلَغَ بِهِ نِصَابًا، ابْتَدَأَ الْحَوْل مِنْ حِينِ بُلُوغِ النِّصَابِ.
وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ نِصَابٌ فَاسْتَفَادَ فِي خِلاَل الْحَوْل مَالاً مِنْ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ نَمَاءِ مَا عِنْدَهُ كَرِبْحِ التِّجَارَةِ، وَنِتَاجِ السَّائِمَةِ فَإِنَّهُ يُضَمُّ فِي الْحَوْل إِلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ أَصْلِهِ، فَيُزَكَّى بِحَوْل الأَْصْل بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ مَالِهِ فَيَتْبَعُهُ فِي الْحَوْل، وَلأَِنَّهُ مُلِكَ بِمِلْكِ الأَْصْل وَتَوَلَّدَ مِنْهُ فَيَتْبَعُهُ فِي الْحَوْل. أَمَّا إِذَا اسْتَفَادَ بَعْدَ الْحَوْل وَالتَّمَكُّنِ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنَ الأَْصْل لَمْ يَضُمَّ فِي الْحَوْل الأَْوَّل وَيَضُمَّ فِي الْحَوْل الثَّانِي. (1)
وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ نَمَائِهِ كَالْمُشْتَرَى، وَالْمُتَّهَبِ وَالْمُوصَى بِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمِّهِ إِلَى الأَْصْل فِي الْحَوْل. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُضَمُّ إِلَى مَا عِنْدَهُ فِي الْحَوْل فَيُزَكِّي بِحَوْل الأَْصْل عَيْنًا كَانَ أَوْ مَاشِيَةً.
وَقَالُوا: إِنَّ عُمُومَاتِ الزَّكَاةِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْحَوْل إِلاَّ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ،
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 13، وحاشية الدسوقي 1 / 432، ومواهب الجليل 2 / 257، وروضة الطالبين 2 / 184، والمغني 2 / 626.(18/253)
وَلأَِنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ جِنْسِ الأَْصْل تَبَعٌ لَهُ، لأَِنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ، إِذِ الأَْصْل يَزْدَادُ بِهِ.
وَالزِّيَادَةُ تَبَعٌ لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَالتَّبَعُ لاَ يَنْفَرِدُ بِالشَّرْطِ كَمَا لاَ يَنْفَرِدُ بِالسَّبَبِ لِئَلاَّ يَنْقَلِبَ التَّبَعُ أَصْلاً، فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِحَوْل الأَْصْل. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُضَمُّ إِلَى الأَْصْل فِي الْحَوْل إِنْ كَانَ الْمَال عَيْنًا، أَمَّا إِنْ كَانَ مَاشِيَةً فَيُضَمُّ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ يَضُمُّ الثَّانِيَةَ إِلَى الأُْولَى، بَل يَنْعَقِدُ لَهَا حَوْلٌ بِسَبَبٍ مُسْتَقِلٍّ. (3)
لِخَبَرِ: لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل. (4) وَالْمُسْتَفَادُ مَالٌ لَمْ يَحُل عَلَيْهِ الْحَوْل فَلاَ زَكَاةَ فِيهِ.
وَلأَِنَّ الْمُسْتَفَادَ مُلِكَ بِمِلْكٍ جَدِيدٍ فَلَيْسَ مَمْلُوكًا بِمَا مَلَكَ بِهِ مَا عِنْدَهُ، وَلاَ تَفَرَّعَ عَنْهُ، فَلَمْ يُضَمَّ إِلَيْهِ فِي الْحَوْل. (5)
وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ، كَأَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ، فَاسْتَفَادَ فِي الْحَوْل خَمْسًا مِنَ الإِْبِل، فَلِلْمُسْتَفَادِ حُكْمُ نَفْسِهِ،
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 13 و 14.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 432، والكافي لابن عبد البر 1 / 292.
(3) المجموع للنووي 5 / 367، والمغني 2 / 627.
(4) حديث: " لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول " سبق تخريجه ف / 2.
(5) المجموع للنووي 5 / 367، والمغني 2 / 627.(18/254)
وَلاَ يُضَمُّ إِلَى مَا عِنْدَهُ فِي الْحَوْل، بَل إِنْ كَانَ نِصَابًا اسْتَقْبَل بِهِ حَوْلاً، وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. (1) .
مَا يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْل:
4 - مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - مِنْ غَيْرِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ - أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ وُجُودُ النِّصَابِ فِي جَمِيعِ الْحَوْل، فَإِنْ نَقَصَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْل انْقَطَعَ الْحَوْل.
أَمَّا فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ فَإِنْ نَقَصَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْل انْقَطَعَ الْحَوْل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَلاَ يَنْقَطِعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ، وَقَوْل زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بَل الشَّرْطُ وُجُودُ النِّصَابِ فِي آخِرِ الْحَوْل فَقَطْ، إِذْ هُوَ حَال الْوُجُوبِ فَلاَ يُعْتَبَرُ غَيْرُهُ لِكَثْرَةِ اضْطِرَابِ الْقِيَمِ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ طَرَفَا الْحَوْل، كَغَيْرِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ. وَلاَ يُعْتَبَرُ مَا بَيْنَهُمَا إِذْ تَقْوِيمُ الْعُرُوضِ فِي كُل لَحْظَةٍ يَشُقُّ وَيَحُوجُ إِلَى مُلاَزَمَةِ السُّوقِ وَمُرَاقَبَةٍ دَائِمَةٍ. (2)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ وُجُودُ النِّصَابِ، فِي
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 461، ونهاية المحتاج 3 / 64 و 100، والمغني 2 / 629.(18/254)
أَوَّل الْحَوْل وَفِي آخِرِهِ، حَتَّى لَوِ انْتَقَصَ النِّصَابُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْل ثُمَّ كَمُل فِي آخِرِهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ السَّوَائِمِ أَوْ مِنَ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، أَوْ مَال التِّجَارَةِ. أَمَّا إِذَا هَلَكَ كُلُّهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْل، يَنْقَطِعُ الْحَوْل عِنْدَ الْجَمِيعِ. (1)
اسْتِبْدَال مَال الزَّكَاةِ فِي الْحَوْل بِمِثْلِهِ:
5 - إِذَا بَاعَ نِصَابًا لِلزَّكَاةِ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْل بِجِنْسِهِ كَالإِْبِل بِالإِْبِل، أَوِ الْبَقَرِ بِالْبَقَرِ، أَوِ الْغَنَمِ بِالْغَنَمِ، أَوِ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ لَمْ يَنْقَطِعِ الْحَوْل، وَبَنَى حَوْل الثَّانِي عَلَى حَوْل الأَْوَّل، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (2) وَقَالُوا: إِنَّهُ نِصَابٌ يُضَمُّ إِلَيْهِ نَمَاؤُهُ فِي الْحَوْل، فَيُبْنَى حَوْل بَدَلِهِ مِنْ جِنْسِهِ عَلَى حَوْلِهِ كَالْعُرُوضِ، وَحَدِيثُ: لاَ زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل: مَخْصُوصٌ بِالنَّمَاءِ وَالرِّبْحِ، وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، فَتَقِيسُ عَلَيْهِ مَحَل النِّزَاعِ. (3) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، إِلَى أَنَّ الْحَوْل الأَْوَّل يَنْقَطِعُ فَيَسْتَأْنِفُ كُلٌّ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْحَوْل عَلَى مَا أَخَذَهُ مِنْ حِينِ الْمُبَادَلَةِ فِي السَّائِمَةِ.
أَمَّا الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُسْتَأْنَفُ الْحَوْل إِنْ لَمْ يَكُنْ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 16، ابن عابدين 2 / 33.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 438، مواهب الجليل 2 / 265، المغني 2 / 675.
(3) المصادر السابقة.(18/255)
صَيْرَفِيًّا يُبَدِّلُهَا لِلتِّجَارَةِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ صَيْرَفِيًّا عَلَى الأَْصَحِّ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ اسْتِبْدَال الدَّنَانِيرِ بِالدَّنَانِيرِ، أَوْ بِالدَّرَاهِمِ، لاَ يَقْطَعُ الْحَوْل.
قَالُوا: لأَِنَّ الْوُجُوبَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْنَى لاَ بِالْعَيْنِ، وَالْمَعْنَى قَائِمٌ بَعْدَ الاِسْتِبْدَال فَلاَ يَبْطُل حُكْمُ الْحَوْل كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، بِخِلاَفِ السَّائِمَةِ، لأَِنَّ الْحُكْمَ فِيهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْعَيْنِ، وَقَدْ تَبَدَّلَتِ الْعَيْنُ، فَبَطَل الْحَوْل عَلَى الأَْوَّل، فَيَسْتَأْنِفُ لِلثَّانِي حَوْلاً. (1) وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ " الزَّكَاةُ ".
أَمَّا إِذَا اسْتَبْدَل نِصَابَ الزَّكَاةِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، بِأَنْ يَبِيعَ نِصَابَ السَّائِمَةِ بِدَنَانِيرَ أَوْ بِدَرَاهِمَ، أَوْ بَادَل الإِْبِل بِبَقَرٍ، أَوْ غَنَمٍ، فِي خِلاَل الْحَوْل، فَإِنَّ حُكْمَ الْحَوْل يَنْقَطِعُ وَيَسْتَأْنِفُ حَوْلاً آخَرَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. (2)
هَذَا إِذَا لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ، أَمَّا إِذَا فَعَل ذَلِكَ فِرَارًا مِنْهَا، لَمْ تَسْقُطِ الزَّكَاةُ، وَتُؤْخَذُ فِي آخِرِ الْحَوْل إِذَا كَانَ الإِْبْدَال عِنْدَ قُرْبِ الْوُجُوبِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، (3) وَقَالُوا: إِنَّهُ قَصَدَ إِسْقَاطَ نَصِيبِ مَنِ انْعَقَدَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ كَمَا لَوْ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 15، المجموع 5 / 361.
(2) المصادر السابقة.
(3) مواهب الجليل 2 / 264، حاشية الدسوقي 1 / 436، المغني 2 / 676، كشاف القناع 2 / 178.(18/255)
طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَلأَِنَّهُ قَصَدَ قَصْدًا فَاسِدًا فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ مُعَاقَبَتَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: لاَ فَرْقَ فِي انْقِطَاعِ الْحَوْل بِالْمُبَادَلَةِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْل بَيْنَ مَنْ يَفْعَلُهُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ، وَبَيْنَ مَنْ قَصَدَ الْفِرَارَ مِنَ الزَّكَاةِ، وَفِي الصُّورَتَيْنِ يَنْقَطِعُ الْحَوْل. (1) هَذَا فِي الْمُبَادَلَةِ الصَّحِيحَةِ.
أَمَّا الْمُبَادَلَةُ الْفَاسِدَةُ فَلاَ تَقْطَعُ الْحَوْل، وَإِنِ اتَّصَلَتْ بِالْقَبْضِ وَيُبْنَى عَلَى الْحَوْل الأَْوَّل، لأَِنَّهَا لاَ تُزِيل الْمِلْكَ. (2)
وَإِنْ بَاعَ النِّصَابَ قَبْل تَمَامِ الْحَوْل، وَرُدَّتْ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ أَوْ إِقَالَةٍ، اسْتَأْنَفَ الْحَوْل مِنْ حِينِ الرَّدِّ لاِنْقِطَاعِ الْحَوْل الأَْوَّل بِالْبَيْعِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَبْنِي عَلَى الْحَوْل الأَْوَّل. (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ) .
عَلَفُ السَّائِمَةِ فِي خِلاَل الْحَوْل:
6 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إِذَا أَعْلَفَ السَّائِمَةَ فِي مُعْظَمِ الْحَوْل يَنْقَطِعُ الْحَوْل. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ لاَ يَقْطَعُ الْحَوْل، بِنَاءً عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ عَدَمِ
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 15، المجموع للنووي 5 / 361، نهاية المحتاج 3 / 65، قليوبي 2 / 14.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 438، ونهاية المحتاج 3 / 65، والمجموع 5 / 361، والمغني 2 / 678.
(3) المصادر السابقة، وروضة الطالبين 2 / 187.(18/256)
اشْتِرَاطِ السَّوْمِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ " زَكَاةٌ ".
الْحَوْل فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ:
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مُدَّةَ الرَّضَاعِ حَوْلاَنِ كَامِلاَنِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ فِطَامَ الصَّبِيِّ قَبْل تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ حَقٌّ لِلأَْبَوَيْنِ مَعًا، بِشَرْطِ عَدَمِ الإِْضْرَارِ بِالرَّضِيعِ وَلَيْسَ لأَِحَدِهِمَا الاِسْتِقْلاَل بِالْفِطَامِ قَبْل تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ (2) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْل ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} . (3)
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ (رَضَاعٌ، وَحَضَانَةٌ) .
اشْتِرَاطُ الْحَوْلَيْنِ فِي الرَّضَاعِ الْمُؤَثِّرِ فِي التَّحْرِيمِ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ مُدَّةِ الرَّضَاعِ الْمُؤَثِّرِ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ وَثُبُوتِ الْمَحْرَمِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِجَوَازِ النَّظَرِ وَالْخَلْوَةِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 431، ونهاية المحتاج 3 / 66، والاختيار 1 / 105، والمغني2 / 577.
(2) ابن عابدين 2 / 404، وشرح الزرقاني 4 / 239 - 240، وروضة الطالبين 9 / 118، أسنى المطالب 3 / 454.
(3) سورة البقرة / 233.(18/256)
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ: أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَبْلُغَ الْمُرْتَضِعُ حَوْلَيْنِ، فَمَتَى بَلَغَ حَوْلَيْنِ فَلاَ أَثَرَ لاِرْتِضَاعِهِ. (1) لِخَبَرِ: لاَ رَضَاعَ إِلاَّ مَا فَتَقَ الأَْمْعَاءَ، وَكَانَ قَبْل حَوْلَيْنِ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَضُرُّ زِيَادَةُ شَهْرَيْنِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ حَوْلاَنِ، وَنِصْفٌ. (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (رَضَاعٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 402، شرح الزرقاني 4 / 239، أسنى المطالب 3 / 416، روضة الطالبين 9 / 7، المغني 7 / 542.
(2) حديث: " لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل حولين ". أخرجه الدارقطني (4 / 174 - ط دار المحاسن) والبيهقي (7 / 462 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عباس مرفوعا: " لا رضاع إلا ما كان في الحولين ". وصوب الدارقطني والبيهقي وقفه على ابن عباس. وأخرجه الترمذي (3 / 450 ط الحلبي) من حديث أم سلمة بلفظ: " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام "، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) نفس المراجع.(18/257)
حَوَلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَوَل بِفَتْحَتَيْنِ: أَنْ يَظْهَرَ الْبَيَاضُ فِي الْعَيْنِ فِي مُؤْخِرِهَا، وَيَكُونُ السَّوَادُ مِنْ قِبَل الْمَاقِ وَطَرَفِ الْعَيْنِ مِنْ قِبَل الأَْنْفِ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَوَرُ:
2 - الْعَوَرُ ذَهَابُ بَصَرِ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ. يُقَال عَوِرَ الرَّجُل: ذَهَبَ بَصَرُ إِحْدَى عَيْنَيْهِ فَهُوَ أَعْوَرُ وَالأُْنْثَى عَوْرَاءُ (2) .
ب - الْعَشَى:
3 - الْعَشَى هُوَ سُوءُ الْبَصَرِ بِاللَّيْل وَالنَّهَارِ. وَقِيل مَنْ يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلاَ يُبْصِرُ بِاللَّيْل (3) .
__________
(1) لسان العرب مادة: " حول ". وتحديد المعنى الدقيق لهذا المصطلح يرجع فيه إلى المختصين من الأطباء.
(2) المعجم الوسيط مادة: " عور ".
(3) القاموس المحيط.(18/257)
ج - الظَّفْرُ:
4 - الظَّفْرُ بَيَاضٌ يَبْدُو فِي إِنْسَانِ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ يُمْكِنُ ضَعْفًا فِي الْبَصَرِ. وَعَدَّهُ صَاحِبُ الْمَبْسُوطِ مِنْ عُيُوبِ الْعَيْنِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَوَل:
أ - فَسْخُ النِّكَاحِ بِالْحَوَل:
5 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْحَوَل لاَ يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ فَسْخِ النِّكَاحِ لأَِحَدِ الزَّوْجَيْنِ مَا لَمْ يُشْتَرَطِ السَّلاَمَةُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ لاَ يَفُوتُ بِهِ مَقْصُودُ النِّكَاحِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ النِّكَاحِ الْمُصَاهَرَةُ وَالاِسْتِمْتَاعُ بِخِلاَفِ اللَّوْنِ وَالطُّول وَالْقِصَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالزَّوْجُ قَدْ رَضِيَ رِضًا مُطْلَقًا وَهُوَ لَمْ يَشْتَرِطْ صِفَةً فَظَهَرَ عَدَمُهَا. (2)
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ - وَنَقَلَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ وَأَقَرَّهُ -: كُل عَيْبٍ يَفِرُّ الزَّوْجُ الآْخَرُ مِنْهُ وَلاَ يَحْصُل بِهِ مَقْصُودُ النِّكَاحِ مِنَ الْمَوَدَّةِ وَالرَّحْمَةِ: يُوجِبُ الْخِيَارَ. وَإِنَّ النِّكَاحَ أَوْلَى مِنَ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ الإِْطْلاَقُ إِلَى السَّلاَمَةِ فَهُوَ كَالْمَشْرُوطِ عُرْفًا (3) .
__________
(1) المبسوط 13 / 112، 113، وانظر ابن عابدين 4 / 75 والفتاوى الهندية 6 / 67 والمغني لابن قدامة 4 / 168 ط الرياض.
(2) بدائع الصنائع 2 / 327، 328 وتحفة الفقهاء 2 / 312 نشر دار الفكر بدمشق والدسوقي 2 / 280 نشر دار الفكر وأسنى المطالب 3 / 186 والفروع 5 / 234 نشر عالم الكتب.
(3) الفروع 5 / 236.(18/258)
أَمَّا إِذَا اشْتَرَطَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ السَّلاَمَةَ مِنَ الْحَوَل وَنَحْوِهِ، كَالْعَوَرِ وَالْعَرَجِ - حَتَّى وَلَوْ كَانَ شَرْطُ السَّلاَمَةِ بِوَصْفِ الْوَلِيِّ أَوْ وَصْفِ غَيْرِهِ بِحَضْرَتِهِ وَسَكَتَ بِأَنَّهَا صَحِيحَةُ الْعَيْنَيْنِ أَوْ سَلِيمَةٌ مِنَ الْحَوَل وَنَحْوُ ذَلِكَ - فَبَانَ خِلاَفَ ذَلِكَ فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ - وَهُوَ مَا صَوَّبَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ - أَنَّ لَهُ الْفَسْخَ. (1)
وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ سَلاَمَةَ الزَّوْجِ مِنَ الْحَوَل فَبَانَ دُونَ الْمَشْرُوطِ فَلَهَا الْخِيَارُ، وَإِنْ شُرِطَتِ السَّلاَمَةُ فِي الزَّوْجَةِ فَفِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلزَّوْجِ قَوْلاَنِ لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الطَّلاَقِ. قَال النَّوَوِيُّ: وَالأَْظْهَرُ ثُبُوتُهُ. (2)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ السَّلاَمَةَ مِنَ الْحَوَل، بَل وَمِمَّا هُوَ أَفْحَشُ مِنْهُ كَالْعَمَى، وَالشَّلَل، وَالزَّمَانَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ الْجَمَال وَالْبَكَارَةَ، فَوَجَدَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ لاَ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ، لأَِنَّ فَوْتَ زِيَادَةٍ مَشْرُوطَةٍ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ فِي إِثْبَاتِ الْخِيَارِ كَمَا فِي الْبَيْعِ. (3)
ب - التَّضْحِيَةُ بِالْحَوْلاَءِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي إِجْزَاءِ التَّضْحِيَةِ
__________
(1) الدسوقي 2 / 280 نشر دار الفكر والفواكه الدواني 2 / 66 والفروع 5 / 235.
(2) روضة الطالبين 7 / 185.
(3) المبسوط 5 / 97، 98.(18/258)
بِالشَّاةِ الْحَوْلاَءِ، مَا لَمْ يَمْنَعِ الْحَوَل النَّظَرَ، لِعَدَمِ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْبَصَرِ، (1) وَلِلتَّفْصِيل ر: أُضْحِيَّةٌ ف (28) .
ج - مَا يَجِبُ فِي الإِْحْوَال:
7 - الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَيْنِ إِذَا أَدَّتْ إِلَى الْحَوَل تَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.
بِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: لَوْ ضَرَبَ الْعَيْنَ ضَرْبَةً فَابْيَضَّتْ أَوْ أَصَابَهَا قَرْحٌ أَوْ شَيْءٌ مِمَّا يُهَيِّجُ بِالْعَيْنِ فَنَقَصَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ. (2)
هَذَا وَأَمَّا الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْعَيْنِ الْحَوْلاَءِ وَالاِقْتِصَاصُ مِنَ الأَْحْوَل إِذَا فَقَأَ عَيْنًا سَلِيمَةً فَتُنْظَرُ فِي (جِنَايَةٌ، حُكُومَةُ عَدْلٍ، قِصَاصٌ، دِيَةٌ، وَعَيْنٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 205، 206 والفتاوى الهندية 5 / 297، 298، والدسوقي 2 / 120 نشر دار الفكر، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 502 نشر دار المعرفة، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 3 / 342 وروضة الطالبين 3 / 195، وكشاف القناع 3 / 6.
(2) حاشية الطحطاوي على الدر 4 / 268، وروضة الطالبين 9 / 295، وأسنى المطالب 4 / 61، وكشاف القناع 6 / 36.(18/259)
حَيَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَيَاءُ لُغَةً مَصْدَرُ حَيِيَ، وَهُوَ: تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْتَرِي الإِْنْسَانَ مِنْ خَوْفِ مَا يُعَابُ بِهِ وَيُذَمُّ. وَفِي الشَّرْعِ: خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى اجْتِنَابِ الْقَبِيحِ مِنَ الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال، وَيَمْنَعُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ ذِي الْحَقِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخَجَل:
2 - الْخَجَل: وَهُوَ: الاِسْتِرْخَاءُ مِنَ الْحَيَاءِ، وَيَكُونُ مِنَ الذُّل، يُقَال: بِهِ خَجْلَةٌ أَيْ حَيَاءٌ، وَهُوَ التَّحَيُّرُ وَالدَّهَشُ مِنَ الاِسْتِحْيَاءِ.
يُقَال: خَجِل الرَّجُل خَجَلاً: فَعَل فِعْلاً فَاسْتَحَى مِنْهُ. (2)
وَقَال أَبُو هِلاَلٍ الْعَسْكَرِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَجَل وَالْحَيَاءِ، أَنَّ الْخَجَل مَعْنًى يَظْهَرُ فِي الْوَجْهِ لِغَمٍّ يَلْحَقُ الْقَلْبَ عِنْدَ ذَهَابِ حُجَّةٍ، أَوْ ظُهُورٍ
__________
(1) المصباح المنير وفتح الباري 1 / 74، وعمدة القاري 1 / 152، وتفسير الرازي ج1 في تفسير آية (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة) .
(2) لسان العرب المحيط.(18/259)
عَلَى رِيبَةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهُوَ شَيْءٌ تَتَغَيَّرُ بِهِ الْهَيْئَةُ، وَالْحَيَاءُ هُوَ الاِرْتِدَاعُ بِقُوَّةِ الْحَيَاءِ، وَلِهَذَا يُقَال فُلاَنٌ يَسْتَحْيِ فِي هَذَا الْحَال أَنْ يَفْعَل كَذَا، وَلاَ يُقَال يَخْجَل أَنْ يَفْعَلَهُ فِي هَذِهِ الْحَال، لأَِنَّ هَيْئَتَهُ لاَ تَتَغَيَّرُ مِنْهُ قَبْل أَنْ يَفْعَلَهُ، فَالْخَجَل مِمَّا كَانَ وَالْحَيَاءُ مِمَّا يَكُونُ، وَقَدْ يُسْتَعْمَل الْحَيَاءُ مَوْضِعَ الْخَجَل تَوَسُّعًا.
وَقَال الأَْنْبَارِيُّ: أَصْل الْخَجَل فِي اللُّغَةِ: الْكَسَل وَالْتَوَانِي وَقِلَّةُ الْحَرَكَةِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَال الْعَرَبِ لَهُ حَتَّى أَخْرَجُوهُ عَلَى مَعْنَى الاِنْقِطَاعِ فِي الْكَلاَمِ، وَفِي الْحَدِيثِ إِذَا جُعْتُنَّ وَقَعْتُنَّ وَإِذَا شَبِعْتُنَّ خَجِلْتُنَّ. (1)
وَقَعْتُنَّ أَيْ ذَلَلْتُنَّ وَخَجِلْتُنَّ كَسِلْتُنَّ، وَقَال أَبُو عُبَيْدَةَ: الْخَجَل هَاهُنَا الأَْشَرُ، وَقِيل: هُوَ سُوءُ احْتِمَال الْعَنَاءِ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ الْعَرَبِ الْخَجَل بِمَعْنَى الدَّهَشِ.
قَال الْكُمَيْتُ:
فَلَمْ يَدْفَعُوا عِنْدَنَا مَا لَهُمْ
لِوَقْعِ الْحُرُوبِ وَلَمْ يَخْجَلُوا
. أَيْ لَمْ يَبْقَوْا دَهِشِينَ مَبْهُوتِينَ (2) .
__________
(1) حديث: " إذا جعتن وقعتن وإذا شبعتن خجلتن ". أورده أبو هلال العسكري في الفروق ص 203 نشر دار الكتب العلمية، كما ذكر ابن الأثير الشطر الثاني منه في النهاية (خجل) ولم نعثر عليه فيما لدينا من مراجع السنن والآثار.
(2) الفروق ص 239.(18/260)
ب - الْبَذَاءَةُ:
3 - الْبَذَاءَةُ لُغَةً: السَّفَاهَةُ وَالْفُحْشُ فِي الْمَنْطِقِ وَإِنْ كَانَ الْكَلاَمُ صِدْقًا، وَفِي الْحَدِيثِ: الْحَيَاءُ مِنَ الإِْيمَانِ، وَالإِْيمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَذَاءَةُ مِنَ الْجَفَاءِ وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ (1) فَجَعَل الْبَذَاءَةَ مُقَابِلَةً لِلْحَيَاءِ. وَقَرِيبٌ مِنَ الْبَذَاءَةِ الْفُحْشُ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ (2) .
ج - الْوَقَاحَةُ:
4 - الْوَقَاحَةُ وَالْقِحَةُ أَنْ يَقِل حَيَاءُ الرَّجُل وَيَجْتَرِئَ عَلَى اقْتِرَافِ الْقَبَائِحِ وَلاَ يَعْبَأَ بِهَا.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَيَاءِ:
5 - الْحَيَاءُ مِنْ خَصَائِصِ الإِْنْسَانِ، وَغَرِيزَةٌ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ يَحْتَاجُ إِلَى اكْتِسَابٍ وَعِلْمٍ وَنِيَّةٍ، فَإِنَّهُ يَرْدَعُ عَنِ ارْتِكَابِ كُل مَا يَشْتَهِيهِ فَلاَ يَكُونُ كَالْبَهِيمَةِ.
وَإِذَا وَرَدَ نَصٌّ فِيهِ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَيَاءِ: فَهُوَ حَيَاءٌ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنًى يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ
__________
(1) حديث: " الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاءة الجفاء، والجفاء في النار " أخرجه الترمذي. (4 / 365 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".
(2) حديث: " ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه " أخرجه الترمذي (4 / 349 - ط الحلبي) من حديث أنس، وقال الترمذي: " هذا حديث حسن غريب ".(18/260)
وَتَعَالَى. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} (1) وَمَا رَوَاهُ سَلْمَانُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُل إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ (2) .
وَالْحَيَاءُ بِمَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ مَطْلُوبٌ، وَقَدْ حَثَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَغَّبَ فِيهِ، لأَِنَّهُ بَاعِثٌ عَلَى أَفْعَال الْخَيْرِ وَمَانِعٌ مِنَ الْمَعَاصِي، وَيَحُول بَيْنَ الْمَرْءِ وَالْقَبَائِحِ، وَيَمْنَعُهُ مِمَّا يُعَابُ بِهِ وَيُذَمُّ، فَإِذَا كَانَ هَذَا أَثَرَهُ فَلاَ شَكَّ أَنَّهُ خُلُقٌ مَحْمُودٌ، لاَ يُنْتِجُ إِلاَّ خَيْرًا، فَالَّذِي يَهُمُّ بِفِعْل فَاحِشَةٍ فَيَمْنَعُهُ حَيَاؤُهُ مِنِ اجْتِرَاحِهَا، أَوْ يَعْتَدِي عَلَيْهِ سَفِيهٌ فَيَمْنَعُهُ حَيَاؤُهُ مِنْ مُقَابَلَةِ السَّيِّئَةِ بِالسَّيِّئَةِ، أَوْ يَسْأَلُهُ سَائِلٌ فَيَمْنَعُهُ حَيَاؤُهُ مِنْ حِرْمَانِهِ، أَوْ يَضُمُّهُ مَجْلِسٌ فَيُمْسِكُ الْحَيَاءُ بِلِسَانِهِ عَنِ الْكَلاَمِ، وَالْخَوْضِ فِيمَا لاَ يَعْنِيهِ، فَالَّذِي يَكُونُ لِلْحَيَاءِ فِي نَفْسِهِ هَذِهِ الآْثَارُ الْحَسَنَةُ، فَهُوَ ذُو خُلُقٍ مَحْمُودٍ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، فَقَال لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِْيمَانِ. (3)
__________
(1) سورة البقرة / 26.
(2) تفسير الرازي 1 / 131 وما بعدها. وحديث: " إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل يديه ". أخرجه الترمذي (5 / 557 - ط الحلبي) وقال: " هذا حديث حسن غريب ".
(3) حديث: " دعه، فإن الحياء من الإيمان ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 74 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 63 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.(18/261)
وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ (1) وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإِْيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا قَوْل: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَْذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِْيمَانِ (2) وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الْحَيَاءُ وَالإِْيمَانُ قُرِنَا جَمِيعًا، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الآْخَرُ (3) وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ لِكُل دِينٍ خُلُقًا وَخُلُقُ الإِْسْلاَمِ الْحَيَاءُ (4) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ (5) ، وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ
__________
(1) حديث: " الحياء لا يأتي إلا بخير ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 521 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 64 - ط الحلبي) من حديث عمران بن حصين.
(2) حديث: " الإيمان بضع وسبعون شعبة ". أخرجه مسلم (1 / 63 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) حديث: " الحياء والإيمان قرنا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر ". أخرجه الحاكم (1 / 22 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمر، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) حديث: " إن لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء " أخرجه ابن ماجه (2 / 1399 - الحلبي) من حديث أنس، وضعفه البوصيري كما في مصباح الزجاجة (4 / 230 - ط دار العربية) .
(5) حديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم: " أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 513 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1809 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري.(18/261)
مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُْولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ. (1)
قَال الْعُلَمَاءُ: الْحَيَاءُ مِنَ الْحَيَاةِ، وَعَلَى حَسَبِ حَيَاةِ الْقَلْبِ يَكُونُ فِيهِ قُوَّةُ خُلُقِ الْحَيَاءِ، وَقِلَّةُ الْحَيَاءِ مِنْ مَوْتِ الْقَلْبِ (2) وَالرُّوحِ، وَأَوْلَى الْحَيَاءِ: الْحَيَاءُ مِنَ اللَّهِ، وَالْحَيَاءُ مِنْهُ أَلاَّ يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَنْ مَعْرِفَةٍ وَمُرَاقَبَةٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإِْحْسَانُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. (3)
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا: اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ. قَال: قُلْنَا: إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَال: لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنْ الاِسْتِحْيَاءُ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآْخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَل ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ (4) قَال الْجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللَّهُ
__________
(1) حديث: " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 523 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن مسعود
(2) مدارج السالكين 2 / 259.
(3) حديث: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 114 - ط السلفية) ومسلم (1 / 39 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(4) حديث: " استحوا من الله حق الحياء ". أخرجه الترمذي (4 / 637 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود وهو حديث حسن طرقه.(18/262)
: " الْحَيَاءُ رُؤْيَةُ الآْلاَءِ، وَرُؤْيَةُ التَّقْصِيرِ فَيَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمَا حَالَةٌ تُسَمَّى: الْحَيَاءَ ".
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَمِنْ كَلاَمِ الْحُكَمَاءِ أَحْيُوا الْحَيَاءَ بِمُجَالَسَةِ مَنْ يُسْتَحْيَى مِنْهُ، وَعِمَارَةُ الْقَلْبِ بِالْهَيْبَةِ وَالْحَيَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَا مِنَ الْقَلْبِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ خَيْرٌ. (1)
6 - وَيَجْرِي فِي الْحَيَاءِ الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ: فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحْيَى مِنْهُ مُحَرَّمًا، فَالْحَيَاءُ مِنْهُ وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ الْحَيَاءُ مِنْهُ مَكْرُوهًا فَهُوَ مَنْدُوبٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحْيَى مِنْهُ وَاجِبًا فَالْحَيَاءُ مِنْهُ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مُبَاحٍ فَهُوَ عُرْفِيٌّ أَوْ جَائِزٌ. (2)
فَالْحَيَاءُ مِنْ تَعَلُّمِ أُمُورِ الدِّينِ وَمَا يَجِبُ عَلَى الإِْنْسَانِ الْعِلْمُ بِهِ لَيْسَ بِحَيَاءٍ شَرْعِيٍّ. فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَْنْصَارِ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ (3) وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، هَل عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلٌ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟
__________
(1) مدارج السالكين 2 / 259 - 260.
(2) عمدة القاري 1 / 152 فتح الباري 1 / 74.
(3) حديث عائشة: " نعم النساء نساء الأنصار. . . ". أخرجه مسلم (1 / 261 - ط الحلبي) .(18/262)
فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ. (1)
وَالْحَيَاءُ مِنْ مُوَاجِهَةِ الظَّلَمَةِ، وَالْفُسَّاقِ وَزَجْرِهِمْ، وَتَرْكِ الْجَهْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ حَيَاءٌ لَيْسَ بِحَيَاءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَجْزٌ وَمَهَانَةٌ، وَتَسْمِيَتُهُ حَيَاءً: مِنْ إِطْلاَقِ بَعْضِ أَهْل الْعُرْفِ: أَطْلَقُوهُ مَجَازًا لِمُشَابِهَتِهِ الصُّورِيَّةِ لِلْحَيَاءِ الشَّرْعِيِّ. (2)
أَخْذُ مَال الْغَيْرِ بِسَبَبِ الْحَيَاءِ:
7 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ: إِذَا أَخَذَ مَال غَيْرِهِ بِالْحَيَاءِ كَأَنْ يَسْأَل غَيْرَهُ مَالاً فِي مَلأٍَ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ بِبَاعِثِ الْحَيَاءِ فَقَطْ، أَوْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ حَيَاءً هَدِيَّةً يَعْلَمُ الْمُهْدَى لَهُ أَنَّ الْمُهْدِي أَهْدَى إِلَيْهِ حَيَاءً لَمْ يَمْلِكْهُ، وَلاَ يَحِل لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُل طَلَبٌ مِنَ الآْخِذِ، فَالْمَدَارُ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ بِأَنَّ صَاحِبَ الْمَال دَفَعَهُ إِلَيْهِ حَيَاءً، وَلاَ مُرُوءَةً، وَلاَ لِرَغْبَةٍ فِي خَيْرٍ، وَمِنْ هَذَا: لَوْ جَلَسَ عِنْدَ قَوْمٍ يَأْكُلُونَ طَعَامًا، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَأْكُل مَعَهُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ حَيَائِهِمْ، لاَ يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ مِنْ طَعَامِهِمْ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الضَّيْفِ أَنْ يُقِيمَ فِي بَيْتِ مُضِيفِهِ مُدَّةً تَزِيدُ عَلَى مُدَّةِ الضِّيَافَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فَيُطْعِمُهُ حَيَاءً.
__________
(1) حديث أم سلمة: " جاءت أم سليم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 388 - ط السلفية) ، ومسلم 1 / 251 - ط الحلبي) .
(2) عمدة القاري 1 / 152.(18/263)
فَلِلْمَأْخُوذِ بِالْحَيَاءِ حُكْمُ الْمَغْصُوبِ، وَعَلَى الآْخِذِ رَدُّهُ، أَوِ التَّعْوِيضُ عَنْهُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّعْوِيضُ بِقِيمَةِ مَا أَخَذَ أَوْ أَكَل مِنْ زَادِهِمْ، وَقَال ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هَذَا كَلاَمٌ حَسَنٌ لأَِنَّ الْمَقَاصِدَ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرَةٌ (1) .
وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ.
__________
(1) نهاية المحتاج 5 / 146، حاشية الجمل 3 / 469، مطالب أولي النهى 4 / 380 - 381.(18/263)
حَيَاةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَيَاةُ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ الْمَوْتِ، وَالْحَيُّ مِنْ كُل شَيْءٍ نَقِيصُ الْمَيِّتِ. وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قُوَّةٍ مِزَاجِيَّةٍ تَقْتَضِي الْحِسَّ وَالْحَرَكَةَ، وَفِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ صِفَةٌ تَلِيقُ بِهِ جَل شَأْنُهُ. (1) وَعَرَّفَ الْجُرْجَانِيُّ الْحَيَاةَ: بِأَنَّهَا صِفَةٌ تُوجِبُ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا أَنْ يَعْلَمَ وَيَقْدِرَ. (2) وَعَلَى هَذَا لاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْحَيَاةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرُّوحُ:
2 - قَال الْفَرَّاءُ: الرُّوحُ، هُوَ الَّذِي يَعِيشُ بِهِ الإِْنْسَانُ، لَمْ يُخْبِرِ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ. قَال تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُل الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (3) .
__________
(1) القاموس المحيط 4 / 323 ولسان العرب 1 / 773.
(2) التعريفات ص 126.
(3) سورة الإسراء / 85.(18/264)
ب - النَّفْسُ:
3 - قَال أَبُو بَكْرِ بْنُ الأَْنْبَارِيِّ: مِنَ اللُّغَوِيِّينَ مَنْ سَوَّى بَيْنَ النَّفْسِ وَالرُّوحِ، وَقَال: هُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَقَال غَيْرُهُمْ: الرُّوحُ هُوَ الَّذِي بِهِ الْحَيَاةُ وَالنَّفْسُ هِيَ الَّتِي بِهَا الْعَقْل (1) .
ج - الاِسْتِهْلاَل:
4 - الاِسْتِهْلاَل مَصْدَرُ اسْتَهَل، يُقَال: اسْتَهَل الصَّبِيُّ بِالْبُكَاءِ أَيْ رَفَعَ صَوْتَهُ وَصَاحَ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ، وَكُل شَيْءٍ ارْتَفَعَ صَوْتُهُ فَقَدِ اسْتَهَل. (2) وَفِي الْحَدِيثِ: إِذَا اسْتَهَل الْمَوْلُودُ وَرِثَ. (3) وَالاِسْتِهْلاَل أَمَارَةٌ مِنْ أَمَارَاتِ الْحَيَاةِ.
د - الْمَوْتُ:
5 - الْمَوْتُ: صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ خُلِقَتْ ضِدًّا لِلْحَيَاةِ. وَقِيل: صِفَةٌ عَدَمِيَّةٌ. (4)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ التَّضَادُّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَيَاةِ:
أَوَّلاً: بَدْءُ الْحَيَاةِ:
6 - بَدْءُ الْحَيَاةِ الآْدَمِيَّةِ الأُْولَى كَانَ نَفْخَةً مِنْ
__________
(1) لسان العرب في المادة.
(2) لسان العرب في مادة: " هلل ".
(3) حديث: " إذا استهل المولود ورث " أخرجه أبو داود (3 / 335 - تحقيق عزت دعاس) من حديث أبي هريرة، والحاكم (4 / 349 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث جابر بن عبد الله وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) لسان العرب في المادة، والتعريفات ص 304، والخرشي 2 / 113.(18/264)
رُوحِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الصُّورَةِ الَّتِي سَوَّاهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَل مِنْ طِينٍ لآِدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا قَال سُبْحَانَهُ: {إِذْ قَال رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (1)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ بَدْءَ الْحَيَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي ذُرِّيَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَكُونُ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِي الْجَنِينِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: " حَدَّثَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَال: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْل ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْل ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَل الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ. (2)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَوْعِدِ نَفْخِ الرُّوحِ: هَل هُوَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، أَوْ بَعْدَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، أَوْ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي " جَنِينٍ " " وَرُوحٍ ".
وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَنِينِ قَبْل نَفْخِ الرُّوحِ: هَل
__________
(1) سورة ص / 71 - 74.
(2) حديث: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 303 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2036 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.(18/265)
يُعْتَبَرُ حَيًّا، أَوْ أَصْلاً لِلْحَيِّ، أَوْ لاَ يُعْتَبَرُ كَذَلِكَ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ حَيَاةَ الْجَنِينِ تَبْدَأُ وَيُعْتَدُّ بِهَا مُنْذُ نَفْخِ الرُّوحِ، أَمَّا قَبْلَهَا فَلاَ تَكُونُ حَيَاتُهُ حَقِيقِيَّةً بَل حَيَاةٌ اِعْتِبَارِيَّةٌ يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي بَعْضِ الأَْحْكَامِ وَالتَّصَرُّفَاتِ، كَتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِالإِْرْثِ، وَصِحَّةِ الإِْيصَاءِ لَهُ بِشَرْطِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (1) لأَِنَّ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} أَيْ بِنَفْخِ الرُّوحِ حَيْثُ يَبْدَأُ فِي الْجَنِينِ الإِْحْسَاسُ وَالتَّأَثُّرُ، قَال الْقُرْطُبِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْخَلْقِ الآْخَرِ، فَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَمَادًا. (2)
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ السَّابِقِ الَّذِي يَدُل عَلَى أَنَّ تَعَلُّقَ الرُّوحِ بِالْجَنِينِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الأَْرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ، وَأَنَّ الْجَنِينَ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْل ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْل ذَلِكَ، ثُمَّ تُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ وَبِهَا يَكُونُ حَيًّا، وَأَفَاضَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي
__________
(1) سورة المؤمنون / 12.
(2) تفسير القرطبي 12 / 109.(18/265)
الاِسْتِدْلاَل بِهَذَا الْحَدِيثِ ثُمَّ قَال: إِنَّ الْجَنِينَ قَبْل نَفْخِ الرُّوحِ كَانَ فِيهِ حَرَكَةُ نُمُوٍّ وَاغْتِذَاءٍ كَالنَّبَاتِ، وَلَمْ تَكُنْ حَرَكَةُ نُمُوِّهِ وَاغْتِذَائِهِ بِالإِْرَادَةِ، فَلَمَّا نُفِخَتْ فِيهِ الرُّوحُ انْضَمَّتْ حَرَكَةُ حِسِّيَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ إِلَى حَرَكَةِ نُمُوِّهِ وَاغْتِذَائِهِ. (1)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ حَيَاةَ الْجَنِينِ تَبْدَأُ مِنْ حِينِ تَلْقِيحِ مَاءِ الْمَرْأَةِ بِمَاءِ الرَّجُل وَاسْتِقْرَارِ مَا حَصَل مِنْ ذَلِكَ فِي الرَّحِمِ، وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَعْتَبِرُونَ حَيَاةَ الْجَنِينِ فِي تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ حَيَاةً كَامِلَةً لإِِنْسَانٍ حَيٍّ بِالْفِعْل، وَإِنَّمَا الإِْنْسَانُ كَائِنٌ بِالْقُوَّةِ، حَيَاتُهُ حَيَاةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ، قَال الْغَزَالِيُّ: أَوَّل مَرَاتِبِ الْوُجُودِ أَنْ تَقَعَ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ وَيَخْتَلِطَ بِمَاءِ الْمَرْأَةِ وَتَسْتَعِدَّ لِقَبُول الْحَيَاةِ، وَإِفْسَادُ ذَلِكَ جِنَايَةٌ، فَإِنْ صَارَتْ مُضْغَةً وَعَلَقَةً كَانَتِ الْجِنَايَةُ أَفْحَشَ، وَإِنْ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ وَاسْتَوَتِ الْخِلْقَةُ ازْدَادَتِ الْجِنَايَةُ تَفَاحُشًا، وَمُنْتَهَى التَّفَاحُشِ فِي الْجِنَايَةِ بَعْدَ الاِنْفِصَال حَيًّا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: مَبْدَأُ سَبَبِ الْوُجُودِ مِنْ حَيْثُ وُقُوعُ الْمَنِيِّ فِي الرَّحِمِ لاَ مِنْ حَيْثُ الْخُرُوجُ مِنَ الإِْحْلِيل لأَِنَّ الْوَلَدَ لاَ يُخْلَقُ مِنْ مَنِيِّ الرَّجُل وَحْدَهُ بَل مِنَ الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا. (2)
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ الإِْنْسَانِيَّةَ الْكَامِلَةَ الْمُعْتَبَرَةَ اعْتِبَارًا كَامِلاً فِي الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ تَبْدَأُ بِوِلاَدَةِ الشَّخْصِ حَيًّا.
__________
(1) التبيان في أقسام القرآن ص 250 - 255.
(2) إحياء علوم الدين 2 / 51.(18/266)
ثَانِيًا: انْتِهَاءُ الْحَيَاةِ:
7 - تَنْتَهِي حَيَاةُ الإِْنْسَانِ بِنَزْعِ الرُّوحِ، أَيْ بِالْمَوْتِ.
وَأَمَارَاتُ الْمَوْتِ مَعْرُوفَةٌ، وَرَدَ بَعْضُهَا فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: دَخَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَال: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ. (1)
قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَشُخُوصُ الْبَصَرِ هُوَ الْحَالَةُ الَّتِي يُشَاهِدُ فِيهَا الْمَيِّتُ مَلَكَ الْمَوْتِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ هِيَ الَّتِي لاَ تُقْبَل مِنْهَا التَّوْبَةُ، (2) قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدُهُمُ الْمَوْتُ قَال إِنِّي تُبْتُ الآْنَ} (3)
وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَمَارَاتِ انْتِهَاءِ الْحَيَاةِ: شُخُوصَ الْبَصَرِ، وَانْقِطَاعَ النَّفَسِ، وَانْفِرَاجَ الشَّفَتَيْنِ، وَسُقُوطَ الْقَدَمَيْنِ، وَانْفِصَال الزَّنْدَيْنِ، وَمَيْل الأَْنْفِ، وَامْتِدَادَ جِلْدَةِ الْوَجْهِ، وَانْخِسَافَ الصُّدْغَيْنِ، وَتَقَلُّصَ الْخُصْيَتَيْنِ مَعَ تَدَلِّي جِلْدَتِهِمَا. (4)
__________
(1) حديث: " إن الروح إذا قبض تبعه البصر " أخرجه مسلم (2 / 634 - ط الحلبي) .
(2) المنثور 2 / 107.
(3) سورة النساء / 18.
(4) رد المحتار 2 / 570، الخرشي 2 / 122. المجموع 5 / 125 - 126، المنثور 2 / 107، والمغني 2 / 452.(18/266)
ثَالِثًا: الْحِفَاظُ عَلَى الْحَيَاةِ:
8 - يَكُونُ الْحِفَاظُ عَلَى الْحَيَاةِ بِفِعْل مَا يُمْسِكُهَا وَالْكَفِّ عَمَّا يُهْلِكُهَا أَوْ يَضُرُّهَا، وَالْمُكَلَّفُ مَأْمُورٌ بِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ وَعَدَمِ إِلْقَائِهَا إِلَى التَّهْلُكَةِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، (1) وَقَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ آكَدُ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي تَجِبُ مُرَاعَاتُهَا بَعْدَ حِفْظِ الدِّينِ. (2) وَقَال الشَّاطِبِيُّ: تَكَالِيفُ الشَّرِيعَةِ تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ مَقَاصِدِهَا فِي الْخَلْقِ، وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: ضَرُورِيَّةٌ، وَحَاجِيَّةٌ وَتَحْسِينِيَّةٌ، وَالضَّرُورِيَّةُ: هِيَ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا فِي قِيَامِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَالْحِفْظُ لَهَا يَكُونُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا يُقِيمُ أَرْكَانَهَا وَيُثَبِّتُ قَوَاعِدَهَا وَذَلِكَ مُرَاعَاتُهَا مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ، وَالثَّانِي مَا يَدْرَأُ عَنْهَا الاِخْتِلاَل الْوَاقِعَ أَوِ الْمُتَوَقَّعَ فِيهَا وَذَلِكَ مُرَاعَاتُهَا مِنْ جَانِبِ الْعَدَمِ، وَحِفْظُ النَّفْسِ وَالْعَقْل مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ كَتَنَاوُل الْمَأْكُولاَتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَالْمَلْبُوسَاتِ وَالْمَسْكُونَاتِ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ بَقَاءُ الْحَيَاةِ، وَمَجْمُوعُ الضَّرُورِيَّاتِ خَمْسَةٌ: حِفْظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ وَالْعَقْل، وَالنَّسْل، وَالْمَال. (3)
وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِعْل مَا يُمْسِكُ حَيَاتَهُ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَلِبَاسٍ وَسَكَنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِمَّا وَرَدَ
__________
(1) سورة البقرة / 195.
(2) الخرشي 8 / 2.
(3) الموفقات 2 / 8 - 10.(18/267)
فِي ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا} (1)
قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ: قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحَل اللَّهُ فِي هَذِهِ الآْيَةِ الأَْكْل وَالشُّرْبَ مَا لَمْ يَكُنْ سَرَفًا أَوْ مَخْيَلَةً، فَأَمَّا مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ هُوَ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ وَسَكَّنَ الظَّمَأَ فَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ عَقْلاً وَشَرْعًا، لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ النَّفْسِ وَحِرَاسَةِ الْحَوَاسِّ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْوِصَال، لأَِنَّهُ يُضْعِفُ الْجَسَدَ وَيُمِيتُ النَّفْسَ وَيُضْعِفُ عَنِ الْعِبَادَةِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ وَيَدْفَعُهُ الْعَقْل. (2)
وَالْمُضْطَرُّ فِي الْمَخْمَصَةِ الَّذِي لاَ يَجِدُ إِلاَّ مُحَرَّمًا كَالْمَيْتَةِ، أَوْ مَال الْغَيْرِ، وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الْهَلاَكُ إِنْ لَمْ يَأْكُل مِنْ هَذَا الْمُحَرَّمِ، يَلْزَمُهُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ الْهَلاَكَ لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (3) وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (4) عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (مَخْمَصَةٌ) (وَمُضْطَرٌّ) (وَمَيْتَةٌ) .
وَالْمُكَلَّفُ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِالْكَفِّ عَمَّا يُتْلِفُ الْحَيَاةَ أَوْ يَضُرُّهَا، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا
__________
(1) سورة الأعراف / 31.
(2) تفسير القرطبي 7 / 191.
(3) سورة البقرة / 173.
(4) سورة البقرة / 195.(18/267)
أَنْفُسَكُمْ} (1) وَقَدِ احْتَجَّ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الآْيَةِ، حِين امْتَنَعَ عَنْ الاِغْتِسَال بِالْمَاءِ الْبَارِدِ، حِينَ أَجْنَبَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلاَسِل خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْهَلاَكِ، فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ. (2)
رَابِعًا: الْجِنَايَةُ عَلَى الْحَيَاةِ:
وَهِيَ قِسْمَانِ: جِنَايَةُ الشَّخْصِ عَلَى حَيَاتِهِ، وَجِنَايَةٌ عَلَى حَيَاةِ غَيْرِهِ.
أ - جِنَايَةُ الشَّخْصِ عَلَى حَيَاتِهِ:
9 - حَرَّمَ الشَّرْعُ تَحْرِيمًا قَاطِعًا أَنْ يَجْنِيَ الشَّخْصُ عَلَى حَيَاتِهِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (3)
وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ سِكِّينًا فَجَزَّ بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ عَنْهُ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. (4)
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَتَل نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي
__________
(1) سورة النساء / 29.
(2) حديث احتجاج عمرو بن العاص بآية (ولا تقتلوا أنفسكم) أخرجه أبو داود (1 / 238 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقواه ابن حجر في الفتح (1 / 454 - السلفية) وانظر تفسير القرطبي 5 / 157.
(3) سورة النساء / 29.
(4) حديث: " كان فيمن قبلكم رجل به جرح. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 496 - ط السلفية) من حديث جندب.(18/268)
يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَل نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَل نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا. (1)
وَحَرَّمَ الشَّرْعُ أَنْ يَقْتُل الإِْنْسَانُ نَفْسَهُ وَيَجْنِيَ عَلَى حَيَاتِهِ، لأَِنَّ نَفْسَهُ الَّتِي يُزْهِقُهَا لَيْسَتْ مِلْكًا لَهُ، فَالأَْنْفُسُ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى. (2)
ب - جِنَايَةُ الشَّخْصِ عَلَى حَيَاةِ غَيْرِهِ:
10 - الْحَيَاةُ الَّتِي يُجْنَى عَلَيْهَا، إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَيَاةً حَقِيقِيَّةً مُسْتَقِرَّةً، أَوْ مُسْتَمِرَّةً لِشَخْصٍ حَيٍّ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ حَيَاةً اعْتِبَارِيَّةً وَهِيَ حَيَاةُ الْجَنِينِ.
الْجِنَايَةُ عَلَى حَيَاةِ شَخْصٍ حَيٍّ:
11 - الْجِنَايَةُ عَلَى حَيَاةِ شَخْصٍ حَيٍّ تَكُونُ بِالْقَتْل أَيْ بِفِعْل مَا يَكُونُ سَبَبًا لِزَهُوقِ النَّفْسِ وَهُوَ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ لِلْجَسَدِ، قَال أَبُو الْبَقَاءِ: إِذَا اعْتُبِرَ بِفِعْل الْمُتَوَلِّي لِذَلِكَ يُقَال: قَتْلٌ، وَإِذَا اعْتُبِرَ بِفَوْتِ الْحَيَاةِ يُقَال: مَوْتٌ. (3)
وَالْقَتْل عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: عَمْدٌ، وَشِبْهُ عَمْدٍ، وَخَطَأٌ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ، وَعِنْدَ آخَرِينَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ، بِإِضَافَةِ
__________
(1) حديث: " من قتل نفسه بحديدة. . . " أخرجه مسلم (1 / 103 - 104 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) شرح السنة 10 / 153 - 155.
(3) الكليات 4 / 50.(18/268)
مَا جَرَى مَجْرَى الْخَطَأِ، وَالْقَتْل بِسَبَبٍ، (1) وَفِي بَيَانِ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الأَْقْسَامِ وَمُوجَبِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي " دِيَةٌ " " وَقَتْلٌ " " وَقَوَدٌ " " وَجِنَايَةٌ ".
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَتْل بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالأَْصْل فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ، أَمَّا الْكِتَابُ فَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} (2) وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً} (3) وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} . (4)
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا قَوْل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي
__________
(1) رد المحتار 5 / 339 - 342، الخرشي 8 / 7 - 8، والمحلي على المناهج 4 / 96، والمغني 7 / 636، كشاف القناع 5 / 505.
(2) سورة الإسراء / 33.
(3) سورة النساء / 92، قال القرطبي: قوله تعإلى: (وما كان. . .) ليس على النفي وإنما على التحريم والنهي كقوله تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله. . .) ولو كانت على النفي لما وجد مؤمن يقتل مؤمن قط لأن ما نفاه الله لا يجوز وجوده أبدا، كقوله سبحانه:
(4) سورة النساء / 93.(18/269)
رَسُول اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ (1) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَتْل الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ زَوَال الدُّنْيَا. (2)
وَالْحَيَاةُ عِنْدَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسْتَمِرَّةً، أَوْ مُسْتَقِرَّةً، أَوْ حَيَاةَ عَيْشِ الْمَذْبُوحِ. وَالْحَيَاةُ الْمُسْتَمِرَّةُ: هِيَ الَّتِي تَبْقَى إِلَى انْقِضَاءِ الأَْجَل بِمَوْتٍ أَوْ قَتْلٍ.
وَالْحَيَاةُ الْمُسْتَقِرَّةُ: تَكُونُ بِوُجُودِ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ وَمَعَهَا الْحَرَكَةُ الاِخْتِيَارِيَّةُ وَالإِْدْرَاكُ دُونَ الْحَرَكَةِ الاِضْطِرَارِيَّةِ. كَمَ لَوْ طُعِنَ إِنْسَانٌ وَقُطِعَ بِمَوْتِهِ بَعْدَ سَاعَةٍ أَوْ يَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ وَحَرَكَتُهُ الاِخْتِيَارِيَّةُ مَوْجُودَةٌ.
وَحَيَاةُ عَيْشِ الْمَذْبُوحِ: هِيَ الَّتِي لاَ يَبْقَى مَعَهَا إِبْصَارٌ وَلاَ نُطْقٌ وَلاَ حَرَكَةُ اخْتِيَارٍ. (3) وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْحَيَاةِ بِاخْتِلاَفِ هَذِهِ الأَْحْوَال.
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (قَوَدٌ) (وَجِنَايَةٌ) (وَقِصَاصٌ) .
__________
(1) حديث: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 201 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1302 - 1304 ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود.
(2) حديث: " قتل المؤمن عند الله أعظم من زوال الدنيا. . . " أخرجه النسائي (7 / 82 - ط المكتبة التجارية) من حديث عبد الله بن عمرو.
(3) المنثور 2 / 105، حاشية الجمل 5 / 238، مغني المحتاج 4 / 12 - 13.(18/269)
الْجِنَايَةُ عَلَى حَيَاةِ الْجَنِينِ:
12 - إِذَا ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ حَامِلٍ فَأَلْقَتْ - بِسَبَبِ ذَلِكَ - جَنِينَهَا وَهِيَ حَيَّةٌ، فَإِمَّا أَنْ تُلْقِيَهُ مَيِّتًا أَوْ حَيًّا:
أ - إِنْ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَفِيهِ غُرَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا. (1)
وَالْغُرَّةُ: الْعَبْدُ أَوِ الأُْمَّةُ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لأَِنَّهُمَا مِنْ أَنْفَسِ الأَْمْوَال، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْجَنِينُ الْمُلْقَى مَيِّتًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى لإِِطْلاَقِ الْخَبَرِ، وَلِئَلاَّ يَكْثُرَ التَّنَازُعُ فِي الذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ لِعَدَمِ الاِنْضِبَاطِ.
وَتَتَعَدَّدُ الْغُرَّةُ بِتَعَدُّدِ الْجَنِينِ الْمُلْقَى. وَتَجِبُ مَعَ الْغُرَّةِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ الْجَنِينَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ آدَمِيٌّ مَعْصُومٌ، وَلأَِنَّ الْكَفَّارَةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى. خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْكَفَّارَةَ مَنْدُوبَةٌ لاَ وَاجِبَةٌ.
13 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجَنِينِ الْمُلْقَى الَّذِي يَجِبُ فِيهِ مَا سَبَقَ:
__________
(1) حديث أبي هريرة: " اقتتلت امرأتان من هذيل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 252 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1310 - ط الحلبي) .(18/270)
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَا اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ كَظُفْرٍ وَشَعْرٍ فَهُوَ كَمَنْ كَانَ تَامَّ الْخَلْقِ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الأَْحْكَامِ، وَأَضَافَ ابْنُ عَابِدِينَ: أَنَّهُ لاَ يَسْتَبِينُ خَلْقُهُ إِلاَّ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَظَاهِرُ مَا قَدَّمَهُ عَنِ الذَّخِيرَةِ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ وُجُودِ الرَّأْسِ، وَفِي الشُّمُنِّيِّ: لَوْ أَلْقَتْ مُضْغَةً وَلَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فَشَهِدَ ثِقَاتٌ مِنَ الْقَوَابِل أَنَّهُ مَبْدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ وَلَوْ بَقِيَ لَتَصَوَّرَ فَلاَ غُرَّةَ فِيهِ، وَتَجِبُ فِيهِ عِنْدَنَا حُكُومَةٌ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فِي الْجَنِينِ مَا سَبَقَ مِنَ الأَْحْكَامِ وَإِنْ كَانَ عَلَقَةً أَيْ دَمًا مُجْتَمِعًا إِذَا صُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ حَارٌّ لاَ يَذُوبُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أَلْقَتِ الْمَرْأَةُ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا لَحْمًا، قَال الْقَوَابِل: - أَيْ أَرْبَعٌ مِنْهُنَّ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، أَوْ رَجُلاَنِ - فِيهِ صُورَةٌ خَفِيَّةٌ - أَيْ تَخْفَى عَلَى غَيْرِ الْقَوَابِل - كَنَحْوِ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ لاَ يَعْرِفُهَا غَيْرُهُنَّ فَفِيهِ الْغُرَّةُ وَالْكَفَّارَةُ. وَلَوْ قُلْنَ: لَيْسَ فِيهِ صُورَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلاَ خَفِيَّةٌ وَلَكِنَّهُ أَصْل آدَمِيٍّ لَوْ بَقِيَ لَتَصَوَّرَ فَلاَ غُرَّةَ فِيهِ وَلاَ كَفَّارَةَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَلْقَتْ مُضْغَةً فَشَهِدَ ثِقَاتٌ مِنَ الْقَوَابِل أَنَّ فِيهِ صُورَةً خَفِيَّةً فَفِيهِ غُرَّةٌ، وَإِنْ شَهِدْنَ أَنَّهُ مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ لَوْ بَقِيَ تَصَوَّرَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لاَ شَيْءَ فِيهِ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَصَوَّرْ فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ كَالْعَلَقَةِ، وَلأَِنَّ الأَْصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلاَ تُشْغَل بِالشَّكِّ، وَالثَّانِي: فِيهِ غُرَّةٌ لأَِنَّهُ مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ أَشْبَهَ مَا لَوْ تَصَوَّرَ.(18/270)
ب - إِنْ أَلْقَتِ الْمَرْأَةُ الْحَامِل - بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا - جَنِينَهَا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ بِسَبَبِ ذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ انْفِصَالِهِ حَيًّا فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً لِتَيَقُّنِ حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ بِالْجِنَايَةِ، وَفِيهِ مَعَ الدِّيَةِ الْكَفَّارَةُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَنِينَ إِنِ اسْتَهَل صَارِخًا بَعْدَ انْفِصَالِهِ ثَبَتَتْ حَيَاتُهُ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْمَنُوطَةُ بِهَا، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا تَثْبُتُ بِهِ الْحَيَاةُ مِنَ الأُْمُورِ الأُْخْرَى كَالْعُطَاسِ وَالاِرْتِضَاعِ وَالتَّنَفُّسِ وَالْحَرَكَةِ. (1) وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (اسْتِهْلاَلٌ) .
وَإِنْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ حَامِلٍ فَلَمْ تُلْقِ جَنِينَهَا وَمَاتَتْ وَهُوَ فِي بَطْنِهَا فَلاَ شَيْءَ فِيهِ بِخُصُوصِهِ. (2)
وَفِي جِنَايَةِ الْمَرْأَةِ الْحَامِل عَلَى حَيَاةِ جَنِينِهَا تَفْصِيلٌ فِي (إِجْهَاضٌ) .
خَامِسًا: الْحَيَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الإِْرْثِ:
14 - مِنْ شُرُوطِ الإِْرْثِ تَحَقُّقُ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ أَوْ إِلْحَاقُهُ بِالْمَوْتَى حُكْمًا، وَتَحَقُّقُ حَيَاةِ الْوَارِثِ بَعْدَهُ أَوْ إِلْحَاقُهُ بِالأَْحْيَاءِ.
__________
(1) اللجنة تري أن الحكم ببقاء الحياة أو انتهائها يرجع فيه إلى أهل الخبره.
(2) تفسير القرطبي 5 / 321، رد المحتار 5 / 377 - 378، جواهر الإكليل2 / 266 - 272، مواهب الجليل 2 / 250، نهاية المحتاج 7 / 360 - 366، حاشية الجمل 5 / 99 - 100، المغني 7 / 799 - 815.(18/271)
وَالْحُكْمُ بِاسْتِحْقَاقِ الإِْرْثِ وَاضِحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ التَّحَقُّقِ مِنْ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ وَمِنْ حَيَاةِ الْوَارِثِ بَعْدَهُ، بِأَنْ كَانَا حَيَّيْنِ ثُمَّ مَاتَ الْمُوَرِّثُ مَوْتًا حَقِيقِيًّا وَتَحَقَّقَتْ حَيَاةُ الْوَارِثِ بَعْدَهُ، لَكِنْ هُنَاكَ صُوَرًا أُخْرَى لاَ يَكُونُ فِيهَا الْحُكْمُ وَاضِحًا أَوْ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، مِنْهَا: الْحَمْل الَّذِي لَهُ حَقٌّ فِي الإِْرْثِ، وَالَّذِينَ يَمُوتُونَ مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَلاَ يُعْلَمُ السَّابِقُ مِنْهُمْ.
أَمَّا الْحَمْل فَإِنَّ حَيَاتَهُ تَلْحَقُ - تَقْدِيرًا - بِالْحَيِّ عِنْدَ وَفَاةِ مُوَرِّثِهِ، وَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِلْحُكْمِ بِتَوْرِيثِ الْحَمْل شَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا حَال مَوْتِ الْمُوَرِّثِ.
الثَّانِي: أَنْ يَنْفَصِل كُلُّهُ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً. عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (إِرْثٌ) : ف (109) ، 115.
وَأَمَّا الَّذِينَ يَمُوتُونَ مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَلاَ يُعْلَمُ سَابِقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ فِي الأَْصْل يَتَوَارَثُونَ. فَقَدِ اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَتَوَارَثُونَ، وَتَرِكَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ لِبَاقِي الْوَرَثَةِ الأَْحْيَاءِ، لِمَا رَوَى الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تُوُفِّيَتْ هِيَ وَابْنُهَا زَيْدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يُدْرَ أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْل فَلَمْ تَرِثْهُ وَلَمْ يَرِثْهَا، وَلأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ الإِْرْثِ تَحَقُّقَ حَيَاةِ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ وَهُوَ هُنَا(18/271)
مُنْتَفٍ، وَلاَ تَوَارُثَ بِالشَّكِّ، وَلأَِنَّا إِنْ وَرَّثْنَا أَحَدَهُمْ فَقَطْ فَهُوَ تَحَكُّمٌ، وَإِنْ وَرَّثْنَا كُلًّا مِنَ الآْخَرِ تَيَقَّنَّا الْخَطَأَ. وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: يَرِثُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ مِنْ تِلاَدِ مَا لَهُ، أَيْ قَدِيمِهِ دُونَ طَارِفِهِ وَهُوَ مَا وَرِثَهُ مِمَّنْ مَاتَ مَعَهُ.
وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ أَحَدَهُمْ مَاتَ قَبْل صَاحِبِهِ بِعَيْنِهِ ثُمَّ أَشْكَل، أُعْطِيَ كُل وَارِثٍ الْيَقِينَ، وَوَقَفَ الْبَاقِي الْمَشْكُوكُ فِيهِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ الأَْمْرُ، أَوْ يَصْطَلِحُوا، لأَِنَّ الْحَقَّ لاَ يَعْدُوهُمْ، وَالْمَرْءُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي خَالِصِ حَقِّهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُوقَفُ الْمِيرَاثُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الأَْمْرُ أَوْ يَصْطَلِحُوا، لأَِنَّ التَّذَكُّرَ غَيْرُ مَيْئُوسٍ مِنْهُ. (1)
سَادِسًا: الْحَيَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الذَّكَاةَ الشَّرْعِيَّةَ بِأَنْوَاعِهَا (مِنْ ذَبْحٍ أَوْ نَحْرٍ أَوْ عَقْرٍ أَوْ صَيْدٍ) لاَ بُدَّ مِنْهَا لإِِبَاحَةِ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ أَوِ الطَّيْرِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ أَنْ تَكُونَ بِالْحَيَوَانِ أَوِ الطَّيْرِ عِنْدَ الذَّبْحِ أَوِ الصَّيْدِ حَيَاةٌ، وَإِلاَّ كَانَ مَيْتَةً وَلَمْ تَعْمَل الذَّكَاةُ عَمَلَهَا مِنْ حَيْثُ الإِْبَاحَةُ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْحَيَاةِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا عِنْدَ الذَّبْحِ أَوِ الصَّيْدِ. وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ
__________
(1) رد المحتار 5 / 509، الزرقاني 8 / 229، أسنى المطالب 3 / 17 - 19، قليوبي 3 / 149، والمغني 6 / 308 - 312 - 316، العذب الفائض 1 / 18، 2 / 91 - 92.(18/272)
إِذَا كَانَتْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَيَحِل بِالذَّكَاةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَبْقَ فِيهِ إِلاَّ مِثْل عَيْشِ الْمَذْبُوحِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الذَّكَاةَ تُحِلُّهُ أَوْ لاَ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (ذَبَائِحُ) .
كَمَا اخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا ذُبِحَتْ شَاةٌ مَثَلاً وَكَانَ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ، هَل تُعْتَبَرُ ذَكَاتُهَا ذَكَاةً لَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ حَيَاتَهُ تَابِعَةٌ لِحَيَاتِهَا أَوْ مُسْتَقِلَّةٌ عَنْهَا، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (ذَبَائِحُ) .
سَابِعًا: الْحَيَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي غُسْل السِّقْطِ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ.
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السِّقْطَ إِذَا اسْتَهَل ثَبَتَتْ لَهُ أَحْكَامُ الْحَيِّ وَحُقُوقُهُ، وَمِنْهَا وُجُوبُ غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ، لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا اسْتَهَل الصَّبِيُّ وَرِثَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ. (1) وَلأَِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الدُّنْيَا فِي الإِْسْلاَمِ وَالْمِيرَاثِ وَالدِّيَةِ فَغُسِّل وَصُلِّيَ عَلَيْهِ كَغَيْرِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي السِّقْطِ إِنْ لَمْ يَسْتَهِل:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: السِّقْطُ إِنْ لَمْ يَسْتَهِل غُسِّل وَسُمِّيَ - فِي الأَْصَحِّ الْمُفْتَى بِهِ عَلَى خِلاَفِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ - إِكْرَامًا لِبَنِي آدَمَ، وَأُدْرِجَ فِي خِرْقَةٍ وَدُفِنَ
__________
(1) حديث: " اذا استهل الصبي ورث وصلي عليه. . . " أخرجه الترمذي (3 / 341 - ط الحلبي) والحاكم (4 / 319 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(18/272)
وَلَمْ يُصَل عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَ تَامَّ الْخَلْقِ أَمْ لاَ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ غُسْل سِقْطٍ لَمْ يَسْتَهِل صَارِخًا، وَلَوْ تَحَرَّكَ أَوْ عَطَسَ أَوْ بَال أَوْ رَضَعَ، إِلاَّ أَنْ تَتَحَقَّقَ الْحَيَاةُ بِعَلاَمَةٍ مِنْ عَلاَمَاتِهَا فَيَجِبُ غُسْلُهُ، وَيُغَسَّل دَمُ السِّقْطِ الَّذِي لَمْ يَسْتَهِل وَيُلَفُّ بِخِرْقَةٍ وَيُوَارَى. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَسْتَهِل السِّقْطُ وَلَمْ يَتَحَرَّكْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ كُفِّنَ بِخِرْقَةٍ وَدُفِنَ، وَإِنْ تَمَّ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: قَال فِي الْقَدِيمِ: يُصَلَّى عَلَيْهِ لأَِنَّهُ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ فَصَارَ كَمَنِ اسْتَهَل، وَقَال فِي الأُْمِّ: لاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الدُّنْيَا فِي الإِْرْثِ وَغَيْرِهِ فَلَمْ يُصَل عَلَيْهِ، فَإِنْ قُلْنَا يُصَلَّى عَلَيْهِ غُسِّل كَغَيْرِ السِّقْطِ، وَإِنْ قُلْنَا لاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ فَفِي غُسْلِهِ قَوْلاَنِ: قَال الْبُوَيْطِيُّ: فِي مُخْتَصَرِهِ لاَ يُغَسَّل، لأَِنَّهُ لاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ فَلاَ يُغَسَّل كَالشَّهِيدِ، وَقَال فِي الأُْمِّ: يُغَسَّل لأَِنَّ الْغُسْل قَدْ يَنْفَرِدُ عَنِ الصَّلاَةِ كَمَا نَقُول فِي الْكَافِرِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: السِّقْطُ إِنْ خَرَجَ مَيِّتًا فَقَال أَحْمَدُ: إِذَا أَتَى لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ غُسِّل وَصُلِّيَ عَلَيْهِ لِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: وَالسِّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ (3) وَلأَِنَّهُ نَسَمَةٌ نُفِخَ فِيهَا الرُّوحُ
__________
(1) رد المحتار 1 / 595.
(2) الدسوقي 1 / 427.
(3) المهذب 1 / 134. وحديث: " والسقط يصلى عليه. . . " أخرجه أبو داود (3 / 523 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (1 / 363 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(18/273)
فَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهِل. فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَبْلُغْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَلاَ يُغَسَّل وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ وَيُدْفَنُ لِعَدَمِ وُجُودِ الْحَيَاةِ. (1)
ثَامِنًا: الْحَيَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي قَبُول التَّوْبَةِ:
17 - يَقْبَل اللَّهُ تَعَالَى تَوْبَةَ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ الْمُكَلَّفِ - كَرَمًا مِنْهُ تَعَالَى وَفَضْلاً - مَا لَمْ يُغَرْغِرْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل يَقْبَل تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ (2) أَيْ مَا لَمْ تَصِل رُوحُهُ حُلْقُومَهُ، مِنَ الْغَرْغَرَةِ وَهِيَ جَعْل الشَّرَابِ فِي الْفَمِ وَإِدَارَتُهُ إِلَى أَصْل الْحُلْقُومِ فَلاَ يُبْلَعُ، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَال إِنِّي تُبْتُ الآْنَ} (3) الآْيَةَ، وَفَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ حُضُورَهُ بِمُعَايَنَةِ مَلَكِ الْمَوْتِ، وَقَال غَيْرُهُ: الْمُرَادُ تَيَقُّنُ الْمَوْتِ لاَ خُصُوصُ رُؤْيَةِ مَلَكِهِ لأَِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لاَ يَرَاهُ.
وَقِيل: السِّرُّ فِي عَدَمِ قَبُول التَّوْبَةِ حِينَ الْيَأْسِ مِنَ الْحَيَاةِ أَنَّ مِنْ شُرُوطِهَا عَزْمُ التَّائِبِ عَلَى أَنْ
__________
(1) المغني والشرح الكبير2 / 337.
(2) حديث: " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. . " أخرجه الترمذي (5 / 547 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر، وحسنه.
(3) سورة النساء / 18.(18/273)
لاَ يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ تَمَكُّنِ التَّائِبِ مِنَ الذَّنْبِ وَبَقَاءِ الاِخْتِيَارِ.
قَال ابْنُ عَلاَّنَ: وَالْحَاصِل أَنَّهُ مَتَى فُرِضَ الْوُصُول لِحَالَةٍ لاَ تُمْكِنُ الْحَيَاةُ بَعْدَهَا عَادَةً لاَ تَصِحُّ مِنْهُ حِينَئِذٍ تَوْبَةٌ وَلاَ غَيْرُهَا، وَهَذَا مُرَادُ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: يُغَرْغِرْ. وَمَتَى لَمْ يَصِل لِذَلِكَ صَحَّتْ مِنْهُ التَّوْبَةُ وَغَيْرُهَا. (1)
__________
(1) دليل الفالحين 1 / 78 - 79، رد المحتار 1 / 571.(18/274)
حِيَازَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَوْزُ لُغَةً الْجَمْعُ وَضَمُّ الشَّيْءِ، وَكُل مَنْ ضَمَّ شَيْئًا إِلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدْ حَازَهُ حَوْزًا وَحِيَازَةً وَاحْتَازَهُ احْتِيَازًا. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال الدَّرْدِيرُ: الْحِيَازَةُ: هِيَ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ وَالاِسْتِيلاَءُ عَلَيْهِ. وَالْحِيَازَةُ بِهَذَا التَّعْرِيفِ بِمَعْنَى الْقَبْضِ، يُؤَيِّدُهُ قَوْل ابْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ: وَلاَ تَتِمُّ هِبَةٌ وَلاَ صَدَقَةٌ وَلاَ حَبْسٌ إِلاَّ بِالْحِيَازَةِ. فَإِنْ مَاتَ قَبْل أَنْ تُحَازَ عَنْهُ فَهِيَ مِيرَاثٌ.
وَفِي الْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ: الْقَبْضُ: هُوَ الْحَوْزُ.
وَفِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ اسْتِعْمَال كَلِمَةِ (حَوْزٍ) بَدَل (حِيَازَةٍ) .
قَال صَاحِبُ الْبَهْجَةِ: الْحَوْزُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ الْمَحُوزِ (2) .
__________
(1) تاج العروس ولسان العرب، والمصباح المنير مادة: (حوز)
(2) الدسوقي مع شرح الدردير 4 / 233، والقوانين الفقهية ص 328، والشرح الصغير 4 / 319، والبهجة في شرح التحفة 1 / 168، والرسالة مع غرر المقالة ص 228، والخرشي 7 / 242.(18/274)
بِمَ تَكُونُ الْحِيَازَةُ:
2 - قَال الْحَطَّابُ: الْحِيَازَةُ تَكُونُ بِثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ: أَضْعَفُهَا: السُّكْنَى وَالاِزْدِرَاعُ، وَيَلِيهَا: الْهَدْمُ، وَالْبِنَاءُ، وَالْغَرْسُ، وَالاِسْتِغْلاَل، وَيَلِيهَا التَّفْوِيتُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالنِّحْلَةِ، وَالْعِتْقِ، وَالْكِتَابَةِ، وَالتَّدْبِيرِ، وَالْوَطْءِ، وَكُل مَا يَفْعَلُهُ الشَّخْصُ فِي مَالِهِ. (1)
وَفِي كَوْنِ الْحِيَازَةِ سَنَدًا لِلْمِلْكِيَّةِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، يَتَّضِحُ مِنْ خِلاَل الْبَحْثِ. وَتُطْلَقُ الْحِيَازَةُ عَلَى الْحِيَازَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْبَاطِلَةِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْيَدُ الْحَائِزَةُ مُتَعَدِّيَةً أَوْ مَأْذُونَةً مِنَ الْمَالِكِ الْحَقِيقِيِّ، أَوْ مُدَّعِيَةً الْمِلْكَ، فَكُلُّهَا حِيَازَةٌ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَبْضُ:
3 - الْقَبْضُ لُغَةً: مَصْدَرُ قَبَضْتُ الشَّيْءَ قَبْضًا: أَخَذْتُهُ، وَهُوَ فِي قَبْضَتِهِ، أَيْ: فِي مِلْكِهِ، وَقَبَضَ عَلَيْهِ بِيَدِهِ ضَمَّ عَلَيْهِ أَصَابِعَهُ. (2)
وَالْقَبْضُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ حِيَازَةُ الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ. قَال الْكَاسَانِيُّ: وَمَعْنَى الْقَبْضِ هُوَ التَّمْكِينُ وَالتَّخَلِّي وَارْتِفَاعُ الْمَوَانِعِ عُرْفًا وَعَادَةً حَقِيقَةً.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْل ابْنِ جُزَيٍّ: الْقَبْضُ: هُوَ الْحَوْزُ. (3)
__________
(1) الحطاب 6 / 222.
(2) المصباح المنير.
(3) البدائع 5 / 148، والقوانين الفقهية ص 328.(18/275)
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَبْضَ وَالْحِيَازَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ. ر: مُصْطَلَحُ (تَقَابُضٌ) .
ب - وَضْعُ الْيَدِ:
4 - يُقَال فِي اللُّغَةِ: الأَْمْرُ بِيَدِ فُلاَنٍ أَيْ: فِي تَصَرُّفِهِ، وَالدَّارُ فِي يَدِ فُلاَنٍ أَيْ: فِي مِلْكِهِ. (1)
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدْ قَال الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ: الْيَدُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُرْبِ وَالاِتِّصَال، وَأَعْظَمُهَا ثِيَابُ الإِْنْسَانِ الَّتِي عَلَيْهِ وَنَعْلُهُ وَمِنْطَقَتُهُ، وَيَلِيهِ الْبِسَاطُ الَّذِي هُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ، وَالدَّابَّةُ الَّتِي هُوَ رَاكِبُهَا، وَتَلِيهِ الدَّابَّةُ الَّتِي هُوَ سَائِقُهَا أَوْ قَائِدُهَا، وَالدَّارُ الَّتِي هُوَ سَاكِنُهَا، فَهِيَ دُونَ الدَّابَّةِ لِعَدَمِ الاِسْتِيلاَءِ عَلَى جَمِيعِهَا.
وَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَأَمَّا الْيَدُ الَّتِي لاَ تُعْتَبَرُ فِي التَّرْجِيحِ أَلْبَتَّةَ فَعِبَارَةٌ عَنْ حِيَازَةٍ بِطَرِيقٍ تَقْتَضِي عَدَمَ الْمِلْكِ بِحَقٍّ، كَالْغَصْبِ وَالْعَارِيَّةِ. (2) إِذَا عَلِمْنَا ذَلِكَ بِأَنْفُسِنَا أَوْ بِالْبَيِّنَةِ. (3) وَالْيَدُ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ نَفْسُ مَعْنَى الْحِيَازَةِ بِمَعْنَيَيْهَا.
__________
(1) المصباح المنير مادة: (يد) .
(2) مجلة الأحكام العدلية م 1759، والفروق 4 / 78، وتهذيب الفروق بهامشه 4 / 130، والحطاب 6 / 209 - 210.
(3) المصادر السابقة ومغني المحتاج 4 / 480، ونهاية المحتاج 8 / 340، والمبدع 10 / 147.(18/275)
التَّقَادُمُ:
4 م - التَّقَادُمُ لُغَةً: مَصْدَرُ تَقَادَمَ، يُقَال: تَقَادَمَ الشَّيْءُ أَيْ: صَارَ قَدِيمًا. وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُعَبَّرُ عَنِ التَّقَادُمِ بِمُرُورِ الزَّمَانِ. كَمَا فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (تَقَادُمٌ) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ. (1)
أَحْكَامُ الْحِيَازَةِ:
5 - تَقَدَّمَ أَنَّ الْحِيَازَةَ تَكُونُ عَنْ طَرِيقٍ مَشْرُوعٍ وَعَنْ طَرِيقٍ، غَيْرِ مَشْرُوعٍ، فَالطُّرُقُ غَيْرُ الْمَشْرُوعَةِ كَالْغَصْبِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْحِرَابَةِ، هِيَ مِنَ الْكَسْبِ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ، وَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا. وَهَذِهِ الْحِيَازَةُ لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً وَلاَ عِبْرَةَ بِهَا شَرْعًا. لأَِنَّ الشَّيْءَ الْمَحُوزَ هُنَا لاَ يَكُونُ لِلَّذِي بِيَدِهِ بَل لِمَالِكِهِ الأَْصْلِيِّ.
وَأَمَّا الطُّرُقُ الْمَشْرُوعَةُ فَتَكُونُ بِحِيَازَةِ بَيْتِ الْمَال لِلأَْرْضِ، الَّتِي مَاتَ أَرْبَابُهَا بِلاَ وَارِثٍ وَآلَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَال، أَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، وَلَمْ تُمْلَكْ لأَِهْلِهَا بَل أُبْقِيَتْ رَقَبَتُهَا لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (2)
وَتَكُونُ بِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، وَالاِصْطِيَادِ، وَاحْتِشَاشِ الْكَلأَِ مِنَ الأَْرْضِ الْمُبَاحَةِ، وَاسْتِخْرَاجِ مَا فِي بَاطِنِ الأَْرْضِ مِنَ الْمَعْدِنِ
__________
(1) الموسوعة 13 / 118، 122 وما بعدها.
(2) الموسوعة 3 / 119.(18/276)
وَالرِّكَازِ، وَاللُّقَطَةِ. وَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا. وَتَكُونُ أَيْضًا عَنْ طَرِيقِ الْعَقْدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَنْ طَرِيقِ الإِْرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ أَمْ عَنْ طَرِيقِ إِرَادَتَيْنِ، وَيُنْظَرُ كُل عَقْدٍ فِي مُصْطَلَحِهِ.
ثُمَّ الْحِيَازَةُ بِمَعْنَى الْقَبْضِ تُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ (قَبْضٌ) .
الْحِيَازَةُ كَدَلِيلٍ عَلَى الْمِلْكِيَّةِ:
6 - الأَْصْل أَنَّ الإِْنْسَانَ يَتَصَرَّفُ فِيمَا يَمْلِكُهُ بِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ، فَسَاكِنُ الدَّارِ، وَسَائِقُ السَّيَّارَةِ، أَوِ الدَّرَّاجَةِ وَصَاحِبُ الدُّكَّانِ الْغَالِبُ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ مَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ، وَلَكِنْ قَدْ يُمَكِّنُ الْمَالِكُ غَيْرَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ، إِمَّا بِعِوَضٍ أَوْ بِدُونِ عِوَضٍ - وَقَدْ يَكُونُ الْمُتَصَرِّفُ مُتَعَدِّيًا كَالْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ - فَاحْتِمَال الْفَصْل بَيْنَ الْمِلْكِيَّةِ وَالتَّصَرُّفِ احْتِمَالٌ قَائِمٌ، وَلَكِنْ كُلَّمَا طَالَتْ مُدَّةُ التَّصَرُّفِ دَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ مَالِكٌ إِلَى أَنْ يَحْصُل الاِطْمِئْنَانُ بِمِلْكِيَّةِ الْحَائِزِ لِلشَّيْءِ حَسْبَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْعُرْفُ.
وَمِنْ هُنَا كَانَتْ عَلاَقَةُ الْحَائِزِ بِمُدَّعِي مِلْكِيَّةِ الشَّيْءِ الْمَحُوزِ لَهَا تَأْثِيرٌ حَسْبَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْعُرْفُ مِنَ التَّسَامُحِ أَوِ الْمُشَاحَّةِ. فَالْعُرْفُ يَشْهَدُ أَنَّ الأَْجْنَبِيَّ لاَ يَسْكُتُ عَنْ تَصَرُّفِ الأَْجْنَبِيِّ فِي عَقَارِهِ عَشْرَ سَنَوَاتٍ وَأَكْثَرَ وَهُوَ حَاضِرٌ سَاكِتٌ، بَيْنَمَا يَشْهَدُ الْعُرْفُ أَنَّ الأَْبَ يَتَسَامَحُ مَعَ ابْنِهِ فِي تَصَرُّفِهِ فِي مَال الأَْبِ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ.(18/276)
فَكَانَتِ الصِّلَةُ بَيْنَ الْحَائِزِ وَبَيْنَ مُدَّعِي الْمِلْكِيَّةِ مُؤْثِّرَةً فِي مُدَّةِ الْحِيَازَةِ كَمَا أَنَّ حُضُورَ مُدَّعِي الْمِلْكِيَّةِ وَبُعْدَهُ وَالْمَسَافَةَ الْفَاصِلَةَ بَيْنَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَبَيْنَ الْقَائِمِ بِالْحَقِّ لَهَا تَأْثِيرُهَا، وَكَذَلِكَ الشَّيْءُ الْمَحُوزُ فَحِيَازَةُ الدُّورِ وَالأَْرْضِينَ لَيْسَتْ كَحِيَازَةِ الثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ، فَإِذَا كَانَ الْمَالِكُ قَدْ يَتَسَامَحُ فِي سُكْنَى دَارِهِ الْخَمْسَ سَنَوَاتٍ مَثَلاً فَإِنَّهُ لاَ يَتَسَامَحُ فِي اسْتِعْمَال دَابَّتِهِ مِثْل هَذِهِ الْمُدَّةِ. كَمَا أَنَّ أَنْوَاعَ التَّصَرُّفِ مُخْتَلِفَةٌ فَهُنَاكَ التَّصَرُّفُ بِالسُّكْنَى، وَأَقْوَى مِنْهَا التَّصَرُّفُ بِالْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ وَقَلْعِ الشَّجَرِ وَغِرَاسَةِ الأَْرْضِ، وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ مِنْ وُجُوهِ التَّفْوِيتِ فَكَانَتْ أَحْكَامُ الْحِيَازَةِ تَتَأَثَّرُ بِهَذِهِ الاِعْتِبَارَاتِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ - فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ - إِلَى أَنَّ مَنِ ادَّعَى شَيْئًا فِي يَدِ غَيْرِهِ فَأَنْكَرَهُ وَكَانَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَبَيِّنَتُهُ عَلَى الْمُدَّعِي (الْخَارِجِ) تُقَدَّمُ عَلَى بَيِّنَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (الدَّاخِل) .
وَقَال إِسْحَاقُ: لاَ تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحَالٍ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (1) فَجَعَل
__________
(1) حديث: " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ". أخرجه بهذا اللفظ البيهقي (10 / 252 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس وأشار إلى شذوذ هذا الفظ، ورواه بإسناد صحيح بلفظ: " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر ".(18/277)
جِنْسَ الْبَيِّنَةِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، فَلاَ يَبْقَى فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ. وَلأَِنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي أَكْثَرُ فَائِدَةً فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا، كَتَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْجَرْحِ عَلَى التَّعْدِيل، وَدَلِيل كَثْرَةِ فَائِدَتِهَا: أَنَّهَا تُثْبِتُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ، وَبَيِّنَةُ الْمُنْكِرِ إِنَّمَا تُثْبِتُ ظَاهِرًا تَدُل الْيَدُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَكُنْ مُفِيدَةً، وَلأَِنَّ الشَّهَادَةَ بِالْمِلْكِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهَا رُؤْيَةَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، فَصَارَتِ الْبَيِّنَةُ بِمَنْزِلَةِ الْيَدِ الْمُفْرَدَةِ، فَتُقَدَّمُ عَلَيْهَا بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (صَاحِبِ الْيَدِ) كَمَا أَنَّ شَاهِدَيِ الْفَرْعِ لَمَّا كَانَا مَبْنِيَّيْنِ عَلَى شَاهِدَيِ الأَْصْل لَمْ تَكُنْ لَهُمَا مَزِيَّةٌ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ: إِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِل بِسَبَبِ الْمِلْكِ، وَقَالَتْ: نَتَجَتْ فِي مِلْكِهِ أَوِ اشْتَرَاهَا، أَوْ نَسَجَهَا، أَوْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ أَقْدَمَ تَارِيخًا قُدِّمَتْ، وَإِلاَّ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ فِي النِّتَاجِ وَالنَّسَّاجِ فِيمَا لاَ يَتَكَرَّرُ نَسْجُهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحِيَازَةَ لاَ تَنْقُل الْمِلْكَ عَنِ الْمَحُوزِ عَلَيْهِ إِلَى الْحَائِزِ بِاتِّفَاقٍ وَلَكِنَّهَا تَدُل عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْقَوْل مَعَهَا قَوْل الْحَائِزِ: إِنَّهُ يَمْلِكُهُ بِيَمِينِهِ.
فَإِذَا كَانَتْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ وَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ قُدِّمَ صَاحِبُ الْيَدِ بِبَيِّنَتِهِ، لأَِنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَتُهُ بِيَدِهِ كَالْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ مَعَ أَحَدِهِمَا قِيَاسٌ فَيُقْضَى لَهُ بِهَا.(18/277)
لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلاَنِ فِي دَابَّةٍ أَوْ بَعِيرٍ، فَأَقَامَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهَا لَهُ أَنْتَجَهَا فَقَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ. (1)
وَبِتَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِكُل حَالٍ، قَال شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَكَمُ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَقَال: هُوَ قَوْل أَهْل الْمَدِينَةِ وَأَهْل الشَّامِ، وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ فِي (دَعْوَى، شَهَادَةٌ، تَقَادُمٌ) .
هَذَا، وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلاَتٌ انْفَرَدُوا بِهَا فِي مَسَائِل الْحِيَازَةِ، وَلاَ سِيَّمَا بِمَعْنَى دَلِيل الْمِلْكِ أَوْ سَبَبِهِ، بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
يَقُول ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّ الْحِيَازَةَ عَلَى سِتِّ مَرَاتِبَ:
أ - أَضْعَفُهَا حِيَازَةُ الأَْبِ عَلَى ابْنِهِ، وَحِيَازَةُ الاِبْنِ عَلَى أَبِيهِ.
__________
(1) حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان في دابة. أخرجه البيهقي (10 / 256 - - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وضعفه ابن حجر في التلخيص (4 / 210 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) البدائع 6 / 255، وتكملة فتح القدير 6 / 156، والحطاب 6 / 221 - 222، والدسوقي 4 / 233، والفروق للقرافي 4 / 78، وتهذيب الفروق بهامشه 4 / 130، ومغني المحتاج 4 / 480، والمهذب 2 / 311، والمغني 9 / 275 - 276، والموسوعة 12 / 122 وما بعدها.(18/278)
ب - وَيَلِيهَا حِيَازَةُ الأَْقَارِبِ الشُّرَكَاءِ بِالْمِيرَاثِ أَوْ بِغَيْرِ الْمِيرَاثِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
ج - تَلِيهَا حِيَازَةُ الْقَرَابَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا لاَ شِرْكَ بَيْنَهُمْ فِيهِ، وَالأَْخْتَانُ، وَالْمَوَالِي الأَْشْرَاكُ (1) بِمَنْزِلَتِهِمْ.
د - وَيَلِيهَا حِيَازَةُ الْمَوَالِي وَالأُْخْتَيْنِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا لاَ شِرْكَ بَيْنَهُمْ فِيهِ.
هـ - وَتَلِيهَا حِيَازَةُ الأَْجْنَبِيِّينَ الأَْشْرَاكِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا لاَ شِرْكَ بَيْنَهُمْ فِيهِ.
و حِيَازَةُ الأَْجْنَبِيِّينَ الَّذِينَ لاَ شَرِكَةَ بَيْنَهُمْ فِيهِ. (2) وَكُلَّمَا كَانَتِ الرَّابِطَةُ قَوِيَّةً وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْحِيَازَةُ ضَعِيفَةَ التَّأْثِيرِ فِي ادِّعَاءِ الْمِلْكِ، فَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ قُوَّةٍ تُسْنِدُهَا، إِمَّا طُول مُدَّةٍ، وَإِمَّا نَوْعٌ قَوِيٌّ مِنَ التَّصَرُّفِ عَلَى مَا سَيَتَبَيَّنُ بَعْدُ.
أَنْوَاعُ الْحِيَازَةِ:
7 - الْحِيَازَةُ تَكُونُ بِنَوْعٍ مِنَ الأَْنْوَاعِ الآْتِيَةِ:
(أ) فِي الْعَقَارِ: السُّكْنَى، الاِزْدِرَاعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَفِي الْمَنْقُول: الرُّكُوبُ فِي الدَّوَابِّ. اللُّبْسُ فِي الثِّيَابِ. الاِنْتِفَاعُ فِي الأَْوَانِي وَنَحْوُ ذَلِكَ. (ب) النَّوْعُ الْمُتَوَسِّطُ فِي الْعَقَارِ: الْهَدْمُ وَالْبِنَاءُ فِيمَا
__________
(1) الإشراك جمع شرك وهو المشارك، القاموس مادة: " شرك ".
(2) البيان والتحصيل 11 / 147.(18/278)
لاَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِبَقَاءِ الأَْصْل، وَالْغَرْسُ لِلأَْشْجَارِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَفِي الْمَنْقُول الاِسْتِغْلاَل وَهُوَ إِيجَارُ الدَّوَابِّ، وَالثِّيَابِ، وَقَبْضُ الأُْجْرَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. (ج) النَّوْعُ الأَْقْوَى: التَّفْوِيتُ بِالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَالنُّحْل، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يَفْعَلُهُ الرَّجُل إِلاَّ فِي مَالِهِ. (1)
أَثَرُ الْحِيَازَةِ:
8 - يَقُول ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّ مُجَرَّدَ الْحِيَازَةِ لاَ تَنْقُل الْمِلْكَ عَنِ الْمَحُوزِ عَلَيْهِ إِلَى الْحَائِزِ، وَلَكِنَّهُ يَدُل عَلَى الْمِلْكِ كَإِرْخَاءِ السُّتُورِ، وَمَعْرِفَةِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأَْشْيَاءِ. (2) مَعْنَى هَذَا أَنَّ الْحَائِزَ لاَ يَنْتَفِعُ بِالْحِيَازَةِ إِلاَّ إِذَا جَهِل الْوَجْهَ الَّذِي حَازَ بِهِ أَوِ ادَّعَى شِرَاءً، وَأَمَّا إِذَا عَرَفَ وَجْهَ دُخُولِهِ فِي حَوْزِهِ كَكِرَاءٍ، أَوْ عُمْرَى، أَوْ إِسْكَانٍ، أَوْ إِرْفَاقٍ، أَوْ إِجَارَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ طُول الْحَوْزِ لاَ يَنْقُل الْمِلْكَ.
شُرُوطُ الْحِيَازَةِ بَيْنَ الأَْجَانِبِ غَيْرِ الشُّرَكَاءِ:
9 - يَقُول خَلِيلٌ: إِنْ حَازَ أَجْنَبِيٌّ غَيْرُ شَرِيكٍ وَتَصَرَّفَ ثُمَّ ادَّعَى حَاضِرٌ سَاكِتٌ بِلاَ مَانِعٍ عَشْرَ سِنِينَ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ، وَلاَ بَيِّنَتُهُ إِلاَّ بِإِسْكَانٍ وَنَحْوِهِ. (3)
__________
(1) نفس المراجع.
(2) مواهب الجليل 6 / 221.
(3) المواق بهامش الحطاب 6 / 221.(18/279)
فَالْحَوْزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَكُونُ دَالًّا عَلَى مِلْكِ الْحَائِزِ إِذَا تَوَفَّرَ مَا يَلِي:
أَوَّلاً: أَنْ يَتَصَرَّفَ الْحَائِزُ: وَالتَّصَرُّفُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ هُوَ مَا كَانَ كَالْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ فِيمَا لاَ ضَرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ. أَمَّا السُّكْنَى وَنَحْوُهَا، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ حِيَازَةٌ. يَقُول ابْنُ رُشْدٍ: وَأَمَّا حِيَازَةُ الأَْجْنَبِيِّينَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا لاَ شَرِكَةَ بَيْنَهُمْ فِيهِ، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْحِيَازَةَ تَكُونُ بَيْنَهُمْ فِي الْعَشَرَةِ أَعْوَامٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَدْمٌ وَلاَ بُنْيَانٌ، وَفِي كِتَابِ الْجِدَارِ لاِبْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهَا لاَ تَكُونُ حِيَازَةً إِلاَّ مَعَ الْهَدْمِ وَالْبُنْيَانِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ فِي رِوَايَةِ حَسَنِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْهُ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْل مَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ بَلاَغًا (أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَكَارَى أَرْضًا. فَلَمْ تَزَل فِي يَدَيْهِ بِكِرَاءٍ حَتَّى قَال ابْنُهُ وَهُوَ أَبُو سَلَمَةَ أَوْ حُمَيْدٌ: فَمَا كُنْتُ أَرَاهَا إِلاَّ لَنَا مِنْ طُول مَا مَكَثَتْ فِي يَدَيْهِ حَتَّى ذَكَرَهَا لَنَا عِنْدَ مَوْتِهِ فَأَمَرَ بِقَضَاءِ شَيْءٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ كِرَائِهَا ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ) . (1)
10 - ثَانِيًا: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي حَاضِرًا عَالِمًا، فَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي غَائِبًا غَيْبَةً بَعِيدَةً فَهُوَ بَاقٍ عَلَى حَقِّهِ وَيَخْتَلِفُ تَقْدِيرُ الْغَيْبَةِ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، وَالْبُعْدِ وَالْقُرْبِ، وَتَقْدِيرُ الْغَيْبَةِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ بِالْمَرَاحِل.
__________
(1) البيان والتحصيل 11 / 152، وشرح الزرقاني على الموطأ 3 / 175.(18/279)
فَإِذَا كَانَ الْمُدَّعِي عَلَى سَبْعَةِ مَرَاحِل فَأَكْثَرَ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى حُجَّتِهِ وَلَوْ طَال أَمَدُ غِيَابِهِ مَا طَال، فَالْغَائِبُ فِي مِثْل هَذَا الْبُعْدِ مَعْذُورٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلاً أَمِ امْرَأَةً، وَإِذَا كَانَ عَلَى ثَلاَثِ أَوْ أَرْبَعِ مَرَاحِل فَالْمَرْأَةُ مَعْذُورَةٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَكَذَلِكَ الرَّجُل إِنْ أَبْدَى عُذْرَهُ فِي عَدَمِ الْقِيَامِ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ عُذْرُهُ، فَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: هُوَ عَلَى حَقِّهِ لَهُ الْقِيَامُ مُعَلِّلاً بِأَنَّهُ كَمْ مِمَّنْ لاَ يَتَبَيَّنُ عُذْرُهُ لِلنَّاسِ وَهُوَ مَعْذُورٌ. وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: مَنْ كَانَ عَلَى ثَلاَثِ مَرَاحِل لاَ قِيَامَ لَهُ بَعْدَ الأَْجَل إِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ عُذْرُهُ، فَابْنُ الْقَاسِمِ جَعَلَهُ مَعْذُورًا: وَابْنُ حَبِيبٍ جَعَلَهُ غَيْرَ مَعْذُورٍ حَتَّى يَثْبُتَ خِلاَفُ ذَلِكَ. (1) وَحَدَّدَ ابْنُ عَرَفَةَ مَوْطِنَ الْخِلاَفِ قَائِلاً: الْخِلاَفُ فِي الْقَرِيبِ هُوَ إِذَا عَلِمَ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلاَ حِيَازَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا، غَيْرَ أَنَّهُ فِي الْغَالِبِ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْعِلْمِ حَتَّى يَثْبُتَ عِلْمُهُ، وَفِي الْحَاضِرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْعِلْمِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ. (2)
وَاسْتَحَبَّ مُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ لِلْغَائِبِ إِذَا عَلِمَ وَمَنَعَهُ مَانِعٌ مِنَ الْحُضُورِ لِطَلَبِ حَقِّهِ أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ عَلِمَ، وَأَنَّ سُكُوتَهُ عَنِ الْمُطَالَبَةِ إِنَّمَا هُوَ لأَِجْل الْعُذْرِ مَعَ تَأْكِيدِهِمَا عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ وَلَمْ يُشْهِدْ لَمْ يُوهِنْ ذَلِكَ حُجَّتَهُ إِلاَّ أَنْ يَطُول الزَّمَانُ جِدًّا،
__________
(1) البيان والتحصيل 11 / 180.
(2) حاشية البناني 7 / 224.(18/280)
مِثْل السَّبْعِينَ وَالثَّمَانِينَ سَنَةً وَمَا قَارَبَهَا، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ سَمَاعٌ مُسْتَفِيضٌ بِأَنَّهَا مِلْكٌ لِلَّذِينَ هِيَ بِأَيْدِيهِمْ تَدَاوَلُوهَا هُمْ وَمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِمَا يُحَازُ بِهِ الْمِلْكُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْحِيَازَةِ عَلَى الْحَاضِرِ، وَإِنْ كَانَتِ الْغَيْبَةُ بَعِيدَةً، قَال ابْنُ حَبِيبٍ: وَبِقَوْلِهِمَا أَقُول. (1)
فَالْغَائِبُ يَكُونُ عَلَى حُجَّتِهِ إِذَا اجْتَمَعَ أَمْرَانِ: أَنْ يَطُول ذَلِكَ جِدًّا فِيمَا تَهْلِكُ فِيهِ الْبَيِّنَاتُ، وَتَتَعَاقَبُ الأَْجْيَال كَالسَّبْعِينَ وَالثَّمَانِينَ، وَأَنْ يَتَأَيَّدَ الْحَوْزُ بِشَهَادَةِ سَمَاعٍ أَنَّ الْحَائِزَ وَمَنْ سَبَقَهُ مَالِكُونَ لِمَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ.
وَإِذَا كَانَتِ الْغَيْبَةُ عَلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ فَالرَّجُل هُوَ كَالْحَاضِرِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَهِيَ عَلَى حَقِّهَا. قَال ابْنُ فَرْحُونَ: فَرْعٌ: وَفِي الطُّرُرِ لاِبْنِ عَاتٍ وَمَغِيبُ الْمَرْأَةِ عَلَى مَسِيرَةِ الْيَوْمِ لاَ يَقْطَعُ حُجَّتَهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا. (2)
قَالَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ الْمُتَأَخِّرِينَ. (3)
وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُوَ الْعِلْمُ الشَّامِل لأَِمْرَيْنِ. الْعِلْمُ بِأَنَّ الْحَائِزَ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ
__________
(1) التبصر لابن فرحون 2 / 85.
(2) حديث: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة. . . " أخرجه مسلم (2 / 977 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) التبصر لابن فرحون 2 / 85.(18/280)
الْمَحُوزَ مِلْكُهُ، فَإِذَا جَهِل أَنَّ الْمَحُوزَ مِلْكُهُ فَإِنْ كَانَ وَارِثًا حَلَفَ عَلَى عَدَمِ عِلْمِهِ وَقُضِيَ لَهُ بِبَيِّنَتِهِ، وَإِذَا قَال عَلِمْتُ بِالْمِلْكِ وَلَكِنِّي لَمْ أَجِدِ الْوَثِيقَةَ الْمُثْبِتَةَ لِلْمِلْكِ إِلاَّ الآْنَ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، وَرَجَّحَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِذَلِكَ فَلاَ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا ادَّعَى أَنَّ سُكُوتَهُ إِنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْل عَدَمِ وُجُودِ الْبَيِّنَةِ الَّتِي تَشْهَدُ لَهُ. (1)
ثَالِثًا: أَنْ يَسْكُتَ الْمَحُوزُ عَنْهُ الْحَاضِرُ طِوَال الْمُدَّةِ وَلاَ يُطَالِبُ بِحَقِّهِ، فَإِنْ نَازَعَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ وَلَمْ يَزَل يُخَاصِمُ وَيَطْلُبُ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ، وَإِنْ نَازَعَ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ لَمْ يُفِدْهُ، وَيَكُونُ كَمَنْ هُوَ سَاكِتٌ، قَال ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ: فِيمَنْ أَثْبَتَ بَيِّنَةً فِي أَرْضٍ أَنَّهَا لَهُ، وَأَثْبَتَ الَّذِي فِي يَدِهِ أَنَّهُ يَحُوزُهَا عَشْرَ سِنِينَ بِمَحْضَرِ الطَّالِبِ، فَأَقَامَ الطَّالِبُ بَيِّنَةً أَنَّهُ طَلَبَهَا وَنَازَعَ فِيهَا هَذَا، قَال: إِنْ قَالُوا إِنَّهُ لَمْ يَزَل يُخَاصِمُ وَيَطْلُبُ لَيْسَ أَنْ يُخَاصِمَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يُمْسِكَ نَفَعَهُ ذَلِكَ، وَإِلاَّ لَمْ يَنْفَعْهُ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الطَّلَبُ عِنْدَ الْحَاكِمِ. قَال أَبُو الْحَسَنِ الصَّغِيرُ: الطَّلَبُ النَّافِعُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ. (2)
11 - رَابِعًا: أَنْ لاَ يَمْنَعَهُ مِنَ الْمُطَالَبَةِ مَانِعٌ: وَالْمَوَانِعُ كَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ لَمْ يَقَعِ اسْتِقْصَاؤُهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَى بَعْضِهَا احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْمَالِكِ.
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 223.
(2) حاشية الرهوني 7 / 511.(18/281)
فَمِنَ الْمَوَانِعِ، الْخَوْفُ مِنَ الْحَائِزِ كَمَا إِذَا كَانَ الْحَائِزُ ذَا سُلْطَةٍ وَظَالِمًا. أَوْ كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى سُلْطَانٍ جَائِرٍ وَكَأَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ مَدِينًا مُعْسِرًا وَحَل أَجَل الدَّيْنِ، وَالْحَائِزُ رَبُّ الدَّيْنِ يَخْشَى إِنْ هُوَ طَالَبَهُ بِالتَّخَلِّي عَنِ الْحَوْزِ أَنْ يُطَالِبَ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ، وَمِثْلُهُ إِذَا كَانَ الْمُدَّعِي سَفِيهًا أَوْ صَغِيرًا أَوْ بِكْرًا لَمْ تُعَنِّسْ مَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ، فَإِنَّ أَجَل الْحَوْزِ مُعْتَبَرٌ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْمَانِعِ، وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْعَطَّارِ لاَ يَقْطَعُ قِيَامُ الْبِكْرِ غَيْرِ الْعَانِسِ وَلاَ قِيَامُ الصَّغِيرِ، وَلاَ قِيَامُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فِي رِقَابِ الأَْمْلاَكِ، وَلاَ فِي إِحْدَاثِ الاِعْتِمَارِ بِحَضْرَتِهِمْ إِلاَّ أَنْ يَبْلُغَ الصَّغِيرُ وَيَمْلِكَ نَفْسَهُ مِنَ الْوَلِيِّ، وَتُعَنِّسَ الْجَارِيَةُ وَيُحَازَ عَلَيْهِمْ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَهُمْ عَالِمُونَ بِحُقُوقِهِمْ لاَ يَعْتَرِضُونَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَيَنْقَطِعُ حِينَئِذٍ قِيَامُهُمْ وَمَا لَمْ يَعْرِفُوا لاَ يَنْقَطِعُ قِيَامُهُمْ. (1)
فَأَصْحَابُ الأَْعْذَارِ هَؤُلاَءِ يُعْتَبَرُ أَمَدُ السُّكُوتِ الْمُسْقِطِ لِحَقِّهِمْ بَعْدَ حُصُول أَمْرَيْنِ. حُصُول عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْحَائِزَ يَحُوزُ مِلْكَهُمْ وَسُكُوتَهُمْ بَعْدَ الْعِلْمِ عَشْرَ سِنِينَ بِغَيْرِ عُذْرٍ.
وَمِنَ الأَْعْذَارِ الْمَقْبُولَةِ الَّتِي يَبْقَى مَعَهَا الْمُدَّعِي عَلَى حَقِّهِ وَإِنْ طَال كَوْنُ الْمَحُوزِ عَنْهُ مِنْ أَهْل الثَّرَاءِ وَالْفَضْل، مِنْ شَأْنِهِ إِرْفَاقُ النَّاسِ وَالتَّوْسِعَةُ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ سُئِل أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى السَّرَّاجُ عَنْ أُنَاسٍ لَهُمْ أَمْلاَكٌ عَدِيدَةٌ فِي بِلاَدٍ شَتَّى وَبِكُل
__________
(1) التبصرة لابن فرحون 2 / 86.(18/281)
مَوْطِنٍ، وَجَرَتْ عَادَتُهُمْ مَعَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَتَفَضَّلُونَ مَعَهُمْ فِي أَمْلاَكِهِمْ بِالْبِنَاءِ وَالْحَرْثِ وَالْغِرَاسَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِمَارَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْل لِكَثْرَةِ ذِمَّتِهِمْ وَغِنَاهُمْ وَعُلُوِّ هِمَّتِهِمْ وَمَحَاسِنِهِمْ مَعَ النَّاسِ، ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ السَّاكِنِينَ أَنْكَرُوا الْفَضْل وَالإِْحْسَانَ وَالْخَيْرَ، وَأَرَادُوا بِزَعْمِهِمْ أَنْ يَمْتَازُوا بِبَعْضِ الأَْمْلاَكِ بِسَبَبِ الْعِمَارَةِ وَيَنْسُبُوهَا لأَِنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَهَل تَجُوزُ الْعِمَارَةُ عَلَى أَصْحَابِ الأَْمْلاَكِ أَمْ لاَ تَجُوزُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ إِلاَّ إِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ بِانْتِقَال الأَْمْلاَكِ بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ صَدَقَةٍ؟ فَأَجَابَ أَنَّهَا لاَ تَجُوزُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ إِلاَّ إِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ مَقْبُولَةٌ بِانْتِقَال الأَْمْلاَكِ، إِمَّا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْعِمَارَةِ الْعَارِيَةِ عَنْ ذَلِكَ فَلَغْوٌ، وَلاَ عِبْرَةَ بِهَا وَلاَ مُعَوَّل عَلَيْهَا. (1) وَدَقَّقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْحَائِكُ فَقَال: إِنَّ فَتْوَى السَّرَّاجِ هِيَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ الْمَذْكُورَةُ مَعْرُوفَةً لِلْقَائِمِ وَمَنْسُوبَةً إِلَيْهِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فَلاَ تُنْزَعُ مِنْ يَدِ حَائِزِهَا. (2)
12 - خَامِسًا: أَنْ تَسْتَمِرَّ الْحِيَازَةُ عَشْرَ سِنِينَ فَأَكْثَرَ: إِذَا حَازَ الأَْجْنَبِيُّ غَيْرُ الشَّرِيكِ عَقَارًا وَتَوَفَّرَتِ الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ قَبْل هَذَا فَإِنَّهُ لاَ يَنْتَفِعُ بِحِيَازَتِهِ إِلاَّ إِذَا طَال أَمَدُ الْحِيَازَةِ.
__________
(1) حاشية الرهوني 7 / 512.
(2) حاشية الشيخ على حلي المعاصم 3 كراس 28 ص 2.(18/282)
وَالطُّول الْمُعْتَبَرُ دَلِيلاً عَلَى الْمِلْكِيَّةِ قَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِهِ هَل يُؤَقَّتُ بِزَمَنٍ، أَوْ مَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى اقْتِنَاعِ الْحَاكِمِ.
فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: مَا سَمِعْتُ مَالِكًا يُحَدِّدُ فِيهِ عَشْرَ سِنِينَ وَلاَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى أَنَّ هَذَا قَدْ حَازَهَا دُونَ الآْخَرِ فِيمَا يُكْرَى وَيُهْدَمُ وَيُبْنَى وَيُسْكَنُ. (1)
وَذَهَبَ رَبِيعَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الرَّجُل حَاضِرًا وَمَالُهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ فَمَضَتْ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ، كَانَ الْمَال لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ بِحِيَازَتِهِ إِيَّاهُ عَشْرَ سِنِينَ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ الآْخَرُ بِبَيِّنَةٍ عَلَى أَنَّهُ أَكْرَى، أَوْ أَسْكَنَ، أَوْ أَعَارَ عَارِيَّةً، أَوْ صَنَعَ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَإِلاَّ فَلاَ شَيْءَ لَهُ. (2)
وَعُمْدَةُ التَّقْدِيرِ بِعَشْرِ سِنِينَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ يَرْفَعُهُ إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ حَازَ شَيْئًا عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ لَهُ. قَال عَبْدُ الْجَبَّارِ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ. (3)
__________
(1) المدونة 4 / 99.
(2) المدونة 4 / 100.
(3) حديث: " من حاز شيئا عشر سنين فهو له. . . " أخرجه ابن القاسم في المدونة (5 / 192 - نشر دار صادر) من حديث سعيد بن المسيب مرسلا، وفي إسناده " عبد الجبار بن عمر الأيلي " وهو ضعيف كما في ترجمته من التهذيب لابن حجر (6 / 103 - 104 - ط دائرة المعارف العثمانية) .(18/282)
وَرَوَاهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ مَرْفُوعًا: مَنِ احْتَازَ شَيْئًا عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ لَهُ. (1) كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي بَابِ الأَْقْضِيَةِ. (2)
قَال فِي التَّوْضِيحِ: وَبِالْعَشْرِ سِنِينَ أَخَذَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ.
وَلاِبْنِ الْقَاسِمِ كَمَا فِي الْمَوَّازِيَّةِ أَنَّ السَّبْعَ وَالثَّمَانَ وَمَا قَارَبَ الْعَشْرَ مِثْل الْعَشَرَةِ. (3)
وَيَقُول ابْنُ رُشْدٍ فِي شَرْحِهِ لِكَلاَمِ الْمُسْتَخْرَجَةِ الْعَشْرَ سِنِينَ وَمَا قَارَبَهَا يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالشَّهْرَيْنِ وَالثَّلاَثَةَ وَمَا قَارَبَ مِنْهَا ثُلُثَ الْعَامِ وَأَقَل. وَقَدْ قِيل: إِنَّ مَا قَرُبَ مِنَ الْعَشَرَةِ الأَْعْوَامِ بِالْعَامِ وَالْعَامَيْنِ حِيَازَةٌ. (4)
قَال الْحَطَّابُ: فَتَحَصَّل فِي مُدَّةِ الْحِيَازَةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: قَوْل مَالِكٍ إِنَّهَا لاَ تُحَدُّ بِسِنِينَ مُقَدَّرَةٍ بَل بِاجْتِهَادِ الإِْمَامِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُدَّةَ عَشْرُ سِنِينَ وَهُوَ الْقَوْل الْمُعْتَمَدُ بِنَاءً عَلَى الْحَدِيثِ وَوَجَّهَهُ أَيْضًا ابْنُ
__________
(1) حديث: " من احتاز شيئا عشر سنين فهو له. . . " أخرجه أبو داود في المراسيل (ص 286 - ط الرسالة) من حديث زيد بن أسلم مرسلا.
(2) حفة الأشراف 13 3 ? / 197، والمراسيل لأبي داود تحقيق عبد العزيز عز الدين السيروان ص 202.
(3) مواهب الجليل 6 / 223.
(4) البيان والتحصيل 11 / 186.(18/283)
سَحْنُونٍ بِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالْقِتَال بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ كَانَ أَبْلَغَ فِي الإِْعْذَارِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ مُدَّةَ الْحِيَازَةِ سَبْعُ سِنِينَ فَأَكْثَرُ وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ الثَّانِي.
وَإِذَا كَانَتِ الْحِيَازَةُ فِي إِرْفَاقٍ فَفِي الْمَسَائِل الْمَلْقُوطَةِ الْمَنْسُوبَةِ لِوَلَدِ ابْنِ فَرْحُونَ (مَسْأَلَةٌ) فِي قَنَاةٍ تَجْرِي مُنْذُ أَرْبَعِ سِنِينَ فِي أَرْضِ رَجُلٍ، وَالَّذِي تَجْرِي عَلَيْهِ سَاكِتٌ لاَ تَكُونُ السَّنَةُ حِيَازَةً لِلتَّغَافُل عَنْ مِثْلِهَا وَسُكُوتُ أَرْبَعِ سِنِينَ طُولٌ. (1)
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْحِيَازَةُ فِي مَنْقُولٍ فَقَال أَصْبَغُ: إِنَّ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ فِي الثِّيَابِ حِيَازَةٌ إِذَا كَانَتْ تُلْبَسُ وَتُمْتَهَنُ، وَإِنَّ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ حِيَازَةٌ فِي الدَّوَابِّ إِذَا كَانَتْ تُرْكَبُ، وَفِي الإِْمَاءِ إِذَا كُنَّ يُسْتَخْدَمْنَ، وَفِي الْعَبِيدِ وَالْعُرُوضِ فَوْقَ ذَلِكَ وَلاَ تَبْلُغُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بَيْنَ الأَْجْنَبِيِّينَ إِلَى عَشَرَةِ أَعْوَامٍ كَمَا يَصْنَعُ فِي الأُْصُول (الْعَقَارِ) . (2)
وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي الأَْجَل بَيْنَ الثِّيَابِ وَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ، وَبَيْنَ الدُّورِ، وَنَصُّ الْمُدَوَّنَةِ قُلْتُ: أَرَأَيْتَ الدَّوَابَّ وَالثِّيَابَ وَالْعُرُوضَ كُلَّهَا وَالْحَيَوَانَ كُلَّهُ، هَل كَانَ مَالِكٌ يَرَى أَنَّهَا إِذَا حَازَهَا رَجُلٌ بِمَحْضَرٍ مِنْ رَجُلٍ فَادَّعَاهَا الَّذِي حِيزَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُ فِيهَا،
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 284.
(2) البيان والتحصيل 11 / 150.(18/283)
لأَِنَّ هَذَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ، وَهَل كَانَ يَقُول فِي هَذِهِ الأَْشْيَاءِ مِثْل مَا يَقُولُهُ فِي الدُّورِ وَالْحِيَازَةِ؟ قَال: لَمْ أَسْمَعْ مِنْ مَالِكٍ فِي هَذَا شَيْئًا إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدِي مِثْل مَا قَال مَالِكٌ فِي الدُّورِ إِذَا كَانَتِ الثِّيَابُ تُلْبَسُ وَتُمْتَهَنُ، وَالدَّوَابُّ تُكْرَى وَتُرْكَبُ. (1)
وَيَجِبُ حَمْل نَصِّ الْمُدَوَّنَةِ عَلَى أَنَّ التَّحْدِيدَ لَيْسَ قَارًّا، وَإِنَّمَا هُوَ لاِجْتِهَادِ الْحَاكِمِ يَنْظُرُ فِي الظُّرُوفِ الْمُحِيطَةِ بِالْقَضِيَّةِ وَيُعْطِي لِكُل حَالَةٍ مَا يُنَاسِبُهَا حَسَبَ اخْتِلاَفِ الأَْعْرَافِ وَالأَْشْخَاصِ.
13 - وَتُضَافُ مُدَّةُ حِيَازَةِ الْوَارِثِ إِلَى مُدَّةِ حِيَازَةِ الْمُوَرِّثِ، فَإِذَا حَازَ الْمُوَرِّثُ الشَّيْءَ خَمْسَ سِنِينَ وَحَازَهُ الْوَارِثُ خَمْسَ سِنِينَ ضُمَّتْ مُدَّةُ هَذَا إِلَى مُدَّةِ ذَاكَ وَسَقَطَ حَقُّ الْقَائِمِ فِي الدَّعْوَى. (2)
14 - سَابِعًا: أَلاَّ يَكُونَ الْمَحُوزُ وَقْفًا: إِذَا كَانَ الْمَحُوزُ حَبْسًا فَإِنَّهُ لاَ تَسْقُطُ الدَّعْوَى وَلَوْ طَال الزَّمَانُ، فَفِي نَوَازِل ابْنِ رُشْدٍ: سُئِل عَنْ جَمَاعَةٍ وَاضِعِينَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَمْلاَكِهِمْ وَمُوَرِّثِهِمْ وَمُوَرِّثِ مُوَرِّثِهِمْ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ عَامًا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالتَّعْوِيضِ وَالْقِسْمَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ وُجُوهِ التَّفْوِيتِ، فَادَّعَى عَلَيْهِمْ بِوَقْفِيَّتِهَا شَخْصٌ حَاضِرٌ عَالِمٌ بِالتَّفْوِيتِ الْمَذْكُورِ وَالتَّصَرُّفِ هُوَ وَمُوَرِّثُهُ مِنْ قَبْلِهِ. فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ: لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالْحَبْسِ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَثْبُتَ التَّحْبِيسُ
__________
(1) المدونة 4 / 99.
(2) مواهب الجليل 6 / 225.(18/284)
وَمِلْكُ الْمُحَبِّسِ لِمَا حَبَسَهُ يَوْمَ التَّحْبِيسِ وَبَعْدَ أَنْ تَتَعَيَّنَ الأَْمْلاَكُ الْمُحَبَّسَةُ بِالْحِيَازَةِ لَهَا عَلَى مَا تَصِحُّ فِيهِ الْحِيَازَةُ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى وَجْهِهِ وَأَعْذَرَ إِلَى الْمَقُومِ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ مِنْ تَرْكِ الْقَائِمِ وَأَبِيهِ قَبْلَهُ عَلَيْهِمْ وَطُول سُكُوتِهِمَا عَنْ طَلَبِ حَقِّهِمَا مَعَ عِلْمِهِمَا بِتَفْوِيتِ الأَْمْلاَكِ فَالْقَضَاءُ بِالْحَبْسِ وَاجِبٌ، وَالْحُكْمُ بِهِ لاَزِمٌ. (1)
وَمِنْ بَابِ أَوْلَى الْحَبْسُ الْعَامُّ بِمَا يَشْمَلُهُ مِنْ مَسْجِدٍ وَطَرِيقٍ وَمَصَالِحَ عَامَّةٍ.
قَال الزَّرْقَانِيُّ: وَمِنْ شُرُوطِهَا - أَيِ الْحِيَازَةِ - أَنْ يَدَّعِيَ الْحَائِزُ مِلْكَ الشَّيْءِ الْمَحُوزِ، أَيْ وَلَوْ مَرَّةً، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ إِلاَّ مُجَرَّدَ الْحَوْزِ فَلاَ يَنْفَعُهُ. (2)
وَلاَ يَنْفَعُ الْحَائِزَ الْمُدَّعِيَ الْمِلْكِيَّةُ بِحِيَازَتِهِ إِلاَّ مَعَ جَهْل الْمُدْخَل فِي هَذَا الأَْصْل الْمَحُوزِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ هَل بِعَارِيَّةٍ مَثَلاً أَوْ لاَ؟ أَعْنِي هَل دَخَل بِوَجْهٍ لاَ يَقْتَضِي نَقْل الْمِلْكِ كَالْعَارِيَّةِ وَالإِْسْكَانِ وَنَحْوِهِمَا أَمْ لاَ. لأَِنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ أَنَّ دُخُولَهُ كَانَ بِشَيْءٍ مِنْهَا مَا نَفَعَتْهُ حِيَازَتُهُ وَلَوْ طَالَتْ. (3) .
مَا تُوجِبُهُ الْحِيَازَةُ:
15 - يَقُول ابْنُ الْحَاجِبِ: إِنَّ الدَّعْوَى تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
__________
(1) مواهب الجليل 6 / 225.
(2) شرح الزرقاني على خليل 7 / 224.
(3) المهدي على حلي المعاصم ج3 كراس 29ص 3.(18/284)
أ - الدَّعْوَى الْمُشَبَّهَةُ: وَهِيَ الدَّعْوَى الَّتِي تُوجِبُ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِهَا مِنْ غَيْرِ إِثْبَاتِ خُلْطَةٍ، وَهِيَ الدَّعْوَى اللاَّئِقَةُ بِالْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَذَلِكَ كَالدَّعَاوَى عَلَى الصُّنَّاعِ الْمُنْتَصِبِينَ لِلصِّنَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ فِي الأَْسْوَاقِ وَالْمُسَافِرِ عَلَى رُفْقَتِهِ.
ب - الدَّعْوَى الْبَعِيدَةُ: وَهِيَ الَّتِي لاَ تُشْبِهُ فَلاَ تُسْمَعُ وَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا، كَدَعْوَى دَارٍ بِيَدِ حَائِزٍ يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِالْهَدْمِ، وَالْبُنْيَانِ، وَالْعِمَارَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَالْمُدَّعِي شَاهِدٌ سَاكِتٌ وَلاَ مَانِعَ مِنْ خَوْفٍ وَلاَ قَرَابَةٍ وَلاَ صِهْرٍ وَشُبْهَةٍ.
ج - الدَّعْوَى الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ الْمُشْبِهَةِ وَالْبَعِيدَةِ، فَتُسْمَعُ مِنْ مُدَّعِيهَا، وَيُمَكَّنُ مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَا فِيهِ مَعَرَّةٌ.
وَأَمَّا الدَّعْوَى بِمَا فِيهِ مَعَرَّةٌ عَلَى غَيْرِ لاَئِقٍ بِهِ فَلاَ يَمِينَ فِيهَا. (1)
فَابْنُ الْحَاجِبِ كَمَا يَدُل النَّصُّ أَعْلاَهُ يَعْتَبِرُ الْحِيَازَةَ بِشُرُوطِهَا، كَالشَّهَادَةِ الْقَاطِعَةِ الَّتِي تُثْبِتُ الْحَقَّ لِصَاحِبِهَا بِدُونِ يَمِينٍ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَدَعْوَى الْقَائِمِ (الْمُدَّعِي) بَاطِلَةٌ مِنْ أَصْلِهَا، وَطُول الْمُدَّةِ كَافٍ فِي إِثْبَاتِ الْحَائِزِ لِشَهَادَةِ الْعُرْفِ، وَابْنُ الْحَاجِبِ يَعْتَبِرُ الْعُرْفَ كَشَاهِدَيْنِ.
16 - وَذَهَبَ ابْنُ رُشْدٍ إِلَى التَّفْصِيل، فَقَال: إِنَّ
__________
(1) نفس المرجع ج 3 كراس 28 ص6.(18/285)
الدَّعْوَى عَلَى الْحَائِزِ تَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ، وَلِكُل قِسْمٍ حُكْمُهُ:
1 - أَنْ لاَ تَتَأَيَّدَ دَعْوَى الْمُدَّعِي عَلَى الْحَائِزِ بِبَيِّنَةٍ وَلاَ إِقْرَارٍ مِنَ الْحَائِزِ، وَلَمْ تَتَضَمَّنِ الدَّعْوَى الْوَجْهَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ بِهِ الْحَائِزُ، وَكَانَتْ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ فَهَذِهِ الدَّعْوَى مِنْ أَصْلِهَا لاَ تُوجِبُ سُؤَال الْحَائِزِ وَلاَ تَلْزَمُهُ الْيَمِينُ لِرَدِّ دَعْوَى الْمُدَّعِي.
2 - مِثْل الصُّورَةِ الأُْولَى إِلاَّ أَنَّ الْقَائِمَ يَدَّعِي أَنَّ الْحَائِزَ إِنَّمَا كَانَ يَتَصَرَّفُ فِي الْحَوْزِ كِرَاءً، أَوْ إِسْكَانًا، أَوْ إِعَارَةً، فَتَجِبُ يَمِينُ الْحَائِزِ لِرَدِّ دَعْوَى الْمُدَّعِي.
3 - أَنْ يَقُومَ الْقَائِمُ قَبْل أَنْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْحِيَازَةِ وَلَمْ يُؤَيِّدْ دَعْوَاهُ فَتَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى الْحَائِزِ.
4 - أَنْ تَتَأَيَّدَ دَعْوَى الْمُدَّعِي بِبَيِّنَةٍ، أَوْ بِإِقْرَارِ الْحَائِزِ بَعْدَ أَمَدِ الْحِيَازَةِ، وَهُنَا يُسْأَل الْحَائِزُ عَنِ الْوَجْهِ الَّذِي صَارَ بِهِ إِلَيْهِ الْمَحُوزُ، فَإِنْ بَيَّنَ وَجْهًا قُبِل مَعَ يَمِينِهِ، وَتَسْقُطُ دَعْوَى الْمُدَّعِي سَوَاءٌ أَذَكَرَ أَنَّهُ صَارَ إِلَيْهِ بِشِرَاءٍ مِنَ الْقَائِمِ، أَوْ مِنْ مُوَرِّثِهِ، أَوْ بِهِبَةٍ، أَوْ بِصَدَقَةٍ مِنْهُ، وَنَقَل ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُول بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ ادِّعَاءِ الشِّرَاءِ وَادِّعَاءِ التَّبَرُّعِ فَقَدْ سُئِل عَنِ الَّذِي يَكُونُ بِيَدِهِ الْمَسْكَنُ أَوِ الأَْرْضُ فَيُقِيمُ رَجُلٌ عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّهُ مَسْكَنُهُ أَوْ أَرْضُهُ، أَوْ يُقِرُّ لَهُ بِذَلِكَ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ، وَيَدَّعِي الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، أَوْ وَهَبَهُ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلاَ يَأْتِي بِبَيِّنَةٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دَعْوَاهُ. قَال ابْنُ الْقَاسِمِ: الْقَوْل قَوْل(18/285)
الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ، إِذَا كَانَ قَدْ حَازَهُ الزَّمَانُ الَّذِي يُعْلَمُ فِي مِثْلِهِ أَنْ قَدْ هَلَكَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْبَيْعِ مَعَ يَمِينِهِ، وَأَمَّا الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ وَالنُّزُول (أَيِ الإِْسْكَانُ) فَإِنِّي أَرَى أَنْ يَحْلِفَ صَاحِبُ الْمَنْزِل بِاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ مَا وَهَبَ وَلاَ تَصَدَّقَ وَلاَ أَنْزَل وَلاَ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إِلاَّ عَلَى وَجْهِ الْتِمَاسِ الرِّفْقِ بِهِ. (1) فَيُرَدُّ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يَدْفَعَ قِيمَةَ مَا أَحْدَثَ عَلَيْهِ نَقْضًا إِنْ أَحَبَّ، وَإِنْ أَبَى أَسْلَمَ إِلَيْهِ نَقْضَهُ مَقْلُوعًا، وَوَجْهُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالتَّبَرُّعِ أَنَّ الأَْصْل فِي نَقْل الأَْمْلاَكِ هُوَ الْبَيْعُ، وَأَمَّا التَّبَرُّعُ فَنَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْبَيْعِ فَضَعُفَتْ دَعْوَى مُدَّعِيهِ.
وَإِذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنَ الْحَائِزِ وَصَادَقَهُ الْحَائِزُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُ ادَّعَى الإِْقَالَةَ بَعْدَ الْبَيْعِ فَيُصَدَّقُ الْحَائِزُ بِيَمِينِهِ، قَال ابْنُ عَاصِمٍ:
وَإِنْ يَكُنْ مُدَّعِيًا إِقَالَةً
فَمَعَ يَمِينِهِ لَهُ الْمَقَالَةُ
الْحِيَازَةُ بَيْنَ الأَْجَانِبِ الشُّرَكَاءِ:
17 - حُكْمُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ كَحُكْمِ الْمَرْتَبَةِ السَّابِقَةِ فِي كُل التَّفْصِيلاَتِ، إِلاَّ أَنَّ الْحِيَازَةَ لاَ تَكُونُ مُؤَثِّرَةً إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي، أَعْنِي الْغَرْسَ وَالْقَلْعَ فِي الأَْشْجَارِ، وَالْبِنَاءَ وَالْهَدْمَ فِي الدُّورِ، وَكِرَاءَ الْحَيَوَانِ وَأَخْذَ أُجْرَةِ ذَلِكَ، أَمَّا لَوْ ضَعُفَتِ
__________
(1) البيان والتحصيل 11 / 186، والرهوني 7 / 517.(18/286)
الْحِيَازَةُ فَكَانَتْ بِالسُّكْنَى أَوِ الزِّرَاعَةِ أَوِ الاِسْتِخْدَامِ، فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ يَبْقَى عَلَى حَقِّهِ وَلَوْ مَضَتِ الْمُدَّةُ. (1)
وَرُوِيَ عَنْ مُطَرِّفٍ أَنَّ الشُّرَكَاءَ الأَْجَانِبَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِ الشُّرَكَاءِ، وَوَهَّنَ ابْنُ رُشْدٍ هَذَا الْقَوْل لأَِنَّ إِلْغَاءَ تَأْثِيرِ عَلاَقَةِ الشَّرِكَةِ فِي التَّسَامُحِ بَعِيدٌ، ثُمَّ رَجَّحَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الأَْشْرَاكِ الأَْجْنَبِيِّينَ حُكْمَ الْقَرَابَةِ مِنْ غَيْرِ أَهْل الْمِيرَاثِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِأَشْرَاكٍ وَهَذَا الاِخْتِيَارُ يُبَيِّنُهُ الْبَنْدُ التَّالِي.
الْحِيَازَةُ بَيْنَ الأَْقَارِبِ غَيْرِ الشُّرَكَاءِ، وَالأَْقَارِبِ الشُّرَكَاءِ:
18 - الْحِيَازَةُ بَيْنَ الأَْقَارِبِ غَيْرِ الشُّرَكَاءِ، وَالأَْقَارِبِ الشُّرَكَاءِ، حَصَّل ابْنُ رُشْدٍ فِي هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ ثَلاَثَةَ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: أَنَّ الْحِيَازَةَ بَيْنَهُمْ إِذَا كَانَتْ بِالْهَدْمِ وَالْبُنْيَانِ وَاسْتَمَرَّتْ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ، فَهِيَ قَاطِعَةٌ لِحُجَّةِ الْقَائِمِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا لاَ تَكُونُ حِيَازَةً بَيْنَهُمْ إِلاَّ فِيمَا جَاوَزَ الأَْرْبَعِينَ سَنَةً.
الثَّالِثُ: التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الأَْقَارِبِ الشُّرَكَاءِ وَغَيْرِ الشُّرَكَاءِ، فَغَيْرُ الشُّرَكَاءِ تَكْفِي مُدَّةُ السَّنَوَاتِ الْعَشْرِ مَعَ الْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ، وَالشُّرَكَاءُ لاَ بُدَّ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
__________
(1) الدسوقي على شرح الدردير 4 / 235.(18/286)
وَالْمُعْتَمَدُ مِنْ هَذِهِ الأَْقْوَال هُوَ الْقَوْل الثَّانِي. (1) يَقُول الزَّرْقَانِيُّ فِي تَحْلِيل قَوْل خَلِيلٍ: وَفِي الشَّرِيكِ الْقَرِيبِ مَعَ الْهَدْمِ وَالْبُنْيَانِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَ كُلٍّ قَوْلاَنِ، أَحَدُهُمَا: عَشْرُ سِنِينَ، وَالثَّانِي: زِيَادَةٌ عَلَى أَرْبَعِينَ عَامًا مَعَهُمَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. (2)
وَذَلِكَ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَدَاوَةٌ بَيْنَ الأَْقَارِبِ شُرَكَاءَ كَانُوا أَوْ لاَ، أَمَّا إِذَا حَصَلَتْ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الأَْجَانِبِ السَّابِقُ. يَقُول ابْنُ عَاصِمٍ.
وَالأَْقْرَبُونَ حَوْزُهُمْ مُخْتَلِفٌ
بِحَسَبِ اعْتِمَارِهِمْ يَخْتَلِفُ
فَإِنْ يَكُنْ بِمِثْل سُكْنَى الدَّارِ
وَالزَّرْعِ لِلأَْرْضِ وَالاِعْتِمَارِ
فَهُوَ بِمَا يَجُوزُ الأَْرْبَعِينَ
وَذُو تَشَاجُرٍ كَالأَْبْعَدِينَ (3)
وَمِثْلُهُ مِمَّا إِذَا كَانَ عُرْفُ الْبَلَدِ عَدَمَ التَّسَامُحِ. ذَكَرَهُ ابْنُ سَلَمُونَ فِي وَثَائِقِهِ. (4)
الْحِيَازَةُ بَيْنَ الأَْبِ وَابْنِهِ:
19 - بِمَا أَنَّ التَّسَامُحَ بَيْنَ الأَْبِ وَابْنِهِ مِمَّا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ فِي الأَْقْطَارِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَإِنَّ حِيَازَةَ أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ إِنْ كَانَتْ مِنَ النَّوْعِ الأَْوَّل فَهِيَ غَيْرُ
__________
(1) البيان والتحصيل 11 / 187.
(2) شرح عبد الباقي الزرقاني 7 / 226.
(3) حاشية الشيخ المهدي 3 / 30.
(4) وثائق ابن سلمون 2 / 43.(18/287)
مُؤَثِّرَةٍ، وَلِلْقَائِمِ مِنْهُمَا الْحَقُّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِدُونِ تَحْدِيدِ أَمَدٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي، أَعْنِي الْهَدْمَ، أَوِ الْبِنَاءَ، أَوِ الْغَرْسَ، أَوِ الإِْيجَارَ، وَقَبَضَ الأُْجْرَةَ فَلاَ تَكُونُ الْحِيَازَةُ مُؤَثِّرَةً إِلاَّ إِذَا طَال أَمَدُهَا طُولاً تَهْلِكُ فِيهِ الْبَيِّنَاتُ، وَيَنْقَطِعُ الْعِلْمُ بِحَقِيقَةِ مَا يَدَّعِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا. فَإِذَا بَلَغَتِ الْحِيَازَةُ مِثْل هَذَا الطُّول، انْقَطَعَتْ حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَقُضِيَ لِلْحَائِزِ الْمُدَّعِي الْمِلْكِيَّةَ - وَلَمْ يُحَدِّدِ الزَّرْقَانِيُّ الْمُدَّةَ بِأَجَلٍ وَإِنَّمَا رَبَطَهَا بِسِنِّ الشُّهُودِ - وَنُقِل عَنْ مُخْتَصَرِ الْمُتَيْطِيِّ، أَنَّهُ ذَكَرَ فِي مَحَلٍّ عِشْرِينَ سَنَةً، وَفِي مَحَلٍّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ اسْتُشْكِل ذَلِكَ بِأَنَّ الأَْقَارِبَ بِغَيْرِ عَلاَقَةِ الْبُنُوَّةِ وَالأُْبُوَّةِ تَكُونُ الْحِيَازَةُ بَيْنَهُمْ بِمَا يُجَاوِزُ الأَْرْبَعِينَ، فَكَيْفَ تَكُونُ بَيْنَ الأَْبِ وَابْنِهِ دُونَ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْل بِعِشْرِيْنَ سَنَةً، أَوْ كَيْفَ تَكُونُ مُسَاوِيَةً عَلَى الْقَوْل بِأَرْبَعِينَ. (1)
وَحَدَّدَ الدَّرْدِيرُ فِي شَرْحِهِ عَلَى خَلِيلٍ أَقَل الْمُدَّةِ بِسِتِّينَ سَنَةً بَيْنَ الاِبْنِ وَأَبِيهِ. (2)
الْحِيَازَةُ بَيْنَ الأَْخْتَانِ وَالأَْصْهَارِ وَالْمَوَالِي:
20 - وَيَشْمَل الْمَوْلَى الأَْعْلَى وَالأَْسْفَل إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمْ قَرَابَةٌ، وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ كُلُّهَا لاِبْنِ الْقَاسِمِ: الأَْوَّل: أَنَّهُمْ كَالأَْقَارِبِ فَلاَ تَحْصُل الْحِيَازَةُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ مَعَ الطُّول
__________
(1) الزرقاني 7 / 226.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 236.(18/287)
جِدًّا، بِأَنْ تَزِيدَ مُدَّتُهَا عَلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً سَوَاءٌ كَانَ التَّصَرُّفُ بِالْهَدْمِ وَالْبُنْيَانِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، أَوْ كَانَ بِالاِسْتِغْلاَل بِالْكِرَاءِ، أَوِ الاِنْتِفَاعِ بِنَفْسِهِ بِسُكْنَى أَوِ ازْدِرَاعٍ. وَقِيل إِنَّهُمْ كَالأَْجَانِبِ غَيْرِ الشُّرَكَاءِ فَيَكْفِي فِي الْحِيَازَةِ عَشْرُ سِنِينَ مَعَ التَّصَرُّفِ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ بِالْهَدْمِ، أَوِ الْبِنَاءِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ كُلٍّ مِنْهُمَا، أَوِ بِالإِْجَارَةِ أَوْ بِالاِسْتِغْلاَل بِنَفْسِهِ بِسُكْنَى أَوِ ازْدِرَاعٍ، وَقِيل كَالأَْجَانِبِ الشُّرَكَاءِ، فَيَكْفِي فِي الْحِيَازَةِ عَشْرُ سِنِينَ مَعَ التَّصَرُّفِ بِالْهَدْمِ، أَوِ الْبِنَاءِ، وَمَا يَقُومُ مَقَامَ كُلٍّ، لاَ بِاسْتِغْلاَلٍ أَوْ سُكْنَى أَوِ ازْدِرَاعٍ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ الأَْصْهَارِ قَرَابَةٌ يَجْرِي فِيهِمْ مَا يَجْرِي فِي الأَْقَارِبِ (1) .
الْحِيَازَةُ فِي غَيْرِ الْعَقَارِ فِي الْمَرَاتِبِ الْخَمْسَةِ.
21 - سَبَقَ أَنَّ الْحِيَازَةَ بَيْنَ الأَْجَانِبِ فِي الْمَنْقُولاَتِ أَقَل مُدَّةٍ مِنَ الرِّبَاعِ وَالْعَقَارَاتِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَإِنَّ حِيَازَةَ الْمَنْقُولاَتِ لاَ تَخْتَلِفُ عَنْ حِيَازَةِ الْعَقَارَاتِ، يَقُول خَلِيلٌ: وَإِنَّمَا تَفْتَرِقُ الدَّارُ مِنْ غَيْرِهَا فِي حِيَازَةِ الأَْجْنَبِيِّ، وَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّ الْحِيَازَةَ بَيْنَ الأَْقَارِبِ لاَ تَفْتَرِقُ فِيهَا حِيَازَةُ الْعَقَارِ عَنْ حِيَازَةِ الْمَنْقُول فَلاَ بُدَّ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعِينَ عَامًا، وَالرَّاجِحُ أَنَّ الْمَنْقُول كَالْعُرُوضِ الَّتِي تَطُول مُدَّتُهَا كَالنُّحَاسِ وَالْبُسُطِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُسْتَعْمَل، فَيَكْفِي
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 236.(18/288)
فِيهَا الْعَشْرُ سِنِينَ بِخِلاَفِ مَا لاَ تَطُول مُدَّتُهَا كَالثِّيَابِ تُلْبَسُ فَيَنْبَغِي أَقَل مِنْ ذَلِكَ بِالاِجْتِهَادِ (1) .
وَيُوَضِّحُ الزَّرْقَانِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لاَ كَثِيَابٍ مَعَ لُبْسٍ فَيَنْبَغِي حِيَازَتُهُ دُونَ تِلْكَ الْمُدَّةِ لِعَدَمِ بَقَائِهِ فِيهَا فَيَبْعُدُ تَحْدِيدُهُ بِذَلِكَ (2) .
التَّصَرُّفُ مِنَ النَّوْعِ الثَّالِثِ:
22 - سَبَقَ أَنَّ التَّصَرُّفَ بِسَبَبِ الْحِيَازَةِ أَنْوَاعٌ: وَأَنَّ أَقْوَى الأَْنْوَاعِ هُوَ التَّصَرُّفُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالنُّحْل، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُفَوِّتَةِ عَنِ الْمَالِكِ حُقُوقَ الْمِلْكِيَّةِ، وَهَذَا التَّفْوِيتُ مِنَ الْحَائِزِ لاَ يَخْلُو وَضْعُهُ، إِمَّا أَنْ يَفُوتَ الْكُل، أَوِ الْبَعْضُ، فَإِنْ فَوَّتَ الْكُل فَلَهُ أَحْوَالٌ.
أ - الْحَالَةُ الأُْولَى: أَنْ يَفُوتُ الْحَائِزُ بِالْبَيْعِ بِحُضُورِ الْمَحُوزِ عَنْهُ فَيَعْتَرِضَ عَلَى الْبَيْعِ فَلاَ يَنْفُذَ الْبَيْعُ.
ب - الثَّانِيَةُ: أَنْ يَسْكُتَ وَقْتَ مَجْلِسِ الْبَيْعِ بِدُونِ عُذْرٍ ثُمَّ يَقُومَ عَقِبَ الْمَجْلِسِ مُطَالِبًا بِحَقِّهِ فَيَنْفُذُ الْبَيْعُ وَيَسْتَحِقُّ الثَّمَنَ، وَإِنْ سَكَتَ حَتَّى مَضَى الْعَامُ وَنَحْوُهُ نَفَذَ الْبَيْعُ وَاسْتَحَقَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ مَعَ يَمِينِهِ فِي بَيَانِ الْوَجْهِ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ مِنْ شِرَاءٍ أَوْ مُقَاسَمَةٍ.
ج - الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لاَ يَكُونَ حَاضِرًا مَجْلِسَ الْبَيْعِ فَيَعْلَمَ بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَيَقُومَ بِمُجَرَّدِ مَا يَبْلُغُهُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 226.
(2) الزرقاني 7 / 227.(18/288)
الْخَبَرُ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ، إِنْ شَاءَ أَنْفَذَ الْبَيْعَ وَأَخَذَ الثَّمَنَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْبَيْعَ.
د - الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ لاَ يَكُونَ حَاضِرًا مَجْلِسَ الْعَقْدِ فَيَعْلَمَ بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَلاَ يَقُومَ إِلاَّ بَعْدَ الْعَامِ وَنَحْوِهِ، فَالْبَيْعُ نَافِذٌ وَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ الثَّمَنُ.
هـ - الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ لاَ يَكُونَ حَاضِرًا وَيَبْلُغُهُ الْخَبَرُ وَيَسْكُتُ حَتَّى تَمْضِيَ مُدَّةُ الْحِيَازَةِ فَلاَ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا.
و الْحَالَةُ السَّادِسَةُ: أَنْ يَقَعَ التَّفْوِيتُ بِالْهِبَةِ أَوِ الصَّدَقَةِ، وَقَدْ كَانَ حَاضِرًا مَجْلِسَ التَّفْوِيتِ وَاعْتَرَضَ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ.
ز - الْحَالَةُ السَّابِعَةُ: مِثْل سَابِقَتِهَا إِلاَّ أَنَّهُ سَكَتَ فِي مَجْلِسِ التَّفْوِيتِ، ثُمَّ أَبْدَى اعْتِرَاضَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ.
ح - الْحَالَةُ الثَّامِنَةُ: أَنْ يَكُونَ غَائِبًا عَنْ مَجْلِسِ التَّفْوِيتِ فَيَقُومُ بِمُجَرَّدِ مَا يَبْلُغُهُ الْخَبَرُ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ.
ط - الْحَالَةُ التَّاسِعَةُ: أَنْ يَقُومَ بَعْدَ الْعَامِ وَنَحْوِهِ فَالْقَوْل لِلْحَائِزِ.
تَفْوِيتُ الْبَعْضِ وَلَهُ أَحْوَالٌ:
وَكَذَلِكَ إِذَا فَوَّتَ الْبَعْضَ لَهُ أَحْوَالٌ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: إِذَا فَوَّتَ الأَْكْثَرَ، فَمَا فَاتَ حُكْمُهُ عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ وَالْقَلِيل قَد(18/289)
اخْتُلِفَ فِيهِ، فَرَوَى يَحْيَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الأَْقَل يَتْبَعُ الأَْكْثَرَ يَسْتَحِقُّهُ الْحَائِزُ بِيَمِينِهِ، وَفُهِمَ مِنْ كَلاَمِ سَحْنُونٍ أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ لاَ يَرَى أَنَّ الأَْقَل تَبَعٌ لِلأَْكْثَرِ، فَيَكُونُ لِلْمَحُوزِ عَلَيْهِ حَقُّهُ بَعْدَ يَمِينِهِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا فَوَّتَ الأَْقَل فَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ رِوَايَتَانِ أَنَّ الأَْقَل قَدْ تَمَّتْ حِيَازَتُهُ وَيَبْقَى الأَْكْثَرُ عَلَى حَالِهِ يُطَبَّقُ فِيهِ مَقَايِيسُ الْحِيَازَةِ السَّابِقَةِ، وَرُوِيَ أَنَّ الأَْقَل يَكُونُ تَبَعًا لِلأَْكْثَرِ فَلاَ يَرْتَفِعُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ وَيَأْخُذُ الْمَحُوزُ عَلَيْهِ حَقَّهُ.
وَإِذَا فَوَّتَ النِّصْفَ فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ، وَلاَ يَكُونُ بَعْضُ ذَلِكَ تَبَعًا لِلْبَعْضِ (1) .
تَأَخُّرُ الْحِيَازَةِ عَنْ ثُبُوتِ حَقِّ الْمِلْكِيَّةِ:
23 - إِذَا مَلَكَ شَخْصٌ مَالاً بِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ وَتَأَخَّرَ حَوْزُهُ لَهُ فَهَل يُعْتَبَرُ هَذَا الْحَوْزُ مُسْقِطًا لِحَقِّهِ؟ أَنَّهُ إِنْ أَعْلَمَ وَجْهَ التَّمَلُّكِ وَتَأَخَّرَ الْحَوْزُ، فَإِنَّ الْمُدَّةَ لاَ تُؤَثِّرُ عَلَى الْمِلْكِيَّةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَبْطُل حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وَإِنْ قَدُمَ (2) وَبِنَاءً عَلَى هَذَا فَإِذَا عَيَّنَ لاِمْرَأَةٍ صَدَاقَهَا حُقُولاً فَقَبَضَتِ الْبَعْضَ مِنْ يَدِ الزَّوْجِ أَوْ وَالِدِهِ، وَبَقِيَ قِسْمٌ لَمْ تَقْبِضْهُ إِلَى أَنْ مَاتَ الْمَالِكُ الأَْصْلِيُّ وَالْيَدُ لِلزَّوْجِ
__________
(1) البيان والتحصيل 11 / 148 - 150 - 187 - 188.
(2) حديث: " لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم. . . ". أورده صاحب " مواهب الجليل " (6 / 230 نشر مكتبة النجاح) دون أن يعزوه إلى أي مصدر من مصادر الحديث، ولم نهتد إلى من أخرجه.(18/289)
فَإِنَّ طُول الْمُدَّةِ لاَ يُؤَثِّرُ فِي مُطَالَبَتِهَا بِحَقِّهَا وَتَسْتَحِقُّهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا فَوَّتَتْ صَدَاقَهَا بِمُفَوِّتٍ (1) . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِّ أَنَّ مَنْ قَامَ بِعَقْدِ شِرَاءٍ مِنَ الْمُقَّوَمِ عَلَيْهِ أَوْ مِنْ أَبِيهِ قَبْلَهُ، وَتَارِيخُ الشِّرَاءِ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَقَال لَمْ يَعْلَمْ بِشِرَاءِ أَبِيهِ وَلاَ جَدِّهِ إِلَى الآْنَ فَلْيَحْلِفْ عَلَى ذَلِكَ وَيَأْخُذُ الأَْمْلاَكَ. اهـ. عَلَّقَ عَلَيْهِ الرَّهُونِيُّ وَلاَ يَعْتَرِضُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ رُسُومَ الأَْشْرِيَةِ لاَ يُنْزَعُ بِهَا مِنْ يَدِ حَائِزٍ، لأَِنَّ مَحَل ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَقْدُ الشِّرَاءِ مِنَ الْمُقَوَّمِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ عِلَّةَ عَدَمِ الاِنْتِزَاعِ بِعُقُودِ الأَْشْريَةِ أَنَّ الإِْنْسَانَ قَدْ يَبِيعُ مَا لاَ يَمْلِكُ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةً إِذَا كَانَ الْمُقَوَّمُ عَلَيْهِ هُوَ الْبَائِعَ، كَانَ رَسْمُ الشِّرَاءِ مُؤَيِّدًا لِلْقَائِمِ تَأْيِيدًا يُوجِبُ رَفْعَ يَدِ الْحَائِزِ، وَكَذَلِكَ إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْحَقِّ وَلَمْ يَحُزِ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ حَقَّهُ، فَإِنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ لاَ يَنْتَفِعُ بِطُول الْحِيَازَةِ، وَالْقَائِمُ يَكُونُ عَلَى حَقِّهِ مَتَى قَامَ بِهِ. وَوَرَثَةُ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَتِهِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْحِيَازَةَ لاَ يَنْتَفِعُ بِهَا إِلاَّ مَعَ جَهْل أَصْل الدُّخُول فِيهَا، وَالطُّول الْمَذْكُورُ قِيل: عِشْرُونَ سَنَةً عَلَى مَا وَقَعَ فِي سَمَاعِ عِيسَى فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ، وَحَدَّهُ ابْنُ حَبِيبٍ خَمْسِينَ سَنَةً وَحَكَاهُ عَنْ مُطَرِّفٍ وَأَصْبَغَ وَدَقَّقَ ابْنُ رُشْدٍ بِأَنَّ مَحَل ذَلِكَ
__________
(1) البيان والتحصيل 11 / 189، ومواهب الجليل 6 / 230.(18/290)
إِذَا ادَّعَى الْحَائِزُ بَعْدَ طُول الْمُدَّةِ أَنَّهُ صَارَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِوَجْهٍ عَيَّنَهُ مِمَّا يَصِحُّ بِهِ انْتِقَال الأَْمْلاَكِ، وَأَمَّا طُول بَقَائِهِ وَحْدَهُ بِيَدِهِ فَلاَ يُعْتَبَرُ نَاقِلاً لِلْمِلْكِ (1) .
الْحِيَازَةُ كَسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِيَّةِ:
24 - تَكُونُ الْحِيَازَةُ مُفِيدَةً لِلْمِلْكِيَّةِ إِذَا كَانَ مَوْضُوعُهَا الْمَال الْمُبَاحَ الَّذِي لَيْسَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ وَقْتَ وَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ يَمْنَعُ مِنْ تَمَلُّكِهِ وَيَشْمَل أَنْوَاعًا أَرْبَعَةً:
أ - إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ (ر: إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ، وَأَرْضٌ) .
ب - الاِصْطِيَادُ (ر. صَيْدٌ) .
ج - أَخْذُ الْكَلأَِ وَنَحْوِهِ (ر: احْتِشَاشٌ، وَكَلأٌَ) .
د - أَخْذُ مَا يُوجَدُ فِي بَاطِنِ الأَْرْضِ (ر. مَعَادِنُ، رِكَازٌ) .
هَذَا، وَهُنَاكَ مَسَائِل أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِالْحِيَازَةِ، كَضَرُورَتِهَا فِي عَقْدِ الْهِبَةِ، وَعَدَمِ تَمَامِ التَّبَرُّعِ بِدُونِهَا، وَأَثَرُهَا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ وَتَعْيِينُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَثَرُ شَهَادَةِ السَّمَاعِ عَلَى الْحِيَازَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَسَائِل الْفِقْهِيَّةِ، تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (تَبَرُّعٌ، دَعْوَى، رَهْنٌ، شَهَادَةٌ، قَبْضٌ، هِبَةٌ) .
__________
(1) البيان والتحصيل 9 / 260.(18/290)
حَيْضٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَيْضُ لُغَةً مَصْدَرُ حَاضَ، يُقَال حَاضَ السَّيْل إِذَا فَاضَ، وَحَاضَتِ السَّمُرَةُ (1) إِذَا سَال صَمْغُهَا، وَحَاضَتِ الْمَرْأَةُ: سَال دَمُهَا.
وَالْمَرَّةُ حَيْضَةٌ، وَالْجَمْعُ حِيَضٌ، وَالْقِيَاسُ حَيْضَاتٌ.
وَالْحِيَاضُ: دَمُ الْحَيْضَةِ. وَالْحِيضَةُ بِالْكَسْرِ: الاِسْمُ، وَخِرْقَةُ الْحَيْضِ، هِيَ الْخِرْقَةُ الَّتِي تَسْتَثْفِرُ بِهَا الْمَرْأَةُ. وَكَذَلِكَ الْمَحِيضَةُ، وَالْجَمْعُ الْمَحَايِضُ.
وَفِي حَدِيثِ بِئْرِ بُضَاعَةَ: تُلْقَى فِيهَا الْمَحَايِضُ (2) .
وَالْمَرْأَةُ حَائِضٌ، لأَِنَّهُ وَصْفٌ خَاصٌّ. وَجَاءَ حَائِضَةٌ أَيْضًا بِنَاءً لَهُ عَلَى حَاضَتْ، وَجَمْعُ
__________
(1) السمرة شجرة يسيل منها الصمغ الأحمر.
(2) حديث بئر بضاعة: " تلقى فيها المحايض " أخرجه أبو داود (1 / 55 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي سعيد الخدري وفي إسناده جهالة إلا أنه صحيح لطرقه، كذا صححه الإمام أحمد وابن معين وغيرهما، كما في التلخيص لابن حجر (1 / 13 - ط شركة الطباعة الفنية) .(18/291)
الْحَائِضِ حُيَّضٌ وَحَوَائِضُ، وَجَمْعُ الْحَائِضَةِ حَائِضَاتٌ.
وَتَحَيَّضَتِ الْمَرْأَةُ قَعَدَتْ عَنِ الصَّلاَةِ أَيَّامَ حَيْضِهَا (1) .
وَلِلْحَيْضِ فِي الاِصْطِلاَحِ تَعْرِيفَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْغَالِبِ. وَفِيمَا يَلِي الْمَشْهُورُ مِنْهَا فِي كُل مَذْهَبٍ. فَقَدْ عَرَّفَهُ صَاحِبُ الْكَنْزِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِقَوْلِهِ: هُوَ دَمٌ يَنْفُضُهُ رَحِمُ امْرَأَةٍ سَلِيمَةٍ عَنْ دَاءٍ وَصِغَرٍ (2) .
وَقَال ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الْحَيْضُ دَمٌ يُلْقِيهِ رَحِمُ مُعْتَادٍ حَمْلُهَا دُونَ وِلاَدَةٍ (3) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: دَمُ جِبِلَّةٍ يَخْرُجُ مِنْ أَقْصَى رَحِمِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ بُلُوغِهَا عَلَى سَبِيل الصِّحَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ (4) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: دَمُ طَبِيعَةٍ يَخْرُجُ مَعَ الصِّحَّةِ
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط والمصباح المنير مادة: " حيض ".
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 188 - دار إحياء التراث العربي وتبيين الحقائق 1 / 54 دار المعرفة الطبعة الثانية. قال الشربيني الخطيب: قال الجاحظ في كتاب الحيوان: الذي يحيض من الحيوان أربعة: الآدميات، والأرنب، والضبع، والخفاش، وزاد عليه غيره أربعة أخرى، وهي الناقة، والكلبة، والوزغة، والحجرة: أي الأنثى من الخيل.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 168 دار الفكر، مواهب الجليل 1 / 364، 367 - دار الفكر 1978م.
(4) مغني المحتاج 1 / 108 - دار إحياء التراث العربي، نهاية المحتاج 1 / 323 - مصطفى البابي الحلبي 1967م.(18/291)
مِنْ غَيْرِ سَبَبِ وِلاَدَةٍ مِنْ قَعْرِ الرَّحِمِ يَعْتَادُ أُنْثَى إِذَا بَلَغَتْ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ (1) .
وَلِلْحَيْضِ أَسْمَاءٌ مِنْهَا: الطَّمْثُ، وَالْعِرَاكُ، وَالنِّفَاسُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الطُّهْرُ:
2 - الطُّهْرُ لُغَةً: النَّقَاءُ مِنَ الدَّنَسِ وَالنَّجَسِ فَهُوَ نَقِيضُ النَّجَاسَةِ وَنَقِيضُ الْحَيْضِ وَالْجَمْعُ أَطْهَارٌ.
وَطَهُرَتِ الْمَرْأَةُ، وَهِيَ طَاهِرٌ: انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ وَرَأَتِ الطُّهْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَتْ قِيل: تَطَهَّرَتْ وَاطَّهَرَتْ. وَالْمَرْأَةُ طَاهِرٌ مِنَ الْحَيْضِ، وَطَاهِرَةٌ مِنَ النَّجَاسَةِ وَمِنَ الْعُيُوبِ (3)
وَالطُّهْرُ شَرْعًا خِلاَفُ الْحَيْضِ (4) . قَال الْبِرْكَوِيُّ: الطُّهْرُ الْمُطْلَقُ مَا لاَ يَكُونُ حَيْضًا وَلاَ نِفَاسًا (5) .
فَالطُّهْرُ فِي بَابِ الْحَيْضِ أَخَصُّ مِنَ الطُّهْرِ فِي اللُّغَةِ.
ب - الْقَرْءُ:
3 - الْقُرْءُ وَالْقُرْءُ: الْحَيْضُ، وَالطُّهْرُ، فَهُوَ مِنَ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 196 - عالم الكتب 1983م.
(2) مغني المحتاج 1 / 108 دار إحياء التراث العربي، نهاية المحتاج 1 / 323 مصطفى البابي الحلبي 1967 م.
(3) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " طهر ".
(4) الكليات 3 / 154 منشورات وزارة الثقافة - دمشق 1976 م، المغرب 295 دار الكتاب العربي.
(5) مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 75 دار سعادت 1325هـ.(18/292)
الأَْضْدَادِ. وَالْجَمْعُ أَقْرَاءٌ وَقُرُوءٌ وَأَقْرُؤٌ وَهُوَ فِي الأَْصْل اسْمٌ لِلْوَقْتِ. قَال الشَّافِعِيُّ: الْقُرْءُ اسْمٌ لِلْوَقْتِ. فَلَمَّا كَانَ الْحَيْضُ يَجِيءُ لِوَقْتٍ، وَالطُّهْرُ يَجِيءُ لِوَقْتٍ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الأَْقْرَاءُ حَيْضًا وَأَطْهَارًا. وَالْقُرْءُ عِنْدَ أَهْل الْحِجَازِ الطُّهْرُ. وَعِنْدَ أَهْل الْعِرَاقِ الْحَيْضُ (1) .
ج - الاِسْتِحَاضَةُ:
4 - الاِسْتِحَاضَةُ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْحَيْضِ، وَهِيَ لُغَةً: أَنْ يَسْتَمِرَّ بِالْمَرْأَةِ خُرُوجُ الدَّمِ بَعْدَ أَيَّامِ حَيْضِهَا الْمُعْتَادِ، يُقَال: اسْتُحِيضَتِ الْمَرْأَةُ أَيِ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ بَعْدَ أَيَّامِهَا، فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ (2) .
وَشَرْعًا: سَيَلاَنُ الدَّمِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِهِ الْمُعْتَادَةِ مِنْ مَرَضٍ، وَفَسَادٍ مِنْ عِرْقٍ يُسَمَّى (الْعَاذِل) .
قَال الْبِرْكَوِيُّ فِي رِسَالَةِ الْحَيْضِ: الاِسْتِحَاضَةُ: دَمٌ وَلَوْ حُكْمًا - لِيَدْخُل الأَْلْوَانُ - خَارِجٌ مِنْ فَرْجٍ دَاخِلٍ لاَ عَنْ رَحِمٍ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَعَلاَمَتُهُ أَنْ لاَ رَائِحَةَ لَهُ، وَدَمُ الْحَيْضِ مُنْتِنُ الرَّائِحَةِ. وَيُسَمُّونَ دَمَ الاِسْتِحَاضَةِ دَمًا فَاسِدًا، وَدَمَ الْحَيْضِ دَمًا صَحِيحًا (3) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " قرء "، الكليات 4 / 52، المغرب 375.
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " حيض ".
(3) مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 74 دار سعادت 1325هـ، والقوانين الفقهية 56 دار العلم للملايين 1979 م، مغني المحتاج 1 / 108 دار إحياء التراث، كشاف القناع 1 / 196 عالم الكتب 1983 م.(18/292)
د - النِّفَاسُ:
5 - النِّفَاسُ لُغَةً: وِلاَدَةُ الْمَرْأَةِ إِذَا وَضَعَتْ، فَهِيَ نُفَسَاءُ، وَنُفِسَتِ الْمَرْأَةُ، وَنَفِسَتْ بِالْكَسْرِ، نِفَاسًا وَنَفَاسَةً وَنَفَاسًا وَلَدَتْ فَهِيَ نُفَسَاءُ وَنَفُسَاءُ وَنَفَسَاءُ.
قَال ثَعْلَبٌ: النُّفَسَاءُ الْوَالِدَةُ وَالْحَامِل وَالْحَائِضُ.
يُقَال: نَفِسَتِ الْمَرْأَةُ تَنْفَسُ، بِالْفَتْحِ: إِذَا حَاضَتْ. وَمِنْهُ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجِعَةٌ فِي خَمِيصَةٍ إِذْ حِضْتُ، فَانْسَلَلْتُ، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حَيْضَتِي، قَال: أَنُفِسْتِ؟ (1) أَرَادَ: أَحِضْتِ؟ وَنُقِل عَنِ الأَْصْمَعِيِّ نُفِسَتْ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُول أَيْضًا. قَال صَاحِبُ الْمِصْبَاحِ: وَلَيْسَ بِمَشْهُورٍ فِي الْكُتُبِ فِي الْحَيْضِ، وَلاَ يُقَال فِي الْحَيْضِ، نُفِسَتْ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُول (2) .
وَالنِّفَاسُ شَرْعًا: هُوَ الدَّمُ الْخَارِجُ عَقِبَ الْوَلَدِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: هُوَ الدَّمُ الْخَارِجُ بِسَبَبِ الْوِلاَدَةِ.
قَال النَّوَوِيُّ: النِّفَاسُ، عِنْدَ الْفُقَهَاءِ الدَّمُ
__________
(1) حديث أم سلمة: أنفست. أخرجه البخاري (الفتح 1 / 402 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 343 - ط الحلبي) .
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " نفس ".(18/293)
الْخَارِجُ بَعْدَ الْوَلَدِ. وَأَمَّا أَهْل اللُّغَةِ فَقَالُوا: النِّفَاسُ الْوِلاَدَةُ (1) .
فَالْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ مُغَايِرٌ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. كَمَا أَنَّ النِّفَاسَ بِمَعْنَى الْحَيْضِ هُوَ تَعْرِيفٌ لُغَوِيٌّ لاَ شَرْعِيٌّ.
فَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ مُخْتَلِفَانِ فِي الْمَفْهُومِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِتَعَلُّمِ أَحْكَامِ الْحَيْضِ:
(5 م) - يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ تَعَلُّمُ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الْحَيْضِ. وَعَلَى زَوْجِهَا أَوْ وَلِيِّهَا أَنْ يُعَلِّمَهَا مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْهَا إِنْ عَلِمَ، وَإِلاَّ أَذِنَ لَهَا بِالْخُرُوجِ لِسُؤَال الْعُلَمَاءِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مَنْعُهَا إِلاَّ أَنْ يَسْأَل هُوَ وَيُخْبِرَهَا فَتَسْتَغْنِيَ بِذَلِكَ. وَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ إِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهَا.
وَهُوَ مِنْ عِلْمِ الْحَال الْمُتَّفَقِ عَلَى فَرْضِيَّةِ تَعَلُّمِهِ.
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَمَعْرِفَةُ مَسَائِلِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُهِمَّاتِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِمَّا لاَ يُحْصَى مِنَ الأَْحْكَامِ، كَالطَّهَارَةِ، وَالصَّلاَةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالصَّوْمِ وَالاِعْتِكَافِ، وَالْحَجِّ، وَالْبُلُوغِ،
__________
(1) التعريفات ص 311 دار الكتاب العربي 1985 م، حاشية ابن عابدين 1 / 199 دار إحياء التراث العربي، والقوانين الفقهية 55 دار العلم للملايين، مغني المحتاج 1 / 108 دار إحياء التراث العربي، المجموع 2 / 519 المكتبة السلفية - المدينة المنورة، كشاف القناع 1 / 196 عالم الكتب 1983 م.(18/293)
وَالْوَطْءِ، وَالطَّلاَقِ وَالْعِدَّةِ وَالاِسْتِبْرَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْحْكَامِ. وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ، لأَِنَّ عِظَمَ مَنْزِلَةِ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ بِحَسَبِ مَنْزِلَةِ ضَرَرِ الْجَهْل بِهِ، وَضَرَرُ الْجَهْل بِمَسَائِل الْحَيْضِ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْجَهْل بِغَيْرِهَا فَيَجِبُ الاِعْتِنَاءُ بِمَعْرِفَتِهَا (1) .
أَثَرُ الْحَيْضِ عَلَى الأَْهْلِيَّةِ:
6 - صَرَّحَ الأُْصُولِيُّونَ بِأَنَّ الْحَيْضَ لاَ يُعْدِمُ أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ، وَلاَ أَهْلِيَّةَ الأَْدَاءِ، لِعَدَمِ إِخْلاَلِهِ بِالذِّمَّةِ، وَلاَ بِالْعَقْل، وَالتَّمْيِيزِ، وَقُدْرَةِ الْبَدَنِ. فَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ كَامِلَةُ الأَْهْلِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الشَّارِعُ قَدْ رَتَّبَ عَلَى الْحَيْضِ بَعْضَ الأَْحْكَامِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تَتَنَاسَبُ وَحَالَةَ الْمَرْأَةِ (2)
رُكْنُ الْحَيْضِ:
7 - صَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ لِلْحَيْضِ رُكْنًا، وَهُوَ بُرُوزُ الدَّمِ مِنَ الرَّحِمِ، أَيْ ظُهُورُ الدَّمِ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْفَرْجِ الدَّاخِل إِلَى الْفَرْجِ الْخَارِجِ، فَلَوْ نَزَل إِلَى الْفَرْجِ الدَّاخِل فَلَيْسَ بِحَيْضٍ وَبِهِ يُفْتَى.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَكْفِي الإِْحْسَاسُ بِهِ. فَلَوْ أَحَسَّتْ
__________
(1) البحر الرائق 1 / 199 المطبعة العلمية بالقاهرة، مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 70 دار سعادت 1325 هـ، مغني المحتاج 1 / 120 دار إحياء التراث العربي.
(2) تيسير التحرير 1 / 280 مصطفى البابي الحلبي 1350 هـ، كشف الأسرار 4 / 312 دار الكتاب العربي 1974 م.(18/294)
بِهِ فِي رَمَضَانَ قُبِيل الْغُرُوبِ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَهُ تَقْضِي صَوْمَ الْيَوْمِ عِنْدَهُ، لاَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَكَذَا إِذَا حَاذَى الدَّمُ حَرْفَ الْفَرْجِ الدَّاخِل وَلَمْ يَنْفَصِل عَنْهُ ثَبَتَ بِهِ الْحَيْضُ. أَمَّا إِذَا أَحَسَّتْ بِنُزُولِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ إِلَى حَرْفِ الْمَخْرَجِ فَلَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْحَيْضِ حَتَّى لَوْ مَنَعَتْ ظُهُورَهُ بِالشَّدِّ وَالاِحْتِشَاءِ.
وَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ لاَ يَأْبَاهُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى حَيْثُ إِنَّهُمْ يُعَرِّفُونَ الْحَيْضَ بِأَنَّهُ (دَمٌ يَخْرُجُ. .) لَكِنْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِانْتِقَال الْحَيْضِ مَا يَثْبُتُ بِخُرُوجِهِ (1) .
شُرُوطُ الْحَيْضِ:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُل دَمٍ يَخْرُجُ مِنَ الْمَرْأَةِ يَكُونُ حَيْضًا، بَل لاَ بُدَّ مِنْ شُرُوطٍ تَتَحَقَّقُ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ الدَّمُ الْخَارِجُ حَيْضًا، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْحَائِضِ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ:
(1) أَنْ يَكُونَ مِنْ رَحِمِ امْرَأَةٍ لاَ دَاءَ بِهَا. فَالْخَارِجُ مِنَ الدُّبُرِ لَيْسَ بِحَيْضٍ، وَكَذَا الْخَارِجُ مِنْ رَحِمِ الْبَالِغَةِ بِسَبَبِ دَاءٍ يَقْتَضِي خُرُوجَ دَمٍ بِسَبَبِهِ. وَقَدْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 189 دار إحياء التراث العربي، مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 73، 80، 81، الرسالة الرابعة دار سعادت 1320هـ، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 75 المطبعة الأميرية 1318 هـ، كشاف القناع 1 / 141 عالم الكتب 1983 م.(18/294)
زَادَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ كَلِمَةَ " وَلاَ حَبَلٍ " حَيْثُ إِنَّ الْحَامِل عِنْدَهُمْ لاَ تَحِيضُ.
(2) أَلاَ يَكُونُ بِسَبَبِ الْوِلاَدَةِ، فَالْخَارِجُ بِسَبَبِ الْوِلاَدَةِ دَمُ نِفَاسٍ لاَ حَيْضٍ.
(3) أَنْ يَتَقَدَّمَهُ نِصَابُ الطُّهْرِ وَلَوْ حُكْمًا. وَنِصَابُ الطُّهْرِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَثَلاَثَةَ عَشَرَ يَوْمًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَقَل مُدَّةٍ فَاصِلَةٍ بَيْنَ حَيْضَتَيْنِ أَيْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَبْلَهُ طَاهِرَةً خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْثَر عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَثَلاَثَةَ عَشَرَ يَوْمًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ حَتَّى يُعْتَبَرَ الدَّمُ بَعْدَهُ حَيْضًا، وَلَوْ كَانَ هَذَا الطُّهْرُ حُكْمِيًّا، كَمَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ مَشْغُولَةً بِدَمِ الاِسْتِحَاضَةِ فَإِنَّهَا طَاهِرَةٌ حُكْمًا.
(4) أَلاَّ يَنْقُصَ الدَّمُ عَنْ أَقَل الْحَيْضِ، حَيْثُ إِنَّ لِلْحَيْضِ مُدَّةً لاَ يَنْقُصُ عَنْهَا، فَإِذَا نَقَصَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِدَمِ حَيْضٍ. هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ حَدَّ لأَِقَلِّهِ بِالزَّمَانِ، وَأَقَلُّهُ دَفْعَةٌ بِالْمِقْدَارِ وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ.
(5) أَنْ يَكُونَ فِي أَوَانِهِ، وَهُوَ تِسْعُ سِنِينَ قَمَرِيَّةٍ، فَمَتَى رَأَتْ دَمًا قَبْل بُلُوغِ تِلْكَ السِّنِّ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا (1) ، وَإِذَا رَأَتْ دَمًا بَعْدَ سِنِّ الإِْيَاسِ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا أَيْضًا.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 189، حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 75 المطبعة الأميرية 1318 هـ، مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 73، 74 الرسالة الرابعة، حاشية الدسوقي 1 / 167، 168، الخرشي على خليل 1 / 204، مغني المحتاج 1 / 108، 109، كشاف القناع 1 / 196، 202، 203.(18/295)
أَلْوَانُ دَمِ الْحَيْضِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ، لأَِنَّهُ الأَْصْل فِيمَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ فِي زَمَنِ الإِْمْكَانِ، وَلأَِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ النِّسَاءُ يَبْعَثْنَ إِلَيْهَا بِالدُّرْجَةِ فِيهَا الْكُرْسُفُ فِيهِ الصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ: فَتَقُول لَهُنَّ: لاَ تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ (1) . تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنَ الْحَيْضِ.
وَالصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ: هُمَا شَيْءٌ كَالصَّدِيدِ. قَال الرَّمْلِيُّ: وَهُمَا لَيْسَ مِنْ أَلْوَانِ الدَّمِ، وَإِنَّمَا هُمَا كَالصَّدِيدِ. وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ بِأَنَّهُمَا مَاءَانِ لاَ دَمَانِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ أَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ لَيْسَتَا بِحَيْضٍ، لأَِنَّهُمَا لَيْسَتَا عَلَى لَوْنٍ، وَلِقَوْل أُمِّ عَطِيَّةَ كُنَّا لاَ نَعُدُّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ شَيْئًا (2) وَهَذَا قَوْل ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَيْضًا. قَال الدُّسُوقِيُّ: وَجَعَلَهُ الْمَازِرِيُّ وَالْبَاجِيُّ هُوَ الْمَذْهَبُ.
__________
(1) حديث عائشة: " لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. . . " أخرجه مالك في الموطأ (1 / 59 - ط الحلبي) .
(2) حديث أم عطية كنا لا نعد الصفرة والكدر بعد الطهر شيئا أخرجه البخاري (الفتح 1 / 426 - ط السلفية) دون قولها: " بعد الطهر ". وهو في أبي داود (1 / 215 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .(18/295)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُمَا لَيْسَا بِحَيْضٍ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ، لِقَوْل أُمِّ عَطِيَّةَ كُنَّا لاَ نَعُدُّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ بَعْدَ الطُّهْرِ شَيْئًا. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمَا حَيْضٌ. إِذَا رَأَتْهُمَا الْمُعْتَادَةُ بَعْدَ عَادَتِهَا، فَإِنَّهَا تَجْلِسُ أَيَّامَهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَتَسْتَظْهِرُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ أَلْوَانَ دَمِ الْحَيْضَةِ سِتَّةٌ، وَهِيَ السَّوَادُ وَالْحُمْرَةُ، وَالصُّفْرَةُ، وَالْخُضْرَةُ، وَالْكُدْرَةُ، وَالتُّرَبِيَّةُ قَالُوا: وَالْكُدْرَةُ مَا هُوَ كَالْمَاءِ الْكَدِرِ، التُّرَبِيَّةُ نَوْعٌ مِنَ الْكُدْرَةِ عَلَى لَوْنِ التُّرَابِ، وَالصُّفْرَةُ كَصُفْرِهِ الْقَزِّ، وَالتِّبْنِ، وَالسِّدْرِ عَلَى الاِخْتِلاَفِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُعْتَبَرَ حَال الرُّؤْيَةِ لاَ حَالَةُ التَّغَيُّرِ، كَمَا لَوْ رَأَتْ بَيَاضًا فَاصْفَرَّ بِالْيُبْسِ، أَوْ رَأَتْ حُمْرَةً أَوْ صُفْرَةً فَابْيَضَّتْ بِالْيُبْسِ، وَأَنْكَرَ أَبُو يُوسُفَ الْكُدْرَةَ فِي أَوَّل الْحَيْضِ دُونَ آخِرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ الْخُضْرَةَ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا حَيْضٌ مِنْ ذَوَاتِ الأَْقْرَاءِ دُونَ الآْيِسَةِ. وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ التُّرَبِيَّةِ - وَهُوَ الْمَاءُ الْمُتَغَيِّرُ دُونَ الصُّفْرَةِ - وَالتُّرَبِيَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُسَاوِي التُّرَبِيَّةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، حَيْثُ إِنَّهُمْ وَصَفُوا التُّرَبِيَّةَ بِأَنَّهَا دَمٌ فِيهِ غُبْرَةٌ تُشْبِهُ لَوْنَ التُّرَابِ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 192، حاشية الدسوقي 1 / 197، الخرشي على مختصر خليل 1 / 203، حواشي الشرواني وابن القاسم العبادي على تحفة المحتاج 1 / 400 دار صادر، مغني المحتاج 1 / 113، نهاية المحتاج 1 / 340، كشاف القناع 1 / 213.(18/296)
مُدَّةُ الْحَيْضِ:
السِّنُّ الَّتِي تَحِيضُ فِيهَا الْمَرْأَةُ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَقَلّ سِنٍّ تَحِيضُ لَهُ الْمَرْأَةُ تِسْعُ سِنِينَ قَمَرِيَّةٍ، لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْوُجُودِ وَالْعَادَةِ لأُِنْثَى حَيْضٌ قَبْلَهَا، وَلأَِنَّ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ وَلاَ ضَابِطَ لَهُ شَرْعِيًّا وَلاَ لُغَوِيًّا يُتْبَعُ فِيهِ الْوُجُودُ، قَال الشَّافِعِيُّ: أَعْجَل مَنْ سَمِعْتُ مِنَ النِّسَاءِ تَحِيضُ نِسَاءُ تِهَامَةَ، يَحِضْنَ لِتِسْعِ سِنِينَ - هَكَذَا سَمِعْتُ - وَرَأَيْتُ جَدَّةً لَهَا إِحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْبِلاَدِ الْحَارَّةِ وَالْبِلاَدِ الْبَارِدَةِ.
ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَل الْعِبْرَةُ بِأَوَّل التَّاسِعَةِ، أَوْ وَسَطِهَا، أَوْ آخِرِهَا.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي التِّسْعِ التَّقْرِيبُ لاَ التَّحْدِيدُ، فَيُغْتَفَرُ قَبْل تَمَامِهَا بِمَا لاَ يَسَعُ حَيْضًا وَطُهْرًا دُونَ مَا يَسَعهُمَا. فَيَكُونُ الدَّمُ الْمَرْئِيُّ فِيهِ حَيْضًا. بِخِلاَفِ الْمَرْئِيِّ فِي زَمَنٍ يَسَعُهُمَا. أَيْ إِنْ رَأَتِ الدَّمَ قَبْل تَمَامِ التِّسْعِ بِأَقَل مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا بِلَيَالِيِهَا فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِنْ رَأَتْهُ قَبْل تَمَامِ التِّسْعِ بِسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا بِلَيَالِيِهَا أَوْ أَكْثَر فَهُوَ لَيْسَ بِحَيْضٍ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ بِدُخُول التَّاسِعَةِ، وَآخَرُ بِمُضِيِّ نِصْفِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِتَمَامِ تِسْعٍ(18/296)
سِنِينَ. فَإِنْ رَأَتْ مِنَ الدَّمِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا وَقَدْ بَلَغَتْ هَذِهِ السِّنَّ حُكِمَ بِكَوْنِهِ حَيْضًا. وَثَبَتَتْ فِي حَقِّهَا أَحْكَامُ الْحَيْضِ كُلُّهَا (1) . قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَهِيَ امْرَأَةٌ (2) . وَرُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ (3) .
وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى فِي أَقَل سِنٍّ تَحِيضُ لَهُ الْمَرْأَةُ فَقِيل سِتٌّ، وَقِيل سَبْعٌ. وَقِيل اثْنَتَا عَشْرَةَ. وَقِيل لاَ يُحْكَمُ لِلدَّمِ بِأَنَّهُ حَيْضٌ إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي أَوَانِ الْبُلُوغِ بِمُقَدِّمَاتٍ وَأَمَارَاتٍ مِنْ نُفُورِ الثَّدْيِ وَنَبَاتِ شَعْرِ الْعَانَةِ، وَشَعْرِ الإِْبْطِ وَشَبَهِهِ. وَكُلُّهَا أَقْوَالٌ ضَعِيفَةٌ.
كَمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَكْبَرِ سِنٍّ تَحِيضُ فِيهِ الْمَرْأَةُ - وَيُسَمَّى بِسِنِّ الإِْيَاسِ، وَتُسَمَّى الْمَرْأَةُ آيِسَةً - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُحَدُّ بِمُدَّةٍ. قَال الْحَنَفِيَّةُ: بَل هُوَ أَنْ تَبْلُغَ مِنَ السِّنِّ مَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين1 / 189 دار إحياء التراث العربي، الفتاوى الهندية 1 / 36 المطبعة الأميرية 1310هـ، الخرشي على مختصر خليل 1 / 204 المطبعة العامرة 1316هـ، مواهب الجليل 1 / 367 دار الفكر 1978 م، حاشية الدسوقي 1 / 168 دار إحياء التراث، نهاية المحتاج 1 / 324 مصطفى البابي الحلبي 1967م، مغني المحتاج 1 / 108 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 1 / 202 عالم الكتب 1983 م.
(2) حديث: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة. أورده البيهقي (1 / 230 - ط دائرة المعارف العثمانية) ولم يذكر له إسنادا.
(3) الرواية المرفوعة من حديث ابن عمر أخرجها أبو نعيم الأصبهاني في " ذكر أخبار أصبهان " (2 / 373 - ط ليدن) ، وفي إسناده جهالة.(18/297)
لاَ تَحِيضُ مِثْلُهَا فِيهِ، فَإِذَا بَلَغَتْ هَذِهِ السِّنَّ وَانْقَطَعَ دَمُهَا حُكِمَ بِإِيَاسِهَا. فَإِذَا لَمْ تَبْلُغْهَا وَانْقَطَعَ دَمُهَا، أَوْ بَلَغَتْهَا وَالدَّمُ يَأْتِيهَا عَلَى الْعَادَةِ فَلَيْسَتْ بِآيِسَةٍ، لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ ذَلِكَ الْمُعْتَادُ، وَعَوْدُ الْعَادَةِ يُبْطِل الإِْيَاسَةَ.
وَقَدْ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ هَذَا بِأَنَّهُ تَرَاهُ سَائِلاً كَثِيرًا احْتِرَازًا عَمَّا إِذَا رَأَتْ بِلَّةً يَسِيرَةً وَنَحْوَهَا. وَقَيَّدُوهُ بِأَنْ يَكُونَ أَحْمَر، أَوْ أَسْوَد، فَلَوْ كَانَ أَصْفَرَ أَوْ أَخْضَر أَوْ تُرَبِيَّةً لاَ يَكُونُ حَيْضًا. وَبَعْضُهُمْ قَال: إِنَّهَا إِذَا كَانَتْ عَادَتُهَا قَبْل الإِْيَاسِ أَنْ يَكُونَ دَمُهَا أَصْفَرَ فَرَأَتْهُ كَذَلِكَ، أَوْ عَلَقًا فَرَأَتْهُ كَذَلِكَ كَانَ حَيْضًا. وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ هَذَا الْقَوْل. وَحَدَّ التُّمُرْتَاشِيُّ سِنَّ الإِْيَاسِ بِخَمْسِينَ سَنَةً، وَقَال: وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّل.
وَقَال الْحَصْكَفِيُّ: وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى فِي زَمَانِنَا. وَحَدَّهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِخَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتِ الدَّمَ الْخَالِصَ بَعْدَ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَإِنَّهُ حَيْضٌ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ خَالِصًا وَكَانَتْ عَادَتُهَا كَذَلِكَ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ حَدَّ لآِخِرِ سِنِّ الْحَيْضِ بَل هُوَ مُمْكِنٌ مَا دَامَتِ الْمَرْأَةُ حَيَّةً.
وَقَال الْمَحَامِلِيُّ: آخِرُهُ سِتُّونَ سَنَةً.
قَال الرَّمْلِيُّ: وَلاَ مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْل بِأَنَّهُ لاَ حَدَّ لآِخِرِهِ، وَالْقَوْل بِتَحْدِيدِهِ بِاثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً لأَِنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ حَتَّى لاَ يُعْتَبَرُ النَّقْصُ عَنْهُ.(18/297)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَقْوَالٌ لَخَصَّهَا الْعَدَوِيُّ بِقَوْلِهِ: بِنْتُ سَبْعِينَ سَنَةً لَيْسَ دَمُهَا بِحَيْضٍ، وَبِنْتُ خَمْسِينَ يُسْأَل النِّسَاءُ، فَإِنْ جَزَمْنَ بِأَنَّهُ حَيْضٌ أَوْ شَكَكْنَ فَهُوَ حَيْضٌ وَإِلاَّ فَلاَ، وَالْمُرَاهِقَةُ وَمَا بَعْدَهَا لِلْخَمْسِينَ يُجْزَمُ بِأَنَّهُ حَيْضٌ وَلاَ سُؤَال، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَكْثَر سِنٍّ تَحِيضُ فِيهِ الْمَرْأَةُ خَمْسُونَ سَنَةً، لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " إِذَا بَلَغَتِ الْمَرْأَةُ خَمْسِينَ سَنَةً خَرَجَتْ مِنْ حَدِّ الْحَيْضِ " وَقَالَتْ أَيْضًا: " لَنْ تَرَى فِي بَطْنِهَا وَلَدًا بَعْدَ الْخَمْسِينَ (1) .
وَجَاءَ فِي الإِْنْصَافِ نَقْلاً عَنِ الْمُغْنِي فِي الْعِدَدِ: وَإِنْ رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرَاهُ فِيهَا فَهُوَ حَيْضٌ فِي الصَّحِيحِ. وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِيَاسٌ) .
فَتْرَةُ الْحَيْضِ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَقَل فَتْرَةِ الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَقَل الْحَيْضِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ
__________
(1) حاشية ابن عابدين1 / 202 دار إحياء التراث العربي، الفتاوى الهندية 1 / 36 المطبعة الأميرية 1310 هـ، الخرشي على مختصر خليل 1 / 204، حواشي الشرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج 1 / 384 دار صادر، ونهاية المحتاج 1 / 325 مصطفى البابي الحلبي 1967 م، شرح روض الطالب 1 / 99 المكتبة الإسلامية، كشاف القناع 1 / 202 عالم الكتب 1983 م، الإنصاف 1 / 356، 357.(18/298)
بِلَيَالِيِهَا - وَقَدَّرُوهَا بِاثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَاعَةً، وَأَكْثَرُهُ عَشْرَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِيهَا مَقَالٌ يَرْتَفِعُ بِهَا الضَّعِيفُ إِلَى الْحَسَنِ. وَقَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: وَالْمُقَدَّرَاتُ الشَّرْعِيَّةُ مِمَّا لاَ تُدْرَكُ بِالرَّأْيِ، فَالْمَوْقُوفُ فِيهَا حُكْمُهُ الرَّفْعُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ لأَِقَلِّهِ بِالزَّمَانِ، وَلِذَلِكَ بَيَّنُوا أَقَلَّهُ فِي الْمِقْدَارِ وَهُوَ دَفْعَةٌ، قَالُوا: وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِبَادَةِ، وَأَمَّا فِي الْعِدَّةِ وَالاِسْتِبْرَاءِ فَلاَ بُدَّ مِنْ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ. وَأَمَّا أَكْثَرُهُ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ عِنْدَهُمْ بِوُجُودِ الْحَمْل وَعَدَمِهِ. فَأَكْثَرُ الْحَيْضِ لِغَيْرِ الْحَامِل خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا سَوَاءٌ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً أَوْ مُعْتَادَةً، غَيْرَ أَنَّ الْمُعْتَادَةَ - وَهِيَ الَّتِي سَبَقَ لَهَا حَيْضٌ وَلَوْ مَرَّةً - تَسْتَظْهِرُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ عَلَى أَكْثَرِ عَادَتِهَا إِنْ تَمَادَى بِهَا. فَإِذَا اعْتَادَتْ خَمْسَةً ثُمَّ تَمَادَى مَكَثَتْ ثَمَانِيَةً، فَإِنْ تَمَادَى فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ مَكَثَتْ أَحَدَ عَشَرَ. فَإِنْ تَمَادَى فِي الرَّابِعَةِ مَكَثَتْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَإِنْ تَمَادَى فِي مَرَّةٍ أُخْرَى مَكَثَتْ يَوْمًا وَلاَ تَزِيدُ عَلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ.
وَأَمَّا الْحَامِل - وَهِيَ عِنْدَهُمْ تَحِيضُ - فَأَكْثَرُ حَيْضِهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْشْهُرِ سَوَاءٌ كَانَتْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 189 دار إحياء التراث العربي، فتح القدير 1 / 142، 143 دار إحياء التراث العربي، الفتاوى الهندية 1 / 36 المطبعة الأميرية 1310هـ.(18/298)
مُبْتَدَأَةً أَوْ مُعْتَادَةً. قَال مَالِكٌ: لَيْسَ أَوَّل الْحَمْل كَآخِرِهِ، وَلِذَلِكَ كَثُرَتِ الدِّمَاءُ بِكَثْرَةِ أَشْهُرِ الْحَمْل.
فَإِذَا حَاضَتِ الْحَامِل فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ مِنْ حَمْلِهَا، أَوِ الرَّابِعِ، أَوِ الْخَامِسِ وَاسْتَمَرَّ الدَّمُ نَازِلاً عَلَيْهَا كَانَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ فِي حَقِّهَا عِشْرِينَ يَوْمًا، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ دَمُ عِلَّةٍ وَفَسَادٍ. وَإِذَا حَاضَتْ فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ مِنْ حَمْلِهَا، أَوِ الثَّامِنِ، أَوِ التَّاسِعِ مِنْهُ وَاسْتَمَرَّ الدَّمُ نَازِلاً عَلَيْهَا كَانَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ فِي حَقِّهَا ثَلاَثِينَ يَوْمًا. وَأَمَّا إِذَا حَاضَتْ فِي الشَّهْرِ السَّادِسِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الأَْشْهُرِ لاَ مَا قَبْلَهُ وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ شُيُوخِ أَفْرِيقِيَّةَ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا قَبْلَهُ وَهُوَ خِلاَفُ الْمُعْتَمَدِ.
وَإِذَا حَاضَتْ فِي الشَّهْرِ الأَْوَّل أَوِ الثَّانِي فَهِيَ كَالْمُعْتَادَةِ غَيْرِ الْحَامِل تَمْكُثُ عَادَتَهَا، وَالاِسْتِظْهَارُ وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ وَهُوَ الرَّاجِحُ. قَال ابْنُ يُونُسَ: الَّذِي يَنْبَغِي عَلَى قَوْل مَالِكٍ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ أَنْ تَجْلِسَ فِي الشَّهْرِ وَالشَّهْرَيْنِ قَدْرَ أَيَّامِهَا وَالاِسْتِظْهَارِ، لأَِنَّ الْحَمْل لاَ يَظْهَرُ فِي شَهْرٍ وَلاَ فِي شَهْرَيْنِ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهَا حَائِلٌ حَتَّى يَظْهَرَ الْحَمْل وَلاَ يَظْهَرُ إِلاَّ فِي ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ. وَالْقَوْل الثَّانِي هُوَ أَنَّ حُكْمَ الْحَيْضِ فِي الشَّهْرِ الأَْوَّل وَالثَّانِي حُكْمُ مَا بَعْدَهُ أَيِ الشَّهْرِ الثَّالِثِ وَهُوَ قَوْل(18/299)
مَالِكٍ الْمَرْجُوعُ عَنْهُ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَقَلّ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ لِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَقَل الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَلأَِنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ عَلَى الْحَيْضِ أَحْكَامًا، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ رَدَّهُ إِلَى الْعُرْفِ كَالْقَبْضِ وَالْحَرْزِ، وَقَدْ وُجِدَ حَيْضٌ مُعْتَادٌ يَوْمًا، وَلَمْ يُوجَدْ أَقَل مِنْهُ قَال عَطَاءٌ: (رَأَيْتُ مَنْ تَحِيضُ يَوْمًا) . وَقَال الشَّافِعِيُّ: رَأَيْتُ امْرَأَةً قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَزَل تَحِيضُ يَوْمًا لاَ تَزِيدُ. وَقَال أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ: كَانَ فِي نِسَائِنَا مَنْ تَحِيضُ يَوْمًا أَيْ بِلَيْلَتِهِ، لأَِنَّهُ الْمَفْهُومُ مِنْ إِطْلاَقِ الْيَوْمِ، وَهُمَا أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ سَاعَةً.
وَأَكْثَرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِلَيَالِيِهِنَّ، لِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ اسْتِحَاضَةٌ، وَأَقَل الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. وَقَال عَطَاءٌ: (رَأَيْتُ مَنْ تَحِيضُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا) وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: النِّسَاءُ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ. قِيل مَا نُقْصَانُ دِينِهِنَّ؟ قَال: تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لاَ تُصَلِّي (2) . وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 168 وما بعدها دار الفكر، الخرشي على مختصر خليل 1 / 204 وما بعدها المطبعة العامرة 1316هـ.
(2) نقل الزركشي في المعتبر (ص194 ط دار الأرقم) عن جماعة من الحفاظ منهم البيهقي أنه بهذا اللفظ لا أصل له، وإنما الذي رواه مسلم: " وتمكث ليالي لا تصلي وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين ". وحديث مسلم هو في صحيحه (1 / 87 الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.(18/299)
وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ غَالِبَ الْحَيْضِ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ (1) ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ لَمَّا سَأَلَتْهُ تَحِيضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ، أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي، فَإِذَا رَأَيْتِ أَنْ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَأْتِ فَصَلِّي أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، أَوْ ثَلاَثًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا، وَصُومِي وَصَلِّي، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُكِ، وَكَذَلِكَ فَافْعَلِي كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ وَكَمَا يَطْهُرْنَ لِمِيقَاتِ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ (2) .
أَحْوَال الْحَائِضِ:
12 - الْحَائِضُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُبْتَدَأَةً، أَوْ مُعْتَادَةً، أَوْ مُتَحَيِّرَةً.
فَالْمُبْتَدَأَةُ: هِيَ مَنْ كَانَتْ فِي أَوَّل حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، أَوْ هِيَ الَّتِي لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا حَيْضٌ قَبْل ذَلِكَ (3) .
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 109 دار إحياء التراث العربي، نهاية المحتاج 1 / 325، 326 مصطفى البابي الحلبي 1967 م، كشاف القناع 1 / 203 عالم الكتب 1983م.
(2) حديث: " تحيضي ستة أيام أو سبعة ". أخرجه الترمذي (1 / 223 - 224 - ط الحلبي) ، ونقل عن البخاري أنه حسنه.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 190 دار إحياء التراث العربي، الخرشي على مختصر خليل 1 / 204 المطبعة العامرة 1316هـ، شرح روض الطالب 1 / 103 المكتبة الإسلامية كشاف القناع 1 / 204 عالم الكتب 1983 م.(18/300)
وَالْمُعْتَادَةُ: عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ مَنْ سَبَقَ مِنْهَا دَمٌ وَطُهْرٌ صَحِيحَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: هِيَ الَّتِي سَبَقَ لَهَا حَيْضٌ وَلَوْ مَرَّةً. وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَنْ سَبَقَ لَهَا حَيْضٌ وَطُهْرٌ وَهِيَ تَعْلَمُهُمَا قَدْرًا وَوَقْتًا. وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْعَادَةَ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ فِي ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ - فِي كُل شَهْرٍ مَرَّةً - وَلاَ يَشْتَرِطُونَ فِيهَا التَّوَالِي (1) .
وَالْمُتَحَيِّرَةُ: مَنْ نَسِيَتْ عَادَتَهَا عَدَدًا أَوْ مَكَانًا. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هِيَ الْمُسْتَحَاضَةُ غَيْرُ الْمُمَيِّزَةِ النَّاسِيَةُ لِلْعَادَةِ. وَتُسَمَّى الضَّالَّةَ وَالْمُضِلَّةَ وَالْمُحَيِّرَةَ أَيْضًا بِالْكَسْرِ لأَِنَّهَا حَيَّرَتِ الْفَقِيهَ (2) .
أ - الْمُبْتَدَأَةُ:
13 - إِذَا رَأَتِ الْمُبْتَدَأَةُ الدَّمَ وَكَانَ فِي زَمَنِ إِمْكَانِ الْحَيْضِ - أَيْ فِي سِنِّ تِسْعِ سَنَوَاتٍ فَأَكْثَر - وَلَمْ يَكُنِ الدَّمُ نَاقِصًا عَنْ أَقَل الْحَيْضِ وَلاَ زَائِدًا عَلَى أَكْثَرِهِ - عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَقَل الْحَيْضِ وَأَكْثَرِهِ كَمَا سَبَقَ - فَإِنَّهُ دَمُ حَيْضٍ، وَيَلْزَمُهَا أَحْكَامُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 190، منهل الواردين 1 / 76 الرسالة الرابعة من مجموعة رسائل ابن عابدين دار سعادت 1325هـ، حاشية الدسوقي 1 / 169، الخرشي على مختصر خليل 1 / 205، مغني المحتاج 1 / 115 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 1 / 205.
(2) منهل الواردين 1 / 76 مجموعة رسائل ابن عابدين دار سعادت 1325هـ، حاشية ابن عابدين 1 / 190 دار إحياء التراث العربي، نهاية المحتاج 1 / 346 مصطفى البابي الحلبي 1967 م، مغني المحتاج 1 / 116 دار إحياء التراث العربي، شرح روض الطالب 1 / 107 المكتبة الإسلامية.(18/300)
الْحَائِضِ، لأَِنَّ دَمَ الْحَيْضِ جِبِلَّةٌ وَعَادَةٌ، وَدَمُ الاِسْتِحَاضَةِ لِعَارِضٍ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ، وَالأَْصْل عَدَمُهُ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَا رَأَتْهُ دَمًا أَسْوَد أَمْ لاَ، وَلَوْ كَانَ صُفْرَةً وَكُدْرَةً فَإِنَّهُ حَيْضٌ، لأَِنَّهُ الأَْصْل فِيمَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ فِي زَمَنِ الإِْمْكَانِ، وَلِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا كَانَتِ النِّسَاءُ يَبْعَثْنَ إِلَيْهَا بِالدُّرْجَةِ فِيهَا الْكُرْسُفُ فِيهِ الصُّفْرَةُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ: لاَ تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ (1) تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنَ الْحَيْضَةِ.
فَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ لِدُونِ أَقَل الْحَيْضِ فَلَيْسَ بِحَيْضٍ لِعَدَمِ صَلاَحِيَّتِهِ لَهُ، بَل هُوَ دَمُ فَسَادٍ (2) .
ثُمَّ إِنَّ لِلْمُبْتَدَأَةِ أَحْوَالاً، بِحَسَبِ انْقِطَاعِ الدَّمِ وَاسْتِمْرَارِهِ.
الْحَالَةُ الأُْولَى: انْقِطَاعُ الدَّمِ لِتَمَامِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ فَمَا دُونُ:
14 - إِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ دُونَ أَكْثَرِ الْحَيْضِ أَوْ لأَِكْثَرِهِ وَلَمْ يُجَاوِزْ وَرَأَتِ الطُّهْرَ، طَهُرَتْ، وَيَكُونُ الدَّمُ
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها: " لا تعجلن. . . " تقدم تخريجه (ف / 9) .
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 189 دار إحياء التراث العربي، منهل الواردين 1 / 86 مجموعة رسائل ابن عابدين دار سعادت 1325هـ، حاشية الدسوقي 1 / 168 دار الفكر، مغني المحتاج 1 / 113 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 1 / 204 عالم الكتب 1983 م.(18/301)
بَيْنَ أَوَّل مَا تَرَاهُ إِلَى رُؤْيَةِ الطُّهْرِ حَيْضًا، يَجِبُ عَلَيْهَا خِلاَلُهُ مَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الدَّمَ إِنْ جَاوَزَ أَقَل الْحَيْضِ وَلَمْ يَعْبُرْ أَكْثَرَهُ، فَإِنَّ الْمُبْتَدَأَةَ لاَ تَجْلِسُ الْمُجَاوِزَ لأَِنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، بَل تَغْتَسِل عَقِبَ أَقَل الْحَيْضِ وَتَصُومُ وَتُصَلِّي فِيمَا جَاوَزَهُ، لأَِنَّ الْمَانِعَ مِنْهُمَا هُوَ الْحَيْضُ وَقَدْ حُكِمَ بِانْقِطَاعِهِ، وَهُوَ آخِرُ الْحَيْضِ حُكْمًا، أَشْبَهَ آخِرَهُ حِسًّا. وَقَدْ صَرَّحُوا بِحُرْمَةِ وَطْئِهَا فِي الزَّمَنِ الْمُجَاوِزِ لأَِقَل الْحَيْضِ قَبْل تَكْرَارِهِ، لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ حَيْضٌ، وَإِنَّمَا أُمِرَتْ بِالْعِبَادَةِ احْتِيَاطًا لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهَا، فَتَعَيَّنَ تَرْكُ وَطْئِهَا احْتِيَاطًا. ثُمَّ إِنَّهُ مَتَى انْقَطَعَ الدَّمُ يَوْمًا فَأَكْثَرَ أَوْ أَقَلّ قَبْل مُجَاوَزَةِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ، اغْتَسَلَتْ عِنْدَ انْقِطَاعِهِ، لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ آخِرَ حَيْضِهَا، وَلاَ تَطْهُرُ بِيَقِينٍ إِلاَّ بِالْغُسْل ثُمَّ حُكْمُهَا حُكْمُ الطَّاهِرَاتِ، فَإِنْ عَادَ الدَّمُ فَكَمَا لَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ.
هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَعِنْدَهُمْ رِوَايَةٌ تُوَافِقُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ (2) .
__________
(1) المراجع السابقة. ومنهل الواردين 1 / 90 وما بعدها، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 133 دار الفكر 1978م.
(2) كشاف القناع 1 / 204 عالم الكتب 1983 م، الفروع 1 / 269 عالم الكتب 1402هـ.(18/301)
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتِمْرَارُ الدَّمِ وَعُبُورُهُ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَيْضِ:
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا اسْتَمَرَّ دَمُ الْمُبْتَدَأَةِ وَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَيْضَهَا أَكْثَرُ فَتْرَةِ الْحَيْضِ وَطُهْرَهَا مَا جَاوَزَهُ. فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ حَيْضَهَا فِي كُل شَهْرٍ عَشَرَةٌ، وَطُهْرُهَا عِشْرُونَ. قَالُوا: لأَِنَّ هَذَا دَمٌ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ وَأَمْكَنَ جَعْلُهُ حَيْضًا فَيُجْعَل حَيْضًا. وَمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ يَكُونُ اسْتِحَاضَةً لأَِنَّهُ لاَ مَزِيدَ لِلْحَيْضِ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَهَكَذَا فِي كُل شَهْرٍ. هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْبِرْكَوِيُّ لِلْمُبْتَدَأَةِ الَّتِي اسْتَمَرَّ دَمُهَا أَرْبَعَةَ وُجُوهٍ سَبَقَ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِحَاضَةٌ) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ (3 198) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا تَمْكُثُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا - أَكْثَرُ فَتْرَةِ الْحَيْضِ عِنْدَهُمْ - أَخْذًا بِالأَْحْوَطِ ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ (1) . وَتَفْصِيل أَحْكَامِ اسْتِمْرَارِ الدَّمِ فِي (اسْتِحَاضَةٌ) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ (3 - 200 وَمَا بَعْدَهَا) .
ب - الْمُعْتَادَةُ:
ثُبُوتُ الْعَادَةِ:
16 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 190، 200، منهل الواردين 1 / 94 وما بعدها دار سعادت 1325 هـ بدائع الصنائع 1 / 41، حاشية الدسوقي 1 / 168 دار الفكر، الخرشي على مختصر خليل 1 / 204 المطبعة العامرة 1316هـ، مواهب الجليل 1 / 367 دار الفكر 1978م.(18/302)
الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّ الْعَادَةَ تَثْبُتُ بِمَرَّةٍ فِي الْمُبْتَدَأَةِ، لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُهَرَاقُ الدَّمَ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُ لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: لِتَنْظُرْ عَدَدَ الأَْيَّامِ وَاللَّيَالِي الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ مِنَ الشَّهْرِ قَبْل أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا، فَلْتَدَعِ الصَّلاَةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِنَ الشَّهْرِ، فَإِذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِل ثُمَّ لِتَسْتَثْفِرْ بِثَوْبٍ ثُمَّ لِتُصَل فِيهِ (1) .
فَالْحَدِيثُ قَدْ دَل عَلَى اعْتِبَارِ الشَّهْرِ الَّذِي قَبْل الاِسْتِحَاضَةِ، وَلأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا فِيهِ كَالَّذِي يَلِيهِ لِقُرْبِهِ إِلَيْهَا فَهُوَ أَوْلَى مِمَّا انْقَضَى. وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (2) حَيْثُ شَبَّهَ الْعَوْدَ بِالْبَدْءِ فَيُفِيدُ إِطْلاَقَ الْعَوْدِ عَلَى مَا فُعِل مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ بِثَلاَثِ مَرَّاتٍ فِي كُل شَهْرٍ مَرَّةٌ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعِي الصَّلاَةَ قَدْرَ الأَْيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا (3) وَهِيَ صِيغَةُ جَمْعٍ وَأَقَلُّهُ ثَلاَثٌ، وَلأَِنَّ مَا اعْتُبِرَ لَهُ
__________
(1) حديث: " لتنظر عدد الأيام والليالي التي كانت تحيضهن " أخرجه أبو داود (1 / 187 - 189 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أم سلمة، وصححه النووي كما في التلخيص (1 / 170 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) سورة الأعراف / 29.
(3) حديث: " دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 425 - ط السلفية) من حديث عائشة.(18/302)
التَّكْرَارُ اعْتُبِرَ فِيهِ الثَّلاَثُ كَالأَْقْرَاءِ وَالشُّهُورِ فِي عِدَّةِ الْحُرَّةِ، وَخِيَارِ الْمُصَرَّاةِ، وَمُهْلَةِ الْمُرْتَدِّ. وَلأَِنَّ الْعَادَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُعَاوَدَةِ وَلاَ تَحْصُل الْمُعَاوَدَةُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. ثُمَّ إِنَّ الدَّمَ عِنْدَهُمْ إِمَّا أَنْ يَأْتِيَ فِي الثَّلاَثِ مُتَسَاوِيًا أَوْ مُخْتَلِفًا. فَإِنْ كَانَ الدَّمُ فِي الثَّلاَثِ مُتَسَاوِيًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، وَلَمْ يَخْتَلِفْ تُيُقِّنَ أَنَّهُ حَيْضٌ وَصَارَ عَادَةً. وَإِنْ كَانَ الدَّمُ عَلَى أَعْدَادٍ مُخْتَلِفَةٍ فَمَا تَكُونُ مِنْهُ ثَلاَثًا صَارَ عَادَةً لَهَا دُونَ مَا لَمْ يَتَكَرَّرْ مُرَتَّبًا، كَانَ كَخَمْسَةٍ فِي أَوَّل شَهْرٍ، وَسِتَّةٍ فِي شَهْرٍ ثَانٍ، وَسَبْعَةٍ فِي شَهْرٍ ثَالِثٍ، فَتَجْلِسُ الْخَمْسَةَ لِتَكْرَارِهَا ثَلاَثًا، كَمَا لَوْ لَمْ يَخْتَلِفْ. أَوْ غَيْرَ مُرَتَّبٍ كَأَنْ تَرَى فِي الشَّهْرِ الأَْوَّل خَمْسَةً، وَفِي الشَّهْرِ الثَّانِي أَرْبَعَةً، وَفِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ سِتَّةً، فَتَجْلِسُ الأَْرْبَعَةَ لِتَكَرُّرِهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تَثْبُتُ بِمَرَّتَيْنِ.
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ نَقْصَ الْعَادَةِ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَكْرَارٍ، لأَِنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى الأَْصْل وَهُوَ الْعَدَمُ. فَلَوْ نَقَصَتْ عَادَتُهَا ثُمَّ اسْتُحِيضَتْ بَعْدَهُ. فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَرَأَتِ الدَّمَ سَبْعَةً ثُمَّ اسْتُحِيضَتْ فِي الشَّهْرِ الآْخَرِ جَلَسَتِ السَّبْعَةَ لأَِنَّهَا الَّتِي اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهَا عَادَتُهَا.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُعْتَادَةِ إِذَا رَأَتْ مَا يُخَالِفُ عَادَتَهَا مُرَّةً وَاحِدَةً، هَل يَصِيرُ ذَلِكَ الْمُخَالِفُ عَادَةً لَهَا أَمْ لاَ بُدَّ مِنْ تَكْرَارِهِ؟ فَذَهَبَ(18/303)
أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يَصِيرُ ذَلِكَ عَادَةً بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِيرُ عَادَةً إِلاَّ بِتَكْرَارِهِ. بَيَانُ ذَلِكَ لَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةً مِنْ أَوَّل الشَّهْرِ فَرَأَتْ سِتَّةً فَهِيَ حَيْضٌ اتِّفَاقًا، لَكِنْ عِنْدَهُمَا يَصِيرُ ذَلِكَ عَادَةً، فَإِذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي تُرَدُّ إِلَى آخِرِ مَا رَأَتْ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُرَدُّ إِلَى الْعَادَةِ الْقَدِيمَةِ. وَلَوْ رَأَتِ السِّتَّةَ مَرَّتَيْنِ تُرَدُّ إِلَيْهَا عِنْدَ الاِسْتِمْرَارِ اتِّفَاقًا.
وَالْخِلاَفُ فِي الْعَادَةِ الأَْصْلِيَّةِ وَهِيَ أَنْ تَرَى دَمَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ وَطُهْرَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ عَلَى الْوَلاَءِ أَوْ أَكْثَرَ لاَ الْجَعْلِيَّةُ.
أَمَّا الْجَعْلِيَّةُ فَإِنَّهَا تُنْتَقَضُ بِرُؤْيَةِ الْمُخَالِفِ مُرَّةً بِالاِتِّفَاقِ (1) . وَصُورَةُ الْجَعْلِيَّةِ أَنْ تَرَى أَطْهَارًا مُخْتَلِفَةً، وَدِمَاءً مُخْتَلِفَةً فَتَبْنِيَ عَلَى أَوْسَطِ الأَْعْدَادِ عَلَى قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَعَلَى الأَْقَل مِنَ الْمَرَّتَيْنِ الأَْخِيرَتَيْنِ عَلَى قَوْل أَبِي عُثْمَانَ سَعِيدِ بْنِ مُزَاحِمٍ.
__________
(1) منهل الواردين 1 / 79 مجموعة رسائل ابن عابدين دار سعادت 1325هـ، وحاشية الدسوقي 1 / 169 دار الفكر، شرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 134 دار الفكر 1978م، مغني المحتاج 1 / 115 دار إحياء التراث العربي، نهاية المحتاج 1 / 345 مصطفى البابي الحلبي 1967م، المغني لابن قدامة 1 / 316 مكتبة الرياض الحديثة 1981 م، كشاف القناع 1 / 205، 208 عالم الكتب 1983م، شرح فتح القدير 1 / 157 دار إحياء التراث العربي.(18/303)
أَحْوَال الْمُعْتَادَةِ:
الْمُعْتَادَةُ إِمَّا أَنْ تَرَى مِنَ الدَّمِ مَا يُوَافِقُ عَادَتَهَا. أَوْ يَنْقَطِعُ الدَّمُ دُونَ عَادَتِهَا، أَوْ يُجَاوِزُ عَادَتَهَا.
مُوَافَقَةُ الدَّمِ لِلْعَادَةِ:
17 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا رَأَتِ الْمُعْتَادَةُ مَا يُوَافِقُ عَادَتَهَا بِأَنِ انْقَطَعَ دَمُهَا وَلَمْ يَنْقُصْ أَوْ يَزِدْ عَلَى عَادَتِهَا، فَأَيَّامُ الدَّمِ حَيْضٌ وَمَا بَعْدَهَا طُهْرٌ. فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ حَيْضًا. وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ طُهْرًا وَرَأَتْ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ، فَحَيْضُهَا خَمْسَةُ أَيَّامٍ، وَطُهْرُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ كَعَادَتِهَا (1) .
انْقِطَاعُ الدَّمِ دُونَ الْعَادَةِ:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ دَمُ الْمُعْتَادَةِ دُونَ عَادَتِهَا، فَإِنَّهَا تَطْهُرُ بِذَلِكَ وَلاَ تُتَمِّمُ عَادَتَهَا، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ انْقِطَاعُ الدَّمِ دُونَ أَقَل الْحَيْضِ. وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ وَطْأَهَا حِينَئِذٍ حَتَّى تَمْضِيَ عَادَتُهَا وَإِنِ اغْتَسَلَتْ. قَالُوا: لأَِنَّ الْعَوْدَ فِي الْعَادَةِ غَالِبٌ فَكَانَ الاِحْتِيَاطُ فِي الاِجْتِنَابِ.
وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَطْؤُهَا. وَقَدْ
__________
(1) منهل الواردين 1 / 86 مجموعة رسائل ابن عابدين دار سعادت 1325هـ، الذخيرة للقرافي 382 نشر وزارة الأوقاف الكويت 1982م، مغني المحتاج 1 / 115 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 1 / 205 عالم الكتب 1983م.(18/304)
صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ كَرَاهَتِهِ كَسَائِرِ الطَّاهِرَاتِ
وَمَتَى كَانَ انْقِطَاعُ الدَّمِ دُونَ أَقَل الْحَيْضِ - عَلَى الْخِلاَفِ الْمُتَقَدِّمِ فِيهِ - فَلَيْسَ ذَلِكَ الدَّمُ بِحَيْضٍ فِي حَقِّهَا لِتَبَيُّنِ أَنَّهُ دَمُ فَسَادٍ لاَ حَيْضٍ وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّهَا تَقْضِي الصَّلاَةَ وَالصَّوْمَ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا تُصَلِّي كُلَّمَا انْقَطَعَ الدَّمُ، لَكِنْ تَنْتَظِرُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ وُجُوبًا فَإِنْ لَمْ يَعُدْ فِي الْوَقْتِ تَتَوَضَّأُ فَتُصَلِّي وَكَذَا تَصُومُ إِنِ انْقَطَعَ لَيْلاً، فَإِنْ عَادَ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ فِي الْعَشَرَةِ الأَْيَّامِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهَا فَتَقْعُدُ عَنِ الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ. وَالْفَرْقُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ انْقِطَاعِ الدَّمِ قَبْل الْعَادَةِ وَبَعْدَ الثَّلاَثِ - وَهُوَ أَقَل الْحَيْضِ عِنْدَهُمْ - وَانْقِطَاعُهُ قَبْل الثَّلاَثِ أَنَّهَا تُصَلِّي، بِالْغُسْل كُلَّمَا انْقَطَعَ قَبْل الْعَادَةِ وَبَعْدَ الثَّلاَثِ لاَ بِالْوُضُوءِ. لأَِنَّهُ تَحَقَّقَ كَوْنُهَا حَائِضًا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ ثَلاَثَةً فَأَكْثَر، بِخِلاَفِ انْقِطَاعِهِ قَبْل الثَّلاَثِ، فَإِنَّهَا تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الدَّمَ دَمُ فَسَادٍ لاَ دَمُ حَيْضٍ.
وَإِنْ عَادَ الدَّمُ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ، فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُبْطِل الْحُكْمَ بِطَهَارَتِهَا بِشَرْطِ أَنْ يَعُودَ فِي مُدَّةِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ - عَشَرَةِ أَيَّامٍ - وَلَمْ يَتَجَاوَزْهَا. وَأَنْ تَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ طَاهِرًا أَقَلاّ الطُّهْرِ - خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا - فَلَوْ تَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ أَوْ نَقَصَ الطُّهْرُ عَنْ ذَلِكَ فَحَيْضُهَا أَيَّامُ عَادَتِهَا فَقَطْ. وَلَوِ اعْتَادَتْ فِي الْحَيْضِ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا هَكَذَا إِلَى(18/304)
الْعَشَرَةِ، فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل تَتْرُكُ الصَّلاَةَ وَالصَّوْمَ. وَإِذَا طَهُرَتْ فِي الثَّانِي تَوَضَّأَتْ وَصَلَّتْ وَفِي الثَّالِثِ تَتْرُكُ الصَّلاَةَ وَالصَّوْمَ. وَفِي الرَّابِعِ تَغْتَسِل وَتُصَلِّي وَهَكَذَا إِلَى الْعَشَرَةِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَا لَوْ عَادَ الدَّمُ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ، فَإِنْ كَانَ مِقْدَارُ الاِنْقِطَاعِ لاَ يَبْلُغُ أَقَلّ الطُّهْرِ أُلْغِيَ وَلَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ، وَأُضِيفَ الدَّمُ الأَْوَّل إِلَى الثَّانِي، وَجُعِل حَيْضَةً مُنْقَطِعَةً تَغْتَسِل مِنْهَا الْمَرْأَةُ عِنْدَ إِدْبَارِ الدَّمِ وَإِقْبَال الطُّهْرِ، يَوْمًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ، وَتُصَلِّي فَإِذَا عَادَ الدَّمُ إِلَيْهَا كَفَّتْ عَنِ الصَّلاَةِ وَضَمَّتْهُ إِلَى أَيَّامِ دَمِهَا، وَعَدَّتْهُ مِنْ حَيْضَتِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَادَ الدَّمُ بَعْدَ النَّقَاءِ، فَالْكُل حَيْضٌ - الدَّمُ وَالنَّقَاءُ - بِشُرُوطٍ: وَهِيَ أَنْ لاَ يُجَاوِزَ ذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَمْ تَنْقُصِ الدِّمَاءُ مِنْ أَقَل الْحَيْضِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّقَاءُ مُحْتَوَشًا بَيْنَ دَمَيِ الْحَيْضِ. وَهَذَا الْقَوْل يُسَمَّى عِنْدَهُمْ قَوْل السَّحْبِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَهُمْ هُوَ أَنَّ النَّقَاءَ طُهْرٌ، لأَِنَّ الدَّمَ إِذَا دَل عَلَى الْحَيْضِ وَجَبَ أَنْ يَدُل النَّقَاءُ عَلَى الطُّهْرِ وَيُسَمَّى هَذَا الْقَوْل قَوْل اللَّقْطِ وَقَوْل التَّلْفِيقِ. وَمَحَل التَّلْفِيقِ عِنْدَهُمْ فِي الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا بِخِلاَفِ الْعِدَّةِ، فَلاَ يُجْعَل النَّقَاءُ طُهْرًا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِإِجْمَاعِهِمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا إِنْ طَهُرَتْ فِي أَثْنَاءِ(18/305)
عَادَتِهَا طُهْرًا خَالِصًا وَلَوْ أَقَلاّ مُدَّةٍ فَهِيَ طَاهِرٌ تَغْتَسِل وَتُصَلِّي وَتَفْعَل مَا تَفْعَلُهُ الطَّاهِرَاتُ، وَلاَ يُكْرَهُ وَطْءُ الزَّوْجِ لَهَا بَعْدَ الاِغْتِسَال، فَإِنْ عَاوَدَهَا الدَّمُ فِي أَثْنَاءِ الْعَادَةِ وَلَمْ يُجَاوِزْهَا، فَإِنَّهَا تَجْلِسُ زَمَنَ الدَّمِ مِنَ الْعَادَةِ كَمَا لَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ، لأَِنَّهُ صَادَفَ زَمَنَ الْعَادَةِ (1) .
مُجَاوَزَةُ الدَّمِ لِلْعَادَةِ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا جَاوَزَ دَمُ الْمُعْتَادَةِ عَادَتَهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا رَأَتِ الْمُعْتَادَةُ مَا يُخَالِفُ عَادَتَهَا، فَإِمَّا أَنْ تَنْتَقِل عَادَتُهَا أَوْ لاَ، فَإِنْ لَمْ تَنْتَقِل رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا، فَيُجْعَل الْمَرْئِيُّ فِيهَا حَيْضًا وَمَا جَاوَزَ الْعَادَةَ اسْتِحَاضَةً، وَإِنِ انْتَقَلَتْ فَالْكُل حَيْضٌ - وَسَيَأْتِي تَفْصِيل قَاعِدَةِ انْتِقَال الْعَادَةِ - فَإِذَا اسْتَمَرَّ دَمُ الْمُعْتَادَةِ وَزَادَ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ فَطُهْرُهَا وَحَيْضُهَا مَا اعْتَادَتْ فَتُرَدُّ إِلَيْهَا فِيهِمَا فِي جَمِيعِ الأَْحْكَامِ إِنْ كَانَ طُهْرُهَا أَقَلّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ طُهْرُهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ فَإِنَّهُ لاَ يُقَدَّرُ حِينَئِذٍ بِذَلِكَ، لأَِنَّ الطُّهْرَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ أَقَل مِنْ أَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْل عَادَةً فَيُرَدُّ إِلَى سِتَّةِ
__________
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 92، 93 دار سعادت 1325هـ، الكافي 1 / 186 مكتبة الرياض 1978 م، مغني المحتاج 1 / 119 دار إحياء التراث العربي، حاشية الجمل 1 / 247 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 1 / 212 عالم الكتب 1983 م.(18/305)
أَشْهُرٍ إِلاَّ سَاعَةً تَحْقِيقًا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ طُهْرِ الْحَيْضِ وَطُهْرِ الْحَمْل وَحَيْضُهَا بِحَالِهِ. وَهَذَا قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيِّ. قَال فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا: وَعَلَيْهِ الأَْكْثَرُ. وَفِي التَّتَارَخَانِيّةِ: (وَعَلَيْهِ الاِعْتِمَادُ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِشَهْرَيْنِ وَاخْتَارَهُ الْحَاكِمُ) . قَال صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قِيل وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْل الْحَاكِمِ وَاخْتَرْنَا قَوْل الْمَيْدَانِيِّ لِقُوَّةِ قَوْلِهِ رِوَايَةً وَدِرَايَةً. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ مَا اخْتَارَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ عَلَيْهِ الْفَتْوَى، لأَِنَّهُ أَيْسَرُ عَلَى الْمُفْتِي وَالنِّسَاءِ وَمَشَى عَلَيْهِ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَمَادَى دَمُ الْحَيْضِ عَلَى الْمُعْتَادَةِ، فَإِنَّهَا تَسْتَظْهِرُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ الدَّمِ الزَّائِدِ عَلَى أَكْثَرِ عَادَتِهَا، ثُمَّ هِيَ طَاهِرٌ بِشَرْطِ أَنْ لاَ تُجَاوِزَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِذَا اعْتَادَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ أَوَّلاً، ثُمَّ تَمَادَى، مَكَثَتْ ثَمَانِيَةً، فَإِنْ تَمَادَى فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ مَكَثَتْ أَحَدَ عَشَرَ، فَإِنْ تَمَادَى فِي الرَّابِعَةِ مَكَثَتْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ. فَإِنْ تَمَادَى فِي مُرَّةٍ أُخْرَى فَلاَ تَزِيدُ عَلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ. وَمَنْ كَانَتْ عَادَتُهَا ثَلاَثَةَ عَشَرَ فَتَسْتَظْهِرُ يَوْمَيْنِ. وَمَنْ عَادَتُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَلاَ اسْتِظْهَارَ عَلَيْهَا، وَقَاعِدَةُ ذَلِكَ أَنَّ الَّتِي أَيَّامُ عَادَتِهَا اثْنَا عَشَرَ يَوْمًا فَدُونَ ذَلِكَ تَسْتَظْهِرُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَثَلاَثَةَ عَشَرَ بِيَوْمَيْنِ، وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ بِيَوْمٍ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ لاَ تَسْتَظْهِرُ بِشَيْءٍ. وَأَمَّا الَّتِي عَادَتُهَا غَيْرُ ثَابِتَةٍ تَحِيضُ فِي شَهْرٍ خَمْسَةَ أَيَّامٍ وَفِي آخَرَ أَقَلّ أَوْ أَكْثَر إِذَا تَمَادَى بِهَا الدَّمُ(18/306)
فَإِنَّهَا تَسْتَظْهِرُ عَلَى أَكْثَرِ أَيَّامِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ تَسْتَظْهِرُ عَلَى أَقَل الْعَادَةِ. وَأَيَّامُ الاِسْتِظْهَارِ كَأَيَّامِ الْحَيْضِ، وَالدَّمُ بَعْدَ الاِسْتِظْهَارِ فِيمَا بَيْنَ عَادَتِهَا وَنِصْفِ شَهْرٍ اسْتِحَاضَةٌ.
وَتَغْتَسِل بَعْدَ الاِسْتِظْهَارِ وَتُصَلِّي وَتَصُومُ وَتُوطَأُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْل الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ جَاوَزَ الدَّمُ عَادَتَهَا وَلَمْ يَعْبُرْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ فَالْجَمِيعُ حَيْضٌ، لأَِنَّ الأَْصْل اسْتِمْرَارُ الْحَيْضِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا لاَ تَلْتَفِتُ إِلَى مَا خَرَجَ عَنْ عَادَتِهَا قَبْل تَكَرُّرِهِ، فَمَا تَكَرَّرَ مِنْ ذَلِكَ ثَلاَثًا أَوْ مَرَّتَيْنِ عَلَى اخْتِلاَفٍ فِي ذَلِكَ فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِلاَّ فَلاَ، فَتَصُومُ وَتُصَلِّي قَبْل التَّكْرَارِ.
وَتَغْتَسِل عِنْدَ انْقِطَاعِهِ ثَانِيًا. فَإِذَا تَكَرَّرَ ثَلاَثًا أَوْ مَرَّتَيْنِ صَارَ عَادَةً فَتُعِيدُ مَا صَامَتْهُ وَنَحْوَهُ مِنْ فَرْضٍ. وَيَرَى ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهَا تَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارٍ لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِلنِّسَاءِ: لاَ تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ (1) ، وَلأَِنَّ الشَّارِعَ رَدَّ النَّاسَ إِلَى الْعُرْفِ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْعُرْفُ بَيْنَ النِّسَاءِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَتَى رَأَتْ دَمًا يَصْلُحُ لأََنْ يَكُونَ حَيْضًا اعْتَقَدَتْهُ حَيْضًا، وَإِنْ عَبَرَ الدَّمُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ. وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ اسْتِحَاضَةٌ (2) .
__________
(1) حديث عائشة " لا تعجلن. . . " تقدم تخريجه " ف / 9 ".
(2) مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 93 الرسالة الرابعة دار سعادت 1325هـ، حاشية الدسوقي 1 / 169 دار الفكر، مواهب الجليل 1 / 368 دار الفكر 1978 م، شرح الزرقاني على مختصر خليل 1 / 134 دار الفكر 1978 م، المجموع 1 / 145 المكتبة السلفية، كشاف القناع 1 / 212 عالم الكتب 1983 م، الروض المربع 36 المطبعة السلفية 1380هـ القاهرة، المغني 1 / 351 الرياض 1981 م، الموسوعة الفقهية 3 / 203 الطبعة الأولى 1982 م، المقنع لابن قدامة 1 / 89 المطبعة السلفية القاهرة.(18/306)
انْتِقَال الْعَادَةِ:
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي انْتِقَال الْعَادَةِ:
20 - إِذَا رَأَتِ الْمُعْتَادَةُ مَا يُخَالِفُ عَادَتَهَا فِي الْحَيْضِ. فَإِذَا لَمْ يُجَاوِزِ الدَّمُ الْعَشَرَةَ الأَْيَّامَ، فَالْكُل حَيْضٌ، وَانْتَقَلَتِ الْعَادَةُ عَدَدًا فَقَطْ إِنْ طَهُرَتْ بَعْدَهُ طُهْرًا صَحِيحًا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنْ جَاوَزَ الْعَشَرَةَ الأَْيَّامَ رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا، لأَِنَّهُ صَارَ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي. وَهَذَا فِيمَا إِذَا لَمْ تَتَسَاوَ الْعَادَةُ وَالْمُخَالَفَةُ حَيْثُ يَصِيرُ الثَّانِي عَادَةً لَهَا. فَإِنْ تَسَاوَتِ الْعَادَةُ وَالْمُخَالَفَةُ فَالْعَدَدُ بِحَالِهِ، سَوَاءٌ رَأَتْ نِصَابًا (ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ) فِي أَيَّامِ عَادَتِهَا، أَوْ قَبْلَهَا، أَوْ بَعْدَهَا، أَوْ بَعْضُهُ فِي أَيَّامِهَا، وَبَعْضُهُ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا، لَكِنْ إِنْ وَافَقَ زَمَانًا وَعَدَدًا فَلاَ انْتِقَال أَصْلاً. وَإِلاَّ فَالاِنْتِقَال ثَابِتٌ عَلَى حَسَبِ الْمُخَالِفِ.
فَإِذَا جَاوَزَ الدَّمُ الْعَشَرَةَ وَوَقَعَ نِصَابٌ فِي زَمَانِ الْعَادَةِ. فَالْوَاقِعُ فِي زَمَانِ الْعَادَةِ فَقَطْ حَيْضٌ وَالْبَاقِي اسْتِحَاضَةٌ. ثُمَّ إِنَّهُ مَتَى كَانَ الْوَاقِعُ فِي زَمَانِ الْعَادَةِ مُسَاوِيًا لِعَادَتِهَا عَدَدًا، فَالْعَادَةُ بَاقِيَةٌ(18/307)
فِي حَقِّ الْعَدَدِ وَالزَّمَانِ مَعًا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَاوِيًا لِعَادَتِهَا انْتَقَلَتِ الْعَادَةُ عَدَدًا إِلَى مَا رَأَتْهُ نَاقِصًا. وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالنَّاقِصِ لأَِنَّهُ لاَ احْتِمَال لِكَوْنِ الْوَاقِعِ فِي الْعَادَةِ زَائِدًا عَلَيْهَا.
وَإِذَا جَاوَزَ الدَّمُ الْعَشَرَةَ وَلَمْ يَقَعْ فِي زَمَانِ الْعَادَةِ نِصَابٌ بِأَنْ لَمْ تَرَ شَيْئًا، أَوْ رَأَتْ أَقَل مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ انْتَقَلَتِ الْعَادَةُ زَمَانًا، وَالْعَدَدُ بِحَالِهِ يُعْتَبَرُ مِنْ أَوَّل مَا رَأَتْ (1) .
انْتِقَال الْعَادَةِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ:
21 - صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْعَادَةَ قَدْ تَنْتَقِل، فَتَتَقَدَّمُ أَوْ تَتَأَخَّرُ، أَوْ يَزِيدُ قَدْرُ الْحَيْضِ أَوْ يَنْقُصُ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ انْتِقَال الْعَادَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا إِذَا تَمَادَى دَمُ الْمُعْتَادَةِ وَزَادَ عَلَى عَادَتِهَا فَإِنَّهَا تَسْتَظْهِرُ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ عَلَى عَادَتِهَا، وَيَصِيرُ الاِسْتِظْهَارُ عَادَةً لَهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَمْثِلَةً كَثِيرَةً عَلَى انْتِقَال الْعَادَةِ، نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي: إِذَا كَانَتْ عَادَتُهَا الأَْيَّامَ الْخَمْسَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الشَّهْرِ، فَرَأَتْ فِي بَعْضِ الشُّهُورِ، الأَْيَّامَ الْخَمْسَةَ الأُْولَى دَمًا وَانْقَطَعَ، فَقَدْ تَقَدَّمَتْ عَادَتُهَا، وَلَمْ يَزِدْ حَيْضُهَا، وَلَمْ يَنْقُصْ وَلَكِنْ نَقَصَ طُهْرُهَا فَصَارَ عِشْرِينَ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ. وَإِنْ رَأَتْهُ فِي الْخَمْسَةِ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ، أَوِ الْخَامِسَةِ أَوِ السَّادِسَةِ، فَقَدْ تَأَخَّرَتْ عَادَتُهَا، وَلَمْ يَزِدْ حَيْضُهَا، وَلَمْ يَنْقُصْ، وَلَكِنْ زَادَ
__________
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 87 وما بعدها دار سعادت 1325 هـ.(18/307)
طُهْرُهَا. وَإِنْ رَأَتْهُ فِي الْخَمْسَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ الثَّالِثَةِ فَقَدْ زَادَ حَيْضُهَا، وَتَأَخَّرَتْ عَادَتُهَا. وَإِنْ رَأَتْهُ فِي الْخَمْسَةِ الأُْولَى وَالثَّانِيَةِ، فَقَدْ زَادَ حَيْضُهَا وَتَقَدَّمَتْ عَادَتُهَا. وَإِنْ رَأَتْهُ فِي الْخَمْسَةِ الأُْولَى وَالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فَقَدْ زَادَ حَيْضُهَا، فَصَارَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَتَقَدَّمَتْ عَادَتُهَا وَتَأَخَّرَتْ. وَإِنْ رَأَتْهُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَوْ ثَلاَثَةٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ، أَوْ يَوْمٍ مِنَ الْخَمْسَةِ الْمُعْتَادَةِ، فَقَدْ نَقَصَ حَيْضُهَا وَلَمْ تَنْتَقِل عَادَتُهَا.
وَإِنْ رَأَتْهُ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، أَوْ ثَلاَثَةٍ، أَوْ أَرْبَعَةٍ مِنَ الْخَمْسَةِ الأُْولَى فَقَدْ نَقَصَ حَيْضُهَا وَتَقَدَّمَتْ عَادَتُهَا. وَإِنْ رَأَتْ ذَلِكَ فِي الْخَمْسَةِ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ، أَوْ مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ نَقَصَ حَيْضُهَا وَتَأَخَّرَتْ عَادَتُهَا.
وَالأَْمْثِلَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَابِلَةُ فِي انْتِقَال الْعَادَةِ لاَ تَخْرُجُ عَنِ الأَْمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْعَمَل بِالْعَادَةِ الْمُنْتَقِلَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَهُمْ، وَانْتِقَال الْعَادَةِ يَثْبُتُ بِمَرَّةٍ فِي الأَْصَحِّ. وَهَذَا إِنْ كَانَتْ مُتَّفِقَةً غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي الْحَيْضِ، فَرَأَتِ الدَّمَ فِي غَيْرِ
__________
(1) الخرشي على مختصر خليل 1 / 205 المطبعة العامرة 1316هـ، الذخيرة للقرافي 383، 387، وزارة الأوقاف الكويت 1982 م، المجموع 2 / 422، 423 المكتبة السلفية المدنية المنورة، مغني المحتاج 1 / 115، نهاية المحتاج 1 / 326، الروض المربع 36 المطبعة السلفية 1380هـ القاهرة.(18/308)
عَادَتِهَا لَمْ تَعْتَبِرْ مَا خَرَجَ عَنِ الْعَادَةِ حَيْضًا حَتَّى يَتَكَرَّرَ ثَلاَثًا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، أَوْ مَرَّتَيْنِ فِي رِوَايَةٍ. وَسَوَاءٌ رَأَتِ الدَّمَ قَبْل عَادَتِهَا أَوْ بَعْدَهَا، مَعَ بَقَاءِ الْعَادَةِ، أَوِ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِيهَا، أَوْ فِي بَعْضِهَا، فَإِنَّهَا لاَ تَجْلِسُ فِي غَيْرِ أَيَّامِهَا حَتَّى يَتَكَرَّرَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، فَإِذَا تَكَرَّرَ عَلِمْنَا أَنَّهُ حَيْضٌ مُتَنَقِّلٌ فَتَصِيرُ إِلَيْهِ، أَيْ تَتْرُكُ الصَّلاَةَ وَالصَّوْمَ فِيهِ، وَيَصِيرُ عَادَةً لَهَا، وَتَتْرُكُ الْعَادَةَ الأُْولَى. وَيَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ مَا صَامَتْهُ مِنَ الْفَرْضِ فِي هَذِهِ الْمَرَّاتِ الثَّلاَثِ الَّتِي أَمَرْنَاهَا بِالصِّيَامِ فِيهَا، لأَِنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا صَامَتْهُ فِي حَيْضٍ، وَالصَّوْمُ فِي الْحَيْضِ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَلاَ تَقْضِي الصَّلاَةَ. وَقِيل: لاَ حَاجَةَ إِلَى التَّكْرَارِ، وَتَنْتَقِل بِمُجَرَّدِ رُؤْيَتِهَا دَمًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا. فَعَلَيْهِ: تَجْلِسُ مَا تَرَاهُ مِنَ الدَّمِ قَبْل عَادَتِهَا وَبَعْدَهَا مَا لَمْ يَزِدْ عَنْ أَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَرَجَّحَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي. وَعَلَى كُل حَالٍ فَإِنْ تَجَاوَزَتِ الزِّيَادَةُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ فَهِيَ اسْتِحَاضَةٌ وَنَرُدُّهَا إِلَى عَادَتِهَا، وَيَلْزَمُهَا قَضَاءُ مَا تَرَكَتْهُ مِنَ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ فِيمَا زَادَ عَنْ عَادَتِهَا.
وَإِنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ فَرَأَتِ الدَّمَ أَكْثَر مِنْهَا وَجَاوَزَ أَكْثَر الْحَيْضِ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وَحَيْضُهَا مِنْهُ قَدْرُ الْعَادَةِ لاَ غَيْرُ. وَلاَ تَجْلِسُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الشُّهُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إِلاَّ قَدْرَ الْعَادَةِ بِلاَ خِلاَفٍ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَ الْعَادَةَ (1) .
__________
(1) المغني 1 / 351 - 354.(18/308)
أَنْوَاعُ الْعَادَةِ:
22 - الْعَادَةُ ضَرْبَانِ: مُتَّفِقَةٌ، وَمُخْتَلِفَةٌ.
فَالْمُتَّفِقَةُ مَا كَانَتْ أَيَّامًا مُتَسَاوِيَةً، كَسَبْعَةٍ مِنْ كُل شَهْرٍ، فَهَذِهِ تَجْلِسُ أَيَّامَ عَادَتِهَا وَلاَ تَلْتَفِتُ إِلَى مَا زَادَ عَلَيْهَا. وَالْمُخْتَلِفَةُ هِيَ مَا كَانَتْ أَيَّامًا مُخْتَلِفَةً، وَهِيَ قِسْمَانِ مُرَتَّبَةٌ، بِأَنْ تَرَى فِي شَهْرٍ ثَلاَثَةً، وَفِي الثَّانِي أَرْبَعَةٍ، وَفِي الثَّالِثِ خَمْسَةً، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى مِثْل ذَلِكَ. فَهَذِهِ، إِذَا اسْتُحِيضَتْ فِي شَهْرٍ وَعَرَفَتْ نَوْبَتَهُ عَمِلَتْ عَلَيْهِ. وَإِنْ نَسِيَتْ نَوْبَتَهُ جَلَسَتِ الأَْقَل، وَهُوَ ثَلاَثَةٌ لأَِنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ.
وَغَيْرُ مُرَتَّبَةٍ: بِأَنْ تَتَقَدَّمَ هَذِهِ مَرَّةً، وَهَذِهِ أُخْرَى كَأَنْ تَحِيضَ فِي شَهْرٍ ثَلاَثَةً، وَفِي الثَّانِي خَمْسَةً، وَفِي الثَّالِثِ أَرْبَعَةً. فَإِنْ أَمْكَنَ ضَبْطُهُ بِحَيْثُ لاَ يَخْتَلِفُ هُوَ، فَالَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ضَبْطُهُ رُدَّتْ إِلَى مَا قَبْل شَهْرِ الاِسْتِحَاضَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْعَادَةِ بِمَرَّةٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَجْلِسُ الأَْقَل فِي كُل شَهْرٍ (1) .
وَتَلْفِيقُ الْحَيْضِ:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ الدَّمَ يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا، وَالطُّهْرَ يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا، بِحَيْثُ لاَ يَحْصُل لَهَا طُهْرٌ كَامِلٌ، اخْتِلاَفًا يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى قَوْلَيْنِ الأَْوَّل: وَيُسَمَّى قَوْل التَّلْفِيقِ أَوِ اللَّقْطَ، وَهُوَ أَنْ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 345 مصطفى البابي الحلبي 1967 م، مغني المحتاج 1 / 115 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 1 / 208 عالم الكتب 1983.(18/309)
تُلَفِّقَ حَيْضَهَا مِنْ أَيَّامِ الدَّمِ فَقَطْ، وَتُلْغِيَ أَيَّامَ الطُّهْرِ فَتَكُونَ فِيهَا طَاهِرًا، تُصَلِّيَ وَتَصُومَ. وَالْقَوْل الثَّانِي وَيُسَمِّيهِ الشَّافِعِيَّةُ قَوْل السَّحْبِ، وَهُوَ أَنْ تَجْعَل أَيَّامَ الدَّمِ، وَأَيَّامَ الطُّهْرِ كُلَّهَا أَيَّامَ حَيْضٍ. وَذَلِكَ بِشُرُوطٍ ذَكَرُوهَا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلْفِيقٌ) (1) .
الطُّهْرُ مِنَ الْحَيْضِ:
(1) أَقَل الطُّهْرِ وَأَكْثَرُهُ:
24 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ لأَِكْثَرِ الطُّهْرِ، لأَِنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ لاَ تَحِيضُ أَصْلاً.
وَقَدْ تَحِيضُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً. حَكَى أَبُو الطَّيِّبِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّ امْرَأَةً فِي زَمَنِهِ كَانَتْ تَحِيضُ فِي كُل سَنَةٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَقَل الطُّهْرِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَقَلاّ طُهْرٍ بَيْنَ حَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِلَيَالِيِهَا، لأَِنَّ الشَّهْرَ غَالِبًا لاَ يَخْلُو مِنْ حَيْضٍ وَطُهْرٍ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَقَل الطُّهْرِ كَذَلِكَ. وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ.
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 37 المطبعة الأميرية 1310هـ، حاشية الدسوقي 1 / 170 دار الفكر، مواهب الجليل 1 / 369 دار الفكر 1978م، المجموع 2 / 506 وما بعدها المكتبة السلفية المدينة المنورة، كشاف القناع 1 / 214 عالم الكتب 1983م.(18/309)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَقَل الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ ثَلاَثَةَ عَشَرَ يَوْمًا. لِمَا رَوَى أَحْمَدُ وَاحْتَجَّ بِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْهُ - قَدْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا - فَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ فِي شَهْرٍ ثَلاَثَ حِيَضٍ. فَقَال عَلِيٌّ لِشُرَيْحٍ. قُل فِيهَا. فَقَال شُرَيْحٌ: إِنْ جَاءَتْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا مِمَّنْ يُرْجَى دِينُهُ وَأَمَانَتُهُ فَشَهِدَتْ بِذَلِكَ. وَإِلاَّ فَهِيَ كَاذِبَةٌ. فَقَال عَلِيٌّ: قَالُونُ - أَيْ جَيِّدٌ بِالرُّومِيَّةِ - قَالُوا: وَهَذَا لاَ يَقُولُهُ إِلاَّ تَوْقِيفًا، وَهُوَ قَوْل صَحَابِيٍّ اشْتُهِرَ، وَلَمْ يُعْلَمْ خِلاَفُهُ. وَوُجُودُ ثَلاَثِ حِيَضٍ فِي شَهْرٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الثَّلاَثَةَ عَشَرَ طُهْرٌ صَحِيحٌ يَقِينًا. قَال أَحْمَدُ: لاَ يَخْتَلِفُ أَنَّ الْعِدَّةَ يَصِحُّ أَنْ تَنْقَضِيَ فِي شَهْرٍ إِذَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ. وَغَالِبُ الطُّهْرِ بَاقِي الشَّهْرِ الْهِلاَلِيِّ بَعْدَ غَالِبِ الْحَيْضِ، وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ، أَوْ ثَلاَثَةٌ وَعِشْرُونَ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ (1) .
(2) عَلاَمَةُ الطُّهْرِ:
25 - الطُّهْرُ مِنَ الْحَيْضِ يَتَحَقَّقُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا انْقِطَاعِ الدَّمِ، أَوْ رُؤْيَةِ الْقَصَّةِ.
وَالْمَقْصُودُ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ الْجَفَافُ بِحَيْثُ تَخْرُجُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 189، 190، بدائع الصنائع 1 / 40 دار الكتاب العربي 1982م الخرشي على مختصر خليل 1 / 204، مغني المحتاج 1 / 109، كشاف القناع 1 / 203.(18/310)
الْخِرْقَةُ غَيْرَ مُلَوَّثَةٍ بِدَمٍ، أَوْ كُدْرَةٍ، أَوْ صُفْرَةٍ. فَتَكُونُ جَافَّةً مِنْ كُل ذَلِكَ، وَلاَ يَضُرُّ بَلَلُهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ رُطُوبَةِ الْفَرْجِ.
وَالْقَصَّةُ مَاءٌ أَبْيَضُ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ يَأْتِي فِي آخِرِ الْحَيْضِ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا عَنْهَا: لَمَّا كَانَتِ النِّسَاءُ يَبْعَثْنَ إِلَيْهَا بِالدُّرْجَةِ (اللِّفَافَةِ) فِيهَا الْكُرْسُفُ (الْقُطْنُ) فِيهِ الصُّفْرَةُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ. لاَ تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ (1) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْغَايَةَ الاِنْقِطَاعُ، فَإِذَا انْقَطَعَ طَهُرَتْ، سَوَاءٌ خَرَجَتْ بَعْدَهُ رُطُوبَةٌ بَيْضَاءُ أَمْ لاَ.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مُعْتَادَةِ الْجُفُوفِ، وَمُعْتَادَةِ الْقَصَّةِ، وَمُعْتَادَةِ الْقَصَّةِ مَعَ الْجُفُوفِ. فَمُعْتَادَةُ الْجُفُوفِ إِذَا رَأَتِ الْقَصَّةَ أَوَّلاً، لاَ تَنْتَظِرُ الْجُفُوفَ وَإِذَا رَأَتِ الْجُفُوفَ أَوَّلاً، لاَ تَنْتَظِرُ الْقَصَّةَ.
وَأَمَّا مُعْتَادَةُ الْقَصَّةِ فَقَطْ، أَوْ مَعَ الْجُفُوفِ إِذَا رَأَتِ الْجُفُوفَ أَوَّلاً، نُدِبَ لَهَا انْتِظَارُ الْقَصَّةِ لآِخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ. وَإِنْ رَأَتِ الْقَصَّةَ أَوَّلاً فَلاَ تَنْتَظِرُ شَيْئًا بَعْدَ ذَلِكَ. فَالْقَصَّةُ أَبْلَغُ لِمُعْتَادَتِهَا، وَلِمُعْتَادَتِهَا مَعَ الْجُفُوفِ أَيْضًا (2) .
__________
(1) قول عائشة رضي الله عنها: " لا تعجلن. . . " تقدم تخريجه (ف / 9) .
(2) شرح فتح القدير 1 / 144 دار إحياء التراث العربي، الفتاوى الهندية 1 / 36 المطبعة الأميرية 1310هـ، حاشية الدسوقي 1 / 171 دار الفكر، المجموع 2 / 543 المكتبة السلفية المدينة المنورة، القوانين الفقهية 55، نيل المآرب 1 / 108 مكتبة الفلاح 1983 م بتحقيق محمد الأشقر، منار السبيل 1 / 58 المكتب الإسلامي 1982م.(18/310)
حُكْمُ الطُّهْرِ الْمُتَخَلِّل بَيْنَ أَيَّامِ الْحَيْضِ:
26 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي النَّقَاءِ الْمُتَخَلِّل بَيْنَ أَيَّامِ الْحَيْضِ، هَل هُوَ حَيْضٌ أَوْ طُهْرٌ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ حَيْضٌ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ طُهْرٌ. وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ بَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلْفِيقٌ) (1) .
(4) دَمُ الْحَامِل:
27 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دَمِ الْحَامِل هَل هُوَ دَمُ حَيْضٍ، أَوْ عِلَّةٍ وَفَسَادٍ؟ .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَمَ الْحَامِل دَمُ عِلَّةٍ وَفَسَادٍ، وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي سَبْيِ أَوْطَاسٍ: لاَ تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ (2) فَجَعَل الْحَيْضَ عَلَمًا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 192، مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 78، الفتاوى الهندية 1 / 36، الكافي 1 / 186 الرياض 1978 م، حاشية الدسوقي 1 / 168 دار الفكر، الخرشي على مختصر خليل 1 / 204 المطبعة العامرة 1316 هـ، مغني المحتاج 1 / 119، المبدع 1 / 289 المكتب الإسلامي 1980م، الروض المربع 1 / 36 - المطبعة السلفية 1380هـ القاهرة، كشاف القناع 1 / 204 عالم الكتب 1983 م.
(2) حديث: " لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة ". أخرجه أبو داود (3 / 614 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي سعيد وحسنه ابن حجر في التلخيص (1 / 172 - ط شركة الطباعة الفنية) .(18/311)
عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، فَدَل عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجْتَمِعُ مَعَهُ. وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِّ ابْنِ عُمَرَ - لَمَّا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ - مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلاً (1) . فَجَعَل الْحَمْل عَلَمًا عَلَى عَدَمِ الْحَيْضِ كَالطُّهْرِ.
وَقَدِ اسْتَحَبَّ الْحَنَابِلَةُ لِلْحَامِل أَنْ تَغْتَسِل عِنْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ عَنْهَا احْتِيَاطًا، وَخُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ دَمَ الْحَامِل حَيْضٌ، إِنْ تَوَافَرَتْ شُرُوطُهُ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ لِخَبَرِ: دَمُ الْحَيْضِ أَسْوَدُ يُعْرَفُ (2) وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ فِي الْحَامِل تَرَى الدَّمَ: أَنَّهَا تَتْرُكُ الصَّلاَةَ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَإِجْمَاعُ أَهْل الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ، وَلأَِنَّهُ دَمٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ دَمَيِ الْجِبِلَّةِ وَالْعِلَّةِ، وَالأَْصْل السَّلاَمَةُ مِنَ الْعِلَّةِ، وَلأَِنَّهُ دَمٌ لاَ يَمْنَعُهُ الرَّضَاعُ بَل إِذَا وُجِدَ مَعَهُ حُكِمَ بِكَوْنِهِ حَيْضًا، وَإِنْ نَدَرَ فَكَذَا لاَ يَمْنَعُهُ الْحَيْضُ (3) .
__________
(1) حديث: " مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرة أو حاملا ". أخرجه مسلم (2 / 1095 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(2) حديث: " دم الحيض أسود يعرف. . . " أخرجه أبو داود (1 / 197 تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 174 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث فاطمة بنت أبي حبيش، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 189، مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 98، الذخيرة 384، حاشية الدسوقي 1 / 169، نهاية المحتاج 1 / 355، مغني المحتاج 1 / 118، وكشاف القناع 1 / 202.(18/311)
وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ لِلْحَامِل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَخْتَلِفُ عَنْ غَيْرِهَا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي فَتْرَةِ الْحَيْضِ.
(5) أَنْوَاعُ الطُّهْرِ:
28 - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الطُّهْرَ إِلَى صَحِيحٍ، وَفَاسِدٍ، وَإِلَى تَامٍّ، وَنَاقِصٍ.
فَالطُّهْرُ الصَّحِيحُ: هُوَ النَّقَاءُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْثَر لاَ يَشُوبُهُ خِلاَلَهَا دَمٌ مُطْلَقًا لاَ فِي أَوَّلِهِ، وَلاَ فِي وَسَطِهِ، وَلاَ فِي آخِرِهِ، وَيَكُونُ بَيْنَ دَمَيْنِ صَحِيحَيْنِ، وَالطُّهْرُ الْفَاسِدُ مَا خَالَفَ الصَّحِيحَ فِي أَحَدِ أَوْصَافِهِ، بِأَنْ كَانَ أَقَلّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، أَوْ خَالَطَهُ دَمٌ أَوْ لَمْ يَقَعْ بَيْنَ دَمَيْنِ صَحِيحَيْنِ.
فَإِذَا كَانَ الطُّهْرُ أَقَلّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنَّهُ طُهْرٌ فَاسِدٌ، وَيُجْعَل كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي. وَلَوْ كَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، لَكِنْ خَالَطَهُ دَمٌ صَارَ طُهْرًا فَاسِدًا، كَمَا لَوْ رَأَتِ الْمُبْتَدَأَةُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَالطُّهْرُ هُنَا صَحِيحٌ ظَاهِرٌ، لأَِنَّهُ اسْتَكْمَل خَمْسَةَ عَشَرَ، لَكِنَّهُ فَاسِدٌ مَعْنًى، لأَِنَّ الْيَوْمَ الْحَادِيَ عَشَرَ تُصَلِّي فِيهِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الطُّهْرِ. فَقَدْ خَالَطَ هَذَا الطُّهْرَ دَمٌ فِي أَوَّلِهِ فَفَسَدَ.
وَإِذَا كَانَ الطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَكِنْ كَانَ بَيْنَ اسْتِحَاضَتَيْنِ، أَوْ بَيْنَ حَيْضَيْنِ وَنِفَاسٍ، أَوْ بَيْنَ نِفَاسٍ وَاسْتِحَاضَةٍ، أَوْ بَيْنَ طَرَفَيْ نِفَاسٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ طُهْرًا فَاسِدًا.
وَالطُّهْرُ التَّامُّ مَا كَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْثَر(18/312)
سَوَاءٌ أَكَانَ صَحِيحًا، أَمْ فَاسِدًا.
وَالطُّهْرُ النَّاقِصُ: مَا نَقَصَ عَنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الطُّهْرِ الْفَاسِدِ (1) .
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَيْضِ:
(1) الْبُلُوغُ:
29 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ عَلاَمَةٌ مِنْ عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ الَّتِي يَحْصُل بِهَا التَّكْلِيفُ، فَإِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ الدَّمَ فِي زَمَنِ الإِْمْكَانِ، أَصْبَحَتْ بَالِغَةً مُكَلَّفَةً يَجِبُ عَلَيْهَا مَا يَجِبُ عَلَى الْبَالِغَاتِ الْمُكَلَّفَاتِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَقْبَل اللَّهُ صَلاَةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ (2) . فَأَوْجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتَتِرَ لِبُلُوغِهَا بِالْحَيْضِ. فَدَل عَلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ حَصَل بِهِ. وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِالْحَيْضِ الَّذِي يَنْزِل بِنَفْسِهِ، أَمَّا إِذَا تَسَبَّبَ فِي جَلْبِهِ، فَلاَ يَكُونُ عَلاَمَةً (3) .
(2) التَّطَهُّرُ:
30 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ
__________
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 75، 76، دار سعادت 1325هـ.
(2) حديث: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار. . . " أخرجه أبو داود (1 / 421 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (2 / 215 - ط الحلبي) من حديث عائشة، واللفظ لأبي داود، وحسنه الترمذي.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 193، حاشية الدسوقي3 / 293، حاشية الجمل 1 / 238، وكشاف القناع 1 / 199، المغني 1 / 307 الرياض 1981م، الأشباه والنظائر للسيوطي 223 دار الكتب العلمية 1983م. الأشباه والنظائر لابن نجيم 323 مكتبة الهلال 1980 م.(18/312)
تَصِحُّ طَهَارَةُ الْحَائِضِ، فَإِذَا اغْتَسَلَتِ الْحَائِضُ لِرَفْعِ حَدَثِ الْجَنَابَةِ، فَلاَ يَصِحُّ غُسْلُهَا، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَائِضَ، إِنِ اغْتَسَلَتْ لِلْجَنَابَةِ زَمَنَ حَيْضِهَا صَحَّ غُسْلُهَا، وَاسْتُحِبَّ تَخْفِيفًا لِلْحَدَثِ، وَيَزُول حُكْمُ الْجَنَابَةِ. لأَِنَّ بَقَاءَ أَحَدِ الْحَدَثَيْنِ لاَ يَمْنَعُ ارْتِفَاعَ الآْخَرِ. كَمَا لَوِ اغْتَسَل الْمُحْدِثُ حَدَثًا أَصْغَر. وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِل لِلْجَنَابَةِ حَتَّى يَنْقَطِعَ حَيْضُهَا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ (1) .
(أ) غُسْل الْحَائِضِ:
31 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ مُوجِبٌ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْل، فَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ وَجَبَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَغْتَسِل لاِسْتِبَاحَةِ مَا كَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنْهُ بِالْحَيْضِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: دَعِي الصَّلاَةَ قَدْرَ الأَْيَّامِ الَّتِي كُنْت تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي (2) وَأَمَرَ بِهِ أُمَّ حَبِيبَةَ وَسَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ وَغَيْرَهُنَّ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} (3) أَيْ إِذَا اغْتَسَلْنَ، فَمَنَعَ الزَّوْجَ مِنْ وَطْئِهَا قَبْل غُسْلِهَا فَدَل عَلَى وُجُوبِهِ عَلَيْهَا لإِِبَاحَةِ الْوَطْءِ،
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 173، المجموع 2 / 349، كشاف القناع 1 / 146، 151، 197، البحر الرائق 1 / 203 المطبعة العلمية بالقاهرة.
(2) حديث: " فاطمة بنت أبي حبيش دعي الصلاة قدر الأيام. . . " سبق تخريجه بهذا المعنى ف / 16.
(3) سورة البقرة / 222.(18/313)
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الاِنْقِطَاعَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْغُسْل، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ إِلَى الصَّلاَةِ، إِمَّا حَقِيقَةً، بِأَنْ أَرَادَتْ صَلاَةَ مَا قَبْل دُخُول الْوَقْت مِنْ نَافِلَةٍ أَوْ مَقْضِيَّةٍ، أَوْ حُكْمًا بِأَنْ دَخَل وَقْتُ الصَّلاَةِ، إِذْ بِدُخُولِهِ تَجِبُ الصَّلاَةُ وَيَجِبُ تَحْصِيل شُرُوطِهَا وَإِنْ لَمْ تُرِدِ الْفِعْل فَهِيَ مُرِيدَةٌ حُكْمًا لِكَوْنِ الشَّارِعِ أَلْجَأَهَا إِلَى الْفِعْل الْمُسْتَلْزِمِ لِلإِْرَادَةِ فَهِيَ مُرِيدَةٌ بِالْقُوَّةِ (1) .
وَغُسْل الْحَيْضِ كَغُسْل الْجَنَابَةِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُغْتَسِلَةِ مِنَ الْحَيْضِ، غَيْرِ الْمُحْرِمَةِ وَالْمُحِدَّةِ تَطْيِيبُ مَوْضِعِ الدَّمِ (2) . لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، سَأَلْتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غُسْل الْمَحِيضِ؟ فَقَال: تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا (3) فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ. ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا، حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ. ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً
__________
(1) شرح فتح القدير 1 / 56 دار إحياء التراث العربي، حاشية ابن عابدين 1 / 119، 193 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 1 / 130، 173، نهاية المحتاج 1 / 211 مصطفى البابي الحلبي 1967 م، حاشية الجمل 1 / 150، 238 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 1 / 146، 199 عالم الكتب 1983 م.
(2) مغني المحتاج 1 / 74، كشاف القناع 1 / 153، مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 84 دار سعادت 1325 هـ.
(3)
(وسدرتها) السدرة شجرة النبق. والمراد هنا ورقها الذي ينتقع به في الغسيل.(18/313)
مُمَسَّكَةً فَتَطَهَّرُ بِهَا فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: وَكَيْفَ تَطَهَّرُ بِهَا. فَقَال: سُبْحَانَ اللَّهِ. تَطَهَّرِينَ بِهَا. فَقَالَتْ عَائِشَةُ. كَأَنَّهَا تُخْفِي ذَلِكَ تَتَبَّعِينَ أَثَرَ الدَّمِ. وَسَأَلَتْهُ عَنْ غُسْل الْجَنَابَةِ؟ فَقَال: تَأْخُذُ مَاءً فَتَطَهَّرُ، فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ، أَوْ تُبْلِغُ الطُّهُورَ. ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ. حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا. ثُمَّ تُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ (1) . فَقَالَتْ عَائِشَةُ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَْنْصَارِ، لَمْ يَكُنْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ (2) .
(ب) طَهَارَةُ الْحَائِضِ:
32 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي طَهَارَةِ جَسَدِ الْحَائِضِ، وَعَرَقِهَا، وَسُؤْرِهَا، وَجَوَازِ أَكْل طَبْخِهَا وَعَجْنِهَا، وَمَا مَسَّتْهُ مِنَ الْمَائِعَاتِ، وَالأَْكْل مَعَهَا وَمُسَاكَنَتُهَا، مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلاَ يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، فَسَأَل أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَل اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} (3) الآْيَةَ. فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْنَعُوا كُل شَيْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ فَأَنْكَرَتِ الْيَهُودُ ذَلِكَ. فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ
__________
(1) (شؤون رأسها) معناه أصول شعر رأسها. وأصول الشؤون الخطوط في عظام الجمجمة، وهو مجتمع شعب عظامها. الواحد منها شأن. وفي النهاية: هي عظامه وطرائقه ومواصل قبائله.
(2) حديث: " تأخذ إحداكن ماءها وسدرها " أخرجه مسلم (1 / 261 - ط الحلبي) .
(3) سورة البقرة / 222.(18/314)
وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ فَقَالاَ يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّ الْيَهُودَ تَقُول: كَذَا كَذَا، فَلاَ نُجَامِعُهُنَّ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا (1) .
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعَائِشَةَ: نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَقَالَتْ: إِنِّي حَائِضٌ. قَال: إِنَّ حَيْضَتَك لَيْسَتْ فِي يَدِك (2) . وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ مِنْ سُؤْرِ عَائِشَةَ وَهِيَ حَائِضٌ، وَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيهَا (3) . وَكَانَتْ تَغْسِل رَأْسَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حَائِضٌ (4) .
وَقَدْ نَقَل ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ (5) .
(3) الصَّلاَةُ:
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ مِنَ
__________
(1) حديث: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح ". أخرجه مسلم (1 / 246 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(2) حديث: " إن حيضتك ليست في يدك " أخرجه مسلم (1 / 245 - ط الحلبي) عن عائشة.
(3) حديث: " كان يشرب من سؤر عائشة وهي حائض ويضع فاه على موضع فيها " أخرجه مسلم (1 / 245 - 246 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(4) حديث: " كانت تغسل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض " أخرجه مسلم (1 / 244 - ط الحلبي) .
(5) حاشية ابن عابدين 1 / 194 دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي 1 / 35 - 50 دار الفكر، القوانين الفقهية 45 دار العلم للملايين 1979م. قليوبي وعميرة 1 / 100 عيسى البابي الحلبي، حاشية الجمل 1 / 235، دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 1 / 201 عالم الكتب 1983 م، المغني 1 / 201 الرياض 1981 م.(18/314)
الْحَائِضِ إِذِ الْحَيْضُ مَانِعٌ لِصِحَّتِهَا. كَمَا أَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَهَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا أَدَاؤُهَا. قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى إِسْقَاطِ فَرْضِ الصَّلاَةِ عَنْهَا فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ (1) كَمَا نَقَل النَّوَوِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَى سُقُوطِ وُجُوبِ الصَّلاَةِ عَنْهَا.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ سُجُودَ التِّلاَوَةِ وَالشُّكْرِ فِي مَعْنَى الصَّلاَةِ فَيَحْرُمَانِ عَلَى الْحَائِضِ.
كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ مَا فَاتَ الْحَائِضَ فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِمَا رَوَتْ مُعَاذَةُ قَالَتْ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا بَال الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، وَلاَ تَقْضِي الصَّلاَةَ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ فَقُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ (2) . وَلَكِنْ أَسْأَل. فَقَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلاَ نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاَةِ (3) . ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ قَضَائِهَا لِلصَّلاَةِ إِذَا أَرَادَتْ قَضَاءَهَا. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ
__________
(1) حديث: " إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 409 - ط السلفية) ومسلم (1 / 462 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) الحرورية نسبة إلى حروراء، مواطن الخوارج، تريد أن تقول لها أتتشددين كالخوارج.
(3) حديث عائشة: " كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 421 - ط السلفية) ومسلم (1 / 265 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.(18/315)
خِلاَفُ الأَْوْلَى. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ قَضَائِهَا، وَتَنْعَقِدُ نَفْلاً مُطْلَقًا لاَ ثَوَابَ فِيهِ، لأَِنَّهَا مَنْهِيَّةٌ عَنِ الصَّلاَةِ، لِذَاتِ الصَّلاَةِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لِذَاتِهِ لاَ ثَوَابَ فِيهِ. وَقَال أَبُو بَكْرٍ الْبَيْضَاوِيُّ بِحُرْمَتِهَا. وَخَالَفَ الرَّمْلِيُّ فَقَال بِصِحَّتِهَا وَانْعِقَادِهَا عَلَى قَوْل الْكَرَاهَةِ الْمُعْتَمَدِ، إِذْ لاَ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ طَلَبِ الْعِبَادَةِ عَدَمُ انْعِقَادِهَا. وَقِيل لأَِحْمَد فِي رِوَايَةِ الأَْثْرَمِ: فَإِنْ أَحَبَّتْ أَنْ تَقْضِيَهَا؟ قَال: لاَ، هَذَا خِلاَفُ السُّنَّةِ، قَال فِي الْفُرُوعِ: فَظَاهِرُ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ. وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَكِنَّهُ بِدْعَةٌ، وَلَعَل الْمُرَادَ إِلاَّ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، لأَِنَّهَا نُسُكٌ لاَ آخِرَ لِوَقْتِهِ (1) .
إِدْرَاكُ وَقْتِ الصَّلاَةِ:
الْحَائِضُ إِمَّا أَنْ تُدْرِكَ أَوَّل وَقْتِ الصَّلاَةِ بِأَنْ تَكُونَ طَاهِرًا ثُمَّ يَطْرَأَ الْحَيْضُ، أَوْ تُدْرِكَ آخِرَ الْوَقْتِ بِأَنْ تَكُونَ حَائِضًا ثُمَّ تَطْهُرَ.
(أ) إِدْرَاكُ أَوَّل الْوَقْتِ:
34 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا أَدْرَكَتِ الْحَائِضُ أَوَّل الْوَقْتِ، بِأَنْ كَانَتْ طَاهِرًا ثُمَّ حَاضَتْ هَل تَجِبُ عَلَيْهَا تِلْكَ الصَّلاَةُ أَوْ لاَ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 193، حاشية الدسوقي 1 / 172، الخرشي على خليل 1 / 207، نهاية المحتاج 1 / 330، مغني المحتاج 1 / 109، حاشية الجمل 1 / 240، كشاف القناع 1 / 197، الفروع 1 / 360، الإنصاف 1 / 346 دار إحياء التراث العربي 1986م. البحر الرائق 1 / 203 المطبعة العلمية بالقاهرة(18/315)
إِلَى أَنَّهُ إِنْ طَرَأَ الْحَيْضُ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ سَقَطَتْ تِلْكَ الصَّلاَةُ، وَلَوْ بَعْدَ مَا افْتَتَحَتِ الْفَرْضَ.
أَمَّا لَوْ طَرَأَ وَهِيَ فِي التَّطَوُّعِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلاَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ حَدَثَ الْحَيْضُ فِي وَقْتٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ سَقَطَتِ الصَّلاَتَانِ، وَإِنْ حَدَثَ فِي وَقْتٍ مُخْتَصٍّ بِإِحْدَاهُمَا، سَقَطَتِ الْمُخْتَصَّةُ بِالْوَقْتِ وَقُضِيَتِ الأُْخْرَى. فَمِثْلاً إِنَّ أَوَّل الزَّوَال مُخْتَصٌّ بِالظُّهْرِ إِلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ، وَرَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ، ثُمَّ تَشْتَرِكُ الصَّلاَتَانِ إِلَى أَنْ تَخْتَصَّ الْعَصْرُ بِأَرْبَعٍ قَبْل الْغُرُوبِ فِي الْحَضَرِ، وَرَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ. فَلَوْ حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِي وَقْتِ الاِشْتِرَاكِ سَقَطَتِ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَلَوْ حَاضَتْ فِي وَقْتِ الاِخْتِصَاصِ بِالْعَصْرِ وَكَانَتْ لَمْ تُصَل الظُّهْرَ وَلاَ الْعَصْرَ سَقَطَ عَنْهَا قَضَاءُ الْعَصْرِ وَحْدَهَا، وَلَوْ حَاضَتْ فِي وَقْتِ الاِخْتِصَاصِ بِالظُّهْرِ سَقَطَتْ، وَإِنْ تَمَادَى الْحَيْضُ إِلَى وَقْتِ الاِشْتِرَاكِ سَقَطَتِ الْعَصْرُ، فَإِنِ ارْتَفَعَ قَبْلَهُ وَجَبَتْ، وَمِثْل ذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ طَرَأَ الْحَيْضُ فِي أَوَّل الْوَقْتِ، فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهَا تِلْكَ الصَّلاَةُ فَقَطْ إِنْ أَدْرَكَتْ قَدْرَ الْفَرْضِ، وَلاَ تَجِبُ مَعَهَا الصَّلاَةُ الَّتِي تَجْمَعُ مَعَهَا بَعْدَهَا، وَيَجِبُ الْفَرْضُ الَّذِي قَبْلَهَا أَيْضًا، إِنْ كَانَتْ تَجْمَعُ مَعَهَا وَأَدْرَكَتْ قَدْرَهُ وَلَمْ تَكُنْ قَدْ صَلَّتْهُ لِتَمَكُّنِهَا مِنْ فِعْل ذَلِكَ.(18/316)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَدْرَكَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ أَوَّل الْوَقْتِ قَدْرَ تَكْبِيرَةٍ، ثُمَّ طَرَأَ الْحَيْضُ لَزِمَهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلاَةِ الَّتِي أَدْرَكَتِ التَّكْبِيرَةَ مِنْ وَقْتِهَا فَقَطْ، لأَِنَّ الصَّلاَةَ تَجِبُ بِدُخُول أَوَّل الْوَقْتِ عَلَى مُكَلَّفٍ، لَمْ يَقُمْ بِهِ مَانِعٌ وُجُوبًا مُسْتَقِرًّا، فَإِذَا قَامَ بِهِ مَانِعٌ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُسْقِطْهَا. فَيَجِبُ قَضَاؤُهَا عِنْدَ زَوَال الْمَانِعِ. وَلاَ تَلْزَمُهَا غَيْرُ الَّتِي دَخَل وَقْتُهَا قَبْل طُرُوءِ الْحَيْضِ، لأَِنَّهَا لَمْ تُدْرِكْ جُزْءًا مِنْ وَقْتِهَا، وَلاَ مِنْ وَقْتِ تَبَعِهَا فَلَمْ تَجِبْ (1) .
(ب) إِدْرَاكُ آخِرِ الْوَقْتِ:
35 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ الْوَقْتِ الَّذِي تُدْرِكُ فِيهِ الْحَائِضُ الصَّلاَةَ إِنْ طَهُرَتْ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ انْقِطَاعِ الدَّمِ لأَِكْثَرِ الْحَيْضِ، وَانْقِطَاعِهِ قَبْل أَكْثَرِ الْحَيْضِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُبْتَدَأَةِ، وَانْقِطَاعِ دَمِ الْمُعْتَادَةِ فِي أَيَّامِ عَادَتِهَا أَوْ بَعْدَهَا، أَوْ قَبْلَهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْتَادَةِ.
فَإِنْ كَانَ انْقِطَاعُ الدَّمِ لأَِكْثَرَ الْحَيْضِ فِي الْمُبْتَدَأَةِ، فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهَا الصَّلاَةُ لَوْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ تَحْرِيمَةٍ، وَإِنْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ
__________
(1) شرح فتح القدير 1 / 152 دار إحياء التراث العربي، القوانين الفقهية / 60 دار العلم للملايين 1979م. نهاية المحتاج 1 / 397 مصطفى البابي الحلبي 1967 م. مغني المحتاج 1 / 132 دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع 1 / 259 عالم الكتب 1983م.(18/316)
مَا يُمْكِنُهَا الاِغْتِسَال فِيهِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَدَاءُ الصَّلاَةِ. فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْوَقْتِ هَذَا الْمِقْدَارُ فَلاَ قَضَاءَ وَلاَ أَدَاءَ. فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمُ الْجُزْءُ الأَْخِيرُ مِنَ الْوَقْتِ بِقَدْرِ التَّحْرِيمَةِ. فَلَوْ كَانَتْ فِيهِ طَاهِرَةً وَجَبَتِ الصَّلاَةُ وَإِلاَّ فَلاَ.
وَإِنْ كَانَ انْقِطَاعُ الدَّمِ قَبْل أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُبْتَدَأَةِ، أَوْ كَانَ انْقِطَاعُهُ فِي أَيَّامِ عَادَتِهَا أَوْ بَعْدَهَا - قَبْل تَمَامِ أَكْثَرِ الْمُدَّةِ - أَوْ قَبْلَهَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْتَادَةِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ إِنْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرُ التَّحْرِيمَةِ، وَالْغُسْل أَوِ التَّيَمُّمِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَاءِ. وَلاَ بُدَّ هُنَا مِنْ بَقَاءِ قَدْرِ الْغُسْل أَوِ التَّيَمُّمِ زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ التَّحْرِيمَةِ، لأَِنَّ زَمَانَ الْغُسْل أَوِ التَّيَمُّمِ حَيْضٌ، فَلاَ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا قَبْل الْغُسْل أَوِ التَّيَمُّمِ، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَبْقَى مِنَ الْوَقْتِ زَمَنٌ يَسَعُهُ وَيَسَعُ التَّحْرِيمَةَ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ بَعْدَ زَمَانِ الْغُسْل أَوِ التَّيَمُّمِ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ التَّحْرِيمَةِ لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَذَلِكَ بِخِلاَفِ مَا لَوِ انْقَطَعَ الدَّمُ لأَِكْثَرَ الْمُدَّةِ فِي الْمُبْتَدَأَةِ، فَإِنَّهُ يَكْفِي قَدْرُ التَّحْرِيمَةِ فَقَطْ، لأَِنَّ زَمَانَ الْغُسْل أَوِ التَّيَمُّمِ مِنَ الطُّهْرِ، لِئَلاَّ يَزِيدَ الْحَيْضُ عَنِ الْعَشَرَةِ، فَبِمُجَرَّدِ الاِنْقِطَاعِ تَخْرُجُ مِنَ الْحَيْضِ، فَإِذَا أَدْرَكَتْ بَعْدَهُ قَدْرَ التَّحْرِيمَةِ تَحَقَّقَ طُهْرُهَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِل فَيَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ، وَالْمَقْصُودُ بِالْغُسْل هُنَا الْغُسْل مَعَ مُقَدِّمَاتِهِ، كَالاِسْتِقَاءِ، وَخَلْعِ الثِّيَابِ، وَالتَّسَتُّرِ عَنِ الأَْعْيُنِ، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ(18/317)
بِهِ الْغُسْل الْفَرْضُ لاَ الْمَسْنُونُ، لأَِنَّهُ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ رُجْحَانُ جَانِبِ الطَّهَارَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَائِضَ تُدْرِكُ الصَّلاَةَ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ رَكْعَةً تَامَّةً، وَذَلِكَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ، فَإِذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ قَبْل الطُّلُوعِ، أَوِ الْغُرُوبِ، أَوِ الْفَجْرِ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ، فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهَا تِلْكَ الصَّلاَةُ، وَلاَ تُدْرِكُ بِأَقَل مِنْ رَكْعَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَتُدْرِكُ الظُّهْرَ وَالْمَغْرِبَ إِذَا بَقِيَ مِنْ وَقْتِهِمَا الضَّرُورِيِّ مَا يَسَعُ فَضْل رَكْعَةٍ عَلَى الصَّلاَةِ الأُْولَى لاَ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ اللَّيْل قَدْرُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ صَلَّتِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، لأَِنَّهُ إِذَا صَلَّتِ الْمَغْرِبَ بَقِيَتْ رَكْعَةٌ لِلْعِشَاءِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الصَّلاَةَ تَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ وَقَدْ أَدْرَكَتْ مِنْ آخِرِ الْوَقْتِ قَدْرَ تَكْبِيرَةٍ، فَيَجِبُ قَضَاؤُهَا فَقَطْ إِنْ لَمْ تَجْمَعْ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَقَضَاؤُهَا وَقَضَاءُ مَا قَبْلَهَا إِنْ كَانَتْ تَجْمَعُ، فَإِذَا طَهُرَتْ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَبَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ تَكْبِيرَةً لَزِمَهَا قَضَاءُ الصُّبْحِ فَقَطْ، لأَِنَّ الَّتِي قَبْلَهَا لاَ تُجْمَعُ إِلَيْهَا. وَإِنْ طَهُرَتْ قَبْل غُرُوبِ الشَّمْسِ بِمِقْدَارِ تَكْبِيرَةٍ لَزِمَهَا قَضَاءُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَكَذَا إِنْ طَهُرَتْ قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ بِمِقْدَارِ تَكْبِيرَةٍ لَزِمَهَا قَضَاءُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالاَ: فِي(18/317)
الْحَائِضِ تَطْهُرُ قَبْل طُلُوعِ الْفَجْرِ بِرَكْعَةٍ " تُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، فَإِذَا طَهُرَتْ قَبْل غُرُوبِ الشَّمْسِ صَلَّتِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا " لأَِنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ وَقْتٌ لِلأُْولَى فِي حَالَةِ الْعُذْرِ، فَفِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ أَوْلَى، لأَِنَّهَا فَوْقَ الْعُذْرِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْوُجُوبُ بِقَدْرِ تَكْبِيرَةٍ لأَِنَّهُ إِدْرَاكٌ (1) .
(4) الصَّوْمُ:
36 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الصَّوْمِ عَلَى الْحَائِضِ مُطْلَقًا فَرْضًا أَوْ نَفْلاً، وَعَدَمُ صِحَّتِهِ مِنْهَا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَل، وَلَمْ تَصُمْ؟ قُلْنَ: بَلَى، قَال: فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا (2) فَإِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ الدَّمَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَسَدَ صَوْمُهَا، وَقَدْ نَقَل ابْنُ جَرِيرٍ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَكَوْنُ الصَّوْمِ لاَ يَصِحُّ مِنْهَا لاَ يُدْرَكُ مَعْنَاهُ، لأَِنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ مَشْرُوطَةً فِيهِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 196 مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 90 وما بعدها دار سعادت 1325هـ حاشية الدسوقي 1 / 182، مواهب الجليل 406، 408 دار الفكر 1978م. القوانين الفقهية 59 دار العلم للملايين 1979م. مغني المحتاج 1 / 132 دار إحياء التراث العربي، نهاية المحتاج 1 / 396 مصطفى البابي الحلبي 1967 م، كشاف القناع 1 / 259 عالم الكتب 1983 م.
(2) حديث أبي سعيد الخدري: " أليس إذا حاضت لم تصل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 405 ط السلفية) ومسلم (1 / 57 ط الحلبي) .(18/318)
كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ قَضَاءِ رَمَضَانَ عَلَيْهَا، لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الْحَيْضِ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلاَ نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاَةِ (1) . وَنَقَل التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمْ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ (2) . وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ، لأَِنَّهُ يُنَافِي الصَّوْمَ وَلاَ تَخْلُو عَنْهُ ذَاتُ الأَْقْرَاءِ فِي الشَّهْرِ غَالِبًا، وَالتَّأْخِيرُ إِلَى سِنِّ الْيَأْسِ فِيهِ خَطَرٌ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ وَنَحْوَهَا (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (كَفَّارَةٌ) .
إِدْرَاكُ الصَّوْمِ:
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ دَمُ الْحَيْضِ بَعْدَ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجْزِيهَا صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاؤُهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الإِْمْسَاكُ حِينَئِذٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ لَهَا التَّمَادِي عَلَى تَعَاطِي الْمُفْطِرِ وَلاَ يُسْتَحَبُّ لَهَا الإِْمْسَاكُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَلْزَمُهَا الإِْمْسَاكُ.
__________
(1) حديث: " عائشة " كان يصيبنا ذلك فنؤمر ": تقدم ف 33.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 193، مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 111 الرسالة الرابعة، حاشية الدسوقي 1 / 172، مغني المحتاج 1 / 109، المجموع 1 / 354، 355، كشاف القناع 1 / 197.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 193، حاشية الدسوقي 2 / 452، مغني المحتاج 3 / 365، كشاف القناع 5 / 384.(18/318)
كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا طَهُرَتِ الْمَرْأَةُ قَبْل الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْفَتْرَةِ الَّتِي إِذَا انْقَطَعَ فِيهَا الدَّمُ فَإِنَّهُ يَجْزِيهَا صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجْزِيهَا صَوْمُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرُ الاِغْتِسَال وَالتَّحْرِيمَةِ، لأَِنَّهُ لاَ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا إِلاَّ بِهَذَا، وَإِنْ بَقِيَ قَدْرُهُمَا يَجْزِيهَا، لأَِنَّ الْعِشَاءَ صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ مِنْ حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ فَحُكِمَ بِطَهَارَتِهَا ضَرُورَةً. وَالْمُرَادُ بِالْغُسْل هُنَا مَا يَشْمَل مُقَدِّمَاتِهِ كَمَا فِي غُسْل الْحَائِضِ لِلصَّلاَةِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا إِنْ رَأَتِ الطُّهْرَ قَبْل الْفَجْرِ بِلَحْظَةٍ وَجَبَ الصَّوْمُ، بِأَنْ رَأَتْ عَلاَمَةَ الطُّهْرِ مُقَارِنَةً لِلْفَجْرِ وَنَوَتِ الصَّوْمَ حِينَئِذٍ. وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مُعْتَادَةَ الْقَصَّةِ لاَ تَنْتَظِرُهَا هُنَا، بَل مَتَى رَأَتْ أَيَّ عَلاَمَةٍ جُفُوفًا كَانَتْ أَوْ قَصَّةً، وَجَبَ عَلَيْهَا الصَّوْمُ، وَيَصِحُّ صَوْمُهَا حِينَئِذٍ، وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِل إِلاَّ بَعْدَ الْفَجْرِ، بَل إِنْ لَمْ تَغْتَسِل أَصْلاً، لأَِنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الصَّوْمِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ مَتَى انْقَطَعَ دَمُ الْحَيْضِ وَجَبَ عَلَيْهَا الصَّوْمُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا فَتْرَةً مُعَيَّنَةً كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. قَال النَّوَوِيُّ: وَإِذَا انْقَطَعَ الْحَيْضُ ارْتَفَعَ تَحْرِيمُ الصَّوْمِ وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِل.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا نَوَتِ الْحَائِضُ(18/319)
صَوْمَ غَدٍ قَبْل انْقِطَاعِ دَمِهَا، ثُمَّ انْقَطَعَ لَيْلاً صَحَّ إِنْ تَمَّ لَهَا فِي اللَّيْل أَكْثَرُ الْحَيْضِ، وَكَذَا قَدْرُ الْعَادَةِ فِي الأَْصَحِّ. كَمَا صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِمِثْل هَذَا، فَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَوَتِ الْحَائِضُ صَوْمَ غَدٍ وَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهَا تَطْهُرُ لَيْلاً صَحَّ (1) .
(5) الْحَجُّ:
أ - أَغْسَال الْحَجِّ:
37 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى سُنِّيَّةِ أَغْسَال الْحَجِّ لِلْحَائِضِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ: قَالَتْ: قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلاَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. قَالَتْ: فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: افْعَلِي كَمَا يَفْعَل الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي (2) . فَيُسَنُّ لَهَا أَنْ تَغْتَسِل لِلإِْحْرَامِ، وَلِدُخُول مَكَّةَ. وَلِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَغَيْرِهَا مِنَ الأَْغْسَال الْمَسْنُونَةِ.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ الاِغْتِسَال لِدُخُول مَكَّةَ فَلَمْ يَسْتَحِبُّوهُ لِلْحَائِضِ، قَالُوا: لأَِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 197، مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 91، حاشية الدسوقي 1 / 514، 521 روضة الطالبين 1 / 137، 2 / 373، مغني المحتاج 1 / 426، كشاف القناع 2 / 309، 315.
(2) حديث عائشة: قالت: قدمت مكة وأنا حائض، ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، قالت فشكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: افعلي كما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري. أخرجه البخاري (الفتح 3 / 504 - ط السلفية) .(18/319)
لِلطَّوَافِ، فَلِذَا لاَ يُطْلَبُ مِنَ الْحَائِضِ لِمَنْعِهَا مِنْ دُخُول الْمَسْجِدِ (1) .
ب - الطَّوَافُ:
38 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحَيْضَ لاَ يَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ أَعْمَال الْحَجِّ إِلاَّ الطَّوَافَ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ: افْعَلِي مَا يَفْعَل الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ.
ثُمَّ إِنَّ الأَْطْوِفَةَ الْمَشْرُوعَةَ فِي الْحَجِّ ثَلاَثَةٌ: طَوَافُ الْقُدُومِ، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَدَا الْمَالِكِيَّةَ حَيْثُ قَالُوا بِوُجُوبِهِ، وَطَوَافُ الإِْفَاضَةِ، وَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ بِالاِتِّفَاقِ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَدَا الْمَالِكِيَّةَ حَيْثُ قَالُوا بِسُنِّيَّتِهِ.
فَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ قَبْل أَنْ تَطُوفَ طَوَافَ الْقُدُومِ سَقَطَ عَنْهَا وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِسُنِّيَّتِهِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهَا حَيْثُ بَقِيَ عُذْرُهَا بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُهَا الإِْتْيَانُ بِهِ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَإِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ قَبْل طَوَافِ الإِْفَاضَةِ، فَإِنَّهَا تَبْقَى عَلَى إِحْرَامِهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَطُوفَ. فَإِنْ طَافَتْ وَهِيَ حَائِضٌ فَلاَ يَصِحُّ طَوَافُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ - الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 193، حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني 1 / 398، 409، مغني المحتاج 1 / 478، كشاف القناع 1 / 151.(18/320)
وَالْحَنَابِلَةِ - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى صِحَّتِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ، لأَِنَّ الطَّهَارَةَ لَهُ وَاجِبَةٌ، وَهِيَ غَيْرُ طَاهِرَةٍ، وَتَأْثَمُ وَعَلَيْهَا بَدَنَةٌ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ بِلاَ طَوَافِ وَدَاعٍ، تَخْفِيفًا عَلَيْهَا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَاضَتْ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَنْصَرِفَ بِلاَ وَدَاعٍ (1) . وَعَنْ طَاوُسٍ قَال: " كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ قَال زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: تُفْتِي أَنْ تَصْدُرَ الْحَائِضُ قَبْل أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ. فَقَال لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِمَّا لاَ. فَسَل فُلاَنَةَ الأَْنْصَارِيَّةَ، هَل أَمَرَهَا بِذَلِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَال: فَرَجَعَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَضْحَكُ، وَهُوَ يَقُول: مَا أَرَاكَ إِلاَّ قَدْ صَدَقْتَ (2) .
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا إِنْ طَهُرَتْ قَبْل مُفَارَقَةِ بُنْيَانِ مَكَّةَ لَزِمَهَا الْعَوْدُ فَتَغْتَسِل وَتَطُوفُ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَعَلَيْهَا دَمٌ بِخِلاَفِ مَا إِذَا طَهُرَتْ خَارِجَ مَكَّةَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهَا (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجٌّ) .
__________
(1) حديث عائشة: " أن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم حاضت " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 586 - ط السلفية) ومسلم (2 / 964 - ط الحلبي) .
(2) حديث محاورة زيد بن ثابت مع ابن عباس. أخرجه مسلم (2 / 963 - 964 - ط الحلبي)
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 194، 2 / 148، 166، مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 113، حاشية الدسوقي 2 / 34، 53، نهاية المحتاج 3 / 317، مغني المحتاج 1 / 510، كشاف القناع 1 / 197، 2 / 483، 513، المغني 3 / 461.(18/320)
أ - قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ:
39 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ قِرَاءَةِ الْحَائِضِ لِلْقُرْآنِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى حُرْمَةِ قِرَاءَتِهَا لِلْقُرْآنِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلاَ الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ (1) .
وَهُنَاكَ تَفْصِيلاَتٌ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ حُرْمَةُ قِرَاءَتِهَا لِلْقُرْآنِ وَلَوْ دُونَ آيَةٍ مِنَ الْمُرَكَّبَاتِ لاَ الْمُفْرَدَاتِ، وَذَلِكَ إِذَا قَصَدَتِ الْقِرَاءَةَ، فَإِنْ لَمْ تَقْصِدِ الْقِرَاءَةَ بَل قَصَدَتِ الثَّنَاءَ أَوِ الذِّكْرَ فَلاَ بَأْسَ بِهِ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: فَلَوْ قَرَأَتِ الْفَاتِحَةَ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ، أَوْ شَيْئًا مِنَ الآْيَاتِ الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الدُّعَاءِ، وَلَمْ تُرِدِ الْقِرَاءَةَ لاَ بَأْسَ بِهِ، وَصَرَّحُوا أَنَّ مَا لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الدُّعَاءِ كَسُورَةِ الْمَسَدِ، لاَ تُؤَثِّرُ فِيهِ نِيَّةُ الدُّعَاءِ فَيَحْرُمُ، وَقَدْ أَجَازُوا لِلْمُعَلِّمَةِ الْحَائِضِ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ كَلِمَةً كَلِمَةً، وَذَلِكَ بِأَنْ تُقَطِّعَ بَيْنَ كُل كَلِمَتَيْنِ، لأَِنَّهَا لاَ تُعَدُّ بِالْكَلِمَةِ قَارِئَةً. كَمَا أَجَازُوا لِلْحَائِضِ أَنْ تَتَهَجَّى بِالْقُرْآنِ حَرْفًا حَرْفًا، أَوْ كَلِمَةً كَلِمَةً مَعَ الْقَطْعِ، مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ،
__________
(1) حديث: " لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن " أخرجه الترمذي (1 / 236 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر، ثم نقل الترمذي عن البخاري أنه أعل إسناده.(18/321)
وَكَرِهُوا لَهَا قِرَاءَةَ مَا نُسِخَتْ تِلاَوَتُهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلاَ يُكْرَهُ لَهَا قِرَاءَةُ الْقُنُوتِ، وَلاَ سَائِرُ الأَْذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ حُرْمَةُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْحَائِضِ وَلَوْ بَعْضَ آيَةٍ، كَحَرْفٍ لِلإِْخْلاَل بِالتَّعْظِيمِ سَوَاءٌ أَقَصَدَتْ مَعَ ذَلِكَ غَيْرَهَا أَمْ لاَ، وَصَرَّحُوا بِجَوَازِ إِجْرَاءِ الْقُرْآنِ عَلَى قَلْبِهَا مِنْ غَيْرِ تَحْرِيكِ اللِّسَانِ، وَجَوَازِ النَّظَر فِي الْمُصْحَفِ، وَإِمْرَارِ مَا فِيهِ فِي الْقَلْبِ، وَكَذَا تَحْرِيكُ لِسَانِهَا وَهَمْسُهَا بِحَيْثُ لاَ تُسْمِعُ نَفْسَهَا، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِقِرَاءَةِ قُرْآنٍ. وَيَجُوزُ لَهَا قِرَاءَةُ مَا نُسِخَتْ تِلاَوَتُهُ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا قِرَاءَةُ آيَةٍ فَصَاعِدًا، وَلاَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا قِرَاءَةُ بَعْضِ آيَةٍ، لأَِنَّهُ لاَ إِعْجَازَ فِيهِ، وَذَلِكَ مَا لَمْ تَكُنْ طَوِيلَةً، كَمَا لاَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَكْرِيرُ بَعْضِ آيَةٍ مَا لَمْ تَتَحَيَّل عَلَى الْقِرَاءَةِ فَتَحْرُمُ عَلَيْهَا. وَلَهَا تَهْجِيَةُ آيِ الْقُرْآنِ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِقِرَاءَةٍ لَهُ، وَلَهَا التَّفَكُّرُ فِيهِ وَتَحْرِيكُ شَفَتَيْهَا بِهِ مَا لَمْ تُبَيِّنِ الْحُرُوفَ، وَلَهَا قِرَاءَةُ أَبْعَاضِ آيَةٍ مُتَوَالِيَةٍ، أَوْ آيَاتٍ سَكَتَتْ بَيْنَهَا سُكُوتًا طَوِيلاً. وَلَهَا قَوْل مَا وَافَقَ الْقُرْآنَ وَلَمْ تَقْصِدْهُ، كَالْبَسْمَلَةِ، وَقَوْل الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَآيَةِ الاِسْتِرْجَاعِ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} وَآيَةِ الرُّكُوبِ، وَلَهَا أَيْضًا أَنْ يُقْرَأَ عَلَيْهَا وَهِيَ سَاكِتَةٌ، لأَِنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ تُنْسَبُ إِلَى الْقِرَاءَةِ، وَلَهَا أَنْ تَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى، وَاخْتَارَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْحَائِضِ أَنْ(18/321)
تَقْرَأَ الْقُرْآنَ إِذَا خَافَتْ نِسْيَانَهُ، بَل يَجِبُ لأَِنَّ مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَائِضَ يَجُوزُ لَهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي حَال اسْتِرْسَال الدَّمِ مُطْلَقًا، كَانَتْ جُنُبًا أَمْ لاَ، خَافَتِ النِّسْيَانَ أَمْ لاَ. وَأَمَّا إِذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا، فَلاَ تَجُوزُ لَهَا الْقِرَاءَةُ حَتَّى تَغْتَسِل جُنُبًا كَانَتْ أَمْ لاَ، إِلاَّ أَنْ تَخَافَ النِّسْيَانَ.
هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ، لأَِنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى التَّطَهُّرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ هُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا جَازَ لَهَا الْقِرَاءَةُ إِنْ لَمْ تَكُنْ جُنُبًا قَبْل الْحَيْضِ. فَإِنْ كَانَتْ جَنْبًا قَبْلَهُ فَلاَ تَجُوزُ لَهَا الْقِرَاءَةُ (1) .
(ب) مَسُّ الْمُصْحَفِ وَحَمْلُهُ:
40 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ مَسُّ الْمُصْحَفِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} (2) وَلِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى أَهْل الْيَمَنِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 195، مجموعة رسائل ابن عابدين 1 / 111، 112، حاشية الدسوقي 1 / 174، مغني المحتاج 1 / 72، المجموع 1 / 356، كشاف القناع 1 / 147، الإنصاف 1 / 347.
(2) سورة الواقعة / 79.(18/322)
كِتَابًا، وَكَانَ فِيهِ: لاَ يَمَسُّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ (1) وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الْمُعَلِّمَةَ وَالْمُتَعَلِّمَةَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُمَا مَسُّ الْمُصْحَفِ. وَهُنَاكَ تَفْصِيلاَتٌ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (مُصْحَفٌ) .
دُخُول الْمَسْجِدِ:
41 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْحَائِضِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ أُحِل الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلاَ جُنُبٍ (2) وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الاِعْتِكَافُ كَمَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِذَلِكَ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ عُبُورِهَا لِلْمَسْجِدِ دُونَ لُبْثٍ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ وَالْعُذْرِ، كَالْخَوْفِ مِنَ السَّبُعِ قِيَاسًا عَلَى الْجُنُبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} (3) وَاللِّصِّ وَالْبَرْدِ وَالْعَطَشِ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عَائِشَةَ أَنْ تُنَاوِلَهُ الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَقَالَتْ إِنَّهَا حَائِضٌ فَقَال
__________
(1) حديث عمرو بن حزم: " لا يمس القرآن إلا طاهر ". أخرجه الدارقطني (2 / 285 - دار المحاسن) وصوب ابن عبد البر الإرسال فيه كما في حاشية الموطأ (1 / 199 - ط الحلبي) ولكن له شواهد تقويه، ذكرها ابن حجر في التلخيص (1 / 131 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " أخرجه أبو داود (1 / 159 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة، وفي إسناده جهالة، كذا في التلخيص لابن حجر (1 / 140 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) سورة النساء / 43.(18/322)
حَيْضَتُك لَيْسَتْ بِيَدِكِ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الأَْوْلَى لَهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَنْ تَتَيَمَّمَ ثُمَّ تَدْخُل.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ حُرْمَةَ دُخُولِهَا الْمَسْجِدَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ لِلْمُكْثِ أَوْ لِلْعُبُورِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ دُخُولَهَا لِلطَّوَافِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى حُرْمَةِ مُرُورِهَا فِي الْمَسْجِدِ إِنْ خَافَتْ تَلْوِيثَهُ، لأَِنَّ تَلْوِيثَهُ بِالنَّجَاسَةِ مُحَرَّمٌ، وَالْوَسَائِل لَهَا حُكْمُ الْمَقَاصِدِ. فَإِنْ أَمِنَتْ تَلْوِيثَهُ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ عُبُورِهَا الْمَسْجِدَ، وَمَحِل الْكَرَاهَةِ إِذَا عَبَرَتْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَمِنَ الْحَاجَةِ الْمُرُورُ مِنَ الْمَسْجِدِ، لِبُعْدِ بَيْتِهَا مِنْ طَرِيقٍ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَقُرْبِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لاَ تُمْنَعُ مِنْ مُرُورِهَا فِي الْمَسْجِدِ حِينَئِذٍ. قَال أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ - تَمُرُّ وَلاَ تَقْعُدُ.
كَمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دُخُول الْحَائِضِ مُصَلَّى الْعِيدِ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَكَذَا مُصَلَّى الْجِنَازَةِ إِذْ لَيْسَ لَهُمَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي الأَْصَحِّ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى حُرْمَةِ مُصَلَّى الْعِيدِ عَلَيْهَا، لأَِنَّهُ مَسْجِدٌ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيَعْتَزِل الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى، وَأَجَازُوا مُصَلَّى الْجَنَائِزِ لَهَا لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ.(18/323)
الاِسْتِمْتَاعُ بِالْحَائِضِ:
42 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ وَطْءِ الْحَائِضِ فِي الْفَرَجِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْنَعُوا كُل شَيْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ وَحَكَى النَّوَوِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مَنْ بِهِ شَبَقٌ لاَ تَنْدَفِعُ شَهْوَتُهُ بِدُونِ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ، وَيَخَافُ تَشَقُّقَ أُنْثَيَيْهِ إِنْ لَمْ يَطَأْ، وَلاَ يَجِدُ غَيْرَ الْحَائِضِ، بِأَنْ لاَ يَقْدِرَ عَلَى مَهْرِ امْرَأَةٍ أُخْرَى.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الاِسْتِمْتَاعِ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - إِلَى حُرْمَةِ الاِسْتِمْتَاعِ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَتْ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا فَأَرَادَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَاشِرَهَا أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ ثُمَّ يُبَاشِرُهَا. قَالَتْ: وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِكُ إِرْبَهُ وَعَنْ مَيْمُونَةَ(18/323)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نَحْوُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ يُبَاشِرُ الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَائِهِ وَهِيَ حَائِضٌ إِذَا كَانَ عَلَيْهَا إِزَارٌ وَلأَِنَّ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ حَرِيمٌ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ يَرْعَى حَوْل الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَ الْحِمَى.
وَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الاِسْتِمْتَاعَ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ.
وَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ. كَمَا مَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ النَّظَرَ إِلَى مَا تَحْتَ الإِْزَارِ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِهِ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الاِسْتِمْتَاعِ بِالرُّكْبَةِ لاِسْتِدْلاَلِهِمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا دُونَ الإِْزَارِ وَمَحَلُّهُ الْعَوْرَةُ الَّتِي يَدْخُل فِيهَا الرُّكْبَةُ. وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الاِسْتِمْتَاعَ بِالسُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ حُكْمَ مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ لِزَوْجِهَا، وَقَرَّرُوا أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا مُبَاشَرَتُهَا لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرُكْبَتِهَا فِي جَمِيعِ بَدَنِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الاِسْتِمْتَاعِ مِنَ الْحَائِضِ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَهَذَا مِنْ مُفْرَدَاتِ الْمَذْهَبِ.(18/324)
وَيُسْتَحَبُّ لَهُ حِينَئِذٍ سَتْرُ الْفَرْجِ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، قَال فِي النُّكَتِ: وَظَاهِرُ كَلاَمِ إِمَامِنَا وَأَصْحَابِنَا أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ مُوَاقَعَةَ الْمَحْظُورِ أَوْ يَخَافَ، وَصَوَّبَ الْمِرْدَاوِيُّ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَأْمَنْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ حَرُمَ عَلَيْهِ لِئَلاَّ يَكُونَ طَرِيقًا إِلَى مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ.
كَفَّارَةُ وَطْءِ الْحَائِضِ:
43 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ وَطْءَ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ كَبِيرَةٌ مِنَ الْعَامِدِ الْمُخْتَارِ الْعَالِمِ بِالتَّحْرِيمِ، وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ لأَِنَّهُ حَرَامٌ لِغَيْرِهِ. وَقَدْ أَوْجَبَ الْحَنَابِلَةُ نِصْفَ دِينَارٍ ذَهَبًا كَفَّارَةً فِي وَطْءِ الْحَائِضِ، وَهُوَ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْمَذْهَبِ.
وَاسْتَحَبَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ إِنْ كَانَ الْجِمَاعُ فِي أَوَّل الْحَيْضِ وَبِنِصْفِهِ إِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: أَوْ وَسَطِهِ. لِحَدِيثِ: إِذَا وَاقَعَ الرَّجُل أَهْلَهُ وَهِيَ حَائِضٌ إِنْ كَانَ دَمًا أَحْمَر(18/324)
فَدِينَارٌ، وَإِنْ كَانَ دَمًا أَصْفَرَ فَنِصْفُ دِينَارٍ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَطْءُ الْحَائِضِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْحَيْضِ:
44 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل وَطْءُ الْحَائِضِ حَتَّى تَطْهُرَ - يَنْقَطِعَ الدَّمُ - وَتَغْتَسِل. فَلاَ يُبَاحُ وَطْؤُهَا قَبْل الْغُسْل، قَالُوا: لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ لِحِل الْوَطْءِ شَرْطَيْنِ: انْقِطَاعَ الدَّمِ، وَالْغُسْل، فَقَال تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} أَيْ يَنْقَطِعَ دَمَهُنَّ. {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أَيِ اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ {فَأَتَوْهُنَّ} . وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ يَكْفِي التَّيَمُّمُ لِعُذْرٍ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِي حِل الْوَطْءِ فَلاَ بُدَّ مِنَ الْغُسْل حَتَّى يَحِل وَطْؤُهَا.
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَنْقَطِعَ الدَّمُ لأَِكْثَرَ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْقَطِعَ لأَِقَلِّهِ، وَكَذَا بَيْنَ أَنْ يَنْقَطِعَ لِتَمَامِ عَادَتِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَنْقَطِعَ قَبْل عَادَتِهَا. فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ عَلَى أَكْثَرِ الْمُدَّةِ فِي الْحَيْضِ وَلَوْ حُكْمًا بِأَنْ زَادَ عَلَى أَكْثَرِ الْمُدَّةِ، فَإِنَّهُ(18/325)
يَجُوزُ وَطْؤُهَا بِدُونِ غُسْلٍ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ الْوَطْءِ لِمَا بَعْدَ الْغُسْل.
وَإِنِ انْقَطَعَ دَمُهَا قَبْل أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ أَوْ لِتَمَامِ الْعَادَةِ فِي الْمُعْتَادَةِ بِأَنْ لَمْ يَنْقُصْ عَنِ الْعَادَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ وَطْؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِل أَوْ تَتَيَمَّمَ، أَوْ أَنْ تَصِيرَ الصَّلاَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْقَى مِنَ الْوَقْتِ بَعْدَ الاِنْقِطَاعِ مِقْدَارُ الْغُسْل وَالتَّحْرِيمَةِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهَا بِمُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا بَعْدَهُ وَلَوْ قَبْل الْغُسْل.
وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ قَبْل الْعَادَةِ وَفَوْقَ الثَّلاَثِ، فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ وَطْؤُهَا حَتَّى تَمْضِيَ عَادَتُهَا وَإِنِ اغْتَسَلَتْ، لأَِنَّ الْعَوْدَ فِي الْعَادَةِ غَالِبٌ، فَكَانَ الاِحْتِيَاطُ فِي الاِجْتِنَابِ، فَلَوْ كَانَ حَيْضُهَا الْمُعْتَادُ لَهَا عَشَرَةً فَحَاضَتْ ثَلاَثَةً وَطَهُرَتْ سِتَّةً لاَ يَحِل وَطْؤُهَا مَا لَمْ تَمْضِ الْعَادَةُ.
طَلاَقُ الْحَائِضِ:
45 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِيقَاعَ الطَّلاَقِ فِي فَتْرَةِ الْحَيْضِ حَرَامٌ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ الطَّلاَقِ الْبِدْعِيِّ لِنَهْيِ الشَّارِعِ عَنْهُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ0 وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ عُمَرُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: مُرْهُ(18/325)
فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا طَاهِرًا قَبْل أَنْ يَمَسَّ وَلِمُخَالِفَتِهِ قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أَيْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَشْرَعْنَ فِيهِ فِي الْعِدَّةِ، وَزَمَنُ الْحَيْضِ لاَ يُحْسَبُ مِنَ الْعِدَّةِ، وَلأَِنَّ فِي إِيقَاعِ الطَّلاَقِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ ضَرَرًا بِالْمَرْأَةِ لِتَطْوِيل الْعِدَّةِ عَلَيْهَا حَيْثُ إِنَّ بَقِيَّةَ الْحَيْضِ لاَ تُحْسَبُ مِنْهَا.
كَمَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُقُوعِ الطَّلاَقِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْمُرَاجَعَةِ، وَهِيَ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلاَقِ، وَفِي لَفْظِ الدَّارَقُطْنِيِّ، قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ أَرَأَيْتُ لَوْ أَنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلاَثًا. قَال: كَانَتْ تَبِينُ مِنْكَ وَتَكُونُ مَعْصِيَةً قَال نَافِعٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً فَحُسِبَتْ مِنْ طَلاَقِهِ، رَاجَعَهَا كَمَا أَمَرَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلأَِنَّهُ طَلاَقٌ مِنْ مُكَلَّفٍ فِي مَحَلِّهِ فَوَقَعَ كَطَلاَقِ الْحَامِل، وَلأَِنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَيُعْتَبَرُ لِوُقُوعِهِ مُوَافَقَةُ السُّنَّةِ بَل هُوَ إِزَالَةُ عِصْمَةٍ وَقَطْعُ مِلْكٍ، فَإِيقَاعُهُ فِي زَمَنِ الْبِدْعَةِ أَوْلَى تَغْلِيظًا عَلَيْهِ وَعُقُوبَةً لَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ(18/326)
مُرَاجَعَتِهَا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مُرَاجَعَتَهَا سُنَّةٌ.
وَمَا سَبَقَ مِنْ أَحْكَامٍ إِنَّمَا هُوَ فِي طَلاَقِ الْحَائِضِ الْمَدْخُول بِهَا أَوْ مِنْ فِي حُكْمِهَا. وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (طَلاَقٌ) .
خُلْعُ الْحَائِضِ:
46 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى جَوَازِ الْخُلْعِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ لإِِطْلاَقِ قَوْله تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَلِحَاجَتِهَا إِلَى الْخَلاَصِ بِالْمُفَارَقَةِ حَيْثُ افْتَدَتْ بِالْمَال.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى مَنْعِ الْخُلْعِ فِي الْحَيْضِ وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خُلْعٌ) .
مَا يَحِل بِانْقِطَاعِ الدَّمِ:
47 - إِذَا انْقَطَعَ دَمُ الْحَيْضِ لَمْ يَحِل مِمَّا حَرُمَ غَيْرُ الصَّوْمِ وَالطَّلاَقِ، وَلَمْ يُبَحْ غَيْرُهُمَا حَتَّى تَغْتَسِل(18/326)
وَإِنَّمَا أُبِيحَ الصَّوْمُ وَالطَّلاَقُ بِالاِنْقِطَاعِ دُونَ الْغُسْل، أَمَّا الصَّوْمُ فَلأَِنَّ تَحْرِيمَهُ بِالْحَيْضِ لاَ بِالْحَدَثِ بِدَلِيل صِحَّتِهِ مِنَ الْجُنُبِ، وَقَدْ زَال، وَأَمَّا بِالطَّلاَقِ فَلِزَوَال الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ وَهُوَ تَطْوِيل الْعِدَّةِ (1)
أَحْكَامٌ عَامَّةٌ:
1 - إِنْزَال وَرَفْعُ الْحَيْضِ بِالدَّوَاءِ:
48 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ شُرْبُ دَوَاءٍ مُبَاحٍ لِقَطْعِ الْحَيْضِ إِنْ أُمِنَ الضَّرَرُ، وَذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِإِذْنِ الزَّوْجِ. لأَِنَّ لَهُ حَقًّا فِي الْوَلَدِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ مَخَافَةَ أَنْ تُدْخِل عَلَى نَفْسِهَا ضَرَرًا بِذَلِكَ فِي جِسْمِهَا. كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَشْرَبَ دَوَاءً مُبَاحًا لِحُصُول الْحَيْضِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا غَرَضٌ مُحَرَّمٌ شَرْعًا كَفِطْرِ رَمَضَانَ فَلاَ يَجُوزُ.
ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ مَتَى شَرِبَتْ دَوَاءً وَارْتَفَعَ حَيْضُهَا فَإِنَّهُ يُحْكَمُ لَهَا بِالطَّهَارَةِ، وَأَمَّا إِنْ شَرِبَتْ دَوَاءً وَنَزَل الْحَيْضُ قَبْل وَقْتِهِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ النَّازِل غَيْرُ حَيْضٍ وَأَنَّهَا طَاهِرٌ. فَلاَ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَلاَ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ، وَتُصَلِّي وَتَصُومُ لاِحْتِمَال كَوْنِهِ غَيْرَ حَيْضٍ، وَتَقْضِي الصَّوْمَ دُونَ الصَّلاَةِ احْتِيَاطًا لاِحْتِمَال أَنَّهُ حَيْضٌ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَتِ الْمَرْأَةُ دَوَاءً
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 110، كشاف القناع 1 / 199.(18/327)
فَنَزَل الدَّمُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ حَيْضٌ وَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ (1) .
2 - ادِّعَاءُ الْحَيْضِ:
49 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ الْحَيْضَ وَأَمْكَنَ ذَلِكَ قُبِل قَوْلُهَا وُجُوبًا، لأَِنَّهَا مُؤْتَمَنَةٌ فَيَحْرُمُ وَطْؤُهَا حِينَئِذٍ وَإِنْ كَذَّبَهَا، وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ مِمَّا إِذَا كَانَتْ عَفِيفَةً أَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهَا، أَمَّا لَوْ كَانَتْ فَاسِقَةً وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهَا بِأَنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ أَوَانِ الْحَيْضِ فَلاَ يُقْبَل قَوْلُهَا اتِّفَاقًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا إِنْ أَخْبَرَتْهُ بِالْحَيْضِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مُبَاشَرَتُهَا إِنْ صَدَّقَهَا وَإِلاَّ فَلاَ، وَإِذَا صَدَّقَهَا وَادَّعَتْ دَوَامَهُ صُدِّقَتْ (2) .
3 - مَا يَتَّفِقُ فِيهِ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ مِنْ أَحْكَامٍ وَمَا يَخْتَلِفَانِ فِيهِ:
50 - حُكْمُ النِّفَاسِ حُكْمُ الْحَيْضِ فِي سَائِرِ أَحْكَامِهِ إِلاَّ فِي مَسَائِل:
1 - الاِعْتِدَادُ بِالْحَيْضِ دُونَ النِّفَاسِ، لأَِنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِالْقُرُوءِ، وَالنِّفَاسُ لَيْسَ بِقُرْءٍ، وَلأَِنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْل.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 202، حاشية الدسوقي 1 / 167، 168، مواهب الجليل 1 / 366، كشاف القناع 1 / 218.
(2) حاشية ابن عابدين1 / 198، حاشية قليوبي وعميرة 1 / 100، كشاف القناع 1 / 200.(18/327)
2 - حُصُول الْبُلُوغِ بِالْحَيْضِ دُونَ النِّفَاسِ حَيْثُ إِنَّ الْبُلُوغَ يَحْصُل قَبْلَهُ بِالْحَمْل، لأَِنَّ الْوَلَدَ يَنْعَقِدُ مِنْ مَائِهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (1) .
3 - الْحَيْضُ يَكُونُ اسْتِبْرَاءً، بِخِلاَفِ النِّفَاسِ.
4 - الْحَيْضُ لاَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ، بِخِلاَفِ النِّفَاسِ.
5 - احْتِسَابُ الْحَيْضِ فِي مُدَّةِ الإِْيلاَءِ دُونَ النِّفَاسِ.
6 - يَحْصُل بِالْحَيْضِ الْفَصْل بَيْنَ طَلاَقَيْ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ بِخِلاَفِ النِّفَاسِ.
7 - أَقَل الْحَيْضِ مَحْدُودٌ، وَلاَ حَدَّ لأَِقَل النِّفَاسِ، وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ عَشَرَةٌ، أَوْ ثَلاَثَةَ عَشَرَ، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَأَكْثَرُ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ، أَوْ سِتُّونَ. (2)
__________
(1) سورة الطارق / 6.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 199، حاشية الدسوقي 1 / 175، مواهب الجليل 1 / 376، كشاف القناع 1 / 199، الأشباه والنطائر لابن نجيم 373 دار الهلال 1980 م. الأشباه والنظائر للسيوطي 419 دار الكتب العلمية 1983 م.(18/328)
حِيلَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحِيلَةُ لُغَةً: الْحِذْقُ فِي تَدْبِيرِ الأُْمُورِ، وَهُوَ تَقْلِيبُ الْفِكْرِ حَتَّى يَهْتَدِيَ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَأَصْل الْيَاءِ وَاوٌ، (1) وَهِيَ مَا يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى حَالَةٍ مَا، فِي خُفْيَةٍ.
وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا فِي تَعَاطِيهِ خُبْثٌ. وَقَدْ تُسْتَعْمَل فِيمَا فِيهِ حِكْمَةٌ. (2)
وَأَصْلُهَا مِنَ الْحَوْل، وَهُوَ التَّحَوُّل مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ بِنَوْعِ تَدْبِيرٍ وَلُطْفٍ يُحِيل بِهِ الشَّيْءَ عَنْ ظَاهِرِهِ، أَوْ مِنَ الْحَوْل بِمَعْنَى الْقُوَّةِ. وَتُجْمَعُ الْحِيلَةُ عَلَى الْحِيَل. (3)
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ الْحِيلَةَ بِمَعْنًى أَخَصَّ مِنْ مَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ، فَهِيَ نَوْعٌ مَخْصُوصٌ مِنَ الْعَمَل الَّذِي يَتَحَوَّل بِهِ فَاعِلُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا عُرْفًا فِي
__________
(1) المصباح المنير مادة: " حول ".
(2) مفردات الراغب مادة: " حول " والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 405.
(3) اللسان.(18/328)
سُلُوكِ الطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى حُصُول الْغَرَضِ، بِحَيْثُ لاَ يُتَفَطَّنُ لَهَا إِلاَّ بِنَوْعٍ مِنَ الذَّكَاءِ وَالْفَطِنَةِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْخُدْعَةُ:
2 - أَصْل الْخُدْعَةِ إِخْفَاءُ الشَّيْءِ أَوِ الْفَسَادُ. وَيُرَادُ بِهَا إِظْهَارُ مَا يُبْطَنُ خِلاَفُهُ، أَرَادَ اجْتِلاَبَ نَفْعٍ، أَوْ دَفْعَ ضُرٍّ، وَلاَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ تَدَبُّرٍ، وَنَظَرٍ، وَفِكْرٍ، وَهَذَا مَا يُفَرِّقُهُ عَنِ الْحِيلَةِ.
فَهُوَ بِمَعْنَى الْخَدِيعَةِ، وَكَذَلِكَ الْخِلاَبَةُ (2) .
الْغُرُورُ:
3 - الْغُرُورُ: إِيهَامٌ يَحْمِل الإِْنْسَانَ عَلَى فِعْل مَا يَضُرُّهُ.
التَّدْبِيرُ:
4 - التَّدْبِيرُ تَقْوِيمُ الأَْمْرِ عَلَى مَا يَكُونُ فِيهِ صَلاَحُ عَاقِبَتِهِ.
وَأَصْلُهُ مِنَ الدُّبُرِ، وَأَدْبَارُ الأُْمُورِ عَوَاقِبُهَا.
فَيَشْتَرِكُ التَّدْبِيرُ وَالْحِيلَةُ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ فِي كُلٍّ إِحَالَةُ شَيْءٍ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، وَاخْتَصَّ
__________
(1) أعلام الموقعين 3 / 240.
(2) المصباح المنير مادة: " خدع " والفروق في اللغة ص 212 - 215.(18/329)
التَّدْبِيرُ بِمَا يَكُونُ فِيهِ صَلاَحُ الْعَاقِبَةِ، أَمَّا الْحِيلَةُ فَتَعُمُّ الصَّلاَحَ وَالْفَسَادَ (1) .
الْكَيْدُ:
5 - الْكَيْدُ إِيقَاعُ الْمَكْرُوهِ بِالْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ. (2)
وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الاِحْتِيَال وَقَدْ يَكُونُ مَذْمُومًا أَوْ مَمْدُوحًا، وَفِي الأَْوَّل أَكْثَرُ، وَكَذَلِكَ الاِسْتِدْرَاجُ وَالْمَكْرُ وَبَعْضُ ذَلِكَ مَمْدُوحٌ (3) كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} (4)
الْمَكْرُ:
6 - الْمَكْرُ صَرْفُ الْغَيْرِ عَمَّا يَقْصِدُهُ بِحِيلَةٍ، وَمِنْهُ الْمَحْمُودُ وَالْمَذْمُومُ.
وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْحِيلَةِ (5) .
التَّوْرِيَةُ وَالتَّعْرِيضُ:
7 - التَّوْرِيَةُ وَالتَّعْرِيضُ: أَنْ تُطْلِقَ لَفْظًا ظَاهِرًا فِي مَعْنًى، وَتُرِيدَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ اللَّفْظُ لَكِنَّهُ خِلاَفُ ظَاهِرِهِ.
وَأَصْل التَّوْرِيَةِ السِّتْرُ، وَالتَّعْرِيضُ خِلاَفُ التَّصْرِيحِ (6) .
__________
(1) الفروق في اللغة ص157، 158.
(2) المصباح المنير.
(3) المفردات مادة: " كيد ".
(4) سورة يوسف / 76.
(5) الفروق ص 215.
(6) المصباح المنير مادة: " ورى ".(18/329)
الذَّرِيعَةُ:
8 - الذَّرِيعَةُ: الْوَسِيلَةُ إِلَى الشَّيْءِ، وَسَدُّ الذَّرِيعَةِ قَطْعُ الأَْسْبَابِ الْمُبَاحَةِ الَّتِي يُتَوَصَّل بِهَا إِلَى الْمُحَرَّمِ (1) .
تَقْسِيمُ الْحِيَل:
تَنْقَسِمُ الْحِيَل بِاعْتِبَارِ مَشْرُوعِيَّتِهَا إِلَى حِيَلٍ مَشْرُوعَةٍ وَحِيَلٍ مُحَرَّمَةٍ.
الْحِيَل الْمَشْرُوعَةُ:
9 - وَهِيَ الْحِيَل الَّتِي تُتَّخَذُ لِلتَّخَلُّصِ مِنَ الْمَآثِمِ لِلتَّوَصُّل إِلَى الْحَلاَل، أَوْ إِلَى الْحُقُوقِ، أَوْ إِلَى دَفْعِ بَاطِلٍ، وَهِيَ الْحِيَل الَّتِي لاَ تَهْدِمُ أَصْلاً مَشْرُوعًا وَلاَ تُنَاقِضُ مَصْلَحَةً شَرْعِيَّةً.
وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
أ - أَنْ تَكُونَ الْحِيلَةُ مُحَرَّمَةً وَيُقْصَدَ بِهَا الْوُصُول إِلَى الْمَشْرُوعِ، مِثْل أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَيَجْحَدَهُ وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ، فَيُقِيمُ صَاحِبُ الْحَقِّ شَاهِدَيْ زُورٍ يَشْهَدَانِ بِهِ وَلاَ يَعْلَمَانِ ثُبُوتَ هَذَا الْحَقِّ.
وَمُتَّخِذُ هَذَا الْقِسْمِ مِنَ الْحِيَل يَأْثَمُ عَلَى الْوَسِيلَةِ دُونَ الْقَصْدِ.
وَيُجِيزُ هَذَا مَنْ يُجِيزُ مَسْأَلَةَ الظَّفَرِ بِالْحَقِّ، فَيَجُوزُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ دُونَ بَعْضٍ.
__________
(1) الموفقات (4 / 198 - 200) وتبصرة الحكام (2 / 376) .(18/330)
ب - أَنْ تَكُونَ الْحِيلَةُ مَشْرُوعَةً وَتُفْضِيَ إِلَى مَشْرُوعٍ.
وَمِثَالُهَا الأَْسْبَابُ الَّتِي نَصَبَهَا الشَّارِعُ مُفْضِيَةً إِلَى مُسَبَّبَاتِهَا، كَالْبَيْعِ، وَالإِْجَارَةِ وَأَنْوَاعِ الْعُقُودِ الأُْخْرَى، وَيَدْخُل فِيهِ التَّحَيُّل عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ.
ج - أَنْ تَكُونَ الْحِيلَةُ لَمْ تُوضَعْ وَسِيلَةً إِلَى الْمَشْرُوعِ فَيَتَّخِذُهَا الْمُتَحَيِّل وَسِيلَةً إِلَى ذَلِكَ، وَمِثَالُهُ الْمَعَارِيضُ الْجَائِزَةُ فِي الْكَلاَمِ. (1)
وَمِنَ الْحِيَل الْمَشْرُوعَةِ مَا لاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِهِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مَحَل تَرَدُّدٍ وَإِشْكَالٍ وَمَوْضِعُ خِلاَفٍ.
الْحِيَل الْمُحَرَّمَةُ:
10 - وَهِيَ الْحِيَل الَّتِي تُتَّخَذُ لِلتَّوَصُّل بِهَا إِلَى مُحَرَّمٍ، أَوْ إِلَى إِبْطَال الْحُقُوقِ، أَوْ لِتَمْوِيهِ الْبَاطِل أَوْ إِدْخَال الشُّبَهِ فِيهِ. وَهِيَ الْحِيَل الَّتِي تَهْدِمُ أَصْلاً شَرْعِيًّا أَوْ تُنَاقِضُ مَصْلَحَةً شَرْعِيَّةً. وَالْحِيَل الْمُحَرَّمَةُ مِنْهَا مَا لاَ خِلاَفَ فِي تَحْرِيمِهِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مَحَل تَرَدُّدٍ وَخِلاَفٍ.
وَالْحِيَل الْمُحَرَّمَةُ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ وَهِيَ:
أ - أَنْ تَكُونَ الْحِيلَةُ مُحَرَّمَةً وَيُقْصَدَ بِهَا مُحَرَّمٌ:
وَمِثَالُهُ مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلاَثًا وَأَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْ عَارِ التَّحْلِيل، فَإِنَّهُ يُحَال لِذَلِكَ بِالْقَدْحِ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ بِفِسْقِ الْوَلِيِّ، أَوِ الشُّهُودِ فَلاَ يَصِحُّ الطَّلاَقُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ.
__________
(1) إعلام الموقعين 3 / 334.(18/330)
ب - أَنْ تَكُونَ الْحِيلَةُ مُبَاحَةً فِي نَفْسِهَا وَيُقْصَدَ بِهَا مُحَرَّمٌ.
كَمَا يُسَافِرُ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ، أَوْ قَتْل النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ.
ج - أَنْ تَكُونَ الْحِيلَةُ لَمْ تُوضَعْ وَسِيلَةً إِلَى الْمُحَرَّمِ بَل إِلَى الْمَشْرُوعِ، فَيُتَّخَذُهَا الْمُحْتَال وَسِيلَةً إِلَى الْمُحَرَّمِ.
كَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ لِوَارِثِهِ، فَيَحْتَال لِذَلِكَ بِأَنْ يُقِرَّ لَهُ، فَيَتَّخِذَ الإِْقْرَارَ وَسِيلَةً لِلْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ (1) .
أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْحِيَل الْمُبَاحَةِ:
11 - تَقَدَّمَ التَّعْرِيفُ بِالْحِيَل الْمَشْرُوعَةِ وَهَذَا بَيَانٌ لأَِدِلَّةِ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
أ - قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} (2) ، أَرَادَ بِالْحِيلَةِ التَّحَيُّل عَلَى التَّخَلُّصِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَهَذِهِ حِيلَةٌ مَحْمُودَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا مَنْ عَمِلَهَا.
ب - مُبَاشَرَةُ الأَْسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ حِيلَةٌ عَلَى حُصُول مُسَبَّبَاتِهَا، كَالأَْكْل، وَالشُّرْبِ، وَاللُّبْسِ وَالسَّفَرِ الْوَاجِبِ، وَكَذَلِكَ الْعُقُودُ الشَّرْعِيَّةُ وَاجِبُهَا وَمُسْتَحَبُّهَا وَمُبَاحُهَا كُلُّهَا حِيلَةٌ عَلَى
__________
(1) إعلام الموقعين 3 / 335.
(2) سورة النساء / 98.(18/331)
حُصُول الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَتِ الْحِيلَةُ سَبَبًا مَشْرُوعًا وَمَا تُفْضِي إِلَيْهِ مَشْرُوعٌ فَلاَ مَعْنَى لِمَنْعِهَا.
ج - إِنَّ الْعَاجِزَ الَّذِي لاَ حِيلَةَ عِنْدَهُ لِجَهْلِهِ بِطُرُقِ تَحْصِيل مَصَالِحِهِ مَذْمُومٌ، لأَِنَّهُ لاَ خِبْرَةَ لَهُ بِطُرُقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ خَفِيِّهَا وَظَاهِرِهَا، فَيُحْسِنُ التَّوَصُّل إِلَى مَقَاصِدِهِ الْمَحْمُودَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِأَنْوَاعِ الْحِيَل، وَيَعْرِفُ طُرُقَ الشَّرِّ الظَّاهِرَةَ وَالْخَفِيَّةَ الَّتِي يَتَوَصَّل بِهَا إِلَى خِدَاعِهِ وَالْمَكْرِ بِهِ فَيَحْتَرِزُ مِنْهَا. وَقَدْ كَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْلَمَ النَّاسِ بِالشَّرِّ وَالْفِتَنِ، وَكَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَيْرِ، وَكَانَ هُوَ يَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَهُ. (1)
د - إِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجَلِهِ حُرِّمَتِ الْحِيَل هُوَ أَنَّهَا تَهْدِمُ الأُْصُول الشَّرْعِيَّةَ، وَتُنَاقِضُ الْمَصَالِحَ الشَّرْعِيَّةَ، فَإِذَا انْتَفَى هَذَا الْمَعْنَى وَكَانَتِ الْحِيَل مِمَّا لاَ يُنَاقِضُ الأُْصُول الشَّرْعِيَّةَ فَلاَ مَعْنَى لِمَنْعِهَا بَل كَانَتْ مِنَ الْمَشْرُوعِ.
هـ - أَجَازَتِ الشَّرِيعَةُ لِلْمُكْرَهِ عَلَى الْكُفْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ إِحْرَازًا لِدَمِهِ، وَفِي هَذَا تَحَيُّلٌ عَلَى إِحْرَازِ الدَّمِ، وَالتَّحَيُّل هُنَا كَالتَّحَيُّل بِكَلِمَةِ الإِْسْلاَمِ إِحْرَازًا لِلدَّمِ، كَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا قَالُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ
__________
(1) حديث سؤال حذيفة الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشر أخرجه البخاري (الفتح 12 / 35 - ط السلفية) .(18/331)
وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا (1) فَكُلٌّ مِنَ الْحَالَتَيْنِ نَطَقَ بِكَلِمَةٍ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ مَعْنَاهَا تَوَصُّلاً إِلَى غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، وَهُوَ إِحْرَازُ الدَّمِ، فَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِمَا أَحْكَامُ الإِْسْلاَمِ فِي الظَّاهِرِ.
و إِنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْحَرَامِ إِلَى الْحَلاَل وَالتَّخَلُّصَ مِنَ الْمَآثِمِ أَمْرٌ وَاجِبٌ شَرْعًا، وَالتَّحَيُّل لَهُ بِاِتِّخَاذِ الْوَسَائِل وَالأَْسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَيْهِ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ شَرْعًا كَذَلِكَ، وَلاَ تَخْرُجُ الْحِيَل الْمُبَاحَةُ عَنْ هَذَا.
مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ} (2) وَهِيَ حِيلَةٌ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْحِنْثِ، وَقَدْ عَمِل بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِّ الضَّعِيفِ الَّذِي زَنَى، وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ فِي السُّنَنِ، حَيْثُ إِنَّهُ أَخْبَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأَْنْصَارِ أَنَّهُ اشْتَكَى رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى أَضْنَى، فَعَادَ جِلْدَةً عَلَى عَظْمٍ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ لِبَعْضِهِمْ، فَهَشَّ لَهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَل عَلَيْهِ رِجَال قَوْمِهِ يَعُودُونَهُ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ، وَقَال: اسْتَفْتُوا لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي قَدْ وَقَعَتُ عَلَى جَارِيَةٍ دَخَلَتْ عَلَيَّ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مِنَ الضُّرِّ مِثْل الَّذِي هُوَ بِهِ، لَوْ حَمَلْنَاهُ إِلَيْكَ لَتَفَسَّخَتْ عِظَامُهُ، مَا هُوَ إِلاَّ
__________
(1) حديث: " فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم. . . " أخرجه مسلم (1 / 53 - ط الحلبي) من حديث جابر.
(2) سورة ص / 44.(18/332)
جِلْدٌ عَلَى عَظْمٍ، فَأَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذُوا لَهُ مِائَةَ شِمْرَاخٍ، فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً (1) .
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَل رَجُلاً عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكُل تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ فَقَال: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلاَثَةِ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَفْعَل بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا (2) .
وَفِي أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِالدَّرَاهِمِ تَمْرًا، وَنَهْيِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِمِثْلِهِ خُرُوجٌ مِمَّا لاَ يَحِل لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّبَا إِلَى مَا يَحِل وَهُوَ الْبَيْعُ، وَهُوَ خُرُوجٌ مِنَ الإِْثْمِ (3) .
أَدِلَّةُ تَحْرِيمِ الْحِيَل الْمُحَرَّمَةِ:
12 - إِنَّ الْحِيَل الْمُحَرَّمَةَ تَقُومُ عَلَى الْمُخَادَعَةِ وَالتَّلْبِيسِ وَالتَّدْلِيسِ، وَعَلَى اتِّخَاذِ الْوَسَائِل الْمَشْرُوعَةِ، وَغَيْرِ الْمَشْرُوعَةِ، لِلْوُصُول إِلَى الْحَرَامِ (4) وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
__________
(1) حديث أبي أمامة بن سهل أنه أخبر بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه أبو داود (4 / 615 - 617 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.
(2) حديث: " أكل تمر خيبر هكذا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 399 - 400 - ط السلفية) .
(3) إعلام الموقعين 3 / 240 - 242، كتاب الحيل ص 4، وفتح الباري 12 / 326.
(4) إعلام الموقعين 3 / 160.(18/332)
1 - قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ الْمُحَلِّل وَالْمُحَلَّل لَهُ (1) .
لأَِنَّ فِيهِ اسْتِحْلاَل الزِّنَى بِاسْمِ النِّكَاحِ، فَإِنَّ قَوْل الْمُحَلِّل تَزَوَّجْتُ هَذِهِ الْمَرْأَةَ، أَوْ قَبِلْتُ هَذَا النِّكَاحَ، وَهُوَ غَيْرُ مُبْطِنٍ لِحَقِيقَةِ النِّكَاحِ وَلاَ يَقْصِدُ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ، وَلاَ هِيَ مَرِيدَةٌ لِذَلِكَ وَلاَ الْوَلِيُّ، فَقَدْ تَوَسَّل بِاللَّفْظِ الشَّرْعِيِّ إِلَى مَا يُنَافِي مَقْصُودَ الْعَقْدِ، أَوْ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ، وَهُوَ عَوْدُ الْمَرْأَةِ إِلَى زَوْجِهَا الْمُطَلِّقِ.
وَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّل فَقَال: لاَ، إِلاَّ نِكَاحَ رَغْبَةٍ، لاَ نِكَاحَ دُلْسَةٍ، وَلاَ اسْتِهْزَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ يَذُوقُ عُسَيْلَتَهَا (2) .
2 - قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَاتَل اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمِ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا (3) فَاحْتَالُوا عَلَى
__________
(1) حديث: " لعن رسول الله المحلل والمحلل له. . . " أخرجه الترمذي (3 / 419 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود، وقال الترمذي: " حسن صحيح ".
(2) إعلام الموقعين 3 / 161 والموفقات 2 / 383 وحديث ابن عباس أخرجه الجوزجاني كما في تفسير ابن كثير (1 / 496 - ط دار الأندلس) وفي إسناده ضعف، وقواه ابن كثير بشواهده.
(3) حديث: " قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 414 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1207 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.(18/333)
تَحْرِيمِ أَكْل الشُّحُومِ بِأَكْل أَثْمَانِهَا. (1)
3 - قَوْل الْمُرَابِي بِعْتُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِكَذَا كَمَا فِي بَيْعِ الْعِينَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنْ يَسْتَرِدَّهَا مِنْهُ بِأَقَل مِمَّا بَاعَهَا، وَلَمْ يَكُنْ مَرِيدًا لِحَقِيقَةِ الْبَيْعِ، وَلَيْسَ لأَِحَدٍ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي غَرَضٌ فِي السِّلْعَةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْبَائِعُ عَوْدَ السِّلْعَةِ إِلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ.
وَصَحَّ عَنْ أَنَسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا سُئِلاَ عَنِ الْعِينَةِ، فَقَالاَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْدَعُ هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَسَمَّيَا ذَلِكَ خِدَاعًا. (2)
4 - لَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْيَهُودَ عَلَى تَحَايُلِهِمْ عَلَى الْحَرَامِ فَقَال تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (3) ، فَلَقَدْ حَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ أَنْ يَعْمَلُوا فِي السَّبْتِ شَيْئًا، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَحْفِرُ الْحَفِيرَةَ، وَيَجْعَل لَهَا نَهَرًا إِلَى الْبَحْرِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ فَتَحَ النَّهَرَ فَأَقْبَل الْمَوْجُ بِالْحِيتَانِ يَضْرِبُهَا حَتَّى يُلْقِيَهَا فِي الْحَفِيرَةِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الأَْحَدِ، جَاءُوا فَأَخَذُوا مَا تَجَمَّعَ فِي الْحَفِيرَةِ مِنْ حِيتَانٍ وَقَالُوا: إِنَّمَا صِدْنَاهُ يَوْمَ الأَْحَدِ، فَعُوقِبُوا بِالْمَسْخِ قِرَدَةً
__________
(1) الموفقات 2 / 380 وإعلام الموقعين 3 / 161.
(2) إعلام الموقعين 3 / 160 - 161.
(3) سورة البقرة / 65.(18/333)
لأَِنَّهُمُ اسْتَحَلُّوا الْحَرَامَ بِالْحِيلَةِ (1) .
وَلَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِ ارْتِكَابِ الْحِيَل، كَمَا فَعَلَتْهُ بَنُو إِسْرَائِيل فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَل. (2)
وَمَعْنَى أَدْنَى الْحِيَل، أَيْ أَسْهَلِهَا وَأَقْرَبِهَا، كَمَا فِي الْمُطَلِّقِ ثَلاَثًا، فَمِنَ السَّهْل عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ مَالاً لِمَنْ يَنْكِحُ مُطَلَّقَتَهُ لِيُحِلَّهَا لَهُ، بِخِلاَفِ الطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ الَّتِي هِيَ نِكَاحُ الرَّغْبَةِ، فَإِنَّهَا يَصْعُبُ مَعَهَا عَوْدُهَا إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُقْرِضَ أَلْفًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَمِنْ أَدْنَى الْحِيَل أَنْ يُعْطِيَهُ أَلْفًا إِلاَّ دِرْهَمًا بِاسْمِ الْقَرْضِ، وَيَبِيعَهُ خِرْقَةً تُسَاوِي دِرْهَمًا بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَدِرْهَمٍ، فَإِنَّهَا مِنْ أَدْنَى الْحِيَل إِلَى الرِّبَا وَأَسْهَلِهَا، كَمَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ فِي الاِعْتِدَاءِ يَوْمَ السَّبْتِ. (3)
5 - قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (4) يَدُل عَلَى أَنَّ الأَْعْمَال تَابِعَةٌ لِمَقَاصِدِهَا وَنِيَّاتِهَا، وَأَنَّهُ
__________
(1) إعلام الموقعين 3 / 162 والموافقات 2 / 381 وتفسير ابن كثير 1 / 106.
(2) حديث: " لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا. . . ". أخرجه ابن بطة العكبري في جزء إبطال الحيل (ص 24 - ط أنصار السنة في مصر) وجود إسناده ابن كثير في تفسيره (2 / 257 ط الحلبي) .
(3) إعلام الموقعين 3 / 165 والموافقات 2 / 382.
(4) ديثث: " إنما الأعمال بالنيات " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 - ط السلفية) . ومسلم (3 / 1515 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب، واللفظ للبخاري.(18/334)
لَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ إِلاَّ مَا نَوَاهُ وَأَبْطَنَهُ لاَ مَا أَعْلَنَهُ وَأَظْهَرَهُ، فَمَنْ نَوَى الرِّبَا بِعَقْدِ الْبَيْعِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ وَأَدَّى إِلَى الرِّبَا كَانَ مُرَابِيًا، وَكُل عَمَلٍ قُصِدَ بِهِ التَّوَصُّل إِلَى تَفْوِيتِ حَقٍّ كَانَ مُحَرَّمًا. (1) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (مَخَارِجُ) .
__________
(1) فتح الباري 12 / 328.(18/334)
حَيَوَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَيَوَانُ نَقِيضُ الْمَوَتَانِ وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {وَإِنَّ الدَّارَ الآْخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} (1) أَيِ: الْحَيَاةُ الَّتِي لاَ يُعْقِبُهَا مَوْتٌ. (2) وَقِيل الْحَيَوَانُ فِي الآْيَةِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَيَاةِ كَالْمَوَتَانِ لِلْمَوْتِ الْكَثِيرِ.
وَيُطْلَقُ عَلَى كُل ذِي رُوحٍ، نَاطِقًا كَانَ أَوْ غَيْرَ نَاطِقٍ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَيَاةِ وَيَسْتَوِي فِي لَفْظِ (الْحَيَوَانِ) الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، لأَِنَّهُ مَصْدَرٌ فِي الأَْصْل.
وَقِيل الْحَيَوَانُ بِمَعْنَى الْحَيَاةِ ضِدِّ الْمَوْتِ.
وَالْحَيَوَانُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الْجِسْمُ النَّامِي الْحَسَّاسُ الْمُتَحَرِّكُ بِالإِْرَادَةِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّابَّةُ:
2 - الدَّابَّةُ كُل مَا دَبَّ عَلَى الأَْرْضِ.
__________
(1) سورة العنكبوت / 64.
(2) لسان العرب المحيط، ومتن اللغة، ومختار الصحاح مادة: " حيي ".
(3) التعريفات للجرجاني.(18/335)
وَخَالَفَ فِيهِ بَعْضُهُمْ، فَأَخْرَجَ الطَّيْرَ مِنَ الدَّوَابِّ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْفَرَسِ وَالْبَغْل وَالْحِمَارِ بِالدَّابَّةِ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ فَعُرْفٌ طَارِئٌ. (1) وَغَلَبَ اسْمُ الدَّابَّةِ عَلَى مَا يُرْكَبُ.
فَالدَّابَّةُ أَخَصُّ مِنَ الْحَيَوَانِ عَلَى الْقَوْل الْمَشْهُورِ.
ب - الْبَهِيمَةُ:
3 - الْبَهِيمَةُ كُل ذَاتِ أَرْبَعٍ مِنْ دَوَابِّ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَكُل حَيَوَانٍ لاَ يُمَيِّزُ فَهُوَ بَهِيمَةٌ، وَالْجَمْعُ " بَهَائِمُ ". (2)
فَالْبَهِيمَةُ أَخَصُّ مِنَ الْحَيَوَانِ وَمِنَ الدَّابَّةِ.
ج - النَّعَمُ:
4 - النَّعَمُ جَمْعٌ لاَ وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ بِمَعْنَى: الْمَال الرَّاعِي، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ عَلَى الإِْبِل. قَال أَبُو عُبَيْدٍ: النَّعَمُ: الْجِمَال فَقَطْ، وَيُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ، وَجَمْعُهُ نُعْمَانٌ، وَجَمْعُ الأَْنْعَامِ " أَنَاعِيمُ ". وَقِيل الأَْنْعَامُ: ذَوَاتُ الْخُفِّ وَالظِّلْفِ، وَهِيَ الإِْبِل وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ. فَالأَْنْعَامُ أَخَصُّ الْجَمِيعِ بِالْمُقَارَنَةِ مَعَ الْحَيَوَانِ وَالْبَهِيمَةِ.
__________
(1) مختار الصحاح، والمصباح المنير، ولسان العرب المحيط مادة: " دبب ".
(2) المصباح المنير، ومختار الصحاح، ولسان العرب والقاموس مادة: " بهم ".(18/335)
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْحَيَوَانِ:
أ - أَكْل الْحَيَوَانِ:
5 - مَا يَتَأَتَّى أَكْلُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ يَصْعُبُ حَصْرُهُ، وَالأَْصْل فِي الْجَمِيعِ الْحِل فِي الْجُمْلَةِ إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ فِيمَا يَلِي:
الأَْوَّل الْخِنْزِيرُ: فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعَلَيْهِ الإِْجْمَاعُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَاهُ مِنَ الْحَيَوَانِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَحِل أَكْل كُل ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ: كَالأَْسَدِ، وَالنَّمرِ، وَالْفَهْدِ، وَالذِّئْبِ، وَالْكَلْبِ وَغَيْرِهَا، وَلاَ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ كَالصَّقْرِ، وَالْبَازِي. وَالنَّسْرِ، وَالْعِقَابِ وَالشَّاهِينِ وَغَيْرِهَا. لأَِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ كُل ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُل ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ. (1)
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَحْلِيل وَتَحْرِيمِ بَعْضِ آحَادِ الْحَيَوَانِ، كَالْخَيْل، وَالضَّبُعِ، وَالثَّعْلَبِ، وَأَنْوَاعِ الْغُرَابِ وَغَيْرِهَا. يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (أَطْعِمَةٌ) .
وَانْعَقَدَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي رِوَايَةٍ، أَنَّهُ يُؤْكَل جَمِيعُ الْحَيَوَانِ مِنَ الْفِيل إِلَى النَّمْل وَالدُّودِ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ إِلاَّ الآْدَمِيَّ وَالْخِنْزِيرَ فَهُمَا مُحَرَّمَانِ إِجْمَاعًا.
__________
(1) حديث: " نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل. . . " أخرجه مسلم (3 / 1534 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.(18/336)
وَكَذَلِكَ لاَ يَحْرُمُ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الطَّيْرِ فِي رِوَايَةٍ، وَبِهِ قَال اللَّيْثُ وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ. وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ الآْيَاتِ الْمُبِيحَةِ، وَقَوْل أَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ عَبَّاسٍ: مَا سَكَتَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ (1) .
الثَّانِي: مَا أُمِرَ بِقَتْلِهِ كَالْحَيَّةِ، وَالْعَقْرَبِ، وَالْفَأْرَةِ، وَكُل سَبُعٍ ضَارٍ كَالأَْسَدِ، وَالذِّئْبِ، وَغَيْرِهِمَا مِمَّا سَبَقَ. (2)
الثَّالِثُ: الْمُسْتَخْبَثَاتُ: فَإِنَّ مِنَ الأُْصُول الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيمِ الاِسْتِطَابَةُ، وَالاِسْتِخْبَاثُ، وَرَآهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الأَْصْل الأَْعْظَمَ وَالأَْعَمَّ. وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (3) ، وقَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلّ لَهُمْ قُل أُحِلّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (4)
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ (أَطْعِمَةٌ) .
ب - ذَكَاةُ الْحَيَوَانِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَأْكُول مِنَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 193، 194، 195، والقوانين الفقهية / 171، 172، وروضة الطالبين 3 / 271 وما بعدها. والمغني 8 / 585 وما بعدها.
(2) ابن عابدين 5 / 193، وروضة الطالبين 3 / 272، والمغني 8 / 586.
(3) سورة الأعراف / 157.
(4) سورة المائدة / 4. وانظر ابن عابدين 5 / 194، وروضة الطالبين 3 / 276، والمغني 8 / 585.(18/336)
الْحَيَوَانِ لاَ يَحِل إِلاَّ بِالذَّبْحِ الْمُعْتَبَرِ، وَهُوَ مَا كَانَ بَيْنَ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ حَال الاِخْتِيَارِ. وَذَكَاةُ الضَّرُورَةِ: جَرْحٌ وَطَعْنٌ وَإِنْهَارُ دَمٍ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ وَقَعَ مِنَ الْبَدَنِ. وَيُسْتَثْنَى السَّمَكُ وَالْجَرَادُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ. فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالْكَبِدُ وَالطِّحَال. (1)
وَأَمَّا مَا لاَ يُؤْكَل لَحْمُهُ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ ذَبْحَهُ كَمَوْتِهِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَطْهُرُ لَحْمُهُ وَشَحْمُهُ وَجِلْدُهُ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيل لاَ يُفْسِدُهُ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَحِل أَكْلُهُ (2) . وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْخِنْزِيرِ. أَمَّا الْخِنْزِيرُ فَإِنَّهُ رِجْسٌ.
وَفِي الْمَوْضُوعِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (ذَبَائِحُ) .
ج - زَكَاةُ الْحَيَوَانِ:
7 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ إِلاَّ فِي النَّعَمِ، وَهِيَ الإِْبِل، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ، (3)
__________
(1) ديثث: " أحلت لنا ميتتان ودمان. . . " أخرجه أحمد (2 / 97 - ط الميمنية) من حديث عبد الله بن عمر. وصوب الدارقطني صحته وقفه على عبد الله بن عمر، كذا في التلخيص لابن حجر (1 / 26 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) ابن عابدين 5 / 186، 195 ط دار إحياء التراث العربي، والاختيار 5 / 9، 13 ط دار المعرفة، والقوانين الفقهية / 179، وروضة الطالبين 3 / 279، 239 ط المكتب الإسلامي، والمغني 8 / 575 ط الرياض.
(3) الاختيار 1 / 105 وما بعدها، ومواهب الجليل 2 / 255، 256 ط دار الفكر، ونهاية المحتاج 3 / 44 ط مصطفى البابي، وكشاف القناع 2 / 183 وما بعدها.(18/337)
وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَيْل، يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ) .
د - الإِْنْفَاقُ عَلَى الْحَيَوَانِ وَالرِّفْقُ بِهِ:
8 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ إِطْعَامُ بَهَائِمِهِ، وَسَقْيُهَا، وَرَيُّهَا وَلَوْ كَانَتْ مَرِيضَةً لاَ يُنْتَفَعُ بِهَا، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا قَال: عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتِ النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ هِيَ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُل مِنْ خَشَاشِ الأَْرْضِ (1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
كَمَا يَحْرُمُ أَنْ يُحَمِّلَهُ مَا لاَ يُطِيقُ، لأَِنَّ فِيهِ تَعْذِيبًا لَهُ.
وَإِنِ امْتَنَعَ الْمَالِكُ مِنَ الإِْنْفَاقِ عَلَى بَهِيمَتِهِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ دِيَانَةً وَقَضَاءً، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةِ الْبَهَائِمِ قَضَاءً فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَيُجْبَرُ دِيَانَةً وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. (2)
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَفَقَةٌ) .
__________
(1) ديث: " عذبت امرأة في هرة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 356 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2022 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) الاختيار 4 / 14، والقوانين الفقهية / 223 ط دار الكتاب العربي، وروضة الطالبين 9 / 120، 121، وكشاف القناع 5 / 493، والمغني 7 / 634، 635.(18/337)
هـ - جِنَايَةُ الْحَيَوَانِ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ:
9 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ رَاكِبَ الدَّابَّةِ يَضْمَنُ مَا وَطِئَتْهُ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا، وَلاَ يَضْمَنُ مَا نَفَحَتْ بِذَنَبِهَا أَوْ رِجْلِهَا.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُرُورَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مُبَاحٌ بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ فِيمَا يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، وَأَنَّ الْمُتَسَبِّبَ ضَامِنٌ إِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا، وَالْمُبَاشِرُ يَضْمَنُ مُطْلَقًا.
وَكَذَلِكَ يُضْمَنُ الْحَيَوَانُ، وَالنُّقْصَانُ فِيهِ، فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ رُبْعَ الْقِيمَةِ (1) .
وَالْمُرَادُ بِالْعَيْنِ، الْعَيْنُ الْبَاصِرَةُ، وَإِنَّمَا كَانَ ضَمَانُ الْعَيْنِ رُبْعَ الْقِيمَةِ، لأَِنَّهَا تَعْمَل بِعَيْنَيْهَا وَعَيْنَيْ قَائِدِهَا. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (جِنَايَةٌ وَضَمَانٌ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
10 - تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنِ الْحَيَوَانِ بِالإِْضَافَةِ إِلَى
__________
(1) الأثر: " قضى عمر بن الخطاب في عين الدابة ربع القيمة " أخرجه عبد الرزاق في المصنف (10 / 77 - ط المجلس العلمي بالهند) .
(2) ابن عابدين 5 / 386 وما بعدها و 391، والاختيار 5 / 47، وشرح الدر المختار 2 / 467 ط محمد علي الصبيح، ومجمع الضمانات ط المطبعة الخيرية ص 185، وما بعدها، والشرح الصغير 4 / 506، والقوانين الفقهية / 325، 326، ومغني المحتاج 4 / 204 ط دار إحياء التراث العربي، والمغني 8 / 328.(18/338)
مَا سَبَقَ فِي مَوَاطِنَ أُخْرَى مِنْهَا: بَيْعُ الْحَيَوَانِ، وَمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عَيْبًا، فِي كِتَابِ الْبَيْعِ، وَخِيَارِ الْعَيْبِ، (1) وَعَنِ السَّلَمِ فِيهِ فِي السَّلَمِ، (2) وَعَنْ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِيهِ فِي الشُّفْعَةِ (3) وَعَنِ اسْتِئْجَارِهِ فِي الإِْجَارَةِ، (4) وَعَنِ الْتِقَاطِهِ فِي اللُّقَطَةِ، (5) وَعَنْ صَيْدِهِ وَالصَّيْدِ بِهِ فِي الصَّيْدِ وَالإِْحْرَامِ. (6)
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 10، 16، 22، 49.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 85، 201، 202، وقليوبي 2 / 252.
(3) حاشية الدسوقي 3 / 482، ومطالب أولي النهى 4 / 109.
(4) الاختيار 2 / 51، والفتاوى الهندية 4 / 487 وما بعدها.
(5) الاختيار 3 / 34، وكشاف القناع 4 / 212.
(6) الاختيار 5 / 3 وما بعدها، 13 وما بعدها، 1 / 165 وما بعدها.(18/338)
خَاتَمٌ
انْظُرْ تَخَتُّمٌ
خَادِمٌ
انْظُرْ خِدْمَةٌ.
خَارِجٌ
انْظُرْ خُرُوجٌ.
خَارِجِيٌّ
انْظُرْ فِرَقٌ(19/5)
خَاصٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَاصُّ فِي اللُّغَةِ: مِنْ خَصَّ الشَّيْءَ يَخُصُّهُ خُصُوصًا فَهُوَ خَاصٌّ مِنْ بَابِ قَعَدَ: ضِدُّ عَمَّ، وَاخْتَصَّ مِثْلُهُ، وَالْخَاصَّةُ خِلاَفُ الْعَامَّةِ (1) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ: هُوَ مَا وُضِعَ لِوَاحِدٍ مُنْفَرِدٍ أَوْ كَثِيرٍ مَحْصُورٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَاحِدُ بِاعْتِبَارِ الشَّخْصِ كَزَيْدٍ، أَوْ بِاعْتِبَارِ النَّوْعِ كَرَجُلٍ وَفَرَسٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعَامُّ:
2 - الْعَامُّ فِي اللُّغَةِ: الأَْمْرُ الشَّامِل الْمُتَعَدِّدُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الأَْمْرُ لَفْظًا أَمْ غَيْرَ لَفْظٍ؛ يُقَال عَمَّهُمُ الْخَيْرُ أَوِ الْمَطَرُ: إِذَا شَمِلَهُمْ، وَأَحَاطَ بِهِمْ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ، بِوَضْعٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ (3)
__________
(1) المصباح المنير.
(2) إرشاد الفحول ص 32، وتيسير التحرير 1 / 264، وتنقيح التوضيح 1 / 33، والبحر المحيط للزركشي 3 / 240 ط: الوزارة.
(3) شرح البدخشي 2 / 56، إرشاد الفحول ص 105، والبحر المحيط 3 / 5، وانظر التنقيح والتوضيح 1 / 32.(19/5)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - إِذَا وَرَدَ فِي النَّصِّ لَفْظٌ خَاصٌّ ثَبَتَ الْحُكْمُ لِمَدْلُولِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى تَأْوِيلِهِ، وَإِرَادَةُ مَعْنًى آخَرَ مِنْهُ (1) .
وَإِنْ تَعَارَضَ الْخَاصُّ مَعَ الْعَامِّ بِأَنْ دَل كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى خِلاَفِ مَا يَدُل عَلَيْهِ الآْخَرُ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخَاصَّ يُخَصِّصُ الْعَامَّ، سَوَاءٌ عُلِمَ أَنَّ الْخَاصَّ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْعَامِّ، أَمْ تَقَارَنَا، أَمْ عُلِمَ تَأَخُّرُهُ عَنِ الْخَاصِّ، أَمْ جُهِل التَّارِيخُ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ تَأَخَّرَ الْخَاصُّ نُسِخَ مِنَ الْعَامِّ بِقَدْرِ مَا يَدُل عَلَيْهِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ الْعَامُّ نُسِخَ الْخَاصُّ، وَإِنْ جُهِل الْمُتَقَدِّمُ يَجِبُ التَّوَقُّفُ. إِلاَّ أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآْخَرِ بِمُرَجِّحٍ (3) ، وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ لِلْمَوْسُوعَةِ.
الأَْجِيرُ الْخَاصُّ:
4 - هُوَ مَنْ يَعْمَل لِوَاحِدٍ عَمَلاً مُؤَقَّتًا بِالتَّخْصِيصِ، كَأَنِ اسْتُؤْجِرَ لِخِدْمَةٍ، أَوْ خِيَاطَةٍ، يَوْمًا أَوْ أُسْبُوعًا وَنَحْوَهُ (4)
. وَيَجِبُ عَلَى الأَْجِيرِ الْخَاصِّ أَنْ يَقُومَ بِالْعَمَل فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ كُلِّهِ،
__________
(1) تيسير التحرير في أصول الفقه 1 / 370.
(2) الإبهاج في شرح المنهاج 6 / 168 حاشية العطار على جمع الجوامع 2 / 77، حاشية التفتازاني 2 / 148.
(3) المصادر السابقة، تيسير التحرير 1 / 375 - 376، المستصفى للغزالي 2 / 102 - 103.
(4) ابن عابدين 5 / 43 مطالب أولي النهى 3 / 673 - 674.(19/6)
سِوَى زَمَنِ التَّطَهُّرِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَزَمَنِ فِعْلِهَا بِسُنَنِهَا الْمُؤَكَّدَةِ، وَصَلاَةِ جُمُعَةٍ، وَعِيدٍ، فَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ شَرْعًا، وَلاَ يُنْقَصُ مِنَ الأُْجْرَةِ، وَلاَ يُصَلِّي النَّوَافِل، فَإِنْ صَلاَّهَا نَقَصَ مِنْ أُجْرَتِهِ (1) .
وَلاَ يَلْزَمُ الْمُسْتَأْجِرَ أَنْ يُمَكِّنَ الأَْجِيرَ الْخَاصَّ مِنَ الذَّهَابِ إِلَى الْمَسْجِدِ لِلْجَمَاعَةِ، إِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ بَعِيدًا، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا فَفِيهِ احْتِمَالٌ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الإِْمَامُ مِمَّنْ يُطِيل الصَّلاَةَ، فَلاَ يَلْزَمُهُ قَطْعًا. (2)
وَقَال الْمَجْدُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: ظَاهِرُ النَّصِّ يَمْنَعُ مِنْ شُهُودِ الْجَمَاعَةِ إِلاَّ بِشَرْطٍ فِي الْعَقْدِ أَوْ إِذْنٍ (3) .
وَسَبْتُ الْيَهُودِ، وَيَوْمُ الأَْحَدِ لِلنَّصَارَى مُسْتَثْنًى مِنْهُ كَذَلِكَ شَرْعًا، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: هَل يُلْحَقُ بِذَلِكَ بَقِيَّةُ أَعْيَادِهِمْ؟ فَقَال: فِيهِ نَظَرٌ، لاَ سِيَّمَا الَّتِي تَدُومُ أَيَّامًا، وَالأَْقْرَبُ الْمَنْعُ؛ لِعَدَمِ اشْتِهَارِهَا فِي عُرْفِ الْمُسْلِمِينَ وَجَهْل النَّاسِ لَهَا، وَتَقْصِيرِ الذِّمِّيِّ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي الْعَقْدِ (4) .
وَلاَ يَجُوزُ لِلأَْجِيرِ الْخَاصِّ أَنْ يَعْمَل لِغَيْرِ مُسْتَأْجِرِهِ، فَإِنْ عَمِل لِغَيْرِهِ فَأَضَرَّهُ بِذَلِكَ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ عَلَى الأَْجِيرِ مَا فَوَّتَهُ عَلَيْهِ مِنْ مَنْفَعَةٍ (5) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَةٌ)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 44، مطالب أولي النهى 3 / 673، وروضة الطالبين 5 / 260، أسنى المطالب 2 / 436
(2) أسنى المطالب 2 / 260.
(3) مطالب أولي النهى 3 / 674.
(4) أسنى المطالب 2 / 436.
(5) ابن عابدين 5 / 44، مطالب أولي النهى 3 / 674.(19/6)
الطَّرِيقُ الْخَاصُّ:
5 - الطَّرِيقُ الْخَاصُّ هُوَ الْمَمَرُّ غَيْرُ النَّافِذِ الْمَحْصُورُ بِدُورِ قَوْمٍ مَحْصُورِينَ
، وَهَذَا فِي الْغَالِبِ فَقَدْ قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُرَادُ بِالطَّرِيقِ غَيْرِ النَّافِذِ الْمَمْلُوكُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ (أَيْ كَوْنُهُ غَيْرَ نَافِذٍ) لِعِلَّةِ الْمِلْكِ فَقَدْ يَنْفُذُ الطَّرِيقُ وَهُوَ مَمْلُوكٌ، وَقَدْ يَسُدُّ مَنْفَذَهُ هُوَ لِلْعَامَّةِ لَكِنَّ ذَلِكَ (أَيْ عَدَمَ النُّفُوذِ) دَلِيلٌ عَلَى الْمِلْكِ غَالِبًا، فَأُقِيمَ مُقَامَهُ وَوَجَبَ الْعَمَل بِهِ حَتَّى يَدُل الدَّلِيل عَلَى خِلاَفِهِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ - وَهُمْ مَنْ نَفَذَ بَابُ دَارِهِ إِلَيْهِ - أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، وَلَيْسَ لأَِحَدِهِمْ أَنْ يَشْرَعَ إِلَيْهِ جَنَاحًا، أَوْ أَنْ يَبْنِيَ دَكَّةً إِلاَّ بِإِذْنِ الآْخَرِينَ (1) . وَيُفَصِّل الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الطَّرِيقِ الْخَاصِّ فِي: بَابِ الصُّلْحِ، وَأَحْكَامِ الْجِوَارِ، وَبَابِ الشَّرِكَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَطْ، وَيَذْكُرُهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي فَصْل الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ بَابِ الصُّلْحِ، وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (طَرِيقٌ) .
الْمَال الْخَاصُّ:
6 - الْمَال الْخَاصُّ هُوَ الْمَال الَّذِي يَمْلِكُهُ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ، أَوْ أَشْخَاصٌ مَحْصُورُونَ
، وَمِنْ أَحْكَامِهِ: جَوَازُ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِأَصَالَةٍ أَوْ بِوَكَالَةٍ أَوْ بِوِلاَيَةٍ،
__________
(1) ابن عابدين 5 / 380 - 381، قليوبي 2 / 310 - 311، 312، نهاية المحتاج 4 / 392 وما بعدها، الإنصاف 5 / 254 وما بعده، جواهر الإكليل 2 / 123 وما بعده.(19/7)
وَيُقْطَعُ سَارِقُهُ بِشُرُوطِهِ، وَيُقَابِلُهُ الْمَال الْعَامُّ: كَبَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَوْقُوفِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَكُل مَا كَانَ نَفْعُهُ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً. حَيْثُ لاَ قَطْعَ فِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (1) ، وَيَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ: فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَالرَّهْنِ، وَالإِْجَارَةِ، وَفِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْمُعَامَلاَتِ، وَفِي بَابِ السَّرِقَةِ.
__________
(1) الزيلعي 3 / 218، وفتح القدير 5 / 138، والدسوقي 4 / 138، وقليوبي 4 / 189، والمغني لابن قدامة 8 / 277.(19/7)
خَالٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَال فِي اللُّغَةِ: أَخُو الأُْمِّ وَإِنْ عَلَتْ، وَجَمْعُهُ أَخْوَالٌ، وَأُخْتُ الأُْمِّ خَالَةٌ، وَالْجَمْعُ خَالاَتٌ، يُقَال: أَخْوَل الرَّجُل، فَهُوَ مُخْوِلٌ: أَيْ كَرِيمُ الأَْخْوَال، وَيُقَال أَيْضًا: أُخْوِل بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُول (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعَمُّ:
2 - الْعَمُّ فِي اللُّغَةِ أَخُو الأَْبِ، أَوْ أَخُو الْجَدِّ، وَإِنْ عَلاَ، وَجَمْعُهُ أَعْمَامٌ وَالْمَصْدَرُ عُمُومَةٌ، يُقَال: أَعَمَّ الرَّجُل، إِذَا كَرُمَ أَعْمَامُهُ، يُسْتَعْمَل مَبْنِيًّا لِلْفَاعِل وَلِلْمَفْعُول (2)
تَوْرِيثُ الْخَال:
3 - الْخَال مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ، بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَذُو الرَّحِمِ، هُوَ كُل قَرِيبٍ لَيْسَ بِذِي فَرْضٍ، وَلاَ عَصَبَةٍ.
__________
(1) تاج العروس مادة: (خول) ، وتفسير الرازي 10 / 29.
(2) المصباح المنير مادة: (عمم) .(19/8)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْرِيثِ الْخَال كَسَائِرِ ذَوِي الأَْرْحَامِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْخَال يُوَرَّثُ عِنْدَ فَقْدِ الْعَصَبَةِ وَذَوِي الْفَرْضِ غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ، فَيَأْخُذُ الْمُنْفَرِدُ مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ جَمِيعَ الْمَال، بِالْقَرَابَةِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ عَصَبَةٌ، وَلاَ ذُو فَرْضٍ مُطْلَقًا، وَيَأْخُذُ مَا بَقِيَ بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، إِنْ وُجِدَ لِعَدَمِ الرَّدِّ عَلَيْهِمَا (1)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الأَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (2) أَيْ أَحَقُّ بِالتَّوَارُثِ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِحَدِيثِ: الْخَال وَارِثُ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ (3) وَقَالُوا: رُوِيَ هَذَا الْقَوْل عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ: عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ. وَغَيْرُهُمْ.
وَالأَْصْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْخَال لاَ يَرِثُ كَسَائِرِ ذَوِي الأَْرْحَامِ، بَل يَكُونُ الْمَال لِبَيْتِ الْمَال (4) وَقَالُوا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ آيَاتُ الْمَوَارِيثِ: قَال (5) : إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُل ذِي حَقٍّ
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 5 / 105، ابن عابدين 5 / 504، المغني لابن قدامة 6 / 229.
(2) سورة الأنفال / 75.
(3) حديث: " الخال وارث من لا وارث له " أخرجه الترمذي (3 / 421 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب، وقال: " حسن صحيح ".
(4) شرح الزرقاني 8 / 213، أسنى المطالب 3 / 6.
(5) حديث: " إن الله أعطى كل ذي حق حقه " أخرجه أبو داود (3 / 824 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي أمامة وحسنه ابن حجر في التلخيص (3 / 92 - ط شركة الطباعة الفنية) .(19/8)
حَقَّهُ وَلَيْسَ فِي الآْيَاتِ ذِكْرٌ لِلْخَال، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِخَبَرِ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَكِبَ إِلَى قُبَاءٍ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِي مِيرَاثِ الْعَمَّةِ، وَالْخَالَةِ، فَأُنْزِل عَلَيْهِ لاَ مِيرَاثَ لَهُمَا (1) وَقَالُوا: وَلأَِنَّهُ لَوْ كَانَ وَارِثًا بِالْقَرَابَةِ، لَقُدِّمَ عَلَى الْمُعْتِقِ؛ لأَِنَّ الْقَرَابَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الإِْرْثِ بِالْوَلاَءِ. وَلَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبَيْنِ أَفْتَوْا: بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْتَظِمْ أَمْرُ بَيْتِ الْمَال، رُدَّ الْبَاقِي مِنَ الْمَال عَلَى أَهْل الْفَرْضِ غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ إِرْثًا، فَإِنْ فُقِدُوا صُرِفَ لِذَوِي الأَْرْحَامِ (2) . التَّفْصِيل فِي (إِرْثٌ ف 15) .
وِلاَيَةُ الْخَال عَلَى الصَّغِيرَةِ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وِلاَيَةِ الْخَال عَلَى الصَّغِيرَةِ بِالتَّزْوِيجِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْخَال وِلاَيَةُ التَّزْوِيجِ عَلَى الصَّغِيرَةِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ عَصَبَةً، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالأَْجْنَبِيِّ (3) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وِلاَيَةٌ) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْخَال يُزَوِّجُ الصَّغِيرَةَ عِنْدَ
__________
(1) خبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب إلى قباء يستخير الله. أخرجه أبو داود في المراسيل (ص 263 - ط الرسالة) من حديث عطاء بن يسار مرسلا.
(2) المصادر السابقة.
(3) قليوبي 3 / 224، كشاف القناع 5 / 52.(19/9)
فَقْدِ الْعَصَبَةِ وَفَقْدِ ذِي الرَّحِمِ الأَْقْرَبِ مِنْهُ، وَأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى السُّلْطَانِ فِي الْوِلاَيَةِ عَلَيْهَا (1) .
نَفَقَةُ الْخَال:
5 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ نَفَقَةِ الْخَال. فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْخَال لاَ تَجِبُ لَهُ نَفَقَةٌ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَجِبُ نَفَقَةُ الْخَال كَكُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي إِنْفَاقِ الْخَال عَلَى وَلَدِ أُخْتِهِ (3)
حَضَانَةُ الْخَال:
6 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنْ لاَ حَضَانَةَ لِلْخَال؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مَحْرَمًا وَارِثًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَلَيْسَ عَصَبَةً عِنْدَ آخَرِينَ. وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْوَجْهُ الْمُقَدَّمُ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْخَال لَهُ حَقُّ الْحَضَانَةِ. وَالتَّفْصِيل فِي: (حَضَانَةٌ) (4) .
تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْخَال:
7 - الْخَال قَرِيبٌ مَحْرَمٌ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ ابْنَةِ أُخْتِهِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 313.
(2) حاشية العدوي 2 / 123، الوجيز 2 / 116، نهاية المحتاج 7 / 218، المغني 7 / 586.
(3) البدائع 4 / 30، ابن عابدين 2 / 687، فتح القدير 3 / 350.
(4) بدائع الصنائع 4 / 42، حاشية العدوي 2 / 121، نهاية المحتاج 7 / 228، المغني 7 / 623، كشاف القناع 5 / 496.(19/9)
بِاتِّفَاقِ أَهْل الْمِلَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُحَرَّمَاتِ: {وَبَنَاتُ الأُْخْتِ} - (1)
وِلاَيَةُ الْخَال عَلَى مَال الصَّغِيرِ:
8 - لَيْسَ لِلْخَال وِلاَيَةٌ عَلَى مَال الصَّغِيرِ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ (2) . وَالتَّفْصِيل فِي: (وِلاَيَةٌ) .
__________
(1) سورة النساء / 23.
(2) الوجيز 1 / 176، حاشية البجيرمي 2 / 441، وحاشية الزرقاني 6 / 297، ابن عابدين 4 / 411، وكشاف القناع 3 / 447.(19/10)
خَالَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَالَةُ أُخْتُ الأُْمِّ، وَالأُْمُّ كُل مَنِ انْتَسَبْتَ إِلَيْهَا بِوِلاَدَةٍ، سَوَاءٌ وَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ الأُْمِّ حَقِيقَةً وَهِيَ الَّتِي وَلَدَتْكَ، أَوْ مَجَازًا، وَهِيَ الَّتِي وَلَدَتْ مَنْ وَلَدَكَ وَإِنْ عَلَتْ. مِنْ ذَلِكَ جَدَّتُكَ أُمُّ أُمِّكَ وَأُمُّ أَبِيكَ، وَجَدَّتَا أُمِّكَ، وَجَدَّتَا أَبِيكَ، وَجَدَّاتُ أَجْدَادِكَ، وَجَدَّاتُ جَدَّاتِكَ وَإِنْ عَلَوْنَ (1) . وَالْجَمِيعُ جَدَّاتٌ.
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْخَالَةِ:
تَحْرِيمُ الْخَالَةِ:
2 - الْخَالَةُ بِالنَّسَبِ أَوِ الرَّضَاعِ مِنَ الْمَحَارِمِ الْمُحَرَّمِ نِكَاحُهُنَّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ تَحْرِيمُهُنَّ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: قَال اللَّهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ} (2) وَخَبَرُ: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ (3)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ.
__________
(1) لسان العرب والمغني 6 / 568.
(2) سورة النساء / 23.
(3) حديث: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 253 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1072 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.(19/10)
مِيرَاثُ الْخَالَةِ:
3 - الْخَالَةُ بِالنَّسَبِ مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَتَوْرِيثُهُمْ مَحَل خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي أَصْل الْمَذْهَبَيْنِ: إِنَّ ذَوِي الأَْرْحَامِ لاَ يَرِثُونَ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ ذَوِي الأَْرْحَامِ يَرِثُونَ عِنْدَ فَقْدِ الْعَصَبَةِ، وَذَوِي الْفُرُوضِ غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْثٌ) (وَخَالٌ) .
حَقُّ الْحَضَانَةِ لِلْخَالَةِ:
4 - الْخَالَةُ مِمَّنْ لَهُنَّ حَقُّ الْحَضَانَةِ، أَمَّا تَرْتِيبُهُنَّ فِي الْحَضَانَةِ فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (حَضَانَةٌ) .
نَفَقَةُ الْخَالَةِ:
5 - لاَ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِلْخَالَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: تَجِبُ النَّفَقَةُ لِلْخَالَةِ بِالنَّسَبِ كَكُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (خَالٌ، وَنَفَقَةٌ) .
أَمَّا الْخَالَةُ بِالرَّضَاعِ: فَلَيْسَ لَهَا حَقُّ الْحَضَانَةِ، وَلاَ النَّفَقَةُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ: ر: (نَفَقَةٌ، رَضَاعٌ، حَضَانَةٌ) .
__________
(1) أسنى المطالب 3 / 6، وشرح الزرقاني 8 / 213.
(2) ابن عابدين 5 / 504، والمغني 6 / 229.(19/11)
خَبَثٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَبَثُ فِي اللُّغَةِ هُوَ كُل مَا يُكْرَهُ رَدَاءَةً وَخِسَّةً مَحْسُوسًا كَانَ أَوْ مَعْقُولاً، وَيَتَنَاوَل مِنَ الاِعْتِقَادِ الْكُفْرَ، وَمِنَ الْقَوْل: الْكَذِبَ، وَمِنَ الْفِعَال الْقَبِيحَ (1) قَال ابْنُ الأَْعْرَابِيِّ: الْخَبَثُ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ: الْمَكْرُوهُ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْكَلاَمِ فَهُوَ الشَّتْمُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمِلَل: فَهُوَ الْكُفْرُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الطَّعَامِ: فَهُوَ الْحَرَامُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الشَّرَابِ فَهُوَ الضَّارُّ، وَالْخَبَثُ فِي الْمَعَادِنِ مَا نَفَاهُ الْكِيرُ مِمَّا لاَ خَيْرَ فِيهِ (2) .
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ عَيْنُ النَّجَاسَةِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرِّجْسُ:
2 - الرِّجْسُ: هُوَ النَّتِنُ وَالْقَذِرُ، قَال الْفَارَابِيُّ: كُل
__________
(1) الكليات في المادة.
(2) المجموع للنووي 2 / 75، وتبيين اللغة، ولسان العرب المحيط، مادة: (خبث) .
(3) حاشية الدسوقي 1 / 33، شرح الزرقاني 1 / 5.(19/11)
شَيْءٍ يُسْتَقْذَرُ فَهُوَ رِجْسٌ، وَقِيل الرِّجْسُ: النَّجِسُ.
قَال الأَْزْهَرِيُّ: الرِّجْسُ هُوَ النَّجِسُ الْقَذِرُ الْخَارِجُ مِنْ بَدَنِ الإِْنْسَانِ، وَعَلَى هَذَا فَقَدْ يَكُونُ الرِّجْسُ، وَالْقَذِرُ، وَالنَّجَاسَةُ بِمَعْنًى، وَقَدْ يَكُونُ الرِّجْسُ، وَالْقَذِرُ بِمَعْنَى غَيْرِ النَّجَاسَةِ.
وَقَال النَّقَّاشُ: الرِّجْسُ النَّجِسُ (1) ، وَمِثْل الرِّجْسِ: الرِّكْسُ وَالرِّجْزُ.
ب - الدَّنَسُ:
3 - الدَّنَسُ (بِفَتْحَتَيْنِ) الْوَسَخُ. يُقَال: دَنِسَ الثَّوْبُ أَيْ تَوَسَّخَ، وَأَيْضًا تَدَنَّسَ، وَدَنَّسَهُ غَيْرُهُ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِزَالَةَ الْخَبَثِ مَأْمُورٌ بِهَا فِي الشَّرْعِ، وَاخْتَلَفُوا هَل ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ، أَوْ عَلَى النَّدْبِ؟
فَصَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِوُجُوبِ إِزَالَةِ الْخَبَثِ مُطْلَقًا، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الثَّوْبِ النَّجِسِ، فِي خَارِجِ الصَّلاَةِ، وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ. وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (3) وَبِحَدِيثِ: وَكَانَ الآْخَرُ لاَ يَسْتَنْزِهُ مِنَ الْبَوْل (4)
__________
(1) المصباح المنير مادة (رجس) .
(2) مختار الصحاح، قليوبي 1 / 42 - 68، الاختيار 1 / 32.
(3) سورة المدثر / 4.
(4) حديث: " وكان الآخر لا يستنزه من البول ". أخرجه مسلم (1 / 241 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.(19/12)
أَمَّا إِزَالَةُ الْخَبَثِ لِمُرِيدِ الصَّلاَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ إِلاَّ مَا كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ (1) ر: (شُرُوطُ الصَّلاَةِ) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي حُكْمِ إِزَالَةِ النَّجَاسَاتِ عَنْ ثَوْبِ الْمُصَلِّي، وَبَدَنِهِ، وَمَكَانِهِ، قَوْلاَنِ مَشْهُورَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ إِزَالَةَ الْخَبَثِ عَمَّا ذُكِرَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ عَلَى كُل حَالٍ، سَوَاءٌ ذَكَرَهَا أَمْ لَمْ يَذْكُرْهَا، وَسَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى إِزَالَتِهَا أَمْ لَمْ يَقْدِرْ، وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ إِذَا كَانَ ذَاكِرًا وُجُودَهَا، وَقَدَرَ عَلَى إِزَالَتِهَا بِوُجُودِ مَاءٍ مُطْلَقٍ يُزِيلُهَا بِهِ أَوْ وُجُودِ ثَوْبٍ طَاهِرٍ، أَوِ الْقُدْرَةِ عَلَى الاِنْتِقَال مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ الْخَبَثُ إِلَى مَكَانٍ طَاهِرٍ.
وَقَال الْحَطَّابُ: إِنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ مَنْ صَلَّى بِالنَّجَاسَةِ مُتَعَمِّدًا عَالِمًا بِحُكْمِهَا أَوْ جَاهِلاً وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِزَالَتِهَا يُعِيدُ صَلاَتَهُ أَبَدًا، وَمَنْ صَلَّى بِهَا نَاسِيًا لَهَا، أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِهَا، أَوْ عَاجِزًا عَنْ إِزَالَتِهَا يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ عَلَى قَوْل مَنْ قَال: إِنَّهَا سُنَّةٌ، وَقَوْل: مَنْ قَال: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 268 - 269، البحر الرائق 1 / 283، قليوبي 1 / 180، كتاب الفروع 1 / 364، كشاف القناع 1 / 288.
(2) مواهب الجليل 1 / 130 وما بعده، والزرقاني 1 / 38، 39.(19/12)
ر: التَّفْصِيل فِي شُرُوطِ الصَّلاَةِ وَبَابِ: (النَّجَاسَةِ) .
5 - أَمَّا أَنْوَاعُ الْخَبَثِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا مِنْ أَعْيَانِهِ عَلَى أَرْبَعَةٍ: مَيْتَةُ الْحَيَوَانِ ذِي الدَّمِ الَّذِي لَيْسَ بِمَائِيٍّ، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ مُطْلَقًا، وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ، وَبَوْل ابْنِ آدَمَ وَرَجِيعُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَةٌ) .(19/13)
خَبَرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَبَرُ لُغَةً: اسْمٌ لِمَا يُنْقَل وَيُتَحَدَّثُ بِهِ، وَجَمْعُهُ أَخْبَارٌ، وَاسْتَخْبَرَهُ: سَأَلَهُ عَنِ الْخَبَرِ وَطَلَبَ أَنْ يُخْبِرَهُ، وَالْخَبِيرُ الْعَالِمُ بِكُنْهِ الْخَبَرِ، وَخَبَرْتُ الأَْمْرَ أَيْ عَلِمْتُهُ (1) وَالْخَبِيرُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْنَاهُ: الْعَالِمُ بِكُنْهِ الشَّيْءِ الْمُطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَتِهِ (2) .
أَمَّا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ فَقَدْ قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: الْخَبَرُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْفَنِّ (مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ) مُرَادِفٌ لِلْحَدِيثِ، فَيُطْلَقَانِ عَلَى الْمَرْفُوعِ وَعَلَى الْمَوْقُوفِ، وَالْمَقْطُوعِ، وَقِيل: الْحَدِيثُ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَبَرُ مَا جَاءَ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيل لِمَنْ يَشْتَغِل بِالسُّنَّةِ مُحَدِّثٌ، وَبِالتَّوَارِيخِ وَنَحْوِهَا أَخْبَارِيٌّ، وَقِيل بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَكُل حَدِيثٍ خَبَرٌ وَلاَ عَكْسَ، وَقِيل: لاَ يُطْلَقُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (خبر) ، والمستصفى للغزالي 1 / 132، كشف الأسرار 2 / 680، أصول الشاشي 1 / 270، مقدمة ابن الصلاح ص 42، المنثور في القواعد للزركشي 2 / 117.
(2) شأن الدعاء للخطابي 63.(19/13)
الْحَدِيثُ عَلَى غَيْرِ الْمَرْفُوعِ إِلاَّ بِشَرْطِ التَّقْيِيدِ، وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الْمُحَدِّثِينَ يُسَمُّونَ الْمَرْفُوعَ وَالْمَوْقُوفَ بِالأَْثَرِ، وَأَنَّ فُقَهَاءَ خُرَاسَانَ يُسَمُّونَ الْمَوْقُوفَ بِالأَْثَرِ، وَالْمَرْفُوعَ بِالْخَبَرِ (1)
وَتَفْصِيلُهُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ، وَفِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الأَْثَرُ:
2 - الأَْثَرُ لُغَةً بِتَحْرِيكِ الثَّاءِ مَا بَقِيَ مِنَ الشَّيْءِ أَوْ هُوَ الْخَبَرُ، وَالْجَمْعُ آثَارٌ، وَحَدِيثٌ مَأْثُورٌ: أَيْ مَنْقُولٌ، يُخْبِرُ النَّاسُ بِهِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا أَيْ يَنْقُلُهُ خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ (2)
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ يُطْلَقُ الأَْثَرُ عَلَى بَقِيَّةِ الشَّيْءِ، كَأَثَرِ النَّجَاسَةِ، وَعَلَى الْحَدِيثِ مَرْفُوعًا كَانَ أَوْ مَوْقُوفًا أَوْ مَقْطُوعًا، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَقْصُرُونَهُ عَلَى الْمَوْقُوفِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّصَرُّفِ، فَيَقُولُونَ: أَثَرُ الْعَقْدِ، وَأَثَرُ الْفَسْخِ، وَأَثَرُ النِّكَاحِ، وَنَحْوِهِ (3) .
وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الأَْثَرَ أَعَمُّ فِي إِطْلاَقَاتِهِ مِنَ الْخَبَرِ.
__________
(1) تدريب الراوي ص 6.
(2) لسان العرب والمصباح المنير وغريب القرآن للأصفهاني مادة: (أثر) .
(3) الموسوعة ص 1 / 249.(19/14)
النَّبَأُ:
3 - النَّبَأُ لُغَةً الْخَبَرُ، وَقَال الرَّاغِبُ: النَّبَأُ خَبَرٌ ذُو فَائِدَةٍ عَظِيمَةٍ يَحْصُل بِهِ عِلْمٌ أَوْ غَلَبَةُ ظَنٍّ، وَلاَ يُقَال لِلْخَبَرِ فِي الأَْصْل نَبَأٌ حَتَّى يَتَضَمَّنَ هَذِهِ الأَْشْيَاءَ، وَحَقُّ الْخَبَرِ الَّذِي يُقَال فِيهِ نَبَأٌ: أَنْ يَتَعَرَّى عَنِ الْكَذِبِ كَالْمُتَوَاتِرِ، وَخَبَرِ اللَّهِ وَخَبَرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِتَضَمُّنِ النَّبَأِ مَعْنَى الْخَبَرِ يُقَال: أَنْبَأْتُهُ بِكَذَا، وَلِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْعِلْمِ، قِيل: أَنْبَأْتُهُ كَذَا، وَجَمْعُهُ أَنْبَاءٌ، وَيُقَال: إِنَّ لِفُلاَنٍ نَبَأً: أَيْ خَبَرًا، وَاسْتَنْبَأَ النَّبَأَ: بَحَثَ عَنْهُ (1) .
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخْبِرُ عَنِ اللَّهِ وَالْجَمْعُ أَنْبِيَاءُ.
وَيُقَال تَنَبَّأَ الْكَذَّابُ إِذَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ.
تَقْسِيمُ الْخَبَرِ:
4 - الْخَبَرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ خَاصٍّ أَوْ عَامٍّ. فَالْخَبَرُ عَنْ خَاصٍّ مُنْحَصِرٌ فِي ثَلاَثَةٍ: الإِْقْرَارُ، وَالْبَيِّنَةُ، وَالدَّعْوَى؛ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ بِحَقٍّ عَلَى الْمُخْبِرِ فَهُوَ الإِْقْرَارُ، أَوْ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ الدَّعْوَى، أَوْ لِغَيْرِهِ فَهُوَ الشَّهَادَةُ.
وَضَبَطَهَا الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ بِضَابِطٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْل إِنْ كَانَ ضَارًّا لِقَائِلِهِ فَهُوَ الإِْقْرَارُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَارًّا بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَافِعًا لَهُ أَوْ لاَ، وَالأَْوَّل هُوَ الدَّعْوَى، وَالثَّانِي الشَّهَادَةُ.
وَالْخَبَرُ عَنْ عَامٍّ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ عَامًّا، لاَ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير، وغريب القرآن للأصفهاني مادة: (نبأ) .(19/14)
يَخْتَصُّ بِمُعَيَّنٍ، وَيَنْحَصِرُ أَيْضًا فِي ثَلاَثَةٍ: الرِّوَايَةِ، وَالْحُكْمِ، وَالْفَتْوَى؛ لأَِنَّهُ إِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ مَحْسُوسٍ فَهُوَ الرِّوَايَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ إِلْزَامٌ فَهُوَ الْحُكْمُ، وَإِلاَّ فَالْفَتْوَى، وَعُلِمَ مِنْ هَذَا ضَابِطُ كُل وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ السِّتَّةِ (1) .
وَيُنْظَرُ شُرُوطُ كُل نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَبَرِ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا. انْظُرْ (شَهَادَةٌ، وَإِقْرَارٌ، وَدَعْوَى، وَقَضَاءٌ، وَفَتْوَى) .
أَحْكَامُ الْخَبَرِ:
الْخَبَرُ عَنِ النَّجَاسَةِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ الثِّقَةُ بِنَجَاسَةِ مَاءٍ، أَوْ ثَوْبٍ، أَوْ طَعَامٍ، أَوْ غَيْرِهِ، وَبَيَّنَ سَبَبَ النَّجَاسَةِ وَكَانَ ذَلِكَ السَّبَبُ يَقْتَضِي النَّجَاسَةَ حُكِمَ بِنَجَاسَتِهِ؛ لأَِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْل فِي مِثْل هَذِهِ الأَْشْيَاءِ مَقْبُولٌ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ، وَكَذَا لَوْ أَخْبَرَ عَنْ دُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ، وَعَنْ حُرْمَةِ الطَّعَامِ أَوْ حِلِّهِ، وَلاَ فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، وَلاَ بَيْنَ الأَْعْمَى وَالْبَصِيرِ بِخِلاَفِ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ فَلاَ يُقْبَل خَبَرُهُمَا فِي النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ الَّذِي لاَ يُمَيِّزُ فَلاَ يُقْبَل خَبَرُهُمَا فِي مِثْل هَذِهِ الأَْشْيَاءِ بِلاَ خِلاَفٍ. أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي قَبُول خَبَرِهِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ قَبُول خَبَرِهِ؛ لأَِنَّهُ لاَ
__________
(1) المنثور 2 / 116.(19/15)
يُوصَفُ بِالْعَدَالَةِ لِصِغَرِهِ، لأَِنَّ الْعَدْل يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلاً بَالِغًا.
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِلَى قَبُول خَبَرِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يُبَيِّنِ الْمُخْبِرُ سَبَبَ النَّجَاسَةِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ مَذْهَبُ الْمُخْبَرِ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) وَالْمُخْبِرِ (بِكَسْرِهَا) فَلاَ يَلْزَمُهُ قَبُول خَبَرِهِ لاِحْتِمَال اعْتِقَادِهِ نَجَاسَةَ الْمَاءِ بِمَا لاَ يُنَجِّسُهُ أَصْلاً، أَوْ بِسَبَبٍ لاَ يَعْتَقِدُهُ الْمُخْبَرُ (بِالْفَتْحِ) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَةٌ، وَصَلاَةٌ) .
وَيَجُوزُ لِلْمُخْبَرِ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) أَنْ يُحَكِّمَ رَأْيَهُ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ، وَالصَّبِيِّ، الْمُمَيِّزِ، وَالْكَافِرِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ صَادِقٌ عَمِل بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ فَلاَ يَعْمَل بِهِ.
وَيُقْبَل خَبَرُ الْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالْكَافِرِ فِي الإِْذْنِ فِي دُخُول الدُّورِ وَنَحْوِهَا وَكَذَلِكَ فِي الإِْخْبَارِ عَنِ الْهَدِيَّةِ مِنْ صَبِيٍّ يَحْمِلُهَا (1) . لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالتَّفْصِيل فِي (دَعْوَى، شَهَادَةٌ) .
الْخَبَرُ عَنِ الْقِبْلَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الأُْمُورِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَبُول قَوْل مَنْ يُعْتَمَدُ
__________
(1) البدائع 1 / 72، حاشية ابن عابدين 1 / 247، 279، الحطاب 1 / 86، الخرشي 1 / 80، حاشية العدوي 1 / 140، المجموع للإمام النووي 1 / 176، روضة الطالبين 1 / 35، 39، حاشية الباجوري 1 / 297، المستصفى للغزالي 1 / 159، المغني لابن قدامة 1 / 64.(19/15)
خَبَرُهُ عَنِ الْقِبْلَةِ، كَأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، عَاقِلاً، بَالِغًا عَدْلاً، سَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلاً أَمِ امْرَأَةً.
وَلاَ يُقْبَل خَبَرُ الْكَافِرِ فِي شَأْنِ الْقِبْلَةِ، وَلاَ خَبَرُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يُمَيِّزْ، وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالْفَاسِقِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ قَبُول خَبَرِهِمَا؛ لأَِنَّ رِوَايَتَهُمَا وَشَهَادَتَهُمَا لاَ تُقْبَل؛ وَلأَِنَّ الصَّبِيَّ لاَ يَلْحَقُهُ مَأْثَمٌ بِكَذِبِهِ، فَتَحَرُّزُهُ عَنِ الْكَذِبِ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ، أَمَّا الْفَاسِقُ فَلِقِلَّةِ دِينِهِ، وَتَطَرُّقِ التُّهْمَةِ إِلَيْهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى قَبُول خَبَرِهِمَا (1) وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِقْبَالٌ) .
الْخَبَرُ عَنْ رُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول خَبَرِ الْوَاحِدِ عَنْ رُؤْيَةِ هِلاَل شَهْرِ رَمَضَانَ بِسَبَبِ اخْتِلاَفِهِمْ فِي كَوْنِ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ مِنْ بَابِ الأَْخْبَارِ، أَوْ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إِلَى قَبُول خَبَرِ ثِقَةٍ وَاحِدٍ عَنْ رُؤْيَةِ هِلاَل شَهْرِ رَمَضَانَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، عَاقِلاً، بَالِغًا، عَدْلاً، سَوَاءٌ أَكَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً أَمْ لاَ. لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: تَرَاءَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 289، الخرشي 1 / 259، المجموع للنووي 3 / 200، المغني لابن قدامة 1 / 439، 453، كشاف القناع 1 / 306.(19/16)
النَّاسُ الْهِلاَل فَأَخْبَرْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ. (1)
وَلِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِنِّي رَأَيْتُ هِلاَل رَمَضَانَ فَقَال: أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؟ قَال: نَعَمْ. قَال: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: نَعَمْ قَال: يَا بِلاَل أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا (2) وَلأَِنَّهُ خَبَرٌ دِينِيٌّ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ فَقُبِل مِنْ وَاحِدٍ، وَلاَ فَرْقَ عِنْدَ هَؤُلاَءِ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ لَدَى الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَثْبُتُ بِرُؤْيَةِ امْرَأَةٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً، فَيُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ هِلاَل رَمَضَانَ رُؤْيَةُ عَدَدٍ مِنَ الشُّهُودِ يَقَعُ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ لِلْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ لِتَسَاوِي النَّاسِ فِي الأَْسْبَابِ الْمُوصِلَةِ إِلَى الرُّؤْيَةِ، وَتَفَرُّدُ وَاحِدٍ بِالرُّؤْيَةِ مَعَ مُسَاوَاةِ غَيْرِهِ دَلِيل الْكَذِبِ أَوِ الْغَلَطِ فِي الرُّؤْيَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ غَيْرَ مُصْحِيَةٍ أَوْ بِهَا عِلَّةٌ، فَيُقْبَل خَبَرُ
__________
(1) حديث ابن عمر: " تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه أبو داود (2 / 756 - 757 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وابن حزم (6 / 236 - ط المنيرية) وقال ابن حزم: " هذا خبر صحيح ".
(2) حديث ابن عباس: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه أبو داود (2 / 755 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والنسائي (4 / 132 - ط المكتبة التجارية) ، وصوب النسائي إرساله. هذا في نصب الراية للزيلعي (2 / 443 - ط المجلس العلمي) .(19/16)
الْوَاحِدِ الْعَدْل فِي رُؤْيَةِ هِلاَل رَمَضَانَ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلاً أَمِ امْرَأَةً غَيْرَ مَحْدُودٍ فِي قَذْفٍ أَوْ مَحْدُودًا تَائِبًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، عَاقِلاً، بَالِغًا، عَدْلاً، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ؛ وَلأَِنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ تَمْنَعُ التَّسَاوِيَ فِي الرُّؤْيَةِ لِجَوَازِ أَنَّ قِطْعَةً مِنَ الْغَيْمِ انْشَقَّتْ فَظَهَرَ الْهِلاَل فَرَآهُ وَاحِدٌ فَاسْتَتَرَ بِالْغَيْمِ مِنْ سَاعَتِهِ قَبْل أَنْ يَرَاهُ غَيْرُهُ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ لاَ بُدَّ لِثُبُوتِ هِلاَل رَمَضَانَ مِنْ إِتْمَامِ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا، أَوْ رُؤْيَةِ عَدْلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَهُوَ قَوْلٌ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَال: أَلاَ إِنِّي جَالَسْتُ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلْتُهُمْ، وَأَنَّهُمْ حَدَّثُونِي أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ وَانْسُكُوا لَهَا. فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا ثَلاَثِينَ، فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فَصُومُوا وَافْطُرُوا. (1)
وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ، شَهَادَةٌ) .
__________
(1) البدائع 2 / 80، جواهر الإكليل 1 / 144، القوانين الفقهية ص 120، مغني المحتاج 1 / 420، وحاشية الباجوري على ابن قاسم 1 / 297، المغني لابن قدامة 3 / 86 - 156 الإنصاف 3 / 273، الفروع 3 / 14. حديث عبد الرحمن بن زيد عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجه النسائي (4 / 132 - 133 - ط المكتبة التجارية) والدارقطني (2 / 168 - ط دار المحاسن) وإسناده صحيح.(19/17)
خِبْرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخِبْرَةُ فِي اللُّغَةِ - بِكَسْرِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا - الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ، وَمَعْرِفَتُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، مِنْ قَوْلِكَ: خَبَرْتُ بِالشَّيْءِ إِذَا عَرَفْتُ حَقِيقَةَ خَبَرِهِ. وَمِثْلُهُ الْخِبْرُ وَالْخُبْرُ، وَالْمَخْبُرَةُ. وَالْمُخْبِرَةُ. وَالْخَبِيرُ بِالشَّيْءِ، الْعَالِمُ بِهِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، مِثْل عَلِيمٍ، وَقَدِيرٍ، وَأَهْل الْخِبْرَةِ ذَوُوهَا (1)
وَاسْتُعْمِل فِي مَعْرِفَةِ كُنْهِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسْأَل بِهِ خَبِيرًا} (2) ، وَالْخَبِيرُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهُوَ الْعَالِمُ بِكُنْهِ الشَّيْءِ الْمُطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَتِهِ. هَذَا فِي الأَْصْل. وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ فِيمَا غَمُضَ مِنَ الأَْشْيَاءِ وَلَطُفَ، وَفِيمَا تَجَلَّى مِنْهُ وَظَهَرَ.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير ومتن اللغة، والمعجم الوسيط مادة: (خبر) والفروق في اللغة ص 86، وشأن الدعاء للخطابي 63.
(2) سورة الفرقان / 59.(19/17)
وَقَدْ عَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْخِبْرَةِ بِلَفْظِ الْبَصِيرَةِ، كَمَا عَبَّرُوا عَنْهَا بِلَفْظِ الْمَعْرِفَةِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ:
أَوَّلاً: الْعِلْمُ:
2 - الْعِلْمُ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا مَا يَصِيرُ بِهِ الشَّيْءُ مُنْكَشِفًا، وَمِنْهَا الصُّورَةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الشَّيْءِ عِنْدَ الْعَقْل، وَمِنْهَا الإِْدْرَاكُ، وَمِنْهَا الاِعْتِقَادُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ.
ثَانِيًا: الْمَعْرِفَةُ:
3 - أَمَّا الْمَعْرِفَةُ فَهِيَ إِدْرَاكُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَهِيَ مَسْبُوقَةٌ بِجَهْلٍ، بِخِلاَفِ الْعِلْمِ (2) . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْخِبْرَةِ، أَنَّ الْخِبْرَةَ الْعِلْمُ بِكُنْهِ الْمَعْلُومَاتِ عَلَى حَقَائِقِهَا، فَفِيهَا مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ (3)
ب - التَّجْرِبَةُ:
4 - التَّجْرِبَةُ مَصْدَرُ جَرَّبَ، وَمَعْنَاهُ الاِخْتِبَارُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّجْرِبَةُ اسْمٌ لِلاِخْتِبَارِ مَعَ التَّكْرَارِ؛ لأَِنَّهَا مِنَ التَّجْرِيبِ الَّذِي هُوَ تَكْرِيرُ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 229، 233، ومعين الحكام ص 115، 116، وحاشية الجمل 5 / 356، وحاشية ابن عابدين 5 / 459.
(2) التعريفات للجرجاني، وكشاف اصطلاحات الفنون في المادة، ودستور العلماء 2 / 339، و350.
(3) الفروق في اللغة ص 72، 86.(19/18)
الاِخْتِبَارِ وَالإِْكْثَارُ مِنْهُ، وَلاَ يَلْزَمُ فِي الْخِبْرَةِ التَّكْرَارُ (1) .
ح - الْبَصَرُ أَوِ الْبَصِيرَةُ:
5 - الْبَصِيرَةُ لُغَةً: الْعِلْمُ وَالْخِبْرَةُ، يُقَال: هُوَ ذُو بَصَرٍ وَبَصِيرَةٍ، أَيْ ذُو عِلْمٍ وَخِبْرَةٍ. وَيُعْرَفُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ مِمَّا أَوْرَدَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ يَرْجِعُ فِي تَقْدِيرِ الْقِيمَةِ إِلَى أَهْل الْبَصِيرَةِ وَهُمْ أَهْل النَّظَرِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي قِيمَةِ الشَّيْءِ (2) .
د - الْقِيَافَةُ:
6 - الْقِيَافَةُ مَصْدَرُ قَافَ الأَْثَرَ قِيَافَةً إِذَا تَتَبَّعَهُ. وَالْقَائِفُ هُوَ مَنْ يَعْرِفُ الآْثَارَ وَيَتَتَبَّعُهَا، وَيَعْرِفُ شَبَهَ الرَّجُل بِأَخِيهِ، وَأَبِيهِ، وَالْجَمْعُ الْقَافَةُ. وَتُسْتَعْمَل فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ فِي نَفْسِ الْمَعْنَى. قَال فِي الْمُغْنِي: الْقَافَةُ قَوْمٌ يَعْرِفُونَ الإِْنْسَانَ بِالشَّبَهِ (3)
هـ - الْحِذْقُ:
7 - الْحِذْقُ الْمَهَارَةُ، يُقَال: حَذَقَ الصَّبِيُّ الْقُرْآنَ وَالْعَمَل يَحْذِقُهُ حِذْقًا وَحَذْقًا إِذَا مَهَرَ فِيهِ، وَحَذِقَ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (جرب) والفروق في اللغة ص 211.
(2) التعريفات للجرجاني والمصباح المنير، وابن عابدين 5 / 459.
(3) المصباح ولسان العرب، وتبصرة الحكام 2 / 120، وجواهر الإكليل 2 / 139، ونهاية المحتاج 8 / 351، والمغني 5 / 719.(19/18)
الرَّجُل فِي صَنْعَتِهِ أَيْ مَهَرَ فِيهَا، وَعَرَفَ غَوَامِضَهَا وَوَقَائِعَهَا (1) .
فَالْحِذْقُ يُسْتَعْمَل فِي الْمَهَارَةِ فِي الصَّنْعَةِ غَالِبًا، وَهُوَ لِهَذَا الاِعْتِبَارِ أَخَصُّ مِنَ الْخِبْرَةِ
وَ - الْفِرَاسَةُ:
8 - الْفِرَاسَةُ بِكَسْرِ الْفَاءِ هِيَ التَّثَبُّتُ وَالتَّأَمُّل لِلشَّيْءِ وَالْبَصَرُ بِهِ، يُقَال: إِنَّهُ لَفَارِسٌ بِهَذَا الأَْمْرِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ. (2)
وَيَقُول ابْنُ الأَْثِيرِ: الْفِرَاسَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ تُتَعَلَّمُ بِالدَّلاَئِل وَالتَّجَارِبِ وَالْخُلُقِ وَالأَْخْلاَقِ فَتُعْرَفُ بِهِ أَحْوَال النَّاسِ. يَقُول ابْنُ فَرْحُونَ: الْفِرَاسَةُ نَاشِئَةٌ عَنْ جَوْدَةِ الْقَرِيحَةِ وَحِدَّةِ النَّظَرِ وَصَفَاءِ الْفِكْرِ (3) .
فَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبَةٌ لِمَعْنَى الْخِبْرَةِ.
حُكْمُ الْخِبْرَةِ:
9 - تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنِ الْخِبْرَةِ وَاعْتَمَدُوا عَلَى قَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهَا تَبَعًا لِمَوْطِنِهَا.
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُهَا:
__________
(1) الصحاح والمصباح المنير في المادة.
(2) حديث: " اتقوا فراسة المؤمن " أخرجه الترمذي (5 / 298 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وضعف إسناده المناوي في فيض القدير (1 / 144 - ط المكتبة التجارية) .
(3) لسان العرب مادة: (فرس) ، وتبصرة الحكام 2 / 119.(19/19)
الْخِبْرَةُ فِي التَّزْكِيَةِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ حَال الشُّهُودِ يَجِبُ أَنْ يَطْلُبَ مَنْ يُزَكِّيهِمْ عِنْدَهُ لِيَعْلَمَ عَدَالَتَهُمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (1) وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ تَزْكِيَةَ السِّرِّ ضَرُورِيَّةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَيَرَى بَعْضُهُمْ تَزْكِيَةَ الشَّاهِدِ، التَّزْكِيَةُ الْعَلاَنِيَةُ أَيْضًا.
وَتَزْكِيَةُ الشُّهُودِ تَكُونُ بِاخْتِيَارِ الْقَاضِي مَنْ هُمْ أَوْثَقُ النَّاسِ عِنْدَهُ، وَأَوْرَعُهُمْ دِيَانَةً، وَأَدْرَاهُمْ بِالْمَسْأَلَةِ وَأَكْثَرُهُمْ خِبْرَةً، وَأَعْلَمُهُمْ بِالتَّمْيِيزِ فِطْنَةً، فَيَكْتُبُ لَهُمْ أَسْمَاءَ وَأَوْصَافَ الشُّهُودِ، وَيُكَلِّفُهُمْ تَعَرُّفَ أَحْوَالِهِمْ مِمَّنْ يَعْرِفُهُمْ مِنْ أَهْل الثِّقَةِ وَالأَْمَانَةِ، وَجِيرَانِهِمْ وَمُؤْتَمَنِي أَهَالِي مَحَلَّتِهِمْ، وَأَهْل الْخِبْرَةِ بِهِمْ، وَمِمَّنْ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ مِنْ مُعْتَمَدِي أَهْل صَنْعَتِهِمْ (أَيْ نَقِيبِ الْحِرْفَةِ مَثَلاً) . فَإِذَا كَتَبُوا تَحْتَ اسْمِ كُلٍّ مِنْهُمْ: (عَدْلٌ، وَمَقْبُول الشَّهَادَةِ) يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمْ وَإِلاَّ فَلاَ (2) .
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُزَكِّيَ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيل، وَمَعْرِفَةُ خِبْرَةِ بَاطِنِ مَنْ يُعَدِّلُهُ، لِخِبْرَةٍ، أَوْ جِوَارٍ، أَوْ مُعَامَلَةٍ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ بِمَا يَشْهَدُ. وَلأَِنَّ عَادَةَ النَّاسِ إِظْهَارُ الصَّالِحَاتِ وَإِسْرَارُ الْمَعَاصِي، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَا خِبْرَةٍ
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) مجلة الأحكام العدلية مواد (1718 - 1722) ومعين الحكام ص 104، 106، وتبصرة الحكام 1 / 204 - 207، وقليوبي 4 / 306.(19/19)
بَاطِنَةٍ، رُبَّمَا اغْتَرَّ بِحُسْنِ ظَاهِرِهِ وَهُوَ فَاسِقٌ فِي الْبَاطِنِ (1)
هَذَا فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ، أَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلاَنِيَةِ فَتَحْصُل فِي حُضُورِ الْحَاكِمِ وَالْخَصْمَيْنِ. وَبِمَا أَنَّ تَزْكِيَةَ الْعَلاَنِيَةِ تُعْتَبَرُ شَهَادَةً، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ مِنَ التَّعَدُّدِ وَالْعَدَالَةِ وَغَيْرِهِمَا (2) . أَمَّا تَزْكِيَةُ السِّرِّ فَفِيهَا خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (تَزْكِيَةٌ، وَشَهَادَةٌ) .
الْخِبْرَةُ فِي الْقِسْمَةِ:
11 - الْقِسْمَةُ تَحْتَاجُ إِلَى قَاسِمٍ، وَقَدْ يَتَوَلَّى الْقِسْمَةَ الشُّرَكَاءُ أَنْفُسُهُمْ إِذَا كَانُوا ذَوِي أَهْلِيَّةٍ وَمِلْكٍ وَوِلاَيَةٍ، فَيَقْسِمُونَ الْمَال بَيْنَهُمْ بِالتَّرَاضِي، وَقَدْ يَتَوَلَّى الْقِسْمَةَ غَيْرُ الشُّرَكَاءِ مِمَّنْ يُعَيِّنُونَهُ أَوْ يُنَصِّبُهُ الْحَاكِمُ (3) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاسِمِ بِجَانِبِ سَائِرِ الشُّرُوطِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا، عَالِمًا بِالْقِسْمَةِ، عَارِفًا بِالْحِسَابِ وَالْمِسَاحَةِ، لِيُوصِل إِلَى كُل ذِي حَقٍّ حَقَّهُ؛ لأَِنَّهَا مِنْ جِنْسِ عَمَل الْقَضَاءِ، وَلاَ بُدَّ مِنَ الاِعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِهِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَذَلِكَ بِالأَْمَانَةِ وَالْعِلْمِ (4) .
__________
(1) المراجع السابقة، ونهاية المحتاج 8 / 253، والمغني 9 / 63 - 65.
(2) المراجع السابقة.
(3) الزيلعي 5 / 264.
(4) الزيلعي 5 / 265(19/20)
وَلاَ فَرْقَ فِي هَذَا الشَّرْطِ بَيْنَ الْقَاسِمِ الَّذِي عَيَّنَهُ الشُّرَكَاءُ، وَالَّذِي نَصَّبَهُ الإِْمَامُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: لاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي مَنْصُوبِ الشُّرَكَاءِ لأَِنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهُمْ.
وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْقَاسِمُ مُتَعَدِّدًا، فَيَكْفِيَ أَنْ يَكُونَ شَخْصًا وَاحِدًا ذَا مَعْرِفَةٍ وَخِبْرَةٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ طَرِيقَهُ الْخَبَرُ عَنْ عِلْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، كَالْقَائِفِ وَالْمُفْتِي وَالطَّبِيبِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي الْقِسْمَةِ تَقْوِيمٌ لِلسِّلْعَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ قَاسِمَانِ؛ لأَِنَّ التَّقْوِيمَ شَهَادَةٌ بِالْقِيمَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدُّدُ (1)
وَجَاءَ فِي فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ: إِذَا اطَّلَعَ أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ عَلَى عَيْبٍ فِيمَا خَصَّهُ، وَلَمْ يَعْلَمَا بِهِ قَبْل الْقِسْمَةِ، وَهُوَ خَفِيٌّ ثَبَتَ بِقَوْل أَهْل الْمَعْرِفَةِ، فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي أَكْثَرِ نَصِيبِهِ، خُيِّرَ بَيْنَ إِمْسَاكِ النَّصِيبِ وَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَبَيْنَ رَدِّ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَ النَّصِيبَانِ قَائِمَيْنِ رَجَعَا شَائِعَيْنِ بَيْنَهُمَا كَمَا كَانَا قَبْل الْقِسْمَةِ. وَإِنْ فَاتَ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ بِنَحْوِ صَدَقَةٍ أَوْ بِنَاءٍ، أَوْ هَدْمٍ، رَدَّ آخِذُهُ قِيمَةَ نِصْفِهِ، وَكَانَ النَّصِيبُ الْقَائِمُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ فَاتَا تَقَاصَّا (2) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحَيْ: (قِسْمَةٌ، وَخِيَارُ الْعَيْبِ) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 163، والزيلعي 5 / 265، والخرشي 6 / 185، ومغني المحتاج 4 / 419، والمغني لابن قدامة 9 / 125، 126.
(2) فتح العلي المالك لمحمد عليش 2 / 178.(19/20)
الْخِبْرَةُ فِي الْخَارِصِ:
12 - الْخَرْصُ: الْحَزْرُ وَالتَّحَرِّي، وَهُوَ اجْتِهَادٌ فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِ الشَّيْءِ (مِنَ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ) لِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الزَّكَاةِ فِيهِ. فَإِذَا بَدَا صَلاَحُ الثِّمَارِ مِنَ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ وَحَل بَيْعُهُمَا يَنْبَغِي أَنْ يَبْعَثَ الإِْمَامُ مَنْ يَخْرُصُهَا، وَيَعْرِفَ قَدْرَ الزَّكَاةِ فِيهَا، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) .
وَيُشْتَرَطُ فِي الْخَارِصِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْخَرْصِ؛ لأَِنَّهُ اجْتِهَادٌ فِي مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَرِ وَالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ فِيهِ، وَالْجَاهِل بِالشَّيْءِ لَيْسَ مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ فِيهِ، وَيُجْزِئُ خَارِصٌ وَاحِدٌ إِنْ كَانَ عَدْلاً عَارِفًا، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: وَيُشْتَرَطُ اثْنَانِ كَالتَّقْوِيمِ وَالشَّهَادَةِ (1) .
وَإِذَا اخْتَلَفَ الْخَارِصُونَ فَيُعْمَل بِتَخْرِيصِ الأَْعْرَفِ مِنْهُمْ (2) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْخَرْصِ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا، مَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى يَهُودَ، فَيَخْرُصُ النَّخْل حَتَّى يَطِيبَ قَبْل أَنْ يُؤْكَل مِنْهُ.
(3) وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الْخَرْصُ ظَنٌّ وَتَخْمِينٌ فَلاَ يَلْزَمُ بِهِ
__________
(1) الخرشي 6 / 192، 193، ومغني المحتاج 1 / 387، وحاشية الدسوقي 1 / 454، وجواهر الإكليل 1 / 126، والمغني 2 / 706، 707.
(2) جواهر الإكليل 1 / 126.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود. . . " أخرجه أبو داود (2 / 260 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة، وفي إسناده جهالة. ولكن له شاهد من حديث عبد الله بن عباس أخرجه أبو داود (1 / 697 - 698 تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.(19/21)
حُكْمٌ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى الطَّحَاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْخَرْصِ. (1) وَقَالُوا: إِنَّ الْخَرْصَ الْوَارِدَ فِي بَعْضِ الأَْحَادِيثِ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَعْلَمَ مِقْدَارَ مَا فِي نَخْلِهِمْ، ثُمَّ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الزَّكَاةُ وَقْتَ الصِّرَامِ عَلَى حَسَبِ مَا يَجِبُ فِيهَا. وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَل تَخْوِيفًا لِلْمُزَارِعِينَ لِئَلاَّ يَخُونُوا لاَ لِيَلْزَمَ بِهِ حُكْمٌ (2) . (ر: خَرْصٌ) .
خِبْرَةُ الْقَائِفِ:
13 - الْقَائِفُ مَنْ يَعْرِفُ الآْثَارَ وَيَتَتَبَّعُهَا، وَيَعْرِفُ شَبَهَ الرَّجُل بِأَخِيهِ وَأَبِيهِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُعْمَل بِقَوْل الْقَائِفِ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ إِذَا كَانَ خَبِيرًا مُجَرَّبًا، وَلَمْ تُوجَدْ لإِِثْبَاتِ نَسَبِ الطِّفْل بَيِّنَةٌ، أَوْ تَسَاوَتْ بَيِّنَةُ الطَّرَفَيْنِ (3) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الأَْخْذِ بِقَوْل الْقَائِفِ أَحَادِيثُ مِنْهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ مَسْرُورٌ فَقَال: يَا عَائِشَةُ أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ دَخَل عَلَيَّ فَرَأَى
__________
(1) حديث: " نهى عن الخرص ". أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (2 / 41 - ط مطبعة الأنوار المحمدية) وفي إسناده ضعف.
(2) المراجع السابقة، وعمدة القاري للعيني 9 / 68 - 69.
(3) الصحاح ولسان العرب مادة: (قوف) وتبصرة الحكام 2 / 120، ونهاية المحتاج 8 / 351، ومطالب أولي النهى 4 / 269.(19/21)
أُسَامَةَ وَزَيْدًا وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَال: إِنَّ هَذِهِ الأَْقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. (1)
وَيَكْفِي قَائِفٌ وَاحِدٌ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ لأَِنَّهُ كَحَاكِمٍ، فَيَكْفِي مُجَرَّدُ خَبَرِهِ.
وَيُشْتَرَطُ فِيهِ بِجَانِبِ سَائِرِ الشُّرُوطِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا مُجَرَّبًا فِي الإِْصَابَةِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ حَكِيمَ إِلاَّ ذُو تَجْرِبَةٍ (2) وَلأَِنَّهُ أَمْرٌ عِلْمِيٌّ فَلاَ بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ بِعِلْمِهِ لَهُ وَذَلِكَ لاَ يُعْرَفُ بِغَيْرِ التَّجْرِبَةِ فِيهِ.
وَمِنْ طُرُقِ تَجْرِبَتِهِ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ وَلَدٌ فِي نِسْوَةٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أُمُّهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ فِي نِسْوَةٍ هِيَ فِيهِنَّ، فَإِذَا أَصَابَ فِي كُلٍّ فَهُوَ مُجَرَّبٌ (3) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِيَافَةٌ) .
الْخِبْرَةُ فِي التَّقْوِيمِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الأَْخْذِ بِقَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ مِنَ التُّجَّارِ، وَأَهْل الصَّنْعَةِ فِي قِيمَةِ الْمُتْلَفَاتِ
__________
(1) حديث عائشة: " يا عائشة ألم تري أن مجززا المدلجي. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 56 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1082 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " لا حكيم إلا ذو تجربة " أخرجه الترمذي (4 / 379 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري، وضعفه المناوي في فيض القدير (6 / 424 - ط المطبعة التجارية) .
(3) حاشية الزرقاني 6 / 110، وتبصرة الحكام 2 / 120، ونهاية المحتاج 8 / 351، وحاشية القليوبي 4 / 349، ومطالب أولي النهى 4 / 265، 266، وكشاف القناع 4 / 239، 240.(19/22)
وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ، وَقِيمَةِ الْعَرْضِ الْمَسْرُوقِ، وَقِيَمِ السِّلَعِ الْمَبِيعَةِ، أَوِ الْمَأْجُورَةِ لإِِثْبَاتِ الْعَيْبِ، أَوِ الْجَوْرِ، أَوِ الْغَرَرِ وَنَحْوِهَا. قَال فِي الدُّرِّ: لَوْ بَاعَ الْوَصِيُّ شَيْئًا مِنْ مَال الْيَتِيمِ ثُمَّ طُلِبَ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ رَجَعَ فِيهِ الْقَاضِي إِلَى أَهْل الْبَصِيرَةِ، أَيْ أَهْل النَّظَرِ وَالْمَعْرِفَةِ فِي قِيمَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ (1) . وَنُصُوصُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الأُْمُورِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: مَا ذُكِرَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ أَنَّ نُقْصَانَ الثَّمَنِ يَكُونُ مَعْلُومًا بِإِخْبَارِ أَهْل الْخِبْرَةِ الْخَالَيْنِ عَنِ الْغَرَضِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَوَّمَ الثَّوْبُ سَالِمًا ثُمَّ يُقَوَّمَ مَعِيبًا، فَمَا كَانَ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِنَ التَّفَاوُتِ يَرْجِعُ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ (2) .
وَيَقُول ابْنُ فَرْحُونَ: يُرْجَعُ إِلَى قَوْل التَّاجِرِ فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَيُقْبَل قَوْل الْوَاحِدِ إِلاَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْقِيمَةِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، كَتَقْوِيمِ الْعَرْضِ الْمَسْرُوقِ، هَل بَلَغَتْ قِيمَتُهُ النِّصَابَ أَوْ لاَ؟ فَهَاهُنَا لاَ بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ (3) .
لأَِنَّ الْمُقَوِّمَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَشْبَاهٍ: شَبَهُ الشَّهَادَةِ؛ لأَِنَّهُ إِلْزَامٌ لِمُعَيَّنٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَشَبَهُ الرِّوَايَةِ؛ لأَِنَّ الْمُقَوِّمَ مُتَصَدٍّ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لأَِنَّ الشَّاهِدَ كَذَلِكَ، وَشَبَهُ الْحَاكِمِ؛ لأَِنَّ حُكْمَهُ يَنْفُذُ فِي الْقِيمَةِ. فَإِنْ تَعَلَّقَ بِإِخْبَارِهِ حَدٌّ تَعَيَّنَ مُرَاعَاةُ الشَّهَادَةِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 5 / 459.
(2) مجلة الأحكام العدلية المادة: (246) .
(3) تبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 232.(19/22)
وَقَال أَيْضًا: يُقْبَل قَوْل الْمُقَوِّمِ الْوَاحِدِ لأَِرْشِ الْجِنَايَاتِ.
وَقَال الْخَرَشِيُّ: الْمُقَوِّمُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى تَقْوِيمِهِ قَطْعٌ، أَوْ غُرْمٌ فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّعَدُّدِ وَإِلاَّ فَيَكْفِي فِيهِ الْوَاحِدُ. وَقَال ابْنُ فَرْحُونَ: وَيُرْجَعُ إِلَى أَهْل الْمَعْرِفَةِ مِنَ التِّجَارَةِ فِي تَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ وَعُيُوبِ الثِّيَابِ (1) .
وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مِنْ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ وَنَقْصِ الثَّمَنِ إِلَى الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ، وَتَقْوِيمُ أَهْل الْخِبْرَةِ مِنَ التُّجَّارِ وَأَهْل الصَّنْعَةِ. لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ التَّقْوِيمَ لاَ يَكُونُ بِالْوَاحِدِ بَل يَحْتَاجُ إِلَى اثْنَيْنِ؛ لأَِنَّهُ شَهَادَةٌ بِالْقِيمَةِ فَلاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّعَدُّدِ (2) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي أَبْوَابِهَا مِنَ الضَّمَانِ، وَخِيَارِ الْعَيْبِ، وَالشَّهَادَةِ وَالْغَرَرِ وَنَحْوِهَا.
الْخِبْرَةُ فِي مَعْرِفَةِ الْعُيُوبِ الْمُوجِبَةِ لِلْخِيَارِ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ قَدِيمٌ لاَ يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَيَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ.
وَمَعَ تَفْصِيلِهِمْ وَخِلاَفِهِمْ فِي وَضْعِ ضَابِطٍ لِلْعَيْبِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ وَقِدَمِهِ قَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمَجَلَّةِ: (الْعَيْبُ هُوَ مَا يُنْقِصُ ثَمَنَ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 232، 2 / 71، والخرشي 6 / 185.
(2) مغني المحتاج 3 / 55 / 71، 4 / 419، والمغني لابن قدامة 9 / 129.(19/23)
الْمَبِيعِ عِنْدَ التُّجَّارِ وَأَرْبَابِ الْخِبْرَةِ. وَنُقْصَانُ الثَّمَنِ يَكُونُ مَعْلُومًا بِإِخْبَارِ أَهْل الْمَعْرِفَةِ) . وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ وَالزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
وَنَحْوُهُ مَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ مَعَ اخْتِلاَفٍ فِي الْعِبَارَةِ حَيْثُ قَالُوا: الْقَوْل فِي نَفْيِ الْعَيْبِ أَوْ نَفْيِ قِدَمِهِ لِلْبَائِعِ إِلاَّ بِشَهَادَةِ الْعَادَةِ أَيْ شَهَادَةِ أَهْل الْمَعْرِفَةِ لِلْمُشْتَرِي.
وَقَال ابْنُ فَرْحُونَ: يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْل أَهْل الْبَصَرِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنَ النَّخَّاسِينَ (2) فِي مَعْرِفَةِ عُيُوبِ الْحَيَوَانَاتِ (3) .
كَمَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَوِ اخْتَلَفَ الطَّرَفَانِ فِي الْمَوْجُودِ هَل هُوَ عَيْبٌ أَوْ لاَ؟ أَوِ اخْتَلَفَا فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، رُجِعَ فِيهِ لأَِهْل الْخِبْرَةِ، فَإِنْ قَال أَهْل الْخِبْرَةِ: هُوَ عَيْبٌ، فَلَهُ الْفَسْخُ، وَإِلاَّ فَلاَ (4) . يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (خِيَارُ الْعَيْبِ) .
خِبْرَةُ الطَّبِيبِ وَالْبَيْطَارِ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَى الأَْطِبَّاءِ مِمَّنْ لَهُمْ خِبْرَةٌ فِي مَعْرِفَةِ الْعُيُوبِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرِّجَال وَالنِّسَاءِ، وَفِي مَعْرِفَةِ الشِّجَاجِ وَالْجِرَاحِ وَتَحْدِيدِ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م (338، 346) وحاشية ابن عابدين 4 / 72، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 32.
(2) النخاس: بياع الدواب والرقيق (القاموس) .
(3) جواهر الإكليل 2 / 48، وحاشية الدسوقي 3 / 136، وانظر تبصرة الحكام 1 / 231، 2 / 72.
(4) حاشية الجمل 3 / 148، وكشاف القناع 4 / 24.(19/23)
أَسْمَائِهَا مِنَ الْمُوضِحَةِ، وَالدَّامِيَةِ، وَالدَّامِغَةِ وَنَحْوِهَا.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى الأَْخْذِ بِقَوْل الْبَيَاطِرَةِ مِمَّنْ لَهُ خِبْرَةٌ فِي عُيُوبِ الدَّوَابِّ. وَفِيمَا يَأْتِي بَعْضُ النُّصُوصِ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْمَجَال:
قَال ابْنُ فَرْحُونَ: يُرْجَعُ إِلَى أَهْل الطِّبِّ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْجِرَاحِ فِي مَعْرِفَةِ طُول الْجُرْحِ، وَعُمْقِهِ، وَعَرْضِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْقِصَاصَ فَيَشُقُّونَ فِي رَأْسِ الْجَانِي أَوْ فِي بَدَنِهِ مِثْل ذَلِكَ وَلاَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ (1) .
وَجَاءَ فِي الْمُغْنِي: إِذَا اخْتُلِفَ فِي الشَّجَّةِ هَل هِيَ مُوضِحَةٌ أَوْ لاَ، أَوْ فِيمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَالْهَاشِمَةِ، وَالْمُنَقِّلَةِ، وَالآْمَّةِ، وَالدَّامِغَةِ، أَوْ أَصْغَرَ مِنْهَا كَالْبَاضِعَةِ، وَالْمُتَلاَحِمَةِ، وَالسِّمْحَاقِ، أَوْ فِي الْجَائِفَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْجِرَاحِ الَّتِي لاَ يَعْرِفُهَا إِلاَّ الأَْطِبَّاءُ، أَوِ اخْتَلَفَا فِي دَاءٍ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الأَْطِبَّاءُ أَوْ فِي دَاءِ الدَّابَّةِ، يُؤْخَذُ بِقَوْل طَبِيبَيْنِ أَوْ بَيْطَارَيْنِ إِذَا وُجِدَا، فَإِنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى اثْنَيْنِ أَجْزَأَ وَاحِدٌ؛ لأَِنَّهُ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ أَهْل الْخِبْرَةِ مِنْ أَهْل الصَّنْعَةِ (2) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مَوَاضِعِهَا (ر: شَهَادَةٌ، شِجَاجٌ، خِيَارُ الْعَيْبِ) .
عَدَدُ أَهْل الْخِبْرَةِ:
17 - الأَْصْل أَنَّ قَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ إِنْ كَانَ عَلَى
__________
(1) تبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك 2 / 71.
(2) المغني لابن قدامة 9 / 270.(19/24)
جِهَةِ الشَّهَادَةِ يَجِبُ فِيهِ اثْنَانِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ إِذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى اثْنَيْنِ. وَإِنْ كَانَ عَلَى جِهَةِ الإِْخْبَارِ وَالرِّوَايَةِ فَلاَ يَجِبُ فِيهِ التَّعَدُّدُ وَيَكْفِي فِيهِ الْمُخْبِرُ الْوَاحِدُ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُسْلِمٍ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل أَهْل الْمَعْرِفَةِ فِي الْعُيُوبِ، وَمِنْهُمُ الطَّبِيبُ وَالْبَيْطَارُ، وَالْخَارِصُ، وَالْقَائِفُ، وَالْقَسَّامُ، وَقَائِسُ الشِّجَاجِ وَنَحْوُهُمْ (1) .
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ قَوْل الْوَاحِدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى. قَال ابْنُ فَرْحُونَ: الْقِيمَةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حَدٌّ كَتَقْوِيمِ الْعَرْضِ الْمَسْرُوقِ، هَل بَلَغَتْ قِيمَتُهُ النِّصَابَ أَمْ لاَ؟ فَهَاهُنَا لاَ بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ. وَقَال نَقْلاً عَنِ الْمُدَوَّنَةِ: إِذَا اجْتَمَعَ عَدْلاَنِ مِنْ أَهْل الْبَصَرِ عَلَى أَنَّ قِيمَتَهَا ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ (2) .
وَقَال: وَيَكْفِي الْوَاحِدُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالسُّؤَال، وَفِيمَا كَانَ عِلْمًا يُؤَدِّيهِ.
وَمِثْلُهُ مَا قَال فِي قَائِسِ الْجِرَاحِ مِنَ الاِكْتِفَاءِ بِقَوْل الْوَاحِدِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الشَّهَادَةِ.
وَجَاءَ فِي مَعِينِ الْحُكَّامِ: مَا بَطَنَ مِنَ الْعُيُوبِ فِي حَيَوَانٍ - فَالطَّرِيقُ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى أَهْل الْبَصَرِ إِنْ أَخْبَرَ وَاحِدٌ عَدْلاً يَثْبُتُ الْعَيْبُ فِي الْخُصُومَةِ. وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ الاِكْتِفَاءُ بِقَوْل الْقَائِفِ
__________
(1) معين الحكام ص 115، وتبصرة الحكام 1 / 229، 232، والخرشي 6 / 185، وابن سلمون على تبصرة الحكام 1 / 228، 229، ومغني المحتاج 1 / 387، والمغني 2 / 707 و 9 / 126، 270.
(2) تبصرة الحكام 1 / 232.(19/24)
الْوَاحِدِ فِي النَّسَبِ، وَالتَّاجِرِ الْوَاحِدِ فِي قِيمَةِ الْمُتْلَفَاتِ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ فَرْحُونَ.
وَقَال الْخَرَشِيُّ: الْقَاسِمُ الْوَاحِدُ يَكْفِي؛ لأَِنَّ طَرِيقَهُ عَنْ عِلْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ الْقَلِيل مِنَ النَّاسِ كَالْقَائِفِ، وَالْمُفْتِي، وَالطَّبِيبِ وَلَوْ كَافِرًا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ وَجَّهَهُ الْقَاضِي فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ (1) .
وَمِثْلُهُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٌ) .
اخْتِلاَفُ أَهْل الْخِبْرَةِ:
18 - إِذَا اخْتَلَفَ أَهْل الْخِبْرَةِ فِي التَّقْوِيمِ، أَوِ الْخَرْصِ، أَوِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي كُل مَسْأَلَةٍ آرَاءٌ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا، وَفِيمَا يَلِي أَمْثِلَةٌ مِنْهَا:
أ - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ التُّجَّارُ، أَوْ أَهْل الْخِبْرَةِ فِي وُجُودِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، فَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ عَيْبٌ، وَقَال الآْخَرُونَ لاَ، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ، إِذْ لَمْ يَكُنْ عَيْبًا بَيِّنًا عِنْدَ الْكُل.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي اخْتِلاَفِ شُهُودِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي تَعَيُّبِ السِّلْعَةِ وَقِدَمِ الْعَيْبِ فِيهَا رَأْيَانِ: الأَْخْذُ بِأَعْدَل الْبَيِّنَتَيْنِ، وَتَرْجِيحِ بَيِّنَةِ الْمُبْتَاعِ (3) .
__________
(1) الخرشي 6 / 185، وتبصرة الحكام 1 / 229، 232، ومعين الحكام ص 116.
(2) مغني المحتاج 4 / 418، 419، والمغني 9 / 126، 270.
(3) ابن عابدين 4 / 72، وتبصرة الحكام 2 / 69، 70.(19/25)
قَال ابْنُ فَرْحُونَ نَقْلاً عَنِ الْمُتَيْطِيَّةِ: إِذَا أَثْبَتَ مُبْتَاعُ الدَّارِ تَشَقُّقَ الْحِيطَانِ، وَتَعَيُّبَهَا، وَأَنَّهَا مُتَهَيِّئَةٌ لِلسُّقُوطِ، وَإِنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ يَحُطُّ مِنْ ثَمَنِهَا كَثِيرًا، وَأَنَّهُ أَقْدَمُ مِنْ أَمَدِ التَّبَايُعِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ مِنْ خَارِجِ الدَّارِ لاَ مِنْ دَاخِلِهَا، وَشَهِدَ لِلْبَائِعِ شُهُودٌ أَنَّ الدَّارَ سَالِمَةٌ مِمَّا ادَّعَى الْمُبْتَاعُ، مَأْمُونَةُ السُّقُوطِ لاِعْتِدَال حِيطَانِهَا وَسَلاَمَتِهَا مِنَ الْمَيْل الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّهَدُّمِ، وَأَنَّ التَّشَقُّقَ لاَ يَضُرُّهَا مَعَ أَنَّهُ لاَ يَخْفَى عَلَى مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا، وَثَبَتَ جَمِيعُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَقَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتَّابٍ: يُقْضَى بِأَعْدَل الْبَيِّنَتَيْنِ مِمَّنْ لَهُ بَصَرٌ بِعُيُوبِ الدُّورِ. وَقَال ابْنُ الْقَطَّانِ: بَيِّنَةُ الْمُبْتَاعِ أَوْلَى؛ لأَِنَّ الْبَيِّنَةَ الَّتِي تُوجِبُ الْحُكْمَ إِذَا قُبِلَتْ أَعْمَل مِنَ الَّتِي تَنْفِيهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الأَْخْذِ بِقَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ فِيمَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي مَعْرِفَةِ الْعَيْبِ وَقِدَمِهِ. فَلَوْ فُقِدَ أَهْل الْخِبْرَةِ أَوِ اخْتَلَفُوا، صُدِّقَ الْمُشْتَرِي لِتَحَقُّقِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، وَالشَّكِّ فِي مُسْقِطِ الرَّدِّ.
وَمِثْلُهُ مَا فِي كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ فِي بَابِ الإِْجَارَاتِ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي (خِيَارُ الْعَيْبِ) .
ب - إِذَا اخْتَلَفَ الْمُقَوِّمُونَ لِلسَّرِقَةِ فَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ تَبْلُغُ قِيمَتُهَا ثَلاَثَةَ دَرَاهِمَ، وَقَال غَيْرُهُمْ: قِيمَتُهَا
__________
(1) تبصرة الحكام على هامش فتح العلي المالك 2 / 76، 77، والجمل 3 / 148، وكشاف القناع 4 / 23، 24.(19/25)
ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ، قَال فِي الْمُدَوَّنَةِ: إِذَا اجْتَمَعَ عَدْلاَنِ مِنْ أَهْل الْبَصَرِ عَلَى أَنَّ قِيمَتَهَا ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ، وَكَذَا قَال مَالِكٌ فِي سَمَاعِ عِيسَى: إِذَا اجْتَمَعَ عَلَى السَّرِقَةِ رَجُلاَنِ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى مَنْ خَالَفَهُمَا، ثُمَّ قَال فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ نَقْلاً عَنْ مَالِكٍ: إِنْ دُعِيَ أَرْبَعَةٌ فَاجْتَمَعَ رَجُلاَنِ عَلَى قِيمَةٍ قَال: يَنْظُرُ الْقَاضِي إِلَى أَقْرَبِ التَّقْوِيمِ إِلَى السَّدَادِ، بِأَنْ يَسْأَل مَنْ سِوَاهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ السَّدَادُ مِنْ ذَلِكَ.
ج - إِنِ اخْتَلَفَ الْخَارِصُونَ فِي قَدْرِ التَّمْرِ الَّذِي خَرَصُوهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ يُعْمَل بِتَخْرِيصِ الأَْعْرَفِ مِنْهُمْ، وَيُلْغَى تَخْرِيصُ مَا سِوَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَعْرَفُ، فَيُؤْخَذُ مِنْ كُل قَوْلٍ جُزْءٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ (1) . (ر: خَرْصٌ) .
__________
(1) تبصرة الحكام لابن فرحون على هامش فتح العلي المالك 2 / 77، وجواهر الإكليل 1 / 126.(19/26)
خِتَانٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخِتَانُ وَالْخِتَانَةُ لُغَةً الاِسْمُ مِنَ الْخَتْنِ، وَهُوَ قَطْعُ الْقُلْفَةِ مِنَ الذَّكَرِ، وَالنَّوَاةُ مِنَ الأُْنْثَى، كَمَا يُطْلَقُ الْخِتَانُ عَلَى مَوْضِعِ الْقَطْعِ.
يُقَال خَتَنَ الْغُلاَمَ وَالْجَارِيَةَ يَخْتِنُهُمَا وَيَخْتُنُهُمَا خَتْنًا.
وَيُقَال: غُلاَمٌ مَخْتُونٌ وَجَارِيَةٌ مَخْتُونَةٌ وَغُلاَمٌ وَجَارِيَةٌ خَتِينٌ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْخَفْضُ وَالإِْعْذَارُ، وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْخَتْنَ بِالذَّكَرِ، وَالْخَفْضَ بِالأُْنْثَى، وَالإِْعْذَارُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا (1) .
وَالْعُذْرَةُ: الْخِتَانُ، وَهِيَ كَذَلِكَ الْجِلْدَةُ يَقْطَعُهَا الْخَاتِنُ. وَعَذَرَ الْغُلاَمَ وَالْجَارِيَةَ يَعْذِرُهُمَا، عُذْرًا وَأَعْذَرَهُمَا خَتَنَهُمَا.
وَالْعَذَارُ وَالإِْعْذَارُ وَالْعَذِيرَةُ وَالْعَذِيرُ طَعَامُ الْخِتَانِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلْمُصْطَلَحِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (ختن) . والمطلع على أبواب المقنع ص 28.
(2) لسان العرب والمصباح المنير مادة: (عذر) .(19/26)
حُكْمُ الْخِتَانِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْخِتَانِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل:
2 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (1) وَالْمَالِكِيَّةُ (2) وَهُوَ وَجْهٌ شَاذٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (3) ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (4) : إِلَى أَنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الرِّجَال وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَهُوَ مِنَ الْفِطْرَةِ وَمِنْ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ، فَلَوِ اجْتَمَعَ أَهْل بَلْدَةٍ عَلَى تَرْكِهِ حَارَبَهُمُ الإِْمَامُ، كَمَا لَوْ تَرَكُوا الأَْذَانَ.
وَهُوَ مَنْدُوبٌ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ يُعْتَبَرُ خِتَانُهَا مَكْرُمَةً وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهُ سُنَّةٌ فِي حَقِّهِنَّ كَذَلِكَ، وَفِي ثَالِثٍ: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ (5) .
وَاسْتَدَلُّوا لِلسُّنِّيَّةِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا: الْخِتَانُ سُنَّةٌ لِلرِّجَال مَكْرُمَةٌ لِلنِّسَاءِ (6) وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا خَمْسٌ مِنَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 479، والاختيار 4 / 167.
(2) الشرح الصغير 2 / 151.
(3) المجموع 1 / 300.
(4) الإنصاف 1 / 124.
(5) ينظر الفروق بين السنة والمندوب والمستحب تحت عنوان (استحباب) .
(6) حديث: " الختان سنة للرجال مكرمة للنساء ". أخرجه أحمد (5 / 75 - ط الميمنية) والبيهقي في سننه (8 / 325 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أسامة الهذلي، وأعله البيهقي بأحد رواته.(19/27)
الْفِطْرَةِ الْخِتَانُ، وَالاِسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِْبِطِ، وَتَقْلِيمُ الأَْظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ.
(1) وَقَدْ قُرِنَ الْخِتَانُ فِي الْحَدِيثِ بِقَصِّ الشَّارِبِ وَغَيْرِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا.
وَمِمَّا يَدُل عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ كَذَلِكَ أَنَّ الْخِتَانَ قَطْعُ جُزْءٍ مِنَ الْجَسَدِ ابْتِدَاءً فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ قِيَاسًا عَلَى قَصِّ الأَْظْفَارِ (2) .
الْقَوْل الثَّانِي:
3 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ (3) وَالْحَنَابِلَةُ (4) ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل سَحْنُونٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (5) : إِلَى أَنَّ الْخِتَانَ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَال وَالنِّسَاءِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِلْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (6) قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُومِ (7) وَأُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) حديث أبي هريرة: " مس من الفطرة: الختان والاستحداد. . . " أخرجه البخاري (الفتح 20 / 334 - ط السلفية) ومسلم (1 / 221 - ط الحلبي) .
(2) المجموع 1 / 284، 285، المنتقى 7 / 232
(3) المجموع 1 / 298 / 299، 301، قليوبي وعميرة 4 / 11، طرح التثريب 1 / 75، فتح الباري 10 / 341.
(4) كشاف القناع 1 / 80، والإنصاف 1 / 123.
(5) المنتقى 7 / 232.
(6) سورة النحل / 123.
(7) حديث: " اختتن إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانين سنة " أخرجه البخاري (6 / 388 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1893 - ط الحلبي) .(19/27)
أَمْرٌ لَنَا بِفِعْل تِلْكَ الأُْمُورِ الَّتِي كَانَ يَفْعَلُهَا فَكَانَتْ مِنْ شَرْعِنَا.
وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ كَذَلِكَ: أَلْقِ عَنْكَ شَعْرَ الْكُفْرِ وَاخْتَتِنْ (1) قَالُوا: وَلأَِنَّ الْخِتَانَ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمَا جَازَ كَشْفُ الْعَوْرَةِ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَمَا جَازَ نَظَرُ الْخَاتِنِ إِلَيْهَا وَكِلاَهُمَا حَرَامٌ، وَمِنْ أَدِلَّةِ الْوُجُوبِ كَذَلِكَ أَنَّ الْخِتَانَ مِنْ شِعَارِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ وَاجِبًا كَسَائِرِ شِعَارِهِمْ.
وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْل (2) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَخْتَتِنَّ؛ وَلأَِنَّ هُنَاكَ فَضْلَةً فَوَجَبَ إِزَالَتُهَا كَالرَّجُل. وَمِنَ الأَْدِلَّةِ عَلَى الْوُجُوبِ أَنَّ بَقَاءَ الْقُلْفَةِ يَحْبِسُ النَّجَاسَةَ وَيَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلاَةِ فَتَجِبُ إِزَالَتُهَا.
الْقَوْل الثَّالِثُ:
4 - هَذَا الْقَوْل نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي، وَهُوَ أَنَّ الْخِتَانَ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَال، وَمَكْرُمَةٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِنَّ (3) .
__________
(1) حديث: " ألق عنك شعر الكفر واختتن ". أخرجه أبو داود (1 / 253 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وفي إسناده جهالة كما في التلخيص لابن حجر (4 / 82 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " إذا التقى الختانان وجب الغسل " أخرجه الشافعي في الأم (1 / 37) من حديث عائشة، وأصله في مسلم (1 / 272 - ط الحلبي) .
(3) المغني 1 / 85.(19/28)
مِقْدَارُ مَا يُقْطَعُ فِي الْخِتَانِ:
5 - يَكُونُ خِتَانُ الذُّكُورِ بِقَطْعِ الْجِلْدَةِ الَّتِي تُغَطِّي الْحَشَفَةَ، وَتُسَمَّى الْقُلْفَةَ، وَالْغُرْلَةَ، بِحَيْثُ تَنْكَشِفُ الْحَشَفَةُ كُلُّهَا.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى أَخْذِ أَكْثَرِهَا جَازَ. وَفِي قَوْل ابْنِ كَجٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يَكْفِي قَطْعُ شَيْءٍ مِنَ الْقُلْفَةِ وَإِنْ قَل بِشَرْطِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الْقَطْعُ تَدْوِيرَ رَأْسِهَا.
وَيَكُونُ خِتَانُ الأُْنْثَى بِقَطْعِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الاِسْمُ مِنَ الْجِلْدَةِ الَّتِي كَعُرْفِ الدِّيكِ فَوْقَ مَخْرَجِ الْبَوْل. وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ لاَ تُقْطَعَ كُلُّهَا بَل جُزْءٌ مِنْهَا (1) .
وَذَلِكَ لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَخْتِنُ بِالْمَدِينَةِ فَقَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُنْهِكِي فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْظَى لِلْمَرْأَةِ وَأَحَبُّ إِلَى الْبَعْل. (2)
وَقْتُ الْخِتَانِ:
6 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي يَصِيرُ فِيهِ الْخِتَانُ وَاجِبًا هُوَ مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لأَِنَّ الْخِتَانَ مِنْ أَجْل الطَّهَارَةِ، وَهِيَ لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَهُ.
__________
(1) المجموع 1 / 302، الخرشي 3 / 48، البناية 1 / 273، وكشاف القناع 1 / 85.
(2) حديث أم عطية: " لا تنهكي، فإن ذلك أحظى للمرآة وأحب إلى البعل ". أخرجه أبو داود (5 / 421 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ثم ضعف إسناده.(19/28)
وَيُسْتَحَبُّ خِتَانُهُ فِي الصِّغَرِ إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ لأَِنَّهُ أَرْفَقُ بِهِ؛ وَلأَِنَّهُ أَسْرَعُ بُرْءًا فَيَنْشَأُ عَلَى أَكْمَل الأَْحْوَال.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي تَعْيِينِ وَقْتِ الاِسْتِحْبَابِ وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ الْمُفْتَى بِهِ أَنَّهُ يَوْمُ السَّابِعِ وَيُحْتَسَبُ يَوْمُ الْوِلاَدَةِ مَعَهُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ: عَقَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَخَتَنَهُمَا لِسَبْعَةِ أَيَّامٍ (1) ، وَفِي مُقَابِلِهِ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الأَْكْثَرُونَ أَنَّهُ الْيَوْمُ السَّابِعُ بَعْدَ يَوْمِ الْوِلاَدَةِ. وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْمُسْتَحَبَّ مَا بَيْنَ الْعَامِ السَّابِعِ إِلَى الْعَاشِرِ مِنْ عُمْرِهِ؛ لأَِنَّهَا السِّنُّ الَّتِي يُؤْمَرُ فِيهَا بِالصَّلاَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ وَقْتُ الإِْثْغَارِ، إِذَا سَقَطَتْ أَسْنَانُهُ، وَالأَْشْبَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِطَاقَةِ الصَّبِيِّ إِذْ لاَ تَقْدِيرَ فِيهِ فَيُتْرَكُ تَقْدِيرُهُ إِلَى الرَّأْيِ، وَفِي قَوْلٍ: إِنَّهُ إِذَا بَلَغَ الْعَاشِرَةَ لِزِيَادَةِ الأَْمْرِ بِالصَّلاَةِ إِذَا بَلَغَهَا. وَكَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْخِتَانَ يَوْمَ السَّابِعِ؛ لأَِنَّ فِيهِ تَشَبُّهًا بِالْيَهُودِ (2) .
__________
(1) حديث جابر: عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة أيام. أخرجه البيهقي (8 / 324 - ط دائرة المعارف العثمانية) وفي إسناده راو متكلم فيه، وقد أورد الذهبي من مناكيره هذا الحديث في الميزان (2 / 85 - ط الحلبي) .
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 478، مواهب الجليل 3 / 258، المجموع 1 / 313، الإنصاف 1 / 124، حاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 174، النووي على مسلم 3 / 148.(19/29)
خِتَانُ مَنْ لاَ يَقْوَى عَلَى الْخِتَانِ:
7 - مَنْ كَانَ ضَعِيفَ الْخِلْقَةِ بِحَيْثُ لَوْ خُتِنَ خِيفَ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْتَنَ حَتَّى عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِهِ، بَل يُؤَجَّل حَتَّى يَصِيرَ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ سَلاَمَتُهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ تَعَبُّدَ فِيمَا يُفْضِي إِلَى التَّلَفِ؛ وَلأَِنَّ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ يَسْقُطُ بِخَوْفِ الْهَلاَكِ فَالسُّنَّةُ أَحْرَى، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَقُول: إِنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلٌ فِي مَذْهَبِهِمْ، مُلَخَّصُهُ أَنَّ وُجُوبَ الْخِتَانِ يَسْقُطُ عَمَّنْ خَافَ تَلَفًا، وَلاَ يَحْرُمُ مَعَ خَوْفِ التَّلَفِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ، أَمَّا مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتْلَفُ بِهِ وَجَزَمَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْخِتَانُ (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2)
مَنْ مَاتَ غَيْرَ مَخْتُونٍ:
8 - لاَ يُخْتَنُ الْمَيِّتُ الأَْقْلَفُ الَّذِي مَاتَ غَيْرَ مَخْتُونٍ. لأَِنَّ الْخِتَانَ كَانَ تَكْلِيفًا، وَقَدْ زَال بِالْمَوْتِ؛ وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخِتَانِ التَّطْهِيرُ مِنَ النَّجَاسَةِ، وَقَدْ زَالَتِ الْحَاجَةُ بِمَوْتِهِ. وَلأَِنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْمَيِّتِ فَلاَ يُقْطَعُ، كَيَدِهِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ، أَوِ الْقِصَاصِ وَهِيَ لاَ تُقْطَعُ مِنَ الْمَيِّتِ، وَخَالَفَ الْخِتَانُ قَصَّ الشَّعْرِ وَالظُّفْرِ؛ لأَِنَّهُمَا يُزَالاَنِ فِي
__________
(1) المجموع 1 / 304، فتح القدير 1 / 43، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي عليه 2 / 152، الخرشي على خليل 3 / 48، مطالب أولي النهى 1 / 91.
(2) سورة البقرة / 195.(19/29)
الْحَيَاةِ لِلزِّينَةِ، وَالْمَيِّتُ يُشَارِكُ الْحَيَّ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا الْخِتَانُ فَإِنَّهُ يُفْعَل لِلتَّكْلِيفِ بِهِ، وَقَدْ زَال بِالْمَوْتِ.
وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يُخْتَنُ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ لأَِنَّهُ كَالشَّعْرِ وَالظُّفْرِ وَهِيَ تُزَال مِنَ الْمَيِّتِ. وَالْقَوْل الثَّالِثُ عِنْدَهُمْ: إِنَّهُ يُخْتَنُ الْكَبِيرُ دُونَ الصَّغِيرِ؛ لأَِنَّهُ وَجَبَ عَلَى الْبَالِغِ دُونَ الصَّغِيرِ (1) .
مَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا بِلاَ قُلْفَةٍ:
9 - مَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا بِلاَ قُلْفَةٍ فَلاَ خِتَانَ عَلَيْهِ لاَ إِيجَابًا وَلاَ اسْتِحْبَابًا، فَإِنْ وُجِدَ مِنَ الْقُلْفَةِ شَيْءٌ يُغَطِّي الْحَشَفَةَ أَوْ بَعْضَهَا، وَجَبَ قَطْعُهُ كَمَا لَوْ خُتِنَ خِتَانًا غَيْرَ كَامِلٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ تَكْمِيلُهُ ثَانِيًا حَتَّى يُبِينَ جَمِيعَ الْقُلْفَةِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِإِزَالَتِهَا فِي الْخِتَانِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ تُجْرَى عَلَيْهِ الْمُوسَى، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يُقْطَعُ قُطِعَ (2) .
تَضْمِينُ الْخَاتِنِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَضْمِينِ الْخَاتِنِ إِذَا مَاتَ الْمَخْتُونُ بِسَبَبِ سِرَايَةِ جُرْحِ الْخِتَانِ، أَوْ إِذَا جَاوَزَ
__________
(1) المجموع 1 / 304، 5 / 183 فتح القدير 1 / 451 الخرشي على خليل 2 / 136، مطالب أولي النهى 1 / 858، كشاف القناع 2 / 97.
(2) المجموع 1 / 307، الاختيار 4 / 167، مواهب الجليل 3 / 258، الخرشي 3 / 48، مطالب أولي النهى 1 / 91.(19/30)
الْقَطْعُ إِلَى الْحَشَفَةِ أَوْ بَعْضِهَا أَوْ قُطِعَ فِي غَيْرِ مَحَل الْقَطْعِ.
وَحُكْمُهُ فِي الضَّمَانِ حُكْمُ الطَّبِيبِ أَيْ أَنَّهُ يُضْمَنُ مَعَ التَّفْرِيطِ أَوِ التَّعَدِّي وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَةِ بِالْخِتَانِ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخَاتِنَ إِذَا خَتَنَ صَبِيًّا فَقَطَعَ حَشَفَتَهُ وَمَاتَ الصَّبِيُّ، فَعَلَى عَاقِلَةِ الْخَاتِنِ نِصْفُ دِيَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ كُلُّهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَوْتَ حَصَل بِفِعْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَأْذُونٌ فِيهِ وَهُوَ قَطْعُ الْقُلْفَةِ، وَالآْخَرُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَهُوَ قَطْعُ الْحَشَفَةِ، فَيَجِبُ نِصْفُ الضَّمَانِ. أَمَّا إِذَا بَرِئَ فَيُجْعَل قَطْعُ الْجِلْدَةِ وَهُوَ الْمَأْذُونُ فِيهِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَقَطْعُ الْحَشَفَةِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَوَجَبَ ضَمَانُ الْحَشَفَةِ كَامِلاً وَهُوَ الدِّيَةُ؛ لأَِنَّ الْحَشَفَةَ عُضْوٌ مَقْصُودٌ لاَ ثَانِيَ لَهُ فِي النَّفْسِ فَيُقَدَّرُ بَدَلُهُ بِبَدَل النَّفْسِ كَمَا فِي قَطْعِ اللِّسَانِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْخَاتِنِ إِذَا كَانَ عَارِفًا مُتْقِنًا لِمِهْنَتِهِ وَلَمْ يُخْطِئْ فِي فِعْلِهِ كَالطَّبِيبِ؛ لأَِنَّ الْخِتَانَ فِيهِ تَغْرِيرٌ فَكَأَنَّ الْمَخْتُونَ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِمَا أَصَابَهُ.
فَإِنْ كَانَ الْخَاتِنُ مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَةِ بِالْخِتَانِ
__________
(1) فتح القدير 7 / 206، حاشية ابن عابدين 5 / 364 و 400، نهاية المحتاج 8 / 33، 34، حاشية الدسوقي 4 / 28، جواهر الإكليل 2 / 191، كشاف القناع 4 / 34 - 35.
(2) فتح القدير 7 / 206، حاشية ابن عابدين 5 / 364، 400.(19/30)
وَأَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَةِ عُوقِبَ، وَفِي كَوْنِ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَوْ فِي مَالِهِ قَوْلاَنِ: فَلاِبْنِ الْقَاسِمِ إِنَّهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَعَنْ مَالِكٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ إِنَّهَا فِي مَالِهِ. لأَِنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ وَالْعَاقِلَةُ لاَ تَحْمِل عَمْدًا (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخَاتِنَ إِذَا تَعَدَّى بِالْجُرْحِ الْمُهْلِكِ، كَأَنْ خَتَنَهُ فِي سِنٍّ لاَ يَحْتَمِلُهُ لِضَعْفٍ وَنَحْوِهِ أَوْ شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَمَاتَ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، فَإِنْ ظَنَّ كَوْنَهُ مُحْتَمِلاً فَالْمُتَّجَهُ عَدَمُ الْقَوَدِ لاِنْتِفَاءِ التَّعَدِّي. وَيُسْتَثْنَى مِنْ حُكْمِ الْقَوَدِ الْوَالِدُ وَإِنْ عَلاَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُقْتَل بِوَلَدِهِ، وَتَلْزَمُهُ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ فِي مَالِهِ لأَِنَّهُ عَمْدٌ مَحْضٌ. فَإِنِ احْتَمَل الْخِتَانَ وَخَتَنَهُ وَلِيٌّ، أَوْ وَصِيٌّ، أَوْ قَيِّمٌ فَمَاتَ، فَلاَ ضَمَانَ فِي الأَْصَحِّ لإِِحْسَانِهِ بِالْخِتَانِ، إِذْ هُوَ أَسْهَل عَلَيْهِ مَا دَامَ صَغِيرًا بِخِلاَفِ الأَْجْنَبِيِّ لِتَعَدِّيهِ وَلَوْ مَعَ قَصْدِ إِقَامَةِ الشِّعَارِ.
وَلَمْ يَرَ الزَّرْكَشِيُّ الْقَوَدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الأَْجْنَبِيِّ أَيْضًا لأَِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ يُقِيمُ شَعِيرَةً (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الْخَاتِنِ إِذَا عُرِفَ مِنْهُ حِذْقُ الصَّنْعَةِ، وَلَمْ تَجْنِ يَدُهُ؛ لأَِنَّهُ فَعَل فِعْلاً مُبَاحًا فَلَمْ يَضْمَنْ سِرَايَتَهُ كَمَا فِي الْحُدُودِ، وَكَذَلِكَ لاَ ضَمَانَ إِذَا كَانَ الْخِتَانُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، أَوْ وَلِيِّ غَيْرِهِ أَوِ الْحَاكِمِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حِذْقٌ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 28.
(2) نهاية المحتاج 8 / 33، 34.(19/31)
فِي الصَّنْعَةِ ضَمِنَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَحِل لَهُ مُبَاشَرَةُ الْقَطْعِ، فَإِنْ قُطِعَ فَقَدْ فَعَل مُحَرَّمًا غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ، لِقَوْلِهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَطَبَّبَ وَلاَ يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ (1) وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ إِذَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ وَكَانَ حَاذِقًا وَلَكِنْ جَنَتْ يَدُهُ وَلَوْ خَطَأً، مِثْل أَنْ جَاوَزَ قَطْعَ الْخِتَانِ فَقَطَعَ الْحَشَفَةَ أَوْ بَعْضَهَا، أَوْ غَيْرَ مَحَل الْقَطْعِ، أَوْ قَطَعَ بِآلَةٍ يَكْثُرُ أَلَمُهَا، أَوْ فِي وَقْتٍ لاَ يَصْلُحُ الْقَطْعُ فِيهِ. وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ إِذَا قَطَعَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَلِيِّ (2) .
آدَابُ الْخِتَانِ:
11 - تُشْرَعُ الْوَلِيمَةُ لِلْخِتَانِ وَتُسَمَّى الإِْعْذَارُ وَالْعَذَارُ، وَالْعُذْرَةُ، وَالْعَذِيرُ.
وَالسُّنَّةُ إِظْهَارُ خِتَانِ الذَّكَرِ، وَإِخْفَاءُ خِتَانِ الأُْنْثَى.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا تُسْتَحَبُّ فِي الذَّكَرِ وَلاَ بَأْسَ بِهَا فِي الأُْنْثَى لِلنِّسَاءِ فِيمَا بَيْنَهُنَّ (3) ، وَالتَّفْصِيل فِي (وَلِيمَةٌ، وَدَعْوَةٌ) .
__________
(1) حديث: " من تطبب ولا يعلم منه طب فهو ضامن ". أخرجه أبو داود (4 / 710 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (4 / 212 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمرو وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) كشاف القناع 4 / 34 - 35.
(3) فتح الباري 10 / 343 القليوبي 3 / 294.(19/31)
خَدِيعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَدِيعَةُ وَالْخُدْعَةُ مَصْدَرُ خَدَعَ يَخْدَعُ إِظْهَارُ الإِْنْسَانِ خِلاَفَ مَا يُخْفِيهِ. أَوْ هُوَ بِمَعْنَى الْخَتْل وَإِرَادَةِ الْمَكْرُوهِ. وَالْفَاعِل: الْخَادِعُ، وَخَدَّاعٌ وَخَدُوعٌ مُبَالَغَةٌ، وَالْخُدْعَةُ - بِالضَّمِّ - مَا يُخْدَعُ بِهِ الإِْنْسَانُ مِثْل اللُّعْبَةِ لِمَا يُلْعَبُ بِهِ وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ - مُثَلَّثَةُ الْخَاءِ - وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ. قَال ثَعْلَبٌ: بَلَغَنَا أَنَّهَا لُغَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ هَذَا
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغَدْرُ:
2 - الْغَدْرُ، هُوَ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، أَوْ نَقْضُهُ. قَال: غَدَرَهُ وَغَدَرَ بِهِ غَدْرًا: أَيْ خَانَهُ، وَنَقَضَ عَهْدَهُ.
ب - الْغَبْنُ:
3 - هُوَ مِنْ غَبَنَهُ يَغْبِنُهُ غَبْنًا - بِتَسْكِينِ الْبَاءِ - فِي الْبَيْعِ أَيْ: خَدَعَهُ، وَغُبِنَ الرَّأْيَ وَغُبِنَ فِيهِ غَبْنًا
__________
(1) المصباح المنير، وتاج العروس، ولسان العرب.(19/32)
وَغَبَنًا - بِفَتْحِ الْبَاءِ - غَلِطَ فِيهِ وَنَسِيَهُ وَأَغْفَلَهُ (1) . وَالْغَبْنُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ يَكُونُ فِي الْبَيْعِ خَاصَّةً.
فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْخَدِيعَةِ.
ج - الْخِيَانَةُ:
4 - الْخِيَانَةُ: التَّفْرِيطُ فِي الْعَهْدِ وَالأَْمَانَةِ وَتَرْكُ النُّصْحِ فِيهَا (2) . وَالْخَدِيعَةُ قَدْ تَكُونُ مَعَ خِيَانَةِ الأَْمَانَةِ وَقَدْ لاَ تَكُونُ.
د - الْغُرُورُ، وَالتَّغْرِيرُ:
5 - الْغُرُورُ مَصْدَرُ غَرَّهُ يَغُرُّهُ غُرُورًا، إِذَا خَدَعَهُ وَأَطْمَعَهُ بِالْبَاطِل (3) .
وَالتَّغْرِيرُ إِيقَاعُ الشَّخْصِ فِي الْغَرَرِ.
وَالْغَرَرُ مَا انْطَوَتْ عَنْكَ عَاقِبَتُهُ، أَوْ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَغْلَبُهُمَا أَخْوَفُهُمَا (4) .
هـ - الْغِشُّ:
6 - وَهُوَ مَصْدَرُ غَشَّهُ يَغُشُّهُ - بِالضَّمِّ - غِشًّا لَمْ يُمَحِّضْهُ النُّصْحَ، أَوْ أَظْهَرَ لَهُ خِلاَفَ مَا يُبْطِنُهُ، يُقَال: شَيْءٌ مَغْشُوشٌ (5) .
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب.
(2) مختار الصحاح والقاموس المحيط ولسان العرب.
(3) القاموس المحيط.
(4) القليوبي 2 / 161.
(5) تاج العروس، ولسان العرب.(19/32)
و - التَّدْلِيسُ:
7 - التَّدْلِيسُ، كِتْمَانُ عَيْبِ الشَّيْءِ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي الْبَيْعِ (1) .
فَالتَّدْلِيسُ نَوْعٌ مِنَ الْخَدِيعَةِ.
ز - التَّوْرِيَةُ:
8 - وَهِيَ مِنْ وَرَّى الْخَبَرَ تَوْرِيَةً: أَيْ سَتَرَهُ، وَأَظْهَرَ غَيْرَهُ (2)
فَهِيَ أَيْضًا نَوْعٌ مِنَ الْخَدِيعَةِ.
ح - التَّزْوِيرُ:
9 - هُوَ تَحْسِينُ الشَّيْءِ، وَوَصْفُهُ بِخِلاَفِ صِفَتِهِ حَتَّى يُخَيَّل إِلَى مَنْ يَسْمَعُهُ أَوْ يَرَاهُ أَنَّهُ بِخِلاَفِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ، فَهُوَ تَمْوِيهُ الْبَاطِل بِمَا يُوهِمُ أَنَّهُ حَقٌّ. وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَنَدَاتِ مِنَ الْوَثَائِقِ وَالشَّهَادَاتِ (3)
. ط - الْحِيلَةُ:
10 - هِيَ فِي اللُّغَةِ الْحِذْقُ وَجَوْدَةُ النَّظَرِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي تَدْبِيرِ الأُْمُورِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّهُ غَلَبَ فِي الْعُرْفِ عَلَى الْحِيلَةِ اسْتِعْمَالُهَا فِي سُلُوكِ الطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَتَوَصَّل بِهَا الرَّجُل إِلَى حُصُول غَرَضِهِ، بِحَيْثُ لاَ
__________
(1) المغرب.
(2) مختار الصحاح مادة: (ورى) .
(3) سبل السلام 4 / 130.(19/33)
يَتَفَطَّنُ لَهُ إِلاَّ بِنَوْعٍ مِنَ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ (1) .
وَقَال الرَّاغِبُ: وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا فِي تَعَاطِيهِ خَبَثٌ، وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِيمَا فِي اسْتِعْمَالِهِ حِكْمَةٌ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
11 - الْخَدِيعَةُ بِمَعْنَى - إِظْهَارِ الإِْنْسَانِ خِلاَفَ مَا يُخْفِيهِ - حَرَامٌ إِذَا كَانَ فِيهَا خِيَانَةُ أَمَانَةٍ، أَوْ نَقْضُ عَهْدٍ. وَهَذَا لاَ يُعْلَمُ فِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ عُلَمَاءِ الأُْمَّةِ، وَتَوَاتَرَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ فِي النَّهْيِ عَنْهَا.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (3) وَقَوْلُهُ: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (4)
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلاَل كُلِّهَا إِلاَّ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ. (5) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَْعْيُنِ (6)
__________
(1) أعلام الموقعين 3 / 252.
(2) المفردات.
(3) سورة المائدة / 1.
(4) سورة التوبة / 4.
(5) حديث: " يطبع المؤمن. . . . " أخرجه أحمد (5 / 252 - ط الميمنية) من حديث أبي أمامة، وأعله الهيثمي في المجمع (1 / 92 - ط القدسي) بالانقطاع بين الأعمش وأبي أمامة.
(6) حديث: " إنه لا ينبغي لنبي. . . . . " أخرجه أبو داود (3 / 133 - 134 تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (3 / 45 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث سعد بن أبي وقاص. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(19/33)
وَعَدَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَلاَمَاتِ النِّفَاقِ فَقَال: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ. (1)
وَقَال النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنِّي لاَ أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلاَ أَحْبِسُ الْبُرُدَ. (2)
قَال الصَّنْعَانِيُّ فِي سُبُل السَّلاَمِ: فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى حِفْظِ الْعَهْدِ، وَالْوَفَاءِ بِهِ. وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَنْ عُقُودٍ مُعَيَّنَةٍ تَدْخُل فِيهَا الْخَدِيعَةُ مِنَ النَّجْشِ، وَالتَّصْرِيَةِ، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ. وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْمَخْدُوعِ فِيهَا حَقَّ خِيَارِ الْفَسْخِ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَال: إِنَّ رَجُلاً ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ، فَقَال: إِذَا بَايَعْتَ فَقُل: لاَ خِلاَبَةَ أَيْ لاَ خَدِيعَةَ (3) .
(ر: نَجْشٌ، وَتَصْرِيَةٌ، وَتَدْلِيسٌ) .
الْخَدِيعَةُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ:
12 - أَمَّا الْخَدِيعَةُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ، فَلاَ يَجُوزُ الْخُدَعُ، وَلاَ التَّبْيِيتُ بِالْهُجُومِ الْغَادِرِ، وَهُمْ آمِنُونَ مُطْمَئِنُّونَ إِلَى عَهْدٍ لَمْ يُنْقَضْ، وَلَمْ يُنْبَذْ،
__________
(1) حديث: " آية المنافق ثلاث إذا حدث. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 89 - ط السلفية) ومسلم (1 / 78 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد " أخرجه أبو داود (3 / 189 - 190 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي رافع وإسناده صحيح.
(3) حديث: " إذا بايعت فقل: لا خلابة " البخاري (الفتح 4 / 337 - ط السلفية) .(19/34)
حَتَّى لَوْ كُنَّا نَخْشَى الْخِيَانَةَ مِنْ جَانِبِهِمْ (1) . قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (2) وَقَال: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} (3) وَقَال: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (4) وَأَمَّا إِذَا اسْتَشْعَرَ الإِْمَامُ عَزْمَهُمْ عَلَى الْخِيَانَةِ بِأَمَارَاتٍ تَدُل عَلَيْهَا لاَ بِمُجَرَّدِ تَوَهُّمٍ، لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُمْ، وَلاَ يَجُوزُ خَدْعُهُمْ وَلاَ تَبْيِيتُهُمْ بِهُجُومٍ غَادِرٍ، وَهُمْ آمِنُونَ مُطْمَئِنُّونَ إِلَى عَهْدٍ لَمْ يُنْقَضْ، وَلَمْ يُنْبَذْ. بَل يُنْبَذُ إِلَيْهِمُ الْعَهْدُ ثُمَّ يُقَاتِلُهُمْ (5) .
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} . (6)
قَال الشَّوْكَانِيُّ فِي تَفْسِيرِ الآْيَةِ: إِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً: أَيْ غِشًّا، وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ مِنَ الْقَوْمِ الْمُعَاهَدِينَ فَاطْرَحْ إِلَيْهِمُ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، عَلَى سَوَاءٍ أَيْ أَخْبِرْهُمْ إِخْبَارًا ظَاهِرًا مَكْشُوفًا بِالنَّقْضِ، وَلاَ تُنَاجِزْهُمُ الْحَرْبَ بَغْتَةً (7) .
13 - فَأَمَّا بَعْدُ أَنْ نَبَذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، وَصَارَ عِلْمُهُمْ وَعِلْمُ الْمُسْلِمِينَ بِنَقْضِهِ عَلَى سَوَاءٍ، وَبَعْدَ أَنْ أَخَذَ كُل خَصْمٍ حِذْرَهُ، فَإِنَّ كُل وَسَائِل
__________
(1) المغني 8 / 462، شرح روض الطالب 4 / 225، حاشية ابن عابدين 3 / 224.
(2) سورة المائدة / 1.
(3) سورة التوبة / 4.
(4) سورة التوبة / 7.
(5) أسنى المطالب 4 / 226، المغني 8 / 463.
(6) سورة الأنفال / 58.
(7) فتح القدير تفسير آية 58 من سورة الأنفال.(19/34)
الْخُدْعَةِ مُبَاحَةٌ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ غَادِرَةً، فَمَنْ جَازَتْ عَلَيْهِ الْخُدْعَةُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَهُوَ غَافِلٌ وَلَيْسَ بِمَغْدُورٍ بِهِ. قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَرْبُ خُدْعَةٌ (1) وَجَاءَ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي الْحَدِيثِ: الأَْمْرُ بِاسْتِعْمَال الْحِيلَةِ فِي الْحَرْبِ مَهْمَا أَمْكَنَ، وَالنَّدْبُ إِلَى خِدَاعِ الْكُفَّارِ، قَال النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ خِدَاعِ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ كُلَّمَا أَمْكَنَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَقْضُ عَهْدٍ، أَوْ أَمَانٍ فَلاَ يَجُوزُ.
(ر: أَمَانٌ، عَهْدٌ، هُدْنَةٌ) .
وَفِيهِ الإِْشَارَةُ إِلَى اسْتِعْمَال الرَّأْيِ فِي الْحَرْبِ بَل الاِحْتِيَاجُ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنَ الشَّجَاعَةِ (2) . وَقَال ابْنُ الْمُنِيرِ: مَعَ الْحَرْبُ خُدْعَةٌ الْحَرْبُ الْجَيِّدَةُ لِصَاحِبِهَا الْكَامِلَةُ فِي مَقْصُودِهَا إِنَّمَا هِيَ الْمُخَادَعَةُ، لاَ الْمُوَاجَهَةُ، وَذَلِكَ لِخَطَرِ الْمُوَاجَهَةِ وَحُصُول الظَّفَرِ مَعَ الْمُخَادَعَةِ بِغَيْرِ خَطَرٍ (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: قَال الْعُلَمَاءُ: إِذَا دَعَتْ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ رَاجِحَةٌ إِلَى خِدَاعِ الْمُخَاطَبِ، أَوْ حَاجَةٌ لاَ مَنْدُوحَةَ عَنْهَا إِلاَّ بِالْكَذِبِ، فَلاَ بَأْسَ بِالتَّوْرِيَةِ، وَالتَّعْرِيضِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَلَيْسَ بِحَرَامٍ إِلاَّ أَنْ يُتَوَصَّل بِهِ إِلَى أَخْذِ بَاطِلٍ، أَوْ دَفْعِ
__________
(1) حديث: " الحرب خدعة " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 158 - ط السلفية) . ومسلم (3 / 1361 ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) فتح الباري 6 / 158 - 159، المغني 8 / 369.
(3) المصدر السابق.(19/35)
حَقٍّ فَيَصِيرُ عِنْدَئِذٍ حَرَامًا (1) .
وَفِي التَّوْرِيَةِ قَوْل مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فِي قِصَّةِ كَعْبِ بْنِ الأَْشْرَفِ بَعْدَ أَنِ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُول: كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: إِنَّ هَذَا أَيِ: النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَنَّانَا، وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ، فَإِنَّا اتَّبَعْنَاهُ فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ (2) وَكُل هَذِهِ الْكَلِمَاتِ تَوْرِيَةٌ: وَقَصَدَ بِهَا إِلَى مَعْنًى غَيْرِ الْمَعْنَى الْمُتَبَادَرِ مِنْهَا.
وَمَعْنَى عَنَّانَا: كَلَّفَنَا بِالأَْوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.
وَمَعْنَى سَأَلَنَا الصَّدَقَةَ: طَلَبَهَا لِيَضَعَهَا فِي مَكَانِهَا الصَّحِيحِ. وَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ: نَكْرَهُ أَنْ نُفَارِقَهُ (3) .
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا (4) .
وَالْمُرَادُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ يُرِيدُ غَزْوَ جِهَةٍ فَلاَ يُظْهِرُهَا وَيُظْهِرُ غَيْرَهَا، كَأَنْ يُرِيدَ أَنْ يَغْزُوَ جِهَةَ الشَّرْقِ، فَيَسْأَل عَنْ أَمْرٍ فِي جِهَةِ الْغَرْبِ، فَيَتَجَهَّزُ لِلسَّفَرِ فَيَظُنُّ مَنْ يَرَاهُ، وَيَسْمَعُهُ أَنَّهُ يُرِيدُ جِهَةَ الْغَرْبِ (5) .
وَهَذَا فِي الْغَالِبِ فَقَدْ صَرَّحَ بِجِهَةِ غَزْوَةِ تَبُوكَ لِلتَّأَهُّبِ لَهَا.
__________
(1) الأذكار للنووي ص 338، فتح الباري 6 / 159.
(2) مقالة كعب: إن هذا قد عنانا، وسألنا الصدقة " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 113 - ط السلفية) .
(3) فتح الباري 6 / 159.
(4) حديث: " كان إذا أراد أن يغزو غزوة ورى بغيرها. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 113 - ط السلفية) . ومسلم (4 / 2128 - ط الحلبي) من حديث كعب بن مالك.
(5) المصدر السابق.(19/35)
خِدْمَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخِدْمَةُ مَصْدَرُ خَدَمَ وَهِيَ الْمِهْنَةُ، وَقِيل: وَهِيَ بِالْكَسْرِ الاِسْمُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَصْدَرُ. وَالْخَدَمُ وَالْخُدَّامُ جَمْعُ خَادِمٍ، وَالْخَادِمُ يَصْدُقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى، لأَِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الأَْسْمَاءِ غَيْرِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الأَْفْعَال. وَيُقَال لِلأُْنْثَى فِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ خَادِمَةٌ.
وَاسْتَخْدَمَهُ وَاخْتَدَمَهُ جَعَلَهُ خَادِمًا، أَوْ سَأَلَهُ أَنْ يَخْدُمَهُ، وَأَخْدَمْتُ فُلاَنًا: أَيْ أَعْطَيْتَهُ خَادِمًا يَخْدُمُهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمِهْنَةُ:
2 - الْمِهْنَةُ - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا - الْحِذْقُ فِي الْخِدْمَةِ وَالْعَمَل، وَمَهَنَ يَمْهُنُ مِهَنًا إِذَا عَمِل فِي صَنْعَةٍ، وَمَهَنَهُمْ خَدَمَهُمْ وَامْتَهَنْتُهُ أَيِ: اسْتَخْدَمْتَهُ وَابْتَذَلْتَهُ.
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب، والمصباح المنير مادة: (خدم) ومغني المحتاج 3 / 433، وكشاف القناع 5 / 463.(19/36)
وَالْمَاهِنُ الْخَادِمُ، وَالأُْنْثَى مَاهِنَةٌ، وَالْجَمْعُ مُهَّانٌ، وَيُقَال: لِلأُْنْثَى بِالْخَرْقَاءِ لاَ تُحْسِنُ الْمِهْنَةَ، أَيْ لاَ تُحْسِنُ الْخِدْمَةَ.
وَالْمِهْنَةُ الْخِدْمَةُ وَالاِبْتِذَال، وَالْمَهِينُ الضَّعِيفُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} (1)
وَخَرَجَ فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهِ أَيْ: فِي ثِيَابِ خِدْمَتِهِ الَّتِي يَلْبَسُهَا فِي أَشْغَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ (2) .
فَالْمِهْنَةُ أَخَصُّ؛ لأَِنَّ فِيهَا الْحِذْقَ، وَتُطْلَقُ عَلَى الصَّنْعَةِ.
ب - الْعَمَل:
3 - وَالْعَمَل هُوَ الْمِهْنَةُ وَالْفِعْل، وَالْجَمْعُ أَعْمَالٌ. وَالْعَامِل هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى أُمُورَ الرَّجُل فِي مَالِهِ، أَوْ مِلْكِهِ، أَوْ عَمَلِهِ، وَالْجَمْعُ عُمَّالٌ وَعَامِلُونَ. وَالْعُمْلَةُ وَالْعِمَالَةُ، أَجْرُ مَا عَمِل، أَوْ رِزْقُ الْعَامِل الَّذِي جُعِل لَهُ عَلَى مَا قُلِّدَ مِنَ الْعَمَل، وَالْعَمَلَةُ هُمُ الْقَوْمُ يَعْمَلُونَ بِأَيْدِيهِمْ ضُرُوبًا مِنَ الْعَمَل فِي طِينٍ أَوْ حَفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ (3) .
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْعَمَل وَالْخِدْمَةِ أَنَّ الْعَمَل أَعَمُّ مِنَ الْخِدْمَةِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْخِدْمَةِ: خِدْمَةُ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُل وَعَكْسُهُ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ
__________
(1) سورة المرسلات / 20.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (مهن) .
(3) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (عمل) .(19/36)
الرَّجُل الأَْعْزَبِ الْمَرْأَةَ الأَْجْنَبِيَّةَ الْبَالِغَةَ لِلْخِدْمَةِ فِي بَيْتِهِ، مَأْمُونًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَأْمُونٍ وَذَلِكَ اتِّقَاءٌ لِلْفِتْنَةِ، وَلأَِنَّ الْخَلْوَةَ بِهَا مَعْصِيَةٌ إِلاَّ إِذَا كَانَ الرَّجُل مَحْرَمًا لَهَا، أَوْ صَغِيرًا، أَوْ شَيْخًا هَرِمًا، أَوْ مَمْسُوحًا أَوْ مَجْبُوبًا، أَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ الْخَادِمَةُ صَغِيرَةً لاَ تُشْتَهَى.
وَلاَ فَرْقَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ وَبَيْنَ الأَْمَةِ، وَلاَ بَيْنَ الْجَمِيلَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا. وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَوْ كَانَتْ قَبِيحَةً يُؤْمَنُ مِنَ الرَّجُل الأَْجْنَبِيِّ عَلَيْهَا، فَحِينَئِذٍ لاَ تَحْرُمُ خِدْمَتُهَا لَهُ فِي بَيْتِهِ لاِنْتِفَاءِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ.
وَالْحُرْمَةُ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - إِذَا كَانَتِ الْخِدْمَةُ تَتَطَلَّبُ الْخَلْوَةَ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ تَتَطَلَّبُ الْخَلْوَةَ فَيَجُوزُ، وَكَذَا إِذَا كَانَ الرَّجُل مَرِيضًا وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَخْدُمُهُ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ اسْتِخْدَامِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ الرَّجُل جَمِيلَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ جَمِيلَةٍ مُتَجَالَّةً أَوْ غَيْرَ مُتَجَالَّةٍ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَجَالَّةِ وَغَيْرِ الْمُتَجَالَّةِ، كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الرَّجُل الْعَزَبِ الَّذِي لاَ نِسَاءَ عِنْدَهُ مِنْ قَرَابَاتٍ وَزَوْجَاتٍ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَدَيْهِ زَوْجَةٌ أَوْ قَرِيبَةٌ. قَال أَحْمَدُ: يَجُوزُ لِلرَّجُل أَنْ يَسْتَأْجِرَ الأَْمَةَ وَالْحُرَّةَ لِلْخِدْمَةِ، وَلَكِنْ يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنِ النَّظَرِ لَيْسَتِ الأَْمَةُ مِثْل الْحُرَّةِ وَلاَ يَخْلُو مَعَهَا فِي بَيْتٍ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا مُتَجَرِّدَةً وَلاَ إِلَى شَعْرِهَا.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْرَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُل امْرَأَةً حُرَّةً يَسْتَخْدِمُهَا وَيَخْلُو بِهَا وَكَذَلِكَ الأَْمَةُ.(19/37)
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: أَمَّا الْخَلْوَةُ؛ فَلأَِنَّ الْخَلْوَةَ بِالْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ مَعْصِيَةٌ.
وَأَمَّا الاِسْتِخْدَامُ فَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مَعَهُ الاِطِّلاَعُ عَلَيْهَا وَالْوُقُوعُ فِي الْمَعْصِيَةِ.
وَفِي الْمُدَوَّنَةِ قِيل لاِبْنِ الْقَاسِمِ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً تَخْدُمُهُ وَهُوَ عَزَبٌ أَيَجُوزُ هَذَا أَمْ لاَ؟ قَال: سَمِعْتُ مَالِكًا وَسُئِل عَنِ امْرَأَةٍ تُعَادِل الرَّجُل فِي الْمَحْمَل وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَحْرَمٌ فَكَرِهَ ذَلِكَ، فَالَّذِي يَسْتَأْجِرُ الْمَرْأَةَ تَخْدُمُهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَحْرَمٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَهْلٌ، وَهُوَ يَخْلُو مَعَهَا أَشَدُّ عِنْدِي كَرَاهِيَةً مِنَ الَّذِي تُعَادِلُهُ الْمَرْأَةُ فِي الْمَحْمَل (1) .
أَمَّا خَادِمُ الْمَرْأَةِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَجُلاً كَبِيرًا مِمَّنْ لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا؛ لأَِنَّ الْخَادِمَ يَلْزَمُ الْمَخْدُومَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ، فَلاَ يَسْلَمُ مِنَ النَّظَرِ وَالْخَلْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْخَادِمُ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، أَوْ مَحْرَمًا لِلْمَرْأَةِ الْمَخْدُومَةِ، أَوْ عَبْدًا مَمْلُوكَهَا، أَوْ مَمْسُوحًا، أَوْ نَحْوَهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَخْدُمَهَا.
وَهَذَا فِي الْخِدْمَةِ الْبَاطِنَةِ، أَمَّا الْخِدْمَةُ الظَّاهِرَةُ
__________
(1) البدائع 4 / 189، وحاشية ابن عابدين 2 / 333 - 334، مواهب الجليل 5 / 393، القوانين الفقهية ص 378، المجموع 15 / 29، مغني المحتاج 2 / 265، 337، روضة الطالبين 4 / 427، نهاية المحتاج 4 / 232، المغني لابن قدامة 5 / 467، كشاف القناع 4 / 64، الإنصاف 6 / 102، المدونة الكبرى 4 / 432، القليوبي وعميرة 3 / 18، تحفة المحتاج 5 / 417.(19/37)
مِثْل قَضَاءِ الْحَوَائِجِ مِنَ السُّوقِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَلاَّهَا الرَّجُل الأَْجْنَبِيُّ.
قَال الْحَطَّابُ: وَسُئِل عَنِ الْمَرْأَةِ الْعَزَبَةِ الْكَبِيرَةِ تَلْجَأُ إِلَى الرَّجُل، فَيَقُومُ لَهَا بِحَوَائِجِهَا وَيُنَاوِلُهَا الْحَاجَةَ، هَل تَرَى لَهُ ذَلِكَ جَائِزًا؟ قَال: لاَ بَأْسَ بِهِ وَلْيَدْخُل مَعَهُ غَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَلَوْ تَرَكَهَا النَّاسُ لَضَاعَتْ، وَهَذَا عَلَى مَا قَال إِنَّهُ جَائِزٌ لِلرَّجُل أَنْ يَقُومَ لِلْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ بِحَوَائِجِهَا وَيُنَاوِلَهَا الْحَاجَةَ إِذَا غَضَّ بَصَرَهُ عَمَّا لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ، مِمَّا لاَ يَظْهَرُ مِنْ زِينَتِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (1) وَذَلِكَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ عَلَى مَا قَالَهُ أَهْل التَّأْوِيل، فَجَائِزٌ لِلرَّجُل أَنْ يَنْظُرَ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى الدُّخُول عَلَيْهَا أَدْخَل غَيْرَهُ مَعَهُ لِيُبْعِدَ سُوءَ الظَّنِّ عَنْ نَفْسِهِ (2) .
خِدْمَةُ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا أَنْ يَخْدُمَ الْكَافِرَ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِإِجَارَةٍ أَوْ إِعَارَةٍ، وَلاَ تَصِحُّ الإِْجَارَةُ وَلاَ الإِْعَارَةُ
__________
(1) سورة النور / 31.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 273، 2 / 333، 5 / 238، مواهب الجليل 5 / 393، مغني المحتاج 2 / 265، 3 / 131، 3 / 432، المغني لابن قدامة 7 / 569، الفواكه الدواني 2 / 108، القليوبي وعميرة 3 / 18، تحفة المحتاج 5 / 417، وجواهر الإكليل 2 / 145.(19/38)
لِذَلِكَ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِهَانَةً لِلْمُسْلِمِ وَإِذْلاَلاً لَهُ، وَتَعْظِيمًا لِلْكَافِرِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (1)
وَأَمَّا إِذَا أَجَّرَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ لِلْكَافِرِ لِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ فِي الذِّمَّةِ، كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ قِصَارَتِهِ جَازَ؛ لأَِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لاَ يَتَضَمَّنُ إِذْلاَلاً وَلاَ اسْتِخْدَامًا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: بِغَيْرِ خِلاَفٍ نَعْلَمُهُ، لأَِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ يَسْتَقِي لَهُ كُل دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ (2) . وَكَذَا إِنْ أَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْهُ لِعَمَلٍ غَيْرِ الْخِدْمَةِ مُدَّةً مَعْلُومَةً جَازَ أَيْضًا.
وَكَذَا إِعَارَةُ عَبْدٍ مُسْلِمٍ لِكَافِرٍ لِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ لاَ يَقْتَضِي الْخِدْمَةَ فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا.
وَيُشْتَرَطُ فِيمَا جَازَ مِنَ الإِْجَارَةِ وَالإِْعَارَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ الْعَمَل مِمَّا لاَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ، كَرَعْيِ الْخَنَازِيرِ أَوْ حَمْل الْخَمْرِ (3) .
خِدْمَةُ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ وَعَكْسُهُ:
6 - إِذَا قَامَ الْوَالِدُ بِنَفْسِهِ بِخِدْمَةِ وَلَدِهِ فَلاَ كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْخِدْمَةُ أَوِ الإِْخْدَامُ لِوَلَدِهِ
__________
(1) سورة النساء / 141.
(2) حديث: " آجر علي نفسه من يهودي. . . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 181 - ط الحلبي) ، وقال البوصيري: " في إسناده حنش، واسمه حسين بن قيس، ضعفه أحمد وغيره ".
(3) البدائع 4 / 189، الخرشي على مختصر خليل 7 / 19، حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 456، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 18، المغني لابن قدامة 5 / 554، نهاية المحتاج 4 / 232، القليوبي وعميرة 3 / 18.(19/38)
الصَّغِيرِ أَوِ الْمَرِيضِ، أَوِ الْعَاجِزِ، إِذَا كَانَ فَقِيرًا.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اسْتِخْدَامِ الْفَرْعِ لأَِصْلِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْهَانَةِ وَالإِْذْلاَل وَالاِسْتِخْفَافِ الَّذِي لاَ يَلِيقُ بِمَكَانَةِ الأُْبُوَّةِ.
وَعَلَيْهِ فَلاَ يَجُوزُ لِلْوَلَدِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ وَالِدَهُ لِلاِسْتِخْدَامِ وَإِنْ عَلاَ، وَكَذَلِكَ وَالِدَتُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْوَالِدُ مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا؛ لأَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَعْظِيمِ وَالِدِهِ وَإِنِ اخْتَلَفَ الدِّينُ، وَفِي الاِسْتِخْدَامِ اسْتِخْفَافٌ بِهِ فَكَانَ حَرَامًا، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (1) وَهَذَا الأَْمْرُ وَرَدَ فِي حَقِّ الأَْبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ، لأَِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} (2) الآْيَةَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْوَلَدِ تَنْزِيهًا اسْتِخْدَامُ أَحَدِ أُصُولِهِ وَإِنْ عَلاَ لِصِيَانَتِهِمْ عَنِ الإِْذْلاَل.
أَمَّا خِدْمَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، أَوِ اسْتِخْدَامُ الأَْبِ لِوَلَدِهِ فَجَائِزٌ بِلاَ خِلاَفٍ، بَل إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْبِرِّ الْمَأْمُورِ بِهِ شَرْعًا، وَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْوَلَدِ خِدْمَةُ أَوْ إِخْدَامُ وَالِدِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلِهَذَا فَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أُجْرَةً عَلَيْهَا، لأَِنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ وَمَنْ قَضَى
__________
(1) سورة لقمان / 15.
(2) سورة لقمان / 15.(19/39)
حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَيْهِ (1) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَادِمِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أ - إِخْدَامُ الزَّوْجَةِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ إِخْدَامُ زَوْجَتِهِ الَّتِي لاَ يَلِيقُ بِهَا خِدْمَةُ نَفْسِهَا بِأَنْ كَانَتْ تُخْدَمُ فِي بَيْتِ أَبِيهَا، أَوْ كَانَتْ مِنْ ذَوِي الأَْقْدَارِ، لِكَوْنِ هَذَا مِنْ حَقِّهَا فِي الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) وَلأَِنَّ هَذَا مِنْ كِفَايَتِهَا وَمِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدَّوَامِ فَأَشْبَهَ النَّفَقَةَ.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الإِْخْدَامَ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ الْمَرِيضَةِ، وَالْمُصَابَةِ بِعَاهَةٍ لاَ تَسْتَطِيعُ مَعَهَا خِدْمَةَ نَفْسِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لاَ يُخْدَمُ مِثْلُهَا؛ لأَِنَّ مِثْل هَذِهِ لاَ تَسْتَغْنِي عَنِ الْخِدْمَةِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا يَرَوْنَ وُجُوبَ إِخْدَامِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ، لَكِنْ قَالُوا: يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ ذَا سَعَةٍ وَهِيَ ذَاتُ قَدْرٍ لَيْسَ شَأْنَهَا الْخِدْمَةُ، أَوْ كَانَ هُوَ ذَا قَدْرٍ تَزْرِي خِدْمَةُ زَوْجَتِهِ بِهِ (3) .
__________
(1) البدائع 2 / 278، 4 / 190، حاشية ابن عابدين 2 / 333، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 435، مغني المحتاج 2 / 337، 3 / 213، روضة الطالبين 5 / 186، 4 / 427، الكشاف 4 / 64، الإنصاف 6 / 102، المغني لابن قدامة 5 / 225.
(2) سورة النساء / 19.
(3) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 510.(19/39)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا امْتَنَعَتِ الْمَرْأَةُ عَنِ الطَّحْنِ وَالْخَبْزِ، إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لاَ يَخْدُمُ، أَوْ كَانَ بِهَا عِلَّةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامٍ مُهَيَّأٍ، وَإِلاَّ بِأَنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَخْدُمُ نَفْسَهَا وَتَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهَا أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، لِوُجُوبِهِ عَلَيْهَا دِيَانَةً وَلَوْ شَرِيفَةً، لأَِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَّمَ الأَْعْمَال بَيْنَ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ، فَجَعَل أَعْمَال الْخَارِجِ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالدَّاخِل عَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (1) مَعَ أَنَّهَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فَإِنْ كَانَ لَهَا خَادِمٌ فَعَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهُ (2) .
ب - الإِْخْدَامُ بِأَكْثَرَ مِنْ خَادِمٍ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِلْزَامِ الزَّوْجِ بِأَكْثَرَ مِنْ خَادِمٍ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ خَادِمٍ وَاحِدٍ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَحَقَّ خِدْمَتُهَا فِي نَفْسِهَا وَيَحْصُل ذَلِكَ بِخَادِمٍ وَاحِدٍ (3) . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ
__________
(1) حديث: " قسم صلى الله عليه وسلم الأعمال بين علي وفاطمة فجعل. . . " ذكر ابن حجر في الفتح (9 / 507 - السلفية) أن ذلك مستنبط من حديث علي بن أبي طالب، أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادما، فدلها على ما تقول حين تأخذ مضجعها. أخرجه البخاري (الفتح 9 / 506 - ط السلفية) .
(2) الدر المختار 2 / 648.
(3) ابن عابدين 2 / 648، 655، والقوانين الفقهية ص 226، ومغني المحتاج 3 / 433 و 434، والمغني 7 / 569.(19/40)
الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ حَالُهَا وَمَنْصِبُهَا يَقْتَضِي، خَادِمَيْنِ أَوْ أَكْثَر فَلَهَا ذَلِكَ.
قَال أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ غَنِيَّةً وَزُفَّتْ إِلَيْهِ بِخَدَمٍ كَثِيرٍ اسْتَحَقَّتْ نَفَقَةَ الْجَمِيعِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ يَجِل مِقْدَارُهَا عَنْ خِدْمَةِ خَادِمٍ وَاحِدٍ، فَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى مَنْ لاَ بُدَّ مِنْهُ مِنَ الْخَدَمِ مِمَّنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنَ الْخَادِمِ الْوَاحِدِ، أَوِ الاِثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْحَاصِل: أَنَّ الْمَذْهَبَ الاِقْتِصَارُ عَلَى الْوَاحِدِ مُطْلَقًا، وَالْمَأْخُوذُ بِهِ عِنْدَ الْمَشَايِخِ قَوْل أَبِي يُوسُفَ.
فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ لاَ يُخْدَمُ فِي بَيْتِ أَبِيهَا مَثَلاً، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْخْدَامُ، بَل يَلْزَمُهَا أَنْ تَقُومَ بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا الْبَاطِنَةِ (أَيْ فِي دَاخِل الْمَنْزِل) مِنْ عَجْنٍ وَطَبْخٍ، وَكَنْسٍ، وَفَرْشٍ، وَاسْتِقَاءِ مَاءٍ إِذَا كَانَ مَعَهَا فِي الْبَيْتِ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا غَزْلٌ، وَلاَ نَسْجٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا مِنَ السُّوقِ مَا تَحْتَاجُهُ؛ لأَِنَّ هَذَا مِنْ تَمَّامِ الْكِفَايَةِ.
ج - تَبْدِيل الْخَادِمِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَبْدِيل الزَّوْجِ خَادِمَهَا الَّذِي حَمَلَتْهُ مَعَهَا، أَوْ أَخْدَمَهَا إِيَّاهُ هُوَ (وَأَلِفَتْهُ) .
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ لَهُ لِتَضَرُّرِهَا بِقَطْعِ الْمَأْلُوفِ؛ وَلأَِنَّهَا قَدْ لاَ تَتَهَيَّأُ لَهَا الْخِدْمَةُ بِالْخَادِمِ(19/40)
الَّذِي يَجِيءُ بِهِ الزَّوْجُ بَدَل خَادِمِهَا إِلاَّ إِنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ رِيبَةٌ، أَوْ خِيَانَةٌ، أَوْ تَضَرَّرَ بِوُجُودِهِ.
أَمَّا إِذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ رِيبَةٌ، أَوْ خِيَانَةٌ، أَوْ تَضَرَّرَ مِنْهُ بِأَنْ كَانَ يَخْتَلِسُ مِنْ ثَمَنِ مَا يَشْتَرِيهِ أَوْ أَمْتِعَةِ بَيْتِهِ فَلَهُ الإِْبْدَال، وَالإِْتْيَانُ بِخَادِمٍ أَمِينٍ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ هَذَا عَلَى رِضَاهَا إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ هَذَا إِذَا لَمْ تَسْتَبْدِل غَيْرَهُ بِهِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ إِبْدَال خَادِمٍ آخَرَ بِخَادِمِهَا إِذَا أَتَاهَا بِمَنْ يَصْلُحُ لِلْخِدْمَةِ لأَِنَّ تَعْيِينَ الْخَادِمِ إِلَيْهِ وَلَيْسَ إِلَيْهَا (1) .
د - إِخْرَاجُ الْخَادِمِ مِنَ الْبَيْتِ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ إِخْرَاجِ الزَّوْجِ لِخَدَمِ الْمَرْأَةِ الزَّائِدِ عَنِ الْوَاحِدِ، أَوِ الزَّائِدِ عَنِ الْحَاجَةِ مِنْ بَيْتِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لَهُ إِخْرَاجَ الزَّائِدِ عَنِ الْحَاجَةِ وَمَنْعَهُ مِنْ دُخُول الْبَيْتِ.
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَقَال: لاَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ (2) .
هـ - إِخْدَامُ الْمُعْسِرِ:
11 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الإِْخْدَامِ عَلَى
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 654، والقوانين الفقهية ص 226، جواهر الإكليل 1 / 402، مغني المحتاج 3 / 434، المغني لابن قدامة 7 / 569، الفروع 5 / 579.
(2) المصادر السابقة وكشاف القناع 5 / 464.(19/41)
الْمُعْسِرِ لِلزَّوْجَةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ الْخِدْمَةَ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ وُجُوبَ الإِْخْدَامِ عَلَى الزَّوْجِ الْمُوسِرِ فَقَطْ. أَمَّا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْخْدَامُ لأَِنَّ الضَّرَرَ لاَ يُزَال بِالضَّرَرِ.
وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ تَخْدُمَ نَفْسَهَا الْخِدْمَةَ الدَّاخِلِيَّةَ، وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَكْفِيَهَا الأَْعْمَال الْخَارِجِيَّةَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ الأَْعْمَال بَيْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبَيْنَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَجَعَل أَعْمَال الْخَارِجِ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَعْمَال الدَّاخِل عَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (1)
إِلاَّ أَنَّ مُحَمَّدًا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، يَرَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلزَّوْجَةِ خَادِمٌ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا؛ لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهَا خَادِمٌ عُلِمَ أَنَّهَا لاَ تَرْضَى بِالْخِدْمَةِ بِنَفْسِهَا فَكَانَ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةُ خَادِمِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا خَادِمٌ، فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ وُجُوبَ الإِْخْدَامِ لِلزَّوْجَةِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُوسِرُ، وَالْمُتَوَسِّطُ، وَالْمُعْسِرُ، وَالْحُرُّ، وَالْعَبْدُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَلأَِنَّ الْخِدْمَةَ وَاجِبٌ مِنَ الْوَاجِبَاتِ كَسَائِرِ الْمُؤَنِ (2) .
-
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه في ف / 8.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 654، البدائع 4 / 24، جواهر الإكليل 1 / 407، القوانين الفقهية ص 226، مغني المحتاج 3 / 432، الجمل على شرح المنهج 4 / 494، المغني لابن قدامة 7 / 570، الفروع 5 / 579 الإنصاف 9 / 357.(19/41)
وَصِفَةُ الْخَادِمِ:
12 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَادِمُ إِمَّا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً، أَوْ صَبِيًّا مُمَيِّزًا لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، أَوْ مَحْرَمًا لِلزَّوْجَةِ الْمَخْدُومَةِ، أَوْ مَمْسُوحًا فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَجُلاً كَبِيرًا مِمَّنْ لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا؛ لأَِنَّ الْخَادِمَ يَلْزَمُ الْمَخْدُومَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ فَلاَ يَسْلَمُ مِنَ النَّظَرِ.
الْخَادِمَةُ الذِّمِّيَّةُ.
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَرْأَةِ الذِّمِّيَّةِ هَل يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَادِمًا لاِمْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لاَ تُؤْمَنُ عَدَاوَتُهَا الدِّينِيَّةُ؛ وَلأَِنَّ نَظَرَ الذِّمِّيَّةِ إِلَى الْمُسْلِمَةِ حَرَامٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} إِلَى أَنْ قَال: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} (1)
وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ مَنَعَ الْكِتَابِيَّاتِ دُخُول الْحَمَّامِ مَعَ الْمُسْلِمَاتِ؛ لأَِنَّهَا رُبَّمَا تَحْكِيهَا لِلْكَافِرِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الذِّمِّيَّةَ لاَ تَتَعَفَّفُ مِنَ النَّجَاسَةِ.
وَالْوَجْهُ الآْخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، يُجِيزُ أَنْ تَخْدُمَ الذِّمِّيَّةُ الْمَرْأَةَ الْمُسْلِمَةَ؛ لأَِنَّ نَظَرَهَا إِلَى الْمُسْلِمَةِ عِنْدَهُمْ جَائِزًا (2) .
وَهَذَا فِي الْخِدْمَةِ الْبَاطِنَةِ
__________
(1) سورة النور / 31.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 273، و 5 / 238، والفواكه الدواني 2 / 108، مغني المحتاج 13 / 131، 3 / 433، والمغني لابن قدامة 7 / 569.(19/42)
أَمَّا الظَّاهِرَةُ مِثْل قَضَاءِ الْحَوَائِجِ مِنَ السُّوقِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَلاَّهَا الرِّجَال وَغَيْرُهُمْ.
وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَيَخْدُمُ الْمَرْأَةَ بِأُنْثَى أَوْ بِذَكَرٍ لاَ يَتَأَتَّى مِنْهُ الاِسْتِمْتَاعُ: أَنَّهُمْ يُجِيزُونَ إِخْدَامَ الْمُسْلِمَةِ بِذِمِّيَّةٍ حَيْثُ أَطْلَقُوا الأُْنْثَى وَلَمْ يُقَيِّدُوهَا بِمُسْلِمَةٍ:
وَلاَ سِيَّمَا وَأَنَّ نَظَرَ الْكَافِرَةِ إِلَى الْمُسْلِمَةِ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ (1) .
ز - نَفَقَةُ الْخَادِمِ:
14 - نَفَقَةُ الْخَادِمِ تَشْمَل عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الطَّعَامَ وَالْمَسْكَنَ وَالْمَلْبَسَ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ نَفَقَةَ الْخَادِمِ لاَ تُقَدَّرُ بِالدَّرَاهِمِ كَنَفَقَةِ الْمَرْأَةِ بَل يُفْرَضُ لَهُ مَا يَكْفِيهِ بِالْمَعْرُوفِ، عَلَى أَنْ لاَ تَبْلُغَ نَفَقَتُهُ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ لأَِنَّهُ تَبَعٌ لَهَا (2)
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ جِنْسَ طَعَامِ الْخَادِمِ هُوَ جِنْسُ طَعَامِ الْمَخْدُومَةِ، وَكَذَلِكَ لِلْخَادِمَةِ كِسْوَةٌ تَلِيقُ بِحَالِهَا صَيْفًا وَشِتَاءً (3) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ نَفَقَةَ الْخَادِمِ، وَمُؤْنَتَهُ، وَكِسْوَتَهُ تَكُونُ مِثْل مَا لاِمْرَأَةِ الْمُعْسِرِ (4) .
ح - طَلَبُ الزَّوْجَةِ أُجْرَةَ الْخَادِمِ:
15 - لَوْ قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: أَنَا أَخْدُمُ نَفْسِي
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 41، الفواكه الدواني 2 / 108، مغني المحتاج 3 / 132.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 655.
(3) روضة الطالبين 9 / 44، مغني المحتاج 3 / 433.
(4) المغني لابن قدامة 7 / 570، وكشاف القناع 5 / 464.(19/42)
وَطَلَبَتِ الأُْجْرَةَ أَوْ نَفَقَةَ الْخَادِمِ لاَ يَلْزَمُهُ قَبُول ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ فِي إِخْدَامِهَا تَوْفِيرَهَا عَلَى حُقُوقِهِ وَتَرْفِيهَهَا، وَذَلِكَ يَفُوتُ بِخِدْمَتِهَا لِنَفْسِهَا.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهَا أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَى خِدْمَتِهَا لِزَوْجِهَا أَوْ لِنَفْسِهَا؛ لأَِنَّهَا لَوْ أَخَذَتِ الأُْجْرَةَ عَلَى ذَلِكَ لأََخَذَتْهَا عَلَى عَمَلٍ وَاجِبٍ عَلَيْهَا فَكَانَ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ.
وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّ هَذَا إِذَا كَانَ بِهَا عِلَّةٌ لاَ تَقْدِرُ عَلَى الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ، أَوْ كَانَتْ مِنْ بَنَاتِ الأَْشْرَافِ.
فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَهِيَ مِمَّنْ تَخْدُمُ نَفْسَهَا تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ قَال الزَّوْجُ: أَنَا أَخْدُمُكِ بِنَفْسِي لِيُسْقِطَ مُؤْنَةَ الْخَادِمِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَلْزَمْهَا قَبُول ذَلِكَ.
لأَِنَّ فِي هَذَا غَضَاضَةً عَلَيْهَا لِكَوْنِ زَوْجِهَا خَادِمًا لَهَا وَتُعَيَّرُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ أَحَدُ الأَْقْوَال الْمَرْجُوحَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِلرَّجُل أَنْ يَخْدُمَ زَوْجَتَهُ بِنَفْسِهِ وَيُلْزِمَهَا الرِّضَا بِهِ، لأَِنَّ الْكِفَايَةَ تَحْصُل بِهَذَا.
وَيَرَى بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَمِنْهُمُ الْقَفَّال أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَخْدُمَ زَوْجَتَهُ فِيمَا لاَ يَسْتَحِي مِنْهُ، كَغَسْل الثَّوْبِ، وَاسْتِقَاءِ الْمَاءِ، وَكَنْسِ الْبَيْتِ وَالطَّبْخِ دُونَ(19/43)
مَا يَرْجِعُ إِلَى خِدْمَةِ نَفْسِهَا كَصَبِّ الْمَاءِ عَلَى يَدِهَا، وَحَمْلِهِ إِلَى الْمُسْتَحِمِّ وَنَحْوِهِمَا (1) .
ط - إِعْسَارُ الزَّوْجِ بِنَفَقَةِ الْخَادِمَةِ:
16 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَطْلُقُ الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا بِسَبَبِ إِعْسَارِهِ بِنَفَقَةِ الْخَادِمِ لأَِنَّهُ يُمْكِنُهَا الصَّبْرُ عَنْهَا.
وَلَكِنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ تَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهَا نَفَقَةٌ تَجِبُ عَلَى سَبِيل الْعِوَضِ، فَتَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ لِلْمَرْأَةِ.
إِلاَّ أَنَّ الأَْذْرَعِيَّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ يَرَى أَنَّ هَذَا إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ اسْتَحَقَّتِ الْخِدْمَةَ لِرُتْبَتِهَا وَقَدْرِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَتْ قَدِ اسْتَحَقَّتِ الْخِدْمَةَ لِمَرَضِهَا وَنَحْوِهِ فَالْوَجْهُ عَدَمُ ثُبُوتِ النَّفَقَةِ فِي الذِّمَّةِ وَتَسْقُطُ نَفَقَةُ الْخَادِمِ عَنِ الزَّوْجِ بِإِعْسَارِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا} (2) وَهَذَا مُعْسِرٌ لَمْ يُؤْتِهِ شَيْئًا فَلاَ يُكَلَّفُ بِشَيْءٍ (3) .
ي - زَكَاةُ فِطْرِ الْخَادِمِ:
17 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ
__________
(1) البدائع 4 / 24، الخرشي على مختصر سيدي خليل 4 / 186، روضة الطالبين 9 / 45، المغني لابن قدامة 7 / 570، الفروع 5 / 579.
(2) سورة الطلاق / 7.
(3) حاشية ابن عابدين 2 / 656 - 659، الخرشي على مختصر خليل 4 / 186، القوانين الفقهية ص 226، جواهر الإكليل 1 / 404، مغني المحتاج 3 / 443، كشاف القناع 5 / 478، المغني لابن قدامة 7 / 579.(19/43)
إِنْ كَانَ لاِمْرَأَتِهِ مَنْ يَخْدُمُهَا بِأُجْرَةٍ فَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ فِطْرَتُهُ؛ لأَِنَّ الإِْجَارَةَ لاَ تَقْتَضِي النَّفَقَةَ، وَالْفِطْرَةُ تَابِعَةٌ لِلنَّفَقَةِ وَلاَ فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْحُرِّ وَغَيْرِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْخَادِمُ مَمْلُوكًا لَهَا نَظَرٌ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لاَ يَجِبُ لَهَا خَادِمٌ فَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ فِطْرَتُهُ كَذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُخْدَمُ مِثْلُهَا وَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَخْدُمَهَا بِخَادِمِهَا فَعَلَيْهِ فِطْرَتُهُ، لأَِنَّ الْفِطْرَةَ تَابِعَةٌ لِلنَّفَقَةِ إِلاَّ أَنَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ يَرَى وُجُوبَهَا عَلَى الزَّوْجَةِ.
أَمَّا إِنْ أَخْدَمَهَا بِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنْهُ بِسَبَبِ مِلْكِهِ لَهُ لاَ بِسَبَبِ خِدْمَتِهِ لِلزَّوْجَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَال الشَّافِعِيَّةِ فِي حُكْمِ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنِ الْمَرْأَةِ الَّتِي صَحِبَتِ الزَّوْجَةَ لِتَخْدُمَهَا بِنَفَقَتِهَا بِإِذْنِهِ، فَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ لُزُومِ فِطْرَتِهَا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهَا فِي مَعْنَى الْمُسْتَأْجَرَةِ.
وَذَهَبَ الإِْمَامُ الرَّافِعِيُّ إِلَى وُجُوبِ فِطْرَتِهَا؛ لأَِنَّهَا تَابِعَةٌ لِلنَّفَقَةِ (1) .
__________
(1) الخرشي على مختصر سيدي خليل 4 / 186، حاشية العدوي 1 / 452، المجموع 6 / 118، مغني المحتاج 1 / 403، 3 / 433.(19/44)
خِدْمَةُ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا وَعَكْسُهُ:
18 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الزَّوْجَةَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْدُمَ زَوْجَهَا فِي الْبَيْتِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِمَّنْ تَخْدُمُ نَفْسَهَا أَوْ مِمَّنْ لاَ تَخْدُمُ نَفْسَهَا.
إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ هَذِهِ الْخِدْمَةِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ) إِلَى أَنَّ خِدْمَةَ الزَّوْجِ لاَ تَجِبُ عَلَيْهَا لَكِنَّ الأَْوْلَى لَهَا فِعْل مَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ خِدْمَةِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا دِيَانَةً لاَ قَضَاءً، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ الأَْعْمَال بَيْنَ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَجَعَل عَمَل الدَّاخِل عَلَى فَاطِمَةَ، وَعَمَل الْخَارِجِ عَلَى عَلِيٍّ. (1) وَلِهَذَا فَلاَ يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ - عِنْدَهُمْ - أَنْ تَأْخُذَ مِنْ زَوْجِهَا أَجْرًا مِنْ أَجْل خِدْمَتِهَا لَهُ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو بَكْر بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ، إِلَى أَنَّ عَلَى الْمَرْأَةِ خِدْمَةَ زَوْجِهَا فِي الأَْعْمَال الْبَاطِنَةِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِقِيَامِ الزَّوْجَةِ بِمِثْلِهَا، لِقِصَّةِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، حَيْثُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى عَلَى ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ بِخِدْمَةِ الْبَيْتِ، وَعَلَى عَلِيٍّ بِمَا كَانَ خَارِجَ الْبَيْتِ مِنَ الأَْعْمَال (2) وَلِحَدِيثِ: لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَِحَدٍ لأََمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ
__________
(1) الحديث تقدم تخريجه في ف / 8.
(2) لعل المالكية حملوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم على أنه من تصرفه بالقضاء أما الحنفية فحملوا على أنه من الفتيا فجعلوا الوجوب ديانة أي فيما بينهما وبين الله تعالى (اللجنة) .(19/44)
تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَنْقُل مِنْ جَبَلٍ أَحْمَرَ إِلَى جَبَلٍ أَسْوَدَ، وَمِنْ جَبَلٍ أَسْوَدَ إِلَى جَبَلٍ أَحْمَرَ لَكَانَ نَوْلُهَا أَنْ تَفْعَل (1) قَال الْجُوزَجَانِيُّ: فَهَذِهِ طَاعَتُهُ فِيمَا لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ فَكَيْفَ بِمُؤْنَةِ مَعَاشِهِ؟
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ نِسَاءَهُ بِخِدْمَتِهِ فَيَقُول: يَا عَائِشَةُ أَطْعِمِينَا، يَا عَائِشَةُ هَلُمِّي الْمُدْيَةَ وَاشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ (2)
وَقَال الطَّبَرِيُّ: إِنَّ كُل مَنْ كَانَتْ لَهَا طَاقَةٌ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى خِدْمَةِ بَيْتِهَا فِي خَبْزٍ، أَوْ طَحْنٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَلْزَمُ الزَّوْجَ، إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا أَنَّ مِثْلَهَا يَلِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ (3) .
19 - وَبِالنِّسْبَةِ لِخِدْمَةِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ خِدْمَةِ الرَّجُل الْحُرِّ لِزَوْجَتِهِ وَلَهَا أَنْ تَقْبَل مِنْهُ ذَلِكَ.
__________
(1) حديث: " لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 595 - ط الحلبي) من حديث عائشة. وقال البوصيري في الزوائد: " في إسناده علي بن زيد، وهو ضعيف ". ونولها أي حقها.
(2) حديث: " كان يأمر نساءه بخدمته " يا عائشة: هلمي المدية " أخرجه مسلم (3 / 1557 - ط الحلبي) " يا عائشة: أطعمينا، يا عائشة اسقينا ": أخرجه أبو داود (5 / 294 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث طخفة الغفاري، وإسناده صحيح.
(3) البدائع 4 / 192، حاشية ابن عابدين 2 / 333، 5 / 39، الخرشي 4 / 186، تحفة المحتاج 8 / 316، المغني لابن قدامة 7 / 21، كشاف القناع 5 / 195، فتح الباري 9 / 506، 324.(19/45)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجَةِ اسْتِخْدَامُ زَوْجِهَا الْحُرِّ بِجَعْلِهِ خِدْمَتَهُ لَهَا مَهْرًا، أَمَّا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَرْعَى غَنَمَهَا سَنَةً أَوْ يَزْرَعَ أَرْضَهَا فَتَسْمِيَةُ الْمَهْرِ صَحِيحَةٌ (1) .
وَتَجُوزُ خِدْمَتُهُ لَهَا تَطَوُّعًا: وَقَال الْكَاسَانِيُّ: لَوِ اسْتَأْجَرَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا لِيَخْدُمَهَا فِي الْبَيْتِ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ؛ لأَِنَّ خِدْمَةَ الْبَيْتِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الزَّوْجِ، فَكَانَ هَذَا اسْتِئْجَارًا عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ وَاجِبٍ عَلَى الأَْجِيرِ (2) .
خِدْمَةُ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ خِدْمَةِ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ.
وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى جَوَازِ أَنْ يُؤَجِّرَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ لِلْكَافِرِ فِي عَمَلٍ مُعَيَّنٍ فِي الذِّمَّةِ، كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ وَبِنَاءِ دَارٍ، وَزِرَاعَةِ أَرْضٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لأَِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ يَسْقِي لَهُ كُل دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ، وَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ (3) . وَلأَِنَّ الأَْجِيرَ فِي الذِّمَّةِ يُمْكِنُهُ تَحْصِيل الْعَمَل بِغَيْرِهِ.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ لِلْكَافِرِ لِعَمَلٍ لاَ يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، كَعَصْرِ الْخَمْرِ
__________
(1) البدائع 4 / 192، فيه خلاف هذا بل هذه المسألة عندهم في جعل الخدمة مهرا. وظاهر البدائع جواز خدمة الزوج لامرأته ولو بأجر.
(2) البدائع 2 / 278، 4 / 192، حاشية ابن عابدين 2 / 333، 5 / 39، مغني المحتاج 3 / 433، وروضة الطالبين 9 / 45، القوانين الفقهية ص 226، الخرشي 4 / 186، تحفة المحتاج 8 / 316، المغني لابن قدامة 7 / 21، 570.
(3) الحديث تقدم تخريجه ف / 5.(19/45)
وَرَعْيِ الْخَنَازِيرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ خِدْمَةِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ بِإِجَارَةٍ، أَوْ إِعَارَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَجُوزُ كَالْبَيْعِ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ خِدْمَةُ الْكَافِرِ؛ لأَِنَّ الاِسْتِخْدَامَ اسْتِذْلاَلٌ، فَكَانَ إِجَارَةُ الْمُسْلِمِ نَفْسَهُ مِنْهُ إِذْلاَلاً لِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُذِل نَفْسَهُ بِخِدْمَةِ الْكَافِرِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ: أَنَّ إِجَارَةَ الْمُسْلِمِ نَفْسَهُ مِنَ النَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: جَائِزَةٌ، وَمَكْرُوهَةٌ، وَمَحْظُورَةٌ، وَحَرَامٌ. فَالْجَائِزَةُ - هِيَ - أَنْ يَعْمَل الْمُسْلِمُ لِلْكَافِرِ عَمَلاً فِي بَيْتِ نَفْسِهِ، كَالصَّانِعِ الَّذِي يَصْنَعُ لِلنَّاسِ. وَالْمَكْرُوهَةُ: أَنْ يَسْتَبِدَّ الْكَافِرُ بِجَمِيعِ عَمَل الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ يَدِهِ مِثْل أَنْ يَكُونَ مُقَارِضًا لَهُ، أَوْ مُسَاقِيًا، وَالْمَحْظُورَةُ: أَنْ يُؤَجِّرَ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ لِلْكَافِرِ فِي عَمَلٍ يَكُونُ فِيهِ تَحْتَ يَدِهِ كَأَجِيرِ الْخِدْمَةِ فِي بَيْتِهِ، وَإِجَارَةِ الْمَرْأَةِ لِتُرْضِعَ لَهُ ابْنَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ تُفْسَخُ إِنْ عُثِرَ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَاتَتْ مَضَتْ، وَكَانَ لَهُ الأُْجْرَةُ. وَالْحَرَامُ: أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ مِنْهُ فِيمَا لاَ يَحِل مِنْ عَمَل الْخَمْرِ، أَوْ رَعْيِ الْخَنَازِيرِ، فَهَذِهِ تُفْسَخُ قَبْل الْعَمَل، فَإِنْ فَاتَتْ تَصْدُقُ بِالأُْجْرَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ. (1)
__________
(1) البدائع 4 / 189، الخرشي على مختصر خليل 7 / 18 - 19 - 20، جواهر الإكليل 2 / 188، الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 19، مواهب الجليل 5 / 419.(19/46)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى حُرْمَةِ خِدْمَةِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ خِدْمَةً مُبَاشِرَةً، كَصَبِّ الْمَاءِ عَلَى يَدَيْهِ، وَتَقْدِيمِ نَعْلٍ لَهُ، وَإِزَالَةِ قَاذُورَاتِهِ، أَوْ غَيْرَ مُبَاشِرَةٍ كَإِرْسَالِهِ فِي حَوَائِجِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِعَقْدٍ أَوْ بِغَيْرِ عَقْدٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (1)
وَلِصِيَانَةِ الْمُسْلِمِ عَنِ الإِْذْلاَل وَالاِمْتِهَانِ. وَلَكِنْ يَجُوزُ إِعَارَةُ الْمُسْلِمِ أَوْ إِجَارَتُهُ لِلْكَافِرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَفِي إِجَارَةِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ يَدِهِ عَنْهُ بِأَنْ يُؤَجِّرَهُ لِغَيْرِهِ وَلاَ يُمَكَّنُ مِنَ اسْتِخْدَامِهِ
وَقِيل: بِحُرْمَةِ إِجَارَةِ الْمُسْلِمِ، أَوْ إِعَارَتِهِ لِلْكَافِرِ وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ إِلَى حُرْمَةِ إِجَارَةِ الْمُسْلِمِ، أَوْ إِعَارَتِهِ لِلْكَافِرِ لأَِجْل الْخِدْمَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} .
وَلأَِنَّهُ عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ حَبْسَ الْمُسْلِمِ عِنْدَ الْكَافِرِ وَإِذْلاَلَهُ لَهُ.
وَفِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى يَجُوزُ ذَلِكَ قِيل: مَعَ الْكَرَاهَةِ وَقِيل: بِدُونِهَا. (2)
__________
(1) سورة النساء / 141.
(2) نهاية المحتاج مع حاشيته 5 / 122، تحفة المحتاج 5 / 417، 4 / 231، حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 456، مغني المحتاج 2 / 265، 4 / 258، المغني لابن قدامة 5 / 554، الإنصاف 6 / 25 و 102، الفروع 4 / 433.(19/46)
خَذْفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَذْفُ لُغَةً: رَمْيُكَ بِحَصَاةٍ، أَوْ نَوَاةٍ تَأْخُذُهَا بَيْنَ سَبَّابَتَيْكَ، أَوْ تَجْعَل مِخْذَفَةً مِنْ خَشَبٍ تَرْمِي بِهَا بَيْنَ الإِْبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ.
قَال الأَْزْهَرِيُّ: الْخَذْفُ: الرَّمْيُ بِالْحَصَى الصِّغَارِ بِأَطْرَافِ الأَْصَابِعِ، وَقَال مِثْلَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَقَال الْمُطَرِّزِيُّ، وَقِيل: أَنْ تَضَعَ طَرَفَ الإِْبْهَامِ عَلَى طَرَفِ السَّبَّابَةِ.
وَخَصَّ بَعْضُهُمْ بِهِ الْحَصَى، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمِقْلاَعِ أَيْضًا، وَقَال ابْنُ سِيدَهْ: خَذَفَ الشَّيْءَ يَخْذِفُ، فَارِسِيٌّ.
وَرَمْيُ الْجِمَارِ يَكُونُ بِمِثْل حَصَى الْخَذْفِ، وَهِيَ صِغَارٌ، وَفِي حَدِيثِ رَمْيِ الْجِمَارِ: عَلَيْكُمْ بِمِثْل حَصَى الْخَذْفِ، وَحَصَى الْخَذْفِ الصِّغَارِ مِثْل النَّوَى. وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
__________
(1) لسان العرب ومختار الصحاح، والمصباح المنير، وفتح القدير 2 / 381، وحاشية الجمل 2 / 462، والدسوقي 2 / 50، وفتح الباري 9 / 607، والزاهر ص 181.(19/47)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ: الْحَذْفُ - الطَّرْحُ - الْقَذْفُ - الإِْلْقَاءُ:
2 - مِنْ مَعَانِي هَذِهِ الأَْلْفَاظِ الرَّمْيُ (1) فَهِيَ تَلْتَقِي مَعَ الْخَذْفِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، إِلاَّ أَنَّ الْخَذْفَ رَمْيٌ بِكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - الأَْصْل فِي بَيَانِ حُكْمِ الْخَذْفِ، مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ قَال: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَذْفِ، قَال: إِنَّهُ لاَ يَقْتُل الصَّيْدَ، وَلاَ يَنْكَأُ الْعَدُوَّ، وَإِنَّهُ يَفْقَأُ الْعَيْنَ وَيَكْسِرُ السِّنَّ. (2)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْخَذْفِ فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْخَذْفَ مُحَرَّمٌ عَلَى الإِْطْلاَقِ، قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: نَهَى عَنِ الْخَذْفِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ آلاَتِ الْحَرْبِ الَّتِي يُتَحَرَّزُ بِهَا، وَلاَ مِنْ آلاَتِ الصَّيْدِ لأَِنَّهَا تَرُضُّ، وَقَتِيلُهَا وَقِيذٌ، وَلاَ مِمَّا يَجُوزُ اللَّهْوُ بِهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ فَقْءِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ السِّنِّ. (3)
وَمِنْهُمْ مَنْ نَظَرَ إِلَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةٍ - قَال النَّوَوِيُّ -: فِي هَذَا الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنِ الْخَذْفِ؛ لأَِنَّهُ لاَ مَصْلَحَةَ فِيهِ، وَيُخَافُ
__________
(1) لسان العرب في المواد: (حذف - طرح - قذف - لقي) .
(2) حديث عبد الله بن مغفل: " نهى عن الخذف ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 599 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1548 - الحلبي) .
(3) الأبي شرح مسلم 5 / 287 - 288.(19/47)
مَفْسَدَتُهُ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ كُل مَا شَارَكَهُ فِي هَذَا، ثُمَّ قَال: وَفِيهِ أَنَّ مَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَوْ حَاجَةٌ فِي قِتَال الْعَدُوِّ، وَتَحْصِيل الصَّيْدِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَمِنْ ذَلِكَ رَمْيُ الطُّيُورِ الْكِبَارِ بِالْبُنْدُقِ إِذَا كَانَ لاَ يَقْتُلُهَا غَالِبًا بَل تُدْرَكُ حَيَّةً وَتُذَكَّى فَهُوَ جَائِزٌ. (1)
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: صَرَّحَ مُجَلِّي فِي الذَّخَائِرِ بِمَنْعِ الرَّمْيِ بِالْبُنْدُقِيَّةِ، وَبِهِ أَفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِحِلِّهِ؛ لأَِنَّهُ طَرِيقٌ إِلَى الاِصْطِيَادِ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَالتَّحْقِيقُ التَّفْضِيل، فَإِنْ كَانَ الأَْغْلَبُ مِنْ حَال الرَّمْيِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحَدِيثِ امْتَنَعَ، وَإِنْ كَانَ عَكْسُهُ جَازَ، وَلاَ سِيَّمَا إِنْ كَانَ الرَّمْيُ مِمَّا لاَ يَصِل إِلَيْهِ الرَّمْيُ إِلاَّ بِذَلِكَ ثُمَّ لاَ يَقْتُلُهُ غَالِبًا. (2)
وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: كَرِهَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الرَّمْيَ بِبُنْدُقٍ مُطْلَقًا لِنَهْيِ عُثْمَانَ، قَال ابْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ: لاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الْبُنْدُقِ يُرْمَى بِهَا الصَّيْدُ لاَ لِلَّعِبِ (3) .
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مَا يَدُل عَلَى جَوَازِ الرَّمْيِ بِالأَْحْجَارِ فِي حَال الْقِتَال، أَوْ فِي حَال التَّدْرِيبِ، أَوِ الْمُسَابَقَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ (4) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 13 / 106.
(2) فتح الباري 9 / 608.
(3) شرح منتهى الإرادات 3 / 418.
(4) الشرح الصغير 1 / 356 ط الحلبي. والمهذب 1 / 421، وشرح منتهى الإرادات3 / 384.(19/48)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْخَذْفِ:
أَوَّلاً: فِي رَمْيِ الْجِمَارِ:
4 - رَمْيُ الْجِمَارِ بِالْحَصَى مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ (1) . وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ الْفَضْل بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ الْجَمْرَةُ (2) وَقَوْلُهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: هَاتِ الْقُطْ لِي فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هِيَ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَال: بِأَمْثَال هَؤُلاَءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ (3) . وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَال: خَطَبَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِمِنًى فَفُتِحَتْ أَسْمَاعُنَا، حَتَّى كُنَّا نَسْمَعُ مَا يَقُول وَنَحْنُ فِي مَنَازِلِنَا، فَطَفِقَ يُعَلِّمُهُمْ مَنَاسِكَهُمْ حَتَّى بَلَغَ الْجِمَارَ فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ، ثُمَّ قَال: بِحَصَى الْخَذْفِ. (4)
__________
(1) البدائع 2 / 157، وفتح القدير 2 / 381 - 382 ط دار إحياء التراث العربي، والمغني 3 / 425.
(2) حديث: " عليكم بحصى الخذف " أخرجه مسلم (2 / 932 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " هات القط لي ". أخرجه النسائي (5 / 268 - ط المكتبة التجارية) وإسناده صحيح.
(4) حديث عبد الرحمن بن معاذ: " خطبنا رسول الله. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 490 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.(19/48)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَقْصُودِ بِالْخَذْفِ فِي هَذِهِ الأَْحَادِيثِ.
هَل هُوَ بَيَانُ قَدْرِ الْحَصَاةِ، أَوْ هُوَ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الرَّمْيِ، أَوْ هُمَا مَعًا؟
5 - أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِبَيَانِ الْكَيْفِيَّةِ فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الرَّمْيَ يَصِحُّ بِطَرِيقَةِ الْخَذْفِ لَكِنَّ الأَْصَحَّ وَالأَْيْسَرَ أَنْ يَضَعَ الْحَصَاةَ بَيْنَ طَرَفَيِ السَّبَّابَةِ وَالإِْبْهَامِ مِنَ الْيَدِ الْيُمْنَى وَيَرْمِيَ.
وَأَوْرَدَ الْحَنَفِيَّةُ الْكَيْفِيَّاتِ التَّالِيَةَ:
أ - أَنْ يَضَعَ الإِْنْسَانُ طَرَفَ إِبْهَامِهِ الْيُمْنَى عَلَى وَسَطِ السَّبَّابَةِ، وَيَضَعَ الْحَصَاةَ عَلَى ظَهْرِ الإِْبْهَامِ كَأَنَّهُ عَاقِدٌ سَبْعِينَ فَيَرْمِيَ الْجَمْرَةَ.
ب - أَنْ يُحَلِّقَ سَبَّابَتَهُ وَيَضَعَهَا عَلَى مَفْصِل إِبْهَامِهِ كَأَنَّهُ عَاقِدٌ عَشَرَةً.
قَال فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ إِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ: وَهَذَا فِي التَّمَكُّنِ مِنَ الرَّمْيِ بِهِ مَعَ الزَّحْمَةِ عُسْرٌ.
ج - أَنْ يَأْخُذَ الْحَصَاةَ بِطَرَفَيْ إِبْهَامِهِ وَسَبَّابَتِهِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ عَنْ هَذِهِ الصُّورَةِ الأَْخِيرَةِ: هَذَا هُوَ الأَْصْل وَالأَْصَحُّ وَالأَْيْسَرُ الْمُعْتَادُ، قَالُوا: وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ (أَيِ الَّتِي فِيهَا خَذْفٌ) سِوَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ارْمُوا الْجَمْرَةَ بِمِثْل حَصَى الْخَذْفِ (1) وَهَذَا
__________
(1) حديث: " ارموا الجمرة بمثل حصى الخذف ". أخرجه أحمد (4 / 343 - ط الميمنية) من حديث سنان بن سنة، وقال الهيثمي: " رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير، ورجاله ثقات ".(19/49)
لاَ يَدُل وَلاَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ كَيْفِيَّةِ الرَّمْيِ الْمَطْلُوبَةِ كَيْفِيَّةَ الْخَذْفِ، وَإِنَّمَا الْحَدِيثُ يَدُل عَلَى تَعْيِينِ ضَابِطِ مِقْدَارِ الْحَصَاةِ إِذْ كَانَ مِقْدَارُ مَا يُخْذَفُ بِهِ مَعْلُومًا لَهُمْ، وَأَمَّا مَا زَادَ فِي رِوَايَةِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُشِيرُ بِيَدِهِ كَمَا يَخْذِفُ الإِْنْسَانُ، يَعْنِي عِنْدَمَا نَطَقَ بِقَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ أَشَارَ بِصُورَةِ الْخَذْفِ بِيَدِهِ، فَلَيْسَ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ كَوْنِ الرَّمْيِ بِصُورَةِ الْخَذْفِ، لِجَوَازِ كَوْنِهِ يُؤَكِّدُ كَوْنَ الْمَطْلُوبِ حَصَى الْخَذْفِ، كَأَنَّهُ قَال: خُذُوا حَصَى الْخَذْفِ الَّذِي هُوَ هَكَذَا، لِيُشِيرَ أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ فِي كَوْنِهِ حَصَى الْخَذْفِ، وَهَذَا لأَِنَّهُ لاَ يُعْقَل فِي خُصُوصِ وَضْعِ الْحَصَاةِ فِي الْيَدِ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ وَجْهُ قُرْبَةٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ شَرْعِيٌّ، بَل بِمُجَرَّدِ صِغَرِ الْحَصَاةِ، وَلَوْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَال: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِ الرَّمْيِ خَذْفًا، عَارَضَهُ كَوْنُهُ وَضْعًا غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ، وَالْيَوْمُ يَوْمُ زَحْمَةٍ يُوجِبُ نَفْيَ غَيْرِ الْمُتَمَكِّنِ. (1) أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا التَّعْرِيفَ اللُّغَوِيَّ لِلْخَذْفِ، وَهُوَ كَمَا قَالُوا: كَانَتِ الْعَرَبُ تَرْمِي بِالْحَصَى فِي الصِّغَرِ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ تَجْعَلُهَا بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالإِْبْهَامِ مِنَ الْيُسْرَى ثُمَّ تَقْذِفُهَا بِسَبَّابَةِ الْيُمْنَى أَوْ تَجْعَلُهَا بَيْنَ سَبَّابَتَيْهَا.
ثُمَّ قَال الصَّاوِيُّ: وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْهَيْئَةُ مَطْلُوبَةً
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 179، وفتح القدير 2 / 383 - 384، والبدائع 2 / 157.(19/49)
فِي الرَّمْيِ، وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ أَخْذُ الْحَصَاةِ بِسَبَّابَتِهِ وَإِبْهَامِهِ مِنَ الْيَدِ الْيُمْنَى وَرَمْيُهَا. (1) وَهُمْ بِذَلِكَ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي الْكَيْفِيَّةِ.
وَاخْتَلَفَتِ الأَْقْوَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ ذَكَرُوا هَيْئَةَ الْخَذْفِ وَهِيَ: وَضْعُ الْحَصَى عَلَى بَطْنِ الإِْبْهَامِ وَرَمْيُهُ بِرَأْسِ السَّبَّابَةِ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ وَهَذَا مَا جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ، وَحَاشِيَةِ الْجَمَل، وَحَوَاشِي تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ، وَاسْتَدَلُّوا لِلْكَرَاهَةِ بِالنَّهْيِ الصَّحِيحِ عَنِ الْخَذْفِ، وَهَذَا يَشْمَل الْحَجَّ وَغَيْرَهُ، قَالُوا: وَالأَْصَحُّ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ أَنْ يَرْمِيَ الْحَصَى عَلَى غَيْرِ هَيْئَةِ الْخَذْفِ. لَكِنْ يَظْهَرُ أَنَّ مُقَابِل الأَْصَحِّ هُوَ مَا ذَكَرُوهُ عَنِ الرَّافِعِيِّ، فَقَدْ قَالُوا: وَصَحَّحَ الرَّافِعِيُّ نَدْبَ هَيْئَةِ الْخَذْفِ. (2) أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يَذْكُرُوا لِلرَّمْيِ كَيْفِيَّةً خَاصَّةً. (3)
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْكَيْفِيَّةِ:
6 - أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمِقْدَارِ الْحَصَاةِ الَّتِي تُرْمَى بِهَا الْجِمَارُ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ: ارْمُوا الْجَمْرَةَ بِمِثْل حَصَى الْخَذْفِ. (4) وَنَحْوِهِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 50، الشرح الصغير 1 / 282 ط الحلبي، وأسهل المدارك 1 / 273.
(2) نهاية المحتاج 3 / 304، وحواشي تحفة المحتاج 4 / 133، وحاشية 2 / 474، ومغني المحتاج 1 / 508.
(3) المغني 3 / 425، وكشاف القناع 2 / 499، وشرح منتهى الإرادات 2 / 61.
(4) حديث: فارموا بمثل حصى الخذف ". تقدم تخريجه (ف / 5) .(19/50)
مِنَ الأَْحَادِيثِ بَيَّنَتْ قَدْرَ الْحَصَاةِ بِأَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً كَالَّتِي يَخْذِفُهَا بِهَا، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِ الصِّغَرِ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا مِقْدَارُ الْبَاقِلاَّ، أَيْ قَدْرُ الْفُولَةِ، وَقِيل: قَدْرُ الْحِمَّصَةِ، أَوِ النَّوَاةِ، أَوِ الأُْنْمُلَةِ. قَال فِي النَّهْرِ:
وَهَذَا بَيَانُ الْمَنْدُوبِ، وَأَمَّا الْجَوَازُ فَيَكُونُ وَلَوْ بِالأَْكْبَرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ. (1) وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: قَدْرُ الْفُول، أَوِ النَّوَاةِ، أَوْ دُونَ الأُْنْمُلَةِ، وَلاَ يُجْزِئُ الصَّغِيرُ جِدًّا كَالْحِمَّصَةِ، وَيُكْرَهُ الْكَبِيرُ خَوْفَ الأَْذِيَّةِ وَلِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ. (2) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: حَصَاةُ الرَّمْيِ دُونَ الأُْنْمُلَةِ طُولاً وَعَرْضًا فِي قَدْرِ حَبَّةِ الْبَاقِلاَّ - وَيُجْزِئُ عِنْدَهُمُ الرَّمْيُ بِأَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ مَعَ الْكَرَاهَةِ. (3)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَا كَانَ أَكْبَرَ مِنَ الْحِمَّصِ وَدُونَ الْبُنْدُقِ، وَإِنْ رَمَى بِحَجَرٍ أَكْبَرَ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَال: لاَ يُجْزِئُهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْحَصَى عَلَى مَا فَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهَذَا الْمِقْدَارِ فِي قَوْلِهِ: بِأَمْثَال هَؤُلاَءِ. . . " (4) وَنَهَى عَنْ تَجَاوُزِهِ، وَالأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ وَلأَِنَّ الرَّمْيَ بِالْكَبِيرِ مِنَ الْحَصَى رُبَّمَا آذَى مَنْ يُصِيبُهُ. قَال فِي الْمُغْنِي. وَقَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا: تُجْزِئُهُ مَعَ تَرْكِهِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 179.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 50.
(3) حاشية الجمل 2 / 474، ونهاية المحتاج 3 / 304.
(4) حديث: " بأمثال هؤلاء ". سبق تخريجه (ف / 4) .(19/50)
لِلسُّنَّةِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ رَمَى بِالْحَجَرِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الصَّغِيرِ. (1)
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ وَشَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ: لاَ تُجْزِئُ حَصَاةٌ صَغِيرَةٌ جِدًّا، أَوْ كَبِيرَةٌ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ. (2) كَمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَوْعِ الْحَصَى وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (رَمْيٌ - جِمَارٌ - حَجٌّ) .
ثَانِيًا: فِي الصَّيْدِ:
7 - لاَ يَحِل الصَّيْدُ بِحَصَى الْخَذْفِ لأَِنَّهُ وَقِيذٌ، وَفِي رَمْيِ الصَّيْدِ بِغَيْرِهِ خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ) .
__________
(1) المغني 3 / 425.
(2) كشاف القناع 2 / 499، وشرح منتهى الإرادات 2 / 61.(19/51)
خَرَاجٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَرَاجُ لُغَةً، مِنْ خَرَجَ يَخْرُجُ خُرُوجًا أَيْ بَرَزَ وَالاِسْمُ الْخَرَاجُ، وَأَصْلُهُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الأَْرْضِ. وَالْجَمْعُ أَخْرَاجٌ، وَأَخَارِيجُ، وَأَخْرِجَةٌ. (1)
وَيُطْلَقُ الْخَرَاجُ عَلَى الْغَلَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الشَّيْءِ كَغَلَّةِ الدَّارِ، وَالدَّابَّةِ، وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ. (2)
وَيُطْلَقُ الْخَرَاجُ أَيْضًا عَلَى الأُْجْرَةِ، أَوِ الْكِرَاءِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَهَل نَجْعَل لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَل بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} (3) وقَوْله تَعَالَى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} . (4)
__________
(1) ابن منظور: لسان العرب، والمصباح المنير مادة: " خرج ".
(2) حديث: " الخراج بالضمان " أخرجه أبو داود (3 / 780 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عائشة، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3 / 22 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) سورة الكهف / 94.
(4) سورة المؤمنون / 72.(19/51)
وَالْخُرْجُ وَالْخَرَاجُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ وَاللَّيْثِ وَهُوَ الأُْجْرَةُ. وَفَرَّقَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلاَءِ بَيْنَهُمَا، فَقَال الْخُرْجُ مَا تَبَرَّعْتَ بِهِ أَوْ تَصَدَّقْتَ بِهِ، وَالْخَرَاجُ مَا لَزِمَكَ أَدَاؤُهُ. (1)
وَيُطْلَقُ الْخَرَاجُ أَيْضًا عَلَى الإِْتَاوَةِ، أَوِ الضَّرِيبَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَال النَّاسِ، فَيُقَال خَارَجَ السُّلْطَانُ أَهْل الذِّمَّةِ، إِذَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ ضَرِيبَةً يُؤَدُّونَهَا لَهُ كُل سَنَةٍ.
2 - الْخَرَاجُ فِي الاِصْطِلاَحِ:
لِلْخَرَاجِ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ مَعْنَيَانِ عَامٌّ وَخَاصٌّ.
فَالْخَرَاجُ - بِالْمَعْنَى الْعَامِّ - هُوَ الأَْمْوَال الَّتِي تَتَوَلَّى الدَّوْلَةُ أَمْرَ جِبَايَتِهَا وَصَرْفِهَا فِي مَصَارِفِهَا. وَأَمَّا الْخَرَاجُ - بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ - فَهُوَ الْوَظِيفَةُ أَوِ (الضَّرِيبَةُ) الَّتِي يَفْرِضُهَا الإِْمَامُ عَلَى الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ النَّامِيَةِ.
وَعَرَّفَهُ كُلٌّ مِنَ الْمَاوَرْدِيِّ وَأَبِي يَعْلَى بِأَنَّهُ (مَا وُضِعَ عَلَى رِقَابِ الأَْرْضِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا) . (2)
__________
(1) ابن الجوزي: زاد المسير في علم التفسير 5 / 191، المكتب الإسلامي ببيروت ط 1 / 1964 م.
(2) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 146 - مطبعة مصطفى الحلبي بالقاهرة ط 3 / 1393 هـ - 1973 م، أبو يعلى الفراء: الأحكام السلطانية ص 162 - مطبعة مصطفى الحلبي بالقاهرة ط 2، 1386 - 1966 م، والمغرب مادة: " خرج ".(19/52)
الأَْلْفَاظُ الَّتِي تُطْلَقُ عَلَى الْخَرَاجِ:
أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْخَرَاجِ - بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ - عِدَّةَ أَلْفَاظٍ وَمُصْطَلَحَاتٍ مِنْهَا:
أ - جِزْيَةُ الأَْرْضِ:
3 - يُطْلَقُ عَلَى الْخَرَاجِ جِزْيَةُ الأَْرْضِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِزْيَةِ خَرَاجُ الرَّأْسِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ اللَّفْظَيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي مَعْنًى، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَالٌ يُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ. (1)
ب - أُجْرَةُ الأَْرْضِ:
4 - أَطْلَقَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْخَرَاجِ " أُجْرَةَ الأَْرْضِ " (2) وَذَلِكَ لأَِنَّ الْخَرَاجَ الْمَفْرُوضَ عَلَى الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ النَّامِيَةِ بِمَثَابَةِ الأُْجْرَةِ لَهَا. فَالإِْمَامُ يَقِفُ الأَْرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَتْرُكُهَا فِي أَيْدِي أَهْلِهَا يَزْرَعُونَهَا بِخَرَاجٍ مَعْلُومٍ.
ج - الطَّسْقُ:
5 - أَوَّل مَنِ اسْتَعْمَل هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي الإِْسْلاَمِ الإِْمَامُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ
__________
(1) عليش: شرح منح الجليل على مختصر خليل 1 / 756 - مكتبة النجاح بليبيا، الآبي: جواهر الإكليل على مختصر خليل 1 / 266 - مطبعة دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة.
(2) أبو عبيد: الأموال ص 98 - مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة ط 1 (1388هـ 1968م) .(19/52)
كَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ أَسْلَمَا، كِتَابًا جَاءَ فِيهِ: (ارْفَعِ الْجِزْيَةَ عَنْ رُءُوسِهِمَا وَخُذِ الطَّسْقَ عَنْ أَرْضِيهِمَا) وَبَوَّبَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الأَْمْوَال بَابًا بِاسْمِ (أَرْضُ الْعَنْوَةِ تُقَرُّ فِي يَدِ أَهْلِهَا وَيُوضَعُ عَلَيْهَا الطَّسْقُ وَهُوَ الْخَرَاجُ) .
وَالطَّسْقُ كَلِمَةٌ فَارِسِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ يُرَادُ بِهَا الْوَظِيفَةُ الْمُقَرَّرَةُ عَلَى الأَْرْضِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْغَنِيمَةُ:
6 - الْغَنِيمَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ عَلَى سَبِيل الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالْخَرَاجُ كَمَا تَقَدَّمَ، الْوَظِيفَةُ الَّتِي يَفْرِضُهَا الإِْمَامُ عَلَى الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ.
ب - الْفَيْءُ:
7 - الْفَيْءُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ كُل مَالٍ صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ (2) . وَالْفَيْءُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا انْجَلُوا عَنْهُ أَيْ هَرَبُوا عَنْهُ: خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ بَذَلُوهُ لِلْكَفِّ
__________
(1) ابن منظور: لسان العرب مادة: (طسق) ، أبو عبيد: الأموال ص 81، ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث 3 / 124.
(2) الكاساني: بدائع الصنائع - 9 / 4345 - مطبعة الإمام بالقاهرة 1972 م.(19/53)
عَنْهُمْ وَالثَّانِي: مَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ كَالْجِزْيَةِ، وَالْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ، وَالْعُشُورِ. (1) وَالْفَيْءُ أَعَمُّ مِنَ الْخَرَاجِ.
ج - الْجِزْيَةُ:
8 - الْجِزْيَةُ مَالٌ يُوضَعُ عَلَى الرُّءُوسِ لاَ عَلَى الأَْرْضِ، وَالْخَرَاجُ يُوضَعُ عَلَى رَقَبَةِ الأَْرْضِ (2) .
د - الْخُمُسُ:
9 - الْخُمُسُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالرِّكَازِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُخَمَّسُ (3) .
هـ - الْعُشْرُ:
10 - الْعُشْرُ فِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنَ الْمُسْلِمِ فِي زَكَاةِ الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ. وَالْعُشْرُ يَتَّفِقُ مَعَ خَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ فِي أَنَّهُمَا يَجِبَانِ فِي الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ.
وَيَخْتَلِفَانِ فِي مَحَلِّهِمَا، فَمَحَل الْعُشْرِ الأَْرْضُ الْعُشْرِيَّةُ الَّتِي يَمْلِكُهَا مُسْلِمٌ، وَمَحَل الْخَرَاجِ الأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ. (4)
__________
(1) ابن رشد: بداية المجتهد 1 / 402 - مطبعة مصطفى الحلبي بالقاهرة - ط 3 / 1379 هـ - 1960 م، والتعريفات للجرجاني (فيء) والماوردي في الأحكام السلطانية ص 126.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 142، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 153.
(3) حاشية الدسوقي 2 / 190 - دار إحياء الكتب العربية - القاهرة.
(4) ابن عابدين: حاشية رد المحتار على الدر المختار 2 / 351 - دار الفكر ببيروت 1399هـ - 1979 م.(19/53)
الْخَرَاجُ فِي الإِْسْلاَمِ:
11 - لَمَّا آلَتِ الْخِلاَفَةُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَازْدَادَتِ الْفُتُوحَاتُ الإِْسْلاَمِيَّةُ، وَاتَّسَعَتْ رُقْعَةُ الدَّوْلَةِ، وَزَادَتْ نَفَقَاتُهَا، رَأَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ لاَ يَقْسِمَ الأَْرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً بَيْنَ الْفَاتِحِينَ، بَل يَجْعَلُهَا وَقْفًا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَيَضْرِبُ عَلَى مَنْ يَقُومُ بِزِرَاعَتِهَا خَرَاجًا مَعْلُومًا. فَوَافَقَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، وَخَالَفَهُ آخَرُونَ فِي بِدَايَةِ الأَْمْرِ.
قَال أَبُو يُوسُفَ (1) : وَشَاوَرَهُمْ فِي قِسْمَةِ الأَْرَضِينَ الَّتِي أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ فَتَكَلَّمَ قَوْمٌ فِيهَا، وَأَرَادُوا أَنْ يَقْسِمَ لَهُمْ حُقُوقَهُمْ وَمَا فَتَحُوا. فَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَكَيْفَ بِمَنْ يَأْتِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَجِدُونَ الأَْرْضَ بِعُلُوجِهَا قَدِ اقْتُسِمَتْ وَوُرِثَتْ عَنِ الآْبَاءِ وَحِيزَتْ، مَا هَذَا بِرَأْيٍ. فَقَال لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَمَا الرَّأْيُ؟ مَا الأَْرْضُ وَالْعُلُوجُ إِلاَّ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. فَقَال عُمَرُ: مَا هُوَ إِلاَّ كَمَا تَقُول، وَلَسْتُ أَرَى ذَلِكَ، وَاللَّهِ لاَ يُفْتَحُ بَعْدِي بَلَدٌ فَيَكُونُ فِيهِ كَبِيرُ نَيْلٍ، بَل عَسَى أَنْ يَكُونَ كُلًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا قُسِمَتْ أَرْضُ الْعِرَاقِ بِعُلُوجِهَا، (2) وَأَرْضُ الشَّامِ
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص 24 - 27.
(2) العلوج: جمع علج وهو الرجل الذي يقوى على العمل من كفار العجم وغيرهم، والمراد بعلوج الأرض العمال الذين يقومون بزراعة الأرض.(19/54)
بِعُلُوجِهَا، فَمَا يُسَدُّ بِهِ الثُّغُورُ، وَمَا يَكُونُ لِلذُّرِّيَّةِ وَالأَْرَامِل بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ؟ فَأَكْثَرُوا عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالُوا: أَتَقِفُ مَا أَفَاءَ اللَّهُ بِأَسْيَافِنَا عَلَى قَوْمٍ لَمْ يَحْضُرُوا وَلَمْ يَشْهَدُوا، وَلأَِبْنَاءِ الْقَوْمِ وَلآِبَاءِ أَبْنَائِهِمْ وَلَمْ يَحْضُرُوا؟ .
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ بِلاَل بْنَ رَبَاحٍ كَانَ مِنْ أَشَدِّ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرِهِمْ تَمَسُّكًا بِالرَّأْيِ الْمُخَالِفِ، حَتَّى قَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلاَلاً وَأَصْحَابَهُ " (1) وَمَكَثُوا فِي ذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً أَوْ دُونَ ذَلِكَ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَاجُّهُمْ إِلَى أَنْ وَجَدَ مَا يُؤَيِّدُ رَأْيَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَال: قَدْ وَجَدْتُ حُجَّةً، قَال تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) حَتَّى فَرَغَ مِنْ شَأْنِ بَنِي النَّضِيرِ فَهَذِهِ عَامَّةٌ فِي الْقُرَى كُلِّهَا. ثُمَّ قَال تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْل الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَْغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
__________
(1) المعني: اللهم اكفني خلافهم، وأعني على مناقشتهم وإقناعهم، ولا يظن بأنه دعا عليهم وعلى بلال بالموت، لأنه هو الذي يقول فيه: " أبو بكر سيدنا أعتق سيدنا ".
(2) سورة الحشر / 6.(19/54)
الْعِقَابِ} (1) ثُمَّ قَال {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . (2) ثُمَّ لَمْ يَرْضَ حَتَّى خُلِطَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ فَقَال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِْيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) فَهَذَا فِيمَا بَلَغَنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لِلأَْنْصَارِ خَاصَّةً، ثُمَّ لَمْ يَرْضَ حَتَّى خُلِطَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ فَقَال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِْيمَانِ وَلاَ تَجْعَل فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (4) فَكَانَتْ هَذِهِ عَامَّةً لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، فَقَدْ صَارَ الْفَيْءُ بَيْنَ هَؤُلاَءِ جَمِيعًا فَكَيْفَ نَقْسِمُهُ لِهَؤُلاَءِ، وَنَدَعُ مَنْ تَخَلَّفَ بَعْدَهُمْ بِغَيْرِ قَسْمٍ؟ . قَالُوا: فَاسْتَشِرْ. فَاسْتَشَارَ الْمُهَاجِرِينَ الأَْوَّلِينَ فَاخْتَلَفُوا، فَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَ رَأْيُهُ أَنْ يَقْسِمَ لَهُمْ حُقُوقَهُمْ. وَرَأْيُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَأْيُ عُمَرَ. فَأَرْسَل إِلَى عَشَرَةٍ مِنَ الأَْنْصَارِ: خَمْسَةٍ مِنَ الأَْوْسِ، وَخَمْسَةٍ مِنَ
__________
(1) سورة الحشر / 7.
(2) سورة الحشر / 8.
(3) سورة الحشر / 9.
(4) سورة الحشر / 10.(19/55)
الْخَزْرَجِ مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَال: إِنِّي لَمْ أُزْعِجْكُمْ إِلاَّ لأََنْ تَشْتَرِكُوا فِي أَمَانَتِي فِيمَا حُمِّلْتُ مِنْ أُمُورِكُمْ، فَإِنِّي وَاحِدٌ كَأَحَدِكُمْ، وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ تُقِرُّونَ بِالْحَقِّ، خَالَفَنِي مَنْ خَالَفَنِي، وَوَافَقَنِي مَنْ وَافَقَنِي، وَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَتَّبِعُوا هَذَا الَّذِي هُوَ هَوَايَ، مَعَكُمْ مِنَ اللَّهِ كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتُ نَطَقْتُ بِأَمْرٍ أُرِيدُهُ مَا أُرِيدُ بِهِ إِلاَّ الْحَقَّ ". قَالُوا: نَسْمَعُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَال: قَدْ سَمِعْتُمْ كَلاَمَ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنِّي أَظْلِمُهُمْ حُقُوقَهُمْ. وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَرْكَبَ ظُلْمًا، لَئِنْ كُنْتُ ظَلَمْتُهُمْ شَيْئًا هُوَ لَهُمْ وَأَعْطَيْتُهُ غَيْرَهُمْ لَقَدْ شَقِيتُ وَلَكِنْ رَأَيْتُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يُفْتَحُ بَعْدَ كِسْرَى، وَقَدْ غَنَّمَنَا اللَّهُ أَمْوَالَهُمْ، وَأَرْضَهُمْ، وَعُلُوجَهُمْ، فَقَسَمْتُ مَا غَنِمُوا مِنْ أَمْوَالٍ بَيْنَ أَهْلِهِ وَأَخْرَجْتُ الْخُمُسَ فَوَجَّهْتُهُ عَلَى وَجْهِهِ وَأَنَا فِي تَوْجِيهِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَحْبِسَ الأَْرَضِينَ بِعُلُوجِهَا، وَأَضَعَ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْخَرَاجَ، وَفِي رِقَابِهِمُ الْجِزْيَةُ يُؤَدُّونَهَا فَتَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِّيَّةِ وَلِمَنْ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِمْ. أَرَأَيْتُمْ هَذِهِ الثُّغُورَ لاَ بُدَّ لَهَا مِنْ رِجَالٍ يَلْزَمُونَهَا، أَرَأَيْتُمْ هَذِهِ الْمُدُنَ الْعِظَامَ - كَالشَّامِّ، وَالْجَزِيرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَالْبَصْرَةِ، وَمِصْرَ - لاَ بُدَّ لَهَا مِنْ أَنْ تُشْحَنَ بِالْجُيُوشِ، وَإِدْرَارِ الْعَطَاءِ عَلَيْهِمْ، فَمِنْ أَيْنَ يُعْطَى هَؤُلاَءِ إِذَا قُسِمَتِ الأَْرْضُونَ(19/55)
وَالْعُلُوجُ؟ فَقَالُوا جَمِيعًا: الرَّأْيُ رَأْيُكَ فَنِعْمَ مَا قُلْتَ وَمَا رَأَيْتَ إِنْ لَمْ تُشْحَنْ هَذِهِ الثُّغُورُ وَهَذِهِ الْمُدُنُ بِالرِّجَال وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ رَجَعَ أَهْل الْكُفْرِ إِلَى مُدُنِهِمْ فَقَال: قَدْ بَانَ لِي الأَْمْرُ، فَمِنْ رَجُلٍ لَهُ جَزَالَةٌ، وَعَقْلٌ، يَضَعُ الأَْرْضَ مَوَاضِعَهَا، وَيَضَعُ عَلَى الْعُلُوجِ مَا يَحْتَمِلُونَ؟ فَاجْتَمَعُوا عَلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ وَقَالُوا: تَبْعَثُهُ إِلَى أَهَمَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ لَهُ بَصَرًا وَعَقْلاً وَتَجْرِبَةً فَأَسْرَعَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَوَلاَّهُ مِسَاحَةَ أَرْضِ السَّوَادِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْخَرَاجِ:
12 - الْخَرَاجُ وَاجِبٌ عَلَى كُل مَنْ بِيَدِهِ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ نَامِيَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا، أَمْ كَافِرًا، صَغِيرًا أَمْ كَبِيرًا، عَاقِلاً، أَمْ مَجْنُونًا، رَجُلاً، أَمِ امْرَأَةً، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْخَرَاجَ مَئُونَةُ الأَْرْضِ النَّامِيَةِ، وَهُمْ فِي حُصُول النَّمَاءِ سَوَاءٌ. (2)
أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْخَرَاجِ:
13 - يَسْتَنِدُ اجْتِهَادُ الإِْمَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص 24 - 27.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 239 - دار إحياء التراث العربي ببيروت ص 3 سنة 1400هـ - 1980 م، ابن نجيم: البحر الرائق 5 / 114 - دار المعرفة ببيروت، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 142، أبو يعلى الفراء: الأحكام السلطانية ص 153، البهوتي: كشاف القناع 3 / 94 - مطبعة النصر الحديثة بالرياض.(19/56)
فِي تَشْرِيعِ الْخَرَاجِ إِلَى الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَالْمَصْلَحَةِ.
1 - الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ:
بَيَّنَتِ الآْيَاتُ السَّابِقَةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الإِْمَامُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حُكْمَ مَسْأَلَةِ وَقْفِ أَرْضِ السَّوَادِ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
2 - السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ:
أ - رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا، (1) وَمَنَعَتِ الشَّامُ مُدْيَهَا (2) وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتْ مِصْرُ إِرْدَبَّهَا (3) وَدِينَارَهَا، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ (4) شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ لَحْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَدَمُهُ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَعْلاَمِ النُّبُوَّةِ لإِِخْبَارِهِ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ مُلْكِ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الأَْقَالِيمَ
__________
(1) القفيز: مكيال وهو ثمانية مكاكيك، والمكوك، مكيال قيل: يسع صاعا ونصفا، المصباح المنير والمعجم الوسيط.
(2) المدي: مكيال يسع تسعة عشر صاعا، وهو غير المد (المصباح المنير) .
(3) الإردب: كيل معروف، وهو أربعة وستون منا، وذلك أربعة وعشرون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم: والجمع أرادب (المصباح المنير) .
(4) حديث: " منعت العراق درهمها. . . . " أخرجه مسلم (4 / 2220 - 2221 - ط الحلبي) .(19/56)
وَوَضْعِهِمُ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ، ثُمَّ بُطْلاَنِ ذَلِكَ (1) وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ سَيَضَعُونَ الْخَرَاجَ عَلَى الأَْرْضِ وَلَمْ يُرْشِدْهُمْ إِلَى خِلاَفِ ذَلِكَ، بَل قَرَّرَهُ وَحَكَاهُ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ قَال يَحْيَى بْنُ آدَمَ: يُرِيدُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْقَفِيزَ وَالدِّرْهَمَ قَبْل أَنْ يَضَعَهُ عُمَرُ عَلَى الأَْرْضِ ". (2)
ب - رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَال: قَسَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ، نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ وَحَاجَتِهِ، وَنِصْفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا. (3)
فَالْحَدِيثُ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِمَا وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ خَيْبَرَ حَيْثُ وَقَفَ نِصْفَهَا لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً.
3 - الْمَصْلَحَةُ:
رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) الشوكاني: نيل الأوطار 8 / 98 - مطبعة مصطفى الحلبي بالقاهرة - الطبعة الأخيرة.
(2) يحيى بن آدم: الخراج ص 72 - دار المعرفة ببيروت.
(3) حديث: " سهل بن أبي حثمة: " قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين ". أخرجه أبو داود (3 / 410 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . ونقل الزيلعي عن ابن عبد الهادي أنه جود إسناده. نصب الراية (3 / 398 - ط المجلس العلمي بالهند) .(19/57)
أَنَّ مِنَ الْمَصْلَحَةِ عَدَمَ تَقْسِيمِ الأَْرَاضِي الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً، وَوَقْفَهَا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَضَرْبَ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا. وَأَهَمُّ مَا تَقْضِي بِهِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ.
أ - تَأْمِينُ مَوْرِدٍ مَالِيٍّ ثَابِتٍ لِلأُْمَّةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ
بِأَجْيَالِهَا الْمُتَعَاقِبَةِ وَمُؤَسَّسَاتِهَا الْمُخْتَلِفَةِ:
نَظَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى مُسْتَقْبَل الأُْمَّةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ وَأَجْيَالِهَا الْقَادِمَةِ، فَرَأَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْهَا سَيَقَعُ فِي شَظَفِ الْعَيْشِ وَالْحِرْمَانِ، إِذَا مَا قُسِمَتْ تِلْكَ الأَْرَاضِي الْمَفْتُوحَةُ عَنْوَةً وَوُزِّعَتْ عَلَى الْفَاتِحِينَ. وَلِهَذَا رَأَى عَدَمَ التَّقْسِيمِ، وَوَقَفَ الأَْرَضِينَ، وَضَرَبَ الْخَرَاجَ عَلَيْهَا لِيَكُونَ مَوْرِدًا مَالِيًّا ثَابِتًا لِلأَْجْيَال الْقَادِمَةِ.
وَقَال: لَوْلاَ أَنْ أَتْرُكَ آخِرَ النَّاسِ بَبَّانًا (1) لَيْسَ لَهُمْ مِنْ شَيْءٍ مَا فُتِحَتْ عَلَيَّ قَرْيَةٌ إِلاَّ قَسَمْتُهَا كَمَا قَسَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، وَلَكِنْ أَتْرُكُهَا خِزَانَةً لَهُمْ (2) .
ب - تَوْزِيعُ الثَّرْوَةِ وَعَدَمُ حَصْرِهَا فِي فِئَةٍ مُعَيَّنَةٍ:
كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَْغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (3)
وَقَدْ أَشَارَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص 24 وبيانا - أي معدما لا شيء له.
(2) نيل الأوطار للشوكاني 8 / 18 - مطبعة الحلبي بالقاهرة.
(3) سورة الحشر / 7.(19/57)
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمَّا رَأَى إِصْرَارَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ عَلَى التَّقْسِيمِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهِ إِذًا لَيَكُونَنَّ مَا تَكْرَهُ. إِنَّكَ إِنْ قَسَمْتَهَا صَارَ الرِّيعُ الْعَظِيمُ فِي أَيْدِي الْقَوْمِ يُبِيدُونَهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ إِلَى الرَّجُل الْوَاحِدِ، أَوِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، ثُمَّ يَأْتِي مَنْ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَسُدُّونَ مِنَ الإِْسْلاَمِ مَسَدًّا، فَلاَ يَجِدُونَ شَيْئًا، فَانْظُرْ أَمْرًا يَسَعُ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ (1) فَرَضِيَ عُمَرُ قَوْل مُعَاذٍ، فَوَقَفَ الأَْرْضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَضَرَبَ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ، وَأَصْبَحَ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا بِمَا فِيهِمُ الْفُقَرَاءُ وَالأَْغْنِيَاءُ.
ج - عِمَارَةُ الأَْرْضِ بِالزِّرَاعَةِ وَعَدَمُ تَعْطِيلِهَا:
إِنَّ عِمَارَةَ الأَْرْضِ بِالزِّرَاعَةِ وَالاِنْتِفَاعَ بِمَا فِي بَاطِنِهَا مِنْ مَعَادِنَ مَطْلُوبٌ مِنَ النَّاسِ عَامَّةً، وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً، فَهُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الاِسْتِخْلاَفِ الْعَامِّ لِلنَّاسِ فِي الأَْرْضِ {وَإِذْ قَال رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً} . (2)
وَكَانَ قَصْدُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ ضَرْبِ الْخَرَاجِ أَنْ تَبْقَى الأَْرْضُ عَامِرَةً بِالزِّرَاعَةِ فَأَهْلُهَا أَقْدَرُ مِنَ الْغَانِمِينَ عَلَى ذَلِكَ لِتَوَفُّرِ الْخِبْرَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الزِّرَاعَةِ، وَلِذَلِكَ قَال
__________
(1) أبو عبيد: الأموال ص 83 - 84.
(2) سورة البقرة / 30.(19/58)
فِي أَهْلِهَا: يَكُونُونَ عُمَّارَ الأَْرْضِ فَهُمْ أَعْلَمُ بِهَا وَأَقْوَى عَلَيْهَا ". (1)
وَقَدْ سَلَكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ مَسْلَكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ وَصَارَتِ الأَْرْضُ وَالأَْمْوَال الْمَغْنُومَةُ تَحْتَ يَدِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْعُمَّال مَا يَكْفُونَ عِمَارَةَ الأَْرْضِ وَزِرَاعَتَهَا، دَفَعَهَا إِلَى أَهْلِهَا عَلَى أَنْ يَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ نِصْفُ ثَمَرَتِهَا. وَبَقِيَتْ عَلَى ذَلِكَ طِيلَةَ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَيَاةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. حَتَّى أَجْلاَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الشَّامِ (2) .
أَنْوَاعُ الْخَرَاجِ:
قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْخَرَاجَ - بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ - إِلَى أَنْوَاعٍ:
فَقَسَمُوهُ - بِاعْتِبَارِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الأَْرْضِ - إِلَى خَرَاجِ وَظِيفَةٍ، وَمُقَاسَمَةٍ.
وَقَسَمُوهُ - بِاعْتِبَارِ الأَْرْضِ الَّتِي تَخْضَعُ لِلْخَرَاجِ إِلَى خَرَاجٍ عَنْوِيٍّ، وَصُلْحِيٍّ
وَفِيمَا يَلِي هَذِهِ الأَْنْوَاعُ.
1 - خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ وَالْمُقَاسَمَةِ:
أ - خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ:
14 - يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ أَيْضًا خَرَاجَ الْمُقَاطَعَةِ وَخَرَاجَ الْمِسَاحَةِ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَ يَنْظُرُ إِلَى مِسَاحَةِ الأَْرْضِ وَنَوْعِ مَا يُزْرَعُ عِنْدَ تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا.
__________
(1) أبو يوسف: الخراج ص 141.
(2) بتصرف من كتاب الأموال لأبي عبيد ص 79.(19/58)
وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ شَيْئًا فِي الذِّمَّةِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الزِّرَاعَةِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَقَعِ الزَّرْعُ بِالْفِعْل فَيَجِبُ الْخَرَاجُ عَلَى مَالِكِ الأَْرْضِ؛ لأَِنَّ التَّمَكُّنَ مِنَ الاِنْتِفَاعِ قَائِمٌ وَهُوَ الَّذِي قَصَّرَ فِي تَحْصِيلِهِ. فَيَتَحَمَّل نَتِيجَةَ تَقْصِيرِهِ.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْخَرَاجِ هُوَ الَّذِي وَظَّفَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَرْضِ السَّوَادِ، وَمِصْرَ، وَالشَّامِ (1) .
ب - خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ:
15 - هُوَ: أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ جُزْءًا شَائِعًا مِنَ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ، كَالرُّبُعِ وَالْخُمُسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْخَرَاجِ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ لاَ بِالتَّمَكُّنِ، فَلَوْ عَطَّل الْمَالِكُ الأَْرْضَ لاَ يَجِبُ الْخَرَاجُ. (2)
وَقَدْ حَدَثَ هَذَا النَّوْعُ فِي عَهْدِ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ الْعَبَّاسِيِّ (عَامَ 169 هـ) حَيْثُ قَرَّرَهُ بَدَلاً مِنْ خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ الَّذِي كَانَ مَعْمُولاً بِهِ مُنْذُ زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَال يَحْيَى بْنُ آدَمَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ: (أَمَّا مُقَاسَمَةُ السَّوَادِ فَإِنَّ النَّاسَ سَأَلُوهَا السُّلْطَانَ فِي آخِرِ خِلاَفَةِ الْمَنْصُورِ (عَامَ 158 هـ) فَقُبِضَ قَبْل
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 237، حاشية ابن عابدين 4 / 186 - دار الفكر ببيروت.
(2) المراجع السابقة.(19/59)
أَنْ يُقَاسِمُوا، ثُمَّ أَمَرَ الْمَهْدِيَّ بِهَا فَقُوسِمُوا فِيهَا دُونَ عَقَبَةَ حُلْوَانَ) . (1)
أَمَّا الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى الْفَرَّاءُ فَقَدْ ذَكَرَا وَجْهًا آخَرَ فِي سَبَبِ تَغْيِيرِ خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ الَّذِي فَرَضَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى خَرَاجِ مُقَاسَمَةٍ حَيْثُ قَالاَ: (وَلَمْ يَزَل السَّوَادُ عَلَى الْمِسَاحَةِ وَالْخَرَاجِ إِلَى أَنْ عَدَل بِهِمُ الْخَلِيفَةُ الْمَنْصُورُ فِي الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ عَنِ الْخَرَاجِ إِلَى الْمُقَاسَمَةِ؛ لأَِنَّ السِّعْرَ نَقَصَ، فَلَمْ تَفِ الْغَلاَّتُ بِخَرَاجِهَا، وَخَرِبَ السَّوَادُ، فَجَعَلَهُ مُقَاسَمَةً، وَأَشَارَ وَزِيرُ الْمَهْدِيِّ أَنْ يَجْعَل أَرْضَ الْخَرَاجِ مُقَاسَمَةً) . (2)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ، وَخَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ أَيْضًا، أَنَّ خَرَاجَ الْوَظِيفَةِ يُؤْخَذُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ، وَلاَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ.
أَمَّا خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ فَيَتَكَرَّرُ أَخْذُهُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ.
2 - الْخَرَاجُ الصُّلْحِيُّ وَالْعَنَوِيُّ:
أ - الْخَرَاجُ الصُّلْحِيُّ:
1 6 - هُوَ: (الْخَرَاجُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي صُولِحَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ
__________
(1) البلاذري: فتوح البلدان ص 280. المراد بها حلوان العراق، وهي آخر حدود السواد مما يلي الجبال من بغداد وله أخبار في فتوحها تنظر في: معجم البلدان 2 / 290.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 176، الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء ص 185.(19/59)
لَهُمْ، وَيُقَرُّونَ عَلَيْهَا بِخَرَاجٍ مَعْلُومٍ) قَال الْبَاجِيُّ: (فَمَا صَالَحُوا عَلَى بَقَائِهِ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَهُوَ مَال صُلْحٍ، أَرْضًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ) .
ب - الْخَرَاجُ الْعَنْوِيُّ:
17 - هُوَ الْخَرَاجُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي افْتُتِحَتْ عَنْوَةً بَعْدَ أَنْ وَقَفَهَا الإِْمَامُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.
وَيَدْخُل فِي هَذَا النَّوْعِ الْخَرَاجُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي جَلاَ عَنْهَا أَهْلُهَا خَوْفًا وَفَزَعًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَا الْخَرَاجُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي صُولِحَ أَهْلُهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ وَيُقَرُّونَ عَلَيْهَا بِخَرَاجٍ مَعْلُومٍ.
قَال الْبَاجِيُّ: (وَمَا صَالَحُوا بِهِ أَوْ أَعْطَوْهُ عَلَى إِقْرَارِهِمْ فِي بِلاَدِهِمْ وَتَأْمِينِهِمْ كَانَ أَرْضًا أَوْ غَيْرَهُ) ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَال صُلْحٍ، وَلَوْ أَنَّ أَهْل حَرْبٍ قُوتِلُوا حَتَّى صَالَحُوا عَلَى أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُمْ فِي الأَْرْضِ حَقٌّ وَيُؤَمَّنُونَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ أَوِ الْمُقَامِ بِهِ عَلَى الذِّمَّةِ، لَمَّا كَانَتْ تِلْكَ أَرْضَ صُلْحٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ أَرْضَ صُلْحٍ مَا صُولِحُوا عَلَى بَقَائِهَا بِأَيْدِيهِمْ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ ذَلِكَ حَرْبٌ، أَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ حَرْبٌ.
وَأَمَّا الْعَنْوَةُ فَهِيَ الْغَلَبَةُ، فَكُل مَالٍ صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ مِنْ أَرْضٍ أَوْ عَيْنٍ(19/60)
دُونَ اخْتِيَارِ مَنْ غُلِبَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفَّارِ فَهُوَ أَرْضُ عَنْوَةٍ سَوَاءٌ دَخَلْنَا الدَّارَ غَلَبَةً، أَمْ أُجْلُوا عَنْهَا مَخَافَةَ الْمُسْلِمِينَ، تَقَدَّمَتْ فِي ذَلِكَ حَرْبٌ، أَمْ لَمْ تَتَقَدَّمْ، أَقَرَّ أَهْلُهَا فِيهَا أَمْ نُقِلُوا عَنْهَا. . وَقَال أَيْضًا: (وَمُرَادُنَا بِالصُّلْحِ وَالْعَنْوَةِ أَنَّ الأَْرْضَ آل حَالُهَا إِلَى أَنِ اسْتَقَرَّتْ بِأَيْدِي أَرْبَابِهَا بِصُلْحٍ صَالَحُوا عَلَيْهَا أَوْ زَال عَنْهَا مُلْكُهُمْ بِالْعَنْوَةِ وَالْغَلَبَةِ) . (1)
أَنْوَاعُ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ:
18 - النَّوْعُ الأَْوَّل: الأَْرْضُ الَّتِي صَالَحَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَهِيَ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنَّ الأَْرْضَ لأَِهْلِهَا، وَلِلْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجُ، فَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لأَِهْلِهَا وَتُعْتَبَرُ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً.
وَالثَّانِي: أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنَّ الأَْرْضَ لِلْمُسْلِمِينَ وَيُقَرُّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا بِخَرَاجٍ مَعْلُومٍ. (2)
19 - النَّوْعُ الثَّانِي: الأَْرْضُ الَّتِي جَلاَ عَنْهَا أَهْلُهَا خَوْفًا وَفَزَعًا وَبِدُونِ قِتَالٍ. فَهِيَ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ وَتَصِيرُ وَقْفًا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِمُجَرَّدِ الاِسْتِيلاَءِ عَلَيْهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) المنتقى للباجي 3 / 219، وانظر الأحكام السلطانية للماوردي 137 - 138.
(2) الكمال بن الهمام: فتح القدير 5 / 279، الباجي: المنتقى 3 / 221، أبو عبد الله الدمشقي: رحمة الأمة في اختلاف الأئمة على هامش الميزان للشعراني 2 / 174 - دار إحياء الكتب العربية بمصر، ابن قدامة: المغني 2 / 716، الأحكام السلطانية للفراء ص 148.(19/60)
وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّهَا فَيْءٌ وَلَيْسَتْ غَنِيمَةً. وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ إِلَى أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الأَْرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً فَلاَ تَصِيرُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ بِوَقْفِ الإِْمَامِ لَهَا؛ لأَِنَّهَا مَالٌ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِقُوَّتِهِمْ فَلاَ يَكُونُ وَقْفًا بِنَفْسِ الاِسْتِيلاَءِ كَالْمَنْقُول. (1)
أَمَّا أَرْضُ الْعَرَبِ فَكُلُّهَا أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَأْخُذُوا الْخَرَاجَ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، وَلأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَيْءِ فَلاَ يَثْبُتُ فِي أَرَاضِيِهِمْ، كَمَا لاَ تَثْبُتُ الْجِزْيَةُ فِي رِقَابِهِمْ، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (أَرْضٌ، وَأَرْضُ الْعَرَبِ) . (2)
النَّوْعُ الثَّالِثُ: الأَْرْضُ الَّتِي افْتَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً:
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْسِيمِ الأَْرْضِ الَّتِي افْتُتِحَتْ عَنْوَةً بَيْنَ الْفَاتِحِينَ.
فَيَرَى بَعْضُهُمْ وُجُوبَ تَقْسِيمِهَا، وَيَرَى آخَرُونَ وَقْفَهَا، وَيَرَى بَعْضُهُمْ تَخْيِيرَ الإِْمَامِ بَيْنَ هَذَيْنِ الأَْمْرَيْنِ. رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (أَرْضٌ) .
__________
(1) الكاساني: البدائع 2 / 936، المنتقى: للباجي 3 / 221، الأحكام السلطانية للماوردي ص 147، الأحكام السلطانية للفراء ص 148، وكشاف القناع للبهوتي 3 / 95، المبدع لابن مفلح 3 / 378 - المكتب الإسلامي.
(2) الهداية بشرحها ط بيروت (5 / 278) ، والأموال لأبي عبيد ص 98، والمنتقى للباجي 3 / 222 والأحكام السلطانية للماوردي ص 147.(19/61)
شُرُوطُ الأَْرْضِ الَّتِي تَخْضَعُ لِلْخَرَاجِ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ خَرَاجِيَّةً.
21 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْرْضَ الَّتِي تَخْضَعُ لِوَظِيفَةِ الْخَرَاجِ، لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ خَرَاجِيَّةً، وَلِذَا فَلاَ تَجِبُ وَظِيفَةُ الْخَرَاجِ عَلَى الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ، كَالأَْرْضِ الَّتِي أَسْلَمَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا طَوْعًا.
وَالأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ: هِيَ الأَْرْضُ الَّتِي صُولِحَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، وَكَذَا الأَْرْضُ الَّتِي جَلاَ عَنْهَا أَهْلُهَا خَوْفًا وَفَزَعًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالأَْرْضُ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَتَرَكَهَا الإِْمَامُ فِي أَيْدِي أَهْلِهَا يَزْرَعُونَهَا وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا بِخَرَاجٍ مَعْلُومٍ، سَوَاءٌ أَسْلَمَ أَهْلُهَا بَعْدَ فَتْحِهَا أَوْ لَمْ يُسْلِمُوا.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ نَامِيَةً.
22 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ، فَلاَ تَخْضَعُ الأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ لِوَظِيفَةِ الْخَرَاجِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ نَامِيَةً.
وَالنَّمَاءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقِيًّا، بِأَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ مُغِلَّةً بِالْفِعْل، كَأَنْ تَكُونَ مَزْرُوعَةً بِالأَْشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ كَالنَّخِيل وَالْعِنَبِ وَغَيْرِهِمَا.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّمَاءُ تَقْدِيرِيًّا، بِأَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ بَيْضَاءَ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ. وَصَلاَحِيَّتُهَا لِلزِّرَاعَةِ بِأَنْ تَكُونَ تُرْبَتُهَا قَابِلَةً لِلزِّرَاعَةِ، وَأَنْ يَنَالَهَا الْمَاءُ.
وَلِذَا فَلاَ يَجِبُ الْخَرَاجُ فِي الأَْرْضِ الْمَبْنِيَّةِ مَسَاكِنَ وَدُورًا، وَلاَ فِي الأَْرْضِ الْمَوَاتِ الَّتِي(19/61)
لاَ تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ، كَأَنْ تَكُونَ نَزَّةً - لاَ تُمْسِكُ الْمَاءَ - أَوْ سَبِخَةً، لِعَدَمِ الاِنْتِفَاعِ بِهَا فِي الزِّرَاعَةِ، وَلأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُدْخِلْهَا فِي الْوَقْفِ، وَلَمْ يَفْرِضْ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ. (1)
رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَال: وَضَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَهْل السَّوَادِ عَلَى كُل جَرِيبٍ (2) عَامِرٍ أَوْ غَامِرٍ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا، وَعَلَى جَرِيبِ الرَّطْبَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَخَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ، وَعَلَى جَرِيبِ الشَّجَرَةِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ (3) .
وَقَدْ عَلَّقَ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: (وَفِي تَأْوِيل حَدِيثِ عُمَرَ مِنَ الْعِلْمِ أَنَّهُ جَعَل الْخَرَاجَ عَلَى الأَْرَضِينَ الَّتِي تُغِل مِنْ ذَوَاتِ الْحَبِّ وَالثِّمَارِ، وَالَّتِي تَصْلُحُ لِلْغَلَّةِ مِنَ الْعَامِرِ وَالْغَامِرِ، وَعَطَّل مِنْ ذَلِكَ الْمَسَاكِنَ وَالدُّورَ الَّتِي هِيَ مَنَازِلُهُمْ فَلَمْ يَجْعَل عَلَيْهَا فِيهَا شَيْئًا) . (4)
__________
(1) الكاساني: البدائع 2 / 933، المبسوط للسرخسي 10 / 79، حاشية الدسوقي 2 / 198، الصاوي: بلغة السالك - دار الباز بمكة المكرمة 1 / 361، حاشية الشرقاوي 1 / 422، دار المعرفة ببيروت، النهاية للرملي 8 / 74، كشاف القناع للبهوتي 3 / 98، والمبدع لابن مفلح 3 / 382 - المكتب الإسلامي ببيروت، الأحكام السلطانية للفراء ص 169.
(2) الجريب: الوادي، ثم استعير للقطعة المتميزة من الأرض، ويختلف مقداره بحسب اصطلاح كل إقليم، فقيل: إنه عشرة آلاف ذراع مربع، وقيل ثلاثة آلاف وستمائة ذراع مربع.
(3) الأموال لأبي عبيد ص 98.
(4) نفس المرجع ص 102.(19/62)
وَلأَِنَّ الْخَرَاجَ بِمَثَابَةِ أُجْرَةِ الأَْرْضِ وَمَا لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لاَ أَجْرَ لَهُ.
انْتِقَال الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ إِلَى الذِّمِّيِّ، وَمَا يَجِبُ فِيهَا:
23 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ مِنَ الذِّمِّيِّ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا بِالْجَوَازِ مَعَ الْكَرَاهَةِ لإِِفْضَائِهِ إِلَى إِسْقَاطِ عُشْرِ الْخَارِجِ مِنْهَا.
وَاسْتَدَلُّوا لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ لِلذِّمِّيِّ؛ بِأَنَّهَا مَالٌ مَمْلُوكٌ لِلْمُسْلِمِ كَسَائِرِ أَمْلاَكِهِ فَلاَ يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ لِلذِّمِّيِّ أَوْ غَيْرِهِ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى مَنْعِ الْمُسْلِمِ مِنْ بَيْعِهَا إِلَى الذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّ بِانْتِقَالِهَا إِلَى الذِّمِّيِّ يَسْقُطُ الْعُشْرُ فَيَتَضَرَّرُ الْفُقَرَاءُ. (1)
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَظِيفَةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَى أَهْل الذِّمَّةِ إِذَا تَمَلَّكُوا الأَْرْضَ الْعُشْرِيَّةَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الرَّاجِحَةِ عِنْدَهُمْ، وَالثَّوْرِيُّ، وَشَرِيكٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ الأَْرْضَ لاَ تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً بِمُجَرَّدِ انْتِقَالِهَا إِلَى
__________
(1) الكمال بن الهمام: فتح القدير 5 / 280، الفتاوى الهندية 2 / 240، دار إحياء التراث العربي ببيروت ط 3 - 1400هـ 1980 م. الأحكام السلطانية للماوردي ص 119، المغني لابن قدامة 2 / 729.(19/62)
الذِّمِّيِّ وَلاَ يُفْرَضُ عَلَيْهَا عُشْرٌ، وَلاَ خَرَاجٌ لِفَقْدِ مُوجِبِهِمَا.
فَالْخَرَاجُ يَجِبُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي خَضَعَتْ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْغَلَبَةِ، أَوِ الصُّلْحِ وَلاَ يَجِبُ بِالْبَيْعِ وَلاَ بِمُجَرَّدِ انْتِقَالِهَا إِلَى ذِمِّيٍّ.
وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ؛ لأَِنَّ الْعُشْرَ عِبَادَةٌ، وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.
كَمَا قَاسُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَسْأَلَةِ انْتِقَال الْحَيَوَانَاتِ السَّائِمَةِ إِلَى الذِّمِّيِّ فَكَمَا تَسْقُطُ زَكَاةُ السَّائِمَةِ بِانْتِقَالِهَا إِلَى الذِّمِّيِّ، يَسْقُطُ الْعُشْرُ عَنِ الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ بِانْتِقَالِهَا إِلَى الذِّمِّيِّ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إِلَى أَنَّهَا تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً، وَيُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ الَّذِي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ الْخَرَاجُ لاَ الْعُشْرُ؛ لأَِنَّ الْعُشْرَ فِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعُشْرُ كَمَا لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ الْمَعْهُودَةُ، وَلِهَذَا لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً. وَإِذَا تَعَذَّرَ إِيجَابُ الْعُشْرِ وَجَبَ الْخَرَاجُ إِذْ لاَ بُدَّ مِنْ فَرْضِ وَظِيفَةٍ عَلَى الأَْرْضِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ.
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وَقْتِ صَيْرُورَتِهَا خَرَاجِيَّةً، فَفِي رِوَايَةٍ تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً بِالشِّرَاءِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لاَ تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً مَا لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْخَرَاجُ إِذَا مَضَتْ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا، سَوَاءٌ زَرَعَ أَمْ لَمْ يَزْرَعْ.(19/63)
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا تُعْتَبَرُ خَرَاجِيَّةً وَيُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا، كَمَا فَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ نَصَارَى تَغْلِبَ. وَلأَِنَّ انْتِقَالَهَا إِلَى الذِّمِّيِّ يُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاطِ الْعُشْرِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى الإِْضْرَارِ بِالْفُقَرَاءِ، فَإِذَا تَعَرَّضَ أَهْل الذِّمَّةِ لِذَلِكَ ضُوعِفَ عَلَيْهِمُ الْعُشْرُ كَمَا لَوْ اتَّجَرُوا بِأَمْوَالِهِمْ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِمْ ضُوعِفَتْ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ فَأُخِذَ مِنْهُمْ نِصْفُ الْعُشْرِ. وَيُوضَعُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ إِلَى أَنَّهَا تَبْقَى عُشْرِيَّةً، وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ سِوَى الْعُشْرِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الأَْصْل أَنَّ كُل أَرْضٍ ابْتَدَأَتْ بِضَرْبِ حَقٍّ عَلَيْهَا لاَ يَتَبَدَّل الْحَقُّ بِتَبَدُّل الْمَالِكِ، كَالْخَرَاجِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَئُونَةُ الأَْرْضِ لاَ تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَالِكِ، حَتَّى يَجِبَ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، فَلاَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمَالِكِ.
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي مَوْضِعِ الْمَأْخُوذِ وَمَصْرِفِهِ، فَقِيل: يُوضَعُ مَوْضِعَ الصَّدَقَةِ لأَِنَّهُ قَدْرُ الْوَاجِبِ لَمْ يَتَغَيَّرْ عِنْدَهُ، فَلَمْ تَتَغَيَّرْ صِفَتُهُ أَيْضًا.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ، لأَِنَّ مَال الصَّدَقَةِ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ لِكَوْنِهِ مَالاً مَأْخُوذًا مِنْ كَافِرٍ، فَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ.
وَذَهَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى وُجُوبِ الْعُشْرِ(19/63)
وَالْخَرَاجِ مَعًا، فَأَمَّا الْعُشْرُ فَاسْتِصْحَابًا، وَأَمَّا الْخَرَاجُ فَغُرْمٌ يَلْحَقُهُ بِمَصِيرِهَا إِلَيْهِ. (1)
إِحْيَاءُ الأَْرْضِ الْمَوَاتِ:
24 - إِذَا كَانَ الْمُحْيِي لِلأَْرْضِ الْمَوَاتِ ذِمِّيًّا، فَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ ذَلِكَ - بِإِذْنِ الإِْمَامِ - سَوَاءٌ أَكَانَتْ هَذِهِ الأَْرْضُ ضِمْنَ دَارِ الإِْسْلاَمِ، أَمْ دَارِ الْعَهْدِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ إِلاَّ فِي وَظِيفَةِ الأَْرْضِ، فَالْمُسْلِمُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْحَالاَتِ الْعُشْرُ، أَمَّا الذِّمِّيُّ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ سِوَى الْخَرَاجِ لأَِنَّهُ أَلْيَقُ بِحَالِهِ. (2)
وَيَرَى آخَرُونَ عَدَمَ جَوَازِ إِحْيَاءِ الذِّمِّيِّ أَرْضَ الْمَوَاتِ فِي بِلاَدِ الْعَرَبِ. وَيَرَى بَعْضُهُمْ عَدَمَ جَوَازِ إِحْيَاءِ الذِّمِّيِّ أَرْضَ الْمَوَاتِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ.
انْظُرْ: (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ) ف 22 وَ 23
مِقْدَارُ الْخَرَاجِ:
25 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُل جَرِيبٍ يَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ قَفِيزٌ وَدِرْهَمٌ، وَفِي جَرِيبِ الرَّطْبَةِ (الْفَصْفَصَةِ) خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَفِي جَرِيبِ الْكَرْمِ
__________
(1) البدائع للكاساني 2 / 927 - 928 الأحكام السلطانية للماوردي ص 119، الأحكام السلطانية للفراء ص 123، المغني لابن قدامة 2 / 729
(2) الفتاوى الهندية 2 / 237، المغني لابن قدامة 5 / 566، الاستخراج في أحكام الخراج لابن رجب ص 11، أحكام أهل الذمة لابن القيم 1 / 101.(19/64)
(الْعِنَبِ) عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَْصْنَافِ كَالزَّعْفَرَانِ، وَالْقُطْنِ وَغَيْرِهَا، يُوضَعُ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الطَّاقَةِ.
وَنِهَايَةُ الطَّاقَةِ أَنْ يَبْلُغَ الْوَاجِبُ نِصْفَ الْخَارِجِ، وَلاَ يُزَادُ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ التَّنْصِيفَ عَيْنُ الإِْنْصَافِ. (1)
وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَال: وَضَعَ عُمَرُ عَلَى أَهْل السَّوَادِ عَلَى كُل جَرِيبٍ عَامِرٍ أَوْ غَامِرٍ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا، وَعَلَى جَرِيبِ الْحِنْطَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَخَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ، وَعَلَى جَرِيبِ الشَّجَرَةِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ، وَعَلَى جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ - قَال وَلَمْ يَذْكُرِ النَّخْل - وَعَلَى رُءُوسِ الرِّجَال ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ، وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، وَاثْنَيْ عَشَرَ.
26 - وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى عَدَمِ التَّقَيُّدِ بِتَقْدِيرِ إِمَامٍ مِنَ الأَْئِمَّةِ السَّابِقِينَ، فَلَمْ يَأْخُذْ بِأَيِّ رِوَايَةٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ السَّابِقَةِ، وَإِنَّمَا قَال: الْمَرْجِعُ فِيهِ إِلَى قَدْرِ مَا تَحْتَمِلُهُ الأَْرْضُ مِنْ ذَلِكَ لاِخْتِلاَفِهَا فِي حَوَاصِلِهَا، وَيَجْتَهِدُ الإِْمَامُ فِي تَقْدِيرِ ذَلِكَ مُسْتَعِينًا عَلَيْهِ بِأَهْل الْخِبْرَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ
__________
(1) الكمال بن الهمام: فتح القدير 4 / 235، المرغيناني: الهداية - مطبعة مصطفى الحلبي بالقاهرة 2 / 157، الزيلعي: تبيين الحقائق 3 / 283، الفتاوى الهندية 2 / 238، وأبو عبيد: الأموال ص 98.(19/64)
الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ ابْنَ حُنَيْفٍ إِلَى السَّوَادِ فَطَرَّزَ الْخَرَاجَ فَوَضَعَ عَلَى جَرِيبِ الْقَصَبِ سِتَّةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ النَّخْل ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الزَّيْتُونِ اثْنَيْ عَشَرَ. وَوَضَعَ عَلَى الرَّجُل الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ فِي الشَّهْرِ (1) .
27 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ قَدْرَ الْخَرَاجِ فِي كُل سَنَةٍ، مَا فَرَضَهُ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ لَمَّا بَعَثَهُ عُمَرُ مَاسِحًا وَهُوَ عَلَى كُل جَرِيبِ شَعِيرٍ دِرْهَمَانِ، وَعَلَى كُل جَرِيبِ حِنْطَةٍ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ. وَعَلَى كُل جَرِيبِ شَجَرٍ، وَقَصَبِ سُكَّرٍ سِتَّةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُل جَرِيبِ نَخْلٍ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُل جَرِيبِ كَرْمٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى كُل جَرِيبِ زَيْتُونٍ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا. (2)
28 - وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُل جَرِيبٍ دِرْهَمٌ وَقَفِيزٌ، وَعَلَى جَرِيبِ النَّخْل ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ، وَعَلَى جَرِيبِ الرَّطْبَةِ (3) سِتَّةُ دَرَاهِمَ.
__________
(1) ابن هبيرة: الإفصاح - مطبعة الكيلاني بالقاهرة 1980، 2 / 284، أبو عبد الله الدمشقي: رحمة الأمة في اختلاف الأئمة على هامش الميزان للشعراني - دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة 2 / 172 وأبو عبيد: الأموال ص 97.
(2) النووي: روضة الطالبين 10 / 276 - المكتب الإسلامي ببيروت - ط2 - 1405 هـ - 1985م، الشربيني الخطيب، مغني المحتاج في شرح المنهاج 4 / 235، حاشية البجيرمي 4 / 262 - المكتبة الإسلامية بتركيا.
(3) الرطبة: (بفتح الراء وسكون الطاء) نبات يقيم في الأرض سنينا كلما جز نبت، كالقضبة وهي كل نبات اقتضب فأكل طريا. المطلع للبعلي ص 233، المصباح المنير للفيومي ص 313.(19/65)
وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ حَيْثُ قَال: شَهِدْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَتَاهُ ابْنُ حُنَيْفٍ - فَجَعَل يُكَلِّمُهُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُول: وَضَعْتُ عَلَى كُل جَرِيبٍ مِنَ الأَْرْضِ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا مِنْ طَعَامٍ لاَ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَلاَ يُجْهِدُهُمْ (1) .
الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ عَلَى مَا وَظَّفَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
29 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ أَخَذُوا بِتَقْدِيرَاتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْخَرَاجِ فِي جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عَلَى مَا وَظَّفَهُ عُمَرُ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ إِلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛ لأَِنَّ الْخَرَاجَ مَبْنِيٌّ عَلَى طَاقَةِ الأَْرْضِ وَقُدْرَتِهَا عَلَى التَّحَمُّل.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَال لِعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: (لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الأَْرْضَ مَا لاَ تُطِيقُ) (2) فَإِذَا كَانَتِ الأَْرْضُ تُطِيقُ الزِّيَادَةَ يُزَادُ بِقَدْرِ
__________
(1) ابن مفلح: المبدع: 3 / 381 - المكتب الإسلامي، وانظر: الخراج والنظم المالية للريس ص 321 - 325 وأبو عبيد: الأموال ص 101.
(2) صحيح البخاري 4 / 204.(19/65)
الطَّاقَةِ، كَمَا إِذَا كَانَتْ لاَ تُطِيقُ تِلْكَ الْوَظِيفَةَ لِقِلَّةِ رِيعِهَا فَتَنْقُصُ. (1)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ إِلَى جَوَازِ النُّقْصَانِ دُونَ الزِّيَادَةِ، لِقَوْل عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، وَحُذَيْفَةَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: (وَلَوْ زِدْنَا لأََطَاقَتْ) (2) فَلَمْ يَزِدْ عُمَرُ مَعَ أَنَّهُ أُخْبِرَ بِأَنَّ الأَْرْضَ تُطِيقُ الزِّيَادَةَ (3) .
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ إِلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ دُونَ النُّقْصَانِ، لِقَوْل عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ لِعُمَرَ: وَاللَّهِ لَوْ زِدْتُ عَلَيْهِمْ لأََجْهَدْتُهُمْ (4) فَدَل عَلَى إِبَاحَةِ الزِّيَادَةِ مَا لَمْ يُجْهِدْهُمْ، وَلأَِنَّ الإِْمَامَ نَاظِرٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً، فَجَازَ لَهُ الزِّيَادَةُ فِيهِ دُونَ النُّقْصَانِ (5) وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ، إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ لأَِنَّ اجْتِهَادَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، إِذْ هُوَ كَالإِْجْمَاعِ لِعَدَمِ إِنْكَارِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ. (6)
__________
(1) الكمال بن الهمام: فتح القدير 5 / 283، السرخسي: المبسوط 10 / 79، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 150 ابن رجب: الاستخراج في أحكام الخراج ص 67.
(2) صحيح البخاري 4 / 204.
(3) الكمال بن الهمام: فتح القدير 5 / 283، السرخسي: المبسوط 10 / 79.
(4) صحيح البخاري 4 / 204.
(5) ابن رجب: الاستخراج في أحكام الخراج ص 67.
(6) نفس الرجع.(19/66)
مَا يُرَاعَى عِنْدَ تَقْدِيرِ الْخَرَاجِ:
30 - يَنْبَغِي لِوَاضِعِ الْخَرَاجِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى تُرْبَةِ الأَْرْضِ، وَمَدَى إِنْتَاجِيَّتِهَا وَخُصُوبَتِهَا، فَمَا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الْجَيِّدَةِ يَخْتَلِفُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الرَّدِيئَةِ.
وَمَا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ فِي كُل عَامٍ، يَخْتَلِفُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ فِي عَامٍ، وَتُرَاحُ فِي عَامٍ. فَيُرَاعَى عِنْدَ ابْتِدَاءِ وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي لاَ تُزْرَعُ فِي كُل عَامٍ حَالُهَا، وَاعْتَبَرَ الْعُلَمَاءُ أَصْلَحَ الأُْمُورِ لأَِرْبَابِ هَذِهِ الأَْرْضِ، وَأَهْل الْفَيْءِ يَكُونُ فِي خَصْلَةٍ مِنْ ثَلاَثٍ.
أ - إِمَّا أَنْ يُجْعَل خَرَاجُهَا عَلَى الشَّطْرِ مِنْ خَرَاجِ مَا يُزْرَعُ.
ب - وَإِمَّا أَنْ يَمْسَحَ كُل جَرِيبَيْنِ مِنْهَا بِجَرِيبٍ لِيَكُونَ أَحَدُهُمَا لِلْمَزْرُوعِ وَالآْخَرُ لِلْمَتْرُوكِ.
ج - وَإِمَّا أَنْ يَضَعَهُ بِكَمَالِهِ عَلَى مِسَاحَةِ الْمَزْرُوعِ وَالْمَتْرُوكِ، وَيَسْتَوْفِي مِنْ أَرْبَابِهِ الشَّطْرَ مِنْ مِسَاحَةِ أَرْضِهِمْ. (1)
خِفَّةُ مَئُونَةِ السَّقْيِ وَكَثْرَتُهَا:
31 - مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي تُرَاعَى أَيْضًا عِنْدَ تَحْدِيدِ
__________
(1) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 150، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 118، البهوتي: كشاف القناع 3 / 98، ابن مفلح: المبدع 3 / 382.(19/66)
وَظِيفَةِ الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ خِفَّةُ مَئُونَةِ السَّقْيِ وَكَثْرَتُهَا. فَقَدْ أَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ الَّتِي تُسْقَى بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالأَْنْهَارِ، وَأَوْجَبَ نِصْفَ الْعُشْرِ فِي الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ الْعُشْرِيَّةِ الَّتِي تُسْقَى بِمَاءِ الآْبَارِ الَّذِي يُحْتَاجُ فِي إِخْرَاجِهِ إِلَى مَئُونَةٍ.
وَكَذَلِكَ الأَْمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، فَمَا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي تُسْقَى بِمَاءِ الأَْمْطَارِ، أَوِ الْعُيُونِ، أَوِ الأَْنْهَارِ يَزِيدُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ الَّتِي تُسْقَى بِمَاءِ الآْبَارِ.
نَوْعِيَّةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الْمَزْرُوعَةِ فِي الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ:
32 - الْخَرَاجُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ بِالْقَمْحِ، أَوِ الشَّعِيرِ، يَخْتَلِفُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ بِالأَْشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ كَالْعِنَبِ، وَالنَّخِيل، وَذَلِكَ لاِخْتِلاَفِ قِيمَةِ كُل نَوْعٍ عَنِ الآْخَرِ.
33 - قُرْبُ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ مِنَ الْمُدُنِ وَالأَْسْوَاقِ وَبُعْدُهَا عَنْهَا:
فَمَا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْمُدُنِ وَالأَْسْوَاقِ يَخْتَلِفُ عَمَّا يُوضَعُ عَلَى الأَْرْضِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْمُدُنِ وَالأَْسْوَاقِ لأَِنَّ بُعْدَهَا عَنِ الْمُدُنِ وَالأَْسْوَاقِ يَزِيدُ مِنَ الْمَئُونَةِ وَالْكُلْفَةِ.(19/67)
مَا يَنْزِل بِأَرْبَابِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ مِنْ نَوَائِبَ
وَمُلِمَّاتٍ.
34 - يَنْبَغِي لِوَاضِعِ الْخَرَاجِ أَنْ يَحْسِبَ حِسَابَ النَّوَائِبِ، وَالْمُلِمَّاتِ الَّتِي قَدْ تَنْزِل بِأَرْبَابِ الأَْرْضِ فَيَتْرُكَ لَهُمْ مِنْ غَايَةِ مَا تَحْتَمِلُهُ الأَْرْضُ نِسْبَةً مُعَيَّنَةً لِمُوَاجَهَةِ تِلْكَ النَّوَائِبِ، وَالْمُلِمَّاتِ.
كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَرْصِ الثِّمَارِ الْمُزَكَّاةِ حَيْثُ قَال: إِذَا خَرَصْتُمْ فَجُذُّوا وَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا أَوْ تَجُذُّوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ (1) وَقَدْ عَلَّل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ فِي الْمَال الْعَرِيَّةَ وَالْوَطِيَّةَ (2) وَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خَفِّفُوا عَلَى النَّاسِ فِي الْخَرْصِ فَإِنَّ فِي الْمَال الْعَرِيَّةَ (3)
__________
(1) حديث: " إذا خرصتم فجذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا أو تجذوا. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 269 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث سهل بن حثمة، وفي إسناده راو فيه لين.
(2) حديث: " فإن المال العرية والوطية ". أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال (ص 586 - نشر دار الفكر بيروت) من حديث مكحول مرسلا.
(3) قال أبو عبيد: العرية تفسر تفسرين: الأول: كان مالك بن أنس يقول: هي النخلة يهب الرجل ثمرتها للمحتاج يعريه إياها، فيأتي المعرى - وهو الموهوب له - إلى نخلته تلك ليجتنيها، فيشق على المعري - وهو الواهب - دخوله عليه لمكان أهله في النخل قال: فجاءت الرخصة ل وانظر الماوردي (ص 149) .(19/67)
وَالأَْكَلَةَ (1) .
وَقَدْ رَاعَى عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ ذَلِكَ التَّخْفِيفَ عِنْدَمَا وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى أَرْضِ السَّوَادِ فَقَال: حَمَّلْنَاهَا أَمْرًا هِيَ مُطِيقَةٌ لَهُ، مَا فِيهَا كَثِيرُ فَضْلٍ (2) فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَقَدْ تَرَكَهُ لَهُمْ. وَقَال أَيْضًا: (وَلَوْ زِدْنَا لأََطَاقَتْ (3) .
وَقَدْ نَبَّهَ الْمَاوَرْدِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلاَ يَسْتَقْصِي فِي وَضْعِ الْخَرَاجِ غَايَةَ مَا يَحْتَمِلُهُ، وَلْيَجْعَل مِنْهُ لأَِرْبَابِ الأَْرْضِ بَقِيَّةً يُجْبِرُونَ بِهَا النَّوَائِبَ وَالْحَوَائِجَ، حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي أَخْذِ الْفَضْل مِنْ أَمْوَال السَّوَادِ، فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ لاَ تَكُنْ عَلَى دِرْهَمِكَ الْمَأْخُوذِ أَحْرَصَ مِنْكَ عَلَى
__________
(1) أثر عمر: " خففوا على الناس في الخرص فإن في المال العرية والأكلة ". أخرجه أبو عبيد قاسم بن سلام في كتاب " الأموال " (ص 587 - نشر دار الفكر - بيروت) من طريق الأوزاعي قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب قال. . . . فذكره، وإسناده ضعيف لانقطاعه.
(2) صحيح البخاري 4 / 204.
(3) نفس المرجع.(19/68)
دِرْهَمِكَ الْمَتْرُوكِ، وَأَبْقِ لَهُمْ لُحُومًا يَعْقِدُونَ بِهَا شُحُومًا) . (1)
اسْتِيفَاءُ الْخَرَاجِ:
إِذَا وُضِعَ الْخَرَاجُ عَلَى أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ فَلاَ بُدَّ مِنَ اسْتِيفَائِهِ بَعْدَ حُلُول وَقْتِ الْوُجُوبِ لِيُصْرَفَ أَيْ مَصَارِفَهُ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ سَدِّ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.
وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ:
35 - لِمَعْرِفَةِ وَقْتِ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ لاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ؛ لأَِنَّ الاِسْتِيفَاءَ - غَالِبًا - مَا يَكُونُ بَعْدَ حُلُول وَقْتِ الْوُجُوبِ.
أ - وَقْتُ وُجُوبِ الْخَرَاجِ
35 م - وَقْتُ وُجُوبِ الْخَرَاجِ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِنَوْعِ الْخَرَاجِ الْمَفْرُوضِ عَلَى رَقَبَةِ الأَْرْضِ.
فَإِذَا كَانَ الْمَفْرُوضُ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ، يَكُونُ وَقْتُ الْوُجُوبِ عِنْدَ كَمَال الزَّرْعِ وَتَصْفِيَتِهِ، وَيَتَكَرَّرُ الْوَاجِبُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ؛ لأَِنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ. (2)
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَفْرُوضُ خَرَاجَ وَظِيفَةٍ، فَلاَ يُؤْخَذُ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ، وَلاَ يَتَكَرَّرُ، وَلَوِ
__________
(1) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 159.
(2) منلا خسرو: درر الحكام في شرح غرر الأحكام - مطبعة أحمد كامل بالقاهرة 1329هـ - 1 / 297، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 149 أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 168، ابن رجب: الاستخراج ص 72، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 116.(19/68)
اسْتَغَلَّهَا صَاحِبُهَا فِي السَّنَةِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَأْخُذِ الْخَرَاجَ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ؛ وَلأَِنَّ رِيعَ عَامَّةِ الأَْرَاضِي يَكُونُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى الْعَامِّ الْغَالِبِ.
وَالْوَظِيفَةُ الْمَفْرُوضَةُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى مِسَاحَةِ الأَْرْضِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى مِسَاحَةِ الزَّرْعِ.
فَإِذَا كَانَتْ عَلَى مِسَاحَةِ الأَْرْضِ، فَيَجِبُ الْخَرَاجُ عِنْدَ نِهَايَةِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا السَّنَةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا.
وَإِذَا كَانَتْ عَلَى مِسَاحَةِ الزَّرْعِ فَيَجِبُ الْخَرَاجُ عِنْدَ نِهَايَةِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ؛ لأَِنَّهَا السَّنَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا الأَْمْطَارُ وَيُزْرَعُ الزَّرْعُ.
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ خَرَاجَ الْوَظِيفَةِ يَجِبُ عِنْدَ نِهَايَةِ السَّنَةِ، الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (1)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي أَوَّل السَّنَةِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ بَقَاءِ الأَْرْضِ النَّامِيَةِ فِي يَدِهِ سَنَةً، إِمَّا حَقِيقَةً، وَإِمَّا تَقْدِيرًا، وَيَأْخُذُهُ الإِْمَامُ عِنْدَ بُلُوغِ الْغَلَّةِ. (2)
__________
(1) ابن رشد: المقدمات على هامش المدونة 1 / 397 - 398، الرملي: نهاية المحتاج 8 / 74، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 149، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 168.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 243.(19/69)
ب - تَعْجِيل الْخَرَاجِ:
36 - الْمَقْصُودُ بِتَعْجِيل الْخَرَاجِ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبْل حُلُول وَقْتِ وُجُوبِهِ. فَهَل يَجُوزُ لِلإِْمَامِ مُطَالَبَةُ أَهْل الذِّمَّةِ بِالْخَرَاجِ قَبْل حُلُول وَقْتِهِ؟
أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ تَعْجِيل الْخَرَاجِ لِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ؛ لأَِنَّ سَبَبَهُ الأَْرْضُ النَّامِيَةُ، وَهُوَ بِمَثَابَةِ الأُْجْرَةِ عَلَى الأَْرْضِ؛ وَلأَِنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ عُجِّل رِفْقًا فَجَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَجَلِهِ كَالدَّيْنِ (1) .
وَمُقْتَضَى قِيَاسِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ تَعْجِيلِهِ لِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ؛ لأَِنَّ الْخَرَاجَ عِنْدَهُمْ أُجْرَةٌ، وَالأُْجْرَةُ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ.
وَلَوْ تَعَجَّل الإِْمَامُ الْخَرَاجَ قَبْل وُجُوبِهِ ثُمَّ انْقَطَعَ وُجُوبُهُ فَهَل يَرُدُّ الإِْمَامُ مَا أَخَذَهُ إِلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ؟
فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ قَدْ صُرِفَ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ بَاقِيًا. فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا رَدَّهُ الإِْمَامُ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ صُرِفَ فَلاَ شَيْءَ لَهُ، كَالزَّكَاةِ الْمُعَجَّلَةِ لأَِنَّ مَذْهَبَهُمْ فِي الْخَرَاجِ أَنَّهُ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ بِاعْتِبَارِ الأَْرْضِ. (2)
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 244، داماد: مجمع الأنهر 1 / 669، ابن رجب: الاستخراج في أحكام الخراج ص 73.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 244.(19/69)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى رَدِّهِ عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ مُطْلَقًا - أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْخُوذُ بَاقِيًا أَوْ قَدْ صُرِفَ - لأَِنَّهُ أُجْرَةٌ مَحْضَةٌ، وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ لِيَقَعَ نَفْلاً. (1)
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الرَّدَّ عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ مُطْلَقًا، لأَِنَّ الْخَرَاجَ عِنْدَهُمْ أُجْرَةٌ. وَلَمْ نَجِدْ نَصًّا لَهُمْ بِذَلِكَ.
ج - تَأْخِيرُ الْخَرَاجِ:
37 - إِذَا تَأَخَّرَ صَاحِبُ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ عَنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْسِرًا.
فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا وَمَطَل حُبِسَ بِهِ، إِلاَّ أَنْ يُوجَدَ لَهُ مَالٌ فَيُبَاعُ فِي خَرَاجِهِ كَالْمَدْيُونِ. وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ غَيْرُ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَيُتْرَكُ الأَْمْرُ لِلإِْمَامِ، إِمَّا أَنْ يَبِيعَ مِنْهَا بِقَدْرِ الْخَرَاجِ، وَإِمَّا أَنْ يُؤَجِّرَهَا عَلَيْهِ، وَيَسْتَوْفِيَ الْخَرَاجَ مِنْ أُجْرَتِهَا وَيَرُدَّ الْبَاقِيَ إِلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ. وَإِنْ نَقَصَتِ الأُْجْرَةُ عَنِ الْخَرَاجِ كَانَ عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ نُقْصَانُهَا. (2)
وَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الأَْرْضِ مُعْسِرًا وَجَبَ إِنْظَارُهُ وَيَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْخَرَاجُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَالصَّاحِبَيْنِ
__________
(1) ابن رجب: الاستخراج في أحكام الخراج ص 73.
(2) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 151، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 172، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 123.(19/70)
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1) ، وَلأَِنَّ الْخَرَاجَ أُجْرَةٌ لِلأَْرْضِ، وَالأُْجْرَةُ لاَ تَسْقُطُ بِالإِْعْسَارِ كَأُجْرَةِ الدَّارِ وَالْحَوَانِيتِ. (2)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ بِالإِْعْسَارِ كَمَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ، لأَِنَّهُ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ بِاعْتِبَارِ الأَْرْضِ - أَيْ لَيْسَ بَدَلاً عَنْ شَيْءٍ (3) - وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ رَأْيَهُمْ مُوَافِقٌ لِرَأْيِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي أَنَّ خَرَاجَ الأَْرْضِ أُجْرَةٌ، وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ نَصًّا فِي ذَلِكَ.
الشَّخْصُ الَّذِي يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْخَرَاجُ:
38 - الْمُطَالَبُ بِالْخَرَاجِ هُوَ مَنْ بِيَدِهِ الأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِيَدِهِ ابْتِدَاءً أَمِ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ. (4)
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِمُطَالَبَةِ الْمُشْتَرِي بِالْخَرَاجِ، أَنْ تَبْقَى الأَْرْضُ فِي يَدِهِ مُدَّةً يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالزِّرَاعَةِ أَوْ غَيْرِهَا. وَقَدَّرُوا هَذِهِ الْمُدَّةَ
__________
(1) سورة البقرة / 280.
(2) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 151، ابن مفلح: المبدع 3 / 382، البهوتي: كشاف القناع 3 / 98 - 99، الكاساني: بدائع الصنائع 9 / 433، حاشية ابن عابدين 4 / 192 - 201.
(3) الكاساني: بدائع الصنائع 9 / 433، حاشية ابن عابدين 4 / 192 - 201.
(4) الفتاوى الهندية 2 / 239، الباجي:. المنتقى 3 / 222، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 151، البهوتي: كشاف القناع 3 / 98، ابن مفلح: المبدع 3 / 382.(19/70)
بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ. وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِذَا بَاعَ رَجُلٌ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً مِنْ غَيْرِهِ، فَبَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ شَهْرٍ، ثُمَّ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي الثَّانِي مِنْ غَيْرِهِ كَذَلِكَ حَتَّى مَضَتِ السَّنَةُ، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الأَْرْضُ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمْ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ، لاَ خَرَاجَ عَلَى أَحَدٍ. (1)
وَإِذَا آجَرَ مَنْ بِيَدِهِ الأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ أَرْضَهُ، أَوْ أَعَارَهَا، أَوْ أَعْطَاهَا مُزَارَعَةً، فَخَرَاجُهَا عَلَى الْمُؤَجِّرِ أَوِ الْمُعِيرِ، لاَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، لأَِنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِنَمَاءِ الأَْرْضِ وَهُوَ لِلْمَالِكِ، وَمَا يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ أَوِ الْمُؤَجِّرُ مِنَ الأُْجْرَةِ عِوَضٌ عَنْ ذَلِكَ النَّمَاءِ، أَوِ الْمَنْفَعَةِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الأَْرْضِ. فَلاَ يَكُونُ النَّفْعُ لَهُ وَالْخَرَاجُ عَلَى غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُسْتَعِيرُ إِنَّمَا دَخَل عَلَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِالأَْرْضِ مَجَّانًا فَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخَرَاجُ. (2)
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ إِلَى أَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ قِيَاسًا عَلَى الْعُشْرِ؛ وَلأَِنَّ الْخَرَاجَ مِنْ تَمَامِ تُرْبَةِ الأَْرْضِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّقْيِ وَالْحَرْثِ، وَتَهْيِئَتِهَا لِلزِّرَاعَةِ؛ وَلأَِنَّ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 239.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 239، الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 32، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 151، ابن رجب: الاستخراج في أحكام الخراج ص 93، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 121.(19/71)
الْمُسْتَأْجِرَ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِالأَْرْضِ حَقِيقَةً. (1)
وَإِذَا غَصَبَ الأَْرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ غَاصِبٌ، فَإِمَّا أَنْ يُعَطِّلَهَا عَنِ الزِّرَاعَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَزْرَعَهَا وَيَسْتَغِلَّهَا. فَإِذَا عَطَّلَهَا عَنِ الزِّرَاعَةِ فَلاَ خَرَاجَ عَلَى أَحَدٍ، وَإِذَا زَرَعَهَا الْغَاصِبُ وَاسْتَغَلَّهَا، فَإِمَّا أَنْ تُنْقِصَهَا الزِّرَاعَةُ، وَإِمَّا أَنْ لاَ تُنْقِصَهَا، فَإِذَا لَمْ تُنْقِصْهَا الزِّرَاعَةُ فَيَجِبَ خَرَاجُهَا عَلَى الْغَاصِبِ.
وَإِذَا نَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ، يَكُونُ الْخَرَاجُ عَلَى صَاحِبِ الأَْرْضِ؛ لأَِنَّ الْغَاصِبَ ضَامِنٌ لِلنَّقْصِ، وَلَمَّا كَانَ ضَامِنًا لِلنَّقْصِ صَارَ كَالْمُسْتَأْجِرِ.
هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ.
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ: يُنْظَرُ إِلَى ضَمَانِ نُقْصَانِ الأَْرْضِ وَإِلَى الْخَرَاجِ. فَإِنْ كَانَ ضَمَانُ النُّقْصَانِ أَكْثَرَ مِنَ الْخَرَاجِ، فَالْخَرَاجُ عَلَى رَبِّ الأَْرْضِ. فَيَأْخُذُ مِنَ الْغَاصِبِ غَرَامَةَ النُّقْصَانِ وَيُؤَدِّي الْخَرَاجَ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ ضَمَانُ النُّقْصَانِ أَقَل مِنَ الْخَرَاجِ، فَالْخَرَاجُ عَلَى الْغَاصِبِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ. (2)
وَيُؤْخَذُ مِنْ نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي تَضْمِينِ الْغَاصِبِ أُجْرَةَ الأَْرْضِ الْمُؤَجَّرَةِ، وَمِنْ قَوَاعِدِهِمْ فِي ضَمَانِ الْمَنَافِعِ، أَنَّ
__________
(1) ابن رجب الاستخراج ص 93، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 121.
(2) الكاساني: البدائع 2 / 932.(19/71)
غَاصِبَ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ يَضْمَنُ الْخَرَاجَ، لأَِنَّ الْخَرَاجَ بِمَنْزِلَةِ الأُْجْرَةِ. (1)
مَنْ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ:
39 - قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْخَارِجَ مِنَ الأَْمْوَال الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَوَلَّى أَمْرَهَا الأَْئِمَّةُ وَالسَّلاَطِينُ. فَالإِْمَامُ هُوَ الَّذِي يُقَدِّرُ الْخَرَاجَ ابْتِدَاءً، وَيُطَالِبُ بِهِ، وَيُقَرِّرُ صَرْفَهُ وَفْقَ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الإِْمَامَ وَكِيلٌ عَنِ الأُْمَّةِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهَا مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ، وَفِي تَدْبِيرِ شُؤُونِهَا. قَال الْقُرْطُبِيُّ: الأَْمْوَال الَّتِي لِلأَْئِمَّةِ وَالْوُلاَةِ فِيهَا مَدْخَلٌ ثَلاَثَةُ أَضْرُبٍ: مَا أُخِذَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى طَرِيقِ التَّطْهِيرِ لَهُمْ كَالصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ.
وَالثَّانِي: الْغَنَائِمُ وَمَا يَحْصُل فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَال الْكَافِرِينَ بِالْحَرْبِ، وَالْقَهْرِ، وَالْغَلَبَةِ.
وَالثَّالِثُ: الْفَيْءُ وَهُوَ مَا رَجَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَال الْكُفَّارِ عَفْوًا صَفْوًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَلاَ إِيجَافٍ، كَالصُّلْحِ، وَالْجِزْيَةِ، وَالْخَرَاجِ، وَالْعُشُورِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ تُجَّارِ الْكُفَّارِ. (2)
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَالْمُطَالِبُ بِالْخَرَاجِ هُوَ الإِْمَامُ، وَيَجِبُ عَلَى أَرْبَابِ الأَْرْضِ الدَّفْعُ إِلَيْهِ،
__________
(1) الدسوقي 4 / 31، الجمل على المنهج 3 / 488، ومغني المحتاج 2 / 289، والقليوبي 3 / 37، المغني 5 / 246
(2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن - دار إحياء التراث العربي - بيروت 18 / 14.(19/72)
لأَِنَّ مَصْرِفَ الْخَرَاجِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَيَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادِ الإِْمَامِ.
دَفْعُ الْخَرَاجِ إِلَى أَئِمَّةِ الْعَدْل:
40 - الإِْمَامُ الْعَادِل: هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِمَامَتِهِ وَبَيْعَتِهِ، وَقَامَ بِتَدْبِيرِ شُؤُونِ الأُْمَّةِ وَفْقَ شَرْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل، فَإِذَا طَلَبَ مِنْ ذَوِي الأَْمْوَال مَالاً لاَ يَطْلُبُهُ إِلاَّ بِحَقٍّ، وَإِذَا قَسَمَ أَمْوَالاً عَامَّةً قَسَمَهَا وَفْقَ شَرْعِ اللَّهِ، وَحَسَبَ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ، كَمَا قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أُعْطِيكُمْ وَلاَ أَمْنَعُكُمْ إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ. (1)
وَقَال أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ مِنْ هَذَا الْمَال بِمَنْزِلَةِ وَالِي الْيَتِيمِ (2) فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَال: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ} (3)
فَإِذَا طَلَبَ الإِْمَامُ الْعَادِل الْخَرَاجَ مِنْ أَرْبَابِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، وَجَبَ عَلَيْهِمُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ، وَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ تَوْزِيعُ خَرَاجِ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا أَدَّى شَخْصٌ الْخَرَاجَ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ بِنَفْسِهِ فَلِلإِْمَامِ أَخْذُهُ مِنْهُ ثَانِيًا، لأَِنَّ حَقَّ الأَْخْذِ لَهُ.
__________
(1) حديث: " ما أعطيكم ولا أمنعكم ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 217 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.
(2) أبو يوسف: الخراج ص 36.
(3) سورة النساء / 6.(19/72)
أَمَّا إِذَا تَعَذَّرَ الدَّفْعُ إِلَيْهِ فَعَلَى الشَّخْصِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ. (1)
دَفْعُ الْخَرَاجِ إِلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ:
41 - الإِْمَامُ الْجَائِرُ: هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِتَدْبِيرِ شُؤُونِ الأُْمَّةِ وَفْقَ هَوَاهُ، فَيَقَعُ مِنْهُ الْجَوْرُ وَالظُّلْمُ عَلَى النَّاسِ.
فَإِذَا طَلَبَ الإِْمَامُ الْجَائِرُ الْخَرَاجَ مِنْ أَرْبَابِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ دَفْعُهُ إِلَيْهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ، وَإِذَا أَدَّوْا إِلَيْهِ الْخَرَاجَ سَقَطَ عَنْهُمْ وَلاَ يُطَالَبُونَ بِهِ مِنْ قِبَل أَئِمَّةِ الْعَدْل. (2)
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا سَلاَطِينُ زَمَانِنَا الَّذِينَ أَخَذُوا الصَّدَقَاتِ، وَالْعُشُورَ، وَالْخَرَاجَ، لاَ يَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا فَهَل تَسْقُطُ هَذِهِ الْحُقُوقُ عَنْ أَرْبَابِهَا؟ .
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ: أَنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَإِنْ كَانُوا لاَ يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا؛ لأَِنَّ حَقَّ الأَْخْذِ لَهُمْ فَيَسْقُطُ عَنْهُمْ بِأَخْذِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمْ يَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا فَالْوَبَال عَلَيْهِمْ.
__________
(1) ابن مودود: الاختيار لتعليل المختار - دار المعرفة - بيروت 4 / 145، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 18 / 14، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 16، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 28، ابن رجب: الاستخراج في أحكام الخراج ص 115.
(2) الكاساني: البدائع 2 / 884، الحطاب: مواهب الجليل 2 / 364، الشربيني الخطيب: مغني المحتاج 4 / 132.(19/73)
وَقَال الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَعِيدٍ: إِنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ، وَلاَ تَسْقُطُ الصَّدَقَاتُ؛ لأَِنَّ الْخَرَاجَ يُصْرَفُ إِلَى الْمُقَاتِلَةِ، وَهُمْ يَصْرِفُونَ إِلَى الْمُقَاتِلَةِ وَيُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ الْعَدُوُّ، فَإِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ وَيَذُبُّونَ عَنْ حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا الزَّكَوَاتُ وَالصَّدَقَاتُ فَإِنَّهُمْ لاَ يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا " (1) وَاسْتَدَلُّوا لِوُجُوبِ طَاعَةِ الإِْمَامِ الْجَائِرِ، فِيمَا يَجُوزُ مِنْ أَمْرِهِ كَطَلَبِ الْخَرَاجِ، بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيل تَسُوسُهُمُ الأَْنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي. وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَقَال: أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الأَْوَّل فَالأَْوَّل، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ. (2)
قَال الشَّوْكَانِيُّ - فِي بَيَانِ مَعْنَى " ثُمَّ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ ": - أَيِ ادْفَعُوا إِلَى الأُْمَرَاءِ حَقَّهُمُ الَّذِي لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَقَبْضُهُ، سَوَاءٌ كَانَ يَخْتَصُّ بِهِمْ أَمْ يَعُمُّ، وَذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ، كَالزَّكَاةِ، وَفِي الأَْنْفُسِ كَالْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ. (3)
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ
__________
(1) الكاساني: المرجع السابق.
(2) حديث: كانت بنو إسرائيل " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 495 ط السلفية) ومسلم (3 / 1471 - 1472 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3) الشوكاني: نيل الأوطار 7 / 194.(19/73)
كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَال: تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ. (1)
دَفْعُ الْخَرَاجِ إِلَى الْبُغَاةِ:
42 - الْبُغَاةُ: هُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الإِْمَامَ مُتَأَوِّلِينَ كَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ، وَالَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى الإِْمَامِ، أَوْ يَمْتَنِعُونَ عَنِ الدُّخُول فِي طَاعَتِهِ، أَوْ يَمْنَعُونَ حَقًّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ كَالزَّكَاةِ وَشَبَهِهَا فَيَدْعُونَ إِلَى الرُّجُوعِ لِلْحَقِّ (2) .
فَإِذَا غَلَبَ أَهْل الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ، وَنَصَّبُوا إِمَامًا فَجَبَى الْخَرَاجَ مِنْ أَرْبَابِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مَوْقِعَهُ، وَسَقَطَ عَنْهُمْ وَلَمْ يُطَالِبْهُمْ بِهِ إِمَامُ أَهْل الْعَدْل مَرَّةً ثَانِيَةً، عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ، مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْل الْبَصْرَةِ لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا جُبِيَ مِنْهُمْ. وَلأَِنَّ فِي تَرْكِ احْتِسَابِهِ ضَرَرًا عَظِيمًا، وَمَشَقَّةً كَبِيرَةً فَإِنَّ الْبُغَاةَ قَدْ يَغْلِبُونَ عَلَى الْبِلاَدِ السِّنِينَ الْكَثِيرَةَ فَلَوْ لَمْ يُحْتَسَبْ ذَلِكَ لأََدَّى إِلَى ثَنْيِ الْوَاجِبِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ؛ وَلأَِنَّ حَقَّ الإِْمَامِ فِي الْجِبَايَةِ مَرْهُونٌ بِالْحِمَايَةِ، وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ عِنْدَ تَغَلُّبِ الْبُغَاةِ عَلَى بَلَدٍ مُعَيَّنٍ. (3)
__________
(1) حديث: " إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها ". أخرجه مسلم (3 / 1472 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود.
(2) ابن جزي: القوانين الفقهية ص 293.
(3) الكاساني: البدائع 9 / 4402، ابن جزي: القوانين الفقهية ص 294 الشافعي: الأم - دار المعرفة ببيروت 4 / 220، الشربيني الخطيب: مغني المحتاج 4 / 133، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 55، المرداوي: الإنصاف - مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة ط 1 - 1375 - 1956 م - 10 / 318.(19/74)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى مَنْ أَخَذُوا مِنْهُ الْخَرَاجَ الإِْعَادَةُ؛ لأَِنَّهُ أَعْطَاهُ إِلَى مَنْ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ صَحِيحَةٌ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهَا آحَادُ الرَّعِيَّةِ غَصْبًا. (1)
دَفْعُ الْخَرَاجِ إِلَى الْمُحَارِبِينَ " قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ":
43 - الْمُحَارِبُونَ: هُمُ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلنَّاسِ بِالسِّلاَحِ، فَيَغْصِبُونَ الْمَال مُجَاهَرَةً، أَوْ يَقْتُلُونَ، أَوْ يُخِيفُونَ الطَّرِيقَ (2) .
فَإِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ الْخَرَاجَ مِنْ أَهْلِهِ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مَوْقِعَهُ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمُ الْخَرَاجُ بِأَدَائِهِ إِلَى الْمُحَارِبِينَ، لأَِنَّهُ كَالْمَأْخُوذِ غَصْبًا. (3)
طُرُقُ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ:
الطَّرِيقَةُ الأُْولَى - الْعِمَالَةُ عَلَى الْخَرَاجِ:
44 - تَعْيِينُ عَامِل الْخَرَاجِ مِنَ اخْتِصَاصَاتِ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَيَكُونُ هَذَا الْعَامِل بِهَذَا التَّعْيِينِ
__________
(1) الإمام مالك: المدونة 1 / 244، الحطاب: مواهب الجليل 2 / 364، القرافي: الفروق - دار المعرفة ببيروت 4 / 171.
(2) ابن مفلح: المبدع 9 / 144.
(3) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 63، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 58.(19/74)
وَكِيلاً عَنِ الإِْمَامِ فِي اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ وَقَبْضِهِ، فَتَكُونُ جِبَايَتُهُ لِلْخَرَاجِ مُحَدَّدَةً بِمَا رَسَمَهُ لَهُ الإِْمَامُ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ تَقْسِيمُ مَا جَبَاهُ مِنْ أَمْوَال الْخَرَاجِ إِلاَّ بِإِذْنِ الإِْمَامِ، لأَِنَّ هَذِهِ الأَْمْوَال لاَ تُصْرَفُ إِلاَّ بِاجْتِهَادِ الإِْمَامِ.
وَعَامِل الْخَرَاجِ - بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَكِيلٌ - أَمِينٌ إِذَا أَدَّى الأَْمَانَةَ فَلاَ يَضْمَنُ النُّقْصَانَ وَلاَ يَمْلِكُ الزِّيَادَةَ. (1)
شُرُوطُ تَعْيِينِ عَامِل الْخَرَاجِ:
يُشْتَرَطُ فِي عَامِل الْخَرَاجِ: الإِْسْلاَمُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالأَْمَانَةُ، وَالْكِفَايَةُ، وَالْعِلْمُ وَالْفِقْهُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
1 - الإِْسْلاَمُ:
45 - عَامِل الْخَرَاجِ قَدْ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِتَقْدِيرِ الْخَرَاجِ وَوَضْعِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِجِبَايَتِهِ وَنَقْلِهِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ إِلَى بَيْتِ الْمَال.
فَإِذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِوَضْعِ الْخَرَاجِ وَتَقْدِيرِهِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الإِْسْلاَمُ؛ لأَِنَّ هَذَا الْعَمَل وِلاَيَةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الأَْمَانَةِ.
وَلِذَا فَلاَ يُوَلَّى الذِّمِّيُّ تَقْدِيرَ الْخَرَاجِ، وَوَضْعِهِ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
قَال أَبُو طَالِبٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي
__________
(1) الماوردي: الأحكام ص 130، أبو يعلى: الأحكام ص 140 - 186، أبو يوسف: الخراج ص 107.(19/75)
أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - يُسْتَعْمَل الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ فِي أَعْمَال الْمُسْلِمِينَ مِثْل الْخَرَاجِ؟ قَال: لاَ يُسْتَعَانُ بِهِمْ فِي شَيْءٍ. (1)
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآْيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} . (2)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَل الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الآْيَةِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْيَهُودِ، وَأَهْل الأَْهْوَاءِ دُخَلاَءَ، وَوُلَجَاءَ، يُفَاوِضُونَهُمْ فِي الآْرَاءِ، وَيَسْنُدُونَ إِلَيْهِمْ أُمُورَهُمْ. (3)
وَقَال إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: فِي الآْيَةِ دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِعَانَةُ بِأَهْل الذِّمَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ. (4)
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: قِيل لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ هَاهُنَا غُلاَمًا مِنْ أَهْل الْحِيرَةِ نَصْرَانِيًّا كَاتِبًا، فَلَوِ اتَّخَذْتُهُ كَاتِبًا، فَقَال: قَدِ اتَّخَذْتُ إِذًا بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ (5) .
__________
(1) ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 208.
(2) سورة آل عمران / 118.
(3) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 4 / 178.
(4) إلكيا الهراسي: أحكام القرآن - مطبعة حسان بالقاهرة 2 / 68.
(5) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم - دار المعرفة ببيروت 1402 هـ - 1982 م 1 / 98.(19/75)
عَقَّبَ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى هَذَا الأَْثَرِ بِقَوْلِهِ: فَفِي هَذَا الأَْثَرِ مَعَ هَذِهِ الآْيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَهْل الذِّمَّةِ لاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُمْ فِي الْكِتَابَةِ الَّتِي فِيهَا اسْتِطَالَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاطِّلاَعٌ عَلَى دَوَاخِل أُمُورِهِمُ الَّتِي يُخْشَى أَنْ يُفْشُوهَا إِلَى الأَْعْدَاءِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ، وَلِهَذَا قَال تَعَالَى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} . (1)
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ (2) أَيْ لاَ تَسْتَنْصِحُوهُمْ، وَلاَ تَسْتَضِيئُوا بِرَأْيِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَرْسَل إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خِطَابًا جَاءَ فِيهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ فِي عَمَلِي كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا لاَ يَتِمُّ أَمْرُ الْخَرَاجِ إِلاَّ بِهِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُقَلِّدَهُ دُونَ أَمْرِكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ، قَرَأْتُ كِتَابَكَ فِي أَمْرِ النَّصْرَانِيِّ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ النَّصْرَانِيَّ قَدْ مَاتَ وَالسَّلاَمُ (3) .
وَقَدْ سَارَ الْخُلَفَاءُ الَّذِينَ لَهُمْ ثَنَاءٌ حَسَنٌ فِي الأُْمَّةِ عَلَى نَهْجِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي اسْتِبْعَادِ
__________
(1) المرجع السابق.
(2) حديث: " لا تستضيئوا بنار المشركين ". أخرجه النسائي (8 / 177 - ط المكتبة التجارية) من حديث أنس بن مالك، وفي إسناده " أزهر بن راشد " وهو مجهول كما في ميزان الاعتدال (1 / 171 ط الحلبي) .
(3) ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 211.(19/76)
أَهْل الذِّمَّةِ عَنِ الْوَظَائِفِ الَّتِي فِيهَا اطِّلاَعٌ عَلَى دَوَاخِل الْمُسْلِمِينَ.
فَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى أَحَدِ عُمَّالِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ فِي عَمَلِكَ كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا يَتَصَرَّفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَادْعُ حَسَّانًا - يَعْنِي ذَلِكَ الْكَاتِبَ - إِلَى الإِْسْلاَمِ، فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُوَ مِنَّا، وَنَحْنُ مِنْهُ، وَإِنْ أَبَى فَلاَ تَسْتَعِنْ بِهِ، وَلاَ تَتَّخِذْ أَحَدًا عَلَى غَيْرِ دِينِ الإِْسْلاَمِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. فَأَسْلَمَ حَسَّانٌ وَحَسُنَ إِسْلاَمُهُ (2) .
وَلأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ مُتَوَلِّي هَذَا الْعَمَل الأَْمَانَةَ وَالنُّصْحَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْحِرْص عَلَى مَصَالِحِهِمْ.
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صِفَاتِهِمْ فَهُمْ لاَ يُحِبُّونَ الْخَيْرَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَغُشُّونَ، وَلاَ يَنْصَحُونَ، قَال تَعَالَى فِيهِمْ: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْل الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّل عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (3)
وَقَال تَعَالَى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ
__________
(1) سورة المائدة / 57.
(2) ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 211.
(3) سورة البقرة / 105.(19/76)
أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} . (1) .
وَلِهَذَا وَلِغَيْرِهِ مَنَعَ الْفُقَهَاءُ أَنْ يُسْتَعْمَل الذِّمِّيُّ فِي عَمَلٍ يَخْتَصُّ بِوَضْعِ الْخَرَاجِ وَتَقْدِيرِهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِجِبَايَتِهِ وَنَقْلِهِ، فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ.
فَإِذَا كَانَ يَجْبِيهِ مِنَ الذِّمِّيِّينَ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا، وَإِنْ كَانَتْ مُعَامَلَتُهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِأَيْدِيهِمُ الأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ وَجْهَانِ.
وَالأَْصَحُّ عَدَمُ الْجَوَازِ كَمَا قَال النَّوَوِيُّ (2) .
2 - الْحُرِّيَّةُ:
46 - تُشْتَرَطُ فِي عَامِل الْخَرَاجِ الْمُخْتَصِّ بِتَقْدِيرِ الْخَرَاجِ وَوَضْعِهِ الْحُرِّيَّةُ. وَلِذَا فَلاَ يُوَلَّى الْعَبْدُ تَقْدِيرَ الْخَرَاجِ وَوَضْعَهُ؛ لأَِنَّ هَذَا الْعَمَل وِلاَيَةٌ شَرْعِيَّةٌ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَامِل جَابِيًا فَتُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ إِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ فِي هَذَا الْعَمَل إِلاَّ عَنِ اسْتِنَابَةٍ، وَلاَ تُشْتَرَطُ إِنِ اسْتَغْنَى عَنِ الاِسْتِنَابَةِ، لأَِنَّهُ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالرَّسُول لِلْمَأْمُورِ. (3)
3 - الأَْمَانَةُ:
47 - تُشْتَرَطُ فِي عَامِل الْخَرَاجِ الأَْمَانَةُ. وَلِذَا فَلاَ
__________
(1) سورة الممتحنة / 2.
(2) النووي: روضة الطالبين - المكتب الإسلامي ببيروت 6 / 367 الماوردي: الأحكام السلطانية ص 130، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 140.
(3) المراجع السابقة.(19/77)
يُوَلَّى الْخَائِنُ وَغَيْرُ الثِّقَةِ، لِئَلاَّ يَخُونَ فِيمَا ائْتُمِنَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَغُشُّ فِيمَا قَدِ اسْتُنْصِحَ فِيهِ، قَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُول وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) وَقَال تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي ائْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} . (2)
قَال أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ الَّذِي وَجَّهَهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدِ: وَرَأَيْتُ أَنْ تَتَّخِذَ قَوْمًا مِنْ أَهْل الصَّلاَحِ، وَالدِّينِ، وَالأَْمَانَةِ فَتُوَلِّيهِمُ الْخَرَاجَ. (3)
4 - الْكِفَايَةُ:
48 - تُشْتَرَطُ فِي عَامِل الْخَرَاجِ الْكِفَايَةُ بِحَيْثُ يَكُونُ مُضْطَلِعًا بِالْحِسَابِ، وَالْمِسَاحَةِ، وَكَيْفِيَّةِ خَرْصِ الثِّمَارِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: فَمَنْ رَجُلٌ لَهُ جَزَالَةٌ وَعَقْلٌ يَضَعُ الأَْرْضَ مَوَاضِعَهَا، وَيَضَعُ عَلَى الْعُلُوجِ مَا يَحْتَمِلُونَ. (4) فَأُخْبِرَ بِعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ فَعَيَّنَهُ، لأَِنَّهُ كَانَ ذَا بَصَرٍ وَعَقْلٍ، وَتَجْرِبَةٍ.
قَال ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ - فِي بَيَانِ مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ كِفَايَةُ عَامِل الْخَرَاجِ -:
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَبِيرًا بِحَفْرِ الأَْنْهَارِ، وَمَجَارِي
__________
(1) سورة الأنفال / 27.
(2) سورة البقرة / 283.
(3) أبو يوسف: الخراج ص 106، 110.
(4) أبو يوسف: المرجع السابق ص 27.(19/77)
الْمِيَاهِ، وَأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمِسَاحَاتِ، وَتَخْمِينِ الْغَلاَّتِ، وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِفُصُول السَّنَةِ، وَمَجَارِي الشَّمْسِ، وَأَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِالْحِسَابِ وَكُسُورِهِ وَتَرْتِيبِهِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ دُرْبَةٌ بِعَقْدِ الْجُسُورِ، وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَصَالِحِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ خِبْرَةٌ بِمَا يُدْفَعُ عَنِ الزَّرْعِ فِي الأَْرَاضِي، وَأَنْ يَكُونَ خَبِيرًا بِأَوْقَاتِ الزَّرْعِ وَأَحْوَال الأَْسْعَارِ، وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحُقُوقِ بَيْتِ الْمَال وَمَا يَجِبُ لَهُ. (1)
هَذَا إِنْ تَوَلَّى وَضْعَ الْخَرَاجِ وَتَقْدِيرَهُ، أَمَّا إِنِ اقْتَصَرَتْ مُهِمَّتُهُ عَلَى طَلَبِ جِبَايَتِهِ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ.
5 - الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ:
49 - إِنْ تَوَلَّى وَضْعَ الْخَرَاجِ اعْتُبِرَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا مِنْ أَهْل الاِجْتِهَادِ، وَإِنْ وُلِّيَ جِبَايَةَ الْخَرَاجِ صَحَّتْ وِلاَيَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا مُجْتَهِدًا. (2)
آدَابُ عَامِل الْخَرَاجِ:
1 - الرِّفْقُ بِأَهْل الْخَرَاجِ:
50 - يَنْبَغِي لِعَامِل الْخَرَاجِ أَنْ يَكُونَ رَفِيقًا بِأَهْل الْخَرَاجِ. وَمِنْ مَظَاهِرِ الرِّفْقِ فِي اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ أَيْضًا أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِالْخَرَاجِ كُلَّمَا خَرَجَتْ غَلَّةٌ، فَيَأْخُذَهُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ تَمَامَ الْخَرَاجِ فِي آخِرِ الْغَلَّةِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يُوَزِّعَ الْخَرَاجَ عَلَى
__________
(1) أحمد بن الربيع: سلوك المالك في تدبير الممالك. مطبعة الهدف ببيروت (1978 م) ص 160.
(2) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 152.(19/78)
قَدْرِ الْغَلَّةِ، حَتَّى إِنَّ الأَْرْضَ إِذَا كَانَتْ تُزْرَعُ فِي الرَّبِيعِ وَالْخَرِيفِ قَسَمَ الْخَرَاجَ نِصْفَيْنِ، فَيَأْخُذُ نِصْفَ الْخَرَاجِ مِنْ غَلَّةِ الرَّبِيعِ، وَيُؤَخِّرُ النِّصْفَ الثَّانِيَ إِلَى غَلَّةِ الْخَرِيفِ. (1)
2 - الْعَدْل وَالإِْنْصَافُ:
51 - يَجِبُ عَلَى عَامِل الْخَرَاجِ أَنْ يَكُونَ عَادِلاً فِي وَضْعِ الْخَرَاجِ، وَتَقْدِيرِهِ، فَيُسَاوِي بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ، وَلاَ يُحَابِي الْقَرِيبَ عَلَى الْبَعِيدِ، وَلاَ الشَّرِيفَ عَلَى الْوَضِيعِ، وَيَأْخُذُ مِنْهُمُ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ بِلاَ زِيَادَةٍ وَلاَ نُقْصَانٍ. (2)
3 - الْعِفَّةُ:
52 - يَجِبُ عَلَى عَامِل الْخَرَاجِ أَنْ يَكُونَ عَفِيفَ النَّفْسِ، فَلاَ يَطْلُبُ رِشْوَةً مِنْ أَحَدٍ، وَلاَ يَقْبَل هَدِيَّةً مِنْ أَهْل الْخَرَاجِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَال: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ. (3)
قَال الْخَطَّابِيُّ: الرَّاشِي الْمُعْطِي، وَالْمُرْتَشِي الآْخِذُ. وَإِنَّمَا يَلْحَقُهُمَا الْعُقُوبَةُ مَعًا إِذَا اسْتَوَيَا فِي
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 243، أبو يوسف: الخراج ص 109.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 243.
(3) حديث: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي " أخرجه أبو داود (4 / 9 - 10 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . والترمذي (3 / 614 - ط الحلبي) وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".(19/78)
الْقَصْدِ وَالإِْرَادَةِ. فَرِشَا الْمُعْطِي لِيَنَال بِهِ بَاطِلاً وَيَتَوَصَّل بِهِ إِلَى ظُلْمٍ. فَأَمَّا إِذَا أَعْطَى لِيَتَوَصَّل بِهِ إِلَى حَقٍّ أَوْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ ظُلْمًا، فَإِنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذَا الْوَعِيدِ. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَخَذَ فِي شَيْءٍ وَهُوَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَأَعْطَى دِينَارَيْنِ حَتَّى خُلِّيَ سَبِيلُهُ.
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: لاَ بَأْسَ أَنْ يُصَانِعَ الرَّجُل عَنْ نَفْسِهِ، وَمَالِهِ، إِذَا خَافَ الظُّلْمَ. (1)
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: اسْتَعْمَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً مِنَ الأَْزْدِ يُقَال لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَال: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَال: فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ. (2) ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبِطَيْهِ (3) .
اللَّهُمَّ هَل بَلَّغْتُ. اللَّهُمَّ هَل بَلَّغْتُ. ثَلاَثًا. (4)
__________
(1) الخطابي: معالم السنن 4 / 161.
(2) تيعر: أي تصوت، واليعار: صوت الشاة.
(3) العفرة: بياض ليس بالخالص.
(4) حديث: أبي حميد الساعدي: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 220 ط السلفية) ومسلم (3 / 1464 ط الحلبي) .(19/79)
فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُل عَلَى أَنَّ الْهَدَايَا الَّتِي يُقَدِّمُهَا أَهْل الْخَرَاجِ إِلَى الْعُمَّال حَرَامٌ.
قَال الْخَطَّابِيُّ: فِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ هَدَايَا الْعُمَّال سُحْتٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ سَبِيلُهَا سَبِيل سَائِرِ الْهَدَايَا الْمُبَاحَاتِ، وَإِنَّمَا يُهْدَى إِلَيْهِ لِلْمُحَابَاةِ، وَلِيُخَفِّفَ عَنِ الْمُهْدِي، وَيُسَوِّغَ لَهُ بَعْضَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَهُوَ خِيَانَةٌ مِنْهُ، وَبَخْسٌ لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ اسْتِيفَاؤُهُ لأَِهْلِهِ. (1)
وَاجِبُ الإِْمَامِ تُجَاهَ عُمَّال الْخَرَاجِ:
1 - الرِّقَابَةُ الْفَعَّالَةُ عَلَى عُمَّال الْخَرَاجِ:
53 - لِضَمَانِ تَحْقِيقِ الْعَدْل بَيْنَ النَّاسِ لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ رِقَابَةٌ فَعَّالَةٌ عَلَى عُمَّال الْخَرَاجِ. وَقَدْ نَصَحَ أَبُو يُوسُفَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدَ بِذَلِكَ حَيْثُ قَال: وَأَنَا أَرَى أَنْ تَبْعَثَ قَوْمًا مِنْ أَهْل الصَّلاَحِ وَالْعَفَافِ مِمَّنْ يُوثَقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ يَسْأَلُونَ عَنْ سِيرَةِ الْعُمَّال وَمَا عَمِلُوا بِهِ فِي الْبِلاَدِ وَكَيْفَ جَبَوْا الْخَرَاجَ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ، وَعَلَى مَا وُظِّفَ عَلَى أَهْل الْخَرَاجِ وَاسْتَقَرَّ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَكَ وَصَحَّ، أُخِذُوا بِمَا اسْتَفْضَلُوا مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الأَْخْذِ حَتَّى يُؤَدُّوهُ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ الْمُوجِعَةِ وَالنَّكَال حَتَّى لاَ يَتَعَدَّوْا مَا أُمِرُوا بِهِ وَمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ فِيهِ. فَإِنَّ كُل مَا عَمِل بِهِ وَالِي الْخَرَاجِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْعَسْفِ فَإِنَّمَا يُحْمَل عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ بِهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ أَحْلَلْتَ بِوَاحِدٍ
__________
(1) الخطابي: معالم السنن 3 / 8.(19/79)
مِنْهُمُ الْعُقُوبَةَ الْمُوجِعَةَ انْتَهَى غَيْرُهُ وَاتَّقَى وَخَافَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَل هَذَا بِهِمْ تَعَدَّوْا عَلَى أَهْل الْخَرَاجِ وَاجْتَرَءُوا عَلَى ظُلْمِهِمْ وَتَعَسُّفِهِمْ وَأَخْذِهِمْ بِمَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ. وَإِذَا صَحَّ عِنْدَكَ مِنَ الْعَامِل وَالْوَالِي تَعَدٍّ بِظُلْمٍ وَعَسْفٍ وَخِيَانَةٍ لَكَ فِي رَعِيَّتِكَ وَاحْتِجَازِ شَيْءٍ مِنَ الْفَيْءِ، أَوْ خَبَثِ طُعْمَتِهِ، أَوْ سُوءِ سِيرَتِهِ فَحَرَامٌ عَلَيْكَ اسْتِعْمَالُهُ، وَالاِسْتِعَانَةُ بِهِ، وَأَنْ تُقَلِّدَهُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ رَعِيَّتِكَ، أَوْ تُشْرِكَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ. بَل عَاقِبْهُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُ غَيْرَهُ مِنْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمِثْل مَا تَعَرَّضَ لَهُ، وَإِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا دَعْوَةٌ مُجَابَةٌ. (1)
2 - ضَرُورَةُ مَنْحِ عُمَّال الْخَرَاجِ رَوَاتِبَ تَكْفِيهِمْ:
54 - لاِجْتِنَابِ وُقُوعِ عُمَّال الْخَرَاجِ فِي الرِّشْوَةِ وَأَكْل أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل، لاَ بُدَّ أَنْ تُصْرَفَ لَهُمْ أُجُورٌ " رَوَاتِبُ " مُجْزِيَةٌ تَفِي بِحَاجَاتِهِمْ وَتَكْفِي نَفَقَاتِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ: أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَال لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: دَنَّسْتَ أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال لَهُ عُمَرُ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ إِذَا لَمْ أَسْتَعِنْ بِأَهْل الدِّينِ عَلَى سَلاَمَةِ دِينِي فَبِمَنْ أَسْتَعِينُ؟ قَال: أَمَا إِنْ فَعَلْتَ فَأَغْنِهِمْ بِالْعِمَالَةِ عَنِ الْخِيَانَةِ.
يَقُول: إِذَا اسْتَعْمَلْتَهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَأَجْزِل لَهُمْ فِي الْعَطَاءِ وَالرِّزْقِ، لاَ يَحْتَاجُونَ (2) .
__________
(1) أبو يوسف: الخراج ص 11.
(2) نفس المرجع ص 113.(19/80)
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: نِظَامُ التَّقْبِيل " التَّضْمِينِ ":
55 - نَشَأَ عَنْ تَطْبِيقِ الْخَرَاجِ بَعْضُ الظَّوَاهِرِ الاِقْتِصَادِيَّةِ، كَنِظَامِ التَّقْبِيل " التَّضْمِينِ " حَيْثُ بَدَأَ وُجُودُ هَذَا النِّظَامِ فِي الْعَصْرِ الأُْمَوِيِّ، وَانْتَشَرَ فِي الْعَصْرِ الْعَبَّاسِيِّ. وَمِنَ الأَْمْثِلَةِ عَلَى تَطْبِيقِ هَذَا النِّظَامِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ كَتَبَ إِلَى نَوْفَل بْنِ الْفُرَاتِ - عَامِل خَرَاجِ مِصْرَ - سَنَةَ 141 هـ أَنِ اعْرِضْ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الأَْشْعَثِ ضَمَانَ خَرَاجِ مِصْرَ. فَإِنْ ضَمِنَهُ فَأَشْهِدْ عَلَيْهِ، وَاشْخُصْ إِلَيَّ (أَيْ عُدْ أَنْتَ إِلَيَّ) وَإِنْ أَبَى فَاعْمَل عَلَى الْخَرَاجِ. فَعَرَضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَأَبَى (1) .
وَالتَّقْبِيل فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ قَبَّل أَيْ كَفَل، يُقَال قَبَل (بِالْفَتْحِ) إِذَا كَفَل أَوْ قَبُل (بِالضَّمِّ) إِذَا صَارَ قَبِيلاً أَيْ كَفِيلاً. (2)
وَالتَّقْبِيل فِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ يَتَكَفَّل شَخْصٌ بِتَحْصِيل الْخَرَاجِ، وَأَخْذِهِ لِنَفْسِهِ مُقَابِل قَدْرٍ مُحَدَّدٍ يَدْفَعُهُ. وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِاسْمِ نِظَامِ الاِلْتِزَامِ. وَقَدْ عَرَّفَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَتَقَبَّل الرَّجُل النَّخْل وَالشَّجَرَ، وَالزَّرْعَ النَّابِتَ، قَبْل أَنْ يُسْتَحْصَدَ وَيُدْرَكَ (3) .
__________
(1) المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار دار صادر ببيروت 1 / 306.
(2) ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث - دار الفكر ببيروت 4 / 10.
(3) أبو عبيد: الأموال ص 100(19/80)
حُكْمُ التَّقْبِيل " التَّضْمِينِ ":
56 - لَمْ يَرْتَضِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ هَذَا النِّظَامَ وَاعْتَبَرُوهُ بَاطِلاً غَيْرَ مَشْرُوعٍ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ. (1) قَال الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا تَضْمِينُ الْعُمَّال لأَِمْوَال الْعُشْرِ، وَالْخَرَاجِ، فَبَاطِلٌ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي الشَّرْعِ حُكْمٌ. (2)
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ - بِسَنَدِهِ - إِلَى جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ قَال: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُول: الْقَبَالاَتُ رِبًا وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: الْقَبَالاَتُ حَرَامٌ (3) قَال أَحْمَدُ: هُوَ أَنْ يَتَقَبَّل بِالْقَرْيَةِ وَفِيهَا الْعُلُوجُ وَالنَّخْل، وَمَعْنَاهُ حُكْمُهُ حُكْمُ الرِّبَا (4) وَقَالُوا: يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا النِّظَامِ الظُّلْمُ وَالْعَسْفُ، وَخَرَابُ الدِّيَارِ. وَقَدْ كَتَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ يُحَذِّرُهُ مِنْ تَطْبِيقِ هَذَا النِّظَامِ مَا نَصُّهُ: وَرَأَيْتُ أَنْ لاَ تَقْبَل شَيْئًا مِنَ السَّوَادِ وَلاَ غَيْرِ السَّوَادِ مِنَ الْبِلاَدِ، فَإِنَّ الْمُتَقَبِّل إِذَا كَانَ فِي قَبَالَتِهِ فَضْلٌ عَنِ الْخَرَاجِ، عَسَفَ بِأَهْل الْخَرَاجِ وَحَمَّل عَلَيْهِمْ مَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ،
__________
(1) أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 186، أبو يوسف: الخراج ص 105، أبو عبيد: الأموال ص 100، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 176.
(2) الماوردي: المرجع السابق.
(3) أبو عبيد: المرجع السابق.
(4) الفراء: المرجع السابق.(19/81)
وَظَلَمَهُمْ، وَأَخَذَهُمْ بِمَا يُجْحِفُ بِهِمْ لِيَسْلَمَ مِمَّا دَخَل فِيهِ، وَفِي ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ خَرَابُ الْبِلاَدِ وَهَلاَكُ الرَّعِيَّةِ.
وَالْمُتَقَبِّل لاَ يُبَالِي بِهَلاَكِهِمْ بِصَلاَحِ أَمْرِهِ فِي قَبَالَتِهِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَفْضِل بَعْدَ أَنْ يَتَقَبَّل بِهِ فَضْلاً كَثِيرًا، وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِشِدَّةٍ مِنْهُ عَلَى الرَّعِيَّةِ وَضَرْبٍ لَهُمْ شَدِيدٍ، وَإِقَامَتِهِ لَهُمْ فِي الشَّمْسِ وَتَعْلِيقِ الْحِجَارَةِ فِي الأَْعْنَاقِ، وَعَذَابٍ عَظِيمٍ يَنَال أَهْل الْخَرَاجِ مِمَّا لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَكْرَهُ الْقَبَالَةَ، لأَِنِّي لاَ آمَنُ أَنْ يَحْمِل هَذَا الْمُتَقَبِّل عَلَى أَهْل الْخَرَاجِ مَا لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَيُعَامِلَهُمْ بِمَا وَصَفْتُ لَكَ فَيَضُرَّ ذَلِكَ بِهِمْ فَيُخَرِّبُوا مَا عَمَّرُوا، وَيَدَعُوهُ فَيَنْكَسِرَ الْخَرَاجُ. (1)
وَالأَْصْل فِي كَرَاهَتِهِ هَذَا أَنَّهُ بَيْعُ ثَمَرٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ، وَلَمْ يُخْلَقْ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، فَأَمَّا الْمُعَامَلَةُ عَلَى الثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ، وَكِرَاءُ الأَْرْضِ الْبَيْضَاءِ، فَلَيْسَتَا مِنَ الْقَبَالاَتِ وَلاَ يَدْخُلاَنِ فِيهِمَا، وَقَدْ رُخِّصَ فِي هَذَيْنِ، وَلاَ نَعْلَمُ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَةِ الْقَبَالَةِ.
فَإِذَا أَمِنَ الإِْمَامُ عَدَمَ الظُّلْمِ، وَالْجَوْرِ، وَالْعَسْفِ وَرَضِيَ أَهْل الْخَرَاجِ بِهَذَا النِّظَامِ، فَقَدْ قَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ جَاءَ أَهْل طَسُّوجٍ - نَاحِيَةٍ - أَوْ مِصْرٍ مِنَ الأَْمْصَارِ وَمَعَهُمْ
__________
(1) أبو يوسف: الخراج ص 105 - 106.(19/81)
رَجُلٌ مِنَ الْبَلَدِ الْمَعْرُوفِ مُوسِرٌ، فَقَالُوا: هَذَا أَخَفُّ عَلَيْنَا، نُظِرَ فِي ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ صَلاَحًا لأَِهْل هَذَا الْبَلَدِ وَالطَّسُّوجِ، قُبِل وَضُمِنَ وَأُشْهِدَ عَلَيْهِ وَصِيرَ مَعَهُ أَمِيرٌ مِنْ قِبَل الإِْمَامِ يُوثَقُ بِدِينِهِ، وَأَمَانَتِهِ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَال، فَإِنْ أَرَادَ ظُلْمَ أَحَدٍ مِنْ أَهْل الْخَرَاجِ، أَوِ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ أَوْ تَحْمِيلَهُ شَيْئًا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ، مَنَعَهُ الأَْمِيرُ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْمَنْعِ.
وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَى عَيْنًا بِمَا رَأَى مِنْ ذَلِكَ، وَمَا رَأَى أَنَّهُ أَصْلَحُ لأَِهْل الْخَرَاجِ، وَأَوْفَرُ عَلَى بَيْتِ الْمَال عَمِل عَلَيْهِ مِنَ الْقَبَالَةِ، وَالْوِلاَيَةِ بَعْدَ الإِْعْذَارِ وَالتَّقَدُّمِ إِلَى الْمُتَقَبِّل، وَالْوَالِي يَرْفَعُ الظُّلْمَ عَنِ الرَّعِيَّةِ، وَالْوَعِيدُ لَهُ إِنْ حَمَّلَهُمْ مَا لاَ طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، أَوْ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ فَعَل فَفُوا لَهُ بِمَا أَوْعَدَ بِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ زَاجِرًا وَنَاهِيًا لِغَيْرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. (1)
(وَسَيَأْتِي التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: قَبَالَةٌ) .
مُسْقِطَاتُ الْخَرَاجِ:
أَوَّلاً: انْعِدَامُ صَلاَحِيَّةِ الأَْرْضِ لِلزِّرَاعَةِ:
57 - الْمَقْصُودُ بِانْعِدَامِ صَلاَحِيَّةِ الأَْرْضِ لِلزِّرَاعَةِ هُوَ أَنْ يَطْرَأَ عَلَى الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ طَارِئٌ خَارِجٌ عَنْ فِعْل الإِْنْسَانِ، يَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنَ الاِنْتِفَاعِ
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص 105 و 106 والأموال لأبي عبيد ص 71.(19/82)
بِهَا كَانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهَا، أَوْ غَلَبَتِهِ عَلَيْهَا بِحَيْثُ تُصْبِحُ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلزِّرَاعَةِ.
فَإِذَا تَعَرَّضَتِ الأَْرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ لِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهَا الْخَرَاجُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخَرَاجُ الْوَاجِبُ مُقَاسَمَةً، أَمْ وَظِيفَةً، فَيَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ؛ لأَِنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ حَقِيقَةً وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ. وَيَسْقُطُ خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ؛ لأَِنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالأَْرْضِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ. (1)
هَذَا فِي حَالَةِ عَدَمِ إِمْكَانِيَّةِ إِصْلاَحِهَا وَإِعْمَارِهَا، أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ إِصْلاَحُهَا وَإِعْمَارُهَا فَيَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَعْمُرَ الأَْرْضَ وَيُصْلِحَهَا مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَلاَ يَجُوزُ إِلْزَامُ أَهْلِهَا بِعِمَارَتِهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
فَإِنْ سَأَلَهُمْ أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَيَعْتَدُّ لَهُمْ بِمَا أَنْفَقُوا عَلَيْهَا مِنْ خَرَاجِهَا فَرَضُوا بِذَلِكَ جَازَ.
وَإِذَا كَانَ سَهْمُ الْمَصَالِحِ عَاجِزًا عَنْ سَدِّ نَفَقَاتِ إِصْلاَحِ هَذِهِ الأَْرْضِ أُجْبِرَ أَهْلُهَا عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَهُمْ وَلأَِصْحَابِ الْفَيْءِ، وَإِنْ أَمْكَنَ الاِنْتِفَاعُ بِتِلْكَ الأَْرْضِ بَعْدَ أَنْ بَارَتْ فِي
__________
(1) (1) حاشية ابن عابدين 4 / 190، الكمال بن الهمام: فتح القدير 5 / 284، الزيلعي: تبيين الحقائق 3 / 274، الباجي: المنتقى 3 / 222، الماوردي: الأحكام السلطانية ص150، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 168، البهوتي: منتهى الإرادات 2 / 119، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 116.(19/82)
غَيْرِ الزِّرَاعَةِ كَالرَّعْيِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، يُوضَعُ عَلَيْهَا خَرَاجٌ جَدِيدٌ بِحَسَبِ مَا تَحْتَمِلُهُ.
وَهَذِهِ الأَْرْضُ تَخْتَلِفُ عَنْ أَرْضِ الْمَوَاتِ، فَإِنَّ أَرْضَ الْمَوَاتِ مُبَاحَةٌ. (1)
ثَانِيًا: تَعْطِيل الأَْرْضِ عَنِ الزِّرَاعَةِ:
58 - إِنْ كَانَ التَّعْطِيل مِنْ غَيْرِ جِهَةِ صَاحِبِ الأَْرْضِ، كَأَنْ يَدْهَمَ الْبِلاَدَ عَدُوٌّ يَمْنَعُ أَهْل الأَْرْضِ مِنْ زِرَاعَتِهَا وَالاِنْتِفَاعِ بِهَا، أَوْ يَلْحَقَهُمْ جَوْرٌ مِنَ الْوُلاَةِ لَمْ تُمْكِنْهُمُ الإِْقَامَةُ عَلَيْهِ. فَهَذَا يُسْقِطُ الْخَرَاجَ عَنْهُمْ حَتَّى تَعُودَ الأَْرْضُ كَمَا كَانَتْ وَيَتَمَكَّنُوا مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهَا. (2)
وَإِنْ كَانَ التَّعْطِيل مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الأَْرْضِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ، أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ.
فَإِذَا عَطَّلَهَا بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ كَأَنْ يَتْرُكَهَا بِلاَ زِرَاعَةٍ وَاسْتِغْلاَلٍ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهَا، وَقَادِرٌ عَلَى زِرَاعَتِهَا سَقَطَ عَنْهُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ اتِّفَاقًا، وَذَلِكَ لأَِنَّ خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ حَقِيقَةً وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ. (3)
وَلاَ يُقِرُّ الْمُفَرِّطُ عَلَى عَدَمِ اسْتِغْلاَلِهِ لِلأَْرْضِ
__________
(1) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 150، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 117.
(2) المرجعان السابقان.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 191، الزيلعي: تبيين الحقائق 3 / 274 - 275، الباجي: المنتقى 3 / 224، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 150، الفراء: الأحكام السلطانية ص 172، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 124.(19/83)
الْخَرَاجِيَّةِ، بَل يُؤْمَرُ بِزِرَاعَتِهَا وَاسْتِغْلاَلِهَا لِئَلاَّ يَتَضَرَّرَ أَصْحَابُ الْفَيْءِ.
وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَلاَ يَسْقُطُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالأَْرْضِ وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَلأَِنَّ الْخَرَاجَ بِمَنْزِلَةِ الإِْجَارَةِ فَإِذَا عَطَّل الْمُسْتَأْجِرُ الاِنْتِفَاعَ بِالْمُؤَجَّرِ لَمْ تَسْقُطِ الأُْجْرَةُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ بِتَعْطِيل الأَْرْضِ عَنِ الزِّرَاعَةِ، سَوَاءٌ عَطَّلَهَا مُخْتَارًا أَمْ مَعْذُورًا، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الاِنْتِفَاعِ بِالأَْرْضِ. (1)
وَإِذَا عَطَّلَهَا بِلاَ تَفْرِيطٍ مِنْهُ كَأَنْ تَرَكَ زِرَاعَتَهَا لِعَدَمِ قُوَّتِهَا وَقُدْرَتِهِ الْجِسْمِيَّةِ، أَوْ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى تَحَمُّل تَكَالِيفِ الزِّرَاعَةِ وَنَفَقَاتِهَا يَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ حَقِيقَةً. (2)
وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَيَسْقُطُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الاِنْتِفَاعِ بِالأَْرْضِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْخَرَاجِ.
وَعَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الأَْرْضِ تَصَرُّفًا يُحَقِّقُ الْمَصْلَحَةَ لأَِهْل الْفَيْءِ، وَلِصَاحِبِ الأَْرْضِ.
وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ: مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مِنْ أَنَّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَأْمُرَ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) المراجع السابقة.(19/83)
صَاحِبَ الأَْرْضِ بِتَأْجِيرِهَا لِمَنْ يَقُومُ بِزِرَاعَتِهَا وَإِلاَّ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهَا، وَلاَ تُتْرَكُ بِيَدِهِ خَرَابًا وَإِنْ دَفَعَ خَرَاجَهَا، لِئَلاَّ تَصِيرَ بِالْخَرَابِ مَوَاتًا، فَيَتَضَرَّرَ أَهْل الْفَيْءِ بِتَعْطِيلِهَا. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الإِْمَامُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ دَفَعَ الأَْرْضَ لِغَيْرِ صَاحِبِهَا مُزَارَعَةً، وَيَأْخُذُ الْخَرَاجَ مِنْ نَصِيبِهِ وَيُمْسِكُ الْبَاقِيَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ آجَرَهَا وَأَخَذَ الْخَرَاجَ مِنَ الأُْجْرَةِ، وَإِنْ شَاءَ زَرَعَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَال فَإِذَا حَصَلَتِ الْغَلَّةُ أَخَذَ قَدْرَ الْخَرَاجِ وَمَا أَنْفَقَ، وَيَحْفَظُ الْبَاقِيَ لِمُسْتَغِل الأَْرْضِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لِلإِْمَامِ أَنْ يَدْفَعَ لِلْعَاجِزِ كِفَايَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَال قَرْضًا لِيَعْمَل وَيَسْتَغِل أَرْضَهُ.
فَإِذَا لَمْ يَجِدِ الإِْمَامُ مَنْ يَعْمَل فِي تِلْكَ الأَْرْضِ مُزَارَعَةً أَوْ بِالأُْجْرَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَيَرَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بَيْعَهَا وَأَخْذَ الْخَرَاجِ مِنْ ثَمَنِهَا، وَيُحْفَظُ الْبَاقِي لِمُسْتَغِل الأَْرْضِ.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِهَا، وَإِنَّمَا يَحْجُرُهَا لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، مَعَ أَنَّهُ لاَ يَرَى جَوَازَ الْحَجْرِ عَلَى الْكَبِيرِ إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْحَجْرَ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْعَامَّةِ. (2)
__________
(1) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 152، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 172، البهوتي: كشاف القناع 3 / 99، ابن القيم أحكام أهل الذمة 1 / 124.
(2) الفتاوى الهندية 2 / 240 - 241، حاشية ابن عابدين 4 / 191.(19/84)
ثَالِثًا: هَلاَكُ الزَّرْعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ:
59 - إِذَا زَرَعَ صَاحِبُ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَرْضَهُ بِزَرْعٍ مَا، فَأَصَابَتْهُ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهَا، كَغَرَقٍ، أَوْ حَرْقٍ، أَوْ شِدَّةِ بَرْدٍ، أَوْ جَرَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْهَلاَكُ قَبْل الْحَصَادِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ.
أ - فَإِذَا هَلَكَ الزَّرْعُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ قَبْل الْحَصَادِ يَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ إِذَا أَدَّتْ تِلْكَ الآْفَةُ إِلَى هَلاَكِ جَمِيعِ الزَّرْعِ؛ لأَِنَّ خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ حَقِيقَةً.
وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَيَسْقُطُ عَنْ صَاحِبِ الأَْرْضِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ مُصَابٌ وَيَسْتَحِقُّ الْمَعُونَةَ؛ وَلأَِنَّ الْخَرَاجَ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ بِاعْتِبَارِ الأَْرَاضِي، فَلاَ يُمْكِنُ إِيجَابُهَا بَعْدَ هَلاَكِ الزَّرْعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ؛ لأَِنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ اسْتِغْلاَل الأَْرْضِ.
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِسُقُوطِ الْخَرَاجِ بِهَذَا السَّبَبِ شَرْطَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ لاَ تَبْقَى مِنَ السَّنَةِ مُدَّةٌ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ زِرَاعَةِ الأَْرْضِ مَرَّةً أُخْرَى، فَإِنْ بَقِيَتْ مِنَ السَّنَةِ مُدَّةٌ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ أَنْ يَزْرَعَ الأَْرْضَ ثَانِيَةً لَمْ يَسْقُطِ الْخَرَاجُ لِتَحَقُّقِ الاِنْتِفَاعِ بِالأَْرْضِ، وَقَدَّرُوا الْمُدَّةَ بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ لاَ يَبْقَى مِنَ الزَّرْعِ ضِعْفُ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ عَلَى الأَْرْضِ، فَإِنْ بَقِيَ مِنَ الزَّرْعِ ضِعْفُ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ عَلَى الأَْرْضِ لَمْ(19/84)
يَسْقُطِ الْخَرَاجُ وَيُؤْخَذُ مِنَ الزَّارِعِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ. وَإِنْ بَقِيَ أَقَل مِنْ ضِعْفِ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ عَلَى الأَْرْضِ لاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخَرَاجُ الْمُوَظَّفُ، وَيُكْتَفَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِأَخْذِ نِصْفِ الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ بَعْدَ خَصْمِ نَفَقَاتِ الزِّرَاعَةِ. (1)
هَذَا مَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ب - إِذَا هَلَكَ الْخَارِجُ مِنَ الأَْرْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهَا، كَغَرَقٍ، وَحَرْقٍ يَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ، لِتَعَلُّقِهِ بِالْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ حَقِيقَةً.
جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: وَلَوْ هَلَكَ الْخَارِجُ فِي خَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ قَبْل الْحَصَادِ أَوْ بَعْدَهُ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الشَّرِيكِ شَرِكَةَ الْمِلْكِ فَلاَ يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي. (2)
وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَلاَ يَسْقُطُ بِهَلاَكِ الْخَارِجِ
__________
(1) الكمال بن الهمام: فتح القدير 5 / 284، السرخسي: المبسوط 10 / 83، حاشية ابن عابدين 4 / 190، داماد: مجمع الأنهر 1 / 668، الفتاوى الهندية 2 / 242، ابن عبد البر: الكافي - مكتبة الرياض الحديثة ط 2 - 1400هـ 2 / 761، روضة الطالبين 5 / 240، الشربيني الخطيب: مغني المحتاج 2 / 355، ابن قدامة: المغني 5 / 486، ابن مفلح: المبدع 5 / 106.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 190.(19/85)
بَعْدَ الْحَصَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ خَرَاجَ الْوَظِيفَةِ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالأَْرْضِ وَزِرَاعَتِهَا، وَبِالْحَصَادِ قَدْ تَحَقَّقَ الاِنْتِفَاعُ بِالأَْرْضِ، وَحَصَلَتِ الزِّرَاعَةُ بِالْفِعْل فَلاَ يَسْقُطُ الْخَرَاجُ الْمُوَظَّفُ بِهَلاَكِ الْخَارِجِ بَعْدَ الْحَصَادِ.
جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: ذَكَرَ شَيْخُ الإِْسْلاَمِ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ هَلاَكَ الْخَارِجِ قَبْل الْحَصَادِ يُسْقِطُ الْخَرَاجَ، وَهَلاَكُهُ بَعْدَ الْحَصَادِ لاَ يُسْقِطُهُ. (1) وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى كَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَلَمْ نَقِفْ لَهُمْ عَلَى نُصُوصٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
رَابِعًا: إِسْقَاطُ الإِْمَامِ لِلْخَرَاجِ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ
60 - إِذَا رَأَى الإِْمَامُ إِسْقَاطَ الْخَرَاجِ عَمَّنْ بِيَدِهِ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ لِمَصْلَحَةٍ، أَوْ لِكَوْنِ مَنْ بِيَدِهِ تِلْكَ الأَْرْضُ يَقُومُ بِعَمَلٍ مِنَ الأَْعْمَال الَّتِي يَحْتَاجُهَا الْمُسْلِمُونَ، كَالْقَضَاءِ، أَوِ التَّدْرِيسِ، أَوْ حِمَايَةِ الثُّغُورِ الإِْسْلاَمِيَّةِ، أَوِ التَّجَسُّسِ عَلَى الأَْعْدَاءِ لِمَعْرِفَةِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ وَسَائِل الْقُوَّةِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
فَهَل يَجُوزُ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنَ الإِْمَامِ أَوْ لاَ؟ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الإِْمَامَ لَهُ حَقُّ النَّظَرِ فِي مَصَالِحِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 242.(19/85)
الْمُسْلِمِينَ، وَفِعْل مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي قَرَّرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ أَنَّ: (تَصَرُّفَ الإِْمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ) (1) وَقَالُوا: لَوْ صَارَ الْخَرَاجُ فِي يَدِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ شَخْصًا إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ فَجَازَ لَهُ تَرْكُهُ بِطَرِيقِ الأَْوْلَى؛ وَلأَِنَّ صَاحِبَ الْخَرَاجِ لَهُ حَقٌّ فِي الْخَرَاجِ فَصَحَّ تَرْكُهُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الَّذِي يَنْوِي الإِْمَامُ إِسْقَاطَ الْخَرَاجِ عَنْهُ، مِمَّنْ يَسْتَحِقُّونَ الْخَرَاجَ كَالْفَقِيهِ وَالْجُنْدِيِّ، وَالْقَاضِي، وَالْمُؤَذِّنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (2)
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ إِسْقَاطُ الْخَرَاجِ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْخَرَاجَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ إِسْقَاطُهُ كَالْعُشْرِ (3) . وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَلَمْ نَقِفْ لَهُمْ عَلَى نُصُوصٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
__________
(1) ابن نجيم: الأشباه والنظائر - طبعة مؤسسة الحلبي بالقاهرة 1387 هـ - 1968 م ص 123، الزركشي: المنثور في القواعد - مطبعة الفليج بالكويت من منشورات وزارة الأوقاف الكويتية ط 1 - 1402هـ 1982 م 1 / 309.
(2) البهوتي: كشاف القناع 3 / 100، ابن مفلح: المبدع 3 / 383، حاشية ابن عابدين 4 / 193، الفتاوى الهندية 2 / 240، أبو يوسف: الخراج ص 86، عبد العزيز الرحبي: الرتاج المرصد على خزانة كتاب الخراج - مطبعة الإرشاد ببغداد 1975م 1 / 589.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 193، الفتاوى الهندية 2 / 240.(19/86)
خَامِسًا: الْبِنَاءُ عَلَى الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ:
61 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِمْرَارِ وَظِيفَةِ الْخَرَاجِ عَلَى الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ بَعْدَ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا أَبْنِيَةٌ وَحَوَانِيتُ.
1 - فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى اسْتِمْرَارِ وُجُوبِ الْخَرَاجِ وَعَدَمِ سُقُوطِهِ عَنْ تِلْكَ الأَْرْضِ، لأَِنَّ الْخَرَاجَ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ (1) . رَوَى يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ أَنَّهُ سَأَل أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، تَرَى أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُل عَمَّا فِي يَدِهِ مِنْ دَارٍ، أَوْ ضَيْعَةٍ عَلَى مَا وَظَّفَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى كُل جَرِيبٍ فَيَتَصَدَّقَ بِهِ؟ فَقَال مَا أَجْوَدُ هَذَا. فَقَال يَعْقُوبُ: بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ تُعْطِي مِنْ دَارِكَ الْخَرَاجَ فَتَتَصَدَّقُ بِهِ. فَقَال: نَعَمْ. وَقَدْ عَلَّل عُلَمَاءُ الْحَنَابِلَةِ فِعْل أَحْمَدَ بِقَوْلِهِمْ: (إِنَّمَا كَانَ أَحْمَدُ يَفْعَل ذَلِكَ لأَِنَّ بَغْدَادَ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ الَّتِي وَضَعَ عَلَيْهَا عُمَرُ الْخَرَاجَ، فَلَمَّا بُنِيَتْ مَسَاكِنُ، رَاعَى أَحْمَدُ حَالَهَا الأُْولَى الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) . (2)
2 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الْخَرَاجِ عَنِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ بَعْدَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا مَنْ هِيَ بِيَدِهِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 189، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 151 أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 170 البهوتي: كشاف القناع 3 / 98، ابن مفلح: المبدع 3 / 383.
(2) ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 120.(19/86)
أَبْنِيَةً وَحَوَانِيتَ، وَلاَ يَجِبُ الْخَرَاجُ عَلَى الأَْرْضِ إِلاَّ إِذَا جَعَلَهَا بُسْتَانًا، أَوْ مَزْرَعَةً؛ لأَِنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِنَمَاءِ الأَْرْضِ وَغَلَّتِهَا. (1)
3 - وَيَرَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ عَنِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا مَنْ هِيَ بِيَدِهِ أَبْنِيَةً ضَرُورِيَّةً لاَ غِنًى لَهُ عَنْهَا. كَأَنْ يَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا يَسْكُنُهُ. وَأَمَّا الأَْبْنِيَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ فَلاَ تَكُونُ سَبَبًا فِي سُقُوطِ الْخَرَاجِ عَنِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ كَأَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا أَبْنِيَةً لِلاِسْتِغْلاَل وَالنَّمَاءِ (2) .
سَادِسًا: إِسْلاَمُ مَالِكِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَوِ
انْتِقَالُهَا إِلَى مُسْلِمٍ:
62 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَرَاجَ الْعَنْوِيَّ لاَ يَسْقُطُ عَنِ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ بِإِسْلاَمِ صَاحِبِهَا وَلاَ بِانْتِقَالِهَا إِلَى مُسْلِمٍ؛ لأَِنَّ الأَْرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً مَوْقُوفَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَيْهَا بِمَثَابَةِ الأُْجْرَةِ فَلاَ يَسْقُطُ بِإِسْلاَمِ مَنْ بِيَدِهِ هَذِهِ الأَْرْضُ وَلاَ بِانْتِقَالِهَا إِلَى مُسْلِمٍ (3) .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ (الْمَضْرُوبِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 240.
(2) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 151.
(3) السرخسي: المبسوط 10 / 80، الباجي: المنتقى 3 / 224، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 147، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 102.(19/87)
عَلَى الأَْرْضِ الَّتِي صَالَحَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَهَا عَلَى أَنَّ لَهُمُ الأَْرْضَ وَلِلْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجَ) هَل يَسْقُطُ بَعْدَ إِسْلاَمِ صَاحِبِهَا، أَوِ انْتِقَالِهَا إِلَى مُسْلِمٍ:
1 - فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى سُقُوطِ الْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ إِذَا أَسْلَمَ صَاحِبُ الأَْرْضِ، أَوِ انْتَقَلَتْ إِلَى مُسْلِمٍ، لِمَا رَوَى الْعَلاَءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ قَال: بَعَثَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، أَوْ إِلَى هَجَرَ، فَكُنْتُ آتِي الْحَائِطَ يَكُونُ بَيْنَ الإِْخْوَةِ يُسْلِمُ أَحَدُهُمْ، فَآخُذُ مِنَ الْمُسْلِمِ الْعُشْرَ، وَمِنَ الْمُشْرِكِ الْخَرَاجَ. (1) وَلأَِنَّ الْخَرَاجَ الصُّلْحِيَّ بِمَثَابَةِ الْجِزْيَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْكُفْرِ، فَإِذَا زَال الْكُفْرُ سَقَطَ الْخَرَاجُ كَمَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ. (2)
2 - وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ قِيَاسًا عَلَى الْخَرَاجِ الْعَنْوِيِّ؛ وَلأَِنَّ الْخَرَاجَ مُؤْنَةُ الأَْرْضِ، وَالأَْصْل فِيهَا أَنَّهَا لاَ تَتَغَيَّرُ بِتَبَدُّل الْمَالِكِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، فَإِذَا أَسْلَمَ صَاحِبُ الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَوْ بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ فَلاَ ضَرُورَةَ
__________
(1) حديث العلاء بن الحضرمي: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البحرين. . . . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 586 - ط الحلبي) ، وأعله البوصيري في الزوائد بجهالة راويين فيه وبانقطاع فيه.
(2) الحطاب: مواهب الجليل 2 / 278، ابن عبد البر: الكافي 1 / 482، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 147، أبو عبد الله الدمشقي: رحمة الأمة على هامش الميزان 2 / 174، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 169، ابن قدامة: المغني 2 / 725.(19/87)
لِتَغَيُّرِ الْمُؤْنَةِ؛ لأَِنَّ الْمُسْلِمَ مِنْ أَهْل وُجُوبِ الْخَرَاجِ - أَيْ فِي الْجُمْلَةِ - (1)
اجْتِمَاعُ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ:
63 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي يَمْلِكُ الأَْرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ يُطَالَبُ بِالزَّكَاةِ " الْعُشْرِ " وَالْخَرَاجِ مَعًا إِذَا زَرَعَهَا أَوِ انْتَفَعَ بِهَا.
وَاسْتَدَلُّوا لاِجْتِمَاعِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ} . (2) فَالآْيَةُ عَامَّةٌ فِي كُل أَرْضٍ يُنْتَفَعُ بِهَا وَتُزْرَعُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ خَرَاجِيَّةً، أَوْ عُشْرِيَّةً، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا (3) الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ. (4) وَلأَِنَّ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ ذَاتًا، وَسَبَبًا، وَمَصْرِفًا، وَدَلِيلاً: أَمَّا اخْتِلاَفُهُمَا ذَاتًا فَلأَِنَّ الْعُشْرَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَالْخَرَاجُ فِيهِ
__________
(1) السرخسي: المبسوط 10 / 80، الكمال بن الهمام: فتح القدير 5 / 285، الزيلعي: تبيين الحقائق 3 / 271، أبو يوسف: الخراج ص 63، 69، الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 928.
(2) سورة البقرة / 267.
(3) العثري: ما يشرب بعروقه من ماء المطر المجتمع في حفيرة.
(4) حديث: " فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 247 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمر.(19/88)
مَعْنَى الْعُقُوبَةِ. وَأَمَّا اخْتِلاَفُهُمَا سَبَبًا فَلأَِنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ مِنَ الأَْرْضِ، وَالْخَرَاجَ يَجِبُ فِي الأَْرْضِ النَّامِيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّمَاءُ حَقِيقِيًّا أَمْ تَقْدِيرِيًّا بِأَنْ يُتَمَكَّنَ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِالأَْرْضِ.
وَأَمَّا اخْتِلاَفُهُمَا مَصْرِفًا، فَلأَِنَّ مَصْرِفَ الْعُشْرِ: الأَْصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ، الْمُحَدَّدُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ، وَمَصْرِفَ الْخَرَاجِ: الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ.
وَأَمَّا اخْتِلاَفُهُمَا دَلِيلاً، فَلأَِنَّ دَلِيل الْعُشْرِ: النَّصُّ، وَدَلِيل الْخَرَاجِ الاِجْتِهَادُ الْمَبْنِيُّ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ.
وَإِذَا ثَبَتَ اخْتِلاَفُهُمَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَلاَ مَانِعَ مِنَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا لاَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الآْخَرِ، كَاجْتِمَاعِ الْجَزَاءِ وَالْقِيمَةِ عِنْدَ قَتْل الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اجْتِمَاعِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ فِي الأَْرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا مُسْلِمٌ، وَلاَ يَجِبُ فِي هَذِهِ الأَْرْضِ سِوَى الْخَرَاجِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ
__________
(1) الحطاب: مواهب الجليل 2 / 287، عليش: منح الجليل 1 / 336، النووي: المجموع شرح المهذب - دار العلوم للطباعة بالقاهرة 1972 م 5 / 454، البكري: إعانة الطالبين - مطبعة دار إحياء الكتب العربية بالقاهرة 2 / 162، الماوردي: الأحكام السلطانية ص 151، أبو يعلى: الأحكام السلطانية ص 169، ابن قدامة: المغني 2 / 26، ابن رجب: الاستخراج ص 112، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1 / 102.(19/88)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ يَجْتَمِعُ عَلَى الْمُسْلِمِ خَرَاجٌ وَعُشْرٌ. (1)
وَبِمَا رَوَى طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ قَال كَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي دِهْقَانَةَ نَهْرِ الْمَلِكِ - كُورَةٌ وَاسِعَةٌ مِنَ الأَْرْضِ الَّتِي بُنِيَتْ بِهَا بَغْدَادُ - أَسْلَمَتْ فَكَتَبَ: أَنِ ادْفَعُوا إِلَيْهَا أَرْضَهَا تُؤَدِّي عَنْهَا الْخَرَاجَ (2) .
فَأَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَخْذِ الْخَرَاجِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِأَخْذِ الْعُشْرِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لأََمَرَ بِهِ.
وَلأَِنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْل، وَوُلاَةِ الْجَوْرِ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ عُشْرًا؛ وَلأَِنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الأَْرْضُ النَّامِيَةُ، فَلاَ يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لاَ يَجْتَمِعُ زَكَاتَانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ كَزَكَاةِ السَّائِمَةِ وَالتِّجَارَةِ فِي الْحَيَوَانَاتِ. (3)
مَصَارِفُ الْخَرَاجِ:
64 - لَمْ يُفَرِّقِ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْخَرَاجِ وَالْفَيْءِ فِي
__________
(1) حديث: " لا يجتمع على مسلم خراج وعشر. . . . " أخرجه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (6 / 2710 - ط دار الفكر) وعنه البيهقي (4 / 132 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وأنكر البيهقي وصله ورفعه.
(2) رواه أبو عبيد في الأموال ص 124.
(3) الكمال بن الهمام: فتح القدير 5 / 286، حاشية ابن عابدين 4 / 192، الكاساني: البدائع 2 / 932، الغنيمي الميداني: اللباب في شرح الكتاب دار الكتاب العربي ببيروت ط 4 / 1399 هـ 1 / 152، ابن نجيم: البحر الرائق 5 / 118، الجصاص: أحكام القرآن 3 / 14.(19/89)
الصَّرْفِ، كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَيْءِ وَالزَّكَاةِ مِنْ جِهَةٍ، وَمِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٍ بَيْنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ.
فَالْفَيْءُ يَتَوَقَّفُ صَرْفُهُ عَلَى اجْتِهَادِ الإِْمَامِ فِي تَقْدِيرِ الْمَصَالِحِ، وَتَقْدِيمِ الأَْهَمِّ عَلَى الْمُهِمِّ، وَالزَّكَاةُ تُصْرَفُ فِي الْمَصَارِفِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي حَدَّدَتْهَا آيَةُ الصَّدَقَاتِ. وَالْغَنِيمَةُ تُخَمَّسُ، وَتُقْسَمُ الأَْرْبَعَةُ الأَْخْمَاسِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا حَدَّدَتْ آيَةُ الْغَنَائِمِ.
قَال ابْنُ رُشْدٍ: يُصْرَفُ خَرَاجُهَا - أَيْ خَرَاجُ الأَْرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً - فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سُبُل الْخَيْرِ (1) .
(وَقَال الْبُهُوتِيُّ: وَمَصْرِفُ الْخَرَاجِ كَفَيْءٍ لأَِنَّهُ مِنْهُ) . (2)
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا مَصْرِفُ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنَ الْخَرَاجِ وَأَخَوَاتِهِ فَعِمَارَةُ الدِّينِ، وَإِصْلاَحُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ رِزْقُ الْوُلاَةِ، وَالْقُضَاةِ وَأَهْل الْفَتْوَى مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْمُقَاتِلَةِ، وَرَصْفُ الطُّرُقِ وَعِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ، وَالرِّبَاطَاتِ، وَالْقَنَاطِرِ، وَالْجُسُورِ، وَسَدُّ الثُّغُورِ، وَإِصْلاَحُ الأَْنْهَارِ الَّتِي لاَ مِلْكَ لأَِحَدٍ فِيهَا. (3)
(وَقَال النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: مَا يُؤْخَذُ مِنْ خَرَاجِ هَذِهِ الأَْرْضِ يَصْرِفُهُ الإِْمَامُ فِي مَصَالِحِ
__________
(1) ابن رشد: بداية المجتهد 1 / 401.
(2) البهوتي: كشاف القناع 3 / 100.
(3) الكاساني: بدائع الصنائع 2 / 959.(19/89)
الْمُسْلِمِينَ الأَْهَمِّ فَالأَْهَمِّ، وَيَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالأَْغْنِيَاءِ مِنْ أَهْل الْفَيْءِ وَغَيْرِهِمْ) . (1)
هَذَا مَا قَرَّرَهُ الْفُقَهَاءُ؛ لأَِنَّ الْخَرَاجَ مِنْ جُمْلَةِ الْفَيْءِ الْمَصْرُوفِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ: بَيْتُ الْمَال، وَفَيْءٌ) .
حُكْمُ تَخْمِيسِ الْخَرَاجِ:
65 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْفَيْءَ لاَ يُخَمَّسُ، بَل يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الإِْمَامَ يُعْطِي مِنْهُ لِلْمُقَاتِلِينَ، وَالْوُلاَةِ، وَالْقُضَاةِ، وَالْعُمَّال، وَالأَْئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ، وَالْفُقَهَاءِ، وَكُل مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَيُصْرَفُ عَلَى بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، وَالْمَسَاجِدِ، وَشَقِّ الطُّرُقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَبْدَأُ الإِْمَامُ بِالأَْهَمِّ فَالْمُهِمِّ، فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ شَيْءٌ قَسَمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الأَْغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ
__________
(1) النووي: روضة الطالبين 10 / 276.
(2) الكاساني: بدائع الصنائع 9 / 4341، حاشية الدسوقي 2 / 190، حاشية الخرشي على مختصر خليل 3 / 129، الأبي: جواهر الإكليل 1 / 260، الفراء: الأحكام السلطانية ص 139، ابن قدامة: المغني 6 / 404، المرداوي: الإنصاف 4 / 199، البهوتي: كشاف القناع 3 / 100.(19/90)
وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ} . (1)
قَال الْمُفَسِّرُونَ: طَلَبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخَمِّسَ أَمْوَال بَنِي النَّضِيرِ لَمَّا أُجْلُوا عَنْهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ تُبَيِّنُ أَنَّهَا فَيْءٌ لَمْ تَحْصُل لَهُمْ بِمُحَارَبَتِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ بِتَسْلِيطِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً يَفْعَل مِنْهُ مَا يَشَاءُ. (2) وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: كَانَتْ أَمْوَال بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ فَكَانَتْ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ ثُمَّ يَجْعَل مَا بَقِيَ فِي الْكُرَاعِ (3) وَالسِّلاَحِ عُدَّةً لِلْمُسْلِمِينَ (4) . هَذَا مَا كَانَ يُفْعَل بِالْفَيْءِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَقَدْ أَصْبَحَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِلإِْمَامِ خَاصَّةً، يَصْرِفُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُقَدِّمُ الأَْهَمَّ عَلَى الْمُهِمِّ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ الإِْمَامَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا يَجْعَلاَنِهِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً.
__________
(1) سورة الحشر / 6.
(2) ابن الجوزي: زاد المسير 8 / 209.
(3) الكراع: الدواب التي تصلح للحرب.
(4) الأثر عن عمر: " كانت أموال بني النضير مما أفاء الله عز وجل. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 93 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1376 - 1377 - ط الحلبي) .(19/90)
وَلِذَا لاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْفَيْءِ لِنَفْسِهِ لأَِنَّ الإِْمَامَ يُنْصَرُ بِسَبَبِ قَوْمِهِ لاَ بِسَبَبِهِ خَاصَّةً فَكَانَتْ أَمْوَال الْفَيْءِ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَيْءَ يُخَمَّسُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْل الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُول وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل} . (1)
فَذِكْرُ الأَْصْنَافِ فِي هَذِهِ الآْيَةِ مِنْ بَابِ التَّعْدِيدِ لِلأَْصْنَافِ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْمَال وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ يَتَعَدَّى بِهِ هَؤُلاَءِ (2) .
(انْظُرْ: خُمُسٌ، وَفَيْءٌ) .
__________
(1) سورة الحشر / 7.
(2) الماوردي: الأحكام السلطانية ص 126، النووي: روضة الطالبين 6 / 354، الشيرازي: المهذب مع المجموع 18 / 182.(19/91)
خَرَسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَرَسُ مَصْدَرُ خَرِسَ، يُقَال: خَرِسَ الإِْنْسَانُ خَرَسًا، إِذَا مُنِعَ الْكَلاَمَ خِلْقَةً، أَيْ خُلِقَ وَلاَ نُطْقَ لَهُ. أَوْ ذَهَبَ كَلاَمُهُ عِيًّا.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
اعْتِقَال اللِّسَانِ:
2 - الاِعْتِقَال: الْحَبْسُ، وَاعْتُقِل لِسَانُهُ: إِذَا حُبِسَ وَمُنِعَ الْكَلاَمَ (2) . وَالْمُعْتَقَل اللِّسَانِ وَسَطٌ بَيْنَ الأَْخْرَسِ وَالنَّاطِقِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالأَْخْرَسِ:
إِسْلاَمُ الأَْخْرَسِ:
3 - يَصِيرُ الْكَافِرُ مُسْلِمًا بِالإِْذْعَانِ بِالْقَلْبِ وَالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى النُّطْقِ، فَإِنْ كَانَ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة " خرس " وابن عابدين 2 / 590، جواهر الإكليل 2 / 259 والجمل 4 / 433.
(2) لسان العرب مادة: (عقل) .(19/91)
عَاجِزًا عَنِ النُّطْقِ لِخَرَسٍ، فَإِنَّهُ يُكْتَفَى فِي إِسْلاَمِهِ بِالإِْشَارَةِ مَعَ قِيَامِ الْقَرَائِنِ عَلَى أَنَّهُ أَذْعَنَ بِقَلْبِهِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَهُوَ مَا اسْتَظْهَرَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، قَال: وَالظَّاهِرُ صِحَّةُ إِسْلاَمِ الأَْخْرَسِ بِالإِْشَارَةِ، وَلَمْ أَرَ الآْنَ فِيهَا نَقْلاً صَرِيحًا.
وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اشْتِرَاطُ صَلاَةِ الأَْخْرَسِ بَعْدَ إِسْلاَمِهِ بِالإِْشَارَةِ.
جَاءَ فِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ: يَصِحُّ إِسْلاَمُ الأَْخْرَسِ بِالإِْشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ، وَقِيل: لاَ يُحْكَمُ بِإِسْلاَمِهِ إِلاَّ إِذَا صَلَّى بَعْدَ الإِْشَارَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الأُْمِّ، وَالصَّحِيحُ الْمَعْرُوفُ الأَْوَّل، وَحَمْل النَّصِّ عَلَى مَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الإِْشَارَةُ مُفْهِمَةً. (1)
تَكْبِيرُ الأَْخْرَسِ وَقِرَاءَتُهُ فِي الصَّلاَةِ:
4 - تَشْتَمِل الصَّلاَةُ عَلَى أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ، وَمِنَ الأَْقْوَال مَا هُوَ فَرْضٌ، كَتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَالْقِرَاءَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ سُنَّةٌ كَالتَّكْبِيرَاتِ الأُْخْرَى. فَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ النُّطْقِ لِخَرَسٍ تَسْقُطُ عَنْهُ الأَْقْوَال، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ تَحْرِيكِ لِسَانِهِ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ.
__________
(1) الأشباه لابن نجيم / 343، والدسوقي 1 / 131 وروضة الطالبين 8 / 282، وأشباه السيوطي 338.(19/92)
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - عَدَا الْقَاضِي - وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لاَ يَجِبُ عَلَى الأَْخْرَسِ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ لِلصَّلاَةِ بِقَلْبِهِ؛ لأَِنَّ تَحْرِيكَ اللِّسَانِ عَبَثٌ، وَلَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِهِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ عَلَى الأَْخْرَسِ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ، وَشَفَتَيْهِ، وَلَهَاتِهِ بِالتَّكْبِيرِ قَدْرَ إِمْكَانِهِ، قَال فِي الْمَجْمُوعِ: وَهَكَذَا حُكْمُ تَشَهُّدِهِ، وَسَلاَمِهِ، وَسَائِرِ أَذْكَارِهِ، قَال ابْنُ الرِّفْعَةِ: وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ نَوَاهُ بِقَلْبِهِ كَالْمَرِيضِ.
لَكِنْ يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَرَسِ الطَّارِئِ، أَمَّا الْخَرَسُ الْخِلْقِيُّ فَلاَ يَجِبُ مَعَهُ تَحْرِيكُ شَيْءٍ (1) . وَنَحْوُ ذَلِكَ قَال الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: إِنَّ تَحْرِيكَ لِسَانِ الأَْخْرَسِ فِي تَكْبِيرَةِ الاِفْتِتَاحِ وَالتَّلْبِيَةِ لاَزِمٌ عَلَى الْقَوْل بِهِ، أَوْ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ، وَأَمَّا بِالْقِرَاءَةِ فَلاَ عَلَى الْمُخْتَارِ. .
الاِقْتِدَاءُ بِالأَْخْرَسِ:
5 - لاَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ النَّاطِقِ بِالأَْخْرَسِ وَلَوْ كَانَ النَّاطِقُ أُمِّيًّا؛ لأَِنَّ الأَْخْرَسَ أَسْوَأُ حَالاً مِنَ الأُْمِّيِّ لِقُدْرَةِ الأُْمِّيِّ عَلَى التَّحْرِيمَةِ، وَعَجْزِ الأَْخْرَسِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 324، ومراقي الفلاح ص 119 وأشباه ابن نجيم / 121، وحاشية الدسوقي 1 / 333 والحطاب 1 / 519 ونهاية المحتاج 1 / 443، ومغني المحتاج 1 / 152، وحاشية الجمل 1 / 337، وكشاف القناع 1 / 331، والمغني 1 / 463.(19/92)
عَنِ الإِْتْيَانِ بِالتَّحْرِيمَةِ وَالْقِرَاءَةِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اقْتِدَاءِ الأَْخْرَسِ بِأَخْرَسَ مِثْلِهِ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الأَْخْرَسِ بِأَخْرَسَ مِثْلِهِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْعَجْزِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الأَْخْرَسِ بِأَخْرَسَ مِثْلِهِ لِجَوَازِ أَنْ يُحْسِنَ أَحَدُهُمَا مَا لاَ يُحْسِنُهُ الآْخَرُ، أَوْ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لأَِحَدِهِمَا قُوَّةٌ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ نَاطِقًا أَحْسَن مَا لاَ يُحْسِنُهُ الآْخَرُ. (1)
إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ فِي الصَّلاَةِ:
6 - مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الْكَلاَمَ فِي الصَّلاَةِ يُبْطِلُهَا، فَهَل تُعْتَبَرُ إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ فِي الصَّلاَةِ مِثْل كَلاَمِ النَّاطِقِ؟
فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهَا لاَ تَبْطُل بِإِشَارَةِ الأَْخْرَسِ؛ لأَِنَّ الإِْشَارَةَ فِي الصَّلاَةِ جَائِزَةٌ مِنَ النَّاطِقِ.
وَاعْتَبَرَ الْحَنَابِلَةُ الإِْشَارَةَ فِعْلاً لاَ قَوْلاً، فَلاَ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِهَا إِلاَّ إِذَا كَثُرَتْ عُرْفًا وَتَوَالَتْ.
وَفِي الْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مُقَابِل
__________
(1) ابن عابدين 1 / 399 ومراقي الفلاح ص 157 والشرح الصغير 1 / 156 ط الحلبي، ونهاية المحتاج 2 / 165 والشرواني على التحفة 2 / 285 وكشاف القناع 1 / 476، والمغني 2 / 194.(19/93)
الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الصَّلاَةَ تَبْطُل بِإِشَارَةِ الأَْخْرَسِ، لأَِنَّ إِشَارَتَهُ كَالْكَلاَمِ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ قَصَدَ الْكَلاَمَ تَبْطُل صَلاَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ لَمْ تَبْطُل (1) .
وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَبْطُل عِنْدَهُمْ بِالإِْشَارَةِ.
كَمَا قَال الْحَصْكَفِيُّ: لاَ بَأْسَ بِتَكْلِيمِ الْمُصَلِّي وَإِجَابَتِهِ بِرَأْسِهِ، كَمَا لَوْ طُلِبَ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ أُرِيَ دِرْهَمًا، وَقِيل: أَجَيِّدٌ؟ فَأَوْمَأَ بِنَعَمْ أَوْ لاَ، أَوْ قِيل كَمْ صَلَّيْتُمْ؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنَّهُمْ صَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ (2) .
ذَبْحُ الأَْخْرَسِ وَصَيْدُهُ:
7 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ وَالصَّيْدِ وَاجِبَةً أَوْ سُنَّةً. وَلَكِنَّهُمْ يَتَّفِقُونَ عَلَى حِل ذَبِيحَةِ الأَْخْرَسِ وَصَيْدِهِ مَعَ عَدَمِ تَسْمِيَتِهِ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى النُّطْقِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا: إِنْ كَانَ الْمُذَكِّي أَخْرَسَ أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَلَوْ أَشَارَ إِشَارَةً تَدُل عَلَى التَّسْمِيَةِ، وَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ التَّسْمِيَةَ، كَانَ فِعْلُهُ كَافِيًا لِقِيَامِ إِشَارَتِهِ مَقَامَ نُطْقِهِ.
وَقَالُوا فِي الصَّيْدِ: لاَ تُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ مِنَ الأَْخْرَسِ عِنْدَ إِرْسَال السَّهْمِ وَالْجَارِحَةِ لِتَعَذُّرِهَا
__________
(1) الحطاب 2 / 32 وروضة الطالبين 1 / 292، وكشاف القناع 1 / 378.
(2) ابن عابدين 1 / 433 وفتح القدير 1 / 358.(19/93)
مِنْهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ إِشَارَتِهِ بِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الذَّكَاةِ لِقِيَامِ إِشَارَتِهِ مَقَامَ نُطْقِهِ. وَمَا قَالَهُ الْحَنَابِلَةُ هُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
جَاءَ فِي الْمَجْمُوعِ: الأَْخْرَسُ إِنْ كَانَتْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ حَلَّتْ ذَبِيحَتُهُ بِالاِتِّفَاقِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ فَطَرِيقَانِ: الْمَذْهَبُ الْحِل أَيْضًا، وَبِهِ قَطَعَ الأَْكْثَرُونَ، وَالرَّأْيُ الثَّانِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ كَالْمَجْنُونِ، وَبِهَذَا الرَّأْيِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ (1) .
تَصَرُّفَاتُ الأَْخْرَسِ:
8 - إِذَا كَانَ لِلأَْخْرَسِ إِشَارَةٌ مَعْلُومَةٌ مَفْهُومَةٌ، فَإِنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ عِبَارَتِهِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ الْعَقْدِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ، وَالْهِبَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالضَّمَانِ، وَالنِّكَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ فِي الْحُلُول كَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالإِْبْرَاءِ.
فَالإِْشَارَةُ تُعْتَبَرُ حُجَّةً فِي حَقِّ الأَْخْرَسِ؛ لأَِنَّ الشَّارِعَ تَعَبَّدَ النَّاطِقِينَ بِالْعِبَارَةِ، فَإِذَا عَجَزَ الأَْخْرَسُ عَنِ الْعِبَارَةِ أَقَامَتِ الشَّرِيعَةُ إِشَارَتَهُ مُقَامَ عِبَارَتِهِ.
وَكَذَلِكَ تَقُومُ الْكِتَابَةُ الْمُسْتَبِينَةُ الْمَرْسُومَةُ - أَيِ الَّتِي تُكْتَبُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي تَعَارَفَهُ النَّاسُ -
__________
(1) ابن عابدين 5 / 189، 191، والدسوقي 2 / 106، والمجموع 9 / 77، 86، وكشاف القناع 6 / 209، 227 وشرح منتهى الإرادات 3 / 407.(19/94)
مَقَامَ عِبَارَتِهِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لأَِنَّ الْكِتَابَةَ زِيَادَةُ بَيَانٍ (1) .
وَهَذَا قَدْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ إِلاَّ أَنَّ هُنَاكَ تَقْيِيدَاتٍ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِشَارَةٌ) .
طَلاَقُ الأَْخْرَسِ:
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ طَلاَقَ الأَْخْرَسِ بِإِشَارَتِهِ الْمُفْهِمَةِ يَقَعُ، وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِنَّ إِشَارَةَ الأَْخْرَسِ بِالطَّلاَقِ إِنْ فَهِمَ طَلاَقَهُ بِهَا كُل أَحَدٍ، فَصَرِيحَةٌ، وَإِنِ اخْتَصَّ بِفَهْمِ الطَّلاَقِ مِنْهَا بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ فَهِيَ كِنَايَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ. (2)
لِعَانُ الأَْخْرَسِ:
10 - يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ إِشَارَةِ الأَْخْرَسِ أَوْ كِتَابَتِهِ فِي اللِّعَانِ، وَقِيَامُهَا مَقَامَ عِبَارَةِ النَّاطِقِ.
فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِنْ كَانَ
__________
(1) (1) الهداية / 269 - 270 وأشباه ابن نجيم / 343 وابن عابدين 2 / 425، والدسوقي 2 / 313، 327، 384، والتبصرة بهامش فتح العلي 2 / 79 - 80، وأشباه السيوطي / 338 والمنثور 1 / 164 ونهاية المحتاج 6 / 426 والروضة 8 / 39، وكشاف القناع 5 / 392 ومنتهى الإرادات 2 / 246 و3 / 130، 570 والمغني 3 / 566، 600 و7 / 238 والبهجة شرح التحفة 2 / 84.
(2) فتح القدير 8 / 511 وابن عابدين 2 / 425 وجواهر الإكليل 1 / 348، ومغني المحتاج 3 / 284 وشرح المنتهى 3 / 130.(19/94)
لِلأَْخْرَسِ (زَوْجًا أَوْ زَوْجَةً) إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ صَحَّ لِعَانُهُ بِالإِْشَارَةِ، كَمَا يَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ، وَيُكَرِّرُ الإِْشَارَةَ أَوِ الْكِتَابَةَ كَالنَّاطِقِ الَّذِي يُكَرِّرُ اللَّفْظَ.
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى لِعَانِ الأَْخْرَسِ أَوِ الْخَرْسَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى لِعَانِ النَّاطِقِ مِنْ أَحْكَامٍ، كَسُقُوطِ الْحَدِّ، وَنَفْيِ النَّسَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلَوْ لاَعَنَ الأَْخْرَسُ بِالإِْشَارَةِ، أَوِ الْكِتَابَةِ ثُمَّ انْطَلَقَ لِسَانُهُ فَتَكَلَّمَ فَأَنْكَرَ اللِّعَانَ، أَوْ قَال: لَمْ أُرِدْهُ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُقْبَل قَوْلُهُ فِيمَا عَلَيْهِ فَيُطَالَبُ بِالْحَدِّ، وَيَلْحَقُهُ النَّسَبُ، وَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ فِيمَا لَهُ، فَلاَ تَرْتَفِعُ الْفُرْقَةُ وَالتَّحْرِيمُ الْمُؤَبَّدُ، وَلَهُ أَنْ يُلاَعِنَ فِي الْحَال لإِِسْقَاطِ الْحَدِّ، وَلِنَفْيِ الْوَلَدِ إِنْ لَمْ يَفُتْ زَمَنُ النَّفْيِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يُقْبَل إِنْكَارُهُ مُطْلَقًا. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ اللِّعَانُ مِنَ الأَْخْرَسِ أَوِ الْخَرْسَاءِ، لاَ بِالإِْشَارَةِ وَلاَ بِالْكِتَابَةِ؛ لأَِنَّ اللِّعَانَ لَفْظٌ يَفْتَقِرُ إِلَى الشَّهَادَةِ فَلَمْ يَصِحَّ مِنَ الأَْخْرَسِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَأَتَّى مِنْهُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَا أَخْرَسَيْنِ أَمْ أَحَدُهُمَا.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ تَلاَعَنَ الزَّوْجَانِ وَهُمَا نَاطِقَانِ، ثُمَّ زَالَتْ أَهْلِيَّةُ اللِّعَانِ قَبْل التَّفْرِيقِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 464 والخرشي 4 / 130 والفواكه الدواني 2 / 85، وروضة الطالبين 8 / 352 - 353 ونهاية المحتاج 7 / 110 وكشاف القناع 5 / 392، والمغني 7 / 396.(19/95)
بِخَرَسِهِمَا، أَوْ خَرَسِ أَحَدِهِمَا بَطَل اللِّعَانُ، وَلاَ تَفْرِيقَ، وَلاَ حَدَّ لِدَرْئِهِ بِالشُّبْهَةِ (1) .
إِقْرَارُ الأَْخْرَسِ:
11 - تُعْتَبَرُ الإِْشَارَةُ مِنَ الأَْخْرَسِ إِذَا كَانَتْ مَفْهُومَةً قَائِمَةً مَقَامَ الْعِبَارَةِ فِي إِقْرَارِهِ، وَكَذَا الْكِتَابَةُ مِنْهُ، وَيُؤْخَذُ بِذَلِكَ فِي كُل مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِمَا فِي ذَلِكَ الْقِصَاصُ. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إِلاَّ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْقِصَاصَ لاَ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الأَْخْرَسِ (2) .
وَاخْتُلِفَ فِي إِقْرَارِ الأَْخْرَسِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالْقَذْفِ وَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّ الأَْخْرَسَ يُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لأَِنَّ مَنْ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِغَيْرِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ صَحَّ إِقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُهُ كَالنَّاطِقِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ احْتِمَالٌ لِكَلاَمِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي - إِلَى أَنَّ الأَْخْرَسَ لاَ تُعْتَبَرُ إِشَارَتُهُ أَوْ كِتَابَتُهُ فِي إِقْرَارِهِ بِمَا
__________
(1) ابن عابدين 2 / 590 والبدائع 3 / 242 والاختيار 3 / 170 والمغني 7 / 396.
(2) الأشباه لابن نجيم / 343 وابن عابدين 5 / 470 - 471 والتبصرة بهامش فتح العلي المالك 2 / 40، 80 وجواهر الإكليل 2 / 132 وأشباه السيوطي / 338، والمنثور 1 / 164 وشرح منتهى الإرادات 3 / 207 - 208 وكشاف القناع 5 / 392 والمغني 8 / 195 - 196.(19/95)
يُوجِبُ الْحَدَّ؛ لأَِنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ لِكَوْنِهَا حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى. (1)
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِقْرَارٌ ف 54 - 58، وَحَدٌّ، وَقِصَاصٌ) .
شَهَادَةُ الأَْخْرَسِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ الأَْخْرَسِ لاَ تُقْبَل؛ لأَِنَّ مُرَاعَاةَ لَفْظِ الشَّهَادَةِ شَرْطُ صِحَّةِ أَدَائِهَا، وَلاَ عِبَارَةَ لِلأَْخْرَسِ أَصْلاً، فَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ وَلَوْ فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ؛ لأَِنَّ الشَّهَادَةَ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْيَقِينُ، وَلِذَلِكَ لاَ يُكْتَفَى بِإِشَارَةِ النَّاطِقِ.
لَكِنْ قَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا أَدَّى الأَْخْرَسُ الشَّهَادَةَ بِخَطِّهِ فَإِنَّهَا تُقْبَل.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُقْبَل شَهَادَةُ الأَْخْرَسِ وَيُؤَدِّيهَا بِإِشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ، فَإِذَا قَطَعَ الْحَاكِمُ بِفَهْمِ مَقْصُودِهِ مِنْ إِشَارَتِهِ حُكِمَ بِهَا؛ لأَِنَّ الشَّهَادَةَ عِلْمٌ يُؤَدِّيهِ الشَّاهِدُ إِلَى الْحَاكِمِ، فَإِذَا فُهِمَ عَنْهُ بِطَرِيقٍ يُفْهَمُ
__________
(1) الهداية 4 / 270، ابن عابدين 3 / 144، 192 و5 / 353 والبدائع 7 / 51، والقوانين الفقهية / 161 والزرقاني 8 / 87، والتبصرة بهامش فتح العلي 2 / 80، ونهاية المحتاج 7 / 110، 410 ومغني المحتاج 4 / 150 وروضة الطالبين 10 / 94، والمغني 8 / 195 - 196 وشرح منتهى الإرادات 3 / 207 - 208.(19/96)
عَنْ مِثْلِهِ قُبِلَتْ مِنْهُ، كَالنُّطْقِ إِذَا أَدَّاهَا بِالصَّوْتِ (1) .
قَضَاءُ الأَْخْرَسِ وَفُتْيَاهُ:
13 - النُّطْقُ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي يَجِبُ تَوَافُرُهَا فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ؛ لأَِنَّ الأَْخْرَسَ لاَ يُمْكِنُهُ النُّطْقُ بِالْحُكْمِ، وَلاَ يَفْهَمُ جَمِيعُ النَّاسِ إِشَارَتَهُ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ عَدَا وَجْهٍ مُقَابِلٍ لِلصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ صِفَةَ النُّطْقِ شَرْطٌ فَلاَ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الأَْخْرَسِ الْقَضَاءَ وَلاَ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ. وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ صِفَةَ النُّطْقِ وَاجِبًا غَيْرَ شَرْطٍ فِي الاِبْتِدَاءِ وَالدَّوَامِ، وَلِذَا يَجِبُ عَزْلُهُ. لَكِنْ إِنْ وَقَعَ وَحُكِمَ نَفَذَ حُكْمُهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ أَنَّ فِي وِلاَيَةِ الأَْخْرَسِ عَلَى الْقَضَاءِ قَوْلاً آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ بِصِحَّتِهَا إِذَا فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ (2) .
__________
(1) البدائع 6 / 286 وابن عابدين 4 / 302 والتبصرة بهامش فتح العلي 2 / 79 والكافي 2 / 899 وروضة الطالبين 8 / 39 و11 / 245 وأشباه السيوطي / 338 والمهذب 2 / 325 وكشاف القناع 6 / 417 والمغني 9 / 190.
(2) ابن عابدين 4 / 302 والبدائع 7 / 3 وحاشية الدسوقي 4 / 130 والفواكه الدواني 2 / 297 ونهاية المحتاج 8 / 226 وحاشية الجمل 5 / 337 والروضة 11 / 7، والمهذب 2 / 291 وكشاف القناع 6 / 295 وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 74.(19/96)
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلإِْفْتَاءِ فَإِنَّهُ تَصِحُّ فَتْوَى الأَْخْرَسِ وَذَلِكَ حَيْثُ فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ. (1)
يَمِينُ الأَْخْرَسِ:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ إِشَارَةِ الأَْخْرَسِ فِي الْيَمِينِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الأَْيْمَانِ مِنَ الأَْخْرَسِ بِالإِْشَارَةِ إِذَا كَانَ يَفْهَمُ وَيُفْهَمُ عَنْهُ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُسْتَحْلَفُ الأَْخْرَسُ فَيَقُول لَهُ الْقَاضِي: عَلَيْكَ عَهْدُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لِهَذَا عَلَيْكَ هَذَا الْحَقُّ؟ وَيُشِيرُ الأَْخْرَسُ بِرَأْسِهِ: أَيْ نَعَمْ. (2)
وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَال فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ بَيْنَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِالإِْشَارَةِ وَعَدَمِ انْعِقَادِهَا.
فَالْقَوْل بِعَدَمِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِالإِْشَارَةِ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، قَال: تُعْتَبَرُ إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ فِي الدَّعَاوَى وَلاَ يَنْعَقِدُ بِهَا الأَْيْمَانُ إِلاَّ اللِّعَانُ.
وَصَرَّحَ الزَّرْكَشِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ بِذَلِكَ فَقَال: إِشَارَةُ الأَْخْرَسِ كَنُطْقِهِ إِلاَّ فِي مَسَائِل، وَمِنْهَا: حَلَفَ بِالإِْشَارَةِ لاَ تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ.
وَأَمَّا الْقَوْل بِانْعِقَادِ يَمِينِ الأَْخْرَسِ إِذَا فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ فَقَدْ ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَقِبَ كَلاَمِهِ بِعَدَمِ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 302 وكشاف القناع 6 / 300.
(2) الأشباه لابن نجيم / 343 والاختيار 2 / 114 والتبصرة بهامش فتح العلي المالك 2 / 80.(19/97)
الاِنْعِقَادِ فَقَال: وَفِي الْبَيَانِ فِي كِتَابِ الأَْقْضِيَةِ قَال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الأُْمِّ: إِنْ كَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ يَمِينٌ وَهُوَ أَخْرَسُ لاَ تُفْهَمُ إِشَارَتُهُ وَقَفَ الْيَمِينُ إِلَى أَنْ تُفْهَمَ إِشَارَتُهُ، وَإِنْ سَأَل الْمُدَّعِي أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينُ لَمْ تُرَدَّ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ نُكُولُهُ.
وَفِي حَاشِيَةِ الْجَمَل قَال: وَقَعَ لِلزَّرْكَشِيِّ فِي الْقَوَاعِدِ عَدَمُ انْعِقَادِ يَمِينِ الأَْخْرَسِ بِالإِْشَارَةِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ خِلاَفُهُ أَخْذًا مِمَّا صَرَّحُوا بِهِ فِي انْعِقَادِ لِعَانِهِ بِالإِْشَارَةِ، وَمِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ إِشَارَتَهُ مِثْل الْعِبَارَةِ إِلاَّ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ: بُطْلاَنُ الصَّلاَةِ فَلاَ تَبْطُل بِالإِْشَارَةِ، وَالْحِنْثُ، وَالشَّهَادَةُ.
قَال الْجَمَل: ثُمَّ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا الرَّمْلِيَّ اعْتَمَدَ انْعِقَادَ يَمِينِهِ بِالإِْشَارَةِ. (1)
وَاخْتَلَفَتْ أَيْضًا أَقْوَال فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ. فَفِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى الْحَلِفُ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ.
فَدَل عَلَى عَدَمِ انْعِقَادِ يَمِينِ الأَْخْرَسِ ثُمَّ قَال: لَكِنْ صَرَّحَ فِي الْفُرُوعِ فِي بَابِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ مِنْهُ كَالنِّيَّةِ.
وَصَرَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي بِانْعِقَادِ يَمِينِ الأَْخْرَسِ فَقَال: إِنْ تَوَجَّهَتْ يَمِينٌ عَلَى وَرَثَةٍ وَفِيهِمْ أَخْرَسُ مَفْهُومُ الإِْشَارَةِ حَلَفَ وَأُعْطِيَ حِصَّتَهُ، وَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ وَقَفَ حَقُّهُ. (2)
__________
(1) الأشباه للسيوطي / 338 ومغني المحتاج 4 / 346 والمهذب 2 / 138، والمنثور في القواعد للزركشي 1 / 164 - 165 وحاشية الجمل 5 / 286.
(2) مطالب أولي النهى 6 / 357 والمغني لابن قدامة 9 / 219.(19/97)
الْخَرَسُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ:
15 - اللِّسَانُ آلَةُ الْكَلاَمِ، وَالاِعْتِدَاءُ عَلَى الإِْنْسَانِ بِمَا يُفْقِدُهُ النُّطْقَ وَيَجْعَلُهُ أَخْرَسَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَطْعِ اللِّسَانِ، أَوْ بِضَرْبٍ يُؤَدِّي إِلَى ذَهَابِ الْكَلاَمِ مَعَ بَقَاءِ اللِّسَانِ.
وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَفِي مُوجِبِ ذَلِكَ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ (1) يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَدِيَةٌ) .
الْجِنَايَةُ عَلَى لِسَانِ الأَْخْرَسِ:
16 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ فِي لِسَانِ الأَْخْرَسِ حُكُومَةَ عَدْلٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ لِعَدَمِ فَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ حُكُومَةُ عَدْلٍ تَشْرِيفًا لِلآْدَمِيِّ؛ لأَِنَّ اللِّسَانَ جُزْءٌ مِنْهُ. وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنْ لاَ يَذْهَبَ بِقَطْعِهِ الذَّوْقُ، وَإِلاَّ فَفِيهِ الدِّيَةُ.
وَفِي الْقَوْل الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ: إِنَّ فِيهِ ثُلُثَ الدِّيَةِ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 356 والبدائع 7 / 307، 308، 311، 317 والاختيار 5 / 31 والدسوقي 4 / 252، 253، 271، والزرقاني 8 / 40 والشرح الصغير 2 / 389 والمدونة 6 / 310 وجواهر الإكليل 2 / 259 والمهذب 2 / 181 ومغني المحتاج 4 / 35، والجمل 5 / 34 والمغني 7 / 716، 717، 723، و8 / 15، 16 وكشاف القناع 5 / 552، 556 - 557.(19/98)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الْعَيْنِ الْعَوْرَاءِ السَّادَّةِ لِمَكَانِهَا إِذَا طُمِسَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا، وَفِي الْيَدِ الشَّلاَّءِ إِذَا قُطِعَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا، وَفِي السِّنِّ السَّوْدَاءِ إِذَا نُزِعَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا. (1)
وَهَذَا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً أَوْ كَانَتْ عَمْدًا مِنْ نَاطِقٍ.
فَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مِنْ أَخْرَسَ عَلَى أَخْرَسَ عَمْدًا، فَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِذَا أُمِنَتِ السِّرَايَةُ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ لِلْمُمَاثَلَةِ وَالتَّكَافُؤِ، وَقَوَاعِدُ الشَّافِعِيَّةِ لاَ تَأْبَى ذَلِكَ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ قِصَاصَ عِنْدَهُمْ أَصْلاً فِي اللِّسَانِ (2) .
__________
(1) حديث عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في العين. . . . " أخرجه النسائي (8 / 55 - ط المكتبة التجارية) . وإسناده حسن.
(2) البدائع 7 / 323 والدسوقي 4 / 252، 277 والزرقاني 8 / 40 والجمل 5 / 67، ونهاية المحتاج 7 / 311 ومغني المحتاج 4 / 33 والمغني 8 / 41 و733.(19/98)
خَرْصٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَرْصُ لُغَةً: الْقَوْل بِالظَّنِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَذِبِ (1) : وَمِنْهُ قَوْل الْحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قُتِل الْخَرَّاصُونَ} (2) ، وَيُطْلَقُ عَلَى حَزْرِ مَا عَلَى النَّخْل وَالْكَرْمِ مِنَ الثِّمَارِ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْخَرْصِ فِي النَّخْل وَالْكَرْمِ خَاصَّةً. (3)
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْتَلِفُ عَنْ ذَلِكَ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - التَّخْمِينُ، وَالْحَدْسُ، وَالتَّحَرِّي مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، وَهِيَ تَحْدِيدُ الشَّيْءِ بِالظَّنِّ وَالتَّقْدِيرِ، فَهِيَ كَالْخَرْصِ فِي بَعْضِ إِطْلاَقَاتِهِ.
__________
(1) المعجم الوسيط ومصباح المنير: مادة " خرص " ومغني المحتاج 1 / 387.
(2) سورة الذاريات / 10.
(3) حديث: " أمر بالخرص في النخل والكرم خاصة " ذكره صاحب المعجم الوسيط (1 / 226) ولم يهتد إلى من أخرجه بهذا اللفظ ويدل عليه ما رواه أبو داود (2 / 257 ط عزت عبيد دعاس) من حديث عتاب بن أسيد، بلفظ " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل ". وسيأتي تخريجه (ف / 3) .(19/99)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
أَوَّلاً: الْخَرْصُ فِيمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ:
3 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ خَرْصُ الثِّمَارِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْل وَالْكَرْمِ خَاصَّةً بَعْدَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا، لِتَحْدِيدِ قَدْرِهَا وَقَدْرِ الزَّكَاةِ فِيهَا.
فَيَبْعَثُ سَاعِيهُ لِيَخْرُصَ الثِّمَارَ عَلَى رُءُوسِ النَّخْل وَالْكَرْمِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا، لِيُعْلَمَ بِالْخَرْصِ وَالتَّقْدِيرِ نِصَابُ الزَّكَاةِ، وَالْقَدْرُ الْوَاجِبُ إِخْرَاجُهُ. (1)
وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِذَلِكَ: أَنْ يَحْتَاجَ أَصْحَابُ الثِّمَارِ إِلَى التَّصَرُّفِ فِيهَا، أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى التَّصَرُّفِ فِيهَا، فَيُنْتَظَرَ جَفَافُ مَا يَجِفُّ مِنَ الثِّمَارِ وَتُخْرَجُ زَكَاتُهُ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا، وَمَا لاَ يَجِفُّ يُنْتَظَرُ جَذُّهُ ثُمَّ يُكَال الْبَلَحُ، وَيُوزَنُ الْعِنَبُ، ثُمَّ يُقَدَّرُ جَفَافُهُمَا إِذَا شَكَّ فِي بُلُوغِهِمَا النِّصَابَ (2) .
وَاسْتَدَل جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْخَرْصِ: بِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَرَ أَنْ يُخْرَصَ الْعِنَبُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْل، وَتُؤْخَذُ زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤْخَذُ صَدَقَةُ النَّخْل تَمْرًا. (3)
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 386 - 387، المغني 2 / 706، حاشية الدسوقي 2 / 453.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 453.
(3) حديث: " أمر أن يخرص العنب كما يخرص النخل ". أخرجه أبو داود (2 / 257 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (3 / 27 - ط الحلبي) ، من حديث عتاب بن أسيد، وفي إسناده انقطاع بين عتاب بن أسيد والراوي عنه وهو سعيد بن المسيب، كذا في مختصر أبي داود للمنذري (2 / 211 - نشر دار المعرفة) .(19/99)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ بِوُجُوبِ الْخَرْصِ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ (1) .
وَقَال الْخَطَّابِيُّ: أَثْبَتَ الْحَدِيثُ النَّبَوِيُّ الْخَرْصَ وَالْعَمَل بِهِ، وَهُوَ قَوْل عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَال: الْخَرْصُ بِدْعَةٌ، وَأَنْكَرَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ - يَعْنِي الْحَنَفِيَّةَ - الْخَرْصَ، وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ الْخَرْصُ تَخْوِيفًا لِلأَْكَرَةِ لِئَلاَّ يَخُونُوا، فَأَمَّا أَنْ يَلْزَمَ بِهِ حُكْمٌ فَلاَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَنٌّ وَتَخْمِينٌ وَفِيهِ غَرَرٌ، وَإِنَّمَا كَانَ جَوَازُهُ قَبْل تَحْرِيمِ الرِّبَا وَالْقِمَارِ (2) .
وَقْتُ الْخَرْصِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ مَنْ يَرَى مَشْرُوعِيَّةَ الْخَرْصِ فِي أَنَّهُ يَكُونُ حِينَ يَطِيبُ الثَّمَرُ وَيَبْدُو صَلاَحُهُ، لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمُ النَّخْل حِينَ يَطِيبُ قَبْل أَنْ يُؤْكَل مِنْهُ. (3)
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 386.
(2) معالم السنن 2 / 44 وانظر المغني 2 / 706، والأموال لأبي عبيد ط - دار الفكر.
(3) حديث: " كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر ". أخرجه أبو داود (2 / 260 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وأعله ابن حجر في التلخيص (2 / 171 - ط شركة الطباعة الفنية) بجهالة فيه، ولكن ذكر له شواهد يتقوى بها.(19/100)
وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخَرْصِ مَعْرِفَةُ قَدْرِ الزَّكَاةِ، وَإِطْلاَقُ تَصَرُّفِ أَرْبَابِ الثِّمَارِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا، مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ.
مَا شُرِعَ فِيهِ الْخَرْصُ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخَرْصَ لاَ يَكُونُ فِي غَيْرِ النَّخْل وَالْكَرْمِ، لِوُرُودِ الأَْثَرِ فِيهِمَا، فَلاَ يُخْرَصُ الْحَبُّ فِي سُنْبُلِهِ، وَلاَ الزَّيْتُونُ لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِمَا أَثَرٌ، وَلَيْسَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ حَتَّى يُقَاسَا عَلَيْهِ، وَالْحَبُّ مَسْتُورٌ فِي سُنْبُلِهِ، وَحَبُّ الزَّيْتُونِ مُتَفَرِّقٌ فِي شَجَرِهِ لاَ يَجْمَعُهُ عُنْقُودٌ فَيَصْعُبَ خَرْصُهُ، وَلاَ حَاجَةَ بِأَهْلِهِ إِلَى أَكْلِهِ غَالِبًا، بِخِلاَفِ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ، فَإِنَّهُمَا يُؤْكَلاَنِ رُطَبًا، فَيُخْرَصُ عَلَى أَهْلِهِ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَيْهِمْ لِيُخَلَّى بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ أَكْل الثَّمَرَةِ، وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، ثُمَّ يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ مِنْهَا عَلَى مَا خُرِصَ.
وَلأَِنَّ ثَمَرَةَ الْكَرْمِ، وَالنَّخْل ظَاهِرَةٌ مُجْتَمِعَةٌ، فَخَرْصُهَا أَسْهَل، مِنْ خَرْصِ غَيْرِهَا (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلٌ: بِجَوَازِ خَرْصِ غَيْرِ التَّمْرِ، وَالْعِنَبِ إِذَا احْتَاجَ أَهْلُهُ، أَوْ كَانُوا غَيْرَ أُمَنَاءَ. (2)
وَقَال الزُّهْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ: يُخْرَصُ الزَّيْتُونُ وَنَحْوُهُ، لأَِنَّهُ ثَمَرٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَيُخْرَصُ كَالرُّطَبِ وَالْعِنَبِ.
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 710، ومغني المحتاج 1 / 387.
(2) مواهب الجليل 1 / 387.(19/100)
حُكْمُ التَّصَرُّفِ فِي الثِّمَارِ قَبْل الْخَرْصِ، وَبَعْدَهُ:
6 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّصَرُّفُ بِالأَْكْل أَوِ الْبَيْعِ، أَوِ الْهِبَةِ فِي شَيْءٍ مِنَ الثِّمَارِ قَبْل الْخَرْصِ، أَوِ التَّضْمِينِ وَالْقَبُول لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ بِهَا، وَلَكِنْ إِنْ تَصَرَّفَ فِي الْكُل، أَوِ الْبَعْضِ شَائِعًا صَحَّ فِيمَا عَدَا نَصِيبَ الْمُسْتَحِقِّينَ.
أَمَّا بَعْدَ الْخَرْصِ وَالتَّضْمِينِ، وَقَبُول الْمَالِكِ التَّضْمِينَ فَلاَ تَحْرِيمَ، لاِنْتِقَال الْحَقِّ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الذِّمَّةِ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الثِّمَارِ قَبْل الْخَرْصِ وَبَعْدَهُ بِالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنْ بَاعَ، أَوْ وَهَبَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ، فَالزَّكَاةُ عَلَى الْبَائِعِ وَالْوَاهِبِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهَا عَلَى الْمُبْتَاعِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَى الْبَائِعِ؛ لأَِنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ قَبْل الْبَيْعِ، فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ نَحْوُ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ. (2)
شُرُوطُ الْخَارِصِ:
7 - يَكْفِي فِي الْخَرْصِ خَارِصٌ وَاحِدٌ بِاتِّفَاقِ مَنْ يَرَى مَشْرُوعِيَّةَ الْخَرْصِ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ. (3)
لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 374، روضة الطالبين 2 / 353
(2) المغني لابن قدامة 2 / 704، حاشية الدوسوقي 1 / 435
(3) المغني لابن قدامة 2 / 707، مغني المحتاج 1 / 387، حاشية الدسوقي 1 / 454(19/101)
خَارِصًا أَوَّل مَا تَطِيبُ الثِّمَارُ (1) وَلأَِنَّهُ كَالْحَاكِمِ، وَيَعْمَل بِاجْتِهَادِهِ (2) . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ: بِاشْتِرَاطِ تَعَدُّدِ الْخَارِصِ، لأَِنَّ الْخَرْصَ كَالتَّقْوِيمِ وَالشَّهَادَةِ، وَكِلاَهُمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدُّدُ (3) .
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْخَارِصُ أَمِينًا غَيْرَ مُتَّهَمٍ، عَدْلاً، عَارِفًا بِالْخَرْصِ، وَتُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ الْخَرْصَ وِلاَيَةٌ، وَلَيْسَ الرَّقِيقُ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِهَا (4) .
صِفَةُ الْخَرْصِ:
8 - تَخْتَلِفُ صِفَةُ الْخَرْصِ بِاخْتِلاَفِ الثَّمَرِ، فَإِنْ كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا، فَإِنَّ الْخَارِصَ يُشَاهِدُ كُل وَاحِدَةٍ مِنَ الأَْشْجَارِ وَيَنْظُرُ، كَمْ فِي الْجَمِيعِ رُطَبًا أَوْ عِنَبًا، ثُمَّ يُقَدِّرُ مَا يَجِيءُ مِنْهَا تَمْرًا وَزَبِيبًا، وَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا خَرَصَ كُل نَوْعٍ عَلَى حِدَةٍ؛ لأَِنَّ الأَْنْوَاعَ تَخْتَلِفُ؛ وَلأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِ كُل نَوْعٍ حَتَّى يُخْرِجَ عُشْرَهُ (5) .
__________
(1) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحه. . . ". سبق تخريجه ف / 4
(2) مغني المحتاج 1 / 387
(3) المصادر السابقة.
(4) مغني المحتاج 1 / 387
(5) المغني لابن قدامة 2 / 707، مغني المحتاج 1 / 387، حاشية الدسوقي 1 / 453(19/101)
هَل يَتْرُكُ الْخَارِصُ شَيْئًا لِلْمَالِكِ عِنْدَ الْخَرْصِ؟
9 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْخَارِصِ أَنْ يَتْرُكَ فِي الْخَرْصِ الثُّلُثَ، أَوِ الرُّبْعَ عَلَى حَسَبِ الْحَاجَةِ، تَوْسِعَةً عَلَى أَرْبَابِ الأَْمْوَال، لأَِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى الأَْكْل، هُمْ، وَضُيُوفُهُمْ، وَيُطْعِمُونَ جِيرَانَهُمْ، وَنَحْوَهُ لِلشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهُ يُتْرَكُ لِلْمَالِكِ ثَمَرُ نَخْلَةٍ أَوْ نَخَلاَتٍ، وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يُخَفَّفُ عَنْ أَهْل الشَّجَرِ فِي الْخَرْصِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: إِذَا خَرَصْتُمْ فَجُذُّوا وَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا أَوْ تَجُذُّوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ (2) وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِالتَّخْفِيفِ لِلْوَاطِئَةِ (3) وَالسَّاقِطَةِ (4) وَاللاَّقِطَةِ (5) وَمَا يَنَال
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 707، مغني المحتاج 1 / 387
(2) حديث: " إذا خرصتم فجذوا ودعوا الثلث. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 259 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث سهل بن أبي حثمة، ونقل ابن حجر في التلخيص (3 / 172 - ط شركة الطباعة الفنية) عن ابن القطان أنه جهَّل الراوي عن سهل.
(3) الواطئة: المارة والسابلة سموا بذلك لوطئهم الطريق. النهاية لابن الأثير 5 / 200، وقيل: الواطئة: سقاطة التمر تقع فتوطأ بالأقدام) .
(4) الساقطة: كل ما يسقط من صاحبه ضياعا (المصباح) .
(5) اللاقطة، واللقاطة: ماكان ساقطا لا قيمة له من الشيء التافه، وما التقطت من مال ضائع (المصباح، ومتن اللغة) .(19/102)
الْعِيَال. (1)
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ تَرْكِ شَيْءٍ فِي الْخَرْصِ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ، الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ، أَوْ نِصْفِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجْمَعُ الْخَارِصُ الْحَائِطَ (الْبُسْتَانَ) فِي الْحَزْرِ، وَلاَ يُجْزِئُهُ أَرْبَاعًا أَوْ أَثْلاَثًا، وَكَذَا لاَ يُجْمَعُ مَا زَادَ عَلَى شَجَرَةٍ كَالثِّنْتَيْنِ وَالثَّلاَثِ وَلَوْ عَلِمَ مَا بِهَا جُمْلَةً، هَذَا إِذَا اخْتَلَفَتْ فِي الْجَفَافِ وَلَوْ كَانَتْ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ. فَإِنِ اتَّحَدَتْ فِي الْجَفَافِ، جَازَ جَمْعُهَا فِي الْخَرْصِ. (2)
وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى الزَّكَاةِ، فَيُتْرَكُ لِلْمَالِكِ مِنْهَا ذَلِكَ لِيُفَرِّقَهُ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِهِ، وَجِيرَانِهِ، لاَ مِنَ الْمَخْرُوصِ (3) .
حَقُّ الْفُقَرَاءِ بَعْدَ الْخَرْصِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ يَنْتَقِل مِنْ عَيْنِ الثِّمَارِ إِلَى ذِمَّةِ الْمَالِكِ بَعْدَ الْخَرْصِ، فَيَجُوزُ لِلْمَالِكِ التَّصَرُّفُ فِي جَمِيعِ
__________
(1) حديث: " كان يأمر بالتخفيف للواطئة. . . . ". أخرجه أبو عبيد في الأموال (ص 586 - نشر دار الفكر) من حديث مكحول مرسلا ثم أخرجه من قول عمر (ص 587) من طريق الأوزعي قال: بلغنا أن عمر قال:. . .
(2) مغني المحتاج 1 / 287، والدسوقي 1 / 453، والمواق 2 / 289
(3) روضة الطالبين 2 / 250، مغني المحتاج 1 / 387(19/102)
الثِّمَارِ، وَيَكُونُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ فِي ذِمَّتِهِ، فَيُخْرِجُهُ فِي وَقْتِهِ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا (1) ، وَيَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ لاِنْتِقَال حَقِّ الْفُقَرَاءِ إِلَى ذِمَّةِ الْمَالِكِ تَضْمِينَ السَّاعِي عَلَيْهِ، وَقَبُول الْمَالِكِ، كَأَنْ يَقُول لَهُ بَعْدَ الْخَرْصِ: ضَمَّنْتُكَ نَصِيبَ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنَ الرُّطَبِ أَوِ الْعِنَبِ بِكَذَا تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا. وَيَقْبَل الْمَالِكُ التَّضْمِينَ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ يَنْتَقِل مِنَ الْعَيْنِ إِلَى الذِّمَّةِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ رِضَاهُمَا، كَالْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي، فَإِنْ لَمْ يُضَمِّنْهُ أَوْ ضَمَّنَهُ وَلَمْ يَقْبَل الْمَالِكُ، بَقِيَ حَقُّ الْفُقَرَاءِ كَمَا كَانَ، مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ الثِّمَارِ، وَعِنْدَهُمْ قَوْلٌ: بِانْقِطَاعِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ، بِنَفْسِ الْخَرْصِ (2) .
لأَِنَّ التَّضْمِينَ لَمْ يَرِدْ فِي الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ عَلَى حَقِيقَةِ الضَّمَانِ، بِدَلِيل أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ سُرِقَ قَبْل الْجَفَافِ بِلاَ تَفْرِيطٍ مِنَ الْمَالِكِ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ قَطْعًا (3) ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ.
وَذَهَبَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي تَضْمِينُ الْخَارِصِ، وَلاَ حَاجَةَ إِلَى قَبُول الْمَالِكِ (4) .
تَلَفُ الْمَخْرُوصِ قَبْل إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ:
11 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِالْخَرْصِ إِلَى أَنَّهُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 / 7، مغني المحتاج 1 / 387
(2) مغني المحتاج 1 / 387، روضة الطالبين 2 / 251
(3) مغني المحتاج 1 / 387
(4) روضة الطالبين 2 / 251(19/103)
إِذَا هَلَكَ الْمَخْرُوصُ بِلاَ تَفْرِيطٍ مِنَ الْمَالِكِ، قَبْل إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِخْرَاجِهَا، أَمَّا إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الإِْخْرَاجِ، وَأَخَّرَهُ بِدُونِ عُذْرٍ أَوْ قَصَّرَ فِي الْحِفْظِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ نَصِيبَ الْفُقَرَاءِ بِالْخَرْصِ (1) .
ادِّعَاءُ تَلَفِ الْمَخْرُوصِ:
12 - إِنِ ادَّعَى الْمَالِكُ تَلَفَ الْمَخْرُوصِ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ فَالْقَوْل قَوْلُهُ، بِغَيْرِ يَمِينٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَبْل الْخَرْصِ أَمْ بَعْدَهُ، لأَِنَّهُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يُسْتَحْلَفُ فِيهِ كَالصَّلاَةِ، وَالْحَدِّ، هَذَا رَأْيُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنِ ادَّعَى هَلاَكَ الْمَخْرُوصِ بِسَبَبٍ خَفِيٍّ، كَسَرِقَةٍ، أَوْ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ عُرِفَ حُدُوثُهُ كَحَرِيقٍ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ حُدُوثُ السَّبَبِ الظَّاهِرِ طُولِبَ بِبَيِّنَةٍ عَلَى الْقَوْل الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ يَحْلِفُ عَلَى أَنَّهَا هَلَكَتْ فِيهِ لاِحْتِمَال سَلاَمَةِ مَالِهِ. أَمَّا إِذَا ادَّعَى غَلَطَ الْخَارِصِ أَوْ حَيْفَهُ وَكَانَ مَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلاً قَبْل قَوْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمَلاً لَمْ يُقْبَل مِنْهُ. (2)
ثَانِيًا: فَرْزُ أَنْصِبَةِ الشُّرَكَاءِ مِنَ الثِّمَارِ عَلَى الشَّجَرِ بِالْخَرْصِ:
13 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) المغني 2 / 707، روضة الطالبين 2 / 252
(2) مغني المحتاج 1 / 388، المغني 2 / 708، حاشية الدسوقي 1 / 454(19/103)
إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ قِسْمَةُ الثِّمَارِ عَلَى رُءُوسِ أَشْجَارِ النَّخِيل، وَالْكَرْمِ بِالْخَرْصِ، إِذَا طَابَتِ الثِّمَارُ وَحَل بَيْعُهَا، وَاخْتَلَفَتْ حَاجَةُ أَهْلِهَا بِأَنِ احْتَاجَ بَعْضُهُمْ لِلأَْكْل، وَالْبَعْضُ الآْخَرُ لِلْبَيْعِ، وَذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ وَسُهُولَةِ حَزْرِهِمَا بِخِلاَفِ غَيْرِهِمَا مِنَ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، فَلاَ يَجُوزُ الْفَرْزُ بِالْخَرْصِ، كَمَا تَقَدَّمَ (1) . وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فِي الْخَرْصِ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ الْمُتَقَدِّمِ (ف 4) .
ثَالِثًا: الْبَيْعُ بِالْمُجَازَفَةِ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ فِي جَوَازِ بَيْعِ الصُّبْرَةِ جُزَافًا، وَهُوَ الْبَيْعُ بِلاَ كَيْلٍ وَلاَ وَزْنٍ، بِالْحَدْسِ وَالظَّنِّ، وَالتَّخْمِينِ، اكْتِفَاءً بِالْمُشَاهَدَةِ عَنِ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ (2) . وَشُرُوطُ ذَلِكَ وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (جُزَافٌ، وَعَرَايَا، وَمُزَابَنَةٌ) .
__________
(1) الزرقاني 6 / 202 - 203، مغني المحتاج 4 / 424، المغني 9 / 115، روضة الطالبين 11 / 215
(2) المغني 4 / 137، مغني المحتاج 2 / 18، حاشية الجمل 3 / 34 - 35، فتح القدير 5 / 470، حاشية ابن عابدين 4 / 27(19/104)
خُرُوجٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخُرُوجُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ خَرَجَ يَخْرُجُ خُرُوجًا وَمَخْرَجًا، نَقِيضُ الدُّخُول (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الْخُرُوجَ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَيَسْتَعْمِلُونَهُ أَيْضًا بِمَعْنَى الْبَغْيِ، أَيِ الْخُرُوجِ عَلَى الأَْئِمَّةِ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْخُرُوجِ:
لِلْخُرُوجِ أَحْكَامٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْخَارِجِ، وَبِاخْتِلاَفِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخُرُوجُ، أَهَمُّهَا مَا يَلِي:
الْخَارِجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ وَغَيْرِهِمَا:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْخَارِجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ إِذَا كَانَ مَنِيًّا خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ، أَوْ دَمَ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْغُسْل، وَعَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمَنِيِّ إِذَا كَانَ مُعْتَادًا كَالْبَوْل، أَوِ الْغَائِطِ، وَالرِّيحِ، يُنْقِضُ الْوُضُوءَ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْمُعْتَادِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ
__________
(1) لسان العرب، والمحيط، ومتن اللغة مادة: " خرج ".
(2) الاختيار 4 / 54.(19/104)
الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ يُنْقِضُ الْوُضُوءَ.
وَيَرَى جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ غَيْرَ الْمُعْتَادِ كَالدُّودِ وَالْحَصَى لاَ يُنْقِضُ الْوُضُوءَ.
وَفِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ. (1)
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (وُضُوءٌ) .
خُرُوجُ الْقَدَمِ أَوْ بَعْضِهَا مِنَ الْخُفِّ:
3 - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُ نَزْعِ الْخُفِّ - وَهُوَ بُطْلاَنُ الْوُضُوءِ أَوِ الْمَسْحِ عَلَى خِلاَفٍ فِيهِ - بِخُرُوجِ الْقَدَمِ إِلَى سَاقِ الْخُفِّ، وَكَذَا بِخُرُوجِ أَكْثَرِ الْقَدَمِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ؛ لأَِنَّ الاِحْتِرَازَ عَنْ خُرُوجِ الْقَلِيل مُتَعَذِّرٌ، لأَِنَّهُ رُبَّمَا يَحْصُل بِدُونِ الْقَصْدِ، بِخِلاَفِ الْكَثِيرِ، فَإِنَّ الاِحْتِرَازَ عَنْهُ لَيْسَ بِمُتَعَذِّرٍ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا مِنْ قَدَمِ الْخُفِّ إِلَى السَّاقِ لَمْ يُؤَثِّرْ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْخُفُّ طَوِيلاً خَارِجًا عَنِ الْعَادَةِ، فَأَخْرَجَ رِجْلَهُ إِلَى مَوْضِعٍ لَوْ كَانَ الْخُفُّ مُعْتَادًا لَظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ مَحَل الْفَرْضِ بَطَل مَسْحُهُ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِلْبَعْضِ حُكْمُ الْكُل فَيَبْطُل
__________
(1) الاختيار 1 / 9، 22 ط دار المعرفة، والقوانين الفقهية / 31 - 34 ط دار الكتاب العربي، وروضة الطالبين 1 / 71، 72 ط المكتب الإسلامي، ونيل المآرب 1 / 69، 75، 77(19/105)
الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ الْقَدَمِ، أَوْ بَعْضِهَا إِلَى سَاقِ خُفِّهِ (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْحُ الْخُفِّ) .
الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الأَْذَانِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الأَْذَانِ بِلاَ عُذْرٍ، أَوْ نِيَّةِ رُجُوعٍ إِلَى الْمَسْجِدِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ التَّأْذِينُ لِلْفَجْرِ قَبْل الْوَقْتِ، فَلاَ يُكْرَهُ الْخُرُوجُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ، قَال أَبُو الشَّعْثَاءِ: كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ يَمْشِي، فَأَتْبَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بَصَرَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَال أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَوْقُوفُ فِي مِثْلِهِ كَالْمَرْفُوعِ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَر: مُصْطَلَحَ (مَسْجِدٌ) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 106، 107 ط الأميرية، وحاشية الدسوقي 1 / 145، وحاشية الجمل 1 / 148، ونهاية المحتاج 1 / 209 ط مصطفي الحلبي، وروضة الطالبين 1 / 133، ونيل المآرب 1 / 67
(2) فتح القدير1 / 338، 339 ط الأميرية، وابن عابدين 1 / 479، 480، ومواهب الجليل 1 / 467، والمجموع 2 / 179، 3 / 128، والمغني 1 / 408، 409، ونيل المآرب 1 / 119 وحديث أبي هريرة: " أما هذا فقد عصى أبا القاسم. . . . ". أخرجه مسلم (1 / 453 - 454 - ط الحلبي) .(19/105)
خُرُوجُ الإِْمَامِ لِلْخُطْبَةِ:
5 - إِذَا خَرَجَ الإِْمَامُ وَقَامَ لِلْخُطْبَةِ اسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ؛ لأَِنَّهُ بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ، وَيَحْرُمُ الْكَلاَمُ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَأَمَّا الْكَلاَمُ بِمُجَرَّدِ خُرُوجِهِ وَقَبْل أَنْ يَبْدَأَ بِالْخُطْبَةِ، فَإِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ لأَِنَّ الْمَنْعَ لِلإِْخْلاَل بِغَرَضِ الاِسْتِمَاعِ، وَلاَ اسْتِمَاعَ هُنَا، وَكَرِهَهُ الْحَكَمُ، وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يَكْرَهَانِ الْكَلاَمَ، وَالصَّلاَةَ بَعْدَ خُرُوجِ الإِْمَامِ، وَيَحْرُمُ الْكَلاَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمُجَرَّدِ خُرُوجِ الإِْمَامِ.
وَأَمَّا تَرْكُ الصَّلاَةِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَطَوُّعَ بَعْدَ خُرُوجِ الإِْمَامِ لِلْخُطْبَةِ، وَبِهِ قَال شُرَيْحٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِلَّذِي يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ: اجْلِسْ، فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ. (1) وَلأَِنَّ الصَّلاَةَ تَشْغَلُهُ عَنِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ فَكُرِهَ، كَصَلاَةِ الدَّاخِل.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ التَّطَوُّعُ
__________
(1) حديث: " اجلس فقد آذيت وآنيت ". . أخرجه النسائي (3 / 103 - ط المكتبة التجارية) من حديث عبد الله بن بسر، وابن ماجة (1 / 354 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وقواه ابن حجر في الفتح (2 / 392 - ط السلفية) .(19/106)
بِجُلُوسِ الإِْمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلاَ يُصَلِّي أَحَدٌ غَيْرُ الدَّاخِل، فَمَنْ دَخَل أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ التَّحِيَّةَ يُخَفِّفُهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ الإِْمَامُ فِي آخِرِهَا، فَلاَ يُصَلِّي لِئَلاَّ يَفُوتَهُ أَوَّل الْجُمُعَةِ مَعَ الإِْمَامِ (1) .
خُرُوجُ الْمُعْتَكِفِ مِنَ الْمَسْجِدِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلاَّ لِحَاجَةِ الإِْنْسَانِ أَوِ الْجُمُعَةِ، وَالدَّلِيل عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَخْرُجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إِلاَّ لِحَاجَةِ الإِْنْسَانِ. (2) وَقَالَتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: السُّنَّةُ لِلْمُعْتَكِفِ أَلاَّ يَخْرُجَ إِلاَّ لِمَا لاَ بُدَّ مِنْهُ. (3)
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: يَجِبُ الْخُرُوجُ لِلْجُمُعَةِ
__________
(1) فتح القدير 1 / 420، 421 ط الأميرية، والاختيار 1 / 84، والقوانين الفقهية / 80، وجواهر الإكليل 1 / 95 ط مكة المكرمة، وروضة الطالبين 2 / 30، وكشاف القناع 2 / 47، ونيل المآرب 1 / 200، والمغني 2 / 319 وما بعدها 2 / 324.
(2) حديث عائشة: " كان لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الانسان ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 273 - ط الحلبي) ومسلم (1 / 244 - ط الحلبي) .
(3) حديث عائشة: " السنة علي المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج إلا لما لا بد منه ". أخرجه أبو داود (2 / 836 - 837 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.(19/106)
وَلَكِنَّهُ يَبْطُل بِهِ الاِعْتِكَافُ؛ لإِِمْكَانِ الاِعْتِكَافِ فِي الْجَامِعِ (1) ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِكَافٌ)
الْخُرُوجُ لِلاِسْتِسْقَاءِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ الشَّبَابُ وَالشُّيُوخُ وَالضُّعَفَاءُ، وَالْعَجَزَةُ، وَغَيْرُ ذَاتِ الْهَيْئَةِ مِنَ النِّسَاءِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجُوا مُشَاةً بِتَوَاضُعٍ وَخُشُوعٍ فِي ثِيَابٍ خُلْقَانٍ، وَأَنْ يُقَدِّمُوا الصَّدَقَةَ كُل يَوْمٍ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ التَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِي خُرُوجِ الْكُفَّارِ وَأَهْل الذِّمَّةِ عَلَى أَقْوَالٍ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِسْقَاءٌ) .
خُرُوجُ الْمَرْأَةِ مِنَ الْمَنْزِل:
8 - الأَْصْل أَنَّ النِّسَاءَ مَأْمُورَاتٌ بِلُزُومِ الْبَيْتِ مَنْهِيَّاتٌ عَنِ الْخُرُوجِ (3) .
ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ
__________
(1) فتح القدير 2 / 309 ط دار إحياء التراث العربي، وجواهر الإكليل 1 / 156، 159، والقوانين الفقهية / 123، وروضة الطالبين 2 / 404، 409، وكشاف القناع 2 / 356 وما بعدها، والمغني 3 / 191
(2) الاختيار 1 / 72، وفتح القدير 1 / 437 ط الأميرية، والخرشي 2 / 109، والقوانين الفقهية 84، 85، والمجموع 5 / 65، 66، 70، 71، وروضة الطالبين 2 / 90، 91، ونيل المآرب 1 / 211
(3) أحكام القرآن للجصاص 3 / 443 ط البهية.(19/107)
الصَّحِيحِ: أَنَّ مِنْهَا: مِلْكُ الاِحْتِبَاسِ وَهُوَ صَيْرُورَتُهَا (الزَّوْجَةِ) مَمْنُوعَةً مِنَ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ} ، (1) وَالأَْمْرُ بِالإِْسْكَانِ نَهْيٌ عَنِ الْخُرُوجِ، وَالْبُرُوزِ، وَالإِْخْرَاجِ، إِذِ الأَْمْرُ بِالْفِعْل نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} (2) وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ} (3) وَلأَِنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَمْنُوعَةً عَنِ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ لاَخْتَل السَّكَنُ وَالنَّسَبُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُرِيبُ الزَّوْجَ وَيَحْمِلُهُ عَلَى نَفْيِ النَّسَبِ (4) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُْولَى} مَعْنَى هَذِهِ الآْيَةِ الأَْمْرُ بِلُزُومِ الْبَيْتِ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِنِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ دَخَل فِيهِ غَيْرُهُنَّ بِالْمَعْنَى. هَذَا لَوْ لَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ يَخُصُّ جَمِيعَ النِّسَاءِ، فَكَيْفَ وَالشَّرِيعَةُ طَافِحَةٌ بِلُزُومِ النِّسَاءِ بُيُوتَهُنَّ وَالاِنْكِفَافِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْهَا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ (5) .
فَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الأَْحْوَصِ
__________
(1) سورة الطلاق / 6
(2) سورة الأحزاب / 33
(3) سورة الطلاق / 1
(4) بدائع الصنائع 2 / 331
(5) تفسير القرطبي 14 / 179(19/107)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ، وَأَقْرَبُ مَا تَكُونُ بِرَوْحَةِ رَبِّهَا وَهِيَ فِي قَعْرِ بَيْتِهَا. (1)
كَمَا أَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: جِئْنَ النِّسَاءُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَ: يَا رَسُول اللَّهِ: ذَهَبَ الرِّجَال بِالْفَضْل وَالْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى فَمَا لَنَا عَمَلٌ نُدْرِكُ بِهِ عَمَل الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيل اللَّهِ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَعَدَتْ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - مِنْكُنَّ فِي بَيْتِهَا، فَإِنَّهَا تُدْرِكُ عَمَل الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيل اللَّهِ. (2)
وَعِنْدَ الْحَاجَةِ كَزِيَارَةِ الآْبَاءِ، وَالأُْمَّهَاتِ، وَذَوِي الْمَحَارِمِ، وَشُهُودِ مَوْتِ مَنْ ذُكِرَ، وَحُضُورِ عُرْسِهِ وَقَضَاءِ حَاجَةٍ لاَ غَنَاءَ لِلْمَرْأَةِ عَنْهَا وَلاَ تَجِدُ مَنْ يَقُومُ بِهَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ (3) . إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُقَيِّدُونَ جَوَازَ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ بِقُيُودٍ أَهَمُّهَا:
__________
(1) حديث: " المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان ". أخرجه الترمذي (3 / 467 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن غريب ".
(2) حديث أنس: " جئن النساء إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه البزار (كشف الأستار 2 / 182 - الرسالة) وأورده الهيثمي في المجمع (4 / 304 - ط القدسي) وقال: " فيه روح بن المسيب، وثقه ابن معين والبزار، وضعفه ابن حبان وابن عدي ". وانظر تفسير ابن كثير 3 / 482 ط الحلبي.
(3) الفواكه الدواني 2 / 409، وحاشية العدوي علي شرح الرسالة 2 / 421، وعمدة القاري 20 / 218 ط المنيرية.(19/108)
1 - أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ غَيْرَ مَخْشِيَّةِ الْفِتْنَةِ، أَمَّا الَّتِي يُخْشَى الاِفْتِتَانُ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُ أَصْلاً. (1)
2 - أَنْ تَكُونَ الطَّرِيقُ مَأْمُونَةً مِنْ تَوَقُّعِ الْمَفْسَدَةِ وَإِلاَّ حَرُمَ خُرُوجُهَا (2) .
3 - أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهَا فِي زَمَنِ أَمْنِ الرِّجَال (3) وَلاَ يُفْضِي إِلَى اخْتِلاَطِهَا بِهِمْ؛ لأَِنَّ تَمْكِينَ النِّسَاءِ مِنَ اخْتِلاَطِهِنَّ بِالرِّجَال أَصْل كُل بَلِيَّةٍ وَشَرٍّ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ نُزُول الْعُقُوبَاتِ الْعَامَّةِ، كَمَا أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ فَسَادِ أُمُورِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَاخْتِلاَطُ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الْفَوَاحِشِ وَالزِّنَى، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ الْعَامِّ، فَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ اخْتِلاَطِ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ فِي الأَْسْوَاقِ، وَالْفُرُجِ، وَمَجَامِعِ الرِّجَال، وَإِقْرَارُ النِّسَاءِ عَلَى ذَلِكَ إِعَانَةٌ لَهُنَّ عَلَى الإِْثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ مَنَعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النِّسَاءَ مِنَ الْمَشْيِ فِي طَرِيقِ الرِّجَال وَالاِخْتِلاَطِ بِهِمْ فِي الطَّرِيقِ (4) .
4 - أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهَا عَلَى تَبَذُّلٍ وَتَسَتُّرٍ تَامٍّ (5) .
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 409، وجواهر الإكليل 1 / 81
(2) جواهر الإكليل 1 / 81
(3) الفواكه الدواني 1 / 409، جواهر الإكليل 1 / 81
(4) الطرق الحكيمة لابن قيم الجوزيه ص 280 - 281 ط مطبعة السنة المحمدية.
(5) تفسير القرطبي 14 / 180، وانظر الزواجر 2 / 40، وابن عابدين 2 / 665(19/108)
قَال الْعَيْنِيُّ: يَجُوزُ الْخُرُوجُ لِمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَرْأَةُ مِنْ أُمُورِهَا الْجَائِزَةِ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ بَذَّةَ الْهَيْئَةِ، خَشِنَةَ الْمَلْبَسِ، تَفِلَةَ الرِّيحِ، مَسْتُورَةَ الأَْعْضَاءِ غَيْرَ مُتَبَرِّجَةٍ بِزِينَةٍ وَلاَ رَافِعَةً صَوْتَهَا (1) .
قَال ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ: يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ مَنْعُ النِّسَاءِ مِنَ الْخُرُوجِ مُتَزَيِّنَاتٍ مُتَجَمِّلاَتٍ، وَمَنْعُهُنَّ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي يَكُنَّ بِهَا كَاسِيَاتٍ عَارِيَّاتٍ، كَالثِّيَابِ الْوَاسِعَةِ وَالرِّقَاقِ، وَإِنْ رَأَى وَلِيُّ الأَْمْرِ أَنْ يُفْسِدَ عَلَى الْمَرْأَةِ - إِذَا تَجَمَّلَتْ وَخَرَجَتْ - ثِيَابَهَا بِحِبْرٍ وَنَحْوِهِ، فَقَدْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَأَصَابَ. وَهَذَا مِنْ أَدْنَى عُقُوبَتِهِنَّ الْمَالِيَّةِ (2) . فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا تَطَيَّبَتْ وَخَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ. (3)
5 - أَنْ يَكُونَ الْخُرُوجُ بِإِذْنِ الزَّوْجِ، فَلاَ يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (4) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ: وَإِذَا اضْطُرَّتِ امْرَأَةٌ لِلْخُرُوجِ لِزِيَارَةِ وَالِدٍ خَرَجَتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُتَبَرِّجَةٍ (5) .
__________
(1) عمدة القاري 19 / 125، وانظر ما قاله الحطاب نقلا عن ابن القطان في هذا الصدد (مواهب الجليل 3 / 405)
(2) الطرق الحكيمة ص 280 - 281
(3) حديث: " أن المرأة إذا تطيبت وخرجت من بيتها فهي زانية ". أخرجه الترمذي (5 / 106 - ط الحلبي) من حديث أبي موسي، وقال: " حديث حسن صحيح ".
(4) المغني 7 / 20
(5) الزواجر 2 / 40(19/109)
وَنَقَل ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ عَنِ النَّوَوِيِّ عِنْدَ التَّعْلِيقِ عَلَى حَدِيثِ: إِذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْل إِلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ (1) أَنَّهُ قَال: اسْتُدِل بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ لِتَوَجُّهِ الأَْمْرِ إِلَى الأَْزْوَاجِ بِالإِْذْنِ (2) .
وَلِلزَّوْجِ مَنْعُ زَوْجَتِهِ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ إِلَى مَا لَهَا مِنْهُ بُدٌّ، سَوَاءٌ أَرَادَتْ زِيَارَةَ وَالِدَيْهَا أَوْ عِيَادَتَهُمَا أَوْ حُضُورَ جِنَازَةِ أَحَدِهِمَا. قَال أَحْمَدُ فِي امْرَأَةٍ لَهَا زَوْجٌ وَأُمٌّ مَرِيضَةٌ: طَاعَةُ زَوْجِهَا أَوْجَبُ عَلَيْهَا مِنْ أُمِّهَا إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ بَطَّةَ فِي أَحْكَامِ النِّسَاءِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً سَافَرَ وَمَنَعَ زَوْجَتَهُ مِنَ الْخُرُوجِ فَمَرِضَ أَبُوهَا، فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِيَادَةِ أَبِيهَا فَقَال لَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّقِي اللَّهَ وَلاَ تُخَالِفِي زَوْجَكَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهَا بِطَاعَةِ زَوْجِهَا (3) وَلأَِنَّ طَاعَةَ الزَّوْجِ وَاجِبَةٌ، وَالْعِيَادَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُ الْوَاجِبِ لِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَلاَ يَنْبَغِي لِلزَّوْجِ مَنْعُ زَوْجَتِهِ مِنْ عِيَادَةِ وَالِدَيْهَا، وَزِيَارَتِهِمَا لأَِنَّ فِي مَنْعِهَا مِنْ ذَلِكَ قَطِيعَةً
__________
(1) حديث: " إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلي المسجد فأذنوا لهن ". أخرجه البخاري (2 / 347 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمر.
(2) فتح الباري 2 / 347 - 348
(3) حديث: " اتقي الله ولا تخالفي زوجك ". أورده ابن قدامة في المغني (7 / 20 - ط الرياض) وعزاه إلي ابن بطة في أحكام النساء.(19/109)
لَهُمَا، وَحَمْلاً لِزَوْجَتِهِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ (1) .
وَيَنْبَغِي التَّنْوِيهُ إِلَى أَنَّ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا تَخْرُجُ لِلْوَالِدَيْنِ فِي كُل جُمُعَةٍ بِإِذْنِ الزَّوْجِ وَبِدُونِهِ، وَلِلْمَحَارِمِ فِي كُل سَنَةٍ مَرَّةً بِإِذْنِهِ وَبِدُونِهِ (2) . وَفِي مَجْمَعِ النَّوَازِل، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ قَابِلَةً، أَوْ غَسَّالَةً، أَوْ كَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى آخَرَ أَوْ لآِخَرَ عَلَيْهَا حَقٌّ، تَخْرُجُ بِالإِْذْنِ وَبِغَيْرِ الإِْذْنِ، وَالْحَجُّ عَلَى هَذَا (3) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ بَعْدَ أَنْ نَقَل مَا فِي النَّوَازِل: وَفِي الْبَحْرِ عَنِ الْخَانِيَّةِ تَقْيِيدُ خُرُوجِهَا بِإِذْنِ الزَّوْجِ (4) .
هَذَا وَيَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ لِمَا لاَ غَنَاءَ لَهَا عَنْهُ، كَإِتْيَانٍ بِنَحْوِ مَأْكَلٍ (5) وَالذَّهَابِ إِلَى الْقَاضِي لِطَلَبِ الْحَقِّ، وَاكْتِسَابِ النَّفَقَةِ إِذَا أَعْسَر بِهَا الزَّوْجُ، وَالاِسْتِفْتَاءُ إِذَا لَمْ يَكُنْ زَوْجُهَا فَقِيهًا (6) . وَكَذَلِكَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إِذَا كَانَ الْمَنْزِل الَّذِي تَسْكُنُهُ مُشْرِفًا عَلَى انْهِدَامٍ (7) .
__________
(1) المغني 207، والمهذب 2 / 67، وانظر الفواكه الدواني 2 / 409، وابن عابدين 2 / 664
(2) ابن عابدين 2 / 664، والفتاوى الهندية 1 / 557
(3) الفتاوى الهندية 1 / 557
(4) ابن عابدين 2 / 665
(5) مطالب أولي النهى 5 / 271
(6) الإقناع للشربيني الخطيب 2 / 95، ابن عابدين 2 / 665
(7) روضة الطالبين 9 / 60، ونهاية المحتاج 7 / 195(19/110)
وَأَخَذَ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ كَلاَمِ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ لِلزَّوْجَةِ اعْتِمَادَ الْعُرْفِ الدَّال عَلَى رِضَا أَمْثَال الزَّوْجِ بِمِثْل الْخُرُوجِ الَّذِي تُرِيدُهُ، نَعَمْ لَوْ عُلِمَ مُخَالَفَتُهُ لأَِمْثَالِهِ فِي ذَلِكَ فَلاَ تَخْرُجُ (1) .
خُرُوجُ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسْجِدِ:
9 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَرَادَتْ حُضُورَ الْمَسْجِدِ لِلصَّلاَةِ، إِنْ كَانَتْ شَابَّةً أَوْ كَبِيرَةً تُشْتَهَى كُرِهَ لَهَا، وَكُرِهَ لِزَوْجِهَا وَوَلِيِّهَا تَمْكِينُهَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا لاَ تُشْتَهَى فَلَهَا الْخُرُوجُ بِإِذْنِ الزَّوْجِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ دُونَ كَرَاهَةٍ (2) .
وَمِثْلُهُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّابَّةِ، أَمَّا الْعَجُوزُ فَإِنَّهَا تَخْرُجُ عِنْدَهُ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ فَقَطْ، وَلاَ تَخْرُجُ فِي الْجُمُعَةِ وَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ (3) .
وَكَرِهَ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ خُرُوجَهَا مُطْلَقًا لِفَسَادِ الزَّمَنِ (4) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالنِّسَاءُ عِنْدَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةِ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 195
(2) المجموع 4 / 198، والفتاوى البزازية بهامش الهندية 1 / 183، وابن عابدين 1 / 380
(3) الفتاوى البزازية بهامش الهندية 1 / 183، وابن عابدين 1 / 380، هذا بحسب زمنهم في أنه لا يخرج في هذا الوقت إلا المصلون، فيراعي تغير العرف.
(4) الدر المختار 1 / 380(19/110)
أَقْسَامٍ: عَجُوزٌ انْقَطَعَتْ حَاجَةُ الرِّجَال عَنْهَا، فَهَذِهِ تَخْرُجُ لِلْمَسْجِدِ، وَلِلْفَرْضِ، وَلِمَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ، وَتَخْرُجُ لِلصَّحْرَاءِ فِي الْعِيدِ وَالاِسْتِسْقَاءِ، وَلِجِنَازَةِ أَهْلِهَا وَأَقَارِبِهَا، وَلِقَضَاءِ حَوَائِجِهَا، وَمُتَجَالَّةٌ (مُسِنَّةٌ) لَمْ تَنْقَطِعْ حَاجَةُ الرِّجَال مِنْهَا بِالْجُمْلَةِ، فَهَذِهِ تَخْرُجُ لِلْمَسْجِدِ لِلْفَرَائِضِ، وَمَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ، وَلاَ تُكْثِرُ التَّرَدُّدَ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهَا أَيْ يُكْرَهُ لَهَا ذَلِكَ، وَشَابَّةٌ غَيْرُ فَارِهَةٍ فِي الشَّبَابِ وَالنَّجَابَةِ، تَخْرُجُ لِلْمَسْجِدِ لِصَلاَةِ الْفَرْضِ جَمَاعَةً، وَفِي جَنَائِزِ أَهْلِهَا وَأَقَارِبِهَا، وَلاَ تَخْرُجُ لِعِيدٍ وَلاَ اسْتِسْقَاءٍ وَلاَ لِمَجَالِسِ ذِكْرٍ أَوْ عِلْمٍ. وَشَابَّةٌ فَارِهَةٌ فِي الشَّبَابِ وَالنَّجَابَةِ، فَهَذِهِ الاِخْتِيَارُ لَهَا أَنْ لاَ تَخْرُجَ أَصْلاً (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِلنِّسَاءِ حُضُورُ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرِّجَال (2) لأَِنَّهُنَّ كُنَّ يُصَلِّينَ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ النِّسَاءُ يُصَلِّينَ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَنْصَرِفْنَ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ. (3) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ
__________
(1) الشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 1 / 446 - 447
(2) المغني 2 / 202 - 203، 375
(3) حديث عائشة: " كان النساء يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 54 - ط السلفية) ومسلم (1 / 446 - ط الحلبي) .(19/111)
وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلاَتٍ يَعْنِي غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ. (1)
وَتَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَى أَنَّ جَوَازَ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْمَسْجِدِ - عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهُ - مُقَيَّدٌ بِالْقُيُودِ السَّابِقَةِ (2) . وَلاَ يُقْضَى عَلَى زَوْجِ الشَّابَّةِ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا بِالْخُرُوجِ لِنَحْوِ صَلاَةِ الْفَرْضِ وَلَوْ شَرَطَ لَهَا فِي صُلْبِ عَقْدِهَا (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا إِذَا اسْتَأْذَنَتْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ لِلصَّلاَةِ إِذَا كَانَتْ عَجُوزًا لاَ تُشْتَهَى، وَأَمِنَ الْمَفْسَدَةَ عَلَيْهَا وَعَلَى غَيْرِهَا، فَإِنْ مَنَعَهَا لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ، هَذَا مَذْهَبُنَا. قَال الْبَيْهَقِيُّ: وَبِهِ قَال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ (4) .
خُرُوجُ الْمَرْأَةِ فِي السَّفَرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ:
10 - قَال النَّوَوِيُّ نَقْلاً عَنِ الْقَاضِي: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ إِلاَّ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تُهَاجِرَ مِنْهَا إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَحْرَمٌ. (5)
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ خُرُوجِ الْمَرْأَةِ لِلْحَجِّ
__________
(1) حديث: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ". أخرجه أبو داود (1 / 381 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة، وإسناده حسن.
(2) المغني 2 / 376، والفواكه الدواني 2 / 409، والمجموع 4 / 199
(3) الفواكه الدواني 2 / 409
(4) المجموع 4 / 199
(5) صحيح مسلم بشرح النووي 9 / 104(19/111)
وَالْعُمْرَةِ وَسَفَرِ الزِّيَارَاتِ وَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي الأَْسْفَارِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحَاتُ: (حَجٌّ، سَفَرٌ، عُمْرَةٌ، هِجْرَةٌ) .
الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ:
11 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ أَنْ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَال عِنْدَ الْخُرُوجِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ " أَوْ يَقُول: " رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ "، وَذَلِكَ بَعْدَ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
الْخُرُوجُ مِنَ الْبَيْتِ:
12 - يُسْتَحَبُّ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْبَيْتِ أَنْ يَقُول مَا كَانَ يَقُولُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ (2) وَذَلِكَ فِيمَا رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَال: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَضِل أَوْ أُضَل، أَوْ أَزِل أَوْ أُزَل، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَل أَوْ يُجْهَل عَلَيَّ. (3)
__________
(1) القوانين الفقهية / 55، والمغني 1 / 455
(2) الأذكار للنووي / 24
(3) حديث أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته ". أخرجه أبو داود (5 / 327 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (5 / 490 - ط الحلبي) وفي إسناده انقطاع كما في الفتوحات الربانية لابن علان (1 / 331 ط المنيرية) .(19/112)
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَال - يَعْنِي إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ - بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، وَلاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ يُقَال لَهُ: كُفِيتَ وَوُقِيتَ وَهُدِيتَ وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ. (1)
الْخُرُوجُ مِنَ الْخَلاَءِ:
13 - يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْخَلاَءِ أَنْ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَيَقُول: غُفْرَانَكَ، أَوِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الأَْذَى وَعَافَانِي (2) . لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلاَءِ قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الأَْذَى وَعَافَانِي. (3)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءُ الْحَاجَةِ) .
خُرُوجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنَ الْبَيْتِ:
14 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى
__________
(1) حديث: " من قال: " - يعني إذا خرج من بيته - بسم الله ". أخرجه الترمذي (5 / 490 - ط الحلبي) وابن حبان (الموارد 1 / 590 - ط السلفية) وقال الترمذي: " حسن صحيح ".
(2) ابن عابدين 1 / 230، 231، وجواهر الإكليل 1 / 17، والقليوبي 1 / 40، 41، والمجموع 2 / 179، ونيل المآرب 1 / 52.
(3) حديث: " كان إذا خرج من الخلاء قال: الحمد لله الذي أذهب عني الأذي وعافاني ". أخرجه ابن ماجه (1 / 110 - ط الحلبي) ، وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " (1 / 92 - ط دار الحنان) : " هذا حديث ضعيف، لا يصح بهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ".(19/112)
الْمُعْتَدَّةِ مُلاَزَمَةُ السَّكَنِ، فَلاَ تَخْرُجُ إِلاَّ لِحَاجَةٍ أَوْ عُذْرٍ، فَإِنْ خَرَجَتْ أَثِمَتْ، وَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا، وَكَذَا لِوَارِثِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ.
وَتُعْذَرُ فِي الْخُرُوجِ فِي مَوَاضِعَ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِدَّةٌ) .
مَنْ لاَ يَجُوزُ خُرُوجُهُ مَعَ الْجَيْشِ فِي الْجِهَادِ:
15 - لاَ يَسْتَصْحِبُ أَمِيرُ الْجَيْشِ مَعَهُ مُخَذِّلاً، وَلاَ مُرْجِفًا، وَلاَ جَاسُوسًا، وَلاَ مَنْ يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْعَى بِالْفَسَادِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيل اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأََوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} (1)
وَإِنْ خَرَجَ هَؤُلاَءِ فَلاَ يُسْهَمُ لَهُمْ وَلاَ يُرْضَخُ، وَإِنْ أَظْهَرُوا عَوْنَ الْمُسْلِمِينَ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي (جِهَادٌ، وَغَنِيمَةٌ) .
الْخُرُوجُ عَلَى الإِْمَامِ:
16 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الإِْمَامَ إِذَا كَانَ عَدْلاً تَجِبُ طَاعَتُهُ، وَمُحَرَّمٌ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} (3) وَأَمَّا الْخُرُوجُ عَلَى الإِْمَامِ الْجَائِرِ
__________
(1) سورة التوبة / 46، 47
(2) القليوبي 4 / 217، والمغني 8 / 351
(3) سورة النساء / 59(19/113)
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحَيِ: (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى، وَبُغَاةٌ) . (1)
خُرُوجُ الْمَحْبُوسِ:
17 - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْمَحْبُوسَ لأَِجْل قَضَاءِ الدَّيْنِ يُمْنَعُ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى أَشْغَالِهِ وَمُهِمَّاتِهِ، وَإِلَى الْجُمَعِ وَالأَْعْيَادِ، وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ، وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَالزِّيَارَةِ، وَالضِّيَافَةِ، وَأَمْثَال ذَلِكَ. لأَِنَّ الْحَبْسَ لِلتَّوَصُّل إِلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَإِذَا مُنِعَ عَنْ ذَلِكَ سَارَعَ إِلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ (2) .
(ر: حَبْسٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 368، وحاشية الدسوقي 4 / 299، ومواهب الجليل 6 / 277، والجمل 5 / 114، وروضة الطالبين 10 / 50، والأحكام السلطانية للماوردي ص 17، والأحكام السلطانية لأبي يعلي ص 14
(2) البدائع 7 / 174، جواهر الإكليل 2 / 93، 94، القليوبي 2 / 292، والمغني 8 / 315(19/113)
خَزٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَزُّ مِنَ الثِّيَابِ مَا يُنْسَجُ مِنْ صُوفٍ وَإِبْرَيْسَمٍ (حَرِيرٍ) أَوْ إِبْرَيْسَمٍ وَحْدَهُ (1)
وَهُوَ فِي الأَْصْل مِنَ الْخُزَزِ وَهُوَ وَلَدُ الأَْرْنَبِ أَوِ الأَْرْنَبُ الذَّكَرُ، لِنُعُومَةِ وَبَرِهِ.
وَأَطْلَقَهُ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَا سُدَاهُ حَرِيرٌ وَلُحْمَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ عَكْسُهُ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَزُّ:
2 - الْقَزُّ مُعَرَّبٌ، وَهُوَ مَا يُعْمَل مِنْهُ الإِْبْرَيْسَمُ (الْحَرِيرُ) وَلِهَذَا قَالُوا: الْقَزُّ وَالإِْبْرَيْسَمُ مِثْل الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ (3) . فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَزِّ، هُوَ أَنَّ الْقَزَّ أَصْل الْحَرِيرِ، وَالْخَزُّ يَكُونُ مُرَكَّبًا مِنَ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ، كَالصُّوفِ، وَالْقُطْنِ وَنَحْوِهِمَا.
__________
(1) المصباح المنير ومتن اللغة.
(2) ابن عابدين 5 / 227، والفتاوى الهندية 5 / 331، وحاشية الدسوقي 1 / 220، والزرقاني 1 / 182، وفتح الباري 10 / 271
(3) المصباح، وحاشية القليوبي 1 / 303، والفتاوى الهندية 5 / 331(19/114)
ب - الدِّيبَاجُ:
3 - الدِّيبَاجُ هُوَ مَا سُدَاهُ إِبْرَيْسَمٌ وَلُحْمَتُهُ إِبْرَيْسَمٌ، فَيَحْرُمُ لُبْسُهُ لِلرِّجَال مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ اتِّفَاقًا. وَلاَ بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ بِسَائِرِ الْوُجُوهِ غَيْرِ اللُّبْسِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ كَالْحَنَفِيَّةِ، وَفِيهِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ تَفْصِيلٌ (1) وَيُنْظَرُ أَحْكَامُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَرِيرٌ، أَلْبِسَةٌ) .
الأَْحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْخَزِّ:
4 - الْخَزُّ إِذَا كَانَ سُدَاهُ وَلُحْمَتُهُ كِلاَهُمَا مِنَ الْحَرِيرِ فَلاَ يَجُوزُ لُبْسُهُ لِلرِّجَال فِي غَيْرِ حَالَةِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ اتِّفَاقًا، وَيَجُوزُ لِلنِّسَاءِ مُطْلَقًا، لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلاَ الدِّيبَاجَ (2) وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أُحِل الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لإِِنَاثِ أُمَّتِي وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا (3) (ر: حَرِيرٌ) .
أَمَّا إِذَا كَانَ مَنْسُوجًا مِنَ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ، كَمَا إِذَا كَانَ سُدَاهُ مِنْ إِبْرَيْسَمٍ وَلُحْمَتُهُ مِنَ الصُّوفِ أَوِ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 225، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 220، والقليوبي 1 / 303
(2) حديث: " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 554 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1637 - ط الحلبي) من حديث حذيفة بن اليمان.
(3) حديث: " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها ". أخرجه النسائي (8 / 161 - ط المكتبة التجارية) من حديث أبي موسي الأشعري، وحسنه ابن المديني كما في التلخيص لابن حجر (1 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية) .(19/114)
الْقُطْنِ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِهِ لِلرِّجَال. قَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ كَانَتْ نَفِيسَةً وَغَالِيَةً (1) . وَقَال أَحْمَدُ: أَمَّا الْخَزُّ فَقَدْ لَبِسَهُ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ لَبِسُوا جِبَابَ الْخَزِّ (3) .
وَرُوِيَ عَنْ مُعْتَمِرٍ قَال سَمِعْتُ أَبِي قَال: (رَأَيْتُ عَلَى أَنَسٍ بُرْنُسًا أَصْفَرَ مِنْ خَزٍّ) (4) كَمَا رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْبَسُونَ الْخَزَّ (5) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لُبْسُهُ مَكْرُوهٌ يُؤْجَرُ عَلَى تَرْكِهِ وَلاَ يَأْثَمُ فِي فِعْلِهِ؛ لأَِنَّهُ مِنَ الْمُشْتَبِهَاتِ الْمُتَكَافِئَةِ أَدِلَّةُ حِلِّهَا وَحُرْمَتِهَا الَّتِي قَال فِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ (6)
__________
(1) المراجع السابقة وروضة الطالبين 2 / 68، والمغني 1 / 590 - 592
(2) مسائل الإمام أحمد 2 / 146
(3) المغني لابن قدامة 1 / 591
(4) فتح الباري 10 / 271
(5) المغني 1 / 591
(6) حاشية الدسوقي 1 / 220، والزرقاني 1 / 182 وحديث: " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ". أخرجه مسلم (3 / 1220 - ط الحلبي) من حديث النعمان بن بشير.(19/115)
5 - وَقَدْ فَصَّل الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ مِنَ الْحَرِيرِ فِي النَّسِيجِ، فَقَالُوا: الْمُرَكَّبُ مِنَ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ، إِنْ زَادَ وَزْنُ الْحَرِيرِ يَحْرُمُ لُبْسُهُ، وَيَحِل إِذَا كَانَ الأَْكْثَرُ غَيْرَ الْحَرِيرِ، وَكَذَا إِنِ اسْتَوَيَا، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: إِنَّمَا نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الثَّوْبِ الْمُصْمَتِ مِنْ قَزٍّ. (1) وَالْمُصْمَتُ الْخَالِصُ (2) .
وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَال ابْنُ عَقِيلٍ هُوَ الأَْشْبَهُ: التَّحْرِيمُ إِنِ اسْتَوَيَا.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَوَازُ لُبْسِهِ إِذَا كَانَتْ لُحْمَتُهُ غَيْرَ الْحَرِيرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَغْلُوبًا، أَمْ غَالِبًا، أَمْ مُسَاوِيًا؛ لأَِنَّ الثَّوْبَ إِنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ، وَالنَّسْجُ بِاللُّحْمَةِ فَكَانَتْ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ (3) . (ر: حَرِيرٌ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الْخَزِّ فِي كِتَابِ الْحَظْرِ
__________
(1) حديث: " نهى عن الثوب المصمت من قز ". أخرجه أحمد (1 / 218 - ط الميمنية) والحاكم (4 / 192 - ط دائرة المعارف العثمانية) واللفظ لأحمد، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) ابن عابدين 5 / 227، ومغني المحتاج 1 / 307، والمغني لابن قدامة 1 / 590، 591
(3) المراجع السابقة.(19/115)
وَالإِْبَاحَةِ وَبَابِ اللُّبْسِ، وَبَعْضُهُمْ فِي بَحْثِ (الْعِدَّةِ) وَإِحْدَادِ الْمَرْأَةِ، وَفِي تَكْفِينِ الْمَيِّتِ وَغَيْرِهَا.
يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حَرِيرٌ) .
خُسُوفٌ
انْظُرْ: صَلاَةُ الْكُسُوفِ(19/116)
خُشُوعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخُشُوعُ لُغَةً مِنْ يَخْشَعُ: يَخْشَعُ السُّكُونُ وَالتَّذَلُّل.
وَخَشَعَ فِي صَلاَتِهِ وَدُعَائِهِ، أَقْبَل بِقَلْبِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ خَشَعَتِ الأَْرْضُ إِذَا سَكَنَتْ وَاطْمَأَنَّتْ.
وَخَشَعَ بَصَرُهُ انْكَسَرَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} . (1)
قَال الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ: الْخُشُوعُ الضَّرَاعَةُ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل الْخُشُوعُ فِيمَا يُوجَدُ عَلَى الْجَوَارِحِ، وَالضَّرَاعَةُ أَكْثَرُ مَا تُسْتَعْمَل فِيمَا يُوجَدُ فِي الْقَلْبِ، وَلِذَلِكَ قِيل فِيمَا رُوِيَ: إِذَا ضَرَعَ الْقَلْبُ خَشَعَتِ الْجَوَارِحُ. وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: الْخُشُوعُ هَيْئَةٌ فِي النَّفْسِ يَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْجَوَارِحِ سُكُونٌ وَتَوَاضُعٌ.
وَالتَّخَشُّعُ تَكَلُّفُ الْخُشُوعِ، وَالتَّخَشُّعُ لِلَّهِ، الإِْخْبَاتُ وَالتَّذَلُّل لَهُ، وَقَال قَتَادَةُ: الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ هُوَ الْخَوْفُ وَغَضُّ الْبَصَرِ فِي الصَّلاَةِ.
__________
(1) سورة المعارج / 44(19/116)
وَالْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْتَلِفُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخُضُوعُ:
2 - الْخُضُوعُ لُغَةً: التَّوَاضُعُ، وَخَضَعَ يَخْضَعُ خُضُوعًا، وَاخْتَضَعَ ذَل وَاسْتَكَانَ، وَأَخْضَعَهُ الْفَقْرُ أَذَلَّهُ.
وَالْخُضُوعُ: الاِنْقِيَادُ وَالْمُطَاوَعَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى أَنْ يَخْضَعَ الرَّجُل لِغَيْرِ امْرَأَتِهِ. (2)
أَيْ يَلِينُ لَهَا فِي الْقَوْل بِمَا يُطْمِعُهَا مِنْهُ. وَخَضَعَ الإِْنْسَانُ خَضْعًا، أَمَال رَأْسَهُ إِلَى الأَْرْضِ، أَوْ دَنَا مِنْهَا، وَفِي التَّنْزِيل: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} . (3)
وَالْخُضُوعُ قَرِيبٌ مِنَ الْخُشُوعِ إِلاَّ أَنَّ الْخُضُوعَ يَكُونُ فِي الْبَدَنِ، وَالْخُشُوعَ فِي الْبَدَنِ وَالصَّوْتِ وَالْبَصَرِ.
وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل الْخُشُوعُ فِي الصَّوْتِ وَالْخُضُوعُ فِي الأَْعْنَاقِ.
وَذَكَرَ أَبُو هِلاَلٍ الْعَسْكَرِيُّ أَنَّ الْخُضُوعَ قَدْ يَكُونُ بِتَكَلُّفٍ، أَمَّا الْخُشُوعُ فَلاَ يَكُونُ تَكَلُّفًا، وَإِنَّمَا بِخَوْفِ الْمَخْشُوعِ لَهُ (4) .
__________
(1) لسان العرب والقاموس والمصباح المنير مادة: " خشع " وتفسير القرطبي 1 / 374
(2) حديث: " نهى أن يخضع الرجل لغير امرأته ". أورده ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث (2 / 43 - ط الحلبي) .
(3) سورة الشعراء / 4
(4) لسان العرب والمصباح المنير والفروق للعسكري ص 243(19/117)
ب - الإِْخْبَاتُ:
3 - الإِْخْبَاتُ لُغَةً الْخُضُوعُ وَالْخُشُوعُ: قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} . (1) قَال الرَّاغِبُ: وَاسْتُعْمِل الإِْخْبَاتُ اسْتِعْمَال اللِّينِ وَالتَّوَاضُعِ وَقَال أَبُو هِلاَلٍ الْعَسْكَرِيُّ: الإِْخْبَاتُ مُلاَزَمَةُ الطَّاعَةِ وَالسُّكُونِ، فَهُوَ الْخُضُوعُ الْمُسْتَمِرُّ عَلَى اسْتِوَاءٍ (2) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْخُشُوعِ فِي الصَّلاَةِ هَل هُوَ فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلاَةِ، أَوْ مِنْ فَضَائِلِهَا وَمُكَمِّلاَتِهَا؟
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ بِدَلِيل صِحَّةِ صَلاَةِ مَنْ يُفَكِّرُ بِأَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ إِذْ لَمْ يَقُولُوا بِبُطْلاَنِهَا إِذَا كَانَ ضَابِطًا أَفْعَالَهَا.
وَعَلَيْهِ فَيُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَخْشَعَ فِي كُل صَلاَتِهِ بِقَلْبِهِ وَبِجَوَارِحِهِ وَذَلِكَ بِمُرَاعَاةِ مَا يَلِي:
أ - أَنْ لاَ يُحْضِرَ فِيهِ غَيْرَ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الصَّلاَةِ.
ب - وَأَنْ يَخْشَعَ بِجَوَارِحِهِ بِأَنْ لاَ يَعْبَثَ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ كَلِحْيَتِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جَسَدِهِ، كَتَسْوِيَةِ رِدَائِهِ أَوْ عِمَامَتِهِ، بِحَيْثُ يَتَّصِفُ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ بِالْخُشُوعِ، وَيَسْتَحْضِرُ أَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ مَلَكِ الْمُلُوكِ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى يُنَاجِيهِ. وَأَنَّ صَلاَتَهُ مَعْرُوضَةٌ عَلَيْهِ.
__________
(1) سورة الحج / 34
(2) المصباح والقاموس ومفردات الراغب مادة: " خبت " والفروق للعسكري ص 245(19/117)
ج - أَنْ يَتَدَبَّرَ الْقِرَاءَةَ لأَِنَّهُ بِذَلِكَ يُكْمِل مَقْصُودَ الْخُشُوعِ.
د - أَنْ يُفْرِغَ قَلْبَهُ عَنِ الشَّوَاغِل الأُْخْرَى؛ لأَِنَّ هَذَا أَعْوَنُ عَلَى الْخُشُوعِ، وَلاَ يَسْتَرْسِل مَعَ حَدِيثِ النَّفْسِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَاعْلَمْ أَنَّ حُضُورَ الْقَلْبِ فَرَاغُهُ مِنْ غَيْرِ مَا هُوَ مُلاَبِسٌ لَهُ.
وَالأَْصْل فِي طَلَبِ الْخُشُوعِ فِي الصَّلاَةِ قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} (1) .
فَسَّرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخُشُوعَ فِي الآْيَةِ: بِلِينِ الْقَلْبِ وَكَفِّ الْجَوَارِحِ.
وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. (2)
وَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي الصَّلاَةِ فَقَالاَ: لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ. (3)
__________
(1) سورة المؤمنون / 1، 2
(2) حديث: " ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه. . . . " أخرجه مسلم (1 / 209 - 210 - ط الحلبي) من حديث عقبه بن عامر.
(3) حديث: " لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ". أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول كما في الجامع الصغير للسيوطي (بشرحه الفيض 5 / 319 - ط المكتبة التجارية) ، ونقل المناوي عن العراقي أن في أسناده راويا متفقا على ضعفه.(19/118)
وَمَا رَوَى أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ فَلاَ يَمْسَحُ الْحَصَى. (1)
5 - إِذَا تَرَكَ الْمُصَلِّي الْخُشُوعَ فِي صَلاَتِهِ، فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَكُونُ صَحِيحَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَأْمُرَ الْعَابِثَ بِلِحْيَتِهِ بِإِعَادَةِ الصَّلاَةِ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ يَدُل عَلَى انْتِفَاءِ خُشُوعِهِ فِي صَلاَتِهِ؛ وَلأَِنَّ الصَّلاَةَ لاَ تَبْطُل بِعَمَل الْقَلْبِ وَلَوْ طَال، إِلاَّ أَنَّهُ ارْتَكَبَ مَكْرُوهًا وَلاَ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ صَلاَتِهِ إِلاَّ مَا عَقَل. (2)
وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ كُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْخُشُوعَ لاَزِمٌ مِنْ لَوَازِمِ الصَّلاَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلاَةِ وَلَكِنْ لاَ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِتَرْكِهِ لأَِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 279، الفواكه الدواني 1 / 208، تفسير القرطبي 12 / 103 مغني المحتاج 1 / 181، تحفة المحتاج 2 / 101، المغني لابن قدامة 2 / 10، كشاف القناع 1 / 392، الفروع 1 / 486 وحديث " إذا قام أحدكم إلي الصلاة فإن الرحمة تواجهه. . . . ". أخرجه أبو داود (1 / 581 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . وفي اسناده راو مجهول.
(2) حديث: " ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل ". أورده الغزالي في الإحياء (1 / 166 - ط الحلبي) ، وقال العراقي كما في حاشيته المطبوعة مع الإحياء: " لم أجده مرفوعا "، ولابن المبارك في الزهد موقوفا علي عمار: " لا يكتب للرجل من صلاته ما سهي ".(19/118)
وَقَال آخَرُونَ: إِنَّهُ فَرْضٌ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِتَرْكِهِ كَسَائِرِ الْفُرُوضِ.
وَقَال بَعْضٌ آخَرُ مِنْهُمْ: إِنَّ الْخُشُوعَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ لَكِنَّهُ فِي جُزْءٍ مِنْهَا فَيُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْقَوْل حُصُول الْخُشُوعِ فِي جُزْءٍ مِنَ الصَّلاَةِ وَإِنِ انْتَفَى فِي الْبَاقِي، وَبَعْضُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْل حَدَّدَ الْجُزْءَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ الْخُشُوعُ مِنَ الصَّلاَةِ، فَقَال: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ (1) .
6 - وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْخُشُوعُ مَذْمُومًا، وَهُوَ الْمُتَكَلَّفُ أَمَامَ النَّاسِ بِمُطَأْطَأَةِ الرَّأْسِ وَالتَّبَاكِي كَمَا يَفْعَلُهُ الْجُهَّال، لِيُرَوْا بِعَيْنِ الْبِرِّ وَالإِْجْلاَل، وَذَلِكَ خُدَعٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَتَسْوِيلٌ مِنْ نَفْسِ الإِْنْسَانِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 279، الفواكه الدواني 1 / 208، تفسير القرطبي 12 / 103، مغني المحتاج 1 / 181، تحفة المحتاج 2 / 102، المغني لابن قدامة 2 / 10، كشاف القناع 1 / 392، الفروع 1 / 486
(2) تفسير القرطبي 1 / 375(19/119)
خِصَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخِصَاءُ: سَل الْخُصْيَيْنِ، وَخَصَيْتُ الْفَرَسَ أَخْصِيهِ، قَطَعْتَ ذَكَرَهُ فَهُوَ مَخْصِيٌّ وَخَصِيٌّ (1) .
فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَالْجَمْعُ خِصْيَةٌ وَخِصْيَانٌ.
وَالْخُصْيَةُ: الْبَيْضَةُ مِنْ أَعْضَاءِ التَّنَاسُل، وَهُمَا خُصْيَتَانِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ الْخِصَاءَ عَلَى أَخْذِ الْخُصْيَتَيْنِ دُونَ الذَّكَرِ أَوْ مَعَهُ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَبُّ:
2 - يُقَال: جَبَبْتُهُ مِنْ بَابِ قَتَل أَيْ قَطَعْتَهُ. فَهُوَ مَجْبُوبٌ بَيِّنُ الْجِبَابِ - بِالْكَسْرِ - إِذَا اسْتُؤْصِلَتْ مَذَاكِيرُهُ (4) .
__________
(1) المصباح المنير " مادة ": خصي.
(2) المعجم الوسيط والمصباح.
(3) البدائع للكاساني 10 / 4823، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 283، وكفاية الأخيار 2 / 239، ومنهاج الطالبين 2 / 197، والمغني لابن قدامة 7 / 714
(4) المصباح المنير.(19/119)
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الْمَجْبُوبُ هُوَ الَّذِي قُطِعَ ذَكَرُهُ (1) .
وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ الْمَجْبُوبَ فَقَال: الْمُتَضَمِّنُ مَعْنَى الْعُنَّةِ فِي الْعَجْزِ عَنِ الْوَطْءِ.
وَقَال الْمُطَرِّزِيُّ: الْمَجْبُوبُ: الْخَصِيُّ الَّذِي اسْتُؤْصِل ذَكَرُهُ وَخُصْيَاهُ (2) .
ب - الْعُنَّةُ:
3 - الْعُنَّةُ وَالتَّعْنِينُ: الْعَجْزُ عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ، أَوْ أَنْ لاَ يَشْتَهِيَ النِّسَاءَ فَهُوَ عِنِّينٌ، وَالْمَرْأَةُ عِنِّينَةٌ: أَيْ: لاَ تَشْتَهِي الرِّجَال (3) .
وَعُنِّنَ عَنِ امْرَأَتِهِ تَعْنِينًا بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُول: إِذَا حَكَمَ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِذَلِكَ، أَوْ مُنِعَ عَنْهَا بِالسِّحْرِ.
وَالاِسْمُ مِنْهُ: الْعُنَّةُ، وَسُمِّيَ عِنِّينًا: لأَِنَّ ذَكَرَهُ يَعِنُّ لِقُبُل الْمَرْأَةِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ، أَيْ يَعْتَرِضُ إِذَا أَرَادَ إِيلاَجَهُ.
وَسُمِّيَ عِنَانُ اللِّجَامِ مِنْ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ يَعِنُّ: أَيْ يَعْتَرِضُ الْفَمَ فَلاَ يَلِجُهُ (4) .
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 309 - 310
(2) المغني لابن قدامة 6 / 674، والمغرب، مادة: " جب " وانظر حاشية الدسوقي 2 / 278
(3) المصباح المنير مادة: " عنن ".
(4) المرجع نفسه.(19/120)
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ وُجُودُ الآْلَةِ فِي الْعِنِّينِ.
وَيَجْتَمِعُ الْخَصِيُّ مَعَ الْعِنِّينِ فِي عَدَمِ الإِْنْزَال، وَعَدَمُ الإِْنْزَال عِنْدَ الْخَصِيِّ لِذَهَابِ الْخُصْيَةِ، أَمَّا عَدَمُ الإِْنْزَال عِنْدَ الْعِنِّينِ فَهُوَ لِعِلَّةٍ فِي الظَّهْرِ أَوْ غَيْرِهِ. (1)
ج - الْوِجَاءُ:
4 - الْوِجَاءُ اسْمٌ لِـ وَجَأَ، وَيُطْلَقُ عَلَى رَضِّ عُرُوقِ الْبَيْضَتَيْنِ حَتَّى تَنْفَضِخَا مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجٍ، فَيَكُونُ شَبِيهًا بِالْخِصَاءِ، لأَِنَّهُ يَكْسِرُ الشَّهْوَةَ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالُوا:
الْمَوْجُوءُ هُوَ الَّذِي رُضَّتْ بَيْضَتَاهُ.
وَقِيل فِي مَعْنَى الْوِجَاءِ:
إِنَّ الْمَوْجُوءَ هُوَ مَنْزُوعُ الأُْنْثَيَيْنِ، وَقِيل: هُوَ الْمَشْقُوقُ عِرْقُ الأُْنْثَيَيْنِ وَالْخُصْيَتَانِ بِحَالِهِمَا (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
أَوَّلاً: فِي الآْدَمِيِّ:
5 - إِنَّ خِصَاءَ الآْدَمِيِّ حَرَامٌ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ عَلَى مَا يَأْتِي:
__________
(1) المغني لابن قدامة 6 / 667، 7 / 714، وتبيين الحقائق للزيلعي 3 / 21 - 22، ونهاية المحتاج للرملي 6 / 309
(2) المصباح المنير مادة " وجأ ".
(3) المغني لابن قدامة 3 / 554، والمقنع 1 / 474، ونيل الأوطار للشوكاني 5 / 209(19/120)
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ بِلاَ خِلاَفٍ فِي بَنِي آدَمَ (1) .
وَمِنَ النَّهْيِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَال: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ لَنَا شَيْءٌ، فَقُلْنَا: أَلاَ نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ. (2)
وَحَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: رَدَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّل، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاَخْتَصَيْنَا. (3) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ نَفْسِهِ أَنَّهُ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ تَشُقُّ عَلَيَّ هَذِهِ الْعُزُوبَةُ فِي الْمَغَازِي فَتَأْذَنُ لِي فِي الْخِصَاءِ فَأَخْتَصِي؟ قَال: لاَ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ. (4)
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 9 / 177، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 9 / 119، الدر المختار 5 / 249، والزرقاني 3 / 237
(2) حديث عبد الله بن مسعود قال: " كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 117 - ط السلفية) .
(3) حديث سعد بن أبي وقاص: " رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 117 - ط السلفية) .
(4) حديث عثمان بن مظعون: " يا رسول الله إني رجل تشق علي هذه العزوبة ". أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (4 / 253 - ط القدسي) ، وقال الهيثمي: " فيه عبد الملك بن قدامة الجمحي، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات ".(19/121)
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: يَا رَسُول اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي الاِخْتِصَاءِ فَقَال: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَنَا بِالرَّهْبَانِيَّةِ الْحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ. (1)
وَيُرْوَى مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: (لاَ كَنِيسَةَ فِي الإِْسْلاَمِ وَلاَ خِصَاءَ) (2) قَال ابْنُ حَجَرٍ تَعْقِيبًا عَلَى هَذِهِ الأَْحَادِيثِ:
وَالْحِكْمَةُ فِي مَنْعِ الْخِصَاءِ أَنَّهُ خِلاَفُ مَا أَرَادَهُ الشَّارِعُ مِنْ تَكْثِيرِ النَّسْل لِيَسْتَمِرَّ جِهَادُ الْكُفَّارِ، وَإِلاَّ لَوْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ لأََوْشَكَ تَوَارُدُهُمْ عَلَيْهِ فَيَنْقَطِعُ النَّسْل فَيَقِل الْمُسْلِمُونَ بِانْقِطَاعِهِ وَيَكْثُرُ الْكُفَّارُ، فَهُوَ خِلاَفُ الْمَقْصُودِ مِنْ بَعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كَمَا أَنَّ فِيهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ، تَعْذِيبَ النَّفْسِ وَالتَّشْوِيهَ مَعَ إِدْخَال الضَّرَرِ الَّذِي قَدْ يُفْضِي إِلَى الْهَلاَكِ. وَفِيهِ إِبْطَال مَعْنَى الرُّجُولِيَّةِ الَّتِي أَوْجَدَهَا اللَّهُ فِيهِ، وَتَغْيِيرُ خَلْقِ اللَّهِ، وَكُفْرُ النِّعْمَةِ، وَفِيهِ تَشَبُّهٌ بِالْمَرْأَةِ وَاخْتِيَارُ النَّقْصِ عَلَى الْكَمَال (3) .
__________
(1) حديث: " إن الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة ". أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (6 / 75 - 76 - ط وزارة الأوقاف العراقية) ، وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " (4 / 252 ط القدسي) وقال: " فيه إبراهيم بن زكريا، وهوضعيف ".
(2) رواه الإمام أحمد، وأنظر أحكام أهل الذمة (2 / 673) .
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 9 / 177، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 9 / 119.(19/121)
ثَانِيًا: فِي غَيْرِ الآْدَمِيِّ:
6 - قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِخِصَاءِ الْبَهَائِمِ؛ لأَِنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْبَهِيمَةِ وَالنَّاسِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ خِصَاءُ الْمَأْكُول مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ صَلاَحِ اللَّحْمِ.
وَالشَّافِعِيَّةُ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمَأْكُول وَغَيْرِهِ، فَقَالُوا: يَجُوزُ خِصَاءُ مَا يُؤْكَل لَحْمُهُ فِي الصِّغَرِ، وَيَحْرُمُ فِي غَيْرِهِ. وَشَرَطُوا أَنْ لاَ يَحْصُل فِي الْخِصَاءِ هَلاَكٌ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيُبَاحُ عِنْدَهُمْ خَصِيُّ الْغَنَمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِصْلاَحِ لَحْمِهَا، وَقِيل: يُكْرَهُ كَالْخَيْل وَغَيْرِهَا وَالشَّدْخُ أَهْوَنُ مِنَ الْجَبِّ. وَقَدْ قَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ: لاَ يُعْجِبُنِي لِلرَّجُل أَنْ يَخْصِيَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ إِيلاَمِ الْحَيَوَانِ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِخْصَاءِ الْبَهَائِمِ نَهْيًا شَدِيدًا. (1)
الأَْحْكَامُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْخِصَاءِ:
أ - فِي الْعُيُوبِ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا النِّكَاحُ:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخَصِيَّ يَأْخُذُ حُكْمَ الْعِنِّينِ فَيُؤَجَّل سَنَةً، وَلاَ فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ سَل
__________
(1) حديث: " نهى عن إخصاء البهائم نهيا شديدا ". أخرجه البزار (2 / 274 - كشف الأستار - ط الرسالة) من حديث عبد الله بن عباس، وقال الهيثمي: " رجاله رجال الصحيح " مجمع الزوائد (5 / 265 - ط القدسي) . وانظر الهداية مع فتح القدير 8 / 131، والزرقاني 2 / 237، وحاشية عميرة على المحلي 3 / 204، المغني 8 / 625، والآداب الشرعية 3 / 144.(19/122)
الْخُصْيَتَيْنِ أَوْ قَطْعِهِمَا، وَبَيْنَ مَا لَوْ كَانَ ذَكَرُهُ لاَ يَنْتَشِرُ؛ لأَِنَّ آلَتَهُ لَوْ كَانَتْ تَنْتَشِرُ فَلاَ خِيَارَ لِلزَّوْجَةِ.
وَحُكْمُ ذَلِكَ التَّأْجِيل كَالْعِنِّينِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ اسْمِ الْعِنِّينِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِحَالِهِ لاَ خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْفُرْقَةِ (1) .
وَقَال السَّرَخْسِيُّ: الْخَصِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْعِنِّينِ، لأَِنَّ الْوُصُول فِي حَقِّهِ مَوْجُودٌ لِبَقَاءِ الآْلَةِ. وَلَوْ تَزَوَّجَتْ وَهِيَ تَعْلَمُ بِحَالِهِ فَلاَ خِيَارَ لَهَا فِيهِ؛ لأَِنَّهَا صَارَتْ رَاضِيَةً بِهِ حِينَ أَقْدَمَتْ عَلَى الْعَقْدِ مَعَ عِلْمِهَا بِحَالِهِ، وَلَوْ رَضِيَتْ بِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ بِأَنْ قَالَتْ: رَضِيتُ، سَقَطَ خِيَارُهَا، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ عَالِمَةً بِهِ، وَلاَ فَرْقَ فِي قَوْلِهَا رَضِيتُ بِالْمُقَامِ مَعَهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ السُّلْطَانِ أَوْ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِحَقِّهَا (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَهَا الْخِيَارُ إِذَا كَانَ لاَ يُمْنِي، أَمَّا إِنْ أَمْنَى فَلاَ رَدَّ بِهِ؛ لأَِنَّ الْخِيَارَ إِنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ تَمَامِ اللَّذَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ مَعَ الإِْنْزَال (3) .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ إِذَا وَجَدَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا خَصِيًّا قَوْلاَنِ:
__________
(1) البحر الرائق لابن نجيم 4 / 124، وفتح القدير لابن الهمام 5 / 132، وانظر نيل الأوطار للشوكاني 6 / 298 - 299
(2) المبسوط للسرخسي 3 / 104
(3) الزرقاني 3 / 236، 237(19/122)
أَحَدُهُمَا: لَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ؛ لأَِنَّ النَّفْسَ تَعَافُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لَهَا لأَِنَّهَا، تَقْدِرُ عَلَى الاِسْتِمْتَاعِ بِهِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْخَصِيُّ إِنْ وَصَل إِلَيْهَا فَلاَ خِيَارَ لَهَا؛ لأَِنَّ الْوَطْءَ مُمْكِنٌ، وَالاِسْتِمْتَاعُ حَاصِلٌ بِوَطْئِهِ (2) .
ب - حُكْمُ الْخِصَاءِ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ:
8 - سَبَقَ أَنْ بَيَّنَّا أَنَّ الْخِصَاءَ هُوَ أَخْذُ الْخُصْيَتَيْنِ دُونَ الذَّكَرِ أَوْ مَعَهُ، وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ مُوجِبَ قَطْعِ الْخُصْيَتَيْنِ دُونَ الذَّكَرِ أَوْ مَعَهُ:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ يَجْرِي عِنْدَ تَوَافُرِ شُرُوطِهِ فِي الأُْنْثَيَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (3) فَيُقْطَعُ الأُْنْثَيَانِ بِالأُْنْثَيَيْنِ؛ لأَِنَّهُ يَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ فَاصِلٍ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ فَوَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ (4) .
وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ إِشْلاَل الأُْنْثَيَيْنِ وَدَقَّهُمَا بِالْقَطْعِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ. قَال النَّوَوِيُّ: وَفِي قَطْعِ الأُْنْثَيَيْنِ وَإِشْلاَلِهِمَا الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ أَقُطِعَ الذَّكَرُ وَالأُْنْثَيَيْنِ مَعًا، أَمْ قُدِّمَ الذَّكَرُ أَوِ الأُْنْثَيَيْنِ،
__________
(1) المهذب للشيرازي 2 / 62 - كفاية الأخيار 2 / 59 - 60
(2) المغني 6 / 670، وانظر المقنع لابن قدامة 1 / 55
(3) سورة المائدة / 45
(4) المهذب 2 / 183، والمغني 7 / 714، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 6 / 747(19/123)
وَلَوْ دَقَّ خُصْيَيْهِ فَفِي التَّهْذِيبِ أَنَّهُ يُقْتَصُّ بِمِثْلِهِ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلاَّ وَجَبَتِ الدِّيَةُ (1) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ فِي الرَّضِّ، قَال أَشْهَبُ: إِنْ قُطِعَتِ الأُْنْثَيَانِ أَوْ أُخْرِجَتَا فَفِيهِمَا الْقَوَدُ لاَ فِي رَضِّهِمَا، لأَِنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى التَّلَفِ لِعَدَمِ الاِنْضِبَاطِ فِي الْقِصَاصِ (2) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ نَقْلاً عَنِ الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ، أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكُتُبِ الظَّاهِرَةِ نَصٌّ يَدُل عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي قَطْعِ الأُْنْثَيَيْنِ حَالَةَ الْعَمْدِ (3) ، وَيَقُول الْكَاسَانِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ لاَ يَجِبَ الْقِصَاصُ فِيهِمَا، حَيْثُ لَيْسَ لَهُمَا مَفْصِلٌ مَعْلُومٌ فَلاَ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْل (4) .
وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِعَدَمِ تَوَافُرِ أَيِّ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الأُْنْثَيَيْنِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ (5) وَلأَِنَّ فِيهِمَا الْجَمَال وَالْمَنْفَعَةَ، فَإِنَّ النَّسْل يَكُونُ بِهِمَا، فَكَانَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَالْيَدَيْنِ، وَرَوَى
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 195
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 4 / 388، والتاج والإكليل 6 / 247
(3) الفتاوى الهندية 6 / 15
(4) بدائع الصنائع 7 / 309
(5) حديث: " وفي البيضتين الدية ". أخرجه النسائي (8 / 58 - ط المكتبة التجارية) من حديث طويل رواه عمرو بن حزم وضعف إسناده النووي كما في التلخيص لابن حجر (1 / 131 - ط شركة الطباعة الفنية) ولكن ابن حجر أورد له شواهد تقوية.(19/123)
الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَال: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الصُّلْبِ الدِّيَةَ، وَفِي الأُْنْثَيَيْنِ الدِّيَةَ. وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ فِي قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ، لأَِنَّ مَا وَجَبَ فِي اثْنَيْنِ مِنْهُ الدِّيَةُ، وَجَبَ فِي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا، كَالْيَدَيْنِ وَسَائِرِ الأَْعْضَاءِ؛ وَلأَِنَّهُمَا ذَوَا عَدَدٍ تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ فَاسْتَوَتْ دِيَتُهُمَا كَالأَْصَابِعِ، وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ فِي الْيُسْرَى ثُلُثَيِ الدِّيَةِ، وَفِي الْيُمْنَى ثُلُثَهَا؛ لأَِنَّ الْيُسْرَى أَكْثَرُ لأَِنَّ النَّسْل يَكُونُ بِهَا (1) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ رَضَّ أُنْثَيَيْهِ أَوْ أَشَلَّهُمَا كَمُلَتْ دِيَتُهُمَا كَمَا لَوْ أَشَل يَدَيْهِ أَوْ ذَكَرَهُ، فَإِنْ قَطَعَ أُنْثَيَيْهِ فَذَهَبَ نَسْلُهُ لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ نَفْعَهُمَا فَلَمْ تَزْدَدِ الدِّيَةُ بِذَهَابِهِ مَعَهُمَا، كَالْبَصَرِ مَعَ ذَهَابِ الْعَيْنَيْنِ، وَالْبَطْشِ مَعَ ذَهَابِ الْيَدَيْنِ، وَإِنْ قُطِعَ إِحْدَاهُمَا فَذَهَبَ النَّسْل لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ ذَهَابَهُ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ (2) .
هَذَا مُوجِبٌ قَطْعَ الأُْنْثَيَيْنِ دُونَ الذَّكَرِ، أَمَّا إِذَا قَطَعَ الأُْنْثَيَيْنِ مَعَ الذَّكَرِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَفِيهِمَا دِيَتَانِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، دِيَةٌ لِلأُْنْثَيَيْنِ وَدِيَةٌ لِلذَّكَرِ؛ لأَِنَّ الْجَانِيَ فَوَّتَ مَنْفَعَةَ الْجِمَاعِ بِقَطْعِ الذَّكَرِ وَمَنْفَعَةَ
__________
(1) المبسوط 26 / 70، والشرح الصغير 4 / 388، بداية المجتهد 2 / 422 ط الحلبي، وروضة الطالبين 9 / 287، والمهذب 2 / 208، والمغني 8 / 34
(2) المغني 8 / 34، 35(19/124)
الإِْنْزَال بِقَطْعِ الأُْنْثَيَيْنِ، فَقَدْ وُجِدَ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فِي قَطْعِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَيَجِبُ فِي كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِنْ قَطَعَ الذَّكَرَ أَوَّلاً ثُمَّ قَطَعَ الأُْنْثَيَيْنِ تَجِبُ دِيَتَانِ، فَإِنْ قَطَعَ الأُْنْثَيَيْنِ ثُمَّ قَطَعَ الذَّكَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الأُْنْثَيَيْنِ، وَفِي الذَّكَرِ حُكُومَةُ الْعَدْل؛ لأَِنَّهُ ذَكَرُ الْخَصِيِّ وَلاَ تَكْمُل الدِّيَةُ فِي ذَكَرِ الْخَصِيِّ (2) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ فِي تَعْلِيلِهِ لِهَذَا الْحُكْمِ: لأَِنَّ مَنْفَعَةَ الأُْنْثَيَيْنِ كَانَتْ كَامِلَةً وَقْتَ قَطْعِهِمَا، وَمَنْفَعَةَ الذَّكَرِ تَفُوتُ بِقَطْعِ الأُْنْثَيَيْنِ إِذْ لاَ يَتَحَقَّقُ الإِْنْزَال بَعْدَ قَطْعِ الأُْنْثَيَيْنِ فَنَقَصَ أَرْشُهُ (3) .
وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ تَجِبُ فِي قَطْعِ الأُْنْثَيَيْنِ مَعَ الذَّكَرِ دِيَتَانِ سَوَاءٌ أَقُطِعَتَا قَبْل الذَّكَرِ أَمْ بَعْدَهُ (4) .
قَال الْمَوَّاقُ: إِنْ قُطِعَتِ الأُْنْثَيَانِ مَعَ الذَّكَرِ فَفِي ذَلِكَ دِيَتَانِ، إِنْ قُطِعَتَا قَبْل الذَّكَرِ أَوْ بَعْدَهُ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَإِنْ قُطِعَ الذَّكَرُ قَبْلَهُمَا أَوْ بَعْدَهُمَا فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَمَنْ لاَ ذَكَرَ لَهُ فَفِي أُنْثَيَيْهِ الدِّيَةُ، وَمَنْ لاَ أُنْثَيَيْنِ لَهُ فَفِي ذَكَرِهِ الدِّيَةُ (5) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 324، المغني 8 / 33، 34، والتاج والإكليل 6 / 241، وشرح المنهج 5 / 79
(2) بدائع الصنائع 7 / 324، والمغني 8 / 33، 34
(3) بدائع الصنائع 7 / 324
(4) التاج والإكليل 6 / 261، وشرح المنهج 5 / 179
(5) التاج والإكليل 6 / 261(19/124)
كَمَا أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يُوجِبُونَ دِيَةً كَامِلَةً فِي الأُْنْثَيَيْنِ، وَدِيَةً كَامِلَةً فِي الذَّكَرِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ ذَكَرُ الشَّيْخِ، وَالشَّابِّ، وَالصَّغِيرِ، وَالْعِنِّينِ، وَالْخَصِيِّ وَغَيْرِهِمْ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، دِيَةٌ، قِصَاصٌ) .
حُكْمُ الْخَصِيِّ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ فِي الأُْضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ:
9 - أَصْل ذَلِكَ: مَا رَوَى أَبُو رَافِعٍ قَال: ضَحَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ خَصِيَّيْنِ. (2)
وَمَا رَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ اشْتَرَى كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقَرْنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ فَذَبَحَ أَحَدَهُمَا عَنْ أُمَّتِهِ لِمَنْ شَهِدَ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلاَغِ، وَذَبَحَ الآْخَرَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَنْ آل مُحَمَّدٍ. (3)
__________
(1) روضة الطالبين 9 / 287
(2) حديث: " ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين موجوءين خصيين ". أخرجه أحمد (6 / 8، 391 - ط الميمنية) وقال الهيثمي في: " مجمع الزوائد " (4 / 21 - ط القدسي) " إسناده حسن ".
(3) حديث: " كان إذا أراد أن يضحي اشتري كبشين ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1043 - 1044 - ط الحلبي) وحسن إسناده البوصيري في " مصباح الزجاجة " (2 / 155 - ط دار الجنان) .(19/125)
وَالْمَوْجُوءُ هُوَ مَنْزُوعُ الأُْنْثَيَيْنِ كَمَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقِيل: هُوَ الْمَشْقُوقُ عِرْقُ الأُْنْثَيَيْنِ، وَالْخُصْيَتَانِ بِحَالِهِمَا (1) .
قَال الشَّوْكَانِيُّ: هَذِهِ الأَْحَادِيثُ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّضْحِيَةِ بِالْمَوْجُوءِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَعَلَى الصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الأَْحَادِيثِ.
ثُمَّ قَال: إِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لاَ مُقْتَضَى لِلاِسْتِحْبَابِ، لأَِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّضْحِيَةُ بِالْفَحِيل، فَيَكُونُ الْكُل سَوَاءً (2) .
وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ:
أَنْ يَكُونَ مِنَ الأَْجْنَاسِ الثَّلاَثَةِ، الْغَنَمِ، أَوِ الإِْبِل أَوِ الْبَقَرِ، وَيَدْخُل فِي كُل جِنْسٍ نَوْعُهُ، وَالذَّكَرُ وَالأُْنْثَى مِنْهُ، وَالْخَصِيُّ وَالْفَحْل لإِِطْلاَقِ اسْمِ الْجِنْسِ عَلَى ذَلِكَ (3) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيُفَضِّلُونَ الْفَحِيل فِي الأُْضْحِيَّةِ عَلَى الْخَصِيِّ، إِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَصِيُّ أَسْمَنَ، وَإِلاَّ فَهُوَ أَفْضَل، وَإِنْ كَانَ بِخُصْيَةٍ وَاحِدَةٍ فَيُجْزِئُ إِنْ لَمْ يَحْصُل بِهَا مَرَضٌ.
وَإِنَّمَا أَجْزَأَ لأَِنَّهُ يَعُودُ بِمَنْفَعَةٍ فِي لَحْمِهَا، فَيُجْبَرُ مَا نَقَصَ.
وَعِنْدَهُمْ أَيْضًا سَوَاءٌ كَانَ فَوَاتُ الْجُزْءِ خِلْقَةً أَوْ كَانَ طَارِئًا بِقَطْعٍ فَجَائِزٌ لِمَا ذَكَرُوا (4) .
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني 5 / 209
(2) المرجع نفسه 5 / 209 - 210
(3) البدائع للكاساني 5 / 69
(4) حاشية الدسوقي 2 / 120، 121(19/125)
كَمَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى جَوَازِ الْهَدْيِ وَالأُْضْحِيَّةِ بِالْخَصِيِّ بِقَوْلِهِمْ: وَيُجْزِئُ الْخَصِيُّ وَمَكْسُورُ الْقَرْنِ، وَالْخَصِيُّ هُوَ مَقْطُوعُ الأُْنْثَيَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُجْزِئُ؛ لأَِنَّ نَقْصَهُمَا سَبَبٌ لِزِيَادَةِ اللَّحْمِ وَطِيبِهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ كَجٍّ فَحَكَى فِيهِ قَوْلَيْنِ، وَوَجْهُ عَدَمِ الإِْجْزَاءِ مَا فِيهِ مِنْ فَوَاتِ جُزْءٍ مَأْكُولٍ مُسْتَطَابٍ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا: أَنَّ التَّضْحِيَةَ بِخَصِيٍّ بِلاَ جَبٍّ تُجْزِئُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا نَحْوُهُ.
وَالْمَوْجُوءُ: الْمَرْضُوضُ الْخُصْيَتَيْنِ سَوَاءٌ أَقُطِعَتَا أَمْ سُلَّتَا؛ وَلأَِنَّهُ إِذْهَابُ عُضْوٍ غَيْرِ مُسْتَطَابٍ، بَل يَطِيبُ اللَّحْمُ بِزَوَالِهِ وَيَسْمَنُ، أَمَّا الْخَصِيُّ الْمَجْبُوبُ فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ (2) .
خُصُوصِيَّةٌ
انْظُرْ: اخْتِصَاصٌ
__________
(1) كفاية الأخيار 2 / 238 - 239
(2) المقنع لابن قدامة 1 / 474.(19/126)
خُصُومَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخُصُومَةُ لُغَةً: الْمُنَازَعَةُ، وَالْجَدَل، وَالْغَلَبَةُ بِالْحُجَّةِ (1) .
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَقَدِ اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِي رَفْعِ الدَّعْوَى أَمَامَ الْقَضَاءِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعَدَاوَةُ:
2 - الْعَدَاوَةُ، هِيَ مَا يَتَمَكَّنُ فِي الْقَلْبِ مِنْ قَصْدِ الإِْضْرَارِ وَالاِنْتِقَامِ، وَأَصْلُهُ مِنْ تَجَاوُزِ الْحَدِّ فِي الشَّيْءِ (3) .
قَال الرَّاغِبُ: الْعَدْوُ التَّجَاوُزُ وَمُنَافَاةُ الاِلْتِئَامِ، فَتَارَةً يُعْتَبَرُ بِالْقَلْبِ، فَيُقَال لَهُ: الْعَدَاوَةُ وَالْمُعَادَاةُ، وَتَارَةً بِالْمَشْيِ، فَيُقَال لَهُ الْعَدْوُ، وَتَارَةً
__________
(1) لسان العرب، المفردات، معجم متن اللغة، المعجم الوسيط مادة: " خصم " وتكملة فتح القدير 6 / 96، والعناية 6 / 96
(2) المراجع السابقة، ومعين الحكام 22، وتبصرة الحكام 1 / 32، والروضة 11 / 138
(3) النهاية 3 / 193، والتعريفات 191(19/126)
فِي الإِْخْلاَل بِالْعَدَالَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ، فَيُقَال لَهُ الْعُدْوَانُ وَالْعَدُوُّ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) .
قَال أَبُو هِلاَلٍ الْعَسْكَرِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعَادَاةِ وَالْمُخَاصَمَةِ أَنَّ الْمُخَاصَمَةَ، مِنْ قَبِيل الْقَوْل، وَالْمُعَادَاةُ مِنْ أَفْعَال الْقُلُوبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُخَاصِمَ الإِْنْسَانُ غَيْرَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَادِيَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَادِيَهُ وَلاَ يُخَاصِمَهُ (2) .
ب - الدَّعْوَى:
3 - عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا قَوْلٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْقَاضِي يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ حَقٍّ قِبَل غَيْرِهِ، أَوْ دَفْعُهُ عَنْ حَقِّ نَفْسِهِ. فَالْخُصُومَةُ وَالدَّعْوَى مِنْ حَيْثُ التَّعْرِيفُ مُتَسَاوِيَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ، بِأَنَّهَا إِخْبَارٌ بِحَقٍّ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ عِنْدَ حَاكِمٍ.
فَالدَّعْوَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا عَلَى طَلَبِ الْحَقِّ مِنَ الْمُدَّعِي، أَمَّا الْخُصُومَةُ فَمَا يَقَعُ مِنَ الْخَصْمَيْنِ (الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ) أَمَامَ الْقَاضِي (3) .
أَقْسَامُ الْخُصُومَةِ:
4 - تَنْقَسِمُ الْخُصُومَةُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الأَْوَّل: مَا يَكُونُ الْخَصْمُ فِيهِ مُنْفَرِدًا. وَهُوَ الَّذِي
__________
(1) سورة الأنعام / 108. وانظر المفردات ص 326
(2) الفروق 107
(3) ابن عابدين 4 / 419، قليوبي وعميرة 4 / 334، مجلة الأحكام م 1613(19/127)
لاَ يَحْتَاجُ إِلَى حُضُورِ آخَرَ مَعَهُ، كَمَنْ يَتَرَتَّبُ عَلَى إِقْرَارِهِ حُكْمٌ، فَهُوَ خَصْمٌ فِي حَالَةِ إِنْكَارِهِ.
وَنَظَائِرُ هَذَا فِي مُصْطَلَحِ: (دَعْوَى) .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الْخُصُومَةُ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى حُضُورِ طَرَفٍ آخَرَ، كَمَسَائِل الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالإِْجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْغَصْبِ وَنَظَائِرِهَا (1) . وَانْظُرْ تَفْصِيلَهَا فِي مَظَانِّهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِهَا فِي الْمَوْسُوعَةِ، وَمُصْطَلَحَيْ: (قَضَاءٌ وَدَعْوَى) .
ضَابِطُ الْخُصُومَةِ:
5 - (أ) فِي الْمُدَّعِي: إِذَا ادَّعَى أَحَدٌ شَيْئًا، وَكَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَى إِقْرَارِهِ حُكْمٌ إِذَا أَقَرَّ، يَكُونُ بِإِنْكَارِهِ خَصْمًا فِي الدَّعْوَى.
ب - فِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: إِذَا كَانَ لاَ يَصِحُّ إِقْرَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَيْ فِي حَالَةِ إِقْرَارِهِ لاَ يَتَرَتَّبُ حُكْمٌ عَلَى إِقْرَارِهِ، فَبِإِنْكَارِهِ لاَ يَكُونُ خَصْمًا فِي الدَّعْوَى (2) . وَذَلِكَ كَمَا لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى وَلِيِّ الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ أَوْ بِحَقٍّ فَأَقَرَّ بِهِ، فَإِنَّ إِقْرَارَهُ لاَ يُقْبَل لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْضْرَارِ بِالْحُجُورِ عَلَيْهِ.
وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا الضَّابِطِ مَسَائِل تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (دَعْوَى) .
__________
(1) درر الحكام 4 / 199، والفتاوى الهندية 4 / 36
(2) درر الحكام 4 / 200(19/127)
خَصِيٌّ
انْظُرْ: خِصَاءٌ.
خِضَابٌ
انْظُرِ: اخْتِضَابٌ(19/128)
خَطَأٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَطَأُ لُغَةً نَقِيضُ الصَّوَابِ.
قَال فِي اللِّسَانِ: الْخَطَأُ وَالْخَطَاءُ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَفِي التَّنْزِيل: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} (1) عَدَّاهُ بِالْبَاءِ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى عَثَرْتُمْ أَوْ غَلِطْتُمْ.
وَأَخْطَأَ الطَّرِيقَ عَدَل عَنْهُ، وَأَخْطَأَ الرَّامِي الْغَرَضَ لَمْ يُصِبْهُ. وَخَطَّأَهُ تَخْطِئَةً نَسَبَهُ إِلَى الْخَطَأِ وَقَال لَهُ أَخْطَأْتَ.
وَقَال الأُْمَوِيُّ: الْمُخْطِئُ مَنْ أَرَادَ الصَّوَابَ فَصَارَ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْخَاطِئُ مَنْ تَعَمَّدَ لِمَا لاَ يَنْبَغِي.
وَالاِسْمُ الْخَطِيئَةُ عَلَى فَعِيلَةٍ، وَذَلِكَ أَنْ تُشَدَّدَ الْيَاءُ وَتُدْغَمَ فَتَقُول خَطِيَّةٌ وَالْجَمْعُ خَطَايَا (2) .
وَفِي النِّهَايَةِ وَالْمِصْبَاحِ: يُقَال خَطِئَ. فِي دِينِهِ خَطَأً إِذَا أَثِمَ فِيهِ، وَالْخِطْءُ: الذَّنْبُ وَالإِْثْمُ.
وَأَخْطَأَ يُخْطِئُ إِذَا سَلَكَ سَبِيل الْخَطَأِ عَمْدًا أَوْ
__________
(1) سورة الأحزاب / 5
(2) لسان العرب والصحاح مادة: " خطو "(19/128)
سَهْوًا. وَيُقَال: خَطِئَ بِمَعْنَى أَخْطَأَ أَيْضًا. وَقِيل: خَطِئَ إِذَا تَعَمَّدَ، وَأَخْطَأَ إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ.
وَيُقَال: لِمَنْ أَرَادَ شَيْئًا فَفَعَل غَيْرَهُ، أَوْ فَعَل غَيْرَ الصَّوَابِ: أَخْطَأَ (1) .
مَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ:
2 - قَال فِي التَّلْوِيحِ: هُوَ فِعْلٌ يَصْدُرُ مِنَ الإِْنْسَانِ بِلاَ قَصْدٍ إِلَيْهِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ أَمْرٍ مَقْصُودٍ سِوَاهُ (2) .
وَعَرَّفَهُ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ بِقَوْلِهِ:
هُوَ أَنْ يَقْصِدَ بِالْفِعْل غَيْرَ الْمَحَل الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْجِنَايَةُ، كَالْمَضْمَضَةِ تَسْرِي إِلَى حَلْقِ الصَّائِمِ، فَإِنَّ الْمَحَل الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْجِنَايَةُ عَلَى الصَّوْمِ إِنَّمَا هُوَ الْحَلْقُ وَلَمْ يَقْصِدْ بِالْمَضْمَضَةِ بَل قَصَدَ بِهَا الْفَمَ، وَكَالرَّمْيِ إِلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ آدَمِيًّا، فَإِنَّ مَحَل الْجِنَايَةِ هُوَ الآْدَمِيُّ وَلَمْ يَقْصِدْ بِالرَّمْيِ بَل قَصَدَ غَيْرَهُ وَهُوَ الصَّيْدُ (3) .
الْغَلَطُ:
3 - الْغَلَطُ فِي اصْطِلاَحِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ يَأْتِي مُسَاوِيًا لِلَفْظِ الْخَطَأِ (4) .
__________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر 2 / 44، والمصباح المنير مادة: خطو ".
(2) التلويح 2 / 195 ط صبيح، وانظر الموسوعة المجلد السابع ص 166 مصطلح " أهلية ".
(3) تيسير التحرير 2 / 305
(4) منهاج الطالبين 2 / 115، والمهذب 1 / 233، وحاشية ابن عابدين 7 / 422(19/129)
فَقَدْ جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْعَدَوِيِّ عَلَى الْخَرَشِيِّ تَعْرِيفُ الْغَلَطِ: بِأَنَّهُ تَصَوُّرُ الشَّيْءِ عَلَى خِلاَفِ مَا هُوَ عَلَيْهِ (1) .
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّعْرِيفِ مَا قَالَهُ اللَّيْثُ: إِنَّهُ أَيِ الْغَلَطُ كُل شَيْءٍ يَعْيَا الإِْنْسَانُ عَنْ جِهَةِ صَوَابِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ (2) . وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْخَطَأِ بِعَيْنِهِ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: فَرْقًا بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ وَهُوَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْخَطَأِ الْجَنَانُ، وَمُتَعَلِّقَ الْغَلَطِ اللِّسَانُ (3) . وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا يَأْتِي الْغَلَطُ بِمَعْنَى الْخَطَأِ وَيَأْخُذُ حُكْمَهُ.
قَال الدُّسُوقِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ: فِي الْحِنْثِ بِالْغَلَطِ أَيِ: اللِّسَانِيِّ نَظَرٌ، وَالصَّوَابُ عَدَمُ الْحِنْثِ فِيهِ، وَمَا وَقَعَ فِي كَلاَمِهِمْ مِنَ الْحِنْثِ بِالْغَلَطِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْغَلَطُ الْجِنَائِيُّ الَّذِي هُوَ الْخَطَأُ، كَحَلِفِهِ أَنْ لاَ يُكَلِّمَ زَيْدًا، فَكَلَّمَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ عَمْرٌو، وَكَحَلِفِهِ لاَ أَذْكُرُ فُلاَنًا فَذَكَرَهُ، لِظَنِّهِ أَنَّهُ غَيْرُ الاِسْمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ (4) .
وَفَرَّقَ أَبُو هِلاَلٍ الْعَسْكَرِيُّ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ فَقَال: إِنَّ الْغَلَطَ هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَوَابًا فِي نَفْسِهِ، وَالْخَطَأُ لاَ يَكُونُ صَوَابًا عَلَى وَجْهٍ.
__________
(1) حاشية العدوي على الخرشي 7 / 122
(2) لسان العرب
(3) شرح الدردير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 142
(4) حاشية الدسوقي 2 / 142(19/129)
ثُمَّ قَال: وَقَال بَعْضُهُمُ: الْغَلَطُ أَنْ يَسْهَى تَرْتِيبَ الشَّيْءِ وَأَحْكَامَهُ، وَالْخَطَأُ أَنْ يَسْهَى عَنْ فِعْلِهِ، أَوْ أَنْ يُوقِعَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَهُ وَلَكِنْ لِغَيْرِهِ (1) .
وَهَذَا الْبَحْثُ يَشْمَل مُصْطَلَحَيْ (خَطَأٌ، وَغَلَطٌ) بِاعْتِبَارِهِمَا يَرِدَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا هُوَ اصْطِلاَحُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ يُعَبِّرُونَ عَمَّا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ بِلَفْظِ الْخَطَأِ، كَمَا فِي بَيْعِ الْمُخْطِئِ وَطَلاَقِهِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ يُعَبِّرُونَ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالاِعْتِقَادِ بِلَفْظَةِ الْغَلَطِ، كَمَا فِي الْغَلَطِ فِي الْمَبِيعِ، وَتَأْتِي تَعْبِيرَاتُهُمْ مُخْتَلِفَةً أَحْيَانًا، فَمِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ بِلَفْظَةِ الْخَطَأِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ ذَاتِ الْمَسْأَلَةِ بِلَفْظَةِ الْغَلَطِ، كَمَا فِي الْحَجِّ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِل كَمَسَائِل الشَّهَادَةِ وَالرُّجُوعِ عَنْهَا.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النِّسْيَانُ وَالسَّهْوُ وَالْغَفْلَةُ وَالذُّهُول:
4 - هَذِهِ الأَْلْفَاظُ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ.
فَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ شَرْحِ التَّحْرِيرِ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ.
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ (2) .
__________
(1) الفروق اللغوية ص 41
(2) تيسير التحرير 2 / 263، شرح فتح القدير 1 / 395، وحاشية ابن عابدين 1 / 614، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 302(19/130)
وَصَرَّحَ الْبَيْجُورِيُّ بِأَنَّ السَّهْوَ مُرَادِفٌ لِلْغَفْلَةِ، وَأَمَّا الذُّهُول فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَهُ مُسَاوِيًا لِلْغَفْلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ أَعَمَّ مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ أَخَصَّ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ تَرْجِعُ إِلَى عُيُوبٍ فِي الإِْرَادَةِ لِمَنْ فَاتَهَا الْعِلْمُ، وَمَا كَانَ مُنَافِيًا لِلْعِلْمِ كَانَ مُنَافِيًا لِلإِْرَادَةِ، وَصِلَتُهَا بِالْخَطَأِ أَنَّهَا أَسْبَابٌ تُؤَدِّي إِلَيْهِ وَالْخَطَأُ يُنْتَجُ عَنْهَا (1) .
ب - الإِْكْرَاهُ:
5 - الإِْكْرَاهُ هُوَ حَمْل الْغَيْرِ عَلَى مَا لاَ يَرْضَاهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَلاَ يَخْتَارُ الْمُكْرَهُ مُبَاشَرَتَهُ لَوْ خُلِّيَ وَنَفْسَهُ، وَيَنْقَسِمُ إِلَى مُلْجِئٍ وَغَيْرِ مُلْجِئٍ وَتَفْصِيل أَحْكَامِهِ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (إِكْرَاهٌ)
قَال الآْمِدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَالْحَقُّ أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ بِالإِْكْرَاهِ إِلَى حَدِّ الاِضْطِرَارِ، وَصَارَ نِسْبَةُ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنَ الْفِعْل إِلَيْهِ نِسْبَةُ حَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ
__________
(1) حاشية الجمل 1 / 446، وحاشية ابن عابدين 2 / 77، 6 / 147، وجمع الجوامع 1 / 68، 69، 2 / 193. وانظر غريب الحديث للهروي 3 / 149، والنهاية في غريب الحديث والأثر 5 / 50، وحاشية البيجوري على متن السنوسية ص 29 - النشر الطيب على توحيد ابن عاشر 1 / 355، والمفردات ص 362، 491، والمصباح المنير، ولسان العرب والشرح الصغير 4 / 243، ونهاية السول في شرح منهاج الأصوال بتحقيق المطيعي 1 - 5 / 3، وتيسير التحرير 2 / 264 و305 و306، والقواعد والفوائد الأصولية للبعلي ص 153، والإحكام في أصوال الأحكام للآمدي 1 / 117، وشرح فتح القدير 1 / 395.(19/130)
إِلَيْهِ، أَنَّ تَكْلِيفَهُ بِهِ إِيجَادًا وَعَدَمًا غَيْرُ جَائِزٍ إِلاَّ عَلَى الْقَوْل بِتَكْلِيفِ مَا لاَ يُطَاقُ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى حَدِّ الاِضْطِرَارِ فَهُوَ مُخْتَارٌ، وَتَكْلِيفُهُ جَائِزٌ عَقْلاً وَشَرْعًا، وَأَمَّا الْمُخْطِئُ فَهُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ إِجْمَاعًا فِيمَا هُوَ مُخْطِئٌ فِيهِ (1) .
ج - الْهَزْل:
6 - الْهَزْل ضِدُّ الْجَدِّ وَهُوَ كُل كَلاَمٍ لاَ تَحْصِيل لَهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْهُزَال (2) .
وَقَال ابْنُ الأَْثِيرِ: الْهُزَال وَاللَّعِبُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ (3) . وَنَحْوُهُمَا الْمِزَاحُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَنْ لاَ يُرَادَ بِاللَّفْظِ وَدَلاَلَتِهِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ وَلاَ الْمَجَازِيُّ بِأَنْ لاَ يُرَادَ بِهِ شَيْءٌ أَوْ يُرَادَ بِهِ مَا لاَ يَصِحُّ إِرَادَتُهُ بِهِ (4) .
وَالْهَزْل كَالْخَطَأِ فِي أَنَّهُ مِنَ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ إِلاَّ أَنَّ الْمُخْطِئَ لاَ قَصْدَ لَهُ فِي خُصُوصِ اللَّفْظِ وَلاَ فِي حُكْمِهِ، وَالْهَازِل مُخْتَارٌ رَاضٍ بِخُصُوصِ اللَّفْظِ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ (5) .
__________
(1) الإحكام في أصوال الأحكام 1 / 117، نهاية السول في شرح منهاج الأصول 1 / 321، الإبهاج في شرح المنهاج 1 / 161، القواعد والفوائد الأصولية ص 39، تيسير التحرير 2 / 258، 307
(2) المفردات ص 542
(3) النهاية 5 / 263
(4) تيسير التحرير 2 / 290
(5) تيسير التحرير 2 / 307(19/131)
د - الْجَهْل:
7 - الْجَهْل انْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِالْمَقْصُودِ بِأَنْ لَمْ يُدْرِكْ أَصْلاً، وَيُسَمَّى الْجَهْل الْبَسِيطَ، أَوْ أَدْرَكَ عَلَى خِلاَفِ هَيْئَتِهِ فِي الْوَاقِعِ وَيُسَمَّى الْجَهْل الْمُرَكَّبَ؛ لأَِنَّهُ جَهْل الْمُدْرِكِ بِمَا فِي الْوَاقِعِ، مَعَ الْجَهْل بِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِهِ كَاعْتِقَادِ الْفَلاَسِفَةِ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ.
وَاعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ الْجَهْل عُذْرًا مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ، وَعَارِضًا مِنَ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ، مِثْلُهُ مِثْل الْخَطَأِ، وَأَنَّهُ مُسْقِطٌ لِلإِْثْمِ وَيُعْتَدُّ بِهِ عُذْرًا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَنْهِيَّاتِ دُونَ الْمَأْمُورَاتِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ إِقَامَةُ مَصَالِحِهَا، وَذَلِكَ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِفِعْلِهَا، وَالْمَنْهِيَّاتُ مَزْجُورٌ عَنْهَا بِسَبَبِ مَفَاسِدِهَا امْتِحَانًا لِلْمُكَلَّفِ بِالاِنْكِفَافِ عَنْهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّعَمُّدِ لاِرْتِكَابِهَا، وَمَعَ الْجَهْل لَمْ يَقْصِدِ الْمُكَلَّفُ ارْتِكَابَ الْمَنْهِيِّ فَعُذِرَ بِالْجَهْل فِيهِ (1) .
وَلاَ يُعْتَبَرُ الْجَهْل عُذْرًا فِي حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ مَثَلُهُ فِي ذَلِكَ مَثَل الْخَطَأِ، فَيَضْمَنُ الْجَاهِل وَالْمُخْطِئُ مَا يُتْلِفَانِهِ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
8 - اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الأُْصُول فِي وَصْفِ الْمُخْطِئِ بِالْحِل وَالْحُرْمَةِ.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 303، 304، حاشية البيجوري على السنوسية ص 29، النشر الطيب 2 / 27، وحاشية البناني على جمع الجوامع 1 / 111 - 164، غاية الوصول شرح لب الأصول ص 22، 23، والمنثور في القواعد 2 / 16 - 20، والفروق في اللغة 2 / 149 - 151(19/131)
فَقَال الإِْسْنَوِيُّ: بَعْدَ أَنْ عَرَّفَ الْحُكْمَ بِأَنَّهُ خِطَابُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ بِالاِقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ: مِنْ فُرُوعِ كَوْنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لاَ بُدَّ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِالْمُكَلَّفِينَ، أَنَّ وَطْءَ الشُّبْهَةِ الْقَائِمَةِ بِالْفَاعِل، وَهُوَ مَا إِذَا وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ مَثَلاً، هَل يُوصَفُ وَطْؤُهُ بِالْحِل وَالْحُرْمَةِ، وَإِنِ انْتَفَى عَنْهُ الإِْثْمُ، أَوْ لاَ يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنْهَا؟ فِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا الثَّالِثُ، وَبِهِ أَجَابَ النَّوَوِيُّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ فَتَاوِيهِ؛ لأَِنَّ الْحِل وَالْحُرْمَةَ مِنَ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ هُوَ الْخِطَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ، وَالسَّاهِي وَالْمُخْطِئُ وَنَحْوُهُمَا لَيْسُوا مُكَلَّفِينَ.
وَجَزَمَ فِي الْمُهَذَّبِ بِالْحُرْمَةِ، وَقَال بِهِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: (أَيِ الشَّافِعِيَّةِ) وَالْخِلاَفُ يَجْرِي فِي قَتْل الْخَطَأِ، وَفِي أَكْل الْمُضْطَرِّ لِلْمَيْتَةِ.
ثُمَّ قَال: وَمَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ التَّحْرِيمَ أَوِ الإِْبَاحَةَ لَمْ يُقَيِّدِ التَّعَلُّقَ بِالْمُكَلَّفِينَ بَل بِالْعِبَادِ، لِيَدْخُل فِيهِ أَيْضًا صِحَّةُ صَلاَةِ الصَّبِيِّ وَغَيْرُهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَوُجُوبُ الْغَرَامَةِ بِإِتْلاَفِهِ، وَإِتْلاَفِ الْمَجْنُونِ وَالْبَهِيمَةِ، وَالسَّاهِي وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْدَرِجُ فِي خِطَابِ الْوَضْعِ (1) .
وَقَال الشَّاطِبِيُّ: إِنَّ بَيْنَ الْحَلاَل وَالْحَرَامِ مَرْتَبَةُ الْعَفْوِ فَلاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنَ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ. ثُمَّ قَال: وَيَظْهَرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ
__________
(1) التمهيد ص 48، 49 تحقيق الدكتور محمد حسن هيتو.(19/132)
مِنَ الشَّرِيعَةِ، مِنْهَا مَا يَكُونُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا يُخْتَلَفُ فِيهِ، فَمِنْهَا الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، فَكُل فِعْلٍ صَدَرَ عَنْ غَافِلٍ، أَوْ نَاسٍ، أَوْ مُخْطِئٍ، فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عَنْهُ، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَفَرَضْنَا تِلْكَ الأَْفْعَال مَأْمُورًا بِهَا أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهَا أَمْ لاَ. لأَِنَّهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهَا وَلاَ مَأْمُورًا بِهَا وَلاَ مُخَيَّرًا فِيهَا فَقَدْ رَجَعَتْ إِلَى قِسْمِ مَا لاَ حُكْمَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ مَعْنَى الْعَفْوِ.
وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا الأَْمْرُ وَالنَّهْيُ، فَمِنْ شَرْطِ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ ذِكْرُ الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الاِمْتِثَال، وَذَلِكَ فِي الْمُخْطِئِ، وَالنَّاسِي، وَالْفَاعِل مُحَالٌ، وَمِثْل ذَلِكَ النَّائِمُ، وَالْمَجْنُونُ، وَالْحَائِضُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. وَمِنْهَا الْخَطَأُ فِي الاِجْتِهَادِ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الأَْوَّل (1) ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (2) .
الأَْثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْخَطَأِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحُقُوقِ مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ وَالإِْجْزَاءُ وَنَحْوُهُ:
9 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْخَطَأَ عُذْرٌ فِي إِسْقَاطِ بَعْضِ حُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَيْسَ فِيهَا كُلِّهَا، فَاعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ عُذْرًا فِي سُقُوطِ الإِْثْمِ عَنِ الْمُجْتَهِدِ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا
__________
(1) الموافقات 1 / 109، 161، 164، 165
(2) سورة التوبة / 43(19/132)
حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ (1) .
وَجَعَلَهُ شُبْهَةً دَارِئَةً فِي الْعُقُوبَاتِ فَلاَ يُؤَاخَذُ بِحَدٍّ فِيمَا لَوْ زُفَّتْ إِلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ.
وَكَذَلِكَ لاَ قِصَاصَ فِيمَا لَوْ رَمَى إِلَى إِنْسَانٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ صَيْدٌ فَقَتَلَهُ.
وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَلاَ تَسْقُطُ بِالْخَطَأِ فَيَجِبُ ضَمَانُ الْمُتْلَفَاتِ خَطَأً، كَمَا لَوْ رَمَى إِلَى شَاةٍ وَإِنْسَانٍ عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا صَيْدٌ، أَوْ أَكَل مَا لَهُ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مِلْكُ نَفْسِهِ؛ لأَِنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ لاَ جَزَاءُ فِعْلٍ فَيَعْتَمِدُ عِصْمَةَ الْمَحَل، وَكَوْنُهُ خَاطِئًا لاَ يُنَافِيهَا (2) .
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: قَال الأُْصُولِيُّونَ، أَيْ فِي حَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (3) : إِنَّهُ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْحَقِيقَةِ بِدَلاَلَةِ مَحَل الْكَلاَمِ؛ لأَِنَّ عَيْنَ الْخَطَأِ وَأَخَوَيْهِ (4) غَيْرُ مَرْفُوعٍ، فَالْمُرَادُ حُكْمُهَا وَهُوَ نَوْعَانِ: أُخْرَوِيٌّ
__________
(1) حديث: " إذا حكم الحاكم فاجتهد. . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 318 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1342 - ط الحلبي) من حديث عمرو بن العاص.
(2) تيسير التحرير 2 / 306، فواتح الرحموت 1 / 165، ميزان الأصول ص 188.
(3) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ". أخرجه ابن ماجه 1 / 659 - ط الحلبي) والحاكم (2 / 198 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عباس، واللفظ لابن ماجه، وصحح الحاكم إسناده ووافقه الذهبي.
(4) يقصد النسيان والإكراه.(19/133)
وَهُوَ الْمَأْثَمُ، وَدُنْيَوِيٌّ وَهُوَ الْفَسَادُ، وَالْحُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ فَصَارَ الْحُكْمُ بَعْدَ كَوْنِهِ مَجَازًا مُشْتَرَكًا فَلاَ يَعُمُّ. أَمَّا عِنْدَنَا فَلأَِنَّ الْمُشْتَرَكَ لاَ عُمُومَ لَهُ، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلأَِنَّ الْمَجَازَ لاَ عُمُومَ لَهُ فَإِذَا ثَبَتَ الأُْخْرَوِيُّ إِجْمَاعًا لَمْ يَثْبُتِ الآْخَرُ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ الدُّنْيَوِيُّ فَإِنْ وَقَعَ فِي تَرْكِ مَأْمُورٍ لَمْ يَسْقُطْ بَل يَجِبُ تَدَارُكُهُ، وَلاَ يَحْصُل الثَّوَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ، أَوْ فِعْلٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَإِنْ أَوْجَبَ عُقُوبَةً كَانَ شُبْهَةً فِي إِسْقَاطِهَا، فَمَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ صَوْمًا، أَوْ حَجًّا، أَوْ زَكَاةً، أَوْ كَفَّارَةً، أَوْ نَذْرًا، وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ بِلاَ خِلاَفٍ، وَكَذَا الْوُقُوفُ بِغَيْرِ عَرَفَةَ غَلَطًا يَجِبُ الْقَضَاءُ اتِّفَاقًا، وَمِنْهَا مَنْ صَلَّى بِنَجَاسَةٍ مَانِعَةٍ نَاسِيًا، أَوْ نَسِيَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ، أَوْ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِي الاِجْتِهَادِ فِي الْمَاءِ وَالثَّوْبِ وَقْتَ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ (1) .
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ أَمَّا فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ حُقُوقَ الآْدَمِيِّينَ الْعَامِدُ وَالْمُخْطِئُ فِيهَا سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ فِي بَعْضِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَتْل الصَّيْدِ
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 303، وانظر الأشباه والنظائر للسيوطي ص 187 - 190، وحاشية ابن عابدين 1 / 615، وكشف الخفاء ومزيل الإلباس - الحديث برقم 1394، 2929، المنثور في القواعد 2 / 122 هامش، والجزء الثاني من مختصر قواعد العلائي وكلام الأسنوي لأبي الثناء نور الدين محمود بن أحمد الحموي الفيومي المعروف بابن خطيب الدهشة ص 497، 498.(19/133)
وَالْخَطَأُ فِي الْعِبَادَةِ مَرْفُوعٌ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَضَاءِ إِنْ لَمْ يُؤْمَنْ وُقُوعُ مِثْلِهِ فِي الْمَفْعُول ثَانِيًا، كَمَا لَوْ أَخْطَأَ الْحَجِيجُ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَوَقَفُوا الْعَاشِرَ لاَ يَجِبُ الْقَضَاءُ؛ لأَِنَّ الْخَطَأَ لاَ يُؤْمَنُ فِي السِّنِينَ الْمُسْتَقْبَلَةِ. أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَلاَ يَكُونُ الْخَطَأُ عُذْرًا فِي إِسْقَاطِ الْقَضَاءِ كَمَا إِذَا أَخْطَأَ الْحَجِيجُ فِي الْمَوْقِفِ فَوَقَفُوا فِي غَيْرِ عَرَفَةَ، فَيَلْزَمُهُمُ الْقَضَاءُ سَوَاءٌ كَانُوا جَمْعًا كَثِيرًا أَوْ قَلِيلاً؛ لأَِنَّ الْخَطَأَ فِي الْمَوْقِفِ يُؤْمَنُ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ، وَكَالْحَاكِمِ يَحْكُمُ بِالاِجْتِهَادِ ثُمَّ يَجِدُ النَّصَّ بِخِلاَفِهِ لاَ يُعْتَدُّ بِحُكْمِهِ.
وَلَوْ صَلَّى بِالاِجْتِهَادِ ثُمَّ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ بَعْدَ الصَّلاَةِ وَجَبَ الْقَضَاءُ فِي الأَْصَحِّ، وَلَوِ اجْتَهَدَ فِي أَوَانٍ، أَوْ ثِيَابٍ، ثُمَّ بَانَ أَنَّ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ أَوْ لَبِسَهُ كَانَ نَجِسًا لَزِمَتْهُ الإِْعَادَةُ (1) .
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْفِعْل الْوَاقِعَ خَطَأً أَوْ نِسْيَانًا لَغْوٌ فِي الأَْحْكَامِ، كَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ لَغْوًا فِي الآْثَامِ. وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (2) .
__________
(1) المنثور في القواعد 2 / 122، 123
(2) حديث: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " أخرجه الطبراني عن ثوبان وفي إسناده يزيد بن ربيعة الرجحي، وهوضعيف كما قال الهيثمي (فيض القدير 4 / 34، 35) ويدل على معناه ما أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عباس " إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي (ابن ماجه 1 / 659 ط الحلبي، والحاكم 2 / 198 ط دائرة المعارف العثمانية)(19/134)
وَقَال الْقُرْطُبِيُّ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1) الْمَعْنَى: اعْفُ عَنْ إِثْمِ مَا يَقَعُ مِنَّا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا. وَهَذَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ أَنَّ الإِْثْمَ مَرْفُوعٌ، وَإِنَّمَا اخْتُلِفَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الأَْحْكَامِ هَل ذَلِكَ مَرْفُوعٌ لاَ يَلْزَمُ مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ يَلْزَمُ أَحْكَامُ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ اخْتُلِفَ فِيهِ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ، فَقِسْمٌ لاَ يَسْقُطُ بِاتِّفَاقٍ كَالْغَرَامَاتِ، وَالدِّيَاتِ، وَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، وَقِسْمٌ يَسْقُطُ بِاتِّفَاقٍ كَالْقِصَاصِ وَالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَقِسْمٌ ثَالِثٌ يُخْتَلَفُ فِيهِ كَمَنْ أَكَل نَاسِيًا فِي رَمَضَانَ، أَوْ حَنِثَ سَاهِيًا، وَمَا كَانَ مِثْلُهُ مِمَّا يَقَعُ خَطَأً وَنِسْيَانًا وَيُعْرَفُ ذَلِكَ فِي الْفُرُوعِ (2) .
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْفِعْل الْوَاقِعَ خَطَأً غَيْرُ مُؤَاخَذٍ عَلَيْهِ مُطْلَقًا إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ الَّذِي قَال عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} يَقْتَضِي رَفْعَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْمَنْسِيِّ، وَالْمُؤَاخَذَةُ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى مُؤَاخَذَةٍ فِي حُكْمِ الآْخِرَةِ وَهُوَ الإِْثْمُ وَالْعِقَابُ، وَإِلَى مُؤَاخَذَةٍ فِي حُكْمِ الدُّنْيَا وَهُوَ إِثْبَاتُ التَّبَعَاتِ وَالْغَرَامَاتِ. وَالظَّاهِرُ نَفْيُ حُكْمِ جَمِيعِ ذَلِكَ.
__________
(1) سورة البقرة / 286
(2) الجامع لأحكام القرآن 3 / 431، 432(19/134)
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ. يَقْتَضِي رَفْعَ الْخَطَأِ مُطْلَقًا وَرَفْعَ حُكْمِهِ (1) .
10 - وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الأَْئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ أَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ وَالدِّيَاتِ وَكُل مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ لاَ يَسْقُطُ بِحَالٍ حَتَّى إِنَّهُمْ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ الْخَطَأَ وَالْعَمْدَ فِي أَمْوَال النَّاسِ سَوَاءٌ (2) . لأَِنَّهُ مِنْ قَبِيل خِطَابِ الْوَضْعِ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الأُْصُول أَنَّ خِطَابَ الْوَضْعِ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ وَقُدْرَتُهُ وَهُوَ الْخِطَابُ بِكَثِيرٍ مِنَ الأَْسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمَجَانِينِ وَالْغَافِلِينَ بِسَبَبِ الإِْتْلاَفِ لِكَوْنِهِ مِنْ بَابِ الْوَضْعِ الَّذِي مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: إِذَا وَقَعَ هَذَا فِي الْوُجُودِ فَاعْلَمُوا أَنِّي حَكَمْتُ بِكَذَا، وَمِنْ ذَلِكَ الطَّلاَقُ بِالإِْضْرَارِ، وَالإِْعْسَارُ، وَالتَّوْرِيثُ بِالأَْنْسَابِ (3) .
وَنَقَل الْخَلاَّل عَنْ أَحْمَدَ قَال: مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ مَرْفُوعٌ فَقَدْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ فِي قَتْل
__________
(1) أحكام القرآن 1 / 437، 438
(2) البهجة شرح التحفة 2 / 286، 287، المنثور في القواعد 2 / 122، 123.
(3) الذخيرة للقرافي ص 65، والتمهيد ص 118، 119، الأحكام للآمدي 1 / 115 - 117، والمستصفى 1 / 84، 85 مطبوع مع فواتح الرحموت، وفواتح الرحموت 1 / 165 نفس الطبعة، تيسير التحرير 2 / 306، 307، فتح الباري 14 / 356، 357(19/135)
النَّفْسِ الْخَطَأِ الدِّيَةَ وَالْكَفَّارَةَ، يَعْنِي مَنْ زَعَمَ ارْتِفَاعَهُمَا عَلَى الْعُمُومِ فِي خِطَابِ الْوَضْعِ وَالتَّكْلِيفِ (1) .
وَقَال الْبَعْلِيُّ فِي الْقَاعِدَةِ الثَّانِيَةِ: شُرُوطُ التَّكْلِيفِ الْعَقْل وَفَهْمُ الْخِطَابِ. فَلاَ تَكْلِيفَ عَلَى صَبِيٍّ، وَلاَ مَجْنُونٍ لاَ عَقْل لَهُ. وَقَال أَبُو الْبَرَكَاتِ فِي الْمُسَوَّدَةِ: وَاخْتَارَ قَوْمٌ تَكْلِيفَهُمَا.
قُلْتُ: مَنِ اخْتَارَ تَكْلِيفَهُمَا، إِنْ أَرَادَ: أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى أَفْعَالِهِمَا مَا هُوَ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ فَلاَ نِزَاعَ فِي تَرَتُّبِهِ. وَإِنْ أَرَادَ خِطَابَ التَّكْلِيفِ فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُمَا بِلاَ نِزَاعٍ، وَإِنِ اخْتُلِفَ فِي مَسَائِل: هَل هِيَ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ، أَمْ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ؟ أَوْ بَعْضِ مَسَائِل مِنْ مَسَائِل التَّكْلِيفِ (2) .
قَوَاعِدُ فِقْهِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخَطَأِ:
قَاعِدَةٌ: لاَ عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ.
11 - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
وَمِنْ تَطْبِيقَاتِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ صَلاَةُ الْعِشَاءِ لَوْ ظَنَّ أَنَّ وَقْتَ الْفَجْرِ ضَاقَ فَصَلَّى الْفَجْرَ قَبْل الْفَائِتَةِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ بَطَل الْفَجْرُ، فَإِذَا بَطَل يَنْظُرُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ يُصَلِّي الْعِشَاءَ ثُمَّ يُعِيدُ الْفَجْرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ يُعِيدُ الْفَجْرَ فَقَطْ.
__________
(1) كشف الخفاء ومزيل الإلباس 1 / 522، 523
(2) القواعد والفوائد الأصولية ص 15(19/135)
وَمِنْهَا مَا لَوْ ظَنَّ الْمَاءَ نَجِسًا فَتَوَضَّأَ بِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ طَاهِرٌ جَازَ وُضُوءُهُ.
وَمِنْهَا مَا لَوْ ظَنَّ الْمُزَكِّي أَنَّ الْمَدْفُوعَ إِلَيْهِ غَيْرُ مَصْرِفٍ لِلزَّكَاةِ فَدَفَعَ لَهُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَصْرِفٌ أَجْزَأَهُ اتِّفَاقًا. وَلَوْ رَأَوْا سَوَادًا فَظَنُّوهُ عَدُوًّا فَصَلَّوْا صَلاَةَ الْخَوْفِ، فَبَانَ خِلاَفُهُ لَمْ تَصِحَّ؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ حُضُورُ الْعَدُوِّ.
وَلَوِ اسْتَنَابَ الْمَرِيضُ فِي حَجِّ الْفَرْضِ ظَانًّا أَنَّهُ لاَ يَعِيشُ ثُمَّ صَحَّ مِنَ الْمَرَضِ أَدَّاهُ بِنَفْسِهِ.
وَلَوْ ظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا فَأَدَّاهُ فَبَانَ خِلاَفُهُ رَجَعَ بِمَا أَدَّى.
وَلَوْ خَاطَبَ امْرَأَتَهُ بِالطَّلاَقِ ظَانًّا أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ فَبَانَ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ طَلُقَتْ (1) .
وَمِنْ تَطْبِيقَاتِهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
12 - مَا لَوْ ظَنَّ الْمُكَلَّفُ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ أَنَّهُ لاَ يَعِيشُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، تَضَيَّقَ عَلَيْهِ فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ ثُمَّ عَاشَ وَفَعَلَهُ فَأَدَاءٌ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَمَا لَوْ ظَنَّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ فَصَلَّى، ثُمَّ بَانَ حَدَثُهُ.
وَمَا لَوْ ظَنَّ دُخُول الْوَقْتِ، فَصَلَّى، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُل.
أَوْ ظَنَّ طَهَارَةَ الْمَاءِ فَتَوَضَّأَ بِهِ، ثُمَّ بَانَ نَجَاسَتُهُ.
أَوْ ظَنَّ أَنَّ إِمَامَهُ مُسْلِمٌ، أَوْ رَجُلٌ قَارِئٌ فَبَانَ كَافِرًا، أَوِ امْرَأَةً أَوْ أُمِّيًّا.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 161، شرح المجلة لعلي حيدر المسمى درر الحكام 1 / 64 القاعدة 72.(19/136)
أَوْ بَقَاءَ اللَّيْل، أَوْ غُرُوبَ الشَّمْسِ، فَأَكَل ثُمَّ بَانَ خِلاَفُهُ.
أَوْ دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى مَنْ ظَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا، فَبَانَ خِلاَفُهُ.
أَوْ رَأَوْا سَوَادًا فَظَنُّوهُ عَدُوًّا فَصَلَّوْا صَلاَةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، فَبَانَ خِلاَفُهُ، أَوْ بَانَ أَنَّ هُنَاكَ خَنْدَقًا.
أَوِ اسْتَنَابَ عَلَى الْحَجِّ ظَانًّا أَنَّهُ لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ، فَبَرِئَ: لَمْ يَجُزْ فِي الصُّوَرِ كُلِّهَا.
ثُمَّ أَوْرَدَ السُّيُوطِيُّ وَابْنُ نُجَيْمٍ بَعْضَ الْمَسَائِل الْمُسْتَثْنَاةِ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، مِنْهَا مَا لَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَظُنُّهُ مُتَطَهِّرًا فَبَانَ حَدَثُهُ صَحَّتْ صَلاَتُهُ (1) .
وَلَوْ أَنْفَقَ عَلَى الْبَائِنِ ظَانًّا حَمْلَهَا فَبَانَتْ حَائِلاً: اسْتَرَدَّ.
وَشَبَّهَهُ الرَّافِعِيُّ: بِمَا إِذَا ظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا فَأَدَّاهُ، ثُمَّ بَانَ خِلاَفُهُ، وَمَا إِذَا أَنْفَقَ عَلَى ظَنِّ إِعْسَارِهِ، ثُمَّ بَانَ يَسَارُهُ (2) .
13 - وَقَرِيبٌ مِنَ الْقَاعِدَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَاعِدَةُ الظُّهُورِ وَالاِنْكِشَافِ ذَكَرَهَا الْوَنْشَرِيسِيُّ (3) . وَمِنْ تَطْبِيقَاتِهَا:
اسْتِرْجَاعُ النَّفَقَةِ الْمَدْفُوعَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْحَمْل إِذَا ظَهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَامِلاً، عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ.
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 157
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 157
(3) إيضاح المسالك إلي قواعد الإمام مالك ص 215(19/136)
وَوُجُوبُ رَدِّ قِسْمَةِ مِيرَاثِ الْمَفْقُودِ فِي أَرْضِ الإِْسْلاَمِ فِي الأَْجَل أَوْ قَبْلَهُ - بَعْدَمَا أَنْفَقَ أَوْلاَدُهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ مَالِهِ. قَال مَالِكٌ فِيهَا بِوُجُوبِ رَدِّ النَّفَقَةِ (1) .
14 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَوْرَدَ ابْنُ رَجَبٍ عِدَّةَ قَوَاعِدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْهَا:
الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالسِّتُّونَ: وَهِيَ مَنْ تَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ يَظُنُّ أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُهُ فَفِي صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ خِلاَفٌ، وَمِنْ تَطْبِيقَاتِهَا:
مَا لَوْ بَاعَ مِلْكَ أَبِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ قَدْ مَاتَ وَلاَ وَارِثَ لَهُ سِوَاهُ، فَفِي صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ وَجْهَانِ وَيُقَال: رِوَايَتَانِ (2) .
وَمِنْهَا الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالتِّسْعُونَ:
مَنْ أَتْلَفَ مَال غَيْرِهِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مَالُهُ، أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ يَظُنُّ لِنَفْسِهِ وِلاَيَةً عَلَيْهِ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ خَطَأُ ظَنِّهِ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ خَطَأُ ظَنِّهِ، بِأَنْ كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ خَطَأُ الْمُتَسَبِّبِ، أَوْ أَقَرَّ بِتَعَمُّدِهِ لِلْجِنَايَةِ ضَمِنَ الْمُتَسَبِّبُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى اجْتِهَادٍ مُجَرَّدٍ، كَمَنْ دَفَعَ مَالاً تَحْتَ يَدِهِ إِلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ مَالِكُهُ أَوْ أَنَّهُ يَجِبُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ، أَوْ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ، أَوْ دَفَعَ مَالَهُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ
__________
(1) إيضاح المسالك إلي قواعد الإمام مالك ص 215
(2) القواعد لابن رجب ص 120(19/137)
لِحَقِّ اللَّهِ إِلَى مَنْ يَظُنُّهُ مُسْتَحِقًّا ثُمَّ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلاَنِ (1) .
الْخَطَأُ فِي الْعِبَادَاتِ:
أ - الطَّهَارَةُ:
أَوَّلاً - الْخَطَأُ فِي الاِجْتِهَادِ فِي الأَْوَانِي وَالثِّيَابِ:
15 - مَنِ اجْتَهَدَ فِي أَوَانٍ أَوْ ثِيَابٍ ثُمَّ بَانَ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ أَوْ لَبِسَهُ كَانَ نَجِسًا لَزِمَتْهُ الإِْعَادَةُ؛ لأَِنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فَهُوَ كَالْحَاكِمِ إِذَا أَخْطَأَ النَّصَّ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْل ابْنِ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَمَبْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى قَاعِدَةِ (لاَ عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ) (3) .
وَبَنَاهَا الْمَالِكِيَّةُ عَلَى قَاعِدَةِ. الظَّنُّ هَل يُنْقَضُ بِالظَّنِّ أَمْ لاَ؟ (4) .
__________
(1) القواعد لابن رجب ص 232
(2) درر الحكام شرح غرر الأحكام لمنلا خسرو 1 / 61، غمز عيون البصائر 1 / 193، والقوانين الفقهية ص 26، 27، والشرح الصغير 1 / 65، 66، ومنهاج الطالبين 1 / 138، المنثور في القواعد 2 / 123، والقواعد والفوائد الأصولية ص 96
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 160، وشرح الأشباه المسمى غمز عيون البصائر 1 / 193، والأشباه والنظائر للسيوطي 157
(4) إيضاح المسالك في قواعد الإمام مالك ص 149(19/137)
وَالْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ اسْتِحْبَابًا.
وَلاَ تَرِدُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى قَوَاعِدِ جُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ لأَِنَّهُ إِذَا شَكَّ فِي نَجَاسَةِ الْمَاءِ الطَّاهِرِ، أَوْ طَهَارَةِ الْمَاءِ النَّجِسِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ، وَلاَ عِبْرَةَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، فَإِنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ لَمْ يَتَحَرَّ فِيهِمَا، وَهَل يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ تَيَمُّمِهِ مَزْجُهُمَا أَوْ إِرَاقَتُهُمَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ (1) .
وَبَنَوْا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَاعِدَةِ: إِذَا تَعَارَضَ الأَْصْل وَالظَّاهِرُ، فَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ حُجَّةً يَجِبُ قَبُولُهَا شَرْعًا، كَالشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَالإِْخْبَارِ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الأَْصْل بِغَيْرِ خِلاَفٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَل كَانَ مُسْتَنَدُهُ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ الْغَالِبَةَ وَالْقَرَائِنَ أَوْ غَلَبَةَ الظَّنِّ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَتَارَةً يُعْمَل بِالأَْصْل وَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى الظَّاهِرِ، وَتَارَةً يُعْمَل بِالظَّاهِرِ وَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى الأَْصْل، وَتَارَةً يَخْرُجُ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ (2) .
أَمَّا فِي الثِّيَابِ إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ ثِيَابٌ طَاهِرَةٌ بِنَجِسَةٍ لَمْ يَجُزِ التَّحَرِّي وَصَلَّى فِي كُل ثَوْبٍ بِعَدَدِ النَّجِسِ وَزَادَ صَلاَةً وَيَنْوِي بِكُل صَلاَةٍ الْفَرْضَ (3) .
__________
(1) الفوائد والقواعد الأصولية 95، والاختيارات الفقهية ص 5، المغني 1 / 57، المذهب الأحمد ص 4
(2) القواعد لابن رجب 367، 369
(3) المغني 1 / 75، القواعد والفوائد الأصولية ص 96(19/138)
ثَانِيًا - الْخَطَأُ فِي الْوُضُوءِ:
16 - إِذَا غَلِطَ فِي نِيَّةِ الْوُضُوءِ فَنَوَى رَفْعَ حَدَثِ النَّوْمِ وَكَانَ حَدَثُهُ غَيْرَهُ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ إِذَا غَلِطَ فِي النِّيَّةِ بِأَنْ كَانَ عَلَيْهِ حَدَثُ نَوْمٍ، فَغَلِطَ وَنَوَى رَفْعَ حَدَثِ بَوْلٍ ارْتَفَعَ حَدَثُهُ لِتَدَاخُل الأَْحْدَاثِ، أَمَّا إِنْ نَوَى غَيْرَ مَا صَدَرَ مِنْهُ عَمْدًا لَمْ يَصِحَّ وُضُوءُهُ لِتَلاَعُبِهِ (1) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي مَبْحَثِ " إِذَا عَيَّنَ وَأَخْطَأَ " أَنَّ الْوُضُوءَ وَالْغُسْل لاَ دَخْل لَهُمَا فِي هَذَا الْبَحْثِ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهِمَا (2) . وَقَالُوا: إِنَّ مَنْ دَخَل الْمَاءَ مَدْفُوعًا، أَوْ مُخْتَارًا لِقَصْدِ التَّبَرُّدِ، أَوْ لِمُجَرَّدِ إِزَالَةِ الْوَسَخِ صَحَّ وُضُوءُهُ. وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْوِ وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى فَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ مَقْصُودُ التَّحْصِيل لِغَيْرِهِ لاَ لِذَاتِهِ، فَكَيْفَمَا فَعَل حَصَل الْمَقْصُودُ وَصَارَ كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَبَاقِي شُرُوطِ الصَّلاَةِ وَلاَ يَفْتَقِرُ اعْتِبَارُهَا إِلَى أَنْ تُنْوَى (3) .
ثَالِثًا - الْخَطَأُ فِي الْغُسْل:
17 - إِذَا نَوَى الْمُغْتَسِل رَفْعَ جَنَابَةِ الْجِمَاعِ وَكَانَتْ
__________
(1) شرح الزرقاني 1 / 63، والمجموع 1 / 335، الأشباه والنظائر للسيوطي 16، 17، وكشاف القناع 1 / 86
(2) الأشباه والنظائر ص 37
(3) شرح فتح القدير 1 / 32(19/138)
جَنَابَتُهُ مِنَ احْتِلاَمٍ، وَإِذَا نَوَتِ الْمَرْأَةُ رَفْعَ الْجَنَابَةِ وَكَانَ حَدَثُهَا مِنَ الْحَيْضِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ ذَلِكَ لاَ يَضُرُّ (1) .
وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ النِّيَّةَ لاَ تُشْتَرَطُ فِي الْوُضُوءِ، وَالْغُسْل، وَمَسْحِ الْخُفَّيْنِ، وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ عَنِ الثَّوْبِ، وَالْبَدَنِ، وَالْمَكَانِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا تَسَاوَتِ الطَّهَارَتَانِ فِي أَنْفُسِهِمَا وَفِيمَا تَتَنَاوَلاَنِهِ مِنَ الأَْحْدَاثِ وَالأَْسْبَابِ وَفِيمَا تَمْنَعَانِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ نِيَّةَ إِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ تَنُوبُ عَنِ الأُْخْرَى (3) .
وَإِذَا تَسَاوَتِ الطَّهَارَتَانِ عَنْ حَدَثٍ وَاخْتَلَفَتْ مَوَانِعُهُمَا، كَالْجَنَابَةِ، وَالْحَيْضِ، فَإِنَّ الْحَيْضَ يَمْنَعُ الْوَطْءَ وَلاَ تَمْنَعُهُ الْجَنَابَةُ، فَإِنِ اغْتَسَلَتِ الْحَائِضُ تَنْوِي الْجَنَابَةَ دُونَ الْحَيْضِ، فَفِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ لاَ يُجْزِئُ الْحَائِضُ، وَفِي كِتَابِ الْحَاوِي لِلْقَاضِي أَبِي الْفَرَجِ يُجْزِئُ (4) .
وَقَال الزُّرْقَانِيُّ: الْغَلَطُ فِي النِّيَّةِ لاَ يَضُرُّ بِخِلاَفِ الْمُتَعَمِّدِ لأَِنَّهُ مُتَلاَعِبٌ (5) .
وَقَال الدُّسُوقِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ: وَإِنْ نَوَتِ امْرَأَةٌ جُنُبٌ وَحَائِضٌ بِغُسْلِهَا الْحَيْضَ، وَالْجَنَابَةَ مَعًا،
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 16، المجموع 1 / 335
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 20
(3) المنتقى 1 / 50
(4) المنتقى 1 / 51
(5) شرح الزرقاني 1 / 101(19/139)
أَوْ نَوَتْ أَحَدَهُمَا نَاسِيَةً أَوْ ذَاكِرَةً لِلآْخَرِ وَلَمْ تُخْرِجْهُ حَصَلاَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ إِذَا اجْتَمَعَتْ أَحْدَاثٌ مُتَنَوِّعَةٌ وَلَوْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي أَوْقَاتٍ تُوجِبُ وُضُوءًا أَوْ غُسْلاً وَنَوَى بِطَهَارَتِهِ أَحَدَهَا ارْتَفَعَ هُوَ، أَيِ: الَّذِي نَوَى رَفْعَهُ، وَارْتَفَعَ سَائِرُهَا؛ لأَِنَّ الأَْحْدَاثَ تَتَدَاخَل فَإِذَا نَوَى بَعْضَهَا غَيْرَ مُقَيَّدٍ ارْتَفَعَ جَمِيعُهَا، وَهَذَا مَا لَمْ يَخْرُجْ شَيْئًا مِنْهَا بِالنِّيَّةِ (2) .
رَابِعًا: الْخَطَأُ فِي التَّيَمُّمِ:
18 - مِنْ أَمْثِلَةِ الْخَطَأِ فِي التَّيَمُّمِ مَا يَأْتِي:
أ - قَال الْحَنَفِيَّةُ: النِّيَّةُ فِي التَّيَمُّمِ لاَ يَجِبُ فِيهَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ، فَلَوْ تَيَمَّمَ الْجُنُبُ يُرِيدُ بِهِ الْوُضُوءَ جَازَ؛ لأَِنَّ الشُّرُوطَ يُرَاعَى وُجُودُهَا لاَ غَيْرُ، فَإِذَا تَيَمَّمَ لِلْعَصْرِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ غَيْرَهُ (3) . وَقَال الْخَصَّافُ: يَجِبُ التَّمْيِيزُ لِكَوْنِهِ يَقَعُ لَهُمَا عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَيُمَيِّزُ بِالنِّيَّةِ كَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ (4) .
وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْمَنْعَ، وَرَوَى ابْنُ مَسْلَمَةَ عَنْهُ الْجَوَازَ. قَال الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى: اخْتَلَفَ قَوْل مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي الْجُنُبِ يَتَيَمَّمُ نَاسِيًا لِجَنَابَتِهِ يَنْوِي مِنَ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ فَمَنَعَ مِنْهُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 133
(2) كشاف القناع 1 / 89، 90
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 31
(4) ذات المصدر(19/139)
مَالِكٌ، وَجَوَّزَهُ ابْنُ مَسْلَمَةَ، وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ نَوَى الْمُتَيَمِّمُ اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ وَكَانَ جُنُبًا، أَوْ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ وَكَانَ مُحْدِثًا صَحَّ بِالاِتِّفَاقِ إِذَا كَانَ غَالِطًا (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لِمَا تَيَمَّمَ لَهُ كَصَلاَةٍ، وَطَوَافٍ، وَمَسِّ الْمُصْحَفِ مِنْ حَدَثٍ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ، أَوْ نَجَاسَةٍ عَلَى بَدَنِهِ؛ لأَِنَّ التَّيَمُّمَ لاَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَإِنَّمَا يُبِيحُ الصَّلاَةَ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ التَّعْيِينِ تَقْوِيَةً لِضَعْفِهِ، وَصِفَةُ التَّعْيِينِ أَنْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ صَلاَةِ الظُّهْرِ مَثَلاً مِنَ الْجَنَابَةِ إِنْ كَانَ جُنُبًا، أَوْ مِنَ الْحَدَثِ إِنْ كَانَ مُحْدِثًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَإِنْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ مِنَ الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ وَالأَْصْغَرِ وَالنَّجَاسَةِ بِبَدَنِهِ صَحَّ تَيَمُّمُهُ وَأَجْزَأَهُ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ يَدْخُل فِي الْعُمُومِ (3) .
ب - إِنْ كَانَ فِي رَحْلِهِ مَاءٌ فَأَخْطَأَ رَحْلَهُ فَطَلَبَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى، مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ؛ وَلأَِنَّهُ غَيْرُ مُفَرِّطٍ فِي الطَّلَبِ.
__________
(1) المنتقى 1 / 51
(2) المجموع 1 / 335، الأشباه والنظائر للسيوطي ص 17
(3) كشاف القناع 1 / 175، 176(19/140)
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَلْزَمُهُ الإِْعَادَةُ؛ لأَِنَّهُ فَرَّطَ فِي حِفْظِ الرَّحْل (1) .
ج - إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْمَاءِ وَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ نَفَذَ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى أَعَادَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اتِّفَاقًا، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الاِسْتِعْمَال ثَابِتَةٌ بِعِلْمِهِ فَلاَ يَنْعَدِمُ بِظَنِّهِ، وَعَلَيْهِ التَّحَرِّي، فَإِذَا لَمْ يَفْعَل لاَ يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ وَلأَِنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِهِ وَظَهَرَ خَطَأُ الظَّنِّ.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ أَنَّهُ لاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ حَال بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ فَسَقَطَ الْفَرْضُ بِالتَّيَمُّمِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ (2) .
ب - الصَّلاَةُ:
أَوَّلاً: الْخَطَأُ فِي النِّيَّةِ:
وَمِنْ صُوَرِهِ:
19 - الصُّورَةُ الأُْولَى: الْخَطَأُ فِيمَا لاَ يُشْتَرَطُ لَهُ التَّعْيِينُ لاَ يَضُرُّ قَالَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ (3) .
وَقَال السُّيُوطِيُّ: مَا لاَ يُشْتَرَطُ لَهُ التَّعَرُّضُ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 159، 160، شرح الخرشي 1 / 197 والمهذب 1 / 34، المجموع 1 / 266 وكشاف القناع 1 / 169
(2) المبسوط 1 / 122، حاشية رد المحتار 1 / 250، وحاشية العدوي على الخرشي 1 / 197، الشرح الصغير 1 / 190، 191 والمجموع 2 / 264 وكشاف القناع 1 / 170
(3) الأشباه والنظائر ص 34(19/140)
جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً إِذَا عَيَّنَهُ وَأَخْطَأَ لَمْ يَضُرَّ (1) وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا عِنْدَهُمَا:
1 - تَعْيِينُ مَكَانِ الصَّلاَةِ وَزَمَانِهَا وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ، فَلَوْ عَيَّنَ عَدَدَ رَكَعَاتِ الظُّهْرِ ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا صَحَّ؛ لأَِنَّ التَّعْيِينَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَالْخَطَأُ فِيهِ لاَ يَضُرُّ وَتَلْغُو نِيَّةُ التَّعْيِينِ. وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، لَكِنْ إِنْ نَوَى الظُّهْرَ ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا لَمْ تَصِحَّ لِتَلاَعُبِهِ (3) .
2 - وَإِذَا عَيَّنَ الإِْمَامُ مَنْ يُصَلِّي بِهِ فَبَانَ غَيْرُهُ لاَ يَضُرُّ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلأَْصَحِّ تَضُرُّ، وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى وَهِيَ الأَْصَحُّ: لاَ تَضُرُّ (4) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يَنْوِيَ الإِْمَامَةَ (5) .
3 - وَإِذَا عَيَّنَ الأَْدَاءَ فَبَانَ أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ خَرَجَ أَوِ الْقَضَاءَ، فَبَانَ أَنَّهُ بَاقٍ فَصَلاَتُهُ صَحِيحَةٌ، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ (6) . وَقَال الْحَنَابِلَةُ يَصِحُّ قَضَاءً بِنِيَّةِ أَدَاءً وَعَكْسُهُ إِذَا بَانَ خِلاَفُ ظَنِّهِ، وَلاَ يَصِحُّ مَعَ الْعِلْمِ (7) .
20 - الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: وَعَبَّرَ عَنْهَا ابْنُ نُجَيْمٍ
__________
(1) الأشباه والنظائر ص 15، 16
(2) الشرح الصغير1 / 305، الدسوقي 1 / 235
(3) كشاف القناع 1 / 314
(4) كشاف القناع 1 / 319
(5) حاشية الدسوقي 1 / 338 - الخرشي 1 / 268
(6) الشرح الصغير 1 / 305
(7) كشاف القناع 1 / 315(19/141)
بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ فَالْخَطَأُ فِيهِ يَضُرُّ (1) .
وَقَال السُّيُوطِيُّ: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ فَالْخَطَأُ فِيهِ مُبْطِلٌ، وَمَا يَجِبُ التَّعَرُّضُ لَهُ جُمْلَةً وَلاَ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ تَفْصِيلاً إِذَا عَيَّنَهُ وَأَخْطَأَ ضَرَّ (2) .
وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا عِنْدَهُمَا:
1 - الْخَطَأُ مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ فَإِنَّهُ يَضُرُّ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (3) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَال الْخَرَشِيُّ: إِنْ خَالَفَتْ نِيَّتُهُ لَفْظَهُ، فَالْعِبْرَةُ بِالنِّيَّةِ دُونَ اللَّفْظِ، كَنَاوِي ظُهْرٍ تَلَفَّظَ بِعَصْرٍ مَثَلاً، وَهَذَا إِذَا تَخَالَفَا سَهْوًا، وَأَمَّا إِنْ فَعَلَهُ مُتَعَمِّدًا فَهُوَ مُتَلاَعِبٌ، وَنُقِل عَنِ الإِْرْشَادِ أَنَّ الأَْحْوَطَ الإِْعَادَةُ أَيْ فِيمَا إِذَا فَعَل ذَلِكَ سَهْوًا، قَال الشَّيْخُ زَرُّوقٌ فِي شَرْحِهِ: لِلْخِلاَفِ فِي الشُّبْهَةِ إِذْ يُحْتَمَل تَعَلُّقُ النِّيَّةِ بِمَا سَبَقَ إِلَيْهِ لِسَانُهُ (4) .
2 - وَكَذَلِكَ إِذَا نَوَى الاِقْتِدَاءَ بِزَيْدٍ فَإِذَا هُوَ عَمْرٌو لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ.
وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ (5) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوِ
__________
(1) الأشباه والنظائر ص 34
(2) الأشباه والنظائر ص 15، 16
(3) كشاف القناع 1 / 314
(4) الخرشي 1 / 266
(5) كشاف القناع 1 / 319(19/141)
اقْتَدَى شَخْصٌ بِمَنْ يُصَلِّي إِمَامًا بِمَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ وَلاَ يَدْرِي مَنْ هُوَ، فَإِنَّ صَلاَتَهُ صَحِيحَةٌ، وَكَذَا إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ زَيْدٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَمْرٌو فِيمَا يَظْهَرُ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ الاِقْتِدَاءَ بِهِ إِنْ كَانَ زَيْدًا لاَ إِنْ كَانَ عَمْرًا، فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَبْطُل، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ زَيْدٌ لِتَرَدُّدِهِ فِي النِّيَّةِ (1) .
3 - الْخَطَأُ فِي تَعْيِينِ الْمَيِّتِ فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ بِأَنْ نَوَى الصَّلاَةَ عَلَى زَيْدٍ فَبَانَ غَيْرُهُ، أَوْ نَوَى الصَّلاَةَ عَلَى الْمَيِّتِ الذَّكَرِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أُنْثَى، أَوْ عَكْسُهُ، فَإِنَّهُ يَضُرُّ وَلاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ.
وَوَافَقَهُمَا الْمَالِكِيَّةُ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصُّورَةِ الأُْولَى، فَقَالُوا: إِنْ نَوَى الصَّلاَةَ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنْ مَوْتَى يُرِيدُ بِهِ زَيْدًا فَبَانَ غَيْرُهُ جَزَمَ أَبُو الْمَعَالِي أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ، وَقَالُوا بِالصِّحَّةِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، فَلَوْ نَوَى الصَّلاَةَ عَلَى هَذَا الرَّجُل فَبَانَ امْرَأَةً أَوْ عَكْسَهُ، بِأَنْ نَوَى هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَبَانَتْ رَجُلاً، قَالُوا فَالْقِيَاسُ الإِْجْزَاءُ لِقُوَّةِ التَّعْيِينِ عَلَى الصِّفَةِ فِي بَابِ الأَْيْمَانِ وَغَيْرِهَا (2) .
4 - لَوْ نَوَى قَضَاءَ ظُهْرِ يَوْمِ الاِثْنَيْنِ وَكَانَ عَلَيْهِ ظُهْرُ يَوْمِ الثُّلاَثَاءِ لَمْ يُجْزِئْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (3) .
وَلاَ يَضُرُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لأَِنَّهُ لاَ يَنْوِي الأَْيَّامَ اتِّفَاقًا، وَقَالُوا. إِنَّ الْمَشْهُورَ عَدَمُ وُجُوبِ نِيَّةِ الْقَضَاءِ
__________
(1) شرح الزرقاني 2 / 24
(2) كشاف القناع 2 / 188
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 34، وللسيوطي ص 16(19/142)
وَالأَْدَاءِ وَكَذَا ذِكْرُ الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ فِيهِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ كَانَ الظُّهْرَانِ فَائِتَتَيْنِ فَنَوَى ظُهْرًا مِنْهُمَا وَلَمْ يُعَيِّنْهَا لَمْ تُجْزِهِ الظُّهْرُ الَّتِي صَلاَّهَا عَنْ إِحْدَاهُمَا، حَتَّى يُعَيِّنَ السَّابِقَةَ لأَِجْل اعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْفَوَائِتِ (2) . قَالُوا: لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ فَصَلَّى أَرْبَعًا يَنْوِي بِهَا مِمَّا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ إِجْمَاعًا، فَلَوْلاَ اشْتِرَاطُ التَّعْيِينِ لأََجْزَأَهُ (3) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ ظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ ظُهْرًا فَائِتَةً فَقَضَاهَا فِي وَقْتِ ظُهْرِ الْيَوْمِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ فَهَل يُجْزِئُهُ عَنْ ظُهْرِ الْيَوْمِ؟ يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا يُجْزِئُهُ لأَِنَّ الصَّلاَةَ مُعَيَّنَةٌ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ فِي نِيَّةِ الْوَقْتِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ، كَمَا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ خَرَجَ فَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ، أَوْ كَمَا لَوْ نَوَى ظُهْرَ أَمْسٍ وَعَلَيْهِ ظُهْرُ يَوْمٍ قَبْلَهُ.
وَالثَّانِي: لاَ يُجْزِئُهُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَنْوِ عَيْنَ الصَّلاَةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى قَضَاءَ عَصْرٍ لَمْ يُجْزِهِ عَنِ الظُّهْرِ (4) .
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْخَطَأُ فِي الاِعْتِقَادِ دُونَ التَّعْيِينِ:
21 - وَمَثَّل لَهَا السُّيُوطِيُّ بِجُمْلَةِ أَمْثِلَةٍ مِنْهَا:
__________
(1) مواهب الجليل 1 / 516، 517
(2) كشاف القناع 1 / 315
(3) كشاف القناع 1 / 314
(4) المغني 1 / 409(19/142)
1 - لَوْ أَدَّى الظُّهْرَ فِي وَقْتِهَا مُعْتَقِدًا أَنَّهُ يَوْمُ الاِثْنَيْنِ فَكَانَ الثُّلاَثَاءَ صَحَّ.
2 - وَلَوْ غَلِطَ فِي الأَْذَانِ فَظَنَّ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلظُّهْرِ وَكَانَتِ الْعَصْرُ، قَال: لاَ أَعْلَمُ فِيهِ نَقْلاً وَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ الإِْعْلاَمُ مِمَّنْ هُوَ أَهْلُهُ (1) وَقَدْ حَصَل.
وَهَذِهِ الأَْمْثِلَةُ أَوْ بَعْضُهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: لَوْ نَوَى قَضَاءَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الصَّوْمِ وَهُوَ يَظُنُّهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَهُوَ غَيْرُهُ جَازَ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: قَال الزُّرْقَانِيُّ إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ زَيْدٌ أَيِ: الإِْمَامَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَمْرٌو، فَإِنَّ صَلاَتَهُ صَحِيحَةٌ (3) . وَنَحْوُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (4) .
ثَانِيًا: الْخَطَأُ فِي دُخُول الْوَقْتِ:
22 - مَنْ صَلَّى قَبْل الْوَقْتِ كُل الصَّلاَةِ أَوْ بَعْضَهَا لَمْ تَجُزْ صَلاَتُهُ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ فَعَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً؛ لأَِنَّ الْوَقْتَ كَمَا هُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الصَّلاَةِ فَهُوَ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (5) أَيْ فَرْضًا مُؤَقَّتًا حَتَّى
__________
(1) الأشباه والنظائر ص 17، والمجموع 1 / 336
(2) الأشباه والنظائر ص 34
(3) شرح الزرقاني 2 / 24
(4) كشاف القناع 1 / 319
(5) سورة النساء / 103(19/143)
لاَ يَجُوزَ أَدَاءُ الْفَرْضِ قَبْل وَقْتِهِ، وَلأَِنَّ الصَّلاَةَ فُرِضَتْ لأَِوْقَاتِهَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْل وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ اللَّيْل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (1)
وَلِهَذَا تَكَرَّرَ وُجُوبُهَا بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ، وَتُؤَدَّى فِي مَوَاقِيتِهَا. فَلَوْ شَكَّ فِي دُخُول وَقْتِ الْعِبَادَةِ فَأَتَى بِهَا، فَبَانَ أَنَّهُ فَعَلَهَا قَبْل الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُجْزِئُهُ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِيهِ لِتَرَدُّدِ النِّيَّةِ وَعَدَمِ تَيَقُّنِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ.
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ مَعْرِفَةَ دُخُول الْوَقْتِ يَقِينًا بِأَنْ شَاهَدَ الشَّمْسَ غَارِبَةً، أَوْ ظَنًّا بِأَنِ اجْتَهَدَ لِغَيْمٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَمَنْ صَلَّى بِدُونِ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْوَقْتِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ تَصِحُّ صَلاَتُهُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ لَهُ أَنْ يَتَيَقَّنَ دُخُولَهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ. فَإِنْ صَلَّى مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِدُخُول الْوَقْتِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى قَبْل الْوَقْتِ أَعَادَ اتِّفَاقًا (2) .
__________
(1) سورة الإسراء 78، وما بعدها
(2) البدائع 1 / 349 والمبسوط 1 / 141، 154 وحاشية رد المحتار 1 / 370 وشرح الخرشي 1 / 217 وحاشية العدوي عليه وحاشية الجمل 1 / 407، والقواعد والفوائد الأصولية ص 90، والمغني 1 / 350 وقواعد ابن رجب ص 370، 371، وكشاف القناع 1 / 249، 257، 258(19/143)
ثَالِثًا: الْخَطَأُ فِي الْقِبْلَةِ:
23 - اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ.
فَإِنْ صَلَّى ثُمَّ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِي الْقِبْلَةِ: فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَتَحَرَّى الْمُصَلِّي لاِشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ وَعَدَمِ الْمُخْبِرِ بِهَا، وَلَمْ يُعِدِ الصَّلاَةَ إِنْ أَخْطَأَ لأَِنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ، وَلاَ وُسْعَ فِي إِصَابَةِ الْجِهَةِ حَقِيقَةً، فَصَارَتْ جِهَةُ التَّحَرِّي هُنَا كَجِهَةِ الْكَعْبَةِ لِلْغَائِبِ عَنْهَا، وَقَدْ قِيل فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (1) أَيْ قِبْلَةُ اللَّهِ نَزَلَتْ فِي الصَّلاَةِ حَال الاِشْتِبَاهِ، وَلَوْ عَلِمَ خَطَأَهُ فِي الصَّلاَةِ، أَوْ تَحَوَّل رَأْيُهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا بِالتَّحَرِّي اسْتَدَارَ فِي الأَْوَّل إِلَى جِهَةِ الصَّوَابِ وَفِي الثَّانِي إِلَى جِهَةِ تَحَوُّل رَأْيِهِ إِلَيْهَا (2) .
24 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ لَوْ صَلَّى إِلَى جِهَةِ اجْتِهَادِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ، فَإِنْ كَانَ تَحَرِّيهِ مَعَ ظُهُورِ الْعَلاَمَاتِ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ إِنِ اسْتَدْبَرَ، وَكَذَا لَوْ شَرَّقَ أَوْ غَرَّبَ، وَإِنْ كَانَ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِهَا فَلاَ إِعَادَةَ (3) .
25 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ صَلَّى ثُمَّ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: الأَْوَّل يَلْزَمُهُ أَنْ يُعِيدَ؛ لأَِنَّهُ تَعَيَّنَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمَنُ مِثْلَهُ فِي الْقَضَاءِ فَلَمْ يُعْتَدَّ بِمَا مَضَى، كَالْحَاكِمِ إِذَا حَكَمَ ثُمَّ وُجِدَ النَّصُّ بِخِلاَفِهِ، وَالثَّانِي لاَ يَلْزَمُهُ لأَِنَّهُ جِهَةٌ تَجُوزُ الصَّلاَةُ
__________
(1) سورة البقرة / 115
(2) درر الحكام شرح غرر الأحكام 1 / 61
(3) شرح الخرشي 1 / 257، القوانين الفقهية 42(19/144)
إِلَيْهَا بِالاِجْتِهَادِ فَأَشْبَهَ إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الْخَطَأَ. وَإِنْ صَلَّى إِلَى جِهَةٍ ثُمَّ رَأَى الْقِبْلَةَ فِي يَمِينِهَا أَوْ شِمَالِهَا لَمْ يُعِدْ؛ لأَِنَّ الْخَطَأَ فِي الْيَمِينِ وَالشِّمَال لاَ يُعْلَمُ قَطْعًا فَلاَ يُنْتَقَضُ بِالاِجْتِهَادِ (1) .
26 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا صَلَّى بِالاِجْتِهَادِ إِلَى جِهَةٍ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِعَادَةٌ (2) . وَقَالُوا: إِذَا صَلَّى الْبَصِيرُ فِي حَضَرٍ فَأَخْطَأَ، أَوْ صَلَّى الأَْعْمَى بِلاَ دَلِيلٍ بِأَنْ لَمْ يَسْتَخْبِرْ مَنْ يُخْبِرُهُ وَلَمْ يَلْمِسَ الْمِحْرَابَ وَنَحْوَهُ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَ بِهِ الْقِبْلَةَ أَعَادَا وَلَوْ أَصَابَا، أَوِ اجْتَهَدَ الْبَصِيرُ؛ لأَِنَّ الْحَضَرَ لَيْسَ بِمَحَل اجْتِهَادٍ لِقُدْرَةِ مَنْ فِيهِ عَلَى الاِسْتِدْلاَل بِالْمَحَارِيبِ وَنَحْوِهَا، وَلِوُجُودِ مَنْ يُخْبِرُهُ عَنْ يَقِينٍ غَالِبًا، وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الإِْعَادَةُ عَلَيْهِمَا لِتَفْرِيطِهِمَا بِعَدَمِ الاِسْتِخْبَارِ أَوِ الاِسْتِدْلاَل بِالْمَحَارِيبِ (3) .
رَابِعًا: الْخَطَأُ فِي الْقِرَاءَةِ:
27 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: خَطَأُ الْقَارِئِ إِمَّا فِي الإِْعْرَابِ، أَوْ فِي الْحُرُوفِ، أَوْ فِي الْكَلِمَاتِ، أَوِ الآْيَاتِ، وَفِي الْحُرُوفِ إِمَّا بِوَضْعِ حَرْفٍ مَكَانَ آخَرَ أَوْ تَقْدِيمِهِ، أَوْ تَأْخِيرِهِ، أَوْ زِيَادَتِهِ، أَوْ نَقْصِهِ.
أَمَّا الإِْعْرَابُ فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرَ الْمَعْنَى لاَ تَفْسُدُ الصَّلاَةُ؛ لأَِنَّ تَغْيِيرَهُ خَطَأٌ لاَ يُسْتَطَاعُ الاِحْتِرَازُ
__________
(1) المجموع 3 / 222، 225
(2) المغني 1 / 395
(3) كشاف القناع 1 / 311(19/144)
عَنْهُ فَيُعْذَرُ، وَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى تَغْيِيرًا فَاحِشًا مِمَّا اعْتِقَادُهُ كُفْرٌ، مِثْل الْبَارِئِ الْمُصَوَّرِ - بِفَتْحِ الْوَاوِ - وَ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ} (1) بِرَفْعِ اسْمِ الْجَلاَلَةِ وَنَصْبِ الْعُلَمَاءِ - فَسَدَتْ فِي قَوْل الْمُتَقَدِّمِينَ، وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ: فَقَال جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: لاَ تَفْسُدُ. وَمَا قَالَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ أَحْوَطُ؛ لأَِنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ يَكُونُ كُفْرًا، وَمَا يَكُونُ كُفْرًا لاَ يَكُونُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلاَمِ النَّاسِ الْكُفَّارِ غَلَطًا وَهُوَ مُفْسِدٌ، كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلاَمِ النَّاسِ سَاهِيًا مِمَّا لَيْسَ بِكُفْرٍ فَكَيْفَ وَهُوَ كُفْرٌ، وَقَوْل الْمُتَأَخِّرِينَ أَوْسَعُ؛ لأَِنَّ النَّاسَ لاَ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ وُجُوهِ الإِْعْرَابِ.
وَيَتَّصِل بِهَذَا تَخْفِيفُ الْمُشَدَّدِ، وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْمَدِّ وَالتَّشْدِيدِ كَالْخَطَأِ فِي الإِْعْرَابِ، فَلِذَا قَال كَثِيرٌ بِالْفَسَادِ فِي تَخْفِيفِ - {رَبِّ الْعَالَمِينَ} - وَ - {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} - وَالأَْصَحُّ لاَ تَفْسُدُ.
وَأَمَّا فِي الْحُرُوفِ فَإِذَا وَضَعَ حَرْفًا مَكَانَ غَيْرِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَطَأً أَوْ عَجْزًا، فَالأَْوَّل إِنْ لَمْ يُغَيِّرَ الْمَعْنَى وَكَانَ مِثْلُهُ مَوْجُودًا فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ - إِنَّ الْمُسْلِمُونَ - لاَ تَفْسُدُ، وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ وَلَيْسَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ - قَيَّامِينَ بِالْقِسْطِ - وَالتَّيَّابِينَ - وَالْحَيُّ الْقَيَّامُ - لَمْ تَفْسُدْ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَفْسُدُ. وَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى فَسَدَتْ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ. فَلَوْ قَرَأَ أَصْحَابَ الشَّعِيرِ - بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ فَسَدَتِ اتِّفَاقًا -
__________
(1) سورة فاطر / 28(19/145)
فَالْعِبْرَةُ فِي عَدَمِ الْفَسَادِ عِنْدَهُمَا بِعَدَمِ تَغَيُّرِ الْمَعْنَى - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْعِبْرَةُ بِوُجُودِ الْمِثْل فِي الْقُرْآنِ (1) .
وَأَمَّا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فَإِنْ غَيَّرَ، نَحْوَ قَوْسَرَةٍ فِي قَسْوَرَةٍ فَسَدَتْ، وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ لاَ تَفْسُدُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ.
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ وَمِنْهَا فَكُّ الْمُدْغَمِ، فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ نَحْوُ (وَانْهَا عَنِ الْمُنْكَرِ) بِالأَْلِفِ (وَرَادِدُوهُ إِلَيْكَ) لاَ تَفْسُدُ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ. وَإِنْ غَيَّرَ نَحْوُ (زَرَابِيبَ) مَكَانَ (زَرَابِيُّ) (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (وَإِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) بِزِيَادَةِ الْوَاوِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَفْسُدُ.
وَكَذَا النُّقْصَانُ إِنْ لَمْ يُغَيِّرْ لاَ تَفْسُدُ نَحْوُ (جَاءَهُمْ) مَكَانَ (جَاءَتْهُمْ) وَإِنْ غَيَّرَ فَسَدَ نَحْوُ (النَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى مَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُْنْثَى) بِلاَ وَاوٍ.
أَمَّا الْكَلِمَةُ مَكَانَ الْكَلِمَةِ فَإِنْ تَقَارَبَا مَعْنًى، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَالْحَكِيمِ مَكَانَ الْعَلِيمِ، لَمْ تَفْسُدِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْمِثْل كَالْفَاجِرِ مَكَانَ الأَْثِيمِ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، فَلَوْ لَمْ يَتَقَارَبَا وَلاَ مِثْل لَهُ فَسَدَتِ اتِّفَاقًا إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَكَرًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مِمَّا اعْتِقَادُهُ كُفْرٌ كَغَافِلِينَ فِي {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} فَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّهَا تَفْسُدُ اتِّفَاقًا.
__________
(1) شرح فتح القدير 1 / 322، 323(19/145)
وَأَمَّا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ لَمْ تَفْسُدْ نَحْوُ {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا} ، وَإِنْ غَيَّرَ فَسَدَتْ نَحْوُ الْيُسْرِ مَكَانَ الْعُسْرِ وَعَكْسُهُ.
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْ وَهِيَ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِرًّا) لاَ تَفْسُدُ فِي قَوْلِهِمْ، وَإِنْ غَيَّرَتْ فَسَدَتِ الصَّلاَةُ لأَِنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَهُ كَفَرَ، فَإِذَا أَخْطَأَ فِيهِ أَفْسَدَ (1) .
مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
28 - بَحَثَ الْمَالِكِيَّةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي صَلاَةِ الْمُقْتَدِي بِاللاَّحِنِ.
فَقَال الْخَرَشِيُّ: قِيل: تَبْطُل صَلاَةُ الْمُقْتَدِي بِلاَحِنٍ (2) مُطْلَقًا، أَيْ فِي الْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا، سَوَاءٌ غَيَّرَ الْمَعْنَى كَكَسْرِ كَافِ {إِيَّاكَ} وَضَمِّ تَاءِ {أَنْعَمْتُ} أَمْ لاَ، وُجِدَ غَيْرُهُ أَمْ لاَ، إِنْ لَمْ تَسْتَوِ حَالَتُهُمَا أَوْ إِنْ كَانَ لَحْنُهُ فِي الْفَاتِحَةِ دُونَ غَيْرِهَا؟ قَوْلاَنِ. ثُمَّ قَال: وَمَحَل الْخِلاَفِ فِيمَنْ عَجَزَ عَنْ تَعَلُّمِ الصَّوَابِ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ لِعَدَمِ مَنْ يُعَلِّمُهُ مَعَ قَبُول التَّعْلِيمِ، أَوِ ائْتَمَّ بِهِ مَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ لِعَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا مَنْ تَعَمَّدَ اللَّحْنَ فَصَلاَتُهُ وَصَلاَةُ مَنِ اقْتَدَى بِهِ بَاطِلَةٌ بِلاَ نِزَاعٍ؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِكَلِمَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فِي صَلاَتِهِ، وَمَنْ فَعَلَهُ سَاهِيًا لاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ وَلاَ صَلاَةَ مَنِ اقْتَدَى بِهِ قَطْعًا
__________
(1) شرح فتح القدير 1 / 323، 324
(2) اللاحن من اللحن، وهو: الخطأ في الإعراب، أو الخروج عن طريق العرب في استعمال الألفاظ.(19/146)
بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَهَا عَنْ كَلِمَةٍ فَأَكْثَرَ فِي الْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا.
وَإِنْ فَعَل ذَلِكَ عَجْزًا بِأَنْ لاَ يَقْبَل التَّعْلِيمَ فَصَلاَتُهُ وَصَلاَةُ مَنِ اقْتَدَى بِهِ صَحِيحَةٌ أَيْضًا قَطْعًا، لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الأَْلْكِنَةِ، وَسَوَاءٌ وُجِدَ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ أَوْ لاَ.
وَإِنْ كَانَ عَجْزُهُ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ لِعَدَمِ مَنْ يُعَلِّمُهُ مَعَ قَبُولِهِ التَّعْلِيمَ، فَإِنْ كَانَ مَعَ وُجُودِ مَنْ يَأْتَمُّ بِهِ، فَإِنَّ صَلاَتَهُ وَصَلاَةَ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مِثْل الإِْمَامِ فِي اللَّحْنِ أَمْ لاَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَأْتَمُّ بِهِ فَصَلاَتُهُ وَصَلاَةُ مَنِ اقْتَدَى بِهِ صَحِيحَةٌ إِنْ كَانَ مِثْلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ بِأَنْ كَانَ يَنْطِقُ بِالصَّوَابِ فِي كُل قِرَاءَتِهِ، أَوْ صَوَابُهُ أَكْثَرُ مِنْ صَوَابِ إِمَامِهِ فَإِنَّهُ مَحَل خِلاَفٍ.
وَهَل تَبْطُل صَلاَةُ الْمُقْتَدِي بِغَيْرِ مُمَيِّزٍ بَيْنَ ضَادٍ وَظَاءٍ مَا لَمْ تَسْتَوِ حَالَتُهُمَا؟ قَال بِالْبُطْلاَنِ: ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَالْقَابِسِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ يُونُسَ وَعَبْدُ الْحَقِّ.
وَأَمَّا صَلاَتُهُ هُوَ فَصَحِيحَةٌ، إِلاَّ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ عَمْدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَال: وَظَاهِرُهُ جَرَيَانُ هَذَا الْخِلاَفِ فِيمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ فِي الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي الْمَوَّاقِ تَقْيِيدُهُ بِمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ بَيْنَهُمَا فِي الْفَاتِحَةِ، وَذَكَرَ الْحَطَّابُ وَالنَّاصِرُ اللَّقَانِيُّ مَا يُفِيدُ أَنَّ الرَّاجِحَ صِحَّةُ الاِقْتِدَاءِ بِمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَهُمَا، وَحَكَى الْمَوَّاقُ الاِتِّفَاقَ عَلَيْهِ، وَحُكْمُ مَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الصَّادِ(19/146)
وَالسِّينِ كَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ، وَكَذَا بَيْنَ الزَّايِ وَالسِّينِ (1) .
29 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ بِلاَحِنٍ بِمَا لاَ يُغَيِّرُ الْمَعْنَى كَضَمِّ الْهَاءِ فِي {لِلَّهِ} فَإِنْ غَيَّرَ مَعْنًى فِي الْفَاتِحَةِ كَأَنْعَمْتُ بِضَمٍّ أَوْ كَسْرٍ وَلَمْ يُحْسِنَ اللاَّحِنُ الْفَاتِحَةَ فَكَأُمِّيٍّ لاَ يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِهِ أَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ أَوْ لاَ، وَلاَ صَلاَتُهُ إِنْ أَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ وَإِلاَّ صَحَّتْ كَاقْتِدَائِهِ بِمِثْلِهِ، فَإِنْ أَحْسَنَ اللاَّحِنُ الْفَاتِحَةَ وَتَعَمَّدَ اللَّحْنَ أَوْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَيْهِ وَلَمْ يُعِدِ الْقِرَاءَةَ عَلَى الصَّوَابِ فِي الثَّانِيَةِ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ مُطْلَقًا وَلاَ الاِقْتِدَاءُ بِهِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ، أَوْ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ كَجَرِّ اللاَّمِ فِي قَوْلِهِ {إِنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ} (2) صَحَّتْ صَلاَتُهُ وَصَلاَةُ الْمُقْتَدِي بِهِ حَال كَوْنِهِ عَاجِزًا عَنِ التَّعَلُّمِ، أَوْ جَاهِلاً بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ نَاسِيًا كَوْنَهُ فِي الصَّلاَةِ (3) .
30 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ الأُْمِّيِّ وَهُوَ مَنْ لاَ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ أَوْ يُدْغِمُ مِنْهَا حَرْفًا لاَ يُدْغَمُ، أَوْ يَلْحَنُ فِيهَا لَحْنًا يُحِيل الْمَعْنَى كَفَتْحِ هَمْزَةِ اهْدِنَا؛ لأَِنَّهُ يَصِيرُ بِمَعْنَى طَلَبِ الْهَدِيَّةِ لاَ الْهِدَايَةِ، وَضَمِّ تَاءِ أَنْعَمْتُ وَكَسْرِهَا وَكَسْرِ كَافِ إِيَّاكَ، فَإِنْ لَمْ يَحِل الْمَعْنَى كَفَتْحِ دَال نَعْبُدُ وَنُونِ نَسْتَعِينُ فَلَيْسَ أُمِّيًّا وَإِنْ أَتَى بِاللَّحْنِ الْمُحِيل
__________
(1) شرح الخرشي 2 / 25، 26
(2) سورة التوبة / 3
(3) شرح المنهج وحاشية الجمل عليه 1 / 527(19/147)
لِلْمَعْنَى مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِصْلاَحِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ لأَِنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْآنًا فَهُوَ كَسَائِرِ الْكَلاَمِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلاَمِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إِصْلاَحِ اللَّحْنِ الْمُحِيل لِلْمَعْنَى قَرَأَهُ فِي فَرْضِ الْقِرَاءَةِ لِحَدِيثِ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (1) وَمَا زَادَ عَنِ الْفَاتِحَةِ تَبْطُل الصَّلاَةُ بِعَمْدِهِ (2) .
خَامِسًا: الْكَلاَمُ فِي الصَّلاَةِ خَطَأٌ:
31 - إِنْ أَرَادَ الْمُصَلِّي قِرَاءَةً أَوْ ذِكْرًا فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ كَلاَمُ النَّاسِ قَال فِي الْمَبْسُوطِ: فَإِنْ تَكَلَّمَ فِي صَلاَتِهِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا مُخْطِئًا أَوْ قَاصِدًا اسْتَقْبَل الصَّلاَةَ لِحَدِيثِ وَلْيَبْنِ عَلَى صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ (3) فَدَل أَنَّ بَعْدَ الْكَلاَمِ لاَ يَجُوزُ الْبِنَاءُ قَطُّ (4) وَلِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَال: إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ (5) . هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ
__________
(1) حديث: " إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 251 - ط السلفية) ومسلم (2 / 975 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) كشاف القناع 1 / 480، 481
(3) حديث: " وليبن على صلاته ما لم يتكلم ". أخرجه الدارقطني (1 / 156 - ط دار المحاسن) من حديث علي بن أبي طالب موقوفا عليه.
(4) المبسوط 1 / 170، 171، حاشية رد المحتار 1 / 614، 615
(5) حديث: " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ". أخرجه مسلم (1 / 381 - 382 - ط الحلبي) .(19/147)
فَإِنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ يَسِيرِ الْكَلاَمِ وَكَثِيرِهِ وَقَالُوا: إِنَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ خَطَأٌ لاَ يُفْسِدُ الصَّلاَةَ وَيُفْسِدُهَا الْكَلاَمُ الْكَثِيرُ (1) . وَتَفْصِيلُهُ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةٌ) .
سَادِسًا: شَكُّ الإِْمَامِ فِي الصَّلاَةِ:
32 - إِنْ سَهَا الإِْمَامُ فِي صَلاَتِهِ فَسَبَّحَ اثْنَانِ يَثِقُ الإِْمَامُ بِقَوْلِهِمَا لَزِمَهُ قَبُولُهُ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ سَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صَوَابُهُمَا أَوْ خَطَؤُهُمَا، وَهُوَ قَوْل الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ إِلَى قَوْل أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ لَمَّا سَأَلَهُمَا أَحَقٌّ مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ (3) . فَقَالاَ نَعَمْ. مَعَ أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا بِدَلِيل أَنَّهُ أَنْكَرَ مَا قَال ذُو الْيَدَيْنِ وَسَأَلَهُمَا عَنْ صِحَّةِ قَوْلِهِ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ خَطَؤُهُمَا لَمْ يَعْمَل بِقَوْلِهِمَا (5) . لأَِنَّ مَنْ شَكَّ فِي فِعْل نَفْسِهِ لَمْ يَرْجِعْ فِيهِ إِلَى قَوْل غَيْرِهِ (6) .
__________
(1) الفواكه الدواني 1 / 261، حاشية الشرقاوي على التحرير 1 / 218، المغني 2 / 43
(2) حاشية رد المحتار 2 / 94، شرح الزرقاني 1 / 244، المغني 2 / 18
(3) حديث: " ذي اليدين ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 96 - ط السلفية)
(4) المغني 2 / 18
(5) المجموع 4 / 239
(6) المجموع 4 / 238(19/148)
أَمَّا إِذَا تَيَقَّنَ الإِْمَامُ مِنْ صَوَابِهِ وَخَطَأِ الْمَأْمُومِينَ لَمْ يَجُزْ لَهُ مُتَابَعَتُهُمْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْل أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَصَحَّحَهُ الْمُتَوَلِّي وَهُوَ قَوْل أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الْمُخْبِرِينَ إِذَا كَانُوا كَثِيرِينَ كَثْرَةً ظَاهِرَةً بِحَيْثُ يَبْعُدُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ لَزِمَهُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِهِمْ كَالْحَاكِمِ يَحْكُمُ بِالشَّاهِدَيْنِ وَيَتْرُكُ يَقِينَ نَفْسِهِ (1) .
سَابِعًا: الْخَطَأُ فِي صَلاَةِ الْخَوْفِ:
33 - رَأَى الْمُسْلِمُونَ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ سَوَادًا فَظَنُّوهُ خَطَأً عَدُوًّا وَصَلَّوْا صَلاَةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَدُوًّا، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ حَائِلٌ لاَ يُمْكِنُهُ الْوُصُول إِلَيْهِمُ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: تَلْزَمُهُمْ إِعَادَةُ الصَّلاَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (2) وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ (3) لأَِنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْمُبِيحُ فَأَشْبَهَ مَنْ ظَنَّ الطَّهَارَةَ ثُمَّ عَلِمَ بِحَدَثِهِ، سَوَاءٌ اسْتَنَدَ الظَّنُّ
__________
(1) المجموع 4 / 239، المغني 2 / 18، الدر المختار شرح تنوير الأبصار 2 / 94، شرح الزرقاني 1 / 244
(2) حاشية رد المحتار 2 / 186، كشاف القناع 2 / 20
(3) المجموع 4 / 432(19/148)
لِخَبَرِ ثِقَةٍ أَوْ غَيْرِهِ (1) ، وَلأَِنَّهُمْ تَيَقَّنُوا الْغَلَطَ فِي الْقِبْلَةِ (2) .
الثَّانِي: لاَ يُعِيدُونَ وَتُجْزِئُهُمْ صَلاَتُهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ (3) . وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِوُجُودِ الْخَوْفِ حَال الصَّلاَةِ (4) .
ج - الزَّكَاةُ:
أَوَّلاً: الْخَطَأُ فِي الْخَرْصِ:
34 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا خَرَصَ الثَّمَرَةَ فَوُجِدَتْ أَكْثَرُ مِمَّا خَرَصَ يَأْخُذُ زَكَاةَ الزَّائِدِ، قِيل: وُجُوبًا، وَقِيل: اسْتِحْبَابًا، وَمَنْ قَال بِالْوُجُوبِ حَمَلَهُ عَلَى الْحَاكِمِ يَحْكُمُ ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّهُ خَطَأٌ صُرَاحٌ، وَمَنْ قَال بِالاِسْتِحْبَابِ حَمَلَهُ عَلَى التَّعْلِيل بِقِلَّةِ إِصَابَةِ الْخِرَاصِ.
أَمَّا إِذَا ثَبَتَ نَقْصُ الثَّمَرَةِ، فَإِنْ ثَبَتَ النَّقْصُ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ عَمِل بِهَا، وَإِلاَّ لَمْ تَنْقُصِ الزَّكَاةُ، وَلاَ يُقْبَل قَوْل رَبِّهَا فِي نَقْصِهَا لاِحْتِمَال كَوْنِ النَّقْصِ مِنْهُ. وَلَوْ تَحَقَّقَ أَنَّ النَّقْصَ مِنْ خَطَأِ الْخَارِصِ نَقَصَتِ الزَّكَاةُ (5) .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةِ - الْوَاجِبُ الاِجْتِهَادُ أَوِ الإِْصَابَةُ (6) .
__________
(1) كشاف القناع 2 / 20
(2) المجموع 4 / 432
(3) شرح الزرقاني 2 / 71
(4) المجموع 4 / 432
(5) شرح الخرشي 2 / 176
(6) إيضاح المسالك - القاعدة الثامنة ص 151(19/149)
35 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنِ ادَّعَى الْمَالِكُ أَنَّ الْخَارِصَ أَخْطَأَ أَوْ غَلِطَ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنَ الْقَدْرَ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ بِلاَ خِلاَفٍ. وَإِنْ بَيَّنَهُ، وَكَانَ يَحْتَمِل الْغَلَطَ فِي مِثْلِهِ كَخَمْسَةِ أَوْسُقٍ فِي مِائَةٍ قُبِل قَوْلُهُ، وَحُطَّ عَنْهُ مَا ادَّعَاهُ، فَإِنِ اتَّهَمَهُ حَلَّفَهُ، وَفِي الْيَمِينِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا مُسْتَحَبَّةٌ. هَذَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى فَوْقَ مَا يَقَعُ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ، أَمَّا إِذَا ادَّعَى بَعْدَ الْكَيْل غَلَطًا يَسِيرًا فِي الْخَرْصِ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ كَصَاعٍ مِنْ مِائَةٍ فَهَل يُحَطُّ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا. لاَ يُقْبَل لأَِنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقِ النَّقْصُ لاِحْتِمَال أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْكَيْل، وَلَوْ كِيل ثَانِيًا لَوَفَّى. وَالثَّانِي: يُقْبَل وَيُحَطُّ عَنْهُ؛ لأَِنَّ الْكَيْل تَعَيَّنَ وَالْخَرْصُ تَخْمِينٌ فَالإِْحَالَةُ عَلَيْهِ أَوْلَى.
أَمَّا إِذَا ادَّعَى نَقْصًا فَاحِشًا لاَ يُجَوِّزُ أَهْل الْخِبْرَةِ وُقُوعَ مِثْلِهِ غَلَطًا فَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي حَطِّ جَمِيعِهِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَهَل يُقْبَل فِي حَطِّ الْمُمْكِنِ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا يُقْبَل (1) .
36 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنِ ادَّعَى رَبُّ الْمَال غَلَطَ الْخَارِصِ وَكَانَ مَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلاً قُبِل قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلاً مِثْل أَنْ يَدَّعِيَ غَلَطَ النِّصْفِ أَوْ نَحْوِهِ لَمْ يُقْبَل مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَحْتَمِل فَيُعْلَمُ كَذِبُهُ، وَإِنْ قَال لَمْ يَحْصُل فِي يَدِيَّ غَيْرُ هَذَا
__________
(1) المجموع 4 / 486، فتح العزيز شرح الوجيز مطبوع مع المجموع 5 / 591، 592(19/149)
قُبِل مِنْهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَتْلَفُ بَعْضُهَا بِآفَةٍ لاَ نَعْلَمُهَا (1) .
ثَانِيًا: الْخَطَأُ فِي مَصْرِفِ الزَّكَاةِ:
37 - إِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ لِمَنْ ظَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا فَبَانَ خَطَؤُهُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: يُجْزِئُهُ وَلاَ تَجِبُ عَلَيْهِ الإِْعَادَةُ وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَمُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَالِكٍ إِذَا كَانَ الدَّافِعُ هُوَ السُّلْطَانُ أَوِ الْوَصِيُّ أَوْ مُقَدَّمُ الْقَاضِي وَتَعَذَّرَ رَدُّهَا (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ قَال: بَايَعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي، وَخَطَبَ عَلِيٌّ فَأَنْكَحَنِي وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبِي يَزِيدَ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَال: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ (3) فَجَوَّزَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّ الصَّدَقَةَ كَانَتْ فَرِيضَةً أَوْ تَطَوُّعًا، وَذَلِكَ يَدُل عَلَى أَنَّ
__________
(1) المغني 2 / 590
(2) شرح فتح القدير 2 / 275 والشرح الصغير وحاشية الصاوي 1 / 668، إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك 151 والمنثور في القواعد 2 / 123، المجموع 6 / 230، 231
(3) حديث معن بن يزيد: " لك ما نويت يا يزيد ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 291 - ط السلفية) .(19/150)
الْحَال لاَ تَخْتَلِفُ، أَوْ لأَِنَّ مُطْلَقَ الصَّدَقَةِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْفَرِيضَةِ، وَلأَِنَّ الْوُقُوفَ عَلَى هَذِهِ الأَْشْيَاءِ إِنَّمَا هُوَ بِالاِجْتِهَادِ لاَ الْقَطْعِ فَيُبْنَى الأَْمْرُ عَلَى مَا يَقَعُ عِنْدَهُ كَمَا إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ، وَلَوْ فُرِضَ تَكَرُّرُ خَطَئِهِ فَتَكَرَّرَتِ الإِْعَادَةُ أَفْضَى إِلَى الْحَرَجِ لإِِخْرَاجِ كُل مَالِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّكَاةُ خُصُوصًا مَعَ كَوْنِ الْحَرَجِ مَدْفُوعًا عُمُومًا.
وَالْقَوْل الآْخَرُ: لاَ يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ إِلاَّ أَنَّهُ قَال لاَ يَسْتَرِدُّهُ (1) . وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ أَيْضًا إِذَا كَانَ الدَّافِعُ هُوَ رَبُّ الْمَال (2) . وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ الدَّافِعُ هُوَ الإِْمَامُ وَيَسْتَرْجِعُ مِنَ الْمَدْفُوعِ إِلاَّ أَنْ يَتَعَذَّرَ الاِسْتِرْجَاعُ مِنَ الْقَابِضِ فَلاَ ضَمَانَ، وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ هُوَ رَبُّ الْمَال لَمْ يَجُزْ عَنِ الْفَرْضِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيَّنَ أَنَّهَا زَكَاةٌ لَمْ يَرْجِعْ، وَإِنْ بَيَّنَ رَجَعَ فِي عَيْنِهَا فَإِنْ تَلِفَتْ فَفِي بَدَلِهَا، فَإِنْ تَعَذَّرَ الاِسْتِرْجَاعُ فَفِي الضَّمَانِ وَإِخْرَاجِ بَدَلِهَا قَوْلاَنِ: قَال النَّوَوِيُّ: الْمَذْهَبُ أَنَّهَا لاَ تُجْزِئُهُ وَيَلْزَمُهُ الإِْخْرَاجُ (3) .
وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ فِي غَيْرِ مَنْ ظَنَّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا وَقَالُوا: يَسْتَرِدُّهَا رَبُّهَا بِزِيَادَتِهَا مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَّصِلَةً أَمْ مُنْفَصِلَةً (4) .
__________
(1) شرح فتح القدير 2 / 275
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1 / 558، إيضاح المسالك 151
(3) المنثور في القواعد 2 / 123، المجموع 6 / 230، 231
(4) كشاف القناع 2 / 294، القواعد لابن رجب 232(19/150)
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل: بِأَنَّهُ ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ، وَكَانَ بِإِمْكَانِهِ الْوُقُوفُ عَلَى مَدَى اسْتِحْقَاقِهِ أَوْ عَدَمِهِ فَصَارَ كَالأَْوَانِي وَالثِّيَابِ، فَإِذَا تَحَرَّى فِي الأَْوَانِي الطَّاهِرَةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالنَّجِسَةِ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ الْخَطَأُ يُعِيدُ الْوُضُوءَ، وَكَذَلِكَ الثِّيَابُ إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ مِنْهَا بِالتَّحَرِّي ثُمَّ ظَهَرَ خَطَؤُهُ أَعَادَ الصَّلاَةَ، وَمِثْلُهُ إِذَا قَضَى الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلاَفِهِ (1) . وَلأَِنَّهُ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ وَهُوَ لاَ يَخْفَى حَالُهُ غَالِبًا فَلَمْ يُعْذَرْ كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ (2) .
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ دَفْعِهَا خَطَأً إِلَى مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّهَا لِكُفْرٍ أَوْ شَرَفٍ، وَبَيْنَ دَفْعِهَا لِمَنْ ظَنَّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا، فَقَالُوا: لاَ تُجْزِئُ إِذَا دَفَعَهَا لِلْكَافِرِ أَوْ لِمَنْ لاَ يَسْتَحِقُّهَا لِكَوْنِهِ هَاشِمِيًّا، وَلَهُ حَقُّ اسْتِرْدَادِ مَا دَفَعَ. لأَِنَّ الْمَقْصُودَ إِبْرَاءُ الذِّمَّةِ بِالزَّكَاةِ وَلَمْ يَحْصُل لِدَفْعِهَا لِلْكَافِرِ، فَيَمْلِكُ الرُّجُوعَ بِخِلاَفِ دَفْعِهَا لِلْغَنِيِّ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الثَّوَابُ وَلَمْ يَفُتْ (3) .
وَوَجْهُ قَوْل أَبِي يُوسُفَ فِي عَدَمِ الاِسْتِرْدَادِ أَنَّ فَسَادَ جِهَةِ الزَّكَاةِ لاَ يَنْقُضُ الأَْدَاءَ (4) .
__________
(1) شرح فتح القدير 2 / 275، 276
(2) كشاف القناع 2 / 294
(3) كشاف القناع 2 / 295
(4) شرح فتح القدير 2 / 275(19/151)
د - الصَّوْمُ:
أَوَّلاً: الْخَطَأُ فِي صِفَةِ نِيَّةِ صَوْمِ رَمَضَانَ:
38 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَطْلَقَ الصَّائِمُ نِيَّةَ الصَّوْمِ فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ، أَوْ نَوَى النَّفَل أَوْ وَصَفَهُ وَأَخْطَأَ الْوَصْفَ صَحَّ صَوْمُهُ.
قَال فِي الدُّرَرِ: وَصَحَّ الصَّوْمُ بِمُطْلَقِهَا أَيِ النِّيَّةِ، وَبِنِيَّةِ النَّفْل، وَبِخَطَأِ الْوَصْفِ فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الأُْصُول مِنْ أَنَّ الْوَقْتَ مُتَعَيِّنٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ، وَالإِْطْلاَقُ فِي الْمُتَعَيِّنِ تَعْيِينٌ، وَالْخَطَأُ فِي الْوَصْفِ لَمَّا بَطَل بَقِيَ أَصْل النِّيَّةِ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْمُطْلَقِ، نَظِيرُهُ الْمُتَوَحِّدُ فِي الدَّارِ إِذَا نُودِيَ بِيَا رَجُل أَوْ بِاسْمٍ غَيْرِ اسْمِهِ يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ بِخِلاَفِ قَضَاءِ رَمَضَانَ حَيْثُ لاَ تَعْيِينَ فِي وَقْتِهِ إِلاَّ إِذَا وَقَعَتِ النِّيَّةُ مِنْ مَرِيضٍ أَوْ مُسَافِرٍ حَيْثُ يَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إِلَى التَّعْيِينِ وَلاَ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ (2) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (صَوْمٌ، نِيَّةٌ) .
ثَانِيًا: الْخَطَأُ فِي الإِْفْطَارِ:
39 - مَنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلصَّوْمِ فَأَفْطَرَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ
__________
(1) درر الحكام شرح غرر الأحكام 1 / 197، 198، شرح فتح القدير 2 / 308، 309، المبسوط 3 / 60، 61 والبدائع 2 / 992 - 994، والمنتقى 2 / 41، والمجموع 6 / 294، 295، والمغني 3 / 87
(2) درر الحكام شرح غرر الأحكام 1 / 197، 198(19/151)
كَمَا إِذَا تَمَضْمَضَ فَدَخَل الْمَاءُ فِي حَلْقِهِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ: يَبْطُل الصَّوْمُ وَيَلْزَمُ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ؛ لأَِنَّ الْخَطَأَ عُذْرٌ لاَ يَغْلِبُ وُجُودُهُ بِخِلاَفِ النِّسْيَانِ فَإِنَّهُ عُذْرٌ غَالِبٌ؛ وَلأَِنَّ الْوُصُول إِلَى الْجَوْفِ مَعَ التَّذَكُّرِ فِي الْخَطَأِ لَيْسَ إِلاَّ لِتَقْصِيرٍ فِي الاِحْتِرَازِ فَيُنَاسِبُ الْفَسَادَ، إِذْ فِيهِ نَوْعُ إِضَافَةٍ إِلَيْهِ بِخِلاَفِ النِّسْيَانِ (1) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: عَدَمُ الْبُطْلاَنِ مُطْلَقًا؛ لأَِنَّهُ وَصَل إِلَى جَوْفِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَبْطُل صَوْمُهُ كَغُبَارِ الطَّرِيقِ وَغَرْبَلَةِ الدَّقِيقِ وَالذُّبَابِ (2) .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ بَالَغَ أَفْطَرَ وَإِلاَّ فَلاَ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ بَالِغْ فِي الاِسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا (3) فَنَهَاهُ عَنِ الْمُبَالَغَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ وُصُول الْمَاءِ فِي الْمُبَالَغَةِ يُبْطِل صَوْمَهُ لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمُبَالَغَةِ مَعْنًى، وَلأَِنَّ الْمُبَالِغَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي الصَّوْمِ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ سَبَبٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَهُوَ كَالْمُبَاشَرَةِ، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّهُ
__________
(1) شرح فتح القدير 2 / 328، بدائع الصنائع 2 / 1024، حاشية رد المحتار 2 / 406، درر الحكام شرح غرر الأحكام 1 / 202 والشرح الصغير 1 / 709، والمجموع 6 / 326
(2) كشاف القناع 2 / 321 والمجموع 6 / 326
(3) حديث: " لقيط بن صبرة: " بالغ في الاستنشاق ". أخرجه الترمذي (3 / 146 - ط الحلبي) وقال: " حسن صحيح ".(19/152)
إِذَا جَرَحَ إِنْسَانًا فَمَاتَ جُعِل كَأَنَّهُ بَاشَرَ قَتْلَهُ (1) .
ثَالِثًا: الْخَطَأُ فِي تَعْيِينِ رَمَضَانَ لِلأَْسِيرِ:
40 - إِنِ اشْتَبَهَتِ الشُّهُورُ عَلَى أَسِيرٍ لَزِمَهُ أَنْ يَتَحَرَّى وَيَصُومَ، فَإِنْ وَافَقَ صَوْمُهُ شَهْرًا قَبْل رَمَضَانَ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ الإِْجْزَاءِ؛ لأَِنَّهُ أَدَّى الْعِبَادَةَ قَبْل وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا، فَلَمْ تُجْزِهِ كَمَنْ صَلَّى قَبْل الْوَقْتِ وَلأَِنَّهُ تَعَيَّنَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمَنُ مِثْلَهُ فِي الْقَضَاءِ فَلَمْ يُعْتَدَّ لَهُ بِمَا فَعَلَهُ، كَمَا لَوْ تَحَرَّى فِي وَقْتِ الصَّلاَةِ قَبْل الْوَقْتِ.
وَيَرَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ النَّوَوِيُّ (2) .
رَابِعًا: الْخَطَأُ فِي الْوَقْتِ:
41 - لَوْ أَكَل الصَّائِمُ أَوْ جَامَعَ بِاجْتِهَادٍ يَظُنُّ أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَقْتَ لَيْلٌ فَبَانَ خِلاَفُ ذَلِكَ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي غَيْرِ الْجِمَاعِ عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَإِذَا هُوَ طَالِعٌ، أَوْ أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ
__________
(1) المجموع 6 / 326
(2) المبسوط 3 / 59 وشرح الخرشي 2 / 245 والمجموع 6 / 284 والمغني 3 / 146، والقواعد والفوائد الأصولية ص 90(19/152)
تَغْرُبْ، وَكَذَا لَوْ جَامَعَ ظَانًّا بَقَاءَ اللَّيْل فَبَانَ خِلاَفُ ظَنِّهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ مُتَعَمِّدًا بَل مُخْطِئًا، وَوَجَّهُوا قَوْلَهُمْ بِأَنَّ الْقَضَاءَ يَثْبُتُ بِمُطْلَقِ الإِْفْسَادِ سَوَاءٌ كَانَ صُورَةً وَمَعْنًى، أَوْ صُورَةً لاَ مَعْنًى، أَوْ مَعْنًى لاَ صُورَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَسَوَاءٌ كَانَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لأَِنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ فَيَسْتَدْعِي فَوَاتَ الصَّوْمِ لاَ غَيْرُ، وَالْفَوَاتُ يَحْصُل بِمُطْلَقِ الإِْفْسَادِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إِلَى الْجَبْرِ بِالْقَضَاءِ لِيَقُومَ مَقَامَ الْفَائِتِ فَيَنْجَبِرُ مَعْنًى، وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَيَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِإِفْسَادٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الإِْفْطَارُ الْكَامِل بِوُجُودِ الأَْكْل أَوِ الشُّرْبِ أَوِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مُبِيحٍ وَلاَ مُرَخِّصٍ وَلاَ شُبْهَةِ الإِْبَاحَةِ (1) .
أَمَّا الْجِمَاعُ بِلاَ عُذْرٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَقَدْ قَال الْحَنَابِلَةُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ عَامِدًا كَانَ أَوْ سَاهِيًا أَوْ جَاهِلاً أَوْ مُخْطِئًا، مُخْتَارًا أَوْ مُكْرَهًا، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال يَا رَسُول اللَّهِ هَلَكْتُ: قَال مَا لَكَ: قَال: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 1024، 1030، والشرح الصغير 1 / 703، 706، 707، المنتقى 2 / 63، 65 والمنثور في القواعد 2 / 122 والمجموع 6 / 328، والقواعد والفوائد الأصولية ص 85، كشاف القناع 2 / 323، 324
(2) حديث أبي هريرة: " أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 163 - ط السلفية) ومسلم (2 / 781 - ط الحلبي) .(19/153)
قَال الْبَعْلِيُّ: وَحَكَى صَاحِبُ الرِّعَايَةِ رِوَايَةً: لاَ قَضَاءَ عَلَى مَنْ جَامَعَ يَعْتَقِدُهُ لَيْلاً فَبَانَ نَهَارًا وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ (1) .
هـ - الْحَجُّ:
أَوَّلاً - الْخَطَأُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ:
42 - إِذَا أَخْطَأَ النَّاسُ فَوَقَفُوا فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَجْزَأَ وَتَمَّ حَجُّهُمْ وَلاَ قَضَاءَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَقَالُوا: إِنَّ وُقُوفَهُمْ صَحِيحٌ وَحَجَّتَهُمْ تَامَّةٌ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ. وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمْ وَقَفُوا فِي غَيْرِ وَقْتِ الْوُقُوفِ فَلاَ يَجُوزُ، كَمَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ (2) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا أَخْطَأَ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَل جَمَاعَةُ الْمَوْقِفِ لاَ أَكْثَرُهُمْ فَوَقَفُوا بِعَاشِرٍ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ الْيَوْمُ التَّاسِعُ وَأَنَّ اللَّيْلَةَ عَقِبَهُ لَيْلَةُ الْعَاشِرِ بِأَنْ غُمَّ عَلَيْهِمْ لَيْلَةُ الثَّلاَثِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فَأَكْمَلُوا الْعِدَّةَ فَإِذَا هُوَ الْعَاشِرُ، وَاللَّيْلَةُ عَقِبَهُ لَيْلَةُ الْحَادِيَ عَشَرَ فَيُجْزِئُهُمْ، وَعَلَيْهِمْ دَمٌ، وَاحْتُرِزَ عَنْ خَطَأِ بَعْضِهِمْ وَلَوْ أَكْثَرَهُمْ فَوَقَفَ الْعَاشِرَ ظَنًّا أَنَّهُ التَّاسِعُ مُخَالِفًا لِظَنِّ غَيْرِهِ فَلاَ يُجْزِئُهُ. وَنَقَل اللَّخْمِيُّ عَنِ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 323، 324، والقواعد والفوائد الأصولية للبعلى ص 86
(2) البدائع 3 / 1099(19/153)
ابْنِ الْقَاسِمِ عَدَمَ الإِْجْزَاءِ إِذَا وَقَفُوا فِي الْعَاشِرِ (1) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمْ إِنْ غَلِطُوا بِيَوْمٍ وَاحِدٍ فَوَقَفُوا فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَجْزَأَهُمْ وَتَمَّ حَجُّهُمْ وَلاَ قَضَاءَ، هَذَا إِذَا كَانَ الْحَجِيجُ عَلَى الْعَادَةِ، فَإِنْ قَلُّوا أَوْ جَاءَتْ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ فَظَنَّتْ أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَّ النَّاسَ قَدْ أَفَاضُوا فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ، وَآخَرُونَ أَصَحُّهُمَا لاَ يُجْزِئُهُمْ؛ لأَِنَّهُمْ مُفْرِطُونَ؛ وَلأَِنَّهُ نَادِرٌ يُؤْمَنُ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ، وَالثَّانِي يُجْزِئُهُمْ كَالْجَمْعِ الْكَثِيرِ (2) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُجْزِئُ أَيْضًا (3) .
وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا بِحَدِيثِ: يَوْمُ عَرَفَةَ الْيَوْمُ الَّذِي يُعْرَفُ النَّاسُ فِيهِ (4) ، وَحَدِيثِ: الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالأَْضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ (5) .
__________
(1) مواهب الجليل 3 / 95 وشرح الزرقاني 2 / 269
(2) المجموع 8 / 292
(3) كشاف القناع 2 / 525، والفروع 3 / 534، 535، المغني 3 / 474
(4) حديث: " يوم عرفة اليوم الذي يعرف الناس فيه " أخرجه الدارقطني (2 / 224 - ط دار المحاسن) بإسنادين، وعلق عليهما شمس الحق العظيم آبادي في حاشيتة عليه: " وهذا الحديث مرسل، وكذا ما بعده وفيه الواقدي وهو ضعيف جدا ".
(5) حديث: " الصوم يوم تصومون، والفطر. . . . " أخرجه الترمذي (3 / 71 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة: وقال: " حديث حسن ".(19/154)
أَمَّا لَوْ وَقَفُوا فِي الثَّامِنِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ التَّاسِعُ فَإِنَّ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ (1) ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ (2) وَالأَْصَحُّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُمْ. قَالُوا: وَالْفَرْقُ بَيْنَ عَدَمِ إِجْزَاءِ الْوُقُوفِ فِيهِ وَبَيْنَ إِجْزَائِهِ بِالْعَاشِرِ، أَنَّ الَّذِينَ وَقَفُوا فِيهِ فَعَلُوا مَا تَعَبَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لأَِمْرِهِ بِإِكْمَال الْعِدَّةِ حَيْثُ حَصَل الْغَيْمُ دُونَ اجْتِهَادٍ بِخِلاَفِهِ بِالثَّامِنِ فَإِنَّهُ اجْتِهَادُهُمْ، أَوْ شَهَادَةُ مَنْ شَهِدَ بِالْبَاطِل (3) .
وَلأَِنَّهُ نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ؛ وَلأَِنَّهُ خَطَأٌ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى دَلِيلٍ فَلَمْ يُعْذَرُوا فِيهِ (4) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُمْ لِحَدِيثِ يَوْمُ عَرَفَةَ الْيَوْمُ الَّذِي يُعْرَفُ النَّاسُ فِيهِ قَالُوا: وَهُوَ نَصٌّ فِي الإِْجْزَاءِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَا خَطَأٌ وَصَوَابٌ لاَسْتُحِبَّ الْوُقُوفُ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهُ السَّلَفُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لاَ خَطَأَ (5) .
وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلٌ لاِبْنِ الْقَاسِمِ بِعَدَمِ الإِْجْزَاءِ فِي الصُّورَتَيْنِ، قَال الْحَطَّابُ: يَعْنِي إِذَا أَخْطَأَ جَمَاعَةُ أَهْل الْمَوْسِمِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَجِّ، فَوَقَفُوا
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 1096
(2) شرح الزرقاني 2 / 269
(3) شرح الزرقاني 2 / 269
(4) بدائع الصنائع 3 / 1096، المجموع 8 / 293
(5) كشاف القناع 2 / 525، مواهب الجليل 3 / 95، المجموع 8 / 293(19/154)
فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ، فَإِنَّ وُقُوفَهُمْ يُجْزِئُهُمْ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ فَقَطْ مِمَّا إِذَا أَخْطَئُوا وَوَقَفُوا فِي الثَّامِنِ، فَإِنَّ وُقُوفَهُمْ لاَ يُجْزِئُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنَ الْمَذْهَبِ وَقِيل: يُجْزِئُهُمْ فِي الصُّورَتَيْنِ وَقِيل: لاَ يُجْزِئُ فِي الصُّورَتَيْنِ (1) .
ثَانِيًا: خَطَأُ الْحَجِيجِ فِي الْمَوْقِفِ:
43 - إِذَا أَخْطَأَ الْحَجِيجُ فِي الْمَوْقِفِ فَوَقَفُوا فِي غَيْرِ عَرَفَةَ فَيَلْزَمُ الْقَضَاءُ، سَوَاءٌ كَانُوا جَمْعًا كَثِيرًا أَوْ قَلِيلاً؛ لأَِنَّ الْخَطَأَ فِي الْمَوْقِفِ يُؤْمَنُ مِثْلُهُ فِي الْقَضَاءِ (2) .
ثَالِثًا: الْخَطَأُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ:
44 - لَوِ اجْتَهَدَ الْحَجِيجُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَحْرَمُوا ثُمَّ بَانَ الْخَطَأُ عَامًّا فَهَل يَنْعَقِدُ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: يَصِحُّ الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: لاَ يُجْزِئُ وَلاَ يَنْعَقِدُ (3) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (إِحْرَامٌ، حَجٌّ) .
__________
(1) مواهب الجليل 3 / 95
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم 303، المنثور في القواعد للزركشي 2 / 122، المجموع 8 / 292، شرح الخرشي وحاشية العدوي عليه 2 / 320، كشاف القناع 2 / 494
(3) المنثور في القواعد 2 / 122، وبدائع الصنائع 3 / 1174 ومواهب الجليل 3 / 18، 19 والمجموع 8 / 293 وزاد المسير 1 / 210، والقواعد والفوائد الأصولية ص 277(19/155)
رَابِعًا: قَتْل صَيْدِ الْحَرَمِ خَطَأً:
45 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ قَتْل الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ أَوْ مِنَ الْمُحْرِمِينَ حَرَامٌ يَجِبُ فِيهِ الْجَزَاءُ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْعَمْدُ، وَالْخَطَأُ، وَالسَّهْوُ، وَالنِّسْيَانُ وَالْجَهْل (1) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (2) إِلَى آخِرِ الآْيَةِ. وَيُنْظَرُ: (إِحْرَامٌ، حَرَمٌ) .
خَامِسًا - الْخَطَأُ فِي مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ:
46 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ جَمِيعَهَا يَسْتَوِي فِيهَا الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ كَقَتْل الصَّيْدِ.
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ مَا كَانَ إِتْلاَفًا كَحَلْقِ الشَّعْرِ وَقَتْل الصَّيْدِ، وَبَيْنَ مَا كَانَ تَمَتُّعًا كَلُبْسٍ وَتَطَيُّبٍ (3) . وَفِي الْوَطْءِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (إِحْرَامٌ، حَجٌّ) .
- و - الأَْضَاحِيُّ:
الْخَطَأُ فِي ذَبْحِ الأُْضْحِيَّةِ:
47 - إِذَا غَلِطَ رَجُلاَنِ فَذَبَحَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
__________
(1) فتح القدير 3 / 71، والقوانين الفقهية ص 92، والشرقاوي على التحرير 1 / 490 والمغني 3 / 452
(2) سورة المائدة / 95
(3) فتح القدير 3 / 24 - 48، والقوانين الفقهية 92 - 93، والشرقاوي على التحرير 1 / 491، وكشاف القناع 2 / 458(19/155)
أُضْحِيَّةَ الآْخَرِ أَجْزَأَ عَنْهُمَا وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَأَصْل هَذَا أَنَّ مَنْ ذَبَحَ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لاَ يَحِل لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا. وَلاَ يُجْزِئُهُ عَنِ الأُْضْحِيَّةِ فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْل زُفَرَ. وَفِي الاِسْتِحْسَانِ، يَجُوزُ وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الذَّابِحِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا تَعَيَّنَتْ لِلذَّبْحِ لِتَعَيُّنِهَا لِلأُْضْحِيَّةِ، حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا بِعَيْنِهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُبَدِّل بِهَا غَيْرَهَا، فَصَارَ الْمَالِكُ مُسْتَعِينًا بِكُل مَنْ يَكُونُ أَهْلاً لِلذَّبْحِ آذِنًا لَهُ دَلاَلَةً؛ لأَِنَّهَا تَفُوتُ بِمُضِيِّ هَذِهِ الأَْيَّامِ وَعَسَاهُ يَعْجِزُ عَنْ إِقَامَتِهَا بِعَوَارِضَ، فَصَارَ كَمَا إِذَا ذَبَحَ شَاةً شَدَّ الْقَصَّابُ رِجْلَهَا. وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَيَضْمَنُ، كَمَا إِذَا ذَبَحَ شَاةً اشْتَرَاهَا الْقَصَّابُ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا تُجْزِئُ وَلاَ ضَمَانَ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ ضَمَانُهَا.
وَنَقَل الأَْثْرَمُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُمَا يَتَرَادَّانِ اللَّحْمَ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا وَيُجْزِئُ، وَلَوْ فَرَّقَ كُلٌّ مِنْهُمَا لَحْمَ مَا ذَبَحَهُ أَجْزَأَ لإِِذْنِ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا نَقَلُوهُ عَنْ مَالِكٍ إِلَى عَدَمِ الإِْجْزَاءِ، وَيَضْمَنُ كُل وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ الْقِيمَةَ، فَإِذَا غَرِمَ الْقِيمَةَ وَلَمْ يَأْخُذْهَا مَذْبُوحَةً فَالأَْصَحُّ فِي
__________
(1) الهداية 4 / 77، وكشاف القناع 3 / 14، والقواعد لابن رجب ص 237 القاعدة السادسة والتسعون.(19/156)
قَوْل أَشْهَبَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ أَنَّهَا تُجْزِئُ أُضْحِيَّةً لِذَابِحِهَا.
وَرَوَى عِيسَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهَا لاَ تُجْزِئُ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ ذَبَحَ كُلٌّ مِنْ رَجُلَيْنِ أُضْحِيَّةَ الآْخَرِ ضَمِنَ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ أَيْ قِيمَتَهَا حَيَّةً وَقِيمَتَهَا مَذْبُوحَةً؛ لأَِنَّ إِرَاقَةَ الدَّمِ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ وَقَدْ فَوَّتَهَا، وَأَجْزَأَ كُلٌّ مِنْهَا عَنِ الأُْضْحِيَّةِ لَكِنْ بِقَيْدِ كَوْنِهَا وَاجِبَةً بِنَذْرٍ فَيُفَرِّقُهَا صَاحِبُهَا؛ لأَِنَّهَا مُسْتَحَقَّةُ الصَّرْفِ لِجِهَةِ التَّضْحِيَةِ؛ وَلأَِنَّ ذَبْحَهَا لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، أَمَّا الْمُتَطَوَّعُ بِهَا وَالْوَاجِبَةُ بِالْجُعْل فَلاَ يُجْزِئُ ذَبْحُهَا عَنِ الأَْصْلِيَّةِ لاِفْتِقَارِهِ إِلَى نِيَّةٍ (2) .
ز - الْبُيُوعُ:
أَوَّلاً - بَيْعُ الْمُخْطِئِ:
48 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: بَيْعُ الْمُخْطِئِ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا، وَصُورَتُهُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُول: سُبْحَانَ اللَّهِ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ - بِعْتُ هَذَا مِنْكَ بِأَلْفٍ، وَقَبِل الآْخَرُ - وَصَدَّقَهُ فِي أَنَّ الْبَيْعَ خَطَأٌ. أَمَّا وَجْهُ انْعِقَادِهِ فَلاِخْتِيَارِهِ فِي الأَْصْل، وَوَجْهُ فَسَادِهِ لِعَدَمِ الرِّضَا كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ، فَيَمْلِكُ الْبَدَل بِالْقَبْضِ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ
__________
(1) التاج والإكليل على هامش مواهب الجليل 3 / 252
(2) الشرقاوي على التحرير 2 / 469، 470
(3) تيسير التحرير 2 / 307(19/156)
غَيْرُ مُنْعَقِدٍ؛ لأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي أَسْبَابِ انْتِقَال الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ وَالْقَصْدُ، فَمَنْ بَاعَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ أَوْ هَذَا التَّصَرُّفَ يُوجِبُ انْتِقَال الْمِلْكِ لاَ يَلْزَمُهُ بَيْعٌ وَلاَ نَحْوُهُ (1) .
ثَانِيًا - الْغَلَطُ فِي الْمَبِيعِ:
49 - إِذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِي جِنْسِ الْمَبِيعِ بِأَنِ اعْتَقَدَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسٍ مُعَيَّنٍ فَإِذَا بِهِ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ، مِثْل أَنْ يَبِيعَ يَاقُوتًا أَوْ مَاسًا فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ، أَوْ يَبِيعُ حِنْطَةً فَإِذَا هِيَ شَعِيرٌ.
وَكَذَا إِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ وَلَكِنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَمَا أَرَادَهُ الْعَاقِدُ كَانَ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ عَدَا الْكَرْخِيِّ قَالُوا: إِنَّ الْغَلَطَ يَكُونُ مَانِعًا يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ، فَيَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلاً لأَِنَّ الْبَيْعَ مَعْدُومٌ، وَقَال الْكَرْخِيُّ: هُوَ فَاسِدٌ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا وَقَعَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي الْغَلَطِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْعَاقِدِ الآْخَرِ فَلَمْ يَعْلَمْ بِهَذَا الْغَلَطِ فَلاَ يُعْتَدُّ بِالْغَلَطِ. جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيل: سُئِل مَالِكٌ عَمَّنْ بَاعَ مُصَلًّى فَقَال
__________
(1) الفروق 1 / 163، وتهذيب الفروق 1 / 179، ونهاية المحتاج 3 / 373، منهاج الطالبين 2 / 154، 155، وكشاف القناع 3 / 149، 150، المغني 7 / 319
(2) البدائع 6 / 2998، فتح القدير 5 / 201، المادة 208 من مجلة الأحكام العدلية.(19/157)
الْمُشْتَرِي: أَتَدْرِي مَا هَذَا الْمُصَلَّى؟ هِيَ وَاللَّهِ خَزٌّ فَقَال الْبَائِعُ: مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ خَزٌّ وَلَوْ عَلِمْتُهُ مَا بِعْتُهُ بِهَذَا الثَّمَنِ، قَال مَالِكٌ: هُوَ لِلْمُشْتَرِي وَلاَ شَيْءَ لِلْبَائِعِ.
وَكَذَا مَنْ بَاعَ حَجَرًا بِثَمَنٍ يَسِيرٍ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ يَاقُوتَةٌ أَوْ زَبَرْجَدَةٌ تَبْلُغُ مَالاً كَثِيرًا. أَمَّا إِذَا سَمَّى أَحَدُهُمَا الشَّيْءَ بِغَيْرِ اسْمِهِ، مِثْل أَنْ يَقُول الْبَائِعُ أَبِيعُكَ هَذِهِ الْيَاقُوتَةَ فَيَجِدُهَا غَيْرَ يَاقُوتَةٍ، أَوْ يَقُول الْمُشْتَرِي: بِعْ مِنِّي هَذِهِ الزُّجَاجَةَ ثُمَّ يَعْلَمُ الْبَائِعُ أَنَّهَا يَاقُوتَةٌ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ لاَ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ، وَالْبَيْعُ لاَ يَلْزَمُ الْبَائِعَ (1) .
وَكَذَلِكَ إِذَا سَمَّى الْعَاقِدُ الشَّيْءَ بِاسْمٍ يَصْلُحُ لَهُ كَقَوْل الْبَائِعِ: أَبِيعُكَ هَذَا الْحَجَرَ فَإِذَا هُوَ يَاقُوتَةٌ فَيَلْزَمُ الْبَائِعَ الْبَيْعُ، وَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهَا يَاقُوتَةٌ، وَأَمَّا إِذَا سَمَّى أَحَدُهُمَا الشَّيْءَ بِغَيْرِ اسْمِهِ مِثْل أَنْ يَقُول الْبَائِعُ: أَبِيعُكَ هَذِهِ الْيَاقُوتَةَ فَيَجِدُهَا غَيْرَ يَاقُوتَةٍ، أَوْ يَقُول الْمُشْتَرِي: بِعْ مِنِّي هَذِهِ الزُّجَاجَةَ ثُمَّ يَعْلَمُ الْبَائِعُ أَنَّهَا يَاقُوتَةٌ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الشِّرَاءَ لاَ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ، وَالْبَيْعُ لاَ يَلْزَمُ الْبَائِعَ.
وَإِذَا أَبْهَمَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي التَّسْمِيَةِ وَلَمْ يُصَرِّحْ، فَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: إِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الرَّدَّ كَالتَّصْرِيحِ (2) .
__________
(1) مواهب الجليل 4 / 466
(2) مواهب الجليل 4 / 466(19/157)
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِالصِّحَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَال بِالْبُطْلاَنِ.
قَال الْقَلْيُوبِيُّ: لَوِ اشْتَرَى زُجَاجَةً يَظُنُّهَا جَوْهَرَةً فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ إِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِلَفْظِ الْجَوْهَرَةِ وَإِلاَّ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ، وَحَكَى عَنْ شَيْخِهِ صِحَّةَ الْعَقْدِ وَثُبُوتَ الْخِيَارِ قَال: وَفِيهِ نَظَرٌ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ قَال: الْبَائِعُ بِعْتُكَ هَذَا الْبَغْل بِكَذَا، فَقَال اشْتَرَيْتُهُ، فَبَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فَرَسًا أَوْ حِمَارًا لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ، وَمِثْلُهُ بِعْتُكَ هَذَا الْجَمَل فَبَانَ نَاقَةً وَنَحْوَهُ، فَلاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ لِلْجَهْل بِالْمَبِيعِ (2) .
ثَالِثًا - الْجِنَايَةُ عَلَى الْمَبِيعِ خَطَأً:
50 - الْجِنَايَةُ خَطَأً عَلَى الْمَبِيعِ قَبْل الْقَبْضِ أَوْ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، قَدْ تَكُونُ مِنَ الْبَائِعِ، أَوِ الْمُشْتَرِي، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَفِي لُزُومِ الْبَيْعِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ وَسُقُوطِ الْخِيَارِ، وَفِي الضَّمَانِ، خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (خِيَارٌ، ضَمَانٌ) .
ح - الإِْجَارَةُ:
أَوَّلاً: خَطَأُ النَّقَّادِ وَالْقَبَّانِ وَنَحْوِهِمَا:
51 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ النَّقَّادَ إِنْ أَخْطَأَ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ مُجْتَهِدٌ أَخْطَأَ
__________
(1) حاشية القليوبي على شرح الجلال المحلي على المنهاج 2 / 164، المجموع 12 / 334، 335
(2) كشاف القناع 3 / 165(19/158)
فِي اجْتِهَادِهِ، وَلاَ أُجْرَةَ لَهُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَعْمَل مَا أُمِرَ بِهِ.
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ الضَّمَانِ بِكَوْنِ النَّقَّادِ حَاذِقًا أَمِينًا وَإِلاَّ ضَمِنَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَخْطَأَ الْقَبَّانِيُّ (1) فِي الْوَزْنِ ضَمِنَ، كَمَا لَوْ غَلِطَ فِي النَّقْشِ الَّذِي عَلَى الْقَبَّانِ (2) .
ثَانِيًا: خَطَأُ الأُْجَرَاءِ وَالصُّنَّاعِ:
52 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَفَرِيقٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (3) : أَنَّ الأَْجِيرَ الْخَاصَّ لاَ يَضْمَنُ مَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بِلاَ صُنْعِهِ، أَوْ هَلَكَ مِنْ عَمَلِهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدِ الْفَسَادَ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الأَْجِيرَ الْخَاصَّ كَالأَْجِيرِ الْمُشْتَرَكِ (4) فِي الضَّمَانِ وَهُوَ
__________
(1) القباني: الوزان بالقبان، والقبان، الميزان ذو الذراع الطويلة المقسمة أقساما (المعجم الوسيط) .
(2) اللآلئ الدرية في الفوائد الخيرية لنجم الدين الرملى مطبوع مع جامع الفصولين 2 / 184 طبعة أولي سنة 1300 بالمطبعة الأزهرية، وجامع الفصولين 2 / 169، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 174، وحاشية القليوبي على منهاج الطالبين 2 / 218، ونهاية المحتاج 4 / 98 وكشاف القناع 3 / 247
(3) جامع الفصولين 2 / 171، مجمع الضمانات 27، 28 والفواكه الدواني 2 / 168، والمهذب 1 / 408، والمغني 5 / 432
(4) الأجير المشترك هو الذي يستحق الأجرة بالعمل لا بتسليم النفس وله أن يعمل للعامة وخلافه الأجير الخاص.(19/158)
الْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَال: وَالأُْجَرَاءُ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْجِيرَ الْمُشْتَرَكَ إِذَا تَلِفَ عِنْدَهُ الْمَتَاعُ بِتَعَدٍّ، أَوْ تَفْرِيطٍ جَسِيمٍ يَضْمَنُ. أَمَّا إِذَا تَلِفَ بِغَيْرِ هَذَيْنِ، فَفِيهِ تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَةٌ) .
ثَالِثًا - خَطَأُ الْكَاتِبِ:
53 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: فِيمَنْ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ وَرَقًا لِيَكْتُبَ لَهُ مُصْحَفًا وَيَنْقُطُهُ، وَيَعْجُمُهُ، وَيَعْشِرُهُ بِكَذَا مِنَ الأُْجْرَةِ فَأَخْطَأَ فِي بَعْضِ النُّقَطِ وَالْعَوَاشِرِ. قَال أَبُو جَعْفَرٍ: إِنْ فَعَل ذَلِكَ فِي كُل وَرَقَةٍ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لاَ يُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَاسْتَرَدَّ مِنْهُ مَا أَعْطَاهُ، أَيْ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْوَرَقِ، وَإِنْ وَافَقَهُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ أَعْطَاهُ حِصَّةَ مَا وَافَقَ مِنَ الْمُسَمَّى وَبِمَا خَالَفَ أَعْطَاهُ أَجْرَ الْمِثْل (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: بِصِحَّةِ الاِسْتِئْجَارِ لِلنِّسَاخَةِ وَيُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ الْخَطِّ، وَرِقَّتَهُ، وَغِلَظَهُ، وَعَدَدَ الأَْوْرَاقِ وَسُطُورَ كُل صَفْحَةٍ كَذَا، وَقَدْرَ الْقَطْعِ إِنْ قَدَرْنَا بِالْمَحَل. وَإِذَا غَلِطَ النَّاسِخُ غَلَطًا فَاحِشًا فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْوَرَقِ وَلاَ أُجْرَةَ لَهُ، وَإِلاَّ فَلَهُ الأُْجْرَةُ وَلاَ أَرْشَ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُهُ الإِْصْلاَحُ (2) .
__________
(1) مجمع الضمانات ص 50
(2) حاشية الجمل 3 / 545، نهاية المحتاج 4 / 98، 99(19/159)
رَابِعًا: خَطَأُ الطَّبِيبِ وَالْخَاتِنِ وَنَحْوِهِمَا:
54 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ عَلَى الطَّبِيبِ وَالْخَاتِنِ وَالْحَجَّامِ إِذَا فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا ذَوِي حِذْقٍ فِي صِنَاعَتِهِمْ وَلَهُمْ بِهَا بِصَارَةٌ وَمَعْرِفَةٌ، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ لَمْ يَحِل لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مُبَاشَرَةُ الْقَطْعِ، وَإِذَا قُطِعَ مَعَ هَذَا كَانَ فِعْلاً مُحَرَّمًا فَيَضْمَنُ سِرَايَتَهُ كَالْقَطْعِ ابْتِدَاءً.
الثَّانِي: أَنْ لاَ تَجْنِيَ أَيْدِيهِمْ فَيَتَجَاوَزُوا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ.
فَإِذَا وُجِدَ هَذَانِ الشَّرْطَانِ لَمْ يَضْمَنُوا، لأَِنَّهُمْ قَطَعُوا قَطْعًا مَأْذُونًا فِيهِ فَلَمْ يَضْمَنُوا سِرَايَتَهُ، كَقَطْعِ الإِْمَامِ يَدَ السَّارِقِ، أَوْ فَعَلُوا فِعْلاً مُبَاحًا مَأْذُونًا فِي فِعْلِهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ حَاذِقًا وَخَبَتْ يَدُهُ مِثْل أَنْ يَتَجَاوَزَ قَطْعُ الْخِتَانِ إِلَى الْحَشَفَةِ، أَوْ إِلَى بَعْضِهَا، أَوْ قَطَعَ فِي غَيْرِ مَحَل الْقَطْعِ، أَوْ يَقْطَعُ السِّلْعَةَ مِنْ إِنْسَانٍ فَيَتَجَاوَزُهَا، أَوْ يَقْطَعُ بِآلَةٍ كَآلَةٍ يَكْثُرُ أَلَمُهَا، أَوْ فِي وَقْتٍ لاَ يَصْلُحُ الْقَطْعُ فِيهِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ ضَمِنَ فِيهِ كُلِّهِ؛ لأَِنَّهُ إِتْلاَفٌ لاَ يَخْتَلِفُ ضَمَانُهُ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فَأَشْبَهَ إِتْلاَفَ الْمَال (1) .
__________
(1) جامع الفصولين 2 / 186، ودرر الحكام 2 / 236، والدر المختار 6 / 68، ومجمع الضمانات 47، 48، وشرح الخرشي 7 / 28، 8 / 110، 111، وشرح الزرقاني 7 / 27 - 29 والفواكه الدواني 2 / 168 ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 8 / 32، والمغني 5 / 440، وكشاف القناع 4 / 14، 35(19/159)
ط - الْخَطَأُ فِي وَصْفِ اللُّقَطَةِ:
55 - إِذَا ادَّعَى شَخْصٌ مِلْكِيَّةَ لُقَطَةٍ فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ لاَ يُسَلِّمُهَا إِلَيْهِ إِلاَّ إِذَا وَصَفَهَا وَصْفًا يُشْعِرُ بِأَنَّهَا لَهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا أَخْطَأَ مُدَّعِي مِلْكِيَّةِ اللُّقَطَةِ فِي وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهَا.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الإِْصَابَةَ فِي بَعْضِ عَلاَمَاتِ اللُّقَطَةِ لاَ تَكْفِي لِدَفْعِهَا إِلَيْهِ، وَإِنَّ الإِْصَابَةَ فِي الْعَلاَمَاتِ كُلِّهَا شَرْطٌ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا وَصَفَ وَاحِدًا مِنَ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ (2) وَوَقَعَ الْجَهْل فِي الآْخَرِ أَوِ الْغَلَطُ فَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ:
قِيل: لاَ شَيْءَ لَهُ فِيهِمَا، وَقِيل: يَسْتَأْنِي فِيهِمَا، وَقِيل: يُعْطَى بَعْدَ الاِسْتِينَاءِ مَعَ الْجَهْل وَلاَ شَيْءَ لَهُ مَعَ الْغَلَطِ.
قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا أَعْدَل الأَْقْوَال، وَقَال: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْغَلَطِ تَصَوُّرُ الشَّيْءِ عَلَى خِلاَفِ مَا هُوَ عَلَيْهِ لاَ الْمُتَعَلِّقُ بِاللِّسَانِ (3) .
وَقَال الْخَرَشِيُّ: إِذَا غَلِطَ فَإِنْ قَال: الْوِكَاءُ مَثَلاً كَذَا، فَإِذَا هُوَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لاَ يَكْفِي وَلاَ تُدْفَعُ لَهُ.
__________
(1) حاشية رد المحتار 4 / 282
(2) العفاص: الوعاء الذي يكون فيه اللقطة، والوكاء الحبل الذي يربط به فم ذلك الوعاء.
(3) حاشية العدوي على الخرشي 7 / 122(19/160)
وَإِذَا وَصَفَ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ أَوْ أَحَدَهُمَا وَأَصَابَ فِي ذَلِكَ وَأَخْطَأَ فِي صِفَةِ الدَّنَانِيرِ، بِأَنْ قَال مُحَمَّدِيَّةٌ فَإِذَا هِيَ يَزِيدِيَّةٌ فَلاَ شَيْءَ لَهُ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَقَالُوا: إِذَا عَرَّفَ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ وَغَلِطَ فِي قَدْرِ الدَّرَاهِمِ بِزِيَادَةٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّ بِأَنْ قَال: هِيَ عَشَرَةٌ فَإِذَا هِيَ خَمْسَةٌ، أَمَّا غَلَطُهُ بِالنَّقْصِ بِأَنْ قَال: هِيَ عِشْرُونَ فَإِذَا هِيَ ثَلاَثُونَ فَفِيهِ قَوْلاَنِ (1) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (لُقَطَةٌ) .
ي - الْغَلَطُ فِي الشُّفْعَةِ:
56 - مِنْ صُوَرِ الْخَطَأِ أَوِ الْغَلَطِ فِي الشُّفْعَةِ أَنْ يَغْلَطَ الشَّفِيعُ فِي شَخْصِ الْمُشْتَرِي، أَوْ فِي غَيْرِهِ مِنَ الأَْرْكَانِ كَالْغَلَطِ فِي الثَّمَنِ. وَفِيمَا يَأْتِي بَيَانُ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ قَال الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ بِمِائَةٍ فَعَفَا الشَّفِيعُ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ اشْتَرَى بِخَمْسِينَ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لأَِنَّهُ عَفَا عَنِ الشُّفْعَةِ لِقَدْرٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَرْضَاهُ بِمِائَةٍ أَوْ لَيْسَ مَعَهُ مِائَةٌ.
وَإِنْ قَال: اشْتَرَيْتُ نِصْفَهُ بِمِائَةٍ فَعَفَا ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ قَدِ اشْتَرَى جَمِيعَهُ بِمِائَةٍ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِتَرْكِ الْجَمِيعِ.
وَإِنْ قَال إِنَّهُ اشْتَرَى بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَعَفَا ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ قَدِ اشْتَرَاهُ بِالنَّقْدِ الآْخَرِ فَهُوَ عَلَى
__________
(1) الخرشي وحاشية العدوي عليه 7 / 123(19/160)
شُفْعَتِهِ؛ لأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَفَا لإِِعْوَازِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ عِنْدَهُ، أَوْ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ.
وَإِنْ قَال: اشْتَرَيْتُ الشِّقْصَ فَعَفَا، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ كَانَ وَكِيلاً فِيهِ وَإِنَّمَا الْمُشْتَرِي غَيْرُهُ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَرْضَى مُشَارَكَةَ الْوَكِيل وَلاَ يَرْضَى مُشَارَكَةَ الْمُوَكِّل (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَخْبَرَ الشَّفِيعُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فُلاَنٌ فَقَال: قَدْ سَلَّمْتُ لَهُ، فَإِذَا الْمُشْتَرِي غَيْرُهُ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ؛ لأَِنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمُجَاوَرَةِ، فَرِضَاهُ بِمُجَاوَرَةِ إِنْسَانٍ لاَ يَكُونُ رِضًا مِنْهُ بِمُجَاوَرَةِ غَيْرِهِ، وَهَذَا التَّقْيِيدُ مِنْهُ مُفِيدٌ، كَأَنَّهُ قَال إِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي فُلاَنًا فَقَدْ سَلَّمْتُ الشُّفْعَةَ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ غَيْرُهُ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ. وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ فُلاَنٌ وَآخَرُ مَعَهُ، صَحَّ تَسْلِيمُهُ فِي نَصِيبِ فُلاَنٍ وَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ فِي نَصِيبِ الآْخَرِ؛ لأَِنَّهُ رَضِيَ بِمُجَاوَرَةِ أَحَدِهِمَا فَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ رِضًا بِمُجَاوَرَةِ الآْخَرِ (2) . وَلَوْ أَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ فَتَسْلِيمُهُ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ أَقَل فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا أَسْقَطَ حَقَّهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ؛ لأَِنَّهُ بَنَى تَسْلِيمَهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَالْخِطَابُ السَّابِقُ كَالْمُعَادِ فِيمَا بَنَى عَلَيْهِ مِنَ الْجَوَابِ، فَكَأَنَّهُ قَال سَلَّمْتُ إِنْ كَانَ الثَّمَنُ
__________
(1) المهذب 1 / 380، 381، وكشاف القناع 4 / 143
(2) المبسوط 14 / 105(19/161)
أَلْفًا، وَإِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى هَذَا التَّسْلِيمِ لِغَلاَءِ الثَّمَنِ، أَوْ لأَِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْصِيل الأَْلْفِ وَلاَ يَزُول هَذَا الْمَعْنَى إِذَا كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنَ الأَْلْفِ بَل يَزْدَادُ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ أَقَل مِنَ الأَْلْفِ فَقَدِ انْعَدَمَ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ لأَِجْلِهِ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ فَيَكُونُ عَلَى حَقِّهِ، وَهَذَا لأَِنَّ الأَْخْذَ بِالشُّفْعَةِ شِرَاءٌ، وَقَدْ يَرْغَبُ الْمَرْءُ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ عِنْدَ قِلَّةِ الثَّمَنِ وَلاَ يَرْغَبُ فِيهِ عِنْدَ كَثْرَةِ الثَّمَنِ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الشَّفِيعُ إِذَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ فَلَمَّا أُخْبِرَ بِالثَّمَنِ أَسْقَطَ شُفْعَتَهُ لِكَثْرَتِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الثَّمَنَ أَقَل مِمَّا أُخْبِرَ بِهِ فَلَهُ شُفْعَتُهُ وَلَوْ طَال الزَّمَانُ قَبْل ذَلِكَ، وَيَحْلِفُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَسْقَطَ لأَِجْل الْكَذِبِ فِي الثَّمَنِ.
وَكَذَلِكَ لاَ تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ إِذَا أَسْقَطَهَا لأَِجْل الْكَذِبِ فِي الشِّقْصِ الْمُشْتَرَى، بِأَنْ قِيل لَهُ فُلاَنٌ اشْتَرَى نِصْفَ نَصِيبِ شَرِيكِكَ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ اشْتَرَى جَمِيعَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَلَهُ الْقِيَامُ بِالشُّفْعَةِ حِينَئِذٍ، لأَِنَّهُ يَقُول لَمْ يَكُنْ لِي غَرَضٌ فِي أَخْذِ النِّصْفِ؛ لأَِنَّ الشَّرِكَةَ بَعْدُ قَائِمَةٌ، فَلَمَّا عَلِمْتُ أَنَّهُ ابْتَاعَ الْكُل أَخَذْتُ لاِرْتِفَاعِ الشَّرِكَةِ وَزَوَال الضَّرَرِ، أَوْ لأَِجْل الْكَذِبِ فِي الْمُشْتَرِي - بِكَسْرِ الرَّاءِ - قِيل لَهُ فُلاَنٌ اشْتَرَى نَصِيبَ شَرِيكِكَ فَأَسْقَطَ لِذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ غَيْرُ الَّذِي سُمِّيَ فَإِنَّ
__________
(1) المبسوط 14 / 105(19/161)
لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شُفْعَتَهُ كَائِنًا مَا كَانَ الشَّخْصُ.
وَكَذَلِكَ لاَ تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ إِذَا قِيل لَهُ إِنَّ فُلاَنًا اشْتَرَى حِصَّةَ شَرِيكِكَ فِي الشِّقْصِ فَرَضِيَ بِهِ وَسَلَّمَ شُفْعَتَهُ لأَِجْل حُسْنِ سِيرَةِ هَذَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الشِّقْصَ اشْتَرَاهُ هُوَ وَشَخْصٌ آخَرُ فَلَهُ الْقِيَامُ بِشُفْعَتِهِ، لأَِنَّهُ يَقُول إِنَّمَا رَضِيتُ بِشَرِكَةِ فُلاَنٍ وَحْدَهُ لاَ بِشَرِكَتِهِ مَعَ غَيْرِهِ (1) .
ك - النِّكَاحُ:
أَوَّلاً - الْخَطَأُ فِي الصِّيغَةِ:
57 - يَرَى فَرِيقٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ بِأَلْفَاظٍ مُصَحَّفَةٍ، وَالتَّصْحِيفُ أَنْ يَقْرَأَ الشَّيْءَ عَلَى خِلاَفِ مَا أَرَادَهُ كَاتِبُهُ، أَوْ عَلَى غَيْرِ مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ، كَتَجَوَّزْتُ بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ عَلَى الزَّاي؛ لأَِنَّهُ صَادِرٌ لاَ عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ، بَل عَنْ تَحْرِيفٍ وَتَصْحِيفٍ فَلاَ يَكُونُ حَقِيقَةً وَلاَ مَجَازًا لِعَدَمِ الْعَلاَقَةِ، بَل غَلَطًا فَلاَ اعْتِبَارَ بِهِ أَصْلاً بِخِلاَفِ مَا لَوِ اتَّفَقَ قَوْمٌ عَلَى النُّطْقِ بِهَذِهِ الْغَلْطَةِ وَصَدَرَتْ عَنْ قَصْدٍ صَحَّ، لأَِنَّ ذَلِكَ وَضْعٌ جَدِيدٌ وَبِهِ أَفْتَى أَبُو السُّعُودِ (2) .
وَالرَّأْيُ الآْخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَرَأْيِ تَقِيِّ الدِّينِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: الْعَقْدُ بِلَفْظِ
__________
(1) شرح الخرشي 6 / 172، 173
(2) تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه المسمي رد المحتار 3 / 18، 19(19/162)
جَوَّزْتُ وَزَوَّزْتُ إِذَا نَطَقَ بِهِ الْعَامِّيُّ قَاصِدًا بِهِ مَعْنَى النِّكَاحِ يَصِحُّ؛ لأَِنَّ لَفْظَ جَوَّزْتُ وَزَوَّزْتُ لاَ يَفْهَمُ مِنْهُ الْعَاقِدَانِ وَالشُّهُودُ إِلاَّ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّزْوِيجِ وَلاَ يُقْصَدُ مِنْهُ إِلاَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِحَسَبِ الْعُرْفِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يُحْمَل كَلاَمُ كُل عَاقِدٍ وَحَالِفٍ وَوَاقِفٍ عَلَى عَرَفَةَ (1) .
وَقَال الْغَزَالِيُّ: الْخَطَأُ فِي الصِّيغَةِ إِذَا لَمْ يُخِل بِالْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَالْخَطَأِ فِي الإِْعْرَابِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (نِكَاحٌ) .
ثَانِيًا - الْغَلَطُ فِي اسْمِ الزَّوْجَةِ:
58 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْغَلَطُ فِي اسْمِ الزَّوْجَةِ يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ حَاضِرَةً فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَأَشَارَ إِلَيْهَا، فَلاَ يَضُرُّ؛ لأَِنَّ تَعْرِيفَ الإِْشَارَةِ الْحِسِّيَّةِ أَقْوَى مِنَ التَّسْمِيَةِ، لِمَا فِي التَّسْمِيَةِ مِنَ الاِشْتِرَاكِ لِعَارِضٍ فَتَلْغُو التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الإِْشَارَةِ، كَمَا لَوْ قَال: اقْتَدَيْتُ بِزَيْدٍ هَذَا فَإِذَا هُوَ عَمْرٌو فَإِنَّهُ يَصِحُّ (3) . وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتَانِ وَأَرَادَ تَزْوِيجَ الْكُبْرَى فَغَلِطَ فَسَمَّاهَا بِاسْمِ الصُّغْرَى صَحَّ لِلصُّغْرَى بِأَنْ كَانَ اسْمُ الْكُبْرَى عَائِشَةَ وَالصُّغْرَى فَاطِمَةَ، فَقَال زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فَاطِمَةَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 20، 21
(2) نهاية المحتاج 6 / 207
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 26(19/162)
وَهُوَ يُرِيدُ عَائِشَةَ فَقَبِل، انْعَقَدَ عَلَى فَاطِمَةَ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَصِفْهَا بِالْكُبْرَى، فَلَوْ قَال زَوَّجْتُكَ بِنْتِي الْكُبْرَى فَاطِمَةَ قَالُوا: يَجِبُ أَنْ لاَ يَنْعَقِدَ الْعَقْدُ عَلَى إِحْدَاهُمَا؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ ابْنَةٌ كُبْرَى بِهَذَا الاِسْمِ، وَلاَ تَنْفَعُ النِّيَّةُ هُنَا وَلاَ مَعْرِفَةُ الشُّهُودِ بَعْدَ صَرْفِ اللَّفْظِ عَنِ الْمُرَادِ (1) .
وَقَال شَمْسُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ قَال أَبُو بَنَاتٍ: زَوَّجْتُكَ إِحْدَاهُنَّ أَوْ بِنْتِي أَوْ فَاطِمَةَ وَنَوَيَا مُعَيَّنَةً وَلَوْ غَيْرَ الْمُسَمَّاةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، قَال الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: لَوْ زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ اخْتَلَفَتُ الزَّوْجَةُ مَعَ الزَّوْجِ فَقَالَتْ: لَسْتُ الْمُسَمَّاةَ فِي الْعَقْدِ، وَقَال الشُّهُودُ: بَل أَنْتِ الْمَقْصُودَةُ بِالتَّسْمِيَةِ، وَإِنَّمَا الْوَلِيُّ سَمَّى غَيْرَكَ فِي الْعَقْدِ غَلَطًا وَوَافَقَهُمَا الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ، فَهَل الْعِبْرَةُ بِقَوْلِهَا لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ النِّكَاحِ، أَوِ الْعِبْرَةُ بِقَوْل الشُّهُودِ؟ فِيهِ نَظَرٌ وَالأَْقْرَبُ الأَْوَّل، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الْغَلَطِ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لَوْ سَمَّاهَا الْوَلِيُّ بِغَيْرِ اسْمِهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهَا صَحَّ الْعَقْدُ؛ لأَِنَّ عَدَمَ التَّعْيِينِ إِنَّمَا جَاءَ مِنَ التَّعَدُّدِ وَلاَ تَعَدُّدَ هُنَا، وَكَذَا لَوْ سَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا وَأَشَارَ إِلَيْهَا، بِأَنْ قَال زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فَاطِمَةُ هَذِهِ، وَأَشَارَ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَى خَدِيجَةَ؛ لأَِنَّ الإِْشَارَةَ أَقْوَى، وَلَوْ سَمَّاهَا
__________
(1) فتح القدير 3 / 192، حاشية ابن عابدين 3 / 26
(2) نهاية المحتاج 6 / 209(19/163)
بِغَيْرِ اسْمِهَا وَلَمْ يَقُل بِنْتِي لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ. وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتَانِ فَاطِمَةُ وَعَائِشَةُ فَقَال الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي عَائِشَةُ فَقَبِل الزَّوْجُ، وَنَوَيَا فِي الْبَاطِنِ فَاطِمَةَ فَلاَ يَصِحُّ النِّكَاحُ؛ لأَِنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تُذْكَرْ بِمَا تَتَعَيَّنُ بِهِ، فَإِنَّ اسْمَ أُخْتِهَا لاَ يُمَيِّزُهَا بَل يَصْرِفُ الْعَقْدَ عَنْهَا، وَلأَِنَّهُمَا لَمْ يَتَلَفَّظَا بِمَا يَصِحُّ الْعَقْدُ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَال: زَوَّجْتُكَ عَائِشَةُ فَقَطْ، أَوْ مَا لَوْ قَال: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي وَلَمْ يُسَمِّهَا، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ فِيمَا إِذَا لَمْ يُسَمِّهَا فَفِي مَا سَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا أَوْلَى (1) .
ثَالِثًا - الْغَلَطُ فِي الزَّوْجَةِ:
59 - إِذَا زُفَّتِ امْرَأَةٌ إِلَى غَيْرِ زَوْجِهَا وَلَمْ يَكُنْ رَآهَا قَبْل ذَلِكَ فَوَطِئَهَا، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَاطِئِ مَهْرُ الْمِثْل، وَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ. وَيَنْتَشِرُ التَّحْرِيمُ بِهَذَا الْوَطْءِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ وَطِئَهَا غَلَطًا وَهِيَ فِي عِدَّةِ غَيْرِهِ تَأَبَّدَ تَحْرِيمُهَا (3) .
وَمِنْ صُوَرِ الْغَلَطِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ أَبٌ عَلَى امْرَأَةٍ وَابْنُهُ عَلَى
__________
(1) كشاف القناع 5 / 41، 42، الفروع 5 / 169، 170
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 24، 38، 4 / 23، 26، الشرح الصغير 2 / 375، 453، كشاف القناع 5 / 72، منهاج الطالبين 3 / 243
(3) الشرح الصغير 2 / 345(19/163)
ابْنَتِهَا وَزُفَّتْ كُلٌّ لِغَيْرِ زَوْجِهَا وَوَطِئَهَا غَلَطًا:
قَال الشَّافِعِيَّةُ: انْفَسَخَ النِّكَاحَانِ وَلَزِمَ كُلًّا لِمَوْطُوءَتِهِ مَهْرُ الْمِثْل، وَعَلَى السَّابِقِ مِنْهُمَا بِالْوَطْءِ لِزَوْجَتِهِ نِصْفُ الْمُسَمَّى، وَفِيمَا يَلْزَمُ الثَّانِي مِنْهُمَا وُجُوهٌ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ: إِنَّ وَطْءَ الأَْوَّل يُوجِبُ عَلَيْهِ مَهْرَ مِثْلِهَا؛ لأَِنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ وَيُفْسَخُ نِكَاحُهَا مِنْ زَوْجِهَا؛ لأَِنَّهَا صَارَتْ بِالْوَطْءِ حَلِيلَةَ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ، وَيَسْقُطُ بِهِ مَهْرُ الْمَوْطُوءَةِ عَنْ زَوْجِهَا؛ لأَِنَّ الْفَسْخَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا بِتَمْكِينِهَا مِنْ وَطْئِهَا وَمُطَاوَعَتِهَا عَلَيْهِ، وَلاَ شَيْءَ لِزَوْجِهَا عَلَى الْوَاطِئِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ يَرْجِعُ بِهِ؛ وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ مُشَارِكَةٌ فِي إِفْسَادِ نِكَاحِهَا بِالْمُطَاوَعَةِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَى زَوْجِهَا شَيْءٌ لَوِ انْفَرَدَتْ بِهِ (2) .
رَابِعًا - طَلاَقُ الْمُخْطِئِ:
60 - مَنْ قَال لِزَوْجَتِهِ اسْقِينِي فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ أَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَقَعُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِعَدَمِ الْقَصْدِ وَلاَ اعْتِبَارَ لِلْكَلاَمِ بِدُونِ الْقَصْدِ (3) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 271
(2) المغني 7 / 51
(3) منهاج الطالبين 2 / 154، 155، نهاية المحتاج 3 / 373، المغني 7 / 319(19/164)
مُخْتَارًا لِحُكْمِهِ لِكَوْنِهِ مُخْتَارًا فِي التَّكَلُّمِ، وَلأَِنَّ الْغَفْلَةَ عَنْ مَعْنَى اللَّفْظِ أَمْرٌ خَفِيٌّ وَفِي الْوُقُوفِ عَلَى قَصْدِهِ حَرَجٌ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْقَصْدِ قَصْدُ النُّطْقِ بِاللَّفْظِ الدَّال عَلَيْهِ فِي الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ مَدْلُولَهُ وَهُوَ حَل الْعِصْمَةِ.
وَقَالُوا إِنْ سَبَقَ لِسَانُهُ بِأَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ الطَّلاَقِ، فَالْتَوَى لِسَانُهُ فَتَكَلَّمَ بِالطَّلاَقِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ ثَبَتَ سَبْقُ لِسَانِهِ فِي الْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْفَتْوَى وَيَلْزَمُهُ فِي الْقَضَاءِ (2) .
ل - الْخَطَأُ فِي الْجِنَايَاتِ:
أَوَّلاً - الْقَتْل الْخَطَأُ:
61 - الْوَاجِبُ فِي الْقَتْل الْخَطَأِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِل وَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ، وَالْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَيُرْجَعُ فِي تَعْرِيفِ الْقَتْل الْخَطَأِ وَصُوَرِهِ وَأَنْوَاعِهِ وَأَحْكَامِهِ وَآرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ إِلَى مُصْطَلَحَاتِ (قَتْلٌ، دِيَةٌ، كَفَّارَةٌ، إِرْثٌ) .
ثَانِيًا - مَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ خَطَأً:
62 - الْوَاجِبُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِمَّا دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَمَا فِي ذَهَابِ كُلٍّ مِنَ الْكَلاَمِ، وَالسَّمْعِ، وَاللِّسَانِ،
__________
(1) تيسير التحرير 2 / 306، فتح القدير 3 / 488
(2) شرح الخرشي 4 / 32، 33(19/164)
وَالأَْنْفِ، وَفِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، أَوْ نِسْبَةٍ مِنَ الدِّيَةِ كَمَا فِي الْمُوضِحَةِ، وَالْمُنَقِّلَةِ، وَالآْمَّةِ، وَالْجَائِفَةِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَةٌ) (1) .
ثَالِثًا - جِنَايَةُ الإِْنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَطْرَافِهِ خَطَأً:
63 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ مَنْ قَتَل نَفْسَهُ خَطَأً لاَ تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَتْلِهِ وَلاَ تَحْمِل الْعَاقِلَةُ دِيَتَهُ. لأَِنَّ عَامِرَ بْنَ الأَْكْوَعِ بَارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ خَيْبَرَ فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ، وَلَمْ يَقْضِ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَةٍ وَلاَ غَيْرِهَا (2) ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهُ؛ وَلأَِنَّهُ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ كَالْعَمْدِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الأَْظْهَرِ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ: إِنَّ عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَتَهُ لِوَرَثَتِهِ إِنْ قَتَل نَفْسَهُ، أَوْ أَرْشَ جُرْحِهِ لِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ رَجُلاً سَاقَ حِمَارًا فَضَرَبَهُ بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ فَطَارَتْ مِنْهَا شَظِيَّةٌ فَفَقَأَتْ عَيْنَهُ فَجَعَل عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دِيَتَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ
__________
(1) درر الحكام شرح غرر الأحكام 2 / 105 - 108، القوانين الفقهية 230، كفاية الأخيار 2 / 104 - 106، المذهب الأحمد في مذهب الإمام أحمد 178، 179
(2) حديث: " قصة عامر بن الاكوع ". أخرجها ابن عبد البر في الاستيعاب (2 / 786 - 787 ط مطبعة نهضة مصر وإسنادها صحيح.(19/165)
مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِ (1) .
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفَّارَةِ فَقَدْ قَال الشَّافِعِيُّ وَالْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لاَ تَجِبُ؛ لأَِنَّ الْكَفَّارَةَ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ الْقَتْل فَإِذَا حَصَل الْقَتْل بَطَل الْخِطَابُ بِهَا كَمَا تَسْقُطُ دِيَتُهُ عَنِ الْعَاقِلَةِ لِوَرَثَتِهِ (2) .
رَابِعًا - الْخَطَأُ فِي التَّصَادُمِ:
64 - التَّصَادُمُ قَدْ يَقَعُ مِنْ فَارِسَيْنِ، أَوْ مِنْ مَاشِيَيْنِ، أَوْ مِنْ سَفِينَتَيْنِ، وَقَدْ يَقَعُ عَمْدًا أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ، وَالْوَاجِبُ فِي حَال الْخَطَأِ هَل يَضْمَنُ كُل وَاحِدٍ مَا تَلِفَ مِنَ الآْخَرِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ مَالٍ، أَوْ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ بِأَنْ يَضْمَنَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ قِيمَةِ مَا تَلِفَ مِنَ الآْخَرِ؟ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (3) وَتَفْصِيل ذَلِكَ مَحَلُّهُ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَةٌ، إِتْلاَفٌ، قَتْلٌ، ضَمَانٌ) .
__________
(1) فتح القدير 10 / 231، الدر المختار 6 / 545، حاشية رد المحتار 6 / 638 قال " كأنه قتل نفسه فكان هدرا " سطر 21، وشرح الخرشي 8 / 49، 50، والمهذب 2 / 212، والمغني 8 / 371
(2) فتح القدير 10 / 231، حاشية رد المحتار 6 / 545، 638، والمهذب 2 / 217، والمغني 8 / 513، وشرح الخرشي 8 / 49، 50
( x663 ;) درر الحكام شرح غرر الأحكام 2 / 112، مواهب الجليل وبهامش التاج والإكليل 6 / 243، المهذب 2 / 194، 195، شرح تنقيح اللباب 2 / 276 وما بعدها، المغني 9 / 173 - 177(19/165)
خَامِسًا - فِي خَرْقِ السَّفِينَةِ خَطَأً:
65 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ خَرَقَ شَخْصٌ سَفِينَتَهُ عَامِدًا خَرْقًا يُهْلِكُ غَالِبًا، فَالْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ عَلَى الْخَارِقِ، وَخَرْقُهَا لِلإِْصْلاَحِ شِبْهُ عَمْدٍ، فَإِنْ أَصَابَ غَيْرَ مَوْضِعِ الإِْصْلاَحِ فَخَرَقَهُ فَخَطَأٌ مَحْضٌ (1) .
وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ إِذَا خَرَقَ السَّفِينَةَ خَطَأً فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا تَلِفَ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ.
وَإِذَا قَامَ لِيُصْلِحَ مَوْضِعًا فَقَلَعَ لَوْحًا، أَوْ يُصْلِحَ مِسْمَارًا فَثَقَبَ مَوْضِعًا، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ قَبِيل عَمْدِ الْخَطَأِ، أَوْ مِنْ قَبِيل الْخَطَأِ الْمَحْضِ؟
ذَهَبَ إِلَى الأَْوَّل الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَالثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ، لأَِنَّهُ قَصَدَ فِعْلاً مُبَاحًا فَأَفْضَى إِلَى التَّلَفِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَ آدَمِيًّا، لَكِنْ إِنْ قَصَدَ قَلْعَ اللَّوْحِ مِنْ مَوْضِعٍ يَغْلِبُ أَنَّهُ لاَ يُتْلِفُهَا فَأَتْلَفَهَا فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَأِ وَفِيهِ مَا فِيهِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي ضَمَانِ الْمَلاَّحِ: لَوْ دَخَلَهَا الْمَاءُ فَأَفْسَدَ الْمَتَاعَ فَلَوْ بِفِعْلِهِ وَحْدَهُ يَضْمَنُ بِالاِتِّفَاقِ، وَلَوْ بِلاَ فِعْلِهِ إِنْ لَمْ يُمْكِنَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ لاَ يَضْمَنُ إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ
__________
(1) حاشية الشرقاوى على التحرير 2 / 379، حاشية القليوبي على المنهاج 4 / 152
(2) المغني 9 / 177(19/166)
لاَ يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ.
وَهَذَا كُلُّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ رَبُّ الْمَتَاعِ أَوْ وَكِيلُهُ فِي السَّفِينَةِ، فَلَوْ كَانَ لاَ يَضْمَنُ فِي جَمِيعِ مَا مَرَّ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ بِأَنْ لَمْ يُجَاوِزَ الْمُعْتَادَ؛ لأَِنَّ مَحَل الْعَمَل غَيْرُ مُسَلَّمٍ إِلَيْهِ (1) .
- الْخَطَأُ فِي الأَْيْمَانِ:
أَوَّلاً: الْخَطَأُ فِي حَلِفِ الْيَمِينِ:
66 - مَعْنَى الْخَطَأِ فِي الْيَمِينِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَبْقُ اللِّسَانِ إِلَى غَيْرِ مَا قَصَدَهُ الْحَالِفُ وَأَرَادَهُ بِأَنْ أَرَادَ شَيْئًا فَسَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُول: اسْقِنِي الْمَاءَ فَقَال: وَاللَّهِ لاَ أَشْرَبُ الْمَاءَ.
وَأَوْجَبُوا فِيهِ الْكَفَّارَةَ إِنْ حَنِثَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (2) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلاَثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلاَقُ، وَالْيَمِينُ (3)
وَقَالُوا: إِنَّ الْكَفَّارَةَ تَرْفَعُ الإِْثْمَ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ التَّوْبَةُ. وَخَالَفَ الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ فِي انْعِقَادِ يَمِينِ الْمُخْطِئِ وَقَال: وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ حَدِيثُ
__________
(1) مجمع الضمانات 48، 49
(2) سورة المائدة / 89
(3) حديث: " ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد، النكاح والطلاق واليمين " قال الزيلعي في نصب الراية (3 / 293 - ط المجلس العلمي بالهند) : " غريب " يعني أنه ليس له أصل بهذا اللفظ ثم قال: " وانما الحديث: النكاح والطلاق والرجعة " وهذا أخرجه الترمذي (3 / 481 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة وحسنه.(19/166)
الْيَمِينِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ؛ لأَِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ جَعَل الْهَزْل بِالْيَمِينِ جِدًّا، وَالْهَازِل قَاصِدٌ لِلْيَمِينِ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ فَلاَ يُعْتَبَرُ عَدَمُ رِضَاهُ بِهِ شَرْعًا بَعْدَ مُبَاشَرَتِهِ السَّبَبَ مُخْتَارًا، وَالنَّاسِي بِالتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا أَصْلاً وَلَمْ يَدْرِ مَا صَنَعَ، وَكَذَا الْمُخْطِئُ لَمْ يَقْصِدْ قَطُّ التَّلَفُّظَ بِهِ، بَل بِشَيْءٍ آخَرَ فَلاَ يَكُونُ الْوَارِدُ فِي الْهَازِل وَارِدًا فِي النَّاسِي الَّذِي لَمْ يَقْصِدْ قَطُّ مُبَاشَرَةَ السَّبَبِ، فَلاَ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ نَصًّا وَلاَ قِيَاسًا. (1)
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنَ الْخَطَأِ:
الأَْوَّل - سَبْقُ اللِّسَانِ بِمَعْنَى غَلَبَتِهِ وَجَرَيَانِهِ عَلَى لِسَانِهِ نَحْوُ: لاَ وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا، وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا.
الثَّانِي - انْتِقَالُهُ مِنْ لَفْظٍ لآِخَرَ وَالْتِفَاتُهُ إِلَيْهِ عِنْدَ إِرَادَةِ النُّطْقِ بِغَيْرِهِ.
وَقَالُوا: إِنَّ الْقِسْمَ الأَْخِيرَ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ وَيَدِينُ أَيْ يُقْبَل قَوْلُهُ دِيَانَةً، كَسَبْقِ اللِّسَانِ فِي الطَّلاَقِ، أَمَّا الأَْوَّل فَيَلْزَمُهُ الْيَمِينُ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى لَفْظِ الْيَمِينِ بِلاَ قَصْدٍ فِي حَال غَضَبِهِ: كَلاَ وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ، وَكَذَا فِي حَال عَجَلَتِهِ، أَوْ صِلَةِ
__________
(1) حاشية رد المحتار 3 / 708، فتح القدير 5 / 64، درر الحكام 2 / 39
(2) حاشية الدسوقي 2 / 127، شرح الزرقاني 3 / 51، شرح الخرشي 3 / 52(19/167)
كَلاَمِهِ، أَوْ أَرَادَ الْيَمِينَ عَلَى شَيْءٍ فَسَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا لاَ يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَلاَ تَتَعَلَّقُ بِهِ كَفَّارَةٌ. (1) فَإِذَا حَلَفَ وَقَال: لَمْ أَقْصِدَ الْيَمِينَ صُدِّقَ، أَمَّا الْحَلِفُ بِالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالإِْيلاَءِ فَلاَ يُصَدَّقُ فِي الظَّاهِرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِإِجْرَاءِ لَفْظِ الْيَمِينِ بِلاَ قَصْدٍ، بِخِلاَفِ الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ فَدَعْوَاهُ فِيهِمَا بِخِلاَفِ الظَّاهِرِ فَلاَ يُقْبَل، وَلَوِ اقْتَرَنَ بِالْيَمِينِ مَا يَدُل عَلَى الْقَصْدِ لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ عَلَى خِلاَفِ الظَّاهِرِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ فَيُبَيِّنُ بِخِلاَفِهِ، وَمَنْ سَبَقَ الْيَمِينُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلاَ إِثْمَ فِي هَذَا النَّوْعِ وَلاَ كَفَّارَةَ وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ وَقَالُوا: إِنْ عَقَدَهَا (أَيِ الْيَمِينَ) عَلَى زَمَنٍ خَاصٍّ مَاضٍ يَظُنُّ صِدْقَ نَفْسِهِ كَأَنْ حَلَفَ مَا فَعَل كَذَا يَظُنُّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ فَبَانَ بِخِلاَفِهِ حَنِثَ فِي طَلاَقٍ وَعَتَاقٍ فَقَطْ، بِخِلاَفِ الْحَلِفِ بِاللَّهِ أَوْ بِنَذْرٍ أَوْ ظِهَارٍ؛ لأَِنَّهُ مِنْ لَغْوِ الأَْيْمَانِ.
وَكَذَا إِذَا عَقَدَهَا عَلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ ظَانًّا صِدْقَهُ فَلَمْ يَكُنْ كَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ يَظُنُّ أَنَّهُ
__________
(1) كفاية الأخيار 2 / 153، المهذب 2 / 128، منهاج الطالبين 4 / 272، 273
(2) كفاية الأخيار 2 / 154، منهاج الطالبين 4 / 272، 273(19/167)
يُطِيعُهُ فَلَمْ يَفْعَل، أَوْ ظَنَّ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ خِلاَفَ نِيَّةِ الْحَالِفِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. (1)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَيْمَانٌ) .
ثَانِيًا - الْخَطَأُ فِي الْحِنْثِ:
67 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ سَوَاءٌ مَعَ الإِْكْرَاهِ أَوِ النِّسْيَانِ فِي الْيَمِينِ أَوِ الْحِنْثِ؛ لأَِنَّ الْفِعْل الْحَقِيقِيَّ لاَ يَعْدَمُهُ الإِْكْرَاهُ وَالنِّسْيَانُ، وَكَذَا الإِْغْمَاءُ وَالْجُنُونُ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ ذَاكِرًا لِيَمِينِهِ مُخْتَارًا. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْحِنْثُ هُوَ مُخَالَفَةُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ، فَمَنْ حَنِثَ مُخْطِئًا كَأَنْ حَلَفَ لاَ يَدْخُل دَارَ فُلاَنٍ فَدَخَلَهَا مُعْتَقِدًا أَنَّهَا غَيْرُهَا فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْخَطَأِ أَيْضًا مَا إِذَا حَلَفَ أَنَّهُ لاَ يَتَنَاوَل مِنْهُ دَرَاهِمَ فَتَنَاوَل مِنْهُ ثَوْبًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ فِيهِ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَقِيل بِعَدَمِ الْحِنْثِ، وَقِيل بِالْحِنْثِ إِنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ فِيهِ دَرَاهِمَ قِيَاسًا عَلَى السَّرِقَةِ وَإِلاَّ فَلاَ حِنْثَ.
وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ فَقَالُوا: مُتَعَلِّقُ الْخَطَأِ الْجَنَانُ، وَمُتَعَلِّقُ الْغَلَطِ اللِّسَانُ فَحَيْثُ قَالُوا بِالْحِنْثِ الْمُرَادُ بِهِ الْغَلَطُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْخَطَأِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْجَنَانِ لاَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْغَلَطِ
__________
(1) المذهب الأحمد في مذهب الإمام أحمد لابن الجوزي 196، وكشاف القناع 1 / 237
(2) درر الحكام شرح غرر الأحكام 2 / 40، وفتح القدير 5 / 65(19/168)
اللِّسَانِيِّ فَالصَّوَابُ عَدَمُ الْحِنْثِ فِيهِ. وَمَثَّلُوا لِلْغَلَطِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْخَطَأِ: حَلَفَ أَنْ لاَ يُكَلِّمَ زَيْدًا فَكَلَّمَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ عَمْرٌو، أَوْ حَلَفَ لاَ يَذْكُرُ فُلاَنًا فَذَكَرَهُ لِظَنِّهِ أَنَّهُ غَيْرُ الاِسْمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا حَلَفَ لاَ يَدْخُل هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا نَاسِيًا لِلْيَمِينِ أَوْ جَاهِلاً أَنَّهَا الدَّارُ الْمَحْلُوفَةُ عَلَيْهَا هَل يَحْنَثُ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ: سَوَاءٌ كَانَ الْحَلِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِالطَّلاَقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَوَجْهُ الْحِنْثِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَْيْمَانَ} (2) وَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال. وَوَجْهُ عَدَمِ الْحِنْثِ وَهُوَ الرَّاجِحُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} (3) الآْيَةَ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (4) وَالْيَمِينُ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ. (5)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ حَال كَوْنِهِ مُخْتَارًا ذَاكِرًا إِنْ فَعَلَهُ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا فَلاَ كَفَّارَةَ، لِحَدِيثِ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ. وَيَقَعُ الطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ إِذَا فَعَل الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِهِمَا نَاسِيًا وَالْجَاهِل كَالنَّاسِي
__________
(1) القوانين الفقهية ص 108، وحاشية الدسوقي 2 / 142
(2) سورة المائدة / 89
(3) سورة الأحزاب / 5
(4) حديث: " إن الله وضع. . . . " سبق تخريجه ف / 9
(5) كفاية الأخيار 2 / 155(19/168)
فَلَوْ حَلَفَ لاَ يَدْخُل دَارَ زَيْدٍ فَدَخَلَهَا جَاهِلاً بِأَنَّهَا دَارُهُ حَنِثَ فِي طَلاَقٍ وَعَتَاقٍ فَقَطْ. (1)
ن - الْغَلَطُ فِي الْقِسْمَةِ:
68 - قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا تَقَاسَمَا أَرْضًا ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا غَلَطًا، فَإِنْ كَانَ فِي قِسْمَةِ إِجْبَارٍ لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، لأَِنَّ الْقَاسِمَ كَالْحَاكِمِ فَلَمْ تُقْبَل دَعْوَى الْغَلَطِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ.
فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْغَلَطِ نُقِضَتِ الْقِسْمَةُ.
وَإِنْ كَانَتْ قِسْمَةَ اخْتِيَارٍ: فَإِنْ تَقَاسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا مِنْ غَيْرِ قَاسِمٍ لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ؛ لأَِنَّهُ رَضِيَ بِأَخْذِ حَقِّهِ نَاقِصًا، وَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً لَمْ تُقْبَل، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَضِيَ دُونَ حَقِّهِ نَاقِصًا، وَإِنْ قَسَمَ بَيْنَهُمَا قَاسِمٌ نَصَّبَاهُ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى التَّرَاضِي بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ لَمْ تُقْبَل دَعْوَاهُ؛ لأَِنَّهُ رَضِيَ بِأَخْذِ حَقِّهِ نَاقِصًا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى التَّرَاضِي بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ فَهُوَ كَقِسْمَةِ الإِْجْبَارِ فَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ. (2)
وَقَال فِي الْمُغْنِي: إِنَّهُ فِي كُل الأَْحْوَال - حَتَّى فِي صُورَةِ مَا تَمَّتْ قِسْمَتُهُ تَرَاضَيَا - إِنَّهُ مَتَى أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِالْغَلَطِ نُقِضَتِ الْقِسْمَةُ، لأَِنَّ مَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلٌ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ
__________
(1) كشاف القناع 6 / 237، والمذهب الأحمد 196، والفروع 6 / 386، وحديث: " إن الله وضع عن أمتي ". سبق تخريجه ف / 9
(2) المهذب 2 / 309، والمغني 10 / 209(19/169)
بِقَبْضِ الثَّمَنِ أَوِ الْمُسْلَمِ فِيهِ ثُمَّ ادَّعَى غَلَطًا فِي كَيْلِهِ (1) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ الْغَلَطَ فِي الْقِسْمَةِ وَزَعَمَ أَنَّ شَيْئًا مِمَّا أَصَابَهُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ - وَكَانَ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالاِسْتِيفَاءِ - لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ؛ لأَِنَّهُ يَدَّعِي فَسْخَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا فَلاَ يُصَدَّقُ إِلاَّ بِحُجَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ اسْتُحْلِفَ الشُّرَكَاءُ فَمَنْ نَكَل مِنْهُمْ جَمَعَ بَيْنَ نَصِيبِ النَّاكِل وَالْمُدَّعِي فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمَا، لأَِنَّ النُّكُول حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً فَيُعَامَلاَنِ عَلَى زَعْمِهِمَا، وَإِنْ قَال أَصَابَنِي إِلَى مَوْضِعِ كَذَا فَلَمْ يُسَلِّمْهُ إِلَيَّ وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى نَفْسِهِ بِالاِسْتِيفَاءِ وَكَذَّبَهُ شَرِيكُهُ تَحَالَفَا وَفُسِخَتِ الْقِسْمَةُ؛ لأَِنَّ الاِخْتِلاَفَ فِي مِقْدَارِ مَا حَصَل لَهُ بِالْقِسْمَةِ فَصَارَ نَظِيرُ الاِخْتِلاَفِ فِي مِقْدَارِ الْمَبِيعِ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ الْجَوْرَ وَالْغَلَطَ، فَإِنْ تَحَقَّقَ الْحَاكِمُ عَدَمَهُمَا مُنِعَ مُدَّعِيهِ مِنْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ أَشْكَل الأَْمْرُ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَفَاحِشًا وَلَمْ يَثْبُتْ بِقَوْل أَهْل الْمَعْرِفَةِ حَلَفَ الْمُنْكِرُ لِدَعْوَى صَاحِبِهِ أَنَّ الْقَاسِمَ لَمْ يَجْرِ، وَلَمْ يَغْلَطْ، فَإِنْ نَكَل الْمُنْكِرُ لِدَعْوَى صَاحِبِهِ قُسِمَ مَا ادَّعَى الآْخَرُ أَنَّهُ حَصَل بِهِ الْجَوْرُ وَالْغَلَطُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ
__________
(1) المغني 10 / 209
(2) فتح القدير 9 / 447، 449(19/169)
نَصِيبِ كُلٍّ، وَأَمَّا إِذَا ثَبَتَ مَا ذُكِرَ بِقَوْل أَهْل الْمَعْرِفَةِ، أَوْ كَانَ مُتَفَاحِشًا وَهُوَ مَا يَظْهَرُ لأَِهْل الْمَعْرِفَةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهَا تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ.
وَقَالُوا: الْمُرَادُ بِالْجَوْرِ مَا كَانَ عَنْ عَمْدٍ، وَبِالْغَلَطِ مَا لَمْ يَكُنْ عَنْ عَمْدٍ. (1)
س - الْخَطَأُ فِي الإِْقْرَارِ وَالْغَلَطُ فِيهِ:
69 - قَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا رَجَعَ الْمُقِرُّ فِي حَال تَكْذِيبِ الْمُقَرِّ لَهُ، بِأَنْ يَقُول غَلِطْتُ فِي الإِْقْرَارِ، قُبِل قَوْلُهُ فِي الأَْصَحِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَال الْمُقَرَّ بِهِ يُتْرَكُ فِي يَدِهِ، وَالثَّانِي: لاَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى هِيَ أَنَّهُ إِذَا كَذَّبَ الْمُقَرُّ لَهُ الْمُقِرَّ بِمَالٍ كَثَوْبٍ هَل يُتْرَكُ الْمَال فِي يَدِ الْمُقِرِّ أَوْ يَنْتَزِعُهُ الْحَاكِمُ وَيَحْفَظُهُ إِلَى ظُهُورِ مَالِكِهِ؟ فَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَال يُتْرَكُ فِي يَدِهِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ يُنْتَزَعُ مِنْهُ فَالْمَسْأَلَةُ الأُْولَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذِهِ. (2)
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِقْرَارٌ) .
ع - الْخَطَأُ فِي الشَّهَادَةِ:
70 - وَفِيهَا مَسَائِل:
أَوَّلاً - إِذَا قَال الشَّاهِدَانِ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَقَبْل الْحُكْمِ بِهَا وَهِمْنَا أَوْ غَلِطْنَا فِي شَهَادَتِنَا بِدَمٍ أَوْ حَقٍّ عَلَى زَيْدٍ بَل هُوَ عَمْرٌو.
__________
(1) شرح الخرشي 6 / 196
(2) منهاج الطالبين 3 / 5(19/170)
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَهِدَ عَدْلٌ فَلَمْ يَبْرَحْ عَنْ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَلَمْ يَطُل الْمَجْلِسُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ الْمَشْهُودُ لَهُ حَتَّى قَال: أَخْطَأْتُ بَعْضَ شَهَادَتِي، وَلاَ مُنَاقَضَةَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بِجَمِيعِ مَا شَهِدَ بِهِ لَوْ عَدْلاً، وَلَوْ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَقِيل يُقْضَى بِمَا بَقِيَ إِنْ تَدَارَكَهُ بِنُقْصَانٍ، وَإِنْ بِزِيَادَةٍ يُقْضَى بِهَا إِنِ ادَّعَاهَا الْمُدَّعِي؛ لأَِنَّ مَا حَدَثَ بَعْدَهَا قَبْل الْقَضَاءِ يُجْعَل كَحُدُوثِهِ عِنْدَهَا.
قَال الزَّيْلَعِيُّ: ثُمَّ قِيل: يُقْضَى بِجَمِيعِ مَا شَهِدَ بِهِ أَوَّلاً، حَتَّى لَوْ شَهِدَ بِأَلْفٍ ثُمَّ قَال: غَلِطْتُ فِي خَمْسِمِائَةٍ يُقْضَى بِأَلْفٍ؛ لأَِنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ أَوَّلاً صَارَ حَقًّا لِلْمُدَّعِي وَوَجَبَ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِهِ فَلاَ يَبْطُل بِرُجُوعِهِ.
وَقِيل: يُقْضَى بِمَا بَقِيَ لأَِنَّ مَا حَدَثَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ قَبْل الْقَضَاءِ كَحُدُوثِهِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ. ثُمَّ قَال: وَذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ: أَنَّ الشَّاهِدَ إِذَا قَال وَهِمْتُ فِي الزِّيَادَةِ أَوْ فِي النُّقْصَانِ: يُقْبَل قَوْلُهُ إِذَا كَانَ عَدْلاً وَلاَ يَتَفَاوَتُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَبْل الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: سَقَطَتِ الشَّهَادَتَانِ: الأُْولَى لاِعْتِرَافِهِمَا بِأَنَّهُمَا عَلَى وَهْمٍ وَشَكٍّ، وَالثَّانِيَةُ لاِعْتِرَافِهِمَا بِعَدَمِ عَدَالَتِهِمَا حَيْثُ شَهِدَا عَلَى شَكٍّ، وَكَذَا بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْل الاِسْتِيفَاءِ إِنْ كَانَتْ فِي دَمٍ لاَ فِي مَالٍ فَلاَ تَسْقُطُ، وَيَدْفَعُ لِمَنْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 488، 489(19/170)
شَهِدَا لَهُ بِهِ أَوَّلاً ثُمَّ يُغَرِّمَانِهِ. وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ وَالأَْكْثَرُ: لاَ يَغْرَمَانِ إِذَا قَالاَ وَهِمْنَا. (1)
وَفِي الْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ: إِذَا ادَّعَى الشَّاهِدُ الْغَلَطَ فَاخْتُلِفَ هَل يَلْزَمُهُ مَا لَزِمَ الْمُتَعَمِّدَ لِلْكَذِبِ أَمْ لاَ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي الأَْمْوَال لأَِنَّهَا تُضْمَنُ فِي الْخَطَأِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا رَجَعَ الشُّهُودُ قَبْل الْحُكْمِ امْتَنَعَ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَصَدَقُوا فِي الأَْوَّل أَوْ فِي الثَّانِي فَلاَ يَبْقَى ظَنُّ الصِّدْقِ فِي الشَّهَادَةِ، أَوْ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْل اسْتِيفَاءِ مَالٍ اسْتُوْفِيَ، أَوْ قَبْل عُقُوبَةٍ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالزِّنَى وَالشُّرْبِ، فَلاَ يُسْتَوْفَى لأَِنَّهَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَالرُّجُوعُ شُبْهَةٌ، وَالْمَال لاَ يَسْقُطُ بِهَا.
فَلَوْ كَانَ الرُّجُوعُ بَعْدَ الاِسْتِيفَاءِ لَمْ يُنْقَضِ الْحُكْمُ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَوْفَى قِصَاصًا، أَوْ قَتْل رِدَّةٍ، أَوْ رَجْمَ زِنًى أَوْ جَلْدَهُ وَمَاتَ الْمَجْلُودُ، وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا فَعَلَيْهِمْ قِصَاصٌ أَوْ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ، فَإِنْ قَالُوا أَخْطَأْنَا فَلاَ قِصَاصَ، فَإِنْ قَال بَعْضُهُمْ تَعَمَّدْتُ وَقَال بَعْضُهُمْ أَخْطَأْتُ فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ. (3)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا رَجَعَ شُهُودُ الأَْصْل بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَالُوا غَلِطْنَا ضَمِنُوا لاِعْتِرَافِهِمْ بِتَعَمُّدِ
__________
(1) شرح الزرقاني 7 / 196
(2) القوانين الفقهية 206
(3) منهاج الطالبين 4 / 332، 333، حاشية الشرقاوي على التحرير 2 3، 504(19/171)
الإِْتْلاَفِ بِقَوْلِهِمْ كَذَبْنَا، أَوْ بِخَطَئِهِمْ بِقَوْلِهِمْ غَلِطْنَا. (1)
وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ قِصَاصٍ أَوْ شُهُودُ حَدٍّ بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ وَقَبْل الاِسْتِيفَاءِ لَمْ يُسْتَوْفَ الْقَوَدُ وَلاَ الْحَدُّ؛ لأَِنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ عُقُوبَةٌ لاَ سَبِيل إِلَى جَبْرِهَا إِذَا اسْتُوْفِيَتْ بِخِلاَفِ الْمَال، وَلأَِنَّ رُجُوعَ الشُّهُودِ شُبْهَةٌ لاِحْتِمَال صِدْقِهِمْ، وَالْقَوَدُ وَالْحَدُّ يُدْرَآنِ بِالشُّبْهَةِ، وَوَجَبَتْ دِيَةُ قَوَدٍ لِلْمَشْهُودِ لَهُ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ وَقَدْ سَقَطَ أَحَدُهُمَا فَتَعَيَّنَ الآْخَرُ، وَيَرْجِعُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى الشُّهُودِ.
وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُمْ بَعْدَ الاِسْتِيفَاءِ وَقَالُوا أَخْطَأْنَا فَعَلَيْهِمْ دِيَةُ مَا تَلِفَ مُخَفَّفَةٌ؛ لأَِنَّهُ خَطَأٌ، وَتَكُونُ فِي أَمْوَالِهِمْ؛ لأَِنَّهُ بِإِقْرَارِهِمْ، وَالْعَاقِلَةُ لاَ تَحْمِلُهُ. (2)
ثَانِيًا - مَسَائِل مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْغَلَطِ فِي الشَّهَادَةِ:
71 - الأُْولَى -
إِذَا غَلِطَ الشُّهُودُ فِي الْحَدِّ الرَّابِعِ مِنْ حُدُودِ الدَّارِ فَلاَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ؛ لأَِنَّهُ يَخْتَلِفُ الْمُدَّعَى بِالْغَلَطِ نَظِيرُ مَا إِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ وَتَرَكَا ذِكْرَ الثَّمَنِ جَازَ، وَلَوْ غَلَطَا فِي الثَّمَنِ لاَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا لأَِنَّهُ صَارَ عَقْدًا آخَرَ بِالْغَلَطِ. (3)
__________
(1) كشاف القناع 6 / 441، 442، المغني 10 / 325
(2) كشاف القناع 6 / 442، 443
(3) تكملة فتح القدير 8 / 162(19/171)
الثَّانِيَةُ - إِذَا قَال شُهُودُ الأَْصْل أَشْهَدْنَا شُهُودَ الْفَرْعِ وَغَلِطْنَا، قَال مُحَمَّدٌ بِالضَّمَانِ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ بِعَدَمِهِ. (1)
الثَّالِثَةُ - الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ: قَال بَعْضُهُمْ: لاَ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ فِي شَيْءٍ مِنَ الأَْشْيَاءِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَحْصُل غَلَطٌ لِلْعَقْل بِذَلِكَ وَعَزَاهُ الْبَاجِيُّ لِلْمَشْهُورِ. وَقِيل: إِنَّ الْغَلَطَ نَادِرٌ. (2)
الرَّابِعَةُ - قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اتَّهَمَ الْقَاضِي الشَّاهِدَيْنِ بِالْغَلَطِ فَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِئَلاَّ يُرْعَبَ الشَّاهِدُ وَيَخْتَلِطَ عَقْلُهُ. (3) وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُفَرَّقُ إِنِ ارْتَابَ فِي الشُّهُودِ. (4)
الْخَامِسَةُ - لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ شَخْصٍ مَعْرُوفٍ بِكَثْرَةِ غَلَطٍ وَنِسْيَانٍ؛ لأَِنَّ الثِّقَةَ لاَ تَحْصُل بِقَوْلِهِ لاِحْتِمَال أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُ مِمَّا غَلِطَ فِيهَا وَسَهَا. (5)
السَّادِسَةُ - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ: لاَ يَكْفِي فِي التَّعْدِيل قَوْل الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ عَدْلٌ وَقَدْ غَلِطَ فِي شَهَادَتِهِ عَلَيَّ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ الاِكْتِفَاءُ بِذَلِكَ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ لاَ فِي التَّعْدِيل، وَقَوْلُهُ غَلِطَ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ؛ لأَِنَّ إِنْكَارَهُ
__________
(1) شرح فتح القدير 7 / 495، درر الحكام 2 / 394
(2) البهجة شرح التحفة 1 / 105
(3) البهجة شرح التحفة 1 / 98
(4) حاشية الشرقاوي على التحرير 2 / 496
(5) كشاف القناع 6 / 418(19/172)
مَعَ اعْتِرَافِهِ بِعَدَالَتِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِنِسْبَتِهِ لِلْغَلَطِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ. (1)
ثَالِثًا - الشُّهُودُ إِذَا رَجَعُوا عَنِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَالُوا أَخْطَأْنَا هَل يُعَزَّرُونَ؟
قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: (2) لاَ يُعَزَّرُونَ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (3) هَذَا إِنْ كَانَ قَوْلُهُمْ يَحْتَمِل الصِّدْقَ فِي الْخَطَأِ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُ عُزِّرُوا وَلَمْ يُقْبَل قَوْلُهُمْ.
قَال الْعَدَوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الْخَرَشِيِّ: وَإِنْ أَشْكَل فَقَوْلاَنِ، وَقَال الرَّمْلِيُّ: وَإِنِ ادَّعَوْا الْغَلَطَ أَيْ فِي اسْتِحْقَاقِهِمُ التَّعْزِيرَ.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ قَوْلَهُ: يُعَزَّرُ الشُّهُودُ سَوَاءٌ رَجَعُوا قَبْل الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ. قَال: وَلاَ يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ: لأَِنَّ الرُّجُوعَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ تَوْبَةٌ عَنْ تَعَمُّدِ الزُّورِ إِنْ تَعَمَّدَهُ، أَوِ السَّهْوِ وَالْعَجَلَةِ إِنْ كَانَ أَخْطَأَ فِيهِ، وَلاَ تَعْزِيرَ عَلَى التَّوْبَةِ وَلاَ عَلَى ذَنْبٍ ارْتَفَعَ بِهَا وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ. (4)
__________
(1) درر الحكام 2 / 373، نهاية المحتاج 8 / 254
(2) شرح الخرشي 7 / 221، والمهذب 2 / 329، نهاية المحتاج 8 / 310، وكشاف القناع 6 / 418، وحاشية رد المحتار 5 / 504
(3) سورة الأحزاب / 5
(4) حاشية رد المحتار 5 / 504، شرح فتح القدير 7 / 478، 479(19/172)
ف - الْخَطَأُ فِي الْقَضَاءِ:
72 - قَال الزَّرْكَشِيُّ: مَدَارُ نَقْضِ الْحُكْمِ عَلَى تَبَيُّنِ الْخَطَأِ، وَالْخَطَأُ إِمَّا فِي اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ حَيْثُ تَبَيَّنَ النَّصُّ أَوِ الإِْجْمَاعُ أَوِ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ بِخِلاَفِهِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ مُرَتَّبًا عَلَى سَبَبٍ صَحِيحٍ، وَإِمَّا فِي السَّبَبِ حَيْثُ يَكُونُ الْحُكْمُ مُرَتَّبًا عَلَى سَبَبٍ بَاطِلٍ، كَشَهَادَةِ الزُّورِ. (1)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ) .
الْخَطَأُ فِي تَنْفِيذِ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ:
73 - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: قَال الْكَاسَانِيُّ: إِذَا أَخْطَأَ الإِْمَامُ فَظَنَّ الْيَسَارَ يَمِينًا مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِ قَطْعِ الْيَمِينِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ.
وَنَظِيرُهُ لَوْ قَال الْحَاكِمُ لِمُقِيمِ الْحَدِّ: اقْطَعْ يَدَ السَّارِقِ، فَقَطَعَ الْيُسْرَى خَطَأً قَال: لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ يَضْمَنُ لأَِنَّ الْخَطَأَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَيْسَ بِعُذْرٍ (2) . وَدَلِيلُهُمْ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ فِي الاِجْتِهَادِ؛ لأَِنَّهُ أَقَامَ الْيَسَارَ مُقَامَ الْيَمِينِ بِاجْتِهَادِهِ مُتَمَسِّكًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (3) مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ، فَكَانَ هَذَا خَطَأً مِنَ الْمُجْتَهِدِ فِي الاِجْتِهَادِ، وَهُوَ مَوْضُوعٌ.
__________
(1) المنثور في القواعد 2 / 69
(2) بدائع الصنائع 9 / 4275، 10 / 4779، ومجمع الضمانات 203، وشرح فتح القدير 5 / 290
(3) سورة المائدة / 38(19/173)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ أَخْطَأَ الإِْمَامُ أَوْ غَيْرُهُ فَقَطَعَ يَدَ السَّارِقِ الْيُسْرَى أَوَّلاً، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ عَنْ قَطْعِ يَدِهِ الْيُمْنَى، وَمَحَل الإِْجْزَاءِ إِذَا حَصَل الْخَطَأُ بَيْنَ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَأَمَّا لَوْ أَخْطَأَ فَقَطَعَ الرَّجُل وَقَدْ وَجَبَ قَطْعُ الْيَدِ، وَنَحْوِهِ، فَلاَ يُجْزِئُ، وَيُقْطَعُ الْعُضْوُ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ وَيُؤَدِّي دِيَةَ الآْخَرِ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَا وَجَبَ بِخَطَأِ إِمَامٍ أَوْ نُوَّابِهِ فِي حَدٍّ، أَوْ تَعْزِيرٍ، وَحُكْمٍ فِي نَفْسٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، فَعَلَى عَاقِلَتِهِ كَغَيْرِهِ، وَفِي قَوْلٍ: فِي بَيْتِ الْمَال إِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ؛ لأَِنَّ خَطَأَهُ يَكْثُرُ بِكَثْرَةِ الْوَقَائِعِ بِخِلاَفِ غَيْرِهِ، وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ قَطْعًا وَكَذَا خَطَؤُهُ فِي الْمَال. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ زَادَ عَلَى الْحَدِّ فَتَلِفَ وَجَبَ الضَّمَانُ وَفِي مِقْدَارِهِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: كَمَال الدِّيَةِ.
وَالثَّانِي: نِصْفُ الضَّمَانِ، وَسَوَاءٌ زَادَ خَطَأً أَوْ عَمْدًا؛ لأَِنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ فِي الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ.
وَقَالُوا: إِذَا مَاتَ مِنَ التَّعْزِيرِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ؛ لأَِنَّهَا عُقُوبَةٌ مَشْرُوعَةٌ لِلرَّدْعِ وَالزَّجْرِ فَلَمْ يَضْمَنْ مَنْ تَلِفَ بِهَا.
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 301، وشرح الخرشي 8 / 93 - 110
(2) نهاية المحتاج 8 / 31، ومنهاج الطالبين 4 / 208، 209، وحاشية القليوبي 2 / 286(19/173)
ثُمَّ قَالُوا: وَكُل مَوْضِعٍ قُلْنَا يَضْمَنُ الإِْمَامُ فَهَل يَلْزَمُ عَاقِلَتَهُ أَوْ بَيْتَ الْمَال، رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: بَيْتُ الْمَال، لأَِنَّ خَطَأَهُ يَكْثُرُ، فَلَوْ وَجَبَ ضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَجْحَفَ بِهِمْ وَهَذَا أَصَحُّ.
وَالثَّانِيَةُ: عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لأَِنَّهَا وَجَبَتْ بِخَطَئِهِ فَكَانَتْ عَلَى عَاقِلَتِهِ. (1)
الْخَطَأُ فِي الْقِصَاصِ:
74 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَقَطَعَ الرَّجُل يَدَهُ فَمَاتَ ضَمِنَ الدِّيَةَ فِي قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّهُ اسْتَوْفَى غَيْرَ حَقِّهِ؛ لأَِنَّ حَقَّهُ الْقَطْعُ، وَهُوَ أَتَى بِالْقَتْل، وَفِي قَوْلِهِمَا لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُبَاشِرَ لِلْقِصَاصِ إِذَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْمَطْلُوبِ الْمَأْذُونِ فِيهِ تَعَمُّدًا، فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْمَطْلُوبِ بِالْمِسَاحَةِ، فَإِنْ نَقَصَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَصُّ مِنْهُ ثَانِيًا لأَِنَّهُ قَدِ اجْتَهَدَ.
وَقَال اللَّخْمِيُّ: إِذَا قَطَعَ الطَّبِيبُ (3) فِي الْمَوْضِعِ الْمُعْتَادِ فَمَاتَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَسِيرًا وَوَقَعَ الْقَطْعُ فِيمَا قَارَبَ كَانَ
__________
(1) المغني 9 / 145، 146، 160، وكشاف القناع 6 / 60
(2) البدائع 10 / 4779
(3) المراد: الطبيب المباشر للقصاص.(19/174)
خَطَأً، وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا لاَ يَشُكُّ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ عَمْدٌ كَانَ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ تَرَدَّدَ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ كَانَتْ فِيهِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ. (1)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ بِالسَّيْفِ فَضَرَبَهُ فَأَصَابَ غَيْرَ الْمَوْضِعِ وَادَّعَى أَنَّهُ أَخْطَأَ، فَإِنْ كَانَ يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ الْخَطَأُ فَالْقَوْل قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لأَِنَّ مَا يَدَّعِيهِ مُحْتَمَلٌ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ الْخَطَأُ لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ وَلاَ يُسْمَعُ فِيهِ يَمِينُهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَحْتَمِل مَا يَدَّعِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ وَيُقْتَصَّ فَقَدْ قَال فِي مَوْضِعٍ لاَ يُمْكِنُ، وَقَال فِي مَوْضِعٍ يُمْكِنُ.
وَقَال: وَمَنْ وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ فِي مُوضِحَةٍ فَاسْتَوْفَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً وَجَبَ عَلَيْهِ الأَْرْشُ. (2)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ خَطَأً مِثْل أَنْ يَسْتَحِقَّ قَطْعَ أُصْبُعٍ فَيَقْطَعُ اثْنَتَيْنِ، أَوْ جُرْحًا لاَ يُوجِبُ الْقِصَاصَ، مِثْل أَنْ يَسْتَحِقَّ مُوضِحَةً فَاسْتَوْفَاهَا هَاشِمَةً فَعَلَيْهِ أَرْشُ الزِّيَادَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنَ الْجَانِي كَاضْطِرَابِهِ حَال الاِسْتِيفَاءِ فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْمُقْتَصِّ مَعَ يَمِينِهِ؛ لأَِنَّ هَذَا مِمَّا يُمْكِنُ الْخَطَأُ فِيهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِقَصْدِهِ. (3)
__________
(1) شرح الخرشي 8 / 15، 16
(2) المهذب 2 / 187
(3) المغني 8 / 286(19/174)
حُكْمُ الْخَطَأِ فِي الْفَتْوَى مِنْ حَيْثُ الضَّمَانُ وَعَدَمُهُ:
75 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي تَضْمِينِ الْمُفْتِي إِذَا أَخْطَأَ قَوْلاَنِ:
الأَْوَّل: تَضْمِينُ الْمُفْتِي إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى فَتْوَاهُ ضَرَرٌ لِلْمُسْتَفْتِي قِيَاسًا عَلَى خَطَأِ الْقَاضِي،
وَالثَّانِي: عَدَمُ تَضْمِينِهِ لأَِنَّهُ مُتَسَبِّبٌ وَلَيْسَ مُبَاشِرًا. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا أَتْلَفَ بِفَتْوَاهُ شَيْئًا وَتَبَيَّنَ خَطَؤُهُ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا ضَمِنَ إِنِ انْتَصَبَ وَتَوَلَّى فِعْل مَا أَفْتَى فِيهِ، وَإِلاَّ كَانَتْ فَتْوَاهُ غُرُورًا قَوْلِيًّا، لاَ ضَمَانَ فِيهِ وَيُزْجَرُ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ اشْتِغَالٌ بِالْعِلْمِ أُدِّبَ. (2)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا عُمِل بِفَتْوَاهُ فِي إِتْلاَفٍ فَبَانَ خَطَؤُهُ، وَأَنَّهُ خَالَفَ دَلِيلاً قَاطِعًا فَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ يَضْمَنُ إِنْ كَانَ أَهْلاً لِلْفَتْوَى، وَلاَ يَضْمَنُ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلاً لِلْفَتْوَى، لأَِنَّ الْمُسْتَفْتِيَ قَصَّرَ. حَكَاهُ أَبُو عَمْرٍو وَسَكَتَ عَلَيْهِ.
وَقَال النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ الضَّمَانُ عَلَى قَوْلَيِ الْغُرُورِ الْمَعْرُوفَيْنِ فِي بَابَيِ الْغَصْبِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا، أَوْ يُقْطَعُ بِعَدَمِ الضَّمَانِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْفَتْوَى إِلْزَامٌ وَلاَ إِلْجَاءٌ. (3)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 419
(2) حاشية الدسوقي 1 / 20
(3) المجموع 1 / 45(19/175)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ بَانَ خَطَأُ الْحَاكِمِ فِي إِتْلاَفٍ، كَقَطْعٍ وَقَتْلٍ، لِمُخَالَفَةِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ، أَوْ بَانَ خَطَأُ مُفْتٍ لَيْسَ أَهْلاً لِلْفُتْيَا ضَمِنَا، أَيِ الْحَاكِمُ وَالْمُفْتِي؛ لأَِنَّهُ إِتْلاَفٌ حَصَل بِفِعْلِهِمَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ بَاشَرَاهُ، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ أَخْطَأَ فِيمَا لَيْسَ بِقَاطِعٍ مِمَّا يَقْبَل الاِجْتِهَادَ لاَ ضَمَانَ. (1)
خَطٌّ
انْظُرْ: تَوْثِيقٌ
خِطَابُ اللَّهِ
انْظُرْ: حُكْمٌ
خُطَّافٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَةٌ
__________
(1) كشاف القناع 6 / 360(19/175)
خُطْبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخُطْبَةُ - بِضَمِّ الْخَاءِ لُغَةً الْكَلاَمُ الْمَنْثُورُ يُخَاطِبُ بِهِ مُتَكَلِّمٌ فَصِيحٌ جَمْعًا مِنَ النَّاسِ لإِِقْنَاعِهِمْ. (1)
وَالْخَطِيبُ: الْمُتَحَدِّثُ عَنِ الْقَوْمِ، وَمَنْ يَقُومُ بِالْخَطَابَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ.
وَالْخُطْبَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ هِيَ الْكَلاَمُ الْمُؤَلَّفُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ وَعْظًا وَإِبْلاَغًا عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمَوْعِظَةُ:
2 - الْمَوْعِظَةُ هِيَ النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالْعَوَاقِبِ، وَالأَْمْرُ بِالطَّاعَةِ. قَال الْخَلِيل: هِيَ التَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ فِيمَا يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ (3) .
__________
(1) المعجم الوسيط.
(2) دستور العلماء 2 / 86 - الأعلمي، تهذيب الأسماء واللغات 3 / 92 - المنيرية، كشاف الاصطلاحات (خطب) .
(3) المفردات، المصباح، المعجم الوسيط.(19/176)
ب - الْوَصِيَّةُ:
3 - الْوَصِيَّةُ هِيَ لُغَةُ التَّقَدُّمِ إِلَى الْغَيْرِ بِمَا يَعْمَل بِهِ مُقْتَرِنًا بِوَعْظٍ (1) .
ج - النَّصِيحَةُ:
4 - النَّصِيحَةُ هِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى مَا فِيهِ الصَّلاَحُ، وَالنَّهْيُ عَمَّا فِيهِ الْفَسَادُ.
وَمِنْ آدَابِهَا أَنْ تَكُونَ سِرًّا، فِي حِينِ يُشْتَرَطُ فِي الْخُطْبَةِ أَنْ يَسْمَعَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ (2) .
د - الْكَلِمَةُ:
5 - تُسْتَعْمَل الْكَلِمَةُ بِمَعْنَى الْكَلاَمِ الْمُؤَلَّفِ الْمُطَوَّل: خُطْبَةً كَانَ أَوْ غَيْرَهَا كَالْقَصِيدَةِ وَالْمَقَالَةِ وَالرِّسَالَةِ (3) .
أَحْكَامُ الْخُطَبِ الْمَشْرُوعَةِ:
6 - الْخُطَبُ الْمَشْرُوعَةُ هِيَ: خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَالْكُسُوفَيْنِ، وَالاِسْتِسْقَاءِ، وَخُطَبِ الْحَجِّ، وَكُلُّهَا بَعْدَ الصَّلاَةِ إِلاَّ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ، وَخُطْبَةَ الْحَجِّ يَوْمَ عَرَفَةَ.
وَمِنَ الْخُطَبِ الْمَشْرُوعَةِ أَيْضًا الْخُطْبَةُ فِي خِطْبَةِ النِّكَاحِ.
__________
(1) المفردات
(2) التعريفات للجرجاني 241، المفردات، النهاية - دار الفكر، المعجم الوسيط.
(3) شرح الكافية - للرضي دار الكتب 1 / 3، حاشية الخضري على ابن عقيل - الحلبي 1 / 15، والمعجم الوسيط.(19/176)
أ - خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ:
حُكْمُهَا:
7 - هِيَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ. (1)
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ، إِلاَّ الْحَنَفِيَّةَ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الشَّرْطَ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَتُسَنُّ خُطْبَتَانِ.
وَدَلِيل الْجُمْهُورِ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْلِهِ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (2) وَلأَِنَّ الْخُطْبَتَيْنِ أُقِيمَتَا مُقَامَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَكُل خُطْبَةٍ مَكَانَ رَكْعَةٍ، فَالإِْخْلاَل بِإِحْدَاهُمَا كَالإِْخْلاَل بِإِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ (3) .
أَرْكَانُهَا:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَرْكَانِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ:
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْخُطْبَةِ تَحْمِيدَةٌ أَوْ تَهْلِيلَةٌ أَوْ تَسْبِيحَةٌ، لأَِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (4) مُطْلَقُ الذِّكْرِ الشَّامِل لِلْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، وَالْمَأْثُورُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَكُونُ بَيَانًا لِعَدَمِ الإِْجْمَال فِي لَفْظِ الذِّكْرِ.
__________
(1) الشرح الصغير - دار المعارف 1 / 499، والقوانين الفقهية - دار الكتاب ص 80
(2) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلى " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 111 - ط السلفية) من حديث مالك بن الحويرث.
(3) ابن عابدين 1 / 544، المواق / 158، نهاية المحتاج 2 / 299، المغني 2 / 304، الإفصاح - السعيدية 1 / 161، البناية - دار الفكر 2 / 802
(4) سورة الجمعة / 9(19/177)
وَقَال الصَّاحِبَانِ: لاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ طَوِيلٍ يُسَمَّى خُطْبَةً. (1)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ رُكْنَهَا هُوَ أَقَل مَا يُسَمَّى خُطْبَةً عِنْدَ الْعَرَبِ وَلَوْ سَجْعَتَيْنِ، نَحْوُ: اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَ، وَانْتَهُوا عَمَّا عَنْهُ نَهَى وَزَجَرَ.
فَإِنْ سَبَّحَ أَوْ هَلَّل أَوْ كَبَّرَ لَمْ يُجْزِهِ. (2)
وَجَزَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ أَقَلَّهَا حَمْدُ اللَّهِ وَالصَّلاَةُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحْذِيرٌ، وَتَبْشِيرٌ، وَيَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ. (3)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لَهَا خَمْسَةَ أَرْكَانٍ وَهِيَ: (4)
أ - حَمْدُ اللَّهِ، وَيَتَعَيَّنُ لَفْظُ (اللَّهِ) وَلَفْظُ (الْحَمْدِ) .
ب - الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَعَيَّنُ صِيغَةُ صَلاَةِ، وَذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْمِهِ أَوْ بِصِفَتِهِ، فَلاَ يَكْفِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ.
ج - الْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى، وَلاَ يَتَعَيَّنُ لَفْظُهَا.
د - الدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ.
هـ - قِرَاءَةُ آيَةٍ مُفْهِمَةٍ - وَلَوْ فِي إِحْدَاهُمَا - فَلاَ يُكْتَفَى بِنَحْوِ " ثُمَّ نَظَرَ "، لِعَدَمِ اسْتِقْلاَلِهَا بِالإِْفْهَامِ، وَلاَ بِمَنْسُوخِ التِّلاَوَةِ، وَيُسَنُّ جَعْلُهَا فِي الْخُطْبَةِ الأُْولَى.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 543، فتح القدير 1 / 415
(2) الشرح الصغير 1 / 499، القوانين الفقهية ص 80
(3) الحطاب - ليبيا 2 / 165
(4) نهاية المحتاج 2 / 300، أسنى المطالب - المكتبة الإسلامية 1 / 256(19/177)
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذِهِ الأَْرْكَانِ بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَمَّا أَرْكَانُهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَأَرْبَعَةٌ، وَهِيَ: (1)
أ - حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى بِلَفْظِ الْحَمْدِ.
ب - الصَّلاَةُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيغَةِ الصَّلاَةِ.
ح - الْمَوْعِظَةُ، وَهِيَ الْقَصْدُ مِنَ الْخُطْبَةِ، فَلاَ يَجُوزُ الإِْخْلاَل بِهَا.
د - قِرَاءَةُ آيَةٍ كَامِلَةٍ وَزَادَ بَعْضُهُمْ رُكْنَيْنِ آخَرَيْنِ: (2)
أ - الْمُوَالاَةُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّلاَةِ.
فَلاَ يُفْصَل بَيْنَ أَجْزَاءِ الْخُطْبَتَيْنِ، وَلاَ بَيْنَ إِحْدَاهُمَا وَبَيْنَ الأُْخْرَى، وَلاَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ.
ب - الْجَهْرُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْعَدَدُ الْمُعْتَبَرُ لِلْجُمُعَةِ، حَيْثُ لاَ مَانِعَ.
وَعَدَّهُمَا الآْخَرُونَ فِي الشُّرُوطِ - وَهُوَ الأَْلْيَقُ - كَمَا يُعْرَفُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالشَّرْطِ فِي عِلْمِ أُصُول الْفِقْهِ. (3)
شُرُوطُهَا:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بَعْضِ الشُّرُوطِ لِصِحَّةِ الْخُطْبَةِ وَهِيَ:
__________
(1) الكافي - المكتب الإسلامي 1 / 220، المحرر - السنة المحمدية 1 / 146، كشاف القناع 2 / 32
(2) نيل المآرب - 1 / 57 ط بولاق.
(3) المجموع المذهب للعلائي - مكتوب على الآلة الطابعة 1 / 234، 254، التعريفات - دار الكتاب 149، 166(19/178)
(1) أَنْ تَقَعَ فِي وَقْتِ الْجُمُعَةِ.
وَوَقْتُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ، يَبْدَأُ مِنْ بَعْدِ الزَّوَال إِلَى دُخُول وَقْتِ الْعَصْرِ، لِلأَْخْبَارِ فِي ذَلِكَ، وَجَرَيَانِ الْعَمَل عَلَيْهِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ وَقْتَهَا يَبْدَأُ مِنْ أَوَّل وَقْتِ الْعِيدِ، وَهُوَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ بِمِقْدَارِ رُمْحٍ. (1)
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيلاَنَ قَال " شَهِدْتُ الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلاَتُهُ قَبْل نِصْفِ النَّهَارِ، ثُمَّ شَهِدْتُهَا مَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلاَتُهُ إِلَى أَنْ أَقُول: قَدِ انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ شَهِدْتُهَا مَعَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَانَتْ صَلاَتُهُ وَخُطْبَتُهُ إِلَى أَنْ أَقُول: قَدْ زَال النَّهَارُ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَابَ ذَلِكَ وَلاَ أَنْكَرَهُ ".
(2) (2) أَنْ تَكُونَ قَبْل الصَّلاَةِ (3) .
فَلَوْ خَطَبَ بَعْدَهَا أَعَادَ الصَّلاَةَ - فَقَطْ - إِنْ قَرُبَ، وَإِلاَّ اسْتَأْنَفَهَا؛ لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِهَا وَصْل الصَّلاَةِ بِهَا. (4)
__________
(1) ابن عابدين 2 / 543، البناية 2 / 810، الدسوقي على الشرح الكبير - دار الفكر 1 / 378، الشرح الصغير 1 / 499، أسنى المطالب 1 / 256، نهاية المحتاج 2 / 304، كشاف القناع 2 / 32، نيل المآرب 1 / 56، الطحطاوي على مراقي الفلاح - دار الإيمان 277.
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 3 / 175 - ط المجلس العلمي بالهند.
(3) المراجع السابقة.
(4) الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 378(19/178)
(3) حُضُورُ جَمَاعَةٍ تَنْعَقِدُ بِهِمْ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِمْ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي حُضُورُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا سِوَى الإِْمَامِ - عَلَى الصَّحِيحِ (2) -
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ وُجُوبَ حُضُورِ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ أَهْلِهَا الْخُطْبَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرُوهُمَا مِنْ أَوَّلِهِمَا لَمْ يُكْتَفَ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُمَا مُنَزَّلَتَانِ مَنْزِلَةَ رَكْعَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ. (3)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ حُضُورِ أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْل وُجُوبِهَا.
فَلَوْ حَضَرَ الْعَدَدُ، ثُمَّ انْفَضُّوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ، وَبَقِيَ مَا دُونَ الأَْرْبَعِينَ، فَإِنِ انْفَضُّوا قَبْل افْتِتَاحِ الْخُطْبَةِ لَمْ يُبْتَدَأْ بِهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ أَرْبَعُونَ، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَائِهَا فَإِنَّ الرُّكْنَ الْمَأْتِيَّ بِهِ فِي غَيْبَتِهِمْ غَيْرُ مَحْسُوبٍ، فَإِنْ عَادُوا قَبْل طُول الْفَصْل بَنَى عَلَى خُطْبَتِهِ، وَبَعْدَ طُولِهِ يَسْتَأْنِفُهَا لِفَوَاتِ شَرْطِهَا وَهُوَ الْمُوَالاَةُ. (4) هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَفِي الْمَذَاهِبِ أَقْوَالٌ أُخْرَى يُنْظَرُ فِي الْمُطَوَّلاَتِ.
(4) رَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا، بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْعَدَدُ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) ابن عابدين 1 / 543، الطحطاوي على مراقي الفلاح 277
(3) الدسوقي 1 / 378، الشرح الصغير 1 / 499
(4) الروضة - المكتب الإسلامي 2 / 7، كشاف القناع 2 / 33(19/179)
الْمُعْتَبَرُ، إِنْ لَمْ يَعْرِضْ مَانِعٌ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الإِْنْصَاتِ عَلَى الْمُصَلِّينَ، فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ الْكَلاَمُ إِلاَّ لِلْخَطِيبِ أَوْ لِمَنْ يُكَلِّمُهُ الْخَطِيبُ، وَكَذَا لِتَحْذِيرِ إِنْسَانٍ مِنْ مَهْلَكَةٍ. (2) وَدَلِيلُهُمْ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} ، (3) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنْصِتْ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ. (4)
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ مُتَّفِقٌ مَعَ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، أَمَّا فِي الْجَدِيدِ فَإِنَّهُ لاَ يَجِبُ الإِْنْصَاتُ وَلاَ يَحْرُمُ الْكَلاَمُ، لِمَا صَحَّ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَال لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ: يَا رَسُول اللَّهِ هَلَكَ الْمَال وَجَاعَ الْعِيَال. . . (5)
__________
(1) مراقي الفلاح ص 278، وابن عابدين 1 / 543، والدسوقي 1 / 378، والشرح الصغير 1 / 499 ونهاية المحتاج 2 / 304 وأسنى المطالب 1 / 257، وكشاف القناع 2 / 32، ونيل المآرب 1 / 56
(2) بدائع الصنائع 1 / 263، ابن عابدين 2 / 366، الدسوقي 1 / 387، الشرح الصغير 1 / 509، كشاف القناع 2 / 47
(3) سورة الأعراف / 204
(4) حديث: " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 414 - ط السلفية) ومسلم (2 / 583 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(5) حديث: " أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، هلك. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 413 - ط السلفية) من حديث أنس.(19/179)
وَسَأَلَهُ آخَرُ عَنْ مَوْعِدِ السَّاعَةِ، (1) وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمَا وُجُوبَ السُّكُوتِ.
وَحَمَلُوا الأَْمْرَ عَلَى النَّدْبِ، وَالنَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ. (2)
(5) الْمُوَالاَةُ بَيْنَ أَرْكَانِ الْخُطْبَةِ، وَبَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّلاَةِ.
وَيُغْتَفَرُ يَسِيرُ الْفَصْل، هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَشْتَرِطُونَ أَنْ لاَ يَفْصِل بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلاَةِ بِأَكْلٍ أَوْ عَمَلٍ قَاطِعٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ قَاطِعًا كَمَا إِذَا تَذَكَّرَ فَائِتَةً وَهُوَ فِي الْجُمُعَةِ فَاشْتَغَل بِقَضَائِهَا أَوْ أَفْسَدَ الْجُمُعَةَ فَاحْتَاجَ إِلَى إِعَادَتِهَا، أَوِ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ فَلاَ تَبْطُل الْخُطْبَةُ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِعَمَلٍ قَاطِعٍ، وَلَكِنَّ الأَْوْلَى إِعَادَتُهَا، وَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ يَصِيرُ مُسِيئًا. (3)
(6) كَوْنُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، تَعَبُّدًا. لِلاِتِّبَاعِ، وَالْمُرَادُ أَنْ تَكُونَ أَرْكَانُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ؛ وَلأَِنَّهَا ذِكْرٌ مَفْرُوضٌ
__________
(1) حديث: " سؤال الأعرابي للرسول صلى الله عليه وسلم: عن موعد الساعة " أخرجه ابن خزيمة (3 / 149 - ط المكتب الاسلامي) ، من حديث أنس بن مالك. وإسناده صحيح.
(2) نهاية المحتاج 2 / 306، الروضة 2 / 28
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح 278، ابن عابدين 1 / 543، الدسوقي 1 / 378، الشرح الصغير 1 / 499، نهاية المحتاج 2 / 304، أسنى المطالب 1 / 257، كشاف القناع 2 / 32، نيل المآرب 1 / 56(19/180)
فَاشْتُرِطَ فِيهِ ذَلِكَ كَتَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، وَلَوْ كَانَ الْجَمَاعَةُ عَجَمًا لاَ يَعْرِفُونَ الْعَرَبِيَّةَ. وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: تَصِحُّ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ الْخَطِيبُ عَارِفًا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَوَافَقَ الصَّاحِبَانِ الْجُمْهُورَ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ إِلاَّ لِلْعَاجِزِ عَنْهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الإِْتْيَانِ بِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لاَ تَلْزَمُهُمُ الْجُمُعَةُ. (1)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْخَطِيبِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا مَعْنَى مَا يَقُول، فَلاَ يَكْفِي أَعْجَمِيٌّ لُقِّنَ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ - عَلَى الظَّاهِرِ - (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: عِنْدَ عَدَمِ مَنْ يَخْطُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ إِنْ أَمْكَنَ تَعَلُّمُ الْعَرَبِيَّةِ خُوطِبَ بِهِ الْجَمِيعُ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَإِنْ زَادُوا عَلَى الأَْرْبَعِينَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا عَصَوْا وَلاَ جُمُعَةَ لَهُمْ بَل يُصَلُّونَ الظُّهْرَ، وَأَجَابَ الْقَاضِي عَنْ سُؤَال مَا فَائِدَةُ الْخُطْبَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهَا الْقَوْمُ بِأَنَّ فَائِدَتَهَا الْعِلْمُ بِالْوَعْظِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. وَيُوَافِقُهُ قَوْل الشَّيْخَيْنِ فِيمَا إِذَا سَمِعُوا الْخُطْبَةَ وَلَمْ يَعْرِفُوا مَعْنَاهَا أَنَّهَا تَصِحُّ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَعَلُّمُهَا خَطَبَ وَاحِدٌ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) الدسوقي 1 / 378(19/180)
بِلُغَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا الْقَوْمُ، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ أَحَدٌ مِنْهُمُ التَّرْجَمَةَ فَلاَ جُمُعَةَ لَهُمْ لاِنْتِفَاءِ شَرْطِهَا. (1)
(7) النِّيَّةُ: اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ النِّيَّةَ لِصِحَّةِ الْخُطْبَةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ. (2) فَلَوْ حَمِدَ اللَّهَ لِعُطَاسِهِ أَوْ تَعَجُّبًا، أَوْ صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَخَطَبَ بِلاَ نِيَّةٍ فَلاَ تَصِحُّ. (3)
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ النِّيَّةَ لِصِحَّةِ الْخُطْبَةِ. (4)
وَهُنَاكَ أُمُورٌ شَرَطَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى سُنِّيَّتِهَا وَتَأْتِي فِي السُّنَنِ.
سُنَنُهَا:
10 - تَنْقَسِمُ هَذِهِ السُّنَنُ إِلَى سُنَنٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا وَأُخْرَى مُخْتَلَفٍ فِيهَا
أَمَّا السُّنَنُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا فَهِيَ:
(1) أَنْ تَكُونَ الْخُطْبَةُ عَلَى مِنْبَرٍ لإِِلْقَاءِ الْخُطْبَةِ، اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمِنْبَرُ عَلَى يَمِينِ الْمِحْرَابِ (بِالنِّسْبَةِ لِلْمُصَلِّي) ، لِلاِتِّبَاعِ.
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 304، الروضة 2 / 26
(2) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1515 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب.
(3) ابن عابدين 2 / 543، الطحاوى 277، كشاف القناع 2 / 33، نيل المآرب 1 / 56
(4) نهاية المحتاج 2 / 312، أسنى المطالب 1 / 259، الشرح الصغير 1 / 499(19/181)
فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرِ الْمِنْبَرُ فَعَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ؛ لأَِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الإِْعْلاَمِ. (1)
(2) الْجُلُوسُ عَلَى الْمِنْبَرِ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الْخُطْبَةِ، عَمَلاً بِالسُّنَّةِ. (2)
(3) اسْتِقْبَال الْخَطِيبِ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْقَوْمِ الإِْقْبَال بِوَجْهِهِمْ عَلَيْهِ، وَجَاءَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ اسْتَقْبَلَهُ أَصْحَابُهُ بِوُجُوهِهِمْ. (3)
(4) الأَْذَانُ بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ، إِذَا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَهَذَا الأَْذَانُ هُوَ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال إِنَّ الأَْذَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَانَ أَوَّلُهُ حِينَ يَجْلِسُ الإِْمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَلَمَّا كَانَ فِي خِلاَفَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَثُرُوا
__________
(1) الفتاوى الهندية - تركيا 1 / 147، الطحطاوي 280، القوانين الفقهية ص 80، جواهر الإكليل 1 / 96، المجموع - السلفية 4 / 527، المغني 2 / 296
(2) المراجع السابقة.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 146، الطحطاوي 280، الشرح الصغير 1 3، القوانين الفقهية 80، المجموع 4 / 528، المغني 2 / 303 وحديث: " كان إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم ". أخرجه ابن ماجه (1 / 360 - ط الحلبي) ، وقال البوصيري: " رجال إسناده ثقات، إلا أنه مرسل " ولكن ذكر له البيهقي في سننه (3 / 198 - ط دائرة المعارف العثمانية) شواهد تقويه.(19/181)
أَمَرَ عُثْمَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالأَْذَانِ الثَّالِثِ فَأَذَّنَ بِهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ، فَثَبَتَ الأَْمْرُ عَلَى ذَلِكَ. (1)
(5) رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْخُطْبَةِ زِيَادَةً عَلَى الْجَهْرِ الْوَاجِبِ السَّابِقِ بَيَانُهُ لأَِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الإِْعْلاَمِ، (2) لِقَوْل جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلاَ صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُول: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ. (3)
(6) تَقْصِيرُ الْخُطْبَتَيْنِ، وَكَوْنُ الثَّانِيَةِ أَقْصَرَ مِنَ الأُْولَى (4) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ طُول صَلاَةِ الرَّجُل، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلاَةَ، وَاقْصِرُوا الْخُطْبَةَ. (5)
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الْخُطْبَةُ فَصِيحَةً بَلِيغَةً مُرَتَّبَةً مَفْهُومَةً بِلاَ تَمْطِيطٍ وَلاَ تَقْعِيرٍ، وَلاَ تَكُونُ
__________
(1) الطحطاوي 280، العدوي على الرسالة 1 / 327، والمجموع 4 / 527، المغني 2 / 297 وحديث السائب بن يزيد: " أن الأذان يوم الجمعة. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 397 - ط السلفية) .
(2) الطحطاوي 281، الشرح الصغير 1 / 506، المجموع 4 / 528، المغني 2 / 308
(3) حديث: " كان إذا خطب احمرت عيناه. . . " أخرجه مسلم (2 / 592، ط الحلبي) .
(4) الطحطاوي 281، الشرح الصغير 1 6، المجموع 4 / 528، المغني 2 / 308
(5) حديث: " إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته. . . . " أخرجه مسلم (2 / 594 - ط الحلبي) من حديث عمار بن ياسر.(19/182)
أَلْفَاظًا مُبْتَذَلَةً مُلَفَّقَةً، حَتَّى تَقَعَ فِي النُّفُوسِ مَوْقِعَهَا. (1)
(7) أَنْ يَعْتَمِدَ الْخَطِيبُ عَلَى قَوْسٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ عَصًا، لِمَا رَوَى الْحَكَمُ بْنُ حَزْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: وَفَدْتُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . فَأَقَمْنَا أَيَّامًا شَهِدْنَا فِيهَا الْجُمُعَةَ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ كَلِمَاتٍ خَفِيفَاتٍ طَيِّبَاتٍ مُبَارَكَاتٍ. (2)
وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالُوا: يَتَّكِئُ عَلَى السَّيْفِ فِي كُل بَلْدَةٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً، لِيُرِيَهُمْ قُوَّةَ الإِْسْلاَمِ وَالْحَزْمَ، وَيَخْطُبُ بِدُونِهِ فِي كُل بَلْدَةٍ فُتِحَتْ صُلْحًا. (3)
11 - وَأَمَّا السُّنَنُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَهِيَ:
(1) الْقِيَامُ فِي الْخُطْبَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ، لِلاِتِّبَاعِ.
وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ. (4)
__________
(1) المجموع 4 / 528
(2) حديث: الحكم بن حزن: " وفدت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه أبو داود (1 / 658 - 659 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وإسناده حسن.
(3) الطحطاوي ص 280، الشرح الصغير 1 7، المجموع 4 / 528، المغني 2 / 309
(4) نهاية المحتاج 2 / 306، أسنى المطالب 1 / 257، الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 379، الشرح الصغير 1 / 499(19/182)
وَقَال الدَّرْدِيرُ: الأَْظْهَرُ أَنَّ الْقِيَامَ وَاجِبٌ غَيْرُ شَرْطٍ، فَإِنْ جَلَسَ أَثِمَ وَصَحَّتْ. (1)
فَإِنْ عَجَزَ خَطَبَ قَاعِدًا فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ خَطَبَ مُضْطَجِعًا كَالصَّلاَةِ، وَيَجُوزُ الاِقْتِدَاءُ بِهِ سَوَاءٌ أَقَال لاَ أَسْتَطِيعُ أَمْ سَكَتَ؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ لِعُذْرٍ.
وَالأَْوْلَى لِلْعَاجِزِ الاِسْتِنَابَةُ. (2)
وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَوْ قَعَدَ فِيهِمَا أَوْ فِي إِحْدَاهُمَا أَجْزَأَ، وَكُرِهَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. (3)
(2) الْجُلُوسُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ مُطْمَئِنًّا فِيهِ، لِلاِتِّبَاعِ.
وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. (4) وَشَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (5)
(3) الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ غَيْرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْمَكَانِ.
وَهِيَ لَيْسَتْ شَرْطًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ بَل هِيَ سُنَّةٌ.
وَهِيَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ (6) .
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 499
(2) نهاية المحتاج 2 / 306، أسنى المطالب 1 / 257
(3) الطحطاوي ص 280، المغني 2 / 303، كشاف القناع 2 / 36
(4) الطحطاوي 281، الشرح الصغير 1 / 503، كشاف القناع 2 / 36
(5) المراجع السابقة.
(6) حاشية الطحطاوى ص 280، ونهاية المحتاج 1 / 311، وأسنى المطالب 1 / 257 والشرح الصغير 1 / 511، والمغني 2 / 307، نيل المآرب 1 / 57(19/183)
قَال الشَّافِعِيَّةُ: فَلَوْ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ اسْتَأْنَفَهَا، وَإِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَقَصُرَ الْفَصْل؛ لأَِنَّهَا عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ فَلاَ تُؤَدَّى بِطَهَارَتَيْنِ كَالصَّلاَةِ، وَمِنْ ثَمَّ لَوْ أَحْدَث بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلاَةِ وَتَطَهَّرَ عَنْ قُرْبٍ لَمْ يَضُرَّ. (1)
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْخُطْبَتَيْنِ وَلَكِنَّ تَرْكَهَا مَكْرُوهٌ. (2)
(4) سَتْرُ الْعَوْرَةِ:
سَتْرُ الْعَوْرَةِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (3)
(5) السَّلاَمُ عَلَى النَّاسِ:
يُسَنُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يُسَلِّمَ الْخَطِيبُ عَلَى النَّاسِ مَرَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا حَال خُرُوجِهِ لِلْخُطْبَةِ (أَيْ مِنْ حُجْرَتِهِ أَوْ عِنْدَ دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ إِنْ كَانَ قَادِمًا مِنْ خَارِجِهِ) وَالأُْخْرَى، إِذَا وَصَل أَعْلَى الْمِنْبَرِ وَأَقْبَل عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ. (4)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ سَلاَمُهُ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ خُرُوجِهِ لِلْخُطْبَةِ فَقَطْ، وَلاَ يُسَلِّمُ
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 312
(2) الشرح الصغير 1 / 511
(3) المجموع 4 / 515، نهاية المحتاج 2 / 311، الطحطاوي ص 280، نيل المآرب 1 / 57 والقول بسنية ستر العورة إنما هو في حق صحة الخطبة أو عدمها، حيث إنهم متفقون على وجوب ستر العورة وحرمة كشفها لغير عذر.
(4) المجموع 4 / 527، المغني 2 / 296(19/183)
عَلَى الْمُصَلِّينَ عِنْدَ انْتِهَاءِ صُعُودِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَيْهِ، وَلاَ يَجِبُ رَدُّهُ؛ لأَِنَّهُ يُلْجِئُهُمْ إِلَى مَا نُهُوا عَنْهُ. (1)
6 - الْبَدَاءَةُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ الشَّهَادَتَيْنِ ثُمَّ الصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ، وَقِرَاءَةِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالدُّعَاءُ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، كَمَا يُنْدَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا خَتْمُهَا بِيَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ التَّرْتِيبُ بِأَنْ يَبْدَأَ بِالْحَمْدِ، ثُمَّ بِالثَّنَاءِ، ثُمَّ بِالصَّلاَةِ، ثُمَّ بِالْمَوْعِظَةِ، فَإِنْ نَكَسَ أَجْزَأَهُ لِحُصُول الْمَقْصُودِ. وَهَذَا التَّرْتِيبُ سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ. (3)
وَالدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلاَّ الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُ رُكْنٌ عِنْدَهُمْ. (4) وَقَدْ تَقَدَّمَ.
7 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِسُنِّيَّةِ حُضُورِ الْخَطِيبِ بَعْدَ دُخُول الْوَقْتِ، بِحَيْثُ يَشْرَعُ فِي الْخُطْبَةِ أَوَّل وُصُولِهِ إِلَى الْمِنْبَرِ لأَِنَّ هَذَا هُوَ الْمَنْقُول، وَلاَ يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ. (5)
__________
(1) الطحطاوي ص 283، وجواهر الإكليل 1 / 96، القوانين الفقهية 80
(2) الطحطاوي 281، الشرح الصغير 1 / 506
(3) كشاف القناع 2 / 33، المجموع 4 / 522، نهاية المحتاج 2 / 311
(4) كشاف القناع 2 / 37
(5) المجموع 4 / 529(19/184)
8 - أَنْ يَصْعَدَ الْخَطِيبُ الْمِنْبَرَ عَلَى تُؤَدَةٍ، وَأَنْ يَنْزِل مُسْرِعًا عِنْدَ قَوْل الْمُؤَذِّنِ قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ (1) .
مَكْرُوهَاتُهَا:
12 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ التَّطْوِيل مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِزَمَنٍ، فِي الشِّتَاءِ لِقِصَرِ الزَّمَانِ، وَفِي الصَّيْفِ لِلضَّرَرِ بِالزِّحَامِ وَالْحَرِّ، وَيُكْرَهُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ سُنَنِ الْخُطْبَةِ، وَإِذَا خَرَجَ الإِْمَامُ فَلاَ صَلاَةَ وَلاَ كَلاَمَ، إِلاَّ إِذَا تَذَكَّرَ فَائِتَةً وَلَوْ وِتْرًا، وَهُوَ صَاحِبُ تَرْتِيبٍ فَلاَ يُكْرَهُ الشُّرُوعُ فِيهَا حِينَئِذٍ، بَل يَجِبُ لِضَرُورَةِ صِحَّةِ الْجُمُعَةِ، وَيُكْرَهُ التَّسْبِيحُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ، إِلاَّ إِذَا أَمَرَ الْخَطِيبُ بِالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي سِرًّا إِحْرَازًا لِلْفَضِيلَتَيْنِ، وَيَحْمَدُ فِي نَفْسِهِ إِذَا عَطَسَ - عَلَى الصَّحِيحِ - وَيُكْرَهُ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَرَدُّ السَّلاَمِ؛ لاِشْتِغَالِهِ بِسَمَاعٍ وَاجِبٍ، وَيَجُوزُ إِنْذَارُ أَعْمَى وَغَيْرِهِ إِذَا خُشِيَ تَعَرُّضُهُ لِلْوُقُوعِ فِي هَلاَكٍ؛ لأَِنَّ حَقَّ الآْدَمِيِّ مُقَدَّمٌ عَلَى الإِْنْصَاتِ - حَقِّ اللَّهِ -
وَيُكْرَهُ لِحَاضِرِ الْخُطْبَةِ الأَْكْل وَالشُّرْبُ، وَقَال الْكَمَال: يَحْرُمُ الْكَلاَمُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْبِيحًا، وَالأَْكْل وَالشُّرْبُ وَالْكِتَابَةُ.
وَيُكْرَهُ الْعَبَثُ وَالاِلْتِفَاتُ، وَيُكْرَهُ تَخَطِّي
__________
(1) كشاف القناع 2 / 38(19/184)
رِقَابِ النَّاسِ إِذَا أَخَذَ الْخَطِيبُ بِالْخُطْبَةِ، وَلاَ بَأْسَ بِهِ قَبْل ذَلِكَ. (1)
13 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ تَخَطِّي الرِّقَابِ قَبْل جُلُوسِ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ لِغَيْرِ فُرْجَةٍ؛ لأَِنَّهُ يُؤْذِي الْجَالِسِينَ، وَأَنْ يَخْطُبَ الْخَطِيبُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، وَالتَّنَفُّل عِنْدَ الأَْذَانِ الأَْوَّل لِجَالِسٍ فِي الْمَسْجِدِ يُقْتَدَى بِهِ كَعَالِمٍ وَأَمِيرٍ، كَمَا يُكْرَهُ التَّنَفُّل بَعْدَ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ إِلَى أَنْ يَنْصَرِفَ النَّاسُ وَيَحْرُمُ الْكَلاَمُ مِنَ الْجَالِسِينَ حَال الْخُطْبَةِ وَبَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَسْمَعُوا الْخُطْبَةَ إِلاَّ أَنْ يَلْغُوَ الْخَطِيبُ فِي خُطْبَتِهِ، بِأَنْ يَأْتِيَ بِكَلاَمٍ سَاقِطٍ، فَيَجُوزَ الْكَلاَمُ حِينَئِذٍ، وَيَحْرُمَ السَّلاَمُ مِنَ الدَّاخِل أَوِ الْجَالِسِ عَلَى أَحَدٍ، وَكَذَا رَدُّهُ، وَلَوْ بِالإِْشَارَةِ وَيَحْرُمُ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَنَهْيٌ لاَغٍ، وَالإِْشَارَةُ لَهُ، وَالأَْكْل وَالشُّرْبُ، وَابْتِدَاءُ صَلاَةِ نَفْلٍ بَعْدَ خُرُوجِ الْخَطِيبِ لِلْخُطْبَةِ، وَلَوْ لِدَاخِلٍ. (2)
14 - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ فِي الْخُطْبَةِ أَشْيَاءُ مِنْهَا:
مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ جَهَلَةِ الْخُطَبَاءِ مِنَ الدَّقِّ عَلَى دَرَجِ الْمِنْبَرِ فِي صُعُودِهِ، وَالدُّعَاءِ إِذَا انْتَهَى صُعُودُهُ قَبْل جُلُوسِهِ، وَالاِلْتِفَاتِ فِي الْخُطْبَةِ، وَالْمُجَازَفَةِ فِي أَوْصَافِ السَّلاَطِينِ فِي الدُّعَاءِ لَهُمْ وَكَذِبِهِمْ فِي
__________
(1) الطحطاوي 281 - 283، الفتاوى الهندية 1 / 147
(2) الشرح الصغير 1 / 511 - 513، الزرقاني - دار الفكر 2 / 64(19/185)
كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي الإِْسْرَاعِ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَخَفْضِ الصَّوْتِ بِهَا، وَاسْتِدْبَارِ الْخَطِيبِ لِلْمُصَلِّينَ، وَهُوَ قَبِيحٌ خَارِجٌ عَنْ عُرْفِ الْخِطَابِ، وَالتَّقْعِيرِ وَالتَّمْطِيطِ فِي الْخُطْبَةِ، وَيُكْرَهُ شُرْبُ الْمَاءِ لِلْمُصَلِّينَ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ لِلتَّلَذُّذِ، وَلاَ بَأْسَ بِشُرْبِهِ لِلْعَطَشِ، وَيُكْرَهُ لِلدَّاخِل أَنْ يُسَلِّمَ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ، وَيَجِبُ الرَّدُّ عَلَيْهِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُسْتَمِعِ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ، وَيُكْرَهُ تَحْرِيمًا تَنَفُّلٌ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْحَاضِرِينَ بَعْدَ صُعُودِ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجُلُوسُهُ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي صَلاَةٍ تَخْفِيفُهَا عِنْدَ صُعُودِ الْخَطِيبِ الْمِنْبَرَ وَجُلُوسِهِ، وَيُكْرَهُ الأَْذَانُ جَمَاعَةً بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ (1) .
وَتُسْتَثْنَى التَّحِيَّةُ لِدَاخِل الْمَسْجِدِ وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَيُسَنُّ لَهُ فِعْلُهَا، وَيُخَفِّفُهَا وُجُوبًا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِْمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا (2) . (ر: تَحِيَّةٌ ف 5)
15 - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ الاِلْتِفَاتُ فِي الْخُطْبَةِ، وَاسْتِدْبَارُ النَّاسِ، وَيُكْرَهُ لِلإِْمَامِ رَفْعُ يَدَيْهِ حَال الدُّعَاءِ فِي الْخُطْبَةِ، وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يُشِيرَ بِأُصْبُعِهِ فِي دُعَائِهِ، وَيُكْرَهُ الدُّعَاءُ عَقِبَ صُعُودِهِ الْمِنْبَرَ،
__________
(1) المجموع 4 / 528، 529، نهاية المحتاج 2 / 309 - 315
(2) وحديث: " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما " أخرجه مسلم (2 / 597 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.(19/185)
وَيُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يُسْنِدَ ظَهْرَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَمَدُّ رِجْلَيْهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ قُدَّامَ بَعْضِ الْخُطَبَاءِ، وَابْتِدَاءُ تَطَوُّعٍ بِخُرُوجِ الْخَطِيبِ خَلاَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَلاَ يُمْنَعُ الدَّاخِل مِنْهَا، وَيُكْرَهُ الْعَبَثُ، وَشُرْبُ مَاءٍ عِنْدَ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ، مَا لَمْ يَشْتَدَّ عَطَشُهُ (1) .
ب - خُطْبَةُ الْعِيدَيْنِ:
حُكْمُهَا:
16 - خُطْبَتَا الْعِيدِ سُنَّةٌ لاَ يَجِبُ حُضُورُهُمَا وَلاَ اسْتِمَاعُهُمَا، (2) لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَال: شَهِدْتُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِيدَ فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ قَال: إِنَّا نَخْطُبُ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْلِسَ لِلْخُطْبَةِ فَلْيَجْلِسْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ فَلْيَذْهَبْ. (3)
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: الْخُطْبَةُ مِنْ سُنَّةِ الصَّلاَةِ، فَمَنْ شَهِدَ الصَّلاَةَ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ أَوْ لاَ تَلْزَمُهُ مِنْ صَبِيٍّ أَوِ امْرَأَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 36 - 38، الفروع 2 / 119 - 128
(2) ابن عابدين 1 / 561، الطحطاوي 292، التاج والإكليل 2 / 196، مواهب الجليل 2 / 196، الشرح الصغير 1 / 520، المجموع 5 / 22، نهاية المحتاج 2 / 380، المغني 2 / 384، كشاف القناع 2 / 55
(3) حديث عبد الله بن السائب: شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخرجه أبو داود (1 / 683 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 295 - دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(19/186)
حُضُورَ سُنَّتِهَا، كَطَوَافِ النَّفْل لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ رُكُوعَهُ (أَيْ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ) لأَِنَّهُ مِنْ سُنَّتِهِ. (1)
وَهِيَ كَخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ فِي صِفَتِهَا وَأَحْكَامِهَا، إِلاَّ فِيمَا يَلِي:
1 - أَنْ تُفْعَل بَعْدَ صَلاَةِ الْعِيدِ، لاَ قَبْلَهَا.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَخُطْبَتَا الْعِيدِ بَعْدَ الصَّلاَةِ لاَ نَعْلَمُ فِيهِ (أَيْ فِي كَوْنِهِمَا بَعْدَ الصَّلاَةِ) خِلاَفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. (2)
فَإِذَا خَطَبَ قَبْل الصَّلاَةِ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ وَقَدْ أَسَاءَ الْخَطِيبُ بِذَلِكَ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ أَنَّهَا لاَ تَصِحُّ، وَيُعِيدُهَا بَعْدَ الصَّلاَةِ. (3)
2 - وَيُسَنُّ افْتِتَاحُهَا بِالتَّكْبِيرِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَبِّرَ فِي أَثْنَائِهَا، بِخِلاَفِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ يَفْتَتِحُهَا بِالْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَفْتَتِحَ الأُْولَى بِتِسْعِ تَكْبِيرَاتٍ وَالثَّانِيَةَ بِسَبْعٍ، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لاَ حَدَّ لِذَلِكَ، فَإِنْ كَبَّرَ ثَلاَثًا أَوْ سَبْعًا أَوْ غَيْرَهَا، فَكُل ذَلِكَ حَسَنٌ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُبَيِّنَ فِي خُطْبَةِ الْفِطْرِ أَحْكَامَ زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَفِي الأَْضْحَى أَحْكَامَ الأُْضْحِيَّةِ (4)
__________
(1) التاج 2 / 196، مواهب الجليل 2 / 196
(2) المغني 2 / 384
(3) المراجع السابقة.
(4) المراجع السابقة.(19/186)
3 - أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - الْقِيَامُ، وَالطَّهَارَةُ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ. (1)
د - خُطْبَةُ الْكُسُوفِ:
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ خُطْبَةَ لِصَلاَةِ الْكُسُوفِ (2) ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالصَّلاَةِ دُونَ الْخُطْبَةِ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ وَعْظٌ بَعْدَهَا، يَشْتَمِل عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَى نَبِيِّهِ، لِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَلاَ يَكُونُ عَلَى طَرِيقَةِ الْخُطْبَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ خُطْبَةَ لِصَلاَةِ الْكُسُوفِ. (4)
وَيُنْدَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَخْطُبَ الإِْمَامُ بَعْدَ صَلاَةِ الْكُسُوفِ خُطْبَتَيْنِ كَخُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ فِي أَرْكَانِهِمَا وَسُنَنِهِمَا، وَلاَ تُعْتَبَرُ فِيهِمَا الشُّرُوطُ كَمَا فِي الْعِيدِ، وَاسْتَدَلُّوا بِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (5)
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 380
(2) الطحطاوي ص 298، كشاف القناع 2 / 62
(3) أخرج البخاري من حديث ابن مسعود مرفوعا بلفظ " إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد من الناس ولكنهما آيتان من آيات الله فإذا رأيتموهما فقوموا فصلوا " (فتح الباري 2 / 526 - ط السلفية) .
(4) الشرح الصغير 1 / 535
(5) حديث: " خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 533 - ط السلفية) من حديث عائشة(19/187)
وَلاَ تَصِحُّ الْخُطْبَةُ إِنْ قَدَّمَهَا عَلَى الصَّلاَةِ (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (كُسُوفٌ) .
د - خُطْبَةُ الاِسْتِسْقَاءِ:
18 - يُنْدَبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَخْطُبَ الإِْمَامُ بَعْدَ صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ خُطْبَةً كَخُطْبَةِ الْعِيدِ فِي الأَْرْكَانِ، وَالشُّرُوطِ، وَالسُّنَنِ، يَعِظُ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا وَيُخَوِّفُهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي، وَيَأْمُرُهُمْ بِالتَّوْبَةِ وَالإِْنَابَةِ وَالصَّدَقَةِ. (2)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يُصَلِّي جَمَاعَةً وَلاَ يَخْطُبُ. (3)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ الْخُطَبِ وَكَيْفِيَّتِهَا، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُمَا خُطْبَتَانِ كَخُطْبَتَيِ الْعِيدِ، لَكِنْ يَسْتَبْدِل بِالتَّكْبِيرِ الاِسْتِغْفَارَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ.
قَال الْحَنَابِلَةُ: يُكَبِّرُ فِي أَوَّلِهَا تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لاَ يُكَبِّرُ. (4)
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي (اسْتِسْقَاءٌ) .
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 397
(2) الشرح الصغير 1 / 539، نهاية المحتاج 2 / 412، كشاف القناع 2 / 69
(3) ابن عابدين 1 / 567
(4) المراجع السابقة.(19/187)
هـ - خُطَبُ الْحَجِّ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ الْخُطْبَةُ فِي الْحَجِّ، يُبَيِّنُ فِيهَا مَنَاسِكَ الْحَجِّ لِلنَّاسِ، وَذَلِكَ اقْتِدَاءٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْخُطَبِ الَّتِي يَخْطُبُهَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا ثَلاَثُ خُطَبٍ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا أَرْبَعٌ. (1)
1 - الْخُطْبَةُ الأُْولَى: يُسَنُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَدَا الْحَنَابِلَةِ أَنْ يَخْطُبَ الإِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ بِمَكَّةَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَيُسَمَّى بِيَوْمِ الزِّينَةِ، خُطْبَةً وَاحِدَةً لاَ يَجْلِسُ فِيهَا يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (2)
2 - الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: تُسَنُّ هَذِهِ الْخُطْبَةُ يَوْمَ عَرَفَةَ بِنَمِرَةَ، قَبْل أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ - جَمْعَ تَقْدِيمٍ - اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ مَا أَمَامَهُمْ مِنْ مَنَاسِكَ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الاِجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 172، الطحطاوي على الدر 1 / 501، القوانين الفقهية 132، مواهب الجليل 3 / 117، الروضة 3 / 93، الإيضاح - دار الكتب العلمية ص 90، المغني 3 / 407، 445، 456، كشاف القناع 2 / 491، 504، 511
(2) ابن عابدين 2 / 172، الطحطاوي على الدر 1 / 501، القوانين الفقهية 132، مواهب الجليل 3 / 117، الروضة 3 / 92، الإيضاح ص 90(19/188)
وَهِيَ خُطْبَتَانِ كَخُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ هِيَ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ. (1)
3 - الْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ: يُسَنُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَخْطُبَ الإِْمَامُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى، خُطْبَةً وَاحِدَةً يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهَا مَنَاسِكَهُمْ مِنَ النَّحْرِ وَالإِْفَاضَةِ وَالرَّمْيِ (2) ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ، يَعْنِي بِمِنًى.
(3) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ تَكُونُ يَوْمَ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، لاَ يَوْمَ النَّحْرِ؛ لأَِنَّهُ يَوْمُ اشْتِغَالٍ بِالْمَنَاسِكِ، يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ جَوَازَ الاِسْتِعْجَال لِمَنْ أَرَادَ، وَهِيَ الْخُطْبَةُ الأَْخِيرَةُ عِنْدَهُمْ. (4)
4 - الْخُطْبَةُ الرَّابِعَةُ: يُسَنُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَخْطُبَ
__________
(1) المراجع السابقة، والمغني 3 / 407، كشاف القناع 2 / 491
(2) الروضة 3 / 93، الإيضاح ص 90، المغني 3 / 445، كشاف القناع 2 4، ووافقهم من الحنفية صاحب مراقي الفلاح وغيره، انظر الطحطاوي على المراقي ص 399
(3) حديث: ابن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في الناس يوم النحر " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 573 - ط السلفية) .
(4) ابن عابدين 2 / 173، الطحطاوي على الدر 1 / 502، مواهب الجليل 3 / 117، والقوانين ص 132(19/188)
الإِْمَامُ بِمِنًى ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ خُطْبَةً وَاحِدَةً يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ جَوَازَ النَّفْرِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَيُوَدِّعُهُمْ (1) .
وَ - خُطْبَةُ النِّكَاحِ:
20 - يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْطُبَ الْعَاقِدُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْحَاضِرِينَ خُطْبَةً وَاحِدَةً، بَيْنَ يَدَيِ الْعَقْدِ، وَإِنْ خَطَبَ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَحْسَنُ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ خُطْبَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا قَبْل الْخِطْبَةِ، وَالأُْخْرَى قَبْل الْعَقْدِ. (2)
خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ
انْظُرْ: خُطْبَةٌ، صَلاَةُ الْجُمُعَةِ
__________
(1) الروضة 3 / 93، الإيضاح 90، المغني 3 / 456، كشاف القناع 3 / 511
(2) ابن عابدين 2 / 262، جواهر الإكليل 1 / 275، قليوبي وعميرة 3 / 215، كشاف القناع 5 / 21(19/189)
خُطْبَةُ الْحَاجَةِ
انْظُرْ: خُطْبَةٌ
خُطْبَةُ الْعِيدِ
انْظُرْ: خُطْبَةٌ، صَلاَةُ الْعِيدِ
خُطْبَةُ عَرَفَةَ
انْظُرْ: خُطْبَةٌ
خُطْبَةُ مِنًى
انْظُرْ: خُطْبَةٌ(19/189)
خِطْبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخِطْبَةُ - بِكَسْرِ الْخَاءِ - مَصْدَرُ خَطَبَ، يُقَال: خَطَبَ الْمَرْأَةَ خِطْبَةً وَخَطْبًا، وَاخْتَطَبَهَا، إِذَا طَلَبَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَاخْتَطَبَ الْقَوْمُ فُلاَنًا إِذَا دَعَوْهُ إِلَى تَزْوِيجِ صَاحِبَتِهِمْ. (1) وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
النِّكَاحُ:
2 - النِّكَاحُ مَصْدَرُ نَكَحَ، يُقَال: نَكَحَ فُلاَنٌ امْرَأَةً يَنْكِحُهَا إِذَا تَزَوَّجَهَا، وَنَكَحَهَا يَنْكِحُهَا: وَطِئَهَا أَيْضًا. (3)
__________
(1) القاموس المحيط 1 / 65، لسان العرب 1 / 855، الصحاح في اللغة والعلوم 1 / 353
(2) رد المحتار على الدر المختار 2 / 262، جواهر الإكليل 1 / 275، مواهب الجليل 3 / 407، نهاية المحتاج 6 / 197، حاشية الجمل 4 / 128، أسنى المطالب 3 / 115، مغني المحتاج 3 / 135، حاشية الشرقاوي 2 / 243، المغني 6 / 604
(3) لسان العرب 3 / 714 - 715(19/190)
وَاصْطِلاَحًا: عَقْدٌ يُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ قَصْدًا، بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ. (1) وَالْخِطْبَةُ مُقَدِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النِّكَاحِ.
وَسَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - الْخِطْبَةُ فِي الْغَالِبِ وَسِيلَةٌ لِلنِّكَاحِ، إِذْ لاَ يَخْلُو عَنْهَا فِي مُعْظَمِ الصُّوَرِ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ النِّكَاحِ فَلَوْ تَمَّ بِدُونِهَا كَانَ صَحِيحًا، وَحُكْمُهَا الإِْبَاحَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (2) أَنَّ الْخِطْبَةَ مُسْتَحَبَّةٌ لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ خَطَبَ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، وَخَطَبَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. (3)
أَوَّلاً: اخْتِلاَفُ حُكْمِ الْخِطْبَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى حَال الْمَرْأَةِ:
أ - خِطْبَةُ الْخَلِيَّةِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْخَلِيَّةَ مِنَ النِّكَاحِ
__________
(1) الدر المختار 2 / 258 - 259، حاشية البناني على شرح الزرقاني 3 / 161، حاشية القليوبي على شرح المنهاج 3 / 206، المغني 6 / 445
(2) نهاية المحتاج 6 / 198، أسنى المطالب 3 / 115، روضة الطالبين 7 / 30، حاشية الجمل 4 / 128
(3) حديث: " خطبة عائشة " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 123 - ط السلفية) ، وسيأتي نصه. " وخطبة حفصة بنت عمر ": أخرجه البخاري (الفتح 9 / 176 - ط السلفية) من حديث عمر بن الخطاب.(19/190)
وَالْعِدَّةِ وَالْخِطْبَةِ وَمَوَانِعِ النِّكَاحِ تَجُوزُ خِطْبَتُهَا تَصْرِيحًا وَتَعْرِيضًا.
وَأَمَّا الْمَنْكُوحَةُ، أَوِ الْمُعْتَدَّةُ، أَوِ الْمَخْطُوبَةُ، أَوِ الَّتِي قَامَ بِهَا مَانِعٌ مِنْ مَوَانِعِ النِّكَاحِ، فَلاَ تَجُوزُ خِطْبَتُهَا عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
خِطْبَةُ زَوْجَةِ الْغَيْرِ:
5 - لاَ تَجُوزُ خِطْبَةُ الْمَنْكُوحَةِ تَصْرِيحًا أَوْ تَعْرِيضًا؛ لأَِنَّ الْخِطْبَةَ مُقَدِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ، وَمَنْ كَانَتْ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ لاَ يَجُوزُ لِلْغَيْرِ أَنْ يَنْكِحَهَا فَلاَ تَصِحُّ خِطْبَتُهَا وَلاَ تَجُوزُ بَل تَحْرُمُ.
خِطْبَةُ مَنْ قَامَ بِهَا مَانِعٌ:
6 - لاَ تَجُوزُ خِطْبَةُ مَنْ قَامَ بِهَا مَانِعٌ مِنْ مَوَانِعِ النِّكَاحِ؛ لأَِنَّ الْخِطْبَةَ مُقَدِّمَةٌ إِلَى النِّكَاحِ، وَمَا دَامَ مَمْنُوعًا فَتَكُونُ الْخِطْبَةُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَحِل خِطْبَةُ نَحْوِ مَجُوسِيَّةٍ لِيَنْكِحَهَا إِذَا أَسْلَمَتْ (1) .
خِطْبَةُ الْمُعْتَدَّةِ:
7 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ خِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ بِاخْتِلاَفِ لَفْظِ الْخِطْبَةِ (تَصْرِيحًا كَانَ أَوْ تَعْرِيضًا) وَبِاخْتِلاَفِ حَالَةِ الْمُعْتَدَّةِ (رَجْعِيَّةً كَانَتْ أَوْ بَائِنًا بِطَلاَقٍ، أَوْ فَسْخٍ، أَوِ انْفِسَاخٍ، أَوْ مَوْتٍ، أَوْ مُعْتَدَّةٍ مِنْ شُبْهَةٍ) .
__________
( x661 ;) نهاية المحتاج 6 / 198(19/191)
التَّصْرِيحُ بِالْخِطْبَةِ:
8 - هُوَ مَا يَقْطَعُ بِالرَّغْبَةِ فِي النِّكَاحِ وَلاَ يَحْتَمِل غَيْرَهُ، كَقَوْل الْخَاطِبِ لِلْمُعْتَدَّةِ: أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ، أَوْ: إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُكِ تَزَوَّجْتُكِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّصْرِيحَ بِخِطْبَةِ مُعْتَدَّةِ الْغَيْرِ حَرَامٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ طَلاَقٍ رَجْعِيٍّ أَمْ بَائِنٍ، أَمْ وَفَاةٍ، أَمْ فَسْخٍ، أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ لِمَفْهُومِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (1) وَلأَِنَّ الْخَاطِبَ إِذَا صَرَّحَ بِالْخِطْبَةِ تَحَقَّقَتْ رَغْبَتُهُ فِيهَا فَرُبَّمَا تَكْذِبُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. (2) وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ. (3)
التَّعْرِيضُ بِالْخِطْبَةِ:
9 - قَال الْمَالِكِيَّةُ: التَّعْرِيضُ أَنْ يُضَمِّنَ كَلاَمَهُ
__________
(1) سورة البقرة / 235
(2) الدر المختار 2 / 619، جواهر الإكليل 1 / 276، روضة الطالبين 7 / 30، نهاية المحتاج 6 / 199، أسنى المطالب 3 / 115، كشاف القناع 5 / 18
(3) مغني المحتاج 3 / 135، الإقناع 2 / 76، أسنى المطالب 3 / 115، شرح المنهج 4 / 128، وحاشية الجمل، كشاف القناع 5 / 18(19/191)
مَا يَصْلُحُ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ وَغَيْرِهِ إِلاَّ أَنَّ إِشْعَارَهُ بِالْمَقْصُودِ أَتَمُّ، وَيُسَمَّى تَلْوِيحًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكِنَايَةِ أَنَّ التَّعْرِيضَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْكِنَايَةَ هِيَ التَّعْبِيرُ عَنِ الشَّيْءِ بِلاَزِمِهِ، كَقَوْلِنَا فِي كَرَمِ الشَّخْصِ: هُوَ طَوِيل النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ (1) .
وَعَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ التَّعْرِيضَ بِالْخِطْبَةِ بِأَنَّهُ: مَا يَحْتَمِل الرَّغْبَةَ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهَا كَقَوْلِهِ: وَرُبَّ رَاغِبٍ فِيكِ، وَمَنْ يَجِدُ مِثْلَكِ؟
وَقَالُوا: وَنَحْوُ الْكِنَايَةِ وَهِيَ الدَّلاَلَةُ عَلَى الشَّيْءِ بِذِكْرِ لاَزِمِهِ قَدْ يُفِيدُ مَا يُفِيدُهُ التَّصْرِيحُ كَأُرِيدُ أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكِ نَفَقَةَ الزَّوْجَاتِ وَتَحِلِّينَ لِي، وَقَدْ لاَ يُفِيدُ ذَلِكَ فَيَكُونُ تَعْرِيضًا كَذِكْرِ الْعِبَارَةِ السَّابِقَةِ " أُرِيدُ أَنْ أُنْفِقَ. . . إِلَخْ " مَا عَدَا " وَتَحِلِّينَ لِي ". (2)
وَفَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا التَّعْرِيضَ فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} (3) بِقَوْلِهِ: يَقُول: إِنِّي أُرِيدُ التَّزَوُّجَ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّهُ يُيَسَّرُ لِي امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ. (4)
__________
(1) مواهب الجليل 3 / 417
(2) أسنى المطالب 3 / 115، ونهاية المحتاج 6 / 199
(3) سورة البقرة / 235
(4) نيل الأوطار 6 / 123، وتفسير ابن عباس التعريض في قوله تعالي: " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء) . أخرجه البخاري (الفتح 9 / 178 - ط السلفية) .(19/192)
وَلَيْسَ حُكْمُ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ وَاحِدًا بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الْمُعْتَدَّاتِ، بَل إِنَّهُ مُخْتَلِفٌ بِالنَّظَرِ إِلَى حَالَةِ كُل مُعْتَدَّةٍ، رَجْعِيَّةً كَانَتْ أَوْ بَائِنًا بِطَلاَقٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ مَوْتٍ.
التَّعْرِيضُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّعْرِيضُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ لأَِنَّهَا فِي مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ لِعَوْدِهَا إِلَى النِّكَاحِ بِالرَّجْعَةِ، فَأَشْبَهَتِ الَّتِي فِي صُلْبِ النِّكَاحِ؛ وَلأَِنَّ نِكَاحَ الأَْوَّل قَائِمٌ؛ وَلأَِنَّهَا مَجْفُوَّةٌ بِالطَّلاَقِ فَقَدْ تَكْذِبُ انْتِقَامًا. (1)
التَّعْرِيضُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْرِيضُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، لِيُفْهَمَ مُرَادُ الْمُعَرِّضِ بِالْخِطْبَةِ لاَ لِيُجَابَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} (2) وَهِيَ وَارِدَةٌ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَلأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ مُتَأَيِّمٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَال: لَقَدْ عَلِمْتُ أَنِّي رَسُول اللَّهِ وَخِيرَتُهُ وَمَوْضِعِي مِنْ قَوْمِي. (3)
__________
(1) الاختيار 3 / 177، وجواهر الإكليل 1 / 276، ونهاية المحتاج 6 / 18 والإقناع 2 / 76
(2) البقرة / 235
(3) حديث: " لقد علمت أني رسول الله وخيرته ". أخرجه الدارقطني (3 / 224 - ط دار المحاسن) . وفي إسناده إرسال. كذا قال الشوكاني في " نيل الأوطار " (6 / 109 - ط العثمانية) .(19/192)
وَلاِنْقِطَاعِ سَلْطَنَةِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا مَعَ ضَعْفِ التَّعْرِيضِ. (1)
التَّعْرِيضُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ الْبَائِنِ:
12 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ - وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْرِيضُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ الْبَائِنِ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} (2) وَلِمَا رُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهَا لَمَّا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلاَثًا: إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي وَفِي لَفْظٍ لاَ تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ. وَفِي لَفْظٍ لاَ تَفُوتِينَا بِنَفْسِكِ (3) وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِخِطْبَتِهَا فِي عِدَّتِهَا، وَلاِنْقِطَاعِ سُلْطَةِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا. (4)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ
__________
(1) رد المحتار 2 / 619، مواهب الجليل 3 / 417، نهاية المحتاج 6 / 199، الجمل على شرح المنهج 4 / 128، مطالب أولي النهى 5 / 23
(2) سورة البقرة / 235
(3) حديث فاطمة بنت قيس: " إذا حللت فآذنيني ". أخرجه مسلم (2 / 1114 - ط الحلبي) . ولفظ: " لا تفوتينا نفسك ". أخرجه مسلم (2 / 1116 - ط الحلبي) ، ولفظ: " لا تسبقيني بنفسك " أخرجه مسلم (2 / 1116 - ط الحلبي) .
(4) جواهر الإكليل 1 / 276، نهاية المحتاج 6 / 199، المغني 6 / 608(19/193)
الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّعْرِيضُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ الْبَائِنِ لإِِفْضَائِهِ إِلَى عَدَاوَةِ الْمُطَلِّقِ (1) .
خِطْبَةُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ فَسْخٍ:
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّعْرِيضِ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَفَسْخٍ وَشَبَهِهِمَا، كَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ لِعَانٍ أَوْ رِدَّةٍ، أَوِ الْمُسْتَبْرَأَةِ مِنَ الزِّنَى، أَوِ التَّفْرِيقِ لِعَيْبٍ أَوْ عُنَّةٍ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ التَّعْرِيضِ لَهُنَّ أَخْذًا بِعُمُومِ الآْيَةِ وَقِيَاسًا عَلَى الْمُطَلَّقَةِ ثَلاَثًا، وَأَنَّ سُلْطَةَ الزَّوْجِ قَدِ انْقَطَعَتْ.
هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ صَاحِبِ الْعِدَّةِ الَّذِي يَحِل لَهُ نِكَاحُهَا فِيهَا، أَمَّا هُوَ فَيَحِل لَهُ التَّعْرِيضُ وَالتَّصْرِيحُ، وَأَمَّا مَنْ لاَ يَحِل لَهُ نِكَاحُهُ فِيهَا كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ أَوْ رَجْعِيًّا فَوَطِئَهَا أَجْنَبِيٌّ بِشُبْهَةٍ فِي الْعِدَّةِ فَحَمَلَتْ مِنْهُ، فَإِنَّ عِدَّةَ الْحَمْل تُقَدَّمُ، فَلاَ يَحِل لِصَاحِبِ عِدَّةِ الشُّبْهَةِ أَنْ يَخْطُبَهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا حِينَئِذٍ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِحَسَبِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي إِلَى عَدَاوَةِ الْمُطَلِّقِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَإِلاَّ فَلاَ. (2)
__________
(1) رد المحتار 2 / 619، ونهاية المحتاج 6 / 199
(2) مغني المحتاج 3 / 136، ومطالب أولي النهى 5 / 23، ومواهب الجليل 3 / 417، وحاشية الدسوقي 2 / 218، 219(19/193)
جَوَابُ الْخِطْبَةِ:
14 - حُكْمُ جَوَابِ الْمَرْأَةِ أَوْ وَلِيِّهَا لِلْخَاطِبِ كَحُكْمِ خِطْبَةِ هَذَا الْخَاطِبِ حِلًّا وَحُرْمَةً، فَيَحِل لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الْمُعْتَدَّةُ أَنْ تُجِيبَ مَنْ عَرَّضَ بِخُطْبَتِهَا بِتَعْرِيضٍ أَيْضًا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا وَعَلَى كُل مُعْتَدَّةٍ التَّصْرِيحُ بِالْجَوَابِ - لِغَيْرِ صَاحِبِ الْعِدَّةِ الَّذِي يَحِل لَهُ نِكَاحُهَا - وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي بَقِيَّةِ الْمُعْتَدَّاتِ فِي ضَوْءِ التَّفْصِيل السَّابِقِ. (1)
خِطْبَةُ الْمُحْرِمِ:
15 - يُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَخْطُبَ امْرَأَةً وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مُحْرِمَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ، كَمَا يُكْرَهُ أَنْ يَخْطُبَ غَيْرُ الْمُحْرِمِ الْمُحْرِمَةَ، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَرْفُوعًا: لاَ يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلاَ يُنْكَحُ وَلاَ يَخْطُبُ، (2) وَالْخِطْبَةُ تُرَادُ لِعَقْدِ النِّكَاحِ فَإِذَا كَانَ مُمْتَنِعًا كُرِهَ الاِشْتِغَال بِأَسْبَابِهِ؛ وَلأَِنَّهُ سَبَبٌ إِلَى الْحَرَامِ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْخِطْبَةُ حَال الإِْحْرَامِ (3) .
مَنْ تُخْطَبُ إِلَيْهِ الْمَرْأَةُ:
15 م - خِطْبَةُ الْمَرْأَةِ الْمُجْبَرَةِ تَكُونُ إِلَى وَلِيِّهَا، وَقَدْ
__________
(1) مواهب الجليل 3 / 417، نهاية المحتاج 6 / 199، الجمل 4 / 128، كشاف القناع 5 / 18
(2) حديث: " لا ينكح المحرم ولا ينكح " أخرجه مسلم (2 / 1030 - ط الحلبي) .
(3) أسنى المطالب 1 / 513، مطالب أولي النهى 2 / 345 - 347، المغني 3 / 333، فتح القدير 2 / 374(19/194)
رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَال لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: أَخِي فِي دِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَهِيَ لِي حَلاَلٌ (1) .
وَيَجُوزُ أَنْ تَخْطُبَ الْمَرْأَةُ الرَّشِيدَةُ إِلَى نَفْسِهَا (2) ، لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ. لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ أَرْسَل إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَخْطُبُنِي لَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ لِي بِنْتًا وَأَنَا غَيُورٌ، فَقَال: أَمَّا ابْنَتُهَا فَنَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا، وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَذْهُبَ بِالْغَيْرَةِ.
وَكَذَلِكَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى: إِنِّي امْرَأَةٌ غَيْرَى وَإِنِّي امْرَأَةٌ مُصْبِيَةٌ فَقَال: أَمَّا قَوْلُكِ: إِنِّي امْرَأَةٌ غَيْرَى فَسَأَدْعُو اللَّهَ لَكِ فَيُذْهِبُ غَيْرَتَكِ، وَأَمَّا قَوْلُكِ: إِنِّي امْرَأَةٌ مُصْبِيَةٌ فَسَتُكْفَيْنَ صِبْيَانَكِ. (3)
عَرْضُ الْوَلِيِّ مُوَلِّيَتَهُ عَلَى ذَوِي الصَّلاَحِ:
16 - يُسْتَحَبُّ لِلْوَلِيِّ عَرْضُ مُوَلِّيَتِهِ عَلَى ذَوِي الصَّلاَحِ وَالْفَضْل، كَمَا عَرَضَ الرَّجُل الصَّالِحُ
__________
(1) حديث عروة " أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب عائشة " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 123 - ط السلفية) .
(2) مطالب أولي النهى 5 / 25
(3) نيل الأوطار 6 / 121. وحديث أم سلمة: " لما مات أبو سلمة ". أخرجه مسلم (2 / 632 - ط الحلبي) والنسائي (6 / 81 - ط المكتبة التجارية) .(19/194)
إِحْدَى ابْنَتَيْهِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ} ، (1) وَكَمَا فَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ عَرَضَ ابْنَتَهُ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا عَلَى عُثْمَانَ، ثُمَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا (2) .
إِخْفَاءُ الْخِطْبَةِ:
17 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ إِخْفَاءُ الْخِطْبَةِ خِلاَفًا لِعَقْدِ النِّكَاحِ فَيُنْدَبُ - عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ بَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ - إِعْلاَنُهُ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ. (3)
ثَانِيًا: الْخِطْبَةُ عَلَى الْخِطْبَةِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخِطْبَةَ عَلَى الْخِطْبَةِ حَرَامٌ إِذَا حَصَل الرُّكُونُ إِلَى الْخَاطِبِ الأَْوَّل، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَخْطُبِ الرَّجُل عَلَى خِطْبَةِ الرَّجُل حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ أَوْ
__________
(1) سورة القصص / 27
(2) أسنى المطالب 3 / 118، كشاف القناع 5 / 20، رد المحتار 2 / 261، جواهر الإكليل 1 / 275، قليوبي 3 / 295، المغني 6 / 537
(3) حديث: " أعلنوا هذا النكاح ". أخرجه ابن حبان (الموارد - ص 313 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن الزبير وإسناده صحيح.(19/195)
يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ. (1) وَلأَِنَّ فِيهَا إِيذَاءً وَجَفَاءً وَخِيَانَةً وَإِفْسَادًا عَلَى الْخَاطِبِ الأَْوَّل، وَإِيقَاعًا لِلْعَدَاوَةِ بَيْنَ النَّاسِ.
وَحَكَى النَّوَوِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ لِلتَّحْرِيمِ (2) .
مَتَى تَحْرُمُ الْخِطْبَةُ عَلَى الْخِطْبَةِ؟
19 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلتَّحْرِيمِ أَنْ يَكُونَ الْخَاطِبُ الأَْوَّل قَدْ أُجِيبَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَلَمْ يَعْرِضْ وَلَمْ يَأْذَنْ لِلْخَاطِبِ الثَّانِي، وَعَلِمَ الْخَاطِبُ الثَّانِي بِخِطْبَةِ الأَْوَّل وَإِجَابَتِهِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي شُرُوطِ التَّحْرِيمِ، أَنْ تَكُونَ إِجَابَةُ الْخَاطِبِ الأَْوَّل صَرَاحَةً، وَخُطْبَتُهُ جَائِزَةٌ أَيْ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْخَاطِبُ الثَّانِي عَالِمًا بِحُرْمَةِ الْخِطْبَةِ عَلَى الْخِطْبَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ إِجَابَةَ الْخَاطِبِ الأَْوَّل تَعْرِيضًا تَكْفِي لِتَحْرِيمِ الْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَتِهِ وَلاَ يُشْتَرَطُ التَّصْرِيحُ بِالإِْجَابَةِ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ وَكَلاَمِ أَحْمَدَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِتَحْرِيمِ الْخِطْبَةِ عَلَى
__________
(1) حديث: " لا يخطب الرجل على خطبة الرجل ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 198 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمر.
(2) نيل الأوطار 6 / 121 - 122، فتح القدير 5 / 239، جواهر الإكليل 1 / 275، روضة الطالبين 7 / 31، المغني 6 / 607، رد المحتار 2 / 262.(19/195)
الْخِطْبَةِ رُكُونُ الْمَرْأَةِ الْمَخْطُوبَةِ أَوْ وَلِيِّهَا، وَوُقُوعُ الرِّضَا بِخِطْبَةِ الْخَاطِبِ الأَْوَّل غَيْرِ الْفَاسِقِ وَلَوْ لَمْ يُقَدَّرْ صَدَاقٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَمُقَابِلُهُ لاِبْنِ نَافِعٍ: لاَ تَحْرُمُ خِطْبَةُ الرَّاكِنَةِ قَبْل تَقْدِيرِ الصَّدَاقِ (1) .
وَسَيَأْتِي حُكْمُ خِطْبَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى خِطْبَةِ الْفَاسِقِ، أَوْ خِطْبَةِ الْكَافِرِ لِلذِّمِّيَّةِ.
مَنْ تُعْتَبَرُ إِجَابَتُهُ أَوْ رَدُّهُ:
20 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ رَدُّ الْوَلِيِّ وَإِجَابَتُهُ إِنْ كَانَتْ مُجْبَرَةً، وَإِلاَّ فَرَدُّهَا وَإِجَابَتُهَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْمُعْتَبَرُ رُكُونُ غَيْرِ الْمُجْبَرَةِ إِلَى الْخَاطِبِ الأَْوَّل، وَرُكُونُ الْمُجْبَرَةِ مُعَرِّضًا مُجْبِرُهَا بِالْخَاطِبِ وَلَوْ بِسُكُوتِهِ، وَعَلَيْهِ لاَ يُعْتَبَرُ رُكُونُ الْمُجْبَرَةِ مَعَ رَدِّ مُجْبِرِهَا، وَلاَ رَدُّهَا مَعَ رُكُونِهِ، وَلاَ يُعْتَبَرُ رُكُونُ أُمِّهَا أَوْ وَلِيِّهَا غَيْرِ الْمُجْبِرِ مَعَ رَدِّهَا لاَ مَعَ عَدَمِهِ فَيُعْتَبَرُ. (2)
خِطْبَةُ مَنْ لاَ تُعْلَمُ خِطْبَتُهَا أَوْ جَوَابُهَا:
21 - الْمَرْأَةُ الَّتِي لاَ يُعْلَمُ أَهِيَ مَخْطُوبَةٌ أَمْ لاَ، أُجِيبَ خَاطِبُهَا أَمْ رُدَّ، يَجُوزُ لِمَنْ لاَ يَعْلَمُ ذَلِكَ أَنْ يَخْطُبَهَا لأَِنَّ الأَْصْل الإِْبَاحَةُ، وَالْخَاطِبُ مَعْذُورٌ بِالْجَهْل. (3)
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 199، المغني 6 / 604 - 606 - 607، جواهر الإكليل 1 / 275
(2) الزرقاني 3 / 164، روضة الطالبين 7 / 31، المغني 6 / 606
(3) مواهب الجليل 3 / 411، روضة الطالبين 7 / 32، كشاف القناع 5 / 19(19/196)
الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ:
22 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخِطْبَةَ عَلَى خِطْبَةِ الْكَافِرِ الْمُحْتَرَمِ (غَيْرِ الْحَرْبِيِّ أَوِ الْمُرْتَدِّ) حَرَامٌ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ يَخْطُبَ ذِمِّيٌّ كِتَابِيَّةً وَيُجَابُ ثُمَّ يَخْطُبُهَا مُسْلِمٌ، لِمَا فِي الْخِطْبَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الإِْيذَاءِ لِلْخَاطِبِ الأَْوَّل، وَقَالُوا: إِنَّ ذِكْرَ لَفْظِ الأَْخِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ: لاَ يَخْطُبُ الرَّجُل عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ (1) . خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلاَ مَفْهُومَ لَهُ؛ وَلأَِنَّهُ أَسْرَعُ امْتِثَالاً.
وَلَيْسَ الْحَال فِي الْفَاسِقِ كَالْكَافِرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لأَِنَّ الْفَاسِقَ لاَ يُقَرُّ شَرْعًا عَلَى فِسْقِهِ، فَتَجُوزَ الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَتِهِ بِخِلاَفِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ فِي حَالَةٍ يُقَرُّ عَلَيْهَا بِالْجِزْيَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تَحْرُمُ الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ كَافِرٍ لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلأَِنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ، بِالْمُسْلِمِ وَإِلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ مِثْلَهُ، وَلَيْسَ الذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ، وَلاَ حُرْمَتُهُ كَحُرْمَتِهِ. (2)
الْعَقْدُ بَعْدَ الْخِطْبَةِ الْمُحَرَّمَةِ:
23 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى امْرَأَةٍ تَحْرُمُ خِطْبَتُهَا عَلَى الْعَاقِدِ كَالْخِطْبَةِ عَلَى الْخِطْبَةِ، وَكَالْخِطْبَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِي الْعِدَّةِ تَصْرِيحًا أَوْ تَعْرِيضًا.
__________
(1) حديث: " لا يخطب الرجل " تقدم تخريجه ف / 18
(2) الزرقاني 3 / 164، أسنى المطالب 3 / 115، مطالب أولي النهى 5 / 24(19/196)
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَى مَنْ تَحْرُمُ خِطْبَتُهَا - كَعَقْدِ الْخَاطِبِ الثَّانِي عَلَى الْمَخْطُوبَةِ، وَكَعَقْدِ الْخَاطِبِ فِي الْعِدَّةِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا - يَكُونُ صَحِيحًا مَعَ الْحُرْمَةِ؛ لأَِنَّ الْخِطْبَةَ الْمُحَرَّمَةَ لاَ تُقَارِنُ الْعَقْدَ فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ؛ وَلأَِنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ فَلاَ يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِوُقُوعِهَا غَيْرَ صَحِيحَةٍ. (1)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ عَقْدَ الْخَاطِبِ الثَّانِي عَلَى الْمَخْطُوبَةِ يُفْسَخُ حَال خِطْبَةِ الأَْوَّل بِطَلاَقٍ، وُجُوبًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهُ الْخَاطِبُ الأَْوَّل، وَظَاهِرُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الثَّانِي بِخِطْبَةِ الأَْوَّل، مَا لَمْ يُبَيِّنِ الثَّانِي حَيْثُ اسْتَمَرَّ الرُّكُونُ أَوْ كَانَ الرُّجُوعُ لأَِجْل خِطْبَةِ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهَا لَمْ يُفْسَخْ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا إِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الثَّانِي حَاكِمٌ يَرَاهُ وَإِلاَّ لَمْ يُفْسَخْ. (2)
وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ حِينَئِذٍ مُسْتَحَبٌّ لاَ وَاجِبٌ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ لِمَنْ صَرَّحَ لاِمْرَأَةٍ فِي عِدَّتِهَا بِالْخِطْبَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا يُنْدَبُ لَهُ فِرَاقُهَا. (3)
ثَالِثًا: نَظَرُ الْخَاطِبِ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ:
24 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ فَلَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ بَيْنَ
__________
(1) نيل الأوطار 6 / 122، كشاف القناع 5 / 18 - 19
(2) الزرقاني وحاشية البناني 3 / 164 - 165
(3) جواهر الإكليل 1 / 276، والزرقاني 3 / 167(19/197)
أَهْل الْعِلْمِ خِلاَفًا فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ لِمَنْ أَرَادَ نِكَاحَهَا، وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَل. (1)
قَال: فَخَطَبْتُ امْرَأَةً فَكُنْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا حَتَّى رَأَيْتُ مِنْهَا مَا دَعَانِي إِلَى نِكَاحِهَا فَتَزَوَّجْتُهَا. (2)
25 - لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ نَظَرِ الْخَاطِبِ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ هَذَا النَّظَرِ فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: يُنْدَبُ النَّظَرُ لِلأَْمْرِ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَعَ تَعْلِيلِهِ بِأَنَّهُ {أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَهُمَا أَيْ تَدُومُ الْمَوَدَّةُ وَالأُْلْفَةُ. فَقَدْ وَرَدَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: خَطَبْتُ امْرَأَةً فَقَال لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا؟ قُلْتُ: لاَ، قَال: فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا. (3)
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُبَاحُ لِمَنْ أَرَادَ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إِجَابَتُهُ نَظَرَ مَا يَظْهَرُ غَالِبًا.
__________
(1) حديث: " إذا خطب أحدكم المرأة " أخرجه أبو داود (2 / 565 - 566 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في الفتح (9 / 181 - ط السلفية) .
(2) المغني 6 / 552 - 553
(3) جواهر الإكليل 1 / 275، روضة الطالبين 7 / 19 - 20، نهاية المحتاج 6 / 183، كشاف القناع 5 / 80، رد المحتار على الدر المختار 2 / 262، 5 / 237، وحديث المغيرة بن شعبة: خطبت امرأة. أخرجه ابن ماجه (1 / 600 - ط الحلبي) وأحمد (4 / 246 - ط الميمنية) واللفظ له، وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " (1 / 328 - ط دار الحنان) : " إسناده صحيح ".(19/197)
قَال فِي " الإِْنْصَافِ ": وَيَجُوزُ لِمَنْ أَرَادَ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ النَّظَرُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَذَلِكَ لِوُرُودِ الأَْمْرِ بِالنَّظَرِ بَعْدَ الْحَظْرِ، فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ (1) .
نَظَرُ الْمَخْطُوبَةِ إِلَى خَاطِبِهَا:
26 - حُكْمُ نَظَرِ الْمَرْأَةِ الْمَخْطُوبَةِ إِلَى خَاطِبِهَا كَحُكْمِ نَظَرِهِ إِلَيْهَا لأَِنَّهُ يُعْجِبُهَا مِنْهُ مَا يُعْجِبُهُ مِنْهَا، بَل هِيَ - كَمَا قَال ابْنُ عَابِدِينَ - أَوْلَى مِنْهُ فِي ذَلِكَ لأَِنَّهُ يُمْكِنُهُ مُفَارَقَةَ مَنْ لاَ يَرْضَاهَا بِخِلاَفِهَا.
وَاشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لِمَشْرُوعِيَّةِ النَّظَرِ أَنْ يَكُونَ النَّاظِرُ إِلَى الْمَرْأَةِ مُرِيدًا نِكَاحَهَا، وَأَنْ يَرْجُوَ الإِْجَابَةَ رَجَاءً ظَاهِرًا، أَوْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُجَابُ إِلَى نِكَاحِهَا، أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الإِْجَابَةُ.
وَاكْتَفَى الْحَنَفِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ إِرَادَةِ نِكَاحِهَا فَقَطْ (2) .
الْعِلْمُ بِالنَّظَرِ وَالإِْذْنُ فِيهِ:
27 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ عِلْمُ
__________
(1) مطالب أولي النهى 5 / 11
(2) رد المحتار 5 / 237، مواهب الجليل 3 / 405، روضة الطالبين 7 / 20 نهاية المحتاج 6 / 183، كشاف القناع 5 / 10(19/198)
الْمَخْطُوبَةِ أَوْ إِذْنُهَا أَوْ إِذْنُ وَلِيِّهَا بِنَظَرِ الْخَاطِبِ إِلَيْهَا اكْتِفَاءً بِإِذْنِ الشَّارِعِ وَلإِِطْلاَقِ الأَْخْبَارِ، بَل قَال بَعْضُهُمْ: إِنَّ عَدَمَ ذَلِكَ أَوْلَى لأَِنَّهَا قَدْ تَتَزَيَّنُ لَهُ بِمَا يَغُرُّهُ، وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ السَّابِقِ وَفِيهِ إِطْلاَقُ الإِْذْنِ، وَقَدْ تَخَبَّأَ جَابِرٌ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي خَطَبَهَا حَتَّى رَأَى مِنْهَا مَا دَعَاهُ إِلَى نِكَاحِهَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: مَحَل نَدْبِ النَّظَرِ إِنْ كَانَ بِعِلْمٍ مِنْهَا إِنْ كَانَتْ رَشِيدَةً، وَإِلاَّ فَمِنْ وَلِيِّهَا، وَإِلاَّ كُرِهَ لِئَلاَّ يَتَطَرَّقَ الْفُسَّاقُ لِلنَّظَرِ لِلنِّسَاءِ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ خُطَّابٌ. (1)
أَمْنُ الْفِتْنَةِ وَالشَّهْوَةِ:
28 - لَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِمَشْرُوعِيَّةِ النَّظَرِ أَمْنَ الْفِتْنَةِ أَوِ الشَّهْوَةِ أَيْ ثَوَرَانِهَا بِالنَّظَرِ، بَل قَالُوا: يَنْظُرُ لِغَرَضِ التَّزَوُّجِ وَإِنْ خَافَ أَنْ يَشْتَهِيَهَا، أَوْ خَافَ الْفِتْنَةَ؛ لأَِنَّ الأَْحَادِيثَ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ لَمْ تُقَيِّدَ النَّظَرَ بِذَلِكَ. (2)
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ لإِِبَاحَةِ النَّظَرِ أَمْنَ الْفِتْنَةِ، وَأَمَّا النَّظَرُ بِقَصْدِ التَّلَذُّذِ أَوِ الشَّهْوَةِ فَهُوَ عَلَى أَصْل التَّحْرِيمِ. (3)
__________
(1) نهاية المحتاج 6 / 183، كشاف القناع 5 / 10، جواهر الإكليل 1 / 275، والحطاب 3 / 404
(2) رد المحتار 5 / 237، روضة الطالبين 7 / 20، جواهر الإكليل 1 / 275
(3) المغني 6 / 553(19/198)
مَا يُنْظَرُ مِنَ الْمَخْطُوبَةِ:
29 - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَا يُبَاحُ لِلْخَاطِبِ نَظَرُهُ مِنْ مَخْطُوبَتِهِ الْحُرَّةِ هُوَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ ظَاهِرُهُمَا وَبَاطِنُهُمَا إِلَى كُوعَيْهِمَا لِدَلاَلَةِ الْوَجْهِ عَلَى الْجَمَال، وَدَلاَلَةِ الْكَفَّيْنِ عَلَى خِصْبِ الْبَدَنِ، وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْقَدَمَيْنِ لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ حَتَّى فِي غَيْرِ الْخِطْبَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِيمَا يَنْظُرُ الْخَاطِبُ مِنَ الْمَخْطُوبَةِ، فَفِي " مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى " " وَكَشَّافِ الْقِنَاعِ " أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهَا غَالِبًا كَوَجْهٍ وَيَدٍ وَرَقَبَةٍ وَقَدَمٍ، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَذِنَ فِي النَّظَرِ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهَا، عُلِمَ أَنَّهُ أَذِنَ فِي النَّظَرِ إِلَى جَمِيعِ مَا يَظْهَرُ غَالِبًا، إِذْ لاَ يُمْكِنُ إِفْرَادُ الْوَجْهِ بِالنَّظَرِ مَعَ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ فِي الظُّهُورِ؛ وَلأَِنَّهُ يَظْهَرُ غَالِبًا فَأَشْبَهَ الْوَجْهَ.
وَفِي الْمُغْنِي: لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَهُوَ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ وَمَوْضِعُ النَّظَرِ، وَلاَ يُبَاحُ النَّظَرُ إِلَى مَا لاَ يَظْهَرُ عَادَةً.
أَمَّا مَا يَظْهَرُ غَالِبًا سِوَى الْوَجْهِ، كَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تُظْهِرُهُ الْمَرْأَةُ فِي مَنْزِلِهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ لِلْحَنَابِلَةِ.
إِحْدَاهُمَا: لاَ يُبَاحُ النَّظَرُ إِلَيْهِ لأَِنَّهُ عَوْرَةٌ، فَلَمْ يُبَحِ النَّظَرُ إِلَيْهِ كَالَّذِي لاَ يَظْهَرُ، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْمَرْأَةُ(19/199)
عَوْرَةٌ، (1) وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ تَنْدَفِعُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْوَجْهِ فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى التَّحْرِيمِ.
وَالثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْمَذْهَبُ، لِلْخَاطِبِ النَّظَرُ إِلَى ذَلِكَ، قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا مِنْ يَدٍ أَوْ جِسْمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَال أَبُو بَكْرٍ: لاَ بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا حَاسِرَةً. وَوَجْهُ جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَذِنَ فِي النَّظَرِ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهَا عُلِمَ أَنَّهُ أَذِنَ فِي النَّظَرِ إِلَى جَمِيعِ مَا يَظْهَرُ عَادَةً إِذْ لاَ يُمْكِنُ إِفْرَادُ الْوَجْهِ بِالنَّظَرِ مَعَ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ لَهُ فِي الظُّهُورِ، وَلأَِنَّهُ يَظْهَرُ غَالِبًا فَأُبِيحَ النَّظَرُ إِلَيْهِ كَالْوَجْهِ (2) ، وَلأَِنَّهَا امْرَأَةٌ أُبِيحَ النَّظَرُ إِلَيْهَا بِأَمْرِ الشَّارِعِ فَأُبِيحَ النَّظَرُ مِنْهَا إِلَى ذَلِكَ كَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ.
وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: يَنْظُرُ الْخَاطِبُ إِلَى مَوَاضِعِ اللَّحْمِ.
تَزَيُّنُ الْمَرْأَةِ الْخَلِيَّةِ وَتَعَرُّضُهَا لِلْخُطَّابِ:
30 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَحْلِيَةَ الْبَنَاتِ بِالْحُلِيِّ وَالْحُلَل لِيَرْغَبَ فِيهِنَّ الرِّجَال سُنَّةٌ. (3)
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ نَقَل الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ
__________
(1) حديث: " المرأة عورة " أخرجه الترمذي (3 / 467 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن غريب "
(2) رد المحتار 5 / 237، جواهر الإكليل 1 / 275، نهاية المحتاج 6 / 183، مطالب أولي النهى 5 / 11، كشاف القناع 5 / 10، المغني 6 / 553 - 554، نيل الأوطار 6 / 126، المواق 3 / 404
(3) البحر الرائق 3 / 78، وابن عابدين 2 / 262(19/199)
قَوْلُهُ: وَلَهَا (أَيْ لِلْمَرْأَةِ الْخَالِيَةِ مِنَ الأَْزْوَاجِ) أَنْ تَتَزَيَّنَ لِلنَّاظِرِينَ (أَيْ لِلْخُطَّابِ) ، بَل لَوْ قِيل بِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ مَا كَانَ بَعِيدًا، وَلَوْ قِيل إِنَّهُ يَجُوزُ لَهَا التَّعَرُّضُ لِمَنْ يَخْطُبُهَا إِذَا سَلِمَتْ نِيَّتُهَا فِي قَصْدِ النِّكَاحِ لَمْ يَبْعُدِ. انْتَهَى.
ثُمَّ قَال الْحَطَّابُ: هَل يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ نَظَرُ الرَّجُل؟ لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا لِلْمَالِكِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ اسْتِحْبَابُهُ وِفَاقًا لِلشَّافِعِيَّةِ، قَالُوا: يُسْتَحَبُّ لَهَا أَيْضًا أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَقَدْ قَال ابْنُ الْقَطَّانِ: إِذَا خَطَبَ الرَّجُل امْرَأَةً هَل يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْصِدَهَا مُتَعَرِّضًا لَهَا بِمَحَاسِنِهِ الَّتِي لاَ يَجُوزُ إِبْدَاؤُهَا إِلَيْهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مَخْطُوبَةً وَيَتَصَنَّعُ بِلُبْسِهِ، وَسِوَاكِهِ، وَمُكْحُلَتِهِ وَخِضَابِهِ، وَمَشْيِهِ، وَرِكْبَتِهِ، أَمْ لاَ يَجُوزُ لَهُ إِلاَّ مَا كَانَ جَائِزًا لِكُل امْرَأَةٍ؟ هُوَ مَوْضِعُ نَظَرٍ، وَالظَّاهِرُ جَوَازُهُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِي الْمَنْعِ إِجْمَاعٌ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ خَطَبَ وَلَكِنَّهُ يَتَعَرَّضُ لِنَفْسِهِ ذَلِكَ التَّعَرُّضَ لِلنِّسَاءِ فَلاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ تَعَرُّضٌ لِلْفِتَنِ وَتَعْرِيضٌ لَهَا، وَلَوْلاَ الظَّاهِرُ مَا أَمْكَنَ أَنْ يُقَال ذَلِكَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي لَمْ تُخْطَبْ عَلَى أَنَّا لَمْ نَجْزِمْ فِيهِ بِالْجَوَازِ. (1)
وَقَال ابْنُ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: قَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي كِتَابِ الاِسْتِغْنَاءِ فِي مَعْرِفَةِ اسْتِعْمَال الْحِنَّاءِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ اخْتَضِبْنَ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَخْتَضِبُ
__________
(1) مواهب الجليل 3 / 405(19/200)
لِزَوْجِهَا، وَإِنَّ الأَْيِّمَ تَخْتَضِبُ تُعَرَّضُ لِلرِّزْقِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل. (1)
وَقَدْ وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سُبَيْعَةَ الأَْسْلَمِيَّةِ كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ وَهُوَ فِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهِيَ حَامِلٌ فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَل عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِل بْنُ بَعْكَكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فَقَال لَهَا: مَا لِي أَرَاكِ مُتَجَمِّلَةً؟ لَعَلَّكِ تَرْجِينَ النِّكَاحَ. إِنَّكِ وَاللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ. قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَال لِي ذَلِكَ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إِنْ بَدَا لِي.} (2)
تَكْرِيرُ النَّظَرِ:
31 - لِلْخَاطِبِ أَنْ يُكَرِّرَ النَّظَرَ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ هَيْئَتُهَا فَلاَ يَنْدَمُ عَلَى نِكَاحِهَا،
__________
(1) الفروع 3 / 454 وحديث: " يا معشر النساء اختضبن، فإن المرأة تختضب لزوجها ". عزاه صاحب الفروع (3 / 454 - نشر عالم الكتب) إلي موسى المديني في " كتاب الاستغناء في معرفة استعمال الحناء " ولم نره في غيره.
(2) حديثه: " سبيعة الأسلمية ". أخرجه مسلم (2 / 1122 - ط الحلبي) .(19/200)
وَيَتَقَيَّدُ فِي ذَلِكَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَمِنْ ثَمَّ لَوِ اكْتَفَى بِنَظْرَةٍ حَرُمَ مَا زَادَ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّهُ نَظَرٌ أُبِيحَ لِحَاجَةٍ فَيَتَقَيَّدُ بِهَا.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ - عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - أَخَافَ الْخَاطِبُ الْفِتْنَةَ أَمْ لاَ. . كَمَا قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالرُّويَانِيُّ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: يُكَرِّرُ الْخَاطِبُ النَّظَرَ وَيَتَأَمَّل الْمَحَاسِنَ وَلَوْ بِلاَ إِذْنٍ، وَلَعَلَّهُ أَوْلَى، إِنْ أَمِنَ الشَّهْوَةَ أَيْ ثَوَرَانَهَا. (1)
مَسُّ مَا يَنْظُرُ:
32 - لاَ يَجُوزُ لِلْخَاطِبِ أَنْ يَمَسَّ وَجْهَ الْمَخْطُوبَةِ وَلاَ كَفَّيْهَا وَإِنْ أَمِنَ الشَّهْوَةَ؛ لِمَا فِي الْمَسِّ مِنْ زِيَادَةِ الْمُبَاشَرَةِ؛ وَلِوُجُودِ الْحُرْمَةِ وَانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ وَالْبَلْوَى. (2)
الْخَلْوَةُ بِالْمَخْطُوبَةِ:
33 - لاَ يَجُوزُ خَلْوَةُ الْخَاطِبِ بِالْمَخْطُوبَةِ لِلنَّظَرِ وَلاَ لِغَيْرِهِ لأَِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَلَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِغَيْرِ النَّظَرِ فَبَقِيَتْ عَلَى التَّحْرِيمِ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ مِنَ الْخَلْوَةِ الْوُقُوعُ فِي الْمَحْظُورِ. (3) فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَلاَ
__________
(1) رد المحتار 5 / 237، نهاية المحتاج 6 / 183، كشاف القناع 5 / 10.
(2) رد المحتار 5 / 237، جواهر الإكليل 1 / 275، أسنى المطالب 3 / 109.
(3) المغني 6 / 553.(19/201)
لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ. (1)
إِرْسَال مَنْ يَنْظُرُ الْمَخْطُوبَةَ:
34 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْخَاطِبِ أَنْ يُرْسِل امْرَأَةً لِتَنْظُرَ الْمَخْطُوبَةَ ثُمَّ تَصِفَهَا لَهُ وَلَوْ بِمَا لاَ يَحِل لَهُ نَظَرُهُ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فَيَسْتَفِيدَ بِالْبَعْثِ مَا لاَ يَسْتَفِيدُ بِنَظَرِهِ، وَهَذَا لِمَزِيدِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ مُسْتَثْنًى مِنْ حُرْمَةِ وَصْفِ امْرَأَةٍ لِرَجُلٍ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَل أُمَّ سُلَيْمٍ تَنْظُرُ إِلَى جَارِيَةٍ فَقَال: شُمِّي عَوَارِضَهَا وَانْظُرِي إِلَى عُرْقُوبِهَا. (2)
وَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ يُرْسَل لِلنَّظَرِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً أَوْ نَحْوَهَا مِمَّنْ يَحِل لَهُ نَظَرُهَا رَجُلاً كَانَ أَوِ امْرَأَةً كَأَخِيهَا، أَوْ مَسْمُوحٌ يُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ لِلْخَاطِبِ أَنْ يُرْسِل رَجُلاً. قَال الْحَطَّابُ: وَالظَّاهِرُ جَوَازُ النَّظَرِ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ عَلَى حَسَبِ مَا لِلْخَاطِبِ، وَيُنَزَّل مَنْزِلَتَهُ مَا لَمْ
__________
(1) حديث: " ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان ". أخرجه الترمذي (4 / 466 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب، وقال: " حسن صحيح ".
(2) حديث: " بعث أم سليم إلى جارية " أخرجه أحمد (3 / 231 - ط الميمنية) من حديث أنس بن مالك، وصوب البيهقي إرساله كما في التلخيص لابن حجر (3 / 147 - ط شركة الطباعة الفنية) .(19/201)
يَخَفْ مَفْسَدَةً مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا. (1)
مَا يَفْعَلُهُ الْخَاطِبُ إِنْ لَمْ تُعْجِبْهُ الْمَخْطُوبَةُ:
35 - إِذَا نَظَرَ الْخَاطِبُ إِلَى مَنْ يُرِيدُ نِكَاحَهَا فَلَمْ تُعْجِبْهُ فَلْيَسْكُتْ، وَلاَ يَقُل، لاَ أُرِيدُهَا؛ لأَِنَّهُ إِيذَاءٌ (2) .
رَابِعًا: ذِكْرُ عُيُوبِ الْخَاطِبِ:
36 - مَنِ اسْتُشِيرَ فِي خَاطِبٍ أَوْ مَخْطُوبَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ مَا فِيهِ مِنْ مَسَاوِئَ شَرْعِيَّةٍ أَوْ عُرْفِيَّةٍ وَلاَ يَكُونُ غِيبَةً مُحَرَّمَةً إِذَا قَصَدَ بِهِ النَّصِيحَةَ وَالتَّحْذِيرَ لاَ الإِْيذَاءَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا لَمَّا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَبَا جَهْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خَطَبَاهَا: أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلاَ يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لاَ مَال لَهُ (3) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْهُ، (4) وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) رد المحتار 5 / 237، مواهب الجليل 3 / 405، نهاية المحتاج 6 / 183، أسنى المطالب 3 / 109، كشاف القناع 5 / 10، حاشية الدسوقي 2 / 215.
(2) روضة الطالبين 7 / 21.
(3) حديث فاطمة بنت قيس: أخرجه مسلم (2 / 1114 - ط الحلبي) .
(4) حديث: " إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه " أخرجه أحمد (3 / 418 - 419 - ط الميمنية) من حديث أبي زيد، وأعله ابن حجر في التلخيص (3 / 254 - ط المكتب الإسلامي) إلا أنه ذكر له شواهد تقويه.(19/202)
أَنَّهُ قَال: الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ (1) وَقَال: الدِّينُ النَّصِيحَةُ (2) ، وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ أَنَّ أَخًا لِبِلاَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ امْرَأَةً فَقَالُوا: إِنْ يَحْضُرْ بِلاَلٌ زَوَّجْنَاكَ، فَحَضَرَ، فَقَال: أَنَا بِلاَلٌ وَهَذَا أَخِي، وَهُوَ امْرُؤٌ سَيِّئُ الْخُلُقِ وَالدِّينِ. قَال الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الإِْسْنَادِ.
وَمَنِ اسْتُشِيرَ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ فِي النِّكَاحِ بَيَّنَهُ، كَقَوْلِهِ: عِنْدِي شُحٌّ، وَخُلُقِي شَدِيدٌ وَنَحْوُهُمَا، لِعُمُومِ مَا سَبَقَ.
وَفَصَّل بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْل الْبَارِزِيِّ - مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - لَوِ اسْتُشِيرَ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ فِي النِّكَاحِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ فِيهِ وَجَبَ ذِكْرُهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يُقَلِّل الرَّغْبَةَ فِيهِ وَلاَ يُثْبِتُ الْخِيَارَ، كَسُوءِ الْخُلُقِ وَالشُّحِّ، اسْتُحِبَّ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ فِي الْحَال وَسَتْرُ نَفْسِهِ. (3)
خَامِسًا: الْخُطْبَةُ قَبْل الْخِطْبَةِ:
37 - يُنْدَبُ لِلْخَاطِبِ أَوْ نَائِبِهِ تَقْدِيمُ خُطْبَةٍ قَبْل الْخِطْبَةِ لِخَبَرِ: كُل أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ
__________
(1) حديث: " المستشار مؤتمن ". أخرجه الترمذي (4 / 585 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، وقال: " حسن صحيح ".
(2) حديث: " الدين النصيحة ". أخرجه مسلم (1 / 74 - ط الحلبي) من حديث تميم الداري.
(3) جواهر الإكليل 1 / 276، نهاية المحتاج 6 / 200، حاشية الجمل 4 / 130، كشاف القناع 5 / 11.(19/202)
بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ (1) أَيْ عَنِ الْبَرَكَةِ، فَيَبْدَأُ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ بِالصَّلاَةِ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يُوصِي بِالتَّقْوَى، ثُمَّ يَقُول: جِئْتُكُمْ خَاطِبًا كَرِيمَتَكُمْ، وَإِنْ كَانَ وَكِيلاً قَال: جَاءَكُمْ مُوَكِّلِي خَاطِبًا كَرِيمَتَكُمْ أَوْ فَتَاتَكُمْ، وَيَخْطُبُ الْوَلِيُّ أَوْ نَائِبُهُ كَذَلِكَ ثُمَّ يَقُول: لَسْتُ بِمَرْغُوبٍ عَنْكَ أَوْ نَحْوَهُ.
وَتَبَرَّكَ الأَْئِمَّةُ بِمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) عَلَّمَنَا خُطْبَةَ الْحَاجَةِ: إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِل لَهُ وَمَنْ يُضْلِل فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (3) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (4) إِلَى قَوْلِهِ: {رَقِيبًا} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا
__________
(1) حديث: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع " أخرجه ابن ماجه (1 / 610 - ط الحلبي) والدارقطني، (1 / 229 - ط دار المحاسن) من حديث أبي هريرة، وصوب الدارقطني إرساله.
(2) حديث عبد الله بن مسعود في خطبة النكاح، أخرجه أحمد (1 / 392 - 393 ط الميمنية) والحاكم (2 / 182 - 183 - ط دائرة المعارف العثمانية) وفي إسناده انقطاع ولكن له طرق أخرى تقويه.
(3) سورة آل عمران / 102.
(4) سورة النساء / 1.(19/203)
قَوْلاً سَدِيدًا} (1) إِلَى قَوْلِهِ {عَظِيمًا} ، وَكَانَ الْقَفَّال يَقُول بَعْدَهَا: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الأُْمُورَ كُلَّهَا بِيَدِ اللَّهِ، يَقْضِي فِيهَا مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، لاَ مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمَ وَلاَ مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّرَ، وَلاَ يَجْتَمِعُ اثْنَانِ وَلاَ يَتَفَرَّقَانِ إِلاَّ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ وَكِتَابٍ قَدْ سَبَقَ، وَإِنَّ مِمَّا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى وَقَدَّرَ أَنْ خَطَبَ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ فُلاَنَةَ بِنْتَ فُلاَنٍ. . أَقُول قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ أَجْمَعِينَ (2) .
سَادِسًا: الرُّجُوعُ عَنِ الْخِطْبَةِ:
38 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْخِطْبَةَ لَيْسَتْ بِعَقْدٍ شَرْعِيٍّ بَل هِيَ وَعْدٌ، وَإِنْ تَخَيَّل كَوْنَهَا عَقْدًا فَلَيْسَ بِلاَزِمٍ بَل جَائِزٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَلاَ يُكْرَهُ لِلْوَلِيِّ الرُّجُوعُ عَنِ الإِْجَابَةِ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ لِلْمَخْطُوبَةِ فِي ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ لَهَا وَهُوَ نَائِبٌ عَنْهَا فِي النَّظَرِ لَهَا، فَلاَ يُكْرَهُ لَهُ الرُّجُوعُ الَّذِي رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، كَمَا لَوْ سَاوَمَ فِي بَيْعِ دَارِهَا ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ الْمَصْلَحَةُ فِي تَرْكِهَا، وَلاَ يُكْرَهُ لَهَا أَيْضًا الرُّجُوعُ إِذَا كَرِهَتِ الْخَاطِبَ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ عُمْرِيٌّ يَدُومُ الضَّرَرُ فِيهِ، فَكَانَ لَهَا الاِحْتِيَاطُ لِنَفْسِهَا وَالنَّظَرُ فِي حَظِّهَا، وَإِنْ رَجَعَا عَنْ ذَلِكَ لِغَيْرِ غَرَضٍ كُرِهَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْلاَفِ الْوَعْدِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الْقَوْل، وَلَمْ يَحْرُمْ لأَِنَّ الْحَقَّ بَعْدُ لَمْ يَلْزَمْهُمَا، كَمَنْ سَامَ سِلْعَةً ثُمَّ بَدَا لَهُ أَلاَّ يَبِيعَهَا.
__________
(1) سورة الأحزاب / 70.
(2) جواهر الإكليل 1 / 275، نهاية المحتاج 6 / 202، أسنى المطالب 3 / 117.(19/203)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ. يُكْرَهُ لِمَنْ رَكَنَتْ لَهُ امْرَأَةٌ وَانْقَطَعَ عَنْهَا الْخُطَّابُ لِرُكُونِهَا إِلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَهَا (1) .
سَابِعًا: الرُّجُوعُ بِالْهَدِيَّةِ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ أَوِ النَّفَقَةِ عَلَيْهَا:
39 - إِذَا أَهْدَى الْخَاطِبُ إِلَى مَخْطُوبَتِهِ أَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا ثُمَّ لَمْ يَتِمَّ الزَّوَاجُ، فَفِي الرُّجُوعِ بِالْهَدِيَّةِ وَالنَّفَقَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا خَطَبَ بِنْتَ رَجُلٍ وَبَعَثَ إِلَيْهَا أَشْيَاءَ وَلَمْ يُزَوِّجْهَا أَبُوهَا فَمَا بَعَثَ لِلْمَهْرِ يَسْتَرِدُّ عَيْنَهُ قَائِمًا وَإِنْ تَغَيَّرَ بِالاِسْتِعْمَال، أَوْ بَدَلَهُ هَالِكًا لأَِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ وَلَمْ تَتِمَّ فَجَازَ الاِسْتِرْدَادُ، وَكَذَا يَسْتَرِدُّ مَا بَعَثَ هَدِيَّةً وَهُوَ قَائِمٌ دُونَ الْهَالِكِ وَالْمُسْتَهْلَكِ؛ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الْهِبَةِ، وَالْهَلاَكُ أَوِ الاِسْتِهْلاَكُ مَانِعٌ مِنَ الرُّجُوعِ بِهَا.
وَقَالُوا: لَوْ أَنْفَقَ رَجُلٌ عَلَى مُعْتَدَّةِ الْغَيْرِ - قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَلاَ شَكَّ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ مَخْطُوبَةٌ أَيْضًا - يَطْمَعُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ عِدَّتِهَا، إِنْ تَزَوَّجَتْهُ لاَ رُجُوعَ مُطْلَقًا، وَإِنْ أَبَتْ فَلَهُ الرُّجُوعُ إِنْ كَانَ دَفَعَ لَهَا، وَإِنْ أَكَلَتْ مَعَهُ فَلاَ رُجُوعَ مُطْلَقًا؛ لأَِنَّهُ إِبَاحَةٌ لاَ تَمْلِيكٌ، أَوْ لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ لاَ يُعْلَمُ قَدْرُهُ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ عِنْدَهُمْ أَقْوَالٌ أُخْرَى. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ الإِْهْدَاءُ لِلْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ أَوْ طَلاَقِ غَيْرِهِ الْبَائِنِ لاَ الإِْنْفَاقُ عَلَيْهَا فَيَحْرُمُ،
__________
(1) حاشية الجمل 4 / 129، المغني 6 / 607 - 608، مواهب الجليل 3 / 411.
(2) رد المحتار 2 / 364 - 366.(19/204)
فَإِنْ أَهْدَى لَهَا أَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ فَلاَ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ. (1) وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ خَطَبَ امْرَأَةً ثُمَّ أَنْفَقَ عَلَيْهَا نَفَقَةً لِيَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا أَنْفَقَهُ عَلَى مَنْ دَفَعَهُ لَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَأْكَلاً أَمْ مَشْرَبًا أَمْ حَلْوَى أَمْ حُلِيًّا، وَسَوَاءٌ رَجَعَ هُوَ أَمْ مُجِيبُهُ، أَمْ مَاتَ أَحَدُهُمَا؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا أَنْفَقَهُ لأَِجْل تَزَوُّجِهَا فَيَرْجِعُ بِهِ إِنْ بَقِيَ وَبِبَدَلِهِ إِنْ تَلِفَ.
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِقَصْدِ الْهَدِيَّةِ لاَ لأَِجْل تَزَوُّجِهِ بِهَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِي عَدَمِ الرُّجُوعِ.
وَقَالُوا: لَوْ دَفَعَ الْخَاطِبُ بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ أَوْ وَلِيِّهِ شَيْئًا مِنْ مَأْكُولٍ، أَوْ مَشْرُوبٍ، أَوْ مَلْبُوسٍ لِمَخْطُوبَتِهِ أَوْ وَلِيِّهَا، ثُمَّ حَصَل إِعْرَاضٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، أَوْ مَوْتٌ لَهُمَا، أَوْ لأَِحَدِهِمَا رَجَعَ الدَّافِعُ أَوْ وَارِثُهُ بِجَمِيعِ مَا دَفَعَهُ إِنْ كَانَ قَبْل الْعَقْدِ مُطْلَقًا، وَكَذَا بَعْدَهُ إِنْ طَلَّقَ قَبْل الدُّخُول أَوْ مَاتَ، لاَ إِنْ مَاتَتْ هِيَ، وَلاَ رُجُوعَ بَعْدَ الدُّخُول مُطْلَقًا. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: هَدِيَّةُ الزَّوْجِ لَيْسَتْ مِنَ الْمَهْرِ نَصًّا، فَمَا أَهْدَاهُ الزَّوْجُ مِنْ هَدِيَّةٍ قَبْل عَقْدٍ إِنْ وَعَدُوهُ بِأَنْ يُزَوِّجُوهُ وَلَمْ يَفُوا رَجَعَ بِهَا - قَالَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -: لأَِنَّهُ بَذَلَهَا فِي نَظِيرِ النِّكَاحِ وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ، وَإِنِ امْتَنَعَ هُوَ لاَ رُجُوعَ لَهُ.
وَمَا قَبَضَهُ بَعْضُ أَقَارِبِ الْمَرْأَةِ كَالَّذِي يُسَمُّونَهُ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 176.
(2) حاشية الجمل 4 / 129.(19/204)
مَأْكَلَةً بِسَبَبِ نِكَاحٍ، فَحُكْمُهُ كَمَهْرٍ فِيمَا يُقَرِّرُهُ وَيُسْقِطُهُ وَيُنَصِّفُهُ، وَيَكُونُ لَهَا وَلاَ يَمْلِكُ الْوَلِيُّ مِنْهُ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ تَهَبَهُ لَهُ بِشَرْطِهِ إِلاَّ الأَْبُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ. . وَمَحَل كَوْنِ حُكْمِ الْمَجْعُول مَأْكَلَةً كَمَهْرٍ حَيْثُ قَبَضَهُ أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ، أَمَّا قَبْل الْقَبْضِ فَلِلْخَاطِبِ الرُّجُوعُ بِمَا شَرَطَهُ لَهُمْ؛ لأَِنَّهُ تَبَرُّعٌ لَمْ يُقْبَضْ فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ.
وَلَوِ اتَّفَقَ الْخَاطِبُ مَعَ الْمَرْأَةِ وَوَلِيِّهَا عَلَى النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَأَعْطَى الْخَاطِبُ أَبَاهَا لأَِجْل ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ صَدَاقٍ فَمَاتَتْ قَبْل عَقْدٍ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ - قَالَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - لأَِنَّ عَدَمَ التَّمَامِ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهِمْ، وَعَلَى قِيَاسِ ذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْخَاطِبُ لاَ رُجُوعَ لِوَرَثَتِهِ.
وَتُرَدُّ الْهَدِيَّةُ عَلَى الزَّوْجِ فِي كُل فُرْقَةٍ اخْتِيَارِيَّةٍ مُسْقِطَةٍ لِلْمَهْرِ كَفَسْخِ الزَّوْجَةِ الْعَقْدَ لِفَقْدِ كَفَاءَةٍ أَوْ لِعَيْبٍ فِي الزَّوْجِ، وَنَحْوِهِ قَبْل الدُّخُول لِدَلاَلَةِ الْحَال أَنَّهُ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْعَقْدِ، فَإِذَا زَال مَلَكَ الرُّجُوعَ، كَهِبَةِ الثَّوَابِ.
قَال صَاحِبُ مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى: وَيُتَّجَهُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ هَدِيَّةٍ أَهْدَاهَا الْخَاطِبُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَهُوَ الَّذِي يُرَدُّ بِحُصُول الْفُرْقَةِ، أَمَّا مَا كَانَ قَدْ أُهْدِيَ قَبْل الْعَقْدِ فَلاَ يُرَدُّ؛ لأَِنَّهُ تَقَرَّرَ بِالْعَقْدِ. وَتَثْبُتُ الْهَدِيَّةُ لِلزَّوْجَةِ مَعَ فَسْخٍ لِلنِّكَاحِ مُقَرِّرٍ الصَّدَاقَ أَوْ لِنِصْفِهِ فَلاَ رُجُوعَ لَهُ؛ لأَِنَّ زَوَال الْعَقْدِ لَيْسَ مِنْ قِبَلِهَا. (1)
__________
(1) مطالب أولي النهى 2 / 214 - 215.(19/205)
خَطَرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَطَرُ بِفَتْحَتَيْنِ فِي اللُّغَةِ، الإِْشْرَافُ عَلَى الْهَلاَكِ وَخَوْفُ التَّلَفِ. وَيُقَال: هَذَا أَمْرٌ خَطَرٌ أَيْ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يُوجَدَ، وَأَنْ لاَ يُوجَدَ، وَيُطْلَقُ عَلَى السَّبَقِ الَّذِي يُتَرَاهَنُ عَلَيْهِ. وَالْمُخَاطَرَةُ، الْمُرَاهَنَةُ، وَخَاطَرْتُهُ عَلَى مَالٍ رَاهَنْتَهُ عَلَيْهِ وَزْنًا وَمَعْنًى. وَخَطَرُ الرَّجُل: قَدْرُهُ، وَمَنْزِلَتُهُ، فَيُقَال: رَجُلٌ خَطِيرٌ أَيْ ذُو شَأْنٍ. وَالْخَاطِرُ: هُوَ اسْمٌ لِمَا يَتَحَرَّكُ فِي الْقَلْبِ مِنْ رَأْيٍ أَوْ مَعْنًى، يُقَال: خَطَرَ بِبَالِي كَذَا، أَيْ وَقَعَ فِيهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْخَطَرُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَعْرِيضَ النَّفْسِ لِخَطَرِ الْهَلاَكِ حَرَامٌ؛ لأَِنَّ حِفْظَهَا مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2) .
__________
(1) تاج العروس والمصباح، والكليات، التعريفات للجرجاني مادة: " خطر ".
(2) سورة البقرة / 195.(19/205)
قَال الْخَازِنُ: كُل شَيْءٍ فِي عَاقِبَتِهِ هَلاَكٌ، فَهُوَ تَهْلُكَةٌ (1) . وَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (2)
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلاَسِل فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ الصُّبْحَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الاِغْتِسَال، وَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فَضَحِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُل شَيْئًا (3) .
وَيَتَعَلَّقُ بِالْخَطَرِ الرُّخَصُ الشَّرْعِيَّةُ، فَيُبَاحُ بِالْخَطَرِ أَكْل الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَأَكْل سَائِرِ النَّجَاسَاتِ وَالْخَبَائِثِ اضْطِرَارًا، وَإِسَاغَةُ الْغُصَّةِ بِالْخَمْرِ لِدَفْعِ الْخَطَرِ عَنِ النَّفْسِ، وَيَجِبُ قَطْعُ الْعُضْوِ الْمُتَآكِل إِذَا كَانَ فِي تَرْكِهِ خَطَرٌ عَلَى النَّفْسِ (4) (ر: ضَرَرٌ، مَشَقَّةٌ) .
__________
(1) تفسير الخازن 1 / 124.
(2) سورة النساء / 29.
(3) حديث عمرو بن العاص: " احتلمت في ليلة باردة ". أخرجه أبو داود (1 / 238 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وقواه ابن حجر في الفتح (1 / 454 - ط السلفية) .
(4) أسنى المطالب 4 / 191، كشاف القناع 3 / 45، البدائع 7 / 98.(19/206)
الْخَطَرُ الْمُؤَثِّرُ فِي إِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ أَوْ تَخْفِيفِهَا:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ عُمُومًا، وَأَنَّ الْمَشَقَّةَ إِذَا بَلَغَتْ حَدَّ الْخَطَرِ عَلَى النَّفْسِ وَالأَْطْرَافِ وَمَنَافِعُهَا تُوجِبُ التَّرْخِيصَ، وَالتَّخْفِيفَ. وَقَالُوا: إِنَّ حِفْظَ الْمُهَجِ وَالأَْطْرَافِ لإِِقَامَةِ مَصَالِحِ الدِّينِ أَوْلَى مِنْ تَعْرِيضِهَا لِلْفَوَاتِ فِي عِبَادَةٍ أَوْ عِبَادَاتٍ، يَفُوتُ بِهَا أَمْثَالُهَا (1) .
فَيَجِبُ التَّيَمُّمُ إِذَا كَانَ فِي اسْتِعْمَال الْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ وَالاِغْتِسَال مِنَ الْجَنَابَةِ خَطَرٌ عَلَى نَفْسٍ، أَوْ عُضْوٍ أَوْ مَنْفَعَتِهِ، أَوْ حَال بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ عَدُوٌّ، أَوْ سَبُعٌ؛ لأَِنَّ إِلْقَاءَ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ حَرَامٌ (2) . (ر: تَيَمُّمٌ، مَرَضٌ) .
وَيَسْقُطُ وُجُوبُ الْحَجِّ إِذَا كَانَ فِي السَّفَرِ خَطَرٌ عَلَى نَفْسٍ، أَوْ عُضْوٍ، أَوْ عِرْضٍ، أَوْ مَالٍ، كَمَا يَحْرُمُ رُكُوبُ الْبَحْرِ لأَِدَاءِ الْحَجِّ إِنْ غَلَبَ الْهَلاَكُ فِيهِ، أَوْ تَسَاوَى الْهَلاَكُ وَالسَّلاَمَةُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَطَرِ (ر: حَجٌّ) وَيَسْقُطُ الصَّوْمُ عَنِ الْمُرْضِعِ وَالْحَامِل، وَالْمَرِيضِ، إِذَا كَانَ فِي الصَّوْمِ خَطَرٌ عَلَى الْمُرْضِعِ وَالْحَامِل، أَوْ عَلَى الرَّضِيعِ وَالْجَنِينِ، أَوْ خَافَ الْمَرِيضُ الْمَوْتَ، أَوْ زِيَادَةَ الْمَرَضِ (ر: صَوْمٌ) .
__________
(1) الفروق 1 / 118، الأشباه والنظائر ص80 - 81، ط دار الكتب العلمية 1983.
(2) أسنى المطالب 1 / 76 - 80، بدائع الصنائع 1 / 47، حاشية الدسوقي 1 / 147 - 148.(19/206)
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1) وَفِي تَعْرِيضِ النَّفْسِ وَالأَْعْضَاءِ لِلْخَطَرِ، حَرَجٌ أَيُّ حَرَجٍ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (2) ، قَال: إِذَا كَانَ بِالرَّجُل الْجِرَاحَةُ فِي سَبِيل اللَّهِ، وَالْقُرُوحُ، فَيَخَافُ أَنْ يَمُوتَ إِنِ اغْتَسَل تَيَمَّمَ (3) .
وَعَنْ جَابِرٍ قَال: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلاً مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَل أَصْحَابَهُ فَقَال: هَل تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ. فَاغْتَسَل فَمَاتَ. فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَال: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلاَ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؟ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَال. إِنَّمَا يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِبَ (4) فَاعْتَبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ قَتْلاً، وَاللَّهُ يَقُول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (5) .
4 - وَيُسْتَثْنَى مِنْ قَوَاعِدِ دَرْءِ الْخَطَرِ، الْجِهَادُ، فَيَجُوزُ الْمُخَاطَرَةُ بِالنَّفْسِ فِيهِ؛ لأَِنَّهُ قُرِّرَ مَعَ
__________
(1) سورة الحج / 78.
(2) سورة المائدة / 6.
(3) سبل السلام 1 / 153 ط المكتبة التجارية.
(4) حديث: " قتلوه قتلهم الله ". أخرجه أبو داود (1 / 239 - 240 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والدارقطني (1 / 190 - ط دار المحاسن) ، وأعله الدارقطني.
(5) سورة النساء / 29.(19/207)
الْمَشَقَّةِ. وَمَا الْجِهَادُ إِلاَّ بَذْل الْوُسْعِ، وَالطَّاقَةِ بِالْقِتَال أَوِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْقِتَال، لِهَذَا حَرُمَ انْهِزَامُ مِائَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مِائَتَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ (1) فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (2) وَجَاءَ فِي الأَْثَرِ عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلٍ غَزَا فِي سَبِيل اللَّهِ، فَانْهَزَمَ - يَعْنِي أَصْحَابَهُ - فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ، فَرَجَعَ حَتَّى أُهْرِيقَ دَمُهُ، فَيَقُول اللَّهُ تَعَالَى لِمَلاَئِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي رَجَعَ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي، حَتَّى أُهْرِيقَ دَمُهُ (3) . (ر: جِهَادٌ) . وَيُسْتَثْنَى أَيْضًا دَفْعُ الصَّائِل عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْمَال أَوِ الْعِرْضِ (ر: صِيَالٌ) .
التَّعَرُّضُ لِلْخَطَرِ بِإِزَالَةِ غُدَّةٍ، أَوْ عُضْوٍ مُتَآكِلٍ:
5 - يَحْرُمُ عَلَى الشَّخْصِ قَطْعُ غُدَّةٍ أَوْ عُضْوٍ مُتَآكِلٍ، إِذَا كَانَ فِي الْقَطْعِ خَطَرٌ عَلَى النَّفْسِ، وَلَيْسَ فِي بَقَائِهِمَا خَطَرٌ أَوْ زَادَ خَطَرُ الْقَطْعِ، وَإِنْ كَانَتْ تَشِينُهُ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى هَلاَكِ نَفْسِهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي إِزَالَتِهَا خَطَرٌ فَلَهُ إِزَالَتُهَا، لإِِزَالَةِ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 98، 176، الأشباه والنظائر للسيوطي ص82، وأسنى المطالب 4 / 191، كشاف القناع 3 / 45.
(2) سورة الأنفال / 65.
(3) الأثر: " عجب ربنا من رجل غزا في سبيل الله ". أخرجه أبو داود (3 / 42 - 43 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 112 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعًا، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(19/207)
الشَّيْنِ. وَإِنْ تَسَاوَى الْخَطَرَانِ، أَوْ زَادَ خَطَرُ التَّرْكِ فَلَهُ قَطْعُهَا
وَإِنْ قَطَعَهُمَا أَجْنَبِيٌّ بِلاَ إِذْنٍ، فَمَاتَ الْمَقْطُوعُ مِنْهُ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَكَذَا السُّلْطَانُ لِتَعَدِّي كُلٍّ مِنْهُمَا بِذَلِكَ.
وَلِلأَْبِ وَالْجَدِّ قَطْعُ الْغُدَّةِ وَالْعُضْوِ الْمُتَآكِل، مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ مَعَ الْخَطَرِ فِي الْقَطْعِ إِنْ زَادَ خَطَرُ التَّرْكِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُمَا يَلِيَانِ صَوْنَ مَالِهِمَا عَنِ الضَّيَاعِ فَبَدَنُهُمَا أَوْلَى.
فَإِنْ تَسَاوَى الْخَطَرُ وَالسَّلاَمَةُ، أَوْ زَادَ خَطَرُ الْقَطْعِ، ضَمِنَا لِعَدَمِ جَوَازِ الْقَطْعِ (1) .
ر: (ضَمَانٌ، وَإِتْلاَفٌ) .
عُقُودُ الْمُخَاطَرَةِ:
6 - عُقُودُ الْمُخَاطَرَةِ هِيَ مَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَحُصُول الرِّبْحِ أَوْ عَدَمِهِ عَنْ طَرِيقِ ظُهُورِ رَقْمٍ مُعَيَّنٍ مَثَلاً، كَالرِّهَانِ وَالْقِمَارِ. وَنَحْوُهُمَا السَّبْقُ لَكِنَّهُ مَشْرُوعٌ بِشُرُوطٍ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِهِ.
__________
(1) أسنى المطالب 4 / 163، قليوبي 4 / 209، ابن عابدين 5 / 364.(19/208)
خَفَاءٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الْخَفَاءُ فِي اللُّغَةِ مِنْ خَفَيْتُ الشَّيْءَ أُخْفِيهِ إِذَا كَتَمْتَهُ أَوْ أَظْهَرْتَهُ، فَهُوَ مِنَ الأَْضْدَادِ، وَشَيْءٌ خَفِيٌّ: خَافٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى خَفَايَا، وَخَفِيَ عَلَيْهِ الأَْمْرُ يَخْفَى خَفَاءً، وَخَفِيَ الشَّيْءُ يَخْفَى خَفَاءً بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ.
وَبَعْضُهُمْ يَجْعَل حَرْفَ الصِّلَةِ فَارِقًا فَيَقُول: خَفِيَ عَلَيْهِ: إِذَا اسْتَتَرَ، وَخَفِيَ لَهُ: إِذَا ظَهَرَ (1) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ بِمَعْنَى الاِسْتِتَارِ وَعَدَمِ الظُّهُورِ، وَهُوَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ، يَكُونُ فِي الأَْلْفَاظِ الَّتِي يَخْفَى الْمُرَادُ مِنْهَا بِسَبَبٍ فِي الصِّيغَةِ أَوْ خَارِجٍ عَنْهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِشْتِبَاهُ:
2 - الاِشْتِبَاهُ: الاِلْتِبَاسُ، وَاشْتَبَهَتِ الأُْمُورُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير.
(2) البدائع 1 / 81 والجمل 3 / 308، والتلويح والتوضيح 1 / 126، وكشف الأسرار 1 / 52.(19/208)
وَتَشَابَهَتْ، الْتَبَسَتْ فَلَمْ تَتَمَيَّزْ وَلَمْ تَظْهَرْ، وَالْمُتَشَابِهَاتُ مِنَ الأُْمُورِ: الْمُشْكِلاَتُ. وَالْخَفَاءُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الاِشْتِبَاهِ إِمَّا لِتَعَدُّدِ الْمَعَانِي الْمُسْتَعْمَلَةِ لِلَّفْظِ، أَوْ لإِِجْمَال اللَّفْظِ وَاحْتِيَاجِهِ إِلَى الْبَيَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (1) .
ب - الْجَهْل وَالْجَهَالَةُ:
3 - الْجَهْل وَالْجَهَالَةُ: عَدَمُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ.
قَال الْجُرْجَانِيِّ: الْجَهْل هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى خِلاَفِ مَا هُوَ عَلَيْهِ.
وَخَفَاءُ الشَّيْءِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِمَّا الْجَهْل بِوُجُودِهِ أَصْلاً، كَمَنْ يُنْكِرُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ جَهْلاً مِنْهُ لِحَدَاثَةِ عَهْدِهِ بِالإِْسْلاَمِ، وَإِمَّا الْجَهْل بِمَكَانِ الشَّيْءِ، كَمَنْ عَلِمَ فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةً، وَخَفِيَ عَلَيْهِ مَكَانُهَا (2) .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَفَاءِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً: عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
4 - يُقَسِّمُ الأُْصُولِيُّونَ اللَّفْظَ بِاعْتِبَارِ خَفَاءِ الْمَعْنَى وَمَرَاتِبِ الْخَفَاءِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
الأَْوَّل: الْخَفِيُّ، وَهُوَ مَا اشْتَبَهَ مَعْنَاهُ وَخَفِيَ مُرَادُهُ (أَيِ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ) بِعَارِضٍ غَيْرِ الصِّيغَةِ،
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير والتلويح 1 / 127، وكشف الأسرار 1 / 54.
(2) لسان العرب والمصباح المنير والتعريفات للجرجاني، والمجموع 5 / 334، والبدائع 1 / 81.(19/209)
فَالْخَفَاءُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ، وَلَكِنَّهُ بِسَبَبٍ عَارِضٍ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1) فَلَفْظُ السَّارِقِ ظَاهِرٌ فِي كُل سَارِقٍ لَمْ يُعْرَفْ بِاسْمٍ آخَرَ، لَكِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلطَّرَّارِ الَّذِي يَسْرِقُ بِشَقِّ الثَّوْبِ، وَالنَّبَّاشِ فِيهِ نَوْعٌ مِنَ الْخَفَاءِ، لاِخْتِصَاصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِاسْمِ غَيْرِ السَّارِقِ.
وَإِزَالَةُ الْخَفَاءِ تَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ، وَبِالتَّأَمُّل يَظْهَرُ أَنَّ الْخَفَاءَ قَدْ يَكُونُ لِزِيَادَةٍ فِي الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ كَمَا فِي الطَّرَّارِ، فَإِنَّهُ سَارِقٌ كَامِلٌ يَأْخُذُ مِنْ حُضُورِ الْمَالِكِ، وَيَقِظَتِهِ فَلَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى السَّارِقِ؛ لأَِنَّ السَّارِقَ يَأْخُذُ عَلَى سَبِيل الْخُفْيَةِ، وَلِذَلِكَ يَأْخُذُ الطَّرَّارُ حُكْمَ السَّارِقِ فَيُقْطَعُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
وَقَدْ يَكُونُ الْخَفَاءُ لِنَقْصٍ فِي الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ كَمَا فِي النَّبَّاشِ الَّذِي يَسْرِقُ أَكْفَانَ الْمَوْتَى، فَفِيهِ شُبْهَةُ نُقْصَانِ الْحِرْزِ، وَعَدَمِ الْحَافِظِ لَهُ، وَلِذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ فَيُقْطَعُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ) ، وَلاَ يُقْطَعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
5 - الثَّانِي: الْمُشْكِل: وَهُوَ اسْمٌ لَمَّا يَشْتَبِهُ الْمُرَادُ مِنْهُ بِدُخُولِهِ فِي إِشْكَالِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يُعْرَفُ الْمُرَادُ مِنْهُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ يَتَمَيَّزُ بِهِ مِنْ سَائِرِ الأَْشْكَال.
وَقَال الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ الدَّبُّوسِيُّ: هُوَ الَّذِي
__________
(1) سورة المائدة / 38.(19/209)
أَشْكَل عَلَى السَّامِعِ طَرِيقُ الْوُصُول إِلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي، لِدِقَّةِ الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ لاَ بِعَارِضٍ.
فَالْخَفَاءُ فِي الْمُشْكِل إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ ذَاتِ اللَّفْظِ، وَلاَ يُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنْهُ ابْتِدَاءً إِلاَّ بِدَلِيلٍ مِنَ الْخَارِجِ، كَاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ وَلاَ مُعَيِّنَ لأَِحَدِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (1) فَلَفْظُ {أَنَّى} مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ لاِسْتِعْمَالِهِ كَأَيْنَ وَكَيْفَ، لَكِنْ بَعْدَ التَّأَمُّل وَالطَّلَبِ ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ (كَيْفَ) دُونَ (أَيْنَ) بِقَرِينَةِ الْحَرْثِ، وَدَلاَلَةُ تَحْرِيمِ الْقُرْبَانِ فِي الأَْذَى الْعَارِضِ، وَهُوَ الْحَيْضُ، فَإِنَّهُ فِي الأَْذَى اللاَّزِمِ أَوْلَى.
6 - الثَّالِثُ: الْمُجْمَل: وَهُوَ مَا خَفِيَ الْمُرَادُ مِنْهُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ خَفَاءً لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بِبَيَانِ الْمُجْمَل كَلَفْظِ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالرِّبَا. فَالسَّبِيل إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ مِنْهُ هُوَ بَيَانُ الشَّارِعِ، كَالصَّلاَةِ مَثَلاً فَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ الْمُرَادَ بِهَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (2) .
7 - الرَّابِعُ: الْمُتَشَابِهُ: وَهُوَ مَا خَفِيَ بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَلاَ يُرْجَى دَرْكُهُ أَصْلاً، كَالْمُقَطَّعَاتِ فِي أَوَائِل السُّوَرِ وَبَعْضِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
__________
(1) سورة البقرة / 223.
(2) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". أخرجه البخاري (الفتح 2 / 111 - ط السلفية) من حديث مالك بن الحويرث) .(19/210)
هَذَا، وَالْخَفِيُّ هُوَ أَدْنَى مَرَاتِبِ الْخَفَاءِ، وَحُكْمُهُ الطَّلَبُ، أَيِ الْفِكْرُ الْقَلِيل لِنَيْل الْمُرَادِ.
وَيَلِيهِ الْمُشْكِل فِي الْخَفَاءِ، وَحُكْمُهُ التَّكَلُّفُ وَالاِجْتِهَادُ فِي الْفِكْرِ.
وَيَلِيهِ الْمُجْمَل، وَحُكْمُهُ الاِسْتِفْسَارُ وَطَلَبُ الْبَيَانِ مِنَ الْمُجْمِل.
وَيَلِي ذَلِكَ الْمُتَشَابِهُ، وَهُوَ أَشَدُّ خَفَاءً وَحُكْمُهُ التَّوَقُّفُ وَالتَّسْلِيمُ وَالتَّفْوِيضُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. هَذَا حَسَبَ تَفْصِيل الْحَنَفِيَّةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَيَجْعَل ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ قَبِيل الْمُجْمَل (1) .
وَيُنْظَرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
ثَانِيًا: عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
أَثَرُ الْخَفَاءِ فِي سَمَاعِ الدَّعْوَى:
8 - يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى عَدَمُ وُقُوعِ التَّنَاقُضِ فِيهَا، لِذَلِكَ لاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى الَّتِي يَقَعُ فِيهَا التَّنَاقُضُ، إِلاَّ أَنَّ التَّنَاقُضَ يُغْتَفَرُ فِيمَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَفَاءِ، فَفِي الْمَادَّةِ (1655) مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: يُعْفَى التَّنَاقُضُ إِذَا ظَهَرَتْ مَعْذِرَةُ الْمُدَّعِي وَكَانَ مَحَل خَفَاءٍ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا أَفْتَى بِهِ فِي الْحَامِدِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ زَيْدٌ عَنْ وَرَثَةٍ بَالِغِينَ وَخَلَّفَ حِصَّةً مِنْ دَارٍ وَصَدَّقَ الْوَرَثَةُ أَنَّ بَقِيَّةَ الدَّارِ لِفُلاَنٍ وَفُلاَنٍ، ثُمَّ ظَهَرَ وَتَبَيَّنَ أَنَّ مُوَرِّثَهُمْ الْمَذْكُورَ اشْتَرَى بَقِيَّةَ
__________
(1) كشف الأسرار 1 / 52 - 55، والتلويح 1 / 126 - 127، والتقرير والتحبير 1 / 158 - 159.(19/210)
الدَّارِ مِنْ وَرَثَةِ فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ فِي حَال صِغَرِ الْمُصَدِّقِينَ وَأَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، تُسْمَعُ دَعْوَاهُمْ؛ لأَِنَّ هَذَا تَنَاقُضٌ فِي مَحَل الْخَفَاءِ فَيَكُونُ عَفْوًا.
وَمِنْ ذَلِكَ دَعْوَى النَّسَبِ، أَوِ الْحُرِّيَّةِ، أَوِ الطَّلاَقِ؛ لأَِنَّ النَّسَبَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ وَهُوَ الْعُلُوقُ مِنَ الْمُدَّعِي، إِذْ هُوَ مِمَّا يَغْلِبُ خَفَاؤُهُ عَلَى النَّاسِ، فَالتَّنَاقُضُ فِي مِثْلِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَالطَّلاَقُ يَنْفَرِدُ بِهِ الزَّوْجُ، وَالْحُرِّيَّةُ يَنْفَرِدُ بِهَا الْمَوْلَى.
وَمِنْ ذَلِكَ: الْمَدِينُ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ لَوْ بَرْهَنَ عَلَى إِبْرَاءِ الدَّائِنِ لَهُ.
وَالْمُخْتَلِعَةُ بَعْدَ أَدَاءِ بَدَل الْخُلْعِ لَوْ بَرْهَنَتْ عَلَى طَلاَقِ الزَّوْجِ قَبْل الْخُلْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَكَذَا كُل مَا كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَفَاءِ فَإِنَّهُ يُعْفَى فِيهِ عَنِ التَّنَاقُضِ (1) .
هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا أَفْتَى بِهِ فِي الْحَامِدِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل الأَْكْثَرِينَ مِنْ فُقَهَاءِ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الأُْصُول وَالدَّيْنِ فَتُقْبَل الْبَيِّنَةُ فِي الأُْصُول، وَلاَ تُقْبَل فِي الدَّيْنِ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُقْبَل لِلْعُذْرِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ لاَ تُقْبَل لِلْمُنَاقَضَةِ.
__________
(1) المادة (1655) من مجلة الأحكام وشرحها للأتاسي 5 / 144، 145، ودرر الحكام 4 / 228، وتنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 29 - 30، 175 والزيلعي وهامشه 4 / 99 - 100، والبدائع 6 / 224.(19/211)
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلاَ تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ عِنْدَهُمْ بَعْدَ الإِْنْكَارِ. أَمَّا إِنْ قَال: مَا أَعْلَمُ لِي بَيِّنَةً، ثُمَّ أَتَى بِبَيِّنَةٍ، سُمِعَتْ، لأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يَعْلَمْهَا ثُمَّ عَلِمَهَا (1) .
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (دَعْوَى) .
خَفَاءُ النَّجَاسَةِ:
9 - طَهَارَةُ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ، وَإِذَا أَصَابَتِ النَّجَاسَةُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ إِزَالَتُهَا بِغَسْل الْجُزْءِ الَّذِي أَصَابَتْهُ النَّجَاسَةُ، وَهَذَا إِذَا عُلِمَ مَكَانُهُ.
أَمَّا إِذَا خَفِيَ مَوْضِعُ النَّجَاسَةِ وَلَمْ يُعْلَمْ فِي أَيِّ جُزْءٍ هِيَ، فَبِالنِّسْبَةِ لِلثَّوْبِ وَالْبَدَنِ يَجِبُ غَسْل الثَّوْبِ كُلِّهِ أَوِ الْبَدَنِ كُلِّهِ.
وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلَهُمْ أَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ لِلْمَانِعِ مِنَ الصَّلاَةِ، وَالنَّضْحُ لاَ يُزِيل النَّجَاسَةَ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا غَسَل مَوْضِعًا مِنَ الثَّوْبِ يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبَاقِي، قَال الْكَاسَانِيُّ: وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لأَِنَّ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ، وَهَذَا الْقَوْل (وَهُوَ غَسْل مَوْضِعٍ مِنَ الثَّوْبِ) حَكَاهُ
__________
(1) الحطاب 5 / 223، والفروق للقرافي 4 / 38، والتبصرة بهامش فتح العلي المالك 2 / 55 - 56، ونهاية المحتاج 8 / 250، وقليوبي 4 / 305، وشرح منتهى الإرادات 3 / 493، والمغني 9 / 236 - 237، 269.(19/211)
صَاحِبُ الْبَيَانِ وَجْهًا عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ يَشُكُّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي نَجَاسَتِهِ وَالأَْصْل طَهَارَتُهُ، قَال النَّوَوِيُّ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لأَِنَّهُ تَيَقَّنَ النَّجَاسَةَ فِي هَذَا الثَّوْبِ وَشَكَّ فِي زَوَالِهَا (1) .
وَقَال عَطَاءٌ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ: إِذَا خَفِيَتِ النَّجَاسَةُ فِي الثَّوْبِ، نَضَحَهُ كُلَّهُ، وَقَال ابْنُ شُبْرُمَةَ: يَتَحَرَّى مَكَانَ النَّجَاسَةِ فَيَغْسِلُهُ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَعَلَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ سَهْل بْنِ حُنَيْفٍ فِي الْمَذْيِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ كَيْفَ بِمَا يُصِيبُ ثَوْبِي مِنْهُ؟ قَال: يَكْفِيكَ أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضَحَ بِهِ ثَوْبَكَ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ أَصَابَ مِنْهُ (2) . فَأَمَرَهُ بِالتَّحَرِّي وَالنَّضْحِ (3) .
10 - وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَكَانِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ فِي مَكَانٍ صَغِيرٍ كَمُصَلَّى صَغِيرٍ وَبَيْتٍ، وَخَفِيَ مَكَانُهَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ حَتَّى يَغْسِلَهُ كُلَّهُ، إِذِ الأَْصْل بَقَاءُ النَّجَاسَةِ مَا بَقِيَ جُزْءٌ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَكَانُ وَاسِعًا كَالْفَضَاءِ الْوَاسِعِ وَالصَّحْرَاءِ لاَ يَجِبُ غَسْلُهُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَشُقُّ عَلَيْهِ، وَيُصَلِّي حَيْثُ
__________
(1) ناقش ابن قدامة هذا الاستدلال في المغني (2 / 85) .
(2) حديث سهل بن حنيف: " يكفيك أن تأخذ كفًا من ماء. . " أخرجه الترمذي (1 / 197 - 198 ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(3) البدائع 1 / 81، والدسوقي 1 / 78 - 79، والمجموع 3 / 137 تحقيق المطيعي.(19/212)
شَاءَ؛ لأَِنَّهُ لَوْ مُنِعَ مِنَ الصَّلاَةِ أَفْضَى إِلَى أَنْ لاَ يَجِدَ مَوْضِعًا يُصَلِّي فِيهِ، وَلاَ يَجِبُ الاِجْتِهَادُ بَل يُسَنُّ كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ، قَالُوا: وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ بِلاَ اجْتِهَادٍ (1) .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ فِي الأَْرْضِ الَّتِي أَصَابَتْهَا النَّجَاسَةُ وَلَمْ يُعْلَمْ مَكَانُهَا: قَوْلٌ بِالْغَسْل حَكَاهُ ابْنُ عَرَفَةَ اتِّفَاقًا، وَقَوْلٌ بِالنَّضْحِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمَكَانِ الضَّيِّقِ وَالأَْرْضِ الْوَاسِعَةِ (2) .
وَلَمْ نَطَّلِعْ لِلْحَنَفِيَّةِ عَلَى حُكْمٍ فِي ذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الأَْرْضَ تَطْهُرُ بِالْجَفَافِ وَتَجُوزُ الصَّلاَةُ عَلَيْهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كُنْتُ أَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ فِي عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنْتُ فَتًى شَابًّا عَزَبًا وَكَانَتِ الْكِلاَبُ تَبُول وَتُقْبِل وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ (3) .
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: فَلَوْلاَ اعْتِبَارُهَا تَطْهُرُ بِالْجَفَافِ كَانَ ذَلِكَ تَبْقِيَةً لَهَا بِوَصْفِ النَّجَاسَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ عَلَيْهَا فِي الصَّلاَةِ إِذْ لاَ بُدَّ مِنْهُ مَعَ صِغَرِ الْمَسْجِدِ وَعَدَمِ مَنْ يَتَخَلَّفُ لِلصَّلاَةِ فِي بَيْتِهِ، وَكَوْنِ ذَلِكَ يَكُونُ فِي بِقَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ،
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 189، والمغني 2 / 86، وكشاف القناع 1 / 189.
(2) الدسوقي 1 / 82.
(3) حديث عبد الله بن عمر: " كنت أبيت في المسجد ". أخرجه أبو داود (1 / 265 - 266 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.(19/212)
لاَ فِي بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ، حَيْثُ كَانَتْ تُقْبِل وَتُدْبِرُ وَتَبُول (1) .
وَلَوْ أَصَابَتِ النَّجَاسَةُ أَحَدَ الْكُمَّيْنِ فِي الثَّوْبِ وَلَمْ يُعْلَمْ فِي أَيِّ كُمٍّ هِيَ وَجَبَ غَسْلُهُمَا جَمِيعًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ.
وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَتَحَرَّى مِنَ الْكُمَّيْنِ أَحَدُهُمَا فَيَغْسِلُهُ، كَالثَّوْبَيْنِ إِذَا تَنَجَّسَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَعْلَمْهُ، لَكِنَّ مَحَل الْخِلاَفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا اتَّسَعَ الْوَقْتُ لِغَسْل الْكُمَّيْنِ وَوُجِدَ مِنَ الْمَاءِ مَا يَغْسِلُهُمَا مَعًا، فَإِنْ لَمْ يَسَعِ الْوَقْتُ إِلاَّ غَسْل وَاحِدٍ، أَوْ لَمْ يَجِدْ مِنَ الْمَاءِ إِلاَّ مَا يَغْسِل وَاحِدًا، تَحَرَّى وَاحِدًا يَغْسِلُهُ فَقَطِ اتِّفَاقًا، ثُمَّ يَغْسِل الثَّانِيَ بَعْدَ الصَّلاَةِ إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ، أَوْ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَسَعِ الْوَقْتُ غَسْل وَاحِدٍ أَوْ لَمْ يَسَعِ التَّحَرِّيَ صَلَّى بِدُونِ غَسْلٍ، لأَِنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْوَقْتِ أَوْلَى مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ مِنَ الْخَبَثِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَتَحَرَّى لأَِنَّهُمَا عَيْنَانِ مُتَمَيِّزَتَانِ فَهُمَا كَالثَّوْبَيْنِ. قَالَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 1 / 174 - 175، ط دار إحياء التراث العربي والزيلعي 1 / 72.
(2) البدائع 1 / 81، والدسوقي 1 / 81 - 82، والمهذب 1 / 32 وكشاف القناع 1 / 45.(19/213)
وَمَا مَضَى مِنَ الْحُكْمِ فِي خَفَاءِ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ أَوِ الْبَدَنِ، أَوِ الْمَكَانِ، هُوَ مَعَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ النَّجَاسَةِ وَخَفَاءِ مَوْضِعِهَا مِنَ الثَّوْبِ، أَوِ الْبَدَنِ، أَوِ الْمَكَانِ، فَإِنْ شَكَّ فِي وُجُودِ النَّجَاسَةِ مَعَ تَيَقُّنِ سَبْقِ الطَّهَارَةِ جَازَتِ الصَّلاَةُ دُونَ غَسْلٍ، لأَِنَّ الشَّكَّ لاَ يَرْفَعُ الْيَقِينَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الشَّكِّ فِي نَجَاسَةِ الْبَدَنِ وَنَجَاسَةِ غَيْرِهِ مِنْ ثَوْبٍ، أَوْ حَصِيرٍ مَثَلاً، فَيُوجِبُونَ غَسْل الْبَدَنِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَفْسُدُ بِذَلِكَ وَيُوجِبُونَ نَضْحَ الثَّوْبِ وَالْحَصِيرِ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَفْسُدُ بِذَلِكَ، وَإِنْ غَسَل فَقَدْ فَعَل الأَْحْوَطَ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (1) .
خَفَاءُ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ:
11 - مِنَ الْخِيَارَاتِ الْمَعْرُوفَةِ خِيَارُ الْعَيْبِ، أَوْ خِيَارُ النَّقِيصَةِ كَمَا يُسَمِّيهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ خِيَارٌ يُثْبِتُ لِلْمُشْتَرِي حَقَّ الرَّدِّ عِنْدَ ظُهُورِ عَيْبٍ مُعْتَبَرٍ فِي الْمَبِيعِ إِذَا تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ الَّتِي حَدَّدَهَا الْفُقَهَاءُ؛ لأَِنَّ سَلاَمَةَ الْمَبِيعِ شَرْطٌ فِي الْعَقْدِ دَلاَلَةً.
وَمِنَ الْعُيُوبِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ كَالْعَمَى وَالأُْصْبُعِ الزَّائِدَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَفِيٌّ كَوَجَعِ الْكَبِدِ وَالطِّحَال وَالإِْبَاقِ وَالسَّرِقَةِ، وَالْعُيُوبُ الْخَفِيَّةُ
__________
(1) البدائع 1 / 81، والدسوقي 1 / 81 - 82، والمهذب 1 / 32 وكشاف القناع 1 / 45.(19/213)
كَالظَّاهِرَةِ فِي إِثْبَاتِ حَقِّ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ، كَجَهْل الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ، وَأَلاَّ يَكُونَ الْبَائِعُ قَدِ اشْتَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْعَيْبِ وَثُبُوتِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي. إِلَخْ. مَعَ مُرَاعَاةِ تَفْصِيل الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ (1) .
وَمِمَّا يُعْتَبَرُ مِنَ الْعُيُوبِ الْخَفِيَّةِ الْعَيْبُ الَّذِي يَكُونُ فِي جَوْفِ الْمَأْكُول كَالْبِطِّيخِ، وَالْجَوْزِ، وَالْبَيْضِ وَلاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِكَسْرِهِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَكَسَرَهُ فَوَجَدَهُ فَاسِدًا، فَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلَوْ عَلَفًا لِلدَّوَابِّ، فَلَهُ أَرْشُ الْعَيْبِ، إِلاَّ إِذَا رَضِيَ الْبَائِعُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَصْلاً رَجَعَ بِكُل الثَّمَنِ لِبُطْلاَنِ الْبَيْعِ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِذَا كَانَ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ كَبَيْضِ النَّعَامِ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُرَدُّ الْبَيْعُ بِظُهُورِ عَيْبٍ بَاطِنٍ لاَ يُطَّلَعُ عَلَيْهِ إِلاَّ بِتَغَيُّرٍ فِي ذَاتِهِ حَيَوَانًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، كَغِشِّ بَطْنِ الْحَيَوَانِ، وَسُوسِ الْخَشَبِ، وَفَسَادِ بَطْنِ الْجَوْزِ، وَالْبُنْدُقِ، وَالتِّينِ، وَمَرَارَةِ الْخِيَارِ، وَبَيَاضِ الْبِطِّيخِ، وَلاَ قِيمَةَ لِمَا اشْتَرَاهُ،
__________
(1) البدائع 5 / 275 - 276، 278 - 279، وابن عابدين 4 / 73 - 74، 87 - 88، وفتح القدير والكفاية عليه 6 / 4 - 5، 25، 28، والدسوقي 3 / 108، 110، وجواهر الإكليل 2 / 39 - 40 - 41 - 43، وبداية المجتهد 2 / 183، ومغني المحتاج 2 / 50، وما بعدها، والمهذب 1 / 293، والمغني 4 / 169، وشرح منتهى الإرادات 2 / 175.(19/214)
وَيُرَدُّ الْبَيْضُ لِظُهُورِ عَيْبِهِ لأَِنَّهُ يُطَّلَعُ عَلَيْهِ بِدُونِ كَسْرِهِ لأَِنَّهُ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ قَبْل كَسْرِهِ، فَإِنْ كَسَرَهُ الْمُشْتَرِي رَدَّهُ مَكْسُورًا وَرَجَعَ بِجَمِيعِ ثَمَنِهِ، وَهَذَا إِذَا كَسَرَهُ بِحَضْرَةِ بَائِعِهِ، فَإِنْ كَسَرَهُ بَعْدَ أَيَّامٍ فَلاَ يَرُدُّهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَفَسَدَ عِنْدَ الْبَائِعِ أَمْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ فِيمَا لاَ يُرَدُّ كَعَيْبِ وُجُودِ السُّوسِ فِي الْخَشَبِ وَفَسَادِ بَطْنِ الْجَوْزِ: لاَ يُرَدُّ إِنْ كَانَ مِنْ أَصْل الْخِلْقَةِ، وَيُرَدُّ إِنْ كَانَ طَارِئًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَا لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ كَبَيْضِ النَّعَامِ يُرَدُّ وَلاَ أَرْشَ فِي الأَْظْهَرِ، وَالثَّانِي يُرَدُّ وَلَكِنْ يُرَدُّ مَعَهُ الأَْرْشُ، وَالثَّالِثُ لاَ يُرَدُّ أَصْلاً كَمَا فِي سَائِرِ الْعُيُوبِ الْحَادِثَةِ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ الْعَيْبِ أَوْ يَغْرَمُ أَرْشَ الْحَادِثَةِ، أَمَّا مَا لاَ قِيمَةَ لَهُ فَيَتَعَيَّنُ فِيهِ فَسَادُ الْبَيْعِ لِوُرُودِهِ عَلَى غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَسَرَ الْمُشْتَرِي مَا لَيْسَ لِمَكْسُورِهِ قِيمَةٌ، كَبَيْضِ الدَّجَاجِ، رَجَعَ بِثَمَنِهِ لِتَبَيُّنِ فَسَادِ الْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ، وَإِنْ وَجَدَ الْبَعْضُ فَاسِدًا رَجَعَ بِقِسْطِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ لِمَكْسُورِهِ قِيمَةٌ، كَبَيْضِ النَّعَامِ وَجَوْزِ الْهِنْدِ، خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ إِمْسَاكِهِ وَأَخْذِ أَرْشِ نَقْصِهِ، وَبَيْنَ رَدِّهِ مَعَ أَرْشِ كَسْرِهِ وَأَخْذِ ثَمَنِهِ (1) .
__________
(1) الاختيار 2 / 20 - 21، وابن عابدين 4 / 85، وجواهر الإكليل 2 / 41، ومغني المحتاج 2 / 59 - 60 وشرح منتهى الإرادات 2 / 178 - 179 وكشاف القناع.(19/214)
ظُهُورُ دَيْنٍ خَفِيٍّ عَلَى التَّرِكَةِ:
12 - إِذَا اقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ التَّرِكَةَ ثُمَّ ظَهَرَ دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ قَضَى الْوَرَثَةُ الدَّيْنَ مَضَتِ الْقِسْمَةُ وَلاَ تُنْقَضُ، وَإِنِ امْتَنَعُوا مِنَ الأَْدَاءِ يُطْلَبُ نَقْضُ الْقِسْمَةِ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ (1) ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (قِسْمَةٌ، وَدَيْنٌ) .
__________
(1) مجلة الأحكام المادة 1161 والزيلعي 5 / 275، والدسوقي 3 / 515 والمهذب 1 / 334، 2 / 311، والمغني 9 / 129.(19/215)
خِفَارَةٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الْخِفَارَةُ فِي اللُّغَةِ مِنْ خَفَرَ الرَّجُل وَخَفَرَ بِهِ وَعَلَيْهِ يَخْفِرُ خَفْرًا: أَجَارَهُ وَمَنَعَهُ وَأَمَّنَهُ، وَكَانَ لَهُ خَفِيرًا يَمْنَعُهُ، وَخَفَرْتُ الرَّجُل: أَجَرْتَهُ وَحَفِظْتَهُ، وَخَفَرْتُهُ: إِذَا كُنْتَ لَهُ خَفِيرًا، أَيْ حَامِيًا وَكَفِيلاً، وَالاِسْمُ الْخَفَارَةُ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ، وَالْخَفَارَةُ: الذِّمَّةُ وَالْعَهْدُ، وَالأَْمَانُ، وَالْحِرَاسَةُ، وَالإِْخْفَارُ: انْتِهَاكُ الذِّمَّةِ، يُقَال: أَخْفَرْتُ الرَّجُل إِذَا نَقَضْتَ عَهْدَهُ وَذِمَامَهُ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلإِْزَالَةِ، أَيْ أَزَلْتُ خَفَارَتَهُ كَأَشْكَيْتُهُ إِذَا أَزَلْتَ شِكَايَتَهُ. وَالْخَفَارَةُ وَالْخُفَارَةُ وَالْخِفَارَةُ أَيْضًا: جُعْل الْخَفِيرِ. وَالْخَفِيرُ: الْحَارِسُ، وَالْخِفَارَةُ حِرْفَةُ الْخَفِيرِ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ أَيْضًا لَفْظَ الْبَذْرَقَةِ - بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الذَّال الْمُعْجَمَةِ - قِيل مُعَرَّبَةٌ:
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير والنهاية لابن الأثير والمعجم الوسيط، والدسوقي 4 / 26، والحطاب 2 / 496، ونهاية المحتاج 8 / 75، وكشاف القناع 2 / 391، والمغني 8 / 397.(19/215)
وَقِيل مُوَلَّدَةٌ: وَمَعْنَاهَا الْخَفَارَةُ، أَيْ جُعْل الْخَفِيرِ، وَقَال النَّوَوِيُّ: هِيَ الْخَفِيرُ الَّذِي يَحْفَظُ الْحُجَّاجَ.
وَفِي الْمِصْبَاحِ: هِيَ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَتَقَدَّمُ الْقَافِلَةَ لِلْحِرَاسَةِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الْخَفَارَةُ بِمَعْنَى الْحِفْظِ وَالْحِرَاسَةِ، قَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً كَحِرَاسَةِ طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ لِلأُْخْرَى الَّتِي تُصَلِّي صَلاَةَ الْخَوْفِ إِذَا أُقِيمَتْ هَذِهِ الصَّلاَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (2) .
وَقَدْ تَكُونُ مُسْتَحَبَّةً، كَالْحِرَاسَةِ وَالْمُرَابَطَةِ فِي الثُّغُورِ.
وَقَدْ تَكُونُ جَائِزَةً، كَمَنْ يُؤَجِّرُ نَفْسَهُ لِلْحِرَاسَةِ فِي عَمَلٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ (3) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (حِرَاسَةٌ، إِجَارَةٌ، جِهَادٌ، صَلاَةُ الْخَوْفِ) .
أَمَّا الْخَفَارَةُ بِمَعْنَى الأَْمَانِ وَالذِّمَّةِ فَالأَْصْل أَنَّهُ
__________
(1) المصباح المنير، والحطاب 2 / 496.
(2) سورة النساء / 102.
(3) البدائع 1 / 244، والمغني 2 / 401، 8 / 357، والدسوقي 4 / 26، وابن عابدين 5 / 44.(19/216)
يَجُوزُ عَقْدُ الأَْمَانِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَيَجِبُ إِعْطَاءُ الأَْمَانِ لِمَنْ طَلَبَهُ مِمَّنْ يُرِيدُ التَّعَرُّفَ عَلَى شَرَائِعِ الإِْسْلاَمِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِذَلِكَ إِلَى النَّاسِ (1) ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (2) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (أَمَانٌ، جِهَادٌ) .
أَوَّلاً: الْخَفَارَةُ (بِمَعْنَى الْجُعْل، أَوِ الْحِرَاسَةِ)
يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ الْخَفَارَةَ بِمَعْنَى الْجُعْل، أَوِ الْحِرَاسَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَمِنْهَا:
أ - فِي الْحَجِّ:
3 - يُقَرِّرُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ أَمْنَ الطَّرِيقِ مِنْ أَنْوَاعِ الاِسْتِطَاعَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ شُرُوطِ الْحَجِّ.
فَإِذَا كَانَ فِي الطَّرِيقِ عَدُوٌّ، أَوْ لِصٌّ، أَوْ مَكَّاسٌ، أَوْ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَطْلُبُ الأَْمْوَال مِنَ الْحُجَّاجِ، أَوْ كَانَ الطَّرِيقُ غَيْرَ آمِنٍ وَاحْتَاجَ الْحُجَّاجُ إِلَى خَفِيرٍ يَحْرُسُهُمْ بِالأَْجْرِ، فَهَل يُعْتَبَرُ ذَلِكَ عُذْرًا يَسْقُطُ بِهِ الْحَجُّ أَمْ لاَ؟
أَمَّا الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لِلْخِفَارَةِ الَّتِي يَطْلُبُهَا اللُّصُوصُ أَوْ غَيْرُهُمْ فَهُوَ أَنَّهُ لاَ تُعْتَبَرُ عُذْرًا يَسْقُطُ
__________
(1) المغني 8 / 396 - 399.
(2) سورة التوبة / 6.(19/216)
بِهِ الْحَجُّ، وَذَلِكَ عَلَى الْقَوْل الْمُعْتَمَدِ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَقَوْل ابْنِ حَامِدٍ وَالْمُوَفَّقِ وَالْمَجْدِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَا يُدْفَعُ يَسِيرًا لاَ يُجْحِفُ، وَبِأَنْ يَأْمَنَ بَاذِل الْخَفَارَةِ الْغَدْرَ مِنَ الْمَبْذُول لَهُ بِأَنْ يَعْلَمَ بِحُكْمِ الْعَادَةِ أَنَّهُ لاَ يَعُودُ إِلَى الأَْخْذِ ثَانِيًا؛ لأَِنَّ مَا لاَ يُجْحِفُ مَعَ الأَْمْنِ بِعَدَمِ الأَْخْذِ ثَانِيًا يُعْتَبَرُ غَرَامَةٌ يَقِفُ إِمْكَانُ الْحَجِّ عَلَى بَذْلِهَا، فَلَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الْحَجِّ مَعَ إِمْكَانِ بَذْلِهَا كَثَمَنِ الْمَاءِ وَعَلَفِ الْبَهَائِمِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْقَوْل الثَّانِي لِلْحَنَفِيَّةِ وَجُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يَجِبُ الْحَجُّ وَلَوْ كَانَ مَا يُدْفَعُ يَسِيرًا لأَِنَّهُ رِشْوَةٌ فَلاَ يَلْزَمُ بَذْلُهَا فِي الْعِبَادَةِ كَالْكَثِيرِ الَّذِي يُدْفَعُ، وَلأَِنَّ فِي الدَّفْعِ تَحْرِيضًا عَلَى الطَّلَبِ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لاِسْتِئْجَارِ خَفِيرٍ لِلْحِرَاسَةِ بِالأَْجْرِ فَعَلَى الْقَوْل الْمُعْتَمَدِ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَسْقُطُ الْحَجُّ بِذَلِكَ، لَكِنَّ ابْنَ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اشْتَرَطَ أَنْ تَكُونَ الأُْجْرَةُ لاَ تُجْحِفُ بِالْمَال، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ بِأُجْرَةِ الْمِثْل لَزِمَهُمْ إِخْرَاجُهَا، لأَِنَّهَا مِنْ أُهْبَةِ النُّسُكِ فَيُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِهِ الْقُدْرَةُ عَلَيْهَا. وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ.
وَعَلَى الْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمُقَابِل(19/217)
الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَجِبُ اسْتِئْجَارُ مَنْ يَحْرُسُ؛ لأَِنَّ سَبَبَ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ خَوْفُ الطَّرِيقِ وَخُرُوجُهَا عَنِ الاِعْتِدَال، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَمْنَ الطَّرِيقِ شَرْطٌ؛ وَلأَِنَّ لُزُومَ أُجْرَةِ الْخِفَارَةِ خُسْرَانٌ لِدَفْعِ الظُّلْمِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا زَادَ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْل وَأُجْرَتِهِ فِي الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَهُوَ قَوْل جَمَاهِيرِ الْعِرَاقِيِّينَ والْخُراسَانِيِّنَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (حَجٌّ) .
ب - تَضْمِينُ الْخُفَرَاءِ:
4 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَدَمَ تَضْمِينِ الْخُفَرَاءِ (الْحُرَّاسِ) ؛ لأَِنَّ الْخَفِيرَ أَمِينٌ إِلاَّ أَنْ يَتَعَدَّى أَوْ يُفَرِّطَ (2) .
قَال الدَّرْدِيرُ: حَارِسُ الدَّارِ أَوِ الْبُسْتَانِ أَوِ الطَّعَامِ أَوِ الثِّيَابِ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ أَمِينٌ إِلاَّ أَنْ يَتَعَدَّى أَوْ يُفَرِّطَ، وَلاَ عِبْرَةَ بِمَا شُرِطَ أَوْ كُتِبَ عَلَى الْخُفَرَاءِ فِي الْحَارَاتِ وَالأَْسْوَاقِ مِنَ الضَّمَانِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ أَصْل الْمَذْهَبِ عَدَمُ تَضْمِينِ الْخُفَرَاءِ وَالْحُرَّاسِ وَالرُّعَاةِ، وَاسْتَحْسَنَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 145، وحاشية الطحطاوي على الدر 1 / 484، وجواهر الإكليل 1 / 162، ومنح الجليل 1 / 437 والحطاب 2 / 496، وأسنى المطالب 1 / 448، والمجموع 7 / 56، تحقيق المطيعي والمهذب 1 / 203 والمغني 3 / 219 وكشاف القناع 2 / 392 - 393 ومنتهى الإرادات 2 / 3.
(2) ابن عابدين 5 / 44 والدسوقي 4 / 26 ونهاية المحتاج 5 / 308 وشرح منتهى الإرادات 2 / 377.(19/217)
بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَضْمِينَهُمْ نَظَرًا لِكَوْنِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ (1) .
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي: (إِجَارَةٌ، حِرَاسَةٌ، ضَمَانٌ) .
ثَانِيًا - الْخَفَارَةُ (بِمَعْنَى الذِّمَّةِ وَالأَْمَانِ وَالْعَهْدِ) :
5 - أ - الْخَفَارَةُ بِمَعْنَى الذِّمَّةِ وَالْعَهْدِ وَالأَْمَانِ قَدْ تَكُونُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَكُونُ فِي خَفَارَةِ اللَّهِ، أَيْ أَمَانِهِ وَذِمَّتِهِ مَا دَامَ مُطِيعًا فَإِذَا عَصَى اللَّهَ فَقَدْ غَدَرَ. يَرْوِي الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَاسْتَقْبَل قِبْلَتَنَا وَأَكَل ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلاَ تَخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ (2) ، وَالْمَعْنَى: لاَ تَغْدِرُوا فَمَنْ غَدَرَ تَرَكَ اللَّهُ حِمَايَتَهُ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَقَدْ أَخَذَ بِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى قَتْل تَارِكِ الصَّلاَةِ (3) .
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ، فَلاَ يَطْلُبَنَّكُمُ اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ فَيُدْرِكَهُ فَيَكُبَّهُ فِي نَارِ
__________
(1) الدسوقي 4 / 26 ومغني المحتاج 2 / 352.
(2) حديث: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا. . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 496 - ط السلفية) من حديث أنس بن مالك.
(3) فتح الباري 1 / 496.(19/218)
جَهَنَّمَ (1) . قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْمُرَادُ نَهْيُهُمْ عَنِ التَّعَرُّضِ لِمَا يُوجِبُ الْمُطَالَبَةَ، وَالْمَعْنَى: مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ فَلاَ تَتَعَرَّضُوا لَهُ بِشَيْءٍ فَإِنْ تَعَرَّضْتُمْ فَاللَّهُ يُدْرِكُكُمْ، وَقِيل: الْمَعْنَى لاَ تَتْرُكُوا صَلاَةَ الصُّبْحِ فَيُنْتَقَضُ الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل وَيَطْلُبُكُمْ بِهِ وَخُصَّ الصُّبْحُ بِالذِّكْرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ (2) .
6 - ب - الْخَفَارَةُ بِمَعْنَى الأَْمَانِ وَالْعَهْدِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (3) .
وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (4) .
قَال الْفُقَهَاءُ: إِذَا أُعْطِيَ الأَْمَانُ لأَِهْل الْحَرْبِ حَرُمَ قَتْلُهُمْ، وَأَخْذُ أَمْوَالِهِمْ، وَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ؛ لأَِنَّ إِخْفَارَ الْعَهْدِ حَرَامٌ. وَمَنْ طَلَبَ الأَْمَانَ لِيَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ، وَيَعْرِفَ شَرَائِعَ الإِْسْلاَمِ وَجَبَ أَنْ
__________
(1) حديث: " من صلى الصبح فهو في ذمة الله. . " أخرجه مسلم (1 / 454 - ط الحلبي) من حديث جندب بن عبد الله.
(2) صحيح مسلم بشرح الأبي 2 / 325.
(3) حديث: " ذمة المسلمين واحدة. . " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 275 - ط السلفية) من حديث علي بن أبي طالب.
(4) سورة التوبة / 6.(19/218)
يُعْطَاهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى مَأْمَنِهِ (1) . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (أَمَانٌ، جِهَادٌ) .
خِفَاضٌ
انْظُرْ: خِتَانٌ
خُفٌّ
انْظُرْ: مَسْحٌ عَلَى الْخُفَّيْنِ
خُفَّاشٌ
انْظُرْ: أَطْعِمَةٌ
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 396 - 399 والبدائع 7 / 107، ونهاية المحتاج 8 / 75.(19/219)
خُفْيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخُفْيَةُ فِي اللُّغَةِ بِضَمِّ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا أَصْلُهَا مِنْ خَفَيْتُ الشَّيْءَ أُخْفِيهِ أَيْ سَتَرْتَهُ أَوْ أَظْهَرْتَهُ فَهُوَ مِنَ الأَْضْدَادِ. وَخَفِيَ الشَّيْءُ يَخْفَى خَفَاءً إِذَا اسْتَتَرَ. وَيُقَال: فَعَلْتُهُ خُفْيَةً إِذَا سَتَرْتَهُ، قَال اللَّيْثُ: الْخُفْيَةُ مِنْ قَوْلِكَ: أَخْفَيْتُ الشَّيْءَ: أَيْ سَتَرْتَهُ، وَلَقِيتُهُ خُفْيًا أَيْ سِرًّا (1)
وَفِي التَّنْزِيل: {ادْعُوَا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (2) . وَفِي الاِصْطِلاَحِ تُطْلَقُ عَلَى السَّتْرِ وَالْكِتْمَانِ دُونَ الإِْظْهَارِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِخْتِلاَسُ:
2 - الاِخْتِلاَسُ: السَّلْبُ بِسُرْعَةٍ عَلَى غَفْلَةٍ،
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة: " خفي " وتفسير القرطبي 7 / 9، 223.
(2) سورة الأعراف / 55.
(3) تفسير القرطبي 7 / 223، وحاشية ابن عابدين 3 / 192، 193، والبدائع 7 / 65، والشرح الصغير 4 / 469، وحاشية الجمل 5 / 138، وكشاف القناع 6 / 129.(19/219)
وَلِهَذَا يُقَال: الْفُرْصَةُ خِلْسَةٌ. وَخَلَسْتُ الشَّيْءَ خَلْسًا إِذَا اخْتَطَفْتَهُ بِسُرْعَةٍ عَلَى غَفْلَةٍ. وَاخْتَلَسْتُهُ كَذَلِكَ. فَالْمُخْتَلِسُ يَأْخُذُ الْمَال عِيَانًا وَيَعْتَمِدُ الْهَرَبَ، بِخِلاَفِ السَّارِقِ الَّذِي يَأْخُذُهُ خُفْيَةً (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
أَوَّلاً: الْخُفْيَةُ فِي الدُّعَاءِ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الدُّعَاءَ خُفْيَةً أَفْضَل مِنْهُ جَهْرًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُوَا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (2) . قَال الْقُرْطُبِيُّ: تَضَرُّعًا: أَنْ تُظْهِرُوا التَّذَلُّل، وَخُفْيَةً: أَنْ تُبْطِنُوا مِثْل ذَلِكَ (3) ، فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل عِبَادَهُ بِالدُّعَاءِ، وَقَرَنَ بِالأَْمْرِ صِفَاتٍ يَحْسُنُ مَعَهَا الدُّعَاءُ، مِنْهَا الْخُفْيَةُ وَمَعْنَى خُفْيَةً: سِرًّا فِي النَّفْسِ لِيَبْعُدَ عَنِ الرِّيَاءِ. وَبِذَلِكَ أَثْنَى عَلَى نَبِيِّهِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ قَال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (4) وَنَحْوُهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ، وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي (5) .
وَمِنَ الْمَعْلُومِ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ السِّرَّ فِيمَا لَمْ يُفْرَضْ
__________
(1) لسان العرب مادة: " خلس " وحاشية الجمل 5 / 139، والمطلع على أبواب المقنع ص375.
(2) سورة الأعراف / 55.
(3) تفسير القرطبي 7 / 9.
(4) سورة مريم / 3.
(5) حديث: " خير الذكر الخفي، وخير الرزق. . " أخرجه أحمد (1 / 172 - ط الميمنية) من حديث سعد بن أبي وقاص، وأورده الهيثمي في المجمع (10 / 81 - ط القدسي) وقال: " رواه أحمد وأبو يعلى، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة. وقد وثقه ابن حبان وضعفه ابن معين، وبقية رجالهما رجال الصحيح ".(19/220)
مِنْ أَعْمَال الْبِرِّ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْجَهْرِ، وَأَنَّ إِخْفَاءَ عِبَادَاتِ التَّطَوُّعِ أَوْلَى مِنَ الْجَهْرِ بِهَا لِنَفْيِ الرِّيَاءِ عَنْهَا، بِخِلاَفِ الْوَاجِبَاتِ؛ لأَِنَّ الْفَرَائِضَ لاَ يَدْخُلُهَا الرِّيَاءُ، وَالنَّوَافِل عُرْضَةٌ لِلرِّيَاءِ (1) .
وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ أُمُورًا مِنْهَا: التَّلْبِيَةُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْجَهْرَ بِهِ أَوْلَى مِنَ الْخُفْيَةِ عَلَى أَنْ لاَ يُفَرِّطَ فِي الْجَهْرِ بِهِ (2) .
ثَانِيًا: الْخُفْيَةُ فِي السَّرِقَةِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْخْذَ عَلَى سَبِيل الاِسْتِخْفَاءِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ. فَقَدْ عَرَّفُوا السَّرِقَةَ بِأَنَّهَا: أَخْذُ الْعَاقِل الْبَالِغِ نِصَابًا مُحَرَّزًا مِلْكًا لِلْغَيْرِ لاَ شُبْهَةَ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ (3) .
وَمَعَ اخْتِلاَفِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ السَّرِقَةِ وَشُرُوطِهَا فَإِنَّهُمْ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الأَْخْذُ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ، وَإِلاَّ لاَ يُعْتَبَرُ الأَْخْذُ سَرِقَةً، فَلاَ قَطْعَ عَلَى مُنْتَهِبٍ، وَلاَ عَلَى
__________
(1) القرطبي 3 / 332، و7 / 224.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 175، وجواهر الإكليل 1 / 256، والقليوبي 2 / 114.
(3) الاختيار 4 / 102، وابن عابدين 3 / 192، والشرح الصغير للدردير 4 / 469، وحاشية الجمل 5 / 139، ومغني المحتاج 4 / 158، وكشاف القناع 6 / 129، والمغني لابن قدامة 8 / 240.(19/220)
مُخْتَلِسٍ وَلاَ عَلَى خَائِنٍ، كَمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلاَ مُنْتَهِبٍ، وَلاَ مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ (1) وَالْمُخْتَلِسُ وَالْمُنْتَهِبُ يَأْخُذَانِ الْمَال عِيَانًا وَيَعْتَمِدُ الأَْوَّل الْهَرَبَ، وَالثَّانِي الْقُوَّةَ وَالْغَلَبَةَ، فَيُدْفَعَانِ بِالسُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ، بِخِلاَفِ السَّارِقِ لأَِخْذِهِ خُفْيَةً فَيُشْرَعُ قَطْعُهُ زَجْرًا (2) .
وَفِي تَحَقُّقِ هَذَا الرُّكْنِ مِنْ كَوْنِ الْخُفْيَةِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً مَعًا، أَوِ ابْتِدَاءً فَقَطْ وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الأَْرْكَانِ وَالشُّرُوطِ بَيَانٌ وَتَفْصِيلٌ، وَفِي بَعْضِ الْفُرُوعِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (سَرِقَةٌ) .
خَلاَ
انْظُرْ: كَلأٌَ
__________
(1) حديث: " ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس. . " أخرجه الترمذي (4 / 52 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله. وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) المراجع السابقة.(19/221)
خَلاَءٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَلاَءُ لُغَةً مِنْ خَلاَ الْمَنْزِل أَوِ الْمَكَانُ مِنْ أَهْلِهِ يَخْلُو خُلُوًّا وَخَلاَءً إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ وَلاَ شَيْءَ فِيهِ.
وَمَكَانٌ خَلاَءٌ لاَ أَحَدَ بِهِ وَلاَ شَيْءَ فِيهِ.
وَالْخَلاَءُ بِالْمَدِّ مِثْل الْفَضَاءِ وَالْبِرَازِ مِنَ الأَْرْضِ.
وَالْخَلاَءُ بِالْمَدِّ فِي الأَْصْل الْمَكَانُ الْخَالِي ثُمَّ نُقِل إِلَى الْبَاءِ الْمُعَدِّ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ عُرْفًا، وَجَمْعُهُ أَخْلِيَةٌ. وَيُسَمَّى أَيْضًا الْكَنِيفَ وَالْمِرْفَقَ وَالْمِرْحَاضَ. وَالتَّخَلِّي هُوَ قَضَاءُ الْحَاجَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: كَانَ أُنَاسٌ - مِنَ الصَّحَابَةِ - يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، أَيْ يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَنْكَشِفُوا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ تَحْتَ السَّمَاءِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِلتَّخَلِّي آدَابًا عَدِيدَةً مِنْهَا:
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " خلا " ومغني المحتاج 1 / 39.(19/221)
أَنَّ الشَّخْصَ الْمُتَخَلِّيَ يُقَدِّمُ نَدْبًا رِجْلَهُ الْيُسْرَى عِنْدَ دُخُول الْخَلاَءِ قَائِلاً: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَل الْخَلاَءَ قَال: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ (1) . وَتُنْظَرُ الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْخَلاَءِ تَحْتَ مُصْطَلَحِ: (قَضَاءُ الْحَاجَةِ) .
خِلاَفٌ
انْظُرْ: اخْتِلاَفٌ.
خِلاَفَةٌ
انْظُرْ: إِمَامَةٌ كُبْرَى.
__________
(1) حديث: " كان إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 242 - ط السلفية) ومسلم (1 / 283 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك. وانظر: ابن عابدين 1 / 230، جواهر الإكليل 1 / 18 ومغني المحتاج 1 / 39، والمغني لابن قدامة 1 / 167.(19/222)
خَلْطٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَلْطُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ خَلَطَ الشَّيْءَ بِغَيْرِهِ يَخْلِطُهُ خَلْطًا إِذَا مَزَجَهُ بِهِ وَخَلَّطَهُ تَخْلِيطًا فَاخْتَلَطَ: امْتَزَجَ.
وَالْخَلْطُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَائِعَاتِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لاَ يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ، أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ بَعْدَ الْخَلْطِ، كَالْحَيَوَانَاتِ، وَكُل مَا خَالَطَ الشَّيْءَ، فَهُوَ خَلِطٌ.
وَجَاءَ فِي الْكُلِّيَّاتِ: الْخَلْطُ: الْجَمْعُ بَيْنَ أَجْزَاءِ شَيْئَيْنِ فَأَكْثَرَ: مَائِعَيْنِ، أَوْ جَامِدَيْنِ، أَوْ مُتَخَالِفَيْنِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
أَحْكَامُ الْخَلْطِ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْخَلْطِ بِاخْتِلاَفِ مَوْضُوعِهِ كَمَا سَيَأْتِي.
__________
(1) تاج العروس، الكليات، المصباح المنير.(19/222)
خَلْطُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ:
2 - إِنْ خَلَطَ اثْنَانِ مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ مَالَيْنِ لَهُمَا مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ: خَلْطَةَ شُيُوعٍ، أَوْ جِوَارٍ فَيُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْوَاحِدِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (خُلْطَةٌ) .
خَلْطُ الْمَالَيْنِ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ خَلْطِ الْمَالَيْنِ قَبْل الْعَقْدِ لاِنْعِقَادِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الشَّرِكَةَ تَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُل الْخَلْطُ بَيْنَ الْمَالَيْنِ (1) .
وَقَالُوا: إِنَّ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الْعَقْدِ دُونَ الْمَال؛ لأَِنَّ الْعَقْدَ يُسَمَّى شَرِكَةً فَلاَ بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ مَعْنَى هَذَا الاِسْمِ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنِ الْخَلْطُ شَرْطًا؛ وَلأَِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لاَ يَتَعَيَّنَانِ، فَلاَ يُسْتَفَادُ الرِّبْحُ بِرَأْسِ الْمَال وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ؛ لأَِنَّهُ فِي النِّصْفِ أَصِيلٌ وَفِي النِّصْفِ وَكِيلٌ، وَإِذَا تَحَقَّقَتِ الشَّرِكَةُ فِي التَّصَرُّفِ بِدُونِ الْخَلْطِ تَحَقَّقَتْ فِي الْمُسْتَفَادِ بِهِ؛ وَلأَِنَّهُ عَقْدٌ يُقْصَدُ بِهِ الرِّبْحُ فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الْخَلْطُ كَالْمُضَارَبَةِ (2) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 24، مواهب الجليل 5 / 125، حاشية الدسوقي 3 / 349 - 350، كشاف القناع 3 / 497.
(2) فتح القدير 5 / 24، مواهب الجليل 5 / 125، حاشية الدسوقي 3 / 349 - 350، كشاف القناع 3 / 497.(19/223)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ خَلْطُ رَأْسِ مَال الشَّرِكَةِ بَعْضِهِ بِبَعْضِهِ قَبْل الْعَقْدِ خَلْطًا لاَ يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهَا، فَلَوْ حَصَل الْخَلْطُ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَلَوْ فِي الْمَجْلِسِ لَمْ يَكْفِ عَلَى الأَْصَحِّ، وَيَجِبُ إِعَادَةُ الْعَقْدِ (1) . وَقَالُوا: إِنَّ أَسْمَاءَ الْعُقُودِ الْمُشْتَقَّةَ مِنَ الْمَعَانِي يَجِبُ تَحَقُّقُ تِلْكَ الْمَعَانِي فِيهَا، وَمَعْنَى الشَّرِكَةِ: الاِخْتِلاَطُ وَالاِمْتِزَاجُ.
وَهُوَ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِالْخَلْطِ قَبْل الْعَقْدِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شَرِكَةٌ) .
الْخَلْطُ تَعَدِّيًا:
4 - إِذَا خَلَطَ الْغَاصِبُ الْمَال الْمَغْصُوبَ بِغَيْرِهِ، أَوِ اخْتَلَطَ عِنْدَهُ، أَوْ خَلَطَ الأَْمِينُ كَالْمُودَعِ وَالْوَكِيل، وَعَامِل الْقِرَاضِ الْمَال الْمُؤْتَمَنَ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ أَمْكَنَ التَّمْيِيزُ لَزِمَهُ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَكَالتَّالِفِ، فَيَنْتَقِل الْحَقُّ إِلَى ذِمَّةِ الْغَاصِبِ أَوِ الأَْمِينِ، سَوَاءٌ خَلَطَهُ بِمِثْلِهِ أَمْ بِأَجْوَدَ مِنْهُ، أَمْ بِأَرْدَأَ، وَلِلضَّامِنِ أَنْ يَدْفَعَ مِنَ الْمَخْلُوطِ بِمِثْلِهِ أَوْ بِأَجْوَدَ مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ قَدَرَ عَلَى دَفْعِ بَعْضِ مَالِهِ إِلَيْهِ مَعَ رَدِّ الْمِثْل فِي الْبَاقِي، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الاِنْتِقَال إِلَى بَدَلِهِ فِي الْجَمِيعِ (2) .
__________
(1) أسنى المطالب 2 / 254، الجمل على شرح المنهج 3 / 396، نهاية المحتاج 5 / 7.
(2) نهاية المحتاج 5 / 185، حاشية الجمل 3 / 494، كشاف القناع 4 / 94، فتح القدير 5 / 17، روضة الطالبين 6 / 336، البدائع 6 / 213، حاشية الدسوقي 3 / 420.(19/223)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (وَدِيعَةٌ، وَكَالَةٌ، مُضَارَبَةٌ، غَصْبٌ) .
خَلْطُ الْوَلِيِّ مَال الصَّبِيِّ بِمَالِهِ:
5 - يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ خَلْطُ مَال الصَّبِيِّ بِمَالِهِ، وَمُؤَاكَلَتُهُ لِلإِْرْفَاقِ إِذَا كَانَ فِي الْخَلْطِ حَظٌّ لِلصَّبِيِّ، بِأَنْ كَانَتْ كُلْفَةُ الاِجْتِمَاعِ أَقَل مِنْهَا فِي الاِنْفِرَادِ، وَلَهُ الضِّيَافَةُ، وَالإِْطْعَامُ مِنَ الْمَال الْمُشْتَرَكِ، إِنْ فَضَل لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ قَدْرُ حَقِّهِ، وَكَذَا لَهُ خَلْطُ أَطْعِمَةِ أَيْتَامٍ بَعْضِهَا بِبَعْضِهَا وَبِمَالِهِ إِنْ كَانَتْ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْجَمِيعِ (1) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُل إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأََعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) .
خَلْطُ الْمَاءِ بِطَاهِرٍ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِذَا خَالَطَ الْمَاءَ مَا لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ كَالطُّحْلُبِ، وَسَائِرِ مَا يَنْبُتُ فِي الْمَاءِ، وَمَا فِي مَقَرِّهِ، وَمَمَرِّهِ، فَغَيَّرَهُ فَإِنَّهُ لاَ يَسْلُبُهُ الطَّهُورِيَّةَ، أَمَّا إِذَا خُلِطَ بِقَصْدٍ فَغَيَّرَهُ فَإِنَّهُ يَسْلُبُهُ الطَّهُورِيَّةَ (3) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (طَهَارَةٌ) .
__________
(1) حاشية الجمل 3 / 347، نهاية المحتاج 4 / 385.
(2) سورة البقرة / 220.
(3) المغني 1 / 13، روضة الطالبين 1 / 15.(19/224)
خُلْطَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخُلْطَةُ (بِضَمِّ الْخَاءِ) لُغَةً مِنَ الْخَلْطِ، وَهُوَ مَزْجُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ. يُقَال: خَلَطَ الْقَمْحَ بِالْقَمْحِ يَخْلِطُهُ خَلْطًا، وَخَلَطَهُ فَاخْتَلَطَ. وَخَلِيطُ الرَّجُل مُخَالِطُهُ. . . وَالْخَلِيطُ، الْجَارُ وَالصَّاحِبُ. وَقِيل: لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الشَّرِكَةِ.
وَفِي التَّنْزِيل {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (1) . وَالْخِلْطَةُ الْعِشْرَةُ. وَالْخُلَطَةُ الشَّرِكَةُ (2) .
وَالْخُلْطَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ نَوْعَانِ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: خُلْطَةُ الأَْعْيَانِ، هَكَذَا سَمَّاهَا الْحَنَابِلَةُ، وَسَمَّاهَا الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا خُلْطَةَ الاِشْتِرَاكِ وَخُلْطَةَ الشُّيُوعِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمَال لِرَجُلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ هُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى الشُّيُوعِ، مِثْل أَنْ يَشْتَرِيَا قَطِيعًا مِنَ الْمَاشِيَةِ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِيهِ نَصِيبٌ مُشَاعٌ، أَوْ أَنْ يَرِثَاهُ أَوْ يُوهَبُ لَهُمَا فَيُبْقِيَاهُ بِحَالِهِ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ.
__________
(1) سورة ص / 24.
(2) لسان العرب.(19/224)
وَالثَّانِي: خُلْطَةُ الأَْوْصَافِ، وَفِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ تَسْمِيَتُهَا خُلْطَةَ الْجِوَارِ أَيْضًا. وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مَال كُلٍّ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ مَعْرُوفًا لِصَاحِبِهِ بِعَيْنِهِ فَخَلَطَاهُ فِي الْمَرَافِقِ لأَِجْل الرِّفْقِ فِي الْمَرْعَى، أَوِ الْحَظِيرَةِ، أَوِ الشُّرْبِ. بِحَيْثُ لاَ تَتَمَيَّزُ فِي الْمَرَافِقِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - الْخُلْطَةُ فِي الأَْمْوَال عَلَى وَجْهٍ يَتَمَيَّزُ بِهِ مَال كُلٍّ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ عَنْ صَاحِبِهِ أَمْرٌ مُبَاحٌ فِي الأَْصْل؛ لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ الْمُبَاحِ فِي الْمَال الْخَاصِّ. وَقَدْ يَحْصُل بِهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الرِّفْقِ بِأَصْحَابِ الأَْمْوَال كَأَنْ يَكُونَ لأَِهْل الْقَرْيَةِ غَنَمٌ لِكُلٍّ مِنْهُمْ عَدَدٌ قَلِيلٌ مِنْهَا فَيَجْمَعُوهَا عِنْدَ رَاعٍ وَاحِدٍ يَرْعَاهَا بِأَجْرٍ أَوْ تَبَرُّعًا، وَيُؤْوِيهَا إِلَى حَظِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَتُجْمَعُ فِي سَقْيِهَا أَوْ حَلْبِهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَذَلِكَ أَيْسَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يَقُومَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى غَنَمِهِ وَحْدَهُ، وَكَذَا فِي خُلْطَةِ الْمَزَارِعِ الاِرْتِفَاقُ بِاتِّحَادِ النَّاطُورِ، وَالْمَاءِ، وَالْحِرَاثِ، وَالْعَامِل. وَفِي خُلْطَةِ التُّجَّارِ بِاتِّحَادِ الْمِيزَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
وَأَمَّا خُلْطَةُ الأَْعْيَانِ فَهِيَ الشَّرِكَةُ بِعَيْنِهَا، وَيُرَاجَعُ حُكْمُهَا تَحْتَ مُصْطَلَحِ: (شَرِكَةٌ)
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 607 - ط ثالثة، مكتبة المنار، 1367هـ، وشرح المنهاج للمحلى مع حاشية القليوبي وعميرة 2 / 11 - 13 القاهرة، عيسى الحلبي.
(2) شرح المنهاج 2 / 13، والمغني 2 / 619.(19/225)
وَالأَْصْل فِيهَا أَيْضًا الإِْبَاحَةُ.
وَبِمَا أَنَّ الْخُلْطَةَ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا فِي تَقْلِيل الزَّكَاةِ بِشُرُوطِهَا فَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ إِظْهَارِ صُورَةِ الْخُلْطَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ خُلْطَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ سَعْيًا وَرَاءَ تَقْلِيل الزَّكَاةِ الَّتِي قَدْ وَجَبَتْ فِعْلاً، وَكَذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ إِظْهَارِ صُورَةِ الاِنْفِرَادِ سَعْيًا وَرَاءَ تَقْلِيل الزَّكَاةِ الَّتِي وَجَبَتْ فِعْلاً فِي الأَْمْوَال الْمُخْتَلِطَةِ، وَذَلِكَ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ (1) . وَيَأْتِي مُطَوَّلاً بَيَانُ مَعْنَى ذَلِكَ.
أَحْكَامُ الْخُلْطَةِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَأْثِيرِ الْخُلْطَةِ فِي الزَّكَاةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّ لَهَا تَأْثِيرًا فِي الزَّكَاةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْ تَوَافُرِهَا لِيَتَحَقَّقَ ذَلِكَ التَّأْثِيرُ. مَعَ الْخِلاَفِ أَيْضًا فِي الأَْمْوَال الَّتِي تُؤَثِّرُ الْخُلْطَةُ فِيهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ (2) .
__________
(1) حديث: " لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين. . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 314 - 315 ط السلفية) .
(2) حديث: " لا يجمع بين متفرق. . " سبق تخريجه ف / 2.(19/225)
قَال الأَْزْهَرِيُّ: جَوَّدَ تَفْسِيرَ هَذَا الْحَدِيثِ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الأَْمْوَال، وَفَسَّرَهُ عَلَى نَحْوِ مَا فَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ. قَال الشَّافِعِيُّ: الَّذِي لاَ أَشُكُّ فِيهِ أَنَّ " الْخَلِيطَيْنِ ": الشَّرِيكَانِ لَمْ يَقْتَسِمَا الْمَاشِيَةَ، " وَتَرَاجُعُهُمَا بِالسَّوِيَّةِ ": أَنْ يَكُونَا خَلِيطَيْنِ فِي الإِْبِل تَجِبُ فِيهَا الْغَنَمُ، فَتُوجَدُ الإِْبِل فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، فَتَأْخُذُ مِنْهُ صَدَقَتَهَا فَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِالسَّوِيَّةِ. قَال الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ يَكُونُ " الْخَلِيطَانِ " الرَّجُلَيْنِ يَتَخَالَطَانِ بِمَاشِيَتِهِمَا، وَإِنْ عَرَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَاشِيَتَهُ، قَال: وَلاَ يَكُونَانِ خَلِيطَيْنِ حَتَّى يُرِيحَا وَيَسْرَحَا مَعًا، وَتَكُونُ فُحُولَتُهُمَا مُخْتَلِطَةً، فَإِذَا كَانَا هَكَذَا صَدَّقَا صَدَقَةَ الْوَاحِدِ بِكُل حَالٍ.
قَال: وَإِنْ تَفَرَّقَا فِي مَرَاحٍ، أَوْ سَقْيٍ، أَوْ فُحُولٍ، صَدَّقَا صَدَقَةَ الاِثْنَيْنِ. ا. هـ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ أَنْ يَخْلِطَ الرَّجُل إِبِلَهُ بِإِبِل غَيْرِهِ، أَوْ غَنَمَهُ بِغَنَمِهِ، أَوْ بَقَرَهُ بِبَقَرِهِ، لِيَمْنَعَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَيَبْخَسُ الْمُصَدِّقَ (وَهُوَ جَابِي الزَّكَاةِ) ، وَذَلِكَ كَأَنْ يَكُونَ ثَلاَثَةَ رِجَالٍ، لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ شَاةً، فَيَكُونَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ فِي غَنَمِهِ شَاةٌ، فَإِذَا أَحَسُّوا بِقُرْبِ وُصُول الْمُصَدِّقِ جَمَعُوهَا لِيَكُونَ عَلَيْهِمْ فِيهَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ.
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ مِثْل أَنْ يَكُونَ نِصَابٌ بَيْنَ(19/226)
اثْنَيْنِ، فَإِذَا جَاءَ الْمُصَدِّقُ أَفْرَدَ كُلٌّ مِنْهُمَا إِبِلَهُ عَنْ إِبِل صَاحِبِهِ لِئَلاَّ يَكُونَ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ (1) .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لاَ خِلاَطَ وَلاَ وِرَاطَ (2) (الْخَدِيعَةَ) " فَالْخِلاَطُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ فَلَوْلاَ أَنَّ لِلْخَلْطِ تَأْثِيرًا فِي الزَّكَاةِ مَا نَهَى عَنْهُ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْخُلْطَةَ بِنَوْعَيْهَا لاَ تَأْثِيرَ لَهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَنَسٍ نَفْسِهِ، قَال ابْنُ الْهُمَامِ: لَنَا هَذَا الْحَدِيثُ، إِذِ الْمُرَادُ الْجَمْعُ وَالتَّفْرِيقُ فِي الأَْمْلاَكِ لاَ فِي الأَْمْكِنَةِ، أَلاَ تَرَى أَنَّ النِّصَابَ الْمُفَرَّقَ فِي أَمْكِنَةٍ مَعَ وَحْدَةِ الْمَالِكِ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَمَنْ مَلَكَ ثَمَانِينَ شَاةً فَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَجْعَلَهَا نِصَابَيْنِ بِأَنْ يُفَرِّقَهَا فِي مَكَانَيْنِ. قَال: " فَمَعْنَى لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ "، أَنْ لاَ يُفَرِّقَ السَّاعِي بَيْنَ الثَّمَانِينَ أَوِ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ فَيَجْعَلَهَا نِصَابَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً. وَمَعْنَى " وَلاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ " لاَ يَجْمَعُ الأَْرْبَعِينَ الْمُتَفَرِّقَةَ فِي الْمِلْكِ بِأَنْ تَكُونَ مُشْتَرِكَةً لِيَجْعَلَهَا نِصَابًا، وَالْحَال أَنَّ
__________
(1) لسان العرب، والأم للشافعي 2 / 13 القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية.
(2) حديث: " لا خلاط ولا وراط ". ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث (1 / 215 - ط دائرة المعارف العثمانية) ولم يسنده.
(3) المغني لابن قدامة 2 / 608 ط ثالثة، مطبعة المنار 1368هـ.(19/226)
لِكُلٍّ مِنْهُمَا عِشْرِينَ. قَال: " وَتَرَاجُعُهُمَا بِالسَّوِيَّةِ " أَنْ يَرْجِعَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّةِ مَا أَخَذَ مِنْهُ (1) .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُل نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ (2) قَال الْكَاسَانِيُّ: نَفَى الْحَدِيثُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي أَقَل مِنْ أَرْبَعِينَ مُطْلَقًا عَنْ حَال الشَّرِكَةِ وَالاِنْفِرَادِ. فَدَل أَنَّ كَمَال النِّصَابِ فِي حَقِّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطُ الْوُجُوبِ (3) .
أَوْجُهُ تَأْثِيرِ الْخُلْطَةِ:
4 - الْخُلْطَةُ تُؤَثِّرُ - عِنْدَ مَنْ قَال بِهَا - فِي الْمَالَيْنِ الْمُخْتَلِطَيْنِ مِنْ أَوْجُهٍ:
الأَْوَّل: تَكْمِيل النِّصَابِ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَلَوْ كَانَ لِكُلٍّ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ أَقَل مِنْ نِصَابٍ، وَمَجْمُوعُ مَالِهِمَا نِصَابٌ، تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ. وَفِي كِتَابِ الْفُرُوعِ: لَوْ تَخَالَطَ أَرْبَعُونَ رَجُلاً لِكُلٍّ مِنْهُمْ شَاةٌ وَاحِدَةٌ، فَعَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ، شَاةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ أَثَرَ لِلْخُلْطَةِ حَتَّى يَكُونَ لِكُلٍّ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ نِصَابٌ.
__________
(1) فتح القدير لابن الهمام 1 / 496 ط بولاق 1315هـ.
(2) حديث: " إذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة. . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 318 - ط السلفية) من حديث أنس بن مالك.
(3) بدائع الصنائع 2 / 869 القاهرة، نشر زكريا علي يوسف.(19/227)
الثَّانِي: الْقَدْرُ، فَلَوْ كَانَ ثَلاَثَةٌ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ شَاةً تَخَالَطُوا بِهَا، فَعَلَيْهِمْ شَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْلاَ الْخُلْطَةُ لَكَانَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ شَاةٌ. وَهَذَا تَأْثِيرٌ بِالنَّقْصِ. وَقَدْ يَكُونُ التَّأْثِيرُ بِالزِّيَادَةِ، كَخَلِيطَيْنِ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةُ شَاةٍ وَشَاةٌ وَاحِدَةٌ، عَلَيْهِمَا ثَلاَثُ شِيَاهٍ، وَلَوْلاَ الْخُلْطَةُ لَكَانَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَدْ يَكُونُ التَّأْثِيرُ تَخْفِيفًا عَلَى أَحَدِهِمَا وَتَثْقِيلاً عَلَى الآْخَرِ كَخَلِيطَيْنِ لأَِحَدِهِمَا أَرْبَعُونَ وَلِلآْخَرِ عِشْرُونَ.
الثَّالِثُ: السِّنُّ: كَاثْنَيْنِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا سِتٌّ وَثَلاَثُونَ مِنَ الإِْبِل فَعَلَيْهِمْ جَذَعَةٌ، عَلَى كُل وَاحِدٍ نِصْفُهَا، وَلَوْلاَ الْخُلْطَةُ لَكَانَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِنْتُ لَبُونٍ، فَحَصَل بِهَا تَغَيُّرٌ فِي السِّنِّ.
الرَّابِعُ: الصِّنْفُ، كَاثْنَيْنِ لأَِحَدِهِمَا أَرْبَعُونَ مِنَ الضَّأْنِ، وَلِلثَّانِي ثَمَانُونَ مِنَ الْمَعْزِ، فَعَلَيْهِمَا شَاةٌ مِنَ الْمَعْزِ، لأَِنَّ الْمَعْزَ أَكْثَرُ، كَالْمَالِكِ الْوَاحِدِ، فَقَدْ تَغَيَّرَ الصِّنْفُ بِالنِّسْبَةِ لِمَالِكِ الضَّأْنِ.
وَقَدْ لاَ تُوجِبُ الْخُلْطَةُ تَغْيِيرًا، كَاثْنَيْنِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَشْرُ شِيَاهٍ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِمَا مَعَ الْخُلْطَةِ أَوْ عَدَمِهَا. أَوِ اثْنَيْنِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِائَةُ شَاةٍ، فَعَلَيْهِمَا شَاتَانِ سَوَاءٌ اخْتَلَطَا أَمِ انْفَرَدَا (1) .
الْخَامِسُ: أَنَّ الْخُلْطَةَ تُفِيدُ جَوَازَ إِخْرَاجِ الْخَلِيطِ الزَّكَاةَ عَنْ خَلِيطِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 439 والفروع 2 / 383، وحاشية الشبراملسي على النهاية 3 / 59.(19/227)
وَالْحَنَابِلَةِ. قَال صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: عَقْدُ الْخُلْطَةِ جَعَل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالآْذِنِ لِخَلِيطِهِ فِي الإِْخْرَاجِ عَنْهُ. وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: يُجْزِئُ إِخْرَاجُ أَحَدِهِمَا بِلاَ إِذْنِ الآْخَرِ.
وَاخْتَارَ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ: لاَ يُجْزِئُ إِلاَّ بِإِذْنٍ (1) .
أَنْوَاعُ الأَْمْوَال الزَّكَوِيَّةِ الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا
تَأْثِيرُ الْخُلْطَةِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ:
أَوَّلاً: السَّائِمَةُ:
5 - قَدِ اتَّفَقَ مَنْ عَدَا الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْخُلْطَةَ مُؤَثِّرَةٌ فِيهَا. سَوَاءٌ أَكَانَتْ إِبِلاً مَعَ إِبِلٍ، أَوْ غَنَمًا مَعَ غَنْمٍ، أَوْ بَقَرًا مَعَ بَقَرٍ (2) .
ثَانِيًا: الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ:
فَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ أَيْضًا، فَلَوْ كَانَ نِصَابٌ مِنْهَا مُشْتَرِكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَكَذَا إِنْ كَانَ مُخْتَلِطًا خُلْطَةَ جِوَارٍ. وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ الْحَدِيثِ لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا الآْجُرِّيُّ وَصَحَّحَهَا ابْنُ عَقِيلٍ، وَوَجَّهَهَا الْقَاضِي بِأَنَّ
__________
(1) الفروع 2 / 405 ونهاية المحتاج 3 / 61.
(2) جواهر الإكليل 1 / 121 والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 439 ط عيسى الحلبي والمغني 2 / 607 وشرح المنهاج 2 / 12.(19/228)
الْمَئُونَةَ تَخِفُّ فَالْمُلَقِّحُ وَاحِدٌ، وَالْحِرَاثُ وَاحِدٌ، وَالْجَرِينُ وَاحِدٌ، وَكَذَا الدُّكَّانُ وَاحِدٌ، وَالْمِيزَانُ وَالْمَخْزَنُ وَالْبَائِعُ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ هُوَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْخُلْطَةَ فِيهَا لاَ تُؤَثِّرُ مُطْلَقًا، بَل يُزَكِّي مَال كُل شَرِيكٍ أَوْ خَلِيطٍ وَحْدَهُ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ قَال: وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَا عَلَى الْحَوْضِ وَالرَّاعِي وَالْفَحْل (1) فَدَل عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ خُلْطَةً مُؤَثِّرَةً، وَدَل عَلَى أَنَّ حَدِيثَ لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَاشِيَةِ.
وَوَجْهُ الْخُصُوصِيَّةِ أَنَّ الزَّكَاةَ تَقِل بِجَمْعِ الْمَاشِيَةِ تَارَةً وَتَزِيدُ أُخْرَى، وَسَائِرُ الأَْمْوَال غَيْرِ الْمَاشِيَةِ تَجِبُ فِيهَا فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ بِحِسَابِهِ فَلاَ أَثَرَ لِجَمْعِهَا؛ وَلأَِنَّ الْخُلْطَةَ فِي الْمَاشِيَةِ تُؤَثِّرُ لِلْمَالِكِ نَفْعًا تَارَةً وَضَرَرًا تَارَةً أُخْرَى، وَلَوِ اعْتُبِرَتْ فِي غَيْرِ الْمَاشِيَةِ أَثَّرَتْ ضَرَرًا مَحْضًا بِرَبِّ الْمَال، أَيْ فِي حَال انْفِرَادِ كُلٍّ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ بِأَقَل مِنَ النِّصَابِ، فَلاَ يَجُوزُ اعْتِبَارُهَا (2) .
__________
(1) حديث: " الخليطان ما اجتمعا على الحوض. . " أخرجه الدارقطني (2 / 104 - ط دار المحاسن) من حديث سعد بن أبي وقاص، وقال أبو حاتم الرازي في علل الحديث (1 / 219 - ط السلفية) : " هذا حديث باطل ".
(2) المغني 2 / 619 والفروع 2 / 398.(19/228)
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: التَّفْرِيقُ بَيْنَ خُلْطَةِ الاِشْتِرَاكِ، فَتُؤَثِّرُ وَبَيْنَ خُلْطَةِ الْجِوَارِ فَلاَ تُؤَثِّرُ مُطْلَقًا.
وَفِي قَوْلٍ رَابِعٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: تُؤَثِّرُ خُلْطَةُ الْجِوَارِ فِي الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ دُونَ النَّقْدِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ.
وَقَدْ نَقَل هَذَا الْقَوْل ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الأَْوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ (1) .
شُرُوطُ تَأْثِيرِ الْخُلْطَةِ فِي الزَّكَاةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا:
الَّذِينَ قَالُوا بِتَأْثِيرِ الْخُلْطَةِ فِي الزَّكَاةِ اشْتَرَطُوا لِذَلِكَ شُرُوطًا كَمَا يَلِي:
الشَّرْطُ الأَْوَّل:
6 - أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ نِصَابٌ تَامٌّ، وَهَذَا اشْتَرَطَهُ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَسَوَاءٌ خَالَطَ بِنِصَابِهِ التَّامِّ أَوْ بِبَعْضِهِ. فَلَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ أَوْ أَكْثَرُ مِنَ الْغَنَمِ فَخَالَطَ بِهَا كُلِّهَا مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ أَوْ أَكْثَرُ زُكِّيَ مَا لَهُمَا زَكَاةُ مَالِكٍ وَاحِدٍ. وَلَوْ أَنَّ أَحَدَهُمَا خَالَطَ بِعِشْرِينَ وَلَهُ غَيْرُهَا مِمَّا يَتِمُّ بِهِ مَا لَهُ نِصَابًا فَيَضُمُّ مَا لَمْ يُخَالِطْ بِهِ إِلَى مَال الْخُلْطَةِ وَتُزَكَّى غَنَمُهُمَا كُلُّهَا زَكَاةَ مَالِكٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ مَا تَخَالَطَا بِهِ نِصَابًا أَوْ أَكْثَرَ (2) .
__________
(1) المغني 2 / 619، وشرح المنهاج 2 / 13.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 440، والمغني 2 / 607.(19/229)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْمُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ الْمَالَيْنِ لاَ يَقِل عَنْ نِصَابٍ، فَإِنْ كَانَ مَجْمُوعُهُمَا أَقَل مِنْ نِصَابٍ فَلاَ أَثَرَ لِلْخُلْطَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لأَِحَدِهِمَا مَالٌ آخَرُ مِنْ جِنْسِ الْمَال الْمُخْتَلَطِ يَكْمُل بِهِ مَعَ مَالِهِ الْمُخْتَلِطِ نِصَابٌ، كَمَا لَوِ اخْتَلَطَا فِي عِشْرِينَ شَاةً لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْهَا عَشْرٌ فَلاَ أَثَرَ لِلْخُلْطَةِ، فَإِنْ كَانَ لأَِحَدِهِمَا ثَلاَثُونَ أُخْرَى زَكَّيَا زَكَاةَ الْخُلْطَةِ (1) .
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَالْخُلْطَةُ مُؤَثِّرَةٌ وَلَوْ لَمْ يَبْلُغْ مَال كُلٍّ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ نِصَابًا (2) .
الشَّرْطُ الثَّانِي:
7 - أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ، مُسْلِمًا، فَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا، لَمْ تَلْزَمِ الزَّكَاةُ الْكَافِرَ وَيُزَكِّي الْمُسْلِمُ زَكَاةَ مُنْفَرِدٍ. فَإِنْ كَانُوا ثَلاَثَةَ خُلَطَاءِ أَحَدُهُمْ كَافِرٌ زَكَّى الآْخَرَانِ مَالَيْهِمَا زَكَاةَ خُلْطَةٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا فِي كِلاَ الْخَلِيطَيْنِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا لأَِنَّ الْعَبْدَ لاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ.
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ لاَ يَكُونَ الْخَلِيطُ غَاصِبًا لِمَا هُوَ مُخَالِطٌ بِهِ (3) .
__________
(1) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج 3 / 59.
(2) الفروع 2 / 381.
(3) الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 440، والفروع 2 / 381.(19/229)
وَكَذَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ مَوْقُوفًا أَوْ لِبَيْتِ الْمَال (1) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
8 - نِيَّةُ الْخُلْطَةِ. وَهَذَا قَدِ اشْتَرَطَهُ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ خِلاَفُ الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَقَوْل الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ. قَال الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَالْمُرَادُ أَنْ يَنْوِيَ الْخُلْطَةَ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ أَوِ الْخُلَطَاءِ، لاَ وَاحِدٌ فَقَطْ، بِأَنْ يَنْوِيَا حُصُول الرِّفْقِ بِالاِخْتِلاَطِ لاَ الْفِرَارِ مِنَ الزَّكَاةِ. وَوَجَّهَهُ الْمَحَلِّيُّ بِأَنَّ الْخُلْطَةَ تُغَيِّرُ أَمْرَ الزَّكَاةِ بِالتَّكْثِيرِ أَوِ التَّقْلِيل وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُكْثِّرَ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ وَرِضَاهُ وَلاَ أَنْ يُقَلِّل إِذَا لَمْ يَقْصِدْهُ مُحَافَظَةً عَلَى حَقِّ الْفُقَرَاءِ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ أَثَرَ لِنِيَّةِ الْخُلْطَةِ، قَال الْمَحَلِّيُّ: لأَِنَّ الْخُلْطَةَ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ مِنْ جِهَةِ خِفَّةِ الْمُؤْنَةِ بِاتِّحَادِ الْمَرَافِقِ وَذَلِكَ لاَ يَخْتَلِفُ بِالْقَصْدِ وَعَدَمِهِ. وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّ النِّيَّةَ لاَ تُؤَثِّرُ فِي الْخَلْطَةِ فَلاَ تُؤَثِّرُ فِي حُكْمِهَا. وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخُلْطَةِ الاِرْتِفَاقُ وَهُوَ حَاصِلٌ وَلَوْ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، فَلَمْ يَتَغَيَّرْ وُجُودُهَا مَعَهُ كَمَا لاَ تَتَغَيَّرُ نِيَّةُ السَّوْمِ فِي الإِْسَامَةِ، وَلاَ نِيَّةُ السَّقْيِ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَلاَ نِيَّةُ مُضِيِّ الْحَوْل فِيمَا الْحَوْل شَرْطٌ فِيهِ (2) .
__________
(1) نهاية المحتاج 3 / 59.
(2) الدسوقي والشرح الكبير 1 / 440، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 12، والمغني لابن قدامة 2 / 609.(19/230)
الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
9 - الاِشْتِرَاكُ فِي مَرَافِقَ مُعَيَّنَةٍ، وَالْكَلاَمُ عَلَى ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالأَْنْعَامِ وَبِغَيْرِهَا. أَوَّلاً: الْخُلْطَةُ فِي الأَْنْعَامِ. وَجُمْلَةُ مَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ تِلْكَ الْمَرَافِقِ.
1 - الْمَشْرَعُ، أَيْ مَوْضِعُ الْمَاءِ الَّذِي تَشْرَبُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ حَوْضًا، أَوْ نَهْرًا، أَوْ عَيْنًا، أَوْ بِئْرًا، فَلاَ يَخْتَصُّ أَحَدُ الْمَالَيْنِ بِمَاءٍ دُونَ الآْخَرِ.
2 - الْمَرَاحُ، قَال الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي تَقِيل فِيهِ أَوْ تَجْتَمِعُ، ثُمَّ تُسَاقُ مِنْهُ لِلْمَبِيتِ أَوْ لِلسُّرُوحِ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الْمَرَاحُ مَأْوَاهَا لَيْلاً.
3 - الْمَبِيتُ: وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي تَقْضِي فِيهِ اللَّيْل.
4 - مَوْضِعُ الْحَلْبِ، وَالآْنِيَةُ الَّتِي يُحْلَبُ فِيهَا، وَالْحَالِبُ.
5 - الْمَسْرَحُ: وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَسْرَحُ إِلَيْهِ لِتَجْتَمِعَ وَتُسَاقُ إِلَى الْمَرْعَى.
6 - الْمَرْعَى: وَهُوَ مَكَانُ الرَّعْيِ وَهُوَ الْمَسْرَحُ نَفْسُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَغَيْرُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
7 - الرَّاعِي: وَلَوْ كَانَ لِكُلٍّ مِنَ الْمَالَيْنِ رَاعٍ لَكِنْ لَوْ تَعَاوَنَ الرَّاعِيَانِ فِي حِفْظِ الْمَالَيْنِ بِإِذْنِ صَاحِبِيهِمَا فَذَلِكَ مِنَ اتِّحَادِ الرَّاعِي أَيْضًا.
8 - الْفُحُولَةُ: بِأَنْ تَضْرِبَ فِي الْجَمِيعِ دُونَ تَمْيِيزٍ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي تَقَدَّمَ نَقْلُهُ(19/230)
الْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَا عَلَى الْحَوْضِ وَالْفَحْل وَالرَّاعِي (1) .
ثُمَّ إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: تَتِمُّ الْخُلْطَةُ بِثَلاَثَةٍ عَلَى الأَْقَل مِنْ خَمْسَةٍ هِيَ الْمَاءُ، وَالْمَرَاحُ، وَالْمَبِيتُ، وَالرَّاعِي، وَالْفَحْل، فَلَوِ انْفَرَدَا فِي اثْنَيْنِ مِنَ الْخَمْسَةِ أَوْ وَاحِدٍ لَمْ يَنْتَفِ حُكْمُ الْخُلْطَةِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الاِشْتِرَاكِ فِي سَبْعَةٍ هِيَ الْمَشْرَعُ، وَالْمَسْرَحُ، وَالْمَرَاحُ، وَمَوْضِعُ الْحَلْبِ، وَالرَّاعِي، وَالْفَحْل، وَالْمَرْعَى. وَزَادَ بَعْضُهُمْ غَيْرَهَا.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ لاَ بُدَّ مِنَ الاِشْتِرَاكِ فِي خَمْسَةٍ: الْمَسْرَحُ وَهُوَ الْمَرْعَى، وَالْمَبِيتُ، وَالْمَشْرَبُ، وَالْمَحْلَبُ، وَالْفَحْل، وَبَعْضُهُمْ أَضَافَ الرَّاعِيَ، وَبَعْضُهُمْ جَعَل الرَّاعِيَ وَالْمَرْعَى شَرْطًا وَاحِدًا. وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ خَلْطَ اللَّبَنِ (2) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ كُل مَنْفَعَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَنَافِعِ يَحْصُل الاِشْتِرَاكُ فِيهَا إِذَا لَمْ يَخْتَصَّ بِهَا أَحَدُ الْمَالَيْنِ دُونَ الآْخَرِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُمَا أَمْ لأَِحَدِهِمَا وَأُذِنَ لِلآْخَرِ أَوْ لِغَيْرِهِمَا وَأَعَارَهُ لَهُمَا أَوْ كَانَتْ مُبَاحَةً لِلنَّاسِ كَمَا فِي الْمَبِيتِ وَالْمَرَاحِ وَالْمَشْرَبِ.
__________
(1) حديث: " الخليطان ما اجتمعا. . " تقدم تخريجه ف / 5.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 440 والفروع لابن مفلح 2 / 382، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 11، 12 والمغني 2 / 608.(19/231)
10 - ثَانِيًا: الْخُلْطَةُ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَالَّذِينَ قَالُوا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّ الْخُلْطَةَ تُؤَثِّرُ فِيهَا حَتَّى تُؤْخَذَ مِنَ النِّصَابِ وَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لأَِكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، قَالُوا: يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَتَمَيَّزَ (النَّاطُورُ) وَهُوَ حَافِظُ النَّخْل وَالشَّجَرِ (وَالْجَرِينُ) وَهُوَ مَوْضِعُ جَمْعِ الثَّمَرِ وَتَجْفِيفِهِ، قَال الرَّمْلِيُّ: وَزَادَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ اتِّحَادَ الْمَاءِ، وَالْحِرَاثِ، وَالْعَامِل، وَجُذَاذِ النَّخْل، وَالْمُلَقِّحِ، وَاللَّقَّاطِ، وَمَا يُسْقَى لَهُمَا بِهِ.
وَفِي خُلْطَةِ التَّاجِرَيْنِ اشْتَرَطُوا اتِّحَادَ الدُّكَّانِ وَالْحَارِسِ وَمَكَانِ الْحِفْظِ وَنَحْوِهَا، وَلَوْ كَانَ مَال كُلٍّ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزًا، كَأَنْ تَكُونَ دَرَاهِمُ أَحَدِهِمَا فِي كِيسٍ وَدَرَاهِمُ الآْخَرِ فِي كِيسٍ إِلاَّ أَنَّ الصُّنْدُوقَ وَاحِدٌ. وَفِيمَا زَادَهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: اتِّحَادُ الْحَمَّال، وَالْكَيَّال، وَالْوَزَّانِ، وَالْمِيزَانِ (1) .
وَفِيمَا عَلَّل بِهِ الذَّاهِبُونَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى تَأْثِيرِ الْخُلْطَةِ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْعُرُوضِ إِيمَاءً إِلَى اشْتِرَاطِ مِثْل مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُغْنِي: خَرَّجَ الْقَاضِي وَجْهًا فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ أَنَّ الْخُلْطَةَ تُؤَثِّرُ لأَِنَّ الْمَئُونَةَ تَخِفُّ إِذَا كَانَ الْمُلَقِّحُ وَاحِدًا، وَالصَّعَّادُ وَالنَّاطُورُ وَالْجَرِينُ. وَكَذَلِكَ أَمْوَال التِّجَارَةِ، فَالدُّكَّانُ وَالْمَخْزَنُ وَالْمِيزَانُ وَالْبَائِعُ وَاحِدٌ (2) . وَعَبَّرَ فِي الْفُرُوعِ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِاتِّحَادِ الْمُؤَنِ وَمَرَافِقِ الْمِلْكِ (3) .
__________
(1) شرح المنهاج 2 / 13.
(2) المغني 2 / 619.
(3) الفروع لابن مفلح 2 / 398، بيروت، نشر عالم الكتب.(19/231)
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الْحَوْل فِي الأَْمْوَال الْحَوْلِيَّةِ. وَهَذَا الشَّرْطُ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ. وَالْحَنَابِلَةِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُعْتَبَرُ اخْتِلاَطُهُمْ فِي جَمِيعِ الْحَوْل، فَإِنْ ثَبَتَ لَهُمْ حُكْمُ الاِنْفِرَادِ فِي بَعْضِهِ زَكَّوْا زَكَاةَ مُنْفَرِدِينَ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ مَلَكَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَرْبَعِينَ شَاةً فِي غُرَّةِ الْمُحَرَّمِ ثُمَّ خَلَطَا فِي غُرَّةِ صَفَرٍ فَلاَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْخُلْطَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَيَثْبُتُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ.
وَالْمَذْهَبُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ تَمَامِ الْحَوْل عَلَى الاِخْتِلاَطِ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا شَاةٌ كَامِلَةٌ فِي نِهَايَةِ السَّنَةِ الأُْولَى عَلَى الْجَدِيدِ فِي الْمِثَال السَّابِقِ. وَفِي الْقَدِيمِ نِصْفُ شَاةٍ (1) .
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ الْمُشْتَرَطَ الاِخْتِلاَطُ آخِرَ حَوْل الْمِلْكِ وَقَبْلَهُ بِنَحْوِ شَهْرٍ، وَلَوْ كَانَا قَبْل ذَلِكَ مُنْفَرِدَيْنِ، فَيَكْفِي اخْتِلاَطُهُمَا فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ مِنْ حِينِ الْمِلْكِ مَا لَمْ يَقْرُبْ آخِرُ السَّنَةِ جِدًّا (2) .
فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَال حَوْلِيًّا، كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ عِنْدَ مَنْ قَال بِتَأْثِيرِ الْخُلْطَةِ فِيهَا، قَال الرَّمْلِيُّ: الْمُعْتَبَرُ بَقَاءُ الْخُلْطَةِ إِلَى زُهُوِّ الثِّمَارِ، وَاشْتِدَادِ الْحَبِّ فِي النَّبَاتِ (3) .
__________
(1) شرح المنهاج 2 / 12.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 440.
(3) نهاية المحتاج 3 / 60.(19/232)
كَيْفِيَّةُ إِخْرَاجِ زَكَاةِ الْمَال الْمُخْتَلَطِ:
12 - الْخُلَطَاءُ سَوَاءٌ أَكَانُوا فِي خُلْطَةِ اشْتِرَاكٍ أَمْ فِي خُلْطَةِ جِوَارٍ، يُعَامَل مَالُهُمُ الَّذِي تَخَالَطُوا فِيهِ مُعَامَلَةَ مَال رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ السَّاعِيَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْفَرْضَ مِنْ مَال أَيِّ الْخَلِيطَيْنِ شَاءَ، سَوَاءٌ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْفَرِيضَةُ عَيْنًا وَاحِدَةً لاَ يُمْكِنُ أَخْذُهَا مِنَ الْمَالَيْنِ جَمِيعًا، أَوْ كَانَ لاَ يَجِدُ فَرْضَهُمَا جَمِيعًا إِلاَّ فِي أَحَدِ الْمَالَيْنِ، مِثْل أَنْ يَكُونَ مَال أَحَدِهِمَا صِغَارًا، وَمَال الآْخَرِ كِبَارًا، أَوْ يَكُونُ مَال أَحَدِهِمَا مِرَاضًا، وَمَال الآْخَرِ صِحَاحًا، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ صَحِيحَةً كَبِيرَةً، أَوْ لَمْ تَدْعُ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ. قَال أَحْمَدُ: إِنَّمَا يَجِيءُ الْمُصَدِّقُ (أَيِ الْجَابِي) فَيَجِدُ الْمَاشِيَةَ فَيَصْدُقُهَا، لَيْسَ يَجِيءُ فَيَقُول: أَيُّ شَيْءٍ لَكَ؟ وَإِنَّمَا يَصْدُقُ مَا يَجِدُهُ. وَقَال الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ لأَِحْمَدَ: أَنَا رَأَيْتُ مِسْكِينًا كَانَ لَهُ فِي غَنَمٍ شَاتَانِ، فَجَاءَ الْمُصَدِّقُ فَأَخَذَ إِحْدَاهُمَا. وَلأَِنَّ الْمَالَيْنِ قَدْ صَارَا كَالْمَال الْوَاحِدِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَكَذَلِكَ فِي إِخْرَاجِهَا (1) .
التَّرَادُّ فِيمَا يَأْخُذُهُ السَّاعِي مِنْ زَكَاةِ الْمَال الْمُخْتَلِطِ:
13 - إِنْ كَانَتِ الْخُلْطَةُ خُلْطَةَ اشْتِرَاكٍ، وَالْمَال مُشَاعٌ بَيْنَ الْخَلِيطَيْنِ، فَإِنَّ مَا يَأْخُذُهُ السَّاعِي هُوَ
__________
(1) المغني 2 / 615.(19/232)
مِنَ الْمُشَاعِ بَيْنَ الْخُلَطَاءِ، فَلاَ إِشْكَال؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمْ بِنِسْبَةِ مِلْكِهِمْ فِي أَصْل الْمَال.
وَإِنْ كَانَتْ خُلْطَةَ جِوَارٍ، فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَأْخُذَ بِحَقٍّ أَوْ بِبَاطِلٍ.
الْحَالَةُ الأُْولَى:
أَنْ يَأْخُذَ بِحَقٍّ، وَحِينَئِذٍ فَمَا أَخَذَهُ يَتَرَاجَعَانِ فِي قِيمَتِهِ بِالنِّسْبَةِ الْعَدَدِيَّةِ لِكُلٍّ مِنْ مَالَيْهِمَا. فَلَوْ خَلَطَا عِشْرِينَ مِنَ الْغَنَمِ بِعِشْرِينَ، فَأَخَذَ السَّاعِي شَاةً مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الشَّاةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُ، لاَ بِنِصْفِ شَاةٍ؛ لأَِنَّ الشَّاةَ غَيْرُ مِثْلِيَّةٍ.
وَلَوْ كَانَ لأَِحَدِهِمَا مِائَةٌ وَلِلآْخَرِ خَمْسُونَ فَأَخَذَ السَّاعِي الشَّاتَيْنِ الْوَاجِبَتَيْنِ مِنْ غَنَمِ صَاحِبِ الْمِائَةِ، رَجَعَ بِثُلُثِ قِيمَتِهِمَا، أَوْ مِنْ صَاحِبِ الْخَمْسِينَ رَجَعَ عَلَى الآْخَرِ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهِمَا، أَوْ أَخَذَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا شَاةً، رَجَعَ صَاحِبُ الْمِائَةِ بِثُلُثِ قِيمَةِ شَاتِهِ، وَصَاحِبُ الْخَمْسِينَ بِثُلُثَيْ قِيمَةِ شَاتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ وَتَنَازَعَا فِي قِيمَةِ الْمَأْخُوذِ، فَالْقَوْل قَوْل الْمَرْجُوعِ عَلَيْهِ بِيَمِينِهِ إِذَا احْتَمَل قَوْلُهُ الصِّدْقَ لأَِنَّهُ غَارِمٌ (1) .
وَالْمُعْتَبَرُ فِي قِيمَةِ الْمَرْجُوعِ بِهِ يَوْمَ الأَْخْذِ فِي قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ؛ لأَِنَّهُ بِمَعْنَى الاِسْتِهْلاَكِ، وَقَال أَشْهَبُ: يَوْمَ التَّرَاجُعِ؛ لأَِنَّهُ بِمَعْنَى السَّلَفِ، وَالْمُتَسَلِّفُ إِذَا عَجَزَ عَنْ رَدِّ مَا تَسَلَّفَهُ وَأَرَادَ رَدَّ
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 12، والفروع 2 / 399، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 440.(19/233)
قِيمَتِهِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَضَاءِ (1) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ:
أَنْ يَأْخُذَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهَذَا عَلَى نَوْعَيْنِ؛ لأَِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَأَوِّلاً تَأْوِيلاً سَائِغًا أَوْ لاَ.
فَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلاً تَأْوِيلاً سَائِغًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَأَى جَوَازَ ذَلِكَ شَرْعًا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ أَخَذَ بِحَقٍّ. وَمِثَال ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنْ يَأْخُذَ شَاةً مِنْ خَلِيطَيْنِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عِشْرُونَ شَاةً، فَيَتَرَاجَعَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَالأَْصْل عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذَا الأَْخْذَ بِغَيْرِ حَقٍّ، لأَِنَّ الْخُلْطَةَ لاَ تُؤَثِّرُ تَكْمِيل النِّصَابِ كَمَا تَقَدَّمَ، بِخِلاَفِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَمِثَالُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا لَوْ أَخَذَ شَاتَيْنِ مِنْ خَلِيطَيْنِ لأَِحَدِهِمَا مِائَةٌ، وَلِلآْخَرِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، فَعَلَى الأَْوَّل أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الشَّاتَيْنِ، وَعَلَى الآْخَرِ خُمْسُهُمَا، لأَِنَّ أَخْذَ السَّاعِي يُنَزَّل مَنْزِلَةَ حُكْمِ الْحَاكِمِ، لأَِنَّهُ نَائِبُ الإِْمَامِ فَفِعْلُهُ كَفِعْلِهِ.
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ، أَوْ كَانَ مُتَأَوِّلاً وَلاَ وَجْهَ لِتَأَوُّلِهِ، فَلاَ تُرَاجَعُ، وَهِيَ مُصِيبَةٌ حَلَّتْ بِمَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ، إِذِ الْمَظْلُومُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَظْلِمَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ.
مِثَال ذَلِكَ، أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنَ الْخَلِيطَيْنِ ثَلاَثُونَ شَاةً، فَيَأْخُذَ السَّاعِي مِنْ مَال أَحَدِهِمَا شَاتَيْنِ، فَيَرْجِعَ عَلَى الآْخَرِ بِنِصْفِ إِحْدَى
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 441.(19/233)
الشَّاتَيْنِ لاَ غَيْرُ، أَمَّا الأُْخْرَى فَقَدْ ذَهَبَتْ مِنْ مَال مَنْ أُخِذَتْ مِنْهُ؛ لأَِنَّهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ السَّاعِي أَخَذَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ لَيْسَ لَهُ أَخْذُهَا، فَتَكُونُ غَصْبًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ يَرَى أَنَّ أَخْذَهَا حَقٌّ شَرْعًا، فَيَكُونُ أَخْذُهَا جَهْلاً مَحْضًا لاَ عِبْرَةَ بِهِ وَلاَ يُنَزَّل مَنْزِلَةَ حُكْمِ الْحَاكِمِ، إِذْ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِخِلاَفِ الإِْجْمَاعِ يُنْقَضُ (1) .
وَكَذَا إِنْ أَخَذَ السَّاعِي سِنًّا أَكْبَرَ مِنَ الْوَاجِبِ يَرْجِعُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ عَلَى خَلِيطِهِ بِقِيمَةِ حِصَّتِهِ مِنَ السِّنِّ الْوَاجِبَةِ، كَمَا لَوْ أَخَذَ جَذَعَةً عَنْ ثَلاَثِينَ مِنَ الإِْبِل بَيْنَ اثْنَيْنِ، يَرْجِعُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ بِقِيمَةِ نِصْفِ بِنْتِ مَخَاضٍ لأَِنَّ الزِّيَادَةَ ظُلْمٌ (2) .
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 1 / 441، 442، والمغني 2 / 615، والفروع 2 / 402.
(2) الفروع 2 / 399.(19/234)
خَلْعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْخَلْعُ (بِالْفَتْحِ) لُغَةً هُوَ النَّزْعُ وَالتَّجْرِيدُ، وَالْخُلْعُ (بِالضَّمِّ) اسْمٌ مِنَ الْخَلْعِ (1) .
وَأَمَّا الْخُلْعُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ عَرَّفُوهُ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِ مَذَاهِبِهِمْ فِي كَوْنِهِ طَلاَقًا أَوْ فَسْخًا، فَالْحَنَفِيَّةُ يُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ: أَخْذِ مَالٍ مِنَ الْمَرْأَةِ بِإِزَاءِ مِلْكِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْخُلْعِ (2) .
وَتَعْرِيفُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي الْجُمْلَةِ هُوَ: فُرْقَةٌ بِعِوَضٍ مَقْصُودٍ لِجِهَةِ الزَّوْجِ بِلَفْظِ طَلاَقٍ أَوْ خُلْعٍ (3) .
__________
(1) الصحاح، القاموس، اللسان، المصباح مادة: " خلع ".
(2) الاختيار 3 / 156، ط المعرفة، فتح القدير مع العناية 3 / 199، ط بولاق، حاشية ابن عابدين على الدر المختار 2 / 556 - 557، ط الأميرية، تبيين الحقائق 2 / 267 - ط الأميرية.
(3) جواهر الإكليل 1 / 330 - ط المعرفة، حاشية الدسوقي 2 / 347 - ط الفكر، الزرقاني 4 / 64، ط الفكر، حاشية البناني على الزرقاني 4 / 63 - ط الفكر، أسهل المدارك 2 / 157 - ط الثانية، حاشية القليوبي 3 / 307 - ط الحلبي، روضة الطالبين 7 / 374 - ط المكتب الإسلامي، كشاف القناع 5 / 212 - ط النصر، الإنصاف 8 / 382 - ط التراث.(19/234)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الصُّلْحُ:
2 - الصُّلْحُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ مِنَ الْمُصَالَحَةِ وَهِيَ التَّوْفِيقُ وَالْمُسَالَمَةُ بَعْدَ الْمُنَازَعَةِ، وَمَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ عَقْدٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ، وَالصُّلْحُ مِنَ الأَْلْفَاظِ الَّتِي يَئُول إِلَيْهَا مَعْنَى الْخُلْعِ الَّذِي هُوَ بَذْل الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلاَقِهَا، وَالْخُلْعُ يُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى حَالَةِ بَذْلِهَا لَهُ جَمِيعَ مَا أَعْطَاهَا، وَالصُّلْحُ عَلَى حَالَةِ بَذْلِهَا بَعْضَهُ (1) .
ب - الطَّلاَقُ:
3 - الطَّلاَقُ مِنْ أَلْفَاظِ الْخُلْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ بِمَعْنَى التَّطْلِيقِ، كَالسَّلاَمِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ وَتَرْكِيبُ هَذَا اللَّفْظِ يَدُل عَلَى الْحِل وَالاِنْحِلاَل، وَمِنْهُ إِطْلاَقُ الأَْسِيرِ إِذَا حَل إِسَارُهُ وَخُلِّيَ عَنْهُ.
وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَمَعْنَاهُ: رَفْعُ قَيْدِ النِّكَاحِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَأَمَّا صِلَتُهُ بِالْخُلْعِ، سِوَى مَا ذُكِرَ فَهِيَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْخُلْعِ هَل هُوَ طَلاَقٌ بَائِنٌ، أَوْ رَجْعِيٌّ، أَوْ فَسْخٌ، عَلَى أَقْوَالٍ سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا (2) .
__________
(1) المصباح مادة: " صلح "، التعريفات للجرجاني / 176 - ط العربي، بداية المجتهد 2 / 57 - ط التجارية الكبرى.
(2) المغرب / 292 - ط العربي، والصحاح والمصباح مادة: " طلق "، البناية في شرح الهداية 4 / 368 - ط الفكر، التعريفات للجرجاني / 183 - ط العربي، حاشية القليوبي 3 / 323 - ط الحلبي، كشاف القناع 5 / 232 - ط النصر.(19/235)
وَالطَّلاَقُ عَلَى مَالٍ هُوَ فِي أَحْكَامِهِ كَالْخُلْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَلاَقٌ بِعِوَضٍ فَيُعْتَبَرُ فِي أَحَدِهِمَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الآْخَرِ إِلاَّ أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يَسْقُطُ بِالْخُلْعِ فِي رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ كُل الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لأَِحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الآْخَرِ بِسَبَبِ الزَّوَاجِ، كَالْمَهْرِ، وَالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ الْمُتَجَمِّدَةِ أَثْنَاءَ الزَّوَاجِ، لَكِنْ لاَ تَسْقُطُ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ لأَِنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً قَبْل الْخُلْعِ فَلاَ يُتَصَوَّرُ إِسْقَاطُهَا بِهِ، بِخِلاَفِ الطَّلاَقِ عَلَى مَالٍ فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَيْنِ، وَيَجِبُ بِهِ الْمَال الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَقَطْ.
الثَّانِي: إِذَا بَطَل الْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ مِثْل أَنْ يُخَالِعَ الْمُسْلِمُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ فَلاَ شَيْءَ لِلزَّوْجِ، وَالْفُرْقَةُ بَائِنَةٌ، بِخِلاَفِ الطَّلاَقِ فَإِنَّ الْعِوَضَ إِذَا بَطَل فِيهِ وَقَعَ رَجْعِيًّا فِي غَيْرِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ؛ لأَِنَّ الْخُلْعَ كِنَايَةٌ، أَمَّا الطَّلاَقُ عَلَى مَالٍ فَهُوَ صَرِيحٌ، وَالْبَيْنُونَةُ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِتَسْمِيَةِ الْعِوَضِ إِذَا صَحَّتِ التَّسْمِيَةُ، فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ صَرِيحُ الطَّلاَقِ فَيَكُونُ رَجْعِيًّا.
الثَّالِثُ: الطَّلاَقُ عَلَى مَالٍ، طَلاَقٌ بَائِنٌ، يَنْقُصُ بِهِ عَدَدُ الطَّلْقَاتِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَأَمَّا الْخُلْعُ فَالْفُقَهَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي كَوْنِهِ طَلاَقًا يَنْقُصُ بِهِ عَدَدُ(19/235)
الطَّلْقَاتِ، أَوْ فَسْخًا لاَ يَنْقُصُ بِهِ عَدَدُهَا (1) كَمَا سَيَأْتِي.
ج - الْفِدْيَةُ:
4 - الْفِدْيَةُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْمَال الَّذِي يُدْفَعُ لاِسْتِنْقَاذِ الأَْسِيرِ، وَجَمْعُهَا فِدًى وَفِدْيَاتٍ، وَفَادِيَتُهُ مُفَادَاةً، وَفِدَاءً أَطْلَقْتَهُ وَأَخَذْتَ فِدْيَتَهُ. وَفَدَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ زَوْجِهَا تَفْدِي، وَافْتَدَتْ أَعْطَتْهُ مَالاً حَتَّى تَخَلَّصَتْ مِنْهُ بِالطَّلاَقِ، وَالْفُقَهَاءُ لاَ يَخْرُجُونَ فِي تَعْرِيفِهِمْ لِلْفِدْيَةِ عَمَّا وَرَدَ فِي اللُّغَةِ. وَالْفِدْيَةُ وَالْخُلْعُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ بَذْل الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلاَقِهَا، وَلَفْظُ الْمُفَادَاةِ مِنَ الأَْلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ فِي الْخُلْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِوُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ (2) .
د - الْفَسْخُ:
5 - الْفَسْخُ مَصْدَرُ فَسَخَ وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ الإِْزَالَةُ، وَالرَّفْعُ، وَالنَّقْضُ، وَالتَّفْرِيقُ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ وَابْنُ نُجَيْمٍ أَنَّ حَقِيقَةَ الْفَسْخِ حَل ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ، وَذَكَرَ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 152 ط الجمالية، تبيين الحقائق 2 / 268 - ط بولاق، الاختيار 3 / 157 - ط المعرفة، فتح القدير 3 / 205 - ط الأميرية، حاشية ابن عابدين 2 / 561 - ط المصرية ببولاق.
(2) المصباح مادة: " فدى "، بداية المجتهد 2 / 57 - ط التجارية الكبرى، ومغني المحتاج 3 / 268 - ط التراث، المغني 7 / 57 - ط الرياض.(19/236)
الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْفَسْخَ قَلْبُ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْعِوَضَيْنِ إِلَى صَاحِبِهِ، وَالاِنْفِسَاخُ انْقِلاَبُ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْعِوَضَيْنِ إِلَى دَافِعِهِ، وَصِلَةُ الْفَسْخِ بِالْخُلْعِ هِيَ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ عَلَى قَوْلٍ (1) . وَالْفَسْخُ مِنَ الأَْلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ فِي الْخُلْعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ
. هـ - الْمُبَارَأَةُ:
6 - الْمُبَارَأَةُ صِيغَةُ مُفَاعَلَةٍ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْبَرَاءَةِ، وَهِيَ فِي الاِصْطِلاَحِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْخُلْعِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُوَ بَذْل الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلاَقِهَا لَكِنَّهَا تَخْتَصُّ بِإِسْقَاطِ الْمَرْأَةِ عَنِ الزَّوْجِ حَقًّا لَهَا عَلَيْهِ (2) . وَهِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَالْخُلْعِ كِلاَهُمَا يُسْقِطَانِ كُل حَقٍّ لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الآْخَرِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ كَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ دُونَ الْمُسْتَقْبَلَةِ؛ لأَِنَّ الْخُلْعَ يُنْبِئُ عَنِ الْفَصْل، وَمِنْهُ خَلْعُ النَّعْل وَخَلْعُ الْعَمَل وَهُوَ مُطْلَقٌ كَالْمُبَارَأَةِ فَيُعْمَل بِإِطْلاَقِهِمَا فِي النِّكَاحِ وَأَحْكَامِهِ وَحُقُوقِهِ. وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ يَسْقُطُ بِهِمَا إِلاَّ مَا سَمَّيَاهُ لأَِنَّ هَذِهِ مُعَاوَضَةٌ، وَفِي الْمُعَاوَضَاتِ
__________
(1) المصباح مادة: " فسخ "، الأشباه والنظائر للسيوطي / 287 - ط العلمية، الأشباه والنظائر لابن نجيم / 338 - ط الهلال، المنثور 3 / 42 - ط الأولى، الفروق للقرافي 3 / 269 - المغني 7 / 57 - ط الرياض.
(2) طلبة الطلبة / 126، ط القلم، والموسوعة الفقهية 1 / 143 - ط الموسوعة.(19/236)
يُعْتَبَرُ الْمَشْرُوطُ لاَ غَيْرُهُ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ وَافَقَ مُحَمَّدًا فِي الْخُلْعِ وَخَالَفَهُ فِي الْمُبَارَأَةِ، وَخَالَفَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي الْخُلْعِ، وَوَافَقَهُ فِي الْمُبَارَأَةِ؛ لأَِنَّ الْمُبَارَأَةَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْبَرَاءَةِ فَتَقْتَضِيهَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَأَنَّهُ مُطْلَقٌ قَيَّدْنَاهُ بِحُقُوقِ النِّكَاحِ لِدَلاَلَةِ الْغَرَضِ، أَمَّا الْخُلْعُ فَمُقْتَضَاهُ الاِنْخِلاَعُ، وَقَدْ حَصَل فِي نَقْضِ النِّكَاحِ وَلاَ ضَرُورَةَ إِلَى انْقِطَاعِ الأَْحْكَامِ (1) .
حَقِيقَةُ الْخُلْعِ:
7 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْخُلْعَ إِذَا وَقَعَ بِلَفْظِ الطَّلاَقِ أَوْ نَوَى بِهِ الطَّلاَقَ فَهُوَ طَلاَقٌ وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي وُقُوعِهِ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلاَقِ وَلَمْ يَنْوِ بِهِ صَرِيحَ الطَّلاَقِ أَوْ كِنَايَتَهُ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُفْتَى بِهِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلاَقٌ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَشْهَرِ مَا يُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ فَسْخٌ (2) .
__________
(1) فتح القدير مع العناية 3 / 215 - 216 - ط الأميرية، تبيين الحقائق 2 / 272 - ط بولاق، الاختيار 3 / 160 - ط المعرفة.
(2) لمبسوط 6 / 171 - ط السعادة، البناية 4 / 658 - ط الفكر، تبيين الحقائق 2 / 268 - ط بولاق، بداية المجتهد 3 / 59 - ط التجارية، مواهب الجليل 4 / 19 - ط النجاح، الخرشي 4 / 12، ط بولاق، شرح الرسالة مع حاشية العدوي 2 / 103 - ط المعرفة، روضة الطالبين 7 / 375 - ط المكتب الإسلامي، الكافي 3 / 145 - ط المكتب الإسلامي، كشاف القناع 5 / 216 - ط النصر، المغني 7 / 56 - ط الرياض، الإنصاف 8 / 392 - 393 - ط التراث.(19/237)
هَذَا وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْخُلْعَ طَلاَقٌ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ (1) ، لأَِنَّ الزَّوْجَ مَلَكَ الْبَدَل عَلَيْهَا فَتَصِيرُ هِيَ بِمُقَابَلَتِهِ أَمْلَكَ لِنَفْسِهَا؛ وَلأَِنَّ غَرَضَهَا مِنَ الْتِزَامِ الْبَدَل أَنْ تَتَخَلَّصَ مِنَ الزَّوْجِ وَلاَ يَحْصُل ذَلِكَ إِلاَّ بِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ. إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ ذَكَرُوا أَنَّ الزَّوْجَ إِنْ نَوَى بِالْخُلْعِ ثَلاَثَ تَطْلِيقَاتٍ فَهِيَ ثَلاَثٌ، لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ غَيْرِ زُفَرَ، وَعِنْدَهُ ثِنْتَانِ، كَمَا فِي لَفْظِ الْحُرْمَةِ وَالْبَيْنُونَةِ وَبِهِ قَال مَالِكٌ (2) .
وَالْخِلاَفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الْخُلْعِ لاَ قَبْلَهُ، وَسَبَبُ الْخِلاَفِ فِي كَوْنِ الْخُلْعِ طَلاَقًا أَوْ فَسْخًا، أَنَّ اقْتِرَانَ الْعِوَضِ فِيهِ هَل يُخْرِجُهُ مِنْ نَوْعِ فُرْقَةِ الطَّلاَقِ إِلَى نَوْعِ فُرْقَةِ الْفَسْخِ، أَوْ لاَ يُخْرِجُهُ (3) .
احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
__________
(1) ذكر ابن حزم في المحلى أنه طلاق رجعي إلا أن يطلقها ثلاثًا أو آخر ثلاث أو تكون غير موطوءة فإن راجعها في العدة جاز ذلك أحبت أم كرهت ويرد ما أخذ منها إليها المحلى 10 / 235، سنة 1978 - ط المنيرية.
(2) المبسوط 6 / 172 - ط السعادة، تفسير القرطبي 3 / 143 - ط الثانية.
(3) تبيين الحقائق 2 / 268 - ط بولاق، بداية المجتهد 2 / 60 - ط التجارية الكبرى.(19/237)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} ثُمَّ قَال: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ثُمَّ قَال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (1) ، فَذَكَرَ تَطْلِيقَتَيْنِ، وَالْخُلْعَ، وَتَطْلِيقَةً بَعْدَهَا، فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلاَقًا لَكَانَ أَرْبَعًا؛ وَلأَِنَّهَا فُرْقَةٌ خَلَتْ عَنْ صَرِيحِ الطَّلاَقِ وَنِيَّتِهِ فَكَانَتْ فَسْخًا كَسَائِرِ الْفُسُوخِ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ (2) .
وَبِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ (3) .
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْخُلْعَ
__________
(1) سورة البقرة / 229 - 230.
(2) حديث ابن عباس: " أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها ". أخرجه أبو داود (2 / 669 - 670 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (3 / 482 - ط الحلبي) . وقال: " حديث حسن ".
(3) حديث الربيع بنت معوذ أنها اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه الترمذي (3 / 482 - ط الحلبي) . وإسناده صحيح.(19/238)
لَوْ كَانَ طَلاَقًا لَمْ يَقْتَصِرْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الأَْمْرِ بِحَيْضَةٍ (1) .
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْخُلْعَ طَلاَقٌ بِأَنَّهُ لَفْظٌ لاَ يَمْلِكُهُ إِلاَّ الزَّوْجُ فَكَانَ طَلاَقًا، وَلَوْ كَانَ فَسْخًا لَمَا جَازَ عَلَى غَيْرِ الصَّدَاقِ كَالإِْقَالَةِ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى جَوَازِهِ بِمَا قَل وَكَثُرَ فَدَل عَلَى أَنَّهُ طَلاَقٌ؛ وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ إِنَّمَا بَذَلَتِ الْعِوَضَ لِلْفُرْقَةِ، وَالْفُرْقَةُ الَّتِي يَمْلِكُ الزَّوْجُ إِيقَاعَهَا هِيَ الطَّلاَقُ دُونَ الْفَسْخِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَلاَقًا؛ وَلأَِنَّهُ أَتَى بِكِنَايَةِ الطَّلاَقِ قَاصِدًا فِرَاقَهَا، فَكَانَ طَلاَقًا كَغَيْرِ الْخُلْعِ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلاَقِ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَوْقُوفًا عَلَيْهِمُ: الْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ، وَالْمَعْنَى فِيهِ كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ النِّكَاحَ لاَ يَحْتَمِل الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ.
وَالْخُلْعُ يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَيُجْعَل لَفْظُ الْخُلْعِ عِبَارَةً عَنْ رَفْعِ الْعَقْدِ فِي الْحَال مَجَازًا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالطَّلاَقِ، وَأَمَّا الآْيَةُ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى التَّطْلِيقَةَ الثَّالِثَةَ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، وَبِهَذَا لاَ يَصِيرُ الطَّلاَقُ أَرْبَعًا، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ خِلاَفٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَدْ ثَبَتَ رُجُوعُهُ عَنْهُ (2) .
__________
(1) نيل الأوطار 7 / 35، 38 - ط الجيل، تبيين الحقائق 2 / 268 - ط بولاق، تفسير القرطبي 3 / 143 - 144 - ط الثانية، المغني 7 / 57، - ط الرياض.
(2) المبسوط 6 / 171 - 172 - ط السعادة، تبيين الحقائق 2 / 268 - ط بولاق، المغني 7 / 57 - ط الرياض، فتح الباري 4 / 396 - ط الرياض.(19/238)
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِ الْخُلْعِ طَلاَقًا أَنَّهُ إِنْ نَوَى بِالْخُلْعِ أَكْثَر مِنْ تَطْلِيقَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ يَقَعُ مَا نَوَاهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ نَوَى ثَلاَثَ تَطْلِيقَاتٍ فَهِيَ ثَلاَثٌ، لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ غَيْرِ زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْخُلْعَ مَعْنَاهُ الْحُرْمَةُ، وَهِيَ لاَ تَحْتَمِل التَّعَدُّدَ لَكِنَّ نِيَّةَ الثَّلاَثِ تَدُل عَلَى تَغْلِيظِ الْحُرْمَةِ فَتُعْتَبَرُ بَيْنُونَةً كُبْرَى.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِهِ فَسْخًا أَنَّهُ لَوْ خَالَعَهَا مَرَّتَيْنِ ثُمَّ خَالَعَهَا مَرَّةً أُخْرَى، أَوْ خَالَعَهَا بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَتَّى وَإِنْ خَالَعَهَا مِائَةَ مَرَّةٍ؛ لأَِنَّ الْخُلْعَ عَلَى هَذَا الْقَوْل لاَ يُحْتَسَبُ مِنَ الطَّلْقَاتِ (1) .
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا إِذَا نَوَى بِالْخُلْعِ الطَّلاَقَ مَعَ تَفْرِيعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ فَسْخٌ هَل يَقَعُ الطَّلاَقُ أَوْ لاَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ (2) .
8 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الْخُلْعِ مُعَاوَضَةً مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ، أَوْ مِنْهُمَا مَعًا، وَفِي كَوْنِهِ يَمِينًا مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ أَوْ مِنْهُمَا
__________
(1) المبسوط 6 / 172 - ط السعادة، تفسير القرطبي 3 / 143 - ط الثانية، روضة الطالبين 7 / 375 - ط المكتب الإسلامي، المغني 7 / 57 - ط الرياض.
(2) الروضة 7 / 375.(19/239)
مَعًا، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ مُعَاوَضَةٌ، وَمِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ يَمِينٌ، وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّهُ يَمِينٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِ الْخُلْعِ يَمِينًا مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ رُجُوعُهُ عَنْهُ قَبْل قَبُولِهَا، وَلاَ يَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ لَهُ، وَلاَ يَقْتَصِرُ عَلَى مَجْلِسِ الزَّوْجِ، فَلاَ يَبْطُل بِقِيَامِهِ، وَيَقْتَصِرُ قَبُولُهَا عَلَى مَجْلِسِ عِلْمِهَا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مِنْ جَانِبِهَا صِحَّةُ رُجُوعِهَا قَبْل قَبُولِهِ، وَصَحَّ شَرْطُ الْخِيَارِ لَهَا وَلَوْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَالْبَيْعِ، وَيُشْتَرَطُ فِي قَبُولِهَا عِلْمُهَا بِمَعْنَاهُ؛ لأَِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ بِخِلاَفِ الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْخُلْعَ مُعَاوَضَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ الْخُلْعَ طَلاَقُ مُعَاوَضَةٍ فِيهَا شَوْبُ تَعْلِيقٍ لِتَوَقُّفِ وُقُوعِ الطَّلاَقِ فِيهِ عَلَى قَبُول الْمَال، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ فَسْخٌ فَهِيَ مُعَاوَضَةٌ مَحْضَةٌ لاَ مَدْخَل لِلتَّعْلِيقِ فِيهَا، فَيَكُونُ الْخُلْعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَابْتِدَاءِ الْبَيْعِ، وَلِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ قَبْل قَبُول الزَّوْجَةِ؛ لأَِنَّ هَذَا شَأْنُ الْمُعَاوَضَاتِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْعِوَضَ فِي الْخُلْعِ كَالْعِوَضِ فِي الصَّدَاقِ، وَالْبَيْعِ إِنْ كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا لَمْ يَدْخُل فِي ضَمَانِ الزَّوْجِ، وَلَمْ يَمْلِكِ التَّصَرُّفَ فِيهِ إِلاَّ بِقَبْضِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا دَخَل(19/239)
فِي ضَمَانِهِ بِمُجَرَّدِ الْخُلْعِ وَصَحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
9 - الْخُلْعُ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ سَوَاءٌ فِي حَالَةِ الْوِفَاقِ وَالشِّقَاقِ خِلاَفًا لاِبْنِ الْمُنْذِرِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ الْخُلْعُ فِي حَالَتَيِ الشِّقَاقِ وَالْوِفَاقِ، ثُمَّ لاَ كَرَاهَةَ فِيهِ إِنْ جَرَى فِي حَال الشِّقَاقِ، أَوْ كَانَتْ تُكْرَهُ صُحْبَتُهُ لِسُوءِ خُلُقِهِ، أَوْ دِينِهِ، أَوْ تَحَرَّجَتْ مِنَ الإِْخْلاَل بِبَعْضِ حُقُوقِهِ، أَوْ ضَرَبَهَا تَأْدِيبًا فَافْتَدَتْ، وَأَلْحَقَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ بِهِ مَا إِذَا مَنَعَهَا نَفَقَةً أَوْ غَيْرَهَا فَافْتَدَتْ لِتَتَخَلَّصَ مِنْهُ، قَال الْقَلْيُوبِيُّ: فَإِنْ مَنَعَهَا النَّفَقَةَ لِكَيْ تَخْتَلِعَ مِنْهُ فَهُوَ مِنَ الإِْكْرَاهِ فَتَبِينُ مِنْهُ بِلاَ مَالٍ إِذَا ثَبَتَ الإِْكْرَاهُ، قَال الرَّمْلِيُّ: وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ. وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ اسْتِثْنَاءُ حَالَتَيْنِ مِنَ الْكَرَاهَةِ: إِحْدَاهُمَا أَنْ يَخَافَا أَوْ أَحَدُهُمَا أَنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ أَيْ مَا افْتَرَضَهُ فِي النِّكَاحِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَحْلِفَ بِالطَّلاَقِ الثَّلاَثِ عَلَى فِعْل شَيْءٍ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ كَالأَْكْل وَالشُّرْبِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَيَخْلَعَهَا، ثُمَّ يَفْعَل الأَْمْرَ الْمَحْلُوفَ
__________
(1) العناية بهامش فتح القدير 3 / 199 - ط بولاق، حاشية ابن عابدين 2 / 558 - 559 - ط المصرية، الشرح الصغير بحاشية الصاوي 2 / 518 - ط المعارف، مغني المحتاج 2 / 269 - ط التراث العربي، المغني 7 / 66 - ط الرياض.(19/240)
عَلَيْهِ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا فَلاَ يَحْنَثُ لاِنْحِلاَل الْيَمِينِ بِالْفِعْلَةِ الأُْولَى، إِذْ لاَ يَتَنَاوَل إِلاَّ الْفِعْلَةَ الأُْولَى وَقَدْ حَصَلَتْ، فَإِنْ خَالَعَهَا وَلَمْ يَفْعَل الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَفِيهِ قَوْلاَنِ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ يَتَخَلَّصُ مِنَ الْحِنْثِ فَإِذَا فَعَل الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بَعْدَ النِّكَاحِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لأَِنَّهُ تَعْلِيقٌ سَبَقَ هَذَا النِّكَاحَ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ، كَمَا إِذَا عَلَّقَ الطَّلاَقَ قَبْل النِّكَاحِ عَلَى صِفَةٍ وُجِدَتْ بَعْدَهُ (1) .
وَالْخِلاَفُ فِي كَوْنِ الْخُلْعِ جَائِزًا أَوْ مَكْرُوهًا إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَى الْعِصْمَةِ، كَمَا فِي حَاشِيَةِ الصَّاوِيِّ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ طَلاَقًا فَهُوَ مَكْرُوهٌ بِالنَّظَرِ لأَِصْلِهِ أَوْ خِلاَفُ الأَْوْلَى، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَبْغَضُ الْحَلاَل إِلَى اللَّهِ الطَّلاَقُ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الأُْمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
__________
(1) تبيين الحقائق 2 / 267 - ط بولاق، الشرح الصغير بحاشية الصاوي 2 / 517 - 518 ط المعارف، الدسوقي 2 / 347 - ط الفكر، حاشية العدوي على الرسالة 2 / 102 - 103، ط المعرفة، الخرشي 4 / 12 - ط بولاق، القوانين الفقهية / 233 - ط العربي، القليوبي 3 / 308، نهاية المحتاج 6 / 386، روضة الطالبين 7 / 374 ط المكتب الإسلامي، مغني المحتاج 3 / 262 - ط التراث.
(2) حديث: " أبغض الحلال إلى الله الطلاق ". أخرجه أبو داود (2 / 631 - 632 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمر، وصوب أبو حاتم الرازي في " العلل " (1 / 431 - ط السلفية) إرساله.(19/240)
افْتَدَتْ بِهِ} (1) ، وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (2) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ: اقْبَل الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً (3) وَهُوَ أَوَّل خُلْعٍ وَقَعَ فِي الإِْسْلاَمِ (4) .
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ فَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالأُْمَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ وَجَوَازِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُول بِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ حَقُّ الزَّوْجِ فَجَازَ لَهُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ كَالْقِصَاصِ (5) .
__________
(1) سورة البقرة / 229.
(2) سورة النساء / 4.
(3) حديث: " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 395 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عباس.
(4) ذكر الحافظ في الفتح عن أبي بكر بن دريد في أماليه أن أول خلع كان في الدنيا الخلع الذي وقع بين عامر بن الحارث بن الظرب وابنة عمه، فتح الباري 9 / 395، 398 - ط الرياض، نيل الأوطار 7 / 36 - 37 - ط الجيل، السنن الكبرى للبيهققي 7 / 313 - 314 ط الأولى.
(5) تبيين الحقائق 2 / 267 - ط بولاق، بداية المجتهد 2 / 57 - ط التجارية، مغني المحتاج 3 / 262 - ط التراث، حاشية القليوبي 3 / 307 - ط الحلبي، نهاية المحتاج 6 / 386 - ط المكتبة الإسلامية، تحفة المحتاج 7 / 457 - ط صادر، بجيرمي على الخطيب 3 / 411 - 412 - ط المعرفة، فتح الباري 9 / 395 - ط الرياض، نيل الأوطار 7 / 34 - ط الجيل.(19/241)
10 - وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْخُلْعَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ:
الأَْوَّل: مُبَاحُ الْخُلْعِ وَهُوَ أَنْ تَكْرَهَ الْمَرْأَةُ الْبَقَاءَ مَعَ زَوْجِهَا لِبُغْضِهَا إِيَّاهُ، وَتَخَافُ أَلاَّ تُؤَدِّيَ حَقَّهُ، وَلاَ تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ فِي طَاعَتِهِ، فَلَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (1) وَيُسَنُّ لِلزَّوْجِ إِجَابَتُهَا، لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: جَاءَتِ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُول اللَّهِ: مَا أَنْقِمُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلاَ خُلُقٍ إِلاَّ أَنِّي أَخَافُ الْكُفْرَ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَتَرُدِّي عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ فَقَالَتْ: نَعَمْ. فَرَدَّتْ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا (2) وَلأَِنَّ حَاجَتَهَا دَاعِيَةٌ إِلَى فُرْقَتِهِ، وَلاَ تَصِل إِلَى الْفُرْقَةِ إِلاَّ بِبَذْل الْعِوَضِ فَأُبِيحَ لَهَا ذَلِكَ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ لَهُ إِلَيْهَا مَيْلٌ وَمَحَبَّةٌ فَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ صَبْرُهَا وَعَدَمُ افْتِدَائِهَا، قَال أَحْمَدُ: يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَصْبِرَ. قَال الْقَاضِي: أَيْ عَلَى سَبِيل الاِسْتِحْبَابِ، وَلاَ كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ، لِنَصِّهِمْ عَلَى جَوَازِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
الثَّانِي: مَكْرُوهٌ: كَمَا إِذَا خَالَعَتْهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مَعَ اسْتِقَامَةِ الْحَال لِحَدِيثِ ثَوْبَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) سورة البقرة / 229.
(2) حديث عبد الله بن عباس: " جاءت امرأة ثابت بن قيس " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 395 - ط السلفية) .(19/241)
قَال: أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلاَقًا فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ (1) وَلأَِنَّهُ عَبَثٌ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا، وَيَقَعُ الْخُلْعُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (2) وَيَحْتَمِل كَلاَمُ أَحْمَدَ تَحْرِيمَهُ وَبُطْلاَنَهُ؛ لأَِنَّهُ قَال الْخُلْعُ مِثْل حَدِيثِ سَهْلَةَ تَكْرَهُ الرَّجُل فَتُعْطِيهِ الْمَهْرَ فَهَذَا الْخُلْعُ (3) وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ يَحِل لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (4) .
الثَّالِثُ: مُحَرَّمٌ: كَمَا إِذَا عَضَل الرَّجُل زَوْجَتَهُ بِأَذَاهُ لَهَا وَمَنْعِهَا حَقَّهَا ظُلْمًا لِتَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} (5) فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي هَذِهِ الْحَال بِعِوَضٍ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ؛ لأَِنَّهُ عِوَضٌ أُكْرِهَتْ عَلَى بَذْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَيَقَعُ الطَّلاَقُ رَجْعِيًّا.
وَإِنْ خَالَعَهَا بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلاَقِ فَعَلَى الْقَوْل
__________
(1) حديث ثوبان: " أيما امرأة سألت زوجها طلاقًا في غير ما. . " أخرجه أبو داود (2 / 667 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 200 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، واللفظ لأبي داود.
(2) سورة النساء / 4.
(3) الكافي 3 / 141 - 142 - ط المكتب الإسلامي، كشاف القناع 5 / 212 - 213، ط النصر، الإنصاف 8 / 382 - ط التراث، المغني 7 / 51 - 54 - ط الرياض.
(4) سورة البقرة / 229.
(5) سورة النساء / 19.(19/242)
بِأَنَّهُ طَلاَقٌ فَحُكْمُهُ مَا ذُكِرَ، وَإِلاَّ فَالزَّوْجِيَّةُ بِحَالِهَا، فَإِنْ أَدَّبَهَا لِتَرْكِهَا فَرْضًا أَوْ نُشُوزِهَا فَخَالَعَتْهُ لِذَلِكَ لَمْ يَحْرُمْ؛ لأَِنَّهُ ضَرَبَهَا بِحَقٍّ، وَإِنْ زَنَتْ فَعَضَلَهَا لِتَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ جَازَ وَصَحَّ الْخُلْعُ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (1) وَالاِسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّهْيِ إِبَاحَةٌ. وَإِنْ ضَرَبَهَا ظُلْمًا لِغَيْرِ قَصْدِ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهَا فَخَالَعَتْهُ لِذَلِكَ صَحَّ الْخُلْعُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَعْضُلْهَا لِيَأْخُذَ مِمَّا آتَاهَا شَيْئًا (2) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا أَنَّ الْخُلْعَ يَحْرُمُ حِيلَةً لإِِسْقَاطِ يَمِينِ طَلاَقٍ، وَلاَ يَصِحُّ وَلاَ يَقَعُ؛ لأَِنَّ الْحِيَل خِدَاعٌ لاَ تُحِل مَا حَرَّمَ اللَّهُ. (3) هَذَا وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَدَمَ جَوَازِ الْخُلْعِ حَتَّى يَقَعَ الشِّقَاقُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (4) .
وَبِذَلِكَ قَال طَاوُسٌ وَالشَّعْبِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تَقُمْ بِحُقُوقِ الزَّوْجِ كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِبُغْضِ الزَّوْجِ لَهَا فَنُسِبَتِ الْمَخَافَةُ إِلَيْهِمَا لِذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ عَدَمَ اعْتِبَارِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ
__________
(1) سورة النساء / 19.
(2) الكافي 3 / 143 - ط المكتب الإسلامي، كشاف القناع 5 / 213 - ط النصر، الإنصاف 8 / 383 - 385 - ط التراث، المغني 7 / 54 - 56 - ط الرياض.
(3) كشاف القناع 5 / 231 - ط النصر.
(4) سورة البقرة / 229.(19/242)
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَفْسِرْ ثَابِتًا عَنْ كَرَاهَتِهِ لَهَا عِنْدَ إِعْلاَنِهَا بِالْكَرَاهَةِ لَهُ، عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْخَوْفِ فِي الآْيَةِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ؛ لأَِنَّ الْغَالِبَ وُقُوعُ الْخُلْعِ فِي حَالَةِ التَّشَاجُرِ؛ وَلأَِنَّهُ إِذَا جَازَ حَالَةَ الْخَوْفِ وَهِيَ مُضْطَرَّةٌ إِلَى بَذْل الْمَال فَفِي حَالَةِ الرِّضَا أَوْلَى (1) .
11 - وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ - عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ - بِأَنَّهَا إِذَا خَالَعَتْهُ دَرْءًا لِضَرَرِهِ فَإِنَّ الزَّوْجَ يَرُدُّ الْمَال الَّذِي خَالَعَهَا بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ قَدْ أَسْقَطَتِ الْبَيِّنَةَ الَّتِي أَشْهَدَتْهَا بِأَنَّهَا خَالَعَتْهُ لِدَرْءِ ضَرَرِهِ.
جَوَازُ أَخْذِ الْعِوَضِ مِنَ الْمَرْأَةِ:
12 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ الزَّوْجِ عِوَضًا مِنَ امْرَأَتِهِ فِي مُقَابِل فِرَاقِهِ لَهَا سَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ مُسَاوِيًا لِمَا أَعْطَاهَا أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ مَا دَامَ الطَّرَفَانِ قَدْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ نَفْسَ الصَّدَاقِ أَوْ مَالاً آخَرَ غَيْرَهُ أَكْثَرَ أَوْ أَقَل مِنْهُ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ لاَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا بَل يَحْرُمُ عَلَيْهِ الأَْخْذُ إِنْ عَضَلَهَا لِيَضْطَرَّهَا إِلَى الْفِدَاءِ (3) .
__________
(1) فتح الباري 9 / 401 - ط الرياض، نيل الأوطار 7 / 38 - ط الجيل، مغني المحتاج 3 / 262 - ط التراث، روضة الطالبين 7 / 374، ط المكتب الإسلامي.
(2) الدسوقي 2 / 356.
(3) الشرح الصغير بحاشية الصاوي 2 / 517 - 518 - ط المعارف، روضة الطالبين 7 / 374 - ط المكتب الإسلامي، المغني 7 / 52 - الرياض.(19/243)
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ كُرِهَ لَهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَال زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (1) . وَلأَِنَّهُ أَوْحَشَهَا بِالْفِرَاقِ فَلاَ يَزِيدُ إِيحَاشَهَا بِأَخْذِ الْمَال، وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَل الْمَرْأَةِ لاَ يُكْرَهُ لَهُ الأَْخْذُ، وَهَذَا بِإِطْلاَقِهِ يَتَنَاوَل الْقَلِيل وَالْكَثِيرَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (2) . وَقَال الْقُدُورِيُّ: إِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا كُرِهَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الأَْصْل (مِنْ كُتُبِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ: أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلاَ (3) . وَقَدْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا، وَلَوْ أَخَذَ الزِّيَادَةَ جَازَ فِي الْقَضَاءِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَخَذَ وَالنُّشُوزُ مِنْهُ؛ لأَِنَّ مُقْتَضَى مَا ذُكِرَ يَتَنَاوَل الْجَوَازَ وَالإِْبَاحَةَ، وَقَدْ تَرَكَ الْعَمَل فِي حَقِّ الإِْبَاحَةِ لِمُعَارِضٍ، فَبَقِيَ مَعْمُولاً فِي الْبَاقِي (4) .
__________
(1) سورة النساء / 20.
(2) سورة البقرة / 229.
(3) حديث: قوله صلى الله عليه وسلم: " في امرأة ثابت. . " سبق تخريجه ف / 9.
(4) تبيين الحقائق 2 / 269 - ط بولاق، البحر الرائق 4 / 83 - ط الأولى العلمية، فتح القدير 3 / 203 - 204 - ط الأميرية.(19/243)
جَوَازُهُ بِحَاكِمٍ وَبِلاَ حَاكِمٍ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْخُلْعِ بِحَاكِمٍ وَبِلاَ حَاكِمٍ، وَهُوَ قَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ طَرِيقِ خَيْثَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْصُولاً " أَنَّ بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ أُتِيَ فِي خُلْعٍ كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فَلَمْ يُجِزْهُ فَقَال لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شِهَابٍ الْخَوْلاَنِيُّ: قَدْ أَتَى عُمَرُ فِي خُلْعٍ فَأَجَازَهُ (1) وَلأَِنَّ الطَّلاَقَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ جَائِزٌ بِلاَ حَاكِمٍ فَكَذَلِكَ الْخُلْعُ.
وَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْخُلْعِ دُونَ السُّلْطَانِ بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (2) ، وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (3) . قَال: فَجَعَل الْخَوْفَ لِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يَقُل فَإِنْ خَافَا.
وَقْتُ الْخُلْعِ:
14 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ فِي
__________
(1) فتح الباري 9 / 396 - 397 - ط الرياض، المبسوط 6 / 173 - ط السعادة، الدسوقي 2 / 347 - ط الفكر، الكافي 3 / 144 - ط المكتب الإسلامي، كشاف القناع 5 / 213 - ط النصر، المغني 7 / 52 - ط الرياض، المهذب 2 / 72 - ط الحلبي، بدائع الصنائع 3 / 145 - ط الجمالية.
(2) سورة البقرة / 229.
(3) سورة النساء / 35.(19/244)
الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ؛ لأَِنَّ الْمَنْعَ مِنَ الطَّلاَقِ فِي الْحَيْضِ لِلضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهَا بِتَطْوِيل الْعِدَّةِ، وَالْخُلْعُ شُرِعَ لِرَفْعِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهَا بِسُوءِ الْعِشْرَةِ وَالتَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، وَالضَّرَرُ بِذَلِكَ أَعْظَمُ مِنَ الضَّرَرِ بِتَطْوِيل الْعِدَّةِ، فَجَازَ دَفْعُ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِأَخَفِّهِمَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخْتَلِعَةَ عَنْ حَالِهَا؛ وَلأَِنَّ ضَرَرَ تَطْوِيل الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَالْخُلْعُ يَحْصُل بِسُؤَالِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ رِضَاءً مِنْهَا بِهِ وَدَلِيلاً عَلَى رُجْحَانِ مَصْلَحَتِهَا فِيهِ (1) .
أَرْكَانُهُ وَمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي شُرُوطِهَا:
15 - لِلْخُلْعِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ خَمْسَةُ أَرْكَانٍ وَهِيَ: الْمُوجِبُ - الْقَابِل - الْمُعَوَّضُ - الْعِوَضُ - الصِّيغَةُ.
فَالْمُوجِبُ: الزَّوْجُ أَوْ وَلِيُّهُ، وَالْقَابِل: الْمُلْتَزِمُ لِلْعِوَضِ، وَالْمُعَوَّضُ: الاِسْتِمْتَاعُ بِالزَّوْجَةِ، وَالْعِوَضُ: الشَّيْءُ الْمُخَالَعُ بِهِ، وَالصِّيغَةُ، الإِْيجَابُ وَالْقَبُول وَالأَْلْفَاظُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الْخُلْعُ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا لَهُ رُكْنَيْنِ إِنْ كَانَ بِعِوَضٍ وَهُمَا: الإِْيجَابُ وَالْقَبُول (2) ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ
__________
(1) المهذب 2 / 72 - ط الحلبي، المغني 7 / 52 - ط الرياض، كشاف القناع 5 / 213 - ط النصر.
(2) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 517 - ط المعارف، مغني المحتاج 3 / 263 - ط التراث، بجيرمي على الخطيب 3 / 412 - ط المعرفة، روضة الطالبين 7 / 383 - 395 - ط المكتب الإسلامي، حاشية القليوبي 3 / 307 - ط الحلبي، كشاف القناع 5 / 213 - 231 - ط النصر، بدائع الصنائع 3 / 145 - ط الجمالية.(19/244)
عَلَى الطَّلاَقِ بِعِوَضٍ، فَلاَ تَقَعُ الْفُرْقَةُ وَلاَ يَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ بِدُونِ الْقَبُول، بِخِلاَفِ الْخُلْعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنَّهُ إِذَا قَال خَالَعْتُكِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْعِوَضَ وَنَوَى الطَّلاَقَ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلاَقُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ قَبِلَتْ أَوْ لَمْ تَقْبَل؛ لأَِنَّ ذَلِكَ طَلاَقٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلاَ يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُول، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِكُل رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الأَْرْكَانِ شُرُوطًا وَأَحْكَامًا نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:
الرُّكْنُ الأَْوَّل: الْمُوجِبُ:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُوجِبِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّطْلِيقَ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (طَلاَقٌ) .
فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُجِيزُونَ خُلْعَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ، أَوْ سَفَهٍ، أَوْ رِقٍّ قِيَاسًا عَلَى الطَّلاَقِ، لأَِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهُ، وَجَازَ عِنْدَ
__________
(1) بدائع الصنائع 3 / 147 - ط الجمالية، الشرح الكبير 2 / 352 - ط الفكر، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 526 - ط المعارف، جواهر الإكليل 1 / 332 - ط المعرفة، روضة الطالبين 7 / 383 - ط المكتب الإسلامي، بجيرمي على الخطيب 3 / 412 - ط المعرفة، أسنى المطالب 3 / 244 - ط المكتبة الإسلامية، حاشية القليوبي 7 / 307 - ط الحلبي، كشاف القناع 5 / 213 - ط النصر، المبدع 7 / 222 - ط المكتب الإسلامي، المغني 6 / 86 - 87 - ط الرياض.(19/245)
الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا خُلْعُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِي وَجْهٍ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ طَلاَقِهِ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُخْتَلِعَ لاَ يَجُوزُ لَهُ تَسْلِيمُ الْمَال إِلَى السَّفِيهِ بَل يُسَلِّمُهُ إِلَى الْوَلِيِّ؛ لأَِنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ حُقُوقَهُ وَأَمْوَالَهُ وَهَذَا مِنْ حُقُوقِهِ خِلاَفًا لِلْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ حَيْثُ قَال: يَصِحُّ قَبْضُهُ لِعِوَضٍ لِصِحَّةِ خُلْعِهِ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ، كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ، وَالأَْوْلَى كَمَا فِي الْمُغْنِي عَدَمُ جَوَازِ تَسْلِيمِ الْمَال إِلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْحَجْرَ أَفَادَ مَنْعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ (1) .
الرُّكْنُ الثَّانِي: الْقَابِل:
17 - يُشْتَرَطُ فِي قَابِل الْخُلْعِ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوِ الأَْجْنَبِيِّ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَال صَحِيحَ الاِلْتِزَامِ. فَلَوْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ الصَّغِيرَةَ عَلَى مَهْرِهَا فَقَبِلَتْ أَوْ قَالَتِ الصَّغِيرَةُ لِزَوْجِهَا اخْلَعْنِي عَلَى مَهْرِي فَفَعَل وَقَعَ الطَّلاَقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ، وَإِنْ كَانَ بَاذِل الْعِوَضِ غَيْرَ رَشِيدٍ رَدَّ الزَّوْجُ الْمَال الْمَبْذُول وَبَانَتْ مِنْهُ، مَا لَمْ يُعَلِّقْ بِقَوْلِهِ: إِنْ تَمَّ لِي هَذَا الْمَال فَأَنْتِ
__________
(1) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي 2 / 526 - 527 - ط المعارف، جواهر الإكليل 1 / 332 - ط المعرفة، روضة الطالبين 7 / 383 - ط المكتب الإسلامي، حاشية القليوبي 3 / 307 - 308 ط الحلبي، أسنى المطالب 3 / 244 - 245 - ط المكتبة الإسلامية، بجيرمي على الخطيب 3 / 412 - ط المعرفة، المغني 7 / 87 ط الرياض.(19/245)