الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ:
أ - جَهْرُ الإِْمَامِ:
7 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَجْهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ الْجَهْرِيَّةِ كَالصُّبْحِ، وَالْجُمُعَةِ، وَالأُْولَيَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (1) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ مُرَاعَاةُ الْجَهْرِ فِيمَا يَجْهَرُ بِهِ - وَهُوَ الْفَجْرُ، وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ فِي الأُْولَيَيْنِ، وَكَذَا كُل صَلاَةٍ مِنْ شَرْطِهَا الْجَمَاعَةُ، كَالْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَالتَّرْوِيحَاتِ (2) - وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمُخَافَتَةُ فِيمَا يُخَافَتُ بِهِ؛ (3) لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَى الْجَهْرِ فِيمَا يُجْهَرُ بِهِ وَالْمُخَافَتَةِ فِيمَا يُخَافَتُ بِهِ. وَذَلِكَ دَلِيل الْوُجُوبِ، وَعَلَى هَذَا عَمَل الأُْمَّةِ.
ب - جَهْرُ الْمَأْمُومِ:
8 - ذَهَبَ الْقَائِلُونَ بِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ وَرَاءَ الإِْمَامِ إِلَى سُنِّيَّةِ الإِْسْرَارِ، وَيُكْرَهُ لَهُ الْجَهْرُ سَوَاءٌ أَسَمِعَ قِرَاءَةَ
__________
(1) المجموع 3 / 389، وكشاف القناع 1 / 332، والشرح الصغير 1 / 126 ط المدني والدسوقي 1 / 242، 243.
(2) بدائع الصنائع 1 / 160، والزيلعي 1 / 126 - 127.
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على الجهر فيما يجهر فيه والمخافتة فيما يخافت به " أخرجه أبو داود في مراسيله عن الزهري بلفظ: " سن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجهر بالقراءة في الفجر في الركعتين، والأوليين من المغرب والعشاء، ويسر فيما عدا ذل وحسنه أشرف على التهاوني. (إعلاء السنن 4 / 3، 5 نشر إدارة القرآن والعلوم الإسلامية - كراتشي باكستان) .(16/183)
الإِْمَامِ أَمْ لاَ (1) . وَدَلِيل كَرَاهَةِ الْجَهْرِ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ، فَجَعَل رَجُلٌ يَقْرَأُ خَلْفَهُ بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَْعْلَى} فَلَمَّا انْصَرَفَ قَال: أَيُّكُمْ قَرَأَ أَوْ أَيُّكُمُ الْقَارِئُ؟ فَقَال رَجُلٌ: أَنَا، فَقَال: قَدْ ظَنَنْتُ أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا وَمَعْنَى خَالَجَنِيهَا جَادَلَنِيهَا وَنَازَعَنِيهَا (2) .
ج - جَهْرُ الْمُنْفَرِدِ:
9 - يُسَنُّ لِلْمُنْفَرِدِ الْجَهْرُ فِي الصُّبْحِ، وَالأُْولَيَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (3) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يُخَيَّرُ فِيمَا يَجْهَرُ بِهِ إِنْ شَاءَ جَهَرَ وَإِنْ شَاءَ خَافَتَ (4) .
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ شَاءَ جَهَرَ بِقَدْرِ مَا يُسْمِعُ أُذُنَيْهِ وَلاَ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ.
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 569، والشرح الصغير 1 / 318 ط دار المعارف، والمجموع 3 / 390.
(2) حديث عمران بن حصين " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر. . . " أخرجه مسلم (1 / 299 - ط الحلبي) .
(3) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 228، والشرح الصغير 1 / 126 ط المدني والدسوقي 1 / 242 - 243، ومغني المحتاج 1 / 162، نشر دار الفكر، والفروع 1 / 424.
(4) بدائع الصنائع 1 / 161، والزيلعي 1 / 127، والمغني 1 / 569، وكشاف القناع 1 / 343، والفروع 1 / 424.(16/183)
وَذُكِرَ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ مُفَسَّرًا أَنَّهُ بَيْنَ خِيَارَاتٍ ثَلاَثَةٍ: إِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ غَيْرَهُ، وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَسَرَّ الْقِرَاءَةَ.
قَال الزَّيْلَعِيُّ: وَلَكِنْ لاَ يُبَالِغُ فِي الْجَهْرِ مِثْل الإِْمَامِ لأَِنَّهُ لاَ يُسْمِعُ غَيْرَهُ (1) . وَنَقَل الأَْثْرَمُ وَغَيْرُهُ أَنَّ تَرْكَ الْجَهْرِ لِلْمُنْفَرِدِ أَفْضَل (2) .
الْجَهْرُ بِالتَّأْمِينِ:
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الصَّلاَةَ إِنْ كَانَتْ سِرِّيَّةً فَالإِْسْرَارُ بِالتَّأْمِينِ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ (3) .
وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ جَهْرِيَّةً فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْجَهْرِ وَالإِْسْرَارِ بِالتَّأْمِينِ حَسَبَ الاِتِّجَاهَاتِ التَّالِيَةِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ الإِْسْرَارُ بِالتَّأْمِينِ لِلْمُنْفَرِدِ وَالإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ جَمِيعًا (4) .
فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ وَائِلٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال:
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 161، والزيلعي 1 / 127.
(2) الفروع 1 / 424.
(3) الموسوعة الفقهية 1 / 112، والفتاوى الهندية 1 / 74، والفواكه الدواني 1 / 206، ومغني المحتاج 1 / 161، والمغني 1 / 490.
(4) البناية 2 / 171، والفتاوى الهندية 1 / 74، والزيلعي 1 / 113، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 7 ط عيسى الحلبي، والمغني 1 / 490.(16/184)
آمِينَ وَخَفَضَ بِهَا صَوْتَهُ (1) . وَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يُخْفِي الإِْمَامُ أَرْبَعًا: التَّعَوُّذَ، وَالْبَسْمَلَةَ، وَآمِينَ، وَرَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ.
وَيُرْوَى مِثْل قَوْلِهِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْضُهُمْ يَقُول: أَرْبَعٌ يُخْفِيهِنَّ الإِْمَامُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُول خَمْسَةٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُول ثَلاَثَةٌ، وَكُلُّهُمْ يَعُدُّ التَّأْمِينَ مِنْهَا. وَلأَِنَّهُ دُعَاءٌ فَيَكُونُ مَبْنَاهُ عَلَى الإِْخْفَاءِ؛ وَلأَِنَّهُ لَوْ جَهَرَ بِهَا عَقِيبَ الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ لأََوْهَمَ أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ فَيُمْنَعُ مِنْهُ دَفْعًا لِلإِْيهَامِ (2) .
وَبِمِثْل مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَذَا الْفَرِيقُ يَقُول الْمَالِكِيَّةُ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ وَالْمَأْمُومِ. أَمَّا الإِْمَامُ فَلاَ يُؤَمِّنُ أَصْلاً عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ (3) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ سُنِّيَّةَ الْجَهْرِ بِالتَّأْمِينِ فِي حَقِّ الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ جَمِيعًا فِيمَا يُجْهَرُ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ (4) .
__________
(1) حديث وائل أنه عليه الصلاة والسلام قال: آمين وخفض بها صوته. نوه به الترمذي في جامعه (2 / 28 - ط الحلبي) ولم يسنده، وأعل هذه الرواية الدارقطني وابن حجر كما في التلخيص (1 / 237 - ط شركة الطباعة الفنية) وصوبا الرواية التي فيها أنه " مد بها صوته " وهي عند الترمذي (2 / 27) ، وقد حسنها الترمذي.
(2) الزيلعي 1 / 114.
(3) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 229، والفواكه الدواني 1 / 206، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 7.
(4) المغني 1 / 490، ومطالب أولي النهى 1 / 431، 432.(16/184)
وَبِهَذَا قَال الشَّافِعِيَّةُ اتِّفَاقًا فِي حَقِّ الإِْمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ. أَمَّا الْمَأْمُومُ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجْهَرُ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (آمِينَ) .
الْجَهْرُ بِالتَّسْمِيعِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ جَهْرُ الإِْمَامِ بِالتَّسْمِيعِ (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) لِيَسْمَعَ الْمَأْمُومُونَ وَيَعْلَمُوا انْتِقَالَهُ كَمَا يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ.
أَمَّا الْمُؤْتَمُّ وَالْمُنْفَرِدُ فَيُسْمِعُ نَفْسَهُ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلاَةٌ) .
الْجَهْرُ بِالتَّشَهُّدِ:
12 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الإِْسْرَارِ بِالتَّشَهُّدِ وَكَرَاهَةِ الْجَهْرِ بِهِ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: مِنْ سُنَّةِ الصَّلاَةِ أَنْ يُخْفِيَ التَّشَهُّدَ (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا قَال الصَّحَابِيُّ: مِنَ السُّنَّةِ كَذَا كَانَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 247، ومغني المحتاج 1 / 161.
(2) شرح الكنز بحاشية أبي السعود 1 / 175، والزرقاني 1 / 207، وحاشية الجمل 1 / 367، والمجموع 3 / 418، ومنتهى الإرادات 1 / 76.
(3) حديث عبد الله بن مسعود قال: " من سنة الصلاة أن يخفي التشهد ". أخرجه الحاكم (1 / 230 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(16/185)
الْعُلَمَاءِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَأَصْحَابِ الأُْصُول الْمُتَكَلِّمِينَ (1) . وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَشَهُّدٌ ف 7 ج 12 ص 38) .
الْجَهْرُ بِالْقُنُوتِ:
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِفَةِ دُعَاءِ الْقُنُوتِ مِنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - إِلَى اسْتِحْبَابِ الإِْخْفَاءِ فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ فِي حَقِّ الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ جَمِيعًا، لأَِنَّهُ دُعَاءٌ، وَالْمَسْنُونُ فِي الدُّعَاءِ الإِْخْفَاءُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (2) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ (3) .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ غَيْرَهُ، وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ، وَإِنْ
__________
(1) المجموع 3 / 463، والفتوحات الربانية 2 / 339، والمغني 1 / 545، والمبسوط للسرخسي 1 / 32.
(2) سورة الأعراف / 55.
(3) الفواكه الدواني 1 / 214، وحاشية الدسوقي 1 / 248، والبناية 1 / 523 - 524، والفتاوى الهندية 1 / 111، وبدائع الصنائع 1 / 274. وحديث: " خير الذكر الخفي ". أخرجه أحمد (1 / 172 - ط الميمنية من حديث سعد بن أبي وقاص، وفي إسناده انقطاع، كما في تحقيق أحمد شاكر للمسند (3 / 44 - ط دار المعارف) .(16/185)
شَاءَ أَسَرَّ كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ، وَإِنْ كَانَ إِمَامًا يَجْهَرُ بِالْقُنُوتِ لَكِنْ دُونَ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ وَالْقَوْمُ يُتَابِعُونَهُ هَكَذَا إِلَى قَوْلِهِ (إِنَّ عَذَابَكَ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ) وَإِذَا دَعَا الإِْمَامُ بَعْدَ ذَلِكَ قَال أَبُو يُوسُفَ: يُتَابِعُونَهُ وَيَقْرَءُونَ. وَفِي قَوْل مُحَمَّدٍ لاَ يَقْرَءُونَ وَلَكِنْ يُؤَمِّنُونَ. وَقَال بَعْضُهُمْ: إِنْ شَاءَ الْقَوْمُ سَكَتُوا (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الإِْمَامَ يَجْهَرُ بِالْقُنُوتِ. وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَلْيَكُنْ جَهْرُهُ بِهِ دُونَ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ، فَإِنْ أَسَرَّ الإِْمَامُ بِالدُّعَاءِ حَصَّل سُنَّةَ الْقُنُوتِ وَفَاتَهُ سُنَّةُ الْجَهْرِ.
أَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَيُسِرُّ بِهِ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَيُؤَمِّنُ خَلْفَ الإِْمَامِ جَهْرًا لِلدُّعَاءِ، وَيَقُول الثَّنَاءَ سِرًّا أَوْ يَسْتَمِعُ لإِِمَامِهِ (2) .
وَيُوَافِقُ الْحَنَابِلَةُ الشَّافِعِيَّةَ فِي اسْتِحْبَابِ جَهْرِ الإِْمَامِ بِالْقُنُوتِ، وَتَأْمِينِ الْمَأْمُومِ لِلدُّعَاءِ (3) .
أَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَيَجْهَرُ بِالْقُنُوتِ كَالإِْمَامِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (4) .
قَال ابْنُ قَيِّمٍ الْجَوْزِيَّةُ، وَالإِْنْصَافُ الَّذِي يَرْتَضِيهِ الْعَالِمُ الْمُنْصِفُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهَرَ وَأَسَرَّ وَقَنَتَ وَتَرَكَ، وَكَانَ إِسْرَارُهُ أَكْثَرَ مِنْ جَهْرِهِ، وَتَرْكُهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 274.
(2) حاشية الجمل 1 / 372 - 373.
(3) كشاف القناع 1 / 418، ومنتهى الإرادات 1 / 98، نشر مكتبة دار العروبة.
(4) الإنصاف 2 / 172.(16/186)
الْقُنُوتَ أَكْثَر مِنْ فِعْلِهِ (1) . وَلِلتَّفْصِيل فِي صِفَةِ الْقُنُوتِ وَمَحَل أَدَائِهِ وَمِقْدَارِهِ وَدُعَائِهِ (ر: قُنُوتٌ، وِتْرٌ) .
الْجَهْرُ بِالتَّسْلِيمِ لِلْخُرُوجِ مِنَ الصَّلاَةِ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي سُنِّيَّةِ الْجَهْرِ بِالتَّسْلِيمَةِ الأُْولَى فِي حَقِّ الإِْمَامِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ (2) .
فَيَرَى الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - أَنَّهُ يُسَنُّ جَهْرُ الإِْمَامِ بِالتَّسْلِيمَتَيْنِ. فَقَدْ عَدَّ أَبُو السُّعُودِ جَهْرَ الإِْمَامِ بِالسَّلاَمِ مُطْلَقًا مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ.
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: يُسَنُّ لِلْمَأْمُومِ كَمَا فِي التَّحْقِيقِ أَنْ لاَ يُسَلِّمَ إِلاَّ بَعْدَ فَرَاغِ الإِْمَامِ مِنْ تَسْلِيمَتَيْهِ. وَصَرَّحَ الْنَجِيرِمِيُّ بِكَرَاهَةِ مُقَارَنَةِ الْمَأْمُومِ مَعَ الإِْمَامِ فِي السَّلاَمِ. فَيُسَنُّ جَهْرُ الإِْمَامِ بِالسَّلاَمِ لِيُسْمِعَ الْمَأْمُومِينَ فَيَعْلَمُوا فَرَاغَهُ مِنْ تَسْلِيمَتَيْهِ وَيُتَابِعُوهُ (3) .
وَالسُّنَّةُ فِي السَّلاَمِ أَنْ يَكُونَ جَهْرُ الإِْمَامِ
__________
(1) زاد المعاد 1 / 272.
(2) المغني 1 / 556، والشرح الصغير 1 / 128 ط المدني، والدسوقي 1 / 244، وشرح الكنز بحاشية أبي السعود 1 / 175، والبجيرمي على الخطيب 2 / 68، نشر دار المعرفة.
(3) حاشية أبي السعود على شرح الكنز 1 / 175، والفتاوى الهندية 1 / 77، والبجيرمي على الخطيب 2 / 68، والمجموع 3 / 295، والمغني 1 / 556 - 557.(16/186)
بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ أَخْفَضَ مِنَ الأُْولَى وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجْهَرُ بِالتَّسْلِيمَةِ الأُْولَى وَتَكُونُ الثَّانِيَةُ أَخْفَى مِنَ الأُْولَى. لأَِنَّ الْجَهْرَ فِي غَيْرِ الْقِرَاءَةِ إِنَّمَا شُرِعَ لِلإِْعْلاَمِ بِالاِنْتِقَال مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ وَقَدْ حَصَل الْعِلْمُ بِالْجَهْرِ بِالتَّسْلِيمَةِ الأُْولَى فَلاَ يُشْرَعُ الْجَهْرُ بِغَيْرِهَا. وَكَانَ ابْنُ حَامِدٍ يُخْفِي الأُْولَى وَيَجْهَرُ بِالثَّانِيَةِ لِئَلاَّ يَسْبِقَهُ الْمَأْمُومُونَ بِالسَّلاَمِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: تَسْلِيمٌ وَصَلاَةٌ، وَأَبْوَابُ صِفَةِ الصَّلاَةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ) .
الْجَهْرُ بِالتَّبْلِيغِ:
15 - يُسَنُّ لِلإِْمَامِ الْجَهْرُ بِتَكْبِيرَاتِ الصَّلاَةِ كُلِّهَا وَبِقَوْلِهِ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " حَتَّى بِزَوَائِدِ الْعِيدَيْنِ لِيَعْلَمَ الْمَأْمُومُونَ انْتِقَالاَتِهِ مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ وَيُتَابِعُوهُ فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الإِْمَامُ ضَعِيفَ الصَّوْتِ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَصِل جَهْرُهُ إِلَى جَمِيعِ الْمُقْتَدِينَ فَيَجْهَرُ الْمُؤَذِّنُ أَوْ غَيْرُهُ.
مِنَ الْمَأْمُومِينَ جَهْرًا يُسْمِعُ النَّاسَ (2) ، فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:
__________
(1) المغني لابن قدامة 1 / 556 ط الرياض، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 596 - 597، والفتاوى الهندية 1 / 76.
(2) تنبيه ذوي الأفهام على أحكام التبليغ خلف الإمام (مجموعة رسائل ابن عابدين) 1 / 142، نشر المكتبة الهاشمية، والمجموع 3 / 398، والمغني 1 / 496، والدسوقي 1 / 337.(16/187)
اشْتَكَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا صَلَّى بِنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَلْفَهُ فَإِذَا كَبَّرَ كَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ لِيُسْمِعَنَا (1) . وَلِلتَّفْصِيل (ر: تَبْلِيغٌ) .
الْجَهْرُ فِي الصَّلاَةِ الْمَقْضِيَّةِ:
16 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِيقَاعَ الْمَقْضِيَّةِ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَتِ الصَّلاَةُ وَقْتَ أَدَائِهَا مِنْ جَهْرٍ وَإِسْرَارٍ، فَالاِعْتِبَارُ عِنْدَهُمْ بِوَقْتِ الْفَائِتَةِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ الْعِشَاءُ فَصَلاَّهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِنْ أَمَّ فِيهَا جَهَرَ (3) كَمَا فَعَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَضَى الْفَجْرَ غَدَاةَ لَيْلَةِ التَّعْرِيسِ بِجَمَاعَةٍ (4) . وَإِنْ أَمَّ لَيْلاً فِي صَلاَةِ النَّهَارِ يُخَافِتْ وَلاَ يَجْهَرْ فَإِنْ جَهَرَ سَاهِيًا كَانَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ (5) .
__________
(1) حديث جابر: " اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه " أخرجه مسلم (1 / 309 - ط الحلبي) .
(2) القوانين الفقهية ص 72، نشر دار الكتاب العربي، وروضة الطالبين 1 / 269.
(3) الجوهرة النيرة 1 / 68، والبناية 2 / 268، 269، وفتح القدير 1 / 230، 231.
(4) حديث: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة ليلة التعريس بجماعة " أخرجه مسلم (1 / 472 - ط الحلبي) من حديث أبي قتادة.
(5) الفتاوى الهندية 1 / 72.(16/187)
وَالْمُنْفَرِدُ إِذَا قَضَى الصَّلَوَاتِ الَّتِي يَجْهَرُ بِهَا فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالإِْسْرَارِ، وَيَرَى بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْجَهْرَ أَفْضَل مِنَ الإِْسْرَارِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ الاِعْتِبَارَ بِوَقْتِ الْقَضَاءِ (2) .
فَالْمَقْضِيَّةُ يَجْهَرُ فِيهَا مِنْ مَغِيبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِهَا، وَيُسِرُّ مِنْ طُلُوعِهَا إِلَى غُرُوبِهَا (3) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُصَلِّيَ يُسِرُّ فِي قَضَاءِ صَلاَةٍ جَهْرِيَّةٍ إِذَا قَضَاهَا فِي نَهَارٍ - وَلَوْ جَمَاعَةً - اعْتِبَارًا بِزَمَنِ الْقَضَاءِ، كَصَلاَةِ سِرٍّ قَضَاهَا وَلَوْ لَيْلاً اعْتِبَارًا بِالْمَقْضِيَّةِ (4) .
وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلاَةٍ جَهْرِيَّةٍ قَضَاهَا لَيْلاً فِي جَمَاعَةٍ اعْتِبَارًا بِزَمَنِ الْقَضَاءِ وَشَبَّهَهَا بِالأَْدَاءِ لِكَوْنِهَا فِي جَمَاعَةٍ، فَإِنْ قَضَاهَا مُنْفَرِدًا أَسَرَّهَا لِفَوَاتِ شِبْهِهَا بِالأَْدَاءِ (5) .
الْجَهْرُ فِي مَوْضِعِ الإِْسْرَارِ وَالْعَكْسُ:
17 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْجَهْرَ فِيمَا يُجْهَرُ بِهِ وَالإِْخْفَاتَ فِيمَا يُخَافَتُ فِيهِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الصَّلاَةِ (6) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 72، والزيلعي 1 / 127، والبناية 2 / 269، 270، وفتح القدير 1 / 230، 231.
(2) روضة الطالبين 1 / 369.
(3) مغني المحتاج 1 / 162، نشر دار الفكر.
(4) كشاف القناع 1 / 343.
(5) مطالب أولي النهى 1 / 441، وكشاف القناع 1 / 343، 344
(6) الإفصاح 1 / 93، والشرح الصغير 1 / 126 ط المدني، والدسوقي 1 / 243، والفروع 1 / 467، وكشاف القناع 1 / 332، والمغني 1 / 569، والبجيرمي على الخطيب 2 / 55 - 56.(16/188)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْجَهْرُ فِيمَا يُجْهَرُ بِهِ وَالْمُخَافَتَةُ فِيمَا يُخَافَتُ فِيهِ (1) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا يُوجِبُهُ الْجَهْرُ فِي مَوْضِعِ الإِْسْرَارِ أَوِ الْعَكْسُ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالأَْوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّ مَنْ جَهَرَ فِي مَوْضِعِ الإِْسْرَارِ أَوْ أَسَرَّ فِي مَوْضِعِ الْجَهْرِ لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهُ وَلاَ سُجُودَ سَهْوٍ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ ارْتَكَبَ مَكْرُوهًا (2) .
وَبِهَذَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ إِنْ تَرَكَ الْجَهْرَ وَالإِْخْفَاتَ فِي مَوْضِعِهِمَا عَمْدًا.
وَإِنْ تَرَكَ سَهْوًا فَفِي مَشْرُوعِيَّةِ السُّجُودِ مِنْ أَجْلِهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ:
إِحْدَاهُمَا: لاَ يُشْرَعُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ.
وَالثَّانِيَةُ: يُشْرَعُ (3) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ جَهَرَ الإِْمَامُ فِيمَا يُخَافَتُ فِيهِ أَوْ خَافَتَ فِيمَا يُجْهَرُ بِهِ تَلْزَمُهُ سَجْدَةُ السَّهْوِ؛ لأَِنَّ الْجَهْرَ فِي مَوْضِعِهِ وَالْمُخَافَتَةَ فِي مَوْضِعِهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ، لِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، فَبِتَرْكِهِمَا يَلْزَمُ سُجُودُ السَّهْوِ (4) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 72.
(2) المجموع 3 / 390 - 391.
(3) المغني 2 / 31 - 32.
(4) البناية 1 / 660، وفتح القدير 1 / 360.(16/188)
هَذَا فِي حَقِّ الإِْمَامِ، أَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَلاَ سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْجَهْرَ وَالْمُخَافَتَةَ مِنْ خَصَائِصِ الْجَمَاعَةِ (1) .
وَعَدَّ الْمَالِكِيَّةُ الْجَهْرَ فِيمَا يُجْهَرُ فِيهِ وَالسِّرَّ فِيمَا يُسَرُّ فِيهِ مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ الَّتِي تَنْجَبِرُ بِالسُّجُودِ (2) .
وَقَالُوا: لاَ سُجُودَ فِي يَسِيرِ جَهْرٍ فِي سِرِّيَّةٍ بِأَنْ أَسْمَعَ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ فَقَطْ، أَوْ يَسِيرِ سِرٍّ فِي جَهْرِيَّةٍ، وَلاَ فِي إِعْلاَنٍ أَوْ إِسْرَارٍ فِي مِثْل آيَةٍ فِي مَحَل سِرٍّ أَوْ جَهْرٍ (3) .
وَعَبَّرَ الدَّرْدِيرُ عَنْ حَاصِل الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ:
إِنَّ مَنْ تَرَكَ الْجَهْرَ فِيمَا يُجْهَرُ فِيهِ وَأَتَى بَدَلَهُ بِالسِّرِّ فَقَدْ حَصَل مِنْهُ نَقْصٌ، لَكِنْ لاَ سُجُودَ عَلَيْهِ إِلاَّ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى حَرَكَةِ اللِّسَانِ.
وَإِنَّ مَنْ تَرَكَ السِّرَّ فِيمَا يُسَرُّ فِيهِ وَأَتَى بَدَلَهُ بِالْجَهْرِ فَقَدْ حَصَل مِنْهُ زِيَادَةٌ، لَكِنْ لاَ سُجُودَ عَلَيْهِ بَعْدَ السَّلاَمِ، إِلاَّ إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ فَوْقَ سَمَاعِ نَفْسِهِ وَمَنْ يُلاَصِقُهُ، بِأَنْ كَانَ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ عَنْهُ بِنَحْوِ صَفٍّ فَأَكْثَر (4) .
__________
(1) البناية 1 / 661، وفتح القدير 1 / 361.
(2) أسهل المدارك 1 / 217، والكافي لابن عبد البر 1 / 228، وانظر الحطاب والمواق 2 / 18 - 19.
(3) الدسوقي 1 / 279.
(4) الشرح الصغير 1 / 155 - 156 ط المدني، والشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 1 / 382، نشر دار المعارف.(16/189)
الْجَهْرُ فِي النَّوَافِل:
18 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي سُنِّيَّةِ الإِْسْرَارِ فِي نَوَافِل النَّهَارِ الْمُطْلَقَةِ (1) .
أَمَّا نَوَافِل اللَّيْل فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ سُنِّيَّةَ الْجَهْرِ فِيهَا (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُنْفَرِدَ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالإِْخْفَاءِ؛ لأَِنَّ النَّوَافِل تَبَعٌ لِلْفَرَائِضِ لِكَوْنِهَا مُكَمِّلاَتٍ لَهَا فَيُخَيَّرُ فِيهَا الْمُنْفَرِدُ كَمَا يُخَيَّرُ فِي الْفَرَائِضِ.
وَإِنْ كَانَ إِمَامًا جَهَرَ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهَا اتِّبَاعُ الْفَرَائِضِ، وَلِهَذَا يُخْفِي فِي نَوَافِل النَّهَارِ وَلَوْ كَانَ إِمَامًا (3) .
وَيَقُول الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْمُتَنَفِّل لَيْلاً يُرَاعِي الْمَصْلَحَةَ، فَإِنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ مَنْ يَتَأَذَّى بِجَهْرِهِ أَسَرَّ، وَإِنْ كَانَ مَنْ يَنْتَفِعُ بِجَهْرِهِ جَهَرَ (4) .
وَقَال صَاحِبُ التَّهْذِيبِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يُتَوَسَّطُ (الْمُتَنَفِّل لَيْلاً) بَيْنَ الْجَهْرِ وَالإِْسْرَارِ.
__________
(1) مجمع الأنهر 1 / 100، ومغني المحتاج 1 / 162، وروضة الطالبين 1 / 248، والمجموع 3 / 391، والمواق بهامش الحطاب 2 / 68، والزرقاني 1 / 281.
(2) المواق 2 / 68، والزرقاني 1 / 281، وروضة الطالبين 1 / 248، والمجموع 3 / 391.
(3) مجمع الأنهر 1 / 100.
(4) كشاف القناع 1 / 344، ومطالب أولي النهى 1 / 441.(16/189)
هَذَا إِنْ لَمْ يُشَوِّشْ عَلَى نَائِمٍ أَوْ مُصَلٍّ أَوْ نَحْوِهِ وَإِلاَّ فَالسُّنَّةُ الإِْسْرَارُ (1) .
قَال الْمُحِبُّ بْنُ نَصْرِ اللَّهِ الْكَتَّانِيُّ: وَالأَْظْهَرُ أَنَّ النَّهَارَ هُنَا مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ لاَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَاللَّيْل مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِهَا (2) .
وَأَمَّا أَحْكَامُ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي النَّوَافِل غَيْرِ الْمُطْلَقَةِ، كَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ، وَالْكُسُوفِ، وَالاِسْتِسْقَاءِ، وَالتَّرَاوِيحِ، وَالْوِتْرِ، فَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَفِي أَبْوَابِهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (3) .
إِسْرَارُ الْمَرْأَةِ وَجَهْرُهَا فِي الصَّلاَةِ:
19 - ذَهَبَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِنْ كَانَتْ خَالِيَةً أَوْ بِحَضْرَةِ نِسَاءٍ أَوْ رِجَالٍ مَحَارِمَ جَهَرَتْ بِالْقِرَاءَةِ، وَإِنْ صَلَّتْ بِحَضْرَةِ أَجْنَبِيٍّ أَسَرَّتْ (4) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ كَرَاهَةَ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ لِلْمَرْأَةِ فِي الصَّلاَةِ (5) . وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا إِنْ كَانَتْ
__________
(1) روضة الطالبين 1 / 248، والمجموع 3 / 391، ومغني المحتاج 1 / 162.
(2) كشاف القناع 1 / 344، ومطالب أولي النهى 1 / 441.
(3) مغني المحتاج 1 / 162، والمجموع 3 / 391، ومطالب أولي النهى 1 / 441، والزرقاني 1 / 281، ومجمع الأنهر 1 / 100، والفتاوى الهندية 1 / 72.
(4) المجموع 3 / 390، وروضة الطالبين 1 / 248، والفروع 1 / 424، وكشاف القناع 1 / 332.
(5) الدسوقي 1 / 282.(16/190)
بِحَضْرَةِ أَجَانِبَ يَخْشَوْنَ مِنْ عُلُوِّ صَوْتِهَا الْفِتْنَةَ إِسْمَاعُهَا نَفْسَهَا فَقَطْ (1) .
وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّ الْمَرْأَةَ تُسِرُّ مُطْلَقًا (2) .
قَال ابْنُ الْهُمَامِ: لَوْ قِيل إِذَا جَهَرَتْ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلاَةِ فَسَدَتْ كَانَ مُتَّجَهًا.
وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (3) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: حَيْثُ قُلْنَا: تُسِرُّ فَجَهَرَتْ لاَ تَبْطُل صَلاَتُهَا عَلَى الصَّحِيحِ (4) .
قَال الْمِرْدَاوِيُّ: يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الْخِلاَفُ هُنَا مَبْنِيًّا عَلَى الْخِلاَفِ فِي كَوْنِ صَوْتِهَا عَوْرَةً أَمْ لاَ (5) . وَلِلتَّفْصِيل (ر: عَوْرَةٌ، قِرَاءَةٌ، صَلاَةٌ) .
ب - الْجَهْرُ خَارِجَ الصَّلاَةِ:
الْجَهْرُ بِالنِّيَّةِ:
20 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، أَنَّهُ لَوْ نَوَى بِقَلْبِهِ وَلَمْ
__________
(1) الشرح الصغير 1 / 126 - 127 ط المدني، والشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه 1 / 318 - 319 نشر دار المعارف.
(2) عمدة القاري 7 / 279 ط المنيرية، وفتح القدير 1 / 181، وروضة الطالبين 1 / 248، والمجموع 3 / 390، والفروع 1 / 424.
(3) فتح القدير 1 / 181، والمجموع 3 / 390.
(4) روضة الطالبين 1 / 248.
(5) تصحيح الفروع 1 / 425.(16/190)
يَتَكَلَّمْ بِنِيَّةٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ شَاذٍّ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ نُطْقُ اللِّسَانِ. وَقَال النَّوَوِيُّ: وَهُوَ غَلَطٌ (2) .
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ النُّطْقِ بِالنِّيَّةِ وَتَرْكِهِ. فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَوْلَوِيَّةِ النُّطْقِ بِالنِّيَّةِ مَا لَمْ يَجْهَرْ بِهَا، لأَِنَّهُ أَتَى بِالنِّيَّةِ فِي مَحَلِّهَا وَهُوَ الْقَلْبُ وَنَطَقَ بِهَا اللِّسَانُ. وَذَلِكَ زِيَادَةُ كَمَالٍ (3) .
وَقَال بَعْضُهُمْ إِنَّ النُّطْقَ بِاللِّسَانِ مَكْرُوهٌ وَلَوْ سِرًّا وَيَحْتَمِل ذَلِكَ وَجْهَيْنِ: أَحَدَهُمَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْل يَرَى أَنَّ النُّطْقَ بِهَا بِدْعَةٌ إِذْ لَمْ يَأْتِ فِي كِتَابٍ وَلاَ سُنَّةٍ. وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَا يَخْشَى أَنَّهُ إِذَا نَطَقَ بِهَا بِلِسَانِهِ قَدْ يَسْهُو عَنْهَا بِقَلْبِهِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَبْطُل صَلاَتُهُ لأَِنَّهُ أَتَى بِالنَّيْهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا (4) .
قَال ابْنُ قَيِّمٍ الْجَوْزِيَّةُ: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ قَال: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَمْ يَقُل شَيْئًا قَبْلَهَا، وَلاَ
__________
(1) مراقي الفلاح ص 120، وفتح القدير 1 / 186، وروضة الطالبين 1 / 228، والمجموع 3 / 277، ومطالب أولي النهى 1 / 106.
(2) روضة الطالبين 1 / 228.
(3) فتح القدير 1 / 186، ومجمع الأنهر 1 / 83، ومغني المحتاج 1 / 150، ومطالب أولي النهى 1 / 106، وكشاف القناع 1 / 87، والمدخل لابن الحاج 2 / 281 ط الحلبي.
(4) المدخل لابن الحاج 2 / 181، والزرقاني 1 / 196، وكشاف القناع 1 / 87، ومجمع الأنهر 1 / 83.(16/191)
تَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ أَلْبَتَّةَ وَلاَ قَال: أُصَلِّي لِلَّهِ صَلاَةَ كَذَا مُسْتَقْبِل الْقِبْلَةِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا وَلاَ قَال: أَدَاءً، وَلاَ قَضَاءً، وَلاَ فَرْضَ الْوَقْتِ (1) .
وَنَقَل الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ اتِّفَاقَ الأَْئِمَّةِ عَلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الْجَهْرِ بِالنِّيَّةِ وَتَكْرِيرِهَا وَقَال: الْجَاهِرُ بِهَا مُسْتَحِقٌّ لِلتَّعْزِيرِ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ لاَ سِيَّمَا إِذَا أَذَى بِهِ أَوْ كَرَّرَهُ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: نِيَّةٌ) .
الْجَهْرُ بِالتَّعَوُّذِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلاَةِ:
21 - يُسْتَحَبُّ التَّعَوُّذُ لِلْقَارِئِ خَارِجَ الصَّلاَةِ بِالإِْجْمَاعِ (3) .
أَمَّا حُكْمُ الْجَهْرِ بِالتَّعَوُّذِ أَوِ الإِْسْرَارِ بِهِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِعَاذَةٌ) ف 8 ج 4 ص 7 - 8 (وَتِلاَوَةٌ) ف 6 ج 13 ص 252 - 253.
الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
22 - تُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّل كُل سُورَةٍ سِوَى بَرَاءَةٌ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: إِنَّهَا آيَةٌ حَيْثُ
__________
(1) زاد المعاد 1 / 201 نشر مكتبة المنار.
(2) كشاف القناع 1 / 87.
(3) الفتوحات الربانية 2 / 189، والتبيان في آداب حملة القرآن ص 44، والنشر في القراءات العشر 1 / 257 - 258، والبرهان في علوم القرآن 1 / 460، نشر دار المعرفة، والآداب الشرعية 2 / 337، والفتاوى الهندية 5 / 316، وكشاف القناع 1 / 430.(16/191)
تُكْتَبُ فِي الْمُصْحَفِ وَقَدْ كُتِبَتْ فِي أَوَائِل السُّوَرِ سِوَى بَرَاءَةٌ، فَإِذَا قَرَأَهَا كَانَ مُتَيَقِّنًا قِرَاءَةَ الْخَتْمَةِ أَوِ السُّورَةِ، فَإِذَا أَخَل بِالْبَسْمَلَةِ كَانَ تَارِكًا لِبَعْضِ الْقُرْآنِ عِنْدَ الأَْكْثَرِينَ (1) .
قَال ابْنُ مُفْلِحٍ: فَإِنْ قَرَأَهَا فِي غَيْرِ صَلاَةٍ فَإِنْ شَاءَ جَهَرَ بِالْبَسْمَلَةِ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَجْهَرْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَمُهَنَّا (2) .
تَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بَسْمَلَةٌ) .
الْجَهْرُ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ:
23 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ فِي أَوَّلِهِ (3) .
وَقَالُوا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّسْمِيَةِ لِيَكُونَ فِيهِ تَنْبِيهٌ لِغَيْرِهِ عَلَى التَّسْمِيَةِ وَلِيُقْتَدَى بِهِ فِي ذَلِكَ (4) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: أَكْلٌ، وَبَسْمَلَةٌ) .
الْجَهْرُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ خَارِجَ الصَّلاَةِ:
24 - جَاءَتْ آثَارٌ بِفَضِيلَةِ الْجَهْرِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ
__________
(1) التبيان في آداب حملة القرآن ص 44، والبرهان في علوم القرآن 1 / 460، والإتقان في علوم القرآن 1 / 297 - 298.
(2) الآداب الشرعية 2 / 337.
(3) الفتوحات الربانية 5 / 193، والآداب الشرعية 3 / 181، والموسوعة الفقهية 6 / 119 و 8 / 92.
(4) الفتوحات الربانية 5 / 194، والآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 182، ومطالب أولي النهى 5 / 241، والفتاوى الهندية 5 / 337.(16/192)
بِالْقُرْآنِ، وَآثَارٌ بِفَضِيلَةِ الإِْسْرَارِ وَخَفْضِ الصَّوْتِ.
فَمِنَ الأَْوَّل حَدِيثُ: مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ (1) .
وَمِنَ الثَّانِي حَدِيثُ: الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ، وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ: وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الإِْخْفَاءَ أَفْضَل حَيْثُ خَافَ الرِّيَاءَ أَوْ تَأَذَّى مُصَلُّونَ أَوْ نِيَامٌ بِجَهْرِهِ، وَالْجَهْرُ أَفْضَل فِي غَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْعَمَل فِيهِ أَكْبَرُ وَلأَِنَّهُ يَتَعَدَّى نَفْعُهُ إِلَى غَيْرِهِ؛ وَلأَِنَّهُ يُوقِظُ قَلْبَ الْقَارِئِ، وَيُجْمِعُ هَمَّهُ إِلَى الْفِكْرِ وَيَصْرِفُ سَمْعَهُ إِلَيْهِ، وَيَطْرُدُ النَّوْمَ وَيَزِيدُ النَّشَاطَ.
وَيَدُل لِهَذَا الْجَمْعِ مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ قَال: اعْتَكَفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ فَكَشَفَ السِّتْرَ وَقَال: أَلاَ إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ لِرَبِّهِ، فَلاَ يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ
__________
(1) حديث: " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت. . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 68 - ط السلفية) ومسلم (1 / 545 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر. . . " أخرجه أبو داود (2 / 83 - 84 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (5 / 180 - ط الحلبي) من حديث عقبة ابن عامر الجهني. وحسنه الترمذي.(16/192)
بَعْضًا، وَلاَ يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضِكُمْ فِي الْقِرَاءَةِ (1) .
وَقَال بَعْضُهُمْ: يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِبَعْضِ الْقِرَاءَةِ وَالإِْسْرَارُ بِبَعْضِهَا، لأَِنَّ الْمُسِرَّ قَدْ يَمَل فَيَأْنَسُ بِالْجَهْرِ، وَالْجَاهِرُ قَدْ يَكِل فَيَسْتَرِيحُ بِالإِْسْرَارِ، إِلاَّ أَنَّ مَنْ قَرَأَ بِاللَّيْل جَهَرَ بِالأَْكْثَرِ، وَإِنْ قَرَأَ بِالنَّهَارِ أَسَرَّ بِالأَْكْثَرِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِالنَّهَارِ فِي مَوْضِعٍ لاَ لَغْوَ فِيهِ وَلاَ صَخَبَ وَلَمْ يَكُنْ فِي صَلاَةٍ فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ (2) .
هَذَا وَصَرَّحَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الآْدَابِ أَلاَّ يَجْهَرَ بَيْنَ مُصَلِّينَ أَوْ نِيَامٍ أَوْ تَالِينَ جَهْرًا (3) ، وَبِحَضْرَةِ مَنْ يُطَالِعُ أَوْ يَدْرُسُ أَوْ يُصَنِّفُ (4) .
وَفِي الْفَتْحِ عَنِ الْخُلاَصَةِ: رَجُلٌ يَكْتُبُ الْفِقْهَ وَبِجَنْبِهِ رَجُلٌ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَلاَ يُمْكِنُهُ اسْتِمَاعُ الْقُرْآنِ فَالإِْثْمُ عَلَى الْقَارِئِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ قَرَأَ
__________
(1) حديث أبي سعيد: " ألا إن كلكم مناج لربه. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 83 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه ابن عبد البر كما في شرح الزرقاني على الموطأ.
(2) الفتوحات الربانية 3 / 264، والبرهان في علوم القرآن 1 / 463، 464، نشر دار المعرفة، والإتقان في علوم القرآن 1 / 303، 304، نشر المكتبة العصرية، وتفسير القرطبي 3 / 332 - 333، والمجموع 3 / 392، وشرح الكنز بحاشية أبي السعود 1 / 239، والفتاوى الهندية 5 / 316 - 317.
(3) الآداب الشرعية 2 / 338، وكشاف القناع 1 / 431، والفتاوى الهندية 5 / 316، وابن عابدين 1 / 366، والحطاب 1 / 525.
(4) مغني المحتاج 1 / 163، نشر دار الفكر.(16/193)
عَلَى السَّطْحِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ يَأْثَمُ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ سَبَبًا لإِِعْرَاضِهِمْ عَنِ اسْتِمَاعِهِ، أَوْ لأَِنَّهُ يُؤْذِيهِمْ بِإِيقَاظِهِمْ (1) .
الْجَهْرُ بِالأَْذَانِ وَالإِْقَامَةِ:
25 - مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَجْهَرَ بِالأَْذَانِ فَيَرْفَعَ بِهِ صَوْتَهُ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الإِْعْلاَمُ يَحْصُل بِهِ، وَلِهَذَا كَانَ الأَْفْضَل أَنْ يُؤَذِّنَ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ أَسْمَعَ لِلْجِيرَانِ كَالْمِئْذَنَةِ وَنَحْوِهَا، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْهِدَ نَفْسَهُ. وَكَذَا يَجْهَرُ بِالإِْقَامَةِ لَكِنْ دُونَ الْجَهْرِ بِالأَْذَانِ؛ لأَِنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الإِْعْلاَمِ بِهَا دُونَ الْمَقْصُودِ مِنَ الأَْذَانِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: أَذَانٌ: وَإِقَامَةٌ) .
الْجَهْرُ بِالْخُطْبَةِ:
26 - يُسْتَحَبُّ لِلْخَطِيبِ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْخُطْبَةِ زِيَادَةً عَلَى أَصْل الْجَهْرِ الْوَاجِبِ (3) .
قَال جَابِرٌ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلاَ صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى
__________
(1) ابن عابدين 1 / 366، والفتاوى الهندية 5 / 318.
(2) الفتاوى الهندية 1 / 55، وبدائع الصنائع 1 / 149، والفتوحات الربانية 2 / 97، والمجموع 3 / 110، وما بعدها، والمغني 1 / 423، والقوانين الفقهية ص 54.
(3) المغني 2 / 308، والمجموع 4 / 526، 528، والشرح الصغير 1 / 217 ط المدني، والفتاوى الهندية 1 / 147، والجوهرة النيرة 1 / 107.(16/193)
كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُول: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ. . . (1) قَال النَّوَوِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْحَدِيثَ: يُسْتَدَل بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْخَطِيبِ أَنْ يُفَخِّمَ أَمْرَ الْخُطْبَةِ وَيَرْفَعَ صَوْتَهُ وَيُجْزِل كَلاَمَهُ وَيَكُونَ مُطَابِقًا لِلْفَصْل الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ مِنْ تَرْغِيبٍ أَوْ تَرْهِيبٍ (2) .
هَذَا وَيَكُونُ الْجَهْرُ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ أَخْفَضَ مِنَ الأُْولَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
وَلَمْ نَعْثُرْ فِي الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى عَلَى تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْخُطْبَةِ الأُْولَى وَالثَّانِيَةِ مِنْ حَيْثُ الْجَهْرُ وَالإِْخْفَاءُ.
وَلِلتَّفْصِيل (ر: خُطْبَةٌ) .
الْجَهْرُ وَالإِْسْرَارُ بِالأَْذْكَارِ:
27 - نَقَل ابْنُ بَطَّالٍ وَآخَرُونَ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَمِ اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ وَالتَّكْبِيرِ (4) . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (5) .
__________
(1) حديث جابر: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت. . . " أخرجه مسلم (2 / 592 - ط الحلبي) .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 6 / 155 - 156.
(3) الفتاوى الهندية 1 / 147، والجوهرة النيرة 1 / 114 مطبعة عارف بتركيا.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 5 / 84، وكشاف القناع 1 / 366، والفواكه الدواني 2 / 429.
(5) سورة الأعراف / 55.(16/194)
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا (1) عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا إِنَّهُ مَعَكُمْ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (2) .
وَحَمَل الشَّافِعِيُّ الأَْحَادِيثَ الَّتِي تُفِيدُ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهَرَ وَقْتًا يَسِيرًا حَتَّى يُعَلِّمَهُمْ (الصَّحَابَةَ) صِفَةَ الذِّكْرِ لاَ أَنَّهُمْ جَهَرُوا دَائِمًا، وَقَال: فَأَخْتَارُ لِلإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ أَنْ يَذْكُرَا اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ وَيُخْفِيَانِ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ إِمَامًا يُرِيدُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْهُ فَيَجْهَرَ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ تَعَلَّمَ مِنْهُ ثُمَّ يُسِرَّ (3) .
قَال ابْنُ عَلاَّنَ: يُسَنُّ الإِْسْرَارُ فِي سَائِرِ الأَْذْكَارِ، إِلاَّ فِي الْقُنُوتِ لِلإِْمَامِ، وَالتَّلْبِيَةِ، وَتَكْبِيرِ لَيْلَتَيِ الْعِيدِ، وَعِنْدَ رُؤْيَةِ الأَْنْعَامِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَبَيْنَ كُل سُورَتَيْنِ مِنَ الضُّحَى إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ، وَذِكْرِ السُّوقِ، وَعِنْدَ صُعُودِ الْهَضَبَاتِ، وَالنُّزُول مِنَ الشُّرُفَاتِ (4) .
__________
(1) اربعوا بفتح الباء أي ارفقوا.
(2) المجموع 3 / 389. وحديث أبي موسى: " يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 135 - السلفية) ومسلم (4 / 2077 - الحلبي) .
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 5 / 84، والمجموع 3 / 487.
(4) الفتوحات الربانية 3 / 31 - 32.(16/194)
وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ وَالذِّكْرِ عَقِيبَ الْمَكْتُوبَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَعْلَمُ - إِذَا انْصَرَفُوا - بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ (1) وَلأَِنَّهُ أَكْثَرُ عَمَلاً وَأَبْلَغُ فِي التَّدَبُّرِ، وَنَفْعُهُ مُتَعَدٍّ لإِِيقَاظِ قُلُوبِ الْغَافِلِينَ (2) .
وَخَيْرُ مَا يُقَال فِي هَذَا الْمَقَامِ، مَا قَالَهُ صَاحِبُ مَرَاقِي الْفَلاَحِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الأَْحَادِيثِ وَأَقْوَال الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الإِْسْرَارِ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالْجَهْرِ بِهِمَا " أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الأَْشْخَاصِ وَالأَْحْوَال وَالأَْوْقَاتِ وَالأَْغْرَاضِ، فَمَتَى خَافَ الرِّيَاءَ أَوْ تَأَذَّى بِهِ أَحَدٌ كَانَ الإِْسْرَارُ أَفْضَل، وَمَتَى فَقَدَ مَا ذَكَرَ، كَانَ الْجَهْرُ أَفْضَل (3) ".
وَلِلتَّفْصِيل (ر: إِسْرَارٌ، وَذِكْرٌ) .
الْجَهْرُ بِالدُّعَاءِ:
28 - الدُّعَاءُ سِرًّا أَفْضَل مِنْهُ جَهْرًا فِي الْجُمْلَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (4)
__________
(1) حديث ابن عباس: " أن رفع الصوت بالذكر. . . " أخرجه مسلم (1 / 410 - ط الحلبي) .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 5 / 84، ومراقي الفلاح ص 174.
(3) مراقي الفلاح ص 174، وبريقة محمودية 4 / 54.
(4) سورة الأعراف / 55.(16/195)
وَلأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الإِْخْلاَصِ (1) وَبِذَلِكَ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ زَكَرِيَّا إِذْ قَال مُخْبِرًا عَنْهُ {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (2) وَالشَّرِيعَةُ مُقَرِّرَةٌ أَنَّ السِّرَّ فِيمَا لَمْ يَعْتَرِضْ مِنْ أَعْمَال الْبِرِّ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْجَهْرِ (3) .
وَعَدَّ الْغَزَالِيُّ خَفْضَ الصَّوْتِ بَيْنَ الْمُخَافَتَةِ وَالْجَهْرِ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ، وَاسْتَدَل بِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَْشْعَرِيَّ قَال: قَدِمْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ كَبَّرَ، وَكَبَّرَ النَّاسُ وَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَ لَيْسَ بِأَصَمَّ وَلاَ غَائِبٍ إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَعْنَاقِ رِقَابِكُمْ (4) وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَل {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} (5) أَيْ بِدُعَائِكَ (6) .
__________
(1) كشاف القناع 1 / 367، وروضة الطالبين 1 / 268، وابن عابدين 2 / 175.
(2) سورة مريم / 3.
(3) تفسير القرطبي 7 / 223.
(4) حديث: " إن الذي تدعون ليس بأصم. . . " تقدم تخريجه بهذا المعنى ف / 27.
(5) سورة الإسراء / 110.
(6) إحياء علوم الدين 1 / 313 ط مصطفى الحلبي. وأثر عائشة في تفسير قوله عز وجل " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " أخرجه البخاري (فتح الباري 8 / 405 ط السلفية) .(16/195)
وَقَال الْخَطَّابِيُّ: يُكْرَهُ فِيهِ الْجَهْرُ الشَّدِيدُ بِالصَّوْتِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل (ر: دُعَاءٌ) .
الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ فِي طَرِيقِ مُصَلَّى الْعِيدِ:
29 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ التَّكْبِيرِ جَهْرًا فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى فِي عِيدِ الأَْضْحَى. أَمَّا التَّكْبِيرُ فِي عِيدِ الْفِطْرِ فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِيهِ جَهْرًا، وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ عَدَمَ الْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ. وَلِلتَّفْصِيل (ر: تَكْبِيرٌ ف 14 ج 13 ص 213 وَصَلاَةُ الْعِيدَيْنِ، وَعِيدٌ) .
الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ فِي لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ:
30 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْقَوْل الْمُقَابِل لِلْمَشْهُورِ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلنَّاسِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ فِي لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ وَطُرُقِهِمْ وَأَسْوَاقِهِمْ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ فِي فِتْيَةٍ بِمِنًى يَسْمَعُهُ أَهْل الْمَسْجِدِ فَيُكَبِّرُونَ، وَيُكَبِّرُ أَهْل الأَْسْوَاقِ حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا.
قَال أَحْمَدُ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ جَمِيعًا وَيُعْجِبُنَا ذَلِكَ (2) .
__________
(1) شأن الدعاء لأبي سليمان الخطابي بتحقيق أحمد يوسف الدقاق ص 14.
(2) المغني 2 / 368، وأسنى المطالب 1 / 284، والمجموع 5 / 39، والفواكه الدواني 1 / 320.(16/196)
وَيُسْتَثْنَى مِنْ طَلَبِ رَفْعِ الصَّوْتِ الْمَرْأَةُ، وَظَاهِرٌ أَنَّ مَحَلَّهُ إِذَا حَضَرَتْ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَلَمْ يَكُونُوا مَحَارِمَ لَهَا، وَمِثْلُهَا الْخُنْثَى (1) .
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لاَ يُكَبِّرُ لَيْلَةَ الْعِيدِ وَإِنَّمَا يُكَبِّرُ عِنْدَ الْغُدُوِّ إِلَى صَلاَةِ الْعِيدِ. قَال: وَبِهِ أَقُول (2) . وَلِلتَّفْصِيل فِي أَنْوَاعِ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ، وَصِفَتِهَا، وَحُكْمِهَا، وَوَقْتِهَا، وَسَائِرِ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، يُنْظَرُ (عِيدٌ) وَ (صَلاَةُ الْعِيدِ) وَيُرْجَعُ أَيْضًا إِلَى مُصْطَلَحَيْ (أَيَّامُ التَّشْرِيقِ) (وَتَكْبِيرٌ) .
(الْجَهْرُ بِالتَّلْبِيَةِ:
31 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لَهُ التَّوَسُّطُ فِي تَصْوِيتِهِ بِهَا فَلاَ يُبَالِغُ فِي رَفْعِهِ، وَلاَ فِي خَفْضِهِ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: تَلْبِيَةٌ ف 5 ج 13 ص 263) .
الْجَهْرُ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْل:
32 - يَجِبُ الإِْنْكَارُ عَلَى مَنْ تَكَلَّمَ بِسُوءٍ فِيمَنْ
__________
(1) أسنى المطالب 1 / 284، وانظر المغني 2 / 368.
(2) المجموع 5 / 41، وانظر القرطبي 2 / 306، والفواكه الدواني 1 / 320، وانظر الفتاوى الخانية بهامش الهندية 1 / 185.
(3) الفواكه الدواني 1 / 413، والموسوعة الفقهية 13 / 263.(16/196)
كَانَ ظَاهِرُهُ السَّتْرَ وَالصَّلاَحَ وَلَمْ يَظْهَرْ ظُلْمُهُ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِقَوْلِهِ {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْل إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ} (1) أَيْ أَنَّهُ لاَ يُحِبُّ ذَلِكَ، وَمَا لاَ يُحِبُّهُ يَكُونُ مَحْظُورًا، فَعَلَيْنَا أَنْ نَكْرَهَهُ وَنُنْكِرَهُ (2) .
__________
(1) سورة النساء / 148.
(2) أحكام القرآن للجصاص 2 / 291 نشر دار الكتاب العربي، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 512، والقرطبي 6 / 1 وما بعدها، والدر المنثور 2 / 237 ط المطبعة الإسلامية.(16/197)
جَهْلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَهْل لُغَةً: نَقِيضُ الْعِلْمِ. يُقَال جَهِلْتُ الشَّيْءَ جَهْلاً وَجَهَالَةً بِخِلاَفِ عَلِمْتُهُ، وَجَهِل عَلَى غَيْرِهِ سَفِهَ أَوْ خَطَأَ.
وَجَهِل الْحَقَّ أَضَاعَهُ، فَهُوَ جَاهِلٌ وَجَهْلٌ. وَجَهَّلْتُهُ - بِالتَّثْقِيل - نَسَبْتُهُ إِلَى الْجَهْل (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى خِلاَفِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: بَسِيطٌ وَمُرَكَّبٌ.
أ - الْجَهْل الْبَسِيطُ: هُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ مِمَّنْ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا.
ب - الْجَهْل الْمُرَكَّبُ: عِبَارَةٌ عَنِ اعْتِقَادٍ جَازِمٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ (2) .
وَقَدْ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ " جَهَالَةٌ " التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مُصْطَلَحَيْ (جَهْلٌ وَجَهَالَةٌ) فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير والمعجم الوسيط مادة: (جهل) .
(2) التعريفات للجرجاني، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 303، والأشباه للسيوطي ص 187 وما بعدها، والمنثور في القواعد للزركشي 2 / 12 - 13، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 / 253.(16/197)
لَهُمَا حَيْثُ يَسْتَعْمِلُونَ الْجَهْل فِي حَالَةِ اتِّصَافِ الإِْنْسَانِ بِهِ فِي اعْتِقَادِهِ أَوْ قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ، وَيَسْتَعْمِلُونَ الْجَهَالَةَ فِي حَالَةِ اتِّصَافِ الشَّيْءِ الْمَجْهُول بِهَا (ر: جَهَالَةٌ) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - النِّسْيَانُ:
2 - النِّسْيَانُ لُغَةً لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَرْكُ الشَّيْءِ عَنْ ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ، وَذَلِكَ خِلاَفُ الذِّكْرِ لَهُ.
وَالثَّانِي: التَّرْكُ عَنْ تَعَمُّدٍ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْل بَيْنَكُمْ} (1)
أَيْ: لاَ تَقْصِدُوا التَّرْكَ وَالإِْهْمَال. وَنَسِيتُ رَكْعَةً أَهْمَلْتُهَا ذُهُولاً، وَقَال الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنَ الْمَجَازِ نَسِيتُ الشَّيْءَ تَرَكْتُهُ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الْغَفْلَةُ عَنْ مَعْلُومٍ فِي غَيْرِ حَال السُّنَّةِ، فَلاَ يُنَافِي الْوُجُوبَ أَيْ: نَفْسَ الْوُجُوبِ، لاَ وُجُوبَ الأَْدَاءِ.
قَال الْقَرَافِيُّ: النِّسْيَانُ لاَ إِثْمَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، بِخِلاَفِ الْجَهْل بِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الإِْنْسَانِ تَعَلُّمُهُ. وَالنِّسْيَانُ أَيْضًا يَهْجُمُ عَلَى الْعَبْدِ قَهْرًا لاَ حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهِ عَنْهُ، وَالْجَهْل لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ بِالتَّعَلُّمِ (2) .
__________
(1) سورة البقرة / 237.
(2) المصباح المنير، وأساس البلاغة، والفروق 2 / 149.(16/198)
قَال التَّهَانُوِيُّ: وَكَذَا الْغَفْلَةُ وَالذُّهُول وَالْجَهْل الْبَسِيطُ بَعْدَ الْعِلْمِ يُسَمَّى نِسْيَانًا.
قَال الآْمِدِيُّ: إِنَّ الذُّهُول وَالْغَفْلَةَ وَالنِّسْيَانَ عِبَارَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، لَكِنْ يَقْرُبُ أَنْ تَكُونَ مَعَانِيهَا مُتَّحِدَةً، وَكُلُّهَا مُضَادَّةٌ لِلْعِلْمِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَحِيل اجْتِمَاعُهَا مَعَهُ (1) .
ب - السَّهْوُ:
3 - السَّهْوُ فِي اللُّغَةِ مِنْ سَهَا يَسْهُو سَهْوًا: أَيْ غَفَل، وَالسَّهْوَةُ: الْغَفْلَةُ.
وَفَرَّقُوا بَيْنَ السَّاهِي وَالنَّاسِي بِأَنَّ النَّاسِيَ، إِذَا ذَكَّرْتَهُ تَذَكَّرَ، وَالسَّاهِيَ بِخِلاَفِهِ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال التَّهَانَوِيُّ: وَيَقْرَبُ مِنْهُ أَيْ مِنَ (الْجَهْل) السَّهْوُ وَكَأَنَّهُ جَهْلٌ بَسِيطٌ سَبَبُهُ عَدَمُ اسْتِثْبَاتِ التَّصَوُّرِ حَتَّى إِذَا نُبِّهَ السَّاهِي أَدْنَى تَنْبِيهٍ تَنَبَّهَ (3) .
أَقْسَامُ الْجَهْل:
يَنْقَسِمُ الْجَهْل إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَوَّلاً - الْجَهْل الْبَاطِل الَّذِي لاَ يَصْلُحُ عُذْرًا:
4 - وَهَذَا الْقِسْمُ لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا فِي الآْخِرَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَصْلُحُ عُذْرًا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا
__________
(1) التعريفات للجرجاني، وكشاف اصطلاحات الفنون 2 / 253 خياط بيروت.
(2) المصباح المنير.
(3) كشاف اصطلاحات الفنون 2 / 253.(16/198)
كَقَبُول عَقْدِ الذِّمَّةِ مِنَ الذِّمِّيِّ حَتَّى لاَ يُقْتَل، وَلَكِنْ لاَ يَكُونُ عُذْرًا فِي الآْخِرَةِ حَتَّى إِنَّهُ يُعَاقَبُ فِيهَا.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ جَهْل الْكُفَّارِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِ الآْخِرَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يَصْلُحُ عُذْرًا أَصْلاً، لأَِنَّهُ مُكَابَرَةٌ وَعِنَادٌ بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلاَئِل عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتِهِ، بِحَيْثُ لاَ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِنْ حُدُوثِ الْعَالَمِ الْمَحْسُوسِ، وَكَذَا عَلَى حَقِّيَّةَ الرَّسُول مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ.
وَكَذَا جَهْل صَاحِبِ الْهَوَى الَّذِي يَقُول بِحُدُوثِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يَقُول بِعَدَمِ إِثْبَاتِ صِفَةٍ لَهُ سُبْحَانَهُ.
هَذَا مَا قَالَهُ الْحَمَوِيُّ، وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: الْجَهْل بِالصِّفَةِ هَل هُوَ جَهْلٌ بِالْمَوْصُوفِ مُطْلَقًا أَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؟
الْمُرَجَّحُ الثَّانِي؛ لأَِنَّهُ جَاهِلٌ بِالذَّاتِ مِنْ حَيْثُ صِفَاتُهَا لاَ مُطْلَقًا، وَمِنْ ثَمَّ لاَ نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْل الْقِبْلَةِ.
وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا جَهْل مَنْ خَالَفَ فِي اجْتِهَادِهِ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ أَوِ الإِْجْمَاعَ، أَوْ عَمِل بِالْغَرِيبِ عَلَى خِلاَفِ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعُذْرٍ أَصْلاً (1) .
__________
(1) حاشية الحموي على أشباه ابن نجيم 2 / 136 - 137، والمنثور في القواعد للزركشي 2 / 13، ومسلم الثبوت 1 / 28.(16/199)
ثَانِيًا - الْجَهْل الَّذِي يَصْلُحُ عُذْرًا:
5 - الْجَهْل الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا هُوَ الْجَهْل الَّذِي يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الاِجْتِهَادِ الصَّحِيحِ، بِأَنْ لاَ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الإِْجْمَاعِ، وَذَلِكَ كَالْمُحْتَجِمِ إِذَا أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْحِجَامَةَ مُفْطِرَةٌ لاَ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لأَِنَّ جَهْلَهُ فِي مَوْضِعِ الاِجْتِهَادِ الصَّحِيحِ (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حِجَامَةٌ) .
وَمِنَ الْجَهْل الَّذِي يَصْلُحُ عُذْرًا، الْجَهْل بِالشَّرَائِعِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَكُونُ عُذْرًا مِنْ مُسْلِمٍ أَسْلَمَ فِيهَا وَلَمْ يُهَاجِرْ، حَتَّى لَوْ مَكَثَ فِيهَا وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّلاَةَ وَالزَّكَاةَ وَغَيْرَهُمَا وَلَمْ يُؤَدِّهَا لاَ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا خِلاَفًا لِزُفَرَ لِخَفَاءِ الدَّلِيل فِي حَقِّهِ، وَهُوَ الْخِطَابُ لِعَدَمِ بُلُوغِهِ إِلَيْهِ حَقِيقَةً بِالسَّمَاعِ وَتَقْدِيرًا بِالشُّهْرَةِ، فَيَصِيرُ جَهْلُهُ بِالْخِطَابِ عُذْرًا. بِخِلاَفِ الذِّمِّيِّ إِذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ لِشُيُوعِ الأَْحْكَامِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ السُّؤَال (2) .
قَال السُّيُوطِيُّ: كُل مَنْ جَهِل تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ غَالِبُ النَّاسِ لَمْ يُقْبَل مِنْهُ دَعْوَى الْجَهْل إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالإِْسْلاَمِ، أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ يَخْفَى فِيهَا مِثْل ذَلِكَ، كَتَحْرِيمِ الزِّنَى، وَالْقَتْل، وَالسَّرِقَةِ، وَالْخَمْرِ، وَالْكَلاَمِ فِي الصَّلاَةِ، وَالأَْكْل فِي الصَّوْمِ.
__________
(1) الحموي على الأشباه 2 / 137.
(2) الحموي على الأشباه 2 / 138.(16/199)
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: لَوْ شَهِدَا بِقَتْلٍ ثُمَّ رَجَعَا وَقَالاَ تَعَمَّدْنَا، لَكِنْ مَا عَرَفْنَا أَنَّهُ يُقْتَل بِشَهَادَتِنَا فَلاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الأَْصَحِّ، إِذْ لَمْ يَظْهَرْ تَعَمُّدُهُمَا لِلْقَتْل؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى عَلَى الْعَوَامِّ.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيل أَعْنِي الَّذِي يُقْبَل فِيهِ دَعْوَى الْجَهْل مُطْلَقًا لِخَفَائِهِ كَوْنُ التَّنَحْنُحِ مُبْطِلاً لِلصَّلاَةِ، أَوْ كَوْنُ الْقَدْرِ الَّذِي أَتَى بِهِ مِنَ الْكَلاَمِ مُحَرَّمًا، أَوِ النَّوْعِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ مُفْطِرًا، فَالأَْصَحُّ فِي الصُّوَرِ الثَّلاَثِ عَدَمُ الْبُطْلاَنِ.
وَلاَ تُقْبَل دَعْوَى الْجَهْل فِي الأُْمُورِ الْمُشْتَهِرَةِ بَيْنَ النَّاسِ كَثُبُوتِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ رَجُلٍ قَدِيمِ الإِْسْلاَمِ، بِخِلاَفِ مَا لاَ يَعْرِفُهُ إِلاَّ الْخَوَاصُّ (1) .
6 - هَذَا وَيَعْقِدُ الأُْصُولِيُّونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بَابًا لِعَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ، وَيَجْعَلُونَ الْجَهْل مِنَ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ، وَقَدْ قَسَّمَ صَاحِبُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ الْجَهْل إِلَى أَنْوَاعٍ هِيَ:
الأَْوَّل: الْجَهْل الَّذِي يَكُونُ مِنْ مُكَابَرَةِ الْعَقْل وَتَرْكِ الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ وَهُوَ جَهْل الْكَافِرِ، لاَ يَكُونُ عُذْرًا بِحَالٍ، بَل يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ.
الثَّانِي: الْجَهْل الَّذِي يَكُونُ عَنْ مُكَابَرَةِ الْعَقْل وَتَرْكِ الْحُجَّةِ الْجَلِيَّةِ أَيْضًا، لَكِنَّ الْمُكَابَرَةَ فِيهِ أَقَل مِنْهَا فِي الأَْوَّل؛ لِكَوْنِ هَذَا الْجَهْل نَاشِئًا عَنْ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 200 - 201.(16/200)
شُبْهَةٍ مَنْسُوبَةٍ إِلَى الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ. وَهَذَا الْجَهْل لِلْفِرَقِ الضَّالَّةِ مِنْ أَهْل الأَْهْوَاءِ، وَهَذَا الْجَهْل لاَ يَكُونُ عُذْرًا، وَلاَ نَتْرُكُهُمْ عَلَى جَهْلِهِمْ، فَإِنَّ لَنَا أَنْ نَأْخُذَهُمْ بِالْحُجَّةِ لِقَبُولِهِمُ التَّدَيُّنَ بِالإِْسْلاَمِ.
الثَّالِثُ: جَهْلٌ نَشَأَ عَنِ اجْتِهَادٍ وَدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَكِنْ فِيمَا لاَ يَجُوزُ فِيهِ الاِجْتِهَادُ بِأَنْ يُخَالِفَ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ أَوِ الإِْجْمَاعَ.
وَحُكْمُهُ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عُذْرًا فِي حَقِّ الإِْثْمِ لَكِنْ لاَ يَكُونُ عُذْرًا فِي الْحُكْمِ حَتَّى لاَ يَنْفُذَ الْقَضَاءُ بِهِ.
الرَّابِعُ: جَهْلٌ نَشَأَ عَنِ اجْتِهَادٍ فِيهِ مَسَاغٌ كَالْمُجْتَهَدَاتِ وَهُوَ عُذْرٌ أَلْبَتَّةَ وَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ عَلَى حَسَبِهِ.
الْخَامِسُ: جَهْلٌ نَشَأَ عَنْ شُبْهَةٍ وَخَطَأٍ كَمَنْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً يَظُنُّ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَهَذَا عُذْرٌ يُسْقِطُ الْحَدَّ.
السَّادِسُ: جَهْلٌ لَزِمَهُ ضَرُورَةً بِعُذْرٍ وَهُوَ أَيْضًا عُذْرٌ يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ، كَجَهْل الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ فَلاَ يُحَدُّ بِالشُّرْبِ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1 / 160 - 161، وينظر الفروق للقرافي 2 / 148 الفرق الرابع والتسعون.(16/200)
الْجَهْل بِالتَّحْرِيمِ مُسْقِطٌ لِلإِْثْمِ وَالْحُكْمِ فِي الظَّاهِرِ:
7 - الْجَهْل بِالتَّحْرِيمِ مُسْقِطٌ لِلإِْثْمِ وَالْحُكْمِ فِي الظَّاهِرِ لِمَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالإِْسْلاَمِ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ عَلِمَهُ وَجَهِل الْمُرَتَّبَ عَلَيْهِ لَمْ يُعْذَرْ.
وَلِهَذَا لَوْ جَهِل تَحْرِيمَ الْكَلاَمِ فِي الصَّلاَةِ عُذِرَ، وَلَوْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ وَجَهِل الإِْبْطَال بَطَلَتْ. وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ جِنْسَ الْكَلاَمِ يَحْرُمُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ التَّنَحْنُحَ وَالْمِقْدَارَ الَّذِي نَطَقَ بِهِ مُحَرَّمٌ فَمَعْذُورٌ فِي الأَْصَحِّ. وَقَدْ ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ هُنَا تَنْبِيهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لاَ يَخْتَصُّ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، بَل يَجْرِي فِي حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ، فَفِي تَعْلِيقِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ: لَوْ أَنَّ رَجُلاً قَتَل رَجُلاً وَادَّعَى الْجَهْل بِتَحْرِيمِ الْقَتْل وَكَانَ مِثْلُهُ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي إِسْقَاطِ الْقِصَاصِ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً، قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَفِيمَا قَالَهُ (الْقَاضِي) نَظَرٌ قَوِيٌّ.
الثَّانِي: أَنَّ إِعْذَارَ الْجَاهِل مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ لاَ مِنْ حَيْثُ جَهْلُهُ.
وَلِهَذَا قَال الشَّافِعِيُّ: لَوْ عُذِرَ الْجَاهِل لأَِجْل جَهْلِهِ لَكَانَ الْجَهْل خَيْرًا مِنَ الْعِلْمِ، إِذْ كَانَ يَحُطُّ عَنِ الْعَبْدِ أَعْبَاءَ التَّكْلِيفِ، وَيُرِيحُ قَلْبَهُ مِنْ ضُرُوبِ التَّعْنِيفِ، فَلاَ حُجَّةَ لِلْعَبْدِ فِي جَهْلِهِ بِالْحُكْمِ بَعْدَ التَّبْلِيغِ وَالتَّمْكِينِ (1) ؛ {لِئَلاَّ يَكُونَ
__________
(1) المنثور 2 / 15 - 17.(16/201)
لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} (1) .
قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ: كُل مَسْأَلَةٍ تَدِقُّ وَيَغْمُضُ مَعْرِفَتُهَا هَل يُعْذَرُ فِيهَا الْعَامِّيُّ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ (2) .
الْجَهْل بِمَعْنَى اللَّفْظِ مُسْقِطٌ لِحُكْمِهِ:
8 - إِذَا نَطَقَ الأَْعْجَمِيُّ بِكَلِمَةِ كُفْرٍ، أَوْ إِيمَانٍ أَوْ طَلاَقٍ أَوْ إِعْتَاقٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَلاَ يَعْرِفُ مَعْنَاهُ لاَ يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْهُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ بِمُقْتَضَاهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ إِلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا نَطَقَ الْعَرَبِيُّ بِمَا يَدُل عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ بِلَفْظٍ أَعْجَمِيٍّ لاَ يَعْرِفُ مَعْنَاهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُؤَاخَذُ. نَعَمْ، لَوْ قَال الأَْعْجَمِيُّ: أَرَدْتُ بِهِ مَا يُرَادُ عِنْدَ أَهْلِهِ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: كَذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ؛ فَإِنَّ الإِْرَادَةَ لاَ تَتَوَجَّهُ إِلاَّ إِلَى مَعْلُومٍ أَوْ مَظْنُونٍ؛ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَى اللَّفْظِ لَمْ يَصِحَّ قَصْدُهُ.
وَلَوْ نَطَقَ الْعَرَبِيُّ بِكَلِمَاتٍ عَرَبِيَّةٍ لَكِنَّهُ لاَ يَعْرِفُ مَعَانِيَهَا فِي الشَّرْعِ، مِثْل قَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ أَوْ لِلْبِدْعَةِ، وَهُوَ جَاهِلٌ بِمَعْنَى اللَّفْظِ، أَوْ نَطَقَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ أَوِ النِّكَاحِ، فَفِي الْقَوَاعِدِ لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ أَنَّهُ لاَ يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ؛ إِذْ لاَ شُعُورَ لَهُ بِمَدْلُولِهِ حَتَّى يَقْصِدَهُ بِاللَّفْظِ. قَال: وَكَثِيرًا مَا يُخَالِعُ الْجُهَّال
__________
(1) سورة النساء / 165
(2) المنثور 2 / 14.(16/201)
مِنَ الَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ مَدْلُول لَفْظِ الْخُلْعِ وَيَحْكُمُونَ بِصِحَّتِهِ لِلْجَهْل بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ (1) .
مَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ وَجَهِل مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ:
9 - كُل مَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ وَجَهِل مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لَمْ يُفِدْهُ ذَلِكَ، كَمَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الزِّنَى وَالْخَمْرِ وَجَهِل وُجُوبَ الْحَدِّ يُحَدُّ بِالاِتِّفَاقِ؛ لأَِنَّهُ كَانَ حَقُّهُ الاِمْتِنَاعَ، وَكَذَا لَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الْقَتْل وَجَهِل وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَجِبُ الْقِصَاصُ، أَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الْكَلاَمِ فِي الصَّلاَةِ، وَجَهِل كَوْنَهُ مُبْطِلاً يُبْطِل، أَوْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الطِّيبِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَجَهِل وُجُوبَ الْفِدْيَةِ تَجِبُ (2) .
الْجَهْل عُذْرٌ فِي الْمَنْهِيَّاتِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى:
10 - الْجَهْل عُذْرٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَنْهِيَّاتِ دُونَ الْمَأْمُورَاتِ، وَالأَْصْل فِيهِ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي الصَّلاَةِ (3) ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالإِْعَادَةِ لِجَهْلِهِ بِالنَّهْيِ. وَحَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ: حَيْثُ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيًّا بِنَزْعِ الْجُبَّةِ عَنْهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْفِدْيَةِ لِجَهْلِهِ (4) .
__________
(1) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 102 والمنثور للزركشي 2 / 13 - 14.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 201.
(3) حديث معاوية بن الحكم. أخرجه مسلم (1 / 381 - ط الحلبي) .
(4) حديث يعلى بن أمية. أخرجه البخاري (الفتح 3 / 393 - ط السلفية) ومسلم (2 / 836 - ط الحلبي) .(16/202)
وَاحْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ مَنْ وَطِئَ فِي الإِْحْرَامِ جَاهِلاً فَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ إِقَامَةُ مَصَالِحِهَا. وَذَلِكَ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِفِعْلِهَا، وَالْمَنْهِيَّاتُ مَزْجُورٌ عَنْهَا بِسَبَبِ مَفَاسِدِهَا امْتِحَانًا لِلْمُكَلَّفِ بِالاِنْكِفَافِ عَنْهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّعَمُّدِ لاِرْتِكَابِهَا، وَمَعَ الْجَهْل لَمْ يَقْصِدْ الْمُكَلَّفُ ارْتِكَابَ الْمَنْهِيِّ، فَعُذِرَ بِالْجَهْل فِيهِ.
أَمَّا فِي حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ فَقَدْ لاَ يُعْذَرُ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ مَرِيضًا جَهِل مَرَضَهُ ضَرْبًا يَقْتُل الْمَرِيضَ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الأَْصَحِّ. بِخِلاَفِ مَا لَوْ حَبَسَ مَنْ بِهِ جُوعٌ وَعَطَشٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ مُدَّةً لاَ يَمُوتُ فِيهَا الشَّبْعَانُ عِنْدَ الْحَبْسِ فَلاَ قِصَاصَ.
وَكَأَنَّ الْفَرْقَ أَنَّ أَمَارَاتِ الْمَرَضِ لاَ تَخْفَى بِخِلاَفِ الْجُوعِ (1) .
أَحْكَامُ الْجَهْل:
لِلْجَهْل أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ فِي الْفِقْهِ الإِْسْلاَمِيِّ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:
جَهْل الْمَرْأَةِ عَادَتَهَا:
11 - الْمَرْأَةُ إِذَا جَهِلَتْ عَادَتَهَا لِنِسْيَانٍ أَوْ جُنُونٍ وَنَحْوِهِمَا (وَهِيَ الْمُتَحَيِّرَةُ) سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِتَحَيُّرِهَا فِي أَمْرِهَا، وَهِيَ الْمُسْتَحَاضَةُ غَيْرُ الْمُمَيِّزَةِ. لَهَا
__________
(1) المنثور للزركشي 2 / 19 - 21.(16/202)
ثَلاَثَةُ أَحْوَالٍ؛ لأَِنَّهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ نَاسِيَةً لِلْقَدْرِ وَالْوَقْتِ، أَوْ لِلْقَدْرِ دُونَ الْوَقْتِ، أَوْ بِالْعَكْسِ (1) . وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي (حَيْضٌ) .
الْجَهْل بِوَقْتِ الصَّلاَةِ:
12 - مَنْ جَهِل الْوَقْتَ لِعَارِضٍ كَغَيْمٍ، أَوْ حَبْسٍ، وَعَدِمَ ثِقَةً يُخْبِرُهُ بِهِ عَنْ عِلْمٍ، اجْتَهَدَ جَوَازًا إِنْ قَدَرَ عَلَى الْيَقِينِ بِالصَّبْرِ أَوِ الْخُرُوجِ وَرُؤْيَةِ الشَّمْسِ مَثَلاً، وَإِلاَّ فَوُجُوبًا بِوِرْدٍ مِنْ قُرْآنٍ، وَدَرْسٍ، وَمُطَالَعَةٍ وَصَلاَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ (2) . وَتَفْصِيلُهُ فِي: (صَلاَةٌ) .
الْجَهْل بِالنَّجَاسَةِ فِي الصَّلاَةِ:
13 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى حَامِلاً نَجَاسَةً غَيْرَ مَعْفُوٍّ عَنْهَا وَلاَ يَعْلَمُهَا تَبْطُل صَلاَتُهُ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنَ الْخَبَثِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ إِلاَّ حَال الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 36 - 37 والخرشي 1 / 206، والمغني 1 / 197 - 198 ط دار الفكر، والمقنع 1 / 91، ومعني المحتاج 1 / 116 - 117.
(2) مغني المحتاج 1 / 127، وكشاف القناع 1 / 316، والدسوقي 1 / 227، والمغني 1 / 389.
(3) سورة المدثر / 4.(16/203)
عَلَى الْمَشْهُورِ (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةٌ) .
الْجَهْل بِالْمُطَهَّرِ وَسَاتِرِ الْعَوْرَةِ:
14 - إِذَا اخْتَلَطَ مَاءٌ طَاهِرٌ بِآخَرَ نَجِسٍ، وَلَمْ يَعْلَمِ الطَّاهِرَ مِنْهُمَا، هَل يَجْتَهِدُ وَيَتَحَرَّى وَيَتَطَهَّرُ وَيُصَلِّي أَمْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ؟ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (مَاءٌ وَصَلاَةٌ) .
وَمِثْلُهُ إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ ثِيَابٌ طَاهِرَةٌ بِأُخْرَى نَجِسَةٍ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا، وَلَنْ يَجِدَ مَا يُطَهِّرُهَا بِهِ وَاحْتَاجَ إِلَى الصَّلاَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الاِجْتِهَادُ وَالتَّحَرِّي عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُصَلِّي بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ طَهَارَتُهُ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةٌ) . وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ اشْتِبَاهٌ مِنَ الْمَوْسُوعَةِ ف 13 ج 4 ص 294
الْجَهْل بِالْقِبْلَةِ:
15 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (2) وَمَنْ جَهِل الْقِبْلَةَ يَسْأَل مَنْ يَعْلَمُهَا، فَإِذَا تَعَذَّرَ السُّؤَال اجْتَهَدَ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 373، ومغني المحتاج 1 / 188 - 194. والخرشي 1 / 237، والمغني 1 / 109، والمقنع 1 / 126.
(2) سورة البقرة / 144.
(3) الموسوعة 4 / 70 وما بعدها و 296 - 297.(16/203)
عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (اسْتِقْبَالٌ، وَاشْتِبَاهٌ) .
الْجَهْل بِالْفَاتِحَةِ:
16 - مَنْ جَهِل الْفَاتِحَةَ بِأَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ مَعْرِفَتُهَا لِعَدَمِ مُعَلِّمٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، أَتَى فِي الصَّلاَةِ بِبَدَلِهَا مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، أَتَى بِالذِّكْرِ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ أَنَّ رَجُلاً قَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِينِي عَنْهُ. فَقَال: قُل: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ (1) . وَلاَ يُجْزِئُ بِالأَْعْجَمِيَّةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُجْزِئُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (2) ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةٌ) .
الْجَهْل بِوُجُوبِ الصَّلاَةِ:
17 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَارِكَ الصَّلاَةِ
__________
(1) حديث: " قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ". أخرجه أبو داود (1 / 521 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن أبي أوفى. وأعله النسائي والنووي بضعف راو فيه كما في التلخيص لابن حجر (1 / 236 ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) الفتاوى الهندية 1 / 69، والخرشي 1 / 270، ومغني المحتاج 1 / 159، والمغني 1 / 288 - 289، والمقنع 1 / 143 - 144.(16/204)
إِنْ جَحَدَهَا وَهُوَ عَالِمٌ بِوُجُوبِهَا يَكْفُرُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ جَاهِلاً بِوُجُوبِهَا كَأَنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالإِْسْلاَمِ، أَوْ نَشَأَ فِي بَادِيَةٍ، أَوْ جَزِيرَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي: (رِدَّةٌ، صَلاَةٌ) .
الْجَهْل بِمُبْطِلاَتِ الصَّلاَةِ:
18 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَل يُعْذَرُ مَنْ يَجْهَل مُبْطِلاَتِ الصَّلاَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّكَلُّمَ فِي الصَّلاَةِ يُبْطِلُهَا عَالِمًا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ أَوْ جَاهِلاً.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ قَلِيلاً جَاهِلاً بِتَحْرِيمِ الْكَلاَمِ فِي الصَّلاَةِ لاَ تَبْطُل صَلاَتُهُ إِنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالإِْسْلاَمِ، أَوْ نَشَأَ بَعِيدًا عَنِ الْعُلَمَاءِ، بِخِلاَفِ مَنْ بَعُدَ إِسْلاَمُهُ وَقَرُبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِتَقْصِيرِهِ بِتَرْكِ الْعِلْمِ (2) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةٌ) .
قَضَاءُ الْفَوَائِتِ الْمَجْهُولَةِ:
19 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ فَوَائِتُ لاَ يَدْرِي عَدَدَهَا وَتَرَكَهَا لِعُذْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ حَتَّى يَتَيَقَّنَ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ مِنَ الْفُرُوضِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 614 ط الحلبي، والقوانين الفقهية ص 34، ومغني المحتاج 1 / 327، وكشاف القناع 1 / 227.
(2) ابن عابدين 1 / 423، والقوانين الفقهية ص 39، ومغني المحتاج 1 / 194 - 195.(16/204)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَعْمَل بِأَكْبَرِ رَأْيِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ يَقْضِي حَتَّى يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ (1) . وَأَمَّا مَنْ تَرَكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءُ الْفَوَائِتِ) .
الْجَهْل بِوَقْتِ الصَّوْمِ:
20 - لَوْ اشْتَبَهَ رَمَضَانُ عَلَى أَسِيرٍ وَمَحْبُوسٍ وَنَحْوِهِمَا، صَامَ وُجُوبًا شَهْرًا بِالاِجْتِهَادِ، كَمَا فِي اجْتِهَادِهِ لِلصَّلاَةِ فِي الْقِبْلَةِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ بِأَمَارَةٍ كَخَرِيفٍ، أَوْ حَرٍّ، أَوْ بَرْدٍ، فَلَوْ صَامَ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ فَوَافَقَ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِئْهُ لِتَرَدُّدِهِ فِي النِّيَّةِ، (انْظُرْ: اشْتِبَاهٌ ف 15 ج 4 ص 296 وَصَوْمٌ) .
جِمَاعُ الصَّائِمِ فِي رَمَضَانَ جَاهِلاً بِالتَّحْرِيمِ:
21 - لاَ كَفَّارَةَ عَلَى الصَّائِمِ الْجَاهِل بِتَحْرِيمِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ إِذَا جَامَعَ (2) عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ، كَفَّارَةٌ) .
جِمَاعُ مُحْرِمٍ جَاهِلاً بِالتَّحْرِيمِ:
22 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 243، والقوانين الفقهية ص 50، ومغني المحتاج 1 / 127، وكشاف القناع 1 / 261.
(2) حاشية العدوي على شرح أبي الحسن 1 / 400 - 401، ومغني المحتاج 1 / 427، وكشاف القناع 2 / 324(16/205)
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْجِمَاعَ فِي حَالَةِ الإِْحْرَامِ جِنَايَةٌ يَجِبُ فِيهَا الْجَزَاءُ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعَالِمُ وَالْجَاهِل وَغَيْرُهُمَا. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَاهِل إِذَا كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالإِْسْلاَمِ، أَوْ نَشَأَ فِي بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ لاَ يَفْسُدُ إِحْرَامُهُ بِالْجِمَاعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ ف 170 ج 2 ص 190) . (1)
الْجَهْل لاَ يُعْفِي مِنْ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ:
23 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَهْل بِكَوْنِ الْمَال الْمُتْلَفِ مَال الْغَيْرِ لاَ يُعْفِيهِ مِنَ الضَّمَانِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ) .
الْحَجْرُ عَلَى الطَّبِيبِ الْجَاهِل:
24 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْتِي الْمَاجِنِ وَالطَّبِيبِ الْجَاهِل، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ. وَالطَّبِيبُ الْجَاهِل: هُوَ مَنْ يَسْقِي النَّاسَ دَوَاءً مُهْلِكًا، وَإِذَا قَوِيَ عَلَيْهِمُ الْمَرَضُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَةِ ضَرَرِهِ (2) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجْرٌ) .
طَلاَقُ مَنْ جَهِل مَعْنَى الطَّلاَقِ:
25 - لاَ يَقَعُ طَلاَقُ مَنْ يَجْهَل مَعْنَى اللَّفْظِ الدَّال عَلَى الطَّلاَقِ.
__________
(1) الموسوعة الفقهية 1 / 222 وما بعدها، والقوانين الفقهية ص 218.
(2) ابن عابدين 5 / 93، والزيلعي 5 / 193.(16/205)
قَال فِي الْمُغْنِي: إِنْ قَال الأَْعْجَمِيُّ لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَلاَ يَفْهَمُ مَعْنَاهُ لَمْ تَطْلُقْ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمُخْتَارٍ لِلطَّلاَقِ فَلَمْ يَقَعْ طَلاَقُهُ كَالْمُكْرَهِ (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي: (طَلاَقٌ) .
الْجَهْل بِتَحْرِيمِ الزِّنَى:
26 - يُعْذَرُ الْجَاهِل بِتَحْرِيمِ الزِّنَى إِنْ كَانَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالإِْسْلاَمِ، أَوْ نَشَأَ فِي بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ أَوْ كَانَ مَجْنُونًا فَأَفَاقَ وَزَنَى قَبْل أَنْ يَعْلَمَ الأَْحْكَامَ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ (2) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٌ، زِنًى) .
الْجَهْل بِتَحْرِيمِ السَّرِقَةِ:
27 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ يَدَ السَّارِقِ تُقْطَعُ - بِشَرْطِهِ - سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ أَمْ جَاهِلاً، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ يَدَ السَّارِقِ الْجَاهِل لاَ تُقْطَعُ (3) . وَتَفْصِيلُهُ فِي: (سَرِقَةٌ) .
الْجَهْل بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ:
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَهُوَ
__________
(1) المغني 7 / 135.
(2) القوانين الفقهية ص 232، والفتاوى الهندية 2 / 147، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 200، والمغني مع الشرح الكبير 10 / 156.
(3) البدائع 7 / 67، والقوانين الفقهية ص 235، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 200.(16/206)
يَجْهَل أَنَّهَا خَمْرٌ لاَ يُحَدُّ، أَمَّا إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا خَمْرٌ لَكِنَّهُ ادَّعَى الْجَهْل بِالتَّحْرِيمِ فَفِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (1) . يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (حُدُودٌ، سُكْرٌ) .
تَوْلِيَةُ الْجَاهِل بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَضَاءَ:
29 - الأَْصْل فِيمَنْ يُوَلَّى الْقَضَاءَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيَجُوزُ تَوْلِيَةُ غَيْرِهِ الْقَضَاءَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدِ الْعَالِمُ (2) . وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ) .
الْجَهْل بِالْبَيْعَةِ لِلإِْمَامِ الأَْوَّل:
30 - إِذَا عُقِدَتِ الْبَيْعَةُ لإِِمَامَيْنِ وَجُهِل السَّابِقُ مِنْهُمَا بَطَل الْعَقْدُ فِيهِمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَلِلإِْمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ. وَقَدْ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى، وَبَيْعَةٌ) .
التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَعَ الْجَهْل:
31 - قَال الْحَمَوِيُّ: إِنَّ مَنْ تَلَفَّظَ بِلَفْظِ الْكُفْرِ عَنِ اعْتِقَادٍ لاَ شَكَّ أَنَّهُ يَكْفُرُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهَا
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 159، والقوانين الفقهية ص 237، والأشباه للسيوطي ص 200، وكشاف القناع 6 / 118.
(2) ابن عابدين 4 / 305 - 306، ومواهب الجليل 6 / 88، 89، والقوانين الفقهية ص 195، والقليوبي وعميرة 4 / 296، ومغني المحتاج 4 / 375، وكشاف القناع 6 / 295.(16/206)
لَفْظُ الْكُفْرِ إِلاَّ أَنَّهُ أَتَى بِهِ عَنِ اخْتِيَارٍ فَيَكْفُرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَلاَ يُعْذَرُ بِالْجَهْل. وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ يَكْفُرُ، وَالْجَهْل عُذْرٌ، وَبِهِ يُفْتَى؛ لأَِنَّ الْمُفْتِيَ مَأْمُورٌ أَنْ يَمِيل إِلَى الْقَوْل الَّذِي لاَ يُوجِبُ التَّكْفِيرَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْجَهْل عُذْرًا لَحُكِمَ عَلَى الْجُهَّال أَنَّهُمْ كُفَّارٌ؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ أَلْفَاظَ الْكُفْرِ، وَلَوْ عَرَفُوا لَمْ يَتَكَلَّمُوا، قَال بَعْضُ الْفُضَلاَءِ: وَهُوَ حَسَنٌ لَطِيفٌ.
وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً فِي زَمَنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ قِيل لَهَا: إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَتْ: لاَ يَفْعَل اللَّهُ بِهِمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ عِبَادُهُ، فَسُئِل مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ ذَلِكَ فَقَال: مَا كَفَرَتْ فَإِنَّهَا جَاهِلَةٌ، فَعَلَّمُوهَا حَتَّى عَلِمَتْ (1) .
وَقَال فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: يَكْفُرُ مَنْ نَسَبَ الأُْمَّةَ إِلَى الضَّلاَل، أَوْ الصَّحَابَةَ إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ أَنْكَرَ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ أَوْ غَيَّرَ شَيْئًا مِنْهُ، أَوْ أَنْكَرَ الدَّلاَلَةَ عَلَى اللَّهِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ بِأَنْ قَال: لَيْسَ فِي خَلْقِهِمَا دَلاَلَةٌ عَلَيْهِ تَعَالَى، أَوْ أَنْكَرَ بَعْثَ اللَّهِ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ بِأَنْ يَجْمَعَ أَجْزَاءَهُمُ الأَْصْلِيَّةَ وَيُعِيدَ الأَْرْوَاحَ إِلَيْهَا، أَوْ أَنْكَرَ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ، أَوِ الْحِسَابَ أَوِ الثَّوَابَ أَوِ الْعِقَابَ أَوْ أَقَرَّ بِهَا لَكِنْ قَال: الْمُرَادُ بِهَا غَيْرُ مَعَانِيهَا، أَوْ قَال: إِنِّي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ وَأَكَلْتُ مِنْ ثِمَارِهَا وَعَانَقْتُ حُورَهَا،
__________
(1) الحموي على الأشباه 2 / 139.(16/207)
أَوْ قَال: الأَْئِمَّةُ أَفْضَل مِنَ الأَْنْبِيَاءِ، هَذَا إِنْ عَلِمَ مَا قَالَهُ، لاَ إِنْ جَهِل ذَلِكَ لِقُرْبِ إِسْلاَمِهِ، أَوْ بُعْدِهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَلاَ يَكْفُرُ لِعُذْرِهِ (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ) .
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 136.(16/207)
جِهَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجِهَةُ وَالْوُجْهَةُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: الْمَوْضِعُ الَّذِي تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وَتَقْصِدُهُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: ضَل وُجْهَةَ أَمْرِهِ، أَيْ قَصْدَهُ، وَقُلْتُ كَذَا عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ وَفَعَلْتُ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الْعَدْل، وَالْقِبْلَةُ جِهَةٌ، فَالْجِهَةُ كُل مَكَانٍ اسْتَقْبَلْتَهُ وَأَخَذْتَ فِيهِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَيِّزُ:
2 - مَعْنَى الْحَيِّزِ فِي اللُّغَةِ - كَمَا جَاءَ فِي الْمِصْبَاحِ - النَّاحِيَةُ كَالْحَوْزِ وَيُجْمَعُ عَلَى أَحْيَازٍ وَالْقِيَاسُ أَحْوَازٌ، وَأَحْيَازُ الدَّارِ نَوَاحِيهَا وَمَرَافِقُهَا. وَجَاءَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّ الْحَوْزَ مَعْنَاهُ الْجَمْعُ، وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِهِ بَعْضُ النَّوَاحِي كَالْبَيْتِ مِنَ الدَّارِ مَثَلاً (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْجِهَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الأَْحْكَامِ فِي عَدَدٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:
__________
(1) اللسان والصحاح والمصباح مادة: (وجه) .
(2) المصباح والمغرب مادة: (حوز) .(16/208)
أ - اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي الصَّلاَةِ:
3 - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ عِنْدَ أَدَاءِ الصَّلاَةِ لِلْقَادِرِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (1) . وَتَفْصِيل الْقَوْل فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي بَحْثِ (اسْتِقْبَالٌ، قِبْلَةٌ) .
ب - تَرْكُ اسْتِقْبَال وَاسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ:
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْمَبَانِي أَمْ فِي الصَّحْرَاءِ؛ لأَِنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ أَشْرَفُ الْجِهَاتِ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَال: إِنَّ الاِسْتِدْبَارَ لاَ بَأْسَ بِهِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لِلْقِبْلَةِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْمَبَانِي إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ ذَكَرُوا أَنَّ عَلَى الشَّخْصِ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ أَدَبًا إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَحْرُمُ. وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ بِالْمَبَانِي مَرَاحِيضَ السُّطُوحِ، وَفَضَاءَ الْمَنَازِل، وَفَضَاءَ الْمُدُنِ عِنْدَ وُجُودِ السَّاتِرِ.
وَأَمَّا الاِسْتِقْبَال وَالاِسْتِدْبَارُ فِي الصَّحْرَاءِ بِلاَ سَاتِرٍ فَهُوَ حَرَامٌ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِ السَّاتِرِ
__________
(1) سورة البقرة / 144.(16/208)
فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى الْجَوَازِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ إِلَى عَدَمِهِ (1) . وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل بَحْثَ: (قَضَاءُ الْحَاجَةِ) .
ج - اخْتِلاَفُ الْقَابِضِ وَالدَّافِعِ فِي الْجِهَةِ:
5 - يَرْجِعُ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى قَاعِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ ذَكَرَهَا الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ وَهِيَ إِذَا اخْتَلَفَ الْقَابِضُ وَالدَّافِعُ فِي الْجِهَةِ أَيْ سَبَبِ الدَّفْعِ فَالْقَوْل قَوْل الدَّافِعِ، وَمِنْ فُرُوعِهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنَانِ بِأَحَدِهِمَا رَهْنٌ ثُمَّ دَفَعَ الْمُدَايِنُ دَرَاهِمَ وَقَال: أَقْبَضْتُهَا عَنِ الدَّيْنِ الَّذِي بِهِ الرَّهْنُ، وَأَنْكَرَهُ الْقَابِضُ، فَالْقَوْل قَوْل الدَّافِعِ، وَسَوَاءٌ اخْتَلَفَا فِي نِيَّتِهِ أَوْ فِي لَفْظِهِ. وَالاِعْتِبَارُ فِي أَدَاءِ الدَّيْنِ بِقَصْدِ الْمُؤَدِّي حَتَّى لَوْ ظَنَّ الْمُسْتَحِقُّ أَنَّهُ يُودِعُهُ عِنْدَهُ وَنَوَى مَنْ هُوَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ وَصَارَ الْمَدْفُوعُ مِلْكًا لِلْقَابِضِ (2) .
6 - وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ فِي اخْتِلاَفِ الْقَابِضِ وَالدَّافِعِ فِي الْجِهَةِ أَنَّهُ لَوْ بَعَثَ لاِمْرَأَتِهِ شَيْئًا فَقَالَتْ: هُوَ هَدِيَّةٌ، وَقَال: هُوَ مِنَ الْمَهْرِ،
__________
(1) الاختيار 1 / 37 - ط المعرفة، تبيين الحقائق 1 / 167 - ط المعرفة وحاشية الدسوقي 1 / 108 - ط الفكر، جواهر الإكليل 1 / 18 - ط المعرفة، الخرشي 1 / 146 - ط بولاق، روضة الطالبين 1 / 65 - ط المكتب الإسلامي، مطالب أولي النهى 1 / 72 - ط المكتب الإسلامي، كشاف القناع 1 / 63 - ط النصر.
(2) المنثور 1 / 145 - ط الأولى.(16/209)
فَالْقَوْل لَهُ فِي غَيْرِ الْمُهَيَّأِ لِلأَْكْل؛ لأَِنَّهُ الْمُمَلَّكُ فَكَانَ أَعْرَفَ بِجِهَةِ التَّمْلِيكِ، كَمَا إِذَا قَال: أَوْدَعْتُكِ هَذَا الشَّيْءَ، فَقَالَتْ: بَل وَهَبْتَهُ لِي، وَكَذَا الظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُ؛ لأَِنَّهُ يَسْعَى فِي إِسْقَاطِ مَا فِي ذِمَّتِهِ إِلاَّ فِي الطَّعَامِ الْمُهَيَّأِ لِلأَْكْل كَالشِّوَاءِ، وَاللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ، وَالْفَوَاكِهِ الَّتِي لاَ تَبْقَى، فَإِنَّ الْقَوْل قَوْلُهَا فِيهِ اسْتِحْسَانًا لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِإِهْدَائِهَا، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهَا، بِخِلاَفِ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُهَيَّأً لِلأَْكْل كَالْعَسَل وَالسَّمْنِ، وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ (1) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِي مَسَائِل الرَّهْنِ أَنَّ الْمَرْهُونَ إِذَا وُجِدَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ وَادَّعَى الرَّاهِنُ أَنَّهُ دَفَعَ الدَّيْنَ الْمَرْهُونَ فِيهِ وَاسْتَلَمَ الرَّهْنَ مِنْ مُرْتَهِنِهِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ وَادَّعَى سُقُوطَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُقْضَى لِلرَّاهِنِ بِدَفْعِ الدَّيْنِ الْمَرْهُونِ فِيهِ لِلْمُرْتَهِنِ إِنْ طَال الزَّمَانُ كَعَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَإِلاَّ فَالْقَوْل لِلْمُرْتَهِنِ (2) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ فِي اخْتِلاَفِ الزَّوْجَيْنِ فِي قَدْرِ الصَّدَاقِ، أَوْ عَيْنِهِ، أَوْ صِفَتِهِ، أَوْ جِنْسِهِ، أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ الزَّوْجُ إِلَيْهَا أَلْفًا، أَوْ دَفَعَ إِلَيْهَا عَرَضًا، وَاخْتَلَفَا فِي نِيَّتِهِ، فَقَال: دَفَعْتُهُ صَدَاقًا، وَقَالَتْ: هِبَةً، فَالْقَوْل قَوْلُهُ بِلاَ يَمِينٍ؛ لأَِنَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي لَفْظِهِ فَقَالَتْ: قَدْ قُلْتَ لِي: خُذِي هَذَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 363 - ط المصرية، تبيين الحقائق 2 / 158 - ط بولاق، فتح القدير 2 / 479 - ط الأميرية.
(2) جواهر الإكليل 1 / 325، 2 / 97 - ط المعرفة. وانظر ما قاله المالكية في تنازع الزوجين في قبض ما حل من الصداق قبل البناء أو بعده: الدسوقي 2 / 335 - 336 - ط الفكر، الخرشي 3 / 300 ط بولاق.(16/209)
هِبَةً أَوْ هَدِيَّةً، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَادَّعَى أَنَّهُ مِنَ الْمَهْرِ فَالْقَوْل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ؛ لأَِنَّهَا تَدَّعِي عَلَيْهِ عَقْدًا عَلَى مِلْكِهِ وَهُوَ يُنْكِرُهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوِ ادَّعَتْ عَلَيْهِ بَيْعَ مِلْكِهِ لَهَا (1) .
د - الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ:
7 - يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ لاَ تَنْقَطِعُ اتِّفَاقًا، كَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَكَلَفْظِ صَدَقَةٍ مَوْقُوفَةٍ، وَكَمَوْقُوفَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَمَوْقُوفَةٍ عَلَى وُجُوهِ الْبِرِّ؛ لأَِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا الْجِهَةُ الَّتِي تَنْقَطِعُ فَلاَ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ؛ لأَِنَّ حُكْمَ الْوَقْفِ زَوَال الْمِلْكِ بِغَيْرِ تَمْلِيكٍ، وَأَنَّهُ بِالتَّأْبِيدِ كَالْعِتْقِ، وَلِهَذَا كَانَ التَّوْقِيتُ مُبْطِلاً لَهُ كَالتَّوْقِيتِ فِي الْبَيْعِ.
وَقَال مَنْ عَدَاهُمَا مِنَ الْفُقَهَاءِ: إِذَا سَمَّى فِيهِ جِهَةً تَنْقَطِعُ جَازَ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَالِهِ إِذَا انْقَطَعَتِ الْجِهَةُ (2) عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ) .
هـ - الْجِهَةُ فِي الْمِيرَاثِ:
8 - تُطْلَقُ الْجِهَةُ فِي الْمِيرَاثِ وَيُرَادُ بِهَا السَّبَبُ مِنْ
__________
(1) كشاف القناع 5 / 154 - 155 - ط النصر، المغني 6 / 710 - ط الرياض.
(2) ابن عابدين 3 / 366 - ط المصرية، وجواهر الإكليل 2 / 208 - ط المعرفة، حاشية القليوبي 3 / 101 - 102 - ط الحلبي، كشاف القناع 4 / 252 - ط النصر.(16/210)
أَسْبَابِ الإِْرْثِ، وَهِيَ الْقَرَابَةُ، أَوِ النِّكَاحُ، أَوِ الْوَلاَءُ، وَاخْتُلِفَ فِي التَّوْرِيثِ بِجِهَةِ الإِْسْلاَمِ.
وَتُطْلَقُ الْجِهَةُ وَيُرَادُ بِهَا الاِنْتِسَابُ إِلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الإِْرْثِ، كَجِهَةِ الْفَرْضِ، أَوْ جِهَةِ التَّعْصِيبِ.
وَتُطْلَقُ الْجِهَةُ وَيُرَادُ بِهَا الاِنْتِسَابُ إِلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْعُصُوبَةِ، وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ سِتٌّ: وَهِيَ الْبُنُوَّةُ، ثُمَّ الأُْبُوَّةُ، ثُمَّ الأُْخُوَّةُ، ثُمَّ بَنُو الإِْخْوَةِ، ثُمَّ الْعُمُومَةُ، ثُمَّ الْوَلاَءُ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خَمْسٌ بِعَدَمِ الاِعْتِدَادِ بِجِهَةِ بَنِي الإِْخْوَةِ.
وَتُطْلَقُ الْجِهَةُ وَيُرَادُ بِهَا الاِنْتِسَابُ إِلَى جِهَةِ الأَْبِ أَوْ جِهَةِ الأُْمِّ (1) . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (إِرْثٌ) .
و الْوَصِيَّةُ لِجِهَةٍ:
9 - تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِجِهَةٍ مَشْرُوعَةٍ، كَجِهَةِ الْقُرْبَى، أَوْ عِمْرَانِ الْمَسَاجِدِ مَثَلاً، وَأَمَّا جِهَةُ الْمَعْصِيَةِ فَلاَ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لَهَا (2) .
__________
(1) شرح السراجية ص 70، والشرح الصغير 2 / 482 - 484 - ط الحلبي، ومغني المحتاج 3 / 4 - 15 - 19 - 29، والمهذب 2 / 31، وشرح منتهى الإرادات 2 / 581.
(2) تبيين الحقائق 6 / 205 - ط بولاق، جواهر الإكليل 2 / 317 - ط المعرفة حاشية القليوبي 3 / 157 - ط الحلبي، كشاف القناع 4 / 364 - 365 ط النصر.(16/210)
ز - جِهَاتُ التَّبَعِيَّةِ فِي الإِْسْلاَمِ:
10 - جِهَاتُ التَّبَعِيَّةِ فِي الإِْسْلاَمِ اثْنَتَانِ: أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُ أَبَوَيِ الصَّغِيرِ، وَتَبَعِيَّتُهُ لِلدَّارِ بِأَنْ سُبِيَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ أَبَوَيْهِ إِذَا أَدْخَلَهُ السَّابِي إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَكَذَلِكَ اللَّقِيطُ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ يَكُونُ مُسْلِمًا وَلَوْ كَانَ مُلْتَقِطُهُ ذِمِّيًّا.
وَعِنْدَ ابْنِ الْقَيِّمِ: الْيَتِيمُ الَّذِي مَاتَ أَبَوَاهُ وَكَفَلَهُ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ يَتْبَعُ كَافِلَهُ وَحَاضِنَتَهُ فِي الدِّينِ (ر: إِسْلاَمٌ) .(16/211)
جَوَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَوَابُ: رَدِيدُ الْكَلاَمِ، وَالْفِعْل: أَجَابَ يُجِيبُ.
وَالإِْجَابَةُ رَجْعُ الْكَلاَمِ، تَقُول: أَجَابَهُ عَنْ سُؤَالِهِ، وَقَدْ أَجَابَهُ إِجَابَةً وَإِجَابًا وَجَوَابًا.
وَالإِْجَابَةُ وَالاِسْتِجَابَةُ بِمَعْنًى، يُقَال: اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَالاِسْمُ الْجَوَابُ.
وَالْجَوَابُ مَا يَكُونُ رَدًّا عَلَى سُؤَالٍ، أَوْ دُعَاءٍ، أَوْ دَعْوَى، أَوْ رِسَالَةٍ، أَوِ اعْتِرَاضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْجَمْعُ أَجْوِبَةٌ وَجَوَابَاتٌ.
وَجَوَابُ الْقَوْل قَدْ يَتَضَمَّنُ تَقْرِيرَهُ، نَحْوُ: نَعَمْ، إِذَا كَانَ جَوَابًا لِقَوْلِهِ: هَل كَانَ كَذَا، وَنَحْوِهِ، وَقَدْ يَتَضَمَّنُ إِبْطَالَهُ، وَلاَ يُسَمَّى جَوَابًا إِلاَّ بَعْدَ طَلَبٍ. وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط، والكليات 2 / 172.(16/211)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِْقْرَارُ:
2 - الإِْقْرَارُ: الاِعْتِرَافُ بِالشَّيْءِ، وَالإِْخْبَارُ بِحَقٍّ لآِخَرَ، وَإِخْبَارٌ عَمَّا سَبَقَ. فَالإِْقْرَارُ قَدْ يَكُونُ جَوَابًا إِذَا كَانَ بَعْدَ طَلَبٍ، فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ (1) .
الرَّدُّ:
3 - الرَّدُّ: صَرْفُ الشَّيْءِ وَرَجْعُهُ، يُقَال: رَدَّهُ عَنِ الأَْمْرِ إِذَا صَرَفَهُ عَنْهُ، وَيُقَال: سَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ، وَرَدَدْتُ إِلَيْهِ جَوَابَهُ، وَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْوَدِيعَةَ. فَالرَّدُّ يَكُونُ جَوَابًا إِذَا كَانَ بَعْدَ طَلَبٍ (2) ، فَالرَّدُّ أَعَمُّ مِنَ الْجَوَابِ.
الْقَبُول:
4 - قَبُول الشَّيْءِ: أَخْذُهُ، وَيُقَال: قَبِلْتُ الشَّيْءَ إِذَا رَضِيتَهُ، وَقَبِلْتُ الْخَبَرَ إِذَا صَدَّقْتَهُ. وَيَأْتِي الْقَبُول فِي الْعُقُودِ جَوَابًا عَلَى الإِْيجَابِ؛ كَقَوْل الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، جَوَابًا لِقَوْل الْبَائِعِ: بِعْتُكَ (3) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ونهاية المحتاج 5 / 64، والزيلعي 5 / 2.
(2) لسان العرب، والمصباح المنير، ونهاية المحتاج 8 / 47.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير، والكليات 2 / 172، ونهاية المحتاج 3 / 366.(16/212)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجَوَابِ بِاخْتِلاَفِ مَوْضِعِهِ. فَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا عَيْنِيًّا كَجَوَابِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنِ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ. أَوْ وَاجِبًا كِفَائِيًّا كَجَوَابِ السَّلاَمِ عَلَى جَمَاعَةٍ.
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا كَجَوَابِ الْمُفْتِي إِذَا أَفْتَى بِمَا لاَ يَعْرِفُ. وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا كَجَوَابِ قَاضِي الْحَاجَةِ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ التَّوَقُّفُ عَنِ الإِْجَابَةِ إِنْ كَانَ فِي الْجَوَابِ حَرَجٌ كَفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْحَجِّ: أَكُل عَامٍ؟ (1) .
أَنْوَاعُ الْجَوَابِ:
6 - الْجَوَابُ يَكُونُ بِالْقَوْل كَ (نَعَمْ) أَوْ (لاَ) أَوْ بِجُمْلَةٍ تُفِيدُ الْمَطْلُوبَ. وَقَدْ يَكُونُ بِالْكِتَابَةِ، وَبِالإِْشَارَةِ مِنَ الأَْخْرَسِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْل (2) .
__________
(1) حديث سكوت النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه مسلم (2 / 975 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة. ونصه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا. فقال رسول وانظر ابن عابدين 4 / 420 ونهاية المحتاج 8 / 47 - 48 وقليوبي 4 / 215 والفواكه الدواني 2 / 420 - 421 - 422، والمغني 3 / 217، والمنثور 2 / 216، وأعلام الموقعين 4 / 173 والآداب الشرعية 1 / 418
(2) المراجع السابقة والكليات للكفوي 2 / 172.(16/212)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَوَابِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً: عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
دَلاَلَةُ الْجَوَابِ عَلَى الْعُمُومِ أَوِ الْخُصُوصِ:
7 - الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَال إِمَّا أَنْ يَسْتَقِل بِنَفْسِهِ، أَوْ لاَ يَسْتَقِل.
فَإِنْ كَانَ لاَ يَسْتَقِل بِنَفْسِهِ بِحَيْثُ لاَ يَحْصُل الاِبْتِدَاءُ بِهِ كَ (نَعَمْ) فَهُوَ تَابِعٌ لِلسُّؤَال فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ يَسْتَقِل بِنَفْسِهِ بِحَيْثُ لَوْ وَرَدَ مُبْتَدَأً كَانَ كَلاَمًا تَامًّا فَفِي إِفَادَتِهِ لِلْعُمُومِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُذْكَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ (1) .
ثَانِيًا: عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
الأَْثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْجَوَابِ:
8 - قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْجَوَابِ الْتِزَامٌ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْكَلاَمُ السَّابِقُ (أَيِ السُّؤَال) إِذَا تَعَيَّنَ أَنَّهُ الْجَوَابُ وَوَقَعَ تَصْدِيقًا لِلْكَلاَمِ السَّابِقِ؛ لأَِنَّهُ حِينَئِذٍ يُعْتَبَرُ إِقْرَارًا وَاعْتِرَافًا بِمَا تَضَمَّنَهُ الْكَلاَمُ السَّابِقُ، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ (السُّؤَال مُعَادٌ فِي الْجَوَابِ) يَعْنِي أَنَّ مَا قِيل فِي السُّؤَال الْمُصَدَّقِ كَأَنَّ الْمُجِيبَ الْمُصَدِّقَ قَدْ أَقَرَّ بِهِ. وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَلْفَاظَ (نَعَمْ - أَجَل - بَلَى. .) تَتَعَيَّنُ جَوَابًا وَتَصْدِيقًا لِمَا تَضَمَّنَهُ السُّؤَال، وَتَكُونُ الإِْجَابَةُ بِهَذِهِ الأَْلْفَاظِ إِقْرَارًا
__________
(1) إرشاد الفحول / 133، وفواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 1 / 289 - 290 والمستصفى للغزالي 2 / 58 - 60.(16/213)
وَاعْتِرَافًا بِمَا جَاءَ فِيهِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْلْفَاظَ مِنْ صِيَغِ الإِْقْرَارِ الصَّرِيحَةِ، وَلأَِنَّ الْجَوَابَ بِهَا لاَ يَسْتَقِل بِنَفْسِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْجَوَابُ غَيْرَ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَقِل بِنَفْسِهِ فَفِيهِ احْتِمَالاَتُ الإِْخْبَارِ أَوِ الإِْنْشَاءِ، وَيَرْجِعُ غَالِبًا إِلَى النِّيَّةِ أَوْ إِلَى الْقَرَائِنِ. وَمِنْ هُنَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِهِ جَوَابًا مُلْزِمًا بِمَا تَضَمَّنَهُ الْكَلاَمُ السَّابِقُ أَوْ غَيْرَ مُلْزِمٍ.
وَمِنْ تَطْبِيقَاتِ ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
1 - فِي الإِْقْرَارِ:
9 - أ - إِذَا قَال رَجُلٌ لآِخَرَ: لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنُ مَبِيعٍ، فَقَال: نَعَمْ يَكُونُ الْجَوَابُ بِنَعَمْ تَصْدِيقًا لِمَا ادَّعَى عَلَيْهِ، فَهُوَ إِخْبَارٌ بِجَمِيعِ مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي؛ لأَِنَّ كَلِمَةَ نَعَمْ مِنْ صِيَغِ الإِْقْرَارِ الصَّرِيحَةِ، وَقَدْ خَرَجَتْ جَوَابًا، وَجَوَابُ الْكَلاَمِ إِعَادَةٌ لَهُ لُغَةً، كَأَنَّهُ قَال: لَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنُ مَبِيعٍ (1) .
ب - وَمِثْل ذَلِكَ مَا لَوْ قَال: أَلَيْسَ لِي عِنْدَكَ أَلْفٌ؟ فَقَال: بَلَى؛ لأَِنَّ بَلَى جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ بِأَدَاةِ النَّفْيِ.
ج - وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ دَابَّةٌ
__________
(1) البدائع 7 / 208 وشرح المادة / 66 من المجلة للأتاسي 1 / 177 وجواهر الإكليل 2 / 133 والمهذب 2 / 347 والمغني 5 / 217.(16/213)
فَقَال لَهُ رَجُلٌ: اسْتَأْجِرْهَا مِنِّي، أَوِ ادْفَعْ إِلَيَّ غَلَّتَهَا، فَقَال: نَعَمْ (1) .
وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ مُسْتَقِلًّا، كَمَا لَوْ قَال رَجُلٌ لآِخَرَ: لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ، فَقَال: اتَّزِنْ، أَوْ خُذْ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يُعْتَبَرُ إِقْرَارًا؛ لأَِنَّهُ يَحْتَمِل خُذِ الْجَوَابَ مِنِّي، أَوِ اتَّزِنْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِي، وَهُوَ إِقْرَارٌ عِنْدَ سُحْنُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَإِنْ قَال فِي جَوَابِهِ: هِيَ صِحَاحٌ أَوْ قَال: خُذْهَا، أَوِ اتَّزِنْهَا، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَكُونُ إِقْرَارًا؛ لأَِنَّ الْهَاءَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَذْكُورِ فِي الدَّعْوَى، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (وَهُوَ قَوْل عَامَّةِ الأَْصْحَابِ عِنْدَهُمْ) وَالْحَنَابِلَةِ لاَ يَكُونُ إِقْرَارًا؛ لأَِنَّ الصِّفَةَ تَرْجِعُ إِلَى الْمُدَّعَى وَلَمْ يُقِرَّ بِوُجُوبِهِ؛ وَلأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَأَمْرُهُ بِأَخْذِهَا أَوْلَى أَنْ لاَ يَلْزَمَ مِنْهُ الْوُجُوبُ (2) . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِقْرَارٌ) .
2 - فِي الطَّلاَقِ:
10 - أ - جَاءَ فِي أَشْبَاهِ ابْنِ نُجَيْمٍ: مَنْ قَال: امْرَأَةُ زَيْدٍ طَالِقٌ وَعَبْدُهُ حُرٌّ وَعَلَيْهِ الْمَشْيُ إِلَى
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي المادة / 66، والمغني 5 / 217، والمهذب 2 / 347.
(2) الهداية 3 / 181 - 182 والمهذب 2 / 347، والمغني 5 / 219.(16/214)
بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ إِنْ دَخَل هَذِهِ الدَّارَ، فَقَال زَيْدٌ: نَعَمْ، كَانَ زَيْدٌ حَالِفًا بِكُلِّهِ؛ لأَِنَّ الْجَوَابَ يَتَضَمَّنُ إِعَادَةَ مَا فِي السُّؤَال (1) .
وَمَنْ قِيل لَهُ: أَطَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ؟ فَقَال: نَعَمْ، طَلُقَتِ امْرَأَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ؛ لأَِنَّ نَعَمْ صَرِيحٌ فِي الْجَوَابِ، وَالْجَوَابُ الصَّرِيحُ لِلَّفْظِ الصَّرِيحِ صَرِيحٌ (2) .
ب - وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ مُسْتَقِلًّا كَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقِيل لَهُ: مَا فَعَلْتَ؟ فَقَال: هِيَ طَالِقٌ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: تَطْلُقُ وَاحِدَةً فِي الْقَضَاءِ؛ لأَِنَّ كَلاَمَهُ انْصَرَفَ إِلَى الإِْخْبَارِ بِقَرِينَةِ الاِسْتِخْبَارِ، فَالْكَلاَمُ السَّابِقُ مُعَادٌ عَلَى وَجْهِ الإِْخْبَارِ عَنْهُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ نَوَى الإِْخْبَارَ يَلْزَمُهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ اتِّفَاقًا (أَيْ فِي الْمَذْهَبِ) وَإِنْ نَوَى إِنْشَاءَ الطَّلاَقِ فَيَلْزَمُهُ طَلْقَتَانِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إِخْبَارًا وَلاَ إِنْشَاءً فَقَوْلاَنِ فِي لُزُومِ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ (3) .
ج - وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ إِنْشَاءً غَيْرَ خَارِجٍ عَنِ الْكَلاَمِ الأَْوَّل، كَانَ الأَْوَّل مُعَادًا فِيهِ، كَمَا لَوْ قَال لاِمْرَأَتِهِ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ وَنَوَى الثَّلاَثَ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلاَثًا، أَوْ قَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي، أَوِ اخْتَرْتُ نَفْسِي وَلَمْ تَذْكُرِ الثَّلاَثَ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 153.
(2) المغني 7 / 139، وأشباه السيوطي / 157 والمهذب 2 / 82.
(3) شرح المجلة المادة / 66 للأتاسي 1 / 177، والدسوقي 2 / 385.(16/214)
وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُرْجَعُ إِلَى نِيَّتِهَا فِي بَيَانِ عَدَدِ الطَّلَقَاتِ إِذَا لَمْ تُبَيِّنِ الْعَدَدَ فِي قَوْلِهَا: طَلَّقْتُ نَفْسِي. أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيَكُونُ ثَلاَثًا؛ لأَِنَّهُ جَوَابُ تَفْوِيضِ الثَّلاَثِ، فَيَكُونُ ثَلاَثًا (1) .
د - وَقَدْ لاَ يُعْتَبَرُ الْكَلاَمُ الثَّانِي جَوَابًا وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءً. وَمِثَال ذَلِكَ لَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي وَاحِدَةً بِأَلْفٍ فَقَال: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ: هَذَا جَوَابٌ وَزِيَادَةٌ؛ لأَِنَّ فِي الثَّلاَثِ مَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْوَاحِدَةِ؛ لأَِنَّ الْوَاحِدَةَ تُوجَدُ فِي الثَّلاَثِ فَقَدْ أَتَى بِمَا سَأَلَتْهُ وَزِيَادَةً، فَيَلْزَمُهَا الأَْلْفُ، كَأَنَّهُ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: تَقَعُ الثَّلاَثُ مَجَّانًا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الثَّلاَثَ لاَ تَصْلُحُ جَوَابًا لِلْوَاحِدَةِ، فَإِذَا قَال ثَلاَثًا فَقَدْ عَدَل عَمَّا سَأَلَتْهُ، فَصَارَ مُبْتَدِئًا بِالطَّلاَقِ، فَتَقَعُ الثَّلاَثُ بِغَيْرِ شَيْءٍ (2) .
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي عَلَى أَلْفٍ فَأَجَابَهَا، وَأَعَادَ ذِكْرَ الْمَال لَزِمَ
__________
(1) شرح المجلة المادة 66 للأتاسي والكافي لابن عبد البر 2 / 589 / 590، والمهذب 2 / 83، والمغني 7 / 143، والمنثور في القواعد للزركشي 2 / 214 - 215.
(2) المجلة للأتاسي المادة / 66 وجواهر الإكليل 1 / 336، والمهذب 2 / 76، والمغني 7 / 77.(16/215)
الْمَال. وَكَذَا إِنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: طَلَّقْتُكِ فِي الأَْصَحِّ، كَذَا يَنْصَرِفُ إِلَى السُّؤَال. وَقِيل: يَقَعُ رَجْعِيًّا وَلاَ مَال (1) . وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيل ذَلِكَ إِلَى أَبْوَابِهِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ (طَلاَقٌ وَإِقْرَارٌ) .
الاِمْتِنَاعُ عَنِ الْجَوَابِ:
11 - الْجَوَابُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ بِشُرُوطِهَا عِنْدَ طَلَبِ الْقَاضِي ذَلِكَ مِنْهُ.
فَإِنْ أَقَرَّ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ طُولِبَ الْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ، وَإِنِ امْتَنَعَ عَنِ الْجَوَابِ، فَقَال: لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ، أَوْ سَكَتَ عَنِ الْجَوَابِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ يُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ حُكِمَ عَلَيْهِ لأَِنَّ امْتِنَاعَهُ عَنِ الْجَوَابِ يُعَدُّ إِقْرَارًا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَأَحَدِ أَقْوَال الْمَالِكِيَّةِ يَقُول لَهُ الْقَاضِي: إِنْ أَجَبْتَ وَإِلاَّ جَعَلْتُكَ نَاكِلاً وَحَكَمْتُ عَلَيْكَ، وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَجَابَ وَإِلاَّ جَعَلَهُ نَاكِلاً وَحَكَمَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ نَاكِلٌ عَمَّا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ فِيهِ.
وَقَال الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الأَْشْبَهُ أَنَّهُ إِنْكَارٌ، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الاِخْتِيَارِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
__________
(1) المنثور 2 / 214.
(2) ابن عابدين 4 / 420، والبدائع 6 / 226، والاختيار 2 / 109، وتبصرة الحكام 1 / 129، وجواهر الإكليل 2 / 226 - 228، واللباب لابن رشد / 256، والمهذب 2 / 301 - 304 وقليوبي 4 / 338، ونهاية المحتاج 8 / 249 وما بعدها والمغني 9 / 86 - 90.(16/215)
وَمِمَّا يَتَّصِل بِذَلِكَ الإِْثْمُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الاِمْتِنَاعِ عَنِ الْجَوَابِ الْوَاجِبِ كَجَوَابِ الْمُفْتِي وَالشَّاهِدِ، فَمَنْ كَتَمَ ذَلِكَ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ (1) ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُول: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (2) . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ انْظُرْ: (فَتْوَى، شَهَادَةٌ) .
__________
(1) أعلام الموقعين 4 / 157.
(2) سورة البقرة 283.(16/216)
جِوَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجِوَارُ - بِكَسْرِ الْجِيمِ - مَصْدَرُ جَاوَرَ، يُقَال: جَاوَرَ جِوَارًا وَمُجَاوَرَةً أَيْضًا. وَمِنْ مَعَانِي الْجِوَارِ الْمُسَاكَنَةُ وَالْمُلاَصَقَةُ، وَالاِعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْعَهْدُ وَالأَْمَانُ.
وَمِنَ الْجِوَارِ الْجَارُ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ، مِنْهَا: الْمُجَاوِرُ فِي الْمَسْكَنِ، وَالشَّرِيكُ فِي الْعَقَارِ أَوِ التِّجَارَةِ، وَالزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ، وَالْحَلِيفُ، وَالنَّاصِرُ.
وَقَال الشَّافِعِيُّ: كُل مَنْ قَارَبَ بَدَنُهُ بَدَنَ صَاحِبِهِ قِيل لَهُ: جَارٌ.
وَقَال الرَّاغِبُ: الْجَارُ: مَنْ يَقْرُبُ مَسْكَنُهُ مِنْكَ، وَهُوَ مِنَ الأَْسْمَاءِ الْمُتَضَايِفَةِ؛ فَإِنَّ الْجَارَ لاَ يَكُونُ جَارًا لِغَيْرِهِ إِلاَّ وَذَلِكَ الْغَيْرُ جَارٌ لَهُ، كَالأَْخِ وَالصَّدِيقِ (1) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ: وَهُوَ الْمُلاَصَقَةُ فِي السَّكَنِ أَوْ نَحْوِهِ كَالْبُسْتَانِ وَالْحَانُوتِ.
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة: (جور) .(16/216)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجِوَارِ:
أ - حَدُّ الْجِوَارِ:
2 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حَدَّ الْجِوَارِ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُل جَانِبٍ (1) . مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: حَقُّ الْجَارِ أَرْبَعُونَ دَارًا هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَارَ هُوَ الْمُلاَصِقُ مِنْ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ أَوِ الْمُقَابِل لَهُ بَيْنَهُمَا شَارِعٌ ضَيِّقٌ لاَ يَفْصِلُهُمَا فَاصِلٌ كَبِيرٌ كَسُوقٍ أَوْ نَهْرٍ مُتَّسِعٍ، أَوْ مَنْ يَجْمَعُهُمَا مَسْجِدٌ أَوْ مَسْجِدَانِ لَطِيفَانِ مُتَقَارِبَانِ، إِلاَّ إِذَا دَل الْعُرْفُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْحَدِّ.
وَحَمَلُوا حَدِيثَ: أَلاَ إِنَّ أَرْبَعِينَ دَارًا جَارٌ عَلَى التَّكْرِمَةِ وَالاِحْتِرَامِ، كَكَفِّ الأَْذَى، وَدَفْعِ الضَّرَرِ، وَالْبِشْرِ فِي الْوَجْهِ وَالإِْهْدَاءِ (3) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إِلَى أَنَّ الْجَارَ هُوَ الْمُلاَصِقُ فَقَطْ؛ لأَِنَّ الْجَارَ مِنَ الْمُجَاوَرَةِ، وَهِيَ الْمُلاَصَقَةُ حَقِيقَةً. وَقَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ هُوَ الْقِيَاسُ.
__________
(1) قليوبي وعميرة 3 / 168، والمغني 6 / 124، وكشاف القناع 4 / 363.
(2) حديث أبي هريرة " حق الجار أربعون دارا هكذا وهكذا وهكذا " أخرجه أبو يعلى عن شيخه محمد بن جامع العطار وهو ضعيف. كذا في مجمع الزوائد (8 / 168 - ط القدسي) .
(3) الشرح الصغير 4 / 747.(16/217)
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ (أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ) إِلَى أَنَّ الْجَارَ هُوَ الْمُلاَصِقُ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَجْمَعُهُمُ الْمَسْجِدُ؛ لأَِنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ جِيرَانًا عُرْفًا وَشَرْعًا، وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ. وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ (1) وَجَاءَ تَفْسِيرُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا بِمَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِرَّ الْجِيرَانِ فَاسْتِحْبَابُهُ شَامِلٌ لِلْمُلاَصِقِ وَغَيْرِهِ، وَلَمَّا كَانَ لاَ بُدَّ مِنَ الاِخْتِلاَطِ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى الْمُجَاوَرَةِ كَانَ لاَ بُدَّ مِنِ اتِّحَادِ الْمَسْجِدِ لِتَحَقُّقِ الاِخْتِلاَطِ (2) .
ب - حُقُوقُ الْجِوَارِ:
3 - جَاءَتِ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ تَحُضُّ عَلَى احْتِرَامِ الْجِوَارِ، وَرِعَايَةِ حَقِّ الْجَارِ. قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيل وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} (3) .
__________
(1) حديث: " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " أخرجه البيهقي (3 / 57 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة وضعف إسناده البيهقي.
(2) البحر الرائق 8 / 505، والبناية 10 / 497 - 498، وفتح القدير 8 / 471.
(3) سورة النساء / 36. وانظر تفسير الطبري 5 / 50 - 51 - طبعة مصورة عن الطبعة الأولى سنة 1329هـ - نشر دار المعرفة - بيروت، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5 / 183 ط 3 - سنة 1387 هـ - 196 م - دار الكاتب العربي طبعة مصورة.(16/217)
فَالْجَارُ ذُو الْقُرْبَى، هُوَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ. وَالْجَارُ الْجُنُبُ: هُوَ الَّذِي لاَ قَرَابَةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ. أَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا زَال جِبْرِيل يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ (1) .
وَقَوْلُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ. وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ. وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ. قِيل: مَنْ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ (2) .
قَال ابْنُ بَطَّالٍ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَأْكِيدُ حَقِّ الْجَارِ لِقَسَمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، وَتَكْرِيرِهِ الْيَمِينَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَفِيهِ نَفْيُ الإِْيمَانِ عَمَّنْ يُؤْذِي جَارَهُ بِالْقَوْل، أَوْ بِالْفِعْل، وَمُرَادُهُ الإِْيمَانُ الْكَامِل. وَلاَ شَكَّ أَنَّ الْعَاصِيَ غَيْرُ كَامِل الإِْيمَانِ (3) .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ كَانَ
__________
(1) حديث: " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 441 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2025 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(2) حديث: " والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 443 - ط السلفية) من حديث أبي شريح. وبوائقه: أي غوائله وشروره.
(3) فتح الباري 13 / 52.(16/218)
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ (1) . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ (2) هَذَا وَاسْمُ (الْجَارِ) جَاءَ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَشْمَل الْمُسْلِمَ، وَغَيْرَ الْمُسْلِمِ، وَالْعَابِدَ وَالْفَاسِقَ، وَالْغَرِيبَ وَالْبَلَدِيَّ، وَالنَّافِعَ وَالضَّارَّ، وَالْقَرِيبَ وَالأَْجْنَبِيَّ، وَالأَْقْرَبَ دَارًا وَالأَْبْعَدَ، وَلَهُ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ.
قَال أَحْمَدُ: الْجِيرَانُ ثَلاَثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ، وَهُوَ الذِّمِّيُّ الأَْجْنَبِيُّ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ. وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ: وَهُوَ الْمُسْلِمُ الأَْجْنَبِيُّ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الإِْسْلاَمِ. وَجَارٌ لَهُ ثَلاَثَةُ حُقُوقٍ: وَهُوَ الْمُسْلِمُ الْقَرِيبُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الإِْسْلاَمِ وَحَقُّ الْقَرَابَةِ (3) .
وَأَوْلَى الْجِوَارِ بِالرِّعَايَةِ مَنْ كَانَ أَقْرَبَهُمْ بَابًا. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْبُخَارِيُّ حِينَ قَال: بَابٌ: حَقُّ
__________
(1) حديث: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 445 - ط السلفية) ومسلم (1 / 68 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 445 - ط السلفية) من حديث أبي شريح.
(3) فتح الباري 13 / 48 - 49، وأعلام الموقعين لابن قيم الجوزية 2 / 124 تحقيق محيي الدين عبد الحميد - ط 1 سنة 1374 هـ - 1955 م - مطبعة السعادة بمصر. وفي نصه حديث نقله الغزالي في الإحياء 2 / 213 إلا أن الحافظ العراقي صرح بضعفه.(16/218)
الْجِوَارِ فِي قُرْبِ الأَْبْوَابِ. وَأَدْرَجَ تَحْتَهُ حَدِيثَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَال: إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا (1)
وَمِنْ حُقُوقِ الْجِوَارِ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ حَقُّ الْجِوَارِ كَفَّ الأَْذَى فَقَطْ، بَل احْتِمَال الأَْذَى، فَإِنَّ الْجَارَ أَيْضًا قَدْ كَفَّ أَذَاهُ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ قَضَاءُ حَقٍّ وَلاَ يَكْفِي احْتِمَال الأَْذَى، بَل لاَ بُدَّ مِنَ الرِّفْقِ، وَإِسْدَاءِ الْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ. . وَمِنْهَا: أَنْ يَبْدَأَ جَارَهُ بِالسَّلاَمِ، وَيَعُودَهُ فِي الْمَرَضِ، وَيُعَزِّيَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَيُهَنِّئَهُ عِنْدَ الْفَرَحِ، وَيُشَارِكَهُ السُّرُورَ بِالنِّعْمَةِ، وَيَتَجَاوَزَ عَنْ زَلاَّتِهِ، وَيَغُضَّ بَصَرَهُ عَنْ مَحَارِمِهِ، وَيَحْفَظَ عَلَيْهِ دَارَهُ إِنْ غَابَ، وَيَتَلَطَّفَ بِوَلَدِهِ، وَيُرْشِدَهُ إِلَى مَا يَجْهَلُهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ. . هَذَا إِلَى جُمْلَةِ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ (2) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ الْمُجَاوَرَةَ تُوجِبُ لِكُلٍّ مِنَ الْحَقِّ مَا لاَ يَجِبُ لأَِجْنَبِيٍّ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا لاَ يَحْرُمُ عَلَى الأَْجْنَبِيِّ. فَيُبِيحُ الْجِوَارُ الاِنْتِفَاعَ بِمِلْكِ الْجَارِ الْخَالِي مِنْ ضَرَرِ الْجَارِ، وَيَحْرُمُ الاِنْتِفَاعُ بِمِلْكِ الْجَارِ إِذَا كَانَ فِيهِ إِضْرَارٌ (3) .
__________
(1) حديث عائشة: " إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 220 - ط السلفية) .
(2) الإحياء 2 / 213.
(3) فتاوى ابن تيمية 3 / 17.(16/219)
حِفْظُ حُرْمَةِ الْجَارِ:
4 - الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحَقِّ حِفْظُ حُرْمَةِ الْجَارِ، وَسَتْرُ عِيَالِهِ. . وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْجِدَارِ السَّاتِرِ وَبِالنَّافِذَةِ الَّتِي لاَ يُطِل مِنْهَا الْجَارُ عَلَى حَرِيمِ جَارِهِ.
أَمَّا الْجِدَارُ السَّاتِرُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ مِنْ قَدِيمٍ، وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَبْنِيَهُ بِالاِشْتِرَاكِ مَعَ الآْخَرِ لِيَحْجِزَ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا، فَامْتَنَعَ الآْخَرُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ.
وَإِنْ أَرَادَ الْبِنَاءَ وَحْدَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْبِنَاءُ إِلاَّ فِي مِلْكِهِ خَاصَّةً؛ لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ جَارِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ لاَ يُعْلَمُ فِيهِ خِلاَفٌ (1) .
غَيْرَ أَنَّ ابْنَ تَيْمِيَّةَ سُئِل عَنْ بُسْتَانٍ مُشْتَرَكٍ حَصَلَتْ فِيهِ الْقِسْمَةُ، فَأَرَادَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَبْنِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَارِهِ جِدَارًا، فَامْتَنَعَ أَنْ يَدَعَهُ يَبْنِي، أَوْ يَقُومَ مَعَهُ عَلَى الْبِنَاءِ. فَأَجَابَ: يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَيُؤْخَذُ الْجِدَارُ مِنْ أَرْضِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِقَدْرِ حَقِّهِ (2) .
فَإِنْ كَانَ الْجِدَارُ قَدِيمًا، فَهُدِمَ، وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَبْنِيَهُ، وَأَبَى الآْخَرُ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَقْوَالٌ. . قَال بَعْضُهُمْ: لاَ يُجْبَرُ. وَقَال أَبُو اللَّيْثِ: فِي زَمَانِنَا يُجْبَرُ؛ لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ. وَقِيل: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ عَلَى تَفْصِيلٍ: إِنْ كَانَ أَصْل الْجِدَارِ يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ، وَيُمْكِنُ
__________
(1) المغني 4 / 460.
(2) الفتاوى 30 / 13.(16/219)
لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبْنِيَ فِي نَصِيبِهِ سُتْرَةً. . لاَ يُجْبَرُ الآْبِي عَلَى الْبِنَاءِ. وَإِنْ كَانَ أَصْل الْحَائِطِ لاَ يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُؤْمَرُ الآْبِي بِالْبِنَاءِ (1) .
وَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: لاَ يُجْبَرُ الَّذِي أَبَى مِنْهُمَا عَلَى الْبُنْيَانِ، وَيُقَال لِطَالِبِ الْبِنَاءِ: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ، وَابْنِ إِنْ شِئْتَ.
وَلَهُ أَنْ يَقْسِمَ مَعَهُ عَرْصَةَ الْحَائِطِ، وَيَبْنِيَ فِيهَا لِنَفْسِهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يُؤْمَرُ بِالْبُنْيَانِ، وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ. قَال ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيْنَا.
وَإِذَا كَانَ الْجِدَارُ لأَِحَدِهِمَا وَهَدَمَهُ إِضْرَارًا بِجَارِهِ، فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِإِعَادَتِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ؛ لأَِجْل أَنْ يَسْتُرَ عَلَى جَارِهِ. وَإِذَا هَدَمَ الْجِدَارَ لإِِصْلاَحِهِ أَوِ انْهَدَمَ بِنَفْسِهِ فَلاَ يُقْضَى عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ يُعِيدَهُ، وَيُقَال لِلْجَارِ: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ إِنْ شِئْتَ (2) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ - فِي الْجَدِيدِ - أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّرِيكِ إِجْبَارُ شَرِيكِهِ عَلَى عِمَارَةِ الْجِدَارِ وَلَوْ بِهَدْمِ الشَّرِيكَيْنِ لِلْمُشْتَرَكِ لاِسْتِهْدَامٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ الْمُمْتَنِعَ يَتَضَرَّرُ بِتَكْلِيفِهِ الْعِمَارَةَ، وَالضَّرَرُ لاَ يُزَال بِالضَّرَرِ.
__________
(1) فتاوى قاضيخان 3 / 108، والفتاوى الهندية 4 / 100.
(2) الكافي 2 / 942، ومواهب الجليل 5 / 150، والخرشي 6 / 58، 194، والتاج والإكليل 5 / 150، والشرح الكبير 3 / 368، وحاشية الدسوقي 3 / 368.(16/220)
وَقِيل: إِنَّ الْقَاضِيَ يُلاَحِظُ أَحْوَال الْمُتَخَاصِمَيْنِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الاِمْتِنَاعَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ أَوْ شَكَّ فِي أَمْرِهِ لَمْ يُجْبِرْهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ عِنَادٌ أَجْبَرَهُ.
قَال فِي الرَّوْضَةِ: وَيَجْرِي ذَلِكَ فِي النَّهْرِ، وَالْقَنَاةِ، وَالْبِئْرِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَاتِّخَاذِ سُتْرَةٍ بَيْنَ سَطْحَيْهِمَا.
وَلَوْ هَدَمَ الْجِدَارَ الْمُشْتَرَكَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِغَيْرِ إِذْنِ الآْخَرِ لَزِمَهُ أَرْشُ النَّقْصِ لاَ إِعَادَةُ الْبِنَاءِ؛ لأَِنَّ الْجِدَارَ لَيْسَ مِثْلِيًّا، وَعَلَيْهِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَإِنْ نَصَّ فِي غَيْرِهِ عَلَى لُزُومِ الإِْعَادَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْجِدَارُ الَّذِي انْهَدَمَ مُشْتَرَكًا وَطَالَبَ أَحَدُهُمَا شَرِيكَهُ الْمُوسِرَ بِبِنَائِهِ مَعَهُ أُجْبِرَ الْمَطْلُوبُ عَلَى الْبِنَاءِ مَعَهُ (2) .
وَأَمَّا فِي السَّطْحِ، فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مَنْ كَانَ سَطْحُهُ، وَسَطْحُ جَارِهِ سَوَاءً، وَفِي صُعُودِهِ السَّطْحَ يَقَعُ بَصَرُهُ فِي دَارِ جَارِهِ، فَلِلْجَارِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الصُّعُودِ مَا لَمْ يَتَّخِذْ سُتْرَةً. وَإِنْ كَانَ بَصَرُهُ لاَ يَقَعُ فِي دَارِ جَارِهِ، وَلَكِنْ يَقَعُ عَلَى جِيرَانِهِ إِذَا كَانُوا عَلَى السَّطْحِ لاَ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. قَال الإِْمَامُ نَاصِرُ الدِّينِ: هَذَا نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُمْنَعَ.
وَقَال الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: إِنَّ الْمُرْتَقِيَ يُخْبِرُهُمْ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 190.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 362.(16/220)
وَقْتَ الاِرْتِقَاءِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ حَتَّى يَسْتُرُوا أَنْفُسَهُمْ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُجْبَرُ صَاحِبُ السَّطْحِ عَلَى أَنْ يَتَّخِذَ سُتْرَةً تَحْجُبُهُ عَنْ جَارِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ (1) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُمْنَعُ الْجَارُ مِنْ صُعُودِ سَطْحِهِ إِذَا كَانَ يَنْظُرُ حَرَامًا عَلَى جَارِهِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ يُلْزَمُ بِاتِّخَاذِ سُتْرَةً إِذَا كَانَ سَطْحُهُ أَعْلَى مِنْ سَطْحِ جَارِهِ. فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْعُلُوِّ اشْتَرَكَا فِي بِنَائِهَا؛ إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الآْخَرِ بِالسُّتْرَةِ فَلَزِمَتْهُمَا (2) .
5 - وَأَمَّا النَّافِذَةُ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُمْنَعُ صَاحِبُ الْعُلُوِّ مِنْ فَتْحِ بَابٍ، أَوْ كَوَّةٍ تُطِل عَلَى سَاحَةِ الْجَارِ. وَلَيْسَ لِلْجَارِ حَقُّ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَبْنِيَ مَا يَسْتُرُ جِهَتَهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَقَال أَبُو السُّعُودِ: وَبِهِ يُفْتَى.
وَقِيل: إِنْ كَانَتْ الْكَوَّةُ لِلنَّظَرِ، وَكَانَتِ السَّاحَةُ مَحَل الْجُلُوسِ لِلنِّسَاءِ يُمْنَعُ. وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ عَلَيْهِ الْفَتْوَى (3) .
وَإِنْ كَانَ ارْتِفَاعُ النَّافِذَةِ عَنْ أَرْضِ الْغُرْفَةِ
__________
(1) فتح القدير 5 / 506 - 507 والفتاوى الهندية 5 / 373، والفتاوى البزازية 6 / 419، وحاشية العدوي 6 / 60 وحاشية البجيرمي 3 / 15.
(2) مطالب أولي النهى 3 / 358، والمغني 4 / 465، وكشاف القناع 3 / 401 - 402.
(3) فتاوى قاضيخان 3 / 433، وفتاوى البزازية 6 / 414، ومنحة الخالق 7 / 36، وحاشية ابن عابدين 5 / 448 وبه أخذت المادة 62 من مرشد الحيران، والمادة 1202 من مجلة الأحكام العدلية.(16/221)
مِقْدَارَ قَامَةِ الإِْنْسَانِ، فَلَيْسَ لِلْجَارِ أَنْ يُكَلِّفَهُ سَدَّهَا (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى مَنْعِ فَتْحِ نَافِذَةٍ يُشْرِفُ مِنْهَا الْجَارُ عَلَى دَارِ جَارِهِ، فَإِنْ فَتَحَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ تَعَيَّنَ سَدُّهُ.
وَحَدُّ الإِْشْرَافِ هُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ فِي رَجُلٍ أَحْدَثَ غُرْفَةً عَلَى جَارِهِ، فَفَتَحَ كَوَّةً: أَنْ يُوضَعَ وَرَاءَ تِلْكَ الْكَوَّةِ سَرِيرٌ، وَيَقُومَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَإِنْ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى مَا فِي دَارِ الرَّجُل مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لاَ يَنْظُرُ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ (2) .
أَمَّا النَّافِذَةُ الْقَدِيمَةُ، فَإِنَّهُ لاَ يُقْضَى بِسَدِّهَا. فِي قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُمْنَعُ الْمَالِكُ مِنْ فَتْحِ نَافِذَةٍ وَنَحْوِهَا وَلَوْ كَانَ يُشْرِفُ بِذَلِكَ عَلَى حَرِيمِ جَارِهِ؛ لِتَمَكُّنِ الْجَارِ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِبِنَاءِ سُتْرَةٍ تَسْتُرُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ النَّافِذَةَ وَالْبَابَ،
__________
(1) المادة 1203 من مجلة الأحكام العدلية.
(2) المدونة الكبرى 14 / 529، 15 / 197، والكافي 2 / 939، والخرشي 6 / 59 - 60، والشرح الكبير 3 / 369، وحاشية الدسوقي 3 / 369.(16/221)
وَنَحْوَهُمَا مِمَّا يُشْرِفُ الْجَارُ مِنْهُ عَلَى حَرِيمِ جَارِهِ يُقْضَى بِسَدِّهِ. وَإِلاَّ فَلاَ (1) .
أَثَرُ الْجِوَارِ فِي تَقْيِيدِ التَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ:
6 - مِنْ أَحْكَامِ الْمِلْكِ التَّامِّ أَنَّهُ يُعْطِي الْمَالِكَ وِلاَيَةَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَمْلُوكِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَخْتَارُ، كَمَا يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ وَرِضَاهُ، وَهَذَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ عِنْدَمَا يَخْلُو الْمِلْكُ مِنْ أَيِّ حَقٍّ عَلَيْهِ لِلآْخَرِينَ. وَلَكِنَّ هَذَا الْحُكْمَ قَدْ يُقَيَّدُ بِسَبَبِ الْجِوَارِ لِتَجَنُّبِ الإِْضْرَارِ بِالْجَارِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْيِيدِ الْمِلْكِ لِتَجَنُّبِ الإِْضْرَارِ بِالْجَارِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِيمَا عَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْمَالِكَ لاَ يُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ إِلاَّ إِذَا نَتَجَ عَنْهُ إِضْرَارٌ بِالْجَارِ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ عِنْدَئِذٍ مَعَ الضَّمَانِ؛ لِمَا قَدْ يَنْتُجُ مِنَ الضَّرَرِ.
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الضَّرَرَ بِأَنْ يَكُونَ بَيِّنًا، وَحَدُّ هَذَا الضَّرَرِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ: كُل مَا يَمْنَعُ الْحَوَائِجَ الأَْصْلِيَّةَ يَعْنِي الْمَنْفَعَةَ الأَْصْلِيَّةَ الْمَقْصُودَةَ
__________
(1) مرشد الحيران - المادة 63 والشرح الكبير 3 / 369 وحاشية الدسوقي 3 / 369 والتاج والإكليل 5 / 160، وحاشية البجيرمي 3 / 12، ومغني المحتاج 2 / 186، ومطالب أولي النهى 3 / 358.(16/222)
مِنَ الْبِنَاءِ كَالسُّكْنَى، أَوْ يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ أَيْ يَجْلِبُ لَهُ وَهْنًا وَيَكُونُ سَبَبَ انْهِدَامِهِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُلاَّكِ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْعَادَةِ فِي التَّصَرُّفِ، وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ جَارُهُ أَوْ أَدَّى إِلَى إِتْلاَفِ مَالِهِ، كَمَنْ حَفَرَ بِئْرَ مَاءٍ أَوْ حُشٍّ فَاخْتَل بِهِ جِدَارُ جَارِهِ أَوْ تَغَيَّرَ بِمَا فِي الْحُشِّ مَاءُ بِئْرِهِ؛ لأَِنَّ فِي مَنْعِ الْمَالِكِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ مِمَّا يَضُرُّ جَارَهُ ضَرَرًا لاَ جَابِرَ لَهُ، فَإِنْ تَعَدَّى بِأَنْ جَاوَزَ الْعَادَةَ فِي التَّصَرُّفِ ضَمِنَ مَا تَعَدَّى فِيهِ لاِفْتِيَاتِهِ.
وَالأَْصَحُّ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلشَّخْصِ أَنْ يَتَّخِذَ دَارَهُ الْمَحْفُوفَةَ بِمَسَاكِنَ حَمَّامًا وَطَاحُونَةً وَمَدْبَغَةً وَإِصْطَبْلاً وَفُرْنًا، وَحَانُوتَهُ فِي الْبَزَّازِينَ حَانُوتَ حَدَّادٍ وَقَصَّارٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، كَأَنْ يَجْعَلَهُ مَدْبَغَةً، إِذَا احْتَاطَ وَأَحْكَمَ الْجُدْرَانَ إِحْكَامًا يَلِيقُ بِمَا يَقْصِدُهُ؛ لأَِنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَفِي مَنْعِهِ إِضْرَارٌ بِهِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ لِلإِْضْرَارِ بِهِ (2) . وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَعَلِّي) (وَحَائِطٌ) .
__________
(1) الدر المختار 5 / 447، والدسوقي 3 / 369 وما بعدها، الخرشي 6 / 60 - 61، وكشاف القناع 3 / 408، والمغني 4 / 572 - ط الرياض.
(2) مغني المحتاج 2 / 364.(16/222)
حُكْمُ الاِنْتِفَاعِ بِالْجِدَارِ بَيْنَ جَارَيْنِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الشَّرِيكَ فِي الْجِدَارِ الْمُشْتَرَكِ يَنْتَفِعُ بِمِقْدَارِ نَفْعِ شَرِيكِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِرِضَاءِ شَرِيكِهِ.
أَمَّا الْجِدَارُ الْمَمْلُوكُ لأَِحَدِ الْجَارَيْنِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْجَارِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِجِدَارِ جَارِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلاَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ صُوَرِ الاِنْتِفَاعِ كَالْبِنَاءِ وَفَتْحِ كَوَّةٍ وَغَرْزِ خَشَبَةٍ وَنَحْوِهِ. لِحَدِيثِ: لاَ يَحِل لاِمْرِئٍ مِنْ مَال أَخِيهِ إِلاَّ مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ (1) وَلأَِنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
وَلَكِنْ يُنْدَبُ لِصَاحِبِ الْجِدَارِ تَمْكِينُ جَارِهِ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِهِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ (2) .
وَالْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْل الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ
__________
(1) حديث: " لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه. . . " أخرجه البيهقي في السنن (6 / 97 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عباس، وإسناده حسن.
(2) حديث: " لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 110 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1230 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم.(16/223)
يَجُوزُ لِلْجَارِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِجِدَارِ جَارِهِ وَيُجْبَرُ مَالِكُهُ عَلَى تَمْكِينِهِ مِنْ ذَلِكَ بِشَرْطِ عَدَمِ الإِْضْرَارِ بِالْجِدَارِ وَبِشَرْطِ قِيَامِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ تَفْصِيلٌ فِي الشُّرُوطِ وَهِيَ: أَنْ يَسْتَغْنِيَ صَاحِبُ الْجِدَارِ عَنْهُ، وَأَنْ لاَ يَزِيدَ الْجَارُ فِي ارْتِفَاعِ الْجُدْرَانِ، وَأَنْ لاَ يَبْنِيَ عَلَيْهِ سَقْفًا، وَأَنْ تَكُونَ الأَْرْضُ لَهُ وَأَنْ لاَ يَمْلِكَ شَيْئًا مِنْ جُدْرَانِ الْبُقْعَةِ الَّتِي يُرِيدُ تَسْقِيفَهَا، أَوْ لاَ يَمْلِكَ إِلاَّ جِدَارًا وَاحِدًا (1) . وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (ارْتِفَاقٌ) (وَحَائِطٌ) .
أَثَرُ الْجِوَارِ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ:
8 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ لاَ تَثْبُتُ إِلاَّ لِلشَّرِيكِ غَيْرِ الْمُقَاسِمِ، فَلاَ يَسْتَحِقُّ الْجَارُ الشُّفْعَةَ؛ لأَِنَّ الْحُدُودَ فِي حَقِّهِ قَدْ قُسِمَتْ، وَالطُّرُقُ قَدْ صُرِفَتْ، وَمَا شُرِعَتِ الشُّفْعَةُ إِلاَّ لِدَفْعِ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ، وَهُوَ مَعْنًى مُنْتَفٍ فِي الْجَارِ (2) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِي كُل مَا لَمْ يُقْسَمْ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 358، وشرح الزرقاني 6 / 64، وقليوبي وعميرة 2 / 314، والمغني 5 / 36.
(2) الشرح الصغير 3 / 633، ونهاية المحتاج 5 / 196، وكشاف القناع 4 / 134 و 138.(16/223)
فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ لِلْجَارِ الْمُلاَصِقِ؛ لِحَدِيثِ قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ (2) وَلِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً قَال: يَا رَسُول اللَّهِ، أَرْضِي لَيْسَ لأَِحَدٍ فِيهَا شِرْكٌ وَلاَ قَسْمٌ إِلاَّ الْجِوَارُ. فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ مَا كَانَ (3) . وَهَذَا اللَّفْظُ صَرِيحٌ فِي إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِجِوَارٍ لاَ شَرِكَةَ فِيهِ. كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ (4) وَالصَّقَبُ هُوَ الْقُرْبُ.
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُول بِأَنَّ الْجِوَارَ فِي مَعْنَى الشَّرِكَةِ؛ لأَِنَّ مِلْكَ الْجَارِ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ جَارِهِ اتِّصَال تَأْبِيدٍ وَقَرَارٍ، وَالضَّرَرُ الْمُتَوَقَّعُ فِي الشَّرِكَةِ مُتَوَقَّعٌ فِي الْجِوَارِ، فَيَثْبُتُ حَقُّ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْجِوَارِ قِيَاسًا عَلَى الشَّرِكَةِ (5) .
__________
(1) حديث: " قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 436 - ط السلفية) .
(2) حديث: " جار الدار أحق بالدار " أخرجه الترمذي (3 / 641 - ط الحلبي) من حديث سمرة بن جندب، وقال: " حسن صحيح ".
(3) حديث: " الجار أحق بسقبه " أخرجه أحمد (4 / 389 - ط الميمنية) ونوه به الترمذي في جامعه (3 / 642 - ط الحلبي) ونقل تصحيح البخاري له.
(4) حديث أبي رافع " الجار أحق بصقبه " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 345 - ط السلفية) .
(5) البناية 8 / 453.(16/224)
حَقُّ الْجِوَارِ فِي الْمَسِيل:
9 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِجَارٍ حَقُّ الْمَسِيل عَلَى مِلْكِ جَارِهِ فَلَيْسَ لِمَنْ عَلَيْهِ حَقُّ الْمَسِيل أَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ مِنْ هَذَا الْحَقِّ. وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (ارْتِفَاقٌ) (وَمَسِيلٌ) .
حَقُّ الْجِوَارِ فِي الطَّرِيقِ:
10 - الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحَقِّ مَعْرِفَةُ مَا لِجِوَارِ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ، وَيُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ الطَّرِيقَ إِلَى نَوْعَيْنِ: طَرِيقٍ نَافِذَةٍ وَطَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، وَحَقُّ الْجِوَارِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مُغَايِرٌ لِلآْخَرِ. وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (طَرِيقٌ) .
حَقُّ الْجِوَارِ فِي النَّهْرِ:
11 - الْمُرَادُ بِهِ مَا يَنْشَأُ لِلْجِوَارِ عَلَى النَّهْرِ، وَمَا لِلنَّهْرِ عَلَى الْجِوَارِ، بِسَبَبِ الْجِوَارِ. وَإِنَّ مَدَارَ هَذَا الْحَقِّ مَبْنِيٌّ عَلَى نَوْعَيِ الأَْنْهَارِ الْعَامَّةِ وَالْمَمْلُوكَةِ.
وَلِجَارِ النَّهْرِ الْعَظِيمِ، كَدِجْلَةَ، وَالْفُرَاتِ، أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ، وَدَوَابَّهُ، وَيَنْصِبَ عَلَى النَّهْرِ دُولاَبًا وَيَشُقَّ نَهْرًا إِلَى أَرْضِهِ لِسِقَايَتِهَا؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْنْهَارَ لَيْسَتْ مِلْكًا لأَِحَدٍ.
وَيَجُوزُ لَهُ غَرْسُ شَطِّهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ وَلِمَنْ شَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَطْلُبَ رَفْعَ ذَلِكَ.(16/224)
وَعَلَى الْجَارِ أَنْ يُمَكِّنَ النَّاسَ مِنْ حَقِّ الْمُرُورِ عَلَى شَطِّ النَّهْرِ الْعَامِّ لِلسَّقْيِ، وَإِصْلاَحِ النَّهْرِ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَرِيقٌ إِلاَّ مِنْ هَذِهِ الأَْرْضِ.
أَمَّا النَّهْرُ الْمَمْلُوكُ، وَكَذَلِكَ الآْبَارُ وَالْحِيَاضُ الْمَمْلُوكَةُ، فَإِنَّ لِلْجَارِ أَنْ يَشْرَبَ مِنَ الْمَاءِ، وَيَسْقِيَ دَوَابَّهُ وَهُوَ مَا يُسَمَّى حَقَّ الشَّفَةِ، كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ، وَيَغْتَسِل، وَيَغْسِل ثِيَابَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ، وَشَجَرَهُ. وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (1) .
وَيُجْبَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْبَذْل إِنْ كَانَ لِجَارِهِ زَرْعٌ أَنْشَأَهُ عَلَى أَصْل الْمَاءِ، وَانْهَدَمَتْ بِئْرُ زَرْعِهِ وَخِيفَ عَلَيْهِ الْهَلاَكُ مِنَ الْعَطَشِ، وَشَرَعَ فِي إِصْلاَحِ بِئْرِهِ، فَإِنْ تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ لَمْ يُجْبَرْ، وَفِي قَبْضِ ثَمَنِ الْمَاءِ قَوْلاَنِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى بَذْل الْمَاءِ مَجَّانًا، وَلَوْ وَجَدَ مَعَ الْجَارِ الثَّمَنَ (2) . وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (نَهْرٌ) .
__________
(1) المغني 5 / 476، 482، وبدائع الصنائع 6 / 188، وفتح الوهاب 1 / 255، 256، ومرشد الحيران المادة 39، 40 ومجلة الأحكام العدلية - المادة 1265، 1267، والفتاوى الهندية 5 / 372 - 399 وحاشية أبي السعود 3 / 416، والهداية 8 / 144، ومجمع الأنهر 4 / 562، والتكملة ص 243، والفتاوى البزازية 6 / 114 - 115، والأم 4 / 49، ومطالب أولي النهى 4 / 186 - 187.
(2) المدونة 15 / 190، والخرشي 7 / 74، والدسوقي 4 / 72.(16/225)
جِوَارُ الْمَسْكَنِ الشَّرْعِيِّ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ شَرْعِيَّةِ الْمَسْكَنِ الزَّوْجِيِّ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ جِيرَانٍ صَالِحِينَ، وَتَأْمَنُ فِيهِ الزَّوْجَةُ عَلَى نَفْسِهَا (1) . وَالتَّفْصِيل فِي: (بَيْتُ الزَّوْجِيَّةِ) .
مُجَاوَرَةُ الذِّمِّيِّ لِلْمُسْلِمِ:
13 - لاَ يُمْنَعُ الذِّمِّيُّ مِنْ مُجَاوَرَةِ الْمُسْلِمِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَمْكِينِهِ مِنَ التَّعَرُّفِ عَلَى مَحَاسِنِ الإِْسْلاَمِ وَهُوَ أَدْعَى لإِِسْلاَمِهِ طَوَاعِيَةً.
وَيُمْنَعُ مِنَ التَّعَلِّي بِالْبِنَاءِ عَلَى بِنَاءِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الْجِوَارِ وَإِنَّمَا مِنْ حَقِّ الإِْسْلاَمِ، وَلِذَا يُمْنَعُ مِنْهُ وَإِنْ رَضِيَ الْمُسْلِمُ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإِْسْلاَمُ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى (2) ، وَلِمَا فِي التَّعَلِّي مِنَ الإِْشْرَافِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْصَحِّ - بِمَا إِذَا لَمْ يَكُونُوا مُسْتَقِلِّينَ بِمَحَلَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ عَنْ عِمَارَةِ الْمُسْلِمِينَ بِحَيْثُ لاَ يَقَعُ مِنْهُمْ إِشْرَافٌ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ وَلاَ مُجَاوَرَةٌ عُرْفًا.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 602.
(2) حديث: " الإسلام يعلو ولا يعلى. . . " أخرجه الدارقطني (3 / 252 - ط دار المحاسن) من حديث عائذ بن عمرو المزني وحسنه ابن حجر في الفتح (3 / 220 - ط السلفية) .(16/225)
وَقَيَّدَ الْحَلْوَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ جَوَازَ الْمُجَاوَرَةِ بِأَنْ يَقِل عَدَدُهُمْ بِحَيْثُ لاَ تَتَعَطَّل جَمَاعَاتُ الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تَقِل جَمَاعَتُهُمْ بِسُكْنَاهُمْ بَيْنَهُمْ فِي مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ (1) . وَيُنْظَرُ فِي التَّفْصِيل مُصْطَلَحُ: (أَهْل الذِّمَّةِ) وَمُصْطَلَحُ: (تَعَلِّي) .
__________
(1) قليوبي وعميرة 4 / 235، وحاشية ابن عابدين 3 / 275، والمغني 8 / 533، أحكام أهل الذمة 2 / 705.(16/226)
جَوَازٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْجَوَازِ فِي اللُّغَةِ: الصِّحَّةُ وَالنَّفَاذُ، وَمِنْهُ أَجَزْتُ الْعَقْدَ: جَعَلْتُهُ جَائِزًا نَافِذًا (1) . وَالْجَوَازُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ يُطْلَقُ عَلَى أُمُورٍ:
أ - عَلَى الْمُبَاحِ.
ب - عَلَى مَا لاَ يَمْتَنِعُ شَرْعًا.
ج - عَلَى مَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ عَقْلاً.
د - عَلَى مَا اسْتَوَى فِيهِ الأَْمْرَانِ عَقْلاً.
هـ - عَلَى الْمَشْكُوكِ فِي حُكْمِهِ عَقْلاً أَوْ شَرْعًا كَسُؤْرِ الْحِمَارِ (2) .
وَالْجَوَازُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ يُطْلَقُ عَلَى مَا لَيْسَ بِلاَزِمٍ، فَيَقُولُونَ: الْوَكَالَةُ وَالشَّرِكَةُ وَالْقِرَاضُ عُقُودٌ جَائِزَةٌ، وَيَعْنُونَ بِالْجَائِزِ مَا لِلْعَاقِدِ فَسْخُهُ بِكُل حَالٍ إِلاَّ أَنْ يَئُول إِلَى اللُّزُومِ (3) .
كَمَا يَسْتَعْمِلُونَ الْجَوَازَ فِيمَا قَابَل الْحَرَامَ فَيَكُونُ
__________
(1) المصباح المنير والمعجم الوسيط مادة: (جوز) ، وفتح القدير 3 / 203 ط. الأميرية.
(2) فواتح الرحموت 1 / 103، 104 ط الأميرية، والموسوعة الفقهية 1 / 127.
(3) المنثور في القواعد للزركشي 2 / 7.(16/226)
لِرَفْعِ الْحَرَجِ، فَيَشْمَل الْوَاجِبَ وَالْمُسْتَحَبَّ وَالْمُبَاحَ وَالْمَكْرُوهَ (1) . قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَقَدْ يَجْرِي فِي كَلاَمِ الأَْصْحَابِ (أَيِ الشَّافِعِيَّةِ) : جَائِزٌ كَذَا وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَل كَذَا، وَيُرِيدُونَ بِهِ الْوُجُوبَ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِيمَا إِذَا كَانَ الْفِعْل دَائِرًا بَيْنَ الْحُرْمَةِ وَالْوُجُوبِ فَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: يَجُوزُ؛ رَفْعُ الْحُرْمَةِ فَيَبْقَى الْوُجُوبُ (2) .
وَيَأْتِي الْجَوَازُ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا بِمَعْنَى الصِّحَّةِ وَهِيَ مُوَافَقَةُ الْفِعْل ذِي الْوَجْهَيْنِ لِلشَّرْعِ (3) .
الْجَوَازُ وَاللُّزُومُ فِي التَّصَرُّفَاتِ:
2 - قَال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: تَنْقَسِمُ التَّصَرُّفَاتُ مِنْ حَيْثُ جَوَازُهَا وَلُزُومُهَا إِلَى أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: مَا لاَ تَتِمُّ مَصَالِحُهُ وَمَقَاصِدُهُ إِلاَّ بِلُزُومِهِ مِنْ طَرَفَيْهِ، كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالأَْنْكِحَةِ وَالأَْوْقَافِ وَالضَّمَانِ.
أَمَّا الْبَيْعُ وَالإِْجَارَةُ فَلَوْ كَانَا جَائِزَيْنِ لَمَا وَثِقَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالاِنْتِفَاعِ بِمَا صَارَ إِلَيْهِ وَلَبَطَلَتْ فَائِدَةُ شَرْعِيَّتِهِمَا؛ إِذْ لاَ يَأْمَنُ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ فَسْخِ صَاحِبِهِ.
__________
(1) حاشية البيجوري على ابن قاسم 1 / 41 ط الحلبي.
(2) المنثور في القواعد 2 / 7.
(3) الموسوعة الفقهية 1 / 127.(16/227)
وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلاَ تَحْصُل مَقَاصِدُهُ إِلاَّ بِلُزُومِهِ، وَلاَ يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ مَجْلِسٍ وَلاَ خِيَارُ شَرْطٍ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الضَّرَرِ عَلَى الزَّوْجَيْنِ فِي أَنْ يَرُدَّ كُلٌّ مِنْهُمَا رَدَّ السِّلَعِ.
وَأَمَّا الأَْوْقَافُ فَلاَ يَحْصُل مَقْصُودُهَا الَّذِي هُوَ جَرَيَانُ أَجْرِهَا فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ إِلاَّ بِلُزُومِهَا. وَأَمَّا الضَّمَانُ فَلاَ يَحْصُل مَقْصُودُهُ إِلاَّ بِلُزُومِهِ وَلاَ خِيَارَ فِيهِ وَلاَ فِي الْوَقْتِ بِحَالٍ (1) .
3 - ثُمَّ قَال: الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ التَّصَرُّفَاتِ: مَا تَكُونُ الْمَصْلَحَةُ فِي كَوْنِهِ جَائِزًا مِنَ الطَّرَفَيْنِ كَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْجَعَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْقِرَاضِ وَالْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ.
أَمَّا الْوَكَالَةُ فَلَوْ لَزِمَتْ مِنْ جَانِبِ الْوَكِيل لأََدَّى ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَزْهَدَ الْوُكَلاَءُ فِي الْوَكَالَةِ خَوْفَ لُزُومِهَا فَيَتَعَطَّل عَلَيْهِمْ هَذَا النَّوْعُ مِنَ النَّفْعِ، وَلَوْ لَزِمَتْ مِنْ جَانِبِ الْمُوَكِّل لَتَضَرَّرَ؛ لأَِنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى الاِنْتِفَاعِ بِمَا وَكَّل فِيهِ لِجِهَاتٍ أُخَرَ كَالأَْكْل وَالشُّرْبِ وَاللُّبْسِ، أَوِ الْعِتْقِ أَوِ السُّكْنَى أَوِ الْوَقْفِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالأَْمْوَاتِ.
وَالشَّرِكَةُ وَكَالَةٌ؛ لأَِنَّهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَالتَّعْلِيل مَا ذُكِرَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَإِنْ لَزِمَتْ فَقَدْ فَاتَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَقْصُودَانِ الْمَذْكُورَانِ.
__________
(1) بتصرف من قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام 2 / 125، 126 نشر دار الكتب العلمية.(16/227)
وَأَمَّا الْجَعَالَةُ فَلَوْ لَزِمَتْ لَكَانَ فِي لُزُومِهَا مِنَ الضَّرَرِ مَا ذُكِرَ فِي الْوَكَالَةِ. وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَلَوْ لَزِمَتْ لَزَهَدَ النَّاسُ فِي الْوَصَايَا. وَأَمَّا الْقِرَاضُ فَلَوْ لَزِمَ عَلَى التَّأْبِيدِ عَظُمَ الضَّرَرُ فِيهِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَفَاتَتْ الأَْغْرَاضُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْوَكَالَةِ، وَإِنْ لَزِمَ إِلَى مُدَّةٍ لاَ يَحْصُل فِيهَا الرِّبْحُ فِي مِثْل تِلْكَ الْمُدَّةِ فَلاَ يَحْصُل مَقْصُودُ الْعَقْدِ. وَإِنْ لَزِمَ إِلَى مُدَّةٍ يَحْصُل فِيهَا الرِّبْحُ غَالِبًا فَلَيْسَ لِتِلْكَ الْمُدَّةِ ضَابِطٌ.
وَأَمَّا الْعَوَارِيُّ فَلَوْ لَزِمَتْ لَزَهِدَ النَّاسُ فِيهَا، فَإِنَّ الْمُعِيرَ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا لِمَا ذُكِرَ مِنَ الأَْغْرَاضِ وَالْمُسْتَعِيرَ قَدْ يَزْهَدُ فِيهَا دَفْعًا لِمِنَّةِ الْغَيْرِ.
وَأَمَّا الْوَدَائِعُ فَلَوْ لَزِمَتْ لَتَضَرَّرَ الْمُودِعُ وَالْمُسْتَوْدَعُ؛ لِزُهْدِ الْمُسْتَوْدَعِينَ فِي قَبُول الْوَدَائِعِ (1) .
4 - الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ: مَا تَكُونُ مَصْلَحَتُهُ فِي جَوَازِهِ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ وَلُزُومِهِ مِنَ الطَّرَفِ الآْخَرِ، كَالرَّهْنِ وَالْكِتَابَةِ وَعَقْدِ الْجِزْيَةِ وَإِجَارَةِ الْمُشْرِكِ الْمُسْتَجِيرِ لِسَمَاعِ كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَأَمَّا الرَّهْنُ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ التَّوَثُّقُ وَلاَ يَحْصُل إِلاَّ بِلُزُومِهِ عَلَى الرَّاهِنِ، وَهُوَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمُرْتَهِنِ فَلَهُ إِسْقَاطُ تَوَثُّقِهِ بِهِ، كَمَا تَسْقُطُ وَثِيقَةُ الضَّمَانِ
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 / 127، وانظر مطالب أولي النهى 3 / 453.(16/228)
بِإِبْرَاءِ الضَّامِنِ وَهُمَا مُحْسِنَانِ بِإِسْقَاطِهِمَا.
وَأَمَّا عَقْدُ الْجِزْيَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ مِنْ جِهَةِ الْكَافِرِينَ لاَزِمٌ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ تَحْصِيلاً لِمَصَالِحِهِ، وَلَوْ جَازَ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ لاَمْتَنَعَ الْكَافِرُونَ مِنْهُ لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِهِ، لَكِنْ يَجُوزُ فَسْخُهُ بِأَسْبَابٍ تَطْرَأُ مِنْهُمْ وَذَلِكَ غَيْرُ مُنَفِّرٍ مِنَ الدُّخُول فِيهِ.
وَأَمَّا إِجَارَةُ الْمُشْرِكِ الْمُسْتَجِيرِ لِسَمَاعِ كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَجِيرِينَ لاَزِمَةٌ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ إِذْ لاَ تَتِمُّ مَصْلَحَتُهَا إِلاَّ بِلُزُومِهَا مِنْ قِبَل الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تَلْزَمْ لَفَاتَ مَقْصُودُهَا، وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْمُسْتَجِيرِ لِدَعْوَةِ الإِْسْلاَمِ وَالدُّخُول فِيهِ بَعْدَ الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ تُنْظَرُ الْمُصْطَلَحَاتُ الْخَاصَّةُ بِهَا. وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ الْجَوَازِ يُنْظَرُ أَيْضًا: (إِلْزَامٌ، الْتِزَامٌ، إِجَازَةٌ) .
__________
(1) بتصرف قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 / 127 - 128.(16/228)
جَوْدَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَوْدَةُ فِي اللُّغَةِ ضِدُّ الرَّدَاءَةِ مَصْدَرُ جَادَ، يُقَال: جَادَ الشَّيْءُ جُودَةً وَجَوْدَةً - بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ - أَيْ صَارَ جَيِّدًا. وَيَكُونُ جَادَ مِنَ الْجُودِ بِمَعْنَى الْكَرَمِ، يُقَال: الرَّجُل يَجُودُ جُودًا فَهُوَ جَوَادٌ، وَالْجَمْعُ أَجْوَادٌ، وَيُقَال: أَجَادَ الرَّجُل إِجَادَةً إِذَا أَتَى بِالْجَيِّدِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجَوْدَةِ:
اعْتِبَارُ الْجَوْدَةِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ:
2 - الْجَوْدَةُ عِنْدَ مُبَادَلَةِ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ فِيمَا يَثْبُتُ فِيهِ الرِّبَا لاَ اعْتِبَارَ لَهَا شَرْعًا؛ لأَِنَّ فِي اعْتِبَارِ الْجَوْدَةِ سَدًّا لِبَابِ الْبِيَاعَاتِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ؛ لأَِنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو
__________
(1) المعجم الوسيط والصحاح، ولسان العرب، مادة: (جود) و (ردأ) وجمهرة اللغة 3 / 241، ومجلة الأحكام العدلية المادة: (381) ونهاية المحتاج 4 / 208 وتحفة المحتاج بشرح المنهاج 5 / 232، وروضة الطالبين 4 / 231، ومطالب أولي النهى 3 / 212.(16/229)
عِوَضَانِ مِنْ جِنْسٍ عَنْ تَفَاوُتٍ مَا، فَلَمْ يُعْتَبَرْ.
فَبَيْعُ الرِّبَوِيِّ بِجِنْسِهِ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْوَزْنِ أَوِ الْكَيْل، وَالتَّفَاضُل فِي النَّوْعِ وَالصِّفَةِ كَالْمَصُوغِ بِالتِّبْرِ، وَالْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ جَائِزٌ، وَهَذَا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ (1) وَهُنَاكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ (2) وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رِبًا) .
إِظْهَارُ جَوْدَةِ مَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُصُول الْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ بِإِظْهَارِ جَوْدَةِ مَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ، إِلاَّ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَطْبِيقَاتِ هَذَا الْمَبْدَأِ. فَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ يَعْتَبِرُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ غِشًّا وَلاَ يَعْتَبِرُهُ كَذَلِكَ بَعْضٌ آخَرُ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْغِشِّ بِإِظْهَارِ جَوْدَةِ مَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ:
__________
(1) حديث: " جيدها ورديئها سواء " ذكره الزيلعي في نصب الراية (4 / 37 - ط المجلس العلمي) وقال: " غريب " ومعناه يؤخذ من إطلاق حديث أبي سعيد وهو: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا أخرجه مسلم (3 / 1211 ط الحلبي) .
(2) بدائع الصنائع 5 / 189، والجوهرة النيرة 1 / 259، نشر مكتبة إمدادية ملتان، وفتح القدير 6 / 151، نشر دار إحياء التراث العربي، والمجموع 10 / 83، وروضة الطالبين 3 / 384، والمغني 4 / 10 ط الرياض، والقوانين الفقهية ص 251 نشر دار الكتاب العربي.(16/229)
أ - نَفْخُ اللَّحْمِ بَعْدَ السَّلْخِ وَدَقُّ الثِّيَابِ (1) .
ب - جَمْعُ مَاءِ الرَّحَى وَإِرْسَالُهُ عِنْدَ عَرْضِهَا لِلْبَيْعِ أَوِ الإِْجَارَةِ حَتَّى يَتَوَهَّمَ الْمُشْتَرِي أَوِ الْمُسْتَأْجِرُ كَثْرَتَهُ فَيَزِيدَ فِي عِوَضِهِ (2) .
ج - تَصْرِيَةُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ (3) . وَلِلتَّفْصِيل فِي الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّدْلِيسِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ: (ر: بَيْعُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، تَدْلِيسٌ، غُرُورٌ، وَغِشٌّ) .
ذِكْرُ الْجَوْدَةِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ:
4 - يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ ذِكْرَ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ لاِخْتِلاَفِ الْغَرَضِ بِهِمَا، فَيُفْضِي تَرْكُهُمَا إِلَى النِّزَاعِ (4) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 88.
(2) الشرح الكبير مع المغني 4 / 80، ونهاية المحتاج 4 / 73 ط الحلبي.
(3) ابن عابدين 4 / 96، والشرح الكبير مع المغني 4 / 80، والمواق بهامش الحطاب 4 / 437، والتصرية، هي أن يترك البائع حلب الحيوان عمدا مدة قبل بيعه حتى يجتمع اللبن فيتخيل المشتري غزارة لبنه فيزيد في الثمن. (نهاية المحتاج 4 / 69) .
(4) الاختيار 2 / 34، 35 ومجلة الأحكام العدلية المادة (386) والجوهرة النيرة 1 / 366، والشرح الصغير 3 / 278، ونهاية المحتاج 4 / 208، ومطالب أولي النهى 3 / 212.(16/230)
ذِكْرِ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فِيمَا يُسْلَمُ فِيهِ، وَيُحْمَل الْمُطْلَقُ عَلَى الْجَيِّدِ لِلْعُرْفِ (1) . وَلِلتَّفْصِيل: (ر: سَلَمٌ) .
ذِكْرُ الْجَوْدَةِ فِي الْحَوَالَةِ:
5 - يَرَى الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الأَْصَحِّ وُجُوبَ تَسَاوِي الدَّيْنَيْنِ - الْمُحَال بِهِ وَالْمُحَال عَلَيْهِ - فِي الصِّفَةِ؛ لأَِنَّ الْحَوَالَةَ تَحْوِيل الْحَقِّ، فَيُعْتَبَرُ تَحَوُّلُهُ عَلَى صِفَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِالصِّفَةِ مَا يَشْمَل الْجَوْدَةَ وَالرَّدَاءَةَ، وَالصِّحَّةَ وَالتَّكَسُّرَ، وَالْحُلُول وَالتَّأْجِيل.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَفِي جَوَازِ تَحَوُّلِهِ بِالأَْعْلَى عَلَى الأَْدْنَى صِفَةً أَوْ قَدْرًا، وَمَنْعِهِ تَرَدُّدٌ، وَعُلِّل الْجَوَازُ بِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْرُوفِ الَّذِي هُوَ الأَْصْل فِي الْحَوَالَةِ.
وَعُلِّل الْمَنْعُ بِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّفَاضُل بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ: تَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِالْقَلِيل عَلَى الْكَثِيرِ، وَبِالصَّحِيحِ عَلَى الْمُكَسَّرِ، وَبِالْجَيِّدِ عَلَى الرَّدِيءِ، وَبِالْمُؤَجَّل عَلَى الْحَال، وَبِالأَْبْعَدِ أَجَلاً عَلَى الأَْقْرَبِ (3) .
__________
(1) نهاية المحتاج 4 / 208، وروضة الطالبين 4 / 28.
(2) الخرشي 4 / 234 ط المطبعة العامرة الشرقية، والكافي 2 / 219، نشر المكتب الإسلامي الطبعة الأولى، والمغني لابن قدامة 4 / 577 ط الرياض، وكشاف القناع 3 / 385، ونهاية المحتاج 4 / 412، وتحفة المحتاج 5 / 230 - 232، وروضة الطالبين 4 / 231.
(3) روضة الطالبين 4 / 231.(16/230)
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُحَال عَلَيْهِ مَدْيُونًا لِلْمُحِيل، وَمِنْ ثَمَّ لاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ التَّسَاوِي بَيْنَ الْمَالَيْنِ الْمُحَال بِهِ وَالْمُحَال عَلَيْهِ جِنْسًا، أَوْ قَدْرًا، أَوْ صِفَةً (1) . وَلِلتَّفْصِيل: (ر: حَوَالَةٌ) .
جَوْرَبٌ
انْظُرْ مَسْحُ الْخُفَّيْنِ.
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية المادة (686) .(16/231)
حَائِطٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الْحَائِطُ فِي اللُّغَةِ الْجِدَارُ، وَالْبُسْتَانُ، وَجَمْعُهُ حِيطَانٌ وَحَوَائِطُ. وَالْفُقَهَاءُ أَيْضًا يُطْلِقُونَ: " الْحَائِطَ " بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ (1) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَائِطِ:
أَوَّلاً - الْحَائِطُ بِمَعْنَى الْجِدَارِ:
2 - الْجِدَارُ قِسْمَانِ: خَاصٌّ وَمُشْتَرَكٌ.
أَمَّا الْجِدَارُ الْخَاصُّ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ (وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَهُمْ) وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْجَارِ وَضْعُ الْجُذُوعِ عَلَى جِدَارِ جَارِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ، وَلاَ يُجْبَرُ الْمَالِكُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ يُنْدَبُ لَهُ لِخَبَرِ لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (2) . وَلِقَوْل النَّبِيِّ
__________
(1) المعجم الوسيط، والمصباح المنير، والنهاية في غريب الحديث مادة (حوط) ، والفتاوى الهندية 4 / 97، والبناية 10 / 225، ومطالب أولي النهى 4 / 109.
(2) حديث: " لا ضرر ولا ضرار " أخرجه مالك في الموطأ (2 / 745 - ط الحلبي) من حديث يحيى المازني مرسلا، وقال النووي: له طرق يقوي بعضها بعضا. كذا في الأربعين النووية بشرحها (جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي ص 286 - نشر دار المعرفة) .(16/231)
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ يَحِل مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسِهِ (1) ".
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ (2) . وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ (3) .
وَإِذَا انْهَدَمَ الْجِدَارُ الْخَاصُّ فَإِنَّهُ لاَ يُجْبَرُ مَالِكُهُ عَلَى بِنَائِهِ، وَيُقَال لِلآْخَرِ: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ إِنْ شِئْتَ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فِي بَابِ الصُّلْحِ وَالْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ (4) .
__________
(1) حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه " أخرجه الدارقطني (3 / 26 - ط دار المحاسن) من حديث أبي قرة الرقاشي، وفي إسناده مقال، وقد أورد ابن حجر في التلخيص شواهد تقويه. (التلخيص الحبير 3 / 46 - 47 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) مجلة الأحكام العدلية م (1316) ، وشرح الزرقاني 6 / 65 ط دار الفكر، والمدونة 4 / 431، والأشباه والنظائر للسيوطي / 86 ط دار الكتب العلمية، ونهاية المحتاج 4 / 405، وحاشية الجمل 3 / 363، 4 / 431، وما بعدها، والمغني 4 / 555، 556، وروضة الطالبين 4 / 211، 212.
(3) حديث: " لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 110 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1230 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم.
(4) جواهر الإكليل 2 / 122، وشرح الزرقاني 6 / 262، والمغني 4 / 566، 569.(16/232)
وَأَمَّا الْحَائِطُ الْمُشْتَرَكُ فَالْكَلاَمُ فِيهِ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ:
الْمَوْضِعُ الأَْوَّل: الاِنْتِفَاعُ بِهِ:
3 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ يُمْنَعُ كُل وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ مِمَّا يُغَيِّرُ الْجِدَارَ الْمُشْتَرَكَ كَغَرْزِ وَتَدٍ، وَفَتْحِ كَوَّةٍ، أَوْ وَضْعِ خَشَبَةٍ لاَ يَتَحَمَّلُهَا إِلاَّ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ كَسَائِرِ الأَْمْوَال الْمُشْتَرَكَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِ غَيْرِهِ، وَتَصَرُّفٌ فِيهِ بِمَا يَضُرُّ بِهِ، فَلاَ يَسْتَقِل أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِالاِنْتِفَاعِ.
وَأَمَّا الاِسْتِنَادُ إِلَيْهِ وَإِسْنَادُ شَيْءٍ إِلَيْهِ لاَ يَضُرُّهُ فَلاَ بَأْسَ بِهِ (1) . وَيُرْجَعُ لِتَفْصِيل ذَلِكَ إِلَى مَوَاطِنِهِ فِي أَبْوَابِ الصُّلْحِ وَالْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ.
الْمَوْضِعُ الثَّانِي: قِسْمَةُ الْجِدَارِ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجِدَارَ الْمُشْتَرَكَ إِذَا كَانَ مِمَّا يَحْتَمِل الْقِسْمَةَ بِلاَ ضَرَرٍ فَأَرَادَ الشُّرَكَاءُ قِسْمَتَهُ جَازَ. وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ الْقِسْمَةَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ وَأَبَاهَا الآْخَرُ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ وَآرَاءٍ يُرْجَعُ لِتَفْصِيلِهَا إِلَى مُصْطَلَحِ: (قِسْمَةٌ) . (2)
__________
(1) ابن عابدين 5 / 173، ومواهب الجليل 5 / 150، وحاشية الجمل 3 / 365، 366، وروضة الطالبين 4 / 212، 213، 214، والمغني 4 / 554.
(2) ابن عابدين 3 / 355، والاختيار لتعليل المختار 2 / 75، وجواهر الإكليل 2 / 122، والقوانين الفقهية ص 290، وشرح الزرقاني 6 / 62، وروضة الطالبين 4 / 214، 215، والمغني لابن قدامة 4 / 575.(16/232)
الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: الْعِمَارَةُ:
5 - إِذَا تَهَدَّمَ الْحَائِطُ الْمُشْتَرَكُ فَطَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ تَعْمِيرَهُ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُجْبَرُ الشَّرِيكُ الآْخَرُ عَلَى الاِشْتِرَاكِ فِي عِمَارَتِهِ إِذَا تَعَذَّرَ قِسْمَةُ أَسَاسِهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَائِطُ الْمُشْتَرَكُ يَحْتَمِل أَسَاسُهُ الْقِسْمَةَ بِأَنْ كَانَ عَرِيضًا جَازَ (1) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْقَدِيمُ لَدَى الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّ فِي تَرْكِ بِنَائِهِ إِضْرَارًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ؛ لأَِنَّهُ بِنَاءُ حَائِطٍ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ كَالاِبْتِدَاءِ (2) .
التَّلَفُ بِسُقُوطِ الْحَائِطِ:
6 - إِذَا مَال الْحَائِطُ إِلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَطُولِبَ صَاحِبُهُ بِنَقْضِهِ وَأُشْهِدَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْقُضْهُ فِي مُدَّةٍ يَقْدِرُ عَلَى نَقْضِهِ فِيهَا حَتَّى سَقَطَ ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ؛ لأَِنَّ الْحَائِطَ لَمَّا مَال إِلَى الطَّرِيقِ فَقَدِ اشْتَغَل هَوَاءُ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ بِمِلْكِهِ، وَدَفْعُهُ فِي يَدِهِ، فَإِذَا تُقُدِّمَ إِلَيْهِ وَطُولِبَ بِتَفْرِيغِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ صَارَ مُتَعَدِّيًا. بِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 355 ط دار إحياء التراث العربي.
(2) مواهب الجليل 5 / 150، وشرح الزرقاني 6 / 62، وروضة الطالبين 4 / 215، 216 ط المكتب الإسلامي، والمغني 4 / 565، 566.(16/233)
الْحَنَابِلَةِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ مَنْ بَنَى حَائِطًا ثُمَّ مَال إِلَى غَيْرِ مِلْكِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُخْتَصًّا كَهَوَاءِ جَارِهِ، أَوْ مُشْتَرَكًا كَالطَّرِيقِ فَلَمْ يَهْدِمْهُ حَتَّى أَتْلَفَ شَيْئًا لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَوْ أَمْكَنَهُ وَطُولِبَ بِهِ؛ لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ بَنَاهُ فِي مِلْكِهِ وَلَمْ يَسْقُطْ بِفِعْلِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ سَقَطَ مِنْ غَيْرِ مَيَلاَنٍ (2) . وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل فِي أَبْوَابِ الضَّمَانِ وَالدِّيَاتِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ أَحْكَامِ الْحَائِطِ الْمَائِل.
تَنْقِيشُ حَائِطِ الْقِبْلَةِ:
7 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ كَرَاهَةَ النُّقُوشِ عَلَى الْمِحْرَابِ وَحَائِطِ الْقِبْلَةِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَشْغَل قَلْبَ الْمُصَلِّي، كَمَا أَنَّهُ إِخْرَاجٌ لِلْمَال فِي غَيْرِ وَجْهِهِ (3) .
__________
(1) البناية 10 / 225 - 227، والمدونة 6 / 447، وروضة الطالبين 9 / 321، ومغني المحتاج 4 / 86 نشر دار إحياء التراث العربي، وكشاف القناع 4 / 124.
(2) كشاف القناع 4 / 124، وروضة الطالبين 9 / 321، ومغني المحتاج 4 / 86.
(3) الفتاوى الهندية 5 / 319، وابن عابدين 1 / 442، وإعلام الساجد بأحكام المساجد ص 335 - 337، والآداب الشرعية 3 / 393، ونيل الأوطار 2 / 174، نشر دار الجيل، وسبل السلام 1 / 158، وعمدة القاري 4 / 206.(16/233)
وَقِيل: لاَ بَأْسَ بِتَنْقِيشِ الْمَسْجِدِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الإِْسْلاَمِ. هَذَا إِذَا فَعَلَهُ مِنْ مَال نَفْسِهِ، أَمَّا تَنْقِيشُ الْمَسْجِدِ مِنْ مَال الْوَقْفِ فَغَيْرُ جَائِزٍ، وَيَغْرَمُ الَّذِي يُخْرِجُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ نَاظِرًا أَمْ غَيْرَهُ (1) . وَلِلتَّفْصِيل: (ر: مَسْجِدٌ) .
كِتَابَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْحَائِطِ:
8 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ نَقْشِ الْحِيطَانِ بِالْقُرْآنِ مَخَافَةَ السُّقُوطِ تَحْتَ أَقْدَامِ النَّاسِ، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ حُرْمَةَ نَقْشِ الْقُرْآنِ وَاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْحِيطَانِ لِتَأْدِيَتِهِ إِلَى الاِمْتِهَانِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ (2) . وَلِلتَّفْصِيل: (ر: قُرْآنٌ) .
إِجَارَةُ الْحَائِطِ:
9 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) جَوَازَ إِجَارَةِ حَائِطٍ لِحَمْل خَشَبٍ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ فِي ذَلِكَ نَفْعًا مُبَاحًا، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ وَالشَّافِعِيَّةَ فِي قَوْلٍ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ إِجَارَةِ
__________
(1) إعلام الساجد بأحكام المساجد ص 336، 337، وعمدة القاري 4 / 206، والآداب الشرعية 3 / 393.
(2) المجموع 2 / 70 نشر المكتبة السلفية، والتبيان في آداب حملة القرآن ص 104، 112، والفتاوى الهندية 5 / 323، وجواهر الإكليل 1 / 115، والمغني لابن قدامة 7 / 9، 10 ط الرياض.(16/234)
الْحَائِطِ أَنْ تَكُونَ لِحَمْل خَشَبٍ مَعْلُومٍ وَلِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ فَلاَ يَشْتَرِطُونَ فِيهَا بَيَانَ الْمُدَّةِ؛ لأَِنَّهُ عَقْدٌ يَرِدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَتَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى دَوَامِهِ فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ التَّأْقِيتُ كَالنِّكَاحِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِجَارَةِ الْحَائِطِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ الْمُسْتَأْجِرُ بِنَاءً أَوْ يَضَعَ عَلَيْهِ خَشَبًا؛ لأَِنَّ وَضْعَ الْجِذْعِ وَبِنَاءَ السُّتْرَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الثِّقَل وَالْخِفَّةِ، وَالثَّقِيل مِنْهُ يَضُرُّ بِالْحَائِطِ وَالضَّرَرُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْعَقْدِ دَلاَلَةً. وَلَيْسَ لِذَلِكَ الْمُضِرِّ حَدٌّ مَعْلُومٌ فَيَصِيرُ مَحَل الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولاً (2) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لَوْ كَانَ لَهُ وَضْعُ خَشَبَةٍ عَلَى جِدَارِ غَيْرِهِ لَمْ يَمْلِكْ إِعَارَتَهُ وَلاَ إِجَارَتَهُ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِحَاجَتِهِ الْمَاسَّةِ إِلَى وَضْعِ خَشَبِهِ، وَلاَ حَاجَةَ إِلَى وَضْعِ خَشَبِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَمْلِكْهُ، وَكَذَلِكَ لاَ يَمْلِكُ بَيْعَ حَقِّهِ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ، وَلاَ الْمُصَالَحَةَ عَنْهُ لِلْمَالِكِ وَلاَ لِغَيْرِهِ.
وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْحَائِطِ إِعَارَةَ الْحَائِطِ أَوْ إِجَارَتَهُ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ هَذَا الْمُسْتَحِقَّ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ لأَِنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى مَنْعِ ذِي الْحَقِّ مِنْ حَقِّهِ فَلَمْ يَمْلِكْهُ كَمَنْعِهِ.
__________
(1) مواهب الجليل 5 / 423، ومطالب أولي النهى 3 / 602، ومغني المحتاج 2 / 188، نشر دار إحياء التراث العربي.
(2) الفتاوى الهندية 4 / 442، والبدائع 4 / 181.(16/234)
وَمَنْ مَلَكَ وَضْعَ خَشَبِهِ عَلَى حَائِطٍ فَزَال بِسُقُوطِهِ أَوْ قَلْعِهِ أَوْ سُقُوطِ الْحَائِطِ، ثُمَّ أُعِيدَ فَلَهُ إِعَادَةُ خَشَبِهِ؛ لأَِنَّ السَّبَبَ الْمُجَوِّزَ لِوَضْعِهِ مُسْتَمِرٌّ فَاسْتَمَرَّ اسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ. وَإِنْ زَال السَّبَبُ مِثْل أَنْ يَخْشَى عَلَى الْحَائِطِ مِنْ وَضْعِهِ عَلَيْهِ، أَوِ اسْتَغْنَى عَنْ وَضْعِهِ لَمْ تَجُزْ إِعَادَتُهُ لِزَوَال السَّبَبِ الْمُبِيحِ (1) .
الدَّعْوَى فِي الْحَائِطِ:
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إِذَا تَدَاعَيَا حَائِطًا بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا وَتَسَاوَيَا فِي كَوْنِهِ مُتَّصِلاً بِبِنَائِهِمَا اتِّصَالاً لاَ يُمْكِنُ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ بِنَاءِ الْحَائِطِ، مِثْل اتِّصَال الْبِنَاءِ بِالطِّينِ، أَوْ تَسَاوَيَا فِي كَوْنِهِ مَحْلُولاً مِنْ بِنَائِهِمَا، فَهُمَا سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا وَيُجْعَل بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَبِهِ قَال أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ مُتَّصِلاً بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ فَهُوَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (2) .
وَإِنْ كَانَ لأَِحَدِهِمَا خَشَبٌ مَوْضُوعٌ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُرَجَّحُ دَعْوَاهُ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَسْمَحُ بِهِ الْجَارُ، وَقَدْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمَنْعِ مِنْهُ.
__________
(1) المغني 4 / 557.
(2) الفتاوى البزازية المطبوع على هامش الفتاوى الهندية 6 / 426، والقليوبي 2 / 317، 318، والمغني 4 / 560، 561، والقوانين الفقهية ص 200 - 201 ط دار العلم.(16/235)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا مُحَمَّدًا أَنَّهُ لاَ تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِالْجِذْعِ الْوَاحِدِ؛ لأَِنَّ الْحَائِطَ لاَ يُبْنَى لَهُ، وَيُرَجَّحُ بِالْجِذْعَيْنِ؛ لأَِنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى بِهِمَا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُرَجَّحُ بِهِ الدَّعْوَى؛ لأَِنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِهِ بِوَضْعِ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْبَانِيَ عَلَيْهِ، وَالزَّارِعَ فِي الأَْرْضِ.
وَكَذَا لاَ تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِكَوْنِ الدَّوَاخِل إِلَى أَحَدِهِمَا، وَلاَ بِكَوْنِ الآْجُرِّ الصَّحِيحِ مِمَّا يَلِي مِلْكَ أَحَدِهِمَا، وَإِقْطَاعُ الآْجُرِّ إِلَى مِلْكِ الآْخَرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (1) .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُحْكَمُ بِهِ لِمَنْ إِلَيْهِ وَجْهُ الْحَائِطِ وَمَعَاقِدُ الْقُمُطِ؛ لِمَا رَوَى نِمْرَانُ بْنُ جَارِيَةَ التَّمِيمِيُّ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ قَوْمًا اخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُصٍّ فَبَعَثَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فَحَكَمَ بِهِ لِمَنْ تَلِيهِ مَعَاقِدُ الْقُمُطِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَال: أَصَبْتَ
__________
(1) حديث: " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " أخرجه الدارقطني في سننه (3 / 110 - ط دار المحاسن) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وضعفه ابن حجر في التلخيص (4 / 208 - ط شركة الطباعة الفنية) ولكن روى البخاري (الفتح 8 / 213 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1336 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس مرفوعا: " اليمين على المدعى عليه " وأخرج البيهقي في سننه (10 / 252 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس كذلك قوله: " البينة على المدعي " وإسناده صحيح.(16/235)
وَأَحْسَنْتَ (1) وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلأَِنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ مَنْ بَنَى حَائِطًا جَعَل وَجْهَ الْحَائِطِ إِلَيْهِ (2) .
هَدْمُ الْحَائِطِ:
11 - مَتَى هَدَمَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْحَائِطَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا: فَإِنْ خِيفَ سُقُوطُهُ وَوَجَبَ هَدْمُهُ فَلاَ شَيْءَ عَلَى هَادِمِهِ، وَيَكُونُ كَمَا لَوِ انْهَدَمَ بِنَفْسِهِ؛ لأَِنَّهُ فَعَل الْوَاجِبَ وَأَزَال الضَّرَرَ الَّذِي قَدْ يَحْصُل بِسُقُوطِهِ. وَإِنْ هَدَمَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ إِعَادَتُهُ سَوَاءٌ هَدَمَهُ لِحَاجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. وَسَوَاءٌ الْتَزَمَ إِعَادَتَهُ أَوْ لَمْ يَلْتَزِمْ؛ لأَِنَّ الضَّرَرَ حَصَل بِفِعْلِهِ فَلَزِمَ إِعَادَتُهُ. وَمَنْ هَدَمَ حَائِطَ غَيْرِهِ ضَمِنَ نُقْصَانَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى الْبِنَاءِ كَمَا كَانَ؛ لأَِنَّ الْحَائِطَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الأَْمْثَال. وَاسْتَثْنَى بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ حَائِطَ الْمَسْجِدِ (3) .
__________
(1) حديث جارية التميمي أن قوما اختصموا. . . أخرجه ابن ماجه (2 / 785 - ط الحلبي) . وقال السندي: قلت: دهثم بن قران - يعني الراوي عن نمران - تركوه، وشذ ابن حبان في ذكره في الثقات.
(2) الفتاوى البزازية على هامش الفتاوى الهندية 6 / 426، والقوانين الفقهية / 332، والقليوبي 2 / 318، والمغني 4 / 563.
(3) ابن عابدين 5 / 115، والفتاوى البزازية على هامش الهندية 6 / 420، 426 وما بعدها، والقوانين الفقهية ص 332.(16/236)
بِنَاءُ الْحَائِطِ الْجَدِيدِ:
12 - إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مِلْكَيِ الشَّرِيكَيْنِ حَائِطٌ قَدِيمٌ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا مِنَ الآْخَرِ مُبَانَاتَهُ حَائِطًا يَحْجِزُ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا فَامْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ الْبِنَاءَ وَحْدَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْبِنَاءُ إِلاَّ فِي مِلْكِهِ خَاصَّةً؛ لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ جَارِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَلاَ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ مَا لَهُ فِيهِ رَسْمٌ، وَهَذَا لاَ رَسْمَ لَهُ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا (1) .
وَضْعُ الْخَشَبِ عَلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ:
13 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ وَضْعُ الْجُذُوعِ عَلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْقَافِهِ وَلَوْ دَفَعَ الأُْجْرَةَ؛ لأَِنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ فِي حَقِّ الْكُل، لَكِنَّهُ تُرِكَ فِي حَقِّ الْجَارِ لِلْخَبَرِ الْوَارِدِ فِيهِ، فَوَجَبَ الْبَقَاءُ فِي غَيْرِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ إِذَا جَازَ فِي مِلْكِ الْجَارِ مَعَ أَنَّ حَقَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ وَالضِّيقِ، فَفِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ أَوْلَى (2) .
الإِْحْيَاءُ بِتَحْوِيطِ الأَْرْضِ:
14 - يُعْتَبَرُ تَحْوِيطُ الْحَائِطِ عَلَى الأَْرْضِ، مِمَّا
__________
(1) المغني 4 / 567.
(2) ابن عابدين 3 / 371، والمغني 4 / 555، 556.(16/236)
يَحْصُل بِهِ إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ، وَيُمْلَكُ بِذَلِكَ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 24 ص 248 ج 2)
ثَانِيًا - الْحَائِطُ (الْبُسْتَانُ) :
مَعْلُومِيَّةُ الْحَائِطِ فِي الْمُسَاقَاةِ:
15 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ فِي الْحَائِطِ - عِنْدَ مَنْ يَقُول بِجَوَازِهَا - أَنْ يَكُونَ شَجَرُ الْحَائِطِ مَعْلُومًا إِمَّا بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِالْوَصْفِ، فَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى بُسْتَانٍ لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يُوصَفْ لَهُ، أَوْ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْحَائِطَيْنِ لَمْ تَصِحَّ الْمُسَاقَاةُ؛ لأَِنَّهَا مُعَاوَضَةٌ يَخْتَلِفُ الْغَرَضُ فِيهَا بِاخْتِلاَفِ الأَْعْيَانِ فَلَمْ تَجُزْ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْبَيْعِ. بِهَذَا قَال جُمْهُورُ مَنْ يَرَى جَوَازَ الْمُسَاقَاةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ وُرُودُهَا عَلَى مُعَيَّنٍ مَرْئِيٍّ لِلْمَالِكِ وَالْعَامِل، فَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى مُبْهَمٍ لَمْ يَصِحَّ أَوْ عَلَى غَيْرِ الْمَرْئِيِّ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَالْمُسَاقَاةُ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَرِ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (2) . وَلِلتَّفْصِيل: (ر: مُسَاقَاةٌ) .
__________
(1) الفواكه الدواني 2 / 178، وكشاف القناع 3 / 534، وروضة الطالبين 5 / 151، وبدائع الصنائع 6 / 186.
(2) المراجع السابقة، وأسنى المطالب 2 / 393، 394، وحاشية الجمل 3 / 524.(16/237)
حَائِلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَائِل فِي اللُّغَةِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ حَالَتِ الْمَرْأَةُ حِيَالاً إِذَا لَمْ تَحْمِل. وَيُسْتَعْمَل وَصْفًا لِكُل أُنْثَى لَمْ تَحْمِل مِنَ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ. وَضِدُّ الْحَائِل: الْحَامِل (1) . وَالْحَائِل أَيْضًا: السَّاتِرُ وَالْحَاجِزُ، وَالْحَاجِبُ مِنْ حَال يَحُول حَيْلُولَةً بِمَعْنَى حَجَزَ وَمَنَعَ الاِتِّصَال، يُقَال: حَال النَّهْرُ بَيْنَنَا حَيْلُولَةً أَيْ حَجَزَ (2) . وَلاَ يَخْرُجُ الاِسْتِعْمَال الْفِقْهِيُّ عَنِ الْمَعْنَيَيْنِ السَّابِقَيْنِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
السُّتْرَةُ:
1 - السُّتْرَةُ هِيَ مَا يَنْصِبُهُ الْمُصَلِّي قُدَّامَهُ عَلاَمَةً
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (حول) .
(2) المصباح المنير مادة (حول) .
(3) ابن عابدين 2 / 609، ومطالب أولي النهى 1 / 154، وابن عابدين 1 / 117، وقليوبي 1 / 35، وكشاف القناع 1 / 135.(16/237)
لِلصَّلاَةِ مِنْ عَصًا أَوْ تَسْنِيمِ تُرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَسُمِّيَتْ سُتْرَةً لأَِنَّهَا تَسْتُرُ الْمَارَّ مِنَ الْمُرُورِ أَيْ تَحْجُبُهُ، فَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الْحَائِل بِمَعْنَى الْحَاجِزِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً - حُكْمُ الْحَائِل (بِمَعْنَى غَيْرِ الْحَامِل) :
3 - الْحَوَائِل مِنَ النِّسَاءِ يَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ، كَالْعِدَّةِ مِنَ الطَّلاَقِ أَوِ الْوَفَاةِ، وَإِذَا طُلِّقْنَ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ قُرُوءٍ - حِيَضٍ أَوْ أَطْهَارٍ - عَلَى خِلاَفٍ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، أَوْ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ لِمَنْ لَمْ يَحِضْنَ لِصِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ (2) . (ر: نِكَاحٌ، وَعِدَّةٌ) . وَتَخْتَلِفُ الْحَامِل عَنِ الْحَائِل بِأَحْكَامٍ مُبَيَّنَةٍ فِي مُصْطَلَحَيْ: (حَمْلٌ) (وَحَامِلٌ) .
ثَانِيًا - حُكْمُ الْحَائِل بِمَعْنَى الْحَاجِزِ:
أ - فِي الْوُضُوءِ:
4 - مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لَمْسُ الرَّجُل الْمَرْأَةَ وَعَكْسُهُ دُونَ حَائِلٍ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} (3) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: (ستر) .
(2) ابن عابدين 2 / 600، 601، وجواهر الإكليل 1 / 385، وحاشية القليوبي 4 / 40، 41، والمغني لابن قدامة 7 / 449.
(3) سورة النساء / 43.(16/238)
وَكَذَلِكَ مَسُّ قُبُل الآْدَمِيِّ يَنْتَقِضُ بِهِ الْوُضُوءُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ حَائِلٍ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سِتْرٌ وَلاَ حِجَابٌ فَلْيَتَوَضَّأْ (1) .
وَيَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ حَلَقَةِ الدُّبُرِ عَلَى الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ الْمَرْأَةِ وَلَوْ بِغَيْرِ حَائِلٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّل بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ (3) . وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ اللَّمْسِ فِي الآْيَةِ الْجِمَاعُ، كَمَا فَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (4) .
كَذَلِكَ لاَ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ الْفَرْجِ عِنْدَ
__________
(1) حديث: " إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما ستر ولا حجاب فليتوضأ ". أخرجه ابن حبان (2 / 222 - الإحسان - ط دار الكتب العلمية) من حديث أبي هريرة. ونقل ابن حجر في التلخيص تصحيحه عن الحاكم وابن عبد البر وغيرهما، (التلخيص الحبير 1 / 126 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حاشية الدسوقي 1 / 119، 120، وجواهر الإكليل 1 / 20، وحاشية القليوبي 1 / 32 - 34، وكشاف القناع 1 / 127 - 129، والمغني 1 / 181.
(3) حديث عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ ". أخرجه الترمذي (1 / 133 - ط الحلبي) ، وقال الزيلعي: " وقد مال أبو عمر بن عبد البر إلى تصحيح هذا الحديث ". نصب الراية (1 / 72 - ط المجلس العلمي) .
(4) الاختيار لتعليل المختار 1 / 10، 11.(16/238)
الْحَنَفِيَّةِ وَلَوْ بِغَيْرِ حَائِلٍ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ حِينَ سَأَلَهُ: هَل فِي مَسِّ الذَّكَرِ وُضُوءٌ؟ قَال: لاَ هَل هُوَ إِلاَّ مُضْغَةٌ مِنْكَ أَوْ بَضْعَةٌ مِنْكَ؟ (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (وُضُوءٌ، وَلَمْسٌ) .
ب - فِي الْغُسْل:
5 - مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْل إِيلاَجُ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ عَلَى الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَتَوَارَتِ الْحَشَفَةُ وَجَبَ الْغُسْل (2) . فَإِذَا كَانَ الإِْيلاَجُ بِغَيْرِ حَائِلٍ وَجَبَ الْغُسْل اتِّفَاقًا. أَنْزَل أَوْ لَمْ يُنْزِل (3) . أَمَّا إِذَا كَانَ
__________
(1) حديث طلق بن علي: " هل هو إلا مضغة منك أو بضعة منك " أخرجه النسائي (1 / 101 - ط المكتبة التجارية) والطحاوي في شرح المعاني (1 / 76 - ط مطبعة الأنوار المحمدية) وقال الطحاوي: " هذا حديث صحيح مستقيم الإسناد ".
(2) حديث: " إذا التقى الختانان وغابت الحشفة وجب الغسل " أخرجه عبد الله بن وهب في مسنده كما في نصب الراية (1 / 84 - ط المجلس العلمي بالهند) ونقل الزيلعي عن عبد الحق الإشبيلي أنه قال: (إسناده ضعيف جدا) . وأخرج البخاري (الفتح 1 / 395 - ط السلفية) ومسلم (1 / 271 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة مرفوعا: " إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها، فقد وجب عليه الغسل ". وأخرج مسلم (1 / 272 - ط الحلبي) من حديث عائشة: " إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان، فقد وجب الغسل ".
(3) ابن عابدين 1 / 111، ومواهب الجليل للحطاب 1 / 308، وحاشية القليوبي 1 / 62، وكشاف القناع 1 / 143.(16/239)
بِحَائِلٍ فَفِيهِ خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (غُسْلٌ، وَجَنَابَةٌ) .
ج - فِي اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ:
6 - الْفَرْضُ فِي اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي الصَّلاَةِ عَلَى مَنْ يُعَايِنُ الْكَعْبَةَ إِصَابَةُ عَيْنِهَا، أَيْ مُقَابَلَةُ ذَاتِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ يَقِينًا، وَهَذَا بِالاِتِّفَاقِ (1) .
أَمَّا غَيْرُ الْمُعَايِنِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ فَهُوَ كَالْغَائِبِ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَيَكْفِيهِ اسْتِقْبَال الْجِهَةِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ لِمَنْ قَرُبَ مِنْهَا إِصَابَةُ الْعَيْنِ، ثُمَّ فَصَّل الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِنْ تَعَذَّرَتْ إِصَابَةُ الْعَيْنِ بِحَائِلٍ أَصْلِيٍّ، كَجَبَلٍ وَنَحْوِهِ اجْتَهَدَ إِلَى عَيْنِهَا، وَمَعَ حَائِلٍ غَيْرِ أَصْلِيٍّ كَالْمَنَازِل لاَ بُدَّ مِنْ تَيَقُّنِهِ مُحَاذَاةَ الْقِبْلَةِ بِنَظَرٍ أَوْ خَبَرِ ثِقَةٍ (3) .
وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْحَائِل الْخِلْقِيِّ وَالْحَادِثِ فَقَالُوا: لَوْ كَانَ حَاضِرًا بِمَكَّةَ وَحَال بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ خِلْقِيٌّ كَجَبَلٍ، أَوْ حَادِثٌ كَبِنَاءٍ جَازَ لَهُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 287، وحاشية الدسوقي 1 / 223، ونهاية المحتاج 1 / 418، وكشاف القناع 1 / 304.
(2) ابن عابدين 1 / 287.
(3) حاشية الدسوقي 1 / 223، والحطاب 1 / 507، وكشاف القناع 1 / 305.(16/239)
الاِجْتِهَادُ إِذَا فَقَدَ ثِقَةً يُخْبِرُهُ؛ لِمَا فِي تَكْلِيفِهِ الْمُعَايَنَةَ مِنَ الْمَشَقَّةِ (1) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ ج 4 ص 64، 65) .
د - مَسُّ الْمُصْحَفِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ بِالْحَدَثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِلاَ حَائِلٍ. قَال تَعَالَى: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} (2) . وَفِي كِتَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنْ لاَ يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ (3) .
وَاخْتَلَفُوا فِي مَسِّهِ بِحَائِلٍ، كَغِلاَفٍ أَوْ كُمٍّ أَوْ نَحْوِهِمَا.
فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ بِالتَّحْرِيمِ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ بِحَائِلٍ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ كَانَ الْحَائِل ثَخِينًا، حَيْثُ يُعَدُّ مَاسًّا عُرْفًا. وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِحُرْمَةِ مَسِّ الْمُصْحَفِ وَإِنْ مَسَّهُ بِقَضِيبٍ وَنَحْوِهِ وَكَذَلِكَ مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ وَحَمْلُهُ وَإِنْ بِعَلاَّقَةٍ أَوْ وِسَادَةٍ إِلاَّ بِأَمْتِعَةٍ قَصَدَ حَمْلَهَا (4) .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ جَوَازُ مَسِّ الْمُصْحَفِ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 418.
(2) سورة الواقعة / 79.
(3) ابن عابدين 1 / 117، وجواهر الإكليل 1 / 21، والحطاب 1 / 303، والقليوبي 1 / 35، والمغني 1 / 147.
(4) جواهر الإكليل 1 / 21، والحطاب 1 / 303، وحاشية القليوبي 1 / 35.(16/240)
لِلْمُحْدِثِ بِحَائِلٍ مِمَّا لاَ يَتْبَعُهُ فِي الْبَيْعِ كَكِيسٍ وَكُمٍّ (1) . لأَِنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا وَرَدَ عَنْ مَسِّهِ، وَمَعَ الْحَائِل إِنَّمَا يَكُونُ الْمَسُّ لِلْحَائِل دُونَ الْمُصْحَفِ (2) . وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ الْحَائِل الْمُنْفَصِل وَالْمُتَّصِل فَقَالُوا: يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِلْمُحْدِثِ إِلاَّ بِغِلاَفٍ مُتَجَافٍ - أَيْ غَيْرِ مَخِيطٍ - أَوْ بِصُرَّةٍ. وَالْمُرَادُ بِالْغِلاَفِ مَا كَانَ مُنْفَصِلاً كَالْخَرِيطَةِ وَنَحْوِهَا؛ لأَِنَّ الْمُتَّصِل بِالْمُصْحَفِ مِنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ الْفَتْوَى (3) . وَتَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ: (مُصْحَفٌ) .
هـ - الاِقْتِدَاءُ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ:
8 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الاِقْتِدَاءُ إِذَا حَال بَيْنَ الإِْمَامِ وَالْمُقْتَدِي جِدَارٌ كَبِيرٌ أَوْ بَابٌ مُغْلَقٌ يَمْنَعُ الْمُقْتَدِيَ مِنَ الْوُصُول إِلَى إِمَامِهِ لَوْ قَصَدَ الْوُصُول إِلَيْهِ. وَيَصِحُّ إِذَا كَانَ الْحَائِل صَغِيرًا لاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْجِدَارُ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا فَقَالُوا بِجَوَازِ الاِقْتِدَاءِ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 134، 135.
(2) نفس المرجع.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 117.(16/240)
سَمَاعِ الإِْمَامِ أَوْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ أَوْ رُؤْيَةِ فِعْل أَحَدِهِمَا (1) .
وَاتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الاِقْتِدَاءِ إِذَا حَال بَيْنَ الإِْمَامِ وَالْمُقْتَدِي نَهْرٌ كَبِيرٌ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، وَمِثْلُهُ الطَّرِيقُ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ تَجْرِيَ فِيهِ عَجَلَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ (2) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (اقْتِدَاءٌ ج 6 ص 23، 24) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 87، ومراقي الفلاح ص 160، والدسوقي 1 / 336، ومغني المحتاج 1 / 250، والإنصاف 2 / 295 - 297.
(2) ابن عابدين 1 / 393، والدسوقي 1 / 336، ومغني المحتاج 1 / 249، وكشاف القناع 1 / 292.(16/241)
حَاجِبٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَاجِبُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْحَجْبِ أَيِ: الْمَنْعِ، يُقَال: حَجَبَهُ أَيْ: مَنَعَهُ عَنِ الدُّخُول أَوِ الْوُصُول، وَكُل شَيْءٍ مَنَعَ شَيْئًا فَقَدْ حَجَبَهُ، وَمِنْهُ حَجْبُ الإِْخْوَةِ الأُْمَّ عَنِ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَحَجْبُ الاِبْنِ الأَْخَ.
وَقِيل لِلْبَوَّابِ: حَاجِبٌ؛ لأَِنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الدُّخُول، وَمِنْهُ حَاجِبُ الأَْمِيرِ وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا. وَالْحَاجِبَانِ: الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ فَوْقَ الْعَيْنَيْنِ بِلَحْمِهِمَا وَشَعْرِهِمَا، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِكَوْنِهِمَا كَالْحَاجِبَيْنِ لِلْعَيْنِ فِي الذَّبِّ عَنْهُمَا.
وَقِيل: الْحَاجِبُ: الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الْعَظْمِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَِنَّهُ يَحْجُبُ عَنِ الْعَيْنِ شُعَاعَ الشَّمْسِ (1) . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس المحيط، لسان العرب، والمفردات في غريب القرآن مادة: (حجب) .(16/241)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْبَوَّابُ وَالنَّقِيبُ:
2 - عَقَدَ الشَّيْخُ أَبُو يَحْيَى زَكَرِيَّا الأَْنْصَارِيُّ صِلَةً وَمُقَارَنَةً بَيْنَ الْحَاجِبِ وَبَيْنَ كُلٍّ مِنَ الْبَوَّابِ وَالنَّقِيبِ فَقَال:
الْحَاجِبُ: مَنْ يَدْخُل عَلَى الْقَاضِي لِلاِسْتِئْذَانِ. وَالْبَوَّابُ: مَنْ يَقْعُدُ بِالْبَابِ لِلإِْحْرَازِ.
وَالنَّقِيبُ: مَنْ وَظِيفَتُهُ تَرْتِيبُ الْخُصُومِ وَالإِْعْلاَمُ بِمَنَازِل النَّاسِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
بَحَثَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ الْحَاجِبِ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا: أَوَّلاً: غَسْل الْحَاجِبِ فِي الْوُضُوءِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ غَسْل الْحَاجِبِ الْخَفِيفِ. . شَعْرًا وَمَنْبَتًا بِإِيصَال الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ إِنْ كَانَتْ تَظْهَرُ تَحْتَ الشَّعْرِ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ؛ لأَِنَّ الَّذِي لاَ يَسْتُرُهُ شَعْرٌ يُشْبِهُ مَا لاَ شَعْرَ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ غَسْل الشَّعْرِ تَبَعًا لِلْمَحَل، وَلأَِنَّهُ لاَ حَرَجَ فِي غَسْل مَنْبَتِ شَعْرِ الْحَاجِبِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِخِفَّةِ الشَّعْرِ.
4 - وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ مِنَ الْحَاجِبِ الْكَثِيفِ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ)
__________
(1) لسان العرب، وأسنى المطالب 4 / 297 - 298.(16/242)
إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ غَسْل أُصُول شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ إِذَا كَانَا كَثِيفَيْنِ وَيُكْتَفَى بِغَسْل ظَاهِرِ الشَّعْرِ؛ لأَِنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا دَاخِلَيْنِ فِي حَدِّ الْوَجْهِ إِلاَّ أَنَّ فِي إِيجَابِ غَسْل أُصُول شَعْرِهِمَا حَرَجًا، وَلأَِنَّ مَحَل الْفَرْضِ اسْتَتَرَ بِحَائِلٍ وَصَارَ بِحَالٍ لاَ يُوَاجِهُ النَّاظِرَ إِلَيْهِ فَسَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ وَتَحَوَّل إِلَى الْحَائِل.
لَكِنْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ تَخْلِيل شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ أَوْ غَسْل بَاطِنِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُسَنُّ تَخْلِيل الشَّعْرِ الْكَثِيفِ بِالْحَاجِبَيْنِ فِي الْوُضُوءِ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ، أَمَّا الْمُحْرِمُ فَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ لِئَلاَّ يَسْقُطَ الشَّعْرُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ: يُكْرَهُ التَّخْلِيل.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ غَسْل بَاطِنِ شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ إِذَا كَانَ كَثِيفًا فِي الْوُضُوءِ. خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ غَسْل الْحَاجِبَيْنِ شَعْرًا وَبَشَرًا، أَيْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَإِنْ كَانَ كَثِيفًا لِنُدْرَةِ كَثَافَتِهِ فَأُلْحِقَ بِالْغَالِبِ وَهُوَ الشَّعْرُ الْخَفِيفُ (1) .
ثَانِيًا - صَلاَةُ الْعَاجِزِ إِيمَاءً بِالْحَاجِبِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ
__________
(1) رد المحتار 1 / 61، وشرح الزرقاني 1 / 56، ونهاية المحتاج 1 / 154، وكشاف القناع 1 / 96 - 97.(16/242)
الْقِيَامَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، وَأَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ الْمَفْرُوضَةُ إِلاَّ بِهَذِهِ الأَْرْكَانِ - وَغَيْرِهَا - لِلْقَادِرِ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ إِذَا عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنِ الْقِيَامِ يُصَلِّي قَاعِدًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ. فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يُصَلِّي قَاعِدًا بِالإِْيمَاءِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْقُعُودِ يَسْتَلْقِي وَيُومِئُ إِيمَاءً؛ لأَِنَّ سُقُوطَ أَيٍّ مِنَ الأَْرْكَانِ لِمَكَانِ الْعُذْرِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْعُذْرِ، وَالإِْيمَاءُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ هُوَ تَحْرِيكُ الرَّأْسِ.
6 - وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ عَجَزَ عَنِ الإِْيمَاءِ بِتَحْرِيكِ رَأْسِهِ، وَاخْتِلاَفُهُمْ هُنَا يَحْسُنُ مَعَهُ إِيرَادُ كُل مَذْهَبٍ عَلَى حِدَةٍ.
الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ عَجَزَ عَنِ الإِْيمَاءِ وَهُوَ تَحْرِيكُ الرَّأْسِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا، فَإِنْ نَالَتْهُ مَشَقَّةٌ صَلَّى جَالِسًا، فَإِنْ نَالَتْهُ مَشَقَّةٌ صَلَّى نَائِمًا يُومِئُ بِرَأْسِهِ، فَإِنْ نَالَتْهُ مَشَقَّةٌ سَبَّحَ (1) .
أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ الإِْيمَاءُ بِغَيْرِ تَحْرِيكِ الرَّأْسِ كَالْحَاجِبِ لَمَا كَانَ مَعْذُورًا، وَلأَِنَّ الإِْيمَاءَ
__________
(1) حديث: " ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يصلي المريض قائما، فإن نالته مشقة صلى جالسا، فإن نالته مشقة صلى نائما يومئ برأسه، فإن نالته مشقة سبح " ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (2 / 149 - ط القدسي) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وقال: لم يروه(16/243)
لَيْسَ بِصَلاَةٍ حَقِيقِيَّةٍ، وَلِهَذَا لاَ يَجُوزُ التَّنَفُّل بِهِ فِي حَالَةِ الاِخْتِيَارِ، وَلَوْ كَانَ صَلاَةً لَجَازَ كَمَا لَوْ تَنَفَّل قَاعِدًا إِلاَّ أَنَّهُ أُقِيمَ مُقَامَ الصَّلاَةِ بِالشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِالإِْيمَاءِ بِالرَّأْسِ فَلاَ يُقَامُ غَيْرُهُ مُقَامَهُ.
وَقَال زُفَرُ: لَوْ عَجَزَ عَنِ الإِْيمَاءِ بِتَحْرِيكِ الرَّأْسِ يُومِئُ بِالْحَاجِبَيْنِ أَوَّلاً، فَإِنْ عَجَزَ فَبِالْعَيْنَيْنِ، فَإِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ؛ لأَِنَّ الصَّلاَةَ فَرْضٌ دَائِمٌ لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بِالْعَجْزِ، فَمَا عَجَزَ عَنْهُ يَسْقُطُ وَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ بِقَدْرِهِ، فَإِذَا قَدَرَ بِالْحَاجِبَيْنِ كَانَ الإِْيمَاءُ بِهِمَا أَوْلَى لأَِنَّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الرَّأْسِ، فَإِنْ عَجَزَ يُومِئُ بِعَيْنَيْهِ لأَِنَّهُمَا مِنَ الأَْعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ، وَجَمِيعُ الْبَدَنِ ذُو حَظٍّ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَكَذَا الْعَيْنَانِ، فَإِنْ عَجَزَ فَبِالْقَلْبِ؛ لأَِنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ ذُو حَظٍّ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ النِّيَّةُ، أَلاَ تَرَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطُ صِحَّتِهَا، فَعِنْدَ الْعَجْزِ تَنْتَقِل إِلَيْهِ.
وَقَال الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: يُومِئُ بِعَيْنَيْهِ وَحَاجِبَيْهِ وَلاَ يُومِئُ بِقَلْبِهِ؛ لأَِنَّ أَرْكَانَ الصَّلاَةِ تُؤَدَّى بِالأَْعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ، أَمَّا الْبَاطِنَةُ فَلاَ حَظَّ لَهَا مِنْ أَرْكَانِهَا بَل لَهَا حَظٌّ مِنَ الشَّرْطِ وَهُوَ النِّيَّةُ، وَهِيَ قَائِمَةٌ أَيْضًا عِنْدَ الإِْيمَاءِ فَلاَ يُؤَدَّى بِهِ الأَْرْكَانُ وَالشَّرْطُ جَمِيعًا (1) .
وَقَال الْمَازِرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ إِلاَّ عَلَى النِّيَّةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 105 - 107(16/243)
الإِْيمَاءِ بِطَرْفِهِ أَوْ حَاجِبِهِ فَإِنَّهُ يَفْعَل مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وُجُوبًا وَيَكُونُ مُصَلِّيًا بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إِلاَّ عَلَى النِّيَّةِ وَجَبَتْ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ عَجَزَ الْمُكَلَّفُ عَنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ بِهَيْئَتِهَا الأَْصْلِيَّةِ أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ، وَالسُّجُودُ أَخْفَضُ مِنَ الرُّكُوعِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الإِْيمَاءِ بِرَأْسِهِ فَبِطَرْفِهِ، وَمِنْ لاَزِمِهِ الإِْيمَاءُ بِجَفْنِهِ وَحَاجِبِهِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِهِمْ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ هُنَا إِيمَاءٌ لِلسُّجُودِ أَخْفَضُ وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ عَجَزَ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوْمَأَ بِهِمَا بِرَأْسِهِ مَا أَمْكَنَهُ، وَيَكُونُ سُجُودُهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ، فَإِنْ عَجَزَ أَوْمَأَ بِطَرَفِهِ وَنَوَى بِقَلْبِهِ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ جَمَاعَةٍ لاَ يَلْزَمُهُ، وَصَوَّبَهُ فِي الْفُرُوعِ (1) . وَلَمْ نَقِفْ عَلَى نَصٍّ لَهُمْ فِي الإِْيمَاءِ بِالْحَاجِبِ.
ثَالِثًا: الأَْخْذُ مِنْ شَعْرِ الْحَاجِبِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الأَْخْذِ مِنْ شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ لِلرَّجُل وَالْمَرْأَةِ وَيُنْظَرُ الْخِلاَفُ فِي ذَلِكَ وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَنَمُّصٌ) .
رَابِعًا: الْجِنَايَةُ عَلَى الْحَاجِبِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى شَعْرِ الْحَاجِبِ إِذَا لَمْ يَنْبُتْ الدِّيَةَ، وَفِي أَحَدِ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 57، ونهاية المحتاج 1 / 450، وكشاف القناع 1 / 499، والمغني 2 / 148 - 149.(16/244)
الْحَاجِبَيْنِ نِصْفَ الدِّيَةِ، قَالُوا: لأَِنَّ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ إِتْلاَفًا لِلْجَمَال عَلَى الْكَمَال وَإِتْلاَفًا لِلْمَنْفَعَةِ أَيْضًا؛ لأَِنَّ الْحَاجِبَ يَرُدُّ الْعَرَقَ عَنِ الْعَيْنِ وَيُفَرِّقُهُ.
وَلاَ فَرْقَ عِنْدَهُمْ فِي هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ كَوْنِ الْحَاجِبِ كَثِيفًا أَوْ خَفِيفًا، جَمِيلاً أَوْ قَبِيحًا، أَوْ كَوْنِهِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ؛ لأَِنَّ سَائِرَ مَا فِيهِ الدِّيَةُ مِنَ الأَْعْضَاءِ لاَ يَفْتَرِقُ فِيهِ الْحَال بِذَلِكَ. وَقَالُوا: إِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْحَاجِبَيْنِ بِذَهَابِهِمَا عَلَى وَجْهٍ لاَ يُرْجَى عَوْدُهُمَا بِإِتْلاَفِ مَنْبَتِ الشَّعْرِ، فَإِنْ رُجِيَ عَوْدُهُمَا فِي مُدَّةٍ انْتَظَرَ إِلَيْهَا، فَإِنْ عَادَ الشَّعْرُ قَبْل أَخْذِ الدِّيَةِ لَمْ تَجِبْ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَ أَخْذِهَا رُدَّتْ.
وَلاَ قِصَاصَ عِنْدَهُمْ فِي شَعْرِ الْحَاجِبِ؛ لأَِنَّ إِتْلاَفَهُ يَكُونُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى مَحَلِّهِ - مَنْبَتِهِ - وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ فَلاَ تُمْكِنُ الْمُسَاوَاةُ فِيهِ، فَلاَ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى شَعْرِ الْحَاجِبِ إِنْ لَمْ يَنْبُتْ حُكُومَةً، وَأَنَّ الشُّعُورَ لاَ قَوَدَ فِيهَا قَطْعًا، وَتَجِبُ الْحُكُومَةُ فِيمَا شَأْنُهُ الزِّينَةُ مِنْهَا، فَإِنْ نَبَتَ الشَّعْرُ وَعَادَ لِهَيْئَتِهِ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ إِلاَّ الأَْدَبُ فِي الْعَمْدِ. (1)
خَامِسًا: اتِّخَاذُ الْقَاضِي أَوْ الأَْمِيرِ حَاجِبًا:
9 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلأَْمِيرِ
__________
(1) فتح القدير 8 / 309، والمغني 8 / 10 - 11، والمدونة 6 / 316، والزرقاني 8 / 41، وقليوبي 4 / 144.(16/244)
وَالْقَاضِي اتِّخَاذُ حَاجِبٍ، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ الشَّرْعُ، فَقَدْ حَجَبَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ لأَِبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَاجِبٌ هُوَ سُدَيْفٌ مَوْلاَهُ، وَكَانَ لِعُثْمَانِ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حُمْرَانُ، وَكَانَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَنْبَرٌ مَوْلاَهُ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ (1) .
وَقَال ابْنُ عَرَفَةَ: يَسُوغُ لِلْقَاضِي اتِّخَاذُ مَنْ يَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِصَرْفِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَكَفِّ أَذَى النَّاسِ عَنْهُ، وَكَفِّ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ.
وَقَال أَصْبَغُ: حَقٌّ عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى الْقَاضِي فِي رِزْقِهِ، وَيَجْعَل لَهُ قَوْمًا يَقُومُونَ بِأَمْرِهِ، وَيَدْفَعُونَ النَّاسَ عَنْهُ؛ إِذْ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَعْوَانٍ يَكُونُونَ حَوْلَهُ يَزْجُرُونَ مَنْ يَنْبَغِي زَجْرُهُ مِنَ الْمُتَخَاصِمِينَ. (2)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ وَالْقَاضِي أَنْ لاَ يَتَّخِذَ حَاجِبًا يَحْجُبُ النَّاسَ عَنِ
__________
(1) حديث: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ ". أخرجه الترمذي (5 / 44 - ط الحلبي) والحاكم (1 / 96 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث العرباض بن سارية، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) مسائل الإمام أحمد رواية النيسابوري 2 / 149، ومطالب أولي النهى 6 / 85، وروضة القضاة وطريق النجاة للسمناني 1 / 118 - 119، وجواهر الإكليل 2 / 223، ومواهب الجليل 6 / 114.(16/245)
الْوُصُول إِلَيْهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو مَرْيَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَل شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمُ احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ (1) .
وَلأَِنَّ حَاجِبَ الْقَاضِي رُبَّمَا قَدَّمَ الْمُتَأَخِّرَ وَأَخَّرَ الْمُتَقَدِّمَ لِغَرَضٍ لَهُ، وَرُبَّمَا كَسَرَهُمْ بِحَجْبِهِمْ وَالاِسْتِئْذَانِ لَهُمْ، وَلاَ بَأْسَ عِنْدَهُمْ بِاتِّخَاذِ حَاجِبٍ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَفِي حَال الزَّحْمَةِ وَكَثْرَةِ النَّاسِ.
وَقَال الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ حَاجِبًا يَقُومُ عَلَى رَأْسِهِ إِذَا قَعَدَ لِلْقَضَاءِ لِيُقَدِّمَ الْخُصُومَ وَيُؤَخِّرَهُمْ، وَأَضَافَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ الْحَمَوِيُّ الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَلاَ سِيَّمَا فِي زَمَنِنَا هَذَا، مَعَ فَسَادِ الْعَوَامِّ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ لِلْحَاكِمِ حَاجِبٌ رَتَّبَ الْخُصُومَ، وَقَدَّمَ مَنْ حَضَرَ أَوَّلاً عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ الْمُخَاصَمَةِ عَلَى التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، وَزَجَرَ الظَّالِمَ مِنْهُمْ، وَأَخَذَ بِيَدِ الْمَظْلُومِ، وَفِيهِ أُبَّهَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْحَاكِمِ. . . وَكَلاَمُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَّخِذَ حَاجِبًا - مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا قَصَدَ بِالْحَاجِبِ
__________
(1) حديث: " من ولاه الله عز وجل شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره " أخرجه أبو داود (3 / 357 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (4 / 94 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(16/245)
الاِحْتِجَابَ عَنِ النَّاسِ وَالاِكْتِفَاءَ بِهِ، أَوْ حَالَةَ الْخَوْفِ مِنِ ارْتِشَاءِ الْحَاجِبِ. (1)
شُرُوطُ الْحَاجِبِ وَآدَابُهُ:
10 - قَال الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ: يُشْتَرَطُ فِي الْحَاجِبِ ثَلاَثَةُ شُرُوطٍ مُسْتَحَقَّةٍ، وَهِيَ: الْعَدَالَةُ وَالْعِفَّةُ وَالأَْمَانَةُ، وَخَمْسَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الْمَنْظَرِ، وَجَمِيل الْمَخْبَرِ، وَعَارِفًا بِمَقَادِيرِ النَّاسِ، وَبَعِيدًا عَنِ الْهَوَى، وَمُعْتَدِل الأَْخْلاَقِ بَيْنَ الشَّرَاسَةِ وَاللِّينِ. (2)
وَفَصَّل السِّمْنَانِيِّ فَقَال: يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارَ الْقَاضِي مِنَ الْحَجَبَةِ مَنْ لاَ يَتَجَهَّمُ الْخُصُومَ وَلاَ يَخْتَصُّ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ بِالْوُصُول، وَتَكُونُ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأَوْقَاتِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ فِيهَا بِالْحُضُورِ لِمَنْ يَقْصِدُ الْقَاضِيَ، وَيَعْرِفُ مَنْ جَاءَ خَصْمًا، أَوْ زَائِرًا، أَوْ طَالِبًا لِرِفْدِهِ، أَوْ سَائِلاً، أَوْ مُسْتَفْتِيًا لَهُ فِي الْحُكْمِ وَالشَّرْعِ، وَيُوعِزُ إِلَيْهِ الْقَاضِي فِي بَسْطِ الْوَجْهِ وَلِينِ الْكَنَفِ وَرَفْعِ الْمَئُونَةِ وَحُسْنِ اللَّفْظِ، وَكَفِّ الأَْذِيَّةِ وَالسُّرْعَةِ فِي أَمْرِهِ بِإِدْخَال كُل إِنْسَانٍ مَعَ خَصْمِهِ إِذَا أَذِنَ بِدُخُولِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ لأَِحَدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِأَوْجَزِ بَيَانٍ، وَيُسَهِّل لَهُمَا السَّبِيل، وَإِذَا كَانَ الدَّاخِل رَجُلاً لَهُ قَدْرٌ وَلاَ
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 139، ونهاية المحتاج 8 / 241، وأدب القضاء لابن أبي الدم 60 - 61، والمغني 9 / 49، وكشاف القناع 6 / 313، والمهذب 2 / 293.
(2) أدب القضاء ص 61 نقلا عن أدب القاضي للماوردي 1 / 204.(16/246)
خُصُومَةَ لَهُ مَعَ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا أَتَى لِزِيَارَةِ الْقَاضِي، فَيَنْبَغِي لِلْحَاجِبِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَسْتَقْبِلَهُ قَبْل دُخُولِهِ عَلَى الْقَاضِي وَيَدْخُل بَيْنَ يَدَيْهِ يُنَبِّهُ عَلَى مَوْضِعِهِ وَمَكَانِهِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دُخُول الْحَاجِبِ عَلَى الْقَاضِي قَبْل جَمِيعِ النَّاسِ لِيَعْرِفَ مَنْ حَضَرَ عَلَى الْبَابِ ثُمَّ يَأْذَنَ لِمَنْ يُرِيدُ الدُّخُول عَلَيْهِ وَالْحَدِيثَ مَعَهُ.
وَأَضَافَ السِّمْنَانِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَفَقَّدَ الْقَاضِي مَنْ عَلَى بَابِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ، وَيَمْنَعَهُمْ مِنَ الْمَآكِل الرَّدِيَّةِ، وَيُقَوِّمَ مِنْهُمْ مَنْ يَجِبُ تَقْوِيمُهُ، وَيُبْعِدَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفَسَادِ وَالْخِيَانَةِ؛ لأَِنَّ عَيْبَهُمْ رَاجِعٌ إِلَيْهِ وَفِعْلَهُمْ عَارٌ عَلَيْهِ، وَإِذَا اطَّلَعَ مِنْهُمْ عَلَى الْفَسَادِ وَالْخِيَانَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ شَارَكَهُمْ فِي الإِْثْمِ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ فِسْقَهُ إِذَا أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى إِنْكَارِهِ وَإِزَالَتِهِ؛ لأَِنَّهُمْ أَعْوَانُ الشَّرْعِ وَالدِّينِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَعْرَفَ بِالشَّرْعِ وَأَقْوَمَ بِالدِّينِ. (1)
سَادِسًا: الْحَاجِبُ فِي الْمِيرَاثِ:
11 - الْحَاجِبُ فِي الْمِيرَاثِ: هُوَ الْمَانِعُ لِمَنْ تَأَهَّل لِلْمِيرَاثِ (بِأَنْ قَامَ بِهِ سَبَبُهُ) مِنَ الإِْرْثِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ مِنْ أَوْفَرِ حَظَّيْهِ لِوُجُودِهِ (أَيِ الْمَانِعِ) ، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حَجْبٌ) .
__________
(1) روضة القضاء وطريق النجاة للسمناني 1 / 119 - 124.(16/246)
حَاجَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَاجَةُ تُطْلَقُ عَلَى الاِفْتِقَارِ، وَعَلَى مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ. (1)
وَاصْطِلاَحًا هِيَ - كَمَا عَرَّفَهَا الشَّاطِبِيُّ - مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةُ وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا لَمْ تُرَاعَ دَخَل عَلَى الْمُكَلَّفِينَ - عَلَى الْجُمْلَةِ - الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ. (2)
وَيَعْتَبِرُهَا الأُْصُولِيُّونَ مَرْتَبَةً مِنْ مَرَاتِبِ الْمَصْلَحَةِ، وَهِيَ وَسَطٌ بَيْنَ الضَّرُورِيِّ وَالتَّحْسِينِيِّ. (3)
وَالْفُقَهَاءُ كَثِيرًا مَا يَسْتَعْمِلُونَ الْحَاجَةَ بِالْمَعْنَى الأَْعَمِّ وَهُوَ مَا يَشْمَل الضَّرُورَةَ، وَيُطْلِقُونَ الضَّرُورَةَ مُرَادًا بِهَا الْحَاجَةُ الَّتِي هِيَ أَدْنَى مِنَ الضَّرُورَةِ.
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، والكليات للكفوي مادة: (حوج) .
(2) الموافقات للشاطبي 2 / 10 - 11.
(3) فواتح الرحموت 2 / 262، وإرشاد الفحول / 216، والمستصفى 1 / 289، وجمع الجوامع 2 / 281.(16/247)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الضَّرُورَةُ:
2 - الضَّرُورَةُ لُغَةً مِنَ الضَّرِّ خِلاَفُ النَّفْعِ، قَال الأَْزْهَرِيُّ: كُل مَا كَانَ مِنْ سُوءِ حَالٍ وَفَقْرٍ وَشِدَّةٍ فِي بَدَنٍ فَهُوَ ضُرٌّ بِالضَّمِّ، وَمَا كَانَ ضِدَّ النَّفْعِ فَهُوَ بِفَتْحِهَا. (1)
وَعَرَّفَهَا الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهَا النَّازِل مِمَّا لاَ مَدْفَعَ لَهُ. (2)
وَهِيَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: الأُْمُورُ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا فِي قِيَامِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَهِيَ حِفْظُ الدِّينِ وَالْعَقْل وَالنَّفْسِ وَالنَّسْل وَالْمَال، بِحَيْثُ إِذَا فُقِدَتْ لَمْ تَجْرِ مَصَالِحُ الدُّنْيَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ، بَل عَلَى فَسَادٍ وَتَهَارُجٍ وَفَوْتِ حَيَاةٍ، وَفِي الأُْخْرَى فَوْتُ النَّجَاةِ وَالنَّعِيمِ وَالرُّجُوعُ بِالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ. (3)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، أَنَّ الْحَاجَةَ وَإِنْ كَانَتْ حَالَةَ جَهْدٍ وَمَشَقَّةٍ فَهِيَ دُونَ الضَّرُورَةِ، وَمَرْتَبَتُهَا أَدْنَى مِنْهَا وَلاَ يَتَأَتَّى بِفَقْدِهَا الْهَلاَكُ.
التَّحْسِينُ:
3 - التَّحْسِينُ لُغَةً: التَّزْيِينُ.
وَالتَّحْسِينُ بِاعْتِبَارِ مُلاَءَمَةِ الطَّبْعِ كَقَوْلِنَا: رِيحُ الْوَرْدِ حَسَنٌ، أَوْ بِاعْتِبَارِهِ صِفَةَ كَمَالٍ، كَقَوْلِنَا: الْعِلْمُ حَسَنٌ، فَمَصْدَرُهُ الْعَقْل بِلاَ خِلاَفٍ.
__________
(1) المصباح المنير، والصحاح، والقاموس مادة: (ضرر) .
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) الموافقات 2 / 8 - 11 والمستصفى 1 / 287.(16/247)
وَالتَّحْسِينُ بِاعْتِبَارِ الثَّوَابِ الشَّرْعِيِّ فِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَقْل يَسْتَقِل بِإِدْرَاكِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَالأَْشَاعِرَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مَصْدَرَهُ الشَّرْعُ، وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَقْل يَسْتَقِل بِإِدْرَاكِ حُسْنِ وَقُبْحِ بَعْضِ الأَْفْعَال، وَلاَ يَلْزَمُ أَنْ يَأْتِيَ الشَّرْعُ عَلَى وَفْقِ إِدْرَاكِنَا كَحَالَةٍ خَفِيَتْ عَلَى عُقُولِنَا. (1)
وَالتَّحْسِينَاتُ كَمَقْصِدٍ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ هِيَ الأَْخْذُ بِمَا يَلِيقُ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ وَتَجَنُّبُ الأَْحْوَال الْمُدَنَّسَاتِ الَّتِي تَأْنَفُهَا الْعُقُول الرَّاجِحَاتُ، وَيَجْمَعُ ذَلِكَ قِسْمُ مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ وَالصِّفَاتِ. (2)
أَوْ هِيَ مَا لاَ تَدْعُو إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ وَلاَ حَاجَةٌ وَلَكِنْ تَقَعُ مَوْقِعَ التَّحْسِينِ وَالتَّيْسِيرِ وَرِعَايَةِ أَحْسَنِ الْمَنَاهِجِ فِي الْعَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ. (3)
وَعَلَى ذَلِكَ تَكُونُ التَّحْسِينَاتُ رُتْبَةً أَدْنَى مِنْ رُتْبَةِ الْحَاجِيَّاتِ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل هَذَا فِي مُصْطَلَحِ (تَحْسِينٌ) وَفِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
ج - الاِسْتِصْلاَحُ:
4 - الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ مَا لاَ يَشْهَدُ لَهَا أَصْلٌ مِنَ الشَّارِعِ لاَ بِالاِعْتِبَارِ وَلاَ بِالإِْلْغَاءِ. (4)
__________
(1) كشف الأسرار 4 / 230، طبع دار سعادات باسطنبول، وشرح الكوكب المنير 1 / 302.
(2) الموافقات 2 / 11.
(3) المستصفى 1 / 286 - 290، والأحكام للآمدي 3 / 49.
(4) جمع الجوامع 2 / 284، والأحكام للآمدي 3 / 138، وإرشاد الفحول / 218.(16/248)
وَتَنْقَسِمُ إِلَى ضَرُورِيٍّ وَحَاجِيٍّ وَتَحْسِينِيٍّ. وَهِيَ بِذَلِكَ أَعَمُّ مِنَ الْحَاجَةِ.
د - الرُّخْصَةُ:
5 - الرُّخْصَةُ هِيَ مَا اسْتُبِيحَ بِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ الدَّلِيل الْمُحَرِّمِ، أَوْ هِيَ مَا بُنِيَ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ. (1)
وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّ الرُّخْصَةَ أَثَرٌ لِلْحَاجَةِ.
الاِحْتِجَاجُ بِهَا:
6 - الْحَاجَةُ مَرْتَبَةٌ وَسَطٌ بَيْنَ مَرَاتِبِ الْمَصْلَحَةِ، وَفِي الاِحْتِجَاجِ بِهَا خِلاَفٌ بَيْنَ الأُْصُولِيِّينَ. قَال الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى: إِنْ وَقَعَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي مَحَل الْحَاجَةِ فَلاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِمُجَرَّدِهَا إِنْ لَمْ تَعْتَضِدْ بِأَصْلٍ، إِلاَّ أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الضَّرُورَاتِ، فَلاَ بُعْدَ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهَا اجْتِهَادُ مُجْتَهِدٍ. وَمِثْل ذَلِكَ فِي رَوْضَةِ النَّاظِرِ.
وَمِنْ هُنَا قَوْل بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَنْزِل مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ إِذَا عَمَّتْ. وَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ هُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ ذَكَرَهَا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فِي الاِعْتِصَامِ، وَعَزَا هَذَا الْقَوْل إِلَى الْقَاضِي وَطَائِفَةٍ مِنَ الأُْصُولِيِّينَ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: هُوَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ، وَبِنَاءُ الأَْحْكَامِ عَلَيْهِ عَلَى الإِْطْلاَقِ، وَهُوَ لِلإِْمَامِ مَالِكٍ، قَال الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ: هِيَ حُجَّةٌ عِنْدَ الإِْمَامِ مَالِكٍ بِدَلِيل أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُل لِتَحْصِيل مَصَالِحِ الْعِبَادِ عَمَلاً بِالاِسْتِقْرَاءِ فَمَهْمَا
__________
(1) التعريفات للجرجاني.(16/248)
وُجِدَتْ مَصْلَحَةٌ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا مَطْلُوبَةٌ لِلشَّرْعِ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: هُوَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِشَرْطِ قُرْبِهِ مِنْ مَعَانِي الأُْصُول الثَّابِتَةِ وَهُوَ لِلشَّافِعِيِّ وَمُعْظَمِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهَذَا مَا حَكَاهُ الإِْمَامُ الْجُوَيْنِيُّ. (1)
وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
مُرَاعَاةُ الْحَاجَةِ مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ:
7 - الْحَاجَةُ مُفْتَقَرٌ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةُ وَالتَّيْسِيرُ وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْحَرَجِ. وَالْيُسْرُ وَدَفْعُ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ فِي الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ مَبَادِئِ الشَّرِيعَةِ. يَقُول الشَّاطِبِيُّ: إِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى التَّكْلِيفِ بِالْمَشَاقِّ وَالإِْعْنَاتِ فِيهِ. (2)
وَالتَّكَالِيفُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ.
وَمَصَالِحُ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ كُل قِسْمٍ مِنْهَا فِي مَنَازِل مُتَفَاوِتَةٍ.
أَمَّا مَصَالِحُ الدُّنْيَا فَتَنْقَسِمُ إِلَى الضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ وَالتَّتِمَّاتِ وَالتَّكْمِيلاَتِ فَأَقَل الْمُجْزِئِ مِنَ الْمَآكِل وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلاَبِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَنَاكِحِ وَغَيْرِهَا ضَرُورِيٌّ. وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ كَالْمَآكِل الطَّيِّبَاتِ وَالْمَلاَبِسِ النَّاعِمَاتِ
__________
(1) المستصفى 1 / 293 - 294، وروضة الناظر / 87، والذخيرة / 142 - 143، وهامش الفروق 4 / 70 - 71 - 72 - 73، والاعتصام 2 / 95 - 96.
(2) الموافقات 2 / 121 - 122.(16/249)
وَالْقُصُورِ الْوَاسِعَاتِ فَهُوَ مِنَ التَّتِمَّاتِ وَالتَّكْمِيلاَتِ، وَمَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مِنَ الْحَاجَاتِ.
وَأَمَّا مَصَالِحُ الآْخِرَةِ فَفِعْل الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ ضَرُورِيٌّ، وَفِعْل السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَاتِ مِنَ الْحَاجَاتِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ فَهِيَ مِنَ التَّتِمَّاتِ وَالتَّكْمِيلاَتِ. وَالْحَاجِيَّاتُ وَإِنْ كَانَتْ أَدْنَى رُتْبَةً مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ هِيَ الأَْصْل إِلاَّ أَنَّ الْحَاجِيَّاتِ مُكَمِّلَةٌ لَهَا، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا وَسِيلَةٌ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ. كَمَا أَنَّ تَرْكَ الْحَاجِيَّاتِ يُؤَدِّي فِي النِّهَايَةِ إِلَى تَرْكِ الضَّرُورِيَّاتِ؛ لأَِنَّ الْمُتَجَرِّئَ عَلَى الإِْخْلاَل بِالأَْخَفِّ مُعَرَّضٌ لِلتَّجَرُّؤِ عَلَى مَا سِوَاهُ، فَالْمُتَجَرِّئُ عَلَى الإِْخْلاَل بِالْحَاجِيَّاتِ يَتَجَرَّأُ عَلَى الإِْخْلاَل بِالضَّرُورِيَّاتِ.
وَلِذَلِكَ قَصَدَ الشَّارِعُ الْمُحَافَظَةَ عَلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الثَّلاَثِ (الضَّرُورِيَّةِ، وَالْحَاجِيَّةِ، وَالتَّحْسِينِيَّةِ) وَهِيَ مَسْأَلَةٌ لاَ يَرْتَابُ فِي ثُبُوتِهَا شَرْعًا أَحَدٌ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الاِجْتِهَادِ مِنْ أَهْل الشَّرْعِ وَأَنَّ اعْتِبَارَهَا مَقْصُودٌ لِلشَّرْعِ، وَدَلِيل ذَلِكَ اسْتِقْرَاءُ الشَّرِيعَةِ، وَالنَّظَرُ فِي أَدِلَّتِهَا الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ، وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الأُْمُورِ الْعَامَّةِ. (1)
__________
(1) الموافقات 2 / 8 - 11، 13 - 16، 37، 49، وقواعد الأحكام 2 / 60 - 61.(16/249)
مَا تَجْرِي فِيهِ الْحَاجَةُ:
8 - الْحَاجَةُ تُرَاعَى فِي الْعِبَادَاتِ، وَالْعَادَاتِ، وَالْمُعَامَلاَتِ، وَالْجِنَايَاتِ. فَفِي الْعِبَادَاتِ كَالرُّخَصِ الْمُخَفَّفَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى لُحُوقِ الْمَشَقَّةِ بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ.
وَفِي الْعَادَاتِ كَإِبَاحَةِ الصَّيْدِ وَالتَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ مِمَّا هُوَ حَلاَلٌ مَأْكَلاً وَمَشْرَبًا وَمَسْكَنًا وَمَرْكَبًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَفِي الْمُعَامَلاَتِ كَالْقِرَاضِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالسَّلَمِ، وَإِلْغَاءِ التَّوَابِعِ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْمَتْبُوعَاتِ، كَثَمَرَةِ الشَّجَرِ وَمَال الْعَبْدِ. وَفِي الْجِنَايَاتِ كَالْحُكْمِ بِاللَّوْثِ، (1) وَالتَّدْمِيَةِ، وَالْقَسَامَةِ، (2) وَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. (3)
تَنَوُّعُ الْحَاجَةِ:
تَتَنَوَّعُ الْحَاجَةِ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ:
اعْتِبَارُ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ:
9 - الْحَاجَةُ قَدْ تَكُونُ عَامَّةً بِمَعْنَى أَنَّ النَّاسَ
__________
(1) اللوث: هو قرينة لصدق المدعي وهو ولي الدم.
(2) القسامة: عرفها الجرجاني بأنها أيمان تقسم على المتهمين في الدم، فإذا أقسموها سقط عنهم القصاص ووجبت عليهم الدية. وعند الشافعية أيمان يحلفها أولياء الدم، لإثبات القتل على المدعى عليهم.
(3) الموافقات 2 / 11.(16/250)
جَمِيعًا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا فِيمَا يَمَسُّ مَصَالِحَهُمُ الْعَامَّةَ كَالْحَاجَةِ إِلَى الزِّرَاعَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ وَالسِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ وَالْحُكْمِ الصَّالِحِ.
وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ شُرِعَتْ عُقُودُ الْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ وَالصُّلْحِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُقُودِ. وَهِيَ فِي الْغَالِبِ مَا شُرِعَ فِي الأَْصْل لِعُذْرٍ ثُمَّ صَارَ مُبَاحًا وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ حَاجَةٌ، فَفِي الْقَرْضِ مَثَلاً يَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَقْتَرِضَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إِلَى الاِقْتِرَاضِ، وَفِي الْمُسَاقَاةِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَاقِيَ عَلَى حَائِطِهِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى عَمَلِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالاِسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ وَهَكَذَا. (1)
كَمَا أَنَّ تَخَلُّفَ الْقَلِيل مِنْ جُزْئِيَّاتِ بَعْضِ الْعُقُودِ لاَ يُخْرِجُ كُلِّيَّاتِ الْعُقُودِ عَنِ الْحَاجِيَّةِ. فَفِي فَوَاتِحِ الرَّحَمُوتِ مَثَّل لِلْحَاجِيَّاتِ بِعُقُودِ الْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، ثُمَّ قَال: إِلاَّ قَلِيلاً مِنْ جُزْئِيَّاتِ بَعْضِ الْعُقُودِ فَإِنَّهَا تَكُونُ مِنَ الضَّرُورِيَّةِ، مِثْل اسْتِئْجَارِ الْمُرْضِعَةِ لِلطِّفْل مَثَلاً؛ إِذْ لَوْ لَمْ يُشْرَعْ تَلِفَ نَفْسُ الْوَلَدِ فَوَصَل إِلَى ضَرُورَةِ حِفْظِ النَّفْسِ، وَكَذَا شِرَاءُ مِقْدَارِ الْقُوتِ وَاللِّبَاسِ يُتَّقَى بِهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، لَكِنْ لِقِلَّتِهَا لاَ تُخْرِجُ كُلِّيَّاتِ الْعُقُودِ عَنِ الْحَاجِيَّةِ. (2)
وَقَدْ تَكُونُ الْحَاجَةُ خَاصَّةً بِمَعْنَى أَنْ يَحْتَاجَ
__________
(1) أشباه السيوطي / 97 ط عيسى الحلبي، وهامش الفروق 2 / 138 - 139 - 141.
(2) فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 2 / 262.(16/250)
إِلَيْهَا فَرْدٌ أَوْ أَفْرَادٌ مَحْصُورُونَ، وَذَلِكَ مِثْل الْحَاجَةِ إِلَى تَضْبِيبِ الإِْنَاءِ بِالْفِضَّةِ، وَمِثْل الْحَاجَةِ إِلَى الأَْكْل مِنَ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْحَاجَةِ إِلَى لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلرَّجُل لِمَرَضٍ كَالْجَرَبِ وَالْحِكَّةِ، وَإِبَاحَةِ تَحْلِيَةِ آلاَتِ الْحَرْبِ غَيْظًا لِلْمُشْرِكِينَ وَالتَّبَخْتُرِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فِي الْحَرْبِ. (1)
10 - وَتَخْتَلِفُ الْحَاجَةُ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ فَمَا يَكُونُ حَاجَةً لِشَخْصٍ قَدْ لاَ يَكُونُ حَاجَةً لِغَيْرِهِ، فَالْخَادِمُ قَدْ يَكُونُ حَاجَةً لِشَخْصٍ فَقِيرٍ كَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل الْبُيُوتَاتِ لاَ يَتَعَاطَى خِدْمَةَ نَفْسِهِ بِيَدِهِ فَيُفْرَضُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ أَنْ يَأْتِيَ لَهُ بِخَادِمٍ، أَمَّا الشَّخْصُ الْعَادِي الَّذِي يَخْدُمُ نَفْسَهُ فَلَيْسَ فِي حَاجَةٍ إِلَى الْخَادِمِ. (2)
بِاعْتِبَارِ الأَْعْصَارِ وَالأَْمْصَارِ وَالْقُرُونِ وَالأَْحْوَال:
11 - قَال الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ الثَّانِي وَالْخَمْسِينَ وَالْمِائَتَيْنِ: يُنْدَبُ إِقَامَةُ هَيْئَاتٍ لِلأَْئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَوُلاَةِ الأُْمُورِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَقَاصِدَ الشَّرْعِيَّةَ لاَ تَحْصُل إِلاَّ بِعَظَمَةِ الْوُلاَةِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَكَانَ النَّاسُ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُعْظَمُ تَعْظِيمِهِمْ إِنَّمَا هُوَ بِالدِّينِ وَسَابِقِ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ اخْتَل النِّظَامُ وَذَهَبَ ذَلِكَ الْقَرْنُ وَحَدَثَ قَرْنٌ آخَرُ لاَ يُعَظِّمُونَ إِلاَّ بِالْهَيْئَةِ وَالزِّيِّ فَيَتَعَيَّنُ تَفْخِيمُ الصُّوَرِ حَتَّى تَحْصُل الْمَصَالِحُ.
__________
(1) أشباه السيوطي / 98، والمنثور في القواعد 2 / 25 - 26.
(2) ابن عابدين 2 / 682، وانظر نهاية المحتاج 6 / 159.(16/251)
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْكُل خُبْزَ الشَّعِيرِ وَالْمِلْحَ، وَيَفْرِضُ لِعَامِلِهِ نِصْفَ شَاةٍ كُل يَوْمٍ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا لَوْ عَمِلَهَا غَيْرُهُ لَهَانَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ وَلَمْ يَحْتَرِمُوهُ وَتَجَاسَرُوا عَلَيْهِ بِالْمُخَالَفَةِ، فَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ يَضَعَ غَيْرَهُ فِي صُورَةٍ أُخْرَى لِحِفْظِ النِّظَامِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ وَوَجَدَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَدِ اتَّخَذَ الْحُجَّابَ وَأَرْخَى الْحِجَابَ وَاتَّخَذَ الْمَرَاكِبَ النَّفِيسَةَ وَالثِّيَابَ الْهَائِلَةَ الْعَلِيَّةَ وَسَلَكَ مَا يَسْلُكُهُ الْمُلُوكُ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَال: إِنَّا بِأَرْضٍ نَحْنُ فِيهَا مُحْتَاجُونَ لِهَذَا، فَقَال لَهُ: لاَ آمُرُكَ وَلاَ أَنْهَاكَ، وَمَعْنَاهُ أَنْتَ أَعْلَمُ بِحَالِكَ هَل أَنْتَ مُحْتَاجٌ إِلَى هَذَا فَيَكُونَ حَسَنًا أَوْ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ.
فَدَل ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ أَحْوَال الأَْئِمَّةِ وَوُلاَةِ الأُْمُورِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْعْصَارِ وَالأَْمْصَارِ وَالْقُرُونِ وَالأَْحْوَال، فَلِذَلِكَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَجْدِيدِ زَخَارِفَ وَسِيَاسَاتٍ لَمْ تَكُنْ قَدِيمًا، وَرُبَّمَا وَجَبَتْ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال. (1)
بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ:
12 - مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الأَْحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ شُرِعَتْ لِلتَّسْهِيل عَلَى الْعِبَادِ إِلاَّ أَنَّ مِنْهَا مَا شُرِعَ مِنَ الأَْصْل مُرَاعًى فِيهِ الْمَصْلَحَةُ وَحَاجَةُ النَّاسِ فَيُبَاحُ وَلَوْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَذَلِكَ كَالْقَرْضِ وَالْحَوَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَغَيْرِهَا.
__________
(1) الفروق للقرافي 4 / 203.(16/251)
وَمِنْهَا مَا شُرِعَ لِمَا يُوجَدُ مِنَ الأَْعْذَارِ وَلِذَلِكَ لاَ يُبَاحُ إِلاَّ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ كَالْفِطْرِ فِي الصِّيَامِ بِسَبَبِ السَّفَرِ، فَلاَ يُبَاحُ الْفِطْرُ لِغَيْرِ الْمُسَافِرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ آخَرُ وَهَكَذَا. (1)
شُرُوطُ الْحَاجَةِ:
لِلْعَمَل بِمُقْتَضَى الْحَاجَةِ شُرُوطٌ تَتَلَخَّصُ فِيمَا يَلِي:
1 - أَلاَّ يَعُودَ اعْتِبَارُهَا عَلَى الأَْصْل بِالإِْبْطَال:
13 - الضَّرُورِيَّاتُ أَعْلَى رُتَبِ الْمَقَاصِدِ، وَتُعْتَبَرُ أَصْلاً لِمَا عَدَاهَا مِنَ الْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ الَّتِي تُعْتَبَرُ مُكَمِّلَةً لِلأَْصْل.
وَمِنْ شَرْطِ اعْتِبَارِ الأَْدْنَى أَلاَّ يَعُودَ عَلَى الأَْصْل بِالإِْبْطَال. يَقُول الشَّاطِبِيُّ: كُل تَكْمِلَةٍ فَلَهَا - مِنْ حَيْثُ هِيَ تَكْمِلَةٌ - شَرْطٌ، وَهُوَ أَنْ لاَ يَعُودَ اعْتِبَارُهَا عَلَى الأَْصْل بِالإِْبْطَال؛ وَذَلِكَ أَنَّ كُل تَكْمِلَةٍ يُفْضِي اعْتِبَارُهَا إِلَى رَفْضِ أَصْلِهَا لاَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُهَا عِنْدَ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي إِبْطَال الأَْصْل إِبْطَال التَّكْمِلَةِ؛ لأَِنَّ التَّكْمِلَةَ مَعَ مَا كَمَّلَتْهُ كَالصِّفَةِ مَعَ الْمَوْصُوفِ، فَإِذَا كَانَ اعْتِبَارُ الصِّفَةِ يُؤَدِّي إِلَى ارْتِفَاعِ الْمَوْصُوفِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ ارْتِفَاعُ الصِّفَةِ أَيْضًا، فَاعْتِبَارُ هَذِهِ التَّكْمِلَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ
__________
(1) شرح المجلة للأتاسي 1 / 48 - 49.(16/252)
مُؤَدٍّ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا، وَهَذَا مُحَالٌ لاَ يُتَصَوَّرُ، وَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ لَمْ تُعْتَبَرِ التَّكْمِلَةُ، وَاعْتُبِرَ الأَْصْل مِنْ غَيْرِ مَزِيدٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا تَقْدِيرًا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ التَّكْمِيلِيَّةَ تَحْصُل مَعَ فَوَاتِ الْمَصْلَحَةِ الأَْصْلِيَّةِ لَكَانَ تَحْصِيل الأَْصْلِيَّةِ أَوْلَى بِالاِعْتِبَارِ، فَيَجِبُ أَنْ تَتَرَجَّحَ عَلَى التَّكْمِيلِيَّةِ؛ لأَِنَّ حِفْظَ الْمَصْلَحَةِ يَكُونُ بِالأَْصْل، وَغَايَةُ التَّكْمِيلِيَّةِ أَنَّهَا كَالْمُسَاعِدِ لِمَا كَمَّلَتْهُ، فَإِذَا عَارَضَتْهُ فَلاَ تُعْتَبَرُ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ حِفْظَ الْمُهْجَةِ مُهِمٌّ كُلِّيٌّ، وَحِفْظَ الْمُرُوءَاتِ مُسْتَحْسَنٌ، فَحُرِّمَتِ النَّجَاسَاتُ حِفْظًا لِلْمُرُوآتِ، فَإِنْ دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى إِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ بِتَنَاوُل النَّجَسِ كَانَ تَنَاوُلُهُ أَوْلَى.
وَكَذَلِكَ أَصْل الْبَيْعِ ضَرُورِيٌّ، وَمَنْعُ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ مُكَمِّلٌ، فَلَوِ اشْتُرِطَ نَفْيُ الْغَرَرِ جُمْلَةً لاَنْحَسَمَ بَابُ الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ الإِْجَارَةُ ضَرُورِيَّةٌ أَوْ حَاجِيَّةٌ، وَاشْتِرَاطُ وُجُودِ الْعِوَضَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ بَابِ التَّكْمِيلاَتِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا فِي بَيْعِ الأَْعْيَانِ مِنْ غَيْرِ عُسْرٍ مُنِعَ مِنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ إِلاَّ فِي السَّلَمِ.
وَذَلِكَ فِي الإِْجَارَاتِ مُمْتَنِعٌ، فَاشْتِرَاطُ وُجُودِ الْمَنَافِعِ فِيهَا وَحُضُورِهَا يَسُدُّ بَابَ الْمُعَامَلَةِ بِهَا، وَالإِْجَارَةُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا فَجَازَتْ وَإِنْ لَمْ يُحْضِرِ الْعِوَضَ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، وَمِثْلُهُ جَارٍ فِي الاِطِّلاَعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ لِلْمُدَاوَاةِ وَغَيْرِهَا.
وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ مَعَ وُلاَةِ الْجَوْرِ قَال الْعُلَمَاءُ(16/252)
بِجَوَازِهِ، قَال مَالِكٌ: لَوْ تُرِكَ ذَلِكَ لَكَانَ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَالْجِهَادُ ضَرُورِيٌّ، وَالْوَالِي فِيهِ ضَرُورِيٌّ، وَالْعَدَالَةُ فِيهِ (أَيْ فِي الْوَالِي) مُكَمِّلَةٌ لِلضَّرُورَةِ، وَالْمُكَمِّل إِذَا عَادَ عَلَى الأَْصْل بِالإِْبْطَال لَمْ يُعْتَبَرْ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الأَْمْرُ بِالْجِهَادِ مَعَ وُلاَةِ الْجَوْرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَال: الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُل أَمِيرٍ، بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا (1) .
وَكَذَلِكَ الصَّلاَةُ خَلْفَ وُلاَةِ السُّوءِ.
قَال الشَّاطِبِيُّ: وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مِنْ هَذَا الْقَبِيل فِي الشَّرِيعَةِ تَفُوقُ الْحَصْرَ كُلُّهَا جَاءَ عَلَى هَذَا الأُْسْلُوبِ. (2)
2 - أَنْ تَكُونَ الْحَاجَةُ قَائِمَةً لاَ مُنْتَظَرَةً:
14 - لِلأَْخْذِ بِمُقْتَضَى الْحَاجَةِ مِنَ التَّرَخُّصِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الْحَاجَةِ مَوْجُودًا فِعْلاً وَلَيْسَ مُنْتَظَرًا، وَاعْتِبَارُ وُجُودِ الْحَاجَةِ شَرْطًا لِلأَْخْذِ بِمُقْتَضَاهَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا شُرِعَ مِنَ الرُّخَصِ لِمَا يُوجَدُ مِنْ أَعْذَارٍ، أَمَّا مَا شُرِعَ أَصْلاً لِلتَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيل عَلَى الْعِبَادِ مُرَاعَاةً لِحَاجَاتِهِمْ كَعُقُودِ الإِْجَارَةِ وَالْقِرَاضِ وَالْقَرْضِ وَالْمُسَاقَاةِ فَلاَ يَنْطَبِقُ
__________
(1) حديث: " الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان. . . " أخرجه أبو داود (3 / 40 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والدارقطني (2 / 56 - ط دار المحاسن) عن مكحول عن أبي هريرة، وأعله الدارقطني بالانقطاع بين مكحول وأبي هريرة.
(2) الموافقات 2 / 13 - 14 - 15 - 16.(16/253)
عَلَيْهَا هَذَا الشَّرْطُ. (1) وَتَظْهَرُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ بِوُضُوحٍ فِي الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الرُّخَصِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
أ - السَّفَرُ مِنْ الأَْعْذَارِ الَّتِي تُبِيحُ قَصْرَ الصَّلاَةِ وَالْفِطْرَ لِلصَّائِمِ. إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ قَصْرُ الصَّلاَةِ إِلاَّ إِذَا بَدَأَ الْمُسَافِرُ بِالسَّفَرِ فِعْلاً.
يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: لَيْسَ لِمَنْ نَوَى السَّفَرَ الْقَصْرُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ بُيُوتِ قَرْيَتِهِ وَيَجْعَلَهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَبِهَذَا قَال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ} (2) وَلاَ يَكُونُ ضَارِبًا فِي الأَْرْضِ حَتَّى يَخْرُجَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَبْتَدِئُ الْقَصْرَ إِذَا خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ، قَال أَنَسٌ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا أَيْ مُقِيمًا وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ (3) أَيْ مُسَافِرًا، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ أَيْضًا: مَنْ نَوَى السَّفَرَ فِي رَمَضَانَ لاَ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ حَتَّى يُخَلِّفَ الْبُيُوتَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، يَعْنِي أَنَّهُ يُجَاوِزُهَا وَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ بُنْيَانِهَا، وَلاَ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُسَافِرًا حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْبَلَدِ، وَمَهْمَا
__________
(1) هامش الفروق 2 / 139، والموافقات 1 / 303.
(2) سورة النساء / 101.
(3) المغني 2 / 259 - 260. وحديث أنس قال: " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 569 - ط السلفية) ومسلم (1 / 480 - ط الحلبي) .(16/253)
كَانَ فِي الْبَلَدِ فَلَهُ أَحْكَامُ الْحَاضِرِينَ، وَلِذَلِكَ لاَ يَقْصُرُ الصَّلاَةَ. (1) وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي أَبْوَابِهِ.
ب - عَدَمُ وُجُودِ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ يُبِيحُ رُخْصَةَ التَّيَمُّمِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ دُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ فَلاَ يَتَيَمَّمُ لِفَرِيضَةٍ إِلاَّ بَعْدَ دُخُول وَقْتِهَا، خِلاَفًا لِلْوُضُوءِ؛ إِذْ يَجُوزُ قَبْل دُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ. (2) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
ج - قَال الْقَلْيُوبِيُّ: لَوْ كَانَتِ الْحَاجَةُ غَيْرَ نَاجِزَةٍ فَهَل يَجُوزُ الأَْخْذُ لِمَا عَسَاهُ يَطْرَأُ؟ الظَّاهِرُ لاَ، كَاقْتِنَاءِ الْكَلْبِ لِمَا عَسَاهُ يَكُونُ مِنَ الزَّرْعِ، وَنَحْوِهِ. (3)
د - فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: وَقَعَ الْخِلاَفُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الأَْكْل مِمَّا يَمُرُّ عَلَيْهِ الإِْنْسَانُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ نَحْوِ الْفُول وَالْفَوَاكِهِ وَلَبَنِ الْغَنَمِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ، وَمُحَصَّلُهُ الْجَوَازُ لِلْمُحْتَاجِ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُحْتَاجِ فَقِيل بِالْجَوَازِ وَقِيل بِعَدَمِهِ. قَال النَّفْرَاوِيُّ: الظَّاهِرُ مِنْ تِلْكَ الأَْقْوَال الْمَنْعُ، (4) لِعُمُومِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسِهِ (5) .
__________
(1) المغني 3 / 101، ومنح الجليل 1 / 409.
(2) الشرح الصغير 1 / 74 ط الحلبي، والمغني 1 / 236.
(3) قليوبي 2 / 142.
(4) الفواكه الدواني 2 / 375.
(5) حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه ". أخرجه الدارقطني (3 / 26 - ط دار المحاسن) من حديث أبي حرة الرقاشي، وفي إسناده مقال. وقد أورد ابن حجر في التلخيص شواهد تقويه. (التلخيص الحبير 3 / 46 - 47 - ط شركة الطباعة الفنية) .(16/254)
هـ - فِي الْفُرُوقِ لِلْقَرَافِيِّ: الْغِيبَةُ مُحَرَّمَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} (1) ، وَاسْتُثْنِيَ مِنَ الْغِيبَةِ صُوَرٌ، مِنْهَا: النَّصِيحَةُ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ حِينَ شَاوَرَتْهُ لَمَّا خَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ وَأَبُو جَهْمٍ: أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلاَ يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لاَ مَال لَهُ (2) .
فَذَكَرَ عَيْبَيْنِ فِيهِمَا مِمَّا يَكْرَهَانِهِ لَوْ سَمِعَاهُ، فَذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ النَّصِيحَةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَنْ تَكُونَ الْحَاجَةُ مَاسَّةً لِذَلِكَ احْتِرَازًا مِنْ ذِكْرِ عُيُوبِ النَّاسِ مُطْلَقًا، فَهَذَا حَرَامٌ، بَل لاَ يَجُوزُ إِلاَّ عِنْدَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ. (3)
3 - أَلاَّ يَكُونَ الأَْخْذُ بِمُقْتَضَى الْحَاجَةِ مُخَالِفًا لِقَصْدِ الشَّارِعِ:
15 - قَال الشَّاطِبِيُّ: قَصَدَ الشَّارِعُ مِنَ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ فِي الْعَمَل مُوَافِقًا لِقَصْدِهِ فِي التَّشْرِيعِ، وَالشَّرِيعَةُ مَوْضُوعَةٌ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى ذَلِكَ فِي
__________
(1) سورة الحجرات / 12.
(2) حديث: " أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية. . . " أخرجه مسلم (2 / 1114 - ط الحلبي) .
(3) الفروق 4 / 205 - 206، والفواكه الدواني 2 / 370، 390.(16/254)
أَفْعَالِهِ، وَأَلاَّ يَقْصِدَ خِلاَفَ مَا قَصَدَ الشَّارِعُ. (1)
وَقَال الشَّاطِبِيُّ أَيْضًا: فَإِذَا كَانَ الأَْمْرُ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ عَلَى أَصْل الْمَشْرُوعِيَّةِ فَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مُوَافِقًا، وَالْمَصْلَحَةُ مُخَالِفَةً فَالْفِعْل غَيْرُ صَحِيحٍ وَغَيْرُ مَشْرُوعٍ. (2) اهـ.
وَعَلَى ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ مُخَالَفَةُ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فِي الْعُقُودِ الَّتِي أُبِيحَتْ لِلْحَاجَةِ تَيْسِيرًا وَتَسْهِيلاً لِمَصَالِحِ النَّاسِ.
وَمِنْ ذَلِكَ النِّكَاحُ فَالْمَقْصِدُ الأَْصْلِيُّ مِنْهُ التَّنَاسُل، وَيَلِي ذَلِكَ طَلَبُ السَّكَنِ وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالأُْخْرَوِيَّةِ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ بِالْحَلاَل، وَالتَّحَفُّظِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ، فَجَمِيعُ هَذَا مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ مِنْ شَرْعِ النِّكَاحِ، وَنَوَاقِضُ هَذِهِ الأُْمُورِ مُضَادَّةٌ لِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ، كَمَا إِذَا نَكَحَهَا لِيُحِلَّهَا لِمَنْ طَلَّقَهَا ثَلاَثًا، وَكَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَكُل نِكَاحٍ عَلَى هَذَا السَّبِيل. (3) وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ خِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٌ) .
وَمِنْ ذَلِكَ الإِْجَارَةُ فَإِنَّهَا شُرِعَتْ لِحَاجَةِ النَّاسِ، فَيَجِبُ اجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّرْعُ، وَلِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَى النَّوْحِ وَالْغِنَاءِ وَالزَّمْرِ وَكُل مَا مَنْفَعَتُهُ مُحَرَّمَةٌ. (4)
وَالْقَرْضُ شُرِعَ لِحَاجَةِ النَّاسِ وَمَصْلَحَةِ
__________
(1) الموافقات 2 / 331.
(2) الموافقات 2 / 385.
(3) الموافقات 2 / 396 - 397، والمغني 6 / 644 - 646.
(4) المغني 5 / 550، وهامش الفروق 4 / 8.(16/255)
الْمَعْرُوفِ لِلْعِبَادِ، وَمَتَى خَرَجَ عَنْ بَابِ الْمَعْرُوفِ امْتَنَعَ، إِمَّا لِتَحْصِيل مَنْفَعَةِ الْمُقْرِضِ، أَوْ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالسَّلَفِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ الْمَعْرُوفِ مَعَ تَعَيُّنِ الْمَحْذُورِ وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْقَوَاعِدِ. (1)
وَالْمَقْصُودُ بِشَرْعِيَّةِ الزَّكَاةِ رَفْعُ رَذِيلَةِ الشُّحِّ وَتَحْقِيقُ مَصْلَحَةِ إِرْفَاقِ الْمَسَاكِينِ، فَمَنْ وَهَبَ فِي آخِرِ الْحَوْل مَالَهُ هَرَبًا مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ ثُمَّ إِذَا كَانَ فِي حَوْلٍ آخَرَ أَوْ قَبْل ذَلِكَ اسْتَوْهَبَهُ، فَهَذَا الْعَمَل تَقْوِيَةٌ لِوَصْفِ الشُّحِّ وَإِمْدَادٌ لَهُ وَرَفْعٌ لِمَصْلَحَةِ إِرْفَاقِ الْمَسَاكِينِ، فَصُورَةُ هَذِهِ الْهِبَةِ لَيْسَتْ هِيَ الْهِبَةُ الَّتِي نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَيْهَا؛ لأَِنَّ الْهِبَةَ إِرْفَاقٌ وَإِحْسَانٌ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَتَوْسِيعٌ عَلَيْهِ غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا، وَهَذِهِ الْهِبَةُ تُنَافِي قَصْدَ الشَّارِعِ فِي رَفْعِ الشُّحِّ عَنِ النُّفُوسِ، وَالإِْحْسَانِ إِلَى عِبَادِ اللَّهِ، وَالْقَصْدُ غَيْرُ الشَّرْعِيِّ هَادِمٌ لِلْقَصْدِ الشَّرْعِيِّ. (2)
كَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَحَيَّل الإِْنْسَانُ لإِِيجَادِ سَبَبٍ يَتَرَخَّصُ بِمُقْتَضَاهُ، كَمَنْ أَنْشَأَ سَفَرًا لِيَقْصُرَ الصَّلاَةَ أَوْ أَنْشَأَ سَفَرًا فِي رَمَضَانَ لِيَأْكُل فِي النَّهَارِ، أَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ بِهِ فَوَهَبَهُ كَيْ لاَ يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَكَالْهُرُوبِ مِنَ الزَّكَاةِ بِجَمْعِ الْمُتَفَرِّقِ أَوْ تَفْرِيقِ الْمُتَجَمِّعِ، وَكَالزَّوْجَةِ الَّتِي تُرْضِعُ جَارِيَةَ الزَّوْجِ أَوِ الضَّرَّةِ لِتَحْرُمَ عَلَيْهِ،
__________
(1) الفروق 4 / 2، وهامش الفروق 4 / 4.
(2) الموافقات 2 / 385 - 386.(16/255)
أَوْ إِثْبَاتِ حَقٍّ لاَ يَثْبُتُ كَالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ فِي قَالَبِ الإِْقْرَارِ بِالدَّيْنِ. (1)
وَفِي أَصْل هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَمَا بُنِيَ عَلَيْهَا مِنْ فُرُوعٍ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي مَوَاضِعِهِ، وَفِي بَحْثِ: (حِيلَةٌ) .
الْحَاجَةُ تُنَزَّل مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ:
16 - مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ نُجَيْمٍ وَالسُّيُوطِيُّ، وَالزَّرْكَشِيُّ - وَهِيَ فِي مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ - أَنَّ الْحَاجَةَ الْعَامَّةَ أَوِ الْخَاصَّةَ تُنَزَّل مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ.
وَمَعْنَى كَوْنِ الْحَاجَةِ عَامَّةً أَنَّ النَّاسَ جَمِيعًا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا فِيمَا يَمَسُّ مَصَالِحَهُمُ الْعَامَّةَ مِنْ تِجَارَةٍ وَزِرَاعَةٍ وَصِنَاعَةٍ وَسِيَاسَةٍ عَادِلَةٍ وَحُكْمٍ صَالِحٍ.
وَمَعْنَى كَوْنِ الْحَاجَةِ خَاصَّةً أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهَا فَرْدٌ أَوْ أَفْرَادٌ مَحْصُورُونَ أَوْ طَائِفَةٌ خَاصَّةٌ كَأَرْبَابِ حِرْفَةٍ مُعَيَّنَةٍ.
وَالْمُرَادُ بِتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الأَْحْكَامِ فَتُبِيحُ الْمَحْظُورَ وَتُجِيزُ تَرْكَ الْوَاجِبِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، مِمَّا يُسْتَثْنَى مِنَ الْقَوَاعِدِ الأَْصْلِيَّةِ.
17 - أ - وَالْحَاجَةُ الْعَامَّةُ كَالإِْجَارَةِ وَالْجَعَالَةِ وَالْحَوَالَةِ وَغَيْرِهَا، قَال الزَّرْكَشِيُّ نَقْلاً عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: إِنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ وَالْجَعَالَةِ وَالإِْجَارَةِ وَنَحْوِهَا جَرَتْ عَلَى حَاجَاتٍ خَاصَّةٍ تَكَادُ تَعُمُّ،
__________
(1) الموافقات 2 / 379 - 380.(16/256)
وَالْحَاجَةُ إِذَا عَمَّتْ كَانَتْ كَالضَّرُورَةِ، فَتَغْلِبُ فِيهَا الضَّرُورَةُ الْحَقِيقِيَّةُ.
وَمِنْهَا مَشْرُوعِيَّةُ الإِْجَارَةِ مَعَ أَنَّهَا وَرَدَتْ عَلَى مَنَافِعَ مَعْدُومَةٍ، يَعْنِي أَنَّ الشَّرْعَ كَمَا اعْتَنَى بِدَفْعِ ضَرُورَةِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ فَكَيْفَ لاَ يَعْتَنِي بِهِ مَعَ حَاجَةِ الْجَمَاعَةِ، وَلَوْ مُنِعَتِ الْجَمَاعَةُ مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ لَنَال آحَادَ الْجَمَاعَةِ ضَرُورَةٌ تَزِيدُ عَلَى ضَرُورَةِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، فَهِيَ بِالرِّعَايَةِ أَوْلَى.
وَمِنْهَا ضَمَانُ الدَّرْكِ جُوِّزَ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ؛ إِذِ الْبَائِعُ إِذَا بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ لَيْسَ مَا أَخَذَهُ مِنَ الثَّمَنِ دَيْنًا عَلَيْهِ حَتَّى يَضْمَنَ، وَلَكِنْ جُوِّزَ لاِحْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَى مُعَامَلَةِ مَنْ لاَ يَعْرِفُونَهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ خُرُوجُ الْمَبِيعِ مُسْتَحَقًّا.
وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ الْعِلْجِ (الْكَافِرِ) الَّذِي يَدُل عَلَى قَلْعَةِ الْكُفَّارِ بِجَارِيَةٍ مِنْهَا يَصِحُّ لِلْحَاجَةِ، مَعَ أَنَّ الْجُعْل الْمُعَيَّنَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ مَمْلُوكًا وَهُوَ مَفْقُودٌ هُنَا. (1)
وَالصُّلْحُ إِنْقَاصٌ لِلْحَقِّ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَخْذُ مَال الْغَيْرِ بِدُونِ وَجْهٍ مَشْرُوعٍ وَهُوَ جَائِزٌ؛ لأَِنَّا إِذَا أَجْمَعْنَا عَلَى بَذْل الْمَال بِغَيْرِ حَقٍّ فِي فِدَاءِ الأَْسْرَى وَالْمُخَالَعَةِ وَالظَّلَمَةِ وَالْمُحَارَبِينَ وَالشُّعَرَاءِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لِدَرْءِ الْخُصُومَةِ. (2)
وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّهُ يُبَاحُ مِنْ رِبَا الْفَضْل مَا
__________
(1) أشباه ابن نجيم / 91 - 92، وأشباه السيوطي 97، والمنثور 2 / 24 - 25.
(2) هامش الفروق 4 / 8.(16/256)
تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ كَالْعَرَايَا (وَهِيَ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ) فَهَذَا الْبَيْعُ فِي الْحَقِيقَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الرِّبَا؛ لأَِنَّ الرُّطَبَ وَالتَّمْرَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَحَدُهُمَا أَزْيَدُ مِنَ الآْخَرِ قَطْعًا بِلِينِهِ، فَهُوَ أَزْيَدُ أَجْزَاءً مِنَ الآْخَرِ زِيَادَةً لاَ يُمْكِنُ فَصْلُهَا وَتَمْيِيزُهَا، وَلاَ يُمْكِنُ جَعْل الرُّطَبِ مُسَاوِيًا لِلتَّمْرِ عِنْدَ كَمَال نُضْجِهِ، فَالْمُسَاوَاةُ مَظْنُونَةٌ وَلَيْسَتْ مُتَيَقَّنَةً، فَلاَ يَجُوزُ قِيَاسًا بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالآْخَرِ، لَكِنْ جَاءَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ مُبِيحَةً لَهُ لِلْحَاجَةِ، (1) رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلاً (2) .
هَذِهِ بَعْضُ أَمْثِلَةٍ لِلْحَاجَةِ الْعَامَّةِ.
18 - ب - وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْحَاجَةِ الْخَاصَّةِ مَا يَأْتِي:
ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ مِنْ تَطْبِيقَاتِ قَاعِدَةِ (الْحَاجَةُ الْخَاصَّةُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَ) : الأَْكْل مِنْ طَعَامِ الْكُفَّارِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِلْغَانِمِينَ رُخْصَةً لِلْحَاجَةِ وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَكُونَ مَعَهُ طَعَامٌ آخَرُ، بَل يَأْخُذُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ لُبْسُ الْحَرِيرِ لِحَاجَةِ الْجَرَبِ وَالْحِكَّةِ، وَسَكَتَ الْفُقَهَاءُ عَنِ اشْتِرَاطِ وُجُودِ مَا يُغْنِي عَنْهُ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ لُبْسٍ كَمَا فِي التَّدَاوِي بِالنَّجَاسَةِ.
__________
(1) أعلام الموقعين 2 / 159.
(2) حديث: " رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 390 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1169 - ط الحلبي) من حديث زيد بن ثابت.(16/257)
وَذَكَرَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ فِي قَوَاعِدِهِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْكِلاَبِ إِلاَّ لِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ كَحِفْظِ الزَّرْعِ وَالْمَوَاشِي وَاكْتِسَابِ الصَّيُودِ. (1) وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسَائِل الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ.
أَسْبَابُ الْحَاجَةِ:
19 - الإِْنْسَانُ مُحْتَاجٌ إِلَى مَا يُحَقِّقُ مَصَالِحَهُ الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ دُونَ حَرَجٍ وَمَشَقَّةٍ، وَكُل مَا يَلْحَقُ الإِْنْسَانَ مِنْ مَشَقَّةٍ وَحَرَجٍ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمَصْلَحَةِ يُعْتَبَرُ مِنْ أَسْبَابِ الْحَاجَةِ. وَلِذَلِكَ يَقُول الشَّاطِبِيُّ: الْحَاجِيَّاتُ مُفْتَقَرٌ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةُ وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ. (2)
وَيُمْكِنُ تَقْسِيمُ أَسْبَابِ الْحَاجَةِ أَوْ حَالاَتِ الْحَاجَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الأَْوَّل: أَسْبَابٌ مَصْلَحِيَّةٌ فِي الأَْصْل تَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلنَّاسِ فِي حَيَاتِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. وَهَذِهِ الْمَصَالِحُ هِيَ مَا شُرِعَ لَهَا مَا يُنَاسِبُهَا وَيُحَقِّقُهَا كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ الْجِنَايَاتِ وَالْقِصَاصِ وَالضَّمَانِ وَغَيْرِهَا. (3)
وَالإِْنْسَانُ مُكَلَّفٌ بِعِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
__________
(1) المنثور في القواعد 2 / 25 - 26، وقواعد الأحكام 2 / 139.
(2) الموافقات 2 / 10، وجمع الجوامع 2 / 281.
(3) الموافقات 1 / 300، وهامش الفروق 2 / 141.(16/257)
مَا دَامَتْ حَيَاتُهُ، وَلاَ تَتِمُّ حَيَاتُهُ إِلاَّ بِدَفْعِ ضَرُورَاتِهِ وَحَاجَاتِهِ مِنَ الْمَآكِل وَالْمَشَارِبِ وَالْمَنَاكِحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَلاَ يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلاَّ بِإِبَاحَةِ التَّصَرُّفَاتِ الدَّافِعَةِ لِلضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ.
وَفِي قَوَاعِدِ الأَْحْكَامِ امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِمَا أَبَاحَهُ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَبِمَا جَوَّزَهُ مِنَ الإِْجَارَاتِ وَالْجَعَالاَتِ وَالْوَكَالاَتِ تَحْصِيلاً لِلْمَنَافِعِ الَّتِي لاَ تُحْصَى كَثْرَةً. (1)
الثَّانِي: أَسْبَابٌ هِيَ أَعْذَارٌ طَارِئَةٌ. قَال السُّيُوطِيُّ وَابْنُ نُجَيْمٍ: أَسْبَابُ التَّخْفِيفِ فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا سَبْعَةٌ، وَهِيَ: السَّفَرُ، وَالْمَرَضُ، وَالإِْكْرَاهُ، وَالنِّسْيَانُ، وَالْجَهْل، وَالْعُسْرُ، وَعُمُومُ الْبَلْوَى، وَالنَّقْصُ. وَفِي تَفْصِيل هَذِهِ الأَْسْبَابِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَيْسِيرٌ: ج 14 ص 211 مِنَ الْمَوْسُوعَةِ) .
الْحَاجَةُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا:
20 - مَا شُرِعَ مِنَ الْحَاجِيَّاتِ الْكُلِّيَّةِ تَيْسِيرًا وَتَسْهِيلاً لِمَصَالِحِ النَّاسِ لَهُ صِفَةُ الدَّوَامِ وَالاِسْتِمْرَارِ، يَسْتَفِيدُ مِنْهُ الْمُحْتَاجُ وَغَيْرُ الْمُحْتَاجِ كَالْقَرْضِ، وَالْقِرَاضِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلاَ يَدْخُل تَحْتَ قَاعِدَةِ (الْحَاجَةُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا) .
أَمَّا مَا شُرِعَ مِنَ الأَْحْكَامِ تَخْفِيفًا وَتَرْخِيصًا
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 200 - 201 و 2 / 69، والتبصر لابن فرحون بهامش فتح العلي 1 / 133.(16/258)
بِسَبَبِ الأَْعْذَارِ الطَّارِئَةِ فَهُوَ الَّذِي يُبَاحُ بِالْقَدْرِ الَّذِي تَنْدَفِعُ بِهِ الْحَاجَةُ، وَتَزُول الإِْبَاحَةُ بِزَوَال الْحَاجَةِ. (1)
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:
أ - إِذَا عَمَّ الْحَرَامُ قُطْرًا بِحَيْثُ لاَ يُوجَدُ فِيهِ حَلاَلٌ إِلاَّ نَادِرًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَسْتَعْمِل مِنْ ذَلِكَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَلاَ يَقِفُ تَحْلِيل ذَلِكَ عَلَى الضَّرُورَاتِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ وَقَفَ عَلَيْهَا لأََدَّى إِلَى ضَعْفِ الْعِبَادِ، وَاسْتِيلاَءِ أَهْل الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ عَلَى بِلاَدِ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ نَقْطَعُ النَّاسَ عَنِ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ وَالأَْسْبَابِ الَّتِي تَقُومُ بِمَصَالِحِ الأَْنَامِ. قَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيُّ: وَلاَ يُتَبَسَّطُ فِي هَذِهِ الأَْمْوَال كَمَا يُتَبَسَّطُ فِي الْمَال الْحَلاَل، بَل يُقْتَصَرُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ دُونَ أَكْل الطَّيِّبَاتِ وَنَحْوِهَا مِمَّا هُوَ كَالتَّتِمَّاتِ. (2)
ب - نَظَرُ الشُّهُودِ لِلْمَرْأَةِ لِتَحَمُّل الشَّهَادَاتِ وَنَظَرُ الأَْطِبَّاءِ لِحَاجَةِ الْمُدَاوَاةِ وَالنَّظَرُ إِلَى الْمَرْغُوبِ فِي نِكَاحِهَا قَبْل الْعَقْدِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تُرْجَى إِجَابَتُهَا، وَالنَّظَرُ لإِِقَامَةِ شَعَائِرِ الدِّينِ كَالْخِتَانِ وَإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الزُّنَاةِ. كُل ذَلِكَ جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ، وَيَحْرُمُ النَّظَرُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ. (3)
__________
(1) الموافقات 1 / 300 - 303، وهامش الفروق 2 / 139، وقواعد الأحكام 2 / 4، 141.
(2) المنثور 2 / 317، وقواعد الأحكام 2 / 159 - 160.
(3) قواعد الأحكام 4 / 140 - 141، وقليوبي 3 / 212، والفواكه الدواني 2 / 410، وأشباه ابن نجيم / 86.(16/258)
الْحَاجَاتُ غَيْرُ الْمَحْدُودَةِ لاَ تَتَرَتَّبُ فِي الذِّمَّةِ:
21 - الْحُقُوقُ مِنَ الْحَاجَاتِ غَيْرِ الْمَحْدُودَةِ لاَزِمَةٌ لِلإِْنْسَانِ وَمُطَالَبٌ بِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا لاَ تَتَرَتَّبُ فِي ذِمَّتِهِ؛ وَذَلِكَ لِمَا يَأْتِي:
أَنَّهَا لَوْ تَرَتَّبَتْ فِي ذِمَّتِهِ لَكَانَتْ مَحْدُودَةً مَعْلُومَةً؛ إِذِ الْمَجْهُول لاَ يَتَرَتَّبُ فِي الذِّمَّةِ وَلاَ يُعْقَل نِسْبَتُهُ إِلَيْهَا، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَتَرَتَّبَ دَيْنًا.
وَمِثَالُهُ الصَّدَقَاتُ الْمُطْلَقَةُ، وَسَدُّ الْخَلاَّتِ، وَدَفْعُ حَاجَاتِ الْمُحْتَاجِينَ، وَإِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِينَ، وَإِنْقَاذُ الْغَرْقَى. . . فَإِذَا قَال الشَّارِعُ: أَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ، أَوْ قَال: اكْسُوا الْعَارِيَ، أَوْ: أَنْفِقُوا فِي سَبِيل اللَّهِ، فَمَعْنَى ذَلِكَ طَلَبُ رَفْعِ الْحَاجَةِ فِي كُل وَاقِعَةٍ بِحَسَبِهَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مِقْدَارٍ، فَإِذَا تَعَيَّنَتْ حَاجَةٌ تَبَيَّنَ مِقْدَارُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهَا بِالنَّظَرِ لاَ بِالنَّصِّ، فَإِذَا تَعَيَّنَ جَائِعٌ فَالْمُخَاطَبُ مَأْمُورٌ بِإِطْعَامِهِ وَسَدِّ خَلَّتِهِ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الإِْطْلاَقِ، فَإِنْ أَطْعَمَهُ مَا لاَ يَرْفَعُ عَنْهُ الْجُوعَ فَالطَّلَبُ بَاقٍ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَل مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ كَافٍ وَرَافِعٌ لِلْحَاجَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا أُمِرَ ابْتِدَاءً، وَالَّذِي هُوَ كَافٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ السَّاعَاتِ وَالْحَالاَتِ فِي ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ. (1)
تَقْدِيمُ الْحَوَائِجِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضِهِ:
22 - إِذَا اجْتَمَعَتِ الْحَوَائِجُ وَأَمْكَنَ تَحْصِيلُهَا حُصِّلَتْ، وَذَلِكَ مِثْل الْمُسْتَحِقِّينَ مِنَ الزَّكَاةِ إِذَا
__________
(1) الموافقات 1 / 157.(16/259)
أَمْكَنَ إِيفَاءُ حَاجَةِ الْجَمِيعِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ إِيفَاءُ حَاجَةِ الْجَمِيعِ قُدِّمَ الأَْشَدُّ حَاجَةً عَلَى غَيْرِهِ. وَلِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ الإِْنْسَانُ بِصَدَقَةِ تَطَوُّعٍ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ لِنَفَقَتِهِ أَوْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ. (1) لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: عِنْدِي دِينَارٌ، قَال: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ، قَال: عِنْدِي آخَرُ، قَال: أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ، قَال: عِنْدِي آخَرُ قَال: أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ، قَال: عِنْدِي آخَرُ قَال: أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ، قَال: عِنْدِي آخَرُ، قَال: أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ (2) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالأَْقْرَبِ فَالأَْقْرَبِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ أَشَدُّ حَاجَةً فَيُقَدِّمُهُ، وَلَوْ كَانَ غَيْرُ الْقَرَابَةِ أَحْوَجَ أَعْطَاهُ، فَإِنْ تَسَاوَوْا قُدِّمَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ فِي الْجِوَارِ وَأَكْثَرَ دِينًا. (3)
وَيَقُول الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ فِي قَوَاعِدِهِ: النَّفَقَاتُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمُفْتَقِرَاتِ إِلَى النِّيَّاتِ فَيُقَدِّمُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ عَلَى نَفَقَةِ آبَائِهِ وَأَوْلاَدِهِ وَزَوْجَاتِهِ، وَيُقَدِّمُ نَفَقَةَ زَوْجَاتِهِ عَلَى نَفَقَةِ آبَائِهِ وَأَوْلاَدِهِ؛ لأَِنَّهَا مِنْ تَتِمَّةِ حَاجَاتِهِ.
__________
(1) المهذب 1 / 182.
(2) حديث أبي هريرة: " أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عندي. . . " أخرجه أحمد (2 / 251 - ط الحلبي) . والحاكم (1 / 415 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) المغني 2 / 689، وقواعد الأحكام / 58.(16/259)
وَإِذَا اجْتَمَعَ مُضْطَرَّانِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَا يَدْفَعُ ضَرُورَتَهُمَا لَزِمَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ دَفْعِ الضَّرُورَتَيْنِ تَحْصِيلاً لِلْمَصْلَحَتَيْنِ، وَإِنْ وَجَدَ مَا يَدْفَعُ ضَرُورَةَ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الضَّرُورَةِ وَالْقَرَابَةِ وَالْجِوَارِ وَالصَّلاَحِ احْتَمَل أَنْ يَتَخَيَّرَ بَيْنَهُمَا، وَاحْتَمَل أَنْ يَقْسِمَهُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى، مِثْل أَنْ يَكُونَ وَالِدًا، أَوْ وَالِدَةً، أَوْ قَرِيبًا، أَوْ زَوْجَةً، أَوْ إِمَامًا مُقْسِطًا، أَوْ حَاكِمَا عَدْلاً، قَدَّمَ الْفَاضِل عَلَى الْمَفْضُول. (1)
أَثَرُ الْحَاجَةِ:
23 - مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ تَحْقِيقَ مَصَالِحِ النَّاسِ تَيْسِيرًا لَهُمْ وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَنْهُمْ. وَالْحَاجِيَّاتُ مُفْتَقَرٌ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةُ وَالتَّيْسِيرُ وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْحَرَجِ غَالِبًا. لِذَلِكَ نَجِدُ أَثَرَ الْحَاجَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَيُمْكِنُ إِجْمَال أَثَرِ الْحَاجَةِ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: الاِسْتِثْنَاءُ مِنَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ
(مُخَالَفَةُ الْقِيَاسِ) :
24 - تَظْهَرُ مُخَالَفَةُ الْقِيَاسِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعُقُودِ الَّتِي شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَفْعِ حَوَائِجِهِمْ. وَمِنْ ذَلِكَ عَقْدُ الإِْجَارَةِ، فَإِنَّهُ جُوِّزَ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ. (2)
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 58 - 59.
(2) بدائع الصنائع 4 / 173 - 174.(16/260)
وَالْقِيَاسُ فِي الْمُضَارَبَةِ عَدَمُ الْجَوَازِ؛ لأَِنَّهَا اسْتِئْجَارٌ بِأَجْرٍ مَجْهُولٍ بَل بِأَجْرٍ مَعْدُومٍ وَلِعَمَلٍ مَجْهُولٍ، لَكِنْ تُرِكَ الْقِيَاسُ؛ لأَِنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إِلَى عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ؛ لأَِنَّ الإِْنْسَانَ قَدْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ لَكِنَّهُ لاَ يَهْتَدِي إِلَى التِّجَارَةِ، وَقَدْ يَهْتَدِي إِلَى التِّجَارَةِ لَكِنَّهُ لاَ مَال لَهُ، فَكَانَ فِي شَرْعِ هَذَا الْعَقْدِ دَفْعُ الْحَاجَتَيْنِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا شَرَعَ الْعُقُودَ إِلاَّ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَفْعِ حَوَائِجِهِمْ. (1)
وَمِنْ ذَلِكَ شَرْطُ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ لَكِنْ تُرِكَ اعْتِبَارُ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ. (2)
وَيَقُول الْقَرَافِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ قَاعِدَةَ الْقَرْضِ خُولِفَتْ فِيهَا ثَلاَثُ قَوَاعِدُ شَرْعِيَّةٌ، قَاعِدَةُ الرِّبَا إِنْ كَانَ فِي الرِّبَوِيَّاتِ كَالنَّقْدَيْنِ وَالطَّعَامِ، وَقَاعِدَةُ الْمُزَابَنَةِ وَهِيَ بَيْعُ الْمَعْلُومِ بِالْمَجْهُول مِنْ جِنْسِهِ إِنْ كَانَ فِي الْحَيَوَانِ وَنَحْوِهِ مِنْ غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ، وَقَاعِدَةُ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ فِي الْمِثْلِيَّاتِ. وَسَبَبُ مُخَالَفَةِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ مَصْلَحَةُ الْمَعْرُوفِ لِلْعِبَادِ. (3)
وَفِي قَوَاعِدِ الأَْحْكَامِ لِلْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ: اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ لِعِبَادِهِ السَّعْيَ فِي تَحْصِيل مَصَالِحَ عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ تَجْمَعُ كُل قَاعِدَةٍ مِنْهَا عِلَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهَا مَا فِي مُلاَبَسَتِهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، أَوْ مَفْسَدَةٌ تَرْبُو عَلَى الْمَصْلَحَةِ،
__________
(1) البدائع 6 / 79.
(2) البدائع 4 / 179.
(3) الفروق 4 / 2.(16/260)
وَكَذَلِكَ شَرَعَ لَهُمُ السَّعْيَ فِي دَرْءِ مَفَاسِدَ فِي الدَّارَيْنِ أَوْ فِي إِحْدَاهُمَا تَجْمَعُ كُل قَاعِدَةٍ مِنْهَا عِلَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهَا مَا فِي اجْتِنَابِهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ، أَوْ مَصْلَحَةٌ تَرْبُو عَلَى الْمَفْسَدَةِ، وَكُل ذَلِكَ رَحْمَةً بِعِبَادِهِ، وَيُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَا خَالَفَ الْقِيَاسَ، وَذَلِكَ جَارٍ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَاوَضَاتِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ. (1)
ثَانِيًا: الأَْخْذُ بِالأَْعْرَافِ وَالْعَادَاتِ:
25 - قَدْ تَقْتَضِي مَصَالِحُ النَّاسِ وَحَوَائِجُهُمْ الأَْخْذَ بِالْعَادَاتِ وَالأَْعْرَافِ. لَكِنِ الْمَقْصُودُ هُوَ الْعُرْفُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ دُونَ أَنْ يُحَرِّمَ حَلاَلاً أَوْ يُحِل حَرَامًا. وَلِذَلِكَ يَقُول الْفُقَهَاءُ: الثَّابِتُ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ.
وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ: الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ، أَيْ مَعْمُولٌ بِهَا شَرْعًا. وَيَقُول الشَّاطِبِيُّ: الْعَوَائِدُ الْجَارِيَةُ ضَرُورِيَّةُ الاِعْتِبَارِ شَرْعًا، كَانَتْ شَرْعِيَّةً فِي أَصْلِهَا أَوْ غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ، أَيْ سَوَاءً أَكَانَتْ مُقَرَّرَةً بِالدَّلِيل شَرْعًا - أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ إِذْنًا - أَمْ لاَ، أَمَّا الْمُقَرَّرَةُ بِالدَّلِيل فَأَمْرُهَا ظَاهِرٌ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَلاَ يَسْتَقِيمُ إِقَامَةُ التَّكْلِيفِ إِلاَّ بِذَلِكَ. ثُمَّ عَلَّل ذَلِكَ فَقَال: لأَِنَّ الشَّارِعَ بِاعْتِبَارِهِ الْمَصَالِحَ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ قَطْعًا لَزِمَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِهِ الْعَوَائِدَ؛ لأَِنَّ أَصْل
__________
(1) قواعد الأحكام 2 / 138 وما بعدها.(16/261)
التَّشْرِيعِ سَبَبٌ لِلْمَصَالِحِ، وَالتَّشْرِيعُ دَائِمٌ فَالْمَصَالِحُ كَذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى اعْتِبَارِهِ لِلْعَادَاتِ فِي التَّشْرِيعِ، وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْعَوَائِدَ لَوْ لَمْ تُعْتَبَرْ لأََدَّى إِلَى تَكْلِيفِ مَا لاَ يُطَاقُ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ أَوْ غَيْرُ وَاقِعٍ. (1)
وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ فِي بَيْعِ الدَّارِ: الأَْصْل أَنَّ مَا لاَ يَكُونُ مِنْ بِنَاءِ الدَّارِ وَلاَ مُتَّصِلاً بِهَا لاَ يَدْخُل إِلاَّ إِذَا جَرَى الْعُرْفُ أَنَّ الْبَائِعَ لاَ يَمْنَعُهُ مِنَ الْمُشْتَرِي، فَالْمِفْتَاحُ يَدْخُل اسْتِحْسَانًا لاَ قِيَاسًا؛ لِعَدَمِ اتِّصَالِهِ، وَقُلْنَا بِدُخُولِهِ بِحُكْمِ الْعُرْفِ. (2)
ثَالِثًا: إِبَاحَةُ الْمَحْظُورِ لِلْحَاجَةِ، وَكَذَلِكَ مَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ:
26 - الْحَرِيرُ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَال وَلَكِنَّهُ يَجُوزُ لُبْسُهُ لِلْحَاجَةِ كَإِزَالَةِ الأَْذَى وَالْحِكَّةِ. (3)
وَالنَّظَرُ إِلَى الأَْجْنَبِيَّةِ حَرَامٌ لَكِنَّهُ يُبَاحُ عِنْدَ الْخِطْبَةِ وَلِلتَّعْلِيمِ وَلِلإِْشْهَادِ. (4)
وَالْمَسْأَلَةُ حَرَامٌ لِمَا فِيهَا مِنَ الذِّلَّةِ وَالاِمْتِهَانِ، لَكِنَّهَا تُبَاحُ لِلْحَاجَةِ، وَقَدْ حَدَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوَاطِنَ الْحَاجَةِ الَّتِي تُبِيحُ السُّؤَال فِي حَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلاَلِيِّ
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2 / 286 وما بعدها.
(2) ابن عابدين 4 / 34، ورسائل ابن عابدين 2 / 125.
(3) الاختيار 3 / 158، والمنثور 2 / 25، 26.
(4) الأشباه لابن نجيم / 76 وما بعدها، وأشباه السيوطي / 87، والاختيار 3 / 154.(16/261)
الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ، قَال قَبِيصَةُ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَأَتَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ فِيهَا، فَقَال: أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا، قَال: ثُمَّ قَال: يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَحِل إِلاَّ لأَِحَدِ ثَلاَثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّل حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَال: سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ - وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُول ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَال: سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ - فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا (1) . وَيَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: مَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ. (2)
رَابِعًا: اعْتِبَارُ الشُّبُهَاتِ فِي دَرْءِ الْحُدُودِ:
27 - ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ الْحَاجَةَ شُبْهَةٌ دَارِئَةٌ لِحَدِّ السَّرِقَةِ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُقِمْ حَدَّ السَّرِقَةِ فِي عَامِ الْمَجَاعَةِ، وَأَسْقَطَهَا عَنْ غِلْمَةِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ حِينَمَا سَرَقُوا بَعِيرًا لآِخَرَ وَذَبَحُوهُ وَأَكَلُوهُ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا
__________
(1) المغني 2 / 662، وقواعد الأحكام 2 / 172. وحديث قبيصة بن مخارق الهلالي: " تحملت حمالة. . . " أخرجه مسلم (2 / 722 - ط الحلبي) .
(2) أعلام الموقعين 2 / 161.(16/262)
مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لاَ يَجِدُ مَا يَشْتَرِيهِ، أَوْ لاَ يَجِدُ مَا يَشْتَرِي بِهِ، فَإِنَّ لَهُ شُبْهَةً فِي أَخْذِ مَا يَأْكُلُهُ. وَقَدْ بَنَى ابْنُ قُدَامَةَ هَذَا عَلَى قَوْل أَحْمَدَ: لاَ قَطْعَ فِي الْمَجَاعَةِ. وَقَوْلُهُ: لاَ أَقْطَعُهُ إِذَا حَمَلَتْهُ الْحَاجَةُ وَالنَّاسُ فِي شِدَّةٍ وَمَجَاعَةٍ. (1)
__________
(1) المغني 8 / 278، وجامع الأصول 3 / 574.(16/262)
حَارِصَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَارِصَةُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْحَرْصِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ الشَّقُّ وَالْخَرْقُ، وَمِنْهُ قِيل: حَرَصَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ أَيْ شَقَّهُ وَخَرَقَهُ بِالدَّقِّ. (1)
وَالْحَارِصَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ نَوْعٌ مِنَ الشِّجَاجِ وَهِيَ الشَّجَّةُ الَّتِي تَحْرِصُ الْجِلْدَ أَيْ تَخْدِشُهُ وَتَشُقُّهُ قَلِيلاً وَتَقْشُرُهُ شَيْئًا يَسِيرًا وَلاَ تُدْمِيهِ. وَالْحَارِصَةُ تُسَمَّى الْخَادِشَةُ وَالْقَاشِرَةُ أَيْضًا. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الدَّامِيَةُ:
2 - وَهِيَ الشَّجَّةُ الَّتِي تُحْدِثُ الشَّقَّ فِي الْجِلْدِ وَتُسِيل الدَّمَ، وَتُسَمَّى الْبَازِلَةَ وَالدَّامِعَةَ، وَقَدْ فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الدَّامِعَةِ وَالدَّامِيَةِ، بِأَنَّ الأُْولَى تُظْهِرُ الدَّمَ كَالدَّمْعِ وَلاَ تُسِيلُهُ، وَالدَّامِيَةُ هِيَ الَّتِي تُسِيل الدَّمَ. (3)
ب - الْبَاضِعَةُ، وَهِيَ الشَّجَّةُ الَّتِي تَبْضَعُ اللَّحْمَ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب مادة (حرص) .
(2) ابن عابدين 5 / 372، وجواهر الإكليل 2 / 259، وحاشية القليوبي 4 / 112، والمغني 8 / 55، وكشاف القناع 6 / 51، والمطلع على أبواب المقنع ص 367.
(3) نفس المراجع.(16/263)
أَيْ تَقْطَعُهُ وَتَشُقُّهُ بَعْدَ الْجِلْدِ.
ج - الْمُتَلاَحِمَةُ: وَهِيَ الَّتِي تَغُوصُ فِي اللَّحْمِ وَتَشُقُّهُ أَكْثَرَ مِنَ الْبَاضِعَةِ دُونَ الْعَظْمِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْمُتَلاَحِمَةَ هِيَ الَّتِي غَاصَتْ فِي اللَّحْمِ بِتَعَدُّدٍ، أَيْ يَمِينًا وَشِمَالاً وَلَمْ تَقْرَبْ لِلْعَظْمِ، فَإِنِ انْتَفَى التَّعَدُّدُ فَبَاضِعَةٌ.
د - السِّمْحَاقُ: وَهِيَ الَّتِي تَصِل إِلَى الْقِشْرَةِ الرَّقِيقَةِ بَيْنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ وَالَّتِي تُسَمَّى سِمْحَاقًا، وَلِهَذَا تُسَمَّى الْجِرَاحُ الْوَاصِلَةُ إِلَيْهَا سِمْحَاقًا. (1)
وَهَذِهِ الأَْرْبَعُ تَشْتَرِكُ مَعَ الْحَارِصَةِ فِي الْحُكْمِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ أَنَّ فِي كُل نَوْعٍ مِنْهَا حُكُومَةَ عَدْلٍ.
وَهُنَاكَ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنَ الشِّجَاجِ فِي بَعْضِهَا قِصَاصٌ كَالْمُوضِحَةِ، وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ وَتُبْدِي بَيَاضَهُ، وَفِي بَعْضِهَا دِيَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَلاَ قِصَاصَ، كَالْهَاشِمَةِ، وَالْمُنَقِّلَةِ، وَالآْمَّةِ وَالْجَائِفَةِ، مَعَ خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ، وَيُنْظَرُ حُكْمُ كُل وَاحِدٍ مِنْهَا فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي الْحَارِصَةِ وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ (2) إِذْ لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ،
__________
(1) المطلع على أبواب المقنع ص 267، والمراجع السابقة.
(2) ابن عابدين 5 / 373، والقليوبي 4 / 113، وكشاف القناع 6 / 52.(16/263)
وَلاَ يُمْكِنُ إِهْدَارُهَا، فَوَجَبَ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ. (1)
وَلِمَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ تَقْدِيرِ حُكُومَةِ الْعَدْل انْظُرْ مُصْطَلَحَ (حُكُومَةُ عَدْلٍ) .
4 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْحَارِصَةِ وَأَخَوَاتِهَا مَا قَبْل الْمُوضِحَةِ، وَذَلِكَ بِالْقِيَاسِ طُولاً وَعَرْضًا وَعُمْقًا، وَالْقِصَاصُ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا فِي غَيْرِ الْحَارِصَةِ إِذَا تَيَسَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (2) ، وَلأَِنَّهُ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ وَاعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ بِأَنْ يَسْبُرَ غَوْرَهَا بِمِسْبَارٍ ثُمَّ يَتَّخِذَ حَدِيدَةً بِقَدْرِهِ فَيَقْطَعَ. (3)
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ السِّمْحَاقَ فَلاَ قَوَدَ فِيهَا، كَمَا لاَ قَوَدَ عِنْدَهُمْ فِي مَا بَعْدَهَا مِنَ الْهَاشِمَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ وَغَيْرِهِمَا. (4)
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الْحَارِصَةِ وَأَخَوَاتِهَا مِنَ الشِّجَاجِ وَالْجِرَاحِ فِي أَبْوَابِ الْجِنَايَاتِ وَالدِّيَاتِ وَالْقِصَاصِ. فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَأَبْوَابِهَا.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) سورة المائدة / 45.
(3) ابن عابدين 5 / 373، وجواهر الإكليل 2 / 259، 260، والدسوقي 4 / 251.
(4) ابن عابدين 5 / 373، 374.(16/264)
حَافِدٌ
انْظُرْ: حَفِيدٌ
حَاقِبٌ
انْظُرْ: حَاقِنٌ(16/264)
حَاقِنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَاقِنُ لُغَةً: مِنْ حَقَنَ الشَّيْءَ يَحْقِنُهُ حَقْنًا حَبَسَهُ فَهُوَ مَحْقُونٌ وَحَقِينٌ، وَحَقَنَ الرَّجُل بَوْلَهُ حَبَسَهُ، وَبَعِيرٌ مِحْقَانٌ يَحْقِنُ الْبَوْل فَإِذَا بَال أَكْثَرَ مِنْهُ، وَاحْتَقَنَ الْمَرِيضُ احْتَبَسَ بَوْلُهُ. وَالْحَاقِنُ هُوَ الَّذِي لَهُ بَوْلٌ شَدِيدٌ. (1)
وَفِي الْحَدِيثِ: لاَ رَأْيَ لِحَاقِنٍ، وَلاَ لِحَاقِبٍ، وَلاَ لِحَازِقٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَاقِبُ:
2 - الْحَاقِبُ لُغَةً مِنْ حَقِبَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ حَقِبٌ إِذَا تَعَسَّرَ عَلَيْهِ الْبَوْل، أَوِ احْتَبَسَ، وَالْحَاقِبُ أَيْضًا هُوَ الَّذِي احْتَاجَ إِلَى الْخَلاَءِ فَلَمْ يَتَبَرَّزْ أَوْ حُصِرَ غَائِطُهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: لاَ رَأْيَ لِحَاقِنٍ، وَلاَ لِحَاقِبٍ وَلاَ لِحَازِقٍ (3) .
__________
(1) لسان العرب،، والمغرب مادة: (حقن) .
(2) حديث: " لا رأي لحاقن ولا لحاقب ولا لحازق " ذكره ابن قتيبة في غريب الحديث (3 / 749 - ط وزارة الأوقاف العراقية) ولم يذكر له إسنادا.
(3) حديث: " لا رأي لحاقن. . . " سبق ذكره ف / 1.(16/265)
وَالْحَقَبُ حَبْلٌ يُشَدُّ بِهِ رَحْل الْبَعِيرِ إِلَى بَطْنِهِ كَيْ لاَ يَتَقَدَّمَ إِلَى كَاهِلِهِ وَهُوَ غَيْرُ الْحِزَامِ، وَالْحِقْبَةُ مِنَ الدَّهْرِ مُدَّةٌ لاَ وَقْتَ لَهَا، وَالأَْحْقَابُ الدُّهُورُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} (1) . وَحَقِبَتِ السَّمَاءُ حَقَبًا إِذَا لَمْ تُمْطِرْ، وَحَقِبَ الْمَطَرُ حَقَبًا إِذَا احْتَبَسَ، وَكُل مَاءٍ احْتَبَسَ فَقَدْ حَقِبَ. وَالْحَاقِبُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ الْمُدَافِعُ لِلْغَائِطِ. (2)
ب - الْحَصْرُ:
3 - الْحَصْرُ هُوَ احْتِبَاسُ الْبَطْنِ، وَقَدْ حُصِرَ وَأُحْصِرَ وَيُقَال: حُصِرَ غَائِطُهُ وَأُحْصِرَ بِغَائِطِهِ وَحُصِرَ عَلَيْهِ بَوْلُهُ وَخَلاَؤُهُ. وَالْحَصْرُ مَصْدَرُ حَصِرَ يَحْصَرُ حَصَرًا، إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَلاَمِ، وَالْحَصُورُ الْكَتُومُ لِلسِّرِّ الْحَابِسُ لَهُ لاَ يَبُوحُ بِهِ، وَحَصِرَ صَدْرُهُ ضَاقَ وَحَصَرَهُ الْمَرَضُ وَالْعَدُوُّ، وَأَحْصَرَهُ إِذَا حَبَسَهُ وَمَنَعَهُ مِنَ الْمُضِيِّ لِحَاجَتِهِ. (3)
ج - الْحَازِقُ:
4 - الْحَازِقُ الْمَحْصُورُ بِالرِّيحِ، وَالْحَاقِبُ الْمَحْصُورُ بِالْبَوْل وَالْغَائِطِ، وَقِيل الْحَازِقُ الْمَحْصُورُ بِالْبَوْل
__________
(1) سورة النبأ / 23.
(2) لسان العرب، مادة: (حقب) ، ومغني المحتاج 1 / 202، وحاشية الدسوقي 1 / 288.
(3) لسان العرب مادة: (حصر) .(16/265)
وَالْغَائِطِ، وَقِيل: الْحَازِقُ الَّذِي ضَاقَ خُفُّهُ فَحَزَقَ قَدَمَهُ أَيْ ضَغَطَهَا. (1)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ صَلاَةَ الْحَاقِنِ وَهُوَ الْمُدَافِعُ لِلْبَوْل، وَصَلاَةَ الْحَاقِبِ وَهُوَ الْمُدَافِعُ لِلْغَائِطِ مَكْرُوهَةٌ أَيْ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ تَحْرِيمًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَلاَةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ وَلاَ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَْخْبَثَانِ (2) .
وَالْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُخِل بِالْخُشُوعِ وَبِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُفْرِغَ نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ قَبْل دُخُول الصَّلاَةِ وَإِنْ فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: يُسْتَحَبُّ لِلْحَاقِنِ أَوِ الْحَاقِبِ أَنْ يُفْرِغَ نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ فَاتَهُ الْوَقْتُ. وَتَخْتَصُّ الْكَرَاهَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِمَا إِذَا بَدَأَ الصَّلاَةَ وَهُوَ حَاقِبٌ، أَمَّا إِذَا طَرَأَ لَهُ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ فَلَيْسَ لَهُ الْخُرُوجُ مِنَ الصَّلاَةِ إِذَا كَانَتْ مَفْرُوضَةً إِلاَّ إِنْ ظَنَّ بِكَتْمِهِ ضَرَرًا. (3)
__________
(1) حواشي الشرواني على تحفة المحتاج 2 / 163، وابن عابدين 1 / 431، والمغرب مادة: (حقن) .
(2) حديث: " لا صلاة بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان ". أخرجه مسلم (1 / 393 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 431، والقوانين الفقهية ص 56، وتحفة المحتاج 2 / 163، ومغني المحتاج 1 / 202، وكتاب الفروع 1 / 486، ومطالب أولي النهى 1 / 480.(16/266)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَصَلاَةُ الْحَاقِبِ أَوِ الْحَاقِنِ مَكْرُوهَةٌ، سَوَاءٌ طَرَأَ لَهُ ذَلِكَ قَبْل شُرُوعِهِ فِي الصَّلاَةِ أَوْ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِيهَا، فَإِنْ شَغَلَهُ ذَلِكَ عَنِ الصَّلاَةِ قَطَعَهَا إِنْ لَمْ يَخَفْ فَوَاتَ الْوَقْتِ، وَإِنْ أَتَمَّهَا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ أَثِمَ؛ لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ: لاَ يَحِل لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يُصَلِّيَ وَهُوَ حَقِنٌ حَتَّى يَتَخَفَّفَ (1) وَمِثْلُهُ الْحَاقِبُ. (2)
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا انْتَهَتْ بِهِ مُدَافَعَةُ الأَْخْبَثَيْنِ إِلَى أَنْ ذَهَبَ خُشُوعُهُ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ: لاَ صَلاَةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ وَلاَ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَْخْبَثَانِ. (3)
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ صَلاَةَ الْحَاقِنِ وَالْحَاقِبِ بَاطِلَةٌ إِذَا كَانَ فِي الإِْتْيَانِ بِهَا مَعَهُ مَشَقَّةٌ أَوْ مَشْغَلَةٌ. (4)
قَضَاءُ الْحَاقِنِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
__________
(1) حديث: " لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصلي وهو حقن حتى يتخفف " أخرجه أبو داود (1 / 70 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة، وقال الزيلعي في نصب الراية (2 / 102 - ط المجلس العلمي) : " فيه رجل فيه جهالة ".
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 431.
(3) مغني المحتاج 1 / 202، والفروع 1 / 486.
(4) الدسوقي 1 / 288.(16/266)
وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لَدَى الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ وَهُوَ حَاقِنٌ أَوْ حَاقِبٌ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ حُضُورَ الْقَلْبِ وَاسْتِيفَاءَ الرَّأْيِ وَيَشْغَل الْفِكْرَ الْمُوَصِّل إِلَى إِصَابَةِ الْحَقِّ غَالِبًا وَلأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الْغَضَبِ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحْكُمُ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ (1) .
وَلَكِنْ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي وَهُوَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ نَفَذَ قَضَاؤُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ قَضَاءُ الْقَاضِي وَهُوَ حَاقِنٌ أَوْ حَاقِبٌ. فَإِنْ خَالَفَ وَحَكَمَ فَأَصَابَ الْحَقَّ نَفَذَ حُكْمُهُ. (2)
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْحَنَابِلَةِ: لاَ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لأَِنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. (3)
وَجَرَى مِثْل هَذَا الْخِلاَفِ بَيْنَ الْحَنَابِلَةِ فِي إِفْتَاءِ الْحَاقِنِ وَالْحَاقِبِ.
__________
(1) حديث: " لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 136 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1343 - ط الحلبي) من حديث أبي بكرة واللفظ لمسلم، ولفظ البخاري: " لا يقضين حكم ".
(2) تحفة المحتاج 10 / 135، ومغني المحتاج 4 / 391، والمغني لابن قدامة 9 / 49، وكشف المخدرات ص 509، والإنصاف 11 / 209.
(3) الإنصاف 11 / 209، ومطالب أولي النهى 6 / 479.(16/267)
فَمِنْهُمْ مَنْ قَال: بِتَحْرِيمِهِ وَعَدَمِ صِحَّتِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: لاَ يُفْتِي الْمُفْتِي وَهُوَ حَاقِبٌ أَوْ حَاقِنٌ، فَإِنْ أَفْتَى وَأَصَابَ صَحَّتْ فَتْوَاهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ. (1)
__________
(1) الإنصاف 11 / 186.(16/267)
حَاكِمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَاكِمُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ: حَكَمَ بِمَعْنَى: قَضَى. يُقَال: حَكَمَ عَلَيْهِ، وَحَكَمَ لَهُ: وَالْوَصْفُ: حَاكِمٌ وَحَكَمٌ، وَالْحَكَمُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى. (1)
وَالْحَاكِمُ فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ: هُوَ اسْمٌ يَتَنَاوَل الْخَلِيفَةَ، وَالْوَالِيَ، وَالْقَاضِيَ، وَالْمُحَكَّمَ، (2) إِلاَّ أَنَّهُ عِنْدَ الإِْطْلاَقِ فِي عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْقَاضِي. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْمَجَلَّةِ فِي تَعْرِيفِ الْحَاكِمِ: الْحَاكِمُ هُوَ: الَّذِي نُصِّبَ وَعُيِّنَ مِنْ قِبَل السُّلْطَانِ لأَِجْل فَصْل وَحَسْمِ الدَّعْوَى، وَالْمُخَاصَمَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ النَّاسِ تَوْفِيقًا لأَِحْكَامِهَا. (3)
وَالْمُرَادُ بِالْحَاكِمِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ فِي تَقْسِيمَاتِ الْحُكْمِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ الشَّارِعُ وَالْمُكَلِّفُ بِالأَْحْكَامِ.
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، وفتح القدير 3 / 11.
(2) القليوبي 2 / 156 " الحاكم كل من له ولاية ولو بالتغلب ".
(3) قليوبي 4 / 330، وابن عابدين 4 / 298، وفتح الباري 13 / 111، والمجلة مادة: (1785) .(16/268)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُحْتَسِبُ:
2 - الْمُحْتَسِبُ: مِنَ الاِحْتِسَابِ الَّذِي هُوَ طَلَبُ الأَْجْرِ، وَفِي الشَّرْعِ: هُوَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا ظَهَرَ تَرْكُهُ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا ظَهَرَ فِعْلُهُ، كَمَا قَال الْمَاوَرْدِيُّ. (1) وَيَتَوَلَّى ضَبْطَ الْمَوَازِينِ وَالْمَكَايِيل، وَسَائِرَ أُمُورِ الْحِسْبَةِ. فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَاكِمِ أَنَّ الْمُحْتَسِبَ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ الْفَصْل فِي الْخُصُومَاتِ.
ب - الْمُفْتِي:
3 - الْمُفْتِي: هُوَ مَنْ يُبَيِّنُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ بِدُونِ إِلْزَامٍ. (2)
أَوَّلاً - الْحَاكِمُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ الْمُتَكَلِّمِينَ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ الْحَاكِمَ حَقِيقَةً هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، لاَ يَنْفُذُ فِي خَلْقِهِ إِلاَّ مَا شَاءَ، وَأَنَّهُ يَأْمُرُ الْعِبَادَ وَيَنْهَاهُمْ، وَيَجِبُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَيُثَابُونَ بِالطَّاعَةِ، وَيُعَاقَبُونَ بِالْمَعْصِيَةِ، كَمَا لاَ خِلاَفَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُ يُطْلَقُ لَفْظُ الْحَاكِمِ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَالْقَاضِي بِمَعْنَى مَنْ إِلَيْهِ فَصْل الْخُصُومَاتِ. وَالتَّفْصِيل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) الأحكام السلطانية ص 240.
(2) المصباح المنير، ومختار الصحاح، مواد: أمر، حسب، فتى.(16/268)
ثَانِيًا: الْحَاكِمُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ فِي تَوْلِيَةِ الْحَاكِمِ:
5 - تَنْصِيبُ الْحَاكِمِ بِمَعْنَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ فَرْضٌ بِشُرُوطٍ وَقَوَاعِدَ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِمَامَةٌ كُبْرَى) .
وَأَمَّا الْحَاكِمُ بِمَعْنَى الْقَاضِي فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَوَلِّيَ الْقَضَاءِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ وَلِيَ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ يَسْقُطُ الإِْثْمُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِلاَّ أَثِمُوا جَمِيعًا، وَتَنْصِيبُ الْحَاكِمِ فَرْضٌ عَلَى الإِْمَامِ؛ لأَِنَّهُ يُنْصَبُ لإِِقَامَةِ أَمْرٍ مَفْرُوضٍ، وَهُوَ فَصْل الْخُصُومَاتِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالإِْمَامُ هُوَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ الرَّعِيَّةِ الْمُتَكَلِّمُ بِاسْمِهِمُ الْمَسْئُول عَنْهُمْ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَعْيِينُ الْقُضَاةِ فِي كُل الأَْنْحَاءِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَل اللَّهُ} (1) . وَلِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ وَلِمِسَاسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِتَقْيِيدِ الأَْحْكَامِ، وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ؛ وَقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ الْفَسَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. (2)
وَتَنْصِيبُ الْحَاكِمِ مِنِ اخْتِصَاصِ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ بِإِذْنِهِ. وَلاَ تَثْبُتُ وِلاَيَتُهُ إِلاَّ بِتَوْلِيَةِ الإِْمَامِ، أَوْ نَائِبِهِ
__________
(1) سورة المائدة / 48.
(2) كشاف القناع 6 / 286، والإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع 2 / 296، وبدائع الصنائع 7 / 2 - 3، والأحكام السلطانية ص 6، وروضة الطالبين 11 / 123.(16/269)
بِإِذْنِهِ؛ لأَِنَّهَا مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الْمَنُوطَةِ بِالإِْمَامِ، كَعَقْدِ الْجِزْيَةِ، وَالْهُدْنَةِ، فَلَمْ تَجُزْ إِلاَّ مِنْ جِهَةِ الإِْمَامِ. (1)
وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ فِي تَوْلِيَةِ الْحَاكِمِ وَمَا تَنْعَقِدُ بِهِ وِلاَيَتُهُ وَشُرُوطِهِ وَاخْتِصَاصَاتِهِ وَتَعَدُّدِهِ وَقَابِلِيَّةِ أَحْكَامِهِ وَتَقْرِيرَاتِهِ لِلنَّقْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، يُنْظَرُ فِي: (قَضَاءٌ) .
__________
(1) المصادر السابقة.(16/269)
حَامِلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَامِل فِي اللُّغَةِ الْحُبْلَى وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ حَمَل الشَّيْءَ حَمْلاً، وَالْحَمْل أَيْضًا مَا يُحْمَل فِي الْبَطْنِ مِنَ الْوَلَدِ وَجَمْعُهُ أَحْمَالٌ وَحِمَالٌ، يُقَال: حَمِلَتِ الْمَرْأَةُ الْوَلَدَ وَحَمَلَتْ بِهِ عَلِقَتْ فَهِيَ حَامِلٌ بِغَيْرِ هَاءٍ؛ لأَِنَّهَا صِفَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِالإِْنَاثِ، وَرُبَّمَا قِيل: حَامِلَةٌ. وَتُسْتَعْمَل فِي كُل أُنْثَى مِنَ الإِْنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ. يُقَال: حَبِلَتِ الْمَرْأَةُ، وَكُل بَهِيمَةٍ تَلِدُ حَبَلاً إِذَا حَمِلَتْ بِالْوَلَدِ، فَهِيَ حُبْلَى. وَقَال بَعْضُهُمُ: الْحَبَل مُخْتَصٌّ بِالآْدَمِيَّاتِ، وَأَمَّا الْحَمْل فَيَشْمَل الآْدَمِيَّاتِ وَالْبَهَائِمَ وَالشَّجَرَ، وَيُقَال فِيهَا: (حَمْلٌ) بِالْمِيمِ. (1)
أَمَّا حَمْل الْمَتَاعِ فَيُقَال فِيهِ: حَامِلٌ لِلذَّكَرِ، وَحَامِلَةٌ بِالْهَاءِ لِلأُْنْثَى؛ لأَِنَّهَا صِفَةٌ مُشْتَرَكَةٌ، وَالْحِمْل: مَا يُحْمَل عَلَى الظَّهْرِ وَنَحْوِهِ. (2)
وَتُنْظَرُ أَحْكَامُ حَمْل الْمَتَاعِ فِي مُصْطَلَحِ: (حَمْلٌ) (وَإِجَارَةٌ) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، مادتي: (حول، وحبل) .
(2) متن اللغة، والمصباح المنير، ولسان العرب مادة: (حمل) وفتح القدير 6 / 266، وابن عابدين 2 / 116.(16/270)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَائِل:
2 - الْحَائِل هِيَ الأُْنْثَى الَّتِي لَمْ تَحْمِل فَهِيَ مُقَابِل الْحَامِل. (1)
أَحْكَامُ الْحَامِل:
أَوَّلاً: بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ:
دَمُ الْحَامِل:
3 - الْغَالِبُ عَدَمُ نُزُول الدَّمِ مِنَ الْحَامِل؛ لأَِنَّ فَمَ الرَّحِمِ يَنْسَدُّ بِالْحَبَل عَادَةً، وَلاَ يَنْفَتِحُ إِلاَّ بِخُرُوجِ الْوَلَدِ حَيْثُ يَنْدَفِعُ النِّفَاسُ. فَإِذَا رَأَتِ الْحَامِل دَمًا حَال الْحَمْل وَقَبْل الْمَخَاضِ يَكُونُ دَمَ اسْتِحَاضَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْقَوْل الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اعْتَبَرُوا الدَّمَ النَّازِل مِنَ الْحَامِل قَبْل وِلاَدَتِهَا بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ نِفَاسًا.
وَالاِسْتِحَاضَةُ لاَ تُسْقِطُ الصَّلاَةَ، وَلاَ تُحَرِّمُ الصَّوْمَ اتِّفَاقًا، وَلاَ الْجِمَاعَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، بِخِلاَفِ النِّفَاسِ الَّذِي يُسْقِطُ الصَّلاَةَ وَيُحَرِّمُ الصَّوْمَ وَالْوَطْءَ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، مادتي: (حول وحبل) وابن عابدين 2 / 609، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 481.
(2) فتح القدير 1 / 165، 167، والبدائع 1 / 176، 4 / 65، والدسوقي 1 / 169، 170، والمجموع 2 / 384، 386، والمغني 1 / 339، 350، 361 - 362.(16/270)
الدَّمَ النَّازِل مِنَ الْحَامِل يُعْتَبَرُ حَيْضًا يَمْنَعُ الصَّوْمَ وَالصَّلاَةَ وَالْوَطْءَ، لَكِنَّهُ لاَ يُحْسَبُ مِنْ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ. (1)
أَمَّا الدَّمُ الَّذِي تَرَاهُ الْحَامِل بَيْنَ الْوِلاَدَتَيْنِ فِي أَقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَفِيهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ رَأْيَانِ: الأَْوَّل: أَنَّهُ دَمُ نِفَاسٍ يَمْنَعُ الصَّوْمَ، وَالصَّلاَةَ، وَالْوَطْءَ؛ لأَِنَّهُ دَمٌ خَارِجٌ عَقِيبَ الْوِلاَدَةِ. وَهَذَا رَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ دَمُ اسْتِحَاضَةٍ لاَ يَمْنَعُ مِنَ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْجِمَاعِ؛ لأَِنَّ النِّفَاسَ يَتَعَلَّقُ بِوَضْعِ مَا فِي الْبَطْنِ وَهِيَ لاَ تَزَال حُبْلَى، وَهَذَا رَأْيُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ يَكُونُ بِوِلاَدَةِ الثَّانِي؛ لأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ وَلَمْ يَحْصُل بِوِلاَدَةِ الأَْوَّل. (2) وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِحَاضَةٌ ف 22 - 25) وَتَوْأَمٌ (ج 14 103) وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ: (حَيْضٌ، نِفَاسٌ) .
إِفْطَارُ الْحَامِل فِي رَمَضَانَ:
4 - يَجُوزُ لِلْحَامِل أَنْ تُفْطِرَ إِنْ خَافَتْ ضَرَرًا بِغَلَبَةِ
__________
(1) الدسوقي 1 / 170، والمجموع 2 / 384 - 386.
(2) المراجع السابقة.(16/271)
الظَّنِّ عَلَى نَفْسِهَا وَوَلَدِهَا، وَيَجِبُ ذَلِكَ إِذَا خَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا هَلاَكًا أَوْ شَدِيدَ أَذًى، وَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ بِلاَ فِدْيَةٍ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ إِذَا أَفْطَرَتِ الْحَامِل خَوْفًا عَلَى نَفْسِهَا؛ لأَِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ الْخَائِفِ عَلَى نَفْسِهِ. (1)
وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهَا الْفِدْيَةُ كَذَلِكَ إِذَا أَفْطَرَتْ خَوْفًا عَلَى وَلَدِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْحَمْل مُتَّصِلٌ بِالْحَامِل، فَالْخَوْفُ عَلَيْهِ كَالْخَوْفِ عَلَى بَعْضِ أَعْضَائِهَا، وَلأَِنَّ الْفِدْيَةَ ثَبَتَتْ عَلَى الشَّيْخِ الْفَانِي بِخِلاَفِ الْقِيَاسِ؛ لأَِنَّهُ لاَ مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ، وَالْفِطْرُ بِسَبَبِ الْخَوْفِ عَلَى الْوَلَدِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ: إِذَا أَفْطَرَتِ الْحَامِل خَوْفًا عَلَى وَلَدِهَا فَعَلَيْهَا مَعَ الْقَضَاءِ الْفِدْيَةُ (طَعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُل يَوْمٍ) ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (3) أَنَّهُ نُسِخَ حُكْمُهُ إِلاَّ فِي حَقِّ الْحَامِل وَالْمُرْضِعِ إِذَا خَافَتَا عَلَى أَوْلاَدِهِمَا. (4)
__________
(1) الاختيار 1 / 135، وجواهر الإكليل 1 / 135، وتحفة المحتاج 3 / 429، 430، والمغني لابن قدامة 3 / 139.
(2) ابن عابدين 2 / 116، 117، وفتح القدير 2 / 276، والدسوقي 1 / 536.
(3) سورة البقرة / 184.
(4) تحفة المحتاج 3 / 442، وأسنى المطالب 1 / 428، 429، والمغني 3 / 139، 140.(16/271)
نِكَاحُ الْحَامِل:
5 - الْحَامِل مِنْ غَيْرِ الزِّنَى، أَيْ مَنْ كَانَ حَمْلُهَا ثَابِتَ النَّسَبِ لاَ يَصِحُّ نِكَاحُهَا لِغَيْرِ مَنْ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ قَبْل وَضْعِ الْحَمْل بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ الْحَمْل إِذَا كَانَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنَ الْغَيْرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَمْ فَاسِدٍ أَمْ وَطْءِ شُبْهَةٍ لَزِمَ حِفْظُ حُرْمَةِ مَائِهِ بِالْمَنْعِ مِنَ النِّكَاحِ، وَلأَِنَّ عِدَّةَ الْحَامِل لاَ تَنْتَهِي إِلاَّ بِوَضْعِ الْحَمْل، وَلاَ يَجُوزُ نِكَاحُ مُعْتَدَّةِ الْغَيْرِ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} (1) أَيْ مَا كُتِبَ عَلَيْهَا مِنَ التَّرَبُّصِ. (2)
وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْحَامِل الْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنِ بَيْنُونَةً صُغْرَى لِمَنْ لَهُ الْحَمْل أَيِ الزَّوْجِ السَّابِقِ؛ لأَِنَّ الْعِدَّةَ حَقُّ الزَّوْجِ فَلاَ يُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّهِ.
أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ ثَلاَثًا (الْبَائِنُ بَيْنُونَةً كُبْرَى) فَلاَ يَجُوزُ نِكَاحُهَا إِلاَّ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْل اتِّفَاقًا. (3)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ نِكَاحِ الْحَامِل مِنْ زِنًى: فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ نِكَاحُهَا قَبْل وَضْعِ الْحَمْل، لاَ مِنَ الزَّانِي نَفْسِهِ وَلاَ مِنْ غَيْرِهِ؛ وَذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) سورة البقرة / 235.
(2) البدائع 2 / 269، وابن عابدين 2 / 291، 262، وجواهر الإكليل 1 / 276، وحاشية الدسوقي 2 / 218، والجمل 4 / 455، 471، 472، والمغني 6 / 601.
(3) المراجع السابقة.(16/272)
: لاَ تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ (1) .
وَلِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَجُلاً تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَمَّا أَصَابَهَا وَجَدَهَا حُبْلَى فَرَفَعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُ الْحَامِل مِنَ الزِّنَى؛ لأَِنَّ الْمَنْعَ مِنْ نِكَاحِ الْحَامِل حَمْلاً ثَابِتَ النَّسَبِ لِحُرْمَةِ مَاءِ الْوَطْءِ، وَلاَ حُرْمَةَ لِمَاءِ الزِّنَى بِدَلِيل أَنَّهُ لاَ يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ (3) . وَلاَ تُشْتَرَطُ التَّوْبَةُ لِصِحَّةِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ رَجُلاً وَامْرَأَةً فِي الزِّنَى وَحَرَصَ عَلَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا. (4)
__________
(1) حديث: " لا توطأ حامل حتى تضع " أخرجه أبو داود (2 / 614 - ط عزت عبيد الدعاس) . والبيهقي (7 / 449 - ط دار المعرفة) والحاكم (2 / 195 - ط دار الكتاب العربي) من حديث أبي سعيد الخدري. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وأقره الذهبي.
(2) ابن عابدين 2 / 291، وجواهر الإكليل 1 / 276، وكشاف القناع 5 / 82، 83، وحديث: " أن رجلا تزوج امرأة فلما أصابها. . . " أخرجه سعيد بن منصور (1 / 176 - 177 - ط علمي بريس) مرسلا عن سعيد بن المسيب. والبيهقي (7 / 157 - ط دار المعرفة) مرسلا وموصولا عن رجل من الأنصار. وفيه ابن جريج وقد عنعن.
(3) حديث: " الولد للفراش، وللعاهر الحجر " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 32 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1080 - ط عيسى الحلبي) من حديث عائشة.
(4) البدائع 2 / 269، وابن عابدين 2 / 291، 292، والجمل 4 / 455، 456، 471، 472.(16/272)
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ التَّوْبَةَ لِجَوَازِ نِكَاحِ الْحَامِل مِنَ الزِّنَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ لاَ يَنْكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ} . . . إِلَى قَوْلِهِ: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (1) وَهِيَ قَبْل التَّوْبَةِ فِي حُكْمِ الزِّنَى، فَإِذَا تَابَتْ زَال ذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ (2) .
وَمَعَ الْقَوْل بِجَوَازِ نِكَاحِ الْحَامِل مِنَ الزِّنَى فَلاَ فَرْقَ فِي حِل نِكَاحِهَا لِلزَّانِي وَغَيْرِهِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَامِل إِذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ مَنْ زَنَى بِهَا لاَ يَجُوزُ وَطْؤُهَا حَتَّى تَضَعَ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ فَلاَ يَسْقِيَنَّ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ (3) " وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (عِدَّةٌ، نِكَاحٌ، زِنًى) .
وَإِذَا تَزَوَّجَهَا مَنْ لَهُ الْحَمْل جَازَ لَهُ وَطْؤُهَا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُونَ نِكَاحَهَا (4) .
__________
(1) سورة النور / 3.
(2) المغني 6 / 601 - 603، وكشاف القناع 5 / 82، 83. وحديث: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " أخرجه ابن ماجه (2 / 1419 - 1420 - ط عيسى الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود. وأخرجه البيهقي (10 / 154 - ط دار المعرفة) . من حديث أبي عتبة الخولاني.
(3) حديث: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر. . . " أخرجه أبو داود (2 / 615 - ط عزت عبيد الدعاس) والترمذي (3 / 437 - ط مصطفى الحلبي) من حديث رافع بن ثابت. وقال: حديث حسن.
(4) المراجع السابقة(16/273)
طَلاَقُ الْحَامِل:
6 - يَصِحُّ طَلاَقُ الْحَامِل رَجْعِيًّا وَبَائِنًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَيُعْتَبَرُ طَلاَقُهَا طَلاَقَ السُّنَّةِ إِنْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً عَنْ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ ثَلاَثًا يَفْصِل بَيْنَ كُل تَطْلِيقَتَيْنِ بِشَهْرٍ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَانْظُرْ (طَلاَقٌ) .
فَإِذَا طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا صَحَّ رُجُوعُ الزَّوْجِ إِلَيْهَا أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ. وَيَصِحُّ لَهُ نِكَاحُهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ إِذَا طَلَّقَهَا بَائِنًا بِطَلْقَةٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا طَلَّقَهَا ثَلاَثًا حَيْثُ لاَ يَجُوزُ نِكَاحُهَا مُطْلَقًا إِلاَّ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْل، وَلاَ تَحِل لِمُطَلِّقِهَا ثَلاَثًا إِلاَّ بَعْدَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. (1)
وَإِذَا عَلَّقَ الطَّلاَقَ بِحَمْلٍ كَأَنْ قَال: إِنْ كُنْتِ حَامِلاً فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ كَانَ بِهَا حَمْلٌ ظَاهِرٌ وَقَعَ الطَّلاَقُ فِي الْحَال عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِلاَّ فَإِنْ وَلَدَتْهُ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَقَعَ مِنْ حِينِ التَّعْلِيقِ؛ لِثُبُوتِ الْحَمْل؛ إِذْ أَقَل مُدَّتِهِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. (2)
أَمَّا إِذَا وَلَدَتْ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي بَحْثِ: (طَلاَقٌ) .
عِدَّةُ الْحَامِل:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْحَامِل
__________
(1) ابن عابدين 2 / 419، والاختيار 3 / 122، وحاشية القليوبي 3 / 348، وحاشية الجمل على شرح المنهج 4 / 359، و 360، والمدونة الكبرى 2 / 420، والمغني 7 / 105 - 107، وكشاف القناع 5 / 242.
(2) المراجع السابقة، والقليوبي 3 / 354.(16/273)
وَضْعُ الْحَمْل؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولاَتُ الأَْحْمَال أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (1) . وَلأَِنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْعِدَّةِ تَعَرُّفُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَهِيَ حَاصِلَةٌ بِوَضْعِ الْحَمْل. (2) وَفِي بَعْضِ صُوَرِ الْعِدَّةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِدَّةٌ) .
نَفَقَةُ الْحَامِل:
8 - تَجِبُ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِلْحَامِل الْمُطَلَّقَةِ طَلاَقًا رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (4) .
9 - وَفِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْحَامِل النَّاشِزِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:
قَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تَسْقُطُ نَفَقَةُ الْحَامِل النَّاشِزِ؛ لأَِنَّ النَّفَقَةَ حَيْثُ لَمْ تَحْمِل خَاصَّةٌ لَهَا فَتَسْقُطُ بِالنُّشُوزِ، وَمَعَ حَمْلِهَا تَجِبُ النَّفَقَةُ لَهَا وَلِلْحَمْل. وَعَدَمُ سُقُوطِ النَّفَقَةِ بِنُشُوزِ الْحَامِل إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا
__________
(1) سورة الطلاق / 4.
(2) ابن عابدين 2 / 603، 604، وجواهر الإكليل 1 / 364، وحاشية الدسوقي 2 / 474، وحاشية الجمل 4 / 445، 446، والمغني 7 / 474، 475.
(3) ابن عابدين 2 / 669، وجواهر الإكليل 1 / 604، والقليوبي 4 / 81، والمغني 7 / 606 - 608.
(4) سورة الطلاق / 6.(16/274)
بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَمْل نَفْسِهِ، وَالْحَامِل طَرِيقُ وُصُول النَّفَقَةِ إِلَيْهِ لأَِنَّهُ يَتَغَذَّى بِغِذَاءِ أُمِّهِ. (1)
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ نَفَقَةَ الْحَامِل تَسْقُطُ بِنُشُوزِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ لَهَا لاَ لِلْحَمْل؛ لأَِنَّهَا لَوْ كَانَتْ لَهُ لَتَقَدَّرَتْ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ، وَلأَِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُ لَمَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَإِذَا كَانَ أَصْل النَّفَقَةِ لَهَا لاَ لِلْحَمْل فَتَسْقُطُ بِنُشُوزِهَا. (2)
وَعَلَى هَذَا الْخِلاَفِ بَنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ حُكْمَ الْحَامِل مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ، فَإِذَا قِيل: إِنَّ النَّفَقَةَ لِلْحَمْل فَعَلَى الزَّوْجِ أَوِ الْوَاطِئِ بِشُبْهَةٍ النَّفَقَةُ؛ لأَِنَّهُ وَلَدُهُ فَلَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ، كَمَا بَعْدَ الْوَضْعِ، وَإِنْ قِيل لِلْحَامِل: لاَ تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْوَاطِئِ بِشُبْهَةٍ وَلاَ عَلَى الزَّوْجِ مُدَّةَ عِدَّةِ الشُّبْهَةِ. (3)
10 - أَمَّا الْحَامِل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَتَسْقُطُ نَفَقَتُهَا بِمَوْتِ الزَّوْجِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) لِحَدِيثِ: لَيْسَ لِلْحَامِل الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 404، والزرقاني 4 / 251، وحاشية الجمل 4 / 504، والمغني 7 / 608، 609.
(2) حاشية القليوبي 4 / 80، 81، وحاشية الجمل 4 / 504، 505، والمغني 7 / 608، و 609.
(3) المراجع السابقة وشرح المنهج بحاشية الجمل 4 / 504.(16/274)
نَفَقَةٌ (1) ، وَلأَِنَّ الْمَيِّتَ إِنْ كَانَ لَهُ مِيرَاثٌ انْتَقَل إِلَى الْوَرَثَةِ، فَنَفَقَةُ الْحَمْل نَصِيبُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِيرَاثٌ لَمْ يَلْزَمْ وَارِثَ الْمَيِّتِ الإِْنْفَاقُ عَلَى حَمْل امْرَأَتِهِ كَمَا بَعْدَ الْوِلاَدَةِ.
وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: لَهَا النَّفَقَةُ فِي جَمِيعِ الْمَال. (2)
11 - أَمَّا الْحَامِل مِنَ الزِّنَى فَعِنْدَ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ نِكَاحِهَا إِنْ تَزَوَّجَهَا الزَّانِي يَحِل وَطْؤُهَا وَلَهَا النَّفَقَةُ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ لاَ يَجُوزُ وَطْؤُهَا اتِّفَاقًا، وَلاَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ؛ لأَِنَّ النَّفَقَةَ وَإِنْ وَجَبَتْ مَعَ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ لَكِنْ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ مِنَ الدُّخُول مِنْ جِهَتِهَا، وَهُنَا يُوجَدُ مَانِعٌ. (3)
خُرُوجُ جَمِيعِ الْحَمْل:
12 - الْوَضْعُ الَّذِي تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ انْفِصَال جَمِيعِ الْحَمْل، حَتَّى إِذَا خَرَجَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ، فَتَصِحُّ مُرَاجَعَتُهَا وَلاَ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ،
__________
(1) حديث: " ليس للحامل المتوفى عنها زوجها نفقة " أخرجه الدارقطني في سننه (4 / 21 - ط دار المحاسن بمصر) من حديث جابر بن عبد الله، وأعله شمس الحق العظيم آبادي، بتدليس راو فيه.
(2) ابن عابدين 2 / 670، وحاشية الدسوقي 2 / 515، وحاشية القليوبي 4 / 80، 81، والمغني لابن قدامة 7 / 608.
(3) فتح القدير 2 / 381.(16/275)
وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) . وَقَال ابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهَا تَحِل بِوَضْعِ ثُلُثَيِ الْحَمْل بِنَاءً عَلَى تَبَعِيَّةِ الأَْقَل لِلأَْكْثَرِ. (1)
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَحْرِ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ يَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَلاَ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ. . . وَلاَ تَحِل لِلأَْزْوَاجِ أَيْضًا؛ لأَِنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْكُل فِي حَقِّ انْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ احْتِيَاطًا، وَلاَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُل فِي حَقِّ حِلِّهَا لِلأَْزْوَاجِ احْتِيَاطًا. (2)
13 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَمْل إِذَا كَانَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا إِلاَّ بِوَضْعِ الآْخَرِ؛ لأَِنَّ الْحَمْل اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا فِي الْبَطْنِ، وَالْعِدَّةُ شُرِعَتْ لِمَعْرِفَةِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْحَمْل، فَإِذَا عُلِمَ وُجُودُ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ فَقَدْ تَيَقَّنَ وُجُودُ الْمُوجِبِ لِلْعِدَّةِ، وَانْتَفَتِ الْبَرَاءَةُ الْمُوجِبَةُ لاِنْقِضَائِهَا. (3) وَهَذَا إِذَا كَانَ بَيْنَ وَضْعِ الْحَمْل الأَْوَّل وَالأَْخِيرِ أَقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ (4) يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِدَّةٌ) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 2 / 604، وحاشية الدسوقي 2 / 474، وحاشية القليوبي 4 / 42 - 44، وحاشية الجمل 4 / 446، والمغني لابن قدامة 7 / 280، 474.
(2) ابن عابدين 2 / 604.
(3) ابن عابدين 2 / 64، وحاشية الدسوقي 2 / 474، وحاشية الجمل 4 / 446، والمغني لابن قدامة 7 / 474، 475.
(4) نفس المراجع.(16/275)
14 - وَالْمُرَادُ بِالْحَمْل الَّذِي تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَوْ كَانَ مَيِّتًا أَوْ مُضْغَةً تُصُوِّرَتْ، وَلَوْ صُورَةً خَفِيَّةً تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الثِّقَاتِ مِنَ الْقَوَابِل، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) . وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مُضْغَةً لَمْ تُتَصَوَّرْ لَكِنْ شَهِدَ الثِّقَاتُ مِنَ الْقَوَابِل أَنَّهَا مَبْدَأُ خِلْقَةِ آدَمِيٍّ لَوْ بَقِيَتْ لَتُصُوِّرَتْ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِحُصُول بَرَاءَةِ الرَّحِمِ بِهِ. (1)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ؛ لأَِنَّ الْحَمْل اسْمٌ لِنُطْفَةٍ مُتَغَيِّرَةٍ، فَإِذَا كَانَ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً لَمْ تَتَغَيَّرْ وَلَمْ تُتَصَوَّرْ فَلاَ يُعْرَفُ كَوْنُهَا مُتَغَيِّرَةً إِلاَّ بِاسْتِبَانَةِ بَعْضِ الْخَلْقِ.
أَمَّا إِذَا أَلْقَتْ نُطْفَةً أَوْ عَلَقَةً أَوْ دَمًا أَوْ وَضَعَتْ مُضْغَةً لاَ صُورَةَ فِيهَا فَلاَ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِهِ عِنْدَهُمْ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ دَمًا اجْتَمَعَ بِحَيْثُ إِذَا صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ الْحَارُّ لَمْ يَذُبْ يُعْتَبَرُ حَمْلاً تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ. (3)
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي مُصْطَلَحِ: (عِدَّةٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 604، وحاشية القليوبي 4 / 43، 44، والمغني 7 / 476، 477.
(2) نفس المراجع.
(3) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي 2 / 474.(16/276)
تَصَرُّفَاتُ الْحَامِل:
15 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الْحَامِل لَهَا أَهْلِيَّةٌ تَامَّةٌ وَلاَ تُحَدُّ تَصَرُّفَاتُهَا بِسَبَبِ الْحَمْل، وَلاَ تُعْتَبَرُ مَرِيضَةً مَرَضَ الْمَوْتِ إِلاَّ إِذَا جَاءَهَا الطَّلْقُ؛ (1) لأَِنَّهُ أَلَمٌ شَدِيدٌ يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، فَأَشْبَهَتْ صَاحِبَ سَائِرِ الأَْمْرَاضِ الْمَخُوفَةِ. وَأَمَّا قَبْل ذَلِكَ فَلاَ أَلَمَ بِهَا، وَاحْتِمَال وُجُودِهِ خِلاَفُ الْعَادَةِ، فَلاَ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِاحْتِمَالِهِ الْبَعِيدِ، كَمَا لاَ يُعْتَبَرُ احْتِمَال الإِْسْقَاطِ فِي كُل سَاعَةٍ. (2)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الْحَامِل بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ تُعْتَبَرُ مَرِيضَةً مَرَضَ الْمَوْتِ؛ لأَِنَّهَا تَتَوَقَّعُ الْوِلاَدَةَ كُل سَاعَةٍ.
وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِلْحَجْرِ عَلَى الْحَامِل أَنْ تَكُونَ قَدْ دَخَلَتْ فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ بِيَوْمٍ كَامِلٍ عَلَى الأَْقَل، فَلَوْ تَبَرَّعَتْ بَعْدَ السِّتَّةِ وَقَبْل تَمَامِ الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ فِي السَّابِعِ بِأَنْ كَانَ فِي أَثْنَائِهِ كَانَ تَبَرُّعُهَا مَاضِيًا. (3) وَحَيْثُ اعْتُبِرَتِ الْحَامِل
__________
(1) الطلق: وجع الولادة، أي الوجع الذي لا يسكن حتى تلد أو تموت. وقيل: وإن سكن، لأن الوجع يسكن تارة، ويهيج أخرى. (المصباح المنير، وابن عابدين 2 / 524) .
(2) ابن عابدين 2 / 524، وتبيين الحقائق للزيلعي 2 / 249، وحاشية القليوبي 3 / 164، ونهاية المحتاج 6 / 63، وكشاف القناع 4 / 325، والمغني لابن قدامة 6 / 86.
(3) جواهر الإكليل 2 / 101، 102، والمغني لابن قدامة 6 / 86، وحاشية الدسوقي 3 / 306.(16/276)
مَرِيضَةً مَرَضَ الْمَوْتِ، يَنْفُذُ تَبَرُّعُهَا بِمَا لاَ يَزِيدُ عَنِ الثُّلُثِ، كَالْوَصِيَّةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ مَرَضِ الْمَوْتِ. (1)
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي بَحْثِ: (مَرَضُ الْمَوْتِ) .
اسْتِيفَاءُ الْحُدُودِ مِنَ الْحَامِل:
16 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى حَامِلٍ حَتَّى تَضَعَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَمْل مِنْ زِنًى أَمْ غَيْرِهِ، فَلاَ تُقْتَل إِذَا ارْتَدَّتْ، وَلاَ تُرْجَمُ إِذَا زَنَتْ، وَلاَ تُقْطَعُ إِذَا سَرَقَتْ، وَلاَ تُجْلَدُ إِذَا قَذَفَتْ أَوْ شَرِبَتْ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي غَامِدٍ قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ، طَهِّرْنِي، قَال وَمَا ذَاكِ؟ قَالَتْ: إِنَّهَا حُبْلَى مِنْ زِنًى. قَال: أَنْتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَال لَهَا: ارْجِعِي حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ، قَال: فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الأَْنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ، قَال: فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: إِذًا لاَ نَرْجُمُهَا، وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ تُرْضِعُهُ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَْنْصَارِ فَقَال: إِلَيَّ إِرْضَاعُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَال: فَرَجَمَهَا (2) .
وَلأَِنَّ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا فِي حَال حَمْلِهَا إِتْلاَفًا لِمَعْصُومٍ، وَلاَ سَبِيل إِلَيْهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْحَدُّ رَجْمًا
__________
(1) ابن عابدين 2 / 521 - 524،، والمراجع السابقة.
(2) حديث: " المرأة من بني غامد. . . " أخرجه مسلم (3 / 1321 - 1323 - ط عيسى الحلبي) من حديث بريدة.(16/277)
أَمْ غَيْرَهُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ تَلَفُ الْوَلَدِ مِنْ سِرَايَةِ الضَّرْبِ وَالْقَطْعِ، وَرُبَّمَا سَرَى إِلَى نَفْسِ الْمَضْرُوبِ وَالْمَقْطُوعِ، فَيَفُوتُ الْوَلَدُ بِفَوَاتِهِ. (1)
فَإِذَا وَضَعَتِ الْوَلَدَ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا لاَ يُؤَخَّرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُرْضِعُهُ أَوْ يَتَكَفَّل بِرَضَاعِهِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لاَ تُحَدُّ حَتَّى تَسْقِيَهُ اللِّبَأَ، وَهُوَ اللَّبَنُ أَوَّل النِّتَاجِ لاِحْتِيَاجِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ غَالِبًا. أَمَّا إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُرْضِعُهُ أَوْ يَتَكَفَّل بِرَضَاعِهِ تُرِكَتْ حَتَّى تَفْطِمَهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. (2)
وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا، فَإِذَا وَضَعَتِ الْوَلَدَ وَانْقَطَعَ النِّفَاسُ وَكَانَتْ قَوِيَّةً يُؤْمَنُ تَلَفُهَا أُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَتْ فِي نِفَاسِهَا أَوْ ضَعِيفَةً يُخَافُ عَلَيْهَا التَّلَفُ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهَا الْحَدُّ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَقْوَى، فَيُسْتَوْفَى الْحَدُّ عَلَى وَجْهِ الْكَمَال مِنْ غَيْرِ خَوْفِ فَوَاتِهِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) ؛ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ: أَنَّ الْمَرْأَةَ انْطَلَقَتْ فَوَلَدَتْ غُلاَمًا، فَجَاءَتْ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال لَهَا: انْطَلِقِي فَتَطَهَّرِي مِنَ الدَّمِ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 13، 148، ومواهب الجليل مع التاج والإكليل 6 / 253، وجواهر الإكليل 2 / 263، وحاشية القليوبي 4 / 124، 183، وروضة الطالبين 9 / 226، والمغني لابن قدامة 8 / 171، 172.
(2) المراجع السابقة.
(3) حديث: " أن المرأة انطلقت. . . " سبق تخريجه بهذا المعنى ف / 16.(16/277)
وَالتَّعْزِيرُ بِالْجَلْدِ وَنَحْوِهِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْحَدِّ جَلْدًا مِنْ حَيْثُ التَّأْخِيرُ وَعَدَمُهُ. (1)
وَيُعْتَبَرُ قَوْلُهَا إِنِ ادَّعَتِ الْحَمْل عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِقَبُول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْل الْغَامِدِيَّةِ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُقْبَل قَوْلُهَا بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهَا، بَل بِظُهُورِ أَمَارَاتِ الْحَمْل. وَمِثْل الْحُدُودِ حُكْمُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَالأَْطْرَافِ. (2) (ر: حَدٌّ، قِصَاصٌ) .
الاِعْتِدَاءُ عَلَى الْحَامِل:
17 - الاِعْتِدَاءُ عَلَى الْحَامِل بِالضَّرْبِ وَغَيْرِهِ جَرِيمَةٌ كَالاِعْتِدَاءِ عَلَى أَيِّ إِنْسَانٍ يُنْظَرُ حُكْمُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ) فَإِذَا تَسَبَّبَ الاِعْتِدَاءُ فِي سُقُوطِ الْجَنِينِ مَيِّتًا فَفِيهِ غُرَّةٌ اتِّفَاقًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةِ: عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ. فَقَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْل عَلَى عَصَبَتِهَا (3) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 148، وكشاف القناع 6 / 82، والقليوبي 4 / 183، والمغني 8 / 172.
(2) المراجع السابقة، وابن عابدين 3 / 13، وجواهر الإكليل 2 / 263، ومواهب الجليل مع التاج والإكليل 6 / 253، والقليوبي 4 / 124.
(3) حديث: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1309 - ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة.(16/278)
وَتَجِبُ الْغُرَّةُ أَيْضًا إِذَا أَسْقَطَتْهُ الْحَامِل بِدَوَاءٍ أَوْ فِعْلٍ كَضَرْبِ بَطْنِهَا مَثَلاً. وَالْغُرَّةُ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ قِيمَتُهَا نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ أُمِّ الْجَنِينِ، تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ إِذَا كَانَ الاِعْتِدَاءُ عَمْدًا حَيْثُ يَقُولُونَ بِوُجُوبِهَا فِي مَال الْجَانِي. (ر غُرَّةٌ) .
18 - وَإِذَا أَلْقَتْ بِهِ حَيًّا حَيَاةً مُحَقَّقَةً بِأَنِ اسْتَهَل صَارِخًا مَثَلاً ثُمَّ مَاتَ بِسَبَبِ الاِعْتِدَاءِ فَدِيَةٌ كَامِلَةٌ وَكَفَّارَةٌ اتِّفَاقًا، إِذَا كَانَ الاِعْتِدَاءُ خَطَأً، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ عَمْدًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ إِذَا كَانَ عَمْدًا. (1) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (إِجْهَاضٌ، جَنِينٌ، غُرَّةٌ) .
مَوْتُ الْحَامِل وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ حَيٌّ:
19 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ قَوْل سُحْنُونٍ وَابْنِ يُونُسَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - بِأَنَّ الْحَامِل إِذَا مَاتَتْ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ حَيٌّ شُقَّ بَطْنُهَا وَيُخْرَجُ وَلَدُهَا؛ لأَِنَّهُ اسْتِبْقَاءُ حَيٍّ بِإِتْلاَفِ جُزْءٍ مِنَ الْمَيِّتِ، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا اضْطُرَّ إِلَى أَكْل جُزْءٍ مِنَ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 377، 379، وحاشية القليوبي 4 / 159، وجواهر الإكليل 2 / 267، 272، وأسنى المطالب 4 / 89، وبداية المجتهد 2 / 407، والمغني لابن قدامة 7 / 299، 300، 811 - 815.(16/278)
الْمَيِّتِ، وَإِحْيَاءُ نَفْسٍ أَوْلَى مِنْ صِيَانَةِ مَيِّتٍ، وَلأَِنَّهُ يَجُوزُ شَقُّ بَطْنِ الْمَيِّتِ لإِِخْرَاجِ مَال الْغَيْرِ مِنْهُ، فَلإِِبْقَاءِ الْحَيِّ أَوْلَى. (1)
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يُبْقَرُ بَطْنُ حَامِلٍ عَنْ جَنِينٍ، وَلَوْ رُجِيَ خُرُوجُهُ حَيًّا؛ لأَِنَّ هَذَا الْوَلَدَ لاَ يَعِيشُ عَادَةً وَلاَ يَتَحَقَّقُ أَنْ يَحْيَا، فَلاَ يَجُوزُ هَتْكُ حُرْمَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ لأَِمْرٍ مَوْهُومٍ، (2) وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ (3) .
وَفَصَّل النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ فَقَال: إِنْ رُجِيَ حَيَاةُ الْجَنِينِ وَجَبَ شَقُّ بَطْنِهَا وَإِخْرَاجُهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ، فَإِنْ لَمْ تُرْجَ حَيَاتُهُ فَثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا لاَ تُشَقُّ لَكِنَّهَا لاَ تُدْفَنُ حَتَّى يَمُوتَ الْجَنِينُ. (4)
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 602، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 429، والمهذب للشيرازي 1 / 145.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 429، وجواهر الإكليل 1 / 117، والمغني لابن قدامة 2 / 551.
(3) حديث: " كسر عظم الميت ككسر عظم الحي. . . " أخرجه أحمد (6 / 105 - ط المكتب الإسلامي) وأبو داود (3 / 543 - ط عزت عبيد الدعاس) وابن ماجه (1 / 1616 - ط عيسى الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها. قال ابن حجر: حسنه ابن القطان. وذكر القشيري (أي ابن دقيق العيد) أنه على شرط مسلم. أهـ. تلخيص الحبير 3 / 54 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(4) المجموع للنووي 5 / 302، ونهاية المحتاج 3 / 39. ملحوظة: العمدة في هذه المسألة قول ثقات الأطباء، فإن غلب على الظن أن الجنين يحيا يجوز إخراجه بشق البطن، بل يجب.(16/279)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ قُدِرَ عَلَى إِخْرَاجِهِ بِحِيلَةٍ غَيْرِ شَقِّ الْبَطْنِ، كَأَنْ يَسْطُوَ عَلَيْهِ الْقَوَابِل فَيُخْرِجْنَهُ فُعِل. أَمَّا إِنْ مَاتَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا وَهِيَ حَيَّةٌ جَازَ قَطْعُ الْجَنِينِ لإِِنْقَاذِ حَيَاةِ الأُْمِّ بِلاَ خِلاَفٍ. (1) (ر. إِجْهَاضٌ) .
غُسْل وَتَكْفِينُ الْحَامِل:
20 - إِنْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ مُسْلِمٍ فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ أَنْ يُغَسِّلَهَا وَيُكَفِّنَهَا الْمُسْلِمُ، وَالْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَوَازِ الْغُسْل شَامِلٌ لِسَائِرِ الْكُفَّارِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ تَغْسِيل وَتَكْفِينُ الْكَافِرِ وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا؛ لأَِنَّ الْغُسْل تَعْظِيمٌ لِلْمَيِّتِ وَتَطْهِيرٌ لَهُ، وَالْكَافِرُ لاَ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْثَرْ فِي كَلاَمِهِمْ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْحَامِل إِذَا مَاتَتْ وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مِنْ مُسْلِمٍ.
وَيُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ عَدَمُ الْجَوَازِ مُطْلَقًا؛ حَيْثُ قَالُوا: بِعَدَمِ حُرْمَةِ جَنِينِ الْحَامِل حَتَّى يُولَدَ صَارِخًا. هَذَا، وَلاَ يَجُوزُ الصَّلاَةُ عَلَيْهَا وَلاَ الدُّعَاءُ لَهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. (2)
__________
(1) المراجع السابقة (اللجنة) .
(2) البدائع 1 / 303، وجواهر الإكليل 1 / 116، 117، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 426، 427، 430، والمجموع للنووي 5 / 144، 153، وكشاف القناع 2 / 126.(16/279)
دَفْنُ الْحَامِل:
21 - إِذَا مَاتَتِ الْحَامِل وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ حَيٌّ يُؤَجَّل دَفْنُهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، حَتَّى يَخْرُجَ وَلَدُهَا بِشَقِّ الْبَطْنِ أَوْ بِحِيلَةٍ إِنْ رُجِيَ خُرُوجُهُ حَيًّا أَوْ يُتَيَقَّنُ مَوْتُهُ، عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ. (1)
وَصَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِتَأْخِيرِ دَفْنِهَا وَلَوْ تَغَيَّرَتْ لِئَلاَّ يُدْفَنَ الْحَمْل حَيًّا. (2)
وَالأَْصْل أَنَّ الْمَيِّتَ يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا، وَفِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ إِذَا كَانَ كَافِرًا، وَلِهَذَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - بِأَنَّ الْحَامِل الْكَافِرَةَ تُدْفَنُ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَلَوْ كَانَ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مِنْ مُسْلِمٍ بِشُبْهَةٍ، أَوْ نِكَاحِ كِتَابِيَّةٍ، أَوْ مَجُوسِيَّةٍ أَسْلَمَ زَوْجُهَا؛ وَذَلِكَ لِعَدَمِ حُرْمَةِ جَنِينِهَا حَتَّى يُولَدَ صَارِخًا.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْل وَاثِلَةَ بْنِ الأَْسْقَعِ: تُدْفَنُ بَيْنَ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ؛ لأَِنَّهَا كَافِرَةٌ لاَ تُدْفَنُ فِي مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَتَأَذَّوْا بِعَذَابِهَا، وَلاَ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ؛ لأَِنَّ وَلَدَهَا مُسْلِمٌ فَيَتَأَذَّى بِعَذَابِهِمْ. (3)
__________
(1) ابن عابدين 1 / 602، والفواكه الدواني 1 / 351، ونهاية المحتاج 3 / 39، والمغني لابن قدامة 2 / 551.
(2) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليها 3 / 39.
(3) البدائع 1 / 303، وحاشية الجمل 2 / 199، والمغني 2 / 563.(16/280)
وَنُقِل عَنِ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ بِدَفْنِهَا فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْوَلَدِ. (1)
وَيُجْعَل ظَهْرُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى جَانِبِهَا الأَْيْسَرِ لِيَكُونَ وَجْهُ الْجَنِينِ إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى جَانِبِهِ الأَْيْمَنِ، قَالُوا: لأَِنَّ وَجْهَ الْجَنِينِ إِلَى ظَهْرِهَا. (2)
ثَانِيًا: حَمْل الْحَيَوَانِ:
الْحَامِل مِنَ الْحَيَوَانِ لَهَا بَعْضُ الأَْحْكَامِ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مَبَاحِثِ التَّذْكِيَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالأُْضْحِيَّةِ وَالْبَيْعِ. وَفِيمَا يَلِي مُجْمَلُهَا.
أ - فِي التَّذْكِيَةِ:
22 - إِذَا ذُبِحَ الْحَيَوَانُ وَوُجِدَ فِي بَطْنِهِ جَنِينٌ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ كَامِل الْخِلْقَةِ فَلاَ يَحِل، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مَيِّتًا وَيُعْلَمُ أَنَّ مَوْتَهُ كَانَ قَبْل تَذْكِيَةِ أُمِّهِ بِلاَ خِلاَفٍ.
وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً لاَ يَحِل إِلاَّ بِالتَّذْكِيَةِ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّهُ نَفْسٌ مُسْتَقِلَّةٌ، فَلاَ بُدَّ مِنْ ذَكَاتِهَا.
أَمَّا إِنْ خَرَجَ بَعْدَ تَذْكِيَةِ الْحَامِل مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلَمَ مَوْتُهُ قَبْل التَّذْكِيَةِ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ مَوْتَهُ بِسَبَبِ تَذْكِيَةِ أُمِّهِ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) عَلَى أَنَّهُ يَحِل أَكْلُهُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَكَاةُ
__________
(1) البدائع 1 / 303.
(2) المراجع السابقة.(16/280)
الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ (1) . وَلأَِنَّ الْجَنِينَ مُتَّصِلٌ بِهَا اتِّصَال خِلْقَةٍ يَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا، وَيُبَاعُ بِبَيْعِهَا، فَتَكُونُ ذَكَاتُهُ بِذَكَاتِهَا كَأَعْضَائِهَا. (2) وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَحِل حَتَّى يَخْرُجَ حَيًّا فَيُذَكَّى؛ لأَِنَّهُ حَيَوَانٌ يَنْفَرِدُ بِحَيَاتِهِ، فَلاَ يَتَذَكَّى بِذَكَاةِ غَيْرِهِ كَمَا بَعْدَ الْوَضْعِ. (3)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (أَطْعِمَةٌ، وَتَذْكِيَةٌ) .
ب - فِي الزَّكَاةِ وَالأُْضْحِيَّةِ:
23 - لَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ الْحَامِل فِي زَكَاةِ الْحَيَوَانِ؛ لِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " لاَ تُؤْخَذُ الرُّبَّى وَلاَ الْمَاخِضُ وَلاَ الأَْكُولَةُ " (4) وَالْمَاخِضُ هِيَ الْحَامِل. وَإِنْ تَطَوَّعَ رَبُّ الْمَال بِإِخْرَاجِهَا جَازَ أَخْذُهَا، وَلَهُ ثَوَابُ الْفَضْل، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. (5)
__________
(1) حديث: " ذكاة الجنين ذكاة أمه " أخرجه أبو داود (3 / 253 - ط عزت عبيد الدعاس) والحاكم (4 / 114 - ط دار الكتاب العربي) من حديث جابر بن عبد الله. وقال: (حديث صحيح على شرط مسلم) .
(2) ابن عابدين 5 / 193، وجواهر الإكليل 1 / 216، ومواهب الجليل 3 / 227، وحاشية الجمل 5 / 270، والقليوبي 4 / 262، وكشاف القناع 6 / 209، والمغني 8 / 579.
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 5 / 193.
(4) الربى التي وضعت وهي تربي ولدها. والماخض الحامل التي قد حان ولادها.
(5) المجموع 5 / 426 - 428، والمغني 2 / 601.(16/281)
وَلَمْ يَذْكُرْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَمْل عَيْبًا فِي الأُْضْحِيَّةِ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ، حَيْثُ صَرَّحُوا بِعَدَمِ إِجْزَائِهَا فِي الأُْضْحِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْحَمْل يُفْسِدُ الْجَوْفَ وَيُصَيِّرُ اللَّحْمَ رَدِيئًا. (1) (ر: زَكَاةٌ، أُضْحِيَّةٌ) .
ج - فِي الْبَيْعِ:
24 - يَجُوزُ بَيْعُ الْحَامِل مَعَ جَنِينِهَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَلاَ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْحَمْل فِي الْبَيْعِ أَوْ ذِكْرُ ثَمَنٍ مُسْتَقِلٍّ لِلْجَنِينِ فِي الْعَقْدِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ عَقْدِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَوْجُودًا حِينَ الْعَقْدِ، فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَضَامِينِ وَالْمَلاَقِيحِ، أَيْ مَا فِي أَصْلاَبِ الْفُحُول وَمَا فِي أَرْحَامِ الأَْنْعَامِ وَالْخَيْل مِنَ الأَْجِنَّةِ. وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ حَبَل الْحَبَلَةِ أَيْ نِتَاجِ النِّتَاجِ، (2) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلاَقِيحِ وَحَبَل الْحَبَلَةِ (3) .
__________
(1) المجموع 5 / 526 - 528.
(2) فتح القدير 6 / 50، والبدائع 5 / 238، وحاشية الدسوقي 3 / 57، وحاشية الجمل 3 / 70، والقليوبي 2 / 157، والمغني لابن قدامة 4 / 276.
(3) حديث: " نهى عن بيع المضامين. . . " أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11 / 230 - ط الوطن العربي) . والبزار (2 / 87 - ط مؤسسة الرسالة) من حديث ابن عباس. وأخرجه مالك في الموطأ (2 / 654 - ط عيسى الحلبي) مرسلا عن سعيد بن المسيب. وقال ابن حجر: أخرجه عبد الرزاق عن ابن عمر بإسناد قوي. أهـ. تلخيص الحبير (3 / 12 - ط شركة الطباعة الفنية) .(16/281)
حِبَاءٌ
انْظُرْ: مَهْرٌ، حُلْوَانٌ.
حُبٌّ
انْظُرْ: مَحَبَّةٌ.(16/282)
حَبْسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَبْسُ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ وَالإِْمْسَاكُ، مَصْدَرُ حَبَسَ. وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَوْضِعِ، وَجَمْعُهُ حُبُوسٌ (بِضَمِّ الْحَاءِ) . وَيُقَال لِلرَّجُل: مَحْبُوسٌ وَحَبِيسٌ، وَلِلْجَمَاعَةِ: مَحْبُوسُونَ وَحُبُسٌ (بِضَمَّتَيْنِ) ، وَلِلْمَرْأَةِ: حَبِيسَةٌ: وَلِلْجَمْعِ: حَبَائِسُ، وَلِمَنْ يَقَعُ مِنْهُ الْحَبْسُ: حَابِسٌ. (1)
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَالْحَبْسُ هُوَ: تَعْوِيقُ الشَّخْصِ وَمَنْعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ (2) وَالْخُرُوجِ إِلَى أَشْغَالِهِ وَمُهِمَّاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالاِجْتِمَاعِيَّةِ. (3) وَلَيْسَ مِنْ لَوَازِمِهِ الْجَعْل فِي بُنْيَانٍ خَاصٍّ مُعَدٍّ لِذَلِكَ، بَل الرَّبْطُ بِالشَّجَرَةِ حَبْسٌ، وَالْجَعْل فِي الْبَيْتِ أَوِ الْمَسْجِدِ حَبْسٌ. (4) وَقَدْ أَفْرَدَ الْحُكَّامُ
__________
(1) الصحاح، والقاموس المحيط، والمصباح المنير مادة: (حبس) .
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 35 / 398، والطرق الحكيمة لابن القيم ص 102.
(3) بدائع الصنائع للكاساني 7 / 174.
(4) الموضعين السابقين من الفتاوى والطرق.(16/282)
الْمُسْلِمُونَ أَبْنِيَةً خَاصَّةً لِلْحَبْسِ وَعَدُّوا ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ. (1)
2 - وَبِمَعْنَى الْحَبْسِ السَّجْنُ بِفَتْحِ السِّينِ مَصْدَرُ سَجَنَ. أَمَّا بِكَسْرِ السِّينِ فَهُوَ مَكَانُ الْحَبْسِ، وَالْجَمْعُ سُجُونٌ. وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ: {قَال رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} (2) قُرِئَ بِفَتْحِ السِّينِ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَبِكَسْرِهَا عَلَى الْمَكَانِ، وَالأَْشْهَرُ الْكَسْرُ. (3)
3 - وَبِمَعْنَى الْحَبْسِ أَيْضًا الاِعْتِقَال. يُقَال اعْتَقَلْتُ الرَّجُل: حَبَسْتُهُ، وَاعْتُقِل لِسَانُهُ إِذَا حُبِسَ وَمُنِعَ مِنَ الْكَلاَمِ. (4)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَجْرُ:
4 - الْحَجْرُ (بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ) : الْمَنْعُ. (5) إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُرِيدُونَ بِهِ الْمَنْعَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ (6) أَوِ الْقَوْلِيَّةِ كَالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْتِي الْمَاجِنِ. أَوِ الْعَمَلِيَّةِ كَالْحَجْرِ عَلَى الطَّبِيبِ
__________
(1) تبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 150، ونيل الأوطار 8 / 316.
(2) سورة يوسف / 33.
(3) لسان العرب، والقاموس المحيط مادة: (سجن) ، وتفسير الطبري 12 / 125، وزاد المسير لابن الجوزي 4 / 220.
(4) المصباح المنير مادة (عقل) .
(5) القاموس المحيط مادة (حجر) .
(6) أسنى المطالب للأنصاري 2 / 405.(16/283)
الْجَاهِل. (1) وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَجْرِ تَعْوِيقُ التَّصَرُّفِ، لاَ تَعْوِيقُ الشَّخْصِ الَّذِي يُقْصَدُ حَبْسُهُ.
ب - الْحَصْرُ:
5 - الْحَصْرُ (بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ) : الْمَنْعُ وَالْحَبْسُ. (2) وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} (3) أَيْ سِجْنًا وَحَبْسًا. (4) وَاسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ الإِْحْصَارَ فِي الْمَنْعِ عَنِ الْمُضِيِّ فِي أَفْعَال الْحَجِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الْعَدُوِّ، أَمْ بِالْحَبْسِ، أَمْ بِالْمَرَضِ. (5)
وَيَجْتَمِعُ الْحَصْرُ وَالْحَبْسُ فِي أَنَّهُ يُرَادُ بِهِمَا الْمَنْعُ. . وَيَفْتَرِقُ الْحَصْرُ عَنِ الْحَبْسِ فِي أَنَّ الْمُحْصَرَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُتَمَكَّنٍ مِنْهُ بِخِلاَفِ الْمَحْبُوسِ. (6) فَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ.
ج - الْوَقْفُ:
6 - الْوَقْفُ: الْحَبْسُ، وَجَمْعُهُ أَوْقَافٌ وَوُقُوفٌ وَجَمْعُ الْحَبْسِ هُنَا أَحْبَاسٌ وَحُبُسٌ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 6 / 147.
(2) المصباح المنير مادة (حصر) .
(3) سورة الإسراء / 8.
(4) تفسير الطبري 15 / 44، وتفسير الماوردي 2 / 426.
(5) التعريفات للجرجاني ص 12، وفتح القدير لابن الهمام 2 / 296.
(6) الفروق في اللغة للعسكري ص 107.(16/283)
بِضَمَّتَيْنِ) . (1) وَبَعْضُهُمْ يُسَكِّنُ الْبَاءَ عَلَى لُغَةٍ. (2) وَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ عَلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْبِرِّ ابْتِدَاءً أَوِ انْتِهَاءً. فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَبْسِ وَالْوَقْفِ أَنَّ الْحَبْسَ يَكُونُ فِي الأَْشْخَاصِ وَالْوَقْفَ يَكُونُ فِي الأَْعْيَانِ. (3)
د - النَّفْيُ:
7 - النَّفْيُ فِي اللُّغَةِ: التَّغْرِيبُ وَالطَّرْدُ وَالإِْبْعَادُ. (4)
يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ} (5) . التَّشْرِيدُ مِنَ الأَْمْصَارِ وَالْبِلاَدِ، فَلاَ يُتْرَكُ قُطَّاعُ الطُّرُقِ لِيَأْوُوا إِلَى بَلَدٍ؛ لأَِنَّ النَّفْيَ مِنَ الأَْرْضِ هُوَ الطَّرْدُ بِحَسَبِ الْمَشْهُورِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ. (6)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحَبْسُ؛ لأَِنَّ النَّفْيَ مِنْ جَمِيعِ الأَْرْضِ مُحَالٌ، وَإِلَى بَلَدٍ آخَرَ
__________
(1) الصحاح مادة (وقف) ، و (حبس) .
(2) كفاية الطالب لأبي الحسن 2 / 217، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 243.
(3) جواهر الإكليل للآبي 2 / 205.
(4) الصحاح والمصباح مادة: (نفى) و (غرب) .
(5) سورة المائدة / 33.
(6) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 349، والأحكام السلطانية للماوردي ص 62، والمغني لابن قدامة 8 / 294، وتفسير الطبري 6 / 219.(16/284)
فِيهِ إِيذَاءُ أَهْلِهَا، وَهُوَ لَيْسَ نَفْيًا مِنَ الأَْرْضِ بَل مِنْ بَعْضِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُول: {مِنَ الأَْرْضِ} (1) فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ الْحَبْسُ؛ لأَِنَّ الْمَحْبُوسَ فِي حَقِيقَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُخْرَجِ مِنَ الدُّنْيَا.
وَقَدْ أُنْشِدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى:
خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أَهْلِهَا
فَلَسْنَا مِنَ الأَْمْوَاتِ فِيهَا وَلاَ الأَْحْيَا
إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ
عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا
وَبِهَذَا عَمِل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ حَبَسَ رَجُلاً وَقَال: أَحْبِسُهُ حَتَّى أَعْلَمَ مِنْهُ التَّوْبَةَ وَلاَ أَنْفِيهِ إِلَى بَلَدٍ يُؤْذِيهِمْ. (2)
مَشْرُوعِيَّةُ الْحَبْسِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَبْسِ لِلنُّصُوصِ وَالْوَقَائِعِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ نُقِل عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْجُنْ أَحَدًا. (3) وَاسْتَدَل الْمُثْبِتُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
__________
(1) سور المائدة / 33.
(2) أحكام القرآن للجصاص 2 / 412، والمبسوط للسرخسي 20 / 88، ومناهج الطالبين للنووي بهامش حاشية القليوبي 4 / 200، والإنصاف للمرداوي 10 / 298، والبحر الزخار للمرتضي 5 / 199، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 598، وروح المعاني للألوسي 6 / 120، وتفسير القرطبي 6 / 153.
(3) أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن فرج ص 11، وتبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 216.(16/284)
{وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَل اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} (1) .
وَلِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ فِي نَسْخِ هَذِهِ الآْيَةِ، مِنْهَا: أَنَّ الْحَبْسَ نُسِخَ فِي الزِّنَى فَقَطْ بِالْجَلْدِ وَالرَّجْمِ وَبَقِيَ مَشْرُوعًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ. (2)
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ} (3) . وَبِقَوْلِهِ أَيْضًا: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} (4) فَفِي هَذِهِ الآْيَةِ إِرْشَادٌ إِلَى حَبْسِ مَنْ تَوَجَّبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ. (5)
وَالآْيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ لِعَمَل أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ بِهَا فِي الْكُوفَةِ زَمَنَ إِمَارَتِهِ (6) وَفِي الْحَبْسِ جَاءَ قَوْله تَعَالَى: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} (7) . وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا أَنَّ الْحَصْرَ هُوَ الْحَبْسُ، وَالآْيَةُ لَيْسَتْ
__________
(1) سورة النساء / 15، وانظر التراتيب الإدارية للكتاني 1 / 296، والاختيارات للبعلي ص 295.
(2) أحكام القرآن لابن العربي 1 / 357، والمبسوط للسرخسي 20 / 88، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 106، والكشاف للزمخشري 1 / 386، والاختيارات للبعلي ص 295.
(3) الدر المختار للحصكفي 5 / 376، وفتح القدير 5 / 471.
(4) سورة المائدة / 106.
(5) أحكام القرآن لابن العربي 2 / 716، والطرق الحكيمة ص 190.
(6) تفسير الخازن 2 / 71، والطرق الحكيمة ص 186.
(7) سورة التوبة / 5.(16/285)
مَنْسُوخَةً، وَإِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الأَْسْرِ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ. (1) بَل إِنَّ الأَْسِيرَ يُسَمَّى مَسْجُونًا.
وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} (2) وَهِيَ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَفِيهَا الأَْمْرُ بِتَقْيِيدِ الأَْسِيرِ، (3) وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَحْبُوسٌ وَمَسْجُونٌ.
9 - وَمِمَّا يَدُل عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَبْسِ فِي السُّنَّةِ حَدِيثُ: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ (4) وَيُقْصَدُ بِحِل الْعِرْضِ: إِغْلاَظُ الْقَوْل وَالشِّكَايَةُ، وَبِالْعُقُوبَةِ: الْحَبْسُ. وَهَذَا قَوْل جَمَاعَةٍ مِنْ فُقَهَاءِ السَّلَفِ مِنْهُمْ: سُفْيَانُ وَوَكِيعٌ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ. (5)
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِذَا أَمْسَكَ الرَّجُل الرَّجُل، وَقَتَلَهُ الآْخَرُ، فَيُقْتَل الَّذِي قَتَل
__________
(1) الأحكام لابن العربي 2 / 890، وتفسير الطبري 10 / 78، والكشاف 2 / 28، وبدائع الصنائع 7 / 119، والمغني لابن قدامة 8 / 372.
(2) سورة محمد / 4.
(3) الأحكام لابن العربي 4 / 1689، وتفسير ابن كثير 4 / 173.
(4) حديث: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " أخرجه ابن ماجه (2 / 811 - ط الحلبي) من حديث عمرو بن الشريد، وحسنه ابن حجر في الفتح (5 / 62 - ط السلفية) . واللي: المماطلة.
(5) فتح الباري 5 / 62، وبداية المجتهد 2 / 285، وتفسير القرطبي 2 / 360، ونيل الأوطار 8 / 316، وسبل السلام 3 / 55، وجامع الأصول 4 / 455.(16/285)
وَيُحْبَسُ الَّذِي أَمْسَكَ (1) . وَبِنَحْوِهِ قَضَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَمَرَ بِقَتْل الْقَاتِل وَحَبْسِ الْمُمْسِكِ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَمُوتَ. (2) وَيُعْرَفُ هَذَا بِالْقَتْل صَبْرًا أَيِ الْحَبْسِ حَتَّى الْمَوْتِ، وَبِهِ عَمِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَمَرَ بِقَتْل الْقَاتِل وَصَبْرِ الصَّابِرِ. (3)
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رَجُلاً فِي تُهَمَةٍ (4) ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْحَبْسِ وَلَوْ بِتُهْمَةٍ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ أَحَدَ رَجُلَيْنِ مِنْ غِفَارٍ اتُّهِمَا بِسَرِقَةِ بَعِيرَيْنِ، وَقَال لِلآْخَرِ: اذْهَبْ فَالْتَمِسْ، فَذَهَبَ وَعَادَ بِهِمَا (5) .
__________
(1) حديث: " إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر. . . " أخرجه الدارقطني (3 / 140 - ط دار المحاسن) والبيهقي (8 / 50 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمر. وقال البيهقي: " هذا غير محفوظ، وقد قيل عن إسماعيل بن أمية عن سعيد بن المسيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وهي الرواية المذكورة تلوها في هذا البحث.
(2) المصنف لعبد الرزاق 9 / 480، والطرق الحكمية ص 51، والمحلى لابن حزم 10 / 512.
(3) حديث: " أمر بقتل القاتل وصبر الصابر " أخرجه الدارقطني (3 / 140 - ط دار المحاسن) والبيهقي (8 / 50 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث إسماعيل بن أمية مرسلا.
(4) حديث: " حبس رجلا في تهمة " أخرجه أبو داود (4 / 47 - تحيقق عزت عبيد دعاس) والترمذي (4 / 28 - ط الحلبي) من حديث معاوية بن حيدة القشيري، وحسنه الترمذي.
(5) حديث: " اذهب فالتمس، فذهب وعاد بهما " أخرجه عبد الرزاق في المصنف (10 / 216 - 217 - ط المجلس العلمي بالهند) من حديث عراك بن مالك مرسلا. وإسناده ضعيف لإرساله.(16/286)
10 - وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَبْسِ، وَقَدْ حَبَسَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْخُلَفَاءُ وَالْقُضَاةُ مِنْ بَعْدِهِمْ فِي جَمِيعِ الأَْعْصَارِ وَالأَْمْصَارِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا. (1)
11 - وَتَدْعُو الْحَاجَةُ - عَقْلاً - إِلَى إِقْرَارِ الْحَبْسِ، لِلْكَشْفِ عَنِ الْمُتَّهَمِ، وَلِكَفِّ أَهْل الْجَرَائِمِ الْمُنْتَهِكِينَ لِلْمَحَارِمِ، الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا وَيَعْتَادُونَ ذَلِكَ، أَوْ يُعْرَفُ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَرْتَكِبُوا مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَالْقِصَاصَ. (2)
أَنْوَاعُ الْحَبْسِ:
12 - يَنْقَسِمُ الْحَبْسُ بِحَسَبِ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَا كَانَ بِقَصْدِ الْعُقُوبَةِ، وَإِلَى مَا كَانَ بِقَصْدِ الاِسْتِيثَاقِ (3) .
__________
(1) المبسوط 20 / 88 - 91، وزاد المعاد 2 / 74، وفتح الباري 5 / 76، 7 / 414، ونيل الأوطار 8 / 212، 8 / 316، والتراتيب الإدارية 1 / 294، والأقضية لابن فرج ص 11، وفتح القدير 5 / 471، وحاشية ابن عابدين 5 / 376، وتبصرة الحكام 2 / 317، والبحر الزخار 5 / 138.
(2) الطرق الحكيمة ص 101 - 104، ونيل الأوطار 8 / 316، وتفسير القرطبي 6 / 352.
(3) تبصرة الحكام 1 / 407، والفروق للكرابيسي 1 / 286، وبدائع الصنائع 7 / 65.(16/286)
الْحَبْسُ بِقَصْدِ الْعُقُوبَةِ وَالتَّعْزِيرِ وَمُوجِبَاتُهُ:
13 - الْحَبْسُ بِقَصْدِ الْعُقُوبَةِ يَكُونُ فِي الأَْفْعَال وَالْجَرَائِمِ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ فِيهَا الْحُدُودُ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ كَانَ فِيهَا حَقُّ الآْدَمِيِّ، وَالأَْصْل فِي هَذَا أَنَّ الْحَبْسَ فَرْعٌ مِنَ التَّعْزِيرِ. وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ الْمَالِكِيُّ وَابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الشَّافِعِيُّ بِضْعَ قَوَاعِدَ يُشْرَعُ فِيهَا الْحَبْسُ، مِنْهَا خَمْسٌ يُشْرَعُ فِيهَا الْحَبْسُ تَعْزِيرًا وَهِيَ: حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ دَفْعِ الْحَقِّ إِلْجَاءً إِلَيْهِ، وَحَبْسُ الْجَانِي رَدْعًا عَنِ الْمَعَاصِي، وَحَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنَ التَّصَرُّفِ الْوَاجِبِ الَّذِي لاَ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ كَحَبْسِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى أُخْتَيْنِ حَتَّى يَخْتَارَ إِحْدَاهُمَا، وَحَبْسِ مَنْ أَقَرَّ بِمَجْهُولٍ وَامْتَنَعَ مِنْ تَعْيِينِهِ، وَحَبْسِ الْمُمْتَنِعِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لاَ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ كَالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ (1) .
جَمْعُ الْحَبْسِ تَعْزِيرًا مَعَ عُقُوبَاتٍ أُخْرَى:
14 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ جَمْعِ الْحَبْسِ تَعْزِيرًا مَعَ غَيْرِهِ مِنْ عُقُوبَاتٍ. وَذَكَرُوا أَمْثِلَةً لِجَمْعِهِ مَعَ الْحَدِّ مِنْ مِثْل: جَلْدِ الزَّانِي الْبِكْرِ مِائَةً حَدًّا وَحَبْسِهِ سَنَةً تَعْزِيرًا لِلْمَصْلَحَةِ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: حَبْسُهُ سَنَةً مَنْفِيًّا (2) .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 236، والسياسية الشرعية لابن تيمية ص 111 - 113، وجواهر الإكليل للآبي 2 / 296، والفروق 4 / 79، وحاشية الرملي على أسنى المطالب 4 / 306.
(2) الدر المختار وحاشيته 4 / 14، وشرح المحلي على المنهاج 4 / 181 - 205، وحاشية الرملي على أسنى المطالب 4 / 306، والاختيار 4 / 92، وغاية المنتهى للكرمي 3 / 316، وتبصرة الحكام 2 / 260، ونيل الأوطار 7 / 95.(16/287)
15 - وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَبْسِ وَالْقِصَاصِ: حَبْسُ مَنْ جَرَحَ غَيْرَهُ جِرَاحَةً لاَ يُسْتَطَاعُ فِي مِثْلِهَا قِصَاصٌ، وَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالأَْرْشِ (التَّعْوِيضُ) بَدَلاً مِنْهُ (1) .
16 - وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَبْسِ وَالْكَفَّارَةِ: حَبْسُ الْقَاضِي مَنْ ظَاهَرَ زَوْجَتَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ عَنْ ظِهَارِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الزَّوْجَةِ. وَحَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الْكَفَّارَاتِ عَامَّةً حَتَّى يُؤَدِّيَهَا فِي أَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
17 - وَقَرَّرَ الْفُقَهَاءُ مَشْرُوعِيَّةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَبْسِ تَعْزِيرًا وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ، وَمِنْ ذَلِكَ: تَقْيِيدُ السُّفَهَاءِ وَالْمُفْسِدِينَ فِي سُجُونِهِمْ. وَحَبْسُ مَنْ طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ وَضَرْبُهُ فِي سِجْنِهِ حَتَّى يُرَاجِعَ زَوْجَتَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَضَرْبُ الْمَحْبُوسِ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ. وَحَلْقُ رَأْسِ شَاهِدِ الزُّورِ وَحَبْسُهُ. وَحَبْسُ الْقَاتِل عَمْدًا - إِذَا عُفِيَ عَنْهُ - مَعَ جَلْدِهِ مِائَةً. وَقَدْ فَوَّضَ الشَّرْعُ الْحَاكِمَ فِي جَمْعِ الْحَبْسِ مَعَ عُقُوبَاتٍ أُخْرَى؛ لأَِنَّ أَحْوَال النَّاسِ فِي الاِنْزِجَارِ مُخْتَلِفَةٌ (3) .
__________
(1) الخراج ص 163، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 625.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 469، والأشباه للسيوطي ص 491.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 62، 66 و 5 / 378، وحاشية الدسوقي 4 / 355، 362، والمغني لابن قدامة 8 / 325، وفيض الإله للبقاعي 2 / 325، وفتح القدير 4 / 212، والإنصاف 10 / 248 و 12 / 107، وأسنى المطالب 4 / 162، وتبصرة الحكام 2 / 301 - 304، وبداية المجتهد 2 / 404.(16/287)
مُدَّةُ الْحَبْسِ تَعْزِيرًا:
18 - لِمُدَّةِ الْحَبْسِ بِقَصْدِ التَّعْزِيرِ حَدٌّ أَدْنَى وَحَدٌّ أَعْلَى بِحَسَبِ حَال الْجَانِي وَجَرِيرَتِهِ:
أ - أَقَل الْمُدَّةِ:
19 - فِي كَلاَمِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ أَقَل مُدَّةِ الْحَبْسِ يَحْصُل حَتَّى بِالْحَبْسِ عَنْ حُضُورِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ. وَقَال آخَرُونَ: أَقَل مُدَّةِ الْحَبْسِ تَعْزِيرًا يَوْمٌ وَاحِدٌ (1) . وَيُقْصَدُ بِهِ تَعْوِيقُ الْمَحْبُوسِ عَنِ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ لِيَضْجَرَ وَيَنْزَجِرَ؛ لأَِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَتَأَثَّرُ بِحَبْسِ يَوْمٍ فَيَغْتَمُّ (2) .
ب - أَكْثَرُ الْمُدَّةِ:
20 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) لَمْ يُقَدِّرُوا حَدًّا أَعْلَى لِلْحَبْسِ بِقَصْدِ التَّعْزِيرِ، وَفَوَّضُوا ذَلِكَ إِلَى الْقَاضِي، فَيَحْكُمُ بِمَا يَرَاهُ مُنَاسِبًا لِحَال الْجَانِي؛ لأَِنَّ التَّعْزِيرَ - وَالْحَبْسُ فَرْعٌ مِنْهُ - مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ، فَيَجُوزُ لِلْقَاضِي اسْتِدَامَةُ حَبْسِ مَنْ تَكَرَّرَتْ جَرَائِمُهُ وَأَصْحَابِ الْجَرَائِمِ الْخَطِيرَةِ.
__________
(1) إعانة الطالبين للبكري 4 / 169، وتبصرة الحكام 2 / 329، ومعالم القربة لابن الأخوة ص 191.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 384، والمعيار للونشريسي 2 / 406 - 407.(16/288)
وَلِلشَّافِعِيَّةِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا لِلزُّبَيْرِيِّ، وَقَدَّرَ أَكْثَرَ الْحَبْسِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَالْقَوْل الثَّانِي، وَهُوَ مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ: سَنَةٌ؛ تَشْبِيهًا لِلْحَبْسِ بِالنَّفْيِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِّ. وَالْقَوْل الثَّالِثُ لإِِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَافَقَ فِيهِ الْجُمْهُورَ فِي عَدَمِ تَحْدِيدِ أَكْثَرِ الْمُدَّةِ. وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الْعَمَل بِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْحَامِل عَلَى ذَلِكَ الْمَصْلَحَةُ لاَ التَّشَهِّي وَالاِنْتِقَامُ (1) .
التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَبْسِ الْقَصِيرِ وَالْحَبْسِ الطَّوِيل:
21 - مَيَّزَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْحَبْسِ الْقَصِيرِ وَالْحَبْسِ الطَّوِيل، فَسَمَّوْا مَا كَانَ أَقَل مِنْ سَنَةٍ قَصِيرًا، وَمَا كَانَ سَنَةً فَأَكْثَرَ طَوِيلاً. وَقَضَوْا عَلَى أَصْحَابِ الْجَرَائِمِ غَيْرِ الْخَطِيرَةِ بِالْحَبْسِ الْقَصِيرِ كَحَبْسِ شَاتِمِ جِيرَانِهِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ. وَحَبْسِ تَارِكِ الصِّيَامِ مُدَّةَ شَهْرِ رَمَضَانَ (2) . وَقَضَوْا عَلَى أَصْحَابِ الْجَرَائِمِ الْخَطِيرَةِ وَمُعْتَادِي الإِْجْرَامِ بِالْحَبْسِ الطَّوِيل (3) . مِنْ مِثْل: حَبْسِ الزَّانِي الْبِكْرِ سَنَةً
__________
(1) الدر المختار 4 / 81 و 5 / 389، وحاشية ابن عابدين 4 / 67 و 76، وتبصرة الحكام 2 / 148 و 330، والإنصاف 11 / 217، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 164 - 165، والأحكام السلطانية للماوردي ص 165، وأسنى المطالب 4 / 162، وغياث الأمم لإمام الحرمين ص 226، ومعيد النعم للسبكي ص 23.
(2) تبصر الحكام 1 / 266، والأحكام السلطانية للماوردي ص 222.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 67، وتبصرة الحكام، ومعيد النعم ص 23، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 259.(16/288)
بَعْدَ حَدِّهِ. وَكَذَا مَنْ جَرَحَ غَيْرَهُ جِرَاحَةً لاَ يُسْتَطَاعُ فِي مِثْلِهَا قِصَاصٌ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ وَيُطَال حَبْسُهُ. وَقَدْ سَجَنَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَابِئَ بْنَ الْحَارِثِ التَّمِيمِيَّ حَتَّى مَاتَ فِي مَحْبِسِهِ وَكَانَ مِنْ شِرَارِ اللُّصُوصِ (1) .
إِبْهَامُ مُدَّةِ الْحَبْسِ:
22 - الأَْصْل أَنْ تُحَدَّدَ مُدَّةُ الْحَبْسِ عِنْدَ الْحُكْمِ. وَإِلَى جَانِبِ ذَلِكَ أَجَازَ الْفُقَهَاءُ إِبْهَامَ الْمُدَّةِ وَعَدَمَ تَعْرِيفِ الْمَحْبُوسِ بِهَا، وَتَعْلِيقَ انْتِهَائِهَا عَلَى تَوْبَتِهِ وَصَلاَحِهِ، وَذَلِكَ مِنْ مِثْل: حَبْسِ الْمُسْلِمِ الَّذِي يَبِيعُ الْخَمْرَ حَتَّى يَتُوبَ. وَحَبْسِ الْمُسْلِمِ الَّذِي يَتَجَسَّسُ لِلْعَدُوِّ. وَحَبْسِ الْمُخَنَّثِ وَالْمُرَابِي. وَحَبْسُ الْبُغَاةِ حَتَّى تُعْرَفَ تَوْبَتُهُمْ.
وَمَنْ لَمْ يَنْزَجِرْ بِحَدِّ الْخَمْرِ فَلِلْوَالِي حَبْسُهُ حَتَّى يَتُوبَ (2) .
الْحَبْسُ الْمُؤَبَّدُ:
23 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ وَقَائِعَ وَنُصُوصًا تَدُل عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَبْسِ الْمُؤَبَّدِ، مِنْ ذَلِكَ: أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) الدر المختار وحاشيته 4 / 14، وحاشية القليوبي 4 / 181، والخراج لأبي يوسف ص 163، وتبصرة الحكام 2 / 317.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 67، والخراج ص 232، 250، وبدائع الصنائع 7 / 140، والشرح الكبير للدردير 4 / 299، والقوانين لابن جزي ص 238، والإنصاف 10 / 158.(16/289)
حَبَسَ ضَابِئَ بْنَ الْحَارِثِ حَتَّى مَاتَ فِي سِجْنِهِ (1) . وَأَنَّ عَلِيًّا قَضَى بِحَبْسِ مَنْ أَمْسَكَ رَجُلاً لِيَقْتُلَهُ آخَرُ أَنْ يُحْبَسَ حَتَّى الْمَوْتِ (2) .
وَكَذَا يُحْبَسُ مَدَى الْحَيَاةِ مَنْ يَعْمَل عَمَل قَوْمِ لُوطٍ (3) . وَالدَّاعِي إِلَى الْبِدْعَةِ (4) . وَمُزَيِّفُ النُّقُودِ (5) . وَمَنْ تَكَرَّرَتْ جَرَائِمُهُ (6) . وَالْعَائِدُ إِلَى السَّرِقَةِ فِي الثَّالِثَةِ بَعْدَ حَدِّهِ فِي الْمَرَّةِ الأُْولَى وَالثَّانِيَةِ (7) . وَمَنْ يُكْثِرُ إِيذَاءَ النَّاسِ (8) . وَالْمُتَمَرِّدُ الْعَاتِي (9) . وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ (10) .
أَسْبَابُ سُقُوطِ الْحَبْسِ تَعْزِيرًا وَقَطْعُ مُدَّتِهِ:
24 - سُقُوطُ الْحَبْسِ يُقْصَدُ بِهِ تَوْقِيفُ تَنْفِيذِهِ بَعْدَ النُّطْقِ بِهِ، سَوَاءٌ أُبْدِئَ بِتَنْفِيذِ بَعْضِهِ أَمْ لَمْ يُبْدَأْ.
وَأَسْبَابُ سُقُوطِ الْحَبْسِ هِيَ:
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 317.
(2) الطرق الحكمية ص 51، والمحلى لابن حزم 10 / 512.
(3) الاختيار 4 / 91، وحاشية ابن عابدين 4 / 27، والسياسة الشرعية ص 104.
(4) الإنصاف 10 / 249، والطرق الحكمية ص 105.
(5) المعيار 2 / 414، والفتاوى الأسعدية 1 / 157 - 158.
(6) تبصرة الحكام 2 / 164، وحاشية الجمل 5 / 165، وحاشية ابن عابدين 4 / 67، والإنصاف 10 / 158.
(7) الاختيار 4 / 110، والإنصاف 10 / 286، وذهب المالكية إلى حبسه بعد الرابعة كما في حاشية الدسوقي 4 / 333.
(8) حاشية القليوبي 4 / 205.
(9) جواهر الإكليل 2 / 276.
(10) حاشية الدسوقي 4 / 353.(16/289)
أ - الْمَوْتُ:
25 - يَنْتَهِي الْحَبْسُ بِمَوْتِ الْجَانِي لاِنْتِهَاءِ مَوْضِعِ التَّكْلِيفِ، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ تَعْوِيقُ الشَّخْصِ وَقَدْ فَاتَ، وَلاَ يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ الْحَبْسِ بَعْدَ انْعِدَامِ الْمَحَل.
ب - الْجُنُونُ:
26 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ الطَّارِئَ بَعْدَ الْجَرِيمَةِ يُوقِفُ تَنْفِيذَ الْحَبْسِ؛ لأَِنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ مُكَلَّفًا وَلاَ أَهْلاً لِلْعُقُوبَةِ وَالتَّأْدِيبِ، وَهُوَ لاَ يَعْقِل الْمَقْصُودَ مِنَ الْحَبْسِ لِفَقْدِهِ الإِْدْرَاكَ (1) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ - وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ الإِْسْكَافِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - أَنَّ الْجُنُونَ لاَ يُوقِفُ تَنْفِيذَ التَّعْزِيرِ - وَالْحَبْسُ فَرْعٌ مِنْهُ - وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْغَايَةَ مِنْهُ التَّأْدِيبُ وَالزَّجْرُ، فَإِذَا تَعَطَّل جَانِبُ التَّأْدِيبِ بِالْجُنُونِ فَلاَ يَنْبَغِي تَعْطِيل جَانِبِ الزَّجْرِ مَنْعًا لِلْغَيْرِ (2) .
ج - الْعَفْوُ:
27 - إِذَا كَانَ الْحَبْسُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ سَقَطَ بِعَفْوِهِ.
__________
(1) الشرح الكبير وحاشيته 3 / 283، وبدائع الصنائع 7 / 63 - 64، وحاشية ابن عابدين 5 / 378 و 426، وحاشية القليوبي 3 / 260، وأسنى المطالب مع حاشية الرملي 2 / 189 و 4 / 306، والبحر الزخار 5 / 82.
(2) الإنصاف 10 / 241، وغاية المنتهى للكرمي 3 / 316، ومعين الحكام ص 197.(16/290)
وَضَرَبُوا مِثَالاً لِذَلِكَ بِالْمَدِينِ الْمَحْبُوسِ لِحَقِّ الدَّائِنِ (1) .
د - الشَّفَاعَةُ:
28 - تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ تَعْزِيرًا قَبْل الْبَدْءِ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ وَبَعْدَهُ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ أَذًى، لِمَا فِيهَا مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ (2) . وَيَجُوزُ لِلْحَاكِمِ رَدُّ الشَّفَاعَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا مَصْلَحَةٌ، وَقَدْ رَدَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الشَّفَاعَةَ فِي مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ حِينَ حَبَسَهُ لِتَزْوِيرِهِ خَاتَمَهُ (3) .
وَقَال الزَّرْكَشِيُّ: إِطْلاَقُ اسْتِحْبَابِ الشَّفَاعَةِ فِي التَّعْزِيرِ فِيهِ نَظَرٌ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَحِقَّ إِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنَ التَّعْزِيرِ كَانَ لِلإِْمَامِ؛ لأَِنَّهُ شُرِعَ لِلإِْصْلاَحِ وَقَدْ يَرَى ذَلِكَ فِي إِقَامَتِهِ وَفِي مِثْل هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَنْبَغِي اسْتِحْبَابُهَا.
29 - وَكَانَ مِنَ الْيَسِيرِ فِي الزَّمَنِ السَّابِقِ قَبُول الشَّفَاعَةِ فِي الْمَحْبُوسِ؛ لأَِنَّ الْقَاضِيَ كَانَ يُشْرِفُ إِشْرَافًا مُبَاشِرًا عَلَى تَنْفِيذِ الأَْحْكَامِ، وَكَانَ لِلْقُضَاةِ سُجُونٌ تُنْسَبُ إِلَيْهِمْ، فَيُقَال: سِجْنُ الْقَاضِي كَمَا يُقَال: سِجْنُ الْوَالِي (4) .
__________
(1) فتح القدير 5 / 471، وحاشية ابن عابدين 5 / 388، والبحر الزخار 5 / 139.
(2) المنثور للزركشي 2 / 248 - 249، وحاشية القليوبي 4 / 206، والأحكام السلطانية للماوردي ص 237.
(3) المغني لابن قدامة 8 / 325.
(4) معين الحكام ص 199، والمنتظم لابن الجوزي 7 / 256.(16/290)
هـ - التَّوْبَةُ:
30 - لَيْسَ لِتَوْبَةِ الْمَحْبُوسِ وَنَحْوِهِ زَمَنٌ مُحَدَّدٌ تُعْرَفُ بِهِ، بَل يَعُودُ تَقْدِيرُ إِمْكَانِيَّةِ حُصُولِهَا إِلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ قَرَائِنَ نَتِيجَةَ الْمُرَاقَبَةِ وَالتَّتَبُّعِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ: أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَأْخُذَ أَهْل الْجَرَائِمِ بِالتَّوْبَةِ إِجْبَارًا وَيُظْهِرَ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَيْهِمْ مَا يَقُودُهُمْ إِلَيْهَا طَوْعًا. وَمِنَ الأَْسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى التَّوْبَةِ تَمْكِينُ أَهْل الْمَحْبُوسِ وَجِيرَانِهِ مِنْ زِيَارَتِهِ. فَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَحْصِيل الْمَقْصُودِ كَرَدِّ الْحُقُوقِ إِلَى أَصْحَابِهَا، وَذَلِكَ تَوْبَةٌ (1) .
31 - عَلَى أَنَّ هُنَاكَ جَرَائِمَ جَسِيمَةً وَخَطِيرَةً تَسْتَلْزِمُ سُرْعَةَ ظُهُورِ التَّوْبَةِ؛ لِمَا فِي الإِْصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ مِنْ آثَارٍ خَطِيرَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ: الرِّدَّةُ الَّتِي حُدِّدَتْ مُدَّةُ التَّوْبَةِ مِنْهَا بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَيُقَال مِثْل ذَلِكَ فِي السِّحْرِ، وَتَرْكِ الصَّلاَةِ كَسَلاً عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ. أَمَّا إِذَا حُبِسَ الزَّانِي الْبِكْرُ بَعْدَ حَدِّهِ وَظَهَرَتْ تَوْبَتُهُ قَبْل السَّنَةِ فَلاَ يُخْرَجُ حَتَّى تَنْقَضِيَ؛ لأَِنَّهَا بِمَعْنَى الْحَدِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
__________
(1) المبسوط 20 / 90، وحاشية الدسوقي 3 / 281، وأسنى المطالب 2 / 188، والأحكام السلطانية للماوردي ص 220، وتبصرة الحكام 2 / 146، والبحر الزخار 5 / 23.
(2) الاختيار 4 / 145، وشرح الخرشي 8 / 65، وأسنى المطالب 4 / 123، والإنصاف 10 / 328، والمغني لابن قدامة 2 / 442، والمجموع 3 / 16، والبداية لابن رشد 1 / 90، والفروق للقرافي 4 / 79، وتبصرة الحكام 2 / 260.(16/291)
طَهَارَةُ الْمَحْبُوسِ مِنْ ذَنْبِهِ بِالْحَبْسِ تَعْزِيرًا:
32 - يَبْدُو مِنْ كَلاَمِ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ التَّعْزِيرَ - وَالْحَبْسُ فَرْعٌ مِنْهُ - لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى تَكْفِيرِ الذَّنْبِ؛ لأَِنَّهُ شُرِعَ لِلزَّجْرِ الْمَحْضِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ الْحُدُودِ فَهِيَ كَفَّارَاتٌ لِمُوجِبَاتِهَا وَأَهْلِهَا (1) .
وَذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ: أَنَّ الْعُقُوبَةَ عَامَّةً كَفَّارَةٌ لِمُوجِبِهَا فِي الآْخِرَةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلأَْنْصَارِ بَعْدَ مُبَايَعَتِهِمْ لَهُ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقُوا وَلاَ يَزْنُوا وَلاَ يَقْتُلُوا أَوْلاَدَهُمْ: وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ (2) . ثُمَّ قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَقَوْلُهُ: عُوقِبَ بِهِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ الْعُقُوبَةُ حَدًّا أَوْ تَعْزِيرًا لِدُخُول قَتْل الأَْوْلاَدِ (3) .
الْحَبْسُ لِلاِسْتِيثَاقِ:
33 - الاِسْتِيثَاقُ لُغَةً: إِحْكَامُ الأَْمْرِ وَأَخْذُهُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 64، وحاشية ابن عابدين 4 / 4، والهداية 2 / 80، وتبصرة الحكام 2 / 301، والمغني لابن قدامة 8 / 326، وحاشية الباجوري 2 / 229، والفروع 6 / 61، وفتح الباري 1 / 66، وعمدة القاري 1 / 159، ونيل الأوطار 7 / 203 - 208.
(2) حديث: " من أصاب من ذلك شيئا فعوقب به. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 84 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1333 - ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت.
(3) نيل الأوطار 7 / 203 - 208.(16/291)
بِالشَّيْءِ الْمَوْثُوقِ بِهِ (1) . وَيَذْكُرُهُ الْعُلَمَاءُ أَثْنَاءَ الْكَلاَمِ عَلَى الْحَبْسِ (2) . وَيُرِيدُونَ بِهِ: تَعْوِيقَ الشَّخْصِ وَمَنْعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ بِقَصْدِ الاِسْتِيثَاقِ، وَضَمَانِ عَدَمِ الْهَرَبِ، لاَ بِقَصْدِ التَّعْزِيرِ وَالْعُقُوبَةِ. وَبَعْدَ تَتَبُّعِ مَا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ، يُمْكِنُ تَقْسِيمُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْحَبْسِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: الْحَبْسُ لِلتُّهَمَةِ، وَالْحَبْسُ لِلاِحْتِرَازِ، وَالْحَبْسُ لِتَنْفِيذِ عُقُوبَةٍ أُخْرَى.
الْحَبْسُ بِسَبَبِ التُّهَمَةِ:
34 - التُّهَمَةُ فِي مُجْمَل كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ: إِخْبَارٌ بِحَقٍّ لِلَّهِ أَوْ لآِدَمِيٍّ عَلَى مَطْلُوبٍ تَعَذَّرَتْ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِ فِي غَالِبِ الأَْحْوَال. وَالْحَبْسُ اسْتِيثَاقًا بِتُهَمَةٍ هُوَ: تَعْوِيقُ ذِي الرِّيبَةِ عَنِ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَبِينَ أَمْرُهُ فِيمَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ أَوِ الآْدَمِيِّ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ. وَيُقَال لَهُ أَيْضًا حَبْسُ الاِسْتِظْهَارِ لِيُكْتَشَفَ بِهِ مَا وَرَاءَهُ (3) .
مَشْرُوعِيَّةُ الْحَبْسِ بِتُهَمَةٍ وَحَالاَتُهُ:
35 - اسْتُدِل لِمَشْرُوعِيَّةِ حَبْسِ التُّهَمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَنِ اتُّهِمَ بِعَدَمِ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ
__________
(1) القاموس والصحاح مادة: (وثق) .
(2) الفروق للكرابيسي 1 / 286، وبدائع الصنائع 7 / 65، وتبصرة الحكام 1 / 407، وتفسير القرطبي 6 / 352 ط 2.
(3) الطرق الحكمية ص 93 - 94، ومعالم السنن للخطابي 4 / 179، وتفسير القرطبي 6 / 353.(16/292)
بَعْدِ الصَّلاَةِ} (1) وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ أَحَدَ الْغِفَارِيِّينَ بِتُهَمَةِ سَرِقَةِ بَعِيرَيْنِ ثُمَّ أَطْلَقَهُ (2) . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَبَسَ مُتَّهَمِينَ حَتَّى أَقَرُّوا (3) .
36 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَبْسِ التُّهَمَةِ. وَاعْتَبَرُوهُ مِنَ السِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ إِذَا تَأَيَّدَتِ التُّهَمَةُ بِقَرِينَةٍ قَوِيَّةٍ، أَوْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الرِّيبَةِ عَلَى الْمُتَّهَمِ أَوْ عُرِفَ بِالْفُجُورِ (4) . مِنْ مِثْل مَا وَقَعَ لاِبْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ حِينَ أَخْفَى كَنْزًا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَادَّعَى ذَهَابَهُ بِالنَّفَقَةِ، فَحَبَسَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَال أَكْثَرُ (5) فَكَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً عَلَى كَذِبِهِ، ثُمَّ أَمَرَ الزُّبَيْرَ أَنْ
__________
(1) سورة المائدة / 106، وانظر أحكام القرآن لابن العربي 2 / 716، والطرق الحكمية ص 190.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس أحد الغفاريين. . . " سبق تخريجه ف 9.
(3) تبصرة الحكام 2 / 140.
(4) حاشية ابن عابدين 4 / 76 و 88، والعناية للبابرتي 5 / 401، وحاشية الدسوقي 3 / 279 و 306، والأحكام السلطانية للماوردي ص 219، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 258، والمغني لابن قدامة 9 / 328، وعون المعبود 4 / 235، وتحفة الأحوذي 2 / 314، والمعيار 2 / 434، وأعلام الموقعين 4 / 373 - 374، وزاد المعاد 3 / 213.
(5) حديث: " العهد قريب والمال أكثر " عزاه ابن الأثير في جامع الأصول (2 / 642 - ط دار الملاح) ضمن حديث طويل إلى البخاري في صحيحه وأبي داود، والحديث بطوله موجود في البخاري (الفتح 5 / 328 - ط السلفية) وأبي داود (3 / 408 - تحقيق عزت عبيد دعاس) دون الشطر المذكور.(16/292)
يَمَسَّهُ بِعَذَابٍ حَتَّى ظَهَرَ الْكَنْزُ (1) .
وَفِي نَحْوِ هَذَا يَقُول عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: الْمَتَاعُ يُوجَدُ مَعَ الرَّجُل الْمُتَّهَمِ فَيَقُول: ابْتَعْتُهُ، فَاشْدُدْهُ فِي السِّجْنِ وَثَاقًا وَلاَ تَحُلُّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ أَمْرُ اللَّهِ (2) . وَذَلِكَ إِذَا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ لاَ يَتَحَصَّل ذَلِكَ الْمَتَاعُ لِمِثْل هَذَا الْمُتَّهَمِ. وَإِذَا قَامَتِ الْقَرَائِنُ وَشَوَاهِدُ الْحَال عَلَى أَنَّ الْمُتَّهَمَ بِسَرِقَةٍ - مَثَلاً - كَانَ ذَا عِيَارَةٍ - كَثِيرَ التَّطْوَافِ وَالْمَجِيءِ وَالذَّهَابِ - أَوْ فِي بَدَنِهِ آثَارُ ضَرْبٍ، أَوْ كَانَ مَعَهُ حِينَ أَخَذَ مِنْقَبٌ، قَوِيَتِ التُّهَمَةُ وَسُجِنَ (3) .
37 - وَقَدْ فَصَّل الْقَائِلُونَ بِحَبْسِ التُّهَمَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامٍ فَذَكَرُوا: أَنَّهُ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ حَبْسِ الْمُتَّهَمِ بِاخْتِلاَفِ حَالِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل تِلْكَ التُّهَمَةِ وَلَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ صَالِحَةٌ عَلَى اتِّهَامِهِ فَلاَ يَجُوزُ حَبْسُهُ وَلاَ عُقُوبَتُهُ اتِّفَاقًا. وَإِنْ كَانَ الْمُتَّهَمُ مَجْهُول الْحَال لاَ يُعْرَفُ بِبِرٍّ وَلاَ فُجُورٍ، فَهَذَا يُحْبَسُ حَتَّى يَنْكَشِفَ حَالُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَإِنْ كَانَ الْمُتَّهَمُ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْل وَنَحْوِ ذَلِكَ جَازَ حَبْسُهُ، بَل هُوَ أَوْلَى مِمَّنْ قَبْلَهُ (4) .
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 114، والسياسة الشرعية ص 43، والطرق الحكمية ص 7 و 15.
(2) المحلى لابن حزم 11 / 131.
( x663 ;) الأحكام السلطانية للماوردي ص 220، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 219.
(4) الطرق الحكمية ص 101 - 104، والشرح الكبير 3 / 306، والقوانين الفقهية ص 219، وحاشية ابن عابدين 4 / 88.(16/293)
فَإِنْ تَعَارَضَتِ الأَْقْوَال فِي الْمُتَّهَمِ أُخِذَ بِخَبَرِ مَنْ شَهِدَ لَهُ بِالْخَيْرِ آخِرًا، سُئِل ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ الْحَارِثِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ رَجُلٍ شَهِدَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ بِالْفَسَادِ وَالرِّيبَةِ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ آخَرُونَ بِالصَّلاَحِ وَالْخَيْرِ وَمُجَانَبَةِ أَهْل الرِّيَبِ وَمُتَابَعَةِ شُغْلِهِ وَمَعَاشِهِ فَأَجَابَا: تُقَدَّمُ شَهَادَةُ الآْخَرِينَ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا رُجُوعَهُ عَنْ أَحْوَالِهِ الْحَسَنَةِ إِلَى حِينِ شَهَادَتِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (1) .
38 - وَذَكَرَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ مَا كَانَ الْحَبْسُ فِيهِ أَقْصَى عُقُوبَةً كَالأَْمْوَال فَلاَ يُحْبَسُ الْمُتَّهَمُ حَتَّى تَثْبُتَ بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ.
وَعِنْدَ سُحْنُونٍ وَغَيْرِهِ: مَا كَانَ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِيهِ غَيْرَ الْحَبْسِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ حَيْثُ الأَْقْصَى فِيهَا الْقَطْعُ أَوِ الْقَتْل أَوِ الْجَلْدُ فَيَجُوزُ حَبْسُ الْمُتَّهَمِ فِيهَا بِشَهَادَةٍ حَتَّى تَكْتَمِل الْحُجَّةُ؛ وَلِئَلاَّ يُتَّهَمَ الْقَاضِي بِالتَّهَاوُنِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ يُفْضِي إِلَى فَسَادِ الْعَالَمِ. وَمِثَال ذَلِكَ: حَبْسُ الْمُتَّهَمِ بِالسُّكْرِ حَتَّى يَعْدِل الشُّهُودُ.
وَذَهَبَ الْقَاضِي شُرَيْحٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ إِلَى مَنْعِ الْحَبْسِ بِتُهَمَةٍ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ تَامَّةٍ، وَرُوِيَ أَنَّ شُرَيْحًا اسْتَحْلَفَ مُتَّهَمًا - بِأَخْذِ مَال رَجُلٍ غَنِيٍّ مَاتَ فِي سَفَرٍ - وَخَلَّى سَبِيلَهُ (2) .
__________
(1) سورة هود / 114، وانظر المعيار 2 / 426.
(2) الدر المختار وحاشيته 4 / 40 و 5 / 299، وبدائع الصنائع 7 / 65، والعناية للبابرتي 5 / 401، والمغني لابن قدامة 9 / 328، وحاشية القليوبي 4 / 306، وتبصرة الحكام 1 / 407.(16/293)
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَأْخُذُ النَّاسَ بِالْقَرْفِ (التُّهَمَةِ) . فَإِذَا اضْطُرَّ الْقَاضِي إِلَى بَعْضِ الْحَالاَتِ يَأْخُذُ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَفِيلاً لِيُمْكِنَهُ إِحْضَارُهُ (1) . وَذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: أَنَّ الشَّرْعَ لاَ يُرَخِّصُ فِي مُعَاقَبَةِ أَصْحَابِ التُّهَمِ قَبْل إِلْمَامِهِمْ بِالسَّيِّئَاتِ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَفَضَ أَنْ يُؤْتَى بِمُتَّهَمٍ مُصَفَّدٍ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ (2) .
الْجِهَةُ الَّتِي يَحِقُّ لَهَا الْحَبْسُ بِتُهَمَةٍ:
39 - لِلْفُقَهَاءِ قَوْلاَنِ فِيمَنْ يَمْلِكُ سُلْطَةَ الْحَبْسِ بِتُهَمَةٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لَيْسَ لِلْقَاضِي الْحَبْسُ بِتُهَمَةٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْوَالِي، وَهَذَا قَوْل الزُّبَيْرِيِّ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَاوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَالْقَرَافِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَحُجَّتُهُمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ مِنَ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا الإِْمَامُ وَالْوَالِي لاَ الْقَاضِي؛ إِذْ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْبِسَ أَحَدًا إِلاَّ بِحَقٍّ وَجَبَ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: لِلْوَالِي وَلِلْقَاضِي أَنْ يَحْبِسَا
__________
(1) الخراج 190 - 191.
(2) غياث الأمم ص 229، والمحلى لابن حزم 11 / 131 و 142، وانظر المصنف لعبد الرزاق 10 / 217.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 219، والطرق الحكمية ص 103، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 258، وتبصرة الحكام 2 / 141 - 142.(16/294)
بِتُهَمَةٍ، وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَأَحْمَدَ وَمُحَقِّقِي أَصْحَابِهِ، وَذَكَرَهُ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ. وَاسْتَدَل هَؤُلاَءِ بِأَنَّ عُمُومَ الْوِلاَيَاتِ وَخُصُوصَهَا وَمَا يَسْتَفِيدُهُ الْمُتَوَلِّي بِالْوِلاَيَةِ رَاجِعٌ إِلَى الأَْلْفَاظِ وَالأَْحْوَال وَالْعُرْفِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ، فَقَدْ يَدْخُل فِي وِلاَيَةِ الْقَضَاءِ فِي بَعْضِ الأَْزْمِنَةِ وَالأَْمْكِنَةِ مَا يَدْخُل فِي وِلاَيَةِ الْحَرْبِ فِي زَمَانٍ وَمَكَانٍ آخَرَ وَبِالْعَكْسِ (1) .
مُدَّةُ الْحَبْسِ بِتُهَمَةٍ:
40 - لاَ حَدَّ لأَِقَل مُدَّةِ الْحَبْسِ. أَمَّا أَكْثَرُهُ فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ حَتَّى يَنْكَشِفَ حَال الْمُتَّهَمِ، وَقَدْ نَسَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ هَذَا الْقَوْل إِلَى مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَأَحْمَدَ وَمُحَقِّقِي أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُطَال سِجْنُ مَجْهُول الْحَال، وَالْحَبْسُ الطَّوِيل عِنْدَهُمْ مَا زَادَ عَلَى سَنَةٍ (2) .
وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ أَكْثَرَ مُدَّةٍ يُحْبَسُ فِيهَا الْمُتَّهَمُ الْمَجْهُول الْحَال يَوْمٌ وَاحِدٌ. وَحَدَّدَهَا قَوْمٌ بِيَوْمَيْنِ وَثَلاَثَةٍ، وَأَجَازَ آخَرُونَ بُلُوغَهَا شَهْرًا (3) .
__________
(1) تبصرة الحكام 2 / 141 - 142، والمعيار 2 / 434، والطرق الحكمية ص 102 و 239، والفتاوى لابن تيمية 35 / 397، وحاشية ابن عابدين 4 / 15 و 76 و 88.
(2) معين الحكام ص 20 و 176، والأحكام للماوردي ص 220، والأحكام لأبي يعلى ص 258، وفتاوى ابن تيمية 35 / 397، وحاشية ابن عابدين 4 / 88، وتبصرة الحكام 1 / 266، 2 / 159.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 88، والمعيار 2 / 316، ومعالم القربة لابن الأخوة ص 191 - 192، وتبصرة الحكام 2 / 147 و 156، والمغني لابن قدامة 9 / 328.(16/294)
أَمَّا الْمُتَّهَمُ الْمَعْرُوفُ بِالْفُجُورِ وَالْفَسَادِ فَأَكْثَرُ مُدَّةِ حَبْسِهِ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ ظُهُورُ حَالِهِ وَالْكَشْفُ عَنْهُ، وَلَوْ حُبِسَ حَتَّى الْمَوْتِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي مَذَاهِبِ فُقَهَاءِ الأَْمْصَارِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَنُقِل هَذَا أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، إِلاَّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَال: لاَ يُحْبَسُ حَتَّى الْمَوْتِ.
وَقَال الزُّبَيْرِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ: غَايَةُ حَبْسِ الْمُتَّهَمِ الْمَعْرُوفِ بِالْفُجُورِ وَالْفَسَادِ شَهْرٌ وَاحِدٌ، وَحُكِيَ هَذَا عَنْ غَيْرِهِ أَيْضًا (1) .
الْحَبْسُ لِلاِحْتِرَازِ:
41 - الاِحْتِرَازُ لُغَةً: التَّحَفُّظُ عَلَى الشَّيْءِ تَوَقِّيًا (2) . وَلَيْسَ لِلْحَبْسِ الاِحْتِرَازِيِّ تَعْرِيفٌ خَاصٌّ بِهِ مَعَ مَا ذَكَرُوا لَهُ مِنْ وَقَائِعَ عَدِيدَةٍ (3) . وَيُقْصَدُ بِهِ: التَّحَفُّظُ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ عَلَى مَنْ يُتَوَقَّعُ حُدُوثُ ضَرَرٍ بِتَرْكِهِ، وَلاَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ تُهَمَةٍ.
42 - وَمِمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ: حَبْسُ الْعَائِنِ الَّذِي يَضُرُّ النَّاسَ بِعَيْنِهِ احْتِرَازًا مِنْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 76 و 88، وتبصرة الحكام 2 / 147، 155 و 239، والأحكام للماوردي ص 220، والأحكام لأبي يعلى ص 258، والطرق الحكمية ص 105.
(2) القاموس والمصباح مادة: (حرز) .
(3) مغني المحتاج للشربيني 4 / 127، وانظر البداية لابن كثير 3 / 307.(16/295)
أَذَاهُ (1) ، وَحَبْسُ نِسَاءِ الْبُغَاةِ وَصِبْيَانِهِمْ تَحَفُّظًا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي الْبَغْيِ، مَعَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْل الْقِتَال (2) . وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي يَحْبِسُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ فِي الْمَسْجِدِ مُؤَقَّتًا إِلَى أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَإِنْ لَمْ يُعْطِ الْحَقَّ أَمَرَ بِهِ إِلَى السِّجْنِ (3) .
الْحَبْسُ بِقَصْدِ تَنْفِيذِ عُقُوبَةٍ:
43 - إِذَا حَال دُونَ تَنْفِيذِ الْعُقُوبَةِ الْمَحْكُومِ بِهَا أَمْرٌ عَارِضٌ أُرْجِئَ التَّنْفِيذُ حَتَّى يَزُول الْعُذْرُ، فَإِذَا خِيفَ هَرَبُ الْمَطْلُوبِ تَنْفِيذُ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ جَازَ حَبْسُهُ (4) .
44 - وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُؤَخَّرُ الْمَرِيضُ (5) . وَالْحَامِل (6) . وَالنُّفَسَاءُ (7) . وَالْمُرْضِعُ (8) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 6 / 364، والفروع لابن مفلح 6 / 113، وحاشية الصعيدي على كفاية الطالب 2 / 410، وحاشية القليوبي 4 / 162، وحاشية الباجوري 2 / 227، وفتح الباري 10 / 205، وشرح مسلم للنووي 14 / 173.
(2) أسنى المطالب 4 / 114، والمغني لابن قدامة 8 / 115، وبدائع الصنائع 7 / 134 و 141، وتبصرة الحكام 2 / 281، والبحر الزخار 5 / 419.
(3) فتح الباري 1 / 556، والمصنف لعبد الرزاق 8 / 306.
(4) الدر المختار وحاشيته 4 / 16، وأسنى المطالب 4 / 133، والمدونة 5 / 206.
(5) الفروق للكرابيسي 1 / 295، وبداية المجتهد 2 / 438، والمغني لابن قدامة 8 / 173، وحاشية القليوبي 4 / 183، ونيل الأوطار 7 / 120.
(6) الدر المختار 4 / 16، والشرح الكبير 4 / 322، والمغني لابن قدامة 8 / 171.
(7) المواضع السابقة.
(8) المواضع السابقة.(16/295)
وَالْمَظْنُونُ حَمْلُهَا حَتَّى تَسْتَبْرِئَ (1) . وَالْمَجْرُوحُ وَالْمَضْرُوبُ (2) . وَالسَّكْرَانُ حَتَّى يَصِحُّوا إِجْمَاعًا (3) . وَمَنِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ حُدُودٌ لَيْسَ فِيهَا الرَّجْمُ حُبِسَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ كُل وَاحِدٍ لِيَخِفَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ (4) .
وَاتَّفَقُوا عَلَى تَأْخِيرِ الْقِصَاصِ مِنَ الْقَاتِل إِذَا كَانَ فِي الأَْوْلِيَاءِ غَائِبٌ حَتَّى يَحْضُرَ. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى حَبْسِهِ حَتَّى حُضُورِ الْوَلِيِّ الْغَائِبِ (5) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْقَاتِل يُحْبَسُ إِذَا كَانَ فِي الأَْوْلِيَاءِ صَغِيرٌ حَتَّى يَبْلُغَ أَوْ مَجْنُونٌ حَتَّى يُفِيقَ. وَقَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى فِي الصَّغِيرِ مِثْل ذَلِكَ (6) وَمَنْ جَرَحَ آخَرَ حُبِسَ حَتَّى يَبْرَأَ الْمَجْرُوحُ إِنْ كَانَ فِي الْجُرْحِ قِصَاصٌ. وَمَنْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْقَتْل أَوِ الْقَطْعِ قِصَاصًا حُبِسَ لِيُتَمَكَّنَ مِنْ تَنْفِيذِهِ، سَوَاءٌ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالاِعْتِرَافِ. وَيَجُوزُ
__________
(1) حاشية الصعيدي على كفاية الطالب 2 / 260 و 273.
(2) أسنى المطالب 4 / 123.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 622، وكفاية الطالب 2 / 272، والإنصاف للمرداوي 10 / 159، وشرح المحلي على المنهاج 4 / 204.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 622، والمبسوط 24 / 32.
(5) الهداية 4 / 131، والشرح الكبير 4 / 257، والفروق للقرافي 4 / 79، وحاشية الجمل 5 / 46 - 47، ومغني المحتاج للشربيني 4 / 40 - 43، والمغني لابن قدامة 7 / 739.
(6) الروض المربع 7 / 196، والمغني لابن قدامة 7 / 740، وأسنى المطالب 4 / 36، والخراج ص 173.(16/296)
لِلْحَاكِمِ حَبْسُ قَاطِعِ الطَّرِيقِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْعُقُوبَةَ (1) . وَيُنْتَظَرُ لِجَلْدِ الْمَعْذُورِ اعْتِدَال هَوَاءٍ فَلاَ يُجْلَدُ فِي بَرْدٍ وَحَرٍّ مُفْرِطَيْنِ خَوْفَ الْهَلاَكِ، وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى حَبْسِهِ أَثْنَاءَ الْعُذْرِ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ مَنْ ثَبَتَ زِنَاهُ بِالْبَيِّنَةِ وَأُمِنَ هَرَبُهُ لَمْ يُحْبَسْ (2) .
ضَوَابِطُ مُوجِبَاتِ الْحَبْسِ عَامَّةً عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
45 - ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ ثَمَانِيَةَ ضَوَابِطَ فِي مُوجِبَاتِ الْحَبْسِ، وَنَسَبَ بَعْضَهَا إِلَى عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ الشَّافِعِيِّ، وَهَذِهِ الثَّمَانِيَةُ هِيَ:
1 - حَبْسُ الْجَانِي لِغَيْبَةِ وَلِيِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ حِفْظًا لِمَحَل الْقِصَاصِ.
2 - حَبْسُ الآْبِقِ سَنَةً حِفْظًا لِلْمَالِيَّةِ رَجَاءَ أَنْ يُعْرَفَ مَالِكُهُ.
3 - حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ دَفْعِ الْحَقِّ إِلْجَاءً إِلَيْهِ.
4 - حَبْسُ مَنْ أَشْكَل أَمْرُهُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ اخْتِبَارًا لِحَالِهِ، فَإِذَا ظَهَرَ حَالُهُ حُكِمَ عَلَيْهِ بِمُوجِبِهِ عُسْرًا أَوْ يُسْرًا.
5 - حَبْسُ الْجَانِي تَعْزِيرًا وَرَدْعًا عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى.
__________
(1) معين الحكام ص 197، والشرح الكبير للدردير 3 / 306، وتبصرة الحكام 2 / 276.
(2) الشرح الكبير للدردير 4 / 322، وأسنى المطالب 4 / 133، والاختيار 4 / 88، ونيل الأوطار 7 / 120.(16/296)
6 - حَبْسُ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ التَّصَرُّفِ الْوَاجِبِ الَّذِي لاَ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ، كَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى أُخْتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، أَوِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا، وَامْتَنَعَ مِنْ تَرْكِ مَا لاَ يَجُوزُ لَهُ.
7 - حَبْسُ مَنْ أَقَرَّ بِمَجْهُول عَيْنٍ أَوْ فِي الذِّمَّةِ وَامْتَنَعَ مِنْ تَعْيِينِهِ، فَيُحْبَسُ حَتَّى يُعَيِّنَهُ فَيَقُول: الْعَيْنُ هُوَ هَذَا الثَّوْبُ، أَوِ الشَّيْءُ الَّذِي فِي ذِمَّتِي وَأَقْرَرْتُ بِهِ هُوَ دِينَارٌ.
8 - حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لاَ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ فَيُقْتَل فِيهِ، وَلاَ يَدْخُل الْحَجُّ فِي هَذَا مُرَاعَاةً لِلْقَوْل بِوُجُوبِهِ عَلَى التَّرَاخِي.
9 - زَادَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ عَلِيِّ حُسَيْنٍ الْمَالِكِيُّ سَبَبًا آخَرَ، فَقَال: وَالتَّاسِعُ: مَنْ يُحْبَسُ اخْتِبَارًا لِمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنَ السَّرِقَةِ وَالْفَسَادِ.
10 - وَذَكَرَ آخَرُونَ سَبَبًا عَاشِرًا فَقَالُوا: وَالْعَاشِرُ حَبْسُ الْمُتَدَاعَى فِيهِ لِحِفْظِهِ حَتَّى تَظْهَرَ نَتِيجَةُ الدَّعْوَى، كَامْرَأَةٍ ادَّعَى رَجُلاَنِ نِكَاحَهَا فَتُحْبَسُ فِي بَيْتٍ عِنْدَ امْرَأَةٍ صَالِحَةٍ، وَإِلاَّ فَفِي حَبْسِ الْقَاضِي (1) .
__________
(1) الفروق 4 / 79، وحاشية الرملي 4 / 306، وتهذيب الفروق للمالكي 4 / 134، ومعين الحكام ص 199، وتبصرة الحكام 2 / 319 و 339.(16/297)
الأَْحْوَال الَّتِي يُشْرَعُ فِيهَا الْحَبْسُ:
حَالاَتُ الْحَبْسِ بِسَبَبِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا:
أ - حَبْسُ الْقَاتِل عَمْدًا لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ فِي الدَّمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقْتُول:
46 - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ حَبْسُ الْقَاتِل عَمْدًا سَنَةً وَضَرْبُهُ مِائَةً إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِعَدَمِ التَّكَافُؤِ كَالْحُرِّ يَقْتُل الْعَبْدَ، وَالْمُسْلِمُ يَقْتُل الذِّمِّيَّ أَوِ الْمُسْتَأْمَنَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً قَتَل عَبْدَهُ مُتَعَمِّدًا فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَنَفَاهُ سَنَةً، وَمَحَا سَهْمَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُقِدْهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً (1) .
وَنُقِل عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نَحْوُ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ فَعَل عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَلاَ يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَبْسَ هُنَا، بَل ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَجِبُ الدِّيَةُ فَقَطْ (2) .
__________
(1) حديث: " أن رجلا قتل عبده متعمدا. . . . " أخرجه البيهقي (8 / 36 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وذكر أحاديث أخرى ثم قال: " أسانيد هذه الأحاديث ضعيفة لا تقوم بشيء منها الحجة، إلا أن أكثر أهل العلم على أن لا يقتل الرجل
(2) الاختيار 5 / 26 - 27، وحاشية القليوبي 4 / 106 - 107، والمغني لابن قدامة 7 / 652، والمحلى لابن حزم 10 / 347 - 459 و 462، والقوانين لابن جزي ص 227، وكفاية الطالب 2 / 255، وأقضية الرسول لابن فرج ص 11، والمصنف لعبد الرزاق 9 / 407 - 408 و 490.(16/297)
ب - حَبْسُ الْقَاتِل الْمَعْفُوِّ عَنْهُ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ:
47 - مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَبَعْضِ فُقَهَاءِ السَّلَفِ كَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ وَعَطَاءٍ وَابْنِ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْقَاتِل عَمْدًا لاَ يُحْبَسُ إِذَا عُفِيَ عَنْهُ، إِلاَّ إِذَا عُرِفَ بِالشَّرِّ فَيُؤَدِّبُهُ الإِْمَامُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى فِي قَوْل أَبِي ثَوْرٍ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةً وَيُسْجَنُ سَنَةً، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبِهِ قَال أَهْل الْمَدِينَةِ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالأَْوْزَاعِيُّ (1) .
ج - حَبْسُ الْمُتَسَبِّبِ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ دُونَ مُبَاشَرَتِهِ:
48 - مِنَ الأَْمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا: أَنَّ مَنْ أَمْسَكَ رَجُلاً لآِخَرَ لِيَقْتُلَهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْقَاتِل وَيُحْبَسُ الْمُمْسِكُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَرَبِيعَةُ لِحَدِيثِ: يُصْبَرُ الصَّابِرُ وَيُقْتَل الْقَاتِل (2) .
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْقَوَدَ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 246 - 247، والمنهاج للنووي 4 / 126 - 127، والمغني لابن قدامة 7 / 745، وبداية المجتهد 2 / 404، والقوانين الفقهية ص 227، والأقضية لابن فرج ص 21.
(2) الحديث تقديم في ف / 9 بلفظ: " أمر بقتل القاتل وصبر الصابر ". والصابر: الممسك.(16/298)
عَلَى الْقَاتِل وَالْمُمْسِكِ لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي الْقَتْل، إِلاَّ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْمُمْسِكُ أَنَّ صَاحِبَهُ سَيَقْتُل فَيُحْبَسُ سَنَةً وَيُضْرَبُ مِائَةً (1) . وَمَنْ كَتَّفَ إِنْسَانًا وَطَرَحَهُ فِي أَرْضٍ مَسْبَعَةٍ أَوْ ذَاتِ حَيَّاتٍ فَقَتَلَتْهُ يُحْبَسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: حَتَّى يَمُوتَ (2) .
وَمَنْ تَبِعَ رَجُلاً لِيَقْتُلَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ فَأَدْرَكَهُ آخَرُ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ الأَْوَّل فَقَتَلَهُ، فَإِنْ كَانَ قَصْدُ الْقَاطِعِ حَبْسَهُ بِالْقَطْعِ لِيَقْتُلَهُ الأَْوَّل فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْقَطْعِ، وَيُحْبَسُ؛ لأَِنَّهُ كَالْمُمْسِكِ بِسَبَبِ قَطْعِ رِجْل الْمَقْتُول (3) .
د - حَبْسُ الْجَانِي عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ بِالْجُرْحِ وَنَحْوِهِ لِتَعَذُّرِ الْقِصَاصِ:
49 - مَنْ جَرَحَ غَيْرَهُ جِرَاحَةً لاَ يُسْتَطَاعُ فِي مِثْلِهَا قِصَاصٌ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالأَْرْشِ، وَعُوقِبَ وَأُطِيل حَبْسُهُ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً ثُمَّ يُخَلَّى عَنْهُ. وَمِثْل ذَلِكَ فِي فَقْءِ الْعَيْنِ (4) .
__________
(1) المبسوط 24 / 75، والمهذب 2 / 188، والمغني 7 / 755، والمحلى لابن حزم 10 / 512 - 513، والطرق الحكمية ص 51، والشرح الكبير وحاشيته 4 / 245، ونيل الأوطار 7 / 169.
(2) حاشية ابن عابدين 6 / 544، ومعين الحكام للطرابلسي ص 182، وغاية البيان للحلبي ص 390، وأسنى المطالب 4 / 9، والإنصاف 9 / 457.
(3) المغني 7 / 756.
(4) الخراج ص 163، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 625.(16/298)
هـ - الْحَبْسُ لِتَعَذُّرِ الْقِصَاصِ فِي الضَّرْبِ وَاللَّطْمِ:
50 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى إِطَالَةِ حَبْسِ مَنْ ضَرَبَ غَيْرَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِذَا احْتَاجَ إِلَى زِيَادَةِ تَأْدِيبٍ لِعَظِيمِ مَا اقْتَرَفَ. وَقَال آخَرُونَ بِالتَّعْزِيرِ عَامَّةً. وَذَهَبَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى الْقِصَاصِ فِي ذَلِكَ (1) .
و حَبْسُ الْعَائِنِ:
51 - يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَمْرُ الْعَائِنِ بِالْكَفِّ عَنْ حَسَدِهِ وَإِيذَاءِ النَّاسِ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ أَبَى فَلَهُ مَنْعُهُ مِنْ مُدَاخَلَةِ النَّاسِ وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِحَبْسِهِ فِي بَيْتِهِ وَالإِْنْفَاقِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَال إِنْ كَانَ فَقِيرًا دَفْعًا لِضَرَرِهِ عَنِ النَّاسِ، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (2) .
وَقَال بَعْضُهُمْ: يُحْبَسُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَكُفَّ عَنْ حَسَدِهِ وَتَصْفُوَ نَفْسُهُ بِالتَّوْبَةِ (3) .
__________
(1) الدر المختار 4 / 66، والمعيار 2 / 412، وأسنى المطالب 4 / 67، والإنصاف 10 / 15، والسياسة الشرعية لابن تيمية ص 150 - 151.
(2) حاشية الصعيدي على كفاية الطالب 2 / 410، وحاشية ابن عابدين 6 / 364، وإعانة الطالبين للبكري 4 / 132، وحاشية الباجوري 2 / 227، والفروع 6 / 112، وفتح الباري 1 / 205، وشرح صحيح مسلم للنووي 14 / 173.
(3) حاشية القليوبي 4 / 162، وإعانة الطالبين وحاشية الباجوري: الموضعين السابقين، والإنصاف 10 / 249، وزاد المعاد 3 / 118، والفروع 6 / 113.(16/299)
ز - حَبْسُ الْمُتَسَتِّرِ عَلَى الْقَاتِل وَنَحْوِهِ:
52 - ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ مَنْ آوَى قَاتِلاً وَنَحْوَهُ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لآِدَمِيٍّ، وَمَنَعَهُ مِمَّنْ يَسْتَوْفِي مِنْهُ الْوَاجِبَ بِلاَ عُدْوَانٍ فَهُوَ شَرِيكُهُ فِي الْجُرْمِ، وَقَدْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيُعَاقَبُ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ حَتَّى يُمَكِّنَ مِنْهُ أَوْ يَدُل عَلَيْهِ؛ لِتَرْكِهِ وَاجِبَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى (1) .
ح - الْحَبْسُ لِحَالاَتٍ تَتَّصِل بِالْقَسَامَةِ (2) :
53 - مِمَّا يَتَّصِل بِالْحَبْسِ فِي الْقَسَامَةِ: أَنَّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ يُحْبَسُ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْحَلِفِ حَتَّى يَحْلِفَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ، لَكِنَّ أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ حَدَّدَ مُدَّةَ الْحَبْسِ فِي ذَلِكَ بِسَنَةٍ، فَإِنْ حَلَفَ وَإِلاَّ أُطْلِقَ وَكَانَتْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ مِنْ مَالِهِ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ الْقَوْل الآْخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ: لاَ يُحْبَسُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ لِنُكُولِهِ، وَلَكِنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الدِّيَةُ (3) .
__________
(1) السياسة الشرعية ص 90 - 91.
(2) القسامة: الأيمان المكررة في دعوى القتل، انظر " قسامة ".
(3) بدائع الصنائع 7 / 289، وحاشية ابن عابدين 6 / 268، والاختيار 5 / 55، وحاشية الدسوقي 4 / 286، وتبصرة الحكام 1 / 266 و 288 و 320 و 2 / 245، وكفاية الطالب 2 / 240، والقوانين لابن جزي ص 229، وحاشية القليوبي 4 / 167، والمغني لابن قدامة 8 / 68، والإنصاف 10 / 148، ومنتهى الإرادات لابن النجار 2 / 455.(16/299)
ط - حَبْسُ مَنْ يُمَارِسُ الطِّبَّ مِنْ غَيْرِ الْمُخْتَصِّينَ:
54 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الطَّبِيبَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَةِ وَأَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ يُضْرَبُ وَيُحْبَسُ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُحْجَرُ عَلَى الطَّبِيبِ الْجَاهِل، وَذَلِكَ بِمَنْعِهِ مِنْ عَمَلِهِ حِسًّا مَخَافَةَ إِفْسَادِ أَبْدَانِ النَّاسِ (1) .
حَالاَتُ الْحَبْسِ بِسَبَبِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى الدِّينِ وَشَعَائِرِهِ:
أ - الْحَبْسُ لِلرِّدَّةِ:
55 - إِذَا ثَبَتَتْ رِدَّةُ الْمُسْلِمِ حُبِسَ حَتَّى تُكْشَفَ شُبْهَتُهُ وَيُسْتَتَابَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذَا الْحَبْسِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّ حَبْسَ الْمُرْتَدِّ لاِسْتِتَابَتِهِ قَبْل قَتْلِهِ وَاجِبٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُخْبِرَ عَنْ قَتْل رَجُلٍ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلاَمٍ فَقَال لِقَاتِلِيهِ: أَفَلاَ حَبَسْتُمُوهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَقَدَّمْتُمْ لَهُ خُبْزًا، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قَتَلْتُمُوهُ. . اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي. فَلَوْ كَانَ
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 233، والقوانين الفقهية ص 221، والمعيار 2 / 502، وبدائع الصنائع 7 / 169، والاختيار للموصلي 2 / 96.(16/300)
حَبْسُهُ غَيْرَ وَاجِبٍ لَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، وَلَمَا تَبَرَّأَ مِنْ عَمَلِهِمْ، وَقَدْ سَكَتَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْل عُمَرَ فَكَانَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا. ثُمَّ إِنَّ اسْتِصْلاَحَ الْمُرْتَدِّ مُمْكِنٌ بِحَبْسِهِ وَاسْتِتَابَتِهِ فَلاَ يَجُوزُ إِتْلاَفُهُ قَبْل ذَلِكَ. وَبِنَحْوِ هَذَا فَعَل عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: أَنَّ حَبْسَ الْمُرْتَدِّ لاِسْتِتَابَتِهِ قَبْل قَتْلِهِ مُسْتَحَبٌّ لاَ وَاجِبٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَنْقُول عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَطَاوُسٍ، وَبِهِ قَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِحَدِيثِ: مَنْ بَدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ (2) وَلأَِنَّهُ يَعْرِفُ أَحْكَامَ الإِْسْلاَمِ، وَقَدْ جَاءَتْ رِدَّتُهُ عَنْ تَصْمِيمٍ وَقَصْدٍ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلاَ يَجِبُ حَبْسُهُ لاِسْتِتَابَتِهِ بَل يُسْتَحَبُّ طَمَعًا فِي رُجُوعِهِ الْمَوْهُومِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَْشْعَرِيَّ بَعَثَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يُخْبِرُهُ بِفَتْحِ تُسْتَرَ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ قَوْمٍ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ: مَا أَخْبَارُهُمْ؟ فَقَال
__________
(1) الخرشي 8 / 65، وأسنى المطالب 4 / 122، والإنصاف 10 / 328، والمغني لابن قدامة 8 / 124 - 125، وفتح الباري 12 / 269، والأحكام السلطانية للماوردي ص 56، وخبر عمر أخرجه مالك في الموطأ كما في جامع الأصول 3 / 480، وأبو يوسف في والخراج ص 195، والبيهقي 8 / 207، والشافعي كما في نيل الأوطار 8 / 2، وعبد الرزاق في مصنفه 10 / 165، وفيه أيضا 10 / 164 قصة مماثلة وقعت مع عثمان رضي الله عنه.
(2) حديث: " من بدل دينه فاقتلوه " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 267 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عباس.(16/300)
أَنَسٌ: إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَنِ الإِْسْلاَمِ وَلَحِقُوا بِالْمُشْرِكِينَ مَا سَبِيلُهُمْ إِلاَّ الْقَتْل. فَقَال عُمَرُ: لأََنْ آخُذَهُمْ سِلْمًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ. فَقَال أَنَسٌ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِمْ؟ قَال عُمَرُ: أَعْرِضُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى الإِْسْلاَمِ فَإِنْ فَعَلُوا وَإِلاَّ اسْتَوْدَعْتُهُمُ السِّجْنَ. وَيُرْوَى فِي هَذَا أَيْضًا أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَدِمَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْيَمَنَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ رَجُلاً مُوثَقًا فَقَال: مَا هَذَا؟ قَال: رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلاَمٍ، ثُمَّ دَعَاهُ إِلَى الْجُلُوسِ فَقَال مُعَاذٌ: لاَ أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَل هَذَا - ثَلاَثَ مَرَّاتٍ - قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِل (1) .
وَفِي الْمُرْتَدِّ الَّذِي يُحْبَسُ، وَمُدَّةِ حَبْسِهِ وَمَسَائِل أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِالْمُرْتَدِّ تَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ) .
ب - الْحَبْسُ لِلزَّنْدَقَةِ:
56 - يُطْلَقُ لَفْظُ الزِّنْدِيقِ عَلَى كُل مَنْ أَسَرَّ الْكُفْرَ وَأَظْهَرَ الإِْيمَانَ حَتَّى بَدَرَ مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى خَبِيئَةِ نَفْسِهِ (2) . وَلِلْعُلَمَاءِ قَوْلاَنِ فِي حُكْمِ الزِّنْدِيقِ:
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 134، والاختيار 4 / 145، والخراج ص 195، والمغني لابن قدامة 8 / 124، وفتح الباري 12 / 269، وتبصرة الحكام 2 / 283، وخبر أنس بن مالك أخرجه البيهقي 8 / 207، وعبد الرزاق 10 / 166، وخبر معاذ بن جبل متفق عليه كما في اللؤلؤ والمرجان برقم 1198.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 184، الطبعة الأولى، وجواهر الإكليل 2 / 257، وحاشية القليوبي 3 / 148.(16/301)
الْقَوْل الأَْوَّل: إِذَا عُثِرَ عَلَى الزِّنْدِيقِ يُقْتَل وَلاَ يُسْتَتَابُ، وَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي دَعْوَى التَّوْبَةِ إِلاَّ إِذَا جَاءَ تَائِبًا قَبْل أَنْ يُظْهَرَ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَوْل اللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ.
وَعِلَّةُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مِنْهُ عَلاَمَةٌ تُبَيِّنُ رُجُوعَهُ وَتَوْبَتَهُ؛ لأَِنَّهُ كَانَ مُظْهِرًا لِلإِْسْلاَمِ مُسِرًّا لِلْكُفْرِ، فَإِذَا أَظْهَرَ الإِْسْلاَمَ لَمْ يَزِدْ جَدِيدًا (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: الزِّنْدِيقُ يُحْبَسُ لِلاِسْتِتَابَةِ كَالْمُرْتَدِّ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ كَابْنِ لُبَابَةَ. اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقْتُل الْمُنَافِقِينَ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِهِمْ، فَهُوَ الأُْسْوَةُ فِي إِبْقَائِهِمْ عَلَى الْحَيَاةِ وَاسْتِتَابَتِهِمْ كَالْمُرْتَدِّينَ (2) .
ج - حَبْسُ الْمُسِيءِ إِلَى بَيْتِ النُّبُوَّةِ:
57 - مَنْ سَبَّ أَحَدًا مِنْ أَهْل بَيْتِ النُّبُوَّةِ يُضْرَبُ وَيُشَهَّرُ وَيُحْبَسُ طَوِيلاً؛ لاِسْتِخْفَافِهِ بِحَقِّ
__________
(1) كفاية الطالب 2 / 259، والقوانين لابن جزي ص 239، ومعين الحكام ص 193، وغياث الأمم ص 231، وشرح المحلي على منهاج الطالبين 4 / 177، والمغني لابن قدامة 8 / 126.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 292 و 4 / 225، وشرح المحلي4 / 177، والمغني لابن قدامة 8 / 126 - 127، وتبصرة الحكام 2 / 283.(16/301)
الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) . وَمَنْ شَتَمَ الْعَرَبَ أَوْ لَعَنَهُمْ أَوْ بَنِي هَاشِمٍ سُجِنَ وَضُرِبَ. وَمَنِ انْتَسَبَ كَذِبًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُرِبَ وَسُجِنَ وَشُهِّرَ بِهِ لاِسْتِخْفَافِهِ بِحَقِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلاَ يُخَلَّى عَنْهُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ. وَمَنْ شَتَمَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ يُسْجَنُ لِلاِسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ قُتِل لِرِدَّتِهِ وَكُفْرِهِ. وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِهَا فَعَلَيْهِ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ وَالسَّجْنُ الطَّوِيل. وَمَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ أَوِ انْتَقَصَهُمْ أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ يُحْبَسُ وَيُشَدَّدُ عَلَيْهِ فِي السِّجْنِ (2) .
د - الْحَبْسُ لِتَرْكِ الصَّلاَةِ:
58 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ جُحُودًا وَاسْتِخْفَافًا كَافِرٌ مُرْتَدٌّ، يُحْبَسُ لِلاِسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ يُقْتَل. وَقَدْ ذَكَرُوا: أَنَّ تَرْكَ الصَّلاَةِ يَحْصُل بِتَرْكِ صَلاَةٍ وَاحِدَةٍ يَخْرُجُ وَقْتُهَا دُونَ أَدَائِهَا مَعَ الإِْصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ (3) .
وَمَنْ تَرَكَ الصَّلاَةَ كَسَلاً وَتَهَاوُنًا مَعَ اعْتِقَادِ
__________
(1) الشفاء 2 / 332، والقوانين الفقهية ص 240.
(2) الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي 4 / 312، وحاشية ابن عابدين 4 / 69 و 235، والشفاء 2 / 332، ومعين الحكام ص 199، وجواهر الإكليل 2 / 282، ومنح الجليل لعليش 4 / 484، 486، وتبصرة الحكام 2 / 285.
(3) الاختيار 1 / 37، وجواهر الإكليل 2 / 278، ومنهاج الطالبين 1 / 319، ومنتهى الإرادات لابن النجار 1 / 52، وكفاية الطالب 2 / 260.(16/302)
وُجُوبِهَا يُدْعَى إِلَيْهَا، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى تَرْكِهَا فَفِي عُقُوبَتِهِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يُحْبَسُ تَارِكُ الصَّلاَةِ كَسَلاً ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لِلاِسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ قُتِل حَدًّا لاَ كُفْرًا، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَوَكِيعٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: يُحْبَسُ تَارِكُ الصَّلاَةِ كَسَلاً ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لِلاِسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ قُتِل كُفْرًا وَرِدَّةً، حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ مَنْ جَحَدَهَا وَأَنْكَرَهَا لِعُمُومِ حَدِيثِ: بَيْنَ الرَّجُل وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاَةِ (2) وَهَذَا قَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ (3) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: يُحْبَسُ تَارِكُ الصَّلاَةِ كَسَلاً وَلاَ يُقْتَل بَل يُضْرَبُ فِي حَبْسِهِ حَتَّى يُصَلِّيَ، وَهُوَ الْمَنْقُول عَنِ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: لاَ يَحِل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسِ
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 90، والفروق للقرافي 4 / 79، ومنهاج الطالبين 3 / 16 - 17، وحاشية الرملي على أسنى المطالب 4 / 306، والمغني لابن قدامة 2 / 442، والحسبة لابن تيمية ص 8.
(2) حديث: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " أخرجه مسلم (1 / 88 - ط الحلبي) من حديث جابر عبد الله.
(3) المغني 2 / 442، والمجموع للنووي 3 / 16 - 17.(16/302)
بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالْمَارِقِ مِنَ الدِّينِ التَّارِكِ الْجَمَاعَةَ (1) وَتَارِكُ الصَّلاَةِ كَسَلاً لَيْسَ أَحَدَ الثَّلاَثَةِ، فَلاَ يَحِل دَمُهُ بَل يُحْبَسُ لاِمْتِنَاعِهِ مِنْهَا حَتَّى يُؤَدِّيَهَا (2) .
هـ - الْحَبْسُ لاِنْتِهَاكِ حُرْمَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ:
59 - مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ جُحُودًا وَاسْتِهْزَاءً حُبِسَ لِلاِسْتِتَابَةِ وَإِلاَّ قُتِل؛ لأَِنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ.
وَمَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ كَسَلاً وَتَهَاوُنًا لَمْ يَزُل عَنْهُ وَصْفُ الإِْسْلاَمِ وَلاَ يُقْتَل بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ بَل يُعَاقَبُ بِالْحَبْسِ، وَيُمْنَعُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ نَهَارًا لِيَحْصُل لَهُ صُورَةُ الصِّيَامِ، وَرُبَّمَا حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَنْوِيَهُ فَيَحْصُل لَهُ حِينَئِذٍ حَقِيقَتُهُ. وَنَصَّ الْمَاوَرْدِيُّ عَلَى أَنَّهُ يُحْبَسُ مُدَّةَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ (3) .
__________
(1) حديث: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس. . . " أخرجه البخاري (9 / 6 - ط محمد على صبيح) من حديث عبد الله بن مسعود.
(2) المغني لابن قدامة 2 / 442، وحاشية ابن عابدين 1 / 248، والمجموع 3 / 16 - 17، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 532، والسياسة الشرعية لابن تيمية ص 75.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 76، وفتح القدير 4 / 218، وحاشية الرملي 4 / 306، والفروق للقرافي 4 / 79، وجواهر الإكليل للآبي 1 / 154 و 2 / 278، والتذكار في أفضل الأذكار للقرطبي ص 69، والأحكام السلطانية للماوردي ص 222.(16/303)
وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ يُضْرَبُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، ثُمَّ يُحْبَسُ وَيُضْرَبُ عِشْرِينَ جَلْدَةً تَعْزِيرًا لِحَقِّ رَمَضَانَ. وَهَذَا قَوْل بَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَنْقُول عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1) .
و الْحَبْسُ بِسَبَبِ الْعَمَل بِالْبِدْعَةِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا:
حَبْسُ الْبِدْعِيِّ الدَّاعِيَةِ:
60 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْبِدْعِيَّ الدَّاعِيَةَ يُمْنَعُ مِنْ نَشْرِ بِدْعَتِهِ، وَيُضْرَبُ وَيُحْبَسُ بِالتَّدَرُّجِ، فَإِذَا لَمْ يَكُفَّ عَنْ ذَلِكَ جَازَ قَتْلُهُ سِيَاسَةً وَزَجْرًا؛ لأَِنَّ فَسَادَهُ أَعْظَمُ وَأَعَمُّ، إِذْ يُؤَثِّرُ فِي الدِّينِ وَيُلَبِّسُ أَمْرَهُ عَلَى الْعَامَّةِ. وَنُقِل عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُحْبَسُ وَلَوْ مُؤَبَّدًا حَتَّى يَكُفَّ عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى بِدْعَتِهِ وَلاَ يُقْتَل، وَبِهَذَا قَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
حَبْسُ الْمُبْتَدِعِ غَيْرِ الدَّاعِيَةِ:
61 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَبْسِ الْمُبْتَدِعِ غَيْرِ الدَّاعِيَةِ وَضَرْبِهِ إِذَا لَمْ يَنْفَعْ مَعَهُ الْبَيَانُ وَالنُّصْحُ، وَقَال آخَرُونَ: يُعَزَّرُ.
__________
(1) غاية البيان ص 401، والمصنف لعبد الرزاق 7 / 382 و 9 / 231.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 243، وتبصرة الحكام 2 / 426، والسياسة الشرعية ص 114، والإنصاف 10 / 249، وكشاف القناع للبهوتي 6 / 126، والطرق الحكمية ص 105.(16/303)
وَاتَّجَهَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَوَازِ قَتْلِهِ إِذَا لَمْ يَتُبْ. وَقَدْ حَبَسَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَبِيغَ بْنَ عِسْلٍ وَضَرَبَهُ مِرَارًا لِتَتَبُّعِهِ مُشْكِل الْقُرْآنِ وَمُتَشَابِهَهُ بِقَصْدِ إِرْسَاءِ مَبْدَأِ الاِبْتِدَاعِ وَالْكَيْدِ فِي الدِّينِ مُخَالِفًا بِذَلِكَ قَوَاعِدَ التَّسْلِيمِ لِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا كَانَ يَفْعَل الصَّحَابَةُ (1) .
ز - الْحَبْسُ لِلتَّسَاهُل فِي الْفَتْوَى وَنَحْوِهِ:
حَبْسُ الْمُفْتِي الْمَاجِنِ:
62 - نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَبْسِ وَتَأْدِيبِ الْمُتَجَرِّئِ عَلَى الْفَتْوَى إِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلاً لَهَا. وَنَقَل مَالِكٌ عَنْ شَيْخِهِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَال: بَعْضُ مَنْ يُفْتِي هَاهُنَا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ مِنَ السُّرَّاقِ. وَسُئِل بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنْ رَجُلٍ يَقُول: إِنَّ الاِسْتِمْرَارَ فِي شُرْبِ الدُّخَانِ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَى فَمَاذَا يَلْزَمُهُ؟ فَأَجَابَ: يَلْزَمُهُ التَّأْدِيبُ اللاَّئِقُ بِحَالِهِ كَالضَّرْبِ أَوِ السِّجْنِ لِتَجَرُّئِهِ عَلَى الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَغْيِيرِهِ لَهَا؛ لأَِنَّ حُرْمَةَ الزِّنَى قَطْعِيَّةٌ إِجْمَاعِيَّةٌ، وَفِي حُرْمَةِ الدُّخَانِ خِلاَفٌ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 243، ونسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض للخفاجي 4 / 473، وبداية المجتهد 2 / 458، والأقضية لابن فرج ص 11، وتبصرة الحكام 2 / 317، ومعين الحكام ص 197، وشرح الشفا لعلي القاري 4 / 473، والفتاوى لابن تيمية 13 / 311، والتذكار للقرطبي ص 208.
(2) فتح العلي المالك لعليش 1 / 59 و 191 و 2 / 297، والمعيار 2 / 502.(16/304)
ح - الْحَبْسُ لِلاِمْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الْكَفَّارَاتِ:
63 - ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنْ أَدَاءِ الْكَفَّارَاتِ يُحْبَسُ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يُحْبَسُ بَل يُؤَدَّبُ (1) . وَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي الظِّهَارِ: إِنَّ الْمَرْأَةَ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا إِذَا خَافَتْ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا زَوْجُهَا قَبْل الْكَفَّارَةِ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهِ رَفَعَتْ أَمْرَهَا لِلْحَاكِمِ لِيَمْنَعَهُ مِنْهَا، وَيُؤَدِّبُهُ إِنْ رَأَى ذَلِكَ. فَإِنْ أَصَرَّ الْمُظَاهِرُ عَلَى امْتِنَاعِهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ أَلْزَمَهُ الْقَاضِي بِهَا بِحَبْسِهِ وَضَرْبِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الزَّوْجَةِ إِلَى أَنْ يُكَفِّرَ أَوْ يُطَلِّقَ؛ لأَِنَّ حَقَّ الْمُعَاشَرَةِ يَفُوتُ بِالتَّأْخِيرِ لاَ إِلَى خَلَفٍ، فَاسْتَحَقَّ الْحَبْسَ لاِمْتِنَاعِهِ (2) .
حَالاَتُ الْحَبْسِ بِسَبَبِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى الأَْخْلاَقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ:
أ - حَبْسُ الْبِكْرِ الزَّانِي بَعْدَ جَلْدِهِ:
64 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْبِكْرِ الزَّانِي مِائَةُ جَلْدَةٍ لِلآْيَةِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (3) . وَاخْتَلَفُوا فِي نَفْيِهِ الْوَارِدِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ زَنَى ابْنُهُ: وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ (4) .
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 491، وحاشية الدسوقي 1 / 497، وجواهر الإكليل 1 / 139.
(2) حاشية ابن عابدين 3 / 469 و 5 / 378، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص 218.
(3) سورة النور / 6.
(4) حديث: " على ابنك جلد مائة وتغريب عام " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 160 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1325 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد.(16/304)
وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّ التَّغْرِيبَ جُزْءٌ مِنْ حَدِّ الزِّنَى، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، فَيُبْعَدَانِ عَنْ بَلَدِ الْجَرِيمَةِ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ إِذَا خِيفَ إِفْسَادُ الْمُغَرَّبِ غَيْرَهُ قُيِّدَ وَحُبِسَ فِي مَنْفَاهُ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: إِنَّ التَّغْرِيبَ جُزْءٌ مِنْ حَدِّ الزِّنَى أَيْضًا، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الرَّجُل دُونَ الْمَرْأَةِ فَلاَ تُغَرَّبُ خَشْيَةً عَلَيْهَا. وَيَنْبَغِي حَبْسُ الرَّجُل وُجُوبًا فِي مَنْفَاهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالأَْوْزَاعِيِّ لِلْمَنْقُول عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (2) . وَقَال اللَّخْمِيُّ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: إِذَا تَعَذَّرَ تَغْرِيبُ الْمَرْأَةِ سُجِنَتْ بِمَوْضِعِهَا عَامًا، لَكِنِ الْمُعْتَمَدُ الأَْوَّل (3) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: إِنَّ التَّغْرِيبَ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ حَدِّ الزِّنَى، بَل هُوَ مِنْ بَابِ السِّيَاسَةِ وَالتَّعْزِيرِ، وَذَلِكَ مُفَوَّضٌ إِلَى الْحَاكِمِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
__________
(1) المغني لابن قدامة 8 / 167 - 168، وحاشية القليوبي 4 / 181، وحاشية الباجوري 2 / 231، والأحكام السلطانية للماوردي ص 223.
(2) المدونة 6 / 236، وكفاية الطالب 2 / 265، ونيل الأوطار 7 / 95.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 322.(16/305)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ نَفَى رَجُلاً وَلَحِقَ بِالرُّومِ: لاَ أَنْفِي بَعْدَهَا أَبَدًا. وَبِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً. وَقَالُوا: إِنَّ الْمُغَرَّبَ يَفْقِدُ حَيَاءَهُ بِابْتِعَادِهِ عَنْ بَلَدِهِ وَمَعَارِفِهِ فَيَقَعُ فِي الْمَحْظُورِ. لَكِنْ إِذَا رَأَى الْحَاكِمُ حَبْسَهُ فِي بَلَدِهِ مَخَافَةَ فَسَادِهِ فَعَل (1) .
ب - حَبْسُ مَنْ يَعْمَل عَمَل قَوْمِ لُوطٍ:
65 - لِلْفُقَهَاءِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ فِي عُقُوبَةِ اللِّوَاطِ مِنْهَا قَوْلٌ بِحَبْسِهِمَا (2) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (زِنًى، وَلِوَاطٌ) .
ج - حَبْسُ الْمُتَّهَمِ بِالْقَذْفِ:
66 - مَنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا عَلَى قَذْفِهِ حُبِسَ قَاذِفُهُ لاِسْتِكْمَال نِصَابِ الشَّهَادَةِ. وَمَنِ ادَّعَى عَلَى آخَرَ قَذْفَهُ وَبَيِّنَتُهُ فِي الْمِصْرِ يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِيُحْضِرَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ حَتَّى قِيَامِ الْحَاكِمِ مِنْ مَجْلِسِهِ وَإِلاَّ خُلِّيَ سَبِيلُهُ بِغَيْرِ كَفِيلٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 39، والدر المختار وحاشيته 4 / 14.
(2) الاختيار 4 / 91، وكفاية الطالب 2 / 268، وقيده بكونه بين ذكرين فإن كان بامرأة فحد الزني، وشرح المحلي على منهاج الطالبين 4 / 179، والمغني 8 / 187، والفتاوى لابن تيمية 28 / 335، وأسنى المطالب 4 / 126، والروض المربع للبهوتي 7 / 318.(16/305)
الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِخِلاَفِ الشَّافِعِيَّةِ. وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ بِالْقَذْفِ: لاَ يُجْلَدُ بَل يُسْجَنُ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْقَذْفَ بَل الشَّتْمَ وَالسَّبَّ وَالْفُحْشَ فِي الْكَلاَمِ. وَقِيل: يُسْجَنُ سَنَةً لِيَحْلِفَ، وَقِيل: يُحَدُّ (1) .
د - حَبْسُ الْمُدْمِنِ عَلَى السُّكْرِ تَعْزِيرًا بَعْدَ حَدِّهِ:
67 - رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ أَنْ يَلْزَمَ مُدْمِنُ الْخَمْرِ السِّجْنَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ أَبَا مِحْجَنٍ الثَّقَفِيَّ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ، وَأَمَرَ بِحَبْسِهِ، فَأُوثِقَ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ، ثُمَّ أُطْلِقَ بَعْدَ تَوْبَتِهِ (2) .
هـ - الْحَبْسُ لِلدِّعَارَةِ وَالْفَسَادِ الْخُلُقِيِّ:
68 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَتَبُّعِ أَهْل الْفَسَادِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ بِالسَّجْنِ حَتَّى يَتُوبُوا. فَمَنْ قَبَّل أَجْنَبِيَّةً أَوْ عَانَقَهَا أَوْ مَسَّهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ بَاشَرَهَا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ يُحْبَسُ إِلَى ظُهُورِ تَوْبَتِهِ. وَمَنْ خَدَعَ الْبَنَاتِ وَأَخْرَجَهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 45، وبدائع الصنائع 7 / 53، والمدونة 5 / 182، 185، وتبصرة الحكام 1 / 267، 391، 407، وأسنى المطالب 4 / 363، وأحكام السوق ليحيى بن عمر ص 142، والقوانين الفقهية ص 235.
(2) حاشية الدسوقي 4 / 353، والخراج ص 33، والمصنف لعبد الرزاق 9 / 243 و 247.(16/306)
وَأَفْسَدَهُنَّ عَلَى آبَائِهِنَّ حُبِسَ (1) .
وَتُحْبَسُ الْمَرْأَةُ الدَّاعِرَةُ وَالْقَوَّادَةُ وَتُضْرَبُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهَا (2) .
و الْحَبْسُ لِلتَّخَنُّثِ:
69 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى حَبْسِ الْمُخَنَّثِ تَعْزِيرًا لَهُ حَتَّى يَتُوبَ، وَنُقِل عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُحْبَسُ إِذَا خِيفَ بِهِ فَسَادُ النَّاسِ. وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِذَا نُفِيَ الْمُخَنَّثُ وَخِيفَ فَسَادُهُ يُحْبَسُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ (3) .
ز - الْحَبْسُ لِلتَّرَجُّل:
70 - ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُتَشَبِّهَةَ بِالرِّجَال تُحْبَسُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؛ لأَِنَّ جِنْسَ هَذَا الْحَبْسِ مَشْرُوعٌ فِي جِنْسِ الْفَاحِشَةِ وَهُوَ الزِّنَى. وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ حَبْسُهَا عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ فَتُحْبَسُ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي دَارٍ وَتُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 67، وفتح القدير 4 / 218، وحاشية القليوبي 4 / 205، ومعين الحكام ص 176، وفتاوى ابن تيمية 15 / 313 - 314 و 34 / 178، والإفصاح لابن هبيرة 1 / 39، والمعيار 2 / 346 - 347.
(2) الحسبة المذهبية في بلاد المغرب لموسى لقبال ص 44، وأحكام السوق ليحيى بن عمر ص 133.
(3) حاشية ابن عابدين 4 / 67، وفتح القدير 4 / 218، وأعلام الموقعين 4 / 377، وفتاوى ابن تيمية 15 / 310.
(4) فتاوى ابن تيمية 15 / 313 - 314.(16/306)
ح - الْحَبْسُ لِكَشْفِ الْعَوْرَاتِ فِي الْحَمَّامَاتِ:
71 - نَصَّ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ الْقَاضِي الأَْنْدَلُسِيُّ عَلَى سَجْنِ صَاحِبِ الْحَمَّامِ وَغَلْقِ حَمَّامِهِ إِذَا سَهَّل لِلنَّاسِ كَشْفَ عَوْرَاتِهِمْ وَرَضِيَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الدُّخُول مَكْشُوفِي الْعَوْرَاتِ (1) .
ط - الْحَبْسُ لاِتِّخَاذِ الْغِنَاءِ صَنْعَةً:
72 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى حَبْسِ الْمُغَنِّي حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً لِتَسَبُّبِهِ فِي الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ غَالِبًا (2) .
حَالاَتُ الْحَبْسِ بِسَبَبِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى الْمَال:
أ - حَبْسُ الْعَائِدِ إِلَى السَّرِقَةِ بَعْدَ قَطْعِهِ:
73 - إِذَا قُطِعَ السَّارِقُ ثُمَّ عَادَ إِلَى السَّرِقَةِ يُحْبَسُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِمَنْعِ ضَرَرِهِ عَنِ النَّاسِ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي تَحْدِيدِ عَدَدِ الْمَرَّاتِ الَّتِي يُقْطَعُ أَوْ يُحْبَسُ بَعْدَهَا (3) . (ر: سَرِقَةٌ) .
__________
(1) أحكام السوق ليحيى بن عمر ص 88 و 117.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 67، والاختيار 4 / 66، وفتح القدير 4 / 218.
(3) بدائع الصنائع 7 / 63، 86، والمبسوط 24 / 32، والمدونة 6 / 288، والشرح الكبير للدردير 3 / 306، 333، وحاشية ابن عابدين 4 / 51، 86، والمغني 8 / 263، 264 و 9 / 328، ومنتهى الإرادات لابن النجار 2 / 583، والقوانين الفقهية لابن جزي ص 219، وأسنى المطالب 4 / 153، 363، وجواهر الإكليل 2 / 289، وحاشية الباجوري 2 / 245، وبداية المجتهد 2 / 453، وحاشية القليوبي 4 / 198، وكفاية الطالب 2 / 275، والاختيار 4 / 110، والإنصاف 10 / 286، والإفصاح لابن هبيرة 1 / 39، والسياسة الشرعية ص 99، والمصنف لعبد الرزاق 10 / 186، وكنز العمال 5 / 313 و 314 و 316 و 319.(16/307)
ب - حَبْسُ السَّارِقِ تَعْزِيرًا لِتَخَلُّفِ مُوجِبِ الْقَطْعِ:
74 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى حَالاَتٍ يُحْبَسُ فِيهَا السَّارِقُ لِتَخَلُّفِ مُوجِبَاتِ الْقَطْعِ وَمِنْ ذَلِكَ: حَبْسُ مَنِ اعْتَادَ سَرِقَةَ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، وَحَبْسُ مَنِ اعْتَادَ سَرِقَةَ بَزَابِيزِ الْمِيَضِ (صَنَابِيرِ الْمَاءِ) وَنِعَال الْمُصَلِّينَ. وَنَصُّوا عَلَى حَبْسِ الطَّرَّارِ وَالْقَفَّافِ وَالْمُخْتَلِسِ، وَمَنْ يَدْخُل الدَّارَ فَيَجْمَعُ الْمَتَاعَ فَيُمْسَكُ وَلَمَّا يُخْرِجْهُ. وَكُل سَارِقٍ انْتَفَى عَنْهُ الْقَطْعُ لِشُبْهَةٍ وَنَحْوِهَا يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ (1) .
ج - حَبْسُ الْمُتَّهَمِ بِالسَّرِقَةِ:
75 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى حَبْسِ الْمُتَّهَمِ بِالسَّرِقَةِ لِوُجُودِ قَرِينَةٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي ذَلِكَ كَتَجَوُّلِهِ فِي مَوْضِعِ السَّرِقَةِ وَمُعَالَجَتِهِ أُمُورًا تُعْتَبَرُ مُقَدِّمَاتٍ لِذَلِكَ (2) .
د - الْحَبْسُ لِحَالاَتٍ تَتَّصِل بِالْغَصْبِ:
76 - يَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ، فَإِنْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 93، والخراج ص 185.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 67 و 76، والفتاوى لابن تيمية 35 / 400، والأحكام السلطانية للماوردي ص 220، والقوانين الفقهية ص 219، وتهذيب الفروق للمالكي 4 / 134، وعون المعبود 4 / 235، وتبصرة الحكام 1 / 331 و 2 / 162 - 163.(16/307)
أَبَى حُبِسَ حَتَّى يَرُدَّهُ، فَإِنِ ادَّعَى هَلاَكَهُ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ مُدَّةً يُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَاقِيًا لأََظْهَرَهُ، ثُمَّ يَقْضِي عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ. وَقِيل: بَل يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَلاَ يُحْبَسُ. وَمَنْ بَلَعَ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا أَوْ لُؤْلُؤَةً حُبِسَ حَتَّى يَرْمِيَهُ لِصَاحِبِهِ (1) .
هـ - الْحَبْسُ لِلاِخْتِلاَسِ مِنْ بَيْتِ مَال الْمُسْلِمِينَ:
77 - ذَهَبَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ إِلَى حَبْسِ مَنِ اخْتَلَسَ مِنْ بَيْتِ الْمَال، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ (2) .
و حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ:
78 - نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى حَبْسِ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مَعَ اعْتِقَادِهِ وُجُوبَهَا (3) .
ز - الْحَبْسُ لِلدَّيْنِ: مَشْرُوعِيَّةُ حَبْسِ الْمَدِينِ:
79 - الْمَدِينُ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِمَّا مُعْسِرٌ، وَإِمَّا مُوسِرٌ:
__________
(1) الدر المختار وحاشيته 5 / 282 - 283 و 6 / 185، وحاشية الدسوقي 3 / 442، والقوانين الفقهية ص 217، وشرح المحلي على منهاج الطالبين 3 / 34، والمحلى لابن حزم 5 / 166 ط المنيرية.
(2) المغني 8 / 325، وتبصرة الحكام 2 / 299.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 491، وتبصرة الحكام 2 / 191، وحاشية الدسوقي 1 / 503، ومنتهى الإرادات لابن النجار 1 / 203.(16/308)
فَالْمَدِينُ الَّذِي ثَبَتَ إِعْسَارُهُ يُمْهَل حَتَّى يُوسِرَ لِلآْيَةِ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (1) .
وَالْمَدِينُ الْمُوسِرُ يُعَاقَبُ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ وَفَاءِ الدَّيْنِ الْحَال لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ (2) .
وَلِلْعُلَمَاءِ قَوْلاَنِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يُقْصَدُ بِالْعُقُوبَةِ فِي الْحَدِيثِ الْحَبْسُ، وَهَذَا قَوْل شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَسَوَّارٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.
وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ وَغَيْرُهُمَا؛ لأَِنَّ الْحُقُوقَ لاَ تُخَلَّصُ فِي هَذِهِ الأَْزْمِنَةِ غَالِبًا إِلاَّ بِهِ وَبِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي: الْعُقُوبَةُ فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْمُلاَزَمَةُ، حَيْثُ يَذْهَبُ الدَّائِنُ مَعَ الْمَدِينِ أَنَّى ذَهَبَ، وَهَذَا قَوْل أَبِي هُرَيْرَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَذَكَرُوا أَنَّ الْمَدِينَ لاَ يُحْبَسُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْبِسْ
__________
(1) سورة البقرة / 280، وانظر شرح أدب القاضي للخصاف 2 / 350 - 351، وأخبار القضاة لوكيع 1 / 112 و 2 / 9.
(2) تقدم تخريجه في الفقرة (9) .
(3) المغني 4 / 499، والإنصاف 5 / 275، والسياسة الشرعية ص 43، والطرق الحكمية ص 63، وبداية المجتهد 2 / 293، وجواهر الإكليل 2 / 92، وحاشية القليوبي 2 / 292، والاختيار 2 / 89، والهداية 3 / 84، وسبل السلام 3 / 55 - 56.(16/308)
بِالدَّيْنِ، وَلَمْ يَحْبِسْ بَعْدَهُ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، بَل كَانُوا يَبِيعُونَ عَلَى الْمَدِينِ مَالَهُ (1) .
مَا يُحْبَسُ بِهِ الْمَدِينُ:
80 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الدَّيْنَ إِلَى أَقْسَامٍ: مَا كَانَ بِالْتِزَامٍ بِعَقْدٍ كَالْكَفَالَةِ وَالْمَهْرِ الْمُعَجَّل، وَمَا كَانَ بِغَيْرِ الْتِزَامٍ إِلاَّ أَنَّهُ لاَزِمٌ، كَنَفَقَةِ الأَْقَارِبِ وَبَدَل الْمُتْلَفِ، وَمَا كَانَ عَنْ عِوَضٍ مَالِيٍّ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ. وَلَهُمْ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ فِيمَا يُحْبَسُ بِهِ الْمَدِينُ وَمَا لاَ يُحْبَسُ بِهِ (2) .
وَذَكَرُوا أَنَّ أَقَل مِقْدَارٍ يُحْبَسُ بِهِ الْمَدِينُ الْمُمَاطِل فِي دَيْنِ آدَمِيٍّ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ. أَمَّا الدُّيُونُ الَّتِي لِلَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ فَلاَ حَبْسَ فِيهَا عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ (3) .
الْمَدِينُ الَّذِي يُحْبَسُ:
81 - تُحْبَسُ الْمَرْأَةُ بِالدَّيْنِ إِنْ طَلَبَ غَرِيمُهَا ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ زَوْجَةً أَمْ أَجْنَبِيَّةً. وَاتَّجَهَ
__________
(1) المغني 4 / 499، والطرق الحكمية ص 62 - 64، وسبل السلام 3 / 55.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 381، والطرق الحكمية ص 63.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 379، والفتاوى الهندية 3 / 420، وحاشية الدسوقي 1 / 497، وجواهر الإكليل 1 / 139، وفيض الإله للبقاعي 2 / 35، والأشباه للسيوطي ص 491.(16/309)
بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُخَدَّرَةَ (الَّتِي تَلْزَمُ بَيْتَهَا وَلاَ تَبْرُزُ لِلرِّجَال) لاَ تُحْبَسُ فِي الدَّيْنِ، بَل يُسْتَوْثَقُ عَلَيْهَا وَيُوَكَّل بِهَا (1) .
وَيُحْبَسُ الزَّوْجُ بِدَيْنِ زَوْجَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا (2) . وَيُحْبَسُ الْقَرِيبُ بِدَيْنِ أَقْرِبَائِهِ، حَتَّى الْوَلَدُ يُحْبَسُ بِدَيْنِ وَالِدَيْهِ لاَ الْعَكْسُ. وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةُ؛ لأَِنَّ مُوجِبَ الْحَبْسِ لاَ يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالأُْنُوثَةِ (3) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الصَّبِيَّ لاَ يُحْبَسُ بِالدَّيْنِ بَل يُؤَدَّبُ. وَفِي الْقَوْل الآْخَرِ لِلْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ يُحْبَسُ بِالدَّيْنِ إِذَا أَذِنَ لَهُ بِالْبَيْعِ وَظَلَمَ (4) .
وَيُحْبَسُ الْمُسْلِمُ بِدَيْنِ الْكَافِرِ وَلَوْ ذِمِّيًّا أَوْ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا؛ لأَِنَّ مَعْنَى الظُّلْمِ مُتَحَقِّقٌ فِي مُمَاطَلَتِهِ (5) .
__________
(1) فتاوى قاضي خان 2 / 353، والمدونة 5 / 205، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 517، وحاشية الجمل 5 / 346، والأشباه للسيوطي ص 491، وحاشية القليوبي 2 / 292.
(2) المدونة 5 / 205.
(3) بدائع الصنائع 7 / 173، وحاشية الدسوقي 3 / 281، وفيض الإله للبقاعي 2 / 36، والأشباه للسيوطي ص 491.
(4) المبسوط 20 / 91، وحاشية ابن عابدين 5 / 426، ومعين الحكام ص 174، وحاشية الدسوقي 3 / 280، وأسنى المطالب مع حاشية الرملي 4 / 306.
(5) المبسوط 20 / 91، وحاشية ابن عابدين 5 / 381، والإنصاف 11 / 219، وحاشية الدسوقي 3 / 281.(16/309)
مُدَّةُ حَبْسِ الْمَدِينِ:
82 - اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ حَبْسِ الْمَدِينِ، وَالصَّحِيحُ تَفْوِيضُ ذَلِكَ لِلْقَاضِي؛ لأَِنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي احْتِمَال الْحَبْسِ. وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ شَهْرٌ.
وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ شَهْرَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ. وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ مَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِلَى سِتَّةٍ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُؤَبَّدُ حَبْسُهُ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ إِذَا عَلِمَ يُسْرَهُ (1) . وَلَمْ نَجِدْ نَصًّا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
ح - الْحَبْسُ لِلتَّفْلِيسِ:
83 - يَشْتَرِكُ الْمُفْلِسُ مَعَ الْمَدِينِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْكَامِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَيَفْتَرِقُ عَنْهُ - بِحَسَبِ مَا ذَكَرُوهُ - فِي أَنَّ الْحَاكِمَ يَتَدَخَّل لِشَهْرِ الْمُفْلِسِ بَيْنَ النَّاسِ وَإِعْلاَنِ عَجْزِهِ عَنْ وَفَاءِ دَيْنِهِ وَجَعْل مَالِهِ الْمُتَبَقِّي لِغُرَمَائِهِ (2) .
وَلاَ يُحْبَسُ الْمُعْسِرُ وَلَوْ طَلَبَ غُرَمَاؤُهُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (3) .
وَإِذَا كَانَ الْمُفْلِسُ مَجْهُول الْحَال لاَ يُعْرَفُ غِنَاهُ أَوْ فَقْرُهُ حُبِسَ بِطَلَبٍ مِنَ الْغُرَمَاءِ حَتَّى يَسْتَبِينَ
__________
(1) الاختيار 2 / 90، وشرح أدب القاضي للخصاف 2 / 367، والتاج للموّاق 5 / 48، والفروق للقرافي 4 / 69.
(2) جواهر الإكليل 2 / 87، ومنهاج الطالبين 2 / 285.
(3) سورة البقرة / 280.(16/310)
أَمْرُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ كَفَالَتِهِ بِوَجْهٍ أَوْ بِمَالٍ حَتَّى تَزُول الْجَهَالَةُ. وَقَالُوا: إِذَا أَخْبَرَ بِإِعْسَارِهِ وَاحِدٌ مِنَ الثِّقَاتِ أُخْرِجَ مِنْ حَبْسِهِ (1) .
وَإِذَا حُبِسَ الْمُفْلِسُ الْمَجْهُول الْحَال وَظَهَرَ أَنَّ لَهُ مَالاً، أَوْ عُرِفَ مَكَانُهُ أُمِرَ بِالْوَفَاءِ. فَإِنْ أَبَى أُبْقِيَ فِي الْحَبْسِ - بِطَلَبِ غَرِيمِهِ - حَتَّى يَبِيعَ مَالَهُ وَيَقْضِيَ دَيْنَهُ. فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى عَدَمِ بَيْعِ مَالِهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ بَاعَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ وَقَضَاهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحَبْسِ فِي قَوْل الْجُمْهُورِ وَالصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. وَقِيل: يُخَيَّرُ الْحَاكِمُ بَيْنَ حَبْسِهِ لإِِجْبَارِهِ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ بَيْعِهِ عَلَيْهِ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ الْحَاكِمَ لاَ يُجِيبُ الْغُرَمَاءَ إِلَى بَيْعِ مَال الْمُفْلِسِ وَعُرُوضِهِ، خَوْفًا مِنْ أَنْ تَخْسَرَ عَلَيْهِ وَيَتَضَرَّرَ. بَل يَقْضِي دَيْنَهُ بِجِنْسِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ (2) . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَيُؤَبِّدُ حَبْسَهُ لِحَدِيثِ: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ (3) .
وَإِذَا قَامَتِ الْقَرَائِنُ أَوِ الْبَيِّنَةُ عَلَى وُجُودِ مَالٍ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 264، والاختيار 2 / 90، وأسنى المطالب 2 / 188، والروض المربع 5 / 164، ومعين الحكام ص 94.
(2) بدائع الصنائع 7 / 175، وبداية المجتهد 2 / 284، وأسنى المطالب 2 / 187، والروض المربع 5 / 168، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 346.
(3) الحديث تقدم تخريجه في الفقرة (9) .(16/310)
لِلْمَدِينِ الْمُفْلِسِ، وَلَمْ يُعْلَمْ مَكَانُهُ حُبِسَ حَتَّى يُظْهِرَهُ إِنْ طَلَبَ غَرِيمُهُ ذَلِكَ. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِلْحَدِيثِ الآْنِفِ ذِكْرُهُ (1) .
حَبْسُ الْمُفْلِسِ بِطَلَبِ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ:
84 - إِنْ طَلَبَ بَعْضُ الْغُرَمَاءِ حَبْسَ الْمُفْلِسِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ إِعْسَارُهُ وَأَبَى بَعْضُهُمْ حُبِسَ وَلَوْ لِوَاحِدٍ، فَإِنْ أَرَادَ الَّذِينَ لَمْ يَحْبِسُوا مُحَاصَّةَ الْحَابِسِ فِي مَال الْمُفْلِسِ الْمَحْبُوسِ فَلَهُمْ ذَلِكَ. وَلَهُمْ أَيْضًا إِبْقَاءُ حِصَصِهِمْ فِي يَدِ الْمُفْلِسِ الْمَحْبُوسِ. وَلَيْسَ لِلْغَرِيمِ الْحَابِسِ إِلاَّ حِصَّتُهُ (2) .
ط - الْحَبْسُ لِلتَّعَدِّي عَلَى حَقِّ اللَّهِ أَوْ حُقُوقِ الْعِبَادِ:
85 - شُرِعَ الْحَبْسُ فِي كُل تَعَدٍّ عَلَى حَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى، كَالتَّعَامُل بِالرِّبَا، وَبَيْعِ الْخَمْرِ، وَالْغِشِّ وَالاِحْتِكَارِ، أَوِ الزَّوَاجِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَ أُخْتَيْنِ، وَبَيْعِ الْوَقْفِ، وَفِي كُل تَعَدٍّ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ، كَمَنْعِ مُسْتَحِقِّي الْوَقْفِ مِنْ رِيعِهِ، وَالاِمْتِنَاعِ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَتَسْلِيمِ الأُْجْرَةِ، أَوْ بَدَل الْخُلْعِ، أَوِ الْجِزْيَةِ، أَوِ الْخَرَاجِ، أَوِ الْعُشْرِ، وَجَحْدِ الْوَدِيعَةِ، وَالْخِيَانَةِ فِي الْوَكَالَةِ، وَعَدَمِ الإِْنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يُبَيِّنْ مَا أَبْهَمَهُ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ (3) .
__________
(1) السياسة الشرعية لابن تيمية ص 43.
(2) المدونة 5 / 230.
(3) الدر المختار وحاشيته 5 / 321، 381، 383 و 6 / 10، 446، والفتاوى الهندية 4 / 448، والسياسة الشرعية ص 43، وتبصرة الحكام 2 / 216، 304.(16/311)
ي - حَبْسُ الْكَفِيل لإِِخْلاَلِهِ بِالْتِزَامَاتِهِ:
الْكَفَالَةُ نَوْعَانِ بِالْمَال وَبِالنَّفْسِ، وَتَتَّصِل بِالْحَبْسِ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً: حَبْسُ الْكَفِيل بِالْمَال لاِمْتِنَاعِهِ مِنَ الْوَفَاءِ:
86 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى جَوَازِ حَبْسِ الْكَفِيل بِمَالٍ مُسْتَحَقٍّ إِذَا لَمْ يُوفِ الْمَكْفُول مَا عَلَيْهِ أَوْ مَاتَ مُعْسِرًا، وَذَلِكَ لِتَخَلُّفِهِ عَمَّا الْتَزَمَهُ، وَلأَِنَّ ذِمَّتَهُ مَضْمُومَةٌ إِلَى ذِمَّةِ الْمَكْفُول بِالْمُطَالَبَةِ، فَلِذَا جَازَ حَبْسُهُ إِلاَّ إِذَا ثَبَتَ إِعْسَارُهُ. وَهَذَا مُقْتَضَى كَلاَمِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، بَل نُقِل الإِْجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ. وَالأَْصْل فِي هَذَا حَدِيثُ: الْحَمِيل غَارِمٌ (1) . وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ الْقَاضِي قَوْلُهُ: لاَ يُحْبَسُ الْكَفِيل إِذَا غَابَ الْمَكْفُول حَيْثُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِحْضَارُهُ (2) .
ثَانِيًا: حَبْسُ الْكَفِيل بِالنَّفْسِ:
87 - تُعْرَفُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ أَيْضًا بِكَفَالَةِ الْوَجْهِ وَالْبَدَنِ، وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
__________
(1) حديث: " الحميل غارم " ذكره ابن الأثير في جامع الأصول (7 / 61 - ط دار الملاح) ضمن حديث طويل، وعزاه إلى رزين، وهو في سنن أبي داود (3 / 622 - ط عزت عبيد دعاس) وابن ماجه (2 / 804 - ط الحلبي) والشطر المذكور ليس فيهما.
(2) المبسوط 20 / 89، وحاشية ابن عابدين 5 / 316 و 381، وحاشية الرملي 2 / 247، وبداية المجتهد 2 / 296، والروض المربع 5 / 100، واختلاف الفقهاء للطبري 2 / 28، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 491.(16/311)
النَّوْعُ الأَْوَّل: الْكَفَالَةُ بِذَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بَعْدَ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ يُنْتَظَرُ تَزْكِيَتُهُمَا، وَهَذِهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ بِالإِْجْمَاعِ، بَل يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لاِسْتِكْمَال الإِْجْرَاءَاتِ؛ لأَِنَّ الْحُدُودَ لاَ تُسْتَوْفَى مِنَ الْكَفِيل إِذَا تَعَذَّرَ إِحْضَارُ الْمَكْفُول، فَضْلاً عَنْ أَنَّهَا لاَ تَقْبَل النِّيَابَةَ.
النَّوْعُ الثَّانِي: الْكَفَالَةُ بِإِحْضَارِ نَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ أَوْ حَدٌّ لآِدَمِيٍّ، كَقَذْفٍ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ، وَهَذِهِ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ دُونَ غَيْرِهِمْ؛ لأَِنَّ فِيهَا حَقَّ الْعَبْدِ، وَيَحْتَمِل إِسْقَاطُهُ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْكَفَالَةُ بِالْمَال وَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الأَْمْصَارِ، فَيَجُوزُ كَفَالَةُ الْمَحْبُوسِ أَوْ مُسْتَحِقِّ الْحَبْسِ فِي ذَلِكَ (1) .
أَحْوَال الْكَفِيل بِالنَّفْسِ:
88 - تَنْتَظِمُ أَحْوَال الْكَفِيل بِالنَّفْسِ الْحَالاَتِ التَّالِيَةَ:
الْحَالَةَ الأُْولَى: إِذَا تَعَهَّدَ الْكَفِيل بِإِحْضَارِ الْمَكْفُول مِنْ غَيْرِ ضَمَانِ الْمَال، أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكَفَالَةِ، فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يُحْبَسُ لِمُمَاطَلَتِهِ إِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُحْضِرِ الْمَكْفُول، وَلاَ يُقْبَل مِنْهُ بَذْل الْمَال عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 308، والهداية 3 / 72 و 74، والقوانين الفقهية ص 214، والمغني 4 / 616، وحاشية الباجوري 1 / 382.(16/312)
لاِشْتِرَاطِهِ إِحْضَارَ النَّفْسِ لاَ غَيْرِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ. وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ يُحْبَسُ بَل يُلْزَمُ بِإِحْضَارِ الْمَكْفُول، أَوْ يَغْرَمُ الْمَال (1) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا تَعَهَّدَ الْكَفِيل بِإِحْضَارِ الْمَكْفُول وَصَرَّحَ بِضَمَانِهِ الْمَال إِذَا تَخَلَّفَ، فَإِنَّهُ لاَ يُحْبَسُ بَل يَغْرَمُ الْمَال إِذَا لَمْ يُحْضِرِ الْمَكْفُول فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ، وَهَذَا قَوْل فُقَهَاءِ مَذَاهِبِ الأَْمْصَارِ. فَإِنْ مَاطَل فِي الدَّفْعِ وَكَانَ مُوسِرًا حُبِسَ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ شَغَل ذِمَّتَهُ كَشَغْلِهِ ذِمَّةَ الْمَكْفُول.
وَذَكَرُوا أَنَّ السَّجَّانَ وَنَحْوَهُ مِمَّنِ اسْتُحْفِظَ عَلَى بَدَنِ الْغَرِيمِ بِمَنْزِلَةِ كَفِيل الْوَجْهِ، فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ إِحْضَارُهُ (2) . فَإِنْ أَطْلَقَهُ وَتَعَذَّرَ إِحْضَارُهُ عُومِل بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَالَتَيْنِ الآْنِفَتَيْنِ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا تَعَهَّدَ الْكَفِيل بِإِحْضَارِ النَّفْسِ الَّتِي كَفَلَهَا فِي الْقِصَاصِ وَالْحَدِّ الَّذِي هُوَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 290 و 295، والاختيار 2 / 167، وجواهر الإكليل 2 / 114، والقوانين الفقهية ص 214، وأسنى المطالب 2 / 244، والمحلي على منهاج الطالبين 2 / 328، والروض المربع للبهوتي 5 / 113.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 297، 299، والهداية 3 / 71، وبداية المجتهد 2 / 295، وجواهر الإكليل 2 / 114، والروض المربع 5 / 113، والمحلي على المنهاج 2 / 328، والسياسة الشرعية ص 43، وتبصرة الحكام 2 / 349، والفتاوى لابن تيمية 29 / 556، وغاية المنتهى 2 / 109.(16/312)
حَقٌّ لآِدَمِيٍّ وَقَصَّرَ فَلَمْ يُحْضِرْهَا فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ يُحْبَسُ إِلَى حُضُورِ الْمَكْفُول أَوْ مَوْتِهِ (1) .
الْحَبْسُ لِحَالاَتٍ تَتَّصِل بِالْقَضَاءِ وَالأَْحْكَامِ:
أ - حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ تَوَلِّي الْقَضَاءِ:
89 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ لِلإِْمَامِ حَبْسَ الْمُمْتَنِعِ مِنْ تَوَلِّي الْقَضَاءِ إِذَا تَعَيَّنَ لَهُ حَتَّى يَقْبَلَهُ لِتَخَلُّفِهِ عَنِ الْوَاجِبِ الشَّرْعِيِّ، وَصِيَانَةً لِحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِهِ أَفْتَى الإِْمَامُ مَالِكٌ (2) .
ب - حَبْسُ الْمُسِيءِ إِلَى هَيْئَةِ الْقَضَاءِ:
89 م - لِلْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ بِحَبْسِ وَضَرْبِ مَنْ قَال: لاَ أُخَاصِمُ الْمُدَّعِيَ عِنْدَكَ، أَوِ اسْتَهْزَأَ بِهِ وَرَمَاهُ بِمَا لاَ يُنَاسِبُهُ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ. وَلَهُ حَبْسُ الْمُتَخَاصِمَيْنِ وَضَرْبُهُمَا إِذَا تَشَاتَمَا أَمَامَهُ (3) .
وَقَال سُحْنُونٌ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَشْهَبَ: لِلْقَاضِي حَبْسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتَأْدِيبُهُ إِذَا قَال فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ: لاَ أُقِرُّ وَلاَ أُنْكِرُ وَاسْتَمَرَّ عَلَى لَدَدِهِ وَلاَ بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي، وَبِنَحْوِهِ قَال الشَّافِعِيُّ (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 292 و 299، والهداية 3 / 70، وحاشية القليوبي 2 / 328.
(2) الخرشي 7 / 140، وحاشية الصعيدي على كفاية الطالب 2 / 278، وتبصرة الحكام 1 / 12 - 13.
(3) المعيار 2 / 515، وتبصرة الحكام 1 / 301، والمغني لابن قدامة 9 / 43 - 44، والفتاوى الهندية 3 / 420، وأسنى المطالب 4 / 299.
(4) تبصرة الحكام 1 / 299 و 301، وجواهر الإكليل 2 / 228، والأم للشافعي 6 / 215.(16/313)
ج - حَبْسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْحَدَّ وَالْقِصَاصَ حَتَّى يُعَدَّل الشُّهُودُ:
90 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلْقَاضِي حَبْسَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يَتَثَبَّتَ مِنَ الدَّعْوَى بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ فِيمَا كَانَ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِيهِ غَيْرَ الْحَبْسِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، حَيْثُ أَقْصَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا الْقَتْل وَالْقَطْعُ وَالْجَلْدُ، فَيَحْبِسُ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَبِخَاصَّةٍ فِي حَقِّ الآْدَمِيِّ حَتَّى يَكْشِفَ الْقَاضِي عَنْ عَدَالَةِ الشُّهُودِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ وَظِيفَتِهِ بَعْدَ أَنْ أَتَى الْمُدَّعِي بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْبَيِّنَةِ.
فَمَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ بِسَرِقَةٍ يُحْبَسُ حَتَّى تَظْهَرَ عَدَالَةُ الشُّهُودِ فِي ذَلِكَ. وَمَنِ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ قَذَفَهُ وَبَيِّنَتُهُ فِي الْمِصْرِ حُبِسَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لِيُحْضِرَ الْمُدَّعِي بَيِّنَتَهُ حَتَّى يَقُومَ الْحَاكِمُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَإِلاَّ خَلَّى سَبِيلَهُ بِدُونِ كَفِيلٍ. فَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ غَائِبَةً أَوْ خَارِجَ الْمِصْرِ فَلاَ يُحْبَسُ، فَإِذَا أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا حَبَسَهُ (1) .
د - حَبْسُ صَاحِبِ الدَّعْوَى الْكَيْدِيَّةِ:
91 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ قَامَ بِشَكْوَى بِغَيْرِ حَقٍّ وَانْكَشَفَ لِلْحَاكِمِ أَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي دَعْوَاهُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 2 / 173، والهداية 2 / 101، وبدائع الصنائع 7 / 53، وحاشية ابن عابدين 4 / 45، والعناية للبابرتي 5 / 401، والقوانين لابن جزي ص 219، وأسنى المطالب 4 / 363، ومنتهى الإرادات 2 / 583، والمغني 9 / 328، والمدونة 5 / 185.(16/313)
فَإِنَّهُ يُؤَدِّبُهُ، وَأَقَل ذَلِكَ الْحَبْسُ لِيَنْدَفِعَ بِذَلِكَ أَهْل الْبَاطِل (1) .
هـ - حَبْسُ شَاهِدِ الزُّورِ:
92 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ شَاهِدَ الزُّورِ يُضْرَبُ وَيُحْبَسُ طَوِيلاً بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ. وَزَادَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ مَنْ يُلَقِّنُ شَهَادَةَ الزُّورِ لِغَيْرِهِ يُحْبَسُ وَيُضْرَبُ. وَالْمَنْقُول عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ وَحَلَقَ رَأْسَهُ وَسَخَّمَ وَجْهَهُ وَأَمَرَ أَنْ يُطَافَ بِهِ فِي الأَْسْوَاقِ ثُمَّ أَطَال حَبْسَهُ. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (2) .
و حَبْسُ الْمُقِرِّ لآِخَرَ بِمَجْهُولٍ لاِمْتِنَاعِهِ مِنْ تَفْسِيرِهِ:
93 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لآِخَرَ بِمَجْهُولٍ وَامْتَنَعَ مِنْ تَفْسِيرِهِ حُبِسَ حَتَّى يُفَسِّرَهُ، سَوَاءٌ أَقَرَّ بِهِ مِنْ نَفْسِهِ ابْتِدَاءً أَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ.
وَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يَصِحُّ لَهُ الرُّجُوعُ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لِلُزُومِهِ، وَلأَِنَّ كَلاَمَ الْعَاقِل مَحْمُولٌ عَلَى الْجَدِّ لاَ
__________
(1) معين الحكم للطرابلسي ص 196 - 197، وتبصرة الحكام 2 / 305 - 306.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 503، والقوانين الفقهية ص 203، وفيض الإله للبقاعي 2 / 325، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 283، والإنصاف للمرداوي 10 / 248، وفتاوى ابن تيمية 28 / 343 - 344، والمدونة 5 / 203، والمغني لابن قدامة 9 / 261، والسنن للبيهقي 10 / 141 - 142، والمصنف لعبد الرزاق 8 / 325.(16/314)
الْهَزْل. لَكِنْ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي تَوْضِيحِ مَا أَبْهَمَهُ؛ لأَِنَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ. وَيَحْلِفُ يَمِينًا أَنَّهُ مَا نَوَى إِلاَّ ذَلِكَ صِيَانَةً لِحُقُوقِ النَّاسِ. وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ مُضَعَّفٍ إِلَى أَنَّ الْمُقِرَّ بِمَجْهُولٍ لاَ يُحْبَسُ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ تَفْسِيرِهِ؛ لإِِمْكَانِ حُصُول الْغَرَضِ بِغَيْرِ الْحَبْسِ (1) .
حَالاَتُ الْحَبْسِ بِسَبَبِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى نِظَامِ الدَّوْلَةِ:
أ - حَبْسُ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ:
94 - الْمَنْقُول عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْحَاكِمَ لاَ يَقْتُل الْجَاسُوسَ الْمُسْلِمَ بَل يُعَزِّرُهُ بِمَا يَرَاهُ. وَنَصَّ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى حَبْسِهِ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ. وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: يُطَال سَجْنُهُ وَيُنْفَى مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ.
وَقَال مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَسُحْنُونٌ: لِلْحَاكِمِ قَتْل الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ إِنْ رَأَى فِي ذَلِكَ الْمَصْلَحَةَ، وَبِهِ قَال ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ. وَسَبَبُ الاِخْتِلاَفِ فِي عُقُوبَةِ الْجَاسُوسِ
__________
(1) المغني 5 / 187، والإنصاف 12 / 204، وحاشية الدسوقي 3 / 406، وأسنى المطالب 2 / 300، ومعين الحكام ص 199، وشرح المحلي على منهاج الطالبين 3 / 11.(16/314)
الْمُسْلِمِ تَعَدُّدُ الأَْقْوَال فِي حَادِثَةِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ قُبَيْل فَتْحِ مَكَّةَ، حِينَ كَتَبَ لِبَعْضِ قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِمَسِيرِ النَّبِيِّ إِلَيْهِمْ (1) .
ب - حَبْسُ الْبُغَاةِ:
95 - يُحْبَسُ الْبُغَاةُ، وَهُمُ الْخَارِجُونَ عَلَى الْحَاكِمِ فِي الْحَالاَتِ التَّالِيَةِ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: إِذَا تَأَهَّبُوا لِلْقِتَال: إِذَا قَامَ الْبُغَاةُ بِأَعْمَالٍ تَدُل عَلَى إِرَادَةِ الْخُرُوجِ عَلَى الإِْمَامِ كَشِرَاءِ السِّلاَحِ وَالاِجْتِمَاعِ لِلثَّوْرَةِ وَالتَّأَهُّبِ لِلْقِتَال جَازَ لِلْحَاكِمِ أَخْذُهُمْ وَحَبْسُهُمْ وَلَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا حَقِيقَةً؛ لأَِنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْخُرُوجِ مَعْصِيَةٌ يَنْبَغِي زَجْرُهُمْ عَنْهَا؛ فَضْلاً عَنْ أَنَّهُمْ لَوْ تُرِكُوا لأََفْسَدُوا فِي الأَْرْضِ وَفَاتَ دَفْعُ شَرِّهِمْ (2) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَخْذُهُمْ أَثْنَاءَ الْقِتَال: إِذَا أُمْسِكَ الْبُغَاةُ أَثْنَاءَ الْقِتَال حُبِسُوا، وَلاَ يُطْلَقُ سَرَاحُهُمْ إِنْ خِيفَ انْحِيَازُهُمْ إِلَى فِئَةٍ أُخْرَى أَوْ عَوْدَتُهُمْ لِلْقِتَال. وَسَبَبُ حَبْسِهِمْ كَسْرُ قُلُوبِ الآْخَرِينَ وَتَفْرِيقُ جَمْعِهِمْ (3) .
__________
(1) زاد المعاد 2 / 68، 3 / 215، والفروع 6 / 113، وأحكام القرآن لابن العربي 4 / 1772، والخراج ص 205، وتبصرة الحكام 2 / 194، والحسبة لابن تيمة ص 28، وجواهر الإكليل 1 / 256، والأقضية لابن فرج ص 35.
(2) بدائع الصنائع 7 / 140، ومعين الحكام ص 190، والمغني لابن قدامة 8 / 109.
(3) الاختيار 4 / 152، وبدائع الصنائع 7 / 141، والشرح الكبير للدردير 4 / 299، وحاشية الباجوري 2 / 256، والإنصاف 10 / 315.(16/315)
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: تَتَبُّعُهُمْ بَعْدَ الْقِتَال وَحَبْسُهُمْ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَتَبُّعِ الْبُغَاةِ الْهَارِبِينَ وَحَبْسِهِمْ، وَلَهُمْ فِي هَذَا قَوْلاَنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يَجُوزُ لِلإِْمَامِ تَتَبُّعُهُمْ وَحَبْسُهُمْ إِنْ كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا، وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ. وَنُسِبَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الإِْمَامَ يَتَتَبَّعُهُمْ وَيَحْبِسُهُمْ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ. وَبِهِ قَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ تَتَبُّعُهُمْ وَحَبْسُهُمْ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهُمْ وَقَدْ حَصَل. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْل الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْمَنْقُول عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (2) .
وَقْتُ الإِْفْرَاجِ عَنِ الْبُغَاةِ الْمَحْبُوسِينَ:
96 - لِلْفُقَهَاءِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ فِي وَقْتِ الإِْفْرَاجِ عَنِ الْبُغَاةِ الْمَحْبُوسِينَ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يَجِبُ الإِْفْرَاجُ عَنْهُمْ بَعْدَ تَوَقُّفِ الْقِتَال، وَلاَ يَجُوزُ اسْتِمْرَارُ حَبْسِهِمْ. لَكِنْ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لاَ يَعُودُوا إِلَى الْقِتَال. وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ.
__________
(1) الخراج ص 232، ومعين الحكام ص 191، وحاشية عميرة 4 / 172، والأحكام السلطانية للماوردي ص 60، والشرح الكبير للدردير 4 / 300، والمغني 8 / 114، وبداية المجتهد 2 / 458.
(2) الخراج ص 232، والمغني 8 / 144.(16/315)
الْقَوْل الثَّانِي: يَجُوزُ حَبْسُهُمْ بَعْدَ الْقِتَال وَلاَ يُخَلَّى عَنْهُمْ إِلاَّ بِظُهُورِ تَوْبَتِهِمْ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ، وَعَلاَمَةُ ذَلِكَ عَوْدَتُهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَقَوْل بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ.
الْقَوْل الثَّالِثُ: يَجُوزُ حَبْسُهُمْ بَعْدَ الْقِتَال، وَيَجِبُ إِطْلاَقُ سَرَاحِهِمْ إِذَا أُمِنَ عَدَمُ عَوْدَتِهِمْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ.
الْقَوْل الرَّابِعُ: يَجُوزُ اسْتِمْرَارُ حَبْسِهِمْ بَعْدَ الْقِتَال مُعَامَلَةً لَهُمْ بِالْمِثْل حَتَّى يُتَوَصَّل إِلَى اسْتِخْلاَصِ أَسْرَى أَهْل الْعَدْل، وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الآْخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ (1) .
مَشْرُوعِيَّةُ اتِّخَاذِ مَوْضِعٍ لِلْحَبْسِ:
97 - لِلْفُقَهَاءِ قَوْلاَنِ فِي جَوَازِ اتِّخَاذِ الْحَاكِمِ مَوْضِعًا لِلْحَبْسِ فِيهِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ إِفْرَادُ مَوْضِعٍ لِيَحْبِسَ فِيهِ، وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ، بَل إِنَّ بَعْضَهُمْ اعْتَبَرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ.
وَقَال آخَرُونَ: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ (2) . وَاسْتَدَلُّوا
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 140 - 141، وبداية المجتهد 2 / 458، والمغني 8 / 115، والأحكام السلطانية للماوردي ص 60، وحاشية الباجوري 2 / 250، والخراج ص 232، والقوانين الفقهية ص 238، وتبصرة الحكام 2 / 281، والشرح الكبير للدردير 4 / 299.
(2) تبصرة الحكام 2 / 150، ونيل الأوطار 8 / 316، ومعين الحكام ص 196 - 197، وأسنى المطالب 4 / 306، والبحر الزخار 5 / 138، 211.(16/316)
لِهَذَا بِفِعْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ اشْتَرَى لَهُ نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ عَامِلُهُ عَلَى مَكَّةَ دَارًا لِلسَّجْنِ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بِأَرْبَعَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ. كَمَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّل مَنْ أَحْدَث سِجْنًا فِي الإِْسْلاَمِ وَجَعَلَهُ فِي الْكُوفَةِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ يَتَّخِذُ الْحَاكِمُ مَوْضِعًا يُخَصِّصُهُ لِلْحَبْسِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ لِخَلِيفَتِهِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سِجْنٌ. وَلَكِنْ إِذَا لَزِمَ الأَْمْرُ يُعَوِّقُ بِمَكَانٍ مِنَ الأَْمْكِنَةِ أَوْ يَأْمُرُ الْغَرِيمَ بِمُلاَزَمَةِ غَرِيمِهِ كَمَا فَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا قَوْل بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَآخَرِينَ غَيْرِهِمْ (2) .
اتِّخَاذُ السِّجْنِ فِي الْحَرَمِ:
98 - لِلْفُقَهَاءِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ فِي اتِّخَاذِ السِّجْنِ فِي الْحَرَمِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يَجُوزُ اتِّخَاذُ السِّجْنِ فِي الْحَرَمِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لِخَبَرِ شِرَاءِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 376 - 377، والمبسوط 20 / 89، والطرق الحكمية ص 103، والأقضية لابن فرج ص 11 - 12، وتبصرة الحكام 2 / 316 - 317، والبحر الزخار 5 / 138، والتراتيب الإدارية للكتاني 1 / 299.
(2) فتاوى ابن تيمية 35 / 399، والطرق الحكمية ص 103، وتبصرة الحكام 2 / 316 - 317، ومعين الحكام ص 196.(16/316)
السِّجْنَ بِمَكَّةَ، وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ يَحِل أَنْ يُسْجَنَ أَحَدٌ فِي حَرَمِ مَكَّةَ؛ لأَِنَّ تَطْهِيرَ الْحَرَمِ مِنَ الْعُصَاةِ وَاجِبٌ لِلآْيَةِ: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (2) وَظَاهِرُهُ يَدُل عَلَى حُرْمَةِ اتِّخَاذِ السِّجْنِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ (3) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: يُكْرَهُ اتِّخَاذُ السِّجْنِ فِي الْحَرَمِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ طَاوُسٍ وَكَانَ يَقُول: لاَ يَنْبَغِي لِبَيْتِ عَذَابٍ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِ رَحْمَةٍ. وَيَقْصِدُ حَرَمَ مَكَّةَ (4) .
تَصْنِيفُ السُّجُونِ بِحَسَبِ الْمَحْبُوسِينَ:
أ - إِفْرَادُ النِّسَاءِ بِسِجْنٍ مُنْعَزِلٍ عَنْ سِجْنِ الرِّجَال:
99 - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلنِّسَاءِ مَحْبِسٌ عَلَى حِدَةٍ إِجْمَاعًا، وَلاَ يَكُونُ مَعَهُنَّ رَجُلٌ لِوُجُوبِ سَتْرِهِنَّ وَتَحَرُّزًا مِنَ الْفِتْنَةِ. وَالأَْوْلَى أَنْ تَقُومَ النِّسَاءُ عَلَى سِجْنِ مَثِيلاَتِهِنَّ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 257، والمجموع 9 / 269، وحاشية ابن عابدين 5 / 377، وتبصرة الحكام 2 / 316، والمحلى لابن حزم 8 / 171، وفتح الباري 5 / 75 - 76.
(2) سورة البقرة / 125.
(3) المحلى لابن حزم 7 / 262 الطبعة المنيرية.
(4) فتح الباري 5 / 75.(16/317)
جَازَ اسْتِعْمَال الرَّجُل الْمَعْرُوفِ بِالصَّلاَحِ عَلَى مَحْبِسِهِنَّ لِيَحْفَظَهُنَّ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سِجْنٌ مُعَدٌّ لِلنِّسَاءِ حُبِسَتِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ أَمِينَةٍ خَالِيَةٍ عَنِ الرِّجَال أَوْ ذَاتِ رَجُلٍ أَمِينٍ كَزَوْجٍ أَوْ أَبٍ أَوِ ابْنٍ مَعْرُوفٍ بِالْخَيْرِ وَالصَّلاَحِ (1) .
ب - إِفْرَادُ الْخُنْثَى بِحَبْسٍ خَاصٍّ:
100 - إِذَا حُبِسَ الْخُنْثَى الْمُشْكِل فَلاَ يَكُونُ مَعَ الرِّجَال وَلاَ النِّسَاءِ، بَل يُحْبَسُ وَحْدَهُ أَوْ عِنْدَ مَحْرَمٍ، وَلاَ يَنْبَغِي حَبْسُهُ مَعَ الرِّجَال وَلاَ النِّسَاءِ (2) .
ج - حَبْسُ غَيْرِ الْبَالِغِينَ (الأَْحْدَاثِ) :
حَبْسُ غَيْرِ الْبَالِغِينَ فِي قَضَايَا الْمُعَامَلاَتِ الْمَالِيَّةِ:
101 - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ إِذَا مَارَسَ التِّجَارَةَ أَوِ اسْتَهْلَكَ مَال غَيْرِهِ فَلاَ يُحْبَسُ بِدَيْنٍ فِي مُعَامَلَتِهِ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ. وَلاَ يَمْنَعُ هَذَا مِنْ تَأْدِيبِهِ بِغَيْرِ
__________
(1) البحر الزخار 5 / 138، والمبسوط 20 / 90، والدر المختار 5 / 579، والفتاوى الهندية 3 / 414، وجواهر الإكليل للآبي 2 / 93، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 280، 281، والمدونة 5 / 206.
(2) حاشية الدسوقي 3 / 280، وحاشية الصعيدي على كفاية الطالب 2 / 201.(16/317)
الْحَبْسِ. وَصَحَّحَ السَّرَخْسِيُّ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ حَبْسَ الْوَلِيِّ لِتَقْصِيرِهِ فِي حِفْظِ وَلَدِهِ، وَلأَِنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الْمَال عَنْهُ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ يُحْبَسُ بِالدَّيْنِ وَنَحْوِهِ تَأْدِيبًا لاَ عُقُوبَةً؛ لأَِنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَتَحَقَّقُ ظُلْمُهُ، وَلِئَلاَّ يَعُودَ إِلَى مِثْل الْفِعْل وَيَتَعَدَّى عَلَى أَمْوَال النَّاسِ. وَعَلَّقَ بَعْضُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْل الْحَبْسَ عَلَى وُجُودِ أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ لِلْحَدَثِ، لِيَضْجَرَ فَيُسَارِعَ إِلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْهُ (1) .
حَبْسُ غَيْرِ الْبَالِغِينَ فِي الْجَرَائِمِ:
102 - نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ لاَ يُحْبَسُ بِارْتِكَابِهِ الْجَرَائِمَ وَنَحْوَهَا. وَقَال آخَرُونَ بِجَوَازِ حَبْسِ الْفَاجِرِ غَيْرِ الْبَالِغِ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ لاَ الْعُقُوبَةِ، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا كَانَ الْحَبْسُ أَصْلَحَ لَهُ مِنْ إِرْسَالِهِ، وَكَانَ فِيهِ تَأْدِيبُهُ وَاسْتِصْلاَحُهُ، وَمِنَ الْجَرَائِمِ الَّتِي نَصُّوا عَلَى الْحَبْسِ فِيهَا الرِّدَّةُ، فَيُحْبَسُ الصَّبِيُّ الْمُرْتَدُّ حَتَّى يَتُوبَ وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَكَذَا الْبَغْيُ، فَيُحْبَسُ صِبْيَانُ الْبُغَاةِ الْمُقَاتِلُونَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَرْبُ (2) .
__________
(1) المبسوط 20 / 91، والفتاوى الهندية 3 / 413، وحاشية ابن عابدين 5 / 426، وأسنى المطالب وحاشيته للرملي 4 / 306، وحاشية الدسوقي 3 / 280، ومعين الحكام ص 174.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 257، 5 / 426، والمعيار 2 / 258، و 8 / 418، والمغني لابن قدامة 8 / 115، والإنصاف 10 / 316، ومعين الحكام ص 174، وبدائع الصنائع 7 / 63، وجواهر الإكليل 2 / 148، ومغني المحتاج للشربيني 4 / 127.(16/318)
مَكَانُ حَبْسِ غَيْرِ الْبَالِغِينَ:
103 - تَدُل أَكْثَرُ النُّصُوصِ عَلَى أَنْ يَكُونَ حَبْسُ الْحَدَثِ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ وَلِيِّهِ. عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ حَبْسُهُ فِي السِّجْنِ إِلاَّ إِذَا خَشِيَ عَلَيْهِ مَا يُفْسِدُهُ فَيَتَوَجَّبُ حَبْسُهُ عِنْدَ أَبِيهِ لاَ فِي السِّجْنِ (1) .
د - تَمْيِيزُ حَبْسِ الْمَوْقُوفِينَ عَنْ حَبْسِ الْمَحْكُومِينَ:
104 - حَبْسُ الْمَوْقُوفِينَ هُوَ حَبْسُ أَهْل الرِّيبَةِ وَالتُّهَمَةِ، وَهُوَ مِنْ سُلْطَةِ الْوَالِي؛ لأَِنَّهُ مِنِ اخْتِصَاصِهِ كَمَا فِي قَوْل الزُّبَيْرِيِّ وَالْمَاوَرْدِيِّ وَالْقَرَافِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ. وَحَبْسُ الْمَحْكُومِينَ هُوَ حَبْسُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَقَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ وَهُوَ مِنْ سُلْطَةِ الْقَاضِي. وَالْمَعْمُول بِهِ فِي الْقَدِيمِ تَمَيُّزُ حَبْسِ الْوَالِي الَّذِي يَضُمُّ أَهْل الرِّيبَةِ وَالْفَسَادِ (الْمَوْقُوفِينَ) عَنْ حَبْسِ الْقَاضِي الَّذِي يَضُمُّ الْمَحْكُومِينَ. وَيَخْتَلِفُ سِجْنُ الْوَالِي عَنْ سِجْنِ الْقَاضِي، فَلِلْمَحْبُوسِ فِي سِجْنِ الْوَالِي تَوْكِيل غَيْرِهِ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَنْهُ أَمَامَ الْقَاضِي
__________
(1) الدر المختار 4 / 253، والمعيار 8 / 252، 258، وأحكام السوق ليحيى بن عمر ص 135، والفتاوى لابن تيمية 34 / 179، وحاشية الدسوقي 2 / 280، وحاشية الصعيدي على كفاية الطالب 2 / 301.(16/318)
إِذَا مُنِعَ مِنَ الْخُرُوجِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ فِي سِجْنِ الْقَاضِي لإِِمْكَانِ خُرُوجِهِ بِإِذْنِهِ، وَمِثْل ذَلِكَ التَّوْكِيل فِي سَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَى الْمَحْبُوسِ (1) .
- تَمْيِيزُ الْحَبْسِ فِي قَضَايَا الْمُعَامَلاَتِ عَنِ الْحَبْسِ فِي الْجَرَائِمِ:
105 - مَيَّزَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَبْسِ بَيْنَ الْمَحْبُوسِ فِي الْمُعَامَلاَتِ كَالدَّيْنِ، وَبَيْنَ الْمَحْبُوسِ فِي الْجَرَائِمِ، كَالسَّرِقَةِ، وَالتَّلَصُّصِ، وَالاِعْتِدَاءِ عَلَى الأَْبْدَانِ، وَكَانُوا يَحْرِصُونَ عَلَى أَنْ لاَ يَجْتَمِعَ هَؤُلاَءِ بِأُولَئِكَ فِي حَبْسِ وَاحِدٍ خَوْفًا مِنَ الْعَدْوَى، فَضْلاً عَنْ أَنَّ لأَِصْحَابِ كُل حَبْسٍ مُعَامَلَةً تُنَاسِبُ جَرِيمَةَ كُلٍّ مِنْهُمْ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 378، 499، 512، 513، وتبصرة الحكام 1 / 304، ولسان الحكام ص 251، والإنصاف 12 / 90، وحاشية القليوبي 4 / 332، والمدونة 5 / 489، والمنتظم لابن الجوزي 7 / 256، والأحكام السلطانية للماوردي ص 219، والخراج ص 163، 190، والطبقات لابن سعد 5 / 356، والدر المختار وحاشيته 5 / 378، 499، 512، والروضة للنووي 4 / 140، وأسنى المطالب 2 / 189، والمغني لابن قدامة 9 / 48.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 293، 270، وشرح أدب القاضي للخصاف 2 / 375، وخبايا الزوايا للزركشي ص 269، والمنتظم لابن الجوزي 7 / 256، وطبقات ابن سعد 5 / 356، والفتاوى الهندية 4 / 414، وأسنى المطالب 4 / 306.(16/319)
و - التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَحْبُوسِينَ بِحَسَبِ تَجَانُسِ جَرَائِمِهِمْ:
106 - صَنَّفَ الْفُقَهَاءُ نُزَلاَءَ سُجُونِ الْجَرَائِمِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ: أَهْل الْفُجُورِ (الْمَفَاسِدِ الْخُلُقِيَّةِ) وَأَهْل التَّلَصُّصِ (السَّرِقَاتِ وَنَحْوِهَا) ، وَأَهْل الْجِنَايَاتِ (الاِعْتِدَاءِ عَلَى الأَْبْدَانِ) ، وَجَعَل أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي هَذَا التَّقْسِيمَ عُنْوَانَ فَصْلٍ أَفْرَدَهُ فِي كِتَابِهِ (1) .
ز - تَصْنِيفُ الْحَبْسِ إِلَى جَمَاعِيٍّ وَفَرْدِيٍّ:
107 - الظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الأَْصْل فِي الْحَبْسِ كَوْنُهُ جَمَاعِيًّا، وَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُجْمَعَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ فِي مَوْضِعٍ تَضِيقُ عَنْهُمْ غَيْرَ مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ، وَقَدْ يَرَى بَعْضُهُمْ عَوْرَةَ بَعْضٍ وَيُؤْذَوْنَ فِي الْحَرِّ وَالصَّيْفِ.
وَيَجُوزُ لِلْحَاكِمِ عَزْل السَّجِينِ وَحَبْسُهُ مُنْفَرِدًا فِي غُرْفَةٍ يُقْفَل عَلَيْهِ بَابُهَا إِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 370، والخراج ص 161، والخطط للمقريزي 2 / 187 - 189، وبدائع الزهور لابن إياس 2 / 6 الطبعة الأولى.
(2) المبسوط للسرخسي 20 / 90، وحاشية ابن عابدين 5 / 377 و 379، والفتاوى الهندية 3 / 419، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 281، وحاشية القليوبي 2 / 292، وحاشية الرملي 2 / 189، والإفصاح لابن هبيرة 1 / 39، والتراتيب الإدارية للكتاني 1 / 295، والمغني 8 / 124، وفتاوى ابن تيمية 15 / 310.(16/319)
ح - الْحَبْسُ بِالإِْقَامَةِ الْجَبْرِيَّةِ فِي الْبَيْتِ وَنَحْوِهِ:
108 - يَجُوزُ الْحَبْسُ بِالإِْقَامَةِ الْجَبْرِيَّةِ فِي الْبَيْتِ وَنَحْوِهِ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ مَنْ ضَرَبَ غَيْرَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ عُزِّرَ، وَصَحَّ حَبْسُهُ وَلَوْ فِي بَيْتِهِ بِأَنْ يُمْنَعَ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهُ. وَلِلإِْمَامِ حَبْسُ الْعَائِنِ فِي مَنْزِل نَفْسِهِ سِيَاسَةً وَيُمْنَعُ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ (1) .
حَبْسُ الْمَرِيضِ:
109 - بَحَثَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسْأَلَةِ حَبْسِ الْمَدِينِ الْمَرِيضِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمَرَضَ لاَ يُعْتَبَرُ مِنْ مَوَانِعِ الْحَبْسِ. وَالْقَوْل الآْخَرُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمَرِيضَ الْمَدِينَ لاَ يُحْبَسُ، بَل يُوَكَّل بِهِ وَيُسْتَوْثَقُ عَلَيْهِ. أَمَّا الْجَانِي الْمَرِيضُ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَا يَدُل عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَبْسِهِ (2) .
إِخْرَاجُ الْمَرِيضِ مِنْ سِجْنِهِ إِذَا خِيفَ عَلَيْهِ:
110 - إِذَا مَرِضَ الْمَحْبُوسُ فِي سِجْنِهِ وَأَمْكَنَ عِلاَجُهُ فِيهِ فَلاَ يَخْرُجُ لِحُصُول الْمَقْصُودِ (3) . وَلاَ
__________
(1) الدر المختار 4 / 66، وفتح الباري 10 / 205، وشرح النووي لمسلم 1 / 173، وحاشية الصعيدي على كفاية الطالب 2 / 410، وحاشية ابن عابدين 6 / 364، وحاشية الباجوري 2 / 227، وإعانة الطالبين للبكري 4 / 132، والفروع 6 / 112.
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 378، والشرح الكبير للدردير 3 / 281، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 491، وحاشية الجمل 5 / 346، والإنصاف 5 / 277 - 280.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 378، والهداية 3 / 231، وشرح أدب القاضي للخصاف 2 / 374 - 375.(16/320)
يُمْنَعُ الطَّبِيبُ وَالْخَادِمُ مِنَ الدُّخُول عَلَيْهِ لِمُعَالَجَتِهِ وَخِدْمَتِهِ؛ لأَِنَّ مَنْعَهُ مِمَّا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ يُفْضِي إِلَى هَلاَكِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَلِلْفُقَهَاءِ أَقْوَالٌ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحَبْسِ إِذَا لَمْ تُمْكِنْ مُعَالَجَتُهُ وَرِعَايَتُهُ فِيهِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يُخْرَجُ مِنْ حَبْسِهِ لِلْعِلاَجِ وَالْمُدَاوَاةِ صِيَانَةً لِنَفْسِهِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ كَالْخَصَّافِ وَابْنِ الْهُمَامِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ يُخْرَجُ إِلاَّ بِكَفِيلٍ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
الْقَوْل الثَّالِثُ: يُعَالَجُ فِي الْحَبْسِ وَلاَ يُخْرَجُ، وَالْهَلاَكُ فِي الْحَبْسِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدِ اهْتَمَّ الْمُسْلِمُونَ مُنْذُ الْقَدِيمِ بِرِعَايَةِ الْمَرْضَى فِي السُّجُونِ فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عُمَّالِهِ: انْظُرُوا مَنْ فِي السُّجُونِ وَتَعَهَّدُوا الْمَرْضَى.
وَفِي زَمَنِ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ خُصِّصَ بَعْضُ الأَْطِبَّاءِ لِلدُّخُول عَلَى الْمَرْضَى فِي السُّجُونِ كُل يَوْمٍ، وَحَمْل الأَْدْوِيَةِ وَالأَْشْرِبَةِ لَهُمْ وَرِعَايَتِهِمْ وَإِزَاحَةِ عِلَلِهِمْ (1) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 378، والفتاوى الهندية 4 / 418، 5 / 63، وشرح أدب القاضي للخصاف 2 / 375، وفتح القدير 5 / 471، وجواهر الإكليل 2 / 93، وأسنى المطالب 4 / 133، وحاشية القليوبي 2 / 292، وحاشية الدسوقي 3 / 281 - 282، وطبقات ابن سعد 5 / 356، وعيون الأنباء لابن أبي أصيبعة 301 - 302.(16/320)
لِلْفُقَهَاءِ قَوْلاَنِ فِي تَمْكِينِ الْمَحْبُوسِ مِنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: يُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ لِيَضْجَرَ قَلْبُهُ وَيَنْزَجِرَ إِنْ رَأَى الْحَاكِمُ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ، هَذَا قَوْل أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقَوْل عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى صَلاَةِ الْجُمُعَةِ وَصَلاَةِ الْعِيدَيْنِ لأَِهَمِّيَّتِهَا، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَبِهِ قَال الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلاَمِ السَّرَخْسِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْبُوَيْطِيِّ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ (2) .
112 - وَإِذَا تَوَفَّرَتْ شُرُوطُ الْجُمُعَةِ فِي السِّجْنِ وَأَمْكَنَ أَدَاؤُهَا فِيهِ لَزِمَتِ السُّجَنَاءَ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ حَزْمٍ، وَقَالُوا: يُقِيمُهَا لَهُمْ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 377، والمبسوط 20 / 90، 236، والمغني 2 / 339، والمعيار 1 / 416، والقوانين الفقهية ص 55، وأسنى المطالب 2 / 188، وحاشية الرملي 1 / 262، وحاشية الباجوري 1 / 212.
(2) غاية المنتهى للكرمي 1 / 206، وحاشية الباجوري 1 / 212، وروضة الطالبين 4 / 140، وطبقات الشافعية للسبكي 1 / 276، والفوائد البهية للكنوي ص 130، وجواهر الإكليل 2 / 94، وحاشية الشرواني 5 / 143.(16/321)
مَنْ يَصْلُحُ لَهَا مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَهْل الْبَلَدِ، وَيُتَّجَهُ وُجُوبُ نَصْبِهِ عَلَى الْحَاكِمِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُول بِالْجُمُعَةِ عَلَى أَهْل السُّجُونِ، وَخَالَفَهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ فَقَال: لَيْسَ عَلَى أَهْل السُّجُونِ جُمُعَةٌ، وَظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَفِيَّةِ جَوَازُ فِعْل الْمَحْبُوسِينَ لَهَا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوُا الظُّهْرَ فُرَادَى (1) .
تَشْغِيل الْمَحْبُوسِ:
113 - لِلْفُقَهَاءِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ فِي تَمْكِينِ الْمَحْبُوسِ مِنَ الْعَمَل فِي الْحَبْسِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ مِنَ الْعَمَل فِي حَبْسِهِ وَيُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَوَفَاءِ الدَّيْنِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَبِهِ أَفْتَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
الْقَوْل الثَّانِي: يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ مِنَ الْعَمَل فِي حَبْسِهِ وَلاَ يُمَكَّنُ مِنْهُ؛ لِئَلاَّ يَهُونَ عَلَيْهِ الْحَبْسُ وَلِيَضْجَرَ قَلْبُهُ فَيَنْزَجِرَ، وَإِلاَّ صَارَ الْحَبْسُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَانُوتِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِ
__________
(1) الهداية 1 / 63، والمبسوط 2 / 36، وحاشية الباجوري 1 / 163 - 164، وحاشية الرملي 1 / 262، والمحلى لابن حزم 5 / 49 - 50، والمصنف لابن أبي شيبة 2 / 160.
(2) الفتاوى الهندية 3 / 418، والدر المختار وحاشيته 5 / 379، وأسنى المطالب مع حاشية الرملي 2 / 188 - 189 و 194، والبحر الزخار 5 / 82، والمغني 4 / 495.(16/321)
الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهِ قَال غَيْرُهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: يُتْرَكُ تَمْكِينُ الْمَحْبُوسِ مِنَ الْعَمَل فِي حَبْسِهِ لِتَقْدِيرِ الْحَاكِمِ وَاجْتِهَادِهِ، وَبِهِ قَال الْمُرْتَضَى (2) .
أَحْكَامُ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَحْبُوسِ:
114 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الْعَدِيدَ مِنْ أَحْكَامِ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْمَحْبُوسِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالأُْمُورِ الْمَالِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْجِنَائِيَّةِ وَالأَْحْوَال الشَّخْصِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا بَيَانُهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
التَّصَرُّفَاتُ الْمَالِيَّةُ الْمُتَّصِلَةُ بِالْمَحْبُوسِ:
بَيْعُ الْمَحْبُوسِ مَالَهُ مُكْرَهًا:
115 - لِلْمَحْبُوسِ التَّصَرُّفُ بِمَالِهِ بَيْعًا أَوْ شِرَاءً وَنَحْوَهُ بِحَسَبِ مَا يَرَى؛ لأَِنَّ الْحَبْسَ لاَ يُوجِبُ بُطْلاَنَ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ. فَإِنْ أُكْرِهَ بِالْحَبْسِ عَلَى الْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ أَوِ التَّأْجِيرِ فَلَهُ الْفَسْخُ بَعْدَ زَوَال الإِْكْرَاهِ لاِنْعِدَامِ الرِّضَا (3) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ إِكْرَاهٌ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 278، والفتاوى الهندية 3 / 418، 5 / 63، والبحر الزخار 5 / 82.
(2) البحر الزخار 5 / 82، وترى اللجنة أن الأخذ بهذا الرأي هو الأوفق إذا روعي في ذلك المصلحة العامة والخاصة.
(3) بدائع الصنائع 7 / 174، والمغني 4 / 484 - 486، والاختيار 2 / 105، والهداية 3 / 222، وجواهر الإكليل 1 / 340.(16/322)
الرُّجُوعُ عَلَى الْمَحْبُوسِ بِالْمَال الْمَدْفُوعِ عَنْهُ لِتَخْلِيصِهِ:
116 - ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ حَبَسَهُ السُّلْطَانُ فَدَفَعَ عَنْهُ قَرِيبُهُ مَا خَلَّصَهُ بِهِ مِنَ الْحَبْسِ ثُمَّ سَكَتَ وَلَمْ يُطَالِبْهُ بِالْمَدْفُوعِ حَتَّى مَاتَ، فَقَامَ وَلَدُهُ يُطَالِبُ بِالْمَدْفُوعِ وَأَنَّهُ سَلَفٌ، وَالْمَحْبُوسُ الْمُفْتَدَى يَدَّعِي أَنَّهُ هِبَةٌ، فَالْحُكْمُ أَنَّ عَلَى مُدَّعِي الْهِبَةِ الْبَيِّنَةَ، وَلاَ حُجَّةَ بِسُكُوتِ الدَّافِعِ عَنْهُ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ لَزِمَ فِي ذِمَّتِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ إِذَا أُكْرِهَ قَرِيبٌ أَوْ صَدِيقٌ وَنَحْوُهُ عَلَى أَدَاءِ مَالٍ عَنْ مَحْبُوسٍ فَدَفَعَهُ مِنْ مَالِهِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمَحْبُوسِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ؛ لأَِنَّ الإِْكْرَاهَ وَالدَّفْعَ بِسَبَبِهِ، فَلاَ يَذْهَبُ الْمَال هَدْرًا، وَلأَِنَّ النُّفُوسَ وَالأَْمْوَال يَعْتَرِيهَا مِنَ الضَّرَرِ وَالْفَسَادِ مَا لاَ يَنْدَفِعُ إِلاَّ بِأَدَاءِ مَالٍ عَنْهَا. وَلَوْ عَلِمَ الْمُؤَدِّي أَنَّهُ لاَ يَسْتَرِدُّ مَا دَفَعَهُ مِنَ الْمَحْبُوسِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ لَمْ يَفْعَل، وَإِذَا لَمْ يُقَابِل الْمَحْبُوسُ الإِْحْسَانَ بِمِثْلِهِ فَهُوَ ظَالِمٌ، وَالظُّلْمُ حَرَامٌ، وَالأَْصْل فِي هَذَا اعْتِبَارُ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ فِي التَّصَرُّفَاتِ (1) .
رَهْنُ الْمُفْلِسِ الْمَحْبُوسِ مَالَهُ:
117 - الأَْصْل عَدَمُ تَمْكِينِ الْمُفْلِسِ الْمَحْبُوسِ مِنَ التَّصَرُّفِ بِمَالِهِ أَوْ رَهْنِهِ، فَإِنْ وَقَعَ تَصَرُّفُهُ لَمْ يَبْطُل
__________
(1) المعيار 5 / 184، والمظالم المشتركة لابن تيمية ص 46 - 48.(16/322)
بَل يُوقَفُ عَلَى نَظَرِ الْحَاكِمِ وَالْغُرَمَاءِ. وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَال الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يُمْنَعُ مِنَ الرَّهْنِ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِنَّمَا لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي حَبْسِهِ لِيُضْجِرَهُ فَيُسَارِعَ إِلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ (1) .
مَا يَجِبُ عَلَى الْمُودَعِ إِذَا عَجَزَ عَنْ رَدِّ الْوَدِيعَةِ إِلَى مَالِكِهَا الْمَحْبُوسِ:
118 - إِذَا طَرَأَ عُذْرٌ لِلْمُودَعِ كَسَفَرٍ أَوْ خَوْفِ حَرِيقٍ وَهَدْمٍ رَدَّ الْوَدِيعَةَ إِلَى مَالِكِهَا، فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ مَحْبُوسًا لاَ يَصِل إِلَيْهِ سَلَّمَهَا إِلَى مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ عَادَةً كَزَوْجَتِهِ وَأَجِيرِهِ، وَإِلاَّ دَفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ. فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ أَوْدَعَهَا ثِقَةً وَأَشْهَدَ بَيِّنَةً عَلَى عُذْرِهِ؛ لأَِنَّهُ يَدَّعِي ضَرُورَةً مُسْقِطَةً لِلضَّمَانِ بَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالصَّاحِبَيْنِ، وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا مَا لَمْ يَنْهَهُ (2) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَدِيعَةٌ) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 174، والهداية 3 / 230، والشرح الكبير 3 / 265، وحاشية القليوبي 2 / 285، وغاية المنتهى للكرمي 2 / 126 - 129، وأسنى المطالب 3 / 245، ومنهاج الطالبين 3 / 308، والإنصاف 8 / 392.
(2) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 424، وأسنى المطالب وحاشية الرملي 3 / 76، والهداية 3 / 173، وتبيين الحقائق للزيلعي 5 / 79، والإنصاف 6 / 326 - 329.(16/323)
هِبَةُ الْمَحْبُوسِ الْمَحْكُومِ بِقَتْلِهِ مَالَهُ لِغَيْرِهِ:
119 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْسِيرَ أَوِ الْمَحْبُوسَ عِنْدَ مَنْ عَادَتُهُ الْقَتْل إِذَا وَهَبَ مَالَهُ لِغَيْرِهِ لاَ تَصِحُّ عَطِيَّتُهُ إِلاَّ مِنَ الثُّلُثِ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ مَرَضِ الْمَوْتِ.
تَمْكِينُ الْمَحْبُوسِ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ:
120 - لِلْفُقَهَاءِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ فِي تَمْكِينِ الْمَحْبُوسِ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ فِي الْحَبْسِ إِذَا كَانَ فِيهِ مَوْضِعٌ لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَإِلاَّ مُنِعَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَاسْتَظْهَرَهُ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ قَضَاءِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ فَكَذَا شَهْوَةُ الْفَرْجِ؛ إِذْ لاَ مُوجِبَ لِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْوَطْءِ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَصْلُحَ الْمَوْضِعُ سَكَنًا لِمِثْل الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ (2) .
__________
(1) المغني 6 / 88، وكشاف القناع 4 / 325، والشرح الكبير مع الدسوقي 3 / 306 - 307، وحاشية ابن عابدين 6 / 661، وأسنى المطالب 3 / 38، وحاشية القليوبي 3 / 163 - 164.
(2) المغني 7 / 34 - 35، والهداية 3 / 231، وحاشية ابن عابدين 3 / 432 و 5 / 378، وشرح أدب القاضي للخصاف 2 / 376 - 377، وأسنى المطالب مع حاشية الرملي 2 / 188، 4 / 306، وحاشية القليوبي 3 / 300، وفتح القدير 5 / 471، والفتاوى الهندية 3 / 418 و 5 / 63، والفتاوى البزازية 5 / 225، والبحر الزخار 5 / 139.(16/323)
الْقَوْل الثَّانِي: يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ؛ لأَِنَّ مِنْ غَايَاتِ الْحَبْسِ إِدْخَال الضِّيقِ وَالضَّجَرِ عَلَى قَلْبِهِ لِرَدْعِهِ وَزَجْرِهِ، وَلاَ تَضْيِيقَ مَعَ تَمْكِينِهِ مِنَ اللَّذَّةِ وَالتَّنَعُّمِ وَالتَّرَفُّهِ، وَالْوَطْءُ إِنَّمَا هُوَ لِذَلِكَ، وَلَيْسَ مِنَ الْحَوَائِجِ الأَْصْلِيَّةِ كَالطَّعَامِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَقَوْل بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّ الْمَحْبُوسَ لاَ يُمْنَعُ مِنَ الاِسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ فِي مَكَانٍ لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِذَا حُبِسَ بِحَقِّهَا؛ لأَِنَّهَا إِذَا شَاءَتْ لَمْ تَحْبِسْهُ، فَلاَ تُفَوِّتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ فِي الْوَطْءِ (1) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: الأَْصْل فِي وَطْءِ الْمَحْبُوسِ زَوْجَتَهُ أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِ الْمَشْرُوعَةِ، وَلاَ يُمْنَعُ مِنْهُ إِلاَّ إِذَا اقْتَضَتْ ذَلِكَ الْمَصْلَحَةُ وَرَآهُ الْقَاضِي كَمَا لَوْ رَأَى مَنْعَهُ مِنْ مُحَادَثَةِ الأَْصْدِقَاءِ أَوْ قَفْل بَابِ الْحَبْسِ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْل بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
إِنْفَاقُ الْمَحْبُوسِ عَلَى زَوْجَتِهِ:
121 - لاَ يَمْنَعُ الْحَبْسُ مِنْ إِنْفَاقِ الْمَحْبُوسِ عَلَى زَوْجَتِهِ؛ لأَِنَّهُ وُجِدَ الاِحْتِبَاسُ وَالتَّمْكِينُ مِنْ
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 3 / 281، وتبصرة الحكام 2 / 205، ومعيد النعم للسبكي ص 109، والمواضع السابقة في فتح القدير وحاشية ابن عابدين والفتاوى الهندية والفتاوى البزازية.
(2) حاشية القليوبي 2 / 392، وأسنى المطالب مع حاشية الرملي 2 / 188، 4 / 306، وحاشية الجمل 5 / 346، وحاشية الشبراملسي 4 / 324 طبعة مصطفى البابي الحلبي.(16/324)
جِهَتِهَا، وَمَا تَعَذَّرَ فَهُوَ مِنْ جِهَتِهِ. وَقَدْ فَوَّتَ حَقَّ نَفْسِهِ فَلاَ يَمْنَعُ الْحَبْسُ مِنَ الإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا.
وَنَصَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهُ لاَ نَفَقَةَ لِلزَّوْجَةِ إِذَا حُبِسَ الزَّوْجُ بِحَقِّهَا لِفَوَاتِ التَّمْكِينِ مِنْ قِبَلِهَا. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: لاَ تَسْقُطُ النَّفَقَةُ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مَالٌ وَأَخْفَاهُ عَنْهَا (1) .
إِنْفَاقُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ الْمَحْبُوسَةِ:
122 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ لاَ تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ الْمَحْبُوسَةِ فِي دَيْنٍ وَلَوْ ظُلْمًا بِأَنْ كَانَتْ مُعْسِرَةً لِفَوَاتِ الاِحْتِبَاسِ وَكَوْنِ الاِمْتِنَاعِ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهِ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ إِنْ لَمْ تَكُنْ مُمَاطِلَةً، سَوَاءٌ كَانَ الْحَبْسُ فِي دَيْنِ الزَّوْجِ أَوْ غَيْرِهِ؛ لأَِنَّ الاِمْتِنَاعَ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهَا، وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 360، 390، 578، والشرح الكبير للدردير 2 / 517، والمعيار 3 / 232، وبدائع الصنائع 7 / 175، وغاية المنتهى للكرمي 3 / 231، 239، وأسنى المطالب 3 / 434، وحاشية القليوبي 2 / 290، 4 / 78.
(2) الهداية 2 / 34، وحاشية ابن عابدين 3 / 578، والإنصاف 9 / 381، وغاية المنتهى 3 / 230، وحاشية القليوبي 4 / 78، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 517، وأسنى المطالب 3 / 434.(16/324)
وَفَرَّقَ النَّوَوِيُّ بَيْنَ حَبْسِ الزَّوْجَةِ الْمُقِرَّةِ بِدَيْنٍ فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا وَبَيْنَ حَبْسِ مَنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى اسْتِدَانَتِهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَلْزَمُ الزَّوْجَ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ الْمَحْبُوسَةِ بِسَبَبِ رِدَّتِهَا (1) .
احْتِسَابُ مُدَّةِ حَبْسِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فِي الإِْيلاَءِ:
123 - إِذَا آلَى الزَّوْجُ مِنْ زَوْجَتِهِ وَكَانَ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ حُسِبَتْ عَلَيْهِ الْمُدَّةُ مِنْ حِينِ إِيلاَئِهِ؛ لأَِنَّ الْمَانِعَ مِنْ جِهَتِهِ وَلَيْسَتْ مِنْ جِهَتِهَا. وَإِنْ طَرَأَ الْحَبْسُ بَعْدَ الإِْيلاَءِ لَمْ تَنْقَطِعِ الْمُدَّةُ بَل تُحْسَبُ أَيْضًا، وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (2) .
أَمَّا إِذَا كَانَتْ زَوْجَةُ الْمُولِي مَحْبُوسَةً أَوْ طَرَأَ الْحَبْسُ عَلَيْهَا بَعْدَ الإِْيلاَءِ فَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْفَيْئَةِ، وَلاَ تُحْسَبُ مُدَّةُ الْحَبْسِ مِنْ مُهْلَةِ الأَْشْهُرِ الأَْرْبَعَةِ لِتَعَذُّرِ الْوَطْءِ مِنْ جِهَتِهَا كَالْمَرِيضَةِ، وَتَسْتَأْنِفُ الْمُدَّةَ عِنْدَ زَوَال الْعُذْرِ. وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْقَوْل الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَهُمْ: إِنَّ الْحَبْسَ يُحْتَسَبُ كَالْحَيْضِ (3) .
__________
(1) روضة الطالبين للنووي 4 / 140، والهداية 2 / 38.
(2) المغني 7 / 321، والفتاوى الهندية 1 / 486، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 437، وأسنى المطالب 3 / 355.
(3) الإنصاف 9 / 114، والأم للشافعي 5 / 292، وأسنى المطالب 3 / 355، والشرح الكبير 2 / 435 - 437، وحاشية ابن عابدين 3 / 32.(16/325)
فَيْئَةُ الْمَحْبُوسِ مِنَ الإِْيلاَءِ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوَطْءُ:
124 - الأَْصْل أَنْ تَحْصُل الْفَيْئَةُ مِنَ الإِْيلاَءِ بِالْوَطْءِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (1) . فَإِنْ كَانَ الْمُولِي مَحْبُوسًا وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوَطْءُ فَفَيْئَتُهُ بِلِسَانِهِ كَأَنْ يَقُول: فِئْتُ إِلَيْهَا أَوْ مَتَى قَدَرْتُ فَعَلْتُهُ. يَعْنِي الْوَطْءَ.
وَإِذَا كَانَتِ الْمَحْبُوسَةُ زَوْجَتَهُ يَكُونُ الْفَيْءُ بِالْوَعْدِ بِلِسَانِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ إِذَا زَال الْمَانِعُ، وَهَذَا قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَعِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْمَحْبُوسُ مَظْلُومًا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْخَلاَصِ وَإِلاَّ فَفَيْئَتُهُ بِالْوَطْءِ.
وَقَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لاَ يَكُونُ الْفَيْءُ إِلاَّ بِالْجِمَاعِ فِي حَال الْعُذْرِ وَغَيْرِهِ (2) .
تَأْخِيرُ الْمَحْبُوسِ مُلاَعَنَةَ زَوْجَتِهِ وَنَفْيَهُ الْوَلَدَ:
125 - يُشْتَرَطُ فِي اللِّعَانِ الْفَوْرِيَّةُ وَعَدَمُ تَأْخِيرِ الزَّوْجِ نَفْيَ الْوَلَدِ حَال الْعِلْمِ بِذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ. وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ غَيْرِهِمْ أَنَّ الْحَبْسَ مِنْ أَعْذَارِ تَأْخِيرِ
__________
(1) القوانين الفقهية ص 160، وجواهر الإكليل 1 / 369، والروض الندي للبعلي ص 414، والهداية 2 / 11، ومنهاج الطالبين للنووي 4 / 13.
(2) المغني 7 / 327، والشرح الكبير للدردير 2 / 437، وحاشية ابن عابدين 3 / 432، والفتاوى الهندية 1 / 486، والأم للشافعي 5 / 293، وأسنى المطالب 3 / 355.(16/325)
اللِّعَانِ. فَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْحَبْسِ قَصِيرَةً كَيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَأَخَّرَ الْمَحْبُوسُ نَفْيَهُ لَيْلاً عَنْ أَمَامِ الْحَاكِمِ لَمْ يَسْقُطْ نَفْيُهُ بِالتَّأْخِيرِ. وَإِنْ كَانَتِ الْمُدَّةُ طَوِيلَةً أَرْسَل إِلَى الْحَاكِمِ لِيَبْعَثَ إِلَيْهِ نَائِبًا يُلاَعِنُ عِنْدَهُ.
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ أَشْهَدَ عَلَى نَفْيِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل سَقَطَ نَفْيُهُ وَبَطَل خِيَارُهُ؛ لأَِنَّ عَدَمَ تَصَرُّفِهِ يَتَضَمَّنُ إِقْرَارَهُ بِالنَّسَبِ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ مُصْطَلَحُ: (لِعَانٌ) .
التَّصَرُّفَاتُ الْقَضَائِيَّةُ وَالْحُكْمِيَّةُ الْمُتَّصِلَةُ بِالْمَحْبُوسِ:
خُرُوجُ الْمَحْبُوسِ لِسَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ تَعَذُّرُ ذَلِكَ:
126 - إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى مَحْبُوسٍ حَقًّا يُخْرِجُهُ الْقَاضِي لِسَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَالإِْجَابَةِ عَنْهَا ثُمَّ يَرُدُّهُ إِلَى الْحَبْسِ وَلاَ يُوَكِّل عَنْهُ أَحَدًا فِي الْخُصُومَةِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَى الْمَحْبُوسِ الْخُرُوجُ جَازَ لَهُ اسْتِحْسَانًا تَوْكِيل مَنْ يُجِيبُ عَنْهُ (2) .
__________
(1) الاختيار 3 / 171، والإنصاف 9 / 256، 257، وكفاية الطالب 2 / 90، ومنهاج الطالبين 4 / 37، ومغني المحتاج للشربيني 4 / 32، والمغني 7 / 425، وأسنى المطالب مع حاشية الرملي 3 / 387، وحاشية الدسوقي 2 / 463.
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5 / 378، 512، وروضة الطالبين 4 / 140، وأسنى المطالب 2 / 189، والمغني 9 / 49، والخرشي 5 / 281، وتبصرة الحكام 1 / 304.(16/326)
خُرُوجُ الْمَحْبُوسِ لِلشَّهَادَةِ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ تَعَذُّرُ ذَلِكَ:
127 - إِذَا مُنِعَ الْمَحْبُوسُ مِنَ الْخُرُوجِ لأَِدَاءِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْقَاضِي جَازَ لَهُ اسْتِحْسَانًا تَوْكِيل مَنْ يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ. (1)
127 م - إِجَابَةُ دَعْوَةِ الْمَحْبُوسِ لِلإِْشْهَادِ عَلَى تَصَرُّفِهِ:
نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَحْبُوسَ إِذَا دَعَا رَجُلاً لِيُشْهِدَهُ عَلَى تَصَرُّفِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْجَابَةُ لأَِجْل عُذْرِ الْمَحْبُوسِ وَحَتَّى لاَ تَضِيعَ الْحُقُوقُ. (2)
مَا لاَ يَجُوزُ تَأْدِيبُ الْمَحْبُوسِ بِهِ:
128 - شُرِعَ التَّأْدِيبُ لِلتَّقْوِيمِ وَالإِْصْلاَحِ لاَ الإِْهَانَةِ وَالإِْتْلاَفِ وَاحْتِقَارِ مَعَانِي الآْدَمِيَّةِ، وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ الْمُعَاقَبَةِ لِلْمَحْبُوسِ أَوْ غَيْرِهِ بِعِدَّةِ أُمُورٍ، مِنْهَا:
أ - التَّمْثِيل بِالْجِسْمِ:
129 - لاَ تَجُوزُ الْمُعَاقَبَةُ بِجَدْعِ أَنْفٍ، أَوْ أُذُنٍ، أَوْ
__________
(1) الدر المختار وحاشيته 5 / 499، ولسان الحكام لابن الشحنة 251، وتبصرة الحكام 1 / 304، والإنصاف 12 / 90، والمغني 9 / 207، وحاشية القليوبي 4 / 332.
(2) أسنى المطالب مع حاشيته للرملي 4 / 372، ومنهاج الطالبين مع حاشية القليوبي 4 / 329.(16/326)
اصْطِلاَمِ شَفَةٍ، وَقَطْعِ أَنَامِل، وَكَسْرِ عَظْمٍ، وَلَمْ يُعْهَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدِ الصَّحَابَةِ، وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ التَّأْدِيبُ، وَهُوَ لاَ يَكُونُ بِالإِْتْلاَفِ. (1)
وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّمْثِيل بِالأَْسْرَى فَقَال فِي وَصِيَّتِهِ لأُِمَرَاءِ السَّرَايَا: وَلاَ تُمَثِّلُوا. (2)
ب - ضَرْبُ الْوَجْهِ وَنَحْوِهِ:
130 - لاَ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ التَّأْدِيبُ بِمَا فِيهِ الإِْهَانَةُ وَالْخَطَرُ، كَضَرْبِ الْوَجْهِ وَمَوْضِعِ الْمَقَاتِل، وَكَذَا جَعْل الأَْغْلاَل فِي أَعْنَاقِ الْمَحْبُوسِينَ، وَكَذَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يَمُدَّ الْمَحْبُوسَ عَلَى الأَْرْضِ عِنْدَ ضَرْبِهِ، سَوَاءٌ كَانَ لِلْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. (3)
ج - التَّعْذِيبُ بِالنَّارِ وَنَحْوِهَا:
131 - يَحْرُمُ التَّأْدِيبُ بِإِحْرَاقِ الْجِسْمِ أَوْ بَعْضِهِ بِقَصْدِ الإِْيلاَمِ وَالتَّوْجِيعِ إِلاَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْعُقُوبَةِ فَتَجُوزُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ. وَلاَ يَجُوزُ خَنْقُ الْمَحْبُوسِ وَعَصْرُهُ وَغَطُّهُ فِي الْمَاءِ (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 120، والمغني 8 / 326، والبحر الزخار 5 / 212، والشرح الكبير للدردير 4 / 354.
(2) حديث: " ولا تمثلوا. . . " أخرجه مسلم (3 / 1357 - ط الحلبي) من حديث بريدة الأسلمي.
(3) الفتاوى الهندية 3 / 414.
(4) السياسة الشرعية ص 152، وفتح الباري 6 / 150، والمغني 7 / 119.(16/327)
د - التَّجْوِيعُ وَالتَّعْرِيضُ لِلْبَرْدِ وَنَحْوِهِ:
132 - لاَ يَجُوزُ الْحَبْسُ فِي مَكَانٍ يُمْنَعُ فِيهِ الْمَحْبُوسُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، أَوْ فِي مَكَانٍ حَارٍّ أَوْ تَحْتَ الشَّمْسِ أَوْ فِي مَكَانٍ بَارِدٍ، أَوْ فِي بَيْتٍ تُسَدُّ نَوَافِذُهُ وَفِيهِ دُخَانٌ، أَوْ يُمْنَعُ مِنَ الْمَلاَبِسِ فِي الْبَرْدِ. فَإِنْ مَاتَ الْمَحْبُوسُ فَالدِّيَةُ عَلَى الْحَابِسِ وَقِيل: الْقَوَدُ. (1)
هـ - التَّجْرِيدُ مِنَ الْمَلاَبِسِ:
133 - تَحْرُمُ الْمُعَاقَبَةُ بِالتَّجْرِيدِ مِنَ الثِّيَابِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ. (2)
و الْمَنْعُ مِنَ الْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا:
134 - يَنْبَغِي تَمْكِينُ الْمَحْبُوسِ مِنَ الْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ، وَلاَ تَجُوزُ مُعَاقَبَتُهُ بِالْمَنْعِ مِنْهُمَا. (3)
__________
(1) المغني 7 / 643، وشرح المحلي مع حاشية القليوبي 4 / 97، و 205، والأحكام السلطانية للماوردي ص 239، وحاشية ابن عابدين 2 / 421، وغاية المنتهى للكرمي 3 / 317، والخراج ص 118، 135، والفتاوى الهندية 3 / 414، والتراتيب الإدارية للكتاني 1 / 295، وأسنى المطالب 4 / 4 و 46، والإنصاف 9 / 439.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 239، وحاشية ابن عابدين 4 / 13، 5 / 379، والإنصاف 10 / 248، وتبصرة الحكام 2 / 304.
(3) الشرح الكبير للدردير 3 / 282، وحاشية القليوبي 4 / 205، والإنصاف 10 / 248، والدر المختار مع حاشيته 5 / 378 - 379.(16/327)
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ مَنْعُ الْمَحْبُوسِ مِنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ. (1)
ز - السَّبُّ وَالشَّتْمُ:
135 - لاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ أَوْ غَيْرِهِ التَّأْدِيبُ بِاللَّعْنِ وَالسَّبِّ الْفَاحِشِ وَسَبِّ الآْبَاءِ وَالأُْمَّهَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ التَّأْدِيبُ بِقَوْلِهِ: يَا ظَالِمُ يَا مُعْتَدِي وَنَحْوَهُ. (2)
ح - أُمُورٌ أُخْرَى تَحْرُمُ الْمُعَاقَبَةُ بِهَا:
136 - تَحْرُمُ الْمُعَاقَبَةُ بِالإِْقَامَةِ فِي الشَّمْسِ أَوْ صَبِّ الزَّيْتِ عَلَى الرُّءُوسِ أَوْ حَلْقِ اللِّحْيَةِ وَكَذَا إِغْرَاءُ الْحَيَوَانِ كَالسَّبُعِ وَالْعَقْرَبِ بِالْمَحْبُوسِ لِيُؤْذِيَهُ.
وَسُئِل مَالِكٌ عَنْ تَعْذِيبِ الْمَحْبُوسِ بِالدُّهْنِ وَالْخَنَافِسِ (حَشَرَاتٌ سَوْدَاءُ كَالْجُعْل) فَقَال: لاَ يَحِل هَذَا، إِنَّمَا هُوَ السَّوْطُ أَوِ السِّجْنُ. (3)
وَفِي الْجُمْلَةِ لاَ تَجُوزُ مُعَاقَبَةُ الْمَحْبُوسِ بِقَصْدِ إِتْلاَفِهِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ؛ لأَِنَّ التَّأْدِيبَ لاَ يَكُونُ بِذَلِكَ. (4)
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 3 / 282.
(2) الشرح الكبير 4 / 354، والأحكام السلطانية للماوردي ص 236، وحاشية سعدي جلبي 4 / 212، وغاية المنتهى 3 / 316، وبدائع الصنائع 7 / 64.
(3) الخراج ص 135، وأسنى المطالب 4 / 9، والمغني 7 / 641، والخراج ص 118، وتبصرة الحكام 2 / 147.
(4) المغني 8 / 362، والسياسة الشرعية ص 117، والخرشي 8 / 110، وفتح القدير 5 / 471.(16/328)
إِخْرَاجُ الْمَحْبُوسِ لإِِصَابَتِهِ بِالْجُنُونِ:
137 - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَحْبُوسَ إِذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ وَجُنَّ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْحَبْسِ لِعَدَمِ إِدْرَاكِهِ الضِّيقَ الْمَقْصُودَ مِنْ حَبْسِهِ، وَيَسْتَمِرُّ خُرُوجُهُ إِلَى أَنْ يَعُودَ لَهُ عَقْلُهُ. فَإِنْ عَادَ لَهُ عَقْلُهُ عَادَ لِلْحَبْسِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو بَكْرٍ الإِْسْكَافِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْجُنُونَ لاَ يَمْنَعُ التَّعْزِيرَ - وَالْحَبْسُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ؛ لأَِنَّ الْغَايَةَ مِنْهُ التَّأْدِيبُ وَالزَّجْرُ، فَإِنْ تَعَطَّل جَانِبُ التَّأْدِيبِ بِالْجُنُونِ فَلاَ يَنْبَغِي تَعَطُّل جَانِبِ الزَّجْرِ مَنْعًا لِلْغَيْرِ. (1)
هُرُوبُ الْمَحْبُوسِ:
138 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ غَيْرُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ السَّجَّانَ وَنَحْوَهُ مِمَّنْ اسْتُحْفِظَ عَلَى بَدَنِ الْمَحْبُوسِ الْمَدِينِ بِمَنْزِلَةِ كَفِيل الْوَجْهِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِحْضَارُهُ لِلْخُصُومَةِ، فَإِنْ أَطْلَقَهُ وَتَعَذَّرَ إِحْضَارُهُ ضَمِنَ مَا عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ هَرَبَ يُحْضِرُهُ الدَّائِنُ.
وَإِذَا أَرَادَ الْمَحْبُوسُ الْهَرَبَ وَهَجَمَ عَلَى حَارِسِهِ لِيُؤْذِيَهُ فَإِنَّهُ يُعَامِلُهُ كَالصَّائِل، وَقَدْ ذَكَرَ
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 282، وبدائع الصنائع 7 / 63 - 64، وحاشية ابن عابدين 5 / 378 و 426، وأسنى المطالب مع حاشية الرملي 2 / 189، 306، وحاشية القليوبي 3 / 260، والبحر الزخار 5 / 82.(16/328)
الْفُقَهَاءُ أَنَّ الصَّائِل يُوعَظُ وَيُزْجَرُ وَيُخَوَّفُ وَيُنَاشَدُ بِاللَّهِ لَعَلَّهُ يَكُفُّ عَنِ الأَْذَى وَالْعُدْوَانِ. فَإِنْ لَمْ يَنْكَفَّ وَأَرَادَ نَفْسَ الْحَارِسِ أَوْ مَالَهُ فَيَدْفَعُهُ بِأَسْهَل مَا يَعْلَمُ دَفْعَهُ بِهِ كَالضَّرْبِ وَنَحْوِهِ. فَإِنْ لَمْ يَحْصُل إِلاَّ بِالْقَتْل فَلَهُ ذَلِكَ وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْمَصُول عَلَيْهِ جَرْحُ الصَّائِل إِنْ قَدَرَ عَلَى الْهَرَبِ مِنْهُ بِلاَ مَشَقَّةٍ تَلْحَقُهُ؛ ارْتِكَابًا لأَِخَفِّ الضَّرَرَيْنِ.
وَقَدْ قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي جُنْدٍ قَاتَلُوا عَرَبًا نَهَبُوا أَمْوَال تُجَّارٍ لِيَرُدُّوهُ إِلَيْهِمْ: هُمْ مُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل اللَّهِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِمْ بِقَوَدٍ وَلاَ دِيَةٍ وَلاَ كَفَّارَةٍ. وَقَال ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لاَ يَسْقُطُ الأَْمْرُ عَنِ الْجُنْدِيِّ بِظَنِّهِ أَنَّهُ لاَ يُفِيدُ. (1)
صِفَاتُ السَّجَّانِ وَنَحْوِهِ:
أ - الأَْمَانَةُ:
139 - الأَْمَانَةُ هِيَ الثِّقَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ مِنْ صِفَاتِ السَّجَّانِ كَوْنَهُ ثِقَةً لِيُحَافِظَ عَلَى الْمَحْبُوسِينَ وَيُتَابِعَ أَحْوَالَهُمْ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 299، وتبصرة الحكام 2 / 349، والفتاوى لابن تيمية 29 / 56، وغاية المنتهى 2 / 109، وحاشية القليوبي 206 - 207، 302، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 4 / 357، والإنصاف 10 / 303، وأسنى المطالب 4 / 167، والفروع لابن مفلح 6 / 147.
(2) القاموس المحيط، والمصباح المنير: مادة: (وثق) وانظر الخراج ص 162.(16/329)
ب - الْكِيَاسَةُ:
140 - الْكِيَاسَةُ هِيَ الْعَقْل وَالْفِطْنَةُ وَذَكَاءُ الْقَلْبِ، وَقَدْ جَاءَتْ هِيَ وَالَّتِي قَبْلَهَا فِي قَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلاَ تَرَانِي كَيِّسًا مُكَيِّسًا بَنَيْتُ بَعْدَ نَافِعٍ مُخَيِّسًا بَابًا حَصِينًا وَأَمِينًا كَيِّسًا. وَالأَْمِينُ وَالْكَيِّسُ صِفَتَانِ لِلسَّجَّانِ (1) .
ح - الصَّلاَحُ:
141 - يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُبَاشِرُ الْحَبْسِ مَعْرُوفًا بِالْخَيْرِ وَالصَّلاَحِ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي مُبَاشِرِ سِجْنِ النِّسَاءِ. (2)
د - الرِّفْقُ:
142 - مِنْ صِفَاتِ السَّجَّانِ الرِّفْقُ بِالْمَحْبُوسِينَ لِئَلاَّ يَظْلِمَهُمْ وَيَمْنَعَهُمْ مِمَّا لاَ يَقْتَضِيهِ الْحَبْسُ. (3)
هـ - اللِّيَاقَةُ الْبَدَنِيَّةُ:
143 - اسْتَعْمَل عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْمًا مِنَ
__________
(1) الصحاح، والقاموس، والمصباح، والمعجم الوسيط: مادة (كيس) و (ظرف) وانظر حاشية ابن عابدين 5 / 377، وفتح القدير 5 / 471.
(2) الخراج ص 162، وحاشية الدسوقي 3 / 280، والمدونة 5 / 206، والفتاوى الهندية 5 / 414.
(3) معيد النعم للسبكي ص 142.(16/329)
السَّبَابِجَةِ فِي حِرَاسَةِ السُّجُونِ، وَكَانُوا قَدْ اسْتَوْطَنُوا الْبَصْرَةَ وَعُرِفُوا بِقُوَّةِ أَجْسَامِهِمْ. (1)
مُرَاقَبَةُ الدَّوْلَةِ السُّجُونَ وَإِصْلاَحُهَا.
144 - ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْبَغِي تَتَبُّعُ الْمَحْبُوسِينَ وَالنَّظَرُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ كَلَلٍ وَلاَ تَقْصِيرٍ وَاتِّبَاعُ الْعَدْل مَعَهُمْ وَعَدَمُ الاِعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ. وَالْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَوَّل عَمَلٍ يَبْدَؤُهُ الْقَاضِي - حِينَ تَوَلِّيهِ الْقَضَاءَ - النَّظَرُ فِي السُّجُونِ وَالْبَحْثُ فِي أَحْوَال الْمَحْبُوسِينَ. بَل ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى وُجُوبِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْحَبْسَ عَذَابٌ فَيُقَدَّمُ عَلَى مَا سِوَاهُ. وَقَالُوا: لاَ يَحْتَاجُ فِي تَصَفُّحِ أَحْوَالِهِمْ إِلَى مُتَظَلِّمٍ إِلَيْهِ لِعَجْزِ الْمَحْبُوسِينَ عَنْ ذَلِكَ. (2)
__________
(1) لسان العرب مادة (سبج) والمعرب للجواليقي ص 183.
(2) الخراج 63، وجواهر الإكليل 2 / 223، وأسنى المطالب 4 / 294، وشرح المحلي على المنهاج 4 / 301، وأدب القضاء لابن أبي الدم ص 72 - 77، والمغني 9 / 47 - 48، وغاية المنتهى للكرمي 3 / 419، والدر المختار وحاشيته 5 / 370، وتبصرة الحكام 1 / 40، والشرح الكبير للدردير 4 / 138، والهداية 3 / 82، وأدب القاضي للماوردي 1 / 221.(16/330)
حَبَل الْحَبَلَةِ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَبَل بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ: مَصْدَرُ: حَبِلَتِ الْمَرْأَةُ تَحْبَل وَيُسْتَعْمَل لِكُل بَهِيمَةٍ تَلِدُ إِذَا حَمِلَتْ بِالْوَلَدِ، وَالْوَصْفُ: حُبْلَى وَالْجَمْعُ حُبْلَيَاتٌ، وَحَبَالَى.
وَالْحَبَلَةُ: جَمْعُ حَابِلَةٍ بِالتَّاءِ.
قَال أَبُو عُبَيْدٍ: حَبَل الْحَبَلَةِ: وَلَدُ الْجَنِينِ الَّذِي فِي بَطْنِ النَّاقَةِ وَلِهَذَا قِيل: (الْحَبَلَةُ) بِالْهَاءِ لأَِنَّهَا أُنْثَى، فَإِذَا وَلَدَتْ فَوَلَدُهَا (حَبَلٌ) بِغَيْرِ هَاءٍ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ نِتَاجُ النِّتَاجِ، بِأَنْ تَسْتَوْلِدَ الدَّابَّةَ، ثُمَّ تَسْتَوْلِدَ ابْنَتَهَا. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَلاَقِيحُ:
2 - وَهِيَ مَا فِي بُطُونِ الأُْمَّهَاتِ مِنَ الأَْجِنَّةِ.
__________
(1) المصباح المنير، والقاموس، وتاج العروس، واللسان مادة: (حبل) .
(2) فتح الباري 4 / 358، ونهاية المحتاج 3 / 448، والمغني 4 / 230، ومواهب الجليل 4 / 363، وحاشية الطحطاوي 3 / 64.(16/330)
الْمَضَامِينُ: 3 - وَهِيَ مَا فِي أَصْلاَبِ الْفُحُول
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ بَيْعَ حَبَل الْحَبَلَةِ حَرَامٌ وَالْعَقْدَ بَاطِلٌ. (1)
لِحَدِيثِ: ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَال: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَنْ بَيْعِ حَبَل الْحَبَلَةِ (2) . وَكَانَ - كَمَا قَال ابْنُ عُمَرَ - بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ: كَانَ الرَّجُل يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتِجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتِجَ الَّتِي فِي بَطْنِهَا.
الْمَعْنَى الْمَنْهِيُّ عَنْهُ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَعْنَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ لاِخْتِلاَفِ الرِّوَايَاتِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ: بَيْعُ مَا سَوْفَ يَحْمِلُهُ الْحَمْل بَعْدَ أَنْ يُولَدَ وَيَحْمِل وَيَلِدَ وَهُوَ نِتَاجُ النِّتَاجِ.
وَسَبَبُ النَّهْيِ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ: أَنَّهُ بَيْعُ مَعْدُومٍ وَغَيْرِ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ،
وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْمَعْنَى الْمَنْهِيَّ
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 356 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1153 - ط الحلبي) .(16/331)
عَنْهُ هُوَ بَيْعُ الْجَزُورِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِلَى أَنْ تُنْتِجَ النَّاقَةُ، وَتُنْتِجَ الَّتِي فِي بَطْنِهَا، وَسَبَبُ النَّهْيِ هُوَ: أَنَّهُ بَيْعٌ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ. وَكِلاَ الْبَيْعَيْنِ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ بِكُلٍّ مِنَ التَّفْسِيرَيْنِ، وَحَكَمُوا بِفَسَادِ الْبَيْعِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا لِلسَّبَبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ. (1)
حُبْلَى
انْظُرْ: حَامِلٌ.
حَتْمٌ
انْظُرْ: حُكْمٌ.
__________
(1) حاشية الطحطاوي 3 / 64، وكشاف القناع 3 / 166، والمغني 4 / 230 - 231، ونهاية المحتاج 3 / 448، والأم للشافعي 3 / 118، ومواهب الجليل 4 / 363.(16/331)
حِجَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحِجَابُ فِي اللُّغَةِ: السَّتْرُ، وَهُوَ مَصْدَرٌ يُقَال حَجَبَ الشَّيْءَ يَحْجُبُهُ حَجْبًا وَحِجَابًا: أَيْ سَتَرَهُ، وَقَدِ احْتَجَبَ وَتَحَجَّبَ إِذَا اكْتَنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ.
وَالْحِجَابُ اسْمُ مَا احْتُجِبَ بِهِ، وَكُل مَا حَال بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَهُوَ حِجَابٌ.
وَالْحِجَابُ كُل مَا يَسْتُرُ الْمَطْلُوبَ وَيَمْنَعُ مِنَ الْوُصُول إِلَيْهِ كَالسِّتْرِ وَالْبَوَّابِ وَالْجِسْمِ وَالْعَجْزِ وَالْمَعْصِيَةِ.
: وقَوْله تَعَالَى {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} (1) ، مَعْنَاهُ: وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حَاجِزٌ فِي النِّحْلَةِ وَالدِّينِ.
وَالأَْصْل فِي الْحِجَابِ أَنَّهُ جِسْمٌ حَائِلٌ بَيْنَ جَسَدَيْنِ.
وَقَدِ اسْتُعْمِل فِي الْمَعَانِي، فَقِيل: الْعَجْزُ
__________
(1) سورة فصلت / 5.(17/5)
حِجَابٌ بَيْنَ الإِْنْسَانِ وَمُرَادِهِ، وَالْمَعْصِيَةُ حِجَابٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ الَّذِي هُوَ السَّتْرُ وَالْحَيْلُولَةُ (2) .
وَالْحَاجِبُ يَأْتِي بِمَعْنَى الْمَانِعِ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْعَظْمِ الَّذِي فَوْقَ الْعَيْنِ بِلَحْمِهِ وَشَعْرِهِ. وَيُنْظَرُ مَا يَتَّصِل بِهِمَا مِنْ أَحْكَامٍ فِي مُصْطَلَحِ: (حَاجِبٌ) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْخِمَارُ:
2 - الْخِمَارُ مِنَ الْخَمْرِ وَأَصْلُهُ السَّتْرُ، وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ (3) وَكُل مَا يَسْتُرُ شَيْئًا فَهُوَ خِمَارُهُ.
لَكِنَّ الْخِمَارَ صَارَ فِي التَّعَارُفِ اسْمًا لِمَا تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْخِمَارِ فِي بَعْضِ الإِْطْلاَقَاتِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَيُعَرِّفُهُ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، والكليات للكفوي والتعريفات للجرجاني.
(2) فتح القدير 6 / 463، ونشر دار إحياء التراث، وقليوبي 3 / 16، وروضة الطالبين 8 / 54، وكشاف القناع 1 / 491 - 492، وشرح غريب المهذب لابن بطال 2 / 27.
(3) حديث: " خمروا آنيتكم ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 88 - ط السلفية) من حديث جابر بن عبد الله.(17/5)
بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ مَا يَسْتُرُ الرَّأْسَ وَالصُّدْغَيْنِ أَوِ الْعُنُقَ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحِجَابِ وَالْخِمَارِ أَنَّ الْحِجَابَ سَاتِرٌ عَامٌّ لِجِسْمِ الْمَرْأَةِ، أَمَّا الْخِمَارُ فَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ مَا تَسْتُرُ بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا.
النِّقَابُ:
3 - النِّقَابُ - بِكَسْرِ النُّونِ - مَا تَنْتَقِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ، يُقَال انْتَقَبَتِ الْمَرْأَةُ وَتَنَقَّبَتْ غَطَّتْ وَجْهَهَا بِالنِّقَابِ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحِجَابِ وَالنِّقَابِ، أَنَّ الْحِجَابَ سَاتِرٌ عَامٌّ، أَمَّا النِّقَابُ فَسَاتِرٌ لِوَجْهِ الْمَرْأَةِ فَقَطْ
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - لِلَفْظِ الْحِجَابِ إِطْلاَقَانِ:
أَحَدُهُمَا: اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحِسِّيَّاتِ، وَهُوَ الْجِسْمُ الَّذِي يَحُول بَيْنَ شَيْئَيْنِ.
وَالثَّانِي: اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعَانِي، وَهُوَ الأَْمْرُ الْمَعْنَوِيُّ الَّذِي يَحُول دُونَ الْوُصُول إِلَى الْمَطْلُوبِ.
وَتَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُ فِي كُل ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ مَوَاضِعِهِ.
__________
(1) المصباح المنير والقاموس المحيط ولسان العرب، والمفردات للراغب وكفاية الطالب الرباني 1 / 151، والمجموع 1 / 171.
(2) القاموس المحيط والمصباح المنير ولسان العرب.(17/6)
أَوَّلاً: اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحِسِّيَّاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَلِي:
1 - الْحِجَابُ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَوْرَةِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ حَجْبِ عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُل الْبَالِغَيْنِ بِسَتْرِهَا عَنْ نَظَرِ الْغَيْرِ الَّذِي لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا.
وَعَوْرَةُ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهَا حَجْبُهَا عَنْ الأَْجْنَبِيِّ هِيَ فِي الْجُمْلَةِ جَمِيعُ جَسَدِهَا عَدَا الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَحْرَمِ مِنَ الرِّجَال مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالرَّأْسَ وَالْعُنُقَ وَالذِّرَاعَ، قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَمَا عَدَا الصَّدْرَ وَالسَّاقَيْنِ، وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: مَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِمِثْلِهَا مِنَ النِّسَاءِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ.
وَعَوْرَةُ الرَّجُل الَّتِي يَجِبُ حَجْبُهَا عَنِ الْغَيْرِ هِيَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ مَعَ الاِخْتِلاَفِ فِي حَجْبِ الْفَخِذِ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عَوْرَةٌ) .
وَالدَّلِيل عَلَى وُجُوبِ حَجْبِ الْعَوْرَةِ عَمَّنْ لاَ يَحِل لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا قَوْله تَعَالَى: {قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا (1) } . . . الآْيَةَ.
وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِسْمَاءِ: يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا
__________
(1) سورة النور / 30.(17/6)
بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلاَّ هَذَا وَهَذَا وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ (1) .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَال: عَوْرَةُ الرَّجُل مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ (2) وَوُجُوبُ حَجْبِ الْعَوْرَةِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمَا يَحُول بَيْنَ النَّاظِرِ وَلَوْنِ الْبَشَرَةِ أَوْ حَجْمِ الأَْعْضَاءِ.
وَكَمَا يَجِبُ حَجْبُ الْعَوْرَةِ عَنْ نَظَرِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ - وَقِيل يَجِبُ - حَجْبُهَا فِي الْخَلْوَةِ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
هَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ أَنَّهُ لاَ حِجَابَ بَيْنَ الرَّجُل وَزَوْجَتِهِ.
فَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ: عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَال: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: إِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؟
__________
(1) حديث: " يا أسماء: إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح. . . " أخرجه أبو داود (4 / 358 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من طريق خالد بن دريك عن عائشة به. وقال أبو داود: " هذا مرسل، خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها ".
(2) حديث: " عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته " أورده ابن حجر في التلخيص (1 / 279 - ط شركة الطباعة الفنية) وعزاه إلى الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث أبي سعيد، ثم قال: " وفيه شيخ الحارث: داود بن المحبر، رواه عن عباد بن كثير عن أبي عبد الله الشامي عن عطاء عنه، وهو سلسلة ضعفاء ".(17/7)
قَال: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لاَ يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلاَ يَرَيَنَّهَا، قَال: قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ إِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَال: اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ (1) .
وَالصَّغِيرَةُ إِنْ كَانَتْ بِنْتَ سَبْعِ سِنِينَ إِلَى تِسْعٍ فَعَوْرَتُهَا الَّتِي يَجِبُ حَجْبُهَا هِيَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَل مِنْ سَبْعِ سِنِينَ فَلاَ حُكْمَ لِعَوْرَتِهَا، وَهَذَا كَمَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ.
كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنَ الْمُرَاهِقِ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لاَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا فَلاَ بَأْسَ مِنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِْرْبَةِ مِنَ الرِّجَال أَوِ الطِّفْل الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} (2) .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ وُجُوبِ حَجْبِ الْعَوْرَةِ إِبَاحَةُ
__________
(1) حديث: " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك " أخرجه أبو داود (4 / 304 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (5 / 99 - ط الحلبي) وحسنه الترمذي.
(2) سورة النور / 31.(17/7)
كَشْفِهَا لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ كَالتَّدَاوِي وَالْخِتَانِ وَالشَّهَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (1) .
فَعَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ قَال: كُنْتُ مِنْ سَبْيِ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَكَانُوا يَنْظُرُونَ، فَمَنْ أَنْبَتَ الشَّعْرَ قُتِل، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ لَمْ يُقْتَل، فَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يُنْبِتْ (2) .
وَفِي كُل مَا سَبَقَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَوْرَةٌ) .
2 - الاِحْتِجَابُ أَثْنَاءَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ:
6 - يُسْتَحَبُّ لِقَاضِي الْحَاجَةِ فِي الْفَضَاءِ أَنْ يَسْتَتِرَ عَنْ أَعْيَنِ النَّاسِ بِحَيْثُ لاَ يَرَى جِسْمَهُ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْعَوْرَةِ فَيَجِبُ حَجْبُهَا، فَإِنْ وَجَدَ حَائِطًا أَوْ كَثِيبًا أَوْ شَجَرَةً اسْتَتَرَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا أَبْعَدَ حَتَّى لاَ يَرَاهُ أَحَدٌ (3) ، لِمَا رُوِيَ عَنْ
__________
(1) البدائع 5 / 118 إلى 124، وابن عابدين 1 / 271 - 272 و 5 / 235 - 238 وأشباه بن نجيم ص 323 وحاشية الدسوقي 1 / 213 - 214 - 215 وجواهر الإكليل 1 / 41، ونهاية المحتاج 6 / 184 إلى 191 وقليوبي 1 / 177 ومغني المحتاج 3 / 128 - 131 والمهذب 2 / 35 والمغني 6 / 553 - 560 و 1 / 578، وشرح منتهى الإرادات 3 / 4 - 7 والإنصاف 8 / 19 - 28.
(2) حديث: " عطية القرظي قال: كنت من سبي بني قريظة، فكانوا. . . . " أخرجه أبو داود (4 / 561 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (3 / 145 - ط الحلبي) وصححه.
(3) الدسوقي 1 / 106 والمهذب 1 / 33، والمغني 1 / 163 - 164.(17/8)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ أَنْ يَجْمَعَ كَثِيبًا مِنَ الرَّمَل فَلْيَسْتَدْبِرْهُ (1) وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (اسْتِنْجَاءٌ) .
3 - الْحِجَابُ الَّذِي يَمْنَعُ الاِقْتِدَاءَ بِالإِْمَامِ فِي الصَّلاَةِ:
7 - مِنْ شَرَائِطِ الاِقْتِدَاءِ أَنْ لاَ يَحُول بَيْنَ الْمَأْمُومِ وَالإِْمَامِ مَا يَمْنَعُ مُتَابَعَتَهُ. فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الإِْمَامِ وَالْمَأْمُومِ جِدَارٌ لاَ بَابَ فِيهِ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا بَابٌ مُغْلَقٌ يَحُول مِنَ الْمُتَابَعَةِ لَمْ يَصِحَّ الاِقْتِدَاءُ، لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا لِنِسَاءٍ كُنَّ يُصَلِّينَ فِي حُجْرَتِهَا: لاَ تُصَلِّينَ بِصَلاَةِ الإِْمَامِ فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ (2) ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي (اقْتِدَاءٌ) .
4 - الطَّلاَقُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ:
8 - مَنْ خَاطَبَ زَوْجَتَهُ بِالطَّلاَقِ وَهُوَ يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً بِأَنْ كَانَتْ فِي ظُلْمَةٍ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَقَعَ الطَّلاَقُ، كَمَا جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ، لأَِنَّهُ أَتَى بِاللَّفْظِ عَنْ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ، وَعَدِمَ رِضَاهُ بِوُقُوعِهِ
__________
(1) حديث: " من أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد. . . . " أخرجه أبو داود (1 / 33 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة، وأعله ابن حجر بجهالة أحد رواته كما في التلخيص (1 / 103 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) لمهذب 1 / 107، ومغني المحتاج 1 / 251، وكشاف القناع 1 / 491 - 492 والبدائع 1 / 145.(17/8)
لِظَنِّهِ أَنَّهُ لاَ يَقَعُ لاَ أَثَرَ لَهُ لِخَطَأِ ظَنِّهِ، وَقَال النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: تُطْلَقُ عِنْدَ الأَْصْحَابِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ لإِِمَامِ الْحَرَمَيْنِ (1) وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (طَلاَقٌ) .
5 - احْتِجَابُ الْقَاضِي:
9 - لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْتَجِبَ عَنِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ إِلاَّ فِي أَوْقَاتِ اسْتِرَاحَتِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا فَاحْتَجَبَ دُونَ خَلَّتِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ وَفَاقَتِهِمُ احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ خَلَّتِهِ وَفَاقَتِهِ وَحَاجَتِهِ وَفَقْرِهِ (2) .
وَكَرِهَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ يَتَّخِذَ الْقَاضِي حَاجِبًا، لأَِنَّ حَاجِبَهُ رُبَّمَا قَدَّمَ الْمُتَأَخِّرَ وَأَخَّرَ الْمُتَقَدِّمَ، فَإِنْ دَعَتْ حَاجَةٌ إِلَى ذَلِكَ اتَّخَذَ أَمِينًا بَعِيدًا مِنَ الطَّمَعِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَتَّخِذَ الْقَاضِي حَاجِبًا لِمَنْعِ دُخُول مَنْ لاَ حَاجَةَ لَهُ وَتَأْخِيرِ مَنْ جَاءَ بَعْدُ حَتَّى يَفْرُغَ السَّابِقُ مِنْ قَضِيَّتِهِ.
أَمَّا الأَْمِيرُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ حَاجِبًا، لأَِنَّهُ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 288، والروضة 8 / 54.
(2) حديث: " من ولي أمر الناس شيئا فاحتجب دون. . . . " أخرجه أبو داود (3 / 357 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (4 / 94 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي مريم الأذري، واللفظ للحاكم، وقد صححه ووافقه الذهبي.(17/9)
يَنْظُرُ فِي جَمِيعِ الْمَصَالِحِ فَتَدْعُوهُ الْحَاجَةُ إِلَى أَنْ يَجْعَل لِكُل مَصْلَحَةٍ وَقْتًا لاَ يَدْخُل فِيهِ أَحَدٌ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (حَاجِبٌ)
6 - الشَّهَادَةُ بِالسَّمَاعِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ:
10 - مُدْرَكُ الْعِلْمِ الَّذِي تَقَعُ بِهِ الشَّهَادَةُ الرُّؤْيَةُ وَالسَّمَاعُ، وَالرُّؤْيَةُ تَكُونُ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مِنَ الأَْفْعَال كَالْجِنَايَةِ وَالْغَصْبِ وَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُدْرَكُ بِالْعَيْنِ، لأَِنَّهَا لاَ تُدْرَكُ إِلاَّ بِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُقُودِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَل لاَ بُدَّ مِنَ الرُّؤْيَةِ وَالسَّمَاعِ؟ أَمْ يَكْفِي السَّمَاعُ فَقَطْ؟ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَكْفِي السَّمَاعُ إِذَا عُرِفَ الْقَائِل وَتُحُقِّقَ أَنَّهُ كَلاَمُهُ جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: لَوْ سَمِعَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَثِيفٍ لاَ يَشِفُّ مِنْ وَرَائِهِ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَوْ شَهِدَ وَفَسَّرَهُ لِلْقَاضِي بِأَنْ قَال: سَمِعْتُهُ بَاعَ وَلَمْ أَرَ شَخْصَهُ حِينَ تَكَلَّمَ لاَ يَقْبَلُهُ، لأَِنَّ النَّغْمَةَ تُشْبِهُ النَّغْمَةَ، إِلاَّ إِذَا أَحَاطَ بِعِلْمِ ذَلِكَ، لأَِنَّ الْمُسَوِّغَ هُوَ الْعِلْمُ غَيْرَ أَنَّ رُؤْيَتَهُ مُتَكَلِّمًا بِالْعَقْدِ طَرِيقُ الْعِلْمِ، فَإِذَا فُرِضَ تَحَقُّقُ طَرِيقٍ آخَرَ جَازَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ دَخَل الْبَيْتَ فَرَآهُ فِيهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ وَلاَ مَنْفَذَ غَيْرُ الْبَابِ، وَهُوَ قَدْ جَلَسَ عَلَيْهِ وَسَمِعَ الإِْقْرَارَ أَوِ الْبَيْعَ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ
__________
(1) الدسوقي 4 / 138، والمهذب 2 / 293 - 294، 295 ونهاية المحتاج 8 / 241، وكشاف القناع 6 / 313 والمغني 9 / 46.(17/9)
يَجُوزُ لَهُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِمَا سَمِعَ، لأَِنَّهُ حَصَل بِهِ الْعِلْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ (1) .
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلاَ بُدَّ مِنَ الرُّؤْيَةِ مَعَ السَّمَاعِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
كَمَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ إِنْسَانٌ عَلَى مُنْتَقِبَةٍ حَتَّى تَكْشِفَ عَنْ وَجْهِهَا لِيَشْهَدَ عَلَى عَيْنِهَا وَوَصْفِهَا لِتَتَعَيَّنَ لأَِدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا وَذَلِكَ لاَ يَكُونُ مَعَ الاِنْتِقَابِ (2) ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (شَهَادَةٌ) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل مَا تُقْبَل فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالسَّمَاعِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَسَامُعٌ) .
ثَانِيًا: اسْتِعْمَال الْحِجَابِ فِي الْمَعَانِي:
11 - يُسْتَعْمَل لَفْظُ الْحِجَابِ مَجَازًا فِي الْمَعَانِي وَذَلِكَ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ وَقَال لَهُ:. . . وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ (3) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ: قَوْلُهُ (حِجَابٌ) أَيْ لَيْسَ لَهَا
__________
(1) فتح القدير 6 / 462، ونشر إحياء التراث، والدسوقي 4 / 193 - 194، وابن عابدين 4 / 373، والمغني 9 / 158 - 159.
(2) ابن عابدين 4 / 373، والدسوقي 4 / 194، ومغني المحتاج 4 / 446 - 447، والمغني 9 / 159 - 160.
(3) حديث: " اتق دعوة المظلوم. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 357 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عباس.(17/10)
صَارِفٌ يَصْرِفُهَا وَلاَ مَانِعٌ وَالْمُرَادُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى حِجَابًا يَحْجُبُهُ عَنِ النَّاسِ، وَقَال الطِّيبِيُّ: لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ تَعْلِيلٌ لِلاِتِّقَاءِ وَتَمْثِيلٌ لِلدُّعَاءِ كَمَنْ يَقْصِدُ دَارَ السُّلْطَانِ مُتَظَلِّمًا فَلاَ يُحْجَبُ (1) .
وَقَال الْحَافِظُ الْعَلاَئِيُّ: الْمُرَادُ بِالْحَاجِبِ وَالْحِجَابِ نَفْيُ عَدَمِ إِجَابَةِ دُعَاءِ الْمَظْلُومِ ثُمَّ اسْتَعَارَ الْحِجَابَ لِلرَّدِّ، فَكَانَ نَفْيُهُ دَلِيلاً عَلَى ثُبُوتِ الإِْجَابَةِ، وَالتَّعْبِيرُ بِنَفْيِ الْحِجَابِ أَبْلَغُ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالْقَبُول، لأَِنَّ الْحِجَابَ مِنْ شَأْنِهِ الْمَنْعُ مِنَ الْوُصُول إِلَى الْمَقْصُودِ فَاسْتُعِيرَ نَفْيُهُ لِعَدَمِ الْمَنْعِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ وَلاَ حِجَابٌ يَحْجُبُهُ.
2 - الْحَجْبُ فِي الْمِيرَاثِ:
12 - الْحَجْبُ فِي الْمِيرَاثِ مَعْنَاهُ شَرْعًا: مَنْعُ مَنْ قَامَ بِهِ سَبَبُ الإِْرْثِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ مِنْ أَوْفَرِ حَظَّيْهِ، وَيُسَمَّى الأَْوَّل حَجْبَ حِرْمَانٍ، وَالثَّانِي حَجْبَ نُقْصَانٍ.
وَحَجْبُ الْحِرْمَانِ قِسْمَانِ، حَجْبٌ بِالْوَصْفِ وَيُسَمَّى مَنْعًا كَالْقَتْل وَالرِّقِّ، وَيُمْكِنُ دُخُولُهُ
__________
(1) فتح الباري 3 / 357 - 359 - 360.(17/10)
عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ. وَحَجْبٌ بِالشَّخْصِ أَوِ الاِسْتِغْرَاقِ، كَالأَْخِ لأَِبَوَيْنِ أَوْ لأَِبٍ يَحْجُبُهُ الأَْبُ وَالاِبْنُ وَابْنُ الاِبْنِ.
وَحَجْبُ النُّقْصَانِ كَحَجْبِ الْوَلَدِ الزَّوْجَ مِنَ النِّصْفِ إِلَى الرُّبُعِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي (إِرْثٌ - حَاجِبٌ) .
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 11.(17/11)
حِجَازٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحِجَازُ لُغَةً مِنَ الْحَجْزِ، وَهُوَ الْفَصْل بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. قَال الأَْزْهَرِيُّ: الْحَجْزُ أَنْ يَحْجِزَ بَيْنَ مُتَقَاتِلَيْنِ، وَالْحِجَازُ الاِسْمُ وَكَذَا الْحَاجِزُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَل بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} (1) أَيْ حِجَازًا بَيْنَ مَاءٍ مِلْحٍ وَمَاءٍ عَذْبٍ لاَ يَخْتَلِطَانِ، وَذَلِكَ الْحِجَازُ قُدْرَةُ اللَّهِ (2) .
وَيُقَال لِلْجِبَال أَيْضًا حِجَازٌ، أَيْ لأَِنَّهَا تَحْجِزُ بَيْنَ أَرْضٍ وَأَرْضٍ.
وَالْحِجَازُ الْبَلَدُ الْمَعْرُوفُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ مِنَ الْحَجْزِ الَّذِي هُوَ الْفَصْل بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، قِيل: لأَِنَّهُ فَصَل بَيْنَ الْغَوْرِ (أَيْ تِهَامَةَ) وَالشَّامِ وَالْبَادِيَةِ.
وَقِيل: لأَِنَّهُ فَصَل بَيْنَ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ. وَقَال الأَْزْهَرِيُّ: سُمِّيَ حِجَازًا لأَِنَّ الْحِرَارَ حَجَزَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَالِيَةِ نَجْدٍ (3) . وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ اللُّغَوِيِّينَ فِي بَيَانِ مَا
__________
(1) سورة النمل / 61.
(2) لسان العرب (حجز) .
(3) لسان العرب أيضا (حجز) .(17/11)
يَدْخُل تَحْتَ اسْمِ الْحِجَازِ وَبَيَانِ حُدُودِهِ، فَقَال يَاقُوتٌ الْحَمَوِيُّ: الْحِجَازُ الْجَبَل الْمُمْتَدُّ الَّذِي حَال بَيْنَ الْغَوْرِ، غَوْرِ تِهَامَةَ، وَنَجْدٍ، ثُمَّ نَقَل عَنْ الأَْصْمَعِيِّ الْحِجَازُ مِنْ تُخُومِ صَنْعَاءَ مِنْ الْعَبْلاَءِ وَتَبَالَةَ إِلَى تُخُومِ الشَّامِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْل هِشَامٍ الْكَلْبِيِّ إِنَّ جَبَل السَّرَاةِ مِنْ قُعْرَةِ الْيَمَنِ إِلَى أَطْرَافِ بَوَادِي الشَّامِ سَمَّتْهُ الْعَرَبُ حِجَازًا، فَصَارَ مَا خَلْفَهُ إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ غَوْرَ تِهَامَةَ، وَمَا دُونَهُ فِي شَرْقِيِّهِ إِلَى أَطْرَافِ الْعِرَاقِ وَالسَّمَاوَةِ نَجْدًا. وَالْجَبَل نَفْسُهُ وَهُوَ سَرَاتُهُ وَمَا احْتُجِزَ بِهِ فِي شَرْقِيِّهِ مِنَ الْجِبَال وَانْحَازَ إِلَى نَاحِيَةٍ فِيهِ هُوَ الْحِجَازُ (1) .
وَأَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ وَخَاصَّةً عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ قَصَرُوا حُكْمَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ، فَبَيَانُ مُرَادِهِمْ بِالْحِجَازِ كَمَا يَلِي:
قَال الشَّافِعِيُّ: وَالْحِجَازُ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمَخَالِيفُهَا كُلُّهَا. ثُمَّ قَال: " وَلاَ يَتَبَيَّنُ أَنْ يُمْنَعُوا رُكُوبَ بَحْرِ الْحِجَازِ، وَيُمْنَعُونَ مِنَ الْمُقَامِ فِي سَوَاحِلِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ فِي بَحْرِ الْحِجَازِ جَزَائِرُ وَجِبَالٌ تُسْكَنُ مُنِعُوا مِنْ سُكْنَاهَا لأَِنَّهَا مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ ". اهـ (2) .
__________
(1) معجم البلدان - حجاز.
(2) الأم للشافعي 4 / 177، 178، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية.(17/12)
وَذُكِرَ فِي الْمِنْهَاجِ وَشَرْحِهِ مِنْ مُدِنِ الْحِجَازِ وَقُرَاهُ: مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَالْيَمَامَةَ وَقُرَاهَا كَالطَّائِفِ وَوَجٍّ وَجَدَّةَ وَالْيَنْبُعَ وَخَيْبَرَ، (وَأَضَافَ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ فَدَكًا) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْكَافِرَ يُمْنَعُ مِنْ الإِْقَامَةِ بِجَزَائِرِ بَحْرِ الْحِجَازِ وَلَوْ كَانَتْ خَرَابًا، وَمِنَ الإِْقَامَةِ فِي بَحْرٍ فِي الْحِجَازِ وَلَوْ فِي سَفِينَةٍ. وَفَسَّرَ الْقَلْيُوبِيُّ الْيَمَامَةَ بِأَنَّهَا الْبَلَدُ الَّتِي كَانَ فِيهَا مُسَيْلِمَةُ، وَاَلَّتِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهَا زَرْقَاءُ الْيَمَامَةِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحِجَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا يَأْتِي - يَشْمَل مَا هُوَ شَرْقِيُّ جِبَال الْحِجَازِ حَتَّى الْيَمَامَةِ وَقُرَاهَا وَهِيَ مِنْطَقَةُ الرِّيَاضِ الآْنَ (1) ، أَوْ مَا كَانَ يُسَمَّى قَدِيمًا الْعَرْضُ أَوِ الْعَارِضُ (2) وَهِيَ بَعْضُ الْعُرُوضِ، جَاءَ فِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ: الْعُرُوضُ الْيَمَامَةُ وَالْبَحْرَيْنُ وَمَا وَالاَهُمَا (3) .
وَلَيْسَتْ الْبَحْرَيْنُ وَقَاعِدَتُهَا هَجَرُ مِنَ الْحِجَازِ (4) .
وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ الْحَنَابِلَةُ: فَإِنَّهُمْ عِنْدَمَا تَعَرَّضُوا لِمَا يُمْنَعُ الْكُفَّارُ مِنْ سُكْنَاهُ بَيَّنُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي الْحَدِيثِ (الْحِجَازُ) . جَاءَ فِي الْمُغْنِي:
__________
(1) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 4 / 230.
(2) لسان العرب - عرض.
(3) معجم البلدان (الحجاز) .
(4) المسالك والممالك للإصطخري ص 19.(17/12)
قَال أَحْمَدُ، فِي حَدِيثِ أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ (1) : جَزِيرَةُ الْعَرَبِ الْمَدِينَةُ وَمَا وَالاَهَا، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يَعْنِي أَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْ سُكْنَى الْكُفَّارِ الْمَدِينَةُ وَمَا وَالاَهَا وَهُوَ مَكَّةُ وَالْيَمَامَةُ وَخَيْبَرُ وَالْيَنْبُعُ وَفَدَكُ وَمَخَالِيفُهَا وَمَا وَالاَهَا. وَجَاءَ فِي كَلاَمِهِ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ تَيْمَاءَ وَفَيْدًا وَنَحْوَهُمَا لاَ يُمْنَعُ أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ سُكْنَاهَا وَكَذَلِكَ الْيَمَنُ وَنَجْرَانُ وَتَيْمَاءُ وَفَيْدٌ مِنْ بِلاَدِ طَيِّئٍ (2) .
وَجَاءَ فِي مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى: يُمْنَعُ أَهْل الذِّمَّةِ مِنْ الإِْقَامَةِ بِالْحِجَازِ، وَهُوَ مَا حَجَزَ بَيْنَ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ. وَالْحِجَازِ كَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَامَةِ وَخَيْبَرَ وَالْيَنْبُعِ وَفَدَكِ وَقُرَاهَا، وَفَدَكُ قَرْيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَانِ. وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمِنْ الْحِجَازِ تَبُوكُ وَنَحْوُهَا، وَمَا دُونَ الْمُنْحَنَى وَهُوَ عَقَبَةُ الصَّوَّانِ يُعْتَبَرُ مِنْ الشَّامِ كَمَعَانٍ (3) .
الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحِجَازِ:
2 - الأَْحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَمِنْهَا الْحِجَازُ تَرْجِعُ أَسَاسًا إِلَى أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ: الأَْوَّل: أَنَّهَا لاَ يَسْكُنُهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ.
__________
(1) حديث: " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 271 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1258 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.
(2) المغني لابن قدامة 8 / 530، وكشاف القناع 3 / 135 - 137.
(3) مطالب أولي النهى 2 / 615، والفروع 6 / 276.(17/13)
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لاَ يُدْفَنُ بِهَا أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا لاَ يَبْقَى بِهَا دَارُ عِبَادَةٍ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا زَكَوِيَّةٌ كُلُّهَا لاَ يُؤْخَذُ مِنْ أَرْضِهَا خَرَاجٌ.
وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ وَأَدِلَّتُهُ وَتَفْصِيلُهُ وَالْخِلاَفُ فِيهِ تَحْتَ عِنْوَانِ (أَرْضُ الْعَرَبِ) لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا بَيَانُ أَنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: مَا اتَّفَقَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِأَرْضِ الْعَرَبِ الْوَارِدَةِ أَحْكَامُهَا فِي الأَْحَادِيثِ، فَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ الأَْحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ إِجْمَاعًا، وَهُوَ أَرْضُ الْحِجَازِ.
وَالثَّانِي: مَا اخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ مُرَادٌ بِالأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي شَأْنِ أَرْضِ الْعَرَبِ وَهُوَ مَا عَدَا أَرْضَ الْحِجَازِ، كَالْبَحْرَيْنِ، وَالْيُمْنِ، وَمَا وَرَاءَ جِبَال طَيِّئٍ إِلَى حُدُودِ الْعِرَاقِ. فَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّهَا مُرَادَةٌ بِالأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهَا أَحْكَامُهَا. وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَرَوْنَ أَنَّهَا غَيْرُ مُرَادَةٍ وَلاَ تَنْطَبِقُ عَلَيْهَا تِلْكَ الأَْحْكَامُ (1) .
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ: (أَرْضُ الْعَرَبِ) .
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 267، فتح القدير ط بولاق 4 / 379(17/13)
حِجَامَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحِجَامَةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَجْمِ أَيِ الْمَصِّ. يُقَال: حَجَمَ الصَّبِيُّ ثَدْيَ أُمِّهِ إِذَا مَصَّهُ.
وَالْحَجَّامُ الْمَصَّاصُ، وَالْحِجَامَةُ صِنَاعَتُهُ وَالْمِحْجَمُ يُطْلَقُ عَلَى الآْلَةِ الَّتِي يُجْمَعُ فِيهَا الدَّمُ وَعَلَى مِشْرَطِ الْحَجَّامِ (1) فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشِّفَاءُ فِي ثَلاَثٍ شَرْبَةِ عَسَلٍ وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ وَكَيَّةِ نَارٍ (2) .
وَالْحِجَامَةُ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ قُيِّدَتْ عِنْدَ الْبَعْضِ بِإِخْرَاجِ الدَّمِ مِنَ الْقَفَا بِوَاسِطَةِ الْمَصِّ بَعْدَ الشَّرْطِ بِالْحَجْمِ لاَ بِالْفَصْدِ (3) . وَذَكَرَ الزَّرْقَانِيُّ أَنَّ الْحِجَامَةَ لاَ تَخْتَصُّ بِالْقَفَا بَل تَكُونُ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ (4) . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْخَطَّابِيُّ.
__________
(1) لسان العرب مادة: (حجم) .
(2) حديث: " الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 136 - ط السلفية) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا.
(3) إكمال الإكمال 4 / 265.
(4) الزرقاني على الموطأ 2 / 187، وفتح الباري 12 / 244.(17/14)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَصْدُ:
2 - فَصَدَ يَفْصِدُ فَصْدًا وَفِصَادًا: شَقَّ الْعِرْقَ لإِِخْرَاجِ الدَّمِ. وَفَصَدَ النَّاقَةَ شَقَّ عِرْقَهَا لِيَسْتَخْرِجَ مِنْهُ الدَّمَ فَيَشْرَبَهُ (1) .
فَالْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ يَجْتَمِعَانِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إِخْرَاجٌ لِلدَّمِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الْفَصْدَ شَقُّ الْعِرْقِ، وَالْحِجَامَةُ مَصُّ الدَّمِ بَعْدَ الشَّرْطِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - التَّدَاوِي بِالْحِجَامَةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا قَوْلُهُ: خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ وَمِنْهَا قَوْلُهُ: خَيْرُ الدَّوَاءِ الْحِجَامَةُ (2) .
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ: إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ تُوَافِقُ الدَّاءَ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ (3) .
__________
(1) لسان العرب وتاج العروس مادة: (فصد) .
(2) حديث: " خير ما تداويتم به الحجامة " وحديث: " خير الدواء الحجامة " أخرجه أحمد (3 / 107 - ط الحلبي) أخرجه البخاري (الفتح 10 / 150 - ط السلفية) بلفظ: " أن أمثل ما تداويتم به الحجامة ".
(3) الطب النبوي ص 55، الترغيب والترهيب 6 / 114 وما بعدها. وحديث: " إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 139 - ط السلفية) من حديث جابر بن عبد الله.(17/14)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحِجَامَةِ:
4 - اعْتَنَى الْفُقَهَاءُ بِبَيَانِ أَحْكَامِ الْحِجَامَةِ مِنْ حَيْثُ تَأْثِيرُهَا عَلَى الطَّهَارَةِ، وَعَلَى الصَّوْمِ، وَعَلَى الإِْحْرَامِ. وَمِنْ حَيْثُ الْقِيَامُ بِهَا، وَأَخْذِ الأَْجْرِ عَلَيْهَا، وَالتَّدَاوِي بِهَا.
تَأْثِيرُ الْحِجَامَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ:
5 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ خُرُوجَ الدَّمِ بِالْحِجَامَةِ نَاقِضٌ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ. قَال السَّرَخْسِيُّ: الْحِجَامَةُ تُوجِبُ الْوُضُوءَ وَغَسْل مَوْضِعِ الْمِحْجَمَةِ عِنْدَنَا، لأَِنَّ الْوُضُوءَ وَاجِبٌ بِخُرُوجِ النَّجَسِ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَغْسِل مَوْضِعَ الْمِحْجَمَةِ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَمْ تُجْزِهِ الصَّلاَةُ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ أَجْزَأَتْهُ.
وَالْفَصْدُ مِثْل الْحِجَامَةِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ. فَإِذَا افْتُصِدَ وَخَرَجَ مِنْهُ دَمٌ كَثِيرٌ، وَيُنْتَقَضُ أَيْضًا إِذَا مَصَّتْ عَلَقَةٌ عُضْوًا وَأَخَذَتْ مِنَ الدَّمِ قَدْرًا يَسِيل مِنْهَا لَوْ شُقَّتْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحِجَامَةَ وَالْفَصْدَ وَمَصَّ الْعَلَقِ لاَ يُوجِبُ وَاحِدٌ مِنْهَا الْوُضُوءَ. قَال الزَّرْقَانِيُّ: لاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِحِجَامَةٍ مِنْ حَاجِمٍ وَمُحْتَجِمٍ وَفَصْدٍ. وَفِي الأُْمِّ " لاَ وُضُوءَ فِي قَيْءٍ وَلاَ رُعَافٍ وَلاَ حِجَامَةٍ وَلاَ شَيْءٍ خَرَجَ مِنَ الْجَسَدِ وَأُخْرِجَ مِنْهُ غَيْرَ الْفُرُوجِ الثَّلاَثَةِ الْقُبُل وَالدُّبُرِ وَالذَّكَرِ " (1) .
__________
(1) المبسوط 1 / 83، رد المحتار 1 / 91 - 94، شرح الزرقاني على خليل 1 / 92، والأم 1 / 14.(17/15)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَا خَرَجَ مِنَ الدَّمِ مُوجِبٌ لِلْوُضُوءِ إِذَا كَانَ فَاحِشًا. وَفِي حَدِّ الْفَاحِشِ عِنْدَهُمْ خِلاَفٌ: فَقِيل: الْفَاحِشُ مَا وَجَدَهُ الإِْنْسَانُ فَاحِشًا كَثِيرًا. قَال ابْنُ عَقِيلٍ: إِنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا يَفْحُشُ فِي نُفُوسِ أَوْسَاطِ النَّاسِ لاَ الْمُتَبَذِّلِينَ وَلاَ الْمُوَسْوَسِينَ. وَقِيل: هُوَ مِقْدَارُ الْكَفِّ. وَقِيل: عَشَرَةُ أَصَابِعٍ (1) .
تَأْثِيرُ الْحِجَامَةِ عَلَى الصَّوْمِ:
6 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحِجَامَةَ جَائِزَةٌ لِلصَّائِمِ إِذَا كَانَتْ لاَ تُضْعِفُهُ، وَمَكْرُوهَةٌ إِذَا أَثَّرَتْ فِيهِ وَأَضْعَفَتْهُ، يَقُول ابْنُ نُجَيْمٍ: الاِحْتِجَامُ غَيْرُ مَنَافٍ لِلصَّوْمِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِلصَّائِمِ. إِذَا كَانَ يُضْعِفُهُ عَنِ الصَّوْمِ، أَمَّا إِذَا كَانَ لاَ يُضْعِفُهُ فَلاَ بَأْسَ بِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُحْتَجِمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفَ الْبَدَنِ لِمَرَضٍ أَوْ خِلْقَةٍ. وَفِي كُلٍّ إِمَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الاِحْتِجَامَ لاَ يَضُرُّهُ، أَوْ يَشُكُّ أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إِنِ احْتَجَمَ لاَ يَقْوَى عَلَى مُوَاصَلَةِ الصَّوْمِ.
فَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لاَ يَتَضَرَّرُ بِالْحِجَامَةِ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْتَجِمَ. وَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ سَيَعْجِزُ عَنْ مُوَاصَلَةِ الصَّوْمِ إِذَا هُوَ احْتَجَمَ حَرُمَ عَلَيْهِ. إِلاَّ إِذَا خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ هَلاَكًا أَوْ شَدِيدَ
__________
(1) المغني 1 / 184، نشر مكتبة الرياض الحديثة.(17/15)
أَذًى بِتَرْكِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَجِمَ وَيَقْضِيَ إِذَا أَفْطَرَ وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَمَنْ شَكَّ فِي تَأْثِيرِ الْحِجَامَةِ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى مُوَاصَلَةِ الصَّوْمِ فَإِنْ كَانَ قَوِيَّ الْبِنْيَةِ جَازَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفَ الْبَدَنِ كُرِهَ لَهُ.
وَالْفِصَادَةُ مِثْل الْحِجَامَةِ فَتُكْرَهُ لِلْمَرِيضِ دُونَ الصَّحِيحِ كَمَا فِي الإِْرْشَادِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ بِالْفَصْدِ أَوِ الْحِجَامَةِ يَقُول الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: أَمَّا الْفَصْدُ فَلاَ خِلاَفَ فِيهِ، وَأَمَّا الْحِجَامَةُ فَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ (2) . وَهُوَ نَاسِخٌ لِحَدِيثِ: أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحِجَامَةَ تُؤَثِّرُ فِي الْحَاجِمِ وَالْمَحْجُومِ وَيُفْطِرُ كُلٌّ مِنْهُمَا. يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: الْحِجَامَةُ يُفْطِرُ بِهَا الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ، وَبِهِ قَال إِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَهُوَ قَوْل عَطَاءٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ. وَكَانَ الْحَسَنُ وَمَسْرُوقٌ وَابْنُ سِيرِينَ
__________
(1) البحر الرائق 2 / 294، وبدائع الصنائع 2 / 1045، وشرح الزرقاني على خليل 1 / 92، ومواهب الجليل 2 / 416.
(2) حديث: " احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 149 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.
(3) حديث: " أفطر الحاجم والمحجوم " أخرجه أبو داود (2 / 770 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ثوبان. وذكر الزيلعي في نصب الراية (2 / 472 - ط المجلس العلمي) أن الترمذي نقل عن البخاري تصحيحه.(17/16)
لاَ يَرَوْنَ لِلصَّائِمِ أَنْ يَحْتَجِمَ. وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَحْتَجِمُونَ لَيْلاً فِي الصَّوْمِ مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مُوسَى وَأَنَسٌ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ (2) .
تَأْثِيرُ الْحِجَامَةِ عَلَى الإِْحْرَامِ:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحِجَامَةَ لاَ تُنَافِي الإِْحْرَامَ. قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَمِمَّا لاَ يُكْرَهُ لَهُ أَيْضًا - أَيْ لِلْمُحْرِمِ - الاِكْتِحَال بِغَيْرِ الْمُطَيَّبِ وَأَنْ يَخْتَتِنَ وَيَفْتَصِدَ. وَيَقْلَعَ ضِرْسَهُ، وَيَجْبُرَ الْكَسْرَ، وَيَحْتَجِمَ ".
فَالْحِجَامَةُ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا قَلْعُ الشَّعْرِ لاَ تُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ، أَمَّا إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ قَلْعُ شَعْرٍ، فَإِنْ حَلَقَ مَحَاجِمَهُ وَاحْتَجَمَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ.
وَلاَ يَضُرُّ تَعْصِيبُ مَكَانِ الْفَصْدِ: يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: (وَإِنْ لَزِمَ تَعْصِيبُ الْيَدِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ تَعْصِيبَ غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ إِنَّمَا يُكْرَهُ لَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ) (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحِجَامَةَ فِي الإِْحْرَامِ: إِنْ كَانَتْ لِعُذْرٍ فَجَوَازُ الإِْقْدَامِ عَلَيْهَا ثَابِتٌ قَوْلاً
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 431، والمغني 3 / 103.
(2) حديث: " أفطر الحاجم والمحجوم " سبق تخريجه قريبا.
(3) البحر الرائق 2 / 350، وابن عابدين مع الدر المختار 2 / 164، 204، 305.(17/16)
وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ عُذْرٍ حَرُمَتْ إِنْ لَزِمَ قَلْعُ الشَّعْرِ. وَكُرِهَتْ إِنْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ ذَلِكَ، لأَِنَّ الْحِجَامَةَ قَدْ تُضْعِفُهُ قَال مَالِكٌ: لاَ يَحْتَجِمُ الْمُحْرِمُ إِلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ. عَلَّقَ عَلَيْهِ الزَّرْقَانِيُّ أَيْ يُكْرَهُ لأَِنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى ضَعْفِهِ كَمَا كُرِهَ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِلْحَاجِّ مَعَ أَنَّ الصَّوْمَ أَخَفُّ مِنَ الْحِجَامَةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَوْقَ رَأْسِهِ (2) ، وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ وَسَطَ رَأْسِهِ (3) ، وَفِي رِوَايَةٍ عَلَّقَهَا الْبُخَارِيُّ احْتَجَمَ مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ (4) وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ وَثْءٍ (وَهُوَ رَضُّ الْعَظْمِ بِلاَ كَسْرٍ) وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِلَحْيِ جَمَلٍ (5) وَلأَِبِي دَاوُدَ وَالْحَاكِمِ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ (6) وَلَفْظُ الْحَاكِمِ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمَيْنِ:
__________
(1) الزرقاني 2 / 87.
(2) حديث: " احتجم وهو محرم فوق رأسه " أخرجه مالك في الموطأ (1 / 349 - ط الحلبي) من حديث سليمان بن يسار مرسلا.
(3) حديث: " احتجم وهو محرم وسط رأسه " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 152 - ط السلفية) ومسلم (2 / 863 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن بحينة.
(4) حديث: " احتجم من شقيقة كانت به " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 153 - ط السلفية) من حديث ابن عباس.
(5) قيل هو مكان بطريق مكة.
(6) حديث: " احتجم على ظهر القدم من وجع كان به " أخرجه النسائي (5 / 194 - ط المكتبة التجارية) من حديث أنس بن مالك.(17/17)
يَقُول الزَّرْقَانِيُّ: وَهَذَا يَدُل عَلَى تَعَدُّدِهَا مِنْهُ فِي الإِْحْرَامِ. وَعَلَى الْحِجَامَةِ فِي الرَّأْسِ وَغَيْرِهِ لِلْعُذْرِ. وَهُوَ إِجْمَاعٌ، وَلَوْ أَدَّتْ إِلَى قَلْعِ الشَّعْرِ. لَكِنْ يَفْتَدِي إِذَا قَلَعَ الشَّعْرَ (1) .
وَأَمَّا الْفَصْدُ فَيَقُول الزَّرْقَانِيُّ: وَجَازَ فَصْدٌ لِحَاجَةٍ وَإِلاَّ كُرِهَ إِنْ لَمْ يَعْصِبْهُ، فَإِنْ عَصَبَهُ وَلَوْ لِضَرُورَةٍ افْتَدَى (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا أَرَادَ الْمُحْرِمُ الْحِجَامَةَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَإِنْ تَضَمَّنَتْ قَطْعَ شَعْرٍ فَهِيَ حَرَامٌ لِقَطْعِ الشَّعْرِ وَإِنْ لَمْ تَتَضَمَّنْهُ جَازَتْ. وَاسْتَدَل بِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ بُحَيْنَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِلَحْيِ جَمَلٍ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ (3) .
وَاسْتُدِل بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الْفَصْدِ، وَبَطِّ الْجُرْحِ، وَقَطْعِ الْعِرْقِ، وَقَلْعِ الضِّرْسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّدَاوِي إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ارْتِكَابُ مَا نُهِيَ عَنْهُ الْمُحْرِمُ مِنْ تَنَاوُل الطِّيبِ، وَقَطْعِ الشَّعْرِ، وَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ (4) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الاِحْتِجَامِ لِلْمُحْرِمِ
__________
(1) الزرقاني على الموطأ 2 / 87.
(2) البيان 2 / 294، 297
(3) حديث: " عن ابن بحينة قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم بلحي جمل في وسط رأسه " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 152 - ط السلفية) .
(4) مغني المحتاج 1 / 431، والروضة 2 / 357.(17/17)
إِذَا لَمْ يَقْلَعْ شَعْرًا دُونَ تَفْصِيلٍ، وَإِنِ اقْتَلَعَ شَعْرًا مِنْ رَأْسِهِ أَوْ مِنْ بَدَنِهِ فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ حَرُمَ. وَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ جَازَ.
وَيَجِبُ عَلَى مَنِ اقْتَلَعَ شَعْرًا بِسَبَبِ الْحِجَامَةِ فِدْيَةٌ فِي ثَلاَثِ شَعَرَاتٍ مُدٌّ عَنْ كُل وَاحِدَةٍ. وَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعَ شَعَرَاتٍ فَأَكْثَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ صِيَامُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَوْ إِطْعَامُ ثَلاَثَةِ آصُعٍ أَوْ ذَبْحُ شَاةٍ (1) . وَالْفَصْدُ مِثْل الْحِجَامَةِ فِي الأَْحْكَامِ.
امْتِهَانُ الْحِجَامَةِ وَأَخْذُ الأَْجْرِ عَلَيْهَا:
8 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ) إِلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْحِجَامَةِ حِرْفَةً وَأَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَيْهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَال: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ (2) ، وَلَوْ عَلِمَهُ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ وَفِي لَفْظٍ لَوْ عَلِمَهُ خَبِيثًا لَمْ يُعْطِهِ. وَلأَِنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ فَجَازَ الاِسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا كَالْبِنَاءِ وَالْخِيَاطَةِ، وَلأَِنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إِلَيْهَا وَلاَ نَجِدُ كُل أَحَدٍ مُتَبَرِّعًا بِهَا، فَجَازَ الاِسْتِئْجَارُ عَلَيْهَا كَالرَّضَاعِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ نَسَبَهُ الْقَاضِي إِلَى أَحْمَدَ قَال: لاَ يُبَاحُ أَجْرُ الْحَجَّامِ، فَإِذَا أُعْطِيَ
__________
(1) المغني 3 / 305، 492، 497.
(2) حديث: " عن ابن عباس قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 147 - ط السلفية) ومسلم (4 / 1731 - ط الحلبي) .(17/18)
شَيْئًا مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلاَ شَرْطٍ فَلَهُ أَخْذُهُ، وَيَصْرِفُهُ فِي عَلَفِ دَوَابِّهِ وَمُؤْنَةِ صِنَاعَتِهِ، وَلاَ يَحِل لَهُ أَكْلُهُ (1) ، وَاسْتَدَل لِهَذَا الْقَوْل بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ (2) .
ضَمَانُ الْحَجَّامِ:
9 - الْحَجَّامُ لاَ يَضْمَنُ إِذَا فَعَل مَا أُمِرَ بِهِ وَتَوَفَّرَ شَرْطَانِ:
أ - أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَ مُسْتَوًى فِي حِذْقِ صِنَاعَتِهِ يُمَكِّنُهُ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا بِنَجَاحٍ.
ب - أَنْ لاَ يَتَجَاوَزَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَل فِي مِثْلِهِ (3) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي تَدَاوٍ وَتَطْبِيبٍ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 33، إكمال الإكمال 4 / 251، وشرح النووي 10 / 233، والمغني 5 / 539 - 540، ونيل الأوطار 6 / 23.
(2) حديث: " كسب الحجام خبيث " أخرجه مسلم (3 / 1199 - ط الحلبي) من حديث رافع بن خديج.
(3) المغني 5 / 538.(17/18)
حَجَبَ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَجْبُ لُغَةً مَصْدَرُ حَجَبَ يُقَال: حَجَبَ الشَّيْءَ يَحْجُبُهُ حَجْبًا إِذَا سَتَرَهُ، وَقَدِ احْتَجَبَ وَتَحَجَّبَ إِذَا اكْتَنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ.
وَحَجَبَهُ مَنَعَهُ عَنِ الدُّخُول، وَكُل مَا حَال بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَهُوَ حِجَابٌ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} (1) .
وَكُل شَيْءٍ مَنَعَ شَيْئًا فَقَدْ حَجَبَهُ، وَسُمِّيَ الْبَوَّابُ حَاجِبًا لأَِنَّهُ يَمْنَعُ مَنْ أَرَادَ الدُّخُول.
وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل الْحَجْبُ فِي الْمِيرَاثِ وَهُوَ اصْطِلاَحًا: مَنْعُ مَنْ قَامَ بِهِ سَبَبُ الإِْرْثِ مِنَ الإِْرْثِ بِالْكُلِّيَّةِ وَيُسَمَّى حَجْبَ حِرْمَانٍ، أَوْ مِنْ أَوْفَرِ حَظَّيْهِ وَيُسَمَّى حَجْبَ نُقْصَانٍ (2) .
وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الْحَضَانَةِ وَالْوِلاَيَةِ بِمَعْنَى مَنْعِ الشَّخْصِ مِنْ دُونِهِ مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ كَمَا يُقَال: الأُْمُّ تَحْجُبُ كُل حَاضِنَةٍ سِوَاهَا، مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بِمَحْرَمٍ مِنَ الصَّغِيرِ، وَفِي الْوِلاَيَةِ يُقَال: إِنَّ الْوَلِيَّ
__________
(1) سورة فصلت / 5.
(2) لسان العرب وتحفة المحتاج 6 / 397، ومغني المحتاج 3 / 11، وكشف المخدرات ص 334.(17/19)
الأَْقْرَبَ يَحْجُبُ الْوَلِيَّ الأَْبْعَدَ. وَتَفْصِيلُهُ فِي الْحَضَانَةِ وَالْوِلاَيَةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَنْعُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْمَنْعِ فِي اللُّغَةِ: الْحِرْمَانُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ تَعْطِيل الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ، كَامْتِنَاعِ الْمِيرَاثِ مَعَ وُجُودِ الْقَرَابَةِ الْمُوجِبَةِ لَهُ بِسَبَبِ اخْتِلاَفِ الدِّينِ - مَثَلاً - وَالْمَنْعُ فِي الإِْرْثِ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَل فِي الْحَجْبِ بِالْوَصْفِ، أَمَّا الْحَجْبُ فَيُسْتَعْمَل فِي الْحَجْبِ بِالشَّخْصِ.
الْحَجْبُ فِي الْمِيرَاثِ:
3 - الْحَجْبُ مُطْلَقًا قِسْمَانِ:
حَجْبٌ بِوَصْفٍ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَانِعِ، وَحَجْبٌ بِشَخْصٍ، وَهُوَ قِسْمَانِ: حَجْبُ حِرْمَانٍ، وَهُوَ أَنْ يُسْقِطَ الْوَارِثُ غَيْرَهُ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَهُوَ لاَ يَدْخُل عَلَى سِتَّةٍ مِنَ الْوَرَثَةِ إِجْمَاعًا، وَهُمُ: الأَْبَوَانِ وَالزَّوْجَانِ وَالاِبْنُ وَالْبِنْتُ وَضَابِطُهُ: كُل مَنْ أَدْلَى بِنَفْسِهِ إِلَى الْمَيِّتِ إِلاَّ الْمُعْتَقَ.
وَالثَّانِي: حَجْبُ نُقْصَانٍ: وَهُوَ حَجْبٌ عَنْ نَصِيبٍ أَكْثَرَ إِلَى نَصِيبٍ أَقَل. وَهُوَ لِخَمْسَةٍ مِنْ الْوَرَثَةِ: الزَّوْجَيْنِ، وَالأُْمِّ، وَبِنْتِ الاِبْنِ، وَالأُْخْتِ لأَِبٍ، وَالإِْخْوَةِ لأُِمٍّ.
وَلِلْحَجْبِ مُطْلَقًا قَوَاعِدُ يَقُومُ عَلَيْهَا، وَهِيَ:(17/19)
الأُْولَى: أَنَّ مَنْ يُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِوَارِثٍ يُحْجَبُ حَجْبَ حِرْمَانٍ عِنْدَ وُجُودِ ذَلِكَ الْوَارِثِ إِلاَّ الإِْخْوَةَ لأُِمٍّ مَعَ وُجُودِ الأُْمِّ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الأَْقْرَبَ يَحْجُبُ الأَْبْعَدَ إِذَا كَانَ يَسْتَحِقُّ بِوَصْفِهِ وَنَوْعِهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ الأَْقْوَى قَرَابَةً يَحْجُبُ الأَْضْعَفَ مِنْهُ.
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ إرْثٍ (ج 3 ص 45 فِقْرَةُ 45) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ.
وَفِي تَطْبِيقِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ التَّفْصِيل التَّالِي:
فَابْنُ الاِبْنِ يَحْجُبُهُ الاِبْنُ أَوِ ابْنُ ابْنٍ أَقْرَبُ مِنْهُ لإِِدْلاَئِهِ بِهِ إِنْ كَانَ أَبَاهُ، أَوْ لأَِنَّهُ عَصَبَةٌ أَقْرَبُ مِنْهُ، وَيَحْجُبُهُ كَذَلِكَ أَبَوَانِ وَبِنْتَانِ لِلصُّلْبِ بِاسْتِغْرَاقِهِمْ لِلتَّرِكَةِ (1) .
وَالْجَدُّ أَبُو الأَْبِ وَإِنْ عَلاَ لاَ يَحْجُبُهُ إِلاَّ الأَْبُ أَوْ جَدٌّ أَقْرَبُ مِنْهُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ تَطْبِيقًا لِقَاعِدَةِ أَنَّ مَنْ أَدْلَى بِشَخْصٍ لاَ يَرِثُ مَعَ وُجُودِهِ إِلاَّ أَوْلاَدُ الأُْمِّ، وَالأَْخُ الشَّقِيقُ يَحْجُبُهُ الأَْبُ وَالاِبْنُ وَابْنُ الاِبْنِ وَإِنْ سَفَل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} (2) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 496، والقوانين الفقهية ص 391، ومغني المحتاج 3 / 11، والمغني لابن قدامة 6 / 166.
(2) سورة النساء / 176.(17/20)
4 - وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ الإِْخْوَةُ الأَْشِقَّاءُ وَالإِْخْوَةُ لِلأَْبِ يُحْجَبُونَ بِالْجَدِّ أَبِي الأَْبِ وَإِنْ عَلاَ: فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ يَحْجُبُ الإِْخْوَةَ سَوَاءٌ أَكَانُوا أَشِقَّاءَ أَوْ لأَِبٍ لِلآْيَةِ الْمَذْكُورَةِ حَيْثُ إِنَّ الْكَلاَلَةَ - سَوَاءٌ كَانَتِ اسْمًا لِلْمَيِّتِ الَّذِي لاَ وَلَدَ وَلاَ وَالِدَ لَهُ حَسَبَ اخْتِلاَفِ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِهَا - لاَ تَشْمَل الْجَدَّ لأَِنَّهُ وَالِدٌ لِلْمَيِّتِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
5 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ لاَ يَحْجُبُ الأَْخَ الشَّقِيقَ أَوْ لأَِبٍ بَل يَرِثُ مَعَهُ (1)
وَالأَْخُ لأَِبٍ يَحْجُبُهُ هَؤُلاَءِ وَالأَْخُ الشَّقِيقُ.
وَابْنُ الأَْخِ لأَِبَوَيْنِ، يَحْجُبُهُ سِتَّةٌ وَهُمُ الأَْبُ، وَالْجَدُّ أَبُو الأَْبِ وَإِنْ عَلاَ، وَالاِبْنُ وَابْنُ الاِبْنِ وَإِنْ سَفَل وَالأَْخُ لأَِبَوَيْنِ، وَالأَْخُ لأَِبٍ.
وَابْنُ الأَْخِ لأَِبٍ يَحْجُبُهُ سَبْعَةٌ وَهُمْ هَؤُلاَءِ السِّتَّةُ وَابْنُ الأَْخِ لأَِبَوَيْنِ.
وَالْعَمُّ لأَِبَوَيْنِ يَحْجُبُهُ ثَمَانِيَةٌ وَهُمُ الأَْبُ وَالْجَدُّ وَإِنْ عَلاَ وَالاِبْنُ وَابْنُ الاِبْنِ وَإِنْ سَفَل وَالأَْخُ لأَِبَوَيْنِ وَالأَْخُ لأَِبٍ وَابْنُ الأَْخِ لأَِبَوَيْنِ وَابْنُ الأَْخِ لأَِبٍ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 498، وتحفة المحتاج 6 / 398، ومغني المحتاج 3 / 11، والقوانين الفقهية ص 391، والمغني لابن قدامة 6 / 166.(17/20)
وَالْعَمُّ لأَِبٍ يَحْجُبُهُ تِسْعَةٌ وَهُمْ هَؤُلاَءِ الثَّمَانِيَةُ وَالْعَمُّ الشَّقِيقُ.
وَابْنُ الْعَمِّ الشَّقِيقِ يَحْجُبُهُ عَشَرَةٌ وَهُمُ الأَْبُ وَالْجَدُّ أَبُو الأَْبِ وَإِنْ عَلاَ وَالاِبْنُ وَابْنُ الاِبْنِ وَإِنْ سَفَل وَالأَْخُ الشَّقِيقُ وَالأَْخُ لأَِبٍ وَابْنُ الأَْخِ الشَّقِيقِ وَابْنُ الأَْخِ لأَِبٍ وَالْعَمُّ الشَّقِيقُ وَالْعَمُّ لأَِبٍ.
وَابْنُ الْعَمِّ لأَِبٍ يَحْجُبُهُ هَؤُلاَءِ الْعَشَرَةُ، وَابْنُ الْعَمِّ الشَّقِيقِ (1) .
وَهَذِهِ الْمَسَائِل مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
6 - وَبِنْتُ الاِبْنِ يَحْجُبُهَا الاِبْنُ لأَِنَّهُ أَبُوهَا أَوْ عَمُّهَا وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهَا وَتَحْجُبُهَا بِنْتَانِ لأَِنَّ الثُّلُثَيْنِ فَرْضُ الْبَنَاتِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَعَهَا ابْنُ ابْنٍ يُعَصِّبُهَا فَحِينَئِذٍ تَشْتَرِكُ مَعَهُ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ ثُلُثَيِ الْبِنْتَيْنِ {لِلذَّكَرِ مِثْل حَظِّ الأُْنْثَيَيْنِ} (2)
وَالأَْخَوَاتُ لأَِبَوَيْنِ أَوْ لأَِبٍ كَالإِْخْوَةِ لأَِبَوَيْنِ أَوْ لأَِبٍ فِي الْحَجْبِ إِلاَّ أَنَّ الأَْخَ الشَّقِيقَ يَحْجُبُ الأُْخُوَّةَ لأَِبٍ وَإِنْ كَثُرُوا.
وَالأُْخْتُ لأَِبٍ فَأَكْثَرُ يَحْجُبُهُنَّ أُخْتَانِ لأَِبَوَيْنِ، لأَِنَّ الثُّلُثَيْنِ فَرْضُ الأَْخَوَاتِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَأَوْلاَدُ الأُْمِّ يَحْجُبُهُمْ أَرْبَعَةٌ وَهُمُ الأَْبُ وَالْجَدُّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 498، والقوانين الفقهية ص 391، وتحفة المحتاج 6 / 398، ومغني المحتاج 3 / 11، والمغني لابن قدامة 6 / 166، وكشف المخدرات ص 334.
(2) سورة النساء / 11.(17/21)
أَبُو الأَْبِ وَإِنْ عَلاَ، وَالْوَلَدُ لِلصُّلْبِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَوَلَدُ الاِبْنِ كُل ذَلِكَ وَإِنْ سَفَل. وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (1) .
وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجَدَّةَ تُحْجَبُ بِالأُْمِّ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ أَمْ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ لأَِنَّ الْجَدَّاتِ يَرِثْنَ بِالْوِلاَدَةِ فَالأُْمُّ أَوْلَى لِمُبَاشَرَتِهَا الْوِلاَدَةَ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْبَى مِنْ كُل جِهَةٍ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لِقُرْبِهَا إِلَى الْمَيِّتِ.
7 - وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ مِنْ مَسَائِل حَجْبِ الْجَدَّةِ:
أُولاَهُمَا: فِيمَنْ تَحْجُبُ الْجَدَّةَ الَّتِي مِنْ جِهَةِ الأَْبِ غَيْرُ الأُْمِّ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْبَ يَحْجُبُ الْجَدَّةَ الَّتِي مِنْ جِهَتِهِ لأَِنَّهَا تُدْلِي بِهِ إِلَى الْمَيِّتِ وَمَنْ أَدْلَى بِشَخْصٍ لاَ يَرِثُ مَعَهُ إِلاَّ أَوْلاَدُ الأُْمِّ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الأَْبَ لاَ يَحْجُبُ هَذِهِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 499، والمغني لابن قدامة 6 / 166، 168، 170، ومغني المحتاج 3 / 11، والقوانين الفقهية ص 391، والآية رقم 12 من سورة النساء.(17/21)
الْجَدَّةَ بَل تَرِثُ مَعَهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَوَّل جَدَّةٍ أَطْعَمَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّدُسَ أُمُّ أَبٍ مَعَ ابْنِهَا وَابْنُهَا حَيٌّ (1) . وَلأَِنَّ الْجَدَّاتِ أُمَّهَاتٌ يَرِثْنَ مِيرَاثَ الأُْمِّ لاَ مِيرَاثَ الأَْبِ فَلاَ يُحْجَبْنَ بِهِ كَأُمَّهَاتِ الأُْمِّ.
وَثَانِيَتُهُمَا: هَل الْقُرْبَى مِنْ الْجَدَّاتِ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ الْجِهَةِ الأُْخْرَى؟
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ جِهَةِ الأَْبِ، وَأَنَّ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الأَْبِ لاَ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ، لأَِنَّ الأَْبَ لاَ يَحْجُبُهَا فَالْجَدَّةُ الَّتِي تُدْلِي بِهِ أَوْلَى أَنْ لاَ تَحْجُبَهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقُرْبَى مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ تَحْجُبُ الْبُعْدَى مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ كَذَلِكَ لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ (2) .
8 - وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ وَمَنْ سَبَقَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ لاَ يَرِثُ لِمَانِعٍ فِيهِ كَالْقَتْل أَوْ الرِّقِّ لاَ يَحْجُبُ غَيْرَهُ لاَ حِرْمَانًا وَلاَ نُقْصَانًا بَل وُجُودُهُ كَالْعَدَمِ.
وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) حديث ابن مسعود: " أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم السدس. . . " أخرجه الترمذي (4 / 421 - ط الحلبي) والبيهقي (6 / 226 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، وقال البيهقي عن أحد رواته: " محمد بن سالم غير محتج به ".
(2) حاشية ابن عابدين 5 / 499، القوانين الفقهية ص 392، ومغني المحتاج 3 / 12، والمغني لابن قدامة 6 / 211، وكشف المخدرات ص 334.(17/22)
فَقَال: إِنَّ الْمَحْرُومَ مِنْ الإِْرْثِ يَحْجُبُ غَيْرَهُ حِرْمَانًا وَنُقْصَانًا.
كَمَا اتَّفَقَ هَؤُلاَءِ عَلَى أَنَّ الْمَحْجُوبَ بِشَخْصٍ يَحْجُبُ غَيْرَهُ حَجْبَ نُقْصَانٍ (1) .
وَأَجْمَعُوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَقَ يَحْجُبُهُ عَصَبَةُ النَّسَبِ، لأَِنَّ النَّسَبَ أَقْوَى مِنَ الْوَلاَءِ.
أَمَّا مَا يَتَّصِل بِحَجْبِ النُّقْصَانِ فَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (إِرْثٌ) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 498، والقوانين الفقهية ص 393، ومغني المحتاج 3 / 13، وكشف المخدرات ص 335.(17/22)
حَجٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَجُّ: بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا، هُوَ لُغَةً الْقَصْدُ، حَجَّ إِلَيْنَا فُلاَنٌ: أَيْ قَدِمَ، وَحَجَّهُ يَحُجُّهُ حَجًّا: قَصَدَهُ. وَرَجُلٌ مَحْجُوجٌ، أَيْ مَقْصُودٌ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
وَقَال جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل اللُّغَةِ: الْحَجُّ: الْقَصْدُ لِمُعَظَّمٍ.
وَالْحِجُّ بِالْكَسْرِ: الاِسْمُ. وَالْحِجَّةُ: الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَهُوَ مِنَ الشَّوَاذِّ، لأَِنَّ الْقِيَاسَ بِالْفَتْحِ (1) .
تَعْرِيفُ الْحَجِّ اصْطِلاَحًا:
2 - الْحَجُّ فِي اصْطِلاَحِ الشَّرْعِ: هُوَ قَصْدُ مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ (وَهُوَ الْبَيْتُ الْحَرَامُ وَعَرَفَةُ) فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ (وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ) لِلْقِيَامِ بِأَعْمَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَالطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ يَأْتِي بَيَانُهَا (2) .
__________
(1) تاج العروس في المادة.
(2) بتصرف يسير عن فتح القدير للكمال بن الهمام وزيادة السعي 2 / 120، الاختيار 1 / 139، والشرح الكبير للدردير على مختصر خليل 2 / 2، ومغني المحتاج 1 / 459، وشرح منتهى الإرادات 1 / 472، والتعريفات ص 82.(17/23)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعُمْرَةُ:
3 - وَهِيَ قَصْدُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ لِلطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَمْرَةٌ) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْحَجِّ:
4 - الْحَجُّ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُل مُكَلَّفٍ مُسْتَطِيعٍ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً، وَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ، ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ.
أ - أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (1) .
فَهَذِهِ الآْيَةُ نَصٌّ فِي إِثْبَاتِ الْفَرْضِيَّةِ، حَيْثُ عَبَّرَ الْقُرْآنُ بِصِيغَةِ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} وَهِيَ صِيغَةُ إِلْزَامٍ وَإِيجَابٍ، وَذَلِكَ دَلِيل الْفَرْضِيَّةِ، بَل إِنَّنَا نَجِدُ الْقُرْآنَ يُؤَكِّدُ تِلْكَ الْفَرْضِيَّةَ تَأْكِيدًا قَوِيًّا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} فَإِنَّهُ جَعَل مُقَابِل الْفَرْضِ الْكُفْرَ، فَأَشْعَرَ بِهَذَا السِّيَاقِ أَنَّ تَرْكَ الْحَجِّ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَأْنُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ.
ب - وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: بُنِيَ الإِْسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ،
__________
(1) سورة آل عمران / 97.(17/23)
وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَالْحَجِّ (1) .
وَقَدْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ: بُنِيَ الإِْسْلاَمُ. . . فَدَل عَلَى أَنَّ الْحَجَّ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الإِْسْلاَمِ.
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: خَطَبَنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا فَقَال رَجُلٌ: أَكُل عَامٍ يَا رَسُول اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاَثًا، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ. . . (2) .
وَقَدْ وَرَدَتِ الأَْحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةً جِدًّا حَتَّى بَلَغَتْ مَبْلِغَ التَّوَاتُرِ الَّذِي يُفِيدُ الْيَقِينَ وَالْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ الْيَقِينِيَّ الْجَازِمَ بِثُبُوتِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ (3) .
ج - وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَتْ الأُْمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، وَهُوَ مِنَ الأُْمُورِ الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ (4) .
__________
(1) حديث: " بني الإسلام على خمس. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 49 - ط السلفية) ، ومسلم (1 / 451 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج. . . ". أخرجه مسلم (2 / 975 - ط الحلبي) .
(3) انظر الترغيب والترهيب للمنذري 2 / 211 - 212، والمسلك المتقسط ص 20.
(4) المغني 3 / 217، ونهاية المحتاج 2 / 369، ولباب المناسك ص 16 - 17، مع شرحه المسلك المتقسط في المنسك المتوسط لعلي القاري، شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني ص 455.(17/24)
وُجُوبُ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي:
5 - اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عِنْدَ تَحَقُّقِ الشُّرُوطِ هَل هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي؟ . ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمَالِكٌ فِي الرَّاجِحِ عَنْهُ وَأَحْمَدُ (1) إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، فَمَنْ تَحَقَّقَ فَرْضُ الْحَجِّ عَلَيْهِ فِي عَامٍ فَأَخَّرَهُ يَكُونُ آثِمًا، وَإِذَا أَدَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ أَدَاءً لاَ قَضَاءً، وَارْتَفَعَ الإِْثْمُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالإِْمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي، فَلاَ يَأْثَمُ الْمُسْتَطِيعُ بِتَأْخِيرِهِ. وَالتَّأْخِيرُ إِنَّمَا يَجُوزُ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْل فِي الْمُسْتَقْبَل، فَلَوْ خَشِيَ الْعَجْزَ أَوْ خَشِيَ هَلاَكَ مَالِهِ حَرُمَ التَّأْخِيرُ، أَمَّا التَّعْجِيل بِالْحَجِّ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ فَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَا لَمْ يَمُتْ، فَإِذَا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ عَاصِيًا مِنْ آخِرِ سَنَوَاتِ الاِسْتِطَاعَةِ (2) .
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى الْوُجُوبِ الْفَوْرِيِّ بِالآْتِي:
أ - الْحَدِيثُ: مَنْ مَلَكَ زَادًا. وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 44 وانظر الهداية وفتح القدير 2 / 123، وشرح الرسالة لابن أبي الحسن 1 / 454، ومواهب الجليل وفيه تفصيل الخلاف في المذاهب 2 / 471 - 472، والشرح الكبير 2 / 2 - 3 وحاشية الدسوقي، ورجح الفورية بقوة حتى قال " ينبغي للمصنف الاقتصار عليه ". والمغني 3 / 241، والفروع 3 / 242.
(2) الأم 2 / 117 - 118، وروض الطالب 1 / 456، ومغني المحتاج 1 / 460، والمسلك المتقسط وفتح القدير الموضعين السابقين.(17/24)
إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَلَمْ يَحُجَّ فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا (1) .
ب - الْمَعْقُول: وَذَلِكَ أَنَّ الاِحْتِيَاطَ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَاجِبٌ، وَلَوْ أَخَّرَ الْحَجَّ عَنِ السَّنَةِ الأُْولَى فَقَدْ يَمْتَدُّ بِهِ الْعُمُرُ وَقَدْ يَمُوتُ فَيَفُوتُ الْفَرْضُ، وَتَفْوِيتُ الْفَرْضِ حَرَامٌ، فَيَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الْفَوْرِ احْتِيَاطًا.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ بِمَا يَلِي:
أ - أَنَّ الأَْمْرَ بِالْحَجِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (2) مُطْلَقٌ عَنْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ، فَيَصِحُّ أَدَاؤُهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ، فَلاَ يَثْبُتُ الإِْلْزَامُ بِالْفَوْرِ، لأَِنَّ هَذَا تَقْيِيدٌ لِلنَّصِّ، وَلاَ يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ، وَلاَ دَلِيل عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى الْخِلاَفِ أَنَّ الأَْمْرَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ لِلتَّرَاخِي (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: أَمْرٌ) .
ب - (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَ مَكَّةَ عَامَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَحُجَّ إِلاَّ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِيَّةِ لَمْ يَتَخَلَّفْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَرْضٍ عَلَيْهِ) (3) .
__________
(1) (1) حديث: " من ملك زادا أو راحلة تبلغه إلى بيت الله. . . " أخرجه الترمذي (3 / 167 - ط الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب، وقال الترمذي: " هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد الله مجهول، والحارث يضعف في الحديث ".
(2) سورة آل عمران 97.
(3) الأم 2 / 118، وانظر حاشية القليوبي على شرح المنهاج 2 / 84، وبدائع الصنائع للكاساني 2 / 119.(17/25)
فَضْل الْحَجِّ:
6 - تَضَافَرَتِ النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ الْكَثِيرَةُ عَلَى الإِْشَادَةِ بِفَضْل الْحَجِّ، وَعَظَمَةِ ثَوَابِهِ وَجَزِيل أَجْرِهِ الْعَظِيمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُل ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُل فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ. . .} (1) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ (2) .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرُ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ. . . (3) وَمَعْنَى يَدْنُو: يَتَجَلَّى عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ وَإِكْرَامِهِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ
__________
(1) سورة الحج / 27 - 28.
(2) حديث: " من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 382 - ط السلفية) . ومسلم (2 / 983، 984 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه. . . " أخرجه مسلم (3 / 983 - ط الحلبي) .(17/25)
الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ (1) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ، إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ وَإِنِ اسْتَغْفَرُوهُ غَفَرَ لَهُمْ (2) .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَل الْعَمَل أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟ قَال: لاَ، لَكِنَّ أَفْضَل الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ (3) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل: أَيُّ الأَْعْمَال أَفْضَل؟ فَقَال: إِيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيل ثُمَّ مَاذَا؟ قَال: جِهَادٌ فِي سَبِيل اللَّهِ، قِيل: ثُمَّ مَاذَا؟ قَال: حَجٌّ مَبْرُورٌ (4) .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْحَجِّ:
7 - شُرِعَتِ الْعِبَادَاتُ لإِِظْهَارِ عُبُودِيَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ
__________
(1) حديث: " تابعوا بين الحج والعمرة. . . . " أخرجه الترمذي (3 / 166 - ط الحلبي) وقال: " حديث حسن صحيح ".
(2) حديث: " الحجاج والعمار وفد الله. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 966 - ط الحلبي) ، وقال البوصيري: " في إسناده صالح بن عبد الله، قال البخاري فيه: منكر الحديث ". ولكن له شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه ابن ماجه تلو حديث أبي هريرة، يتقوى به.
(3) حديث عائشة: " نرى الجهاد أفضل الأعمال. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 381 - ط السلفية) والنسائي (5 / 114 - ط المكتبة التجارية) .
(4) حديث أبي هريرة: " سئل أي الأعمال أفضل؟ . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 381 - ط السلفية) ومسلم (1 / 88 - ط الحلبي) .(17/26)
وَمَدَى امْتِثَالِهِ لأَِمْرِهِ، وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لَهَا فَوَائِدُ تُدْرِكُهَا الْعُقُول الصَّحِيحَةُ وَأَظْهَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي فَرِيضَةِ الْحَجِّ.
وَتَشْتَمِل هَذِهِ الْفَرِيضَةُ عَلَى حِكَمٍ جَلِيلَةٍ كَثِيرَةٍ تَمْتَدُّ فِي ثَنَايَا حَيَاةِ الْمُؤْمِنَ الرُّوحِيَّةِ، وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعِهِمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، مِنْهَا:
أ - أَنَّ فِي الْحَجِّ إِظْهَارَ التَّذَلُّل لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْحَاجَّ يَرْفُضُ أَسْبَابَ التَّرَفِ وَالتَّزَيُّنِ، وَيَلْبَسُ ثِيَابَ الإِْحْرَامِ مُظْهِرًا فَقْرَهُ لِرَبِّهِ، وَيَتَجَرَّدُ عَنِ الدُّنْيَا وَشَوَاغِلِهَا الَّتِي تَصْرِفُهُ عَنِ الْخُلُوصِ لِمَوْلاَهُ، فَيَتَعَرَّضُ بِذَلِكَ لِمَغْفِرَتِهِ وَرُحْمَاهُ، ثُمَّ يَقِفُ فِي عَرَفَةَ ضَارِعًا لِرَبِّهِ حَامِدًا شَاكِرًا نَعْمَاءَهُ وَفَضْلَهُ، وَمُسْتَغْفِرًا لِذُنُوبِهِ وَعَثَرَاتِهِ، وَفِي الطَّوَافِ حَوْل الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ يَلُوذُ بِجَنَابِ رَبِّهِ وَيَلْجَأُ إِلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَمِنْ هَوَى نَفْسِهِ، وَوِسْوَاسِ الشَّيْطَانِ.
ب - أَنَّ أَدَاءَ فَرِيضَةِ الْحَجِّ يُؤَدِّي شُكْرَ نِعْمَةِ الْمَال، وَسَلاَمَةِ الْبَدَنِ، وَهُمَا أَعْظَمُ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ الإِْنْسَانُ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا، فَفِي الْحَجِّ شُكْرُ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ الْعَظِيمَتَيْنِ، حَيْثُ يُجْهِدُ الإِْنْسَانُ نَفْسَهُ " وَيُنْفِقُ مَالَهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ شُكْرَ النَّعْمَاءِ وَاجِبٌ تُقَرِّرُهُ بَدَاهَةُ الْعُقُول، وَتَفْرِضُهُ شَرِيعَةُ الدِّينِ.
ج - يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَقْطَارِ الأَْرْضِ فِي(17/26)
مَرْكَزِ اتِّجَاهِ أَرْوَاحِهِمْ، وَمَهْوَى أَفْئِدَتِهِمْ، فَيَتَعَرَّفُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَأْلَفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، هُنَاكَ حَيْثُ تَذُوبُ الْفَوَارِقُ بَيْنَ النَّاسِ، فَوَارِقُ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، فَوَارِقُ الْجِنْسِ وَاللَّوْنِ، فَوَارِقُ اللِّسَانِ وَاللُّغَةِ، تَتَّحِدُ كَلِمَةُ الإِْنْسَانِ فِي أَعْظَمِ مُؤْتَمَرٍ بَشَرِيٍّ اجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ أَصْحَابِهِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَعَلَى التَّوَاصِي بِالْحَقِّ وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، هَدَفُهُ الْعَظِيمُ رَبْطُ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ بِأَسْبَابِ السَّمَاءِ.
شُرُوطُ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ:
8 - شُرُوطُ الْحَجِّ صِفَاتٌ يَجِبُ تَوَفُّرُهَا فِي الإِْنْسَانِ لِكَيْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِأَدَاءِ الْحَجِّ، مَفْرُوضًا عَلَيْهِ، فَمَنْ فَقَدَ أَحَدَ هَذِهِ الشُّرُوطِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَلاَ يَكُونُ مُطَالَبًا بِهِ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ خَمْسَةٌ هِيَ: الإِْسْلاَمُ، وَالْعَقْل، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالاِسْتِطَاعَةُ، وَهِيَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، قَال الإِْمَامُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: لاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا كُلِّهِ اخْتِلاَفًا " (1) .
الشَّرْطُ الأَْوَّل: الإِْسْلاَمُ:
9 - أ - لَوْ حَجَّ الْكَافِرُ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ تَجِبُ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ، لأَِنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ، بَل هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْل الْعِبَادَةِ.
__________
(1) المغني 3 / 218، وكذا ذكر الإجماع الرملي في نهاية المحتاج 2 / 375.(17/27)
ب - وَلَوْ أَسْلَمَ وَهُوَ مُعْسِرٌ بَعْدَ اسْتِطَاعَتِهِ فِي الْكُفْرِ، فَإِنَّهُ لاَ أَثَرَ لَهَا (1) .
ج - وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لاَ يُطَالَبُ بِالْحَجِّ بِالنِّسْبَةِ لأَِحْكَامِ الدُّنْيَا، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلآْخِرَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ، هَل يُؤَاخَذُ بِتَرْكِهِ أَوْ لاَ يُؤَاخَذُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الْمُصْطَلَحِ الأُْصُولِيِّ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَقْل:
10 - يُشْتَرَطُ لِفَرْضِيَّةِ الْحَجِّ الْعَقْل، لأَِنَّ الْعَقْل شَرْطٌ لِلتَّكْلِيفِ وَالْمَجْنُونُ لَيْسَ مُكَلَّفًا بِفُرُوضِ الدِّينِ، بَل لاَ تَصِحُّ مِنْهُ إِجْمَاعًا، لأَِنَّهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلْعِبَادَةِ، فَلَوْ حَجَّ الْمَجْنُونُ فَحَجُّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِذَا شُفِيَ مِنْ مَرَضِهِ وَأَفَاقَ إِلَى رُشْدِهِ تَجِبُ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ (2) .
رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ (3) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْبُلُوغُ:
11 - يُشْتَرَطُ الْبُلُوغُ، لأَِنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ
__________
(1) نهاية المحتاج الموضع السابق.
(2) المغني لابن قدامة 3 / 218، البدائع 2 / 120.
(3) حديث: " رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ. . . . " أخرجه أبو داود (4 / 559 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (4 / 389 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(17/27)
بِمُكَلَّفٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَال: نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ (1) .
فَلَوْ حَجَّ الصَّبِيُّ صَحَّ حَجُّهُ وَكَانَ تَطَوُّعًا، فَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْفَرِيضَةِ، بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، لأَِنَّهُ أَدَّى مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، فَلاَ يَكْفِيهِ عَنِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَجَّ الصَّبِيُّ فَهِيَ لَهُ حَجَّةٌ حَتَّى يَعْقِل، وَإِذَا عَقَل فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى، وَإِذَا حَجَّ الأَْعْرَابِيُّ فَهِيَ لَهُ حَجَّةٌ، فَإِذَا هَاجَرَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى (2) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْحُرِّيَّةُ:
12 - الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، لأَِنَّهُ مُسْتَغْرَقٌ فِي خِدْمَةِ سَيِّدِهِ، وَلأَِنَّ الاِسْتِطَاعَةَ شَرْطٌ وَلاَ تَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِمِلْكِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَالْعَبْدُ لاَ يَتَمَلَّكُ شَيْئًا، فَلَوْ حَجَّ الْمَمْلُوكُ وَلَوْ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ صَحَّ حَجُّهُ وَكَانَ تَطَوُّعًا لاَ يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ، وَيَأْثَمُ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ سَيِّدُهُ بِذَلِكَ. وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ عِنْدَمَا يُعْتَقُ، لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.
__________
(1) حديث ابن عباس: " رفعت امرأة صبيا. . . ". أخرجه مسلم (2 / 974 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " إذا حج الصبي فهي له حجة. . . " أخرجه الحاكم في المستدرك (1 / 481 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(17/28)
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الاِسْتِطَاعَةُ:
13 - لاَ يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى مَنْ لَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهِ خِصَال الاِسْتِطَاعَةِ لأَِنَّ الْقُرْآنَ خَصَّ الْخِطَابَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (1) .
وَخِصَال الاِسْتِطَاعَةِ الَّتِي تُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ قِسْمَانِ: شُرُوطٌ عَامَّةٌ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ، وَشُرُوطٌ تَخُصُّ النِّسَاءَ.
الْقِسْمُ الأَْوَّل: شُرُوطٌ عَامَّةٌ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ:
شُرُوطُ الاِسْتِطَاعَةِ الْعَامَّةِ أَرْبَعُ خِصَالٍ:
الْقُدْرَةُ عَلَى الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ، وَصِحَّةُ الْبَدَنِ، وَأَمْنُ الطَّرِيقِ، وَإِمْكَانُ السَّيْرِ.
الْخَصْلَةُ الأُْولَى:
14 - تُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ الْقُدْرَةُ عَلَى الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ، وَالنَّفَقَةِ ذَهَابًا وَإِيَابًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَمِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَيَخْتَصُّ اشْتِرَاطُ الْقُدْرَةِ عَلَى آلَةِ الرُّكُوبِ بِمَنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ مَكَّةَ.
قَال فِي " الْهِدَايَةِ ": وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ عَلَى أَهْل مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا الرَّاحِلَةُ لأَِنَّهُ لاَ تَلْحَقُهُمْ مَشَقَّةٌ زَائِدَةٌ فِي الأَْدَاءِ، فَأَشْبَهَ السَّعْيَ إِلَى الْجُمُعَةِ " (2) .
__________
(1) سورة آل عمران / 97.
(2) الهداية مع فتح القدير 2 / 127.(17/28)
وَالأَْظْهَرُ أَنَّ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بَعِيدًا عَنْ مَكَّةَ هُوَ: مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، أَمَّا مَا دُونَهُ فَلاَ، إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ " (1) يَعْنِي مَسَافَةَ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ. وَتُقَدَّرُ بِ (81) كِيلُو مِتْرٍ تَقْرِيبًا.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَهُوَ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَرْحَلَتَانِ، وَهِيَ مَسَافَةُ الْقَصْرِ عِنْدَهُمْ. وَتُقَدَّرُ عِنْدَهُمْ بِنَحْوِ الْمَسَافَةِ السَّابِقَةِ (2) .
15 - وَقَدْ وَقَعَ الْخِلاَفُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي شَرْطِيَّةِ الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ لِوُجُوبِ الْحَجِّ، وَكَانُوا يَرْكَبُونَ الدَّوَابَّ. لِذَلِكَ عَبَّرُوا بِقَوْلِهِمُ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ " وَهِيَ الْجَمَل الْمُعَدُّ لِلرُّكُوبِ لأَِنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي زَمَانِهِمْ. وَهَذَا الْخِلاَفُ فِي أَمْرَيْنِ:
الأَْمْرُ الأَْوَّل: خَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ الْجُمْهُورَ فِي اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَعِيدَةً فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا كَانَ صَحِيحَ الْبِنْيَةِ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ بِلاَ مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ، وَهُوَ يَمْلِكُ الزَّادَ.
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين: رد المحتار على الدر المختار 2 / 195.
(2) نهاية المحتاج للرملي 2 / 377، وحاشية الباجوري 1 / 526، والمغني لابن قدامة 3 / 221.
(3) سورة آل عمران / 97.(17/29)
وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ " مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ قَادِرًا عَلَى الْمَشْيِ وَلَهُ زَادٌ فَقَدِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً فَيَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ " (1) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الأَْحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَ السَّبِيل بِاسْتِطَاعَةِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، مِثْل حَدِيثِ أَنَسٍ: قِيل يَا رَسُول اللَّهِ مَا السَّبِيل؟ قَال: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ (2) .
فَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاِسْتِطَاعَةَ الْمَشْرُوطَةَ " بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ جَمِيعًا " وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَشْيِ لاَ تَكْفِي لاِسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ " (3) .
الأَْمْرُ الثَّانِي: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الزَّادِ وَوَسَائِل الْمُوَاصَلَةِ هَل يُشْتَرَطُ مَلَكِيَّةُ الْمُكَلَّفِ لِمَا يُحَصِّلُهَا بِهِ أَوْ لاَ يُشْتَرَطُ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مِلْكَ مَا يُحَصِّل بِهِ الزَّادَ وَوَسِيلَةَ النَّقْل (مَعَ مُلاَحَظَةِ مَا ذَكَرْنَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) شَرْطٌ لِتَحَقُّقِ
__________
(1) مختصر خليل والشرح الكبير 2 / 6، ومواهب الجليل 2 / 491، وشرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني لأبي الحسن المالكي 1 / 455، وانظر تفسير القرطبي 4 / 146 - 149.
(2) حديث أنس: قيل: يا رسول الله، ما السبيل؟ أخرجه الحاكم (1 / 442 - ط دائرة المعارف العثمانية) والبيهقي (4 / 330 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، أعله البيهقي بالإرسال. ونقل ابن حجر في الفتح (3 / 379 - ط السلفية) عن ابن المنذر أنه قال: " لا يثبت الحديث الذي فيه ذكر الزاد والراحلة ".
(3) بدائع الصنائع 2 / 122.(17/29)
وُجُوبِ الْحَجِّ، وَفِي هَذَا يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ: وَلاَ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِبَذْل غَيْرِهِ لَهُ، وَلاَ يَصِيرُ مُسْتَطِيعًا بِذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَاذِل قَرِيبًا أَوْ أَجْنَبِيًّا، وَسَوَاءٌ بَذَل لَهُ الرُّكُوبَ وَالزَّادَ، أَوْ بَذَل لَهُ مَالاً " (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْحَجُّ بِإِبَاحَةِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ إِذَا كَانَتِ الإِْبَاحَةُ مِمَّنْ لاَ مِنَّةَ لَهُ عَلَى الْمُبَاحِ لَهُ، كَالْوَالِدِ إِذَا بَذَل الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ لاِبْنِهِ (2) .
شُرُوطُ الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ:
16 - ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ شُرُوطًا فِي الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ الْمَطْلُوبَيْنِ لاِسْتِطَاعَةِ الْحَجِّ، هِيَ تَفْسِيرٌ وَبَيَانٌ لِهَذَا الشَّرْطِ، نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:
أ - أَنَّ الزَّادَ الَّذِي يُشْتَرَطُ مِلْكُهُ هُوَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَكِسْوَةٍ بِنَفَقَةٍ وَسَطٍ لاَ إِسْرَافَ فِيهَا وَلاَ تَقْتِيرَ، فَلَوْ كَانَ يَسْتَطِيعُ زَادًا أَدْنَى مِنَ الْوَسَطِ الَّذِي اعْتَادَهُ لاَ يُعْتَبَرُ مُسْتَطِيعًا لِلْحَجِّ، وَيَتَضَمَّنُ اشْتِرَاطُ الزَّادِ أَيْضًا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ آلاَتٍ لِلطَّعَامِ وَالزَّادِ مِمَّا لاَ يَسْتَغْنِي عَنْهُ (3) .
__________
(1) فتح القدير 2 / 21، ومختصر خليل والشرح الكبير 2 / 7 - 8، والتاج والإكليل ومواهب الجليل 2 / 505، والمغني 3 / 220.
(2) نهاية المحتاج 2 / 176.
(3) فتح القدير 2 / 126، ونهاية المحتاج 2 / 375، والمغني 3 / 221 - 222.(17/30)
وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْوُصُول إِلَى مَكَّةَ، وَلَوْ بِلاَ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ لِذِي صَنْعَةٍ تَقُومُ بِهِ، وَلاَ تُزْرِي بِمِثْلِهِ، أَمَّا الإِْيَابُ فَلاَ يُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى نَفَقَتِهِ عِنْدَهُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ إِنْ بَقِيَ هُنَاكَ ضَاعَ وَخَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ شَكًّا، فَيُرَاعَى مَا يُبَلِّغُهُ وَيَرْجِعُ بِهِ إِلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ لِمَكَّةَ، مِمَّا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعِيشَ بِهِ بِمَا لاَ يُزْرِي بِهِ مِنَ الْحِرَفِ (1) .
ب - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الرَّاحِلَةِ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَصْلُحُ لِمِثْلِهِ إِمَّا بِشِرَاءٍ أَوْ بِكِرَاءٍ (2) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ " لاَ يُعْتَبَرُ إِلاَّ مَا يُوَصِّلُهُ فَقَطْ "، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ فَادِحَةٌ فَيُخَفَّفُ عَنْهُ بِمَا تَزُول بِهِ الْمَشَقَّةُ الْفَادِحَةُ (3) . وَهَذَا الْمَعْنَى مَلْحُوظٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ فِيمَا يَصْلُحُ لِمِثْلِهِ إِذَا كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً فَيُخَفَّفُ عَنْهُ بِمَا يُزِيلُهَا.
__________
(1) الشرح الكبير وحاشيته 2 / 8 ومواهب الجليل 2 / 510، وشرح الرسالة مع حاشية العدوي 1 / 456.
(2) إن تقدم الحضارة ألغي استعمال الدواب في الأسفار وأحل مكانها السيارات والطائرات والبواخر، وبناء على هذه القاعدة التي قرروها نقول: من ملك نفقة وسيلة للسفر لا تناسبه لا يكون أيضا مستطيعا للحج حتى يتوفر لديه أجر وسيلة سفر تناسب أمثاله، بناء على مذهب الجمهور (اللجنة)
(3) شرح الرسالة 1 / 456.(17/30)
ج - إِنْ مَلَكَ الزَّادَ وَوَسِيلَةَ النَّقْل يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلاً عَمَّا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ الأَْصْلِيَّةُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ (1) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَاعْتَبَرُوا مَا يُوَصِّلُهُ فَقَطْ، إِلاَّ أَنْ يَخْشَى الضَّيَاعَ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَهُمْ (2) .
وَفِي هَذَا تَفْصِيلٌ نُوَضِّحُهُ فِي الأُْمُورِ الَّتِي تَشْمَلُهَا الْحَاجَةُ الأَْصْلِيَّةُ.
خِصَال الْحَاجَةِ الأَْصْلِيَّةِ:
17 - خِصَال الْحَاجَةِ الأَْصْلِيَّةِ ثَلاَثٌ:
أ - نَفَقَةُ عِيَالِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ كَمَا نُوَضِّحُ فِي الْخَصْلَةِ التَّالِيَةِ) ، لأَِنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ لِلآْدَمِيِّينَ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ. لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ (3) .
__________
(1) فتح القدير 2 / 126، والمسلك المتقسط ص 29، والمجموع 7 / 53 - 57، ونهاية المحتاج 2 / 378، ومغني المحتاج 1 / 464 - 465، والمغني 3 / 222، والفروع 3 / 230.
(2) شرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 456، والشرح الكبير 2 / 7، ومواهب الجليل 2 / 500 - 502.
(3) حديث: " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت " أخرجه أبو داود (2 / 321 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 415 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(17/31)
ب - مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْ مَسْكَنٍ، وَمِمَّا لاَ بُدَّ لِمِثْلِهِ كَالْخَادِمِ وَأَثَاثِ الْبَيْتِ وَثِيَابِهِ بِقَدْرِ الاِعْتِدَال الْمُنَاسِبِ لَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ فِي هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ:
يَبِيعُ فِي زَادِهِ دَارَهُ الَّتِي تُبَاعُ عَلَى الْمُفْلِسِ وَغَيْرَهَا مِمَّا يُبَاعُ عَلَى الْمُفْلِسِ مِنْ مَاشِيَةٍ وَثِيَابٍ وَلَوْ لِجُمُعَتِهِ إِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهَا، وَخَادِمَهُ، وَكُتُبَ الْعِلْمِ وَلَوْ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا.
وَإِنْ كَانَ يَتْرُكُ وَلَدَهُ وَزَوْجَتَهُ لاَ مَال لَهُمْ، فَلاَ يُرَاعِي مَا يَؤُول إِلَيْهِ أَمْرُهُ وَأَمْرُ أَهْلِهِ وَأَوْلاَدِهِ فِي الْمُسْتَقْبَل، وَإِنْ كَانَ يَصِيرُ فَقِيرًا لاَ يَمْلِكُ شَيْئًا، أَوْ يَتْرُكُ أَوْلاَدَهُ وَنَحْوَهُمْ لِلصَّدَقَةِ، إِنْ لَمْ يَخْشَ هَلاَكًا فِيمَا ذُكِرَ أَوْ شَدِيدَ أَذًى " (1) .
وَهَذَا لأَِنَّ الْحَجَّ عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ كَمَا قَدَّمْنَا.
ج - قَضَاءُ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ، لأَِنَّ الدَّيْنَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَهُوَ مِنْ حَوَائِجِهِ الأَْصْلِيَّةِ، فَهُوَ آكَدُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ لآِدَمِيٍّ أَوْ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَزَكَاةٍ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ كَفَّارَاتٍ وَنَحْوِهَا (2) .
__________
(1) شرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 456، وانظر المراجع المالكية الأخرى.
(2) انظر هذه المسائل في الهداية وشرحها فتح القدير 2 / 127، والبدائع 2 / 78 والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 2 / 7 وفيه: " لا يجب الحج استطاعة بدين ولو من ولده إذا لم يرج الوفاء بأن لا يكون عنده ما يقضيه به ولا جهة له يوفي منها، وإلا وجب عليه الحج به "، وحاشية الدسوقي ص 10 وفيها التصريح بتقدم الصدقة الواجبة على الحج ولو كان واجبا. انظر شرح المنهاج 2 / 87، وشرح الغزي 1 / 527، والفروع 3 / 230، والمغني 3 / 222.(17/31)
فَإِذَا مَلَكَ الزَّادَ وَالْحَمُولَةَ زَائِدًا عَمَّا تَقَدَّمَ - عَلَى التَّفْصِيل الْمَذْكُورِ - فَقَدْ تَحَقَّقَ فِيهِ الشَّرْطُ، وَإِلاَّ بِأَنِ اخْتَل شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَجُّ (1) .
18 - وَيَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فُرُوعٌ نَذْكُرُ مِنْهَا:
أ - مَنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ وَاسِعٌ يَفْضُل عَنْ حَاجَتِهِ، بِحَيْثُ لَوْ بَاعَ الْجُزْءَ الْفَاضِل عَنْ حَاجَتِهِ مِنَ الدَّارِ الْوَاسِعَةِ لَوَفَّى ثَمَنُهُ لِلْحَجِّ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ بَيْعُ الْجُزْءِ الْفَاضِل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) .
ب - كَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَسْكَنُهُ نَفِيسًا يَفُوقُ عَلَى مِثْلِهِ لَوْ أَبْدَل دَارًا أَدْنَى لَوَفَّى تَكَالِيفَ الْحَجِّ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الثَّلاَثَةِ، وَلاَ يَجِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (3) .
ج - مَنْ مَلَكَ بِضَاعَةً لِتِجَارَتِهِ هَل يَلْزَمُهُ صَرْفُ مَال تِجَارَتِهِ لِلْحَجِّ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ بَقَاءُ رَأْسِ مَالٍ لِحِرْفَتِهِ زَائِدًا عَلَى نَفَقَةِ الْحَجِّ، وَرَأْسُ الْمَال يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) تنوير الأبصار 2 / 196، وشرح المنهاج للمحلى الصفحة السابقة، والمغني 3 / 223 والمراجع المالكية السابقة.
(3) المراجع السابقة.(17/32)
النَّاسِ، وَالْمُرَادُ مَا يُمْكِنُهُ الاِكْتِسَابُ بِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ لاَ أَكْثَرُ، لأَِنَّهُ لاَ نِهَايَةَ لَهُ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ: الأَْصَحُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ صَرْفُ مَال تِجَارَتِهِ لِنَفَقَةِ الْحَجِّ وَلَوْ لَمْ يَبْقَ لَهُ رَأْسُ مَالٍ لِتِجَارَتِهِ (2) . وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا سَبَقَ نَقْل كَلاَمِهِمْ.
د - إِذَا مَلَكَ نُقُودًا لِشِرَاءِ دَارٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ إِنْ حَصَلَتْ لَهُ النُّقُودُ وَقْتَ خُرُوجِ النَّاسِ لِلْحَجِّ، وَإِنْ جَعَلَهَا فِي غَيْرِهِ أَثِمَ. أَمَّا قَبْل خُرُوجِ النَّاسِ لِلْحَجِّ فَيَشْتَرِي بِالْمَال مَا شَاءَ، لأَِنَّهُ مَلَكَهُ قَبْل الْوُجُوبِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ ابْنُ عَابِدِينَ (3) .
هـ - مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ الْمَال إِلاَّ مَا يَكْفِي لأَِحَدِهِمَا، فَفِيهَا التَّفْصِيل الآْتِي:
1 - أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ اعْتِدَال الشَّهْوَةِ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْحَجِّ عَلَى الزَّوَاجِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، إِذَا مَلَكَ النَّفَقَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، أَمَّا إِنْ مَلَكَهَا فِي غَيْرِهَا فَلَهُ صَرْفُهَا حَيْثُ شَاءَ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ
__________
(1) رد المحتار 2 / 197، والمغني: المواضع السابق.
(2) شرح المنهاج بحاشيتي قليوبي وعميرة 2 / 87، وحاشية الباجوري على شرح الغزي 1 / 527.
(3) حاشية رد المحتار على الدر المختار 2 / 197.(17/32)
الْحَجُّ وَيَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَهُ صَرْفُ الْمَال إِلَى النِّكَاحِ وَهُوَ أَفْضَل.
2 - أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ تَوَقَانِ نَفْسِهِ وَالْخَوْفِ مِنَ الزِّنَى، فَهَذَا يَكُونُ الزَّوَاجُ فِي حَقِّهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْحَجِّ اتِّفَاقًا (1) .
وَ - قَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ: تَنْبِيهٌ: لَيْسَ مِنَ الْحَوَائِجِ الأَْصْلِيَّةِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ الْمُحْدَثَةُ لِرَسْمِ الْهَدِيَّةِ لِلأَْقَارِبِ وَالأَْصْحَابِ، فَلاَ يُعْذَرُ بِتَرْكِ الْحَجِّ لِعَجْزِهِ عَنْ ذَلِكَ. . . " (2) .
وَهَذَا لاَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ خِلاَفٌ بَعْدَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ يَدُل عَلَى إِثْمِ مَنْ أَخَّرَ الْحَجَّ بِسَبَبِ هَذِهِ التَّقَالِيدِ الْفَاسِدَةِ.
الْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ لِلاِسْتِطَاعَةِ: صِحَّةُ الْبَدَنِ:
19 - إِنَّ سَلاَمَةَ الْبَدَنِ مِنَ الأَْمْرَاضِ وَالْعَاهَاتِ الَّتِي تَعُوقُ عَنْ الْحَجِّ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ.
فَلَوْ وُجِدَتْ سَائِرُ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ فِي شَخْصٍ وَهُوَ مَرِيضٌ زَمِنٌ أَوْ مُصَابٌ بِعَاهَةٍ دَائِمَةٍ، أَوْ مُقْعَدٌ أَوْ شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَثْبُتُ عَلَى آلَةِ
__________
(1)) رد المحتار 2 / 197، والمجموع 7 / 55، وحاشية الدسوقي 2 / 7 والفروع 3 / 231، وفي رد المحتار مزيد تفصيل فيما إذا تحقق الوقوع في الزنى أو خافه، فإنه يقدم الزواج على الحج في الأول لا في الثاني. لكن ينتقد ذلك بما ذكروه أن وجوب الفور ظني لا قطعي.
(2) ابن عابدين 2 / 194.(17/33)
الرُّكُوبِ بِنَفْسِهِ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ بِنَفْسِهِ فَرِيضَةً اتِّفَاقًا.
لَكِنِ اخْتَلَفُوا هَل صِحَّةُ الْبَدَنِ شَرْطٌ لأَِصْل الْوُجُوبِ، أَوْ هِيَ شَرْطٌ لِلأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ صِحَّةَ الْبَدَنِ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْوُجُوبِ، بَل هِيَ شَرْطٌ لِلِزُومِ الأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ، فَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، بِإِرْسَال مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ (1) .
وَقَال الإِْمَامَانِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: إِنَّهَا شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لاَ يَجِبُ عَلَى فَاقِدِ صِحَّةِ الْبَدَنِ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ وَلاَ بِإِنَابَةِ غَيْرِهِ، وَلاَ الإِْيصَاءُ بِالْحَجِّ عَنْهُ فِي الْمَرَضِ (2) .
اسْتَدَل الأَْوَّلُونَ: بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الاِسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَهَذَا لَهُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ.
وَاسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ بِنَفْسِهِ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ.
20 - وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِل، نَذْكُرُ مِنْهَا:
أ - مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْحَجِّ بِمُسَاعَدَةِ غَيْرِهِ كَالأَْعْمَى، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ إِذَا تَيَسَّرَ لَهُ مَنْ يُعِينُهُ، تَبَرُّعًا أَوْ بِأُجْرَةٍ، إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 385، وانظر الكافي لابن قدامة 1 / 214.
(2) فتح القدير 2 / 125، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 456، ومختصر خليل ومواهب الجليل 2 / 498 و 499 والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 6.(17/33)
أُجْرَتِهِ، إِذَا كَانَتْ أُجْرَةُ الْمِثْل، وَلاَ يَكْفِيهِ حَجُّ الْغَيْرِ عَنْهُ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَمُوتَ.
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْحَجَّ بِنَفْسِهِ بِمُسَاعَدَةِ غَيْرِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِل غَيْرَهُ، لِيَحُجَّ عَنْهُ.
وَيَجِبُ عَلَى الْمَرِيضِ أَنْ يُوصِيَ بِالْحَجِّ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الصَّاحِبَيْنِ وَالْجُمْهُورِ.
أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، لأَِنَّ الْحَجَّ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ وَافَقُوا الْجُمْهُورَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لَكِنْ عَلَى أَسَاسِ مَذْهَبِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الرُّكُوبِ السَّابِقَةِ (فِقْرَةُ 15) وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْمَشْيَ إِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ.
ب - إِذَا وُجِدَتْ شُرُوطُ الْحَجِّ مَعَ صِحَّةِ الْبَدَنِ فَتَأَخَّرَ حَتَّى أُصِيبَ بِعَاهَةٍ تَمْنَعُهُ مِنَ الْحَجِّ وَلاَ يُرْجَى زَوَالُهَا فَالْحَجُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِل شَخْصًا يَحُجُّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. أَمَّا إِذَا أُصِيبَ بِعَاهَةٍ يُرْجَى زَوَالُهَا فَلاَ تَجُوزُ الإِْنَابَةُ، بَل يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ عِنْدَ زَوَالِهَا عَنْهُ (1) .
الْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمْنُ الطَّرِيقِ:
21 - أَمْنُ الطَّرِيقِ يَشْمَل الأَْمْنَ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَال، وَذَلِكَ وَقْتَ خُرُوجِ النَّاسِ لِلْحَجِّ، لأَِنَّ الاِسْتِطَاعَةَ لاَ تَثْبُتُ دُونَهُ.
__________
(1) المراجع السابقة.(17/34)
وَوَقَعَ الْخِلاَفُ فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ كَمَا فِي صِحَّةِ الْبَدَنِ:
فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةُ أَبِي شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ شَرْطُ الْوُجُوبِ. لأَِنَّ الاِسْتِطَاعَةَ لاَ تَتَحَقَّقُ بِدُونِ أَمْنِ الطَّرِيقِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرَجَّحَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ أَمْنَ الطَّرِيقِ شَرْطٌ لِلأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ لاَ لأَِصْل الْوُجُوبِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِنَحْوِ أَدِلَّتِهِمْ فِي إِيجَابِ الْحَجِّ عَلَى مَنْ فَقَدَ شَرْطَ صِحَّةِ الْبَدَنِ (1) .
وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ الأَْخِيرِ مَنْ اسْتَوْفَى شُرُوطَ الْحَجِّ عِنْدَ خَوْفِ الطَّرِيقِ فَمَاتَ قَبْل أَمْنِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْحَجِّ.
أَمَّا إِذَا مَاتَ بَعْدَ أَمْنِ الطَّرِيقِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ بِالْحَجِّ عَنْهُ اتِّفَاقًا (2) .
الْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ: إِمْكَانُ السَّيْرِ:
22 - إِمْكَانُ السَّيْرِ أَنْ تَكْمُل شَرَائِطُ الْحَجِّ فِي
__________
(1) انظر الهداية وشرحها 2 / 126 و 127 وبدائع الصنائع 2 / 123 وشرح المنهاج للمحلى 2 / 87 - 88، ومتن أبي شجاع بشرح الغزي وحاشية الباجوري 1 / 527 وانظر الشرح الكبير 2 / 6، ومواهب الجليل 2 / 491، وفيه تفاصيل كثيرة.
(2) فتح القدير الموضع السابق، ورد المحتار 2 / 197، والمغني 3 / 219.(17/34)
الْمُكَلَّفِ وَالْوَقْتُ مُتَّسِعٌ يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ لِلْحَجِّ.
وَهَذَا شَرْطٌ لأَِصْل الْوُجُوبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَشَرْطٌ لِلأَْدَاءِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَعَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ بِالْوَقْتِ. وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ شَرْطًا مُفْرَدًا مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ. وَفَسَّرُوا هَذَا الشَّرْطَ بِأَنَّهُ أَشْهُرُ الْحَجِّ، أَوْ وَقْتُ خُرُوجِ أَهْل بَلَدِهِ إِنْ كَانُوا يَخْرُجُونَ قَبْلَهَا، فَلاَ يَجِبُ الْحَجُّ إِلاَّ عَلَى الْقَادِرِ فِيهَا، أَوْ فِي وَقْتِ خُرُوجِهِمْ. وَفَسَّرَ غَيْرُهُمْ إِمْكَانَ السَّيْرِ بِوَقْتِ الْخُرُوجِ لِلْحَجِّ (2) .
23 - وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ إِمْكَانَ السَّيْرِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ بِالآْتِي:
أ - أَنَّ إِمْكَانَ السَّيْرِ مِنْ لَوَاحِقِ الاِسْتِطَاعَةِ وَهِيَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ (3) .
ب - أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ دُخُول وَقْتِ الْوُجُوبِ، كَدُخُول وَقْتِ الصَّلاَةِ، فَإِنَّهَا لاَ تَجِبُ قَبْل وَقْتِهَا، إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْبُلْدَانِ، فَيُعْتَبَرُ وَقْتُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّ كُل شَخْصٍ عِنْدَ خُرُوجِ
__________
(1) وفي مذهب الشافعية قولان ذكرهما المحلي في شرح المنهاج، والراجح ما ذكرناه كما في المجموع 7 / 89 وحاشية الباجوري 1 / 528، وانظر فتح القدير 2 / 120 ورد المحتار 2 / 200، ومواهب الجليل 2 / 491، وذكر ثلاثة أقوال صحح منهما ما ذكرناه والمغني 3 / 218 - 219.
(2) رحمة الله السندي في لباب المناسك ص 33 مع شرحه المسلك المتقسط.
(3) مواهب الجليل 2 / 491.(17/35)
أَهْل بَلَدِهِ، فَالتَّقْيِيدُ بِأَشْهُرِ الْحَجِّ فِي الآْيَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِِلَى أَهْل أُمِّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا، وَلِلإِْشْعَارِ بِأَنَّ الأَْفْضَل أَنْ لاَ يَقَعَ الإِْحْرَامُ فِيمَا قَبْلَهَا عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّ الإِْحْرَامَ شَرْطٌ، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الإِْحْرَامُ قَبْل الأَْشْهُرِ لِكَوْنِهِ رُكْنًا (1) ".
وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ إِمْكَانَ السَّيْرِ شَرْطٌ لِلُزُومِ أَدَاءِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الأَْدَاءُ دُونَ الْقَضَاءِ، كَالْمَرَضِ الْمَرْجُوِّ بُرْؤُهُ، وَعَدَمُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْجَمِيعُ (2) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ بِالنِّسَاءِ:
24 - مَا يَخُصُّ النِّسَاءَ مِنْ شُرُوطِ الاِسْتِطَاعَةِ شَرْطَانِ لاَ بُدَّ مِنْهُمَا لِكَيْ يَجِبَ الْحَجُّ عَلَى الْمَرْأَةِ يُضَافَانِ إِلَى خِصَال شَرْطِ الاِسْتِطَاعَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
هَذَانِ الشَّرْطَانِ هُمَا: الزَّوْجُ أَوِ الْمَحْرَمُ، وَعَدَمُ الْعِدَّةِ.
أَوَّلاً - الزَّوْجُ أَوِ الْمَحْرَمُ الأَْمِينُ:
25 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَصْحَبَ الْمَرْأَةَ فِي سَفَرِ الْحَجِّ زَوْجُهَا أَوْ مَحْرَمٌ مِنْهَا، إِذَا كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَهِيَ مَسِيرَةُ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) .
__________
(1) المسلك المتقسط ص 34.
(2) الفروع 3 / 233.
(3) الهداية وفتح القدير 2 / 128، والكافي 1 / 519، والمغني 3 / 236 - 237.(17/35)
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ ثَلاَثًا إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ (1) .
وَتَوَسَّعَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَسَوَّغُوا الاِسْتِبْدَال بِالْمَحْرَمِ:
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا إِنْ وَجَدَتْ نِسْوَةً ثِقَاتٍ: اثْنَتَيْنِ فَأَكْثَرَ تَأْمَنُ مَعَهُنَّ عَلَى نَفْسِهَا كَفَى ذَلِكَ بَدَلاً عَنِ الْمَحْرَمِ أَوِ الزَّوْجِ بِالنِّسْبَةِ لِوُجُوبِ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ عَلَى الْمَرْأَةِ. وَعِنْدَهُمُ " الأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ وُجُودُ مَحْرَمٍ لإِِحْدَاهُنَّ، لأَِنَّ الأَْطْمَاعَ تَنْقَطِعُ بِجَمَاعَتِهِنَّ. فَإِنْ وَجَدَتِ امْرَأَةً وَاحِدَةً ثِقَةً فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ، لَكِنْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَحُجَّ مَعَهَا حَجَّةَ الْفَرِيضَةِ أَوِ النَّذْرِ، بَل يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ وَحْدَهَا لأَِدَاءِ الْفَرْضِ أَوِ النَّذْرِ إِذَا أَمِنَتْ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ تَوَسُّعًا فَقَالُوا: الْمَرْأَةُ إِذَا لَمْ تَجِدِ الْمَحْرَمَ أَوِ الزَّوْجَ وَلَوْ بِأُجْرَةٍ تُسَافِرُ لِحَجِّ الْفَرْضِ أَوِ النَّذْرِ مَعَ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ بِنَفْسِهَا هِيَ مَأْمُونَةً أَيْضًا.
وَالرُّفْقَةُ الْمَأْمُونَةُ جَمَاعَةٌ مَأْمُونَةٌ مِنَ النِّسَاءِ، أَوِ الرِّجَال الصَّالِحِينَ. قَال الدُّسُوقِيُّ: وَأَكْثَرُ مَا نَقَلَهُ أَصْحَابُنَا اشْتِرَاطُ النِّسَاءِ ".
أَمَّا حَجُّ النَّفْل فَلاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ السَّفَرُ لَهُ إِلاَّ
__________
(1) حديث: " لا تسافر المرأة ثلاثا إلا ومعها ذو محرم " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 566 - ط السلفية) . ومسلم (2 / 975 - ط الحلبي) .(17/36)
مَعَ الزَّوْجِ أَوِ الْمَحْرَمِ فَقَطِ اتِّفَاقًا، وَلاَ يَجُوزُ لَهَا السَّفَرُ بِغَيْرِهِمَا، بَل تَأْثَمُ بِهِ (1) .
نَوْعُ الاِشْتِرَاطِ لِلْمَحْرَمِ:
26 - اخْتَلَفُوا فِي الزَّوْجِ أَوِ الْمَحْرَمِ هَل هُوَ شَرْطُ وُجُوبٍ أَوْ شَرْطٌ لِلُزُومِ الأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْمَحْرَمَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ، وَيَحُل مَحَلَّهُ عِنْدَ فَقْدِهِ الرُّفْقَةُ الْمَأْمُونَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الزَّوْجَ أَوِ الْمَحْرَمَ شَرْطٌ لِلُزُومِ الأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ (2) .
وَأَدِلَّةُ الْفَرِيقَيْنِ هِيَ مَا سَبَقَ الاِسْتِدْلاَل بِهِ فِي صِحَّةِ الْبَدَنِ وَأَمْنِ الطَّرِيقِ (ف 19 وَ 21) .
الْمَحْرَمُ الْمَشْرُوطُ لِلسَّفَرِ
27 - الْمَحْرَمُ الأَْمِينُ الْمَشْرُوطُ فِي اسْتِطَاعَةِ الْمَرْأَةِ لِلْحَجِّ هُوَ كُل رَجُلٍ مَأْمُونٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالتَّأْبِيدِ التَّزَوُّجُ مِنْهَا سَوَاءٌ كَانَ التَّحْرِيمُ بِالْقَرَابَةِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 9 - 10 والعدوي 1 / 455، والمنهاج للنووي وشرحه 2 / 89، ومغني المحتاج 1 / 467، وحاشية القليوبي على شرح المنهاج الصفحة السابقة.
(2) الشرح الكبير وحاشيته 2 / 9، وشرح الرسالة وحاشية العدوي وسائر المراجع السابقة والهداية وشرحها 2 / 130، ولباب المناسك وشرحه ص 37 والفروع 3 / 234 - 236.(17/36)
أَوِ الرَّضَاعَةِ أَوِ الصِّهْرِيَّةِ. . . وَنَحْوِ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي الزَّوْجِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِزِيَادَةِ شَرْطِ الإِْسْلاَمِ فِي الْمَحْرَمِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِذَلِكَ فِي حَقِيقَةِ الْمَحْرَمِ لَكِنْ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْمَحْرَمِ الْبُلُوغُ بَل التَّمْيِيزُ وَالْكِفَايَةُ (2) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَكْفِي الْمَحْرَمُ الذَّكَرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثِقَةً فِيمَا يَظْهَرُ، لأَِنَّ الْوَازِعَ الطَّبِيعِيَّ أَقْوَى مِنَ الشَّرْعِيِّ، إِذَا كَانَ لَهُ غَيْرَةٌ تَمْنَعُهُ أَنْ يَرْضَى بِالزِّنَى (3) ".
فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ:
28 - أ - يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَكُونَ قَادِرَةً عَلَى نَفَقَةِ نَفْسِهَا وَنَفَقَةِ الْمَحْرَمِ إِنْ طَلَبَ مِنْهَا النَّفَقَةَ، لأَِنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا عَلَيْهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ عَبَّرَ بِالنَّفَقَةِ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ. وَعَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِالأُْجْرَةِ. وَالْمُرَادُ أُجْرَةُ الْمِثْل (4) .
__________
(1) المسلك المتقسط ص 37، والمغني 3 / 239، والفروع 3 / 239 - 240.
(2) مواهب الجليل 2 / 522 - 523 و 524 وفيها التصريح بما ذكرنا، والدسوقي 2 / 9.
(3) نهاية المحتاج 2 / 382 وشرح المنهاج 2 / 89، ومغني المحتاج 1 / 467.
(4) المسلك المتقسط ص 38 والدر المختار مع حاشيته رد المحتار 2 / 199، والمغني 3 / 240، وشرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 455، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 9، ومواهب الجليل 2 / 522 والفروع 3 / 240.(17/37)
وَلَوْ امْتَنَعَ الْمَحْرَمُ عَنِ الْخُرُوجِ إِلاَّ بِأُجْرَةٍ لَزِمَتْهَا إِنْ قَدَرَتْ عَلَيْهَا، وَحَرُمَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ مَعَ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ فِي صُحْبَةِ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ أَوْ رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ (1) .
ب - الزَّوْجُ إِذَا حَجَّ مَعَ امْرَأَتِهِ فَلَهَا عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، نَفَقَةُ الْحَضَرِ لاَ السَّفَرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَجْرًا مُقَابِل الْخُرُوجِ مَعَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُمْ خَصُّوا الْمَحْرَمَ بِأَخْذِ الأُْجْرَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَهُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ إِذَا كَانَتْ أُجْرَةَ الْمِثْل (2) .
ج - إِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنَ الذَّهَابِ مَعَهُ لِحَجِّ الْفَرْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنَ النَّفْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الْحَجُّ إِلاَّ بِإِذْنِ الزَّوْجِ فَرْضًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ " لأَِنَّ فِي ذَهَابِهَا تَفْوِيتَ حَقِّ الزَّوْجِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ، لأَِنَّهُ فَرْضٌ بِغَيْرِ وَقْتٍ إِلاَّ فِي الْعُمُرِ كُلِّهِ، " فَإِنْ خَافَتِ الْعَجْزَ
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 / 9، ومغني المحتاج 1 / 467.
(2) المسلك المتقسط ص 39 وشرح الرسالة والشرح الكبير وحاشيته ومواهب الجليل المواضع السابقة، ونهاية المحتاج 2 / 383، ومغني المحتاج 1 / 468، والفروع والمغني الموضعين السابقين.
(3) الهداية وفتح القدير 2 / 130، والتاج والإكليل 2 / 221، والمغني 3 / 240.(17/37)
الْبَدَنِيَّ بِقَوْل طَبِيبَيْنِ عَدْلَيْنِ لَمْ يُشْتَرَطْ إِذْنُ الزَّوْجِ (1) ".
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لاَ يُقَدَّمُ عَلَى فَرَائِضِ الْعَيْنِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ زَوْجَتِهِ مِنْهُ، لأَِنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْهَا.
ثَانِيًا - عَدَمُ الْعِدَّةِ:
29 - يُشْتَرَطُ أَلاَ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُعْتَدَّةً عَنْ طَلاَقٍ أَوْ وَفَاةٍ مُدَّةَ إِمْكَانِ السَّيْرِ لِلْحَجِّ، وَهُوَ شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَفَاصِيل فِيهِ (2) .
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُعْتَدَّاتِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ بُيُوتِهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (3) ، وَالْحَجُّ يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، فَلاَ تُلْزَمُ بِأَدَائِهِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ.
وَقَدْ عَمَّمَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ لِكُل مُعْتَدَّةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ عِدَّتُهَا مِنْ طَلاَقٍ بَائِنٍ أَوْ رَجْعِيٍّ، أَوْ وَفَاةٍ، أَوْ فَسْخِ نِكَاحٍ. وَنَحْوِ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (4) .
__________
(1) الأم للإمام الشافعي 2 / 117 ونهاية المحتاج 2 / 383، ومغني المحتاج 1 / 536 وفي الأم تفضيل جيد.
(2) وإن لم يذكره بعضهم في شروط الحج، لكن ذكروا ما يدل عليه في أبواب العدة، كما نبه الحطاب 2 / 526 أو في الإحصار، كما في مغني المحتاج 1 / 536 وغيره.
(3) سورة الطلاق / 1.
(4) المسلك المتقسط ص 39، وانظر مواهب الجليل 2 / 526، وفيه تعميم المعتدات بالنسبة للطلاق والوفاء.(17/38)
وَفَصَّل الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: لاَ تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ إِلَى الْحَجِّ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْهِ فِي عِدَّةِ الطَّلاَقِ الْمَبْتُوتِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ لُزُومَ الْبَيْتِ فِيهِ وَاجِبٌ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَقُدِّمَ عَلَى الْحَجِّ لأَِنَّهُ يَفُوتُ، وَالطَّلاَقُ الْمَبْتُوتُ لاَ يَجِبُ فِيهِ ذَلِكَ. وَأَمَّا عِدَّةُ الرَّجْعِيَّةِ فَالْمَرْأَةُ فِيهِ بِمَنْزِلَتِهَا فِي طَلَبِ النِّكَاحِ، لأَِنَّهَا زَوْجَةٌ (1) .
وَنَحْوُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ لِلْعِدَّةِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ يَحِقُّ لِلزَّوْجِ عِنْدَهُمْ مَنْعُهَا عَنْ حَجَّةِ الْفَرْضِ فِي مَذْهَبِهِمْ (2) .
30 - ثُمَّ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي عَدَمِ الْعِدَّةِ: هَل هُوَ شَرْطُ وُجُوبٍ أَوْ شَرْطُ أَدَاءٍ، وَالأَْظْهَرُ أَنَّهُ شَرْطٌ لِلُزُومِ الأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ (3) . أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَهُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ.
فُرُوعٌ:
31 - لَوْ خَالَفَتِ الْمَرْأَةُ وَخَرَجَتْ لِلْحَجِّ فِي الْعِدَّةِ صَحَّ حَجُّهَا، وَكَانَتْ آثِمَةً.
ب - إِنْ خَرَجَتْ مِنْ بَلَدِهَا لِلْحَجِّ وَطَرَأَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا طَلاَقًا رَجْعِيًّا تَبِعَتْ زَوْجَهَا، رَجَعَ
__________
(1) المغني 3 / 240 - 241
(2) المغني 3 / 240 - 241
(3) على ما ذهب إليه ابن أمير حاج، كما في المسلك المتقسط، وأقره ابن عابدين في رد المحتار 2 / 200.(17/38)
أَوْ مَضَى، لَمْ تُفَارِقْهُ، وَالأَْفْضَل أَنْ يُرَاجِعَهَا. وَإِنْ كَانَ بَائِنًا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَإِنْ كَانَ إِلَى مَنْزِلِهَا أَقَل مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ وَإِلَى مَكَّةَ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَعُودَ إِلَى مَنْزِلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ إِلَى مَكَّةَ أَقَل مَضَتْ إِلَى مَكَّةَ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَى الْجَانِبَيْنِ أَقَل مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ مَضَتْ، وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ إِلَى مَنْزِلِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْمِصْرِ أَوْ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ أَوْ لاَ، إِلاَّ أَنَّ الرُّجُوعَ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنْ كَانَتْ فِي الْمِصْرِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ بِلاَ خِلاَفٍ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَفَازَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ لاَ تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا فَلَهَا أَنْ تَمْضِيَ إِلَى مَوْضِعِ الأَْمْنِ ثُمَّ لاَ تَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى تَمْضِيَ عِدَّتُهَا (1) .
وَنَحْوُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: قَال فِي الْمُغْنِي: وَإِذَا خَرَجَتْ لِلْحَجِّ فَتُوُفِّيَ زَوْجُهَا وَهِيَ قَرِيبَةٌ رَجَعَتْ لِتَعْتَدَّ فِي مَنْزِلِهَا، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ مَضَتْ فِي سَفَرِهَا (2) ".
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا خَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا لِحَجِّ الْفَرِيضَةِ فَمَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَوْ نَحْوِهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِذَا وَجَدَتْ ثِقَةً ذَا مَحْرَمٍ، أَوْ نَاسًا لاَ بَأْسَ بِهِمْ. وَإِنْ بَعُدَتْ أَوْ كَانَتْ أَحْرَمَتْ أَوْ أَحْرَمَتْ بَعْدَ الطَّلاَقِ أَوِ الْمَوْتِ، وَسَوَاءٌ أَحْرَمَتْ
__________
(1) إرشاد الساري إلى مناسك الملا علي القاري ص 39 - 40.
(2) المغني 3 / 241.(17/39)
بِفَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ أَوْ لَمْ تَجِدْ رُفْقَةً تَرْجِعُ مَعَهُمْ فَإِنَّهَا تَمْضِي. . . " (1) .
وَفِي حَجِّ التَّطَوُّعِ: تَرْجِعُ لِتُتِمَّ عِدَّتَهَا فِي بَيْتِهَا إِنْ عَلِمَتْ أَنَّهَا تَصِل قَبْل انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، إِنْ وَجَدَتْ ذَا مَحْرَمٍ أَوْ رُفْقَةً مَأْمُونَةً. وَإِلاَّ تَمَادَتْ مَعَ رُفْقَتِهَا. . . "
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ كَقَوْلِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ إِذْنِ الزَّوْجِ فِي خُرُوجِ الزَّوْجَةِ لِلْحَجِّ حَتَّى لَوْ طَرَأَتِ الْعِدَّةُ بَعْدَ الإِْحْرَامِ:
إِذَا خَرَجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَهُ مَنْعُهَا وَتَحْلِيلُهَا، وَإِنْ خَرَجَتْ بِإِذْنِهِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا وَلاَ تَحْلِيلُهَا (2) .
شُرُوطُ صِحَّةِ الْحَجِّ:
شُرُوطُ صِحَّةِ الْحَجِّ أُمُورٌ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صِحَّةُ الْحَجِّ وَلَيْسَتْ دَاخِلَةً فِيهِ. فَلَوِ اخْتَل شَيْءٌ مِنْهَا كَانَ الْحَجُّ بَاطِلاً، وَهِيَ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: الإِْسْلاَمُ:
32 - يُشْتَرَطُ الإِْسْلاَمُ لأَِنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ أَهْلاً
__________
(1) مواهب الجليل 2 / 526.
(2) نهاية المحتاج 2 / 478. وفي حال طروء العدة بعد الإحرام تفصيل ينظر في مصطلح: (إحصار فقرة 19) .(17/39)
لِلْعِبَادَةِ وَلاَ تَصِحُّ مِنْهُ، فَلاَ يَصِحُّ حَجُّ الْكَافِرِ أَصَالَةً وَلاَ نِيَابَةً، فَإِنْ حَجَّ أَوْ حُجَّ عَنْهُ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ (1) .
الشَّرْطُ الثَّانِي: الْعَقْل:
33 - يُشْتَرَطُ الْعَقْل لأَِنَّ الْمَجْنُونَ لَيْسَ أَهْلاً لِلْعِبَادَةِ أَيْضًا وَلاَ تَصِحُّ مِنْهُ. فَلَوْ حَجَّ الْمَجْنُونُ فَحَجُّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِذَا أَفَاقَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ. لَكِنْ يَصِحُّ أَنْ يَحُجَّ عَنِ الْمَجْنُونِ وَلِيُّهُ وَيَقَعُ نَفْلاً.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ:
34 - ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْحَجِّ زَمَانًا لاَ يُؤَدَّى فِي غَيْرِهِ، فِي قَوْله تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (2) .
قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَجَمَاهِيرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ: هِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ " (3) .
وَوَقَعَ الْخِلاَفُ فِي نَهَارِ يَوْمِ النَّحْرِ، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: هُوَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: آخِرُ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَيْلَةُ النَّحْرِ، وَلَيْسَ نَهَارُ يَوْمِ النَّحْرِ مِنْهَا.
__________
(1) الفقيه المالكي خليل في مختصره، أوائل الحج.
(2) سورة البقرة / 197.
(3) انظر تخريجه في المستدرك 2 / 176، وقال: " صحيح على شرطهما " ووافقه الذهبي وانظر تفسير الطبري 4 / 120 - 121 وابن كثير 1 / 236.(17/40)
وَوَسَّعَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: آخِرُ أَشْهُرِ الْحَجِّ نِهَايَةُ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ.
وَامْتِدَادُ الْوَقْتِ بَعْدَ لَيْلَةِ النَّحْرِ إِلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى جَوَازِ التَّحَلُّل مِنَ الإِْحْرَامِ وَكَرَاهَةِ الْعُمْرَةِ فَقَطْ (1) .
فَلَوْ فَعَل شَيْئًا مِنْ أَعْمَال الْحَجِّ خَارِجَ وَقْتِ الْحَجِّ لاَ يُجْزِيهِ، فَلَوْ صَامَ الْمُتَمَتِّعُ أَوِ الْقَارِنُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ قَبْل أَشْهُرِ الْحَجِّ لاَ يَجُوزُ، وَكَذَا السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَقِبَ طَوَافِ الْقُدُومِ لاَ يَقَعُ عَنْ سَعْيِ الْحَجِّ إِلاَّ فِيهَا.
نَعَمْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الإِْحْرَامَ بِالْحَجِّ قَبْلَهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَهُمْ. (انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ إِحْرَامٌ فِقْرَةُ 34، وَأَشْهُرُ الْحَجِّ) .
وَلاَ يَصِحُّ الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْل وَقْتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ انْعَقَدَ عُمْرَةً عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ (2) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْمِيقَاتُ الْمَكَانِيُّ:
35 - هُنَاكَ أَمَاكِنُ وَقَّتَهَا الشَّارِعُ أَيْ حَدَّدَهَا (3)
__________
(1) المسلك المتقسط ص 41، وشرح الغزي بحاشية الباجوري 1 / 537، والمغني 3 / 295 وشرح الزرقاني على مختصر خليل 2 / 249، وانظر ما يأتي في طواف الإفاضة.
(2) انظر رد المحتار 2 / 206 و 207 وشرح المحلي 2 / 91، وحاشية العدوي 1 / 457
(3) التوقيت لغة: " أن يجعل للشيء وقت يختص به، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان. . . . " النهاية 4 / 238، والقاموس وشرحه تاج العروس مادة: (وقت) .(17/40)
لأَِدَاءِ أَرْكَانِ الْحَجِّ، لاَ تَصِحُّ فِي غَيْرِهَا. فَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، مَكَانُهُ أَرْضُ عَرَفَةَ. وَالطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ، مَكَانُهُ حَوْل الْكَعْبَةِ.
وَالسَّعْيُ، مَكَانُهُ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
وَنُفَصِّل تَوْقِيتَ الْمَكَانِ لِكُل مَنْسَكٍ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (1) .
شُرُوطُ إِجْزَاءِ الْحَجِّ عَنِ الْفَرْضِ:
36 - شُرُوطُ إِجْزَاءِ الْحَجِّ عَنِ الْفَرْضِ ثَمَانِيَةٌ (2) وَهِيَ:
أ - الإِْسْلاَمُ: وَهُوَ شَرْطٌ لِوُقُوعِهِ عَنِ الْفَرْضِ وَالنَّفَل، بَل لِصِحَّتِهِ مِنْ أَسَاسِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
ب - بَقَاؤُهُ عَلَى الإِْسْلاَمِ إِلَى الْمَوْتِ مِنْ غَيْرِ ارْتِدَادٍ عِيَاذًا بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ ارْتَدَّ عَنْ الإِْسْلاَمِ بَعْدَ الْحَجِّ ثُمَّ تَابَ عَنْ رِدَّتِهِ وَأَسْلَمَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ جَدِيدٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: لاَ تَجِبُ عَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ مُجَدَّدًا بَعْدَ التَّوْبَةِ عَنِ الرِّدَّةِ (3) .
__________
(1) أما مواقيت الإحرام المكانية وأحكامها فسبقت في بحث الإحرام (ف 39 - 52) .
(2) انظر حصرها وسياقها عند رحمة الله السندي في لباب المناسك ص 42 - 43، لكنه جعلها تسعة شروط، وزاد على ما ذكرناه عدم الإفساد، ولم نجد مسوغا لذكره.
(3) اللباب وشرحه ص 42 والفروع 3 / 206، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 147، وأحكام القرآن للرازي (الجصاص) 1 / 322.(17/41)
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ. .} (1) فَقَدْ جَعَلَتِ الآْيَةُ الرِّدَّةَ نَفْسَهَا مُحْبِطَةً لِلْعَمَل.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2) .
فَقَدْ دَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى أَنَّ إِحْبَاطَ الرِّدَّةِ لِلْعَمَل مَشْرُوطٌ بِالْمَوْتِ كَافِرًا.
ج - الْعَقْل: فَإِنَّ الْمَجْنُونَ وَإِنْ صَحَّ إِحْرَامُ وَلِيِّهِ عَنْهُ وَمُبَاشَرَتُهُ أَعْمَال الْحَجِّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَقَعُ نَفْلاً لاَ فَرْضًا.
نَعَمْ، لَوْ كَانَ حَال الإِْحْرَامِ مُفِيقًا يَعْقِل النِّيَّةَ وَالتَّلْبِيَةَ وَأَتَى بِهِمَا، ثُمَّ أَوْقَفَهُ وَلِيُّهُ، وَبَاشَرَ عَنْهُ سَائِرَ أُمُورِهِ صَحَّ حَجُّهُ فَرْضًا، إِلاَّ أَنَّهُ يَبْقَى عَلَيْهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ حَتَّى يُفِيقَ فَيُؤَدِّيَهُ بِنَفْسِهِ (3) .
د - الْحُرِّيَّةُ: فَإِذَا حَجَّ الْعَبْدُ ثُمَّ عَتَقَ لاَ تَسْقُطُ عَنْهُ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ فِيهَا. (فِقْرَةُ 12) .
هـ - الْبُلُوغُ: فَإِذَا حَجَّ الصَّبِيُّ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلاَمُ فِيهِ (فِقْرَةُ 11 وَ 12) .
__________
(1) سورة الزمر / 65.
(2) سورة البقرة / 217، وانظر بحث الآية في كتابي أحكام القرآن السابقين.
(3) لباب المناسك بشرحه الصفحة السابقة.(17/41)
وَ - الأَْدَاءُ بِنَفْسِهِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ: بِأَنْ يَكُونَ صَحِيحًا مُسْتَكْمِلاً شُرُوطَ وُجُوبِ أَدَاءِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ إِذَا أَحَجَّ عَنْهُ غَيْرَهُ صَحَّ الْحَجُّ وَوَقَعَ نَفْلاً، وَبَقِيَ الْفَرْضُ فِي ذِمَّتِهِ.
أَمَّا إِذَا اخْتَل شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الأَْدَاءِ بِنَفْسِهِ فَأَحَجَّ عَنْهُ غَيْرَهُ صَحَّ وَسَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ، بِشَرْطِ اسْتِمْرَارِ الْعُذْرِ إِلَى الْمَوْتِ.
ز - عَدَمُ نِيَّةِ النَّفْل: فَيَقَعُ الْحَجُّ عَنِ الْفَرْضِ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ فِي الإِْحْرَامِ، وَبِمُطْلَقِ نِيَّةِ الْحَجِّ.
أَمَّا إِذَا نَوَى الْحَجَّ نَفْلاً وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْفَرْضِ أَوْ نَذْرٌ، فَإِنَّهُ يَقَعُ نَفْلاً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَيَقَعُ عَنِ الْفَرْضِ أَوِ النَّذْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
يَدُل لِلأَْوَّلَيْنِ حَدِيثُ وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى (2) . وَهَذَا نَوَى النَّفَل فَلاَ يَقَعُ عَنِ الْفَرْضِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ مَا نَوَاهُ.
وَاسْتَدَل لِلآْخَرَيْنِ بِأَنَّهُ قَوْل ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ. وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ غَيْرُ الْحَجِّ (3) .
ح - عَدَمُ النِّيَّةِ عَنِ الْغَيْرِ: وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ إِذَا
__________
(1) اللباب وشرحه ص 42 ورد المحتار 2 / 193 ومختصر خليل بشرحه 1 / 5، ومواهب الجليل 2 / 487، ومغني المحتاج 1 / 462، والمغني 3 / 246، والفروع 3 / 268.
(2) حديث: " وإنما لكل امرئ ما نوى " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1515 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب.
(3) الفروع 3 / 269 وهو تأويل مخالف لظاهر الحديث.(17/42)
كَانَ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ قَبْل ذَلِكَ، فَإِنْ نَوَى عَنْ غَيْرِهِ وَقَعَ عَنْ غَيْرِهِ اتِّفَاقًا.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ وَنَوَى عَنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَنِ الْغَيْرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَيَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
وَيَأْتِي مَزِيدُ تَفْصِيلٍ لِذَلِكَ فِي بَحْثِ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ.
كَيْفِيَّاتُ الْحَجِّ:
37 - يُؤَدَّى الْحَجُّ عَلَى ثَلاَثِ كَيْفِيَّاتٍ، وَهِيَ:
أ - الإِْفْرَادُ: وَهُوَ أَنْ يُهِل الْحَاجُّ أَيْ يَنْوِيَ الْحَجَّ فَقَطْ عِنْدَ إِحْرَامِهِ ثُمَّ يَأْتِي بِأَعْمَال الْحَجِّ وَحْدَهُ.
ب - الْقِرَانُ: وَهُوَ أَنْ يُهِل بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا، فَيَأْتِيَ بِهِمَا فِي نُسُكٍ وَاحِدٍ.
وَقَال الْجُمْهُورُ: إِنَّهُمَا يَتَدَاخَلاَنِ، فَيَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا وَيَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا وَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَطُوفُ الْقَارِنُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ، طَوَافٌ وَسَعْيٌ لِلْعُمْرَةِ، ثُمَّ طَوَافُ الزِّيَارَةِ وَالسَّعْيُ لِلْحَجِّ. وَيَجِبُ عَلَى الْقَارِنِ أَنْ يَنْحَرَ هَدْيًا بِالإِْجْمَاعِ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَانٌ) .
__________
(1) المسلك المتقسط ص 42 - 43 ومختصر خليل والشرح الكبير 2 / 18، وشرح المنهاج 2 / 90 والمهذب والمجموع 7 / 98 - 100، والمغني 3 / 245 والفروع 3 / 265.(17/42)
ج - التَّمَتُّعُ: وَهُوَ أَنْ يُهِل بِالْعُمْرَةِ فَقَطْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَأْتِيَ مَكَّةَ فَيُؤَدِّيَ مَنَاسِكَ الْعُمْرَةِ، وَيَتَحَلَّل. وَيَمْكُثَ بِمَكَّةَ حَلاَلاً، ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَيَأْتِيَ بِأَعْمَالِهِ. وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ هَدْيًا بِالإِْجْمَاعِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَمَتُّعٌ) .
مَشْرُوعِيَّةُ كَيْفِيَّاتِ الْحَجِّ:
38 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ كُل كَيْفِيَّاتِ الْحَجِّ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا (1) .
وَيُسْتَدَل لِذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ:
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (2) ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَقَوْلُهُ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (3) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَل بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَل بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَل بِالْحَجِّ. وَأَهَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ (4) . فَأَمَّا مَنْ أَهَل بِالْحَجِّ،
__________
(1) مختصر المزني ج 8 من طبعة كتاب الأم ص 64، وانظر المجموع 7 / 140، وفيه بعض تصحيفات.
(2) سورة آل عمران / 97.
(3) سورة البقرة / 196.
(4) أي في أول إحرامه، ثم قرن بعد ذلك، لما أمره الله به.(17/43)
أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ (1) .
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَدْ تَوَاتَرَ عَمَل الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ هَذِهِ الأَْوْجُهِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الأَْئِمَّةُ، وَمِنْ ذَلِكَ:
1 - تَصْرِيحُ الإِْمَامِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي نَقَلْنَاهُ سَابِقًا، وَقَوْلُهُ " ثُمَّ مَا لاَ أَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا "
2 - قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَكُلُّهَا جَائِزَةٌ بِالإِْجْمَاعِ "
3 - قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ: وَقَدِ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ بَعْدَ هَذَا - أَيْ بَعْدَ الْخِلاَفِ الَّذِي نُقِل عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ - عَلَى جَوَازِ الإِْفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ "
4 - قَال الْخَطَّابِيُّ: لَمْ تَخْتَلِفِ الأُْمَّةُ فِي أَنَّ الإِْفْرَادَ وَالْقِرَانَ، وَالتَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ كُلُّهَا جَائِزَةٌ (2) ".
هَدْيُ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ:
38 - يَجِبُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ أَنْ يَذْبَحَ هَدْيًا (3) ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ
__________
(1) حديث عائشة: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 419 - ط السلفية) ومسلم (2 / 870 - 871 - ط الحلبي) .
(2) المجموع 7 / 141، وشرح صحيح مسلم 8 / 169، ومعالم السنن شرح مختصر سنن أبي داود 2 / 301، وانظر الإجماع في المغني 3 / 276.
(3) الهداية وفتح القدير 2 / 322، والرسالة وشرحها 1 / 508 - 509، والمغني 3 / 468، 469 و 541، والمجموع 8 / 332.(17/43)
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . وَتَفْصِيلُهُ فِي (هَدْيٌ، وَتَمَتُّعٌ، وَقِرَانٌ) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ كَيْفِيَّاتِ أَدَاءِ الْحَجِّ:
39 - فَضَّل كُل كَيْفِيَّةٍ مِنْ كَيْفِيَّاتِ الْحَجِّ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ اخْتِلاَفِ الرِّوَايَاتِ فِي حَجِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاِسْتِنْبَاطَاتِ قُوَّةِ ذَلِكَ التَّفْضِيل عِنْدَ كُل جَمَاعَةٍ:
أ - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْفْرَادَ بِالْحَجِّ أَفْضَل، وَبِهِ قَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ (1) .
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ:
1 - حَدِيثُ عَائِشَةَ السَّابِقُ، وَفِيهِ قَوْلُهَا: وَأَهَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ. وَغَيْرُهُ مِنْ أَحَادِيثَ تُفِيدُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ.
2 - أَنَّهُ أَشَقُّ عَمَلاً مِنَ الْقِرَانِ، وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ كَمَا فِي التَّمَتُّعِ، فَيَكُونُ أَكْثَرَ ثَوَابًا (2) .
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ فَضَّلُوا الإِْفْرَادَ، ثُمَّ الْقِرَانَ،
__________
(1) شرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 490، وشرح المنهاج 2 / 128، والمجموع 7 / 140.
(2) شرح الرسالة وشرح المنهاج الصفحتين السابقتين.(17/44)
ثُمَّ التَّمَتُّعَ، وَقَدَّمَ الشَّافِعِيَّةُ التَّمَتُّعَ عَلَى الْقِرَانِ.
وَشَرْطُ تَفْضِيل الإِْفْرَادِ عَلَى غَيْرِهِ - عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ - " أَنْ يَحُجَّ ثُمَّ يَعْتَمِرَ فِي سَنَتِهِ، فَإِنْ أَخَّرَ الْعُمْرَةَ عَنْ سَنَةِ الْحَجِّ فَكُل وَاحِدٍ مِنَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ أَفْضَل مِنْهُ، بِلاَ خِلاَفٍ، لأَِنَّ تَأْخِيرَ الْعُمْرَةِ عَنْ سَنَةِ الْحَجِّ مَكْرُوهٌ (1) ".
ب - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَفْضَلَهَا الْقِرَانُ، ثُمَّ التَّمَتُّعُ، ثُمَّ الإِْفْرَادُ، وَهُوَ قَوْل سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْمُزَنِيِّ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ. وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ (2) .
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ:
1 - حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْعَقِيقِ يَقُول: أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، فَقَال: صَل فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقُل: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ (3) .
فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِإِدْخَال الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُفْرِدًا، وَلاَ يَأْمُرُهُ إِلاَّ بِالأَْفْضَل. وَهَذَا يَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي حَجِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمَصِيرُ إِلَيْهِ مُتَعَيَّنٌ (4) .
__________
(1) المجموع 7 / 139.
(2) الهداية وفتح القدير 2 / 199 و 210، ورد المحتار 2 / 262، والمجموع 7 / 140.
(3) حديث: " أتاني الليلة آت من ربي. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 392 - ط السلفية) .
(4) انظر رجحات القرآن في زاد المعاد لابن القيم وقد أطال فيها 1 / 187، ونيل الأوطار للشوكاني 4 / 308 - 317.(17/44)
2 - أَنَّهُ أَشَقُّ لِكَوْنِهِ أَدْوَمُ إِحْرَامًا، وَأَسْرَعُ إِلَى الْعِبَادَةِ، وَلأَِنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَيَكُونُ أَفْضَل.
ج - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَل، فَالإِْفْرَادُ، فَالْقِرَانُ.
" وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ اخْتِيَارُ التَّمَتُّعِ: ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةُ، وَالْحَسَنُ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالْقَاسِمُ، وَسَالِمٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ (1) ".
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ:
1 - قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ جَابِرٍ -: لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِل، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً (2) .
فَقَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّمَتُّعِ، وَتَمَنَّاهُ لِنَفْسِهِ، وَلاَ يَأْمُرُ وَلاَ يَتَمَنَّى إِلاَّ الأَْفْضَل.
2 - أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ، يَجْتَمِعُ لَهُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، مَعَ كَمَالِهِمَا، وَكَمَال أَفْعَالِهِمَا، عَلَى وَجْهِ الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ، مَعَ زِيَادَةِ نُسُكٍ، لَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى.
__________
(1) المغني 3 / 276.
(2) حديث: " لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت. . . . " أخرجه مسلم (2 / 888 - ط الحلبي) .(17/45)
صِفَةُ أَدَاءِ الْحَجِّ بِكَيْفِيَّاتِهِ كُلِّهَا:
وَنَقْسِمُ أَعْمَال الْحَجِّ لِتَسْهِيل فَهْمِ أَدَائِهَا إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ - أَعْمَال الْحَجِّ حَتَّى قُدُومِ مَكَّةَ.
ب - أَعْمَال الْحَجِّ بَعْدَ قُدُومِ مَكَّةَ.
أَعْمَال الْحَجِّ حَتَّى قُدُومِ مَكَّةَ:
40 - مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَإِنَّهُ يَشْرَعُ بِالاِسْتِعْدَادِ لِلإِْحْرَامِ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ إِحْرَامٌ، وَخُصُوصًا ف 117) ، وَيَنْوِي فِي إِحْرَامِهِ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي يُرِيدُ أَدَاءَ الْحَجِّ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَرَادَ الإِْفْرَادَ نَوَى الْحَجَّ، وَإِنْ أَرَادَ الْقِرَانَ نَوَى الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَإِنْ أَرَادَ التَّمَتُّعَ نَوَى الْعُمْرَةَ فَقَطْ.
فَإِذَا دَخَل مَكَّةَ بَادَرَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَتَوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ بِغَايَةِ الْخُشُوعِ وَالإِْجْلاَل، وَيَبْدَأُ بِالطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ، فَيَطُوفُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، وَهَذَا الطَّوَافُ هُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ لِلْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ، وَهُوَ طَوَافُ الْعُمْرَةِ لِمَنْ أَحْرَمَ مُتَمَتِّعًا (انْظُرْ تَمَتُّعٌ) . أَمَّا إِنْ كَانَ قَارِنًا فَيَقَعُ عَنِ الْقُدُومِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَنِ الْعُمْرَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ طَوَافًا آخَرَ لِلْقُدُومِ عِنْدَهُمْ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ قِرَانٌ) .
وَيَقْطَعُ الْمُتَمَتِّعُ التَّلْبِيَةَ بِشُرُوعِهِ بِالطَّوَافِ، وَلاَ يَقْطَعُهَا الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ حَتَّى يَشْرَعَ فِي الرَّمْيِ يَوْمَ النَّحْرِ (انْظُرْ تَلْبِيَةٌ) .
وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ فِي ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ وَيُقَبِّلُهُ،(17/45)
وَكُلَّمَا مَرَّ بِهِ، إِنْ تَيَسَّرَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِيذَاءٍ لأَِحَدٍ، وَإِلاَّ لَمَسَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِشَيْءٍ يُمْسِكُهُ بِهَا وَقَبَّلَهُ، وَإِلاَّ أَشَارَ بِيَدَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ السَّعْيَ بَعْدَهُ فَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يَضْطَبِعَ فِي أَشْوَاطِ طَوَافِهِ هَذَا كُلِّهَا، وَيَرْمُل فِي الثَّلاَثَةِ الأُْولَى. وَلْيُكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي طَوَافِهِ كُلِّهِ، وَلاَ سِيَّمَا الْمَأْثُورُ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: طَوَافٌ) .
وَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمِ إِنْ أَمْكَنَ، ثُمَّ إِنْ أَرَادَ السَّعْيَ يَذْهَبُ إِلَى الصَّفَا وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، مُرَاعِيًا أَحْكَامَ السَّعْيِ وَآدَابِهِ.
(انْظُرْ: سَعْيٌ) . وَهَذَا السَّعْيُ يَقَعُ عَنِ الْحَجِّ لِلْمُفْرِدِ، وَعَنِ الْعُمْرَةِ لِلْمُتَمَتِّعِ، وَعَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِلْقَارِنِ، عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فِي الْقِرَانِ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَعَنِ الْعُمْرَةِ فَقَطْ لِلْقَارِنِ، وَعَلَيْهِ سَعْيٌ آخَرُ لِلْحَجِّ عِنْدَهُمْ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: قِرَانٌ) .
وَهُنَا يَحْلِقُ الْمُتَمَتِّعُ رَأْسَهُ بَعْدَ السَّعْيِ أَوْ يُقَصِّرُهُ (انْظُرْ حَلْقٌ) ، وَقَدْ حَل مِنْ إِحْرَامِهِ. (انْظُرْ: إِحْرَامٌ: ف 126) . أَمَّا الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ فَهُمَا عَلَى إِحْرَامِهِمَا إِلَى أَنْ يَتَحَلَّلاَ بِأَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ.
أَعْمَال الْحَجِّ بَعْدَ قُدُومِ مَكَّةَ:
41 - يَمْكُثُ الْحَاجُّ فِي مَكَّةَ بَعْدَ الْقُدُومِ وَمَا ذَكَرْنَا فِيهِ - إِلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ لِيُؤَدِّيَ سَائِرَ الْمَنَاسِكِ وَيُؤَدِّي أَعْمَال الْحَجِّ هَذِهِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ كَمَا يَلِي:(17/46)
يَوْمُ التَّرْوِيَةِ:
42 - وَهُوَ يَوْمُ الثَّامِنِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَنْطَلِقُ فِيهِ الْحُجَّاجُ إِلَى مِنًى، وَيُحْرِمُ الْمُتَمَتِّعُ بِالْحَجِّ، أَمَّا الْمُفْرِدُ وَالْقَارِنُ فَهُمَا عَلَى إِحْرَامِهِمَا، وَيَبِيتُونَ بِمِنًى اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، وَيُصَلُّونَ فِيهَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ: الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ. وَهَذَا فَجْرُ يَوْمِ عَرَفَةَ.
يَوْمُ عَرَفَةَ:
43 - وَهُوَ يَوْمٌ عَظِيمٌ يُؤَدِّي فِيهِ الْحُجَّاجُ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ رُكْنَ الْحَجِّ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَى فَوَاتِهِ بُطْلاَنُ الْحَجِّ، ثُمَّ الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ.
أ - الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ: وَفِيهِ يُسَنُّ أَنْ يَخْرُجَ الْحَاجُّ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلاَّ بَطْنَ عُرَنَةَ، وَيُسَنُّ أَلاَ يَدْخُل عَرَفَةَ إِلاَّ بَعْدَ الزَّوَال، وَبَعْدَ أَنْ يَجْمَعَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ تَقْدِيمًا، فَيَقِفَ بِعَرَفَةَ مُرَاعِيًا أَحْكَامَهُ وَسُنَنَهُ وَآدَابَهُ، وَيَسْتَمِرَّ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلاَ يُجَاوِزَ عَرَفَةَ قَبْلَهُ، وَيَتَوَجَّهَ إِلَى اللَّهِ فِي وُقُوفِهِ خَاشِعًا ضَارِعًا بِالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ وَالتَّلْبِيَةِ. . . حَتَّى يَدْفَعَ مِنْ عَرَفَةَ.
ب - الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ: إِذَا غَرَبَتْ شَمْسُ يَوْمِ عَرَفَةَ يَسِيرُ الْحَاجُّ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَيَجْمَعُ بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ تَأْخِيرًا، وَيَبِيتُ فِيهَا، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، ثُمَّ يُصَلِّي الْفَجْرَ وَيَقِفُ لِلدُّعَاءِ، وَالْوُقُوفُ بَعْدَ الْفَجْرِ(17/46)
وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّهُ إِذَا نَفَرَ لِعُذْرٍ كَزَحْمَةٍ قَبْل الْفَجْرِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَيَسْتَمِرُّ وَاقِفًا يَدْعُو وَيُهَلِّل وَيُلَبِّي حَتَّى يُسْفِرَ جِدًّا، لِيَنْطَلِقَ إِلَى مِنًى.
وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَلْقُطَ الْجِمَارَ (الْحَصَيَاتِ الصِّغَارَ) مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ، لِيَرْمِيَ بِهَا، وَعَدَدُهَا سَبْعُونَ، لِلرَّمْيِ كُلِّهِ، وَإِلاَّ فَسَبْعَةٌ يَرْمِي بِهَا يَوْمَ النَّحْرِ.
يَوْمُ النَّحْرِ:
44 - يُسَنُّ أَنْ يَدْفَعَ الْحَاجُّ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ، لِيُؤَدِّيَ أَعْمَال النَّحْرِ، وَهُوَ أَكْثَرُ أَيَّامِ الْحَجِّ عَمَلاً، وَيُكْثِرُ فِي تَحَرُّكِهِ مِنَ الذِّكْرِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ.
وَأَعْمَال هَذَا الْيَوْمِ هِيَ:
أ - رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ: فَيَجِبُ عَلَى الْحَاجِّ فِي هَذَا الْيَوْمِ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا، وَتُسَمَّى الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى. يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَيُكَبِّرُ مَعَ كُل حَصَاةٍ، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ ابْتِدَاءِ الرَّمْيِ.
ب - نَحْرُ الْهَدْيِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَالْقَارِنِ، سُنَّةٌ لِغَيْرِهِمَا.
ج - الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ: وَالْحَلْقُ أَفْضَل لِلرِّجَال، مَكْرُوهٌ كَرَاهَةً شَدِيدَةً لِلنِّسَاءِ.
د - طَوَافُ الزِّيَارَةِ: وَيَأْتِي تَرْتِيبُهُ بَعْدَ الأَْعْمَال السَّابِقَةِ، فَيُفِيضُ الْحَاجُّ أَيْ يَرْحَل إِلَى مَكَّةَ(17/47)
لِيَطُوفَ الزِّيَارَةَ، وَهُوَ طَوَافُ الرُّكْنِ فِي الْحَجِّ.
وَإِنْ كَانَ قَدَّمَ السَّعْيَ فَلاَ يَضْطَبِعُ وَلاَ يَرْمُل فِي هَذَا الطَّوَافِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَبْقَ سَعْيٌ بَعْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَدِّمِ السَّعْيَ فَلْيَسْعَ بَعْدَ الطَّوَافِ، وَيَضْطَبِعْ وَيَرْمُل فِي طَوَافِهِ، كَمَا هِيَ السُّنَّةُ فِي كُل طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ.
هـ - السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ: لِمَنْ لَمْ يُقَدِّمِ السَّعْيَ مِنْ قَبْل.
و التَّحَلُّل: وَيَحْصُل بِأَدَاءِ الأَْعْمَال الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَهُوَ قِسْمَانِ:
التَّحَلُّل الأَْوَّل: أَوِ الأَْصْغَرُ: تَحِل بِهِ مَحْظُورَاتُ الإِْحْرَامِ عَدَا النِّسَاءَ.
وَيَحْصُل بِالْحَلْقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِالرَّمْيِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَبِفِعْل ثَلاَثَةٍ مِنْ أَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ (اسْتُثْنِيَ مِنْهَا الذَّبْحُ حَيْثُ لاَ دَخْل لَهُ فِي التَّحَلُّل) عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
التَّحَلُّل الثَّانِي: أَوِ الأَْكْبَرُ: تَحِل بِهِ كُل مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ حَتَّى النِّسَاءُ.
وَيَحْصُل بِطَوَافِ الإِْفَاضَةِ فَقَطْ بِشَرْطِ الْحَلْقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِالإِْفَاضَةِ مَعَ السَّعْيِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَبِاسْتِكْمَال الأَْعْمَال الأَْرْبَعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
أَوَّل وَثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
45 - هُمَا ثَانِي وَثَالِثُ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَفِيهِمَا مَا يَلِي:(17/47)
أ - الْمَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَتَيْ هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ: وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
ب - رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلاَثِ: يَرْمِيهَا عَلَى التَّرْتِيبِ: الْجَمْرَةُ الأُْولَى أَوِ الصُّغْرَى وَهِيَ أَقْرَبُ الْجَمَرَاتِ إِلَى مَسْجِدِ الْخَيْفِ بِمِنًى، ثُمَّ الْجَمْرَةُ الثَّانِيَةُ أَوِ الْوُسْطَى، ثُمَّ الثَّالِثَةُ الْكُبْرَى جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ. يَرْمِي كُل وَاحِدَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَيَدْعُو بَيْنَ كُل جَمْرَتَيْنِ.
ج - النَّفْرُ الأَْوَّل: يَحِل لِلْحَاجِّ إِذَا رَمَى جِمَارَ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يَرْحَل إِلَى مَكَّةَ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، إِذَا جَاوَزَ حُدُودَ مِنًى قَبْل غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَبْل فَجْرِ ثَالِثِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
د - التَّحْصِيبُ: وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَيَنْزِل الْحَاجُّ بِالْمُحَصَّبِ (1) عِنْدَ وُصُولِهِ مَكَّةَ إِنْ تَيَسَّرَ لَهُ لِيَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ وَيُصَلِّيَ.
ثَالِثُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
46 - هُوَ رَابِعُ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَفِيهِ:
أ - الرَّمْيُ: يَجِبُ رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلاَثِ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ، فَلَمْ يَنْفِرِ النَّفْرَ الأَْوَّل، وَيَنْتَهِي وَقْتُهُ وَوَقْتُ الرَّمْيِ كُلِّهِ أَيْضًا قَضَاءً وَأَدَاءً بِغُرُوبِ شَمْسِ هَذَا الْيَوْمِ اتِّفَاقًا. وَتَنْتَهِي بِغُرُوبِهِ مَنَاسِكُ مِنًى.
__________
(1) يقع عند مدخل مكة بين الجبلين ومقبرة الحجون. ويقع الآن بين قصر الملك وبين جبانة المعلى وقد شغل ببعض المباني.(17/48)
ب - النَّفْرُ الثَّانِي: يَنْفِرُ أَيْ يَرْحَل سَائِرُ الْحُجَّاجِ فِي هَذَا الْيَوْمِ إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَلاَ يُشْرَعُ الْمُكْثُ بِمِنًى بَعْدَ ذَلِكَ.
ج - التَّحْصِيبُ: عِنْدَ وُصُول مَكَّةَ، كَمَا مَرَّ ذِكْرُهُ، فِي النَّفْرِ الأَْوَّل.
د - الْمُكْثُ بِمَكَّةَ: تَنْتَهِي الْمَنَاسِكُ بِنِهَايَةِ أَعْمَال مِنًى - عَدَا طَوَافَ الْوَدَاعِ - وَيَمْكُثُ الْحَاجُّ بِمَكَّةَ إِلَى وَقْتِ سَفَرِهِ فِي عِبَادَةٍ، وَذِكْرٍ، وَطَوَافٍ، وَعَمَل خَيْرٍ. وَيَأْتِي الْمُفْرِدُ بِالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ وَقْتَهَا كُل أَيَّامِ السَّنَةِ عَدَا يَوْمَ عَرَفَةَ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهُ فَتُكْرَهُ فِيهَا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: إِحْرَامٌ: ف 38) (وَعُمْرَةٌ) .
طَوَافُ الْوَدَاعِ:
46 م - إِذَا أَرَادَ الْحَاجُّ السَّفَرَ مِنْ مَكَّةَ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْوَدَاعِ، وَالْمَعْنَى الْمُلاَحَظُ فِي هَذَا الطَّوَافِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ الْعَهْدِ بِالْبَيْتِ، وَلاَ رَمْل فِي هَذَا الطَّوَافِ وَلاَ اضْطِبَاعَ، وَبَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، يَأْتِي زَمْزَمَ وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا مُسْتَقْبِل الْبَيْتِ، وَيَتَشَبَّثُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَيَسْتَلِمَ الْحَجَرَ الأَْسْوَدَ إِنْ تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ غَيْرِ إِيذَاءِ أَحَدٍ، ثُمَّ يَسِيرُ إِلَى بَابِ الْحَرَمِ وَوَجْهُهُ تِلْقَاءَ الْبَابِ، دَاعِيًا بِالْقَبُول، وَالْغُفْرَانِ، وَبِالْعَوْدِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَأَلاَّ يَكُونَ ذَلِكَ آخِرَ الْعَهْدِ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ الْعَتِيقِ.(17/48)
أَرْكَانُ الْحَجِّ:
47 - أَرْكَانُ الْحَجِّ فِيمَا اتَّجَهَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَرْبَعَةٌ:
الإِْحْرَامُ. وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ. وَالطَّوَافُ وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ. وَالسَّعْيُ. وَأَرْكَانُ الْحَجِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رُكْنَانِ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ سِتٌّ: الأَْرْبَعُ الْمَذْكُورَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَالْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ مُعْظَمِ الأَْرْكَانِ.
الرُّكْنُ الأَْوَّل: الإِْحْرَامُ:
48 - الإِْحْرَامُ فِي اللُّغَةِ: الدُّخُول فِي الْحُرْمَةِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الإِْحْرَامُ بِالْحَجِّ: نِيَّةُ الْحَجِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَالنِّيَّةُ مَعَ التَّلْبِيَةِ وَهِيَ قَوْل: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالإِْحْرَامُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَشَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَهُوَ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ مِنْ وَجْهٍ رُكْنٌ مِنْ وَجْهٍ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ) .
الرُّكْنُ الثَّانِي: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ:
49 - الْمُرَادُ مِنْ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ: وُجُودُ الْحَاجِّ فِي أَرْضِ (عَرَفَةَ (1)) ، بِالشُّرُوطِ وَالأَْحْكَامِ الْمُقَرَّرَةِ.
__________
(1) انظر تعريف عرفة وحدودها في مصطلح (عرفة) .(17/49)
وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ رُكْنٌ أَسَاسِيٌّ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، يَخْتَصُّ بِأَنَّهُ مَنْ فَاتَهُ فَقَدَ فَاتَهُ الْحَجُّ.
وَقَدْ ثَبَتَتْ رُكْنِيَّةُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ بِالأَْدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ: أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} (1) . فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا نَزَلَتْ تَأْمُرُ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ (2) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَعِدَّةُ أَحَادِيثَ، أَشْهُرُهَا حَدِيثُ: الْحَجُّ عَرَفَةَ (3) .
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَدْ صَرَّحَ بِهِ عَدَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَأَنَّهُ مَنْ فَاتَهُ فَعَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلٌ (4) ".
وَقْتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ:
50 - يَبْدَأُ وَقْتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مِنْ زَوَال الشَّمْسِ
__________
(1) سورة البقرة / 198.
(2) الحديث بتفصيله في البخاري في الحج (باب وقوف عرفة) وفي التفسير (الفتح 8 / 187 - ط السلفية) والترمذي 3 / 231 وأبو داود 2 / 187 والنسائي (باب رفع اليدين بالدعاء بعرفة) 5 / 205 وابن ماجه رقم 3018 ونقل المفسرون الإجماع على تفسير الآية بذلك انظر جامع البيان للطبري 4 / 190، وتفسير ابن كثير 1 / 242.
(3) حديث: " الحج عرفة " أخرجه أبو داود (2 / 486 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 464 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) بداية المجتهد 1 / 335.(17/49)
يَوْمَ عَرَفَةَ - وَهُوَ تَاسِعُ ذِي الْحِجَّةِ - وَيَمْتَدُّ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ حَتَّى لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فِي غَيْرِ هَذَا الْوَقْتِ كَانَ وُقُوفُهُ بَاطِلاً اتِّفَاقًا فِي الْجُمْلَةِ.
وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ وُقُوفِ عَرَفَةَ هُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ.
أَمَّا ابْتِدَاءُ وَقْتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَدْ وَقَعَ فِيهِ اخْتِلاَفٌ:
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُ زَوَال شَمْسِ يَوْمِ عَرَفَةَ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ: إِلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ هُوَ اللَّيْل، فَمَنْ لَمْ يَقِفْ جَزْءًا مِنَ اللَّيْل لَمْ يُجْزِئْ وُقُوفُهُ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ، وَأَمَّا الْوُقُوفُ نَهَارًا فَوَاجِبٌ يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ بِتَرْكِهِ عَمْدًا بِغَيْرِ عُذْرٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: وَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ "
الزَّمَنُ الَّذِي يَسْتَغْرِقُهُ الْوُقُوفُ:
أَمَّا الزَّمَنُ الَّذِي يَسْتَغْرِقُهُ الْوُقُوفُ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ:
51 - قَسَمَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ زَمَانَ الْوُقُوفِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ - زَمَانُ الرُّكْنِ: الَّذِي تَتَأَدَّى بِهِ فَرِيضَةُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ: وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ فِي عَرَفَةَ خِلاَل الْمُدَّةِ الَّتِي عَرَّفْنَاهَا عِنْدَ كُلٍّ، وَلَوْ زَمَانًا قَلِيلاً جِدًّا.(17/50)
ب - زَمَانُ الْوَاجِبِ: وَهُوَ أَنْ يَسْتَمِرَّ مَنْ وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَال إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فَلاَ يُجَاوِزُ حَدَّ عَرَفَةَ إِلاَّ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَلَوْ بِلَحْظَةٍ. وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِقَوْلِهِمْ: أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ اللَّيْل وَالنَّهَارِ بِعَرَفَةَ. فَلَوْ فَارَقَ عَرَفَةَ قَبْل الْغُرُوبِ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ إِلاَّ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَزَمَانُ الرُّكْنِ عِنْدَهُمْ هُوَ الْوُقُوفُ لَيْلاً، أَمَّا نَهَارًا فَوَاجِبٌ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ اللَّيْل وَالنَّهَارِ بِعَرَفَةَ سُنَّةٌ لَيْسَ وَاجِبًا، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ بِتَرْكِهِ الْفِدَاءُ اسْتِحْبَابًا، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ وَقَفَ بِعَرَفَةَ مِنْ بَعْدِ الزَّوَال إِلَى فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ أَجْزَأَهُ (1) .
الثَّالِثُ: طَوَافُ الزِّيَارَةِ:
52 - طَوَافُ الزِّيَارَةِ يُؤَدِّيهِ الْحَاجُّ بَعْدَ أَنْ يُفِيضَ مِنْ عَرَفَةَ وَيَبِيتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَيَأْتِي مِنًى يَوْمَ الْعِيدِ
__________
(1) انظر بحث الوقوف بعرفة في بدائع الصنائع 2 / 125 - 127 والهداية وفتح القدير 2 / 167 والمسلك المتقسط ص 51 - 52 و 129 - 139 والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي ص 36 - 37 وشرح الزرقاني 2 / 269 وشرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 475 وشرح المنهاج 2 / 114 - 115 ونهاية المحتاج 2 / 422 - 423، ومغني المحتاج 1 / 496 - 498، والمغني 3 / 414 - 416، والفروع 3 / 508 - 509.(17/50)
فَيَرْمِي وَيَنْحَرُ وَيَحْلِقُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُفِيضُ إِلَى مَكَّةَ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ سُمِّيَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ لأَِنَّ الْحَاجَّ يَأْتِي مِنْ مِنًى فَيَزُورُ الْبَيْتَ وَلاَ يُقِيمُ بِمَكَّةَ، بَل يَرْجِعُ لِيَبِيتَ بِمِنًى. وَيُسَمَّى أَيْضًا طَوَافَ الإِْفَاضَةِ، لأَِنَّ الْحَاجَّ يَفْعَلُهُ عِنْدَ إِفَاضَتِهِ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ.
وَعَدَدُ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ سَبْعَةٌ، وَكُلُّهَا رُكْنٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الرُّكْنُ هُوَ أَكْثَرُ السَّبْعَةِ، وَالْبَاقِي وَاجِبٌ يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ.
وَيَجِبُ الْمَشْيُ فِي الطَّوَافِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَيُسَنُّ الرَّمَل وَالاِضْطِبَاعُ فِي الطَّوَافِ إِذَا كَانَ سَيَسْعَى بَعْدَهُ وَإِلاَّ فَلاَ يُسَنُّ. وَيُصَلِّي بَعْدَ الطَّوَافِ رَكْعَتَيْنِ وُجُوبًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَسُنَّةً عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (طَوَافٌ) .
رُكْنِيَّةُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ:
53 - ثَبَتَ فَرْضِيَّةُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ:
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1)
فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الآْيَةَ فِي طَوَافِ الإِْفَاضَةِ، فَيَكُونُ فَرْضًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَدْ حَجَّتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ صَفِيَّةُ
__________
(1) سورة الحج / 30.(17/51)
بِنْتُ حُيَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَاضَتْ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ قَالُوا: إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ. قَال: فَلاَ إذَنْ (1) .
فَدَل الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ فَرْضٌ لاَ بُدَّ مِنْهُ، وَلَوْلاَ فَرْضِيَّتُهُ لَمْ يُمْنَعْ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ عَنِ السَّفَرِ.
وَعَلَيْهِ الإِْجْمَاعُ (2) .
شُرُوطُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ:
54 - يُشْتَرَطُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ شُرُوطٌ خَاصَّةٌ بِهِ سِوَى الشُّرُوطِ الْعَامَّةِ لِلطَّوَافِ وَهَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَاصَّةُ هِيَ:
أ - أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِالإِْحْرَامِ، لِتَوَقُّفِ احْتِسَابِ أَيِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَال الْحَجِّ عَلَى الإِْحْرَامِ.
ب - أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِوُقُوفِ عَرَفَةَ، فَلَوْ طَافَ لِلإِْفَاضَةِ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لاَ يَسْقُطُ بِهِ فَرْضُ الطَّوَافِ، إِجْمَاعًا.
ج - النِّيَّةُ: بِأَنْ يَقْصِدَ أَصْل الطَّوَافِ. أَمَّا نِيَّةُ التَّعْيِينِ فَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي طَوَافِ الإِْفَاضَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) لِدُخُولِهِ فِي نِيَّةِ الْحَجِّ.
__________
(1) حديث: " أحابستنا هي؟ . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 586 - ط السلفية) ومسلم (2 / 964 - ط الحلبي) .
(2) المغني 3 / 440، والبدائع 1 / 128.(17/51)
لِذَلِكَ صَرَّحُوا بِشَرْطِيَّةِ عَدَمِ صَرْفِهِ لِغَيْرِهِ، كَطَلَبِ غَرِيمٍ، أَوْ هَرَبٍ مِنْ ظَالِمٍ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَدِ اشْتَرَطُوا تَعْيِينَ الطَّوَافِ فِي النِّيَّةِ (1) .
د - الْوَقْتُ: فَلاَ يَصِحُّ طَوَافُ الإِْفَاضَةِ قَبْل الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لَهُ شَرْعًا. وَهُوَ وَقْتٌ مُوَسَّعٌ يَبْتَدِئُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ بَعْدَ مُنْتَصَفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ لِمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَهُ.
اسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ: مَا قَبْل الْفَجْرِ مِنَ اللَّيْل وَقْتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَالطَّوَافُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ "، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَتَقَدَّمَ وَيَشْغَل شَيْئًا مِنْ وَقْتِ الْوُقُوفِ.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ بِقِيَاسِ الطَّوَافِ عَلَى الرَّمْيِ، لأَِنَّهُمَا مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّل، فَإِنَّهُ بِالرَّمْيِ لِلْجِمَارِ وَالذَّبْحِ وَالْحَلْقِ يَحْصُل التَّحَلُّل الأَْوَّل، وَبِالطَّوَافِ يَحْصُل التَّحَلُّل الأَْكْبَرُ (بِشَرْطِ السَّعْيِ) ،
__________
(1) وانظر مسألة نية الطواف في بدائع الصنائع 2 / 128 والمسلك المتقسط ص 98 و 99 والمهذب للشيرازي 8 / 16 والمجموع ص 18 - 21 والإيضاح ص 251 - 252 ونهاية المحتاج 2 / 409 و 414 و 416 ومغني المحتاج 1 / 487 و 492 والمغني 3 / 441 - 443 والفروع وفيه أقوال تخريجات عليها 3 / 449 - 501.(17/52)
فَكَمَا أَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ يَبْدَأُ عِنْدَهُمْ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْل فَكَذَا وَقْتُ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ.
وَالأَْفْضَل عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَدَاؤُهُ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ.
55 - وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ طَوَافِ الْفَرْضِ فَلَيْسَ لآِخِرِهِ حَدٌّ مُعَيَّنٌ لأَِدَائِهِ فَرْضًا، بَل جَمِيعُ الأَْيَّامِ وَاللَّيَالِي وَقْتُهُ إِجْمَاعًا.
لَكِنَّ الإِْمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْجَبَ أَدَاءَهُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، فَلَوْ أَخَّرَهُ حَتَّى أَدَّاهُ بَعْدَهَا صَحَّ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ جَزَاءَ تَأْخِيرِهِ عَنْهَا. وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ بِالتَّأْخِيرِ شَيْءٌ إِلاَّ بِخُرُوجِ ذِي الْحِجَّةِ، فَإِذَا خَرَجَ لَزِمَهُ دَمٌ.
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِالتَّأْخِيرِ أَبَدًا.
اسْتَدَل أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الطَّوَافَ عَلَى الذَّبْحِ فِي الْحَجِّ، فَقَال: {فَكُلُوا مِنْهَا} (1) ، ثُمَّ قَال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2) ، فَكَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا، فَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ الطَّوَافِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَيَنْجَبِرُ بِالدَّمِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَظَرُوا إِلَى شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَنَّهُ
__________
(1) سورة الحج / 29.
(2) سورة الحج / 30.(17/52)
تُقَامُ فِيهِ أَعْمَال الْحَجِّ، فَسَوَّوْا بَيْنَ كُل أَيَّامِهِ، وَجَعَلُوا التَّأْخِيرَ عَنْهُ مُوجِبًا لِلْفِدَاءِ.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، بِأَنَّ الأَْصْل عَدَمُ التَّأْقِيتِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَا يُوجِبُ فِعْلَهُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، فَلاَ يَلْزَمُ الْحَاجَّ فِدْيَةٌ إِذَا أَخَّرَ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ إِلَى مَا بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ.
فَإِذَا تَأَخَّرَ طَوَافُ الإِْفَاضَةِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ أَوْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ أَبَدًا، وَهُوَ مُحْرِمٌ عَنِ النِّسَاءِ أَبَدًا إِلَى أَنْ يَعُودَ فَيَطُوفَ.
وَلاَ يَكْفِي الْفِدَاءُ عَنْ أَدَاءِ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ إِجْمَاعًا، لأَِنَّهُ رُكْنٌ، وَأَرْكَانُ الْحَجِّ لاَ يُجْزِئُ عَنْهَا الْبَدَل، وَلاَ يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، بَل يَجِبُ الإِْتْيَانُ بِهَا بِعَيْنِهَا (1) .
الرَّابِعُ: السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ:
الْمُرَادُ بِالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَطْعُ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُمَا سَبْعَ مَرَّاتٍ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ طَافَ بِالْبَيْتِ.
حُكْمُ السَّعْيِ:
56 - ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ إِلَى أَنَّ السَّعْيَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ لاَ يَصِحُّ بِدُونِهِ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ
__________
(1) انظر وقت طواف الإفاضة في الهداية 2 / 180، والمسلك المتقسط ص 155، وحاشية ابن عابدين 2 / 250 و 251، وشرح الزرقاني على مختصر خليل 2 / 281، وحاشية العدوي 1 / 479، والشرح الكبير 2 / 47، والمهذب 1 / 230، ونهاية المحتاج 2 / 429، ومغني المحتاج 1 / 503 - 504، والمغني 3 / 441 و 443 وانظر الفروع 3 / 516 و 520.(17/53)
الْحَاجُّ خُطْوَةً مِنْهُ يُؤْمَرُ بِأَنْ يَعُودَ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَضَعَ قَدَمَهُ عَلَيْهِ، وَيَخْطُوَ تِلْكَ الْخُطْوَةَ. وَهُوَ قَوْل عَائِشَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّعْيَ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ. وَرُكْنُ السَّعْيِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يَتَحَلَّل مِنْ إِحْرَامِهِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ رُكْنَ السَّعْيِ أَكْثَرُ أَشْوَاطِ السَّعْيِ، وَالثَّلاَثَةُ الْبَاقِيَةُ لَيْسَتْ رُكْنًا، وَتَنْجَبِرُ بِالْفِدَاءِ.
وَالْمَشْيُ لِلْقَادِرِ وَاجِبٌ فِي السَّعْيِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
وَاجِبَاتُ الْحَجِّ:
57 - الْوَاجِبُ فِي الْحَجِّ: هُوَ مَا يُطْلَبُ فِعْلُهُ وَيَحْرُمُ تَرْكُهُ، لَكِنْ لاَ تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْحَجِّ عَلَيْهِ، وَيَأْثَمُ تَارِكُهُ، إِلاَّ إِذَا تَرَكَهُ بِعُذْرٍ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا (2) ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدَاءُ بِجَبْرِ النَّقْصِ.
وَوَاجِبَاتُ الْحَجِّ قِسْمَانِ:
__________
(1) انظر في السعي: فتح القدير 2 / 156 - 158، والمسلك المتقسط ص 115 - 121، وشرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 470 - 472، وشرح المنهاج 2 / ط 126 - 127، والمهذب والمجموع 8 / 71، والمغني 3 / 385 - 390 والفروع 3 / 504 - 506.
(2) المسلك المتقسط ص 51، والدر المختار بحاشيته 2 / 244، ويأتي مزيد تفصيل لذلك في فصل الإخلال بأحكام الحج.(17/53)
الْقِسْمُ الأَْوَّل: الْوَاجِبَاتُ الأَْصْلِيَّةُ، الَّتِي لَيْسَتْ تَابِعَةً لِغَيْرِهَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْوَاجِبَاتُ التَّابِعَةُ لِغَيْرِهَا.
وَهِيَ أُمُورٌ يَجِبُ مُرَاعَاتُهَا فِي أَدَاءِ رُكْنٍ أَوْ وَاجِبٍ مِنْ أَعْمَال الْحَجِّ.
أَوَّلاً: وَاجِبَاتُ الْحَجِّ الأَْصْلِيَّةُ:
الْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ:
58 - الْمُزْدَلِفَةُ تُسَمَّى " جَمْعًا " أَيْضًا، لاِجْتِمَاعِ النَّاسِ بِهَا لَيْلَةَ النَّحْرِ. وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَبِيتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَاجِبٌ لَيْسَ بِرُكْنٍ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ وَوَقْتِهِ.
فَذَهَبَ الأَْئِمَّةُ الثَّلاَثَةُ إِلَى أَنَّ زَمَنَ الْوُقُوفِ الْوَاجِبِ هُوَ الْمُكْثُ بِالْمُزْدَلِفَةِ مِنَ اللَّيْل، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النُّزُول بِالْمُزْدَلِفَةِ قَدْرَ حَطِّ الرِّحَال فِي لَيْلَةِ النَّحْرِ وَاجِبٌ، وَالْمَبِيتُ بِهَا سُنَّةٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْوُجُودُ بِمُزْدَلِفَةَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْل، وَلَوْ سَاعَةً لَطِيفَةً: أَيْ فَتْرَةً مَا مِنَ الزَّمَنِ وَلَوْ قَصِيرَةً.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، فَمَنْ حَصَّل بِمُزْدَلِفَةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَتْرَةً مِنَ الزَّمَنِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ، سَوَاءٌ بَاتَ بِهَا أَوْ لاَ، وَمَنْ لَمْ يُحَصِّل بِهَا فِيهِ فَقَدْ(17/54)
فَاتَهُ الْوُقُوفُ الْوَاجِبُ بِالْمُزْدَلِفَةِ. وَعَلَيْهِ دَمٌ إِلاَّ إِنْ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ كَزَحْمَةٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْحَاجَّ يَجْمَعُ فِي الْمُزْدَلِفَةِ بَيْنَ صَلاَتَيْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ، وَهَذَا الْجَمْعُ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
ثَانِيًا: رَمْيُ الْجِمَارِ:
59 - الرَّمْيُ لُغَةً: الْقَذْفُ.
وَالْجِمَارُ: الأَْحْجَارُ الصَّغِيرَةُ، جَمْعُ جَمْرَةٍ، وَهِيَ الْحَصَاةُ.
وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ، أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى وُجُوبِهِ.
وَالرَّمْيُ الْوَاجِبُ لِكُل جَمْرَةٍ (أَيْ مَوْضِعُ الرَّمْيِ) هُوَ سَبْعُ حَصَيَاتٍ بِالإِْجْمَاعِ أَيْضًا (2) .
تَوْقِيتُ الرَّمْيِ وَعَدَدُهُ:
60 - أَيَّامُ الرَّمْيِ أَرْبَعَةٌ: يَوْمُ النَّحْرِ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ وَتُسَمَّى " أَيَّامَ التَّشْرِيقِ "
__________
(1) انظر أحكام الوقوف بالمزدلفة في: الهداية وفتح القدير 2 / 168 - 173 والمسلك المتقسط ص 143 - 148، ورد المحتار 2 / 241 - 245، وشرح الرسالة مع حاشية العدوي 1 / 475 - 477، والشرح الكبير بحاشيته 2 / 44 - 45، وشرح المنهاج 2 / 116، ونهاية المحتاج 2 / 424 - 426، ومغني المحتاج 1 / 498 و 499 - 500، والمغني 3 / 417 - 424، والفروع 3 / 510.
(2) بدائع الصنائع 2 / 139.(17/54)
الرَّمْيُ يَوْمَ النَّحْرِ:
61 - وَاجِبُ الرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ هُوَ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا فَقَطْ، يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ.
وَوَقْتُ الرَّمْيِ هَذَا يَبْدَأُ مِنْ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَمِنْ مُنْتَصَفِ لَيْلَةِ يَوْمِ النَّحْرِ لِمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَآخِرُ وَقْتِ الرَّمْيِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى فَجْرِ الْيَوْمِ التَّالِي، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى الْمَغْرِبِ. حَتَّى يَجِبُ الدَّمُ فِي الْمَذْهَبَيْنِ بِتَأْخِيرِ رَمْيِ يَوْمٍ عَنِ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ.
وَآخِرُ وَقْتِ الرَّمْيِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. يَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
الرَّمْيُ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
62 - يَجِبُ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلاَثِ عَلَى التَّرْتِيبِ: أَوَّلاً الْجَمْرَةُ الصُّغْرَى، الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ بِمِنًى، ثُمَّ الْوُسْطَى، بَعْدَهَا، ثُمَّ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ، يَرْمِي كُل جَمْرَةٍ مِنْهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ.
وَيَبْدَأُ وَقْتُ الرَّمْيِ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ بَعْدَ الزَّوَال، وَلاَ يَجُوزُ قَبْلَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الظَّاهِرَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: " إِنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يَتَعَجَّل فِي النَّفْرِ الأَْوَّل فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْل الزَّوَال، وَإِنْ رَمَى بَعْدَهُ فَهُوَ أَفْضَل، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ قَصْدِهِ لاَ(17/55)
يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَ إِلاَّ بَعْدَ الزَّوَال، وَذَلِكَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، لأَِنَّهُ إِذَا نَفَرَ بَعْدَ الزَّوَال لاَ يَصِل إِلَى مَكَّةَ إِلاَّ بِاللَّيْل، فَيُحْرِجُ فِي تَحْصِيل مَوْضِعِ النُّزُول.
أَمَّا الْوَقْتُ الْمَسْنُونُ فَيَمْتَدُّ مِنْ زَوَال الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا.
وَأَمَّا نِهَايَةُ وَقْتِ الرَّمْيِ: فَقَيَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي كُل يَوْمٍ بِيَوْمِهِ، كَمَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ آخِرَ الْوَقْتِ بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
النَّفْرُ الأَْوَّل:
63 - إِذَا رَمَى الْحَاجُّ الْجِمَارَ ثَانِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ - أَيْ يَرْحَل - إِلَى مَكَّةَ، إِنْ أَحَبَّ التَّعَجُّل فِي الاِنْصِرَافِ مِنْ مِنًى، وَيُسَمَّى هَذَا الْيَوْمُ يَوْمَ النَّفْرِ الأَْوَّل، وَبِهِ يَسْقُطُ رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ اتِّفَاقًا.
وَمَذْهَبُ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ: لَهُ أَنْ يَنْفِرَ قَبْل غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: لَهُ أَنْ يَنْفِرَ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ.
الرَّمْيُ ثَالِثَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
64 - يَجِبُ رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلاَثِ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى مَنْ تَأَخَّرَ وَلَمْ يَنْفِرْ مِنْ مِنًى " النَّفَرَ الأَْوَّل " وَوَقْتُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بَعْدَ الزَّوَال، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ(17/55)
أَنْ يُقَدِّمَ الرَّمْيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ قَبْل الزَّوَال بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ غُرُوبُ الشَّمْسِ، وَأَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ لِهَذَا الْيَوْمِ وَلِقَضَاءِ مَا قَبْلَهُ يَنْتَهِي أَيْضًا بِغُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، لِخُرُوجِ وَقْتِ الْمَنَاسِكِ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ.
النَّفْرُ الثَّانِي:
65 - إِذَا رَمَى الْحَاجُّ الْجِمَارَ الثَّلاَثَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ رَابِعُ أَيَّامِ النَّحْرِ انْصَرَفَ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ، وَلاَ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ بِمِنًى، بَعْدَ الرَّمْيِ، وَيُسَمَّى يَوْمَ النَّفْرِ الثَّانِي، وَبِهِ تَنْتَهِي مَنَاسِكُ مِنًى (1) .
النِّيَابَةُ فِي الرَّمْيِ: (الرَّمْيُ عَنِ الْغَيْرِ) :
66 - الْمَعْذُورُ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الرَّمْيَ بِنَفْسِهِ كَالْمَرِيضِ يَجِبُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَرْمِي عَنْهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النَّائِبُ قَدْ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ فَلْيَرْمِ عَنْ نَفْسِهِ الرَّمْيَ كُلَّهُ
__________
(1) انظر بحث الرمي في الهداية وفتح القدير 2 / 176 و 184 - 185، والمسلك المتقسط ص 157 - 168، وشرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 477 و 481 و 482، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 45 - 48، وشرح المنهاج 2 / 121 - 122، ونهاية المحتاج 2 / 430 و 434 - 436، والمغني 3 / 429 - 430 و 452 - 455، والفروع 3 / 210 - 212 و 518 - 520، وانظر ما يأتي في الإخلال بأحكام الحج من تفصيل جزاء ترك الرمي أو شيء منه.(17/56)
لِيَوْمِهِ أَوَّلاً، ثُمَّ لِيَرْمِ عَمَّنِ اسْتَنَابَهُ، وَيُجْزِئُ هَذَا الرَّمْيُ عَنِ الأَْصِيل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: لَوْ رَمَى حَصَاةً لِنَفْسِهِ وَأُخْرَى لِلآْخَرِ جَازَ وَلَكُرِهَ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الإِْنَابَةَ خَاصَّةٌ بِمَرِيضٍ لاَ يُرْجَى شِفَاؤُهُ قَبْل انْتِهَاءِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ: إِنَّهُ يَرْمِي حَصَيَاتِ الْجَمْرَةِ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلاً، ثُمَّ يَرْمِيهَا عَنْ نَائِبِهِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ مِنَ الرَّمْيِ. وَهُوَ مَخْلَصٌ حَسَنٌ لِمَنْ خَشِيَ خَطَرَ الزِّحَامِ.
وَمَنْ عَجَزَ عَنْ الاِسْتِنَابَةِ كَالصَّبِيِّ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَيَرْمِي عَنِ الصَّبِيِّ وَلِيُّهُ، وَعَنِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ رِفَاقُهُ، وَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَرْمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فَائِدَةُ الاِسْتِنَابَةِ أَنْ يَسْقُطَ الإِْثْمُ عَنْهُ إِنِ اسْتَنَابَ وَقْتَ الأَْدَاءِ.
" وَإِلاَّ فَالدَّمُ عَلَيْهِ اسْتَنَابَ أَمْ لاَ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ دُونَ الصَّغِيرِ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِ (1) لأَِنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِسَائِرِ الأَْرْكَانِ (2) "
__________
(1) كالمغمى عليه.
(2) المبسوط 4 / 69، والبدائع 2 / 132، وحاشية شلبي على شرح الكنز 2 / 34، والمسلك المتسقط / 232 - 133، والفتاوى الهندية 1 / 221، والزرقاني المالكي وحاشية البناني عليه 3 / 282، والمجموع 8 / 184 - 186 وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي 2 / 122 - 123، ونهاية المحتاج 2 / 435، ومغني المحتاج 1 / 508، والمغني في فقه الحنابلة 3 / 491.(17/56)
الْحَلْقُ وَالتَّقْصِيرُ:
67 - اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ حَلْقَ شَعْرِ الرَّأْسِ أَوْ تَقْصِيرِهِ وَاجِبٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَهُوَ الرَّاجِحُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ حَلْقُهُ أَوْ تَقْصِيرُهُ.
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْوَاجِبُ حَلْقُ جَمِيعِ الرَّأْسِ أَوْ تَقْصِيرُهُ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَكْفِي مِقْدَارُ رُبُعِ الرَّأْسِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَكْفِي إِزَالَةُ ثَلاَثِ شَعَرَاتٍ أَوْ تَقْصِيرُهَا.
68 - وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَوِ التَّقْصِيرَ لاَ يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَلاَ مَكَانٍ، لَكِنَّ السُّنَّةَ فِعْلُهُ فِي الْحَرَمِ أَيَّامَ النَّحْرِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْحَلْقَ يَخْتَصُّ بِأَيَّامِ النَّحْرِ، وَبِمِنْطَقَةِ الْحَرَمِ، فَلَوْ أَخَل بِأَيٍّ مِنْ هَذَيْنِ لَزِمَهُ الدَّمُ، وَيَحْصُل لَهُ التَّحَلُّل بِهَذَا الْحَلْقِ (1) .
رَابِعًا: الْمَبِيتُ بِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ:
69 - مِنًى: بِالْكَسْرِ وَالتَّنْوِينِ شُعَيْبٌ بَيْنَ جِبَالٍ، طُولُهُ مِيلاَنِ وَعَرْضُهُ يَسِيرٌ (2) .
__________
(1) انظر بحث الحلق في الهداية وفتح القدير 2 / 178 - 179 و 252 - 253 والمسلك المتقسط ص 151 - 154، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 478 - 479، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 460، والمغني 3 / 435 - 442، والفروع 3 / 513 - 516.
(2) انظر تفصيل حدود منى وتحقيق الخلاف فيها في مصطلح: (منى) .(17/57)
وَالْمَبِيتُ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَاجِبٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، يَلْزَمُ الدَّمُ لِمَنْ تَرَكَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَبِيتَ بِهَا سُنَّةٌ، وَالْقَدْرُ الْوَاجِبُ لِلْمَبِيتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ مُكْثُ أَكْثَرِ اللَّيْل (1) .
خَامِسًا: طَوَافُ الْوَدَاعِ:
70 - طَوَافُ الْوَدَاعِ يُسَمَّى طَوَافَ الصَّدَرِ، وَطَوَافَ آخِرِ الْعَهْدِ:
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ وَاجِبٌ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ (2) .
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى وُجُوبِهِ بِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ (3) .
وَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ، بِأَنَّهُ جَازَ
__________
(1) الهداية وشرحها 2 / 186، والمسلك المتقسط ص 22، 157، وشرح المنهاج 2 / 124، ومغني المحتاج 1 / 505 و 513، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 480، والشرح الكبير بحاشيته 2 / 48 - 49، والمغني 3 / 449، والفروع 3 / 518 - 519 و 527.
(2) لكنه عند الشافعية والمالكية واجب لا يختص بالحج بل هو لكل من فارق مكة.
(3) حديث: " أمر الناس أن يكون. . . . " أخرجه البخاري 2 / 179، ومسلم 4 / 93.(17/57)
لِلْحَائِضِ تَرْكُهُ دُونَ فِدَاءٍ، وَلَوْ وَجَبَ لَمْ يَجُزْ لِلْحَائِضِ تَرْكُهُ (1) .
شُرُوطُ وُجُوبِهِ:
71 - أَنْ يَكُونَ الْحَاجُّ مِنْ أَهْل الآْفَاقِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمَكِّيِّ، لأَِنَّ الطَّوَافَ وَجَبَ تَوْدِيعًا لِلْبَيْتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لاَ يُوجَدُ فِي أَهْل مَكَّةَ لأَِنَّهُمْ فِي وَطَنِهِمْ
وَأَلْحَقَ الْحَنَفِيَّةُ مَنْ كَانَ مِنْ مِنْطَقَةِ الْمَوَاقِيتِ، لأَِنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُ أَهْل مَكَّةَ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ عَمَّنْ كَانَ مَنْزِلُهُ فِي الْحَرَمِ فَقَطْ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يُطْلَبُ طَوَافُ الْوَدَاعِ فِي حَقِّ كُل مَنْ قَصَدَ السَّفَرَ مِنْ مَكَّةَ، وَلَوْ كَانَ مَكِّيًّا إِذَا قَصَدَ سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ. وَوَصَفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ سَفَرٌ بَعِيدٌ كَالْجُحْفَةِ لاَ قَرِيبًا كَالتَّنْعِيمِ إِذَا خَرَجَ لِلسَّفَرِ لاَ لِيُقِيمَ بِمَوْضِعٍ آخَرَ أَوْ بِمَسْكَنِهِ، فَإِنْ خَرَجَ لِيُقِيمَ بِمَوْضِعٍ آخَرَ أَوْ بِمَسْكَنِهِ طُلِبَ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي خَرَجَ إِلَيْهِ قَرِيبًا.
72 - الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ: فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَلاَ يُسَنُّ أَيْضًا حَتَّى إِنَّهُمَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا دَمٌ بِتَرْكِهِ، لِمَا سَبَقَ مِنْ
__________
(1) قارن بفتح القدير 2 / 188، قال في شرح الرسالة 1 / 482 " مستحب " وفي آخر الكتاب قال: " سنة "، وانظر المغني 3 / 458، وقارن البدائع 2 / 42.(17/58)
حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ وَكَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ لَمَّا حَاضَتْ فَقَدْ سَافَرَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ أَنْ تَطُوفَ لِلْوَدَاعِ.
فَأَمَّا الطَّهَارَةُ مِنَ الْجَنَابَةِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ، فَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ، لأَِنَّهُ يُمْكِنُهُمَا إِزَالَةُ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ فِي الْحَال بِالْغُسْل أَوِ التَّيَمُّمِ.
وَإِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ قَبْل أَنْ تُفَارِقَ بُنْيَانَ مَكَّةَ يَلْزَمُهَا طَوَافُ الصَّدَرِ، وَإِنْ جَاوَزَتْ جُدْرَانَ مَكَّةَ ثُمَّ طَهُرَتْ لَمْ يَلْزَمْهَا طَوَافُ الصَّدَرِ، اتِّفَاقًا بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. لأَِنَّهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْعُمْرَانِ صَارَتْ مُسَافِرَةً، بِدَلِيل جَوَازِ الْقَصْرِ، فَلاَ يَلْزَمُهَا الْعَوْدُ وَلاَ الدَّمُ (1) .
73 - أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَّى مَنَاسِكَ الْحَجِّ مُفْرِدًا أَوْ مُتَمَتِّعًا أَوْ قَارِنًا. فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَمِرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَحْدَهُمْ، وَلَوْ كَانَ آفَاقِيًّا، وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ خَتْمُ أَعْمَال الْحَجِّ، فَلاَ يُطْلَبُ مِنَ الْمُعْتَمِرِ.
شُرُوطُ صِحَّتِهِ:
74 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ طَوَافِ الْوَدَاعِ مَا يَأْتِي:
أ - أَصْل نِيَّةِ الطَّوَافِ لاَ التَّعْيِينُ.
ب - أَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ.
ج - الْوَقْتُ:
__________
(1) العناية 2 / 224، وانظر المبسوط 4 / 179.(17/58)
وَوَقْتُ طَوَافِ الْوَدَاعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَمْتَدُّ عَقِبَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ لَوْ تَأَخَّرَ سَفَرُهُ، وَكُل طَوَافٍ يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ يَقَعُ عَنْ طَوَافِ الصَّدَرِ.
أَمَّا السَّفَرُ فَوْرَ الطَّوَافِ فَلَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ لِلصَّدَرِ، ثُمَّ تَشَاغَل بِمَكَّةَ بَعْدَهُ حَتَّى وَلَوْ أَقَامَ أَيَّامًا كَثِيرَةً، لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافٌ آخَرُ، لأَِنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ نُسُكًا، لاَ إِقَامَةً، وَالطَّوَافُ آخِرُ مَنَاسِكِهِ بِالْبَيْتِ، إِلاَّ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُؤَخِّرَ طَوَافَ الصَّدَرِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُسَافِرَ. فِيهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَقْتُهُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَعَزْمِهِ عَلَى السَّفَرِ، وَيُغْتَفَرُ لَهُ أَنْ يَشْتَغِل بَعْدَهُ بِأَسْبَابِ السَّفَرِ، كَشِرَاءِ الزَّادِ، وَحَمْل الأَْمْتِعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلاَ يُعِيدُهُ، لَكِنْ إِنْ مَكَثَ بَعْدَهُ مُشْتَغِلاً بِأَمْرٍ آخَرَ غَيْرِ أَسْبَابِ السَّفَرِ كَشِرَاءِ مَتَاعٍ، أَوْ زِيَارَةِ صِدِّيقٍ، أَوْ عِيَادَةِ مَرِيضٍ احْتَاجَ إِلَى إِعَادَةِ الطَّوَافِ.
وَاجِبَاتُ الْحَجِّ التَّابِعَةُ لِغَيْرِهَا:
75 - وَاجِبَاتُ الْحَجِّ التَّابِعَةُ لِغَيْرِهَا هِيَ أُمُورٌ يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي ضِمْنِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، أَوْ ضِمْنِ وَاجِبٍ أَصْلِيٍّ مِنْ وَاجِبَاتِهِ.(17/59)
وَتَجِدُ دِرَاسَتَهَا فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الَّتِي تَخُصُّ أَرْكَانَ الْحَجِّ أَوْ وَاجِبَاتِهِ، سِوَى تَرْتِيبِ أَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ، فَنَدْرُسُهُ هُنَا، وَنُشِيرُ إِلَى مَا سِوَاهُ إِشَارَةً سَرِيعَةً.
أَوَّلاً: وَاجِبَاتُ الإِْحْرَامِ:
76 - أ - كَوْنُ الإِْحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ الْمَكَانِيِّ، لاَ بَعْدَهُ (انْظُرْ إِحْرَامٌ ف 31 - 32)
ب - التَّلْبِيَةُ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَيُسَنُّ قَرْنُهَا بِالإِْحْرَامِ، وَشَرْطٌ فِي الإِْحْرَامِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَسُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (انْظُرْ إِحْرَامٌ: ف 29) .
ج - اجْتِنَابُ مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ (انْظُرْ إِحْرَامٌ: ف 31 وَ 55 - 94) .
ثَانِيًا: وَاجِبَاتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ:
77 - هِيَ امْتِدَادُ الْوُقُوفِ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ عَلَى تَفْصِيل الْمَذَاهِبِ، سِوَى الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْوُقُوفُ بَعْدَ الْمَغْرِبِ هُوَ الرُّكْنُ، وَقَبْلَهُ وَاجِبٌ.
ثَالِثًا: وَاجِبَاتُ الطَّوَافِ:
78 - أ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْشْوَاطَ الثَّلاَثَ الأَْخِيرَةَ مِنَ الطَّوَافِ وَاجِبَةٌ.
وَهِيَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ رُكْنٌ فِي الطَّوَافِ (ف 128) (وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ طَوَافٌ) .
ب - أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ الأُْمُورَ التَّالِيَةَ فِي الطَّوَافِ،(17/59)
وَقَال الْجُمْهُورُ هِيَ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ. وَهَذِهِ الأُْمُورُ هِيَ:
1 - الطَّهَارَةُ مِنَ الأَْحْدَاثِ وَالأَْنْجَاسِ.
2 - سَتْرُ الْعَوْرَةِ.
3 - ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ.
4 - التَّيَامُنُ، أَيْ كَوْنُ الطَّائِفِ عَنْ يَمِينِ الْبَيْتِ.
5 - دُخُول الْحِجْرِ (أَيِ الْحَطِيمِ) فِي ضِمْنِ الطَّوَافِ.
ج - أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ الأُْمُورَ التَّالِيَةَ فِي الطَّوَافِ وَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ:
1 - الْمَشْيُ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ.
2 - رَكْعَتَا الطَّوَافِ.
3 - إِيقَاعُ طَوَافِ الرُّكْنِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ.
رَابِعًا: وَاجِبَاتُ السَّعْيِ:
79 - أ - الْمَشْيُ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ.
ب - إِكْمَال أَشْوَاطِ السَّعْيِ إِلَى سَبْعَةٍ بَعْدَ الأَْرْبَعَةِ الأُْولَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَكُلُّهَا رُكْنٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
خَامِسًا: وَاجِبُ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ:
80 - أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ جَمْعَ صَلاَتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ تَأْخِيرًا فِي الْمُزْدَلِفَةِ، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
سَادِسًا: وَاجِبَاتُ الرَّمْيِ:
81 - يَجِبُ عَدَمُ تَأْخِيرِ رَمْيِ يَوْمٍ لِتَالِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِلَى الْمَغْرِبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.(17/60)
سَابِعًا: وَاجِبَاتُ ذَبْحِ الْهَدْيِ:
82 - أ - أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ.
ب - أَنْ يَكُونَ فِي الْحَرَمِ.
ثَامِنًا: وَاجِبَاتُ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ:
83 - أ - كَوْنُ الْحَلْقِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
ب - كَوْنُ الْحَلْقِ فِي الْحَرَمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَطْ.
تَاسِعًا: تَرْتِيبُ أَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ:
84 - يَفْعَل الْحَاجُّ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ ثَلاَثَةَ أَعْمَالٍ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ:
رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ ذَبْحَ الْهَدْيِ إِنْ كَانَ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا (ر: ف 5 - 7) ثُمَّ الْحَلْقَ أَوِ التَّقْصِيرَ.
ثُمَّ يَذْهَبُ إِلَى مَكَّةَ فَيَطُوفُ طَوَافَ الزِّيَارَةِ.
وَالأَْصْل فِي هَذَا التَّرْتِيبِ هُوَ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ بِمِنًى، فَدَعَا بِذِبْحٍ فَذُبِحَ، ثُمَّ دَعَا بِالْحَلاَّقِ فَأَخَذَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الأَْيْمَنِ، فَجَعَل يَقْسِمُ بَيْنَ مَنْ يَلِيهِ الشَّعْرَةَ وَالشَّعْرَتَيْنِ، ثُمَّ أَخَذَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الأَْيْسَرِ فَحَلَقَهُ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ: ثُمَّ رَكِبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ (1) .
__________
(1) حديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر. أخرجه مسلم (2 / 947 - ط الحلبي) .(17/60)
حُكْمُ هَذَا التَّرْتِيبِ:
85 - مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا التَّرْتِيبِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ:
وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الاِخْتِلاَفِ هُوَ وُرُودُ حَدِيثٍ آخَرَ يَدُل عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ، لاَ فِدَاءَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ.
ذَلِكَ هُوَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَال رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْل أَنْ أَذْبَحَ؟ قَال: اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ فَجَاءَ آخَرُ فَقَال: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْل أَنْ أَرْمِيَ؟ قَال: ارْمِ وَلاَ حَرَجَ فَمَا سُئِل يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَال: افْعَل وَلاَ حَرَجَ (1) .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى وُجُوبِ تَرْتِيبِ أَعْمَال يَوْمِ النَّحْرِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ، أَخَذَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِهِ لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَ الأَْدِلَّةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالصَّاحِبَانِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الأَْخِيرِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَمَا سُئِل يَوْمئِذٍ. . يَدُل بِعُمُومِهِ عَلَى سُنِّيَّةِ التَّرْتِيبِ.
أَمَّا الأَْوَّلُونَ فَاسْتَدَلُّوا بِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ
__________
(1) حديث عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع. . . أخرجه البخاري (الفتح 3 / 569 - ط السلفية) ومسلم (2 / 948 - ط الحلبي) .(17/61)
يَدُل عَلَى الْوُجُوبِ، ثُمَّ ذَهَبُوا مَذَاهِبَ فِي كَيْفِيَّةِ التَّرْتِيبِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ أَعْمَال مِنًى حَسَبَ الْوَارِدِ، أَمَّا التَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ فَسُنَّةٌ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
مُرَاعَاةُ اتِّبَاعِ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ، وقَوْله تَعَالَى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) .
وَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّهُ أَمَرَ بِقَضَاءِ التَّفَثِ وَهُوَ الْحَلْقُ مُرَتَّبًا عَلَى الذَّبْحِ، فَدَل عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْوَاجِبُ فِي التَّرْتِيبِ: تَقْدِيمُ الرَّمْيِ عَلَى الْحَلْقِ وَعَلَى طَوَافِ الإِْفَاضَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّرْتِيبِ لاَ يَجِبُ، بَل هُوَ سُنَّةٌ.
اسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ الرَّمْيِ عَلَى الْحَلْقِ بِأَنَّهُ بِالإِْجْمَاعِ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ شَعْرِهِ قَبْل التَّحَلُّل الأَْوَّل، وَلاَ يَحْصُل التَّحَلُّل الأَْوَّل إِلاَّ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ تَقْدِيمِ الذَّبْحِ عَلَى الْحَلْقِ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو السَّابِقِ، أَخْذًا بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي
__________
(1) سورة الحج / 29 - 30(17/61)
الْحَدِيثِ، وَفَسَّرُوا فَمَا سُئِل عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ. . . بِأَنَّ الْمُرَادَ مِمَّا ذُكِرَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ لِتَقْدِيمِهِ وَتَأْخِيرِهِ.
وَأَخَذَ الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْوُجُوبِ عَنْهُ بِلَفْظِ " لَمْ أَشْعُرْ " فَقَال: يَجِبُ التَّرْتِيبُ عَلَى الْعَالِمِ بِهِ الذَّاكِرِ لَهُ، أَمَّا الْجَاهِل وَالنَّاسِي فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَيَّدُوا شَطْرَ الْحَدِيثِ الأَْخِيرِ " فَمَا سُئِل. . . " لِهَذَا الْمَعْنَى، أَيْ قَال: لاَ حَرَجَ فِيمَا قُدِّمَ وَأُخِّرَ، مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ.
وَالْحَاصِل كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ خِلاَفًا بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ مُخَالَفَةَ التَّرْتِيبِ لاَ تُخْرِجُ هَذِهِ الأَْفْعَال عَنِ الإِْجْزَاءِ، وَلاَ يَمْنَعُ وُقُوعَهَا مَوْقِعَهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا (1) ".
التَّحَلُّل مِنْ إِحْرَامِ الْحَجِّ:
86 - يَحْصُل التَّحَلُّل بِأَدَاءِ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَوَاجِبَاتُهُ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالْحَلْقُ، وَالتَّحَلُّل مِنْ إِحْرَامِ الْحَجِّ. وَهَذَا التَّحَلُّل قِسْمَانِ: التَّحَلُّل الأَْوَّل أَوِ الأَْصْغَرُ، وَالتَّحَلُّل الثَّانِي أَوِ الأَْكْبَرُ، وَقَدْ سَبَقَ التَّحَلُّل فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ)
(ف 122 - 125) .
__________
(1) المغني 3 / 448، وانظر مسألة ترتيب أعمال يوم النحر في الهداية، وفتح القدير 2 / 177، وبدائع الصنائع 2 / 158 - 159، وشرح الرسالة بحاشية العدوي 1 / 479، والشرح الكبير 2 / 47 - 48، والمهذب مع المجموع 8 / 153 - 154 و 164، ونهاية المحتاج 2 / 429، والمغني 3 / 446 - 449، والفروع 3 / 515.(17/62)
سُنَنُ الْحَجِّ وَمُسْتَحَبَّاتُهُ وَمَمْنُوعَاتُهُ وَمُبَاحَاتُهُ
الأَْوَّل: سُنَنُ الْحَجِّ:
87 - السُّنَنُ فِي الْحَجِّ يُطْلَبُ فِعْلُهَا، وَيُثَابُ عَلَيْهَا، لَكِنْ لاَ يَلْزَمُ بِتَرْكِهَا الْفِدَاءُ مِنْ دَمٍ أَوْ صَدَقَةٍ (1) .
أَوَّلاً: طَوَافُ الْقُدُومِ:
88 - وَيُسَمَّى طَوَافُ الْقَادِمِ، طَوَافَ الْوُرُودِ، وَطَوَافَ الْوَارِدِ، وَطَوَافَ التَّحِيَّةِ لأَِنَّهُ شُرِعَ لِلْقَادِمِ وَالْوَارِدِ مِنْ غَيْرِ مَكَّةَ لِتَحِيَّةِ الْبَيْتِ. وَيُسَمَّى أَيْضًا طَوَافَ اللِّقَاءِ، وَأَوَّل عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ سُنَّةٌ لِلآْفَاقِيِّ الْقَادِمِ مِنْ خَارِجِ مَكَّةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، تَحِيَّةً لِلْبَيْتِ الْعَتِيقِ، لِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ الْبَدْءُ بِهِ دُونَ تَأْخِيرٍ، وَسَوَّى الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ دَاخِلِي مَكَّةَ الْمُحْرِمِ مِنْهُمْ وَغَيْرِ الْمُحْرِمِ فِي سُنِّيَّةِ طَوَافِ الْقُدُومِ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ، مَنْ تَرَكَهُ لَزِمَهُ الدَّمُ.
وَوُجُوبُ طَوَافِ الْقُدُومِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى كُل مَنْ أَحْرَمَ مِنَ الْحِل، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْل مَكَّةَ أَوْ
__________
(1) انظر المسلك المتقسط في المنسك المتوسط ص 51 - 52 وقد اعتمدنا عليه في تتبع السنن الأصلية، بعد التثبت من استقرائه لها.
(2) وذلك بناء على مذهبهم في جواز دخول الحرم بغير إحرام لمن قصده لحاجة غير النسك. انظر مصطلح (إحرام)(17/62)
غَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ إِحْرَامُهُ مِنَ الْحِل وَاجِبًا كَالآْفَاقِيِّ الْقَادِمِ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ، أَمْ نَدْبًا كَالْمُقِيمِ بِمَكَّةَ الَّذِي مَعَهُ نَفَسٌ (مُتَّسَعٌ مِنَ الْوَقْتِ) وَخَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ فَأَحْرَمَ مِنَ الْحِل، وَسَوَاءٌ كَانَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا أَمْ قَارِنًا، وَكَذَا الْمُحْرِمُ مِنَ الْحَرَمِ إِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْحْرَامُ مِنَ الْحِل، بِأَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلاَلاً مُخَالِفًا لِلنَّهْيِ.
وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى هَؤُلاَءِ مَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمْ مُرَاهِقًا، وَهُوَ مَنْ ضَاقَ وَقْتُهُ حَتَّى خَشِيَ فَوَاتَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ (1) .
وَالأَْصْل فِيهِ فِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ فِي أَوَّل حَدِيثِ جَابِرٍ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَل ثَلاَثًا وَمَشَى أَرْبَعًا (2) .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ أَوَّل شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ. . . الْحَدِيثَ (3) .
فَاسْتَدَل الْمَالِكِيَّةُ بِذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ (4) . وَقَال
__________
(1) انظر هذا التفصيل بتمامه في شرح الرسالة وحاشية العدوي 1 / 465.
(2) حديث جابر: " حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن. . . " أخرجه مسلم (2 / 887 - ط الحلبي) .
(3) حديث عائشة: " أن أول شيء بدأ به حين قدم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 477 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 907 - ط الحلبي) .
(4) حديث: " خذوا عني مناسككم " أخرجه مسلم (2 / 943 - ط الحلبي) النسائي (5 / 270 - ط المكتبة التجارية) من حديث جابر بن عبد الله، واللفظ لأحمد.(17/63)
الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْقَرِينَةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ التَّحِيَّةُ، فَأَشْبَهَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، فَيَكُونُ سُنَّةً.
مَتَى يَسْقُطُ طَوَافُ الْقُدُومِ:
89 - يَسْقُطُ طَوَافُ الْقُدُومِ عَمَّنْ يَلِي:
أ - الْمَكِّيُّ. وَمَنْ فِي حُكْمِهِ، وَهُوَ الآْفَاقِيُّ إِذَا أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ، وَشَرَطَ فِيهِ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ لاَ يَكُونَ وَجَبَ عَلَيْهِ الإِْحْرَامُ مِنَ الْحِل، كَمَا سَبَقَ، وَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: يَسْقُطُ عَمَّنْ كَانَ مَنْزِلُهُ فِي مِنْطَقَةِ الْمَوَاقِيتِ لأَِنَّ لَهَا حُكْمَ مَكَّةَ.
وَعِلَّةُ سُقُوطِ طَوَافِ الْقُدُومِ عَنْ هَؤُلاَءِ أَنَّهُ شُرِعَ لِلْقُدُومِ، وَالْقُدُومُ فِي حَقِّهِمْ غَيْرُ مَوْجُودٍ.
ب - الْمُعْتَمِرُ وَالْمُتَمَتِّعُ وَلَوْ آفَاقِيًّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِدُخُول طَوَافِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ، وَهُوَ طَوَافُ الْعُمْرَةِ، فَطَوَافُ الْقُدُومِ عِنْدَهُمْ خَاصٌّ بِمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا، أَوْ قَارِنًا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَتَفَرَّدَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: يَطُوفُ الْمُتَمَتِّعُ لِلْقُدُومِ قَبْل طَوَافِ الإِْفَاضَةِ، ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ.
ج - مَنْ قَصَدَ عَرَفَةَ رَأْسًا لِلْوُقُوفِ يَسْقُطُ عَنْهُ طَوَافُ الْقُدُومِ، " لأَِنَّ مَحَلَّهُ الْمَسْنُونَ قَبْل وُقُوفِهِ "، وَقَرَّرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنَ الْحَرَمِ أَوْ أَحْرَمَ بِهِ مِنَ الْحِل وَلَكِنَّهُ مُرَاهِقٌ أَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنَ الْحِل ثُمَّ أَرْدَفَ بِالْحَجِّ عَلَيْهَا فِي الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لاَ يُطَالَبُ بِطَوَافِ الْقُدُومِ وَإِذَا لَمْ يُطَالَبْ بِطَوَافِ الْقُدُومِ فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ السَّعْيَ إِلَى طَوَافِ الإِْفَاضَةِ،(17/63)
لأَِنَّهُ سَيَأْتِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ السَّعْيُ عَقِبَ أَحَدِ طَوَافَيِ الْحَجِّ فَلَمَّا سَقَطَ طَوَافُ الْقُدُومِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ عَقِبَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ.
فُرُوعٌ:
89 م - الأَْوَّل: قَال فِي التَّوْضِيحِ: وَمَتَى يَكُونُ الْحَاجُّ مُرَاهِقًا إِنْ قَدِمَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَحْبَبْتُ تَأْخِيرَ طَوَافِهِ، وَإِنْ قَدِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَحْبَبْتُ تَعْجِيلَهُ وَلَهُ فِي التَّأْخِيرِ سَعَةٌ وَفِي الْمُخْتَصَرِ عَنْ مَالِكٍ، إِنْ قَدِمَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَلْيُؤَخِّرْهُ إِنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ طَافَ وَسَعَى، وَإِنْ قَدِمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَمَعَهُ أَهْلٌ فَلْيُؤَخِّرْ إِنْ شَاءَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَهْلٌ فَلْيَطُفْ وَلْيَسْعَ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الاِشْتِغَال يَوْمَ عَرَفَةَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى عَرَفَةَ أَوْلَى، وَأَمَّا يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَمَنْ كَانَ مَعَهُ أَهْلٌ كَانَ فِي شُغْلٍ مِمَّا لاَ بُدَّ لِلْمُسَافِرِ بِالأَْهْل مِنْهُ. انْتَهَى. وَقَال ابْنُ فَرْحُونَ: لأَِنَّهُ بِأَهْلِهِ فِي شُغُلٍ، وَحَال الْمُنْفَرِدِ أَخَفُّ، وَقَال قَبْلَهُ: وَالْمُرَاهِقُ هُوَ الَّذِي يَضِيقُ وَقْتُهُ عَنْ إِيقَاعِهِ طَوَافَ الْقُدُومِ وَالسَّعْيِ وَمَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَحْوَالِهِ وَيَخْشَى فَوَاتَ الْحَجِّ إِنْ تَشَاغَل بِذَلِكَ فَلَهُ تَأْخِيرُ الطَّوَافِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا قَالَهُ أَشْهَبُ وَنَقَلَهُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُخْتَصَرِ انْتَهَى مِنْ مَنَاسِكِهِ.
الثَّانِي: حُكْمُ مَنْ أَحْرَمَ بِالْقِرَانِ مِنْ الْحِل حُكْمُ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنَ الْحِل فِي وُجُوبِ طَوَافِ الْقُدُومِ عَلَيْهِ وَتَعْجِيل السَّعْيِ بَعْدَهُ، فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَهُوَ غَيْرُ مُرَاهِقٍ فَعَلَيْهِ الدَّمُ، وَإِنْ كَانَ(17/64)
مُرَاهِقًا فَلاَ دَمَ عَلَيْهِ قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
الثَّالِثُ: إِذَا أَرْدَفَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي الْحِل فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ أَحْرَمَ بِالْقِرَانِ مِنَ الْحِل فِي وُجُوبِ طَوَافِ الْقُدُومِ وَالسَّعْيِ بَعْدَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُرَاهِقًا وَهُوَ ظَاهِرٌ.
الرَّابِعُ: إِذَا أَحْرَمَ بِالْقِرَانِ مِنْ مَكَّةَ أَوْ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ أَرْدَفَ عَلَيْهَا حَجَّةً وَصَارَ قَارِنًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ لِلْحِل عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِذَا دَخَل مِنَ الْحِل لاَ يَطُوفُ وَلاَ يَسْعَى لأَِنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ. قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَنَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَهَا وَلِلْقِرَانِ الْحِل.
الْخَامِسُ: مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْقِرَانِ مِنْ الْحِل وَمَضَى إِلَى عَرَفَاتٍ وَلَمْ يَدْخُل مَكَّةَ وَلَيْسَ بِمُرَاهِقٍ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَرَكَ طَوَافَ الْقُدُومِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ. قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَكَلاَمُ الْمُصَنِّفِ فِي مَنَاسِكِهِ يُوهِمُ سُقُوطَ الدَّمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَسْقُطُ طَوَافُ الْقُدُومِ عَمَّنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ إِلَى الْوُقُوفِ، فَإِذَا قَدِمَ مَكَّةَ يَبْدَأُ طَوَافَ الْقُدُومِ قَبْل طَوَافِ الزِّيَارَةِ.
د - قَرَّرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَسْقُطُ طَوَافُ الْقُدُومِ عَنْ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّاسِي، إِلاَّ أَنْ يَزُول الْمَانِعُ وَيَتَّسِعَ الزَّمَنُ لِطَوَافِ الْقُدُومِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَجِبُ.
__________
(1) الحطاب 3 / 83.(17/64)
وَقْتُ طَوَافِ الْقُدُومِ:
90 - يَبْدَأُ وَقْتُ طَوَافِ الْقُدُومِ حِينَ دُخُول مَكَّةَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُبَادِرَ بِهِ قَبْل اسْتِئْجَارِ الْمَنْزِل وَنَحْوِ ذَلِكَ، لأَِنَّهُ تَحِيَّةُ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَآخِرُ وَقْتِهِ وُقُوفُهُ بِعَرَفَةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لأَِنَّهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ مُطَالَبٌ بِطَوَافِ الْفَرْضِ، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ (1) .
كَيْفِيَّةُ طَوَافِ الْقُدُومِ:
91 - كَيْفِيَّةُ طَوَافِ الْقُدُومِ كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ اضْطِبَاعَ فِيهِ وَلاَ رَمَل، وَلاَ سَعْيَ لأَِجْلِهِ، إِلاَّ إِذَا أَرَادَ تَقْدِيمَ سَعْيِ الْحَجِّ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُسَنُّ لَهُ عِنْدَئِذٍ الاِضْطِبَاعُ وَالرَّمَل فِي الطَّوَافِ، لأَِنَّ الرَّمَل وَالاِضْطِبَاعَ سُنَّةٌ فِي كُل طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ (2) .
ثَانِيًا: خُطَبُ الإِْمَامِ:
92 - وَهِيَ سُنَّةٌ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَأَرْبَعَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ،
__________
(1) انظر مناقشة هامة لهذا الاتجاه في المغني 3 / 443.
(2) انظر في طواف القدوم مع الإحالات السابقة: الهداية وشروحها 2 / 155، 191، والبدائع 2 / 146 - 147، وشرح الرسالة 1 / 465، وشرح الزرقاني 2 / 265، والشرح الكبير 2 / 33 - 34، والمهذب 8 / 12، ونهاية المحتاج 2 / 404 - 405، والمغني 3 / 442 - 443، والكافي 1 / 608 - 609، والمقنع وشرحه ص 455، ونيل الأوطار 5 / 38.(17/65)
وَتُؤَدَّى الْخُطَبُ كُل وَاحِدَةٍ خُطْبَةً وَاحِدَةً بَعْدَ صَلاَةِ الظُّهْرِ، إِلاَّ خُطْبَةَ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَإِنَّهَا خُطْبَتَانِ بَعْدَ الزَّوَال قَبْل الصَّلاَةِ.
وَيَفْتَتِحُ الْخُطْبَةَ بِالتَّلْبِيَةِ إِنْ كَانَ مُحْرِمًا، وَبِالتَّكْبِيرِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا.
الْخُطْبَةُ الأُْولَى:
93 - تُسَنُّ هَذِهِ الْخُطْبَةُ فِي مَكَّةَ يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ قَبْل يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهَا أَنْ يُعَلِّمَهُمُ الْمَنَاسِكَ (1) . عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ قَبْل التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ خَطَبَ النَّاسَ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَنَاسِكِهِمْ (2) .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
94 - وَتُسَنُّ هَذِهِ الْخُطْبَةُ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ، قَبْل الصَّلاَةِ اتِّفَاقًا، كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ.
__________
(1) هذه الخطبة مندوبة في قول عند المالكية، لكن رجح في مواهب الجليل سنيتها 3 / 117 وأنها خطبتان بعد الزوال، وقيل ضحى.
(2) حديث ابن عمر: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قبل يوم التروية. . . " أخرجه البيهقي (5 / 111 - ط دائرة المعارف العثمانية) وجود إسناده النووي، المجموع (8 / 80، 88 - ط المنيرية) وانظر شرح المنهاج 2 / 112 - 113، والهداية 2 / 161، والمسلك المتقسط ص 125 مع إرشاد الساري بذيله، والشرح الكبير 2 / 43، ورجح أنها خطبتان.(17/65)
وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ خُطْبَتَانِ يُفْصَل بَيْنَهُمَا بِجَلْسَةٍ كَمَا فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، يُبَيِّنُ لَهُمْ فِي أُولاَهُمَا مَا أَمَامَهُمْ مِنَ الْمَنَاسِكِ وَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى إِكْثَارِ الدُّعَاءِ وَالاِبْتِهَال، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا يُهِمُّهُمْ مِنَ الأُْمُورِ الضَّرُورِيَّةِ لِشُؤُونِ دِينِهِمْ، وَاسْتِقَامَةِ أَحْوَالِهِمْ (1) .
الْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ:
95 - الْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ تَكُونُ بِمِنًى فِي الْيَوْمِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا تَكُونُ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ.
اسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى (2) .
وَأَجَابَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخُطْبَةِ التَّعْلِيمُ وَإِجَابَةٌ عَنْ أَسْئِلَةٍ وُجِّهَتْ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ اشْتِغَالٍ بِأَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ وَهِيَ الرَّمْيُ وَالذَّبْحُ وَالْحَلْقُ وَالطَّوَافُ (3) .
__________
(1) الهداية وفتح القدير 2 / 163، والمسلك المتقسط الموضع السابق، والمهذب 8 / 88، وشرح المنهاج 2 / 113.
(2) حديث: " خطب يوم النحر بمنى " أخرجه أبو داود (2 / 489 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث الهرماس بن زياد الباهلي، قال الشوكاني في نيل الأوطار (3 / 306 - ط المطبعة العثمانية) " رجال إسناده ثقات ".
(3) نيل الأوطار 3 / 307، وانظر الهداية بشرحها 2 / 161، ومواهب الجليل 3 / 117، وشرح المنهاج 2 / 121، والمغني 3 / 445، والفروع 3 / 516.(17/66)
الْخُطْبَةُ الرَّابِعَةُ:
96 - زَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ خُطْبَةً رَابِعَةً: هِيَ بِمِنًى ثَانِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يُعَلِّمُهُمْ فِيهَا جَوَازَ النَّفْرِ فِيهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَيُوَدِّعُهُمْ (1) .
ثَالِثًا: الْمَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَةَ يَوْمِ عَرَفَةَ:
97 - يُسَنُّ لِلْحَاجِّ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَيُصَلِّيَ بِمِنًى خَمْسَ صَلَوَاتٍ هِيَ: الظُّهْرُ، وَالْعَصْرُ، وَالْمَغْرِبُ، وَالْعِشَاءُ، وَالْفَجْرُ، وَذَلِكَ سُنَّةٌ بِاتِّفَاقِ الأَْئِمَّةِ (2) .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ (3) .
__________
(1) شرح المنهاج الصفحة السابقة ونهاية المحتاج 2 / 433، والفروع 3 / 520.
(2) الهداية وفتح القدير 2 / 161 - 162، والمسلك المتقسط ص 51، 127 - 128 وشرح المنهاج الموضع السابق، والمغني 3 / 406، وشرح الحطاب 3 / 157 فقد نبه على أنها من السنن، وإن عبر خليل عنها بالندب. وانظر شرح الرسالة بحاشيته 1 / 472 - 473.
(3) حديث جابر: " فلما كان يوم التروية. . . " أخرجه مسلم (2 / 889 - 192 - ط الحلبي) .(17/66)
رَابِعًا: السَّيْرُ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ:
98 - السَّيْرُ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ صَبَاحًا بَعْدَ طُلُوعِ شَمْسِ يَوْمِ عَرَفَةَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَالأَْصْل فِيهِ فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ: ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ (2) وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ فَسَارَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . فَأَجَازَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ. . (3)
خَامِسًا: الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ النَّحْرِ:
99 - يُسَنُّ لِلْحَاجِّ أَنْ يَبِيتَ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ عِيدِ النَّحْرِ، وَيَمْكُثَ بِهَا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، ثُمَّ يَقِفَ لِلدُّعَاءِ وَيَمْكُثَ فِيهَا حَتَّى يُسْفِرَ جِدًّا، ثُمَّ يَدْفَعَ إِلَى مِنًى فَهَذَا سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ (4) .
__________
(1) المسلك المتقسط ص 51، ومغني المحتاج 1 / 496، والشرح الكبير 2 / 43 مع تنبيه الحطاب على سنيته 3 / 117، والمغني 3 / 407.
(2) أي طلعت الشمس والنبي صلى الله عليه وسلم بمنى، فسار إلى عرفة بعد طلوعها.
(3) حديث جابر: " ثم مكث قليلا. . . " أخرجه مسلم (2 / 889 - ط الحلبي) .
(4) المسلك المتقسط ص 51 - 52، والمجموع 8 / 129، والشرح الكبير 2 / 44، والمغني 3 / 423، أما التعبير بوجوب المبيت فالمراد به ما يصدق على الوقف فتنبه.(17/67)
إِنَّمَا الْوَاجِبُ الْوُقُوفُ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ وَذَلِكَ لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَال جَابِرٌ: حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ. . . (1)
مُسْتَحَبَّاتُ الْحَجِّ:
100 - مُسْتَحَبَّاتُ الْحَجِّ يَحْصُل بِهَا الأَْجْرُ لَكِنْ دُونَ أَجْرِ السُّنَّةِ، وَلاَ يَلْزَمُ تَارِكَهَا الإِْسَاءَةُ بِخِلاَفِ السُّنَّةِ.
وَمُسْتَحَبَّاتُ الْحَجِّ كَثِيرَةٌ نَذْكُرُ طَائِفَةً هَامَةً مِنْهَا فِيمَا يَلِي (2) :
أَوَّلاً: الْعَجُّ:
101 - وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ بِاعْتِدَالٍ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِلرِّجَال، عَمَلاً بِحَدِيثِ السَّائِل: أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَل؟ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَجُّ، وَالثَّجُّ (3) .
__________
(1) حديث جابر: " حتى أتى المزدلفة فصلى بها. . . " أخرجه مسلم (2 / 891 - ط الحلبي) .
(2) اعتمدنا في ذلك على سرد المسلك المتقسط ص 52 - 53، وننبه إلى أن الشافعية يسوون المستحب بالسنة.
(3) حديث: " أفضل الحج: العج والثج " أخرجه الترمذي (3 / 180 - ط الحلبي) من حديث أبي بكر الصديق، وأعله بالانقطاع ولكن له شاهد من حديث عبد الله بن مسعود عند أبي يعلى في مجمع الزوائد للهيثمي (3 / 224 - ط القدسي) وقال: (وفيه رجل ضعيف) .(17/67)
ثَانِيًا: الثَّجُّ:
102 - وَهُوَ ذَبْحُ الْهَدْيِ تَطَوُّعًا
، لِمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَكْثَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ جِدًّا، حَتَّى بَلَغَ مَجْمُوعُ هَدْيِهِ فِي حَجَّتِهِ مِائَةً مِنَ الإِْبِل (1) .
قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ بِحَجٍّ أَوْ عَمْرَةٍ أَنْ يُهْدِيَ هَدْيًا مِنَ الأَْنْعَامِ، وَنَحْرُهُ هُنَاكَ، وَيُفَرِّقُهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ الْمَوْجُودِينَ فِي الْحَرَمِ (2) "
ثَالِثًا: الْغُسْل لِدُخُول مَكَّةَ لِلآْفَاقِيِّ:
103 - وَذَلِكَ عِنْدَ ذِي طُوًى، كَمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مَدَاخِل مَكَّةَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يَغْتَسِل لِدُخُول مَكَّةَ (3) ".
رَابِعًا: الْغُسْل لِلْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْل:
104 - صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، حَتَّى جَعَل
__________
(1) حديث: بلغ مجموع هديه في حجته مائة من الإبل. ورد ذلك في حديث جابر في صحيح مسلم (2 / 889 - 892 - ط الحلبي) .
(2) المجموع 8 / 269، وانظر الهداية وشرحها 2 / 322 و 8 / 76 - 77، والمسلك المتقسط ص 52، وصرح الحنابلة بأنه سنة، انظر مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى 2 / 461.
(3) حديث: " كان يغتسل لدخول مكة " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 435 - ط السلفية) ومسلم (2 / 919 - ط الحلبي) وانظر المسلك المتقسط ص 52، والشرح الكبير 2 / 38، ومغني المحتاج 1 / 483، والمغني 3 / 368.(17/68)
الشَّافِعِيَّةُ التَّيَمُّمَ بَدِيلاً عَنْهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَاءِ
قَال النَّوَوِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِل بِالْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْل، لِلْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَلِلْعِيدِ، وَلِمَا فِيهَا مِنَ الاِجْتِمَاعِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْمَاءِ تَيَمَّمَ كَمَا سَبَقَ (1) ".
خَامِسًا: التَّعْجِيل بِطَوَافِ الإِْفَاضَةِ:
105 - وَذَلِكَ بِأَدَائِهِ يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ، اتِّبَاعًا لِفِعْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ (2)
سَادِسًا: الإِْكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالأَْذْكَارِ الْمُتَكَرِّرَةِ فِي الأَْحْوَال:
106 - كَالأَْدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ فِي الْمَنَاسِكِ، وَلاَ سِيَّمَا وُقُوفُ عَرَفَةَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَهَذَا بِهِ رَوْحُ شَعَائِرِ الْحَجِّ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّمَا جُعِل رَمْيُ الْجِمَارِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لإِِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ (3) .
__________
(1) المجموع 8 / 129، والمسلك المتقسط الموضع السابق، زاد الشافعية الغسل للرمي في أيام التشريق، وجعلوا أغسال الحج سبعة انظر مغني المحتاج 1 / 478 - 479.
(2) حديث: " أدى طواف الإفاضة في يوم النحر. . . " أخرجه مسلم (2 / 892 - ط الحلبي) ، وانظر المسلك المتقسط، الشرح الكبير 2 / 46، ومغني المحتاج 1 / 203، وعبر عنه بالأفضل، والمغني 3 / 440 - 441.
(3) حديث: " إنما جعل رمي الجمار والسعي. . . " أخرجه أبو داود (2 / 447 - تحقيق عزت عبيد دعاس والترمذي (3 / 237 - ط الحلبي) من حديث عائشة، وذكر الذهبي في الميزان (3 / 8 - ط الحلبي) تضعيف أحد رواته، ثم ذكر من مناكير هذا الحديث.(17/68)
سَابِعًا: التَّحْصِيبُ:
107 - وَهُوَ النُّزُول بِوَادِي الْمُحَصَّبِ، أَوِ الأَْبْطُحِ (1) فِي النَّفْرِ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَيَقَعُ الْمُحَصَّبُ عِنْدَ مَدْخَل مَكَّةَ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، إِلَى الْمَقْبَرَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْحَجُونِ. وَقَدِ اتَّصَل بِنَاءُ مَكَّةَ بِهِ فِي زَمَنِنَا بَل تَجَاوَزَهُ لِمَا وَرَاءَهُ.
وَالتَّحْصِيبُ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، بِأَنْ يَنْزِل الْحَاجُّ فِيهِ فِي نَفْرِهِ مِنْ مِنًى وَيُصَلِّي فِيهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ (2) . اسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّمَا نَزَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَصَّبَ لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ، وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ فَمَنْ شَاءَ نَزَلَهُ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَنْزِلْهُ (3)
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ عَلَى السُّنِّيَّةِ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِل غَدًا فِي حَجَّتِهِ. قَال: وَهَل تَرَكَ عَقِيلٌ لَنَا مِنْ دَارٍ ثُمَّ قَال: نَحْنُ نَازِلُونَ بِخَيْفِ بَنِي
__________
(1) سمي محصبا لكثرة الحصباء فيه وهي الحصي الصغيرة، كذا سمي الأبطح من البطحاء وهي الحصي الصغار، وكان مسيلا لوادي مكة تجرف السيسول الرمال والحصي. ويقع الآن بين القصر الملكي وجبانة المعلى.
(2) شرح الرسالة 1 / 481، والشرح الكبير 2 / 52 - 53، والمهذب بشرحه 8 / 195 - 196، والمغني 3 / 457.
(3) حديث عائشة: " إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصب. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 591 - ط السلفية) ومسلم (2 / 951 - ط الحلبي) .(17/69)
كِنَانَةَ، حَيْثُ قَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكُفْرِ (1)
وَحَيْثُ أَصْبَحَ الْمُحَصَّبُ الآْنَ ضِمْنَ الْبُنْيَانِ فَيَمْكُثُ الْحَاجُّ فِيهِ مَا تَيَسَّرَ تَحْصِيلاً لِلسُّنَةِ قَدْرَ الإِْمْكَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي يُثِيرُ تِلْكَ الذِّكْرَى مِنْ جِهَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مَمْنُوعَاتُ الْحَجِّ:
108 - مَمْنُوعَاتُ الْحَجِّ أَقْسَامٌ: مَكْرُوهَاتٌ، وَمُحَرَّمَاتٌ، وَمُفْسِدَاتٌ.
أَمَّا الْمَكْرُوهَاتُ: فَهِيَ تَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَيَلْزَمُ فِيهِ الإِْسَاءَةُ، وَلاَ يَجِبُ فِدَاءٌ.
وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ: فَيَدْخُل فِيهَا تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ، وَيُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ: مَكْرُوهًا كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ. وَحُكْمُهُ إِثْمُ مَنِ ارْتَكَبَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَلُزُومُ الْفِدَاءِ فِيهِ اتِّفَاقًا عَلَى التَّفْصِيل الآْتِي:
أَمَّا الْمُفْسِدَاتُ وَسَائِرُ مُحَرَّمَاتِ الْحَجِّ فَإِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالإِْحْرَامِ لاَ تَخْتَصُّ بِالْحَجِّ (2) . (انْظُرْ فِي الْمُصْطَلَحِ: إِحْرَامٌ ف 55 وَمَا بَعْدُ وَ 171 - 173) .
__________
(1) حديث: " وهل ترك عقيل لنا من دار. . " أخرجه مسلم (2 / 952 - ط الحلبي) وأبو داود (2 / 514 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، واللفظ لأبي داود.
(2) كما أوضح ذلك رحمة الله السندي في لباب المناسك وعلي القاري في شرحه " المسلك المتقسط " ص 53.(17/69)
مُبَاحَاتُ الْحَجِّ:
109 - لَيْسَ لِلْحَجِّ مُبَاحَاتٌ خَاصَّةٌ بِهِ، سِوَى الْمُبَاحَاتِ الَّتِي لاَ تُخِل بِمَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ (فَانْظُرْ فِي الْمُصْطَلَحِ: إِحْرَامٌ: ف 99 - 107) .
أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِالْحَجِّ:
110 - تَتَنَاوَل هَذِهِ الأَْحْكَامُ الْمَوْضُوعَاتِ التَّالِيَةَ:
حَجُّ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ.
حَجُّ الصَّبِيِّ.
حَجُّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ.
الْحَجُّ عَنِ الْغَيْرِ.
الأَْوَّل - حَجُّ الْمَرْأَةِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ:
111 - تَخْتَصُّ الْمَرْأَةُ دُونَ الرَّجُل بِعِدَّةِ أَحْكَامٍ فِي الْحَجِّ، بَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالإِْحْرَامِ، فَيُنْظَرُ فِيهِ، وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِمَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَسَبَقَتْ فِي مَوَاضِعِهَا.
وَنُبَيِّنُ هُنَا أَحْكَامًا أُخْرَى هَامَةً، هِيَ أَحْكَامُ حَجِّ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَلَهُ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ نُبَيِّنُ حُكْمَهَا فِيمَا يَلِي:
أ - أَنْ تُحْرِمَ الْمَرْأَةُ بِالْحَجِّ مُفْرِدَةً أَوْ قَارِنَةً، ثُمَّ يَمْنَعَهَا الْحَيْضُ أَوِ النِّفَاسُ مِنْ أَدَاءِ الطَّوَافِ، فَإِنَّهَا تَمْكُثُ حَتَّى تَقِفَ بِعَرَفَةَ وَتَأْتِيَ بِكَافَّةِ أَعْمَال الْحَجِّ فِيمَا عَدَا الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ، فَإِذَا طَهُرَتْ تَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا وَتَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا إِنْ كَانَتْ مُفْرِدَةً. وَتَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَتَسْعَى سَعْيًا لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِنْ(17/70)
كَانَتْ قَارِنَةً، حَسْبَمَا يَجِبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَطَوَافًا وَسَعْيًا وَاحِدًا لِلْقِرَانِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ اتِّفَاقًا (1) .
وَيَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْقُدُومِ، أَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَلأَِنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ وَقْتُهَا، وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلِكَوْنِهِ عُذْرًا يَسْقُطُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا، إِلاَّ أَنْ يَزُول الْمَانِعُ وَيَتَّسِعَ الزَّمَنُ لِطَوَافِ الْقُدُومِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهَا (2) .
ب - أَنْ تُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ تَحِيضَ أَوْ تُنْفَسَ قَبْل الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَلاَ يَتَّسِعُ الْوَقْتُ كَيْ تَطْهُرَ وَتَعْتَمِرَ قَبْل الإِْحْرَامِ بِالْحَجِّ:
قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ تُحْرِمُ بِالْحَجِّ أَيْ تَنْوِيهِ وَتُلَبِّي، وَتُؤَدِّي أَعْمَال الْحَجِّ كَمَا ذَكَرْنَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُفْرِدَةِ، وَتُصْبِحُ بِهَذَا رَافِضَةً لِلْعُمْرَةِ، أَيْ مُلْغِيَةً لَهَا، وَتُحْتَسَبُ لَهَا حَجَّةً فَقَطْ، فَإِذَا أَرَادَتِ الْعُمْرَةَ تُهِل بِهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَعْمَال الْحَجِّ (3) وَلَيْسَ لَهَا إِرْدَافُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ عِنْدَهُمْ (4) .
أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالُوا: لاَ تُلْغِي الْعُمْرَةَ، بَل تُحْرِمُ بِالْحَجِّ، وَتُصْبِحُ قَارِنَةً، فَتُحْتَسَبُ لَهَا الْعُمْرَةُ، وَقَدْ كَفَى عَنْهَا طَوَافُ الْحَجِّ وَسَعْيُهُ تَبَعًا
__________
(1) المبسوط 4 / 179، وشرح الهداية 2 / 223 - 224.
(2) الشرح الكبير 2 / 34.
(3) المبسوط 4 / 35 و 36، وفتح القدير الموضع السابق.
(4) انظر مصطلح إحرام (ف 23 - 27) .(17/70)
لِمَذْهَبِهِمْ فِي طَوَافِ الْقَارِنِ وَسَعْيِهِ أَنَّهُمَا يُجْزِئَانِ عَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ قِرَانٍ) .
وَعَلَيْهَا هَدْيُ الْقِرَانِ عِنْدَهُمْ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ اتِّفَاقًا.
ج - لَوْ حَاضَتْ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ بَعْدَ أَنْ مَضَتْ عَلَيْهَا فَتْرَةٌ تَصْلُحُ لِلطَّوَافِ فَأَخَّرَتْ طَوَافَ الإِْفَاضَةِ عَنْ وَقْتِهِ بِسَبَبِ الْحَيْضِ وَجَبَ عَلَيْهَا دَمٌ بِهَذَا التَّأْخِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. أَمَّا إِذَا حَاضَتْ قَبْل يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ بَعْدَهُ بِوَقْتٍ يَسِيرٍ لاَ يَكْفِي لِلإِْفَاضَةِ فَتَأَخَّرَ طَوَافُهَا عَنْ وَقْتِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهَا وَلاَ إِثْمَ (1) .
وَلاَ يُتَصَوَّرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ذَلِكَ، لأَِنَّ وَقْتَ طَوَافِ الإِْفَاضَةِ الْوَاجِبَ يَمْتَدُّ عِنْدَهُمْ لآِخِرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَلاَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لأَِنَّهُ لاَ وَقْتَ يَلْزَمُ الْجَزَاءُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْهُ عِنْدَهُمْ (2) .
د - إِنْ حَاضَتْ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ فَإِنَّهَا تُتِمُّ أَعْمَال الْحَجِّ، ثُمَّ تَنْصَرِفُ، وَيَسْقُطُ عَنْهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ، إِنْ فَارَقَتْ مَكَّةَ قَبْل أَنْ تَطْهُرَ
__________
(1) المغني 3 / 481 - 484.
(2) وإذا خافت فوات الرفقة أو مواعيد السفر بانتظار الطهر فإنها تطوف طواف الزيارة وهي حائض بعد أن تتحفض وتغتسل غسل نظافة وعليها بدنة عند أبي حنيفة، وشاة عند أحمد، ولا شيء عليها عند ابن تيمية. والأخذ بهذا الرأي فيه توسعة وإزالة حرج في الظروف الحالية (الفتاوى(17/71)
اتِّفَاقًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهَا الْفِدَاءُ بِتَرْكِهِ (1) .
حَجُّ الصَّبِيِّ:
112 - لاَ يَجِبُ الْحَجُّ عَلَى الصَّبِيِّ قَبْل الْبُلُوغِ إِجْمَاعًا، لَكِنْ إِذَا فَعَلَهُ صَحَّ مِنْهُ، وَكَانَ نَفْلاً، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى إِذَا بَلَغَ إِجْمَاعًا.
وَتَتَفَاوَتُ كَيْفِيَّةُ إِحْرَامِ الصَّبِيِّ وَأَدَائِهِ الْمَنَاسِكَ بِتَفَاوُتِ سِنِّهِ هَل هُوَ مُمَيِّزٌ أَوْ لاَ.
وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلاً فِي مُصْطَلَحِ إِحْرَامٍ فَانْظُرْهُ (ف 131 - 136) وَيُلْحَقُ بِالصَّبِيِّ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ الْمَجْنُونُ جُنُونًا مُطْبِقًا بِاتِّفَاقِهِمْ (2) .
حَجُّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ الْمَرِيضِ:
113 - إِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْل الإِْحْرَامِ أَحْرَمَ عَنْهُ رُفْقَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ مَعَ بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الأَْعْمَال فِي مُصْطَلَحِ إِحْرَامٍ (ف 138 - 142) ، وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الإِْحْرَامِ فَهَذَا حَمْلُهُ مُتَعَيَّنٌ عَلَى رُفَقَائِهِ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
1 - الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ: عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ بِالنِّسْبَةِ لِرُكْنِ الْوُقُوفِ، وَلاَ سِيَّمَا فِي مَذْهَبِ
__________
(1) شروح الهداية 2 / 224، وانظر المبسوط 4 / 179، وانظر ما سبق طواف الوداع (ف 174) .
(2) على تفاصيل في إفاقته وما يلزم فيها. انظر المسلك المتقسط ص 78، والإيضاح ص 556، والشرح الكبير 2 / 3، والمغني 3 / 249.(17/71)
الْمَالِكِيَّةِ، وَمِثْلُهُ النَّائِمُ الْمَرِيضُ الَّذِي لَمْ يُفِقْ مُدَّةَ مُكْثِهِ حَتَّى دَفَعَ مَعَ النَّاسِ (1) .
2 - يَحْمِل الْمُغْمَى عَلَيْهِ رِفَاقُهُ فِي الطَّوَافِ وَيَطُوفُونَ بِهِ، وَيُجْزِئُ الطَّوَافُ الْوَاحِدُ عَنِ الْحَامِل وَالْمَحْمُول، إِنْ نَوَاهُ الْحَامِل عَنْ نَفْسِهِ وَعَنِ الْمَحْمُول، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ.
أَمَّا الْمَرِيضُ النَّائِمُ فَإِنْ كَانَ الطَّوَافُ بِأَمْرِهِ وَحَمَلُوهُ مِنْ فَوْرِهِ، أَيْ مِنْ سَاعَتِهِ عُرْفًا وَعَادَةً يَجُوزُ، إِلاَّ بِأَنْ طَافُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِالطَّوَافِ بِهِ، أَوْ فَعَلُوهُ لَكِنْ لاَ مِنْ فَوْرِهِ فَلاَ يُجْزِيهِ الطَّوَافُ.
هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (2) . أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِهِمْ فَيُنْتَظَرُ بِهِ حَتَّى يُفِيقَ، وَيَسْتَوْفِيَ شُرُوطَ الطَّوَافِ، الَّتِي مِنْهَا الطَّهَارَتَانِ (انْظُرْ طَوَافٌ) .
3 - وَيُمْكِنُ أَنْ يَسْعَى بِهِ بِاتِّفَاقِهِمْ، لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَالطَّهَارَتَيْنِ فِي السَّعْيِ.
4 - وَيَحْلِقُ لَهُ رِفَاقُهُ، لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهِ.
5 - وَيَرْمِي عَنْهُ رِفَاقُهُ، عَلَى التَّفْصِيل فِيهِ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: رَمْيٌ)
6 - وَيَسْقُطُ عَنْهُ طَوَافُ الْوَدَاعِ إِذَا سَافَرَ بِهِ رُفْقَتُهُ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ.
الْحَجُّ عَنِ الْغَيْرِ:
مَشْرُوعِيَّةُ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ:
114 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) انظر مواهب الجليل 3 / 95.
(2) المسلك المتقسط ص 100 - 101.(17/72)
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ (1)
وَقَابِلِيَّتِهِ لِلنِّيَابَةِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي مَذْهَبِهِ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ لاَ يَقْبَل النِّيَابَةَ لاَ عَنِ الْحَيِّ وَلاَ عَنِ الْمَيِّتِ، مَعْذُورًا أَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ. وَقَالُوا: إِنَّ الأَْفْضَل أَنْ يَتَطَوَّعَ عَنْهُ وَلِيُّهُ بِغَيْرِ الْحَجِّ، كَأَنْ يُهْدِيَ أَوْ يَتَصَدَّقَ عَنْهُ، أَوْ يَدْعُوَ لَهُ، أَوْ يُعْتِقَ (2) .
اسْتَدَل الْجُمْهُورُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَجِّ الإِْنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَبِالْعَقْل.
أَمَّا السُّنَّةُ: فَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَتْ: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَل يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَال: نَعَمْ (3) .
__________
(1) أي أن (أل) هنا بديل عن الإضافة، وأصل العبارة " عن غيره " فحذف المضاف وعوضت (أل) عنه. وانظر للاستزادة في مسالة إدخال (أل) على غير وتعريفها بالإضافة جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 1 / والكشاف للزمخشري 1 / 16 - 17 وغيرهما لمناسبة تفسير " غير المغضوب عليهم ".
(2) انظر فتح القدير 2 / 308، ومغني المحتاج 1 / 468 - 469، والمغني 3 / 227 - 228، ومواهب الجليل 2 / 543، وحاشية الدسوقي 1 / 18.
(3) حديث ابن عباس: جاءت امرأة من خثعم. أخرجه البخاري (الفتح 4 / 66 - ط السلفية) مسلم (2 / 973 - ط الحلبي) .(17/72)
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ . . اقْضُوا اللَّهَ، فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ (1) .
وَأَمَّا الْعَقْل، فَقَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: وَكَانَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ لاَ تَجْرِيَ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ، لِتَضَمُّنِهِ الْمَشَقَّتَيْنِ الْبَدَنِيَّةَ وَالْمَالِيَّةَ، وَالأُْولَى لَمْ تَقُمْ بِالآْمِرِ، لَكِنَّهُ تَعَالَى رَخَّصَ فِي إِسْقَاطِهِ بِتَحَمُّل الْمَشَقَّةِ الأُْخْرَى، أَعْنِي إِخْرَاجَ الْمَال عِنْدَ الْعَجْزِ الْمُسْتَمِرِّ إِلَى الْمَوْتِ، رَحْمَةً وَفَضْلاً، وَذَلِكَ بِأَنْ يَدْفَعَ نَفَقَةَ الْحَجِّ إِلَى مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، بِخِلاَفِ حَال الْقُدْرَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْذُرْهُ لأَِنَّ تَرْكَهُ لَيْسَ إِلاَّ لِمُجَرَّدِ إِيثَارِ رَاحَةِ نَفْسِهِ عَلَى أَمْرِ رَبِّهِ، وَهُوَ بِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ، لاَ التَّخْفِيفَ فِي طَرِيقِ الإِْسْقَاطِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ دَوَامَهُ (أَيِ الْعُذْرِ) إِلَى الْمَوْتِ لأَِنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمُرِ (2) . . . "
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: هَذِهِ عِبَادَةٌ تَجِبُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ، فَجَازَ أَنْ يَقُومَ غَيْرُ فِعْلِهِ فِيهَا مَقَامَ فِعْلِهِ، كَالصَّوْمِ إِذَا عَجَزَ عَنْهُ افْتَدَى بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ (3) ".
__________
(1) حديث ابن عباس: أن امرأة من جهينة. . . أخرجه البخاري (الفتح 4 / 64 - ط السلفية) .
(2) فتح القدير 2 / 310.
(3) المغني 3 / 228.(17/73)
وَأَخَذَ الْمَالِكِيَّةُ بِالأَْصْل، وَهُوَ عَدَمُ جَرَيَانِ النِّيَابَةِ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ، كَالصَّوْمِ (1) .
شُرُوطُ الْحَجِّ الْفَرْضِ عَنِ الْغَيْرِ:
أَوَّلاً - شُرُوطُ وُجُوبِ الإِْحْجَاجِ:
115 - يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ شُرُوطَ الأَْصِيل الْمَحْجُوجِ عَنْهُ لِحَجَّةِ الْفَرْضِ.
يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الإِْحْجَاجِ عَنِ الْمُكَلَّفِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ - خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ -: الْعَجْزُ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ.
وَيَشْمَل ذَلِكَ مَا يَلِي:
أ - كُل مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ وَحَضَرَهُ الْمَوْتُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ بِالإِْحْجَاجِ عَنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. سَوَاءٌ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ، أَوِ النَّذْرِ، أَوِ الْقَضَاءِ.
وَلَمْ يُوقِفِ الشَّافِعِيَّةُ وُجُوبَ الإِْحْجَاجِ عَنْهُ عَلَى الْوَصِيَّةِ إِجْرَاءً لِلْحَجِّ مَجْرَى الدُّيُونِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَلاَ يُوجِبُونَ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةَ، وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ بِأَدَاءِ الْغَيْرِ عَنْهُ - كَمَا هُوَ أَصْل مَذْهَبِهِمُ الَّذِي عَرَفْنَاهُ - لَكِنْ إِذَا أَوْصَى نَفَذَتْ وَصِيَّتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ لَمْ يُرْسَل مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ.
ب - مَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ سَائِرُ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ وَاخْتَل شَيْءٌ مِنْ شُرُوطِ الأَْدَاءِ بِالنَّفْسِ، يَجِبُ
__________
(1) مواهب الجليل في الموضع السابق، وفيه توسع، والتاج والإكليل لمختصر خليل 3 / 7.(17/73)
عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ يُوصِيَ بِالإِْحْجَاجِ عَنْهُ إِذَا لَمْ يُرْسِل مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ.
ج - مَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى عَجَزَ عَنْ الأَْدَاءِ بِنَفْسِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فِي حَال حَيَاتِهِ، أَوْ يُوصِيَ بِالإِْحْجَاجِ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ بِالْمَوْتِ، أَوْ بِالْحَبْسِ، وَالْمَنْعِ، وَالْمَرَضِ الَّذِي لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ كَالزَّمَانَةِ وَالْفَالِجِ، وَالْعَمَى وَالْعَرَجِ، وَالْهَرَمِ الَّذِي لاَ يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى الاِسْتِمْسَاكِ، وَعَدَمِ أَمْنِ الطَّرِيقِ، وَعَدَمِ الْمَحْرَمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ، إِذَا اسْتَمَرَّتْ هَذِهِ الآْفَاتُ إِلَى الْمَوْتِ (1) .
ثَانِيًا: شُرُوطُ النَّائِبِ عَنْ غَيْرِهِ فِي الْحَجِّ:
116 - اشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لإِِجْزَاءِ الْحَجِّ الْفَرْضِ عَنِ الأَْصِيل أَنْ يَكُونَ النَّائِبُ قَدْ حَجَّ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلاً، وَإِلاَّ كَانَتِ الْحَجَّةُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمْ تُجْزِئْ عَنِ الأَْصِيل، وَهُوَ قَوْل الأَْوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهُوَيْهِ (2) .
وَاكْتَفَى الْحَنَفِيَّةُ بِأَهْلِيَّةِ الْمَأْمُورِ لِصِحَّةِ الْحَجِّ، بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلاً، فَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 287، والإيضاح في مناسك الحج للنووي وحاشيته للهيثمي ص 108 - 109، ومغني المحتاج 1 / 468 - 469، والمغني 3 / 227 - 228، والفروع 3 / 245، ومواهب الجليل 2 / 543.
(2) المجموع والمهذب 7 / 98، والإيضاح ص 119، والمغني 3 / 245، والفروع 3 / 265 - 266.(17/74)
الْمَأْمُورُ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ حَجَّةَ الإِْسْلاَمِ (وَهُوَ الْمُسَمَّى صَرُورَةً) ، (1) وَأَجَازُوا حَجَّ الْعَبْدِ، وَالْمُرَاهِقِ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَتَصِحُّ هَذِهِ الْحَجَّةُ الْبَدَلِيَّةُ وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الأَْصِيل، مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلآْمِرِ، وَالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَأْمُورِ إِنْ كَانَ تَحَقَّقَ وُجُوبُ الْحَجِّ عَلَيْهِ. وَنَحْوُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ يَصِحُّ عَلَى الْقَوْل بِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَهُمْ، أَمَّا عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ فَيَحْرُمُ الْحَجُّ عَنْهُ (2) .
اسْتَدَل الأَْوَّلُونَ: بِمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلاً يَقُول: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ. قَال: مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَال: أَخٌ لِي، أَوْ قَرِيبٌ لِي. قَال: حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَال: لاَ. قَال: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ (3) .
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ بِإِطْلاَقِ حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ السَّابِقِ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهَا: حُجِّي عَنْ أَبِيكِ
__________
(1) الصرورة: من لم يحج.
(2) المسلك المتقسط ص 299، وفيه مناقشة حول المراهق ص 300 - 301، وتنوير الأبصار مع شرحه وحاشيته 2 / 331، ومواهب الجليل 3 / 5، والشرح الكبير 2 / 18 - 20.
(3) حديث ابن عباس: " حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ". أخرجه أبو داود (2 / 403 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وابن ماجه (2 / 969 - ط الحلبي) وأعل بالإرسال كما في التلخيص لابن حجر (2 / 221 - ط شركة الطباعة الفنية) ثم ذكر له طريقا آخر قواه به.(17/74)
مِنْ غَيْرِ اسْتِخْبَارِهَا عَنْ حَجِّهَا لِنَفْسِهَا قَبْل ذَلِكَ، وَتَرْكُ الاِسْتِفْصَال يَتَنَزَّل مَنْزِلَةَ عُمُومِ الْمَقَال.
ثَالِثًا: شُرُوطُ صِحَّةِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ عَنِِ الْغَيْرِ:
117 - أ - يُشْتَرَطُ أَنْ يَأْمُرَ الأَْصِيل بِالْحَجِّ عَنْهُ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ.
أَمَّا الْمَيِّتُ فَلاَ يَجُوزُ حَجُّ الْغَيْرِ عَنْهُ بِدُونِ وَصِيَّتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ، إِذَا حَجَّ أَوْ أَحَجَّ عَنْ مُوَرِّثِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِيهِ، وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُفَصِّل فِي حَقِّ السَّائِل هَل أَوْصَى أَوْ لَمْ يُوصِ، وَهُوَ وَارِثٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ حَجٌّ وَجَبَ الإِْحْجَاجُ عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ تَرِكَتِهِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَمْ لاَ، كَمَا تُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ سَوَاءٌ أَوْصَى بِهَا أَمْ لاَ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرِكَةٌ اسْتُحِبَّ لِوَارِثِهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ، فَإِنْ حَجَّ عَنْهُ بِنَفْسِهِ أَوْ أَرْسَل مَنْ حَجَّ عَنْهُ سَقَطَ الْحَجُّ عَنِ الْمَيِّتِ، وَلَوْ حَجَّ عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْوَارِثُ،
__________
(1) المسلك المتقسط ص 288، والدر بشرحه وحاشيته 2 / 328، وشرح الكبير 2 / 18 - 19، وإجزاء تبرع الأجنبي بحجة الفرض عمن لم يوص، رواية مرجوحة عند الحنفية. انظر رد المحتار 2 / 328، 34، 37.(17/75)
كَمَا يُقْضَى دَيْنُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَارِثِ (1) "
وَمَأْخَذُهُمْ تَشْبِيهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ بِالدَّيْنِ، فَأَجْرَوْا عَلَى قَضَاءِ الْحَجِّ أَحْكَامَ الدُّيُونِ. فَإِذَا مَاتَ وَالْحَجُّ فِي ذِمَّتِهِ يَجِبُ الإِْحْجَاجُ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ الْمَال وَلَوْ لَمْ يُوصِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى وَفَاءِ الدُّيُونِ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ ضَاقَ مَالُهُ وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحَاصُّ نَفَقَةُ الْحَجِّ مِنَ الدَّيْنِ، وَيُؤْخَذُ لِلْحَجِّ حِصَّتُهُ فَيَحُجُّ بِهَا مِنْ حَيْثُ تَبْلُغُ (2) .
ب - أَنْ تَكُونَ نَفَقَةُ الْحَجِّ مِنْ مَال الآْمِرِ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، سِوَى دَمِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ، فَهُمَا عَلَى الْحَاجِّ عِنْدَهُمْ. لَكِنْ إِذَا تَبَرَّعَ الْوَارِثُ بِالْحَجِّ عَنْ مُورَثِهِ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْصَى بِالإِْحْجَاجِ عَنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (3) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَدْ أَجَازُوا أَنْ يَتَبَرَّعَ بِالْحَجِّ عَنْ غَيْرِ الْمَيِّتِ مُطْلَقًا، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ (4) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالأَْمْرُ عِنْدَهُمْ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ
__________
(1) شرح المنهاج بحاشيتي قليوبي وعميرة 2 / 90، والسياق منها، والإيضاح مع حاشيته ص 209، والمجموع 7 / 78، والمغني لابن 3 / 241، والفروع 3 / 249.
(2) المغني 3 / 244، والفروع 3 / 251.
(3) رد المحتار 2 / 328، والتنوير وشروحه 2 / 338 - 339، وانظر المسلك المتقسط ص 289 - 290.
(4) كما سبق إشارة لذلك في الشرط السابق، وانظر الفروع 3 / 250 وفيه قوله: " تجوزا لنيابة بلا مال ".(17/75)
تَابِعٌ لِلْوَصِيَّةِ، وَلِتَنْفِيذِهَا بِعَقْدِ الإِْجَارَةِ، أَوْ لِتَبَرُّعِ النَّائِبِ، لاَ لإِِسْقَاطِ الْفَرِيضَةِ عَنِ الْمَيِّتِ.
وَأَمَّا الْحَيُّ الْمَعْضُوبُ: إِذَا بُذِل لَهُ الْمَال أَوِ الطَّاعَةُ فَلاَ يَلْزَمُهُ قَبُول ذَلِكَ لِلإِْحْجَاجِ عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ بَذَل لَهُ وَلَدُهُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ مَالاً لِلأُْجْرَةِ لَمْ يَجِبْ قَبُولُهُ فِي الأَْصَحِّ. وَلَوْ وَجَدَ مَالاً أَقَل مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْل وَرَضِيَ بِهِ الأَْجِيرُ لَزِمَهُ الاِسْتِئْجَارُ، لأَِنَّهُ مُسْتَطِيعٌ، وَالْمِنَّةُ فِيهِ لَيْسَتْ كَالْمِنَّةِ فِي الْمَال.
وَلَوْ لَمْ يَجِدْ أُجْرَةً وَبَذَل لَهُ وَلَدُهُ الطَّاعَةَ بِأَنْ يَذْهَبَ هُوَ بِنَفْسِهِ لِلْحَجِّ عَنْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبُولُهُ، وَهُوَ الإِْذْنُ لَهُ فِي ذَلِكَ، لأَِنَّ الْمِنَّةَ فِي ذَلِكَ لَيْسَتْ كَالْمِنَّةِ فِي الْمَال. لِحُصُول الاِسْتِطَاعَةِ، وَكَذَا الأَْجْنَبِيُّ فِي الأَْصَحِّ.
وَيُشْتَرَطُ لِلُزُومِ قَبُول طَاعَتِهِمْ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: أَنْ يَثِقَ بِالْبَازِل، وَأَنْ لاَ يَكُونَ عَلَيْهِ حَجٌّ وَلَوْ نَذْرًا، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُمْ حَجَّةُ الإِْسْلاَمِ، وَأَنْ لاَ يَكُونَا مَعْضُوبَيْنِ (2) .
ج - يُشْتَرَطُ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ وَطَنِهِ إِنِ اتَّسَعَ ثُلُثُ التَّرِكَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
__________
(1) لما هو مقرر عندهم في شرط الاستطاعة للزاد وآلة الركوب.
(2) مغني المحتاج 1 / 469 - 470.(17/76)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُعْتَبَرُ اتِّسَاعُ جَمِيعِ مَال الْمَيِّتِ، لأَِنَّهُ دَيْنٌ وَاجِبٌ، فَكَانَ مِنْ رَأْسِ الْمَال كَدَيْنِ الآْدَمِيِّ. لَكِنْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ قَضَاؤُهُ عَنْهُ مِنَ الْمِيقَاتِ لأَِنَّ الْحَجَّ يَجِبُ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْحَجُّ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ بَلَدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ مِنْهُ (1) ".
د - النِّيَّةُ: أَيْ نِيَّةُ الْحَاجِّ الْمَأْمُورِ أَدَاءَ الْحَجِّ عَنِ الأَْصِيل.
بِأَنْ يَنْوِيَ بِقَلْبِهِ وَيَقُول بِلِسَانِهِ (وَالتَّلَفُّظُ أَفْضَل) : أَحْرَمْتُ بِالْحَجِّ عَنْ فُلاَنٍ، وَلَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ عَنْ فُلاَنٍ.
وَإِنِ اكْتَفَى بِنِيَّةِ الْقَلْبِ كَفَى ذَلِكَ، اتِّفَاقًا. وَلَوْ نَسِيَ اسْمَهُ وَنَوَى أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ عَنِ الشَّخْصِ الْمَقْصُودِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ يَصِحُّ، وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنِ الأَْصِيل (2) .
هـ - أَنْ يَحُجَّ الْمَأْمُورُ بِنَفْسِهِ: نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ. فَلَوْ مَرِضَ الْمَأْمُورُ أَوْ حُبِسَ فَدَفَعَ الْمَال إِلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ لاَ يَقَعُ الْحَجُّ عَنِ الْمَيِّتِ، وَالْحَاجُّ الأَْوَّل وَالثَّانِي ضَامِنَانِ لِنَفَقَةِ الْحَجِّ، إِلاَّ إِذَا قَال الآْمِرُ
__________
(1) المسلك ص 291، والشرح الكبير 2 / 19، وشرح المنهاج 2 / 90، والمغني 3 / 241، والفروع 3 / 249، والمهذب 7 / 88، والمجموع 7 / 89.
(2) المسلك ص 292، ومواهب الجليل 3 / 7 وفيه التصريح بالاتفاق، والمجموع 7 / 79.(17/76)
بِالْحَجِّ: اصْنَعْ مَا شِئْتَ فَلَهُ، حِينَئِذٍ أَنْ يَدْفَعَ الْمَال إِلَى غَيْرِهِ، وَيَقَعُ الْحَجُّ عَنِ الآْمِرِ (1) .
و أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ الشَّخْصِ الَّذِي يَحُجُّ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ. وَلَوْ أَمَرَهُ بِالإِْفْرَادِ فَقَرَنَ عَنِ الآْمِرِ فَيَقَعُ ذَلِكَ عَنِ الآْمِرِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالصَّاحِبَيْنِ اسْتِحْسَانًا، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَهُوَ مُخَالِفٌ ضَامِنٌ مِنَ النَّفَقَاتِ وَلاَ يَقَعُ عَنِ الآْمِرِ. أَمَّا إِذَا أَمَرَهُ بِالإِْفْرَادِ فَتَمَتَّعَ عَنِ الآْمِرِ لَمْ يَقَعْ حَجُّهُ عَنْهُ وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الإِْسْلاَمِ، وَيَضْمَنُ اتِّفَاقًا عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ. وَسَوَّى الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ إِذَا فُعِلاَ وَكَانَ الإِْفْرَادُ يُجْزِئُ إِنْ كَانَ الشَّرْطُ مِنَ الْوَصِيِّ لاَ الأَْصِيل. وَصَحَّحَ الْحَنَابِلَةُ الْحَجَّ عَنِ الأَْصِيل فِي كُل الْحَالاَتِ وَيَرْجِعُ عَلَى الأَْجِيرِ بِفَرْقِ أُجْرَةِ الْمَسَافَةِ، أَوْ تَوْفِيرِ الْمِيقَاتِ (2) .
حَجُّ النَّفْل عَنِ الْغَيْرِ:
مَشْرُوعِيَّتُهُ:
118 - اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَجِّ النَّفْل عَنِ الْغَيْرِ بِإِطْلاَقٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحْمَدَ. وَأَجَازَهُ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا مَعَ الْكَرَاهَةِ فِيهِ وَفِي النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ الْمَنْذُورِ.
__________
(1) المسلك ص 293، والشرح الكبير 2 / 20، ومغني المحتاج 1 / 470 في إجازة العين، وحاشية الإيضاح ص 121 - 122، والمجموع 7 / 203.
(2) المسلك المتقسط ص 292، والشرح الكبير 2 / 16، والمجموع 7 / 114 - 115، والمغني 3 / 234 - 235.(17/77)
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَفَصَّلُوا وَقَالُوا: لاَ تَجُوزُ الاِسْتِنَابَةُ فِي حَجِّ النَّفْل عَنْ حَيٍّ لَيْسَ بِمَعْضُوبٍ، وَلاَ عَنْ مَيِّتٍ لَمْ يُوصِ بِهِ.
أَمَّا الْمَيِّتُ الَّذِي أَوْصَى بِهِ وَالْحَيُّ الْمَعْضُوبُ إِذَا اسْتَأْجَرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، فَفِيهِ قَوْلاَنِ مَشْهُورَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ:
أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ.
وَالْقَوْل الآْخَرُ عَدَمُ الْجَوَازِ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا جَازَ الاِسْتِنَابَةُ فِي الْفَرْضِ لِلضَّرُورَةِ، وَلاَ ضَرُورَةَ، فَلَمْ تَجُزِ الاِسْتِنَابَةُ فِيهِ، كَالصَّحِيحِ، وَيَقَعُ عَنِ الأَْجِيرِ، وَلاَ يَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ.
وَيَدُل لِلْجُمْهُورِ عَلَى صِحَّةِ حَجِّ النَّفْل عَنِ الْغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ بِنَفْسِهِ أَنَّهَا حَجَّةٌ لاَ تَلْزَمُهُ بِنَفْسِهِ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا كَالْمَعْضُوبِ.
وَلأَِنَّهُ يُتَوَسَّعُ فِي النَّفْل مَا لاَ يُتَوَسَّعُ فِي الْفَرْضِ، فَإِذَا جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي الْفَرْضِ فَلأََنْ تَجُوزَ فِي النَّفْل أَوْلَى.
شُرُوطُهُ:
119 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ حَجِّ النَّفْل عَنِ الْغَيْرِ:
الإِْسْلاَمُ، وَالْعَقْل، وَالتَّمْيِيزُ، وَقَيَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِالْمُرَاهِقِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّائِبُ قَدْ حَجَّ الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ حَجٌّ آخَرُ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.(17/77)
كَمَا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْحَاجِّ النَّائِبِ الْحَجَّةَ عَنِ الأَْصِيل (1) .
الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ:
مَشْرُوعِيَّتُهُ:
120 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَهُوَ الأَْشْهَرُ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى الْجَوَازِ، وَبِهِ أَخَذَ الْمَالِكِيَّةُ، مُرَاعَاةً لِخِلاَفِ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي حَجِّ النَّفْل (3) .
فَلَوْ عُقِدَتِ الإِْجَارَةُ لِلْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ فَهِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَاطِلَةٌ، لَكِنَّ الْحَجَّةَ عَنِ الأَْصِيل صَحِيحَةٌ، عَلَى التَّحْقِيقِ فِي الْمَذْهَبِ، وَيُسَمُّونَ الأَْجِيرَ: مَأْمُورًا، وَنَائِبًا، وَقَالُوا لَهُ نَفَقَةُ الْمِثْل فِي مَال الأَْصِيل، لأَِنَّهُ حَبَسَ نَفْسَهُ لِمَنْفَعَةِ الأَْصِيل فَوَجَبَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ (4) .
__________
(1) انظر بحث الحج النفل عن الغير في المسلك المتقسط ص 299، والمغني 3 / 230، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه 2 / 18، والمهذب وشرحه المجموع 7 / 92 - 94.
(2) المسلك المتقسط ص 288، ورد المحتار 2 / 228 - 229، والمغني 3 / 231، والفروع 3 / 252، 254.
(3) المجموع 7 / 102، ومغني المحتاج 1 / 470، والشرح الكبير 2 / 19.
(4) انظر تفصيل التحقيق والمناقشات حوله في المسلك المتقسط وإرشاد الساري بذيله ص 288 - 289، ورد المحتار 2 / 329 - 330، وانظر فتح القدير 2 / 313.(17/78)
الإِْخْلاَل بِأَرْكَانِ الْحَجِّ:
121 - لاَ يَتِمُّ الْحَجُّ إِنْ أُخِل بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ. ثُمَّ إِنْ تُرِكَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَانِعٍ قَاهِرٍ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
تَرْكُ رُكْنٍ مِنَ الْحَجِّ بِمَانِعٍ قَاهِرٍ: (الإِْحْصَارُ) :
122 - تَرْكُ رُكْنٍ أَوْ أَكْثَر مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ بِمَانِعٍ قَاهِرٍ سَبَقَ بَحْثُهُ تَفْصِيلاً فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْصَارٌ) .
تَرْكُ رُكْنٍ مِنَ الْحَجِّ لاَ بِمَانِعٍ قَاهِرٍ:
أَوَّلاً: تَرْكُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ: (الْفَوَاتُ) :
123 - أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ بِأَنْ " طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ يَوْمَ النَّحْرِ وَلَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ. وَيُسَمَّى ذَلِكَ (الْفَوَاتَ) ". ثُمَّ إِنْ أَرَادَ التَّحَلُّل مِنَ الإِْحْرَامِ فَيَتَحَلَّل بِأَعْمَال الْعُمْرَةِ (1) .
عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (فَوَاتٌ) .
ثَانِيًا: تَرْكُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ:
124 - طَوَافُ الزِّيَارَةِ رُكْنٌ لاَ يَسْقُطُ بِتَرْكِهِ إِذَا فَاتَ وَقْتُهُ، وَلاَ يَنْجَبِرُ بِشَيْءٍ، وَيَظَل الْحَاجُّ مُحْرِمًا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّحَلُّل الأَْكْبَرِ (مُصْطَلَحُ إِحْرَامٌ ف 124) ، حَتَّى يُؤَدِّيَهُ.
__________
(1) الهداية وفتح القدير 2 / 303، وشرح المنهاج 2 / 151، وشرح الزرقاني 2 / 238، والمغني 3 / 528.(17/78)
فَإِنْ تَرَكَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ أَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ شُرُوطِهِ، أَوْ رُكْنًا، وَلَوْ شَوْطًا أَوْ أَقَل مِنْ شَوْطٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَكَّةَ وَيُؤَدِّيَهُ.
وَإِذَا رَجَعَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِإِحْرَامِهِ الأَْوَّل، لاَ يَحْتَاجُ إِلَى إِحْرَامٍ جَدِيدٍ، وَهُوَ مُحْرِمٌ عَنِ النِّسَاءِ إِلَى أَنْ يَعُودَ وَيَطُوفَ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَالْحَنَفِيَّةِ مَعَهُمْ عَلَى وَجْهِ الإِْجْمَال.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يُجَدِّدُ إِحْرَامَهُ لِيَطُوفَ فِي إِحْرَامٍ صَحِيحٍ " أَيْ إِنَّهُ يَدْخُل مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ (1) .
أَمَّا تَفْصِيل مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ: فَفِيهِ فُرُوعٌ. اخْتُصُّوا بِهَا بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِمْ فِي شُرُوطِ الطَّوَافِ وَرُكْنِهِ وَوَاجِبَاتِهِ (انْظُرْ مُصْطَلَحَ طَوَافٍ) .
ثَالِثًا: تَرْكُ السَّعْيِ:
125 - السَّعْيُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ رُكْنٌ لاَ يَحِل الْحَاجُّ مِنَ الإِْحْرَامِ بِدُونِهِ، فَمَنْ تَرَكَهُ عَادَ لأَِدَائِهِ لِزَامًا عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ فِي الرُّجُوعِ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْجُمْهُورِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَإِنَّهُ يَحِل بِدُونِ سَعْيٍ، لأَِنَّ السَّعْيَ وَاجِبٌ عِنْدَهُمْ، يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ (ف 56) ، فَإِنْ أَرَادَ أَدَاءَهُ فَإِنَّهُ يَدْخُل مَكَّةَ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ مُعْتَمِرًا، ثُمَّ يَأْتِي بِالسَّعْيِ، وَإِنْ تَرَكَ ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ فَأَقَل صَحَّ سَعْيُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ لِكُل شَوْطٍ صَدَقَةٌ نِصْفُ
__________
(1) كما وضحه في الفروع 3 / 525، والمغني 3 / 465.(17/79)
صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ. . (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: سَعْيٌ) .
الإِْخْلاَل بِوَاجِبَاتِ الْحَجِّ:
126 - يَجِبُ عَلَى مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ الْفِدَاءُ، وَهُوَ ذَبْحُ شَاةٍ، بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، جَبْرًا لِلنَّقْصِ الْحَادِثِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ، إِلاَّ إِذَا تَرَكَهُ لِعُذْرٍ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا.
وَمَا صَرَّحُوا بِالْعُذْرِ فِيهِ: تَرْكُ الْمَشْيِ فِي الطَّوَافِ أَوْ فِي السَّعْيِ، لِمَرَضٍ أَوْ كِبَرِ سِنٍّ، عَلَى الْقَوْل بِوُجُوبِ الْمَشْيِ فِيهِمَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَعْذُورِ أَنْ يَطُوفَ أَوْ يَسْعَى مَحْمُولاً، وَلاَ فِدَاءَ عَلَيْهِ.
وَثَمَّةَ مَسَائِل تَحْتَاجُ لإِِيضَاحٍ خَاصٍّ لِحُكْمِ تَرْكِهَا، وَهِيَ:
أَوَّلاً: تَرْكُ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ:
127 - اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ لِعُذْرٍ أَنَّهُ لاَ فِدَاءَ عَلَيْهِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِثُبُوتِ الْعُذْرِ فِي تَرْكِ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، كَالْمَرَضِ، وَالضَّعْفِ الْجِسْمِيِّ كَمَا فِي الشَّيْخِ الْفَانِي، وَكَذَا خَوْفُ الزِّحَامِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَضَعَفَةِ الأَْهْل.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِالْعُذْرِ لِمَنِ انْتَهَى إِلَى عَرَفَاتٍ لَيْلَةَ النَّحْرِ وَاشْتَغَل بِالْوُقُوفِ عَنِ الْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الأَْصْحَابِ، وَلَوْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى مَكَّةَ وَطَافَ الإِْفَاضَةَ بَعْدَ(17/79)
نِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ فَفَاتَهُ الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِسَبَبِ الطَّوَافِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ اشْتَغَل بِرُكْنٍ فَأَشْبَهَ الْمُشْتَغِل بِالْوُقُوفِ، أَيْ: إِلاَّ أَنْ يُمْكِنَهُ الْعَوْدُ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ قَبْل الْفَجْرِ فَيَلْزَمُهُ الْعَوْدُ إِلَيْهَا. وَمِثْل هَذَا مَنْ بَادَرَتْ إِلَى الطَّوَافِ خَوْفَ طُرُوءِ نَحْوِ حَيْضٍ.
وَجَمِيعُ أَعْذَارِ مِنًى تَأْتِي هُنَا (1) .
ثَانِيًا: تَرْكُ الْمَبِيتِ بِمِنًى لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ:
128 - وَالْجَزَاءُ فِيهِ وَاجِبٌ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الثَّلاَثَةِ، لِوُجُوبِ هَذَا الْمَبِيتِ عِنْدَهُمْ (ف 69) قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِهَا جُل لَيْلَةٍ فَدَمٌ، وَكَذَا لَيْلَةً كَامِلَةً أَوْ أَكْثَرَ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ التَّرْكُ لِضَرُورَةٍ. . . " وَلَمْ يُسْقِطُوا الدَّمَ بِتَرْكِ الْمَبِيتِ إِلاَّ لِلرِّعَاءِ وَأَهْل السِّقَايَةِ (2) (انْظُرْ مَبِيتٌ) .
وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ كُلِّهِ دَمًا وَاحِدًا، وَفِي تَرْكِ لَيْلَةٍ مُدًّا مِنَ الطَّعَامِ، وَفِي تَرْكِ لَيْلَتَيْنِ مُدَّيْنِ، إِذَا بَاتَ لَيْلَةً وَاحِدَةً، إِلاَّ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 25 - 26، والدر المختار وحاشيته 2 / 244، والمجموع 8 / 128 - 129، ومغني المحتاج 1 / 500 وحاشية ابن حجر على الإيضاح ص 402 - 403 خلافا لما قال القفال، فتنبه. وحاشية القليوبي على شرح المنهاج 2 / 116، وانظر نهاية المحتاج 2 / 424.
(2) شرح مختصر خليل 2 / 284، وانظر حاشية الصفتي 205، والعدوي 1 / 480.(17/80)
إِذَا تَرَكَ الْمَبِيتَ لِعُذْرٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، كَأَهْل سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ، وَرِعَاءِ الإِْبِل فَلَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ غَيْرِ دَمٍ، وَمِثْلُهُمْ مَنْ يَخَافُ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، أَوْ ضَيَاعِ مَرِيضٍ بِلاَ مُتَعَهِّدٍ، أَوْ مَوْتِ نَحْوِ قَرِيبٍ فِي غَيْبَتِهِ (1) .
ثَالِثًا: تَرْكُ الرَّمْيِ:
129 - مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجِبُ الدَّمُ عَلَى مَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ كُلَّهُ أَوْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ تَرَكَ ثَلاَثَ حَصَيَاتٍ مِنْ رَمْيِ أَيِّ جَمْرَةٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْحَصَاةِ يَجِبُ مُدٌّ وَاحِدٌ، وَفِي الْحَصَاتَيْنِ ضِعْفُ ذَلِكَ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْحَصَاةِ أَوِ الْحَصَاتَيْنِ رِوَايَاتٌ. قَال فِي الْمُغْنِي: الظَّاهِرُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي حَصَاةٍ وَلاَ حَصَاتَيْنِ (3) "
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الدَّمُ إِنْ تَرَكَ الْحَاجُّ رَمْيَ الْجِمَارِ كُلِّهَا فِي الأَْيَّامِ الأَْرْبَعَةِ، أَوْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ كَامِلٍ، وَيُلْحَقُ بِهِ تَرْكُ رَمْيِ أَكْثَرِ حَصَيَاتِ يَوْمٍ أَيْضًا، لأَِنَّ لِلأَْكْثَرِ حُكْمَ الْكُل، فَيَلْزَمُ فِيهِ الدَّمُ، أَمَّاِنْ تَرَكَ الأَْقَل مِنْ حَصَيَاتِ
__________
(1) شرح المنهاج 2 / 124، وانظر نهاية المحتاج 2 / 432 - 433.
(2) شرح المنهاج وحاشية القليوبي 2 / 123 - 124، وانظر المجموع 8 / 178 - 186، ونهاية المحتاج 2 / 435 - 436.
(3) المغني 3 / 491، وفيه أكثر من رواية في المسالة كلها.(17/80)
يَوْمٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، لِكُل حَصَاةٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ (1) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: يَلْزَمُهُ دَمٌ فِي تَرْكِ حَصَاةٍ أَوْ فِي تَرْكِ الْجَمِيعِ (2) .
تَرْكُ سُنَنِ الْحَجِّ:
130 - تَرْكُ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ لاَ يُوجِبُ إِثْمًا وَلاَ جَزَاءً. لَكِنْ يَكُونُ تَارِكُهَا مُسِيئًا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَيَحْرِمُ نَفْسَهُ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ عَمِل بِالسُّنَنِ أَوِ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَالنَّوَافِل. (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: سُنَّةٌ) .
آدَابُ الْحَاجِّ:
آدَابُ الاِسْتِعْدَادِ لِلْحَجِّ:
131 - أ - يُسْتَحَبُّ أَنْ يُشَاوِرَ مَنْ يَثِقُ بِدِينِهِ وَخِبْرَتِهِ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِهِ، وَيَتَعَلَّمَ أَحْكَامَ الْحَجِّ وَكَيْفِيَّتَهُ. قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا فَرْضُ عَيْنٍ، إِذْ لاَ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ مِمَّنْ لاَ يَعْرِفُهَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَهُ كِتَابًا وَاضِحًا فِي الْمَنَاسِكِ جَامِعًا لِمَقَاصِدِهَا، وَأَنْ يُدِيمَ مُطَالَعَتَهُ وَيُكَرِّرَهَا فِي جَمِيعِ طَرِيقِهِ لِتَصِيرَ مُحَقَّقَةً عِنْدَهُ. وَمَنْ أَخَل بِهَذَا خِفْنَا عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ بِغَيْرِ حَجٍّ، لإِِخْلاَلِهِ بِشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ أَوْ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا قَلَّدَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بَعْضَ عَوَامِّ
__________
(1) المسلك المتقسط ص 240.
(2) شرح الزرقاني 2 / 282، وحاشية الصفتي ص 207.(17/81)
مَكَّةَ وَتَوَهَّمَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْمَنَاسِكَ فَاغْتَرَّ بِهِمْ، وَذَلِكَ خَطَأٌ فَاحِشٌ (1) ".
ب - إِذَا عَزَمَ عَلَى الْحَجِّ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْتَخِيرَ اللَّهَ تَعَالَى، لَكِنْ لَيْسَ لِلْحَجِّ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لاَ اسْتِخَارَةَ فِي فِعْل الطَّاعَاتِ، لَكِنْ لِلأَْدَاءِ هَذَا الْعَامَ إِنْ كَانَتِ الْحَجَّةُ نَافِلَةً، أَوْ مَعَ هَذِهِ الْقَافِلَةِ، وَتَرِدُ الاِسْتِخَارَةُ عَلَى الْحَجِّ الْفَرْضِ هَذَا الْعَامَ لَكِنْ عَلَى الْقَوْل بِتَرَاخِي وُجُوبِهِ (2) .
ج - إِذَا اسْتَقَرَّ عَزْمُهُ عَلَى الْحَجِّ بَدَأَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي وَالْمَكْرُوهَاتِ، وَيَخْرُجُ مِنْ مَظَالِمِ الْخَلْقِ، وَيَقْضِي مَا أَمْكَنَهُ مِنْ دُيُونِهِ، وَيَرُدُّ الْوَدَائِعَ، وَيَسْتَحِل كُل مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُعَامَلَةٌ فِي شَيْءٍ أَوْ مُصَاحَبَةٌ، وَيَكْتُبُ وَصِيَّتَهُ، وَيُشْهِدُ عَلَيْهَا، وَيُوَكِّل مَنْ يَقْضِي عَنْهُ مَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ قَضَائِهِ، وَيَتْرُكُ لأَِهْلِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ نَفَقَتَهُمْ إِلَى حِينِ رُجُوعِهِ (3) .
وَلاَ يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ الإِْفْلاَتَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ بِعِبَادَاتِهِ، مَا لَمْ يُؤَدِّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا، قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُل شَيْءٍ إِلاَّ الدَّيْنُ (4) .
د - أَنْ يَجْتَهِدَ فِي إِرْضَاءِ وَالِدِيهِ، وَمَنْ يَتَوَجَّهُ
__________
(1) الإيضاح ص 37.
(2) المرجع السابق ص 19 بتصرف يسير.
(3) الإيضاح ص 23 - 24.
(4) حديث: " يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين ". أخرجه مسلم (3 / 1502 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.(17/81)
عَلَيْهِ بِرُّهُ وَطَاعَتُهُ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً اسْتَرْضَتْ زَوْجَهَا وَأَقَارِبَهَا، وَيُسْتَحَبُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَحُجَّ بِهَا، فَإِنْ مَنَعَهُ أَحَدُ وَالِدَيْهِ مِنْ حَجِّ الإِْسْلاَمِ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى مَنْعِهِ، وَإِنْ مَنَعَهُ مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الإِْحْرَامُ، فَإِنْ أَحْرَمَ فَلِلْوَالِدِ تَحْلِيلُهُ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ (1) .
هـ - لِيَحْرِصَ أَنْ تَكُونَ نَفَقَتُهُ كَثِيرَةً وَحَلاَلاً خَالِصَةً مِنَ الشُّبْهَةِ، فَإِنْ خَالَفَ وَحَجَّ بِمَالٍ فِيهِ شُبْهَةٌ أَوْ بِمَالٍ مَغْصُوبٍ صَحَّ حَجُّهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ، لَكِنَّهُ عَاصٍ وَلَيْسَ حَجًّا مَبْرُورًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ، وَقَال أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لاَ يُجْزِيهِ الْحَجُّ بِمَالٍ حَرَامٍ (2) . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يَصِحُّ مَعَ الْحُرْمَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَكَرَ الرَّجُل يُطِيل السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمُشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ،
__________
(1) الإيضاح ص 25 - 26، ورد المحتار 2 / 191، وفيه التصريح بالكراهة التحريمية، والفروع 3 / 224، والمسألة فرع عن تقديم بر الوالدين على فعل النوافل انظر مصطلح (بر) .
(2) كذا في المرجع السابق ص 30، وانظر رد المحتار 2 / 191، والشرح الكبير وحاشيته 2 / 10، والفروع 1 / 335، وفيه قوله: " وحجه بغصب كصلاة " وانظر الصلاة في المغني 1 / 588.(17/82)
فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ (1) .
و الْحِرْصُ عَلَى صُحْبَةِ رَفِيقٍ مُوَافِقٍ صَالِحٍ يَعْرِفُ الْحَجَّ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَصْحَبَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ فَلْيَتَمَسَّكْ بِهِ، فَإِنَّهُ يُعِينُهُ عَلَى مَبَارِّ الْحَجِّ وَمَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ (2) .
آدَابُ السَّفَرِ لِلْحَجِّ:
132 - نُشِيرُ إِلَى نُبَذٍ هَامَةٍ مِنْهَا فِيمَا يَلِي:
أ - يُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَدِّعَ أَهْلَهُ وَجِيرَانَهُ وَأَصْدِقَاءَهُ، وَيَقُول لِمَنْ يُوَدِّعُهُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ الَّذِي لاَ تَضِيعُ وَدَائِعُهُ (3)
وَيُسَنُّ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَقُول لِلْمُسَافِرِ: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ (4)
ب - أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَبْل الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ، يَقْرَأُ فِي الأُْولَى سُورَةَ {قُل يَا أَيُّهَا
__________
(1) حديث: " أنه ذكر الرجل يطيل السفر. . . . ". أخرجه مسلم (2 / 703 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) الإيضاح ص 38.
(3) حديث أبي هريرة قال لرجل: أودعك كما ودعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كما ودع رسول الله صلى الله عليه وسلم: " استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه ". أخرجه أحمد (2 / 403 - ط الميمنية) وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية لابن علان (5 / 114 - ط المنيرية) .
(4) حديث: " استودع الله دينك، وأمانتك وخواتيم عملك ". أخرجه أبو داود (3 / 76 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 442 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمر، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(17/82)
الْكَافِرُونَ} وَفِي الثَّانِيَةِ {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) وَصَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَطُّ إِلاَّ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَال: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِل أَوْ أُضَل، أَوْ أَزِل أَوْ أُزَل، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَل أَوْ يُجْهَل عَلَيَّ (2) .
ج - يُسْتَحَبُّ الإِْكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ فِي جَمِيعِ سَفَرِهِ، وَعَلَى آدَابِ السَّفَرِ وَأَحْكَامِهِ وَالتَّقَيُّدُ بِرُخَصِهِ مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ لَهَا (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: سَفَرٌ)
آدَابُ أَدَاءِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ:
133 - أ - التَّحَلِّي بِمَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ، وَالتَّذَرُّعُ بِالصَّبْرِ الْجَمِيل، لِمَا يُعَانِيهِ الإِْنْسَانُ مِنْ مَشَقَّاتِ السَّفَرِ، وَالزِّحَامِ، وَالاِحْتِكَاكِ بِالنَّاسِ.
ب - اسْتِدَامَةُ حُضُورِ الْقَلْبِ وَالْخُشُوعِ، وَالإِْكْثَارِ مِنَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَتِلاَوَةِ الْقُرْآنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى أَذْكَارِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ.
ج - الْحِرْصُ عَلَى أَدَاءِ أَحْكَامِ الْحَجِّ كَامِلَةً وَعَدَمِ تَضْيِيعِ شَيْءٍ مِنَ السُّنَنِ، فَضْلاً عَنِ التَّفْرِيطِ بِوَاجِبٍ، إِلاَّ فِي مَوَاضِعِ الْعُذْرِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي بُيِّنَتْ فِي مُنَاسِبَاتِهَا (3) .
__________
(1) الإيضاح ص 44.
(2) حديث أم سلمة قالت: " ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال. . . . ": أخرجه أبو داود (5 / 327 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وأعله ابن حجر بالانقطاع في سنده كما في الفتوحات الربانية (1 / 331 - ط المنيرية) .
(3) الإيضاح ص 211.(17/83)
آدَابُ الْعَوْدِ مِنَ الْحَجِّ:
134 - مِنْ آدَابِ الْعَوْدِ مِنَ الْحَجِّ مَا يَلِي:
أ - أَنْ يُرَاعِيَ آدَابَ السَّفَرِ وَأَحْكَامَهُ الْعَامَّةَ لِلذَّهَابِ وَالإِْيَابِ، وَالْخَاصَّةَ بِالإِْيَابِ، مِثْل إِخْبَارِ أَهْلِهِ إِذَا دَنَا مِنْ بَلَدِهِ، وَأَلاَّ يَطْرُقَهُمْ لَيْلاً، وَأَنْ يَبْدَأَ بِصَلاَةِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا وَصَل مَنْزِلَهُ، وَأَنْ يَقُول إِذَا دَخَل بَيْتَهُ: تَوْبًا تَوْبًا، لِرَبِّنَا أَوْبًا، لاَ يُغَادِرُ حَوْبًا " (1) (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: سَفَرٌ) .
ب - يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُسَلِّمُ عَلَى الْحَاجِّ أَنْ يَطْلُبَ مِنَ الْحَاجِّ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ لِلْحَاجِّ أَيْضًا وَيَقُول: قَبِل اللَّهُ حَجَّكَ وَغَفَرَ ذَنْبَكَ، وَأَخْلَفَ نَفَقَتَكَ (2) .
وَيَدْعُو الْحَاجُّ لِزُوَّارِهِ بِالْمَغْفِرَةِ، فَإِنَّهُ مَرْجُوُّ الإِْجَابَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْحَاجِّ وَلِمَنْ. اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ (3) .
__________
(1) حديث: " أن يقول إذا دخل بيته: توبا توبا ". أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 142 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عباس، وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية (5 / 172 - ط المنيرية) .
(2) حديث: ويقول " قبل الله حجك، وغفر ذنبك ". أخرجه ابن السني (ص 143 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمر، وقد ضعف إسناده ابن حجر كما في الفتوحات الربانية (5 / 176 - المنيرية) .
(3) حديث: " اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج " أخرجه الحاكم (1 / 441 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي هريرة وأعل إسناده ابن حجر كما في الفتوحات الربانية (5 / 177 - المنيرية) .(17/83)
ج - قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ رُجُوعِهِ خَيْرًا مِمَّا كَانَ، فَهَذَا مِنْ عَلاَمَاتِ قَبُول الْحَجِّ، وَأَنْ يَكُونَ خَيْرُهُ آخِذًا فِي ازْدِيَادٍ (1) .
حُجَّةٌ
انْظُرْ: إِثْبَاتٌ.
__________
(1) الإيضاح ص 564 - 565، وانظر فيه فصل آداب العود من سفر الحج، فقد توسع في تفصيلها.(17/84)
حَجْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَجْرُ لُغَةً الْمَنْعُ. يُقَال: حَجَرَ عَلَيْهِ حَجْرًا مَنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ (1) . وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَطِيمُ حَجَرًا لأَِنَّهُ مُنِعَ مِنْ أَنْ يَدْخُل فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ. وَقِيل: الْحَطِيمُ جِدَارُ الْحَجَرِ، وَالْحَجَرُ مَا حَوَاهُ الْجُدُرُ. وَسُمِّيَ الْعَقْل حِجْرًا لأَِنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْقَبَائِحِ، قَال تَعَالَى: {هَل فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} (2) أَيْ لِذِي عَقْلٍ (3) .
وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ فِي الاِصْطِلاَحِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ:
فَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ الْمَنْعُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَنْعُ قَدْ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الْغَيْرِ كَالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ لِلْغُرَمَاءِ وَعَلَى الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ لِمَصْلَحَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَعَلَى الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فِي ثُلُثَيْ مَالِهِ
__________
(1) الفقهاء يحذفون الصلة تخفيفا لكثرة الاستعمال، ويقولون: محجور، وهو سائغ. المصباح.
(2) سورة الفجر / 5
(3) القاموس المحيط ولسان العرب والمصباح المنير، وتبيين الحقائق 5 / 190.(17/84)
وَغَيْرِهَا، أَمْ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَالْحَجْرِ عَلَى الْمَجْنُونِ، وَالصَّغِيرِ، وَالسَّفِيهِ (1) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ مَنْعٌ مِنْ نَفَاذِ تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ - لاَ فِعْلِيٍّ -
فَإِنَّ عَقْدَ الْمَحْجُورِ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا فَلاَ يَنْفُذُ إِلاَّ بِإِجَازَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الإِْجَازَةِ.
وَإِنَّمَا كَانَ الْحَجْرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ لأَِنَّ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ هِيَ الَّتِي يُتَصَوَّرُ الْحَجْرُ فِيهَا بِالْمَنْعِ مِنْ نَفَاذِهَا. أَمَّا التَّصَرُّفُ الْفِعْلِيُّ فَلاَ يُتَصَوَّرُ الْحَجْرُ فِيهِ، لأَِنَّ الْفِعْل بَعْدَ وُقُوعِهِ لاَ يُمْكِنُ رَدُّهُ، فَلاَ يُتَصَوَّرُ الْحَجْرُ عَنْهُ (2) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ مَا مُفَادُهُ: الْحَجْرُ عَلَى مَرَاتِبَ: أَقْوَى، وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ أَصْل التَّصَرُّفِ بِعَدَمِ انْعِقَادِهِ (الْبُطْلاَنُ) كَتَصَرُّفِ الْمَجْنُونِ. وَمُتَوَسِّطٌ، وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ وَصْفِهِ وَهُوَ النَّفَاذُ كَتَصَرُّفِ الْمُمَيِّزِ. وَضَعِيفٌ، وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ وَصْفِ وَصْفِهِ، وَهُوَ كَوْنُ النَّفَاذِ حَالًّا مِثْل تَأْخِيرِ نَفَاذِ الإِْقْرَارِ مِنَ لْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلإِْفْلاَسِ إِلَى مَا بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَقَدْ أَدْخَل فِي التَّعْرِيفِ الْمَنْعَ عَنِ الْفِعْل، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ، فَإِنَّهُ إِنْ جُعِل الْحَجْرُ هُوَ الْمَنْعَ مِنْ ثُبُوتِ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 165، وأسنى المطالب 2 / 205، والمغني 4 / 505، وكشاف القناع 3 / 416.
(2) ابن عابدين 5 / 89، وتبيين الحقائق 5 / 190، وتكملة البحر 8 / 88.(17/85)
حُكْمِ التَّصَرُّفِ، فَمَا وَجْهُ تَقْيِيدِهِ بِالْقَوْلِيِّ وَنَفْيِ الْفِعْلِيِّ مَعَ أَنَّ لِكُلٍّ حُكْمًا؟ وَأَمَّا مَا عَلَّل بِهِ (صَاحِبُ الدُّرِّ) مِنْ قَوْلِهِ: لأَِنَّ الْفِعْل بَعْدَ وُقُوعِهِ لاَ يُمْكِنُ رَدُّهُ، نَقُول: الْكَلاَمُ فِي مَنْعِ حُكْمِهِ لاَ مَنْعِ ذَاتِهِ، وَمِثْلُهُ: الْقَوْل، لاَ يُمْكِنُ رَدُّهُ بِذَاتِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ بَل رَدُّ حُكْمِهِ (1) .
وَعَرَّفَ الْمَالِكِيَّةُ الْحَجْرَ بِأَنَّهُ صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ مَنْعَ مَوْصُوفِهَا مِنْ نُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِيمَا زَادَ عَلَى قُوَّتِهِ، أَوْ مِنْ نُفُوذِ تَبَرُّعِهِ بِزَائِدٍ عَلَى ثُلُثِ مَالِهِ.
فَدَخَل بِالثَّانِي حَجْرُ الْمَرِيضِ وَالزَّوْجَةِ، وَدَخَل بِالأَْوَّل حَجْرُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ وَالْمُفْلِسِ وَالرَّقِيقِ فَيُمْنَعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الزَّائِدِ عَلَى الْقُوتِ وَلَوْ كَانَ التَّصَرُّفُ غَيْرَ تَبَرُّعٍ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ وَالْمَرِيضُ فَلاَ يُمْنَعَانِ مِنَ التَّصَرُّفِ إِذَا كَانَ غَيْرَ تَبَرُّعٍ أَوْ كَانَ تَبَرُّعًا وَكَانَ بِثُلُثِ مَالِهِمَا، وَأَمَّا تَبَرُّعُهُمَا بِزَائِدٍ عَلَى الثُّلُثِ فَيُمْنَعَانِ مِنْهُ (2) .
مَشْرُوعِيَّةُ الْحَجْرِ:
2 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الْحَجْرِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْتُوا
__________
(1) ابن عابدين 5 / 89، وتبيين الحقائق 5 / 190، وتكملة البحر 8 / 88.
(2) الدسوقي 3 / 292، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير 3 / 381 ط دار المعارف.(17/85)
السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا (1) }
وَقَوْلُهُ: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (2) } .
وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِل هُوَ فَلْيُمْلِل وَلِيُّهُ بِالْعَدْل (3) } .
فَسَّرَ الشَّافِعِيُّ السَّفِيهَ بِالْمُبَذِّرِ، وَالضَّعِيفَ بِالصَّبِيِّ وَالْكَبِيرِ الْمُخْتَل، وَاَلَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِل بِالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلاَءِ يَنُوبُ عَنْهُمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ فَدَل عَلَى ثُبُوتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِمْ (4) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَالَهُ وَبَاعَهُ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ (5) وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
__________
(1) سورة النساء / 5.
(2) سورة النساء / 6.
(3) سورة البقرة / 282.
(4) مغني المحتاج 2 / 165.
(5) حديث كعب بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ. . . أخرجه الدارقطني (4 / 231 - ط دار المحاسن) ، وصوب عبد الحق الأشبيلي: إرساله، كذا في التلخيص لابن حجر (3 / 37 - ط شركة الطباعة الفنية) .(17/86)
حَجَرَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَبَبِ تَبْذِيرِهِ
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْحَجْرِ:
3 - قَرَّرَ الشَّارِعُ الْحَجْرَ عَلَى مَنْ يُصَابُ بِخَلَلٍ فِي عَقْلِهِ كَجُنُونٍ وَعَتَهٍ حَتَّى تَكُونَ الأَْمْوَال مَصُونَةً مِنَ الأَْيْدِي الَّتِي تَسْلُبُ أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل وَالْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ. وَتَكُونَ مَصُونَةً أَيْضًا مِنْ سُوءِ تَصَرُّفِ الْمَالِكِ.
وَقَرَّرَ الْحَجْرَ أَيْضًا عَلَى مَنْ يَسْتَرْسِلُونَ فِي غَلْوَاءِ الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ وَالْخَلاَعَةِ وَيُبَدِّدُونَ أَمْوَالَهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَال صَوْنًا لأَِمْوَالِهِمْ، وَحِرْصًا عَلَى أَرْزَاقِ أَوْلاَدِهِمْ، وَمَنْ يَعُولُونَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ.
كَمَا شَمِل الْحَجْرُ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِلإِْفْتَاءِ وَهُوَ جَاهِلٌ لاَ يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَيَضِل وَيُضِل وَتُصْبِحُ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَاءِ فُتْيَاهُ، وَكَذَا يُحْجَرُ عَلَى الطَّبِيبِ الْجَاهِل الَّذِي يُدَاوِي الأُْمَّةَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ فَنِّ الطِّبِّ، فَتَرُوحُ أَرْوَاحٌ طَاهِرَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ لِجَهْلِهِ، وَيَنْتِجُ مِنْ ذَلِكَ بَلاَءٌ عَظِيمٌ وَخَطْبٌ جَسِيمٌ. وَكَذَا يُحْجَرُ عَلَى الْمُكَارِي الْمُفْلِسِ، لأَِنَّهُ يُتْلِفُ أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل (1) .
__________
(1) حكمة التشريع وفلسفته للجرجاوي 257.(17/86)
أَسْبَابُ الْحَجْرِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصِّغَرَ وَالْجُنُونَ وَالرِّقَّ أَسْبَابٌ لِلْحَجْرِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ السَّفَهَ وَالْمَرَضَ الْمُتَّصِل بِالْمَوْتِ أَسْبَابٌ لِلْحَجْرِ أَيْضًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَجْرِ عَلَى الزَّوْجَةِ - فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ - وَفِي الْحَجْرِ عَلَى الْمُرْتَدِّ لِمُصْلِحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي غَيْرِهِمَا عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِيمَا بَعْدُ (1) .
تَقْسِيمُ الْحَجْرِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ:
5 - يَنْقَسِمُ الْحَجْرُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أ - قِسْمٍ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ (غَالِبًا) ، وَذَلِكَ كَحَجْرِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالسَّفِيهِ وَالْمُبَذِّرِ وَغَيْرِهِمْ - عَلَى مَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ - فَالْحَجْرُ فِي هَذَا الْقِسْمِ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ هَؤُلاَءِ حِفْظًا لأَِمْوَالِهِمْ مِنَ الضَّيَاعِ.
ب - قِسْمٌ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الْغَيْرِ (غَالِبًا) ، وَذَلِكَ كَحَجْرِ الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ (الدَّائِنِينَ) ، وَحَجْرِ الرَّاهِنِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ، وَكَحَجْرِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى ثُلُثِ التَّرِكَةِ حَيْثُ لاَ دَيْنَ، وَحَجْرِ الرَّقِيقِ لِحَقِّ سَيِّدِهِ (2) .
__________
(1) البحر الرائق 8 / 88، والشرح الصغير 3 / 381، وما بعدها ط دار المعارف بمصر ومغني المحتاج 2 / 165 وشرح منتهى الإرادات 2 / 273 - 274.
(2) المصادر السابقة.(17/87)
أَوَّلاً - الْحَجْرُ عَلَى الصَّغِيرِ:
6 - يَبْدَأُ الصِّغَرُ مِنْ حِينِ الْوِلاَدَةِ إِلَى مَرْحَلَةِ الْبُلُوغِ، وَلِمَعْرِفَةِ مَتَى يَتِمُّ الْبُلُوغُ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بُلُوغٌ) .
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ حَتَّى يَبْلُغَ ثُمَّ يَسْتَمِرَّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَرْشُدَ.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (1) } وَذَلِكَ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ لِقُصُورِ إِدْرَاكِهِ.
وَيَنْتَهِي الْحَجْرُ بِبُلُوغِهِ رَشِيدًا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} أَيْ: أَبْصَرْتُمْ وَعَلِمْتُمْ مِنْهُمْ حِفْظًا لأَِمْوَالِهِمْ وَصَلاَحِهِمْ فِي تَدْبِيرِهِمْ. وَلاَ يَنْتَهِي الْحَجْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّبِيِّ وَلاَ يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ قَبْل وُجُودِ الأَْمْرَيْنِ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ وَلَوْ صَارَ شَيْخًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ كَمَا سَيَأْتِي.
أ - الْبُلُوغُ: الْبُلُوغُ انْتِهَاءُ فَتْرَةِ الصِّغَرِ وَالدُّخُول فِي حَدِّ الْكِبَرِ وَلَهُ أَمَارَاتٌ طَبِيعِيَّةٌ إِنْ تَحَقَّقَتْ حُكِمَ بِهِ وَإِلاَّ فَيُرْجَعُ لِلسِّنِّ عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بُلُوغٌ) .
__________
(1) سورة النساء / 6.(17/87)
ب - الرُّشْدُ:
الرُّشْدُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) هُوَ الصَّلاَحُ فِي الْمَال فَقَطْ. وَهَذَا قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الْعِلْمِ لِلآْيَةِ السَّابِقَةِ.
وَمَنْ كَانَ مُصْلِحًا لِمَالِهِ فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ رُشْدٌ، وَلأَِنَّ الْعَدَالَةَ لاَ تُعْتَبَرُ فِي الرُّشْدِ فِي الدَّوَامِ. فَلاَ تُعْتَبَرُ فِي الاِبْتِدَاءِ كَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَلأَِنَّ هَذَا مُصْلِحٌ لِمَالِهِ فَأَشْبَهَ الْعَدْل، يُحَقِّقُهُ: أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ لِحِفْظِ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَالْمُؤَثِّرُ فِيهِ مَا أَثَّرَ فِي تَضْيِيعِ الْمَال أَوْ حِفْظِهِ.
وَلَوْ كَانَ الرُّشْدُ صَلاَحَ الدِّينِ فَالْحَجْرُ عَلَى الْكَافِرِ أَوْلَى مِنَ الْحَجْرِ عَلَى الْفَاسِقِ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ الْفَاسِقُ يُنْفِقُ أَمْوَالَهُ فِي الْمَعَاصِي كَشِرَاءِ الْخَمْرِ وَآلاَتِ اللَّهْوِ أَوْ يَتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْفَسَادِ فَهُوَ غَيْرُ رَشِيدٍ لِتَبْذِيرِهِ لِمَالِهِ وَتَضْيِيعِهِ إِيَّاهُ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ عَلَى الْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ كَالْكَذِبِ وَمَنْعِ الزَّكَاةِ وَإِضَاعَةِ الصَّلاَةِ مَعَ حِفْظِهِ لِمَالِهِ دُفِعَ مَالُهُ إِلَيْهِ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَجْرِ حِفْظُ الْمَال، وَمَالُهُ مَحْفُوظٌ بِدُونِ الْحَجْرِ، وَلِذَلِكَ لَوْ طَرَأَ الْفِسْقُ عَلَيْهِ بَعْدَ دَفْعِ مَالِهِ إِلَيْهِ لَمْ يُنْزَعْ (1) .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الرُّشْدَ الصَّلاَحُ فِي الدِّينِ وَالْمَال جَمِيعًا.
__________
(1) المغني 4 / 516 - 517 والقوانين الفقهية ص 211.(17/88)
وَالآْيَةُ عِنْدَهُمْ عَامَّةٌ لأَِنَّ كَلِمَةَ " رُشْدًا " نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ فَتَعُمُّ الْمَال وَالدِّينَ، فَالرَّشِيدُ هُوَ مَنْ لاَ يَفْعَل مُحَرَّمًا يُبْطِل الْعَدَالَةَ، وَلاَ يُبَذِّرُ بِأَنْ يُضَيِّعَ الْمَال بِاحْتِمَال غَبْنٍ فَاحِشٍ فِي الْمُعَامَلَةِ، أَوْ رَمْيِهِ فِي بَحْرٍ، أَوْ إِنْفَاقِهِ فِي مُحَرَّمٍ (1) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيل " رُشْدًا " فِي الآْيَةِ فَقَال الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: صَلاَحًا فِي الْعَقْل وَالدِّينِ. وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَالثَّوْرِيُّ: صَلاَحًا فِي الْعَقْل وَحِفْظُ الْمَال. قَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ: إِنَّ الرَّجُل لَيَأْخُذُ بِلِحْيَتِهِ وَمَا بَلَغَ رُشْدَهُ. فَلاَ يُدْفَعُ إِلَى الْيَتِيمِ مَالُهُ وَلَوْ صَارَ شَيْخًا حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدُهُ.
وَهَكَذَا قَال الضَّحَّاكُ: لاَ يُعْطَى الْيَتِيمُ وَإِنْ بَلَغَ مِائَةَ سَنَةٍ حَتَّى يُعْلَمَ مِنْهُ إِصْلاَحُ مَالِهِ.
وَقَال مُجَاهِدٌ: رُشْدًا " يَعْنِي فِي الْعَقْل خَاصَّةً.
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الرُّشْدَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَعَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَرْشُدْ بَعْدَ بُلُوغِ الْحُلُمِ وَإِنْ شَاخَ لاَ يَزُول الْحَجْرُ عَنْهُ (2) .
أَثَرُ الْحَجْرِ عَلَى تَصَرُّفَاتِ الصَّغِيرِ:
7 - سَبَقَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ رَشِيدًا مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُمَيِّزِ وَغَيْرِ الْمُمَيِّزِ فِي
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 168.
(2) تفسير القرطبي 5 / 37 ط وزارة التربية والتعليم.(17/88)
حُكْمِ تَصَرُّفَاتِهِ، هَل تَقَعُ صَحِيحَةً غَيْرَ نَافِذَةٍ أَمْ تَقَعُ فَاسِدَةً؟
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ طَلاَقُ الصَّبِيِّ وَلاَ إِقْرَارُهُ وَلاَ عِتْقُهُ وَلَوْ كَانَ مُمَيِّزًا، وَإِذَا عَقَدَ الصَّبِيُّ عَقْدًا فِيهِ نَفْعٌ مَحْضٌ صَحَّ الْعَقْدُ كَقَبُول الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.
وَكَذَا إِذَا آجَرَ نَفْسَهُ وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ الْعَمَل وَجَبَتِ الأُْجْرَةُ اسْتِحْسَانًا.
وَإِذَا عَقَدَ الصَّبِيُّ عَقْدًا يَدُورُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ وَكَانَ يَعْقِلُهُ (أَيْ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَيْعَ سَالِبٌ لِلْمِلْكِ وَالشِّرَاءَ جَالِبٌ لَهُ) ، فَإِنْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ صَحَّ، وَإِذَا رَدَّهُ بَطَل الْعَقْدُ. هَذَا إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنِ الْعَقْدُ غَبْنًا فَاحِشًا وَإِلاَّ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لاَ يَعْقِلُهُ فَقَدْ بَطَل الْعَقْدُ.
وَإِذَا أَتْلَفَ الصَّبِيُّ - سَوَاءٌ عَقَل أَمْ لاَ - شَيْئًا مُتَقَوِّمًا مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ ضَمِنَهُ، إِذْ لاَ حَجْرَ فِي التَّصَرُّفِ الْفِعْلِيِّ، وَتَضْمِينُهُ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَهُوَ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّكْلِيفِ فَيَضْمَنُ الصَّبِيُّ مَا أَتْلَفَهُ مِنَ الْمَال لِلْحَال، وَإِذَا قَتَل فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إِلاَّ فِي مَسَائِل لاَ يَضْمَنُ فِيهَا لأَِنَّهُ مُسَلَّطٌ مِنْ قِبَل الْمَالِكِ: كَمَا إِذَا أَتْلَفَ مَا اقْتَرَضَهُ، وَمَا أُودِعَ عِنْدَهُ بِلاَ إِذْنِ وَلِيِّهِ، وَكَذَا إِذَا أَتْلَفَ مَا أُعِيرَ لَهُ وَمَا بِيعَ مِنْهُ بِلاَ إِذْنٍ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 90 - 92.(17/89)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ رَشِيدًا، وَزِيدَ فِي الأُْنْثَى دُخُول الزَّوْجِ بِهَا، وَشَهَادَةُ الْعُدُول عَلَى صَلاَحِ حَالِهَا.
وَلَوْ تَصَرَّفَ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ بِمُعَاوَضَةٍ بِلاَ إِذْنِ وَلِيِّهِ كَبَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَهِبَةِ الثَّوَابِ (الْهِبَةُ بِعِوَضٍ) فَلِلْوَلِيِّ رَدُّ هَذَا التَّصَرُّفِ، فَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ تَعَيَّنَ عَلَى الْوَلِيِّ رَدُّهُ كَإِقْرَارٍ بِدَيْنٍ.
وَلِلصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ رَدُّ تَصَرُّفِ نَفْسِهِ قَبْل رُشْدِهِ إِنْ رَشَدَ حَيْثُ تَرَكَهُ وَلِيُّهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِتَصَرُّفِهِ أَوْ لِسَهْوِهِ أَوْ لِلإِْعْرَاضِ عَنْ ذَلِكَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ.
وَلَوْ حَنِثَ بَعْدَ رُشْدِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ حَال صِغَرِهِ: أَنَّهُ إِنْ فَعَل كَذَا فَزَوْجَتُهُ طَالِقٌ أَوْ عَبْدُهُ حُرٌّ، فَفَعَلَهُ بَعْدَ رُشْدِهِ فَلَهُ رَدُّهُ فَلاَ يَلْزَمُهُ طَلاَقٌ وَلاَ عِتْقٌ، وَلَهُ إِمْضَاؤُهُ. وَلاَ يُحْجَرُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالسَّفِيهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِضَرُورَةِ الْعَيْشِ كَدِرْهَمٍ مَثَلاً، وَلاَ يُرَدُّ فِعْلُهُ فِيهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِيهِ.
وَيَضْمَنُ الصَّبِيُّ مُمَيِّزًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ مَا أَفْسَدَ مِنْ مَال غَيْرِهِ فِي الذِّمَّةِ، فَتُؤْخَذُ قِيمَةُ مَا أَفْسَدَهُ مِنْ مَالِهِ الْحَاضِرِ إِنْ كَانَ، وَإِلاَّ أُتْبِعَ بِهَا فِي ذِمَّتِهِ إِلَى وُجُودِ مَالٍ، هَذَا إِذَا لَمْ يُؤْتَمَنِ الصَّبِيُّ عَلَى مَا أَتْلَفَهُ، فَإِنِ اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ لأَِنَّ مَنِ ائْتَمَنَهُ قَدْ سَلَّطَهُ عَلَى إِتْلاَفِهِ، وَلأَِنَّهُ لَوْ ضَمِنَ الْمَحْجُورُ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ الْحَجْرِ. وَاسْتَثْنَى ابْنُ عَرَفَةَ: الصَّغِيرَ الَّذِي لَمْ يَزِدْ عَنْ شَهْرٍ فَلاَ ضَمَانَ(17/89)
عَلَيْهِ لأَِنَّهُ كَالْعَجْمَاءِ. وَتَصِحُّ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ إِذَا لَمْ يَخْلِطْ فِيهَا، فَإِنْ خَلَطَ بِأَنْ تَنَاقَضَ فِيهَا أَوْ أَوْصَى بِغَيْرِ قُرْبَةٍ لَمْ تَصِحَّ.
وَإِنَّ الزَّوْجَةَ الْحُرَّةَ الرَّشِيدَةَ يُحْجَرُ عَلَيْهَا لِزَوْجِهَا فِي تَصَرُّفٍ زَائِدٍ عَلَى ثُلُثِ مَالِهَا وَتَبَرُّعُهَا مَاضٍ حَتَّى يُرَدَّ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ إِلَى الْبُلُوغِ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مُمَيِّزًا أَمْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ.
وَالصِّبَا يَسْلُبُ الْوِلاَيَةَ وَالْعِبَارَةُ فِي الْمُعَامَلَةِ كَالْبَيْعِ، وَفِي الدَّيْنِ كَالإِْسْلاَمِ، إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ مِنْ عِبَادَةٍ مِنْ مُمَيِّزٍ، لَكِنَّهُ يُثَابُ عَلَى الْفَرِيضَةِ أَقَل مِنْ ثَوَابِ الْبَالِغِ عَلَى النَّافِلَةِ، وَلَعَل وَجْهَهُ عَدَمُ خِطَابِهِ بِهَا، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لاَ ثَوَابَ أَصْلاً لِعَدَمِ خِطَابِهِ بِالْعِبَادَةِ، لَكِنَّهُ أُثِيبَ تَرْغِيبًا لَهُ فِي الْعِبَادَةِ، فَلاَ يَتْرُكُهَا بَعْدَ بُلُوغِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاسْتُثْنِيَ كَذَلِكَ مِنَ الْمُمَيِّزِ الإِْذْنُ فِي دُخُول الدَّارِ، وَاسْتُثْنِيَ أَيْضًا إِيصَال هَدِيَّةٍ مِنْ مُمَيِّزٍ مَأْمُونٍ أَيْ لَمْ يُجَرَّبْ عَلَيْهِ كَذِبٌ.
وَلِلصَّبِيِّ تَمَلُّكُ الْمُبَاحَاتِ وَإِزَالَةُ الْمُنْكَرَاتِ وَيُثَابُ عَلَيْهَا كَالْمُكَلَّفِ، وَيَجُوزُ تَوْكِيلُهُ فِي تَفْرِقَةِ الزَّكَاةِ إِذَا عُيِّنَ لَهُ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ (1) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 166، والروضة 4 / 177، وحاشية الجمل 3 / 336، وشرح البهجة 3 / 122، 125.(17/90)
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَال فِي الْمُغْنِي (1) : وَالْحُكْمُ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالْحُكْمِ فِي السَّفِيهِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا فِيمَا أَتْلَفَاهُ مِنْ مَال غَيْرِهِمَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَوْ غَصَبَاهُ فَتَلِفَ فِي أَيْدِيهِمَا، وَانْتِفَاءُ الضَّمَانِ عَنْهُمَا فِيمَا حَصَل فِي أَيْدِيهِمَا بِاخْتِيَارِ صَاحِبِهِ وَتَسْلِيطِهِ كَالثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ وَالْقَرْضِ وَالاِسْتِدَانَةِ، وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ وَالْعَارِيَّةُ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِمَا فِيمَا تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِمَا، وَإِنْ أَتْلَفَاهُ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ.
مَتَى يُدْفَعُ الْمَال إِلَى الصَّغِيرِ:
8 - إِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ رَشِيدًا أَوْ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ ثُمَّ رَشَدَ دُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ وَفُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (2) } وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُتْمَ بَعْدَ احْتِلاَمٍ (3) . وَلاَ يُحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، لأَِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ ثَبَتَ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَيَزُول مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ وَبِهِ قَال جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الْمَذْهَبِ - وَالْحَنَابِلَةُ) .
وَمُقَابِل الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ
__________
(1) المغني 4 / 521.
(2) سورة النساء / 9.
(3) حديث: " لا يتم بعد احتلام " أخرجه أبو داود (3 / 293 - 294 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث علي بن أبي طالب، وفي إسناده مقال، ولكنه صحيح لطرقه. التلخيص لابن حجر (3 / 101 - ط شركة الطباعة الفنية) .(17/90)
يَفْتَقِرُ إِلَى الْحَاكِمِ، لأَِنَّ الرُّشْدَ يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الصَّغِيرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى:
فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَهُوَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيًّا فَإِنَّهُ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ بِبُلُوغِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ سَفَهٌ أَوْ يَحْجُرْهُ أَبُوهُ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ قَدْ مَاتَ وَعَلَيْهِ وَصِيٌّ فَلاَ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ إِلاَّ بِالتَّرْشِيدِ. فَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ مِنَ الأَْبِ (وَهُوَ الْوَصِيُّ الْمُخْتَارُ) فَلَهُ أَنْ يُرَشِّدَهُ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الْقَاضِي، وَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ مُقَدَّمًا مِنْ قَاضٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَرْشِيدُهُ إِلاَّ بِإِذْنِ الْقَاضِي.
وَقَال الدَّرْدِيرُ: إِنَّ الْحَجْرَ عَلَى الصَّبِيِّ بِالنِّسْبَةِ لِمَالِهِ يَكُونُ لِبُلُوغِهِ مَعَ صَيْرُورَتِهِ حَافِظًا لِمَالِهِ بَعْدَهُ فَقَطْ إِنْ كَانَ ذَا أَبٍ أَوْ مَعَ فَكِّ الْوَصِيِّ وَالْمُقَدَّمُ (الْوَصِيُّ الْمُعَيَّنُ مِنَ الْقَاضِي) إِنْ كَانَ ذَا وَصِيٍّ أَوْ مُقَدَّمٍ فَذُو الأَْبِ بِمُجَرَّدِ صَيْرُورَتِهِ حَافِظًا لِلْمَال بَعْدَ بُلُوغِهِ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَفُكَّهُ أَبُوهُ عَنْهُ، قَال ابْن عَاشِرٍ: يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا إِذَا حَجَرَ الأَْبُ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ عِنْوَانُ الْبُلُوغِ، فَإِنَّهُ لاَ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 195 وبداية المجتهد 2 / 277، ومغني المحتاج 2 / 166، 170، والمغني 4 / 457.(17/91)
حَافِظًا لِلْمَال إِلاَّ لِفَكِّ الأَْبِ.
وَأَمَّا فَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْوَصِيِّ فَيَحْتَاجُ بِأَنْ يَقُول لِلْعُدُول: اشْهَدُوا أَنِّي فَكَكْتُ الْحَجْرَ عَنْ فُلاَنٍ وَأَطْلَقْتُ لَهُ التَّصَرُّفَ لِمَا قَامَ عِنْدِي مِنْ رُشْدِهِ وَحُسْنِ تَصَرُّفِهِ، فَتَصَرُّفُهُ بَعْدَ الْفَكِّ لاَزِمٌ لاَ يُرَدُّ. وَلاَ يَحْتَاجُ لإِِذْنِ الْحَاكِمِ فِي الْفَكِّ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَبْلُغَ وَلاَ يَكُونَ لَهُ أَبٌ وَلاَ وَصِيٌّ، وَهُوَ الْمُهْمَل، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الرُّشْدِ إِلاَّ إِنْ تَبَيَّنَ سَفَهُهُ.
وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى فَهِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهَا: إِنْ كَانَتْ ذَاتَ أَبٍ فَإِنَّهَا إِذَا بَلَغَتْ تَبْقَى فِي حِجْرِهِ حَتَّى تَتَزَوَّجَ وَيَدْخُل بِهَا زَوْجُهَا وَتَبْقَى مُدَّةً بَعْدَ الدُّخُول.
وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ تِلْكَ الْمُدَّةِ مِنْ عَامٍ إِلَى سَبْعَةِ أَعْوَامٍ.
وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا حُسْنُ تَصَرُّفِهَا فِي الْمَال وَشَهَادَةُ الْعُدُول بِذَلِكَ.
الثَّانِي: إِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَصِيٍّ أَوْ مُقَدَّمٍ لاَ يَنْفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهَا إِلاَّ بِهَذِهِ الأَْرْبَعَةِ (وَهِيَ بُلُوغُهَا، وَالدُّخُول بِهَا، وَبَقَاؤُهَا مُدَّةً بَعْدَ الدُّخُول، وَثُبُوتُ حُسْنِ التَّصَرُّفِ بِشَهَادَةِ الْعُدُول) وَفَكَّ الْوَصِيُّ أَوِ الْمُقَدَّمُ. فَإِنْ لَمْ يَفُكَّا الْحَجْرَ عَنْهَا بِتَرْشِيدِهَا كَانَ تَصَرُّفُهَا مَرْدُودًا وَلَوْ(17/91)
عَنَسَتْ أَوْ دَخَل بِهَا الزَّوْجُ وَطَالَتْ إِقَامَتُهَا عِنْدَهُ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ إِنْ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ لَمْ يُدْفَعْ إِلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ قَبْلَهُ (أَيْ قَبْل بُلُوغِهِ هَذِهِ السِّنَّ مَعَ إِينَاسِ الرُّشْدِ) وَيُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ مَتَى بَلَغَ الْمُدَّةَ وَلَوْ كَانَ مُفْسِدًا. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} وَالْمُرَادُ بِالْيَتِيمِ هُنَا مَنْ بَلَغَ، وَسُمِّيَ فِي الآْيَةِ يَتِيمًا لِقُرْبِهِ مِنَ الْبُلُوغِ، وَلأَِنَّهُ فِي أَوَّل أَحْوَال الْبُلُوغِ قَدْ لاَ يُفَارِقُهُ السَّفَهُ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا فَقَدَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، لأَِنَّهُ حَال كَمَال لُبِّهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: يَنْتَهِي لُبُّ الرَّجُل إِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقَال أَهْل الطَّبَائِعِ (الأَْطِبَّاءُ) : مَنْ بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَ رُشْدَهُ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ سِنًّا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصِيرَ فِيهَا جَدًّا، لأَِنَّ أَدْنَى مُدَّةٍ يَبْلُغُ فِيهَا الْغُلاَمُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، فَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ الْوَلَدُ يَبْلُغُ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَقَدْ صَارَ بِذَلِكَ جَدًّا، حَتَّى لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ مُبَذِّرًا لَمْ يُمْنَعْ
__________
(1) حاشية الدسوقي 3 / 296 وما بعدها، والشرح الصغير بحاشية الصاوي 3 / 382 - 383 ط دار المعارف بمصر، والقوانين الفقهية ص 211 ط دار القلم.(17/92)
مِنْهُ مَالُهُ، لأَِنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَثَرِ الصِّبَا فَلاَ يُعْتَبَرُ فِي مَنْعِ الْمَال، وَلأَِنَّ مَنْعَ الْمَال عَنْهُ عَلَى سَبِيل التَّأْدِيبِ عُقُوبَةٌ عَلَيْهِ، وَالاِشْتِغَال بِالتَّأْدِيبِ عِنْدَ رَجَاءِ التَّأَدُّبِ، فَإِذَا بَلَغَ هَذِهِ السِّنَّ فَقَدِ انْقَطَعَ رَجَاءُ التَّأَدُّبِ فَلاَ مَعْنَى لِمَنْعِ الْمَال بَعْدَهُ (1) .
الْحَجْرُ عَلَى الْمَجْنُونِ:
9 - الْجُنُونُ هُوَ اخْتِلاَل الْعَقْل بِحَيْثُ يَمْنَعُ جَرَيَانَ الأَْفْعَال وَالأَْقْوَال عَلَى نَهْجِهِ إِلاَّ نَادِرًا (2) .
وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْبِقًا أَوْ مُتَقَطِّعًا (3) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْحَجْرِ عَلَى الْمَجْنُونِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْجُنُونُ أَصْلِيًّا أَمْ طَارِئًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ قَوِيًّا أَمْ ضَعِيفًا، وَالْقَوِيُّ: الْمُطْبِقُ، وَالضَّعِيفُ: غَيْرُهُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ فَهُوَ يُزِيل أَهْلِيَّةَ الأَْدَاءِ إِنْ كَانَ مُطْبِقًا، فَلاَ تَتَرَتَّبُ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ آثَارُهَا الشَّرْعِيَّةُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْجُنُونُ مُتَقَطِّعًا فَإِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 94، وتبيين الحقائق 5 / 195، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 49، والشرح الصغير 3 / 393، ومغني المحتاج 2 / 170، والمغني 4 / 518.
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 3 / 381.(17/92)
التَّكْلِيفَ فِي حَال الإِْفَاقَةِ وَلاَ يَنْفِي أَصْل الْوُجُوبِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كَمَا يَلِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ بِحَالٍ.
قَال الْحَصْكَفِيُّ: وَأَمَّا الَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَحُكْمُهُ كَمُمَيِّزٍ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَمِثْلُهُ فِي الْمِنَحِ وَالدُّرَرِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ وَكَذَا الْمِعْرَاجُ حَيْثُ فَسَّرَ الْمَغْلُوبَ بِاَلَّذِي لاَ يَعْقِل أَصْلاً. ثُمَّ قَال: وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنِ الْمَجْنُونِ الَّذِي يَعْقِل الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ كَتَصَرُّفِ الصَّبِيِّ الْعَاقِل وَهَذَا هُوَ الْمَعْتُوهُ.
وَجَعَلَهُ الزَّيْلَعِيُّ فِي حَال إِفَاقَتِهِ كَالْعَاقِل، وَالْمُتَبَادِرُ مِنْهُ أَنَّهُ الْعَاقِل الْبَالِغُ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ عَابِدِينَ حَيْثُ قَال: إِنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي لِلشَّارِحِ (الْحَصْكَفِيِّ صَاحِبِ الدُّرِّ) أَنْ يَقُول: فَحُكْمُهُ كَعَاقِلٍ أَيْ: فِي حَال إِفَاقَتِهِ كَمَا قَالَهُ الزَّيْلَعِيُّ لِيَظْهَرَ لِلتَّقْيِيدِ بِالْمَغْلُوبِ فَائِدَةٌ، فَإِنَّهُ حَيْثُ كَانَ غَيْرُ الْمَغْلُوبِ كَمُمَيِّزٍ لاَ يَصِحُّ طَلاَقُهُ وَلاَ إِعْتَاقُهُ كَالْمَغْلُوبِ.
وَإِذَا أَتْلَفَ الْمَجْنُونُ شَيْئًا مُقَوَّمًا مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ ضَمِنَهُ إِذْ لاَ حَجْرَ فِي التَّصَرُّفِ الْفِعْلِيِّ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 90 - 91، والشرح الصغير 3 / 381، والقوانين الفقهية ص 325، ومغني المحتاج 2 / 165 - 166، وكشاف القناع 3 / 417 - 442.
(2) ابن عابدين 5 / 90 - 91.(17/93)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ إِلاَّ إِذَا أَتْلَفَ شَيْئًا فَفِي مَالِهِ، وَالدِّيَةُ إِنْ بَلَغَتِ الثُّلُثَ فَأَكْثَرَ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ كَالْمَال (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ بِالْجُنُونِ تَنْسَلِبُ الْوِلاَيَاتُ الثَّابِتَةُ بِالشَّرْعِ كَوِلاَيَةِ النِّكَاحِ، أَوِ التَّفْوِيضِ كَالإِْيصَاءِ وَالْقَضَاءِ لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَل أَمْرَ نَفْسِهِ فَأَمْرُ غَيْرِهِ أَوْلَى.
وَلاَ تُعْتَبَرُ عِبَارَةُ الْمَجْنُونِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ لَهُ أَمْ عَلَيْهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا كَالإِْسْلاَمِ وَالْمُعَامَلاَتِ لِعَدَمِ قَصْدِهِ.
وَأَمَّا أَفْعَالُهُ فَمِنْهَا مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ كَإِحْبَالِهِ وَإِتْلاَفِهِ مَال غَيْرِهِ وَتَقْرِيرِ الْمَهْرِ بِوَطْئِهِ، وَتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى إِرْضَاعِهِ وَالْتِقَاطِهِ وَاحْتِطَابِهِ وَاصْطِيَادِهِ، وَعَمْدُهُ عَمْدٌ عَلَى الصَّحِيحِ أَيْ: حَيْثُ كَانَ لَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كَالصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ (2) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ سَبَقَ كَلاَمُهُمْ عَلَى الْمَجْنُونِ فِي الْكَلاَمِ عَلَى الصَّبِيِّ.
وَيَرْتَفِعُ حَجْرُ الْمَجْنُونِ بِالإِْفَاقَةِ مِنَ الْجُنُونِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى فَكٍّ فَتُعْتَبَرُ أَقْوَالُهُ وَتَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ (ر: جُنُونٌ) .
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 381، 388، وانظر الموسوعة الفقهية 1 / 255 مصطلح: (إتلاف) .
(2) مغني المحتاج 2 / 165 - 166.(17/93)
الْحَجْرُ عَلَى الْمَعْتُوهِ:
10 - اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَفْسِيرِ الْمَعْتُوهِ، وَأَحْسَنُ مَا قِيل فِيهِ: هُوَ مَنْ كَانَ قَلِيل الْفَهْمِ مُخْتَلِطَ الْكَلاَمِ فَاسِدَ التَّدْبِيرِ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَضْرِبُ وَلاَ يَشْتِمُ كَمَا يَفْعَل الْمَجْنُونُ.
وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ تَفْسِيرًا لِلْعَتَهِ فِي الاِصْطِلاَحِ.
وَالْمَعْتُوهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ وَفِي رَفْعِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ كَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ الْعَاقِل.
أَمَّا إِذَا أَفَاقَ فَإِنَّهُ كَالْبَالِغِ الْعَاقِل فِي تِلْكَ الْحَالَةِ (1) .
وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ تَعَرُّضًا لِحُكْمِ تَصَرُّفَاتِ الْمَعْتُوهِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَتَهٌ) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ إِذَا كَانَ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ فَهُوَ كَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ.
وَذَهَبَ السُّبْكِيُّ وَالأَْذْرَعِيُّ إِلَى أَنَّ مَنْ زَال عَقْلُهُ فَمَجْنُونٌ وَإِلاَّ فَهُوَ مُكَلَّفٌ (2) .
وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَعَرُّضًا لِلْمَسْأَلَةِ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 90 - 91، 110، وتبيين الحقائق مع حاشية الشلبي 5 / 191.
(2) حاشية الجمل 3 / 335، وشرح الروض 4 / 345.(17/94)
الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ:
أ - السَّفَهُ:
11 - السَّفَهُ لُغَةً: هُوَ نَقْصٌ فِي الْعَقْل، وَأَصْلُهُ الْخِفَّةُ، وَسَفِهَ الْحَقَّ جَهِلَهُ، وَسَفَّهْتُهُ تَسْفِيهًا: نَسَبْتُهُ إِلَى السَّفَهِ، أَوْ قُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ سَفِيهٌ.
وَهُوَ سَفِيهٌ، وَالأُْنْثَى سَفِيهَةٌ، وَالْجَمْعُ سُفَهَاءُ (1) .
وَأَمَّا اصْطِلاَحًا فَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّفَهَ هُوَ تَبْذِيرُ الْمَال وَتَضْيِيعُهُ عَلَى خِلاَفِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ أَوِ الْعَقْل، كَالتَّبْذِيرِ وَالإِْسْرَافِ فِي النَّفَقَةِ، وَأَنْ يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفَاتٍ لاَ لِغَرَضٍ، أَوْ لِغَرَضٍ لاَ يَعُدُّهُ الْعُقَلاَءُ مِنْ أَهْل الدِّيَانَةِ غَرَضًا، كَدَفْعِ الْمَال إِلَى الْمُغَنِّينَ وَاللَّعَّابِينَ وَشِرَاءِ الْحَمَامِ الطَّيَّارِ بِثَمَنٍ غَالٍ، وَالْغَبْنِ فِي التِّجَارَاتِ مِنْ غَيْرِ مَحْمَدَةٍ (أَوْ غَرَضٍ صَحِيحٍ) .
وَأَصْل الْمُسَامَحَاتِ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالْبِرِّ وَالإِْحْسَانِ مَشْرُوعٌ إِلاَّ أَنَّ الإِْسْرَافَ حَرَامٌ كَالإِْسْرَافِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلِذَا كَانَ مِنَ السَّفَهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَبْذِيرُ الْمَال وَتَضْيِيعُهُ وَلَوْ فِي الْخَيْرِ كَأَنْ يَصْرِفَهُ كُلَّهُ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: (سفه) .
(2) ابن عابدين 5 / 92.(17/94)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ السَّفَهَ هُوَ التَّبْذِيرُ (أَيْ: صَرْفُ الْمَال فِي غَيْرِ مَا يُرَادُ لَهُ شَرْعًا) بِصَرْفِ الْمَال فِي مَعْصِيَةٍ كَخَمْرٍ وَقِمَارٍ، أَوْ بِصَرْفِهِ فِي مُعَامَلَةٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ (خَارِجٍ عَنْ الْعَادَةِ) بِلاَ مَصْلَحَةٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَأْنُهُ مِنْ غَيْرِ مُبَالاَةٍ، أَوْ صَرْفُهُ فِي شَهَوَاتٍ نَفْسَانِيَّةٍ عَلَى خِلاَفِ عَادَةِ مِثْلِهِ فِي مَأْكَلِهِ وَمُشْرَبِهِ وَمَلْبُوسِهِ وَمَرْكُوبِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
أَوْ بِإِتْلاَفِهِ هَدَرًا كَأَنْ يَطْرَحَهُ عَلَى الأَْرْضِ أَوْ يَرْمِيَهُ فِي بَحْرٍ أَوْ مِرْحَاضٍ، كَمَا يَقَعُ لِكَثِيرٍ مِنَ السُّفَهَاءِ يَطْرَحُونَ الأَْطْعِمَةَ وَالأَْشْرِبَةَ فِيمَا ذُكِرَ وَلاَ يَتَصَدَّقُونَ بِهَا (1) .
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبَ الْمَاوَرْدِيُّ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ التَّبْذِيرِ وَالسَّرَفِ، فَقَال: التَّبْذِيرُ: الْجَهْل بِمَوَاقِعِ الْحُقُوقِ، وَالسَّرَفُ: الْجَهْل بِمَقَادِيرِ الْحُقُوقِ. وَكَلاَمُ الْغَزَالِيِّ يَقْتَضِي تَرَادُفَهُمَا.
وَعَلَى كُل حَالٍ فَإِنَّ السَّفِيهَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الَّذِي يُضَيِّعُ مَالَهُ بِاحْتِمَال غَبْنٍ فَاحِشٍ فِي الْمُعَامَلَةِ وَنَحْوِهَا إِذَا كَانَ جَاهِلاً بِهَا - أَمَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْمُعَامَلَةِ فَأَعْطَى أَكْثَر مِنْ ثَمَنِهَا فَإِنَّ الزَّائِدَ صَدَقَةٌ خَفِيَّةٌ مَحْمُودَةٌ، أَيْ إِنْ كَانَ التَّعَامُل مَعَ مُحْتَاجٍ وَإِلاَّ فَهِبَةٌ.
وَمِنَ السَّفَهِ عِنْدَهُمْ أَنْ يَرْمِيَ مَالَهُ وَإِنْ كَانَ
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 393.(17/95)
قَلِيلاً فِي بَحْرٍ أَوْ نَارٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَوْ يُنْفِقَ أَمْوَالَهُ فِي مُحَرَّمٍ.
وَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ صَرْفَ الْمَال فِي الصَّدَقَةِ وَوُجُوهِ الْخَيْرِ، وَالْمَطَاعِمِ وَالْمُلاَبِسِ الَّتِي لاَ تَلِيقُ بِحَالِهِ لَيْسَ بِتَبْذِيرٍ. أَمَّا فِي الأُْولَى وَهُوَ الصَّرْفُ فِي الصَّدَقَةِ وَوُجُوهِ الْخَيْرِ فَلأَِنَّ لَهُ فِي الصَّرْفِ فِي الْخَيْرِ عِوَضًا، وَهُوَ الثَّوَابُ، فَإِنَّهُ لاَ سَرَفَ فِي الْخَيْرِ كَمَا لاَ خَيْرَ فِي السَّرَفِ. وَحَقِيقَةُ السَّرَفِ: مَا لاَ يُكْسِبُ حَمْدًا فِي الْعَاجِل وَلاَ أَجْرًا فِي الآْجِل.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ فِي هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ يَكُونُ مُبَذِّرًا إِنْ بَلَغَ مُفْرِطًا فِي الإِْنْفَاقِ. فَإِنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْبُلُوغِ مُقْتَصِدًا فَلاَ. وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ وَهُوَ الصَّرْفُ فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمُلاَبِسِ فَلأَِنَّ الْمَال يُتَّخَذُ لِيُنْتَفَعَ بِهِ وَيُلْتَذَّ بِهِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ فِي هَذَا النَّوْعِ يَكُونُ تَبْذِيرًا عَادَةً (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السَّفِيهَ هُوَ الْمُضَيِّعُ لِمَالِهِ الْمُبَذِّرُ لَهُ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ عُلَمَاءِ الأَْمْصَارِ مِنْ أَهْل الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ يَرَوْنَ الْحَجْرَ عَلَى كُل مُضَيِّعٍ لِمَالِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا (2) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 168 - 169.
(2) المغني 4 / 506، 517، وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 443.(17/95)
ب - حُكْمُ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ إِذَا فُكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ لِرُشْدِهِ وَبُلُوغِهِ وَدُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ ثُمَّ عَادَ إِلَى السَّفَهِ أُعِيدَ عَلَيْهِ الْحَجْرُ، وَبِهَذَا قَال الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا} . وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (1) } .
فَقَدْ نَهَانَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ مَا دَامَ سَفِيهًا، وَأَمَرَنَا بِالدَّفْعِ إِنْ وُجِدَ مِنْهُ الرُّشْدُ، إِذْ لاَ يَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ قَبْل وُجُودِهِ، وَلأَِنَّ مَنْعَ مَالِهِ لِعِلَّةِ السَّفَهِ فَيَبْقَى الْمَنْعُ مَا بَقِيَتِ الْعِلَّةُ، صَغِيرًا كَانَ السَّفِيهُ أَوْ كَبِيرًا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خُذُوا عَلَى يَدِ سُفَهَائِكُمْ (2)
وَأَوْرَدَ ابْنُ قُدَامَةَ مَا رَوَاهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ
__________
(1) سورة النساء / 5، 6.
(2) حديث: " خذوا على يد سفهائكم " أخرجه الطبراني في الكبير من حديث النعمان بن بشير كما في الجامع الصغير للسيوطي (3 / 435 - بشرحه الفيض - ط المكتبة التجارية) ورمز السيوطي إليه بالضعف.(17/96)
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ ابْتَاعَ بَيْعًا، فَقَال عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لآَتِيَنَّ عُثْمَانَ لِيَحْجُرَ عَلَيْكَ، فَأَتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الزُّبَيْرَ، فَقَال: قَدِ ابْتَعْتُ بَيْعًا وَإِنَّ عَلِيًّا يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ فَيَسْأَلَهُ الْحَجْرَ عَلَيَّ. فَقَال الزُّبَيْرُ: أَنَا شَرِيكُكَ فِي الْبَيْعِ.
فَأَتَى عَلِيٌّ عُثْمَانَ، فَقَال: إِنَّ ابْنَ جَعْفَرٍ قَدِ ابْتَاعَ بَيْعَ كَذَا فَاحْجُرْ عَلَيْهِ. فَقَال الزُّبَيْرُ: أَنَا شَرِيكُهُ فِي الْبَيْعِ، فَقَال عُثْمَانُ: كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ؟
ثُمَّ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذِهِ قِصَّةٌ يَشْتَهِرُ مِثْلُهَا وَلَمْ يُخَالِفْهَا أَحَدٌ فِي عَصْرِهِمْ فَتَكُونُ إِجْمَاعًا حِينَئِذٍ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِأَنَّ هَذَا سَفِيهٌ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ بَلَغَ سَفِيهًا فَإِنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي اقْتَضَتِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إِذَا بَلَغَ سَفِيهًا سَفَهُهُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَلأَِنَّ السَّفَهَ لَوْ قَارَنَ الْبُلُوغَ مَنَعَ دَفْعَ مَالِهِ إِلَيْهِ، فَإِذَا حَدَثَ أَوْجَبَ انْتِزَاعَ الْمَال كَالْجُنُونِ، وَفِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ صِيَانَةٌ لِمَالِهِ وَوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُبْتَدَأُ الْحَجْرُ عَلَى بَالِغٍ عَاقِلٍ بِسَبَبِ السَّفَهِ لِمَا سَبَقَ (1) .
الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ:
13 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِالْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ إِلَى أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ حُكْمٍ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 92.(17/96)
حَاكِمٍ، كَمَا أَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ حُكْمِ حَاكِمٍ أَيْضًا، لأَِنَّ الْحَجْرَ إِذَا كَانَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لاَ يَزُول إِلاَّ بِهِ، وَلأَِنَّ الرُّشْدَ يَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ وَاجْتِهَادٍ فِي مَعْرِفَتِهِ وَزَوَال تَبْذِيرِهِ فَكَانَ كَابْتِدَاءِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ السَّفِيهَ لاَ يَحْتَاجُ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ إِلَى قَضَاءِ الْقَاضِي لأَِنَّ فَسَادَهُ فِي مَالِهِ يَحْجُرُهُ وَصَلاَحُهُ فِيهِ يُطْلِقُهُ. وَإِنَّ عِلَّةَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ السَّفَهُ وَقَدْ تَحَقَّقَ فِي الْحَال، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُوجِبُهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، كَالصِّبَا وَالْجُنُونِ.
وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلاَفِ فِيمَا لَوْ بَاعَ السَّفِيهُ قَبْل قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّ بَيْعَهُ جَائِزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ (1) .
تَصَرُّفَاتُ السَّفِيهِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَ السَّفِيهِ فِي مَالِهِ حُكْمُهُ حُكْمُ تَصَرُّفِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّصَرُّفَاتِ غَيْرِ الْمَالِيَّةِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ (سَفَهٌ، وَوِلاَيَةٌ) .
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 195، والشرح الصغير 3 / 388 - 389، وأسنى المطالب 2 / 208، والمغني 4 / 519 - 520.
(2) ابن عابدين 5 / 93، والشرح الصغير 3 / 384 وما بعدها، والقوانين الفقهية 211، ومغني المحتاج 2 / 171، وشرح منتهى الإرادات 2 / 294.(17/97)
الْحَجْرُ عَلَى ذِي الْغَفْلَةِ:
15 - ذُو الْغَفْلَةِ هُوَ مَنْ يُغْبَنُ فِي الْبُيُوعِ لِسَلاَمَةِ قَلْبِهِ وَلاَ يَهْتَدِي إِلَى التَّصَرُّفَاتِ الرَّابِحَةِ.
وَيَخْتَلِفُ عَنِ السَّفِيهِ بِأَنَّ السَّفِيهَ مُفْسِدٌ لِمَالِهِ وَمُتَابِعٌ لِهَوَاهُ، أَمَّا ذُو الْغَفْلَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُفْسِدٍ لِمَالِهِ وَلاَ يَقْصِدُ الْفَسَادَ.
وَلَمْ نَجِدْ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّ ذَا الْغَفْلَةِ يُحْجَرُ عَلَيْهِ سِوَى الصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ أَدْرَجَ الْجُمْهُورُ هَذَا الْوَصْفَ فِي السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ.
فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحَجْرَ يَثْبُتُ عَلَى ذِي الْغَفْلَةِ كَالسَّفِيهِ أَيْ: مِنْ حِينِ قَضَاءِ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمِنْ حِينِ ظُهُورِ أَمَارَاتِ الْغَفْلَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى هَذَا فَيَزُول الْحَجْرُ عَنْهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَبِزَوَال الْغَفْلَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ،
وَقَدْ شُرِعَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ صِيَانَةً لِمَالِهِ وَنَظَرًا لَهُ، فَقَدْ طَلَبَ أَهْل حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ، فَأَقَرَّهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَجْرُ مَشْرُوعًا عَلَى ذِي الْغَفْلَةِ لأََنْكَرَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبَهُمْ. وَذَلِكَ فِيمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْتَاعُ وَفِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ، فَأَتَى أَهْلُهُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ: احْجُرْ عَلَى فُلاَنٍ، فَإِنَّهُ يَبْتَاعُ وَفِي عُقْدَتِهِ ضَعْفٌ، فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَاهُ عَنِ الْبَيْعِ، فَقَال: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي لاَ أَصْبِرُ عَنِ الْبَيْعِ، فَقَال(17/97)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كُنْت غَيْرَ تَارِكٍ الْبَيْعَ فَقُل: هَاءَ وَهَاءَ وَلاَ خِلاَبَةَ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُحْجَرُ عَلَى الْغَافِل بِسَبَبِ غَفْلَتِهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى طَلَبِهِمْ وَإِنَّمَا قَال لَهُ: قُل: لاَ خِلاَبَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ. وَلَوْ كَانَ الْحَجْرُ مَشْرُوعًا لأََجَابَهُمْ إِلَيْهِ (2) .
الْحَجْرُ عَلَى الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ:
16 - سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ إِفْلاَسٍ الْكَلاَمُ عَنِ الْحَجْرِ عَلَى الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ وَلَوْ كَانَ غَائِبًا - فِي الْجُمْلَةِ - مَا يُغْنِي عَنْ إِِعَادَتِهِ هُنَا، ابْتِدَاءً مِنَ الْفِقْرَةِ (7) وَمَا بَعْدَهَا (3) . وَالْحَجْرُ عَلَى الْمَدِينِ هُوَ حَجْرٌ لَهُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِ دُونَ ذِمَّتِهِ. انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِفْلاَسٌ) (وَغَيْبَةٌ) .
الْحَجْرُ عَلَى الْفَاسِقِ:
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّ الْفَاسِقَ إِذَا لَمْ يَكُنْ سَفِيهًا مُبَذِّرًا لِمَالِهِ لاَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ، لأَِنَّ مُجَرَّدَ الْفِسْقِ فَقَطْ لاَ يُوجِبُ الْحَجْرَ،
__________
(1) حديث أنس بن مالك. . . أخرجه أبو داود (3 / 767 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (3 / 543 - ط الحلبي) وقال: " حسن صحيح ".
(2) تبيين الحقائق 5 / 194، 198 - 199، وابن عابدين 6 / 148 ط الحلبي والشرح الصغير 3 / 393، ومغني المحتاج 2 / 168، والمغني 4 / 516 وما بعدها.
(3) الموسوعة الفقهية 5 / 302 وما بعدها.(17/98)
لأَِنَّ الأَْوَّلِينَ لَمْ يَحْجُرُوا عَلَى الْفَسَقَةِ، وَلأَِنَّ الْفِسْقَ لاَ يَتَحَقَّقُ بِهِ إِتْلاَفُ الْمَال وَلاَ عَدَمُ إِتْلاَفِهِ (أَيْ لاَ تَلاَزُمَ بَيْنَ الْفِسْقِ وَإِتْلاَفِ الْمَال) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ الْفَاسِقَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ كَالاِسْتِدَامَةِ بِأَنْ بَلَغَ فَاسِقًا.
وَالْفَاسِقُ مَنْ يَفْعَل مُحَرَّمًا يُبْطِل الْعَدَالَةَ مِنْ كَبِيرَةٍ أَوْ إِصْرَارٍ عَلَى صَغِيرَةٍ، وَلَمْ تَغْلِبْ طَاعَاتُهُ عَلَى مَعَاصِيهِ، وَاحْتُرِزَ بِالْمُحَرَّمِ عَمَّا يَمْنَعُ قَبُول الشَّهَادَةِ لإِِخْلاَلِهِ بِالْمُرُوءَةِ، كَالأَْكْل فِي السُّوقِ، فَإِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ الرُّشْدَ لأَِنَّ الإِْخْلاَل بِالْمُرُوءَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَى الْمَشْهُورِ (1) .
الْحَجْرُ عَلَى تَبَرُّعَاتِ الزَّوْجَةِ:
18 - الْمَرْأَةُ لَهَا ذِمَّةٌ مَالِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَلَهَا أَنْ تَتَبَرَّعَ مِنْ مَالِهَا مَتَى شَاءَتْ مَا دَامَتْ رَشِيدَةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ (2) } وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُمْ (ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إِنَاثًا) وَإِطْلاَقِهِمْ فِي التَّصَرُّفِ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيّكُنَّ وَأَنَّهُنَّ تَصَدَّقْنَ فَقَبِل صَدَقَتَهُنَّ وَلَمْ يَسْأَل وَلَمْ يَسْتَفْصِل، وَأَتَتْهُ زَيْنَبُ
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 198، والقوانين الفقهية ص 211، ومغني المحتاج 2 / 168 والمغني 4 / 516 - 517.
(2) سورة النساء / 6.(17/98)
امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَامْرَأَةٌ أُخْرَى اسْمُهَا زَيْنَبُ فَسَأَلَتْهُ عَنِ الصَّدَقَةِ هَل يَجْزِيهِنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ وَأَيْتَامٍ لَهُنَّ؟ فَقَال: نَعَمْ (1) وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُنَّ هَذَا الشَّرْطَ، وَلأَِنَّ مَنْ وَجَبَ دَفْعُ مَالِهِ إِلَيْهِ لِرُشْدٍ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ كَالْغُلاَمِ، وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْل التَّصَرُّفِ وَلاَ حَقَّ لِزَوْجِهَا فِي مَالِهَا فَلَمْ يَمْلِكِ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِي التَّصَرُّفِ بِجَمِيعِهِ كَأُخْتِهَا (2) .
19 - وَذَهَبَ مَالِكٌ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - إِلَى أَنَّهُ يُحْجَرُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الرَّشِيدَةِ لِصَالِحِ زَوْجِهَا فِي تَبَرُّعٍ زَادَ عَلَى ثُلُثِ مَالِهَا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا الْبَالِغِ الرَّشِيدِ أَوْ وَلِيِّهِ إذَا كَانَ سَفِيهًا.
فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي امْرَأَةٍ حَلَفَتْ أَنْ تُعْتِقَ جَارِيَةً لَيْسَ لَهَا غَيْرُهَا فَحَنِثَتْ وَلَهَا زَوْجٌ فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا. أَنَّهُ قَال: لَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا وَلَيْسَ لَهَا عِتْقٌ لِمَا رُوِيَ: أَنَّ امْرَأَةَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُلِيٍّ لَهَا فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ بِهَذَا، فَقَال لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ عَطِيَّةٌ حَتَّى يَأْذَنَ زَوْجُهَا. فَهَل اسْتَأْذَنْتِ كَعْبًا؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ. فَبَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كَعْبٍ فَقَال:
__________
(1) حديث: " تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 328 - ط السلفية) ومسلم (2 / 694 - ط الحلبي) من حديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود.
(2) المغني 4 / 514.(17/99)
هَل أَذِنْتَ لَهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ بِحُلِيِّهَا؟ قَال: نَعَمْ. فَقَبِلَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ يَجُوزُ لاِمْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا (2) وَلأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجِ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِهَا. فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَِرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا (3) وَالْعَادَةُ أَنَّ الزَّوْجَ يَزِيدُ فِي مَهْرِهَا مِنْ أَجْل مَالِهَا وَيَتَبَسَّطُ فِيهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ. فَإِذَا أُعْسِرَ بِالنَّفَقَةِ أَنْظَرَتْهُ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى حُقُوقِ الْوَرَثَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَال الْمَرِيضِ، وَلأَِنَّ الْغَرَضَ مِنْ مَالِهَا التَّجَمُّل لِلزَّوْجِ. وَالرَّجْعِيَّةُ كَالزَّوْجَةِ لأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجِ بَاقٍ فِيمَنْ طُلِّقَتْ طَلاَقًا رَجْعِيًّا.
وَلاَ يُحْجَرُ عَلَى الْمَرْأَةِ لأَِبِيهَا وَنَحْوِهِ، إِذِ الْحَجْرُ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِ. وَلاَ يُحْجَرُ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا كَانَ إِعْطَاؤُهَا الْمَال عَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا
__________
(1) حديث " أن امراة كعب بن مالك. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 798 - ط الحلبي) والطحاوي في شرح المعاني (4 / 351 - ط مطبعة الأنوار المحمدية) وقال البوصيري: " إسناده يحيى، وهو غير معروف في أولاد كعب، فالإسناد لا يثبت " وقال الطحاوي (4 / 353) " حديث شاذ لا يثبت ".
(2) حديث: " لا يجوز لامرأة عطية إلا بأذن زوجها " أخرجه أبو داود (3 / 816 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده حسن.
(3) حديث: " تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها وجمالها، ولدينها " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 132 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1086 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(17/99)
مِنْ نَفَقَةِ أَبَوَيْهَا، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَتْ بِالثُّلُثِ فَأَقَل. قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَفِي جَوَازِ إِقْرَاضِهَا مَالاً زَائِدًا عَنِ الثُّلُثِ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا قَوْلاَنِ:
وَجْهُ الْقَوْل بِالْجَوَازِ أَنَّهَا تَأْخُذُ عِوَضَهُ وَهُوَ رَدُّ السَّلَفِ، فَكَانَ كَبَيْعِهَا. وَوَجْهُ الْقَوْل بِالْمَنْعِ أَنَّ الْقَرْضَ يُشْبِهُ الْهِبَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مِنْ قَبِيل الْمَعْرُوفِ، وَلأَِنَّهَا تَخْرُجُ لِمُطَالَبَتِهَا بِمَا أَقْرَضَتْهُ، وَهُوَ ضَرَرٌ عَلَى الزَّوْجِ.
وَأَمَّا دَفْعُهَا الْمَال قِرَاضًا لِعَامِلٍ فَلَيْسَ فِيهِ الْقَوْلاَنِ لأَِنَّهُ مِنَ التِّجَارَةِ.
هَذَا وَإِنَّ تَبَرُّعَهَا بِزَائِدٍ عَلَى ثُلُثِهَا جَائِزٌ حَتَّى يَرُدَّ الزَّوْجُ جَمِيعَهُ أَوْ مَا شَاءَ مِنْهُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقِيل: مَرْدُودٌ حَتَّى يُجِيزَهُ الزَّوْجُ.
وَلِلزَّوْجِ رَدُّ الْجَمِيعِ إِنْ تَبَرَّعَتْ بِزَائِدٍ عَنِ الثُّلُثِ، وَلَوْ كَانَ الزَّائِدُ يَسِيرًا، مُعَامَلَةً لَهَا بِنَقِيضِ قَصْدِهَا، أَوْ لأَِنَّهَا كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حَلاَلٍ وَحَرَامٍ.
وَلِلزَّوْجِ إِمْضَاءُ الْجَمِيعِ، وَلَهُ رَدُّ الزَّائِدِ فَقَطْ. وَإِذَا تَبَرَّعَتِ الزَّوْجَةُ بِثُلُثِ مَالِهَا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَبَرَّعَ مَرَّةً أُخْرَى بِثُلُثٍ آخَرَ، إِلاَّ أَنْ يَبْعُدَ مَا بَيْنَهُمَا بِعَامٍ عَلَى قَوْل ابْنِ سَهْلٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، قِيل: وَهُوَ الرَّاجِحُ، أَوْ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ عَلَى قَوْل أَصْبَغَ، وَنَحْوُهُ لاِبْنِ عَرَفَةَ (1) .
__________
(1) الزرقاني 5 / 306 - 307، والمغني 4 / 513 - 514.(17/100)
الْحَجْرُ عَلَى الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ:
20 - مَرَضُ الْمَوْتِ هُوَ الْمَرَضُ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ الْمَوْتُ فِي الأَْكْثَرِ الَّذِي يُعْجِزُ الْمَرِيضَ عَنْ رُؤْيَةِ مَصَالِحِهِ الْخَارِجَةِ عَنْ دَارِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الذُّكُورِ، وَيُعْجِزُهُ عَنْ رُؤْيَةِ الْمَصَالِحِ الدَّاخِلَةِ فِي دَارِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الإِْنَاثِ، وَيَمُوتُ عَلَى تِلْكَ الْحَال قَبْل مُرُورِ سَنَةٍ صَاحِبَ فِرَاشٍ كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ (1) .
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ الْمَرَضُ الْمَخُوفُ، وَهُوَ الَّذِي حَكَمَ الطِّبُّ بِكَثْرَةِ الْمَوْتِ بِهِ أَيْ بِسَبَبِهِ أَوْ مِنْهُ وَلَوْ لَمْ يَغْلِبْ، فَالْمَدَارُ عَلَى كَثْرَةِ الْمَوْتِ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَوْتُ مِنْهُ شَهِيرًا لاَ يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَوْتِ مِنْهُ غَلَبَةُ الْمَوْتِ بِهِ (2) .
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ تُحْجَرُ عَلَيْهِ تَبَرُّعَاتُهُ فِيمَا زَادَ عَنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ لِحَقِّ وَرَثَتِهِ وَذَلِكَ حَيْثُ لاَ دَيْنَ، وَإِذَا تَبَرَّعَ بِمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ إِذَا مَاتَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ يُمْنَعُ مِمَّا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ مِنَ الأَْكْل وَالشُّرْبِ وَالْكِسْوَةِ وَالتَّدَاوِي.
وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ مَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ كَالْمُقَاتِل فِي الصَّفِّ وَالْمَحْبُوسِ لِلْقَتْل وَنَحْوِهِمَا (3) .
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية م 1595، وابن عابدين 5 / 423.
(2) الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 306.
(3) ابن عابدين 5 / 93، 423، والقوانين الفقهية ص 212، والدسوقي 3 / 306، ومغني المحتاج 2 / 165، وكشاف القناع 3 / 416.(17/100)
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (مَرَضٌ، مَوْتٌ، وَصِيَّةٌ) .
الْحَجْرُ عَلَى الرَّاهِنِ:
21 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الرَّاهِنَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ بَعْدَ لُزُومِ الرَّهْنِ ضَمَانًا لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (رَهْنٌ) .
الْحَجْرُ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ:
22 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى فَرْضِ الْحَجْرِ عَلَى ثَلاَثَةٍ وَهُمُ: الْمُفْتِي الْمَاجِنُ، وَالطَّبِيبُ الْجَاهِل، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسُ.
أ - الْمُفْتِي الْمَاجِنُ: هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْحِيَل الْبَاطِلَةَ، كَتَعْلِيمِ الزَّوْجَةِ الرِّدَّةَ لِتَبِينَ مِنْ زَوْجِهَا، أَوْ تَعْلِيمِ الْحِيَل بِقَصْدِ إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ، وَمِثْلُهُ الَّذِي يُفْتِي عَنْ جَهْلٍ.
ب - الطَّبِيبُ الْجَاهِل: هُوَ الَّذِي يَسْقِي الْمَرْضَى دَوَاءً مُهْلِكًا، وَإِذَا قَوِيَ عَلَيْهِمُ الْمَرَضُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِزَالَةِ ضَرَرِهِ. ج - الْمُكَارِي الْمُفْلِسُ: هُوَ الَّذِي يُكْرِي إِبِلاً وَلَيْسَ لَهُ إِبِلٌ وَلاَ مَالٌ لِيَشْتَرِيَهَا بِهِ، وَإِذَا جَاءَ أَوَانُ الْخُرُوجِ يُخْفِي نَفْسَهُ.(17/101)
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَجْرِ عَلَى هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةِ حَقِيقَةُ الْحَجْرِ وَهُوَ الْمَنْعُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ، لأَِنَّ الْمُفْتِيَ لَوْ أَفْتَى بَعْدَ الْحَجْرِ وَأَصَابَ جَازَ، وَكَذَا الطَّبِيبُ لَوْ بَاعَ الأَْدْوِيَةَ نَفَذَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْمَنْعُ الْحِسِّيُّ، لأَِنَّ الأَْوَّل مُفْسِدٌ لِلأَْدْيَانِ، وَالثَّانِيَ مُفْسِدٌ لَلأَْبَدَانِ، وَالثَّالِثَ مُفْسِدٌ لِلأَْمْوَال. فَمَنْعُ هَؤُلاَءِ الْمُفْسِدِينَ دَفْعُ ضَرَرٍ لاَحِقٍ بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَهُوَ مِنَ الأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ (1) .
الْحَجْرُ عَلَى الْمُرْتَدِّ:
23 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُحْجَرُ عَلَيْهِ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ، لأَِنَّ تَرِكَتَهُ فَيْءٌ فَيُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ لِئَلاَّ يُفَوِّتَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 5 / 93.
(2) مغني المحتاج 2 / 165، وشرح منتهى الإرادات 2 / 274، والدسوقي 3 / 292.(17/101)
حِجْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحِجْرُ بِالْكَسْرِ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ: مِنْهَا: حِضْنُ الإِْنْسَانِ، وَهُوَ مَا دُونَ إِبْطِهِ إِلَى الْكَشْحِ، أَوِ الصَّدْرُ وَالْعَضُدَانِ وَمَا بَيْنَهُمَا، أَوْ مَا بَيْنَ يَدَيِ الإِْنْسَانِ مِنْ ثَوْبِهِ. وَيُقَال لِمَنْ فِي حِمَايَتِهِ شَخْصٌ إِنَّهُ فِي حِجْرِهِ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا: أَيْ كَنَفِهِ.
وَمِنْهَا: الْعَقْل وَفِي هَذَا قَوْله تَعَالَى: {هَل فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (1) }
وَمِنْهَا: الْحَرَامُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: حِكَايَةً عَنِ الْمُشْرِكِينَ: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ (2) } .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ الْقِسْمُ الْخَارِجُ عَنْ جِدَارِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ مَحُوطٌ مُدَوَّرٌ عَلَى صُورَةِ نِصْفِ دَائِرَةٍ وَيُسَمَّى (حِجْرَ إِسْمَاعِيل) قَال ابْنُ إِسْحَاقَ: جَعَل إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْحِجْرَ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ عَرِيشًا مِنْ أَرَاكٍ تَقْتَحِمُهُ الْعَنْزُ، وَكَانَ زَرْبًا لِغَنَمِ إِسْمَاعِيل. وَيُسَمَّى الْحَطِيمَ
__________
(1) سورة الحجر / 5.
(2) سورة الأنعام / 138.(17/102)
وَقِيل: الْحَطِيمُ هُوَ جِدَارُ الْحِجْرِ، وَقِيل مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَزَمْزَمَ وَالْمَقَامِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ سِتَّةَ أَذْرُعٍ نَبَوِيَّةٍ مِنَ الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ. وَيَدُل لِذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَائِشَةُ لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ فَأَلْزَقْتُهَا بِالأَْرْضِ وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَزِدْتُ فِيهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ فَإِنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْهَا حِينَ بَنَتِ الْكَعْبَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنْ بَدَا لِقَوْمِكِ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَبْنُوهُ، فَهَلُمِّي لأُِرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ. وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عَطَاءٍ فَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ حَرِيقِ الْكَعْبَةِ وَعِمَارَةِ بْنِ الزُّبَيْرِ لَهَا ثُمَّ قَال: إِنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُول: إِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَقْوَى عَلَى بِنَائِهِ لَكُنْتُ أَدْخَلْتُ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ (2) . قَال عَطَاءٌ: وَزَادَ فِيهِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ حَتَّى أَبْدَى أَسَاسَهَا وَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّاسُ فَبَنَى عَلَيْهِ الْبِنَاءَ انْتَهَى (3) .
__________
(1) المصباح: مادة (حجر) ، وشرح الزرقاني 2 / 263.
(2) حديث: " يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 439 - ط السلفية) . ومسلم (2 / 969 - 970 - ط الحلبي) .
(3) شفاء الغرام للفاسي 2 / 211، وروضة الطالبين 3 / 80، وبدائع الصنائع 2 / 131، والمغني 3 / 382، ومطالب أولي النهى 1 / 375، وشرح الزرقاني 2 / 263.(17/102)
وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ جَمِيعِهِ مِنَ الْبَيْتِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ جَمِيعَ الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحِجْرِ فَقَال: هُوَ مِنَ الْبَيْتِ (2) . وَعَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَدْخُل الْبَيْتَ فَأُصَلِّيَ فِيهِ، فَأَخَذَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِيِّ، فَأَدْخَلَنِي فِي الْحِجْرِ فَقَال: صَلِّي فِي الْحِجْرِ إِذَا أَرَدْتِ دُخُول الْبَيْتِ، فَإِنَّمَا هُوَ قِطْعَةٌ مِنَ الْبَيْتِ، فَإِنَّ قَوْمَكِ اقْتَصَرُوا حِينَ بَنَوْا الْكَعْبَةَ فَأَخْرَجُوهُ مِنَ الْبَيْتِ (3) .
اسْتِقْبَال الْحِجْرِ فِي الصَّلاَةِ:
3 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ اسْتِقْبَال الْحِجْرِ فِي الصَّلاَةِ: فَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
يَجُوزُ اسْتِقْبَال الْحِجْرِ فِي الصَّلاَةِ إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي خَارِجَ الْحِجْرِ سَوَاءٌ، أَكَانَتِ الصَّلاَةُ فَرْضًا أَمْ نَفْلاً: لِحَدِيثِ: الْحِجْرُ مِنَ الْبَيْتِ (4) .
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) حديث: " هو من البيت " أخرجه البخاري ومسلم ضمن الحديث المتقدم.
(3) حديث: " صلى في الحجر. . . . " أخرجه أبو داود (2 / 526 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (3 / 216 - ط الحلبي) وقال: " حسن صحيح ".
(4) حديث: " الحجر من البيت " سبق تخريجه (ف 2) .(17/103)
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُصَلِّي فِي دَاخِلِهِ فَلاَ يَصِحُّ الْفَرْضُ، كَصَلاَتِهِ فِي دَاخِل الْبَيْتِ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ: لاَ تَصِحُّ الصَّلاَةُ بِاسْتِقْبَال الْحِجْرِ، فَرْضًا كَانَتْ أَمْ نَفْلاً، لأَِنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْبَيْتِ مَظْنُونٌ لِثُبُوتِهِ بِخَبَرِ الآْحَادِ، وَوُجُوبُ التَّوَجُّهِ إِلَى الْبَيْتِ ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (2) } وَلاَ يَجُوزُ تَرْكُ الْعَمَل بِنَصِّ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ (3) . وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عِيَاضٌ وَالْقَرَافِيُّ وَابْنُ جَمَاعَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ (4) .
وَالتَّفْصِيل فِي (طَوَافٌ، وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ) .
الطَّوَافُ مِنْ دَاخِل الْحِجْرِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الطَّوَافُ مِنْ دَاخِل الْحِجْرِ، وَاشْتَرَطُوا لِصِحَّةِ الطَّوَافِ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَارِجِ الْحِجْرِ.
وَقَال مَنْ يَرَى أَنَّ جَمِيعَ الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ أَنَّ مَنْ طَافَ دَاخِل الْحِجْرِ لَمْ يَطُفْ جَمِيعَ الْبَيْتِ،
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 228، وشرح الزرقاني 1 / 191، ومطالب أولي النهى 1 / 375.
(2) سورة البقرة / 144.
(3) بدائع الصنائع 2 / 131، ابن عابدين 1 / 286، والمجموع 3 / 193، والإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع 1 / 101.
(4) شرح الزرقاني 2 / 191.(17/103)
وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِقَوْل الْحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (1) } .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحِجْرِ، فَقَال: هُوَ مِنَ الْبَيْتِ (2) .
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَافَ خَارِجَ الْحِجْرِ (3) ، وَقَدْ قَال: لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ (4)
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ طَوَافُهُ خَارِجَ السِّتَّةِ الأَْذْرُعِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْبَيْتِ. وَعِنْدَ هَؤُلاَءِ لاَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَارِجَ جَمِيعِهِ وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ (5) . (ر: طَوَافٌ) .
__________
(1) سورة الحج / 29.
(2) حديث: " هو من البيت " سبق تخريجه (ف 2) .
(3) حديث: " طاف خارج الحجر " ورد من حديث عبد الله بن عباس قال: الحجر من البيت، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت من ورائه. قال الله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) . أخرجه الحاكم (1 / 460 - ط دائرة المعارف العثمانية) . وصححه.
(4) حديث: " ولتأخذوا عني مناسككم " أخرجه مسلم (2 / 943 - ط الحلبي) .
(5) روضة الطالبين 3 / 80، والمغني 3 / 382 - 383، وبدائع الصنائع 2 / 131، وشرح الزرقاني 2 / 263.(17/104)
الْحَجَرُ الأَْسْوَدُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَجَرُ الأَْسْوَدُ كُتْلَةٌ مِنَ الْحَجَرِ ضَارِبٌ إِلَى السَّوَادِ شِبْهُ بَيْضَاوِيٍّ فِي شَكْلِهِ، يَقَعُ فِي أَصْل بِنَاءِ الْكَعْبَةِ فِي الرُّكْنِ الْجَنُوبِيِّ الشَّرْقِيِّ مِنْهَا، يَسْتَلِمُهُ الطَّائِفُونَ عِنْدَ طَوَافِهِمْ (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ بِالْيَدِ وَتَقْبِيلُهُ لِلطَّائِفِ لِمَنْ يَقْدِرُ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلاً سَأَل ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ فَقَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ (2) .» وَلِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: قَبَّل عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْحَجَرَ ثُمَّ قَال: أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ حَجَرٌ وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ (3) . وَرُوِيَ أَنَّ
__________
(1) المعجم الوسيط، وتاج العروس، وكشاف اصطلاحات الفنون مادة: (حجر) .
(2) حديث ابن عمر: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 475 - ط السلفية) .
(3) حديث عمر: " أم والله لقد علمت أنك حجر. . . " أخرجه مسلم 2 / 925 - ط الحلبي.(17/104)
أَصْحَابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَسْتَلِمُونَ الْحَجَرَ ثُمَّ يُقَبِّلُونَهُ، فَيُلْتَزَمُ فِعْلُهُمْ، لأَِنَّهُ مِمَّا لاَ يَكُونُ بِالرَّأْيِ (1) .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَفْتَحَ الاِسْتِلاَمُ بِالتَّكْبِيرِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ كَانَ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ (2) .
وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُرْفَعُ الأَْيْدِي فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا الْحَجَرَ (3) ،، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَلاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ (4) .
وَيُسْتَحَبُّ اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ فِي كُل طَوَافٍ، لأَِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَال: {
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 146 - ط دار الكتاب العربي، وجواهر الإكليل 1 / 178 - ط دار المعرفة. بيروت، وروضة الطالبين 3 / 85 - ط المكتب الإسلامي، والمغني 3 / 380 - ط الرياض.
(2) حديث ابن عباس: " طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير كلما. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 476 - ط السلفية) .
(3) حديث: " ترفع الأيدي في سبعة مواطن. . . " أخرجه البزار (كشف الأستار 1 / 251 - ط الرسالة) من حديث عبد الله بن عباس وابن عمر، وقال الهيثمي: " فيه ابن أبي ليلى، وهو سيء الحفظ " مجمع الزوائد (2 / 103 - ط المقدسي) .
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 166 - ط بولاق، ومواهب الجليل 3 / 108 - ط دار الفكر بيروت، والمجموع 8 / 29 - ط المكتبة السلفية، وتحفة المحتاج 4 / 85 - ط المكتبة الإسلامية، وكتاب الفروع 3 / 489 - ط عالم الكتب.(17/105)
كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَدَعُ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَالْحَجَرَ فِي كُل طَوْفَةٍ (1) قَال نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ. وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَقْبِيل الْحَجَرِ اسْتَلَمَهُ بِيَدِهِ وَقَبَّل يَدَهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الاِسْتِلاَمَ بِالْيَدِ يَكُونُ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الاِسْتِلاَمِ بِالْفَمِ.
لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَهُ وَقَبَّل يَدَهُ (2) وَفَعَلَهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبِعَهُمْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ الاِسْتِلاَمَ بِالْيَدِ كَالاِسْتِلاَمِ بِالْفَمِ. ثُمَّ إِنْ عَجَزَ عَنِ الاِسْتِلاَمِ يَمَسُّ الْحَجَرَ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ كَالْعَصَا مَثَلاً ثُمَّ يُقَبِّلُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْل، قَال: رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ وَيُقَبِّل الْمِحْجَنَ (3) . وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ بِيَدِهِ، أَوْ يَمَسَّهُ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُهُ مِنْ بُعْدٍ وَيُشِيرُ إِلَيْهِ بِبَاطِنِ كَفِّهِ كَأَنَّهُ
__________
(1) حديث: " كان لا يدع أن يستلم الركن اليماني. . . " أخرجه أبو داود (2 / 440 - 441 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (1 / 456 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) حديث ابن عمر: " أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الحجر وقبل يده. . . " أخرجه مسلم (2 / 924 - ط الحلبي) .
(3) حديث أبي الطفيل: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف. . . " أخرجه مسلم (2 / 927 - ط الحلبي) .(17/105)
وَاضِعُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ يُقَبِّلُهُ وَيُهَلِّل وَيُكَبِّرُ (1) ، لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَال: طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إِلَيْهِ وَكَبَّرَ (2) .
وَيُسَنُّ أَنْ يُقَبِّل الْحَجَرَ مِنْ غَيْرِ صَوْتٍ يَظْهَرُ لِلْقِبْلَةِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقْبَل الْحَجَرَ ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ يَبْكِي طَوِيلاً، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ يَبْكِي، فَقَال: يَا عُمَرُ هَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ (3) .
قَال الْحَطَّابُ: وَفِي الصَّوْتِ قَوْلاَنِ: قَال الشَّيْخُ زَرُّوقٌ فِي شَرْحِ الإِْرْشَادِ: وَفِي كَرَاهَةِ التَّصْوِيتِ بِالتَّقْبِيل قَوْلاَنِ: وَرَجَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْجَوَازَ، وَذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ الشَّيْخَ الْمُحِبَّ الطَّبَرِيِّ جَاءَهُ مُسْتَفْتٍ يَسْأَلُهُ عَنْ تَقْبِيل الْحَجَرِ أَبِصَوْتٍ أَوْ دُونَهُ؟ فَذَكَرَ لَهُ التَّقْبِيل مِنْ غَيْرِ تَصْوِيتٍ (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 166، وفتح القدير 2 / 148 - ط بولاق، وتبيين الحقائق 2 / 15، ومواهب الجليل 3 / 108، والدسوقي 2 / 40 - ط دار الفكر، ومغني المحتاج 1 / 487، والمجموع 8 / 29 - ط المكتبة السلفية، وكشاف القناع 2 / 478 - ط عالم الكتب، والمغني 3 / 380.
(2) حديث ابن عباس: " طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير. . . " تقدم تخريجه ف / 2.
(3) حديث: " يا عمر هاهنا تسكب العبرات. . . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 982 - ط الحلبي) ، وقال البوصيري: " في إسناده محمد بن عون الخراساني، ضعفه ابن معين وأبو حاتم وغيرهما ".
(4) فتح القدير 2 / 148، والتاج والإكليل على هامش مواهب الجليل 3 / 108، ومغني المحتاج 1 / 487 - ط مصطفى الحلبي، وكشاف القناع 2 / 487.(17/106)
وَلاَ يُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ وَلاَ تَقْبِيلُهُ إِلاَّ عِنْدَ خُلُوِّ الْمَطَافِ فِي اللَّيْل أَوْ غَيْرِهِ (1) .
الْبُدَاءَةُ فِي الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ:
3 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْبُدَاءَةُ فِي الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ لِيُحْسَبَ الشَّوْطُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَتَحَ الطَّوَافَ مِنْ يَمِينِ الْحَجَرِ لاَ مِنْ يَسَارِهِ (2) ، وَذَلِكَ تَعْلِيمٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَقَدْ قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ (3) فَتَجِبُ الْبُدَاءَةُ بِمَا بَدَأَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوِ افْتُتِحَ الطَّوَافُ مِنْ غَيْرِ الْحَجَرِ لَمْ يُعْتَدَّ بِذَلِكَ الشَّوْطِ إِلاَّ أَنْ يَصِيرَ إِلَى الْحَجَرِ فَيَبْتَدِئَ مِنْهُ الطَّوَافَ (4) .
__________
(1) شرح زروق على هامش الرسالة (رسالة ابن أبي زيد القيرواني) 1 / 352، ومغني المحتاج 1 / 487، وروضة الطالبين 3 / 85.
(2) حديث: " افتتح الطواف من يمين الحجر لا من يساره " أخرجه مسلم (2 / 893 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(3) حديث: " خذوا عني مناسككم " أخرجه مسلم (2 / 943 - ط الحلبي) والنسائي (5 / 270 - ط المكتبة التجارية) من حديث جابر بن عبد الله، واللفظ للنسائي.
(4) بدائع الصنائع 2 / 130، وشرح الزرقاني 2 / 262 - ط دار الفكر، وأسهل المدارك 1 / 461 - ط عيسى الحلبي، والمجموع 8 / 29، وروضة الطالبين 3 / 89، وكشاف القناع 2 / 478 - 491.(17/106)
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَمَالِكٍ أَنَّ الْبُدَاءَةَ فِي الطَّوَافِ مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ سُنَّةٌ، وَلَوْ بَدَأَ الطَّوَافَ مِنْ مَكَانٍ غَيْرِ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ بِدُونِ عُذْرٍ أَجْزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (1) } مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الاِبْتِدَاءِ بِالْحَجَرِ الأَْسْوَدِ (2) .
اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ وَتَقْبِيلُهُ فِي الزِّحَامِ:
4 - إِذَا كَانَ فِي الطَّوَافِ زِحَامٌ وَخَشِيَ الطَّائِفُ إِيذَاءَ النَّاسِ فَالأَْوْلَى أَنْ يَتْرُكَ تَقْبِيل الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ وَاسْتِلاَمَهُ، لأَِنَّ اسْتِلاَمَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ سُنَّةٌ وَتَرْكَ إِيذَاءِ النَّاسِ وَاجِبٌ فَلاَ يُهْمَل الْوَاجِبُ لأَِجْل السُّنَّةِ (3) ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُ: يَا عُمَرُ إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ لاَ تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ فَتُؤْذِيَ الضَّعِيفَ، إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلاَّ فَاسْتَقْبِلْهُ وَهَلِّل وَكَبِّرْ (4) .
__________
(1) سورة الحج / 29.
(2) بدائع الصنائع 2 / 130، وحاشية البناني على هامش شرح الزرقاني 2 / 262.
(3) ابن عابدين 2 / 166، وتبيين الحقائق 2 / 15، ومواهب الجليل 3 / 108، والدسوقي 2 / 40، ومغني المحتاج 1 / 487، والمجموع 8 / 29، وكشاف القناع 2 / 478، والمغني 3 / 380.
(4) حديث: " يا عمر، إنك رجل قوي. . . . " أخرجه أحمد (1 / 28 - ط الميمنية) وأورده الهيثمي في المجمع (3 / 241 - ط القدسي) وقال: " رواه أحمد، وفيه راو لم يسم ".(17/107)
السُّجُودُ عَلَى الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ:
5 - حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ بَعْدَ تَقْبِيل الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ السُّجُودُ عَلَيْهِ بِالْجَبْهَةِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا " أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّل الْحَجَرَ الأَْسْوَدَ وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ.
وَكَرِهَ مَالِكٌ السُّجُودَ وَتَمْرِيغَ الْوَجْهِ عَلَيْهِ، وَنَقَل الْكَاسَانِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَنَقَل ابْنُ الْهُمَامِ عَنْ قِوَامِ الدِّينِ الْكَاكِيِّ قَال: وَعِنْدَنَا الأَْوْلَى أَنْ لاَ يَسْجُدَ لِعَدَمِ الرِّوَايَةِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ (1) .
الدُّعَاءُ عِنْدَ اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ:
6 - ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُول الطَّائِفُ عِنْدَ اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ، أَوِ اسْتِقْبَالِهِ بِوَجْهِهِ إِذَا شَقَّ عَلَيْهِ اسْتِلاَمُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ وَكَبَّرَ ثُمَّ قَال: اللَّهُمَّ وَفَاءً بِعَهْدِكَ وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 146، وفتح القدير 2 / 148، والدسوقي 2 / 40، والحطاب 3 / 108، والأم 2 / 145 - ط بولاق، ونيل الأوطار 5 / 40 - 44 - ط العثمانية المصرية.
(2) حديث جابر: " اللهم وفاء بعهدك وتصديقا بكتابك " قال ابن حجر في التلخيص (2 / 247 - ط شركة الطباعة الفنية) " خرجه ابن عساكر من طريق ابن ناجية بسند له ضعيف ".(17/107)
وَزَادَ ابْنُ الْهُمَامِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ إِلَيْكَ بَسَطْتُ يَدَيَّ، وَفِيمَا عِنْدَكَ عَظُمَتْ رَغْبَتِي فَاقْبَل دَعْوَتِي وَأَقِلْنِي عَثْرَتِي، وَارْحَمْ تَضَرُّعِي، وَجُدْ لِي بِمَغْفِرَتِكَ، وَأَعِذْنِي مِنْ مُضِلاَّتِ الْفِتَنِ. وَذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ فِي الْبَدَائِعِ: وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَصْحَابِنَا فِيهِ دُعَاءٌ بِعَيْنِهِ، لأَِنَّ الدَّعَوَاتِ لاَ تُحْصَى (1) .
حِدَادٌ
انْظُرْ: إِحْدَاد.
__________
(1) فتح القدير 2 / 148، وبدائع الصنائع 2 / 146، وأسهل المدارك 1 / 460، ومواهب الجليل 3 / 112، وكتاب الكافي 1 / 366، والمجموع 8 / 29، وكشاف القناع 2 / 478.(17/108)
حَدَثٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَدَثُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْحُدُوثِ: وَهُوَ الْوُقُوعُ وَالتَّجَدُّدُ وَكَوْنُ الشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَمِنْهُ يُقَال: حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ إِذَا تَجَدَّدَ وَكَانَ مَعْدُومًا قَبْل ذَلِكَ. وَالْحَدَثُ اسْمٌ مِنْ أَحْدَثَ الإِْنْسَانُ إِحْدَاثًا: بِمَعْنَى الْحَالَةِ النَّاقِضَةِ لِلْوُضُوءِ. وَيَأْتِي بِمَعْنَى الأَْمْرِ الْحَادِثِ الْمُنْكَرِ الَّذِي لَيْسَ بِمُعْتَادٍ وَلاَ مَعْرُوفٍ، وَمِنْهُ مُحْدَثَاتُ الأُْمُورِ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ أُمُورٌ:
أ - الْوَصْفُ الشَّرْعِيُّ (أَوِ الْحُكْمِيُّ) الَّذِي يَحِل فِي الأَْعْضَاءِ وَيُزِيل الطَّهَارَةَ وَيَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا، وَهَذَا الْوَصْفُ يَكُونُ قَائِمًا بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَقَطْ فِي الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ، وَبِجَمِيعِ الْبَدَنِ فِي الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ، وَهُوَ الْغَالِبُ فِي إِطْلاَقِهِمْ. كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
وَقَدْ وَرَدَ هَذَا التَّعْرِيفُ فِي كُتُبِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ بِاخْتِلاَفٍ بَسِيطٍ فِي الْعِبَارَةِ (2) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير في المادة.
(2) ابن عابدين 1 / 57، 58، وحاشية الدسوقي 1 / 32، 114، وجواهر الإكليل 1 / 5، ونهاية المحتاج 1 / 51، 52، 95، والمنثور في القواعد 2 / 41، وكشاف القناع 1 / 28، 29.(17/108)
ب - الأَْسْبَابُ الَّتِي تُوجِبُ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْل، وَلِهَذَا نَجِدُ الْحَنَفِيَّةَ يُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ: خُرُوجُ النَّجَسِ مِنَ الآْدَمِيِّ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِمَا مُعْتَادًا كَانَ أَمْ غَيْرَ مُعْتَادٍ (1) .
وَالْمَالِكِيَّةُ يُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ الْخَارِجُ الْمُعْتَادُ مِنَ الْمُخْرَجِ الْمُعْتَادِ فِي حَال الصِّحَّةِ (2) ، وَالْحَنَابِلَةُ يُعَرِّفُونَهُ بِمَا أَوْجَبَ وُضُوءًا أَوْ غُسْلاً (3) ، كَمَا وَضَعَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بَابًا لِلأَْحْدَاثِ ذَكَرُوا فِيهَا أَسْبَابَ نَقْضِ الْوُضُوءِ (4) .
ج - وَيُطْلَقُ الْحَدَثُ عَلَى الْمَنْعِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ (5)
د - وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ إِطْلاَقَهُ عَلَى خُرُوجِ الْمَاءِ فِي الْمُعْتَادِ كَمَا قَال الدُّسُوقِيُّ (6) .
وَالْمُرَادُ هُنَا مِنْ هَذِهِ الإِْطْلاَقَاتِ هُوَ الأَْوَّل، أَمَّا الْمَنْعُ فَإِنَّهُ حُكْمُ الْحَدَثِ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ وَلَيْسَ نَفْسَ
__________
(1) البدائع 1 / 24.
(2) الدسوقي 1 / 32، 114.
(3) كشاف القناع 1 / 28.
(4) ابن عابدين 1 / 58، ومغني المحتاج 1 / 17، والمنثور 2 / 41.
(5) مغني المحتاج 1 / 17، وأسنى المطالب شرح روض الطالب 1 / 33، 34، ابن عابدين 1 / 58، والحطاب 1 / 44.
(6) الدسوقي 1 / 38.(17/109)
الْحَدَثِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الطَّهَارَةُ:
2 - الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ النَّزَاهَةُ وَالنَّظَافَةُ وَالْخُلُوصُ مِنَ الأَْدْنَاسِ حِسِّيَّةً كَانَتْ كَالأَْنْجَاسِ، أَمْ مَعْنَوِيَّةً كَالْعُيُوبِ مِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَنَحْوِهِمَا.
وَفِي الشَّرْعِ رَفْعُ مَا يَمْنَعُ الصَّلاَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَجَاسَةٍ بِالْمَاءِ أَوْ رَفْعُ حُكْمِهِ بِالتُّرَابِ.
فَالطَّهَارَةُ ضِدُّ الْحَدَثِ (ر: طَهَارَةٌ) .
ب - الْخَبَثُ:
3 - الْخَبَثُ بِفَتْحَتَيْنِ النَّجَسُ، وَإِذَا ذُكِرَ مَعَ الْحَدَثِ يُرَادُ مِنْهُ النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ أَيِ الْعَيْنُ الْمُسْتَقْذِرَةُ شَرْعًا، وَمِنْ هُنَا عَرَّفُوا الطَّهَارَةَ بِأَنَّهَا النَّظَافَةُ مِنْ حَدَثٍ أَوْ خَبَثٍ.
وَالْخُبْثُ بِسُكُونِ الْبَاءِ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ خَبُثَ الشَّيْءُ خُبْثًا ضِدُّ طَابَ، يُقَال: شَيْءٌ خَبِيثٌ أَيْ نَجِسٌ أَوْ كَرِيهُ الطَّعْمِ، وَالْخُبْثُ كَذَلِكَ الشَّرُّ
__________
(1) نفس المراجع، الحطاب 1 / 44.(17/109)
وَالْوَصْفُ مِنْهُ الْخُبْثُ وَجَمْعُهُ الْخُبُثُ (1) ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ (2) أَيْ ذُكْرَانِ الشَّيَاطِينِ وَإِنَاثِهِمْ، وَاسْتُعْمِل فِي كُل حَرَامٍ
ج - النَّجَسُ:
4 - النَّجَسُ بِفَتْحَتَيْنِ مَصْدَرُ نَجُسَ الشَّيْءُ نَجَسًا، ثُمَّ اسْتُعْمِل اسْمًا لِكُل مُسْتَقْذَرٍ، وَالنَّجِسُ بِكَسْرِ الْجِيمِ ضِدُّ الطَّاهِرِ، وَالنَّجَاسَةُ ضِدُّ الطَّهَارَةِ، فَالنَّجَسُ لُغَةً يَعُمُّ الْحَقِيقِيَّ وَالْحُكْمِيَّ، وَعُرْفًا يَخْتَصُّ بِالأَْوَّل كَالْخُبْثِ. وَإِذَا أَحْدَثَ الإِْنْسَانُ وَنُقِضَ وُضُوءُهُ يُقَال لَهُ: مُحْدِثٌ، وَلاَ يُقَال لَهُ نَجِسٌ فِي عُرْفِ الشَّارِعِ. أَمَّا الْخُبْثُ فَيَخُصُّ النَّجَاسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ كَمَا أَنَّ الْحَدَثَ يَخُصُّ الْحُكْمِيَّةَ، وَالطَّهَارَةُ ارْتِفَاعُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا (3) .
أَقْسَامُ الْحَدَثِ:
5 - سَبَقَ فِي تَعْرِيفِ الْحَدَثِ أَنَّهُ بِالإِْطْلاَقِ الأَْوَّل
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير في المادة، وابن عابدين 1 / 57، والحطاب 1 / 45، وجواهر الإكليل 1 / 5، والمغني 1 / 168.
(2) كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: " اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 242 - ط السلفية) ومسلم (1 / 283 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(3) ابن عابدين 1 / 205، والمصباح المنير، ومغني المحتاج 1 / 17، والحطاب 1 / 45، وكشاف القناع 1 / 28.(17/110)
وَصْفٌ يَحِل بِالأَْعْضَاءِ وَيَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا. فَهَذَا الْوَصْفُ إِنْ كَانَ قَائِمًا فِي جَمِيعِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ وَأَوْجَبَ غُسْلاً يُسَمَّى حَدَثًا أَكْبَرَ، وَإِذَا كَانَ قَائِمًا بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَقَطْ وَأَوْجَبَ غَسْل تِلْكَ الأَْعْضَاءِ فَقَطْ يُسَمَّى حَدَثًا أَصْغَرَ (1) .
وَالْحَدَثُ بِالإِْطْلاَقِ الثَّانِي أَيِ الأَْسْبَابُ الَّتِي تُوجِبُ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْل كَذَلِكَ نَوْعَانِ: حَدَثٌ حَقِيقِيٌّ، وَحَدَثٌ حُكْمِيٌّ.
وَالْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ: فَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوجَدَ أَمْرٌ يَكُونُ سَبَبًا لِخُرُوجِ النَّجَسِ الْحَقِيقِيِّ غَالِبًا فَيُقَامُ السَّبَبُ مَكَانَ الْمُسَبَّبِ احْتِيَاطًا، وَالثَّانِي: أَنْ لاَ يُوجَدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَكِنَّهُ جُعِل حَدَثًا شَرْعًا تَعَبُّدًا مَحْضًا. وَهَذَا التَّقْسِيمُ صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَتَدُل عَلَيْهِ تَعْلِيلاَتُ غَيْرِهِمْ.
أَسْبَابُ الْحَدَثِ:
أَوَّلاً - خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ:
6 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ النَّجَسِ مِنَ الآْدَمِيِّ الْحَيِّ مِنَ السَّبِيلَيْنِ (الدُّبُرِ وَالذَّكَرِ أَوْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ) مُعْتَادًا كَانَ كَالْبَوْل وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، أَمْ غَيْرَ مُعْتَادٍ كَدَمِ الاِسْتِحَاضَةِ (2) . أَوْ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ
__________
(1) نهاية المحتاج 1 / 52، وكشاف القناع 1 / 28، 134.
(2) البدائع للكاساني 1 / 24، والاختيار 1 / 9، 10.(17/110)
كَالْجُرْحِ وَالْقُرْحِ وَالأَْنْفِ وَالْفَمِ سَوَاءٌ كَانَ الْخَارِجُ دَمًا أَوْ قَيْحًا أَوْ قَيْئًا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِالْخَارِجِ الْمُعْتَادِ مِنَ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ، لاَ حَصًى وَدُودٍ وَلَوْ بِبِلَّةٍ، وَهَذَا يَشْمَل الْبَوْل وَالْغَائِطَ وَالْمَذْيَ وَالْمَنِيَّ وَالْوَدْيَ وَالرِّيحَ، سَوَاءٌ أَكَانَ خُرُوجُهُ فِي حَال الصِّحَّةِ بِاخْتِيَارٍ، أَمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، كَسَلَسٍ فَارَقَ أَكْثَرَ الزَّمَنِ، أَيِ ارْتَفَعَ عَنِ الشَّخْصِ، زَمَانًا يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ. فَإِنْ لاَزَمَهُ كُل الزَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَهُ أَوْ نِصْفَهُ فَلاَ نَقْضَ، وَيَشْمَل الْحَدَثُ عِنْدَهُمُ الْخَارِجَ مِنْ ثُقْبَةٍ تَحْتَ الْمَعِدَةِ إِنِ انْسَدَّ السَّبِيلاَنِ (1) .
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْخَارِجُ غَيْرُ الْمُعْتَادِ، وَالدُّودُ، وَالْحَصَى، وَالدَّمُ، وَالْقَيْحُ، وَالْقَيْءُ وَنَحْوُهَا لاَ يُعْتَبَرُ حَدَثًا وَلَوْ كَانَ مِنَ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ قُبُلِهِ أَوْ دُبُرِهِ عَيْنًا كَانَ أَوْ رِيحًا، طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا، جَافًّا أَوْ رَطْبًا، مُعْتَادًا كَبَوْلٍ أَوْ نَادِرًا كَدَمٍ، قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا، طَوْعًا أَوْ كَرْهًا. إِلاَّ الْمَنِيَّ فَلَيْسَ خُرُوجُهُ نَاقِضًا قَالُوا: لأَِنَّهُ أَوْجَبَ أَعْظَم الأَْمْرَيْنِ وَهُوَ الْغُسْل فَلاَ يُوجِبُ أَدْوَنَهُمَا وَهُوَ الْوُضُوءُ بِعُمُومِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا انْسَدَّ مَخْرَجُهُ وَانْفَتَحَ تَحْتَ مَعِدَتِهِ فَخَرَجَ الْمُعْتَادُ (3) .
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 19، 20، والحطاب 1 / 290 - 293.
(2) نفس المراجع.
(3) مغني المحتاج 1 / 32، 33.(17/111)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: النَّاقِضُ لِلْوُضُوءِ هُوَ الْخَارِجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيرًا، نَادِرًا كَانَ كَالدُّودِ وَالدَّمِ وَالْحَصَى، أَوْ مُعْتَادًا كَالْبَوْل وَالْغَائِطِ وَالْوَدْيِ وَالْمَذْيِ وَالرِّيحِ، طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا، وَكَذَلِكَ خُرُوجُ النَّجَاسَاتِ مِنْ بَقِيَّةِ الْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَتْ غَائِطًا أَوْ بَوْلاً نَقَضَ وَلَوْ قَلِيلاً مِنْ تَحْتِ الْمَعِدَةِ أَوْ فَوْقِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ السَّبِيلاَنِ مَفْتُوحَيْنِ أَمْ مَسْدُودَيْنِ. وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَاتُ الْخَارِجَةُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ غَيْرَ الْغَائِطِ وَالْبَوْل كَالْقَيْءِ وَالدَّمِ وَالْقَيْحِ، وَدُونَ الْجِرَاحِ لَمْ يَنْقُضْ إِلاَّ كَثِيرُهَا (1) .
وَمِمَّا سَبَقَ يَظْهَرُ أَنَّ أَسْبَابَ الْحَدَثِ الْحَقِيقِيِّ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ:
أَسْبَابُ الْحَدَثِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ الْمُعْتَادَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ كَالْبَوْل وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَالرِّيحِ، وَأَيْضًا دَمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ يُعْتَبَرُ حَدَثًا حَقِيقِيًّا قَلِيلاً كَانَ الْخَارِجُ أَوْ كَثِيرًا (2) ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 122، 124.
(2) البدائع 1 / 24، وابن عابدين 1 / 90، 91، وجواهر الإكليل 1 / 19، 20، ومغني المحتاج 1 / 32، 33، والمغني 1 / 168، 169، وكشاف القناع 1 / 22 - 124.(17/111)
الْغَائِطِ} فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْحَدَثِ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ وَنَحْوِهِمَا. وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَل عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لاَ، فَلاَ يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا (1) .
وَهَذِهِ الأَْسْبَابُ بَعْضُهَا حَدَثٌ أَكْبَرُ فَيُوجِبُ الْغُسْل كَخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَبَعْضُهَا حَدَثٌ أَصْغَرُ يُوجِبُ الْوُضُوءَ فَقَطْ كَالْبَوْل وَالْغَائِطِ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَالرِّيحِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
الأَْسْبَابُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا:
أ - مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ نَادِرًا:
8 - مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ نَادِرًا كَالدُّودِ وَالْحَصَى وَالشَّعْرِ وَقِطْعَةِ اللَّحْمِ وَنَحْوِهَا تُعْتَبَرُ أَحْدَاثًا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَبِهِ قَال الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ، لأَِنَّهَا خَارِجَةٌ مِنَ السَّبِيلَيْنِ فَأَشْبَهَتِ الْمَذْيَ، وَلأَِنَّهَا لاَ تَخْلُو عَنْ بِلَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِهَا (2) ، وَقَدْ أَمَرَ
__________
(1) حديث: " إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا. . . " أخرجه مسلم (1 / 276 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) المراجع السابقة، والدسوقي 1 / 115.(17/112)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَحَاضَةَ بِالْوُضُوءِ لِكُل صَلاَةٍ، وَدَمُهَا خَارِجٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ (1) . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْخَارِجَ غَيْرَ الْمُعْتَادِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ كَحَصًى تَوَلَّدَ بِالْبَطْنِ وَدُودٍ لاَ يُعْتَبَرُ حَدَثًا وَلَوْ بِبِلَّةٍ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ غَيْرِ مُتَفَاحِشٍ بِحَيْثُ يُنْسَبُ الْخُرُوجُ لِلْحَصَى وَالدُّودِ لاَ لِلْبَوْل وَالْغَائِطِ. وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لاَ وُضُوءَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ تَخْرُجَ الدُّودَةُ وَالْحَصَى غَيْرَ نَقِيَّةٍ (2) .
9 - وَاخْتَلَفُوا فِي الرِّيحِ الْخَارِجَةِ مِنَ الذَّكَرِ أَوْ قُبُل الْمَرْأَةِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ تُعْتَبَرُ حَدَثًا، وَلاَ يُنْتَقَضُ بِهَا الْوُضُوءُ، لأَِنَّهَا اخْتِلاَجٌ وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ رِيحًا مُنْبَعِثَةً عَنْ مَحَل النَّجَاسَةِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُفْضَاةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْمُفْضَاةِ فَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُنْدَبُ لَهَا الْوُضُوءُ، وَقِيل: يَجِبُ، وَقِيل: لَوْ مُنْتِنَةً، لأَِنَّ نَتَنَهَا دَلِيل خُرُوجِهَا مِنَ الدُّبُرِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْخَارِجَةَ مِنَ الذَّكَرِ أَوْ قُبُل الْمَرْأَةِ
__________
(1) حديث: " أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 332 - ط السلفية) من حديث عائشة.
(2) جواهر الإكليل 1 / 19، 20، والدسوقي 1 / 115.
(3) ابن عابدين 1 / 92، والبدائع 1 / 25، وجواهر الإكليل 1 / 19، 20، والمغني 1 / 169.(17/112)
حَدَثٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ (1) ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ وُضُوءَ إِلاَّ مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ (2) .
ب - مَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ:
10 - الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا لاَ يُعْتَبَرُ حَدَثًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ نَجِسًا، فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ مِنَ النَّجَاسَةِ حَدَثٌ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ سَائِلاً جَاوَزَ إِلَى مَحَلٍّ يُطْلَبُ تَطْهِيرُهُ وَلَوْ نَدْبًا، كَدَمٍ وَقَيْحٍ وَصَدِيدٍ عَنْ رَأْسِ جُرْحٍ، وَكَقَيْءٍ مَلأََ الْفَمَ مِنْ مُرَّةٍ أَوْ عَلَقٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ مَاءٍ، لاَ بَلْغَمٍ، وَإِنْ قَاءَ دَمًا أَوْ قَيْحًا نَقَضَ وَإِنْ لَمْ يَمْلأَِ الْفَمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلاَفًا لِمُحَمَّدٍ، وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا إِلاَّ الْغَائِطَ وَالْبَوْل فَلاَ تُشْتَرَطُ فِيهِمَا الْكَثْرَةُ عِنْدَهُمْ.
وَالْقَوْل بِأَنَّ النَّجِسَ الْخَارِجَ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ حَدَثٌ هُوَ قَوْل كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
مِنْهُمُ: ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 32، والمغني 1 / 169.
(2) حديث: " لا وضوء إلا من صوت أو ريح " أخرجه الترمذي (1 / 109 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، ونقل ابن حجر في التلخيص (1 / 117 - ط شركة الطباعة الفنية) عن البيهقي أنه قال: هذا حديث ثابت قد اتفق الشيخان على إخراج معناه من حديث عبد الله بن زيد.(17/113)
وَابْنُ عُمَرَ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ (1) .
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الأَْحَادِيثِ، مِنْهَا: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْوُضُوءُ مِنْ كُل دَمٍ سَائِلٍ (2) وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لْيَبْنِ عَلَى صَلاَتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لاَ يَتَكَلَّمُ (3) وَلأَِنَّ الدَّمَ وَنَحْوَهُ نَجَاسَةٌ خَارِجَةٌ مِنَ الْبَدَنِ فَأَشْبَهَ الْخَارِجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ (4) .
وَوَجْهُ مَا اشْتَرَطَهُ الْحَنَابِلَةُ مِنَ الْكَثْرَةِ فِي غَيْرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْل أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَال فِي الدَّمِ: إِذَا كَانَ فَاحِشًا فَعَلَيْهِ الإِْعَادَةُ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ دَمٌ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ (5) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 93، 94، الاختيار 1 / 10، ومراقي الفلاح 1 / 46، 49، وكشاف القناع 1 / 124، والمغني لابن قدامة 1 / 185.
(2) حديث: " الوضوء من كل دم سائل " أخرجه الدارقطني (1 / 157 - ط دار المحاسن) من حديث تميم الداري وأعله الدارقطني بانقطاع في سنده، وبجهالة راويين فيه.
(3) حديث: " من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي، فلينصرف، فليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم ". أخرجه ابن ماجه (1 / 385 - 386 - ط الحلبي) من حديث عائشة، وقال البوصيري: " في إسناده إسماعيل بن عياش، وقد روى عن الحجازيين وروايته عنهم ضعيفة ".
(4) البدائع 1 / 24، 25، والاختيار 1 / 9 - 11، والمغني 1 / 185 وما بعدها.
(5) المغني 1 / 185.(17/113)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْل رَبِيعَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ: الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لاَ يُعْتَبَرُ حَدَثًا، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدُ عَنْ جَابِرٍ قَال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ - فَأَصَابَ رَجُلٌ امْرَأَةَ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحَلَفَ أَنْ لاَ أَنْتَهِيَ حَتَّى أُهْرِيقَ دَمًا فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، فَخَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلاً، فَقَال: مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا (1) ؟ فَانْتَدَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الأَْنْصَارِ، فَقَال: كُونَا بِفَمِ الشِّعْبِ قَال: فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلاَنِ إِلَى فَمِ الشِّعْبِ اضْطَجَعَ الْمُهَاجِرِيُّ وَقَامَ الأَْنْصَارِيُّ يُصَلِّي، وَأَتَى الرَّجُل، فَلَمَّا رَأَى شَخْصَهُ عَرَفَ أَنَّهُ رَبِيئَةٌ (2) لِلْقَوْمِ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَنَزَعَهُ حَتَّى رَمَاهُ بِثَلاَثَةِ أَسْهُمٍ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمَّ انْتَبَهَ صَاحِبُهُ، فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُمْ قَدْ نَذِرُوا (3) بِهِ هَرَبَ، وَلَمَّا رَأَى الْمُهَاجِرِيُّ مَا بِالأَْنْصَارِيِّ مِنَ الدَّمِ: قَال: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَلاَ أَنْبَهْتنِي أَوَّل مَا رَمَى؟ قَال: كُنْتُ فِي سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا (4) .
__________
(1) يكلؤنا أي يحرسنا.
(2) ربيئة القوم هو الرقيب الذي يشرف على المرقب ينظر العدو من أي جهة يأتي فينذر أصحابه.
(3) أي شعروا وعلوا بمكانه.
(4) حديث جابر: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه أبو داود (1 / 136 - 137 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وصححه ابن حبان (2 / 212 - ط دار الكتب العلمية) .(17/114)
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: قَاءَ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ (1) .
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مَا خَرَجَ مِنْ ثُقْبَةٍ تَحْتَ الْمَعِدَةِ إِنِ انْسَدَّ مَخْرَجُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَنْسَدَّ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَيُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ (2) .
ثَانِيًا - الْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ:
11 - الْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ هُوَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِخُرُوجِ الْحَدَثِ الْحَقِيقِيِّ غَالِبًا فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ احْتِيَاطًا. فَيَأْخُذُ حُكْمَ الْحَدَثِ الْحَقِيقِيِّ شَرْعًا، وَيَدْخُل فِي هَذَا النَّوْعِ:
- زَوَال الْعَقْل أَوِ التَّمْيِيزُ وَذَلِكَ بِالنَّوْمِ أَوِ السُّكْرِ أَوِ الإِْغْمَاءِ أَوِ الْجُنُونِ أَوْ نَحْوِهَا. وَهَذِهِ الأَْسْبَابُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي الْجُمْلَةِ (3) . وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ لِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِالنَّوْمِ بِحَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ لاَ نَنْزِعَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ إِلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ، لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ (4) .
__________
(1) حديث: " قاء فلم يتوضأ. . . . " قال العيني: " هذا الحديث غريب لا ذكر له في كتب الحديث " البناية في شرح الهداية (1 / 198 - ط دار الفكر) .
(2) مغني المحتاج 1 / 32 - 33، والحطاب 1 / 293.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 95، 96، وجواهر الإكليل 1 / 20، ومغني المحتاج 1 / 33، 34، وكشاف القناع 1 / 125.
(4) حديث صفوان بن عسال: " كان يأمرنا إذا كنا سفراء " أخرجه الترمذي (1 / 159 - ط الحلبي) ثم نقل عن البخاري أنه حسنه.(17/114)
وَبِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ (1) .
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ النَّوْمِ النَّاقِضِ لِلْوُضُوءِ:
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: النَّوْمُ النَّاقِضُ هُوَ مَا كَانَ مُضْطَجِعًا أَوْ مُتَّكِئًا أَوْ مُسْتَنِدًا إِلَى شَيْءٍ لَوْ أُزِيل مِنْهُ لَسَقَطَ، لأَِنَّ الاِضْطِجَاعَ سَبَبٌ لاِسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِل فَلاَ يَعْرَى عَنْ خُرُوجِ شَيْءٍ عَادَةً، وَالثَّابِتُ عَادَةً كَالْمُتَيَقَّنِ. وَالاِتِّكَاءُ يُزِيل مُسْكَةَ الْيَقِظَةِ، لِزَوَال الْمَقْعَدَةِ عَنِ الأَْرْضِ. بِخِلاَفِ النَّوْمِ حَالَةَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا، لأَِنَّ بَعْضَ الاِسْتِمْسَاكِ بَاقٍ، إِذْ لَوْ زَال لَسَقَطَ، فَلَمْ يَتِمَّ الاِسْتِرْخَاءُ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّاقِضَ هُوَ النَّوْمُ الثَّقِيل بِأَنْ لَمْ يَشْعُرْ بِالصَّوْتِ الْمُرْتَفِعِ، بِقُرْبِهِ، أَوْ بِسُقُوطِ شَيْءٍ مِنْ يَدِهِ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ، طَال النَّوْمُ أَوْ قَصُرَ. وَلاَ يُنْقَضُ بِالْخَفِيفِ وَلَوْ طَال، وَيُنْدَبُ الْوُضُوءُ إِنْ طَال النَّوْمُ الْخَفِيفُ (3) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الصَّحِيحُ مِنْهَا
__________
(1) حديث: " العين وكاء السه، فمن نام فليتوضأ " أخرجه ابن ماجه (1 / 161 - ط الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب، وحسنه النووي في المجموع (2 / 13 - ط المنيرية) .
(2) فتح القدير مع الهداية 1 / 42، 43.
(3) جواهر الإكليل 1 / 20، والذخيرة 1 / 224، والمنتقى 1 / 49، والدسوقي 1 / 118، 119.(17/115)
أَنَّ مَنْ نَامَ مُمَكِّنًا مَقْعَدَتَهُ مِنَ الأَْرْضِ أَوْ نَحْوِهَا لَمْ يُنْقَضْ وُضُوءُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمَكِّنًا يُنْتَقَضُ عَلَى أَيَّةِ هَيْئَةٍ كَانَ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا لِحَدِيثِ أَنَسٍ قَال: كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ فَيَنَامُونَ، أَحْسَبُهُ قَال: قُعُودًا حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلاَ يَتَوَضَّئُونَ (1) . وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَيْسَ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا وُضُوءٌ حَتَّى يَضَعَ جَنْبَهُ إِلَى الأَْرْضِ (2) وَيُنْدَبُ الْوُضُوءُ عِنْدَهُمْ إِلاَّ مَعَ التَّمْكِينِ خُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ (3) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَسَمُوا النَّوْمَ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
الأَْوَّل: نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ فَيُنْقَضُ بِهِ الْوُضُوءُ قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيرًا أَخْذًا لِعُمُومِ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ. الثَّانِي: نَوْمُ الْقَاعِدِ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا نُقِضَ بِنَاءً عَلَى الْحَدِيثَيْنِ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يُنْقَضْ لِحَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ. الثَّالِثُ:
__________
(1) حديث: " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء فينامون - أحسبه قال: قعودا - حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون " أخرجه الشافعي في مسنده (1 / 34 - ترتيب السندي - ط مطبعة السعادة) ، وأصله في صحيح مسلم (1 / 248 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " ليس على من نام قائما أو قاعدا وضوء حتى يضع جنبه إلى الأرض ". أخرجه ابن عدي في الكامل (6 / 2459 - ط دار الفكر) في ترجمة مهدي بن هلال، وقال ابن حجر في التلخيص (1 / 120 - ط شركة الطباعة الفنية) " وهو متهم بوضع الحديث ".
(3) مغني المحتاج 1 / 34، وقليوبي 1 / 32، والمجموع 2 / 12، 13.(17/115)
مَا عَدَا هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَهُوَ نَوْمُ الْقَائِمِ وَالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْحَالاَتِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يُنْقَضُ مُطْلَقًا لِلْعُمُومِ فِي الْحَدِيثَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ: لاَ يُنْقَضُ، إِلاَّ إِذَا كَثُرَ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْجُدُ وَيَنَامُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي فَقُلْتُ لَهُ: صَلَّيْتَ وَلَمْ تَتَوَضَّأْ، وَقَدْ نِمْتَ، فَقَال إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا فَإِنَّهُ إِذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ (1) .
وَالْعِبْرَةُ فِي تَحْدِيدِ الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمُ الْعُرْفُ (2) .
أَمَّا السُّكْرُ وَالْجُنُونُ وَالإِْغْمَاءُ فَدَلِيل نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهَا أَنَّهَا أَبْلَغُ فِي إِزَالَةِ الْمُسْكَةِ مِنَ النَّوْمِ، لأَِنَّ النَّائِمَ يَسْتَيْقِظُ بِالاِنْتِبَاهِ، بِخِلاَفِ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.
وَلِتَعْرِيفِ هَذِهِ الأُْمُورِ وَمَعْرِفَةِ حُكْمِهَا وَأَثَرِهَا عَلَى الْوُضُوءِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحَاتِهَا.
الْمُبَاشَرَةُ الْفَاحِشَةُ دُونَ الْجِمَاعِ:
12 - وَتَفْسِيرُهَا، كَمَا قَال الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يُبَاشِرَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ بِشَهْوَةٍ وَيَنْتَشِرَ لَهَا وَلَيْسَ
__________
(1) حديث: " إنما الوضوء على من نام. . . . " أخرجه أبو داود (1 / 139 تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (1 / 111 ط مصطفى الحلبي) من حديث ابن عباس. وضعف أبو داود والترمذي الحديث وتبعهم أحمد شاكر على ذلك في تحقيقه للترمذي.
(2) المغني لابن قدامة 1 / 173 - 175.(17/116)
بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ وَلَمْ يَرَ بَلَلاً (1) .
وَقَال فِي الدُّرِّ: أَنْ تَكُونَ بِتَمَاسِّ الْفَرْجَيْنِ وَلَوْ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ أَوِ الرَّجُلَيْنِ مَعَ الاِنْتِشَارِ وَلَوْ بِلاَ بَلَلٍ (2) . فَهَذِهِ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - إِلاَّ مُحَمَّدًا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ قَال: بَيْنَمَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، وَنَحْنُ قُعُودٌ مَعَهُ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَعَادَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَسَكَتَ عَنْهُ. وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ. فَلَمَّا انْصَرَفَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال أَبُو أُمَامَةَ: فَاتَّبَعَ الرَّجُل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْصَرَفَ وَاتَّبَعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْظُرُ مَا يَرُدُّ عَلَى الرَّجُل فَلَحِقَ الرَّجُل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ: إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ. قَال أَبُو أُمَامَةَ: فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ حِينَ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ أَلَيْسَ قَدْ تَوَضَّأْتَ فَأَحْسَنْتَ الْوُضُوءَ؟ قَال: بَلَى يَا رَسُول اللَّهِ. قَال: ثُمَّ شَهِدْتَ الصَّلاَةَ مَعَنَا فَقَال: نَعَمْ يَا رَسُول اللَّهِ. قَال: فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ، أَوْ قَال ذَنْبَكَ (3) .
__________
(1) البدائع للكاساني 1 / 30.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 99.
(3) حديث أبي أمامة قال: " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ونحن قعود معه. . . " أخرجه مسلم (4 / 2117 - 2118 - ط الحلبي) .(17/116)
وَلأَِنَّ الْمُبَاشَرَةَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا لاَ تَخْلُو عَنْ خُرُوجِ الْمَذْيِ عَادَةً إِلاَّ أَنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ جَفَّ بِحَرَارَةِ الْبَدَنِ فَلَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ أَوْ غَفَل عَنْ نَفْسِهِ لِغَلَبَةِ الشَّبَقِ فَكَانَتْ سَبَبًا مُفْضِيًا إِلَى الْخُرُوجِ، وَهُوَ الْمُتَحَقِّقُ فِي مَقَامِ وُجُوبِ الاِحْتِيَاطِ (1) .
الْتِقَاءُ بَشَرَتَيْ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ:
13 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ لَمْسَ بَشَرَتَيِ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ حَدَثٌ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ تَخْتَلِفُ عِبَارَاتُهُمْ فِي الشُّرُوطِ وَالتَّفْصِيل.
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الَّذِي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ هُوَ اللَّمْسُ بِعُضْوٍ أَصْلِيٍّ أَوْ زَائِدٍ يَلْتَذُّ صَاحِبُهُ بِهِ عَادَةً، وَلَوْ لِظُفْرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ سِنٍّ، وَلَوْ بِحَائِلٍ خَفِيفٍ يُحِسُّ اللاَّمِسُ فَوْقَهُ بِطَرَاوَةِ الْجَسَدِ، إِنْ قَصَدَ اللَّذَّةَ أَوْ وَجَدَهَا بِدُونِ الْقَصْدِ، قَالُوا: وَمِمَّنْ يُلْتَذُّ بِهِ عَادَةً الأَْمْرَدُ وَاَلَّذِي لَمْ تَتِمَّ لِحْيَتُهُ، فَلاَ نَقْضَ بِلَمْسِ جَسَدِ أَوْ فَرْجِ صَغِيرَةٍ لاَ تُشْتَهَى عَادَةً، وَلَوْ قَصَدَ. اللَّذَّةَ أَوْ وَجَدَهَا، كَمَا لاَ تُنْقَضُ بِلَمْسِ مَحْرَمٍ بِغَيْرِ لَذَّةٍ، أَمَّا الْقُبْلَةُ بِفَمٍ فَنَاقِضَةٌ وَلاَ تُشْتَرَطُ فِيهَا اللَّذَّةُ وَلاَ وُجُودُهَا (2) .
__________
(1) البدائع 1 / 30، وابن عابدين 1 / 99، والبناية على الهداية 1 / 201، وجواهر الإكليل 1 / 20، ومغني المحتاج 1 / 34، وكشاف القناع 1 / 128، 129.
(2) جواهر الإكليل 1 / 20، وحاشية الدسوقي 1 / 115، وما بعدها.(17/117)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ لَمْسُ بَشَرَتَيِ الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى اللَّذَيْنِ بَلَغَا حَدًّا يُشْتَهَى، وَلَوْ لَمْ يَكُونَا بَالِغَيْنِ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِشَهْوَةٍ أَوْ إِكْرَاهٍ أَوْ نِسْيَانٍ، أَوْ يَكُونَ الذَّكَرُ مَمْسُوحًا أَوْ خَصِيًّا أَوْ عِنِّينًا، أَوِ الْمَرْأَةُ عَجُوزًا شَوْهَاءَ، أَوِ الْعُضْوُ زَائِدًا أَوْ أَصْلِيًّا سَلِيمًا أَوْ أَشَل أَوْ أَحَدُهُمَا مَيِّتًا. وَالْمُرَادُ بِالْبَشَرَةِ ظَاهِرُ الْجِلْدِ. وَفِي مَعْنَاهَا اللَّحْمُ، كَلَحْمِ الأَْسْنَانِ وَاللِّسَانِ وَاللِّثَةِ وَبَاطِنِ الْعَيْنِ، فَخَرَجَ مَا إِذَا كَانَ عَلَى الْبَشَرَةِ حَائِلٌ وَلَوْ رَقِيقًا. وَالْمَلْمُوسُ فِي كُل هَذَا كَاللاَّمِسِ فِي نَقْضِ وُضُوئِهِ فِي الأَْظْهَرِ.
وَلاَ يُنْقَضُ بِلَمْسِ الْمَحْرَمِ فِي الأَْظْهَرِ، وَلاَ صَغِيرَةٍ، وَشَعْرٍ، وَسِنٍّ، وَظُفْرٍ فِي الأَْصَحِّ، كَمَا لاَ يُنْقَضُ بِلَمْسِ الرَّجُل الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَالْخُنْثَى مَعَ الْخُنْثَى أَوْ مَعَ الرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةِ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ، لاِنْتِفَاءِ مَظِنَّتِهَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَسُّ بَشَرَةِ الذَّكَرِ بَشَرَةَ أُنْثَى أَوْ عَكْسُهُ لِشَهْوَةٍ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ غَيْرِ طِفْلَةٍ وَطِفْلٍ وَلَوْ كَانَ اللَّمْسُ بِزَائِدٍ أَوْ لِزَائِدٍ أَوْ شَلَلٍ، وَلَوْ كَانَ الْمَلْمُوسُ مَيِّتًا أَوْ عَجُوزًا أَوْ مَحْرَمًا أَوْ صَغِيرَةً تُشْتَهَى، وَلاَ يُنْقَضُ وُضُوءُ الْمَلْمُوسِ بَدَنُهُ وَلَوْ وُجِدَ مِنْهُ شَهْوَةٌ، وَلاَ بِلَمْسِ شَعْرٍ وَظُفْرٍ وَسِنٍّ وَعُضْوٍ مَقْطُوعٍ وَأَمْرَدَ مَسَّهُ رَجُلٌ وَلاَ مَسِّ خُنْثَى
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 34، 35، وحاشية القليوبي 1 / 32، 33.(17/117)
مُشْكِلٍ، وَلاَ بِمَسِّهِ رَجُلاً أَوِ امْرَأَةً، وَلاَ بِمَسِّ الرَّجُل رَجُلاً، وَلاَ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ فِيهِمْ (1) .
هَذَا، وَيَسْتَدِل الْجُمْهُورُ فِي اعْتِبَارِهِمُ اللَّمْسَ مِنَ الأَْحْدَاثِ بِمَا وَرَدَ فِي الآْيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى. {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمِ النِّسَاءَ (2) } أَيْ لَمَسْتُمْ كَمَا قُرِئَ بِهِ، فَعَطَفَ اللَّمْسَ عَلَى الْمَجِيءِ مِنَ الْغَائِطِ وَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا الأَْمْرَ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ، فَدَل عَلَى أَنَّهُ حَدَثٌ كَالْمَجِيءِ مِنَ الْغَائِطِ. وَلَيْسَ مَعْنَاهُ (أَوْ جَامَعْتُمْ) لأَِنَّهُ خِلاَفُ الظَّاهِرِ، إِذْ اللَّمْسُ لاَ يَخْتَصُّ بِالْجِمَاعِ. قَال تَعَالَى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ (3) } وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَلَّكَ لَمَسْتَ (4) .
أَمَّا مَا اشْتَرَطَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ قَصْدِ اللَّذَّةِ أَوْ وُجُودِهَا وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ اللَّمْسُ بِالشَّهْوَةِ فَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الآْيَةِ وَبَيْنَ الأَْخْبَارِ الَّتِي تَدُل عَلَى عَدَمِ النَّقْضِ بِمُجَرَّدِ الاِلْتِقَاءِ كَمَا سَيَأْتِي (5) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلاَ يَعْتَبِرُونَ مَسَّ الْمَرْأَةِ مِنَ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 128، 129.
(2) سورة النساء / 43.
(3) سورة الأنعام / 7.
(4) حديث: " لعلك لمست. . . " أخرجه أحمد (1 / 238 - ط الميمنية) من حديث عبد الله بن عباس.
(5) جواهر الإكليل 1 / 20، ومغني المحتاج 1 / 34، 35، وكشاف القناع 1 / 128، 129.(17/118)
الأَْحْدَاثِ مُطْلَقًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِجْلاَيَ فِي قِبْلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلِي فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا (1) . وَعَنْهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّل بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ (2) .
مَسُّ فَرْجِ الآْدَمِيِّ:
14 - ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَسَّ فَرْجِ الآْدَمِيِّ حَدَثٌ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي الشُّرُوطِ وَالتَّفْصِيل:
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مُطْلَقُ مَسِّ ذَكَرِ الْمَاسِّ الْبَالِغِ الْمُتَّصِل وَلَوْ كَانَ خُنْثَى مُشْكِلاً بِبَطْنٍ أَوْ جَنْبٍ لِكَفٍّ أَوْ إِصْبَعٍ وَلَوْ كَانَتِ الإِْصْبَعُ زَائِدَةً وَبِهَا إِحْسَاسٌ. وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَمُّدُ أَوِ الاِلْتِذَاذُ. أَمَّا مَسُّ ذَكَرِ غَيْرِهِ فَيَجْرِي عَلَى حُكْمِ اللَّمْسِ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالْقَصْدِ أَوْ وُجْدَانِ اللَّذَّةِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: النَّاقِضُ مَسُّ قُبُل الآْدَمِيِّ
__________
(1) حديث عائشة: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. . أخرجه البخاري (الفتح 1 / 588 - ط السلفية) .
(2) البناية على الهداية 1 / 243، 244 وحديث: " قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ " أخرجه الترمذي (1 / 133 - ط الحلبي) ، وصححه ابن عبد البر كما في نصب الراية (1 / 38 - ط المجلس العلمي) .
(3) جواهر الإكليل 1 / 20، 21.(17/118)
ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ مُتَّصِلاً أَوْ مُنْفَصِلاً بِبَطْنِ الْكَفِّ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ. وَكَذَا (فِي الْجَدِيدِ) حَلْقَةُ دُبُرِهِ وَلَوْ فَرْجَ الْمَيِّتِ وَالصَّغِيرِ وَمَحَل الْجَبِّ وَالذَّكَرَ الأَْشَل وَبِالْيَدِ الشَّلاَّءِ عَلَى الأَْصَحِّ، لاَ بِرَأْسِ الأَْصَابِعِ وَمَا بَيْنَهُمَا (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَجْعَل مَسَّهُ حَدَثًا: النَّاقِضُ مَسُّ ذَكَرِ الآْدَمِيِّ إِلَى أُصُول الأُْنْثَيَيْنِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَاسُّ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا بِشَهْوَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، لاَ مَسُّ مُنْقَطِعٍ وَلاَ مَحَل الْقَطْعِ، وَيَكُونُ الْمَسُّ بِبَطْنِ الْكَفِّ أَوْ بِظَهْرِهِ أَوْ بِحَرْفِهِ غَيْرِ ظُفْرٍ، مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ، وَلَوْ بِزَائِدٍ (2) .
كَمَا يَنْقُضُ مَسُّ حَلْقَةِ دُبُرٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَسُّ امْرَأَةٍ فَرْجَهَا الَّذِي بَيْنَ شَفْرَيْهَا أَوْ فَرْجَ امْرَأَةٍ أُخْرَى، وَمَسُّ رَجُلٍ فَرْجَهَا وَمَسُّهَا ذَكَرَهُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ (3) .
وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ مَسَّ الْفَرْجِ حَدَثٌ مَا رَوَاهُ بُسْرُ بْنُ صَفْوَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلاَ يُصَل حَتَّى يَتَوَضَّأَ (4) وَمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 35، 36.
(2) كشاف القناع 1 / 127، 128 والمغني 1 / 178.
(3) كشاف القناع 1 / 128.
(4) حديث: " من مس ذكره فلا يصل حتى يتوضأ " أخرجه الإمام مالك (1 / 42 - ط الحلبي) ، والترمذي (1 / 126 - ط الحلبي) واللفظ للترمذي، وصححه البخاري وأحمد وغيرهما كما في التلخيص لابن حجر (1 / 122 - ط شركة الطباعة الفنية) .(17/119)
أَنَّهُ قَال: مَنْ أَفْضَى بِيَدِهِ إِلَى ذَكَرِهِ لَيْسَ دُونَهُ سِتْرٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ (1) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَسَّتْ فَرْجَهَا فَلْتَتَوَضَّأْ (2) .
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَسَّ الْفَرْجِ لاَ يُعْتَبَرُ مِنَ الأَْحْدَاثِ فَلاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، لِحَدِيثِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِل عَنِ الرَّجُل يَمَسُّ ذَكَرَهُ فِي الصَّلاَةِ فَقَال: هَل هُوَ إِلاَّ بَضْعَةٌ مِنْكَ (3) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَغْسِل يَدَهُ نَدْبًا لِحَدِيثِ مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ أَيْ لِيَغْسِل يَدَهُ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَل هُوَ إِلاَّ بَضْعَةٌ مِنْكَ حِينَ سُئِل عَنِ الرَّجُل يَمَسُّ ذَكَرَهُ بَعْدَمَا يَتَوَضَّأُ وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّلاَةِ (4) .
__________
(1) حديث: " من أفضى بيده إلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء " أخرجه أحمد (2 / 333 - ط الميمنية) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " أيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ " أخرجه أحمد (2 / 223 - ط الميمنية) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
(3) حديث: " هل هو إلا بضعة منك " أخرجه أبو داود (1 / 127 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه الفلاس، وقال الطحاوي: " إسناده مستقيم " كذا في التلخيص لابن حجر (1 / 125 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(4) ابن عابدين 1 / 99، والبناية على الهداية 1 / 243، والمغني لابن قدامة 1 / 178، 179.(17/119)
الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلاَةِ:
15 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - لاَ يَعْتَبِرُونَ الْقَهْقَهَةَ مِنَ الأَْحْدَاثِ مُطْلَقًا، فَلاَ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِهَا أَصْلاً وَلاَ يَجْعَلُونَ فِيهَا وُضُوءًا، لأَِنَّهَا لاَ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ خَارِجَ الصَّلاَةِ فَلاَ تَنْقُضُهُ دَاخِلَهَا، وَلأَِنَّهَا لَيْسَتْ خَارِجًا نَجِسًا، بَل هِيَ صَوْتٌ كَالْكَلاَمِ وَالْبُكَاءِ (1) .
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الأَْحْدَاثِ الَّتِي تَنْقُضُ الْوُضُوءَ الْقَهْقَهَةَ فِي الصَّلاَةِ إِذَا حَدَثَتْ مِنْ مُصَلٍّ بَالِغٍ يَقْظَانَ فِي صَلاَةٍ كَامِلَةٍ ذَاتِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُتَوَضِّئًا أَمْ مُتَيَمِّمًا أَمْ مُغْتَسِلاً فِي الصَّحِيحِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْقَهْقَهَةُ عَمْدًا أَمْ سَهْوًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ ضَحِكَ فِي الصَّلاَةِ قَهْقَهَةً فَلْيُعِدِ الْوُضُوءَ وَالصَّلاَةَ مَعًا (2) .
وَالْقَهْقَهَةُ مَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لِجِيرَانِهِ، وَالضَّحِكُ مَا يَسْمَعُهُ هُوَ دُونَ جِيرَانِهِ، وَالتَّبَسُّمُ مَا لاَ صَوْتَ فِيهِ وَلَوْ بَدَتْ أَسْنَانُهُ. قَالُوا: الْقَهْقَهَةُ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَتُبْطِل الصَّلاَةَ مَعًا، وَالضَّحِكُ يُبْطِل الصَّلاَةَ خَاصَّةً، وَالتَّبَسُّمُ لاَ يُبْطِل شَيْئًا.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَبْطُل وُضُوءُ صَبِيٍّ وَنَائِمٍ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 21، وبداية المجتهد 1 / 39، والمغني 1 / 177.
(2) حديث: " من ضحك في الصلاة قهقهة فليعد الوضوء والصلاة معا " أخرجه ابن عدي في الكامل (3 / 1027 - ط دار الفكر) وابن الجوزي في العلل المتناهية (1 / 368 - ط دار نشر الكتب الإسلامية) من حديث عبد الله بن عمر، وقال ابن الجوزي: " هذا حديث لا يصح ".(17/120)
بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الأَْصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا لاَ يُنْقَضُ وُضُوءُ مَنْ قَهْقَهَ خَارِجَ الصَّلاَةِ، أَوْ مَنْ كَانَ فِي صَلاَةٍ غَيْرِ كَامِلَةٍ، كَصَلاَةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلاَوَةِ (1) .
ثُمَّ قِيل: إِنَّ الْقَهْقَهَةَ مِنَ الأَْحْدَاثِ عِنْدَهُمْ، وَقِيل: لاَ بَل وَجَبَ الْوُضُوءُ بِهَا عُقُوبَةً وَزَجْرًا، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالصَّلاَةِ إِظْهَارُ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْقَهْقَهَةُ تُنَافِي ذَلِكَ فَنَاسَبَ انْتِقَاضَ وُضُوئِهِ زَجْرًا لَهُ.
وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ حَدَثًا وَإِلاَّ لاَسْتَوَى فِيهَا جَمِيعُ الأَْحْوَال مَعَ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِأَنْ تَكُونَ فِي الصَّلاَةِ الْكَامِلَةِ مِنْ مُصَلٍّ بَالِغٍ (2) .
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَرَجَّحَ فِي الْبَحْرِ الْقَوْل الثَّانِيَ لِمُوَافَقَتِهِ الْقِيَاسَ، لأَِنَّهَا لَيْسَتْ خَارِجًا نَجِسًا بَل هِيَ صَوْتٌ كَالْكَلاَمِ وَالْبُكَاءِ، وَلِمُوَافَقَتِهِ لِلأَْحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِيهَا، إِذْ لَيْسَ فِيهَا إِلاَّ الأَْمْرُ بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ وَلاَ يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهَا حَدَثًا.
16 - وَفَائِدَةُ الْخِلاَفِ فِي الْقَوْلَيْنِ تَظْهَرُ فِي جَوَازِ مَسِّ الْمُصْحَفِ وَكِتَابَةِ الْقُرْآنِ، فَمَنْ جَعَلَهَا حَدَثًا مَنَعَ كَسَائِرِ الأَْحْدَاثِ، وَمَنْ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ عُقُوبَةً وَزَجْرًا جَوَّزَ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين مع الدر المختار 1 / 97، 98، ومراقي الفلاح ص 50، 51، والبناية على الهداية 1 / 226، 227، 233.
(2) المراجع السابقة.
(3) المراجع السابقة.(17/120)
أَكْل لَحْمِ الْجَزُورِ:
17 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَكْل لَحْمِ الْجَزُورِ لاَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَأَكْل سَائِرِ الأَْطْعِمَةِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ وَلَيْسَ مِمَّا يَدْخُل (1) وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ قَال: كَانَ آخِرُ الأَْمْرَيْنِ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ (2) وَلأَِنَّهُ مَأْكُولٌ أَشْبَهَ سَائِرَ الْمَأْكُولاَتِ فِي عَدَمِ النَّقْضِ، وَالأَْمْرُ بِالْوُضُوءِ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى الاِسْتِحْبَابِ أَوِ الْوُضُوءِ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ غَسْل الْيَدَيْنِ (3) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ - بِأَنْ أَكْل لَحْمِ الإِْبِل يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عَلَى كُل حَالٍ نِيئًا وَمَطْبُوخًا، عَالِمًا كَانَ الآْكِل أَوْ جَاهِلاً (4) . لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الإِْبِل وَلاَ تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ (5) .
__________
(1) حديث: " الوضوء مما يخرج وليس مما يدخل. . . " أخرجه الدارقطني (1 / 151 - ط دار المحاسن) وقال ابن حجر: " فيه الفضل بن المختار وهو ضعيف جدا " التلخيص (1 / 118 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مسته النار " أخرجه أبو داود (1 / 133 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه ابن خزيمة (1 / 128 - ط المكتب الإسلامي) .
(3) بداية المجتهد 1 / 40، وجواهر الإكليل 1 / 21، والمغني 1 / 189.
(4) كشاف القناع 1 / 130، والمغني 1 / 187 - 190.
(5) حديث: " توضئوا من لحوم الإبل ولا تتوضئوا من لحوم الغنم " أخرجه أبو داود (1 / 28 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث البراء بن عازب أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل فقال: " توضئوا منها " وسئل عن لحوم الغنم فقال: " لا توضئوا وأخرجه كذلك ابن خزيمة (1 / 22 - ط المكتب الإسلامي) وقال: " لم نر خلافا بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه ".(17/121)
وَقَالُوا: إِنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْ أَكْل لَحْمِ الْجَزُورِ تَعَبُّدِيٌّ لاَ يُعْقَل مَعْنَاهُ فَلاَ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ، فَلاَ يَجِبُ الْوُضُوءُ بِشُرْبِ لَبَنِهَا، وَمَرَقِ لَحْمِهَا، وَأَكْل كَبِدِهَا وَطِحَالِهَا وَسَنَامِهَا وَجِلْدِهَا وَكَرِشِهَا وَنَحْوِهِ (1) .
غُسْل الْمَيِّتِ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ بِتَغْسِيل الْمَيِّتِ، لأَِنَّ الْوُجُوبَ يَكُونُ مِنَ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي هَذَا نَصٌّ فَبَقِيَ عَلَى الأَْصْل. وَلأَِنَّهُ غَسْل آدَمِيٍّ فَأَشْبَهَ غَسْل الْحَيِّ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الاِسْتِحْبَابِ (2) .
وَيَرَى أَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَنْ غَسَّل الْمَيِّتَ أَوْ بَعْضَهُ وَلَوْ فِي قَمِيصٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَغْسُول صَغِيرًا أَمْ كَبِيرًا، ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا. لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ
__________
(1) نفس المراجع.
(2) بداية المجتهد 1 / 140، والمغني 1 / 191، 192، وكشاف القناع 1 / 129، 130، والإنصاف 1 / 215.(17/121)
وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمَا كَانَا يَأْمُرَانِ غَاسِل. الْمَيِّتِ بِالْوُضُوءِ، وَلأَِنَّ الْغَالِبَ فِيهِ أَنَّهُ لاَ يَسْلَمُ أَنْ تَقَعَ يَدُهُ عَلَى فَرْجِ الْمَيِّتِ فَتُقَامُ مَظِنَّةُ ذَلِكَ مَقَامَ حَقِيقَتِهِ كَمَا أُقِيمَ النَّوْمُ مَقَامَ الْحَدَثِ (1) .
الرِّدَّةُ:
19 - الرِّدَّةُ - وَهِيَ الإِْتْيَانُ بِمَا يُخْرِجُ مِنَ الإِْسْلاَمِ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ - حَدَثٌ حُكْمِيٌّ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَالْمُرْتَدُّ إِذَا عَادَ إِلَى الإِْسْلاَمِ وَرَجَعَ إِلَى دِينِ الْحَقِّ فَلَيْسَ لَهُ الصَّلاَةُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ وَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا قَبْل رِدَّتِهِ وَلَمْ يُنْقَضْ وُضُوءُهُ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (2) } وَالطَّهَارَةُ عَمَلٌ.
وَنُقِل عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتِحْبَابُ الْوُضُوءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَلَمْ يَعُدَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الرِّدَّةَ مِنْ أَسْبَابِ الْحَدَثِ فَلاَ يُنْقَضُ الْوُضُوءُ بِهَا عِنْدَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
__________
(1) نفس المراجع.
(2) سورة الزمر / 65.(17/122)
وَالآْخِرَةِ (1) } فَشَرَطَ الْمَوْتَ بَعْدَ الرِّدَّةِ لِحُبُوطِ الْعَمَل - كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ)
الشَّكُّ فِي الْحَدَثِ (3) :
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشَّكَّ لاَ الْوُضُوءُ. فَلَوْ أَيْقَنَ بِالطَّهَارَةِ (أَيْ عَلِمَ سَبْقَهَا) وَشَكَّ فِي عُرُوضِ الْحَدَثِ بَعْدَهَا فَهُوَ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِالْحَدَثِ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ فَهُوَ عَلَى الْحَدَثِ، لأَِنَّ الْيَقِينَ لاَ يَزُول بِالشَّكِّ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَل عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَمْ يَخْرُجْ فَلاَ يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا (4) .
وَلَوْ تَيَقَّنَهُمَا وَلَمْ يَعْلَمِ الآْخِرَ مِنْهُمَا، مِثْل مَنْ تَيَقَّنَ
__________
(1) سورة البقرة / 217.
(2) جواهر الإكليل 1 / 21، والحطاب 1 / 299، 300، ونهاية المحتاج 1 / 15، والقوانين الفقهية ص (22) ، والمغني 1 / 176، 177.
(3) الشك هو التردد باستواء أو رجحان. وقيل: هو ما استوى طرفاه، وهو الوقوف بين الشيئين لا يميل القلب إلى أحدهما فإذا ترجح أحدهما ولم يطرح الآخر فهو ظن، وإذا طرحه الآخر فهو غالب الظن، وهو بمنزلة اليقين (القليوبي 1 / 37، والتعريفات للجرجاني) .
(4) حديث: " إذا وجد أحدكم في بطنه. . . " تقدم تخريجه (ف 7) .(17/122)
أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ مُتَطَهِّرًا مَرَّةً وَمُحْدِثًا أُخْرَى وَلاَ يَعْلَمُ أَيَّهُمَا كَانَ لاَحِقًا يَأْخُذُ بِضِدِّ مَا قَبْلَهُمَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَذَكَرَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِِنْ كَانَ قَبْلَهُمَا مُحْدِثًا فَهُوَ الآْنَ مُتَطَهِّرٌ لأَِنَّهُ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي تَأَخُّرِ الْحَدَثِ عَنْهَا وَالأَْصْل عَدَمُ تَأَخُّرِهِ، وَإِِنْ كَانَ قَبْلَهُمَا مُتَطَهِّرًا فَهُوَ الآْنَ مُحْدِثٌ، لأَِنَّهُ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي تَأَخُّرِ الطَّهَارَةِ عَنْهُ، وَالأَْصْل عَدَمُ تَأَخُّرِهَا، فَإِِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا قَبْلَهُمَا لَزِمَهُ الْوُضُوءُ لِتَعَارُضِ الاِحْتِمَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ (1) .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَنْظُرُ إِِلَى مَا قَبْلَهُمَا وَيَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ (2) .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ تَيَقَّنَهُمَا وَشَكَّ فِي السَّابِقِ فَهُوَ مُتَطَهِّرٌ (3) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِشَكٍّ فِي حَدَثٍ بَعْدَ طُهْرٍ عُلِمَ، فَإِِنْ أَيْقَنَ بِالْوُضُوءِ ثُمَّ شَكَّ فَلَمْ يَدْرِ أَأَحْدَثَ بَعْدَ الْوُضُوءِ أَمْ لاَ فَلْيُعِدْ وُضُوءَهُ إِِلاَّ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مُسْتَنْكَحًا (4) . قَال الْحَطَّابُ: هَذَا إِِذَا شَكَّ قَبْل الصَّلاَةِ، أَمَّا إِِذَا
__________
(1) ابن عابدين 1 / 102، والبدائع 1 / 33، وحاشية القليوبي 1 / 37، 38، والمغني 1 / 196، 197، ومغني المحتاج 1 / 39.
(2) القليوبي 1 / 38.
(3) ابن عابدين 1 / 102.
(4) الشك المستنكح هو الذي يأتي كل يوم ولو مرة (جواهر الإكليل 1 / 21) .(17/123)
صَلَّى ثُمَّ شَكَّ هَل أَحْدَث أَمْ لاَ فَفِيهِ قَوْلاَنِ.
وَذَكَرَ فِي التَّاجِ وَالإِِْكْلِيل أَنَّ مَنْ شَكَّ أَثْنَاءَ صَلاَتِهِ هَل هُوَ عَلَى وُضُوءٍ أَمْ لاَ فَتَمَادَى عَلَى صَلاَتِهِ وَهُوَ عَلَى شَكِّهِ ذَلِكَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَيْقَنَ أَنَّهُ عَلَى وُضُوئِهِ فَإِِنَّ صَلاَتَهُ مُجْزِئَةٌ، لأَِنَّهُ دَخَل فِي الصَّلاَةِ بِطَهَارَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ، فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهَا الشَّكُّ الطَّارِئُ. أَمَّا إِِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الشَّكُّ فِي طَهَارَتِهِ قَبْل دُخُولِهِ فِي الصَّلاَةِ فَوَجَبَ أَلاَ يَدْخُل فِي الصَّلاَةِ إِِلاَّ عَلَى طَهَارَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ.
وَيُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا بِشَكٍّ فِي السَّابِقِ مِنَ الْوُضُوءِ وَالْحَدَثِ سَوَاءٌ كَانَا مُحَقَّقَيْنِ أَوْ مَظْنُونَيْنِ أَوْ مَشْكُوكَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا مُحَقَّقًا أَوْ مَظْنُونًا وَالآْخَرُ مَشْكُوكًا أَوْ أَحَدُهُمَا مُحَقَّقًا وَالآْخَرُ مَظْنُونًا (1) .
وَقَال فِي الْبَدَائِعِ: لَوْ شَكَّ فِي بَعْضِ وُضُوئِهِ - وَهُوَ أَوَّل مَا شَكَّ - غَسَل الْمَوْضِعَ الَّذِي شَكَّ فِيهِ لأَِنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْحَدَثِ فِيهِ، وَإِِنْ صَارَ الشَّكُّ فِي مِثْلِهِ عَادَةً لَهُ بِأَنْ يَعْرِضَ لَهُ كَثِيرًا لَمْ يَلْتَفِتْ إِِلَيْهِ، لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ الْوَسْوَسَةِ فَيَجِبُ قَطْعُهَا (2) . لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَنْفُخُ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ فَيَقُول أَحْدَثْتَ أَحْدَثْتَ
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب مع التاج والإكليل 1 / 300، وجواهر الإكليل 1 / 21.
(2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني 1 / 33، 101.(17/123)
فَلاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (شَكٌّ) (وَوَسْوَسَةٌ) .
حُكْمُ الْحَدَثِ:
21 - الْحَدَثُ إِِمَّا أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ فَيُوجِبُ الْغُسْل، أَوْ أَصْغَرَ فَيُوجِبُ الْوُضُوءَ فَقَطْ، أَمَّا أَحْكَامُ الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ وَأَسْبَابُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَمُصْطَلَحِ: (غُسْلٌ) .
وَفِيمَا يَأْتِي أَحْكَامُ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ:
أَوَّلاً: مَا لاَ يَجُوزُ بِالْحَدَثِ الأَْصْغَرِ:
أ - الصَّلاَةُ:
22 - يَحْرُمُ بِالْمُحْدِثِ (حَيْثُ لاَ عُذْرَ) الصَّلاَةُ بِأَنْوَاعِهَا بِالإِِْجْمَاعِ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: لاَ يَقْبَل اللَّهُ صَلاَةَ أَحَدِكُمْ إِِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ (2) وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ صَلاَةَ لِمَنْ
__________
(1) حديث: " إن الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين إليتيه " أخرجه البيهقي في الخلافيات عن الشافعي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره، بغير إسناد دون قوله: " فيقول: أحدثت أحدثت "، كذا قال ابن حجر في التلخيص (1 / 128 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 329 - ط السلفية) ومسلم (1 / 204 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، واللفظ للبخاري.(17/124)
لاَ وُضُوءَ لَهُ (1) وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تُقْبَل صَلاَةٌ بِغَيْرِ طَهُورٍ (2) وَهُوَ يَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفَل، وَمِنْهَا صَلاَةُ الْجِنَازَةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَفِي مَعْنَى الصَّلاَةِ سَجْدَتَا التِّلاَوَةِ وَالشُّكْرِ وَخُطْبَةُ الْجُمُعَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ جَوَازُ الصَّلاَةِ عَلَى الْجَنَائِزِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ وَلاَ تَيَمُّمٍ (3) . وَإِِذَا كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ كَمَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلاَهُ وَبِوَجْهِهِ جِرَاحَةٌ - كَمَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ أَوْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلاَ تُرَابًا مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ - صَلَّى وُجُوبًا بِغَيْرِ طَهَارَةٍ (4) وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (فَقْدُ الطَّهُورَيْنِ) هَذَا إِِذَا كَانَ مُحْدِثًا قَبْل دُخُولِهِ فِي الصَّلاَةِ.
23 - أَمَّا إِِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْحَدَثُ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ، فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَرَوْنَ بُطْلاَنَ الصَّلاَةِ،
__________
(1) حديث: " لا صلاة لمن لا وضوء له " أخرجه أبو داود (1 / 75 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة. وفي إسناده ضعف، ولكن له شواهد ذكرها ابن حجر في التلخيص (1 / 72 - 75 - ط شركة الطباعة الفنية) وقال: " مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلا ".
(2) حديث: " لا تقبل صلاة بغير طهور " أخرجه مسلم (1 / 204 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(3) بدائع الصنائع 1 / 33، 34، وجواهر الإكليل على متن خليل 1 / 21، ومغني المحتاج 1 / 36، وكشاف القناع 1 / 134، والمغني 1 / 143 - 151.
(4) ابن عابدين 1 / 512، ومغني المحتاج 1 / 36.(17/124)
غَلَبَةً كَانَ الْحَدَثُ أَوْ نِسْيَانًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُصَلِّي فَذًّا أَمْ مَأْمُومًا أَمْ إِِمَامًا، لَكِنْ لاَ يَسْرِي بُطْلاَنُ صَلاَةِ الإِِْمَامِ عَلَى صَلاَةِ الْمَأْمُومِينَ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُونَ الاِسْتِخْلاَفَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفِقْرَةِ التَّالِيَةِ. وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلاَةِ تَبْطُل صَلاَتُهُ وَيَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُهَا، لِمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ طَلْقٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيُعِدِ الصَّلاَةَ (1) وَلأَِنَّهُ فَقَدَ شَرْطًا مِنْ شُرُوطِ الصَّلاَةِ فِي أَثْنَائِهَا عَلَى وَجْهٍ لاَ يَعُودُ إِِلاَّ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ وَعَمَلٍ كَثِيرٍ فَفَسَدَتْ صَلاَتُهُ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِِنْ سَبَقَ الْمُصَلِّيَ حَدَثٌ تَوَضَّأَ وَبَنَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ مَذْيٌ، فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لْيَبْنِ عَلَى صَلاَتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لاَ يَتَكَلَّمُ (2) لأَِنَّ الْبَلْوَى فِيمَا سَبَقَ فَلاَ يُلْحَقُ بِهِ مَا يَتَعَمَّدُهُ. وَالاِسْتِئْنَافُ أَفْضَل تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْخِلاَفِ.
__________
(1) حديث: " إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف فليتوضأ وليعد الصلاة " أخرجه أبو داود (1 / 141 - 142 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وأعله ابن القطان بجهالة راو فيه، كذا في التلخيص لابن حجر (1 / 274 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) حديث: " من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي، فلينصرف، فليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم ". تقديم تخريجه (ف 10) .(17/125)
وَقَدْ فَصَّل الْكَاسَانِيُّ ذَلِكَ فَقَال: إِِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ ثُمَّ تَكَلَّمَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا أَوْ ضَحِكَ أَوْ قَهْقَهَ أَوْ أَكَل أَوْ شَرِبَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ لأَِنَّ هَذِهِ الأَْفْعَال مُنَافِيَةٌ لِلصَّلاَةِ فِي الأَْصْل فَلاَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْمُنَافِي إِِلاَّ لِضَرُورَةٍ وَلاَ ضَرُورَةَ، وَكَذَا إِِذَا جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ أَجْنَبَ لأَِنَّهُ لاَ يَكْثُرُ وُقُوعُهُ فَكَانَ لِلْبِنَاءِ مِنْهُ بُدٌّ وَكَذَا لَوْ أَدَّى رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ مَعَ الْحَدَثِ أَوْ مَكَثَ بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ أَدَاءِ رُكْنٍ لأَِنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ لَيْسَ مِنْ أَعْمَال الصَّلاَةِ وَلَهُ مِنْهُ بُدٌّ، وَكَذَا لَوِ اسْتَقَى مِنَ الْبِئْرِ وَهُوَ لاَ يَحْتَاجُ إِِلَيْهِ وَلَوْ مَشَى إِِلَى الْوُضُوءِ فَاغْتَرَفَ الْمَاءَ مِنَ الإِِْنَاءِ أَوِ اسْتَقَى مِنَ الْبِئْرِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِِلَيْهِ فَتَوَضَّأَ جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ لأَِنَّ الْوُضُوءَ أَمْرٌ لاَ بُدَّ لِلْبِنَاءِ مِنْهُ وَالْمَشْيُ وَالاِغْتِرَافُ وَالاِسْتِقَاءُ عِنْدَ الْحَاجَةِ مِنْ ضَرُورَاتِ الْوُضُوءِ، وَلَوِ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ بِالْوُضُوءِ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ وَبَنَى لأَِنَّ ابْتِدَاءَ الصَّلاَةِ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ جَائِزٌ فَالْبِنَاءُ أَوْلَى، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْبِنَاءِ قَال الْكَاسَانِيُّ: الْمُصَلِّي لاَ يَخْلُو إِِمَّا إِِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ إِِمَامًا.
فَإِِنَّ كَانَ مُنْفَرِدًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِِنْ شَاءَ أَتَمَّ صَلاَتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَضَّأَ فِيهِ وَإِِنْ شَاءَ عَادَ إِِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي افْتَتَحَ الصَّلاَةَ فِيهِ، لأَِنَّهُ إِِذَا أَتَمَّ الصَّلاَةَ حَيْثُ هُوَ فَقَدْ سَلِمَتْ صَلاَتُهُ عَنِ الْمَشْيِ لَكِنَّهُ صَلَّى صَلاَةً وَاحِدَةً فِي مَكَانَيْنِ، وَإِِنْ عَادَ إِِلَى مُصَلاَّهُ فَقَدْ أَدَّى جَمِيعَ(17/125)
الصَّلاَةِ فِي مَكَان وَاحِدٍ لَكِنْ مَعَ زِيَادَةِ مَشْيٍ فَاسْتَوَى الْوَجْهَانِ فَيُخَيَّرُ، وَإِِنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَإِِنْ لَمْ يَفْرُغْ مِنَ الصَّلاَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي بَعْدُ وَلَوْ لَمْ يَعُدْ وَأَتَمَّ بَقِيَّةَ صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ لاَ يُجْزِيهِ. ثُمَّ إِِذَا عَادَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِل أَوَّلاً بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ فِي حَال تَشَاغُلِهِ بِالْوُضُوءِ، لأَِنَّهُ لاَحِقٌ فَكَأَنَّهُ خَلْفَ الإِِْمَامِ فَيَقُومُ مِقْدَارَ قِيَامِ الإِِْمَامِ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ، وَمِقْدَارَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، وَلاَ يَضُرُّهُ إِِنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ، وَلَوْ تَابَعَ إِِمَامَهُ أَوَّلاً ثُمَّ اشْتَغَل بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ بَعْدَ تَسْلِيمِ الإِِْمَامِ جَازَتْ صَلاَتُهُ خِلاَفًا لِزُفَرَ، وَإِِنْ كَانَ إِِمَامًا يَسْتَخْلِفُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عَلَى صَلاَتِهِ، وَالأَْمْرُ فِي مَوْضِعِ الْبِنَاءِ وَكَيْفِيَّتِهِ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ فِي الْمُقْتَدِي، لأَِنَّهُ بِالاِسْتِخْلاَفِ تَحَوَّلَتِ الإِِْمَامَةُ إِِلَى الثَّانِي وَصَارَ هُوَ كَوَاحِدٍ مِنَ الْمُقْتَدِينَ بِهِ (1) .
اسْتِخْلاَفُ الإِِْمَامِ فِي حَالَةِ الْحَدَثِ:
24 - لِلإِِْمَامِ إِِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يُتِمُّ بِهِمُ الصَّلاَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا طُعِنَ أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ فَأَتَمَّ بِهِمْ
__________
(1) البدائع للكاساني 1 / 220، 224، وانظر حاشية ابن عابدين 1 / 403، فتح القدير 1 / 268، والفتاوى الهندية 1 / 95.(17/126)
الصَّلاَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ فَكَانَ إِِجْمَاعًا، وَمِثْلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَا لَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ أَوْ أَبْطَل الصَّلاَةَ (1) .
وَفِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لِلْحَنَابِلَةِ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِخْلاَفُ قَال الشَّافِعِيَّةُ: لأَِنَّهَا صَلاَةٌ وَاحِدَةٌ فَلاَ تَصِحُّ بِإِِمَامَيْنِ مَعًا، وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لأَِنَّهُ فَقَدَ شَرْطَ صِحَّةِ الصَّلاَةِ فَتَبْطُل صَلاَةُ الْمَأْمُومِينَ بِبُطْلاَنِ صَلاَتِهِ كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ (2) .
وَلِجَوَازِ الاِسْتِخْلاَفِ شُرُوطٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِخْلاَفٌ) .
ب - الطَّوَافُ:
25 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الطَّوَافِ لِلْمُحْدِثِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الطَّوَافُ فَرْضًا أَمْ وَاجِبًا أَمْ نَفْلاً، فِي نُسُكٍ أَمْ فِي غَيْرِهِ، وَيَعْتَبِرُونَ الطَّهَارَةَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الطَّوَافِ، لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ الصَّلاَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطَّوَافُ حَوْل الْبَيْتِ مِثْل الصَّلاَةِ، إِِلاَّ أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلاَ يَتَكَلَّمَنَّ إِِلاَّ بِخَيْرٍ (3) . وَالْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 1 / 145، وجواهر الإكليل 1 / 64، ونهاية المحتاج 2 / 336، 337، والمغني 2 / 202.
(2) نهاية المحتاج 2 / 336، 337، والمغني 2 / 203 وما بعدها.
(3) حديث: " الطواف حول البيت مثل الصلاة، ألا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فلا يتكلمن إلا بخير " أخرجه الترمذي (3 / 284 - ط الحلبي) من حديث عبد الله ابن عباس، وصحح ابن حجر بعض طرقه كما في التلخيص (1 / 130 - ط شركة الطباعة الفنية) .(17/126)
عِنْدَهُمْ عَدُّوا الطَّهَارَةَ فِي الطَّوَافِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهَا مِنَ السُّنَنِ (1) .
قَال فِي الْبَدَائِعِ: فَإِِنْ طَافَ مُحْدِثًا جَازَ مَعَ النُّقْصَانِ، لأَِنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ شَبِيهٌ بِالصَّلاَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَلاَةٍ حَقِيقَةً، فَلِكَوْنِهِ طَوَافًا حَقِيقَةً يُحْكَمُ بِالْجَوَازِ، وَلِكَوْنِهِ شَبِيهًا بِالصَّلاَةِ يُحْكَمُ بِالْكَرَاهَةِ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (طَوَافٌ) .
ج - مَسُّ الْمُصْحَفِ:
26 - لاَ يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ يَمَسُّهُ إِِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (3) } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لاَ تَمَسَّ الْقُرْآنَ إِِلاَّ وَأَنْتَ طَاهِرٌ (4) وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ تِلاَوَتِهِ لِمَنْ كَانَ مُحْدِثًا
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني 1 / 34، وحاشية ابن عابدين 1 / 60، 2 / 149، وجواهر الإكليل 1 / 21، 173، ومغني المحتاج 1 / 36، والمغني 3 / 377، وكشاف القناع 1 / 135.
(2) البدائع 1 / 34.
(3) سورة الواقعة / 79.
(4) حديث: " قال لحكيم بن حزام: لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر " أخرجه الحاكم (3 / 485 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث حكيم بن حزام، وحسن الحازمي إسناده كما في التلخيص لابن حجر (1 / 131 - ط شركة الطباعة الفنية) .(17/127)
حَدَثًا أَصْغَر بِغَيْرِ لَمْسٍ.
وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنَ الْمَنْعِ مَسَّهُ فِي حَالاَتٍ خَاصَّةٍ كَمَا إِِذَا كَانَ بِحَائِلٍ أَوْ عُودٍ طَاهِرَيْنِ أَوْ فِي وِعَائِهِ وَعِلاَقَتِهِ، أَوْ لِمُعَلِّمٍ وَمُتَعَلِّمٍ لِغَرَضِ التَّعْلِيمِ، أَوْ كَانَ حَمْلُهُ فِي حَال الْحَدَثِ غَيْرَ مَقْصُودٍ، كَأَنْ كَانَ فِي صُنْدُوقٍ ضِمْنَ الأَْمْتِعَةِ، وَيَكُونُ الْقَصْدُ حَمْل الأَْمْتِعَةِ وَفِي دَاخِلِهَا قُرْآنٌ.
وَلِتَفْصِيل كُل هَذِهِ الْمَسَائِل مَعَ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ رَاجِعْ مُصْطَلَحَ (مُصْحَفٌ) .
27 - وَيَجُوزُ مَسُّ وَحَمْل كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَرَسَائِل فِيهَا قُرْآنٌ فِي حَالَةِ الْحَدَثِ إِِذَا كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ مِنَ الْقُرْآنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (1) . أَمَّا إِِذَا كَانَ الْقُرْآنُ أَكْثَرَ أَوْ مُسَاوِيًا لِلتَّفْسِيرِ أَوْ يَكُونُ الْقُرْآنُ مَكْتُوبًا عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَفِي مَسِّهِ لِلْمُحْدِثِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (مُصْحَفٌ) .
28 - هَذَا وَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ (الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ) بِطَرِيقِ الأَْوْلَى، لأَِنَّ الْحَدَثَ الأَْكْبَرَ أَغْلَظُ مِنَ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 33، 34، وابن عابدين 1 / 116، وجواهر الإكليل 1 / 21، ومغني المحتاج 1 / 37، وكشاف القناع 1 / 135.(17/127)
وَزِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ مَا يَأْتِي:
1 - تِلاَوَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِقَصْدِ التِّلاَوَةِ. (ر: تِلاَوَةٌ) .
2 - الاِعْتِكَافُ: كَمَا فُصِّل فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِكَافٌ) .
3 - الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. أَمَّا دُخُول الْمَسْجِدِ عُبُورًا أَوْ مُجْتَازًا، فَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِِلاَّ لِضَرُورَةٍ (1) .
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِنَّ الْمَسْجِدَ لاَ يَحِل لِجُنُبٍ وَلاَ لِحَائِضٍ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٌ) .
وَيَحْرُمُ بِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ عِلاَوَةً عَلَى ذَلِكَ الصِّيَامُ. (ر: حَيْضٌ، وَنِفَاسٌ) .
ثَانِيًا - مَا يُرْفَعُ بِهِ الْحَدَثُ:
29 - يُرْفَعُ الْحَدَثُ الأَْكْبَرُ بِالْغُسْل، وَالأَْصْغَرُ بِالْغُسْل وَبِالْوُضُوءِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُمَا فِي مُصْطَلَحَيْ: (غُسْلٌ، وَوُضُوءٌ) .
أَمَّا التَّيَمُّمُ فَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الْغُسْل وَالْوُضُوءِ،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 115، 116، وجواهر الإكليل 1 / 23، وحاشية القليوبي 1 / 64، 65، والمغني لابن قدامة 1 / 144، 145.
(2) حديث: " إن المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض " أخرجه ابن ماجه (1 / 212 - ط الحلبي) من حديث أم سلمة، وقال البوصيري: " إسناده ضعيف ".(17/128)
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ لاَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ لَكِنَّهُ يُبَاحُ لِلْمُتَيَمِّمِ الصَّلاَةُ بِهِ وَنَحْوُهَا لِلضَّرُورَةِ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ حَقِيقَةً (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِِنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْل، فَيَرْفَعُ الْحَدَثَ إِِلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ، فَيَجُوزُ بِهِ مَا يَجُوزُ بِالْوُضُوءِ وَالْغُسْل مُطْلَقًا (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَيَمُّمٌ) .
__________
(1) حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 1 / 154، ومغني المحتاج 1 / 97، 105، وكشاف القناع 1 / 161، 199.
(2) تبيين الحقائق للزيلعي 1 / 42، وبدائع الصنائع 1 / 54.(17/128)
حَدُّ الْحِرَابَةِ
انْظُرْ: حِرَابَةٌ
حَدُّ الرِّدَّةِ
انْظُرْ: رِدَّةٌ
حَدُّ الزِّنَى
انْظُرْ: زِنًى
حَدُّ السُّكْرِ
انْظُرْ: سُكْرٌ
حَدُّ الْقَذْفِ
انْظُرْ: قَذْفٌ(17/129)
حُدُودٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحُدُودُ جَمْعُ حَدٍّ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ كُلٌّ مِنَ الْبَوَّابِ وَالسَّجَّانِ حَدَّادًا، لِمَنْعِ الأَْوَّل مِنَ الدُّخُول، وَالثَّانِي مِنَ الْخُرُوجِ. وَسُمِّيَ الْمُعَرِّفُ لِلْمَاهِيَّةِ حَدًّا، لِمَنْعِهِ مِنَ الدُّخُول وَالْخُرُوجِ. وَحُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى مَحَارِمُهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا (1) } .
وَالْحَدُّ فِي الاِصْطِلاَحِ: عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى ذَنْبٍ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الزِّنَى، أَوِ اجْتَمَعَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ كَالْقَذْفِ فَلَيْسَ مِنْهُ التَّعْزِيرُ لِعَدَمِ تَقْدِيرِهِ، وَلاَ الْقِصَاصُ لأَِنَّهُ حَقٌّ خَالِصٌ لآِدَمِيٍّ. وَعِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِتَقْدِيرِ الشَّارِعِ، فَيَدْخُل الْقِصَاصُ.
وَيُطْلَقُ لَفْظُ الْحَدِّ عَلَى جَرَائِمِ الْحُدُودِ مَجَازًا، فَيُقَال: ارْتَكَبَ الْجَانِي حَدًّا، وَيُقْصَدُ أَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً ذَاتَ عُقُوبَةٍ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا (2) .
__________
(1) سورة البقرة / 187.
(2) مختار الصحاح مادة: (حدد) والتعريفات للجرجاني، ابن عابدين 3 / 140 ط دار إحياء التراث العربي، والطحطاوي 2 / 388 ط دار المعرفة، وكشاف القناع 6 / 77 ط عالم الكتب، ونيل المآرب 2 / 250، والاختيار 4 / 79 دار المعرفة، وحاشية الزرقاني 8 / 115 ط دار الفكر، وبداية المجتهد 2 / 330، والوجيز 2 / 164، ونيل الأوطار 7 / 250 ط الجيل، وسبل السلام 4 / 2 ط المكتبة التجارية الكبرى، وفتح القدير 4 / 113، والبدائع 7 / 56، وحاشية الشرقاوي على شرح التحرير 2 / 427.(17/129)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقِصَاصُ:
2 - الْقِصَاصُ لُغَةً الْمُمَاثَلَةُ، وَاصْطِلاَحًا: أَنْ يُوقَعَ عَلَى الْجَانِي مِثْل مَا جَنَى كَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ وَالْجُرْحِ بِالْجُرْحِ (1) . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَْلْبَابِ (2) } وقَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ (3) } . فَالْقِصَاصُ غَيْرُ الْحَدِّ لأَِنَّهُ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ حَقًّا لِلْعِبَادِ.
ب - التَّعْزِيرُ:
3 - أَصْلُهُ مِنَ الْعَزْرِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الرَّدِّ وَالْمَنْعِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ مُعَاوَدَةِ الْقَبِيحِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى
__________
(1) مختار الصحاح مادة: (قص) والتعريفات للجرجاني، والاختيار 4 / 79 و 5 / 24.
(2) سورة البقرة / 179.
(3) سورة البقرة / 178.(17/130)
{وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ (1) } ، فَهُوَ مِنَ الأَْضْدَادِ (2) .
وَشَرْعًا: تَأْدِيبٌ دُونَ الْحَدِّ، فَالتَّعْزِيرُ فِي بَعْضِ إِِطْلاَقَاتِهِ اللُّغَوِيَّةِ حَدٌّ. وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَلَيْسَ بِحَدٍّ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ (3) .
ج - الْعُقُوبَةُ:
4 - الْعُقُوبَةُ مِنْ عَاقَبْتُ اللِّصَّ مُعَاقَبَةً وَعِقَابًا، وَالاِسْمُ الْعُقُوبَةُ، وَهِيَ الأَْلَمُ الَّذِي يَلْحَقُ الإِِْنْسَانَ مُسْتَحِقًّا عَلَى الْجِنَايَةِ، وَيَكُونُ بِالضَّرْبِ، أَوِ الْقَطْعِ، أَوِ الرَّجْمِ، أَوِ الْقَتْل، سُمِّيَ بِهَا لأَِنَّهَا تَتْلُو الذَّنْبَ مِنْ تَعَقَّبَهُ إِِذَا تَبِعَهُ، فَالْعُقُوبَةُ أَعَمُّ مِنَ الْحُدُودِ (4) .
د - الْجِنَايَةُ:
5 - الْجِنَايَةُ لُغَةً: اسْمٌ لِمَا يُكْتَسَبُ مِنَ الشَّرِّ، وَشَرْعًا: اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ وَقَعَ عَلَى مَالٍ أَوْ نَفْسٍ (5) . فَبَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْحَدِّ عَلَى الإِِْطْلاَقِ
__________
(1) سورة الفتح / 9.
(2) المصباح المنير ومختار الصحاح مادة: (عزر) وابن عابدين 3 / 177 والطحطاوي 2 / 410.
(3) الاختيار 4 / 79، والطحطاوي 2 / 410، وشرح الزرقاني 8 / 115.
(4) ابن عابدين 3 / 140، والطحطاوي 2 / 388، والمصباح المنير مادة: (عقب) .
(5) ابن عابدين 5 / 339.(17/130)
الْمَجَازِيِّ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ إِِذْ كُل حَدٍّ جِنَايَةٌ وَلَيْسَ كُل جِنَايَةٍ حَدًّا، وَأَمَّا عَلَى الإِِْطْلاَقِ الأَْوَّل فَبَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - إِِقَامَةُ الْحُدُودِ فَرْضٌ عَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ وَدَلِيل ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِِْجْمَاعُ، وَالْمَعْقُول.
أَمَّا الْكِتَابُ فَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى فِي الزِّنَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (1) } .
وَفِي السَّرِقَةِ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا (2) } الآْيَةَ وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا (3) . . .} وَفِي قَطْعِ الطَّرِيقِ: {إِِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} الآْيَةَ (4) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَحَدِيثُ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ، وَالْعَسِيفِ (5) وَغَيْرِهَا مِنَ الأَْحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ.
__________
(1) سورة النور / 2.
(2) سورة المائدة / 38.
(3) سورة النور / 4.
(4) سورة المائدة / 33.
(5) حديث ماعز والغامدية أخرجه مسلم (صحيح مسلم 3 / 1321 - 1322) ط الحلبي.(17/131)
وَقَدْ وَقَعَ الإِِْجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ إِِقَامَةِ الْحُدُودِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَهُوَ أَنَّ الطِّبَاعَ الْبَشَرِيَّةَ، وَالشَّهْوَةَ النَّفْسَانِيَّةَ مَائِلَةٌ إِِلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَاقْتِنَاصِ الْمَلاَذِ، وَتَحْصِيل مَقْصُودِهَا وَمَحْبُوبِهَا مِنَ الشُّرْبِ وَالزِّنَى وَالتَّشَفِّي بِالْقَتْل وَأَخْذِ مَال الْغَيْرِ، وَالاِسْتِطَالَةِ عَلَى الْغَيْرِ بِالشَّتْمِ وَالضَّرْبِ، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ شَرْعَ هَذِهِ الْحُدُودِ حَسْمًا لِهَذَا الْفَسَادِ، وَزَجْرًا عَنِ ارْتِكَابِهِ، لِيَبْقَى الْعَالَمُ عَلَى نَظْمِ الاِسْتِقَامَةِ، فَإِِنَّ إِِخْلاَءَ الْعَالَمِ عَنْ إِِقَامَةِ الزَّاجِرِ يُؤَدِّي إِِلَى انْحِرَافِهِ، وَفِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لاَ يَخْفَى (1) .
وَلِذَا قَال صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَالْمَقْصِدُ الأَْصْلِيُّ مِنْ شَرْعِهِ الاِنْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ (2) .
أَنْوَاعُ الْحُدُودِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُطَبَّقُ عَلَى جَرِيمَةِ كُلٍّ مِنَ الزِّنَى وَالْقَذْفِ، وَالسُّكْرِ، وَالسَّرِقَةِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ يُعْتَبَرُ حَدًّا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهَا سِتَّةٌ، وَذَلِكَ بِإِِضَافَةِ حَدِّ الشُّرْبِ لِلْخَمْرِ خَاصَّةً. وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْحُدُودَ سَبْعَةٌ، فَيُضِيفُونَ إِِلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الرِّدَّةَ وَالْبَغْيَ، فِي حِينِ يَعْتَبِرُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 140، والاختيار 4 / 79، والطحطاوي 1 / 388، والفتاوى الهندية 2 / 143.
(2) فتح القدير 5 / 3 ط دار إحياء التراث العربي.(17/131)
الْقِصَاصَ أَيْضًا مِنَ الْحُدُودِ، حَيْثُ قَالُوا: الْحُدُودُ ثَمَانِيَةٌ وَعَدُّوهُ بَيْنَهَا. وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ قَتْل تَارِكِ الصَّلاَةِ عَمْدًا مِنَ الْحُدُودِ (1)
أَوْجُهُ الْخِلاَفِ بَيْنَ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ:
8 - أ - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الإِِْمَامَ لاَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ بِخِلاَفِ الْقِصَاصِ.
ب - لاَ تُورَثُ الْحُدُودُ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ فَيُورَثُ. وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي (الْقَذْفُ) .
ج - لاَ يَصِحُّ الْعَفْوُ فِي الْحُدُودِ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلاَفِ الْقِصَاصِ.
د - التَّقَادُمُ لاَ يَمْنَعُ مِنَ الشَّهَادَةِ بِالْقَتْل فِي الْقِصَاصِ بِخِلاَفِ الْحُدُودِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، سِوَى حَدِّ الْقَذْفِ.
هـ - يَثْبُتُ الْقِصَاصُ بِالإِِْشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ مِنَ الأَْخْرَسِ بِخِلاَفِ الْحُدُودِ.
و لاَ تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِي الْحُدُودِ، وَتَجُوزُ فِي الْقِصَاصِ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 140، والطحطاوي 2 / 388، والشرح الصغير 4 / 425 ط دار المعارف، والتاج والإكليل على مواهب الجليل 6 / 276، و 319، والمنثور في القواعد 2 / 39 وما بعدها، وكشاف القناع 6 / 77، 89، 104، 116، 128، 149، والمغني 8 / 156 وما بعدها، وتبصرة الحكام 2 / 135 ط دار الكتب العلمية والقليوبي 4 / 201.(17/132)
ز - لاَ تَتَوَقَّفُ الْحُدُودُ - مَا عَدَا حَدَّ الْقَذْفِ - عَلَى الدَّعْوَى بِخِلاَفِ الْقِصَاصِ.
ح - يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنِ الإِِْقْرَارِ فِي الْحُدُودِ وَلاَ تَجُوزُ فِي الْقِصَاصِ.
وَمَرَدُّ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْحُدُودَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلاَفِ الْقِصَاصِ، فَإِِنَّهُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ،
وَالتَّفْصِيل فِي أَبْوَابِ الْحُدُودِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (1) ، وَ (ر: قِصَاصٌ) .
أَوْجُهُ الْخِلاَفِ بَيْنَ التَّعْزِيرِ وَالْحُدُودِ:
9 - يَخْتَلِفُ التَّعْزِيرُ عَنِ الْحُدُودِ فِي أُمُورٍ يُرْجَعُ إِِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْزِيرٌ) .
تَدَاخُل الْحُدُودِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ مِنَ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، وَالْقَذْفِ (إِِذَا وَقَعَ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ) وَشُرْبِ الْخَمْرِ إِِذَا تَكَرَّرَ قَبْل إِِقَامَةِ الْحَدِّ، أَجْزَأَ حَدٌّ وَاحِدٌ بِغَيْرِ خِلاَفٍ، وَبِهِ قَال عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ، وَإِِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
أَمَّا إِِذَا وَقَعَ الْقَذْفُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدٍ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَذْفٌ) . وَالأَْصْل قَاعِدَةُ: إِِذَا اجْتَمَعَ أَمْرَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ مَقْصُودُهُمَا، دَخَل أَحَدُهُمَا فِي الآْخَرِ غَالِبًا، وَعَلَى هَذَا فَيُكْتَفَى بِحَدٍّ وَاحِدٍ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 353، والأشباه والنظائر لابن نجيم 145، 174، والفتاوى الهندية 2 / 167.(17/132)
لِجِنَايَاتٍ اتَّحَدَ جِنْسُهَا بِخِلاَفِ مَا اخْتَلَفَ جِنْسُهَا، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِِقَامَةِ الْحَدِّ هُوَ الزَّجْرُ وَأَنَّهُ يَحْصُل بِحَدٍّ وَاحِدٍ.
وَإِِنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، ثُمَّ حَدَثَتْ مِنْهُ جِنَايَةٌ أُخْرَى فَفِيهَا حَدُّهَا، لِعُمُومِ النُّصُوصِ وَلِوُجُودِ الْمُوجِبِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عَنِ الأَْمَةِ تَزْنِي قَبْل أَنْ تُحْصَنَ قَال: إِِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا (1) .
وَلأَِنَّ تَدَاخُل الْحُدُودِ إِِنَّمَا يَكُونُ مَعَ اجْتِمَاعِهَا، وَهَذَا الْحَدُّ الثَّانِي وَجَبَ بَعْدَ سُقُوطِ الأَْوَّل بِاسْتِيفَائِهِ (2) .
وَفِي حَالَةِ اجْتِمَاعِ الْحُدُودِ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا لَوْ زَنَى، وَسَرَقَ وَشَرِبَ الْخَمْرَ، أَوِ اجْتِمَاعِهَا مَعَ الْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَدَاخُلٌ) (وَتَعْزِيرٌ) .
عَدَمُ جَوَازِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ:
11 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ
__________
(1) حديث: " إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم. . . " أخرجه مسلم (3 / 1329 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) ابن عابدين 3 / 172، 176، والبدائع 7 / 55، 56، والأشباه والنظائر لابن نجيم 147، 148، والقوانين الفقهية 234، والتاج والإكليل على مواهب الجليل 6 / 313، 314، وروضة الطالبين 10 / 166، والمغني 8 / 213، ونيل المآرب 2 / 354.(17/133)
الشَّفَاعَةُ فِي الْحُدُودِ بَعْدَ وُصُولِهَا لِلْحَاكِمِ، وَالثُّبُوتِ عِنْدَهُ، لأَِنَّهُ طَلَبُ تَرْكِ الْوَاجِبِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْكَرَ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ شَفَعَ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَال: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى (1) . وَقَال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي خَلْقِهِ (2) .
وَأَمَّا قَبْل الْوُصُول إِِلَيْهِ، فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَ الرَّافِعِ لَهُ إِِلَى الْحَاكِمِ لِيُطْلِقَهُ، لأَِنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ قَبْل ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ. فَالْوُجُوبُ لاَ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْل.
وَقَال مَالِكٌ: إِِنْ عُرِفَ بِشَرٍّ وَفَسَادٍ فَلاَ أُحِبُّ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ أَحَدٌ، وَلَكِنْ يُتْرَكُ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ (3) .
أَثَرُ التَّوْبَةِ عَلَى الْحُدُودِ:
12 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ حَدَّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالرِّدَّةِ يَسْقُطَانِ بِالتَّوْبَةِ إِِذَا تَحَقَّقَتْ تَوْبَةُ
__________
(1) حديث: " أتشفع في حد من حدود الله " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 87 - ط السلفية) من حديث عائشة.
(2) أثر ابن عمر: " من حالت شفاعته دون حد من حدود الله " أخرجه ابن أبي شيبة (9 / 466 - ط الدر السلفية - بمبى) .
(3) ابن عابدين 3 / 140، والطحطاوي 2 / 388، والشرح الصغير 4 / 489، والقوانين الفقهية 349، 354، ومواهب الجليل 6 / 320، وروضة الطالبين 10 / 95، والمغني 8 / 281، 282.(17/133)
الْقَاطِعِ قَبْل الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ حَدُّ تَرْكِ الصَّلاَةِ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَهُ حَدًّا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْل أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) } .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّ بَقِيَّةَ الْحُدُودِ بَعْدَ رَفْعِهَا إِِلَى الْحَاكِمِ لاَ تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، أَمَّا قَبْل ذَلِكَ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِل الأَْظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِِلَى أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِِلَى أَنَّهُ لاَ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ وَلَوْ كَانَ قَبْل الرَّفْعِ إِِلَى الإِِْمَامِ. لِئَلاَّ يُتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِِلَى إِِسْقَاطِ الْحُدُودِ وَالزَّوَاجِرِ (2) .
سُقُوطُ الْحُدُودِ بِالشُّبْهَةِ:
13 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ. وَالشُّبْهَةُ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْفَاعِل: كَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً ظَنَّهَا حَلِيلَتَهُ. أَوْ فِي الْمَحَل: بِأَنْ يَكُونَ لِلْوَاطِئِ فِيهَا مِلْكٌ أَوْ شُبْهَةُ مِلْكٍ كَالأَْمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ. أَوْ فِي الطَّرِيقِ: بِأَنْ يَكُونَ حَرَامًا عِنْدَ
__________
(1) سورة المائدة / 34.
(2) ابن عابدين 3 / 140، والطحطاوي 2 / 381، والشرح الصغير 4 / 489، والقوانين الفقهية 354، وروضة الطالبين 10 / 97، والمنثور في القواعد 1 / 425، 426، والمغني 8 / 296، 297.(17/134)
قَوْمٍ، حَلاَلاً عِنْدَ آخَرَ. وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِِلَى " شُبْهَةٌ ".
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ (1) وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِِنَّ الإِِْمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ (2) . وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَتَلَقَّتْهُ الأُْمَّةُ بِالْقَبُول (3) .
سُقُوطُ الْحُدُودِ بِالرُّجُوعِ عَنِ الإِِْقْرَارِ:
14 - إِِذَا ثَبَتَتِ الْحُدُودُ بِالإِِْقْرَارِ، فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ، إِِذَا كَانَ الْحَدُّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى.
وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزِّنَى،
__________
(1) حديث: " ادرءوا الحدود بالشبهات " أخرجه السمعاني كما في المقاصد الحسنة للسخاوي (ص 30 - ط السعادة) ونقل عن ابن حجر أنه قال: " في سنده من لا يعرف ".
(2) حديث: " ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم. . . " أخرجه الترمذي (4 / 33 - ط الحلبي) من حديث عائشة، وضعفه ابن حجر في التلخيص (4 / 56 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3)) ابن عابدين 3 / 149، والأشباه والنظائر لابن نجيم 142، والقوانين الفقهية 347، والأشباه والنطائر للسيوطي 122، والمنثور في القواعد 2 / 225، وروضة الطالبين 10 / 92، 93، وكشاف القناع 6 / 96.(17/134)
لَقَّنَهُ الرُّجُوعَ (1) ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلاً لِلسُّقُوطِ بِالرُّجُوعِ مَا كَانَ لِلتَّلْقِينِ فَائِدَةٌ. وَلأَِنَّهُ يُورِثُ الشُّبْهَةَ، وَالرُّجُوعُ عَنِ الإِِْقْرَارِ قَدْ يَكُونُ نَصًّا، وَقَدْ يَكُونُ دَلاَلَةً، بِأَنْ يَأْخُذَ النَّاسُ فِي رَجْمِهِ، فَيَهْرُبَ وَلاَ يَرْجِعُ، أَوْ يَأْخُذَ الْجَلاَّدُ فِي الْجَلْدِ فَيَهْرُبَ، وَلاَ يَرْجِعُ، فَلاَ يُتَعَرَّضُ لَهُ، لأَِنَّ الْهَرَبَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ دَلاَلَةُ الرُّجُوعِ.
وَاسْتَثْنَوْا حَدَّ الْقَذْفِ، فَإِِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ، لأَِنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ، وَهُوَ لاَ يَحْتَمِل السُّقُوطَ بِالرُّجُوعِ بَعْدَمَا ثَبَتَ كَالْقِصَاصِ.
وَإِِذَا ثَبَتَ الْحَدُّ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الْحَمْل فِي الزِّنَى - عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ - لَمْ يَسْقُطْ بِالرُّجُوعِ (2) .
وَيَسْقُطُ الْحَدُّ بِرُجُوعِ الشُّهُودِ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ إِِذَا كَانَ الْبَاقِي أَقَل مِنَ النِّصَابِ بَعْدَ الْقَضَاءِ، قَبْل الإِِْمْضَاءِ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي " كِتَابُ الشَّهَادَاتِ " مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
سُقُوطُ الْحُدُودِ بِمَوْتِ الشُّهُودِ:
15 - يَسْقُطُ حَدُّ الرَّجْمِ خَاصَّةً بِمَوْتِ الشُّهُودِ -
__________
(1) حديث ماعز. أخرجه مسلم (3 / 1319 - ط الحلبي) من حديث جابر بن سمرة.
(2) ابن عابدين 3 / 140، والبدائع 7 / 61، 62، والتاج والإكليل على مواهب الجليل 6 / 294، والشرح الصغير 4 / 453، 454، والقوانين الفقهية ص 349، وروضة الطالبين 10 / 97، 98، والمنثور في القواعد 2 / 40، والمغني 8 / 197، 198.(17/135)
عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُونَ لإِِِقَامَةِ الْحَدِّ الْبِدَايَةَ بِالشُّهُودِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ - لأَِنَّ بِالْمَوْتِ قَدْ فَاتَتِ الْبِدَايَةُ عَلَى وَجْهٍ لاَ يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ، فَسَقَطَ الْحَدُّ ضَرُورَةً (1) .
سُقُوطُ الْحُدُودِ بِالتَّكْذِيبِ وَغَيْرِهِ:
16 - تَكْذِيبُ الْمَزْنِيِّ بِهَا لِلْمُقِرِّ بِالزِّنَى قَبْل إِِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَتَكْذِيبُ الْمَقْذُوفِ شُهُودَهُ عَلَى الْقَذْفِ، وَهِيَ الْبَيِّنَةُ بِأَنْ يَقُول: شُهُودِي زُورٌ، وَادِّعَاءُ النِّكَاحِ وَالْمَهْرِ قَبْل إِِقَامَةِ حَدِّ الزِّنَى تُعْتَبَرُ مِنْ مُسْقِطَاتِ الْحُدُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ فُصِّلَتْ فِي أَبْوَابِهَا (2) . وَ (ر: زِنًى، قَذْفٌ) .
عَدَمُ إِِرْثِ الْحُدُودِ:
17 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحُدُودَ لاَ تُورَثُ، وَكَذَا لاَ يُؤْخَذُ عَنْهَا عِوَضٌ، وَلاَ صُلْحَ فِيهَا وَلاَ عَفْوَ، لأَِنَّهَا حَقُّ الشَّرْعِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ حَدَّ الْقَذْفِ، لأَِنَّ الْغَالِبَ فِيهِ عِنْدَهُمْ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُورَثُ وَيَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ.
وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَوَازِ الْعَفْوِ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ.
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ: فَقَال فِي رِوَايَةٍ: لَهُ الْعَفْوُ مَا لَمْ يَبْلُغِ الإِِْمَامَ، فَإِِنْ بَلَغَهُ فَلاَ عَفْوَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: قَال: لَهُ
__________
(1) البدائع 7 / 61، 62، وابن عابدين 3 / 145.
(2) البدائع 7 / 61.(17/135)
الْعَفْوُ مُطْلَقًا، بَلَغَ ذَلِكَ الإِِْمَامَ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (قَذْفٌ) .
التَّلَفُ بِسَبَبِ الْحَدِّ:
18 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحُدُودَ إِِذَا أُتِيَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَنَّهُ لاَ يُضْمَنُ مَنْ تَلِفَ بِهَا، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ فَعَلَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ، فَلاَ يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلأَِنَّهُ نَائِبٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَأْمُورٌ بِإِِقَامَةِ الْحَدِّ، وَفِعْل الْمَأْمُورِ لاَ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلاَمَةِ. وَإِِنْ زَادَ عَلَى الْحَدِّ فَتَلِفَ وَجَبَ الضَّمَانُ بِغَيْرِ خِلاَفٍ (2) .
الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِلذُّنُوبِ:
19 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْحَدَّ الْمُقَدَّرَ فِي ذَنْبٍ كَفَّارَةٌ لِذَلِكَ الذَّنْبِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، الْحَدُّ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، بَل الْمُطَهِّرُ التَّوْبَةُ، فَإِِذَا حُدَّ وَلَمْ يَتُبْ يَبْقَى عَلَيْهِ إِِثْمُ الْمَعْصِيَةِ عِنْدَهُمْ (3) ، كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى
__________
(1) ابن عابدين 3 / 173، والقوانين الفقهية 350، وروضة الطالبين 10 / 106، 107، والمغني 8 / 217 ط الرياض، وكشاف القناع 6 / 104.
(2) ابن عابدين 3 / 189، والحطاب 6 / 321، والقوانين الفقهية 330، وروضة الطالبين 10 / 101، 102، وكشاف القناع 6 / 83، والمغني 8 / 311.
(3) البابرتي المطبوع مع فتح القدير 5 / 3 ط دار إحياء التراث العربي، وحاشية البجيرمي 4 / 140 ط مصطفى البابي الحلبي، وفتح الباري 12 / 84.(17/136)
فِي حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (1) } .
الإِِْثْبَاتُ فِي الْحُدُودِ:
20 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحُدُودَ تَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الإِِْقْرَارِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِمَا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ كَعِلْمِ الإِِْمَامِ وَقَرِينَةِ الْحَبَل وَغَيْرِهِمَا:
أَوَّلاً - الْبَيِّنَةُ وَشُرُوطُهَا فِي الْحُدُودِ:
تَنْقَسِمُ شُرُوطُ الْبَيِّنَةِ إِِلَى قِسْمَيْنِ:
1 - مَا يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا:
21 - وَهِيَ الذُّكُورَةُ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ، فَلاَ تُقْبَل شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ. وَالأَْصَالَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ لَدَى الْحَنَابِلَةِ، فَلاَ تُقْبَل الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلاَ كِتَابُ الْقَاضِي إِِلَى الْقَاضِي، لِتَمَكُّنِ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ فِيهَا، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ عَدَمَ اشْتِرَاطِ الأَْصَالَةِ، وَهَذَا إِِذَا تَعَذَّرَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ مِنَ الشَّاهِدِ الأَْوَّل لِمَرَضٍ أَوْ غَيْبَةٍ أَوْ مَوْتٍ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٌ) .
__________
(1) سورة المائدة / 33.
(2) ابن عابدين 3 / 142، والبدائع 7 / 46، 47، والشرح الصغير 4 / 454، والقوانين الفقهية 306، ومواهب الجليل 6 / 179، وبداية المجتهد 2 / 464، وشرح الزرقاني 7 / 195، وروضة الطالبين 10 / 95، 97، والمغني 8 / 198، 9 / 206، 207، ونيل المآرب 2 / 358.(17/136)
مَا تَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُ الْحُدُودِ:
أ - عَدَدُ الأَْرْبَعَةِ:
22 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ لاَ يَقِل عَدَدُ الشُّهُودِ عَنْ أَرْبَعَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ (1) } .
وَقَال سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُول اللَّهِ: إِِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلاً أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ ، قَال: نَعَمْ (2) .
ب - اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ:
23 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مُجْتَمِعِينَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَإِِنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ يَشْهَدُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ، وَيُحَدُّونَ وَإِِنْ كَثُرُوا.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ
__________
(1) سورة النساء / 15.
(2) مقالة " سعد بن عبادة ". أخرجها مسلم (2 / 1135 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة وانظر: ابن عابدين 3 / 142، والشرح الصغير 4 / 265، وبداية المجتهد 2 / 464، وروضة الطالبين 10 / 97، ونيل المآرب 2 / 358.(17/137)
شُهَدَاءَ (1) . . .} وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَجَالِسَ، وَإِِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَتِّيُّ (2) .
ج - عَدَمُ التَّقَادُمِ:
24 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ شَهِدُوا بِزِنًى قَدِيمٍ، وَجَبَ الْحَدُّ، لِعُمُومِ الآْيَةِ. وَلأَِنَّ التَّأْخِيرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْبَةٍ، وَالْحَدُّ لاَ يَسْقُطُ بِمُطْلَقِ الاِحْتِمَال، فَإِِنَّهُ لَوْ سَقَطَ بِكُل احْتِمَالٍ لَمْ يَجِبْ حَدٌّ أَصْلاً (3) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّ عَدَمَ التَّقَادُمِ فِي الْبَيِّنَةِ شَرْطٌ، وَذَلِكَ فِي حَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ لأَِحْمَد.
وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّاهِدَ إِِذَا عَايَنَ الْجَرِيمَةَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ (4) } وَبَيْنَ السَّتْرِ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (5)
__________
(1) سورة النور / 13.
(2) ابن عابدين 3 / 142، والبدائع 7 / 48، والشرح الصغير 4 / 265، وروضة الطالبين 10 / 98، والمغني 8 / 200، ونيل المآرب 2 / 358.
(3) الشرح الصغير 4 / 249، والقوانين الفقهية 354، وروضة الطالبين 10 / 98، والمغني 8 / 207.
(4) سورة الطلاق / 2.
(5) حديث: " من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ". أخرجه مسلم (4 / 1996 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.(17/137)
فَلَمَّا لَمْ يَشْهَدْ عَلَى فَوْرِ الْمُعَايَنَةِ دَل ذَلِكَ عَلَى اخْتِيَارِ جِهَةِ السَّتْرِ، فَإِِذَا شَهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ دَل عَلَى أَنَّ الضَّغِينَةَ حَمَلَتْهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: أَيُّمَا قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ، فَإِِنَّمَا شَهِدُوا عَنْ ضِغْنٍ، وَلاَ شَهَادَةَ لَهُمْ، وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَيَكُونُ إِِجْمَاعًا. وَلأَِنَّ التَّأْخِيرَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ يُورِثُ تُهْمَةً، وَلاَ شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ (1) .
وَهُنَاكَ تَفْصِيلاَتٌ وَشُرُوطٌ فِيهَا خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي (شَهَادَةٌ) (وَزِنًى) .
ثَانِيًا - الإِِْقْرَارُ:
25 - شُرُوطُ الإِِْقْرَارِ فِي الْحُدُودِ قِسْمَانِ:
شُرُوطٌ تَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا: وَهِيَ الْبُلُوغُ وَالْعَقْل وَالنُّطْقُ، فَلاَ يَصِحُّ إِِقْرَارُ الصَّبِيِّ، لأَِنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَدِّ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ جِنَايَةً، وَفِعْل الصَّبِيِّ لاَ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً.
وَكَذَلِكَ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الإِِْقْرَارُ بِالْخِطَابِ وَالْعِبَارَةِ دُونَ الْكِتَابِ وَالإِِْشَارَةِ، لأَِنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالْبَيَانِ الْمُتَنَاهِي، وَلِذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ
__________
(1) البدائع 7 / 46، والمغني 8 / 207.(17/138)
بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالزِّنَى (1) .
وَيُقْبَل إِِقْرَارُ الأَْخْرَسِ بِالإِِْشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَلاَ تُقْبَل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ احْتِمَالٌ لِلْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَتَفْصِيلُهُ فِي: (إِقْرَارٌ) .
شُرُوطٌ تَخُصُّ بَعْضَ الْحُدُودِ مِنْهَا:
أ - تَكْرَارُ الإِِْقْرَارِ:
26 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يُقِرَّ الزَّانِي أَوِ الزَّانِيَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَبِهَذَا قَال الْحَكَمُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِِسْحَاقُ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ تَكْرَارَ الإِِْقْرَارِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيُكْتَفَى بِإِِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَبِهِ قَال الْحَسَنُ وَحَمَّادُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالطَّبَرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَجَمَاعَةٌ. لأَِنَّ الإِِْقْرَارَ إِِنَّمَا صَارَ حُجَّةً فِي الشَّرْعِ لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ التَّكْرَارِ وَالتَّوْحِيدِ سَوَاءٌ، وَلأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا (2) فَعَلَّقَ الرَّجْمَ عَلَى مُجَرَّدِ الاِعْتِرَافِ.
__________
(1) البدائع 7 / 49، 50، والقوانين الفقهية / 349، وروضة الطالبين 10 / 95، والمغني 8 / 191، 198.
(2) حديث: " أغد يا أنيس إلى امرأة هذا. . . " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 160 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1324 - 1325 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني.(17/138)
وَاسْتَدَل الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِمَا رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا جَاءَ إِِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَرَّ بِالزِّنَى، فَأَعْرَض عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ إِِلَى الأَْرْبَعِ (1) ، فَلَوْ كَانَ الإِِْقْرَارُ مَرَّةً مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَمَا أَخَّرَهُ إِِلَى الأَْرْبَعِ (2) .
ب - اشْتِرَاطُ عَدَدِ الْمَجَالِسِ:
27 - اخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ عَدَدِ مَجَالِسِ الإِِْقْرَارِ عِنْدَ مَنِ اشْتَرَطَ تَكْرَارَهُ، وَكَوْنِ الإِِْقْرَارِ بَيْنَ يَدَيِ الإِِْمَامِ، وَكَوْنِ الزَّانِي وَالْمَزْنِيِّ بِهَا مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى دَعْوَى الشُّبْهَةِ، وَكَوْنِ الزَّانِي مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ وُجُودُ الزِّنَى، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي كُل حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ وَفِي مُصْطَلَحِ: (إِِقْرَارٌ (3)) .
أَثَرُ عِلْمِ الإِِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ فِي الْحُدُودِ:
28 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) حديث ماعز. سبق تخريجه ف 14.
(2) ابن عابدين 3 / 143، 144، والبدائع 7 / 49، ومواهب الجليل 6 / 294، والتاج والإكليل على مواهب الجليل 6 / 294، والشرح الصغير 4 / 453، والقوانين الفقهية / 349، وشرح الزرقاني 8 / 81 ط دار الفكر، وبداية المجتهد 2 / 438، 439 ط دار المعرفة، وروضة الطالبين 10 / 95، 143، والقليوبي 4 / 181، والمغني 8 / 191، 192، وسبل السلام 4 / 5 ط المكتبة التجارية الكبرى.
(3) البدائع 7 / 50، 51، وروضة الطالبين 10 / 95، والمغني 8 / 207، 208، 280.(17/139)
فِي قَوْلٍ: إِِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلإِِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ إِِقَامَةُ الْحَدِّ بِعِلْمِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ (1) } وَقَال أَيْضًا: {فَإِِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (2) } وَبِهِ قَال أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ: لَهُ إِِقَامَتُهُ
بِعِلْمِهِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي ثَوْرٍ. لأَِنَّهُ إِِذَا جَازَتْ لَهُ إِِقَامَتُهُ بِالْبَيِّنَةِ وَالاِعْتِرَافِ الَّذِي لاَ يُفِيدُ إِِلاَّ الظَّنَّ، فَمَا يُفِيدُ الْعِلْمُ هُوَ أَوْلَى (3) .
مَدَى ثُبُوتِ الْحُدُودِ بِالْقَرَائِنِ:
29 - تَخْتَلِفُ الْقَرَائِنُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْحُدُودِ - عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهَا - مِنْ حَدٍّ لآِخَرَ.
فَالْقَرِينَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الزِّنَى: هِيَ ظُهُورُ الْحَمْل فِي امْرَأَةٍ غَيْرِ مُتَزَوِّجَةٍ أَوْ لاَ يُعْرَفُ لَهَا زَوْجٌ.
وَالْقَرِينَةُ فِي الشُّرْبِ: الرَّائِحَةُ، وَالْقَيْءُ، وَالسُّكْرُ، وَوُجُودُ الْخَمْرِ عِنْدَ الْمُتَّهَمِ، وَفِي السَّرِقَةِ وُجُودُ الْمَال الْمَسْرُوقِ عِنْدَ الْمُتَّهَمِ، وَوُجُودُ أَثَرٍ لِلْمُتَّهَمِ فِي مَوْضِعِ السَّرِقَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَفِي كُلٍّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَقْوَالٍ فُصِّلَتْ فِي مَوَاطِنِهَا (4) ، وَتُنْظَرُ فِي كُل حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ وَفِي مُصْطَلَحِ: (قَرِينَةٌ) .
__________
(1) سورة النساء / 15.
(2) سورة النور / 13.
(3) ابن عابدين 5 / 353، وكشاف القناع 6 / 80، والمغني 8 / 210.
(4) التاج والإكليل على مواهب الجليل 6 / 296، والشرح الصغير 4 / 454، والقوانين الفقهية / 353، والمغني 8 / 210، 211، 278، 309.(17/139)
أَنْوَاعُ الْحُدُودِ:
الْحُدُودُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ:
أ - الرَّجْمُ:
30 - الرَّجْمُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالإِِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّانِي إِِذَا كَانَ مُحْصَنًا (1) ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (زِنًى وَرَجْمٌ) .
ب - الْجَلْدُ:
31 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ الزَّانِي الْبِكْرِ مِائَةُ جَلْدَةٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ (2) } .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ فِي عُقُوبَةِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّ الْجَلْدَ لاَ يَجْتَمِعُ مَعَ الرَّجْمِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ وَغَيْرَهُمَا، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُ جَلَدَ وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَلأَِنَّ الْحَدَّ إِِنَّمَا وُضِعَ لِلزَّجْرِ، وَلاَ تَأْثِيرَ لِلزَّجْرِ بِالضَّرْبِ مَعَ الرَّجْمِ، وَاخْتَارَ هَذَا مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَبُو إِِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الأَْثْرَمُ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 145، 146، والبدائع 7 / 39 وما بعدها، وشرح الزرقاني 8 / 82، وروضة الطالبين 10 / 86، والمغني 8 / 161.
(2) سورة النور / 2.(17/140)
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْجَلْدَ يَجْتَمِعُ مَعَ الرَّجْمِ وَبِهِ قَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِِسْحَاقُ، فَيُجْلَدُ الزَّانِي الْمُحْصَنُ أَوَّلاً، ثُمَّ يُرْجَمُ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عُبَادَةَ قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ (1) . وَبِفِعْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّهُ جَلَدَ شُرَاحَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثُمَّ رَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَال جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبِهِ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَإِِلَيْهِ ذَهَبَ إِِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْجَلْدَ عُقُوبَةُ الْقَذْفِ وَالشُّرْبِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ فِي الشُّرْبِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي أَبْوَابِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (2) ، وَ (ر: قَذْفٌ) وَ (شُرْبٌ) .
ج - التَّغْرِيبُ:
32 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ يَجْتَمِعُ مَعَ الْجَلْدِ تَغْرِيبُ الزَّانِي الْبِكْرِ، فَالتَّغْرِيبُ عِنْدَهُمْ يُعْتَبَرُ حَدًّا كَالْجَلْدِ، لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبِكْرُ
__________
(1) حديث عبادة: " الثيب بالثيب جلد مائة والرجم ". أخرجه مسلم (3 / 1316 - ط الحلبي) .
(2) ابن عابدين 3 / 145، 146، والبدائع 7 / 39 وما بعدها، والشرح الصغير 4 / 455، وبداية المجتهد 2 / 435، وشرح الزرقاني 8 / 82، 83، وروضة الطالبين 10 / 86، والمغني 8 / 160، 161، 186، 187.(17/140)
بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ (1) ، وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَبِهِ قَال ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَإِِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالأَْوْزَاعِيُّ، وَإِِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ.
إِِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الرَّجُل وَالْمَرْأَةِ، فَيَقُولُونَ بِتَغْرِيبِ الرَّجُل دُونَ الْمَرْأَةِ، لأَِنَّ الْمَرْأَةَ مُحْتَاجَةٌ إِِلَى حِفْظٍ وَصِيَانَةٍ، فَلاَ يَجُوزُ تَغْرِيبُهَا إِِلاَّ بِمَحْرَمٍ، وَهُوَ يُفْضِي إِِلَى تَغْرِيبِ مَنْ لَيْسَ بِزَانٍ، وَنَفْيِ مَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ، وَلأَِنَّهَا عَوْرَةٌ، وَفِي نَفْيِهَا تَضْيِيعٌ لَهَا وَتَعْرِيضُهَا لِلْفِتْنَةِ، وَلِهَذَا نُهِيَتْ عَنِ السَّفَرِ مَعَ غَيْرِ مَحْرَمٍ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ التَّغْرِيبَ لَيْسَ وَاجِبًا، وَلَيْسَ حَدًّا كَالْجَلْدِ، وَإِِنَّمَا هِيَ عُقُوبَةٌ تَعْزِيرِيَّةٌ يَجُوزُ لِلإِِْمَامِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَلْدِ إِِنْ رَأَى فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً، لأَِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: حَسْبُهُمَا مِنَ الْفِتْنَةِ أَنْ يُنْفَيَا.
وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَرَّبَ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فِي الْخَمْرِ إِِلَى خَيْبَرَ، فَلَحِقَ بِهِرَقْل فَتَنَصَّرَ، فَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لاَ أُغَرِّبُ مُسْلِمًا بَعْدَ هَذَا أَبَدًا، وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْجَلْدِ دُونَ التَّغْرِيبِ،
__________
(1) حديث: " البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ". أخرجه مسلم (3 / 1316 - ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت.(17/141)
فَإِِيجَابُ التَّغْرِيبِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ (1) . وَيُرْجَعُ لِتَفْصِيل ذَلِكَ إِِلَى مَوْطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ. وَ (ر: زِنًى) و (َتَغْرِيبٌ) .
د - الْقَطْعُ:
33 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ السَّرِقَةَ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ بِالنَّصِّ، وَالإِِْجْمَاعِ.
أَمَّا النَّصُّ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ (2) } .
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا (3) .
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ قَطْعِ السَّارِقِ فِي الْجُمْلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَل الْقَطْعِ وَمَوْضِعِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (4) وَالتَّفْصِيل فِي " سَرِقَةٌ ".
وَكَذَلِكَ يُقْطَعُ الْمُحَارِبُ مِنْ خِلاَفٍ إِِذَا أَخَذَ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 147، والبدائع 7 / 39، وحاشية الزرقاني 8 / 83، والشرح الصغير 4 / 457، وبداية المجتهد 2 / 436، وروضة الطالبين 10 / 87 وما بعدها، والمغني 8 / 166 وما بعدها.
(2) سورة المائدة / 38.
(3) حديث: " تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 96 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1312 - ط الحلبي) من حديث عائشة واللفظ للبخاري.
(4) البدائع 7 / 55، والقوانين الفقهية / 352، وروضة الطالبين 8 / 240، وكشاف القناع 4 / 47.(17/141)
الْمَال وَلَمْ يَقْتُل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبِهِ قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الإِِْمَامَ مُخَيَّرٌ فِي عِقَابِهِ بِأَيَّةِ عُقُوبَةٍ جَاءَتْ بِهَا آيَةُ الْمُحَارَبَةِ مَا عَدَا النَّفْيَ، فَلاَ تَخْيِيرَ فِيهِ (1) ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (حِرَابَةٌ) .
هـ - الْقَتْل وَالصُّلْبُ:
34 - إِِذَا قَتَل الْمُحَارِبُ وَأَخَذَ الْمَال فَإِِنَّهُ يُقْتَل وَيُصْلَبُ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ، وَبِهِ قَال سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الزُّهْرِيُّ.
وَإِِذَا قَتَل وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَال فَإِِنَّهُ يُقْتَل وَلاَ يُصْلَبُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ يُصْلَبُ، لأَِنَّهُ مُحَارِبٌ يَجِبُ قَتْلُهُ، فَيُصْلَبُ كَاَلَّذِي أَخَذَ الْمَال (2) . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي (تَصْلِيبٌ) .
وَالْقَتْل كَذَلِكَ عُقُوبَةٌ حَدِّيَّةٌ لِلرِّدَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُل. وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُل عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بَدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ (3) رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَبِهِ قَال الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَكْحُولٌ،
__________
(1) البدائع 7 / 93، والقوانين الفقهية / 355، وبداية المجتهد 2 / 455، وروضة الطالبين 10 / 156، والمغني 8 / 288، 293، 294.
(2) المراجع السابقة.
(3) حديث: " من بدل دينه فاقتلوه " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 267 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عباس.(17/142)
وَحَمَّادٌ، وَاللَّيْثُ، وَالأَْوْزَاعِيُّ وَإِِسْحَاقُ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تُقْتَل بِالرِّدَّةِ، بَل تُجْبَرُ عَلَى الإِِْسْلاَمِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ، لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَتْل الْمَرْأَةِ الْكَافِرَةِ (1) .
وَلأَِنَّهَا لاَ تُقْتَل بِالْكُفْرِ الأَْصْلِيِّ، فَلاَ تُقْتَل بِالطَّارِئِ كَالصَّبِيِّ (2) .
وَفِي قَتْل الْبُغَاةِ، وَهُمُ الْمُحَارِبُونَ عَلَى التَّأْوِيل خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَغْيٌ (3)) .
شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَدِّ:
35 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحَدَّ لاَ يَجِبُ إِِلاَّ عَلَى مُكَلَّفٍ، وَهُوَ الْعَاقِل الْبَالِغُ، لأَِنَّهُ إِِذَا سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْ غَيْرِ الْعَاقِل الْبَالِغِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَسَقَطَ الإِِْثْمُ عَنْهُ فِي الْمَعَاصِي، فَالْحَدُّ الْمَبْنِيُّ عَلَى الدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ أَوْلَى.
وَأَمَّا الإِِْسْلاَمُ فَالأَْصْل عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُدُودَ تُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّينَ وَلاَ تُقَامُ عَلَى
__________
(1) حديث: " نهى عن قتل المرأة الكافرة ". من ذلك ما ورد في حديث عبد الله بن عمر: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان. أخرجه البخاري (الفتح 12 / 148 - ط السلفية) .
(2) البدائع 7 / 135، وبداية المجتهد 2 / 459، ومواهب الجليل 6 / 281، ونهاية المحتاج 7 / 299، وروضة الطالبين 10 / 75.
(3) بداية المجتهد 2 / 458.(17/142)
مُسْتَأْمَنٍ، إِِلاَّ حَدُّ الْقَذْفِ فَيُقَامُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ. وَلاَ يُقَامُ عَلَى الْكَافِرِ حَدُّ الشُّرْبِ عِنْدَهُمْ.
وَفِي حَدِّ الزِّنَى تَفْصِيلٌ: قَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِِذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ (الْمُسْتَأْمَنُ) بِذِمِّيَّةٍ تُحَدُّ الذِّمِّيَّةُ وَلاَ يُحَدُّ الْحَرْبِيُّ. وَإِِذَا زَنَى ذِمِّيٌّ بِمُسْتَأْمَنَةٍ يُحَدُّ الذِّمِّيُّ وَلاَ تُحَدُّ الْمُسْتَأْمَنَةُ.
وَقَال أَبُو يُوسُفَ كِلاَهُمَا يُحَدَّانِ.
وَقَال مُحَمَّدٌ فِي الصُّورَةِ الأُْولَى: لاَ تُحَدُّ الذِّمِّيَّةُ أَيْضًا لأَِنَّ الْمَرْأَةَ تَابِعَةٌ لِلرَّجُل فَامْتِنَاعُ الْحَدِّ فِي حَقِّ الأَْصْل يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي حَقِّ الْفَرْعِ (1) .
وَتَفْصِيل كُل حَدٍّ فِي مُصْطَلَحِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْل وَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ بِإِِسْلاَمِهِ.
أَمَّا حَدُّ الزِّنَى فَإِِنَّهُ يُؤَدَّبُ فِيهِ فَقَطْ وَلاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِِلاَّ إِِذَا اغْتَصَبَ امْرَأَةً مُسْلِمَةً فَإِِنَّهُ يُقْتَل لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ. وَكَذَلِكَ لَوِ ارْتَكَبَ جَرِيمَةَ اللِّوَاطِ فَإِِنَّهُ يُرْجَمُ. وَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَوْفَى مِنَ الذِّمِّيِّ مَا ثَبَتَ وَلَوْ حَدَّ زِنًى أَوْ قَطْعَ سَرِقَةٍ، وَلاَ يُحَدُّ بِشُرْبِ خَمْرٍ لِقُوَّةِ أَدِلَّةِ حِلِّهِ فِي عَقِيدَتِهِمْ. وَلاَ يُشْتَرَطُ فِي إِِحْصَانِ الرَّجْمِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 155، وحاشية الطحطاوي 2 / 396، والبدائع 7 / 39، 40.
(2) الدسوقي 4 / 314، 321، والمواق 6 / 294، والفواكه الدواني 2 / 284، والقوانين الفقهية / 346.(17/143)
وَلاَ يُقَامُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَيُحَدُّ الْكَافِرُ حَدَّ الْقَذْفِ ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ مُعَاهَدًا (1) .
وَتَفْصِيل كُل حَدٍّ فِي مُصْطَلَحِهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِِذَا رُفِعَ إِِلَى الْحَاكِمِ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ مَنْ فَعَل مُحَرَّمًا يُوجِبُ عُقُوبَةً مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ وَالْقَتْل فَعَلَيْهِ إِِقَامَةُ حَدِّهِ عَلَيْهِ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِيَهُودِيَّيْنِ فَجَرَا بَعْدَ إِِحْصَانِهِمَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا (2) .
وَإِِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ إِِبَاحَتَهُ كَشُرْبِ خَمْرٍ لَمْ يُحَدَّ، وَإِِنْ تَحَاكَمَ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ بِغَيْرِ خِلاَفٍ. وَيُقْطَعُ الذِّمِّيُّ بِالسَّرِقَةِ. وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ. وَقَال ابْنُ حَامِدٍ: لاَ يُقْطَعُ الْمُسْتَأْمَنُ.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ.
وَدَلِيل وُجُوبِ الْقَطْعِ أَنَّهُ حَدٌّ يُطَالَبُ بِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ كَحَدِّ الْقَذْفِ (3) .
وَلاَ يَجِبُ الْحَدُّ إِِلاَّ عَلَى مَنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ، وَبِهَذَا قَال عَامَّةُ أَهْل الْعِلْمِ، لِقَوْل عُمَرَ وَعُثْمَانَ
__________
(1) قليوبي 3 / 256، و 4 / 180، والمهذب 2 / 269، ومغني المحتاج 3 / 256، و 4 / 147.
(2) حديث ابن عمر: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهوديين. أخرجه البخاري (الفتح 12 / 128 - ط السلفية) .
(3) المغني 8 / 214، 268.(17/143)
وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: لاَ حَدَّ إِِلاَّ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ. فَإِِنِ ادَّعَى الزَّانِي الْجَهْل بِالتَّحْرِيمِ وَكَانَ يُحْتَمَل أَنْ يَجْهَلَهُ كَحَدِيثِ الْعَهْدِ بِالإِِْسْلاَمِ، قُبِل مِنْهُ، لأَِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، وَإِِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ كَالْمُسْلِمِ النَّاشِئِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يُقْبَل مِنْهُ، لأَِنَّ تَحْرِيمَ الزِّنَى لاَ يَخْفَى عَلَى مَنْ هُوَ كَذَلِكَ (كَمَا أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى مُكْرَهَةٍ) . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) } .
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (2) .
وَعَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ امْرَأَةً اسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ (3) .
__________
(1) سورة النور / 33.
(2) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ". أخرجه ابن ماجه (1 / 659 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس، وقال البوصيري: " إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع "، وذكر طرقها السخاوي في المقاصد (ص 229 - 230 - ط مكتبة الخانجي) ثم قال: " مجموع هذه الطرق يظهر أن للحديث أصلا ".
(3) حديث عبد الجبار بن وائل عن أبيه أن امرأة استكرهت فدرأ عنها الحد. ذكر ابن قدامة في المغني (8 / 186 - ط الرياض) وعزاه إلى الأثرم.(17/144)
وَفِي حَدِّ الْمُكْرَهِ عَلَى الزِّنَى خِلاَفٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِِلَى مُصْطَلَحِ (إِِكْرَاهٌ (1)) وَ (ر: زِنًى) وَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى لِوُجُوبِ كُل حَدٍّ فُصِّل، الْكَلاَمُ عَلَيْهَا فِي أَبْوَابِهَا.
مَا يُرَاعَى فِي إِِقَامَةِ الْحَدِّ:
يُرَاعَى فِي إِِقَامَةِ الْحَدِّ أُمُورٌ مِنْهَا مَا يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا، وَمِنْهَا مَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ:
مَا يُرَاعَى فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا:
الإِِْمَامَةُ:
36 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقِيمُ الْحَدَّ إِِلاَّ الإِِْمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، وَذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ، وَهِيَ صِيَانَةُ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ. وَالإِِْمَامُ قَادِرٌ عَلَى الإِِْقَامَةِ لِشَوْكَتِهِ، وَمَنَعَتِهِ، وَانْقِيَادِ الرَّعِيَّةِ لَهُ قَهْرًا وَجَبْرًا، كَمَا أَنَّ تُهْمَةَ الْمَيْل وَالْمُحَابَاةِ وَالْتَوَانِي عَنِ الإِِْقَامَةِ مُنْتَفِيَةٌ فِي حَقِّهِ، فَيُقِيمُهَا عَلَى وَجْهِهِ فَيَحْصُل الْغَرَضُ الْمَشْرُوعُ بِيَقِينٍ، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقِيمُ الْحُدُودَ، وَكَذَا
__________
(1) ابن عابدين 3 / 141 وما بعدها، والبدائع 7 / 39 وما بعدها، 67، 91، والفتاوى الهندية 2 / 143، والتاج والإكليل على مواهب الجليل 6 / 291، 294، والقوانين الفقهية / 346، 347، 351، 353، وبداية المجتهد 2 / 440، وروضة الطالبين 10 / 90، 95، 142، 169، والمغني 8 / 185، 187، وكشاف القناع 6 / 78، 97.(17/144)
خُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ الإِِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ لإِِِقَامَةِ الْحَدِّ (1) .
أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الإِِْقَامَةِ:
37 - لَوْ بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ بِالْفِسْقِ أَوِ الرِّدَّةِ، أَوِ الْجُنُونِ، أَوِ الْعَمَى، أَوِ الْخَرَسِ، أَوْ حَدِّ الْقَذْفِ، أَوْ غَيْرِهَا بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ بِحَيْثُ يَنْقُصُ النِّصَابُ لاَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ اعْتِرَاضَ أَسْبَابِ الْجَرْحِ عَلَى الشَّهَادَةِ عِنْدَ إِِمْضَاءِ الْحَدِّ بِمَنْزِلَةِ اعْتِرَاضِهَا عِنْدَ الْقَضَاءِ بِهِ، وَاعْتِرَاضُهَا عِنْدَ الْقَضَاءِ يُبْطِل الشَّهَادَةَ، فَكَذَا عِنْدَ الإِِْمْضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ. ر: (قَذْفٌ) .
هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ. وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ (2) .
شُرُوطٌ تَخُصُّ بَعْضَ الْحُدُودِ:
الْبِدَايَةُ مِنَ الشُّهُودِ فِي حَدِّ الرَّجْمِ:
38 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إِِلَى أَنَّ الزِّنَى إِذَا ثَبَتَ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 158، والفتاوى الهندية 2 / 143، والبدائع 7 / 57، والتاج والإكليل على مواهب الجليل 6 / 296، 297، وبداية المجتهد 2 / 444 - 445، وروضة الطالبين 10 / 299، وكشاف القناع 6 / 78.
(2) البدائع 7 / 59، والمغني 9 / 205، والتبصرة 1 / 260، والدسوقي 4 / 179.(17/145)
بِالشُّهُودِ، فَالْبِدَايَةُ مِنْهُمْ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ حُضُورُهُمْ، وَابْتِدَاؤُهُمْ بِالرَّجْمِ، وَهَذَا لأَِنَّ الرَّجْمَ أَحَدُ نَوْعَيِ الْحَدِّ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الآْخَرِ وَهُوَ الْجَلْدُ، وَالْبِدَايَةُ مِنَ الشُّهُودِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ فَكَذَا فِي الرَّجْمِ.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْبِدَايَةَ مِنَ الشُّهُودِ شَرْطٌ فِي حَدِّ الرَّجْمِ، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ الشُّهُودُ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ مَاتُوا، أَوْ غَابُوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ، لاَ يُقَامُ الرَّجْمُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: يَرْجِمُ الشُّهُودُ أَوَّلاً، ثُمَّ الإِِْمَامُ، ثُمَّ النَّاسُ. وَكَلِمَةُ: ثُمَّ " لِلتَّرْتِيبِ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ الزِّنَى زِنَاءَانِ: زِنَى سِرٍّ وَزِنَى عَلاَنِيَةٍ؛ فَزِنَى السِّرِّ أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ، فَيَكُونَ الشُّهُودُ أَوَّل مَنْ يَرْمِي، وَزِنَى الْعَلاَنِيَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْحَبَل أَوِ الاِعْتِرَافُ، فَيَكُونُ الإِِْمَامُ أَوَّل مَنْ يَرْمِي.
وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا.
وَلأَِنَّ فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ احْتِيَاطًا فِي دَرْءِ الْحَدِّ، لأَِنَّ الشُّهُودَ إِذَا بَدَءُوا بِالرَّجْمِ، رُبَّمَا اسْتَعْظَمُوا فِعْلَهُ، فَيَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ، فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
وَإِِنْ ثَبَتَ الزِّنَى بِالاِعْتِرَافِ، فَالْخِلاَفُ فِي(17/145)
حُضُورِ الإِِْمَامِ، وَالْبِدَايَةِ مِنْهُ كَالْخِلاَفِ فِي حُضُورِ الشُّهُودِ وَالْبِدَايَةِ مِنْهُمْ (1) .
عَدَمُ خَوْفِ الْهَلاَكِ مِنَ إِقَامَةِ الْجَلْدِ:
39 - يُشْتَرَطُ أَنْ لاَ يَكُونَ فِي إِقَامَةِ الْجَلْدِ خَوْفُ الْهَلاَكِ.
لأَِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْحُدُودِ شُرِعَ زَاجِرًا لاَ مُهْلِكًا، وَفِي الْجَلْدِ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ، وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَجَلْدِ الْمَرِيضِ، وَالنُّفَسَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِِلَى: زِنًى " " وَقَذْفٌ (2) ".
الدَّعْوَى فِي الْحُدُودِ وَالشَّهَادَةُ بِهَا:
40 - الْحُدُودُ - سِوَى حَدِّ الْقَذْفِ - لاَ تَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّعْوَى لأَِنَّهَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَتُقْبَل الشَّهَادَةُ فِيهَا حِسْبَةً، وَإِِنَّمَا شُرِطَتْ الدَّعْوَى فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَإِِنْ كَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ غَالِبًا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ الْمَقْذُوفَ يُطَالِبُ الْقَاذِفَ دَفْعًا لِلْعَارِ عَنْ نَفْسِهِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا فَيَحْصُل مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْحَدِّ.
وَاخْتَلَفُوا فِي السَّرِقَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) البدائع 7 / 58، وابن عابدين 3 / 145، 146، ومواهب الجليل 6 / 295، والقوانين الفقهية 345، وروضة الطالبين 10 / 99، والمغني 8 / 159، 170، 171، 211.
(2) ابن عابدين 3 / 148، والبدائع 7 / 59، وبداية المجتهد 2 / 438 ط دار المعرفة، والمغني 8 / 173.(17/146)
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُقْطَعُ حَتَّى يَدَّعِيَهُ الْمَالِكُ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ يُقْطَعُ، وَبِهِ قَال أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، لِعُمُومِ الآْيَةِ، وَلأَِنَّ مُوجِبَ الْقَطْعِ قَدْ ثَبَتَ (1) .
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِالْحُدُودِ سِوَى الْقَذْفِ فَتَجُوزُ بِلاَ دَعْوَى مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لِشَهَادَةِ أَبِي بَكْرَةَ، وَأَصْحَابِهِ عَلَى الْمُغِيرَةِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى، وَلِشَهَادَةِ الْجَارُودِ وَصَاحِبِهِ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْهَا دَعْوَى، وَلأَِنَّ الْحَقَّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ تَفْتَقِرِ الشَّهَادَةُ بِهِ إِِلَى تَقَدُّمِ دَعْوَى كَالْعِبَادَاتِ. وَلأَِنَّ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ الْمُسْتَحَقِّ، وَهَذَا لاَ حَقَّ فِيهِ لأَِحَدٍ مِنَ الآْدَمِيِّينَ فَيَدَّعِيهِ (2) .
التَّأْخِيرُ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ:
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحَدَّ تَجِبُ إِقَامَتُهُ عَلَى الْفَوْرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ كَالْمَرَضِ وَمَا شَابَهَهُ، وَالْحَمْل، وَالسُّكْرِ.
1 - إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْمَرِيضِ وَمَنْ شَابَهَهُ:
41 - الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ هُوَ أَنَّ الرَّجْمَ لاَ يُؤَخَّرُ لِلْمَرَضِ لأَِنَّ نَفْسَهُ مُسْتَوْفَاةٌ، فَلاَ
__________
(1) البدائع 7 / 56، وروضة الطالبين 10 / 144، والمغني 8 / 208، 217، 284.
(2) البدائع 7 / 52، والمغني 8 / 208.(17/146)
فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّحِيحِ، وَقِيل: إِنْ ثَبَتَ الْحَدُّ بِالإِِْقْرَارِ أُخِّرَ حَتَّى يَبْرَأَ، لأَِنَّهُ رُبَّمَا رَجَعَ فِي أَثْنَاءِ الرَّمْيِ، وَمِثْل هَذَا الْخِلاَفِ فِي مَسْأَلَةِ الرَّجْمِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ.
وَإِِنْ كَانَ الْوَاجِبُ الْجَلْدَ أَوِ الْقَطْعَ، فَإِِنْ كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا يُرْجَى بُرْؤُهُ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ تَأْخِيرَهُ وَهُوَ قَوْل الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ. وَقَال جُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ: يُقَامُ الْحَدُّ وَلاَ يُؤَخَّرُ، كَمَا قَال أَبُو بَكْرٍ فِي النُّفَسَاءِ، وَهَذَا قَوْل إِِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ، لأَِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ فِي مَرَضِهِ، وَلأَِنَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لاَ يُؤَخَّرُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ.
وَإِِنْ كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا لاَ يُرْجَى بُرْؤُهُ، أَوْ كَانَ الْجَانِي ضَعِيفَ الْخِلْقَةِ لاَ يَحْتَمِل السِّيَاطَ، فَهَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْحَال، إِذْ لاَ غَايَةَ تُنْتَظَرُ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا يُضْرَبُ ضَرْبًا يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَفُ، كَالْقَضِيبِ الصَّغِيرِ وَشِمْرَاخِ النَّخْل. فَإِِنْ خِيفَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: جُمِعَ ضِغْثٌ فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَضُرِبَ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً.
وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِِلَى مُصْطَلَحِ (جَلْدٌ (1)) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 148، والتاج والإكليل على مواهب الجليل 6 / 296، وبداية المجتهد 2 / 438، والقليوبي 4 / 183، وروضة الطالبين 10 / 99، 100، 101، وكشاف القناع 6 / 82، 86، والمغني 8 / 173.(17/147)
2 - إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْحُبْلَى:
42 - قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقَامُ الْحَدُّ رَجْمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ عَلَى حُبْلَى وَلَوْ مِنْ زِنًى حَتَّى تَضَعَ، لِئَلاَّ يَتَعَدَّى إِِلَى الْحَمْل، لأَِنَّهُ نَفْسٌ مُحْتَرَمَةٌ لاَ جَرِيمَةَ مِنْهُ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا لَمْ تُرْجَمْ حَتَّى تَسْقِيَهُ اللِّبَأَ، ثُمَّ إِذَا سَقَتْهُ اللِّبَأَ، فَإِِنْ كَانَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ، أَوْ تَكَفَّل أَحَدٌ بِرَضَاعِهِ رُجِمَتْ، وَإِِلاَّ تُرِكَتْ حَتَّى تَفْطِمَهُ لِيَزُول عَنْهُ الضَّرَرُ. لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ بَعْدَمَا فَطَمَتِ الْمَوْلُودَ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَال: لاَ نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ، فَقَال لَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَْنْصَارِ، إِلَيَّ رَضَاعُهُ، فَرَجَمَهَا (1) .
وَإِِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا، فَتُحَدُّ بَعْدَ الْوَضْعِ وَانْقِطَاعِ النِّفَاسِ إِذَا كَانَتْ قَوِيَّةً يُؤْمَنُ مَعَهُ تَلَفُهَا، لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: إِنَّ أَمَةً لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا، فَإِِذَا هِيَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ، فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أَحْسَنْتَ (2)
أَمَّا إِنْ كَانَتْ فِي نِفَاسِهَا أَوْ ضَعِيفَةً يُخَافُ
__________
(1) حديث: الغامدية. . . . أخرجه مسلم (صحيح مسلم 3 / 1321 - 1322 - ط الحلبي) .
(2) حديث علي: أن أمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت. . . . أخرجه مسلم (3 / 1330 - ط الحلبي) .(17/147)
عَلَيْهَا، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَقْوَى لِيُسْتَوْفَى الْحَدُّ عَلَى وَجْهِ الْكَمَال مِنْ غَيْرِ خَوْفِ فَوَاتِهِ (1) .
3 - إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى السَّكْرَانِ:
43 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى السَّكْرَانِ تُؤَخَّرُ حَتَّى يَصْحُوَ لِيَحْصُل الْمَقْصُودُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَهُوَ الزَّجْرُ، وَالرَّدْعُ، لأَِنَّ غَيْبُوبَةَ الْعَقْل أَوْ غَلَبَةَ النَّشْوَةِ وَالطَّرَبِ تُخَفِّفُ الأَْلَمَ (2) .
إِقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الْمَسَاجِدِ:
44 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَحْرُمُ إِِقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الْمَسَاجِدِ، لِمَا رَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ فِي الْمَسَاجِدِ (3) .
وَلِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: {
__________
(1) ابن عابدين 3 / 148، ومواهب الجليل 6 / 296، والقليوبي 4 / 183، وكشاف القناع 6 / 82، 83، والمغني 8 / 171 وما بعدها.
(2) ابن عابدين 3 / 163، 164، ومواهب الجليل 6 / 317، والقليوبي 4 / 204، وروضة الطالبين 10 / 173، والمغني 8 / 173، وكشاف القناع 6 / 82، 83.
(3) حديث: " نهى عن إقامة الحد في المساجد " أخرجه ابن ماجه (2 / 867 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وأعل إسناده البوصيري. ويشهد له ما بعده.(17/148)
لاَ تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ (1) وَلأَِنَّ تَعْظِيمَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ. وَفِي إِِقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهِ تَرْكُ تَعْظِيمِهِ (2) .
وَلاَ خِلاَفَ فِي إِقَامَتِهَا فِي الْحَرَمِ عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ مُوجِبَ الْحَدِّ فِيهِ، أَمَّا مَنِ ارْتَكَبَهُ خَارِجَ الْحَرَمِ وَلَجَأَ إِلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُسْتَوْفَى فِيهِ حَدٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا (3) } ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَحِل لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا (4) (أَيْ مَكَّةَ) . وَقَالُوا: يُقَاطَعُ فَلاَ يُبَايَعُ وَلاَ يُشَارَى وَلاَ يُطْعَمُ وَلاَ يُؤْوَى وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ فَيُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَدُّ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ تُسْتَوْفَى الْحُدُودُ فِيهِ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ مِغْفَرٌ، فَلَمَّا نَزَعَ الْمِغْفَرَ، جَاءَهُ رَجُلٌ
__________
(1) حديث: " لا تقام الحدود في المساجد " أخرجه الترمذي (4 / 19 - ط الحلبي) وابن ماجه (2 / 867 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس، وفي إسناده ضعف كذلك، كما في التلخيص لابن حجر (4 / 77 - ط شركة الطباعة الفنية) ، وهو حسن لطرقه.
(2) البدائع 7 / 60، وجواهر الإكليل 2 / 223 ط مصطفى البابي الحلبي، والشرح الصغير 4 / 201، وروضة الطالبين 10 / 173، وكشاف القناع 6 / 80.
(3) سورة آل عمران / 97.
(4) حديث " لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 197 - ط السلفية) من حديث أبي شريح.(17/148)
فَقَال: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَال: اقْتُلُوهُ (1) .
مَا يُرَاعَى عِنْدَ اسْتِيفَاءِ كُل نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُدُودِ:
أ - حَدُّ الرَّجْمِ:
يُرَاعَى فِي اسْتِيفَاءِ الرَّجْمِ مَا يَلِي:
45 - أَنْ يَكُونَ الرَّجْمُ فِي مَكَانٍ وَاسِعٍ، لأَِنَّهُ أَمْكَنُ فِي رَجْمِهِ، وَلِئَلاَّ يُصِيبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُحِيطُونَ بِالْمَرْجُومِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَصْطَفُّونَ كَصُفُوفِ الصَّلاَةِ لِرَجْمِهِ، كُلَّمَا رَجَمَ قَوْمٌ تَنَحَّوْا وَرَجَمَ آخَرُونَ، وَأَنْ يَكُونَ الرَّجْمُ بِحِجَارَةٍ مُعْتَدِلَةٍ قَدْرَ مَا يُطِيقُ الرَّامِي بِدُونِ تَكَلُّفٍ، لاَ بِكَبِيرَةٍ خَشْيَةَ التَّشْوِيهِ أَوِ التَّذْفِيفِ (الإِِْجْهَازُ عَلَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً) وَلاَ بِصَغِيرَةٍ خَشْيَةَ التَّعْذِيبِ.
وَيُحْفَرُ لِلْمَرْأَةِ إِِلَى صَدْرِهَا، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ: وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ لَدَى الْمَالِكِيَّةِ، لِكَوْنِهِ أَسْتَرَ لَهَا، وَجَازَ تَرْكُهُ لِسَتْرِهَا بِثِيَابِهَا.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لاَ يُحْفَرُ لَهَا لأَِنَّ أَكْثَرَ الأَْحَادِيثِ عَلَى تَرْكِهِ.
__________
(1) سبل السلام 4 / 54 ط مصطفى البابي الحلبي، والمغني 8 / 236 - 239 وحديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه مغفر " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 165 - ط السلفية) ومسلم (2 / 990 - ط الحلبي) .(17/149)
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ الْحَدُّ بِالإِِْقْرَارِ لَمْ يُحْفَرْ لَهَا، وَإِِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ حُفِرَ لَهَا إِِلَى صَدْرِهَا، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، قَال أَبُو الْخَطَّابِ: وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدِي. لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَجَمَ امْرَأَةً فَحَفَرَ لَهَا (1) وَلأَِنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا، وَلاَ حَاجَةَ إِِلَى تَمْكِينِهَا مِنَ الْهَرَبِ لِكَوْنِ الْحَدِّ قَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ فَلاَ يَسْقُطُ بِفِعْلٍ مِنْ جِهَتِهَا، بِخِلاَفِ الثَّابِتِ بِالإِِْقْرَارِ، فَإِِنَّهَا تُتْرَكُ عَلَى حَالٍ لَوْ أَرَادَتِ الْهَرَبَ تَمَكَّنَتْ مِنْهُ، لأَِنَّ رُجُوعَهَا عَنْ إِقْرَارِهَا مَقْبُولٌ.
وَأَمَّا الرَّجُل فَلاَ يُحْفَرُ لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: يُحْفَرُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ دُونَ الْمُقِرِّ لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْفِرْ لِمَاعِزٍ، قَال أَبُو سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِ مَاعِزٍ خَرَجْنَا بِهِ إِِلَى الْبَقِيعِ، فَوَاَللَّهِ مَا حَفَرْنَا لَهُ وَلاَ أَوْثَقْنَاهُ، وَلَكِنْ قَامَ لَنَا (2) . وَلأَِنَّ الْحَفْرَ لَهُ، وَدَفْنَ بَعْضِهِ عُقُوبَةٌ لَمْ يَرِدْ بِهَا الشَّرْعُ فِي حَقِّهِ، فَوَجَبَ أَنْ لاَ تَثْبُتَ (3) .
__________
(1) حديث: " إن النبي صلى الله عليه وسلم رجم امرأة فحفر لها. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1323 - الحلبي) من حديث بريدة.
(2) حديث أبي سعيد: " لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم ماعز. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1320 - ط الحلبي) والبيهقي (8 / 221 - ط دائرة المعارف العثمانية) واللفظ للبيهقي.
(3) ابن عابدين 3 / 147، والبدائع 7 / 59، والدسوقي 4 / 320، والشرح الصغير 4 / 455، والقوانين الفقهية / 348، 349، والقليوبي 4 / 183، وروضة الطالبين 10 / 99، وكشاف القناع 6 / 84، والمغني 8 / 159.(17/149)
وَيُنْظَرُ تَفَاصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (زِنًى) (وَرَجْمٌ) .
ب - الْجَلْدُ:
يُرَاعَى فِي اسْتِيفَائِهِ مَا يَلِي:
46 - أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ بِسَوْطٍ لاَ عُقْدَةَ لَهُ، وَيَكُونَ حَجْمُهُ بَيْنَ الْقَضِيبِ وَالْعَصَا، لِرِوَايَةِ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ يُؤْمَرُ بِالسَّوْطِ، فَتُقْطَعُ ثَمَرَتُهُ، وَثَمَرَتُهُ: عُقْدَةُ أَطْرَافِهِ، ثُمَّ يُدَقُّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ حَتَّى يَلِينَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِهِ.
وَأَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ ضَرْبًا مُتَوَسِّطًا، لِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَرْبٌ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ، وَسَوْطٌ بَيْنَ سَوْطَيْنِ يَعْنِي وَسَطًا. وَلِذَلِكَ فَلاَ يُبْدِي الضَّارِبُ إِِبْطَهُ فِي رَفْعِ يَدِهِ، بِحَيْثُ يَظْهَرُ إِِبْطُهُ، لأَِنَّ ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ فِي الضَّرْبِ.
وَأَنْ يُفَرَّقَ الْجَلْدُ عَلَى بَدَنِهِ خَلاَ رَأْسَهُ، وَوَجْهَهُ وَفَرْجَهُ، وَصَدْرَهُ، وَبَطْنَهُ، وَمَوْضِعَ الْقَتْل، لأَِنَّ جَمْعَهُ عَلَى عُضْوٍ وَاحِدٍ قَدْ يُفْسِدُهُ.
وَلِيَأْخُذَ كُل عُضْوٍ مِنْهُ حَظَّهُ، وَلِئَلاَّ يُشَقَّ الْجِلْدُ، أَوْ يُؤَدِّيَ إِِلَى الْقَتْل. وَأَيْضًا ضَرْبُ مَا اسْتُثْنِيَ قَدْ يُؤَدِّي إِِلَى الْهَلاَكِ حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى بِإِِفْسَادِ بَعْضِ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ أَوِ الْبَاطِنَةِ، وَلِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اضْرِبْ وَأَوْجِعْ، وَاتَّقِ الرَّأْسَ وَالْوَجْهَ.
وَلاَ يَجُوزُ تَفْرِيقُ الضَّرْبِ عَلَى الأَْيَّامِ بِأَنْ يُضْرَبَ فِي كُل يَوْمٍ سَوْطًا أَوْ سَوْطَيْنِ، لأَِنَّهُ لاَ يَحْصُل بِهِ الإِِْيلاَمُ.(17/150)
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يُمَدُّ الْمَحْدُودُ وَلاَ يُرْبَطُ وَلاَ تُشَدُّ يَدُهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَجْرِيدِهِ:
47 - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يُنْزَعُ ثِيَابُ الرَّجُل خَلاَ إِزَارِهِ لِيَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلاَ تُنْزَعُ ثِيَابُهَا إِلاَّ الْفَرْوَ وَالْحَشْوَ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ يُجَرَّدُ مِنْ ثِيَابِهِ، لِقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ: لَيْسَ فِي دِينِنَا مَدٌّ، وَلاَ قَيْدٌ وَلاَ تَجْرِيدٌ، بَل يَكُونُ عَلَيْهِ غَيْرُ ثِيَابِ الشِّتَاءِ كَالْقَمِيصِ وَالْقَمِيصَيْنِ، صِيَانَةً لَهُ عَنِ التَّجْرِيدِ، وَإِِنْ كَانَ عَلَيْهِ فَرْوَةٌ، أَوْ جُبَّةٌ مَحْشُوَّةٌ نُزِعَتْ، لأَِنَّهُ لَوْ تُرِكَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَمْ يُبَال بِالضَّرْبِ.
وَالرَّجُل يُضْرَبُ قَائِمًا، وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةً، وَتُشَدُّ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، وَتُمْسَكُ يَدَاهَا لِئَلاَّ تَنْكَشِفَ، لِقَوْل عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تُضْرَبُ الْمَرْأَةُ جَالِسَةً، وَالرَّجُل قَائِمًا فِي الْحُدُودِ، وَلأَِنَّ الْمَرْأَةَ عَوْرَةٌ وَهَذَا أَسْتَرُ لَهَا (1) .
48 - وَأَشَدُّ الْجَلْدِ فِي الْحُدُودِ جَلْدُ الزِّنَى، فَجَلْدُ الْقَذْفِ، فَجَلْدُ الشُّرْبِ، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الزِّنَى بِمَزِيدٍ مِنَ التَّأْكِيدِ بِقَوْلِهِ: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ (2) } ، وَلأَِنَّ مَا دُونَهُ أَخَفُّ مِنْهُ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 146، 147، 148، والبدائع 7 / 60، ومواهب الجليل 6 / 318، 319، والشرح الصغير 4 / 502 وما بعدها، والقليوبي 4 / 204، وروضة الطالبين 10 / 99، 100، 171، 172، 173.
(2) سورة النور / 2.(17/150)
عَدَدًا، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ فِي إِيلاَمِهِ وَوَجَعِهِ، لأَِنَّ مَا كَانَ أَخَفَّ فِي عَدَدِهِ كَانَ أَخَفَّ فِي صِفَتِهِ، وَلأَِنَّ جِنَايَةَ الزِّنَى أَعْظَمُ مِنْ جِنَايَةِ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ: أَمَّا أَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ جِنَايَةِ الْقَذْفِ، فَلأَِنَّ الْقَذْفَ نِسْبَةٌ إِِلَى الزِّنَى، فَكَانَ دُونَ حَقِيقَةِ الزِّنَى. وَأَمَّا أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ جِنَايَةِ الشُّرْبِ فَلأَِنَّ الْجَلْدَ فِي الزِّنَى ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَلاَ نَصَّ فِي الشُّرْبِ، وَإِِنَّمَا اسْتَخْرَجَهُ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ بِالاِجْتِهَادِ، وَالاِسْتِدْلاَل بِالْقَذْفِ فَقَالُوا: إِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِِذَا هَذَى افْتَرَى، وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ (1) .
ج - الْقَطْعُ:
49 - تُقْطَعُ يَمِينُ السَّارِقِ مِنْ زَنْدِهِ وَهُوَ مَفْصِل الرُّسْغِ، وَتُحْسَمُ وَلاَ تُقْطَعُ فِي حَرٍّ وَبَرْدٍ شَدِيدَيْنِ، لأَِنَّ الْحَدَّ زَاجِرٌ لاَ مُتْلِفٌ.
وَيُقْطَعُ بِأَسْهَل مَا يُمْكِنُ، فَيُجْلَسُ وَيُضْبَطُ، لِئَلاَّ يَتَحَرَّكَ فَيَجْنِيَ عَلَى نَفْسِهِ وَتُشَدُّ يَدُهُ بِحَبْلٍ، وَتُجَرُّ حَتَّى يَبِينَ مَفْصِل الْكَفِّ مِنْ مَفْصِل الذِّرَاعِ، ثُمَّ يُوضَعُ بَيْنَهُمَا سِكِّينٌ حَادٌّ، وَيُدَقُّ فَوْقَهُمَا بِقُوَّةٍ، لِيُقْطَعَ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَإِِنْ عُلِمَ قَطْعٌ أَسْرَعُ مِنْ هَذَا قُطِعَ بِهِ (2) .
__________
(1) البدائع 7 / 60، وكشاف القناع 6 / 81، ونيل المآرب 2 / 353.
(2) ابن عابدين 3 / 206، ومواهب الجليل 6 / 305، وروضة الطالبين 10 / 149 والمغني 8 / 261.(17/151)
د - التَّغْرِيبُ::
50 - يُغَرَّبُ الزَّانِي الْبِكْرُ - عِنْدَ مَنْ يَقُول بِذَلِكَ - إِِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ حَوْلاً كَامِلاً (1) وَفِي تَغْرِيبِ الْمَرْأَةِ وَكَيْفِيَّتِهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ سَبَقَ إِجْمَالُهُ فِقْرَةُ (32) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (زِنًى وَتَغْرِيبٌ) .
إِقَامَةُ الْحُدُودِ فِي مَلأٍَ مِنَ النَّاسِ:
51 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ تُقَامُ فِي مَلأٍَ مِنَ النَّاسِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) } وَالنَّصُّ وَإِِنْ وَرَدَ فِي حَدِّ الزِّنَى لَكِنَّهُ يَشْمَل سَائِرَ الْحُدُودِ دَلاَلَةً، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحُدُودِ كُلِّهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ زَجْرُ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لاَ يَحْصُل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الإِِْقَامَةُ عَلَى رَأْسِ الْعَامَّةِ، لأَِنَّ الْحُضُورَ يَنْزَجِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ بِالْمُعَايَنَةِ، وَالْغُيَّبَ يَنْزَجِرُونَ بِإِِخْبَارِ الْحُضُورِ، فَيَحْصُل الزَّجْرُ لِلْكُل، وَفِيهِ مَنْعُ الْجَلاَّدِ مِنْ مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ الَّذِي جُعِل لَهُ، وَدَفْعُ التُّهْمَةِ وَالْمَيْل.
وَفِي الْمُرَادِ بِالطَّائِفَةِ فِي الآْيَةِ خِلاَفٌ قِيل: الطَّائِفَةُ أَقَلُّهَا وَاحِدٌ، وَقِيل: اثْنَانِ، وَقِيل: ثَلاَثَةٌ، وَقِيل: أَرْبَعَةٌ، وَقِيل: خَمْسَةٌ، وَقِيل: عَشَرَةٌ، وَقِيل: نَفَرٌ (3) .
__________
(1) روضة الطالبين 10 / 88، والمغني 8 / 169.
(2) سورة النور / 2.
(3) البدائع 7 / 61، والشرح الصغير / 456، والقوانين الفقهية / 249، ومواهب الجليل 6 / 259، وبداية المجتهد 2 / 438، وروضة الطالبين 10 / 99، والمغني 8 / 170.(17/151)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْقَائِلِينَ بِهَا وَأَدِلَّتُهُمْ فِي (زِنًى) .
آثَارُ الْحَدِّ:
52 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّ الْحَدَّ إِنْ كَانَ رَجْمًا يُدْفَعُ الْمَرْجُومُ بَعْدَ قَتْلِهِ إِِلَى أَهْلِهِ، فَيَصْنَعُونَ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِسَائِرِ الْمَوْتَى، فَيُغَسِّلُونَهُ، وَيُكَفِّنُونَهُ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ، وَيَدْفِنُونَهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا رُجِمَ قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: اصْنَعُوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ (1) وَصَلَّى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى شُرَاحَةَ.
وَلأَِنَّهُ مُسْلِمٌ لَوْ مَاتَ قَبْل الْحَدِّ صُلِّيَ عَلَيْهِ، فَيُصَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَهُ كَالسَّارِقِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ قَتَلَهُ الإِِْمَامُ فِي حَدٍّ لاَ يُصَلِّي الإِِْمَامُ عَلَيْهِ، لأَِنَّ جَابِرًا قَال فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ: فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا وَلَمْ يُصَل عَلَيْهِ (2) .
وَإِِنْ كَانَ جَلْدًا فَحُكْمُ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ
__________
(1) حديث: " اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم ". أخرجه أبي شيبة كما في الدراية لابن حجر (2 / 97 - ط الفجالة) من حديث بريدة، وضعفه ابن حجر.
(2) حديث جابر: " فرجم - ماعز - حتى مات ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 129 - ط السلفية) . وأبو داود (4 / 582 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .(17/152)
فِي سَائِرِ الأَْحْكَامِ مِنَ الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا بِشُرُوطِهَا إِلاَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ خَاصَّةً فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَإِِنَّهُ تَبْطُل شَهَادَتُهُ عَلَى التَّأْبِيدِ، وَفِي قَبُول شَهَادَتِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (1) . وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَذْفٌ وَشَهَادَةٌ) .
حَدِيثُ النَّفْسِ
انْظُرْ: نِيَّةٌ.
__________
(1) البدائع 7 / 63، وروضة الطالبين 10 / 105، والمغني 8 / 188.(17/152)
حِرَابَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحِرَابَةُ مِنَ الْحَرْبِ الَّتِي هِيَ نَقِيضُ السِّلْمِ: يُقَال: حَارَبَهُ مُحَارَبَةً، وَحِرَابًا، أَوْ مِنَ الْحَرَبِ.
بِفَتْحِ الرَّاءِ: وَهُوَ السَّلْبُ.
يُقَال: حَرَبَ فُلاَنًا مَالَهُ أَيْ سَلَبَهُ فَهُوَ مَحْرُوبٌ وَحَرِيبٌ (1) .
وَالْحِرَابَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ وَتُسَمَّى قَطْعَ الطَّرِيقِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ هِيَ الْبُرُوزُ لأَِخْذِ مَالٍ، أَوْ لِقَتْلٍ، أَوْ لإِِِرْعَابٍ عَلَى سَبِيل الْمُجَاهَرَةِ مُكَابَرَةً، اعْتِمَادًا عَلَى الْقُوَّةِ مَعَ الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ (2) .
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ مُحَاوَلَةَ الاِعْتِدَاءِ عَلَى الْعِرْضِ مُغَالَبَةً.
وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ مَنْ كَابَرَ رَجُلاً عَلَى مَالِهِ بِسِلاَحٍ أَوْ غَيْرِهِ فِي زُقَاقٍ أَوْ دَخَل عَلَى حَرِيمِهِ فِي الْمِصْرِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْحِرَابَةِ (3) .
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب.
(2) بدائع الصنائع 7 / 90، وروض الطالب 4 / 154، والإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع 2 / 238، والمغني 8 / 287.
(3) جواهر الإكليل 2 / 294.(17/153)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَغْيُ:
2 - الْبَغْيُ فِي اللُّغَةِ: الْجَوْرُ، وَالظُّلْمُ، وَالْعُدُول عَنِ الْحَقِّ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ: هُوَ الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ إِمَامِ أَهْل الْعَدْل بِتَأْوِيلٍ غَيْرِ مَقْطُوعِ الْفَسَادِ (2) .
وَفَرَّقَ الإِِْمَامُ مَالِكٌ بَيْنَ الْحِرَابَةِ وَالْبَغْيِ بِقَوْلِهِ: الْبَغْيُ يَكُونُ بِالْخُرُوجِ عَلَى تَأْوِيلٍ - غَيْرِ قَطْعِيِّ الْفَسَادِ - وَالْمُحَارِبُونَ خَرَجُوا فِسْقًا وَخُلُوعًا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلٍ (3) "
ب - السَّرِقَةُ:
3 - السَّرِقَةُ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ خُفْيَةً. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: أَخْذُهُ خُفْيَةً ظُلْمًا فِي حِرْزِ مِثْلِهِ، بِشُرُوطٍ تُذْكَرُ فِي بَابِهَا.
فَالْفَرْقُ أَنَّ الْحِرَابَةَ فِيهَا مُجَاهَرَةٌ وَمُكَابَرَةٌ وَسِلاَحٌ.
ج - النَّهْبُ، وَالاِخْتِلاَسُ:
4 - النَّهْبُ لُغَةً: الْغَلَبَةُ عَلَى الْمَال. وَاصْطِلاَحًا: أَخْذُ الشَّيْءِ عَلاَنِيَةً دُونَ رِضًا.
__________
(1) المصباح المنير ومطالب أولي النهى 6 / 262.
(2) نهاية المحتاج 7 / 402، وروض الطالب 4 / 111.
(3) الزرقاني 8 / 192.(17/153)
وَالاِخْتِلاَسُ: خَطْفُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ صَاحِبِهِ، مَعَ الاِعْتِمَادِ عَلَى الْهَرَبِ.
فَالنَّهْبُ وَالاِخْتِلاَسُ كِلاَهُمَا أَخْذُ الشَّيْءِ عَلاَنِيَةً، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هُوَ: سُرْعَةُ الأَْخْذِ فِي الاِخْتِلاَسِ بِخِلاَفِ النَّهْبِ فَإِِنْ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهِ (1) .
أَمَّا الْحِرَابَةُ فَهِيَ الأَْخْذُ عَلَى سَبِيل الْمُغَالَبَةِ.
د - الْغَصْبُ:
5 - الْغَصْبُ أَخْذُ الشَّيْءِ ظُلْمًا مَعَ الْمُجَاهَرَةِ.
وَشَرْعًا: الاِسْتِيلاَءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَقِيل: هُوَ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ الْمُتَقَوِّمِ عَلَى سَبِيل الْمُجَاهَرَةِ (2) . فَالْغَصْبُ قَدْ يَكُونُ بِسِلاَحٍ أَوْ بِغَيْرِ سِلاَحٍ مَعَ إِمْكَانِ الْغَوْثِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - الْحِرَابَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَهِيَ مِنَ الْحُدُودِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَسَمَّى الْقُرْآنُ مُرْتَكِبِيهَا: مُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَسَاعِينَ فِي الأَْرْضِ بِالْفَسَادِ، وَغَلَّظَ عُقُوبَتَهَا أَشَدَّ التَّغْلِيظِ، فَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
__________
(1) المصباح المنير وابن عابدين 3 / 199 والزرقاني 8 / 192.
(2) الإقناع لحل ألفاظ أبي شجاع 2 / 55، وبدائع الصنائع 7 / 142.(17/154)
الأَْرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ (1) } إِلَخْ.
وَنَفَى الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتِسَابَهُمْ إِِلَى الإِِْسْلاَمِ فَقَال فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: مَنْ حَمَل عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا (2) .
الأَْصْل فِي جَزَاءِ الْحِرَابَةِ:
7 - الأَْصْل فِي بَيَانِ جَزَاءِ الْحِرَابَةِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ (3) . . .} إِلَخْ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَدِّ قَاطِعِ الطَّرِيقِ كَمَا سَيَأْتِي. وَحَدِيثُ الْعُرَنِيِّينَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا فِي الصُّفَّةِ، فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ أَبْغِنَا رِسْلاً، فَقَال مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلاَّ أَنْ تَلْحَقُوا بِإِِبِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَوْهَا فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ،
__________
(1) سورة المائدة / 33.
(2) حديث: " من حمل علينا السلاح فليس منا " أخرجه البخاري (الفتح 13 / 23 - ط السلفية) ومسلم (1 / 98 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(3) سورة المائدة / 33.(17/154)
فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّرِيخُ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَمَا تَرَجَّل النَّهَارُ حَتَّى أُتِيَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَّلَهُمْ وَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَمَا حَسَمَهُمْ، ثُمَّ أُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَمَا سُقُوا حَتَّى مَاتُوا. وَقَال أَبُو قِلاَبَةَ: سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ (1) .
مَنْ يُعْتَبَرُ مُحَارِبًا:
8 - الْمُحَارِبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: هُوَ كُل مُلْتَزِمٍ مُكَلَّفٍ أَخَذَ الْمَال بِقُوَّةٍ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ (2) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَعْرِيفَاتٌ أُخْرَى لاَ تَخْرُجُ فِي مَفْهُومِهَا عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
وَلاَ بُدَّ مِنْ تَوَافُرِ شُرُوطٍ فِي الْمُحَارِبِينَ حَتَّى يُحَدُّوا حَدَّ الْحِرَابَةِ. وَهَذِهِ الشُّرُوطُ فِي الْجُمْلَةِ هِيَ:
أ - الاِلْتِزَامُ.
ب - التَّكْلِيفُ.
ج - وُجُودُ السِّلاَحِ مَعَهُمُ.
د - الْبُعْدُ عَنِ الْعُمْرَانِ.
هـ - الذُّكُورَةُ.
و الْمُجَاهَرَةُ.
__________
(1) حديث العرنيين أخرجه البخاري (الفتح 12 / 111 - ط السلفية) . وانظر بداية المجتهد 2 / 490، وروض الطالب 4 / 154، ومطالب أولي النهى 6 / 251، والمغني 8 / 286، 287.
(2) بدائع الصنائع 7 / 95، وروض الطالب 4 / 154، والمغني 8 / 286.(17/155)
وَلَمْ يَتَّفِقِ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذِهِ الشُّرُوطِ كُلِّهَا، بَل بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِهَا اخْتِلاَفٌ بَيَانُهُ كَمَا يَلِي:
أ - الاِلْتِزَامُ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَارِبِ: أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ مُرْتَدًّا، فَلاَ يُحَدُّ الْحَرْبِيُّ، وَلاَ الْمُعَاهَدُ، وَلاَ الْمُسْتَأْمَنُ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْل أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ (2) } وَهَؤُلاَءِ تُقْبَل تَوْبَتُهُمْ قَبْل الْقُدْرَةِ، وَبَعْدَهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ (3) } وَلِخَبَرِ: الإِِْسْلاَمُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ (4) . وَلَمْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ، أَمَّا الذِّمِّيُّ فَقَدِ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ فَلَهُ مَا لَنَا، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا.
وَظَاهِرُ عِبَارَةِ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الذِّمِّيَّ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الْمُسْلِمِ فِي أَحْكَامِ الْحِرَابَةِ. وَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 112، وروض الطالب 4 / 154، وروضة الطالبين 10 / 154، وكشاف القناع 6 / 146، وبداية المجتهد 2 / 491، والمدونة 6 / 268.
(2) سورة المائدة / 34.
(3) سورة الأنفال / 38.
(4) حديث: " الإسلام يجب ما كان قبله " أخرجه أحمد (4 / 199 - ط الميمنية) من حديث عمرو بن العاص. وأورده الهيثمي في المجمع (9 / 351 - ط القدسي) وقال: " رجاله ثقات ".(17/155)
فَقَدْ وَقَعَ الْخِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُ يَكُونُ مُحَارِبًا أَوْ لاَ (1) .
ب - التَّكْلِيفُ:
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْبُلُوغَ وَالْعَقْل شَرْطَانِ فِي عُقُوبَةِ الْحِرَابَةِ لأَِنَّهُمَا شَرْطَا التَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ (2) .
وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ مَنْ اشْتَرَكَ مَعَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِِلَى أَنَّ الْحَدَّ لاَ يَسْقُطُ عَنْهُمْ وَعَلَيْهِمُ الْحَدُّ. وَقَالُوا: لأَِنَّهَا شُبْهَةٌ اخْتُصَّ بِهَا وَاحِدٌ فَلَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ عَنِ الْبَاقِينَ. كَمَا لَوِ اشْتَرَكُوا فِي الزِّنَى بِامْرَأَةٍ.
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ شَرِيكَ الصَّبِيِّ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَحَصَرُوا مُسْقِطَاتِ الْحَدِّ عَلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ فِي تَوْبَتِهِ قَبْل الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرُوا مُسْقِطًا آخَرَ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ رَجُلٌ هَارِبًا وَقَتَلَهُ صَبِيٌّ يُقْتَل الْمُمْسِكُ عِنْدَهُمْ (3) . وَمُقْتَضَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ شَرِيكَ الصَّبِيِّ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ يُحَدُّ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ فِي الْقُطَّاعِ صَبِيٌّ أَوْ
__________
(1) روض الطالب 4 / 154، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 8 / 2.
(2) المصادر السابقة.
(3) مغني المحتاج 4 / 8، 21، 183، وشرح الزرقاني 8 / 109، والمغني 8 / 298.(17/156)
مَجْنُونٌ أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَحَدِ الْمَارَّةِ فَلاَ حَدَّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، بَاشَرَ الْعُقَلاَءُ الْفِعْل أَمْ لَمْ يُبَاشِرُوا، وَقَالُوا: لأَِنَّهَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ قَامَتْ بِالْكُل، فَإِِنْ لَمْ يَقَعْ فِعْل بَعْضِهِمْ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، كَانَ فِعْل الْبَاقِينَ بَعْضُ الْعِلَّةِ فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْحُكْمُ. وَقَال وَأَبُو يُوسُفَ: إِذَا بَاشَرَ الْعُقَلاَءُ الْفِعْل يُحَدُّونَ (1) .
ج - الذُّكُورَةُ:
11 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَارِبِ الذُّكُورَةُ.
فَلَوْ اجْتَمَعَ نِسْوَةٌ لَهُنَّ قُوَّةٌ وَمَنَعَةٌ فَهُنَّ قَاطِعَاتُ طَرِيقٍ وَلاَ تَأْثِيرَ لِلأُْنُوثَةِ عَلَى الْحِرَابَةِ، فَقَدْ يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالتَّدْبِيرِ مَا لِلرَّجُل فَيَجْرِي عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى الرَّجُل مِنْ أَحْكَامِ الْحِرَابَةِ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَارِبِ الذُّكُورَةُ: فَلاَ تُحَدُّ الْمَرْأَةُ وَإِِنْ وَلِيَتِ الْقِتَال وَأَخْذَ الْمَال، لأَِنَّ رُكْنَ الْحِرَابَةِ هُوَ: الْخُرُوجُ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ وَلاَ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ عَادَةً لِرِقَّةِ قُلُوبِهِنَّ وَضَعْفِ بِنْيَتِهِنَّ، فَلاَ يَكُنَّ مِنْ أَهْل الْحِرَابَةِ.
وَلِهَذَا لاَ يُقْتَلْنَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلاَ يُحَدُّ كَذَلِكَ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 214، وبدائع الصنائع 7 / 91.
(2) روضة الطالبين 10 / 155، والمغني 8 / 298، وشرح الزرقاني 8 / 109.(17/156)
مَنْ يُشَارِكُهُنَّ فِي الْقَطْعِ مِنَ الرِّجَال، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. سَوَاءٌ بَاشَرُوا الْجَرِيمَةَ أَمْ لَمْ يُبَاشِرُوا. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: إِذَا بَاشَرَتْ الْمَرْأَةُ الْقِتَال وَأَخْذَ الْمَال، يُحَدُّ الرِّجَال الَّذِينَ يُشَارِكُونَهَا، لأَِنَّ امْتِنَاعَ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ لَيْسَ لِعَدَمِ الأَْهْلِيَّةِ، لأَِنَّهَا مِنْ أَهْل التَّكْلِيفِ، بَل لِعَدَمِ الْمُحَارَبَةِ عَادَةً، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الرِّجَال الَّذِينَ يُشَارِكُونَهَا، فَلاَ يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ (1) .
د - السِّلاَحُ:
12 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ السِّلاَحِ فِي الْمُحَارِبِ.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُحَارِبِ سِلاَحٌ، وَالْحِجَارَةُ وَالْعِصِيُّ سِلاَحٌ " هُنَا " فَإِِنْ تَعَرَّضُوا لِلنَّاسِ بِالْعِصِيِّ وَالأَْحْجَارِ فَهُمْ مُحَارِبُونَ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْمِلُوا شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ (2) .
وَلاَ يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ حَمْل السِّلاَحِ بَل يَكْفِي عِنْدَهُمُ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ وَأَخْذُ الْمَال وَلَوْ بِاللَّكْزِ وَالضَّرْبِ بِجَمْعِ الْكَفِّ (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 91.
(2) ابن عابدين 3 / 213، والمغني 8 / 288.
(3) المدونة الكبرى 6 / 303، وروضة الطالبين 10 / 156، وروض الطالب 4 / 154.(17/157)
هـ - الْبُعْدُ عَنِ الْعُمْرَانِ:
13 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الْبُعْدُ عَنِ الْعُمْرَانِ وَإِِنَّمَا يُشْتَرَطُ فَقْدُ الْغَوْثِ.
وَلِفَقْدِ الْغَوْثِ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ، وَلاَ يَنْحَصِرُ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْعُمْرَانِ.
فَقَدْ يَكُونُ لِلْبُعْدِ عَنِ الْعُمْرَانِ أَوِ السُّلْطَانِ.
وَقَدْ يَكُونُ لِضَعْفِ أَهْل الْعُمْرَانِ، أَوْ لِضَعْفِ السُّلْطَانِ.
فَإِِنْ دَخَل قَوْمٌ بَيْتًا وَشَهَرُوا السِّلاَحَ وَمَنَعُوا أَهْل الْبَيْتِ مِنَ الاِسْتِغَاثَةِ فَهُمْ قُطَّاعُ طُرُقٍ فِي حَقِّهِمْ (1) .
وَاسْتَدَل الْجُمْهُورُ بِعُمُومِ آيَةِ الْمُحَارَبَةِ، وَلأَِنَّ ذَلِكَ إِذَا وُجِدَ فِي الْعُمْرَانِ وَالأَْمْصَارِ وَالْقُرَى كَانَ أَعْظَمَ خَوْفًا وَأَكْثَرَ ضَرَرًا، فَكَانَ أَوْلَى بِحَدِّ الْحِرَابَةِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى اشْتِرَاطِ الْبُعْدِ عَنِ الْعُمْرَانِ. فَإِِنْ حَصَل مِنْهُمُ الإِِْرْعَابُ وَأَخْذُ الْمَال فِي الْقُرَى وَالأَْمْصَارِ فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ، وَقَالُوا: لأَِنَّ الْوَاجِبَ يُسَمَّى حَدَّ
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 4، ووروض الطالب 4 / 154.
(2) شرح الزرقاني 8 / 109، ونهاية المحتاج 8 / 4، والمغني 8 / 287.(17/157)
قُطَّاعِ الطُّرُقِ، وَقَطْعُ الطَّرِيقِ إِنَّمَا هُوَ فِي الصَّحْرَاءِ، وَلأَِنَّ مَنْ فِي الْقُرَى وَالأَْمْصَارِ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ غَالِبًا فَتَذْهَبُ شَوْكَةُ الْمُعْتَدِينَ، وَيَكُونُونَ مُخْتَلِسِينَ وَهُوَ لَيْسَ بِقَاطِعٍ، وَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ (1) .
و الْمُجَاهَرَةُ:
14 - الْمُجَاهَرَةُ أَنْ يَأْخُذَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ الْمَال جَهْرًا فَإِِنْ أَخَذُوهُ مُخْتَفِينَ فَهُمْ سُرَّاقٌ، وَإِِنِ اخْتَطَفُوا وَهَرَبُوا فَهُمْ مُنْتَهِبُونَ وَلاَ قَطْعَ عَلَيْهِمْ.
وَكَذَلِكَ إِنْ خَرَجَ الْوَاحِدُ، وَالاِثْنَانِ عَلَى آخِرِ قَافِلَةٍ، فَاسْتَلَبُوا مِنْهَا شَيْئًا، فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ لأَِنَّهُمْ لاَ يَعْتَمِدُونَ عَلَى قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ. وَإِِنْ تَعَرَّضُوا لِعَدَدٍ يَسِيرٍ فَقَهَرُوهُمْ، فَهُمْ قُطَّاعُ طُرُقٍ (2) .
حُكْمُ الرِّدْءِ:
15 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الرِّدْءِ أَيْ الْمُعِينِ لِلْقَاطِعِ بِجَاهِهِ أَوْ بِتَكْثِيرِ السَّوَادِ أَوْ بِتَقْدِيمِ أَيِّ عَوْنٍ لَهُمْ وَلَمْ يُبَاشِرْ الْقَطْعَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُبَاشِرِ، لأَِنَّهُمْ مُتَمَالِئُونَ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ يَحْصُل بِالْكُل، وَلأَِنَّ مِنْ عَادَةِ الْقُطَّاعِ أَنْ يُبَاشِرَ الْبَعْضُ، وَيَدْفَعَ عَنْهُمُ الْبَعْضُ الآْخَرُ، فَلَوْ لَمْ يُلْحَقِ الرِّدْءُ بِالْمُبَاشِرِ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 214، والمغني 8 / 287.
(2) روض الطالب 4 / 154، ونهاية المحتاج 8 / 4، والمغني 8 / 288.(17/158)
فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْحَدِّ لأََدَّى ذَلِكَ إِِلَى انْفِتَاحِ بَابِ قَطْعِ الطَّرِيقِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُحَدُّ الرِّدْءُ، وَإِِنَّمَا يُعَزَّرُ كَسَائِرِ الْجَرَائِمِ الَّتِي لاَ حَدَّ فِيهَا (2) .
عُقُوبَةُ الْمُحَارِبِينَ:
16 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ عُقُوبَةَ الْمُحَارِبِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ لاَ تَقْبَل الإِِْسْقَاطَ وَلاَ الْعَفْوَ مَا لَمْ يَتُوبُوا قَبْل الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ.
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْل أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) } .
17 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ: أَهِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ أَمْ عَلَى التَّنْوِيعِ. فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِِلَى أَنَّ " أَوْ " فِي الآْيَةِ عَلَى تَرْتِيبِ الأَْحْكَامِ، وَتَوْزِيعِهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَا فِي الْجِنَايَاتِ:
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 91، وشرح الزرقاني 8 / 110، والمغني 8 / 297.
(2) روض الطالب 4 / 154.
(3) سورة المائدة / 33، 34.(17/158)
فَمَنْ قَتَل وَأَخَذَ الْمَال، قُتِل وَصُلِبَ. وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَخْذِ الْمَال قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى.
وَمَنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ، وَلَمْ يَقْتُل، وَلَمْ يَأْخُذْ مَالاً نُفِيَ مِنَ الأَْرْضِ (1) .
وَالنَّفْيُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَعْزِيرٌ وَلَيْسَ حَدًّا، فَيَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِغَيْرِهِ وَيَجُوزُ تَرْكُهُ إِنْ رَأَى الإِِْمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالُوا: بِهَذَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الآْيَةَ فَقَال: الْمَعْنَى: أَنْ يُقَتَّلُوا إِنْ قَتَلُوا. أَوْ يُصَلَّبُوا مَعَ الْقَتْل إِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَال. أَوْ تُقَطَّعُ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ، إِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى أَخْذِ الْمَال، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ، إِنْ أَرْعَبُوا، وَلَمْ يَأْخُذُوا شَيْئًا وَلَمْ يَقْتُلُوا، وَحَمَلُوا كَلِمَةَ " أَوْ " عَلَى التَّنْوِيعِ لاَ التَّخْيِيرِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} أَيْ قَالَتْ الْيَهُودُ: كُونُوا هُودًا وَقَالَتِ النَّصَارَى: كُونُوا نَصَارَى وَلَمْ يَقَعْ تَخْيِيرُهُمْ بَيْنَ الْيَهُودِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّة.
وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الآْيَةِ عَلَى ظَاهِرِ التَّخْيِيرِ فِي مُطْلَقِ الْمُحَارِبِ لأَِمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ، يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْجِنَايَةِ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهَا بِمُقْتَضَى
__________
(1) روض الطالب 4 / 155، والمغني 8 / 288، وروضة الطالبين 10 / 156 - 157 ومطالب أولي النهى 6 / 252 - 253، ونهاية المحتاج 8 / 3 ط - المكتبة الإسلامية.(17/159)
الْعَقْل وَالسَّمْعِ أَيْضًا قَال تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا (1) } فَالتَّخْيِيرُ فِي جَزَاءِ الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ بِمَا يَشْمَل جَزَاءَ الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ، وَفِي الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ بِمَا يَشْمَل جَزَاءَ الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ خِلاَفُ الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ.
يَزِيدُ هَذَا إِجْمَاعُ الأُْمَّةِ عَلَى أَنَّ قُطَّاعَ الطُّرُقِ إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَال، لاَ يَكُونُ جَزَاؤُهُمُ الْمَعْقُول النَّفْيَ وَحْدَهُ، وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ الْعَمَل بِظَاهِرِ التَّخْيِيرِ.
الثَّانِي: أَنَّ التَّخْيِيرَ الْوَارِدَ فِي الأَْحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ بِحَرْفِ التَّخْيِيرِ إِنَّمَا يَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهِ إِذَا كَانَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَاحِدًا كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةِ جَزَاءِ الصَّيْدِ، أَمَّا إِذَا كَانَ السَّبَبُ مُخْتَلِفًا، فَإِِنَّهُ يُخْرِجُ التَّخْيِيرَ عَنْ ظَاهِرِهِ وَيَكُونُ الْغَرَضُ بَيَانَ الْحُكْمِ لِكُل وَاحِدٍ فِي نَفْسِهِ.
وَقَطْعُ الطَّرِيقِ مُتَنَوِّعٌ، وَبَيْنَ أَنْوَاعِهِ تَفَاوُتٌ فِي الْجَرِيمَةِ، فَقَدْ يَكُونُ بِأَخْذِ الْمَال فَقَطْ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَتْل لاَ غَيْرُ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الأَْمْرَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّخْوِيفِ فَحَسْبُ، فَكَانَ سَبَبُ الْعِقَابِ مُخْتَلِفًا. فَتُحْمَل الآْيَةُ عَلَى بَيَانِ حُكْمِ كُل نَوْعٍ فَيُقَتَّلُونَ وَيُصَلَّبُونَ إِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَال، وَتُقَطَّعُ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ إِنْ أَخَذُوا الْمَال لاَ غَيْرُ، وَيُنْفَوْنَ مِنَ الأَْرْضِ، إِنْ أَخَافُوا الطَّرِيقَ، وَلَمْ يَقْتُلُوا نَفْسًا وَلَمْ
__________
(1) سورة الشورى / 40.(17/159)
يَأْخُذُوا مَالاً. وَيَدُل أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: بَدَأَ بِالأَْغْلَظِ فَالأَْغْلَظِ وَالْمَعْهُودُ مِنَ الْقُرْآنِ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ التَّخْيِيرُ، الْبُدَاءَةُ بِالأَْخَفِّ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ التَّرْتِيبُ يَبْدَأُ فِيهِ بِالأَْغْلَظِ فَالأَْغْلَظِ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْقَتْل (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَخَذَ قَبْل قَتْل نَفْسٍ أَوْ أَخْذِ شَيْءٍ حُبِسَ بَعْدَ التَّعْزِيرِ حَتَّى يَتُوبَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ فِي الآْيَةِ، وَإِِنْ أَخَذَ مَالاً مَعْصُومًا بِمِقْدَارِ النِّصَابِ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلاَفٍ، وَإِِنْ قَتَل مَعْصُومًا وَلَمْ يَأْخُذْ مَالاً قُتِل. أَمَّا إِنْ قَتَل النَّفْسَ وَأَخَذَ الْمَال، وَهُوَ الْمُحَارِبُ الْخَاصُّ فَالإِِْمَامُ مُخَيَّرٌ فِي أُمُورٍ ثَلاَثَةٍ: إِنْ شَاءَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلاَفٍ ثُمَّ قَتَلَهُمْ، وَإِِنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ فَقَطْ، وَإِِنْ شَاءَ صَلَبَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلْبِ هُنَا طَعْنُهُ وَتَرْكُهُ حَتَّى يَمُوتَ وَلاَ يُتْرَكُ أَكْثَر مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ إِفْرَادُ الْقَطْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَل لاَ بُدَّ مِنِ انْضِمَامِ الْقَتْل أَوِ الصَّلْبِ إِلَيْهِ، لأَِنَّ الْجِنَايَةَ قَتْلٌ وَأَخْذُ مَالٍ، وَالْقَتْل وَحْدَهُ فِيهِ الْقَتْل، وَأَخْذُ الْمَال وَحْدَهُ فِيهِ الْقَطْعُ، فَفِيهِمَا مَعَ الإِِْخَافَةِ لاَ يُعْقَل الْقَطْعُ وَحْدَهُ. وَقَال: صَاحِبَاهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: يُصْلَبُونَ وَيُقْتَلُونَ وَلاَ يُقْطَعُونَ (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 93 - 94 روض الطالب 4 / 154، ونهاية المحتاج 8 / 27، والمغني 8 / 289.
(2) بدائع الصنائع 7 / 94، وابن عابدين 3 / 213، والاختيار 4 / 114.(17/160)
وَقَال قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ الآْيَةَ تَدُل عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْجَزَاءَاتِ الأَْرْبَعَةِ.
فَإِِذَا خَرَجُوا لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَقَدَرَ عَلَيْهِمُ الإِِْمَامُ، خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَيْ هَذِهِ الأَْحْكَامَ إِنْ رَأَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ وَإِِنْ لَمْ يَقْتُلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالاً. وَإِِلَى هَذَا ذَهَبَ الإِِْمَامُ مَالِكٌ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
وَهُوَ إِنْ قَتَل فَلاَ بُدَّ مِنْ قَتْلِهِ، إِلاَّ إِنْ رَأَى الإِِْمَامُ أَنَّ فِي إِبْقَائِهِ مَصْلَحَةً أَعْظَمَ مِنْ قَتْلِهِ (1) .
وَلَيْسَ لَهُ تَخْيِيرٌ فِي قَطْعِهِ، وَلاَ نَفْيِهِ، وَإِِنَّمَا التَّخْيِيرُ فِي قَتْلِهِ أَوْ صَلْبِهِ. وَإِِنْ أَخَذَ الْمَال وَلَمْ يَقْتُل لاَ تَخْيِيرَ فِي نَفْيِهِ، وَإِِنَّمَا التَّخْيِيرُ فِي قَتْلِهِ، أَوْ صَلْبِهِ، أَوْ قَطْعِهِ مِنْ خِلاَفٍ، وَإِِنْ أَخَافَ السَّبِيل فَقَطْ فَالإِِْمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَتْلِهِ، أَوْ صَلْبِهِ، أَوْ قَطْعِهِ، بِاعْتِبَارِ الْمَصْلَحَةِ. هَذَا فِي حَقِّ الرِّجَال.
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلاَ تُصْلَبُ، وَلاَ تُنْفَى، وَإِِنَّمَا حَدُّهَا: الْقَطْعُ مِنْ خِلاَفٍ، أَوِ الْقَتْل الْمُجَرَّدُ وَاسْتَدَلُّوا بِظَاهِرِ الآْيَةِ، فَإِِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ بِكَلِمَةِ " أَوْ " وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّخْيِيرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ.
وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ " أَوْ " فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ (2) .
__________
(1) هذا المنحى عند المالكية هو من باب السياسة الشرعية وقواعد المذاهب الأخرى لا تأباه فيما نرى.
(2) بداية المجتهد 2 / 491 - 492 وشرح الزرقاني 8 / 110، وحاشية الدسوقي 4 / 350 وتفسير القرطبي 6 / 152.(17/160)
كَيْفِيَّةُ تَنْفِيذِ الْعُقُوبَةِ:
أ - (النَّفْيُ) :
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالاً وَلَمْ يَقْتُل نَفْسًا فَعُقُوبَتُهُ النَّفْيُ مِنَ الأَْرْضِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى النَّفْيِ فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: نَفْيُهُ حَبْسُهُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ أَوْ يَمُوتَ (1) .
وَذَهَبَ مَالِكٌ: إِِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ إِبْعَادُهُ عَنْ بَلَدِهِ إِِلَى مَسَافَةِ الْبُعْدِ (2) ، وَحَبْسُهُ فِيهِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ: الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ الْحَبْسُ أَوْ غَيْرُهُ كَالتَّغْرِيبِ كَمَا فِي الزِّنَى (4) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: نَفْيُهُمْ: أَنْ يُشَرَّدُوا فَلاَ يُتْرَكُوا يَسْتَقِرُّونَ فِي بَلَدٍ.
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْل النَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ، وَعَطَاءٍ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ يُنْفَى مِنْ بَلَدِهِ إِِلَى بَلَدٍ غَيْرِهِ كَنَفْيِ الزَّانِي (5) .
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهَا
__________
(1) ابن عابدين 3 / 212.
(2) ويدل كلام ابن رشد على أن المراد بها مسافة القصر فما زاد. (بداية المجتهد 2 / 496) .
(3) حاشية الدسوقي 4 / 349.
(4) نهاية المحتاج 8 / 5.
(5) المغني 8 / 294.(17/161)
تُغَرَّبُ وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِعُمُومِ النَّصِّ {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ} .
وَاشْتَرَطُوا لِتَغْرِيبِ الْمَرْأَةِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا مَحْرَمُهَا فَإِِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهَا مَحْرَمُهَا فَعِنْدَ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهَا تُغَرَّبُ إِِلَى دُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ لِتَقْرَبَ مِنْ أَهْلِهَا فَيَحْفَظُوهَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُؤَخَّرُ التَّغْرِيبُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ تَغْرِيبَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلاَ صَلْبَ (2) .
ب - الْقَتْل:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُغَلَّبُ فِي قَتْل قَاطِعِ الطَّرِيقِ، إِذَا قَتَل فَقَطْ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِِلَى أَنَّهُ يُغَلَّبُ الْحَدُّ، فَيُقْتَل وَإِِنْ قَتَل بِمُثَقَّلٍ، وَلاَ يُشْتَرَطُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْقَاتِل وَالْمَقْتُول، فَيَقْتُل الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، كَمَا لاَ عِبْرَةَ بِعَفْوِ مُسْتَحِقِّ الْقَوَدِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لأَِحْمَدَ: يُغَلَّبُ جَانِبُ الْقِصَاصِ لأَِنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُضَايَقَةِ فَيُقْتَل قِصَاصًا أَوَّلاً، فَإِِذَا عَفَا مُسْتَحِقُّ
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 409، والمغني لابن قدامة 8 / 169.
(2) بداية المجتهد 2 / 491 - 492، شرح الزرقاني 8 / 110، وحاشية الدسوقي 4 / 350.
(3) ابن عابدين 3 / 213، وحاشية الدسوقي 4 / 350.(17/161)
الْقِصَاصِ عَنْهُ يُقْتَل حَدًّا، وَيُشْتَرَطُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْقَاتِل وَالْمَقْتُول، لِخَبَرِ: لاَ يُقْتَل مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ (1) وَعَلَى هَذَا إِذَا قَتَل مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا، أَوِ الْحُرُّ غَيْرَ حُرٍّ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَالاً، لَمْ يَقْتُل قِصَاصًا، وَيَغْرَمُ دِيَةَ الذِّمِّيِّ، وَقِيمَةَ الرَّقِيقِ (2) .
ج - الْقَطْعُ مِنْ خِلاَفٍ:
20 - يُرَاعَى فِي كَيْفِيَّةِ الْقَطْعِ مَا يُرَاعَى فِي قَطْعِ السَّارِقِ (3) . وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (سَرِقَةٌ) .
د - الصَّلْبُ:
21 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ الصَّلْبِ، وَمُدَّتِهِ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: يُصْلَبُ حَيًّا، وَيُقْتَل مَصْلُوبًا (4) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُتْرَكُ مَصْلُوبًا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُحَدَّدُ مُدَّةُ الصُّلْبِ بِاجْتِهَادِ الإِِْمَامِ (5) .
__________
(1) حديث " لا يقتل مسلم بكافر " أخرجه البخاري (الفتح 12 / 260 - ط السلفية) من حديث علي بن أبي طالب.
(2) روضة الطالبين 10 / 160، وأسنى المطالب 4 / 156، والمغني 8 / 290.
(3) المصادر السابقة وابن عابدين 3 / 213، والزرقاني 8 / 115، والدسوقي 4 / 349.
(4) ابن عابدين 3 / 213، وحاشية الدسوقي 4 / 349.
(5) المصادر السابقة.(17/162)
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يُصْلَبُ حَيًّا لِلتَّشْهِيرِ بِهِ ثُمَّ يُنْزَل فَيُقْتَل (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةُ: يُصْلَبُ بَعْدَ الْقَتْل، لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْقَتْل عَلَى الصَّلْبِ لَفْظًا. فَيَجِبُ تَقْدِيمُ مَا ذُكِرَ أَوَّلاً فِي الْفِعْل كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ (2) } . وَلأَِنَّ فِي صَلْبِهِ حَيًّا تَعْذِيبًا لَهُ (3) . وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ، فَإِِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ (4) .
وَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ: يُقْتَل، ثُمَّ يُغَسَّل، وَيُكَفَّنُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصْلَبُ، وَيُتْرَكُ مَصْلُوبًا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا وَلاَ يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل مَا يَتَّصِل بِالصَّلْبِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَصْلِيبٌ) .
ضَمَانُ الْمَال وَالْجِرَاحَاتِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ:
22 - إِذَا أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى الْمُحَارِبِ، فَهَل يُضْمَنُ مَا أَخَذَهُ مِنْ الْمَال، وَيُقْتَصُّ مِنْهُ لِلْجِرَاحَاتِ؟ اخْتَلَفَ الأَْئِمَّةُ فِي ذَلِكَ:
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 5.
(2) سورة البقرة / 158.
(3) المغني 8 / 290 - 291، وروض الطالب 4 / 155، ونهاية المحتاج 8 / 6.
(4) حديث: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1548 - ط الحلبي) من حديث شداد بن أوس.(17/162)
فَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ مَالاً وَأُقِيمَ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ ضَمِنُوا الْمَال مُطْلَقًا (1) .
ثُمَّ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الآْخِذِ فَقَطْ، لاَ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ وَلَمْ يُبَاشِرِ الأَْخْذَ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلاَمِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَالُوا: لأَِنَّ وُجُودَ الضَّمَانِ لَيْسَ بِحَدٍّ فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الْمُبَاشِرِ لَهُ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُعْتَبَرُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَامِنًا لِلْمَال الْمَأْخُوذِ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْل صَاحِبِهِ لأَِنَّهُمْ كَالْحُمَلاَءِ (الْكُفَلاَءِ) فَكُل مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ أُخِذَ بِجَمِيعِ مَا أَخَذَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لِتَقَوِّي بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَمَنْ دَفَعَ أَكْثَر مِمَّا أَخَذَ يَرْجِعُ عَلَى أَصْحَابِهِ (3) .
أَمَّا الْجِرَاحَاتُ فَقَال الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا جَرَحَ جَرْحًا فِيهِ قَوَدٌ فَانْدَمَل لَمْ يَتَحَتَّمْ بِهِ قِصَاصٌ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بَل يُتَخَيَّرُ الْمَجْرُوحُ بَيْنَ الْقَوَدِ وَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ لأَِنَّ التَّحَتُّمَ تَغْلِيظٌ لِحَقِّ اللَّهِ، فَاخْتُصَّ بِالنَّفْسِ كَالْكَفَّارَةِ، وَلأَِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِشَرْعِ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْمُحَارِبِ بِالْجِرَاحِ، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِهِ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ.
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 350، ونهاية المحتاج 8 / 8 ومغني المحتاج 4 / 182، والمغني 8 / 298.
(2) نهاية المحتاج 8 / 8 ومغني المحتاج 4 / 483 والمغني 8 / 292.
(3) أسهل المدارك 3 / 157.(17/163)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَإِِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لأَِحْمَدَ: يَتَحَتَّمُ فِيهِ الْقِصَاصُ كَالنَّفْسِ لأَِنَّ الْجِرَاحَ تَابِعَةٌ لِلْقَتْل فَيَثْبُتُ فِيهَا مِثْل حُكْمِهِ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَتَحَتَّمُ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لأَِنَّهُمَا مِمَّا يَسْتَحِقَّانِ فِي الْمُحَارَبَةِ دُونَ غَيْرِهِمَا.
أَمَّا إِذَا سَرَى الْجُرْحُ إِِلَى النَّفْسِ فَمَاتَ الْمَجْرُوحُ يَتَحَتَّمُ الْقَتْل (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ مَالاً وَأُقِيمَ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ فَإِِنْ كَانَ الْمَال قَائِمًا رَدُّوهُ، وَإِِنْ كَانَ تَالِفًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا لاَ يَضْمَنُونَهُ، لأَِنَّهُ لاَ يُجْمَعُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْحَدِّ وَالضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ الْجِرَاحَاتُ سَوَاءٌ كَانَتْ خَطَأً أَمْ عَمْدًا، لأَِنَّهُ إِذَا كَانَتْ خَطَأً، فَإِِنَّهَا تُوجِبُ الضَّمَانَ، وَإِِنْ كَانَتْ عَمْدًا، فَإِِنَّ الْجِنَايَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكُ الأَْمْوَال، وَلاَ يَجِبُ ضَمَانُ الْمَال مَعَ إِقَامَةِ الْحَدِّ فَكَذَلِكَ الْجِرَاحَاتُ (2) .
مَا تَثْبُتُ بِهِ الْحِرَابَةُ:
23 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ جَرِيمَةَ الْحِرَابَةِ تَثْبُتُ قَضَاءً بِالإِِْقْرَارِ، أَوْ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ. وَتُقْبَل شَهَادَةُ الرُّفْقَةِ فِي الْحِرَابَةِ، فَإِِذَا شَهِدَ عَلَى
__________
(1) نهاية المحتاج 8 / 8، ومغني المحتاج 4 / 483، والمغني 8 / 292.
(2) بدائع الصنائع 7 / 95، والاختيار 4 / 111، وابن عابدين 3 / 213.(17/163)
الْمُحَارِبِ اثْنَانِ مِنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ لِغَيْرِهِمَا وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لأَِنْفُسِهِمَا فِي الشَّهَادَةِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَلَيْسَ عَلَى الْقَاضِي الْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهِمَا مِنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ، وَإِِنْ بَحَثَ لَمْ يَلْزَمْهُمُ الإِِْجَابَةُ، أَمَّا إِذَا تَعَرَّضُوا لأَِنْفُسِهِمَا بِأَنْ يَقُولاَ: قَطَعُوا عَلَيْنَا الطَّرِيقَ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَنَا لَمْ يُقْبَلاَ، لاَ فِي حَقِّهِمَا وَلاَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا لِلْعَدَاوَةِ. وَقَال مَالِكٌ: تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَتُقْبَل عِنْدَهُ فِي الْحِرَابَةِ شَهَادَةُ السَّمَاعِ. حَتَّى لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى رَجُلٍ اشْتُهِرَ بِالْحِرَابَةِ أَنَّهُ هُوَ الْمُشْتَهِرُ بِالْحِرَابَةِ تَثْبُتُ الْحِرَابَةُ بِشَهَادَتِهِمَا وَإِِنْ لَمْ يُعَايِنَاهُ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (شَهَادَةٌ وَإِِقْرَارٌ) .
سُقُوطُ عُقُوبَةِ الْحِرَابَةِ:
24 - يَسْقُطُ حَدُّ الْحِرَابَةِ عَنِ الْمُحَارِبِينَ بِالتَّوْبَةِ قَبْل الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي شَأْنِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ حَقًّا لِلَّهِ، وَهُوَ تَحَتُّمُ الْقَتْل، وَالصَّلْبِ، وَالْقَطْعِ مِنْ خِلاَفٍ، وَالنَّفْيِ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ (2) .
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 494، وحاشية الدسوقي 4 / 351، ونهاية المحتاج 8 / 311، وروض الطالب 4 / 158، والمغني 8 / 302 - 303 ومطالب أولي النهى 6 / 631.
(2) بدائع الصنائع 7 / 96 وحاشية الدسوقي 4 / 351 - 352 وروض الطالب 4 / 156، وروضة الطالبين 10 / 159 والمغني 8 / 295.(17/164)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْل أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ (1) } فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْحَدَّ، ثُمَّ اسْتَثْنَى التَّائِبِينَ قَبْل الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا حُقُوقُ الآْدَمِيِّينَ فَلاَ تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ. فَيَغْرَمُونَ مَا أَخَذُوهُ مِنَ الْمَال عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ الْمَال قَائِمًا، وَيُقْتَصُّ مِنْهُمْ إِذَا قَتَلُوا عَلَى التَّفْصِيل السَّابِقِ، وَلاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بِعَفْوِ مُسْتَحِقِّ الْحَقِّ فِي مَالٍ أَوْ قِصَاصٍ (2) .
__________
(1) سورة المائدة / 34.
(2) المصادر السابقة.(17/164)
حِرَاسَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحِرَاسَةُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ حَرَسَ الشَّيْءَ يَحْرُسُهُ وَيَحْرُسُهُ حَرَسًا، حَفِظَهُ حِفْظًا مُسْتَمِرًّا، وَهُوَ أَنْ يَصْرِفَ الآْفَاتِ عَنِ الشَّيْءِ قَبْل أَنْ تُصِيبَهُ صَرْفًا مُسْتَمِرًّا، فَإِِذَا أَصَابَتْهُ فَصَرَفَهَا عَنْهُ سُمِّيَ تَخْلِيصًا، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْحَرْسِ وَهُوَ الدَّهْرُ.
وَحَرَسَ أَيْضًا إِذَا سَرَقَ فَالْفِعْل مِنَ الأَْضْدَادِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَيُطْلِقُونَ عَلَى الشَّاةِ يُدْرِكُهَا اللَّيْل قَبْل رُجُوعِهَا إِِلَى مَأْوَاهَا فَتُسْرَقُ، حَرِيسَةٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ حِفْظُهُ الشَّيْءَ حِفْظًا مُسْتَمِرًّا
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرِّبَاطُ:
2 - هُوَ الإِِْقَامَةُ بِالثَّغْرِ تَقْوِيَةً لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ، وَالثَّغْرُ كُل مَكَانٍ يُخِيفُ أَهْلُهُ الْعَدُوَّ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة (حرس) ، والفروق لابن هلال ص 199.(17/165)
وَيُخِيفُهُمْ، وَأَصْل الرِّبَاطِ مِنْ رِبَاطِ الْخَيْل لأَِنَّ هَؤُلاَءِ يَرْبِطُونَ خُيُولَهُمْ وَهَؤُلاَءِ يَرْبِطُونَ خُيُولَهُمْ كُلٌّ يُعِدُّ لِصَاحِبِهِ فَسُمِّيَ الْمُقَامُ بِالثَّغْرِ رِبَاطًا وَإِِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَيْلٌ (1) .
وَقَدْ رُوِيَ فِي فَضْل الرِّبَاطِ أَحَادِيثُ مِنْهَا مَا رَوَى سَلْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ (2) .
فَالرِّبَاطُ أَخَصُّ مِنَ الْحِرَاسَةِ لأَِنَّهُ حِرَاسَةٌ لِثَغْرٍ بِالإِِْقَامَةِ فِيهِ
ب - الْحِمَى:
3 - الْحِمَى يَكُونُ فِي بُقْعَةٍ مَوَاتٍ لِرَعْيِ نَعَمِ جِزْيَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، وَيَكُونُ بِمَنْعِ الإِِْمَامِ النَّاسَ مِنْ رَعْيِهَا إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِهِمْ (3) ، لأَِنَّهُ حَمَى النَّقِيعَ لِخَيْل الْمُسْلِمِينَ (4) . وَعَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الزُّهْرِيَّ
__________
(1) المغني 8 / 353، 354.
(2) حديث: " رباط ليلة في سبيل الله خير. . . " أخرجه مسلم (3 / 1520 - ط الحلبي) .
(3) قليوبي وعميرة 3 / 92.
(4) حديث: " حمى النقيع لخيل المسلمين " ذكره البخاري (الفتح 5 / 44 - ط السلفية) من قول الزهري بلاغا. وكذلك أخرجه بلاغا أبو داود في سننه (3 / 460 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، وضعف ابن حجر إسناده في الفتح (5 / 45 - ط السلفية) .(17/165)
قَال: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَى النَّقِيعَ، وَأَنَّ عُمَرَ حَمَى الشَّرَفَ وَالرَّبَذَةَ (1) .
فَالْحِمَى حِرَاسَةُ بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ حَتَّى لاَ يَرْعَاهَا غَيْرُ نَعَمِ الْجِزْيَةِ أَوِ الصَّدَقَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْحِرَاسَةِ بِاخْتِلاَفِ أَحْوَالِهَا وَتَعْتَرِيهَا الأَْحْكَامُ الْخَمْسَةُ:
فَتَكُونُ الْحِرَاسَةُ وَاجِبَةً كَحِرَاسَةِ طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ لِلأُْخْرَى الَّتِي تُصَلِّي صَلاَةَ الْخَوْفِ عَمَلاً بِقَوْل رَبِّنَا جَل وَعَلاَ {وَإِِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (2) } .
وَفِي تَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (صَلاَةُ الْخَوْفِ) .
وَتَكُونُ مُسْتَحَبَّةً كَالْحِرَاسَةِ وَالْمُرَابَطَةِ فِي الثُّغُورِ
__________
(1) فتح الباري 5 / 44.
(2) سورة النساء / 102.(17/166)
تَطَوُّعًا وَفِي غَيْرِ تَهْدِيدِ الْعَدُوِّ لَنَا، لِحَدِيثِ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السَّابِقِ (1) .
وَمِنْهَا الْحِرَاسَةُ فِي الْغَزْوِ تَطَوُّعًا جَاءَ فِي فَضْلِهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَرَسَ مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مُتَطَوِّعًا لاَ يَأْخُذُهُ سُلْطَانٌ لَمْ يَرَ النَّارَ بِعَيْنَيْهِ إِلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ (2) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيل اللَّهِ (3) .
وَتَكُونُ مُبَاحَةً كَمَنْ يُؤَجِّرُ نَفْسَهُ لِحِرَاسَةِ مُبَاحٍ كَحَارِسِ الثِّمَارِ وَالأَْسْوَاقِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ (4) .
وَتَكُونُ مُحَرَّمَةً كَحِرَاسَةِ مَا يُؤَدِّي إِِلَى فَسَادِ الدِّينِ. . . وَمِنْ ذَلِكَ حِرَاسَةُ أَمَاكِنِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمِ وَالْخَمْرِ وَالْفُجُورِ وَنَحْوِهَا (5) .
__________
(1) حديث سلمان رضي الله عنه سبق تخريجه ف / 2.
(2) حديث: " من حرس من وراء المسلمين متطوعا لا يأخذه. . . " أخرجه أحمد (3 / 437 - ط الميمنية) من حديث معاذ بن أنس وأورده الهيثمي في المجمع (5 / 287 - ط القدسي) وقال: " رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، وفي إسنادي أحمد ابن لهيعة، وهو أحسن حالا من رشدين ".
(3) حديث: " عينان لا تمسهما النار عين بكيت من. . . . " أخرجه الترمذي (4 / 175 - ط الحلبي) من حديث عبد الله ابن عباس، وحسنه.
(4) الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 23، 25.
(5) الشرح الكبير 4 / 19، جواهر الإكليل 1 / 32 / 188، والفتاوى الهندية 4 / 449، 450، والشرقاوي 6 / 131، ومطالب أولي النهى 3 / 604.(17/166)
حُكْمُ اسْتِخْدَامِ الْكَلْبِ وَمَا شَابَهَ لِلْحِرَاسَةِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى جَوَازِ اسْتِخْدَامِ الْكَلْبِ لِلْحِرَاسَةِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلاَّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ انْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُل يَوْمٍ قِيرَاطٌ (1)
أَمَّا فِي حُكْمِ ضَمَانِ الْحَارِسِ فَخِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَمَانٌ) وَ (وَدِيعَةٌ) . (2)
__________
(1) حديث: " من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 5 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1203 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) بدائع الصنائع 5 / 142، وحاشية الدسوقي 3 / 11، وقليوبي وعميرة 2 / 157، والشرقاوي 6 / 131، وكشاف القناع عن متن الإقناع 3 / 154.(17/167)
حَرَامٌ
انْظُرْ: تَحْرِيمٌ.
حَرْبٌ
انْظُرْ: جِهَادٌ
حَرْبِيٌّ
انْظُرْ: أَهْل الْحَرْبِ، دَارُ الْحَرْبِ.(17/167)
حَرَجٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الضِّيقِ يُقَال حَرَجَ الرَّجُل: أَثِمَ، وَصَدْرٌ حَرِجٌ: ضَيِّقٌ، وَرَجُلٌ حَرِجٌ: آثِمٌ، وَيُقَال: تَحَرَّجَ الإِِْنْسَانُ تَحَرُّجًا أَيْ فَعَل فِعْلاً جَانَبَ بِهِ الْحَرَجَ، وَهَذَا مِمَّا وَرَدَ لَفْظُهُ مُخَالِفًا لِمَعْنَاهُ، وَيُطْلَقُ الْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ أُخْرَى لَكِنَّهَا لاَ تَخْرُجُ فِي دَلاَلَتِهَا عَنْ مَعْنَى الضِّيقِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ كَالإِِْثْمِ وَالْحَرَامِ.
وَمِنْ إِِطْلاَقَاتِهِ أَيْضًا: الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ أَشْجَارٌ كَثِيرَةٌ لاَ تَصِل إِلَيْهِ الرَّاعِيَةُ، يُقَال: هَذَا مَكَانٌ حَرِجٌ أَيْ ضَيِّقٌ كَثِيرُ الشَّجَرِ (1) .
وَيُفْهَمُ مِنِ اسْتِعْمَالاَتِ الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ الْحَرَجِ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى كُل مَا تَسَبَّبَ فِي الضِّيقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ وَاقِعًا عَلَى الْبَدَنِ، أَمْ عَلَى النَّفْسِ، أَمْ عَلَيْهِمَا مَعًا.
وَأَمَّا عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: فَهُوَ كُلِّيٌّ مُشَكِّكٌ (2)
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب، والمحيط، ومعجم مقاييس اللغة والصحاح في اللغة والعلوم مادة (حرج) .
(2) المشكك هو ما تفاوتت أفراده قوة وضعفا بأولية أو أولوية.(17/168)
بَعْضُ أَفْرَادِهِ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ وَلاَ يُعْتَبَرُ كُل مَرْتَبَةٍ مِنْهُ، بَل مَا ثَبَتَ مِنَ الشَّارِعِ اعْتِبَارُهُ حَرَجًا (1) .
وُرُودُ لَفْظِ الْحَرَجِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:
2 - وَرَدَ لَفْظُ الْحَرَجِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فَتَارَةً فُسِّرَ بِمَعْنَى الإِِْثْمِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ (2) } ، وَتَارَةً فُسِّرَ بِمَعْنَى الشِّدَّةِ وَالضِّيقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (3) } .
وَكَذَلِكَ فِي السُّنَّةِ: وَرَدَتْ كَلِمَةُ الْحَرَجِ بِكَثْرَةٍ وَأَغْلَبُهَا يَعُودُ إِِلَى الْمَعَانِي التَّالِيَةِ:
- الإِِْثْمُ: كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيل وَلاَ حَرَجَ (4) أَيْ وَلاَ إِثْمَ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحَدِّثُوا عَنْهُمْ مَا سَمِعْتُمْ (5) .
- الْحَرَامُ: كَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا اللَّهُمَّ إِنِّي
__________
(1) فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت للأنصاري 1 / 168 ط المطبعة الأميرية ببولاق.
(2) سورة التوبة / 91.
(3) سورة النساء / 65، وانظر تفسير القرطبي 5 / 269.
(4) حديث: " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 496 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
(5) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1 / 361 ط المطبعة الأميرية، ولسان العرب المحيط مادة: (حرج) .(17/168)
أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ: أَيْ أُحَرِّمُ (1) . - الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ: كَقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ حِينَمَا سُئِل عَنْ أَسْبَابِ أَمْرِهِ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يَقُول: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ " بَدَلاً مِنْ " حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ: إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ فَتَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرُّخْصَةُ:
3 - الرُّخْصَةُ فِي اللُّغَةِ الْيُسْرُ وَالسُّهُولَةُ يُقَال: رَخُصَ السِّعْرُ إِذَا تَرَاجَعَ، وَسَهُل الشِّرَاءُ.
وَفِي الشَّرِيعَةِ: عِبَارَةٌ عَمَّا وُسِّعَ لِلْمُكَلَّفِ فِي فِعْلِهِ لِعُذْرٍ، وَعَجَزَ عَنْهُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ. كَتَنَاوُل الْمَيْتَةِ عِنْدَ الاِضْطِرَارِ، وَسُقُوطِ أَدَاءِ رَمَضَانَ عَنِ الْمُسَافِرِ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ عِبَارَاتِ الأُْصُولِيِّينَ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِلرُّخْصَةِ (3) .
__________
(1) المراجع السابقة. وحديث: " اللهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة " أخرجه ابن ماجه (2 / 1213 - ط الحلبي) وقال البوصيري: " إسناده صحيح، ورجاله ثقات ".
(2) أثر ابن عباس حينما سئل عن أسباب أمره المؤذن. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 384 - ط السلفية) .
(3) التعريفات للجرجاني، والموافقات للشاطبي 1 / 301 وما بعدها ط دار المعرفة، وفواتح الرحموت للأنصاري 1 / 116، 117، 118، 119، والمستصفى للغزالي 1 / 98، 99، ونهاية السول على هامش التقرير والتحبير 1 / 52، 53 ط المطبعة الأميرية.(17/169)
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَ الرُّخْصَةِ وَالْحَرَجِ الضِّدْيَةُ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رُخْصَةٌ) وَالْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ. ب - الْعَزِيمَةُ:
4 - الْعَزِيمَةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَصْدِ الْمُؤَكَّدِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (1) } .
وَفِي الشَّرِيعَةِ لَهَا تَعْرِيفَاتٌ كَثِيرَةٌ أَقْرَبُهَا مَا عَرَّفَهَا بِهِ الْغَزَالِيُّ وَهُوَ: أَنَّ الْعَزِيمَةَ عِبَارَةٌ عَمَّا لَزِمَ الْعِبَادَ بِإِِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى (2) ". وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عَزِيمَةٌ) وَالْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
ج - الْمَشَقَّةُ:
5 - الْمَشَقَّةُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْجَهْدِ وَالْعَنَاءِ وَالشِّدَّةِ، يُقَال: شَقَّ عَلَيْهِ الشَّيْءُ يَشُقُّ شَقًّا، وَمَشَقَّةً إِذَا أَتْعَبَهُ (3) ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَْنْفُسِ (4) } .
د - الضَّرُورَةُ:
6 - الضَّرُورَةُ اسْمٌ مِنَ الاِضْطِرَارِ وَمَأْخُوذَةٌ مِنَ
__________
(1) سورة طه / 115.
(2) المستصفى للغزالي 1 / 98، والموافقات للشاطبي 1 / 300 وما بعدها ط دار المعرفة، ونهاية السول على هامش التقرير والتحبير 1 / 52، 53.
(3) لسان العرب مادة: (شق) والموافقات للشاطبي 2 / 80، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2 / 491.
(4) سورة النحل / 7.(17/169)
الضَّرَرِ، وَهُوَ ضِدُّ النَّفْعِ (1) .
وَفِي الشَّرْعِ بُلُوغُ الإِِْنْسَانِ حَدًّا إِنْ لَمْ يَتَنَاوَل الْمَمْنُوعَ هَلَكَ أَوْ قَارَبَ، وَهَذَا يُبِيحُ تَنَاوُل الْحَرَامِ. وَتُعْتَبَرُ حَالَةُ الضَّرُورَةِ مِنْ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْحَرَجِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّخْفِيفِ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَرُورَةٌ) وَالْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
هـ - الْحَاجَةُ:
7 - الْحَاجَةُ فِي الأَْصْل: الاِفْتِقَارُ إِِلَى الشَّيْءِ الَّذِي يُوَفِّرُ تَحَقُّقُهُ رَفْعَ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنَّهَا لَوْ لَمْ تُرَاعَ لَمْ يَدْخُل عَلَى الْمُكَلَّفِ الْفَسَادُ الْعَظِيمُ الْمُتَحَقِّقُ لِفِقْدَانِ الْمَصَالِحِ الضَّرُورِيَّةِ. كَالْجَائِعِ الَّذِي لَوْ لَمْ يَأْكُل لَمْ يَهْلِكْ (3) . وَالْحَاجَةُ قَدْ تُنَزَّل مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ لاِعْتِبَارَاتٍ مُعَيَّنَةٍ.
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
8 - الْحَرَجُ مَرْفُوعٌ شَرْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (4) } قَوْله تَعَالَى
__________
(1) المصباح المنير مادة: (ضرر) .
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي / 85 ط دار الكتب العلمية، والمنثور في القواعد للزركشي 2 / 319.
(3) الموافقات للشاطبي 2 / 10 وما بعدها، والأشباه والنظائر للسيوطي / 85.
(4) سورة البقرة / 185.(17/170)
: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (1) } وَمِنْهُ الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ: الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ " قَال الْفُقَهَاءُ: عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَتَخَرَّجُ جَمِيعُ رُخَصِ الشَّرْعِ كَالتَّخْفِيفِ لأَِجْل السَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَنَحْوِهَا.
وَمِثْلُهَا قَاعِدَةُ: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ ".
كَأَكْل الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ وَإِِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا (2) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَرَجِ مِنْ أَحْكَامٍ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) سورة الحج / 78.
(2) مجلة الأحكام العدلية م (17، 21) والأشباه والنظائر للسيوطي / 76، 77، 78، 79، 80، 84.(17/170)
حُرٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحُرُّ مِنَ الرِّجَال خِلاَفُ الْعَبْدِ، وَسُمِّيَ حُرًّا لِخُلُوصِهِ مِنَ الرِّقِّ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: رَجُلٌ حُرٌّ إِذَا خَلِصَ مِنَ الاِخْتِلاَطِ بِغَيْرِهِ، وَجَمْعُ الْحُرِّ أَحْرَارٌ، وَالْحُرَّةُ خِلاَفُ الأَْمَةِ، وَالْحُرَّةُ أَيْضًا الْكَرِيمَةُ، وَجَمْعُهَا حَرَائِرُ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، كَشَجَرَةٍ مُرَّةٍ وَشَجَرٌ مَرَائِرُ، وَيُسْتَعَارُ الْحُرُّ أَيْضًا لِلْكَرِيمِ، كَالْعَبْدِ لِلَّئِيمِ (1) .
وَهُوَ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: مَنْ خَلَصَتْ ذَاتُهُ عَنْ شَائِبَةِ الرِّقِّ وَالْمِلْكِ (2) ، وَهُوَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ اسْتَقَرَّتْ لَهُ الْحُرِّيَّةُ فَذَاكَ، وَضَرْبٌ يُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ ظَاهِرًا كَاللَّقِيطِ (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُبَعَّضُ:
2 - الْمُبَعَّضُ هُوَ مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ مَمْلُوكٌ،
__________
(1) راجع الصحاح واللسان والمصباح مادة: (حرر) ، والمغرب / 110 ط العربي.
(2) الاختيار 4 / 17 ط. المعرفة، والبدائع 4 / 110 ط الجمالية، والمغني 6 / 381، وابن عابدين 3 / 314، وجواهر الإكليل 2 / 219، 220.
(3) المنثور 2 / 45 ط الأولى.(17/171)
وَتُعْرَفُ أَحْكَامُهُ بِالرُّجُوعِ إِِلَى مُصْطَلَحِ (تَبْعِيضٌ)
ب - الْعَبْدُ:
3 - الْعَبْدُ هُوَ الْمَمْلُوكُ مِنَ الذُّكُورِ خَاصَّةً. قَال الزَّرْقَانِيُّ: وَإِِنْ كَانَ لَفْظُ الْعَبْدِ يَشْمَل الأُْنْثَى شَرْعًا نَحْوُ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (1) } لَكِنَّ الْعُرْفَ أَصْلٌ مِنْ أُصُول الشَّرْعِ يُخَصِّصُ الْعَامَّ وَيُقَيِّدُ الْمُطْلَقَ (2) .
وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى الْقِنِّ، وَهُوَ مَنْ مُلِكَ هُوَ وَأَبَوَاهُ، أَوْ هُوَ الَّذِي لَمْ يَنْعَقِدْ لَهُ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ. وَعَلَى الْمُدَبَّرِ: وَهُوَ مَنْ عَلِقَ عِتْقُهُ بِالْمَوْتِ الَّذِي هُوَ دُبُرُ الْحَيَاةِ.
وَعَلَى الْمُكَاتَبِ: وَهُوَ مَنْ عَلِقَ عِتْقُهُ بِلَفْظِ الْكِتَابَةِ وَبِعِوَضٍ مُنَجَّمٍ بِنَجْمَيْنِ فَأَكْثَرَ (3) .
ج - الأَْمَةُ:
4 - الأَْمَةُ وَهِيَ الأُْنْثَى مِنَ الْمَمَالِيكِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ كَامِلَةَ الْعُبُودِيَّةِ أَمْ مُكَاتَبَةً أَمْ مُدَبَّرَةً، وَلَفْظُ الأَْمَةِ يَصْدُقُ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ، وَهِيَ الَّتِي أَحْبَلَهَا سَيِّدُهَا فَوَلَدَتْ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا، أَوْ مَا تَجِبُ فِيهِ غُرَّةٌ كَمُضْغَةٍ
__________
(1) سورة فصلت / 46.
(2) شرح الزرقاني على خليل 8 / 126.
(3) المصباح مادة: (عبد) والاختيار 4 / 17 ط. المعرفة، ابن عابدين 2 / 370 ط بولاق، حاشية القليوبي 4 / 358، 362 ط، الحلبي، والمغني 9 / 344 ط الرياض.(17/171)
فِيهَا صُورَةُ آدَمِيٍّ ظَاهِرَةً أَوْ خَفِيَّةً أَخْبَرَ بِهَا الْقَوَابِل (1) .
الأَْحْكَامُ الإِِْجْمَالِيَّةُ:
5 - الأَْصْل فِي الإِِْنْسَانِ الْحُرِّيَّةُ، وَالرِّقُّ طَارِئٌ عَلَى الإِِْنْسَانِ، وَالأَْصْل فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهَا لِلأَْحْرَارِ، وَيُوَافِقُ الرَّقِيقُ الأَْحْرَارَ فِي أَغْلَبِ الأَْحْكَامِ، وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ يَخْتَصُّ بِهَا الرَّقِيقُ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِقٌّ) .
الْحُرُّ لاَ يَدْخُل تَحْتَ الْيَدِ:
6 - وَهِيَ قَاعِدَةٌ فِقْهِيَّةٌ تَذْكُرُهَا كُتُبُ الْقَوَاعِدِ وَمَعْنَاهَا: أَنَّ الْحُرَّ لاَ يُسْتَوْلَى عَلَيْهِ اسْتِيلاَءَ الْغَصْبِ وَالْمِلْكِ فَلاَ يُبَاعُ وَلاَ يُشْتَرَى، وَمِنْ فُرُوعِهَا أَنَّهُ لَوْ حَبَسَ إِنْسَانٌ حُرًّا وَلَمْ يَمْنَعْهُ الطَّعَامَ حَتَّى مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ بِانْهِدَامِ حَائِطٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا ضَمِنَهُ، وَلاَ يَضْمَنُ مَنَافِعَهُ مَا دَامَ فِي حَبْسِهِ إِذَا لَمْ يَسْتَوْفِهَا، وَيَضْمَنُ مَنَافِعَ الْعَبْدِ.
وَمِنْ فُرُوعِهَا أَيْضًا أَنَّ ثِيَابَ الْحُرِّ وَمَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمَال لاَ يَدْخُل فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ، لأَِنَّهَا فِي يَدِ الْحُرِّ حَقِيقَةً، وَكَذَا لَوْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا عَلَى الأَْصَحِّ (2) .
__________
(1) حاشية القليوبي 4 / 373.
(2) المنثور للزركشي 2 / 43 - 44 ط الأولي، والأشباه والنظائر للسيوطي / 124 ط، العلمية، وحاشية الحموي على ابن النجيم 1 / 164 - 165 ط العامرة.(17/172)
حِرْزٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحِرْزُ فِي اللُّغَةِ: الْمَوْضُوعُ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ الشَّيْءُ، وَالْجَمْعُ أَحْرَازٌ، تَقُول: أَحْرَزْتُ الشَّيْءَ أُحْرِزُهُ إِحْرَازًا إِذَا حَفِظْتَهُ وَضَمَمْتَهُ إِلَيْكَ وَصُنْتَهُ عَنِ الأَْخْذِ.
وَلِلْحِرْزِ مَعَانٍ أُخْرَى مِنْهَا:
الْمَوْضِعُ الْحَصِينُ: يُقَال: هَذَا حِرْزٌ حَرِيزٌ، لِلتَّأْكِيدِ، كَمَا يُقَال: حِصْنٌ حَصِينٌ (1) .
وَالتَّعْوِيذَةُ. وَالنَّصِيبُ، كَمَا يُقَال. أَخَذَ حِرْزَهُ. أَيْ نَصِيبَهُ (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ مَا نُصِبَ عَادَةً لِحِفْظِ أَمْوَال النَّاسِ، كَالدَّارِ، وَالْحَانُوتِ، وَالْخَيْمَةِ، وَالشَّخْصِ. وَقَال ابْنُ رُشْدٍ: الأَْشْبَهُ أَنْ يُقَال فِي حَدِّ الْحِرْزِ: إِنَّهُ مَا شَأْنُهُ أَنْ تُحْفَظَ بِهِ الأَْمْوَال كَيْ يَعْسُرَ أَخْذُهَا مِثْل الأَْغْلاَقِ وَالْحَظَائِرِ.
وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ تَحْدِيدَ الْحِرْزِ مَرْجِعُهُ إِِلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.
__________
(1) لسان العرب المحيط، والمغرب للمطرزي، ومتن اللغة، ومختار الصحاح والمصباح المنير مادة " حرز "، وفتح القدير 5 / 142 ط دار إحياء التراث العربي.
(2) لسان العرب المحيط، ومتن اللغة مادة " حرز ".(17/172)
قَال الْغَزَالِيُّ: وَالْحِرْزُ مَا لاَ يُعَدُّ الْمَالِكُ أَنَّهُ مُضَيِّعٌ لِمَالِهِ إِذَا وَضَعَهُ فِيهِ. وَمَرْجِعُهُ الْعُرْفُ لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ لُغَةً وَلاَ شَرْعًا، كَالْقَبْضِ فِي الْمَبِيعِ وَالإِِْحْيَاءِ فِي الْمَوَاتِ. وَالْعُرْفُ يَتَفَاوَتُ، وَلِذَلِكَ فَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الأَْحْوَال، وَالأَْوْقَاتِ (1) .
الْحُكْمُ الإِِْجْمَالِيُّ:
2 - الأَْخْذُ مِنَ الْحِرْزِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ لِلْمَال الْمَمْلُوكِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَلاَ يَجِبُ الْقَطْعُ حَتَّى يَنْفَصِل الْمَال عَنْ جَمِيعِ الْحِرْزِ، وَلِذَلِكَ إِذَا جَمَعَ الْمَتَاعَ وَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ مِنَ الْحِرْزِ لاَ يَجِبُ الْقَطْعُ، وَإِِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو الأَْسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَهْل الرَّأْيِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ لأَِحَدٍ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ خِلاَفًا، إِلاَّ قَوْلاً حُكِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ فِيمَنْ جَمَعَ الْمَتَاعَ وَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ مِنَ الْحِرْزِ عَلَيْهِ الْقَطْعُ.
وَالأَْصْل فِي اشْتِرَاطِ الْحِرْزِ مَا رُوِيَ فِي الْمُوَطَّأِ
__________
(1) فتح القدير 5 / 142، وابن عابدين 3 / 194 وما بعدها، والشرح الصغير 4 / 477، والقوانين الفقهية / 352، وبداية المجتهد 2 / 484، 485، ط مكتبة الكلية الأزهرية، وروضة الطالبين 10 / 121، والمغني 8 / 249 ط مطبعة الرياض، ونيل المآرب 2 / 373 ط مكتبة الفلاح، والقليوبي 4 / 190.(17/173)
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ وَلاَ فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ، فَإِِذَا آوَاهُ الْمَرَاحُ (1) أَوِ الْجَرِينُ (2) ، فَالْقَطْعُ فِيمَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ (3)
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَال: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ قَطْعٌ إِلاَّ فِيمَا آوَاهُ الْجَرِينُ. فَمَا أُخِذَ مِنَ الْجَرِينِ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ الْقَطْعُ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ غَرَامَةٌ مِثْلِيَّةٌ وَجَلَدَاتٌ نَكَالٌ (4) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُعْتَبَرُ بِهِ الْمَال مُحْرَزًا، فَقَال بَعْضُهُمْ: يُعْتَبَرُ مُحْرَزًا بِالْمُلاَحَظَةِ أَوْ حَصَانَةِ الْمَوْضِعِ (5) . وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي سَرِقَةٌ وَقَطْعٌ.
__________
(1) المراح: المكان الذي تأوي إليه الإبل والبقر والغنم ليلا. (البدائع 7 / 73) .
(2) الجرين: الموضع الذي يجفف فيه الثمار. (المصباح المنير) والمجن: الترس.
(3) حديث: " لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل، فإذا. . . " أخرجه مالك في الموطأ (2 / 831 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين الملكي مرسلا، ويشهد له ما بعده.
(4) حديث: " ليس في شيء من الثمر المعلق قطع إلا فيما. . . " أخرجه النسائي (8 / 86 - ط المكتبة التجارية) من حديث عبد الله بن عمرو وإسناده حسن.
(5) فتح القدير 5 / 140 ط دار إحياء التراث العربي، والمبسوط 9 / 147 وما بعدها ط دار المعرفة، وابن عابدين 3 / 194، والاختيار 4 / 104 ط دار المعرفة، والبدائع 7 / 73 ط دار الكتاب العربي، والشرح الصغير 4 / 269 - ط دار المعارف، وبداية المجتهد 2 / 485، وشرح منهاج الطالبين المطبوع مع القليوبي 4 / 190، ط مصطفى البابي الحلبي، وروضة الطالبين 10 / 139، والمغني 8 / 248، 255، ونيل المآرب 2 / 372.(17/173)
أَنْوَاعُ الْحِرْزِ:
الْحِرْزُ نَوْعَانِ:
1 - الْحِرْزُ بِالْمَكَانِ:
3 - وَهُوَ كُل بُقْعَةٍ مُعَدَّةٍ لِلإِِْحْرَازِ مَمْنُوعٌ الدُّخُول فِيهَا أَوِ الأَْخْذُ مِنْهَا إِلاَّ بِإِِذْنٍ كَالدُّورِ، وَالْحَوَانِيتِ، وَالْخِيَمِ، وَالْخَزَائِنِ، وَالصَّنَادِيقِ.
فَهَذَا النَّوْعُ يَكُونُ حِرْزًا بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ وُجِدَ حَافِظٌ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا، أَوْ مَفْتُوحًا، لأَِنَّ الْبِنَاءَ يُقْصَدُ بِهِ الإِِْحْرَازُ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ بِنَفْسِهِ، بِدُونِ صَاحِبِهِ، لأَِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَّقَ الْقَطْعَ بِإِِيوَاءِ الْجَرِينِ وَالْمَرَاحِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ وُجُودِ الْحَافِظِ، لِصَيْرُورَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا حِرْزًا.
2 - الْحِرْزُ بِالْحَافِظِ:
4 - وَيَكُونُ فِي كُل مَكَانٍ غَيْرِ مُعَدٍّ لِلإِِْحْرَازِ، يُدْخَل إِلَيْهِ بِلاَ إِذْنٍ، وَلاَ يُمْنَعُ مِنْهُ كَالْمَسَاجِدِ وَالطُّرُقِ، فَهَذَا النَّوْعُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَفَاوِزِ وَالصَّحْرَاءِ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَافِظٌ قَرِيبٌ مِنَ الْمَال يُمْكِنُهُ حِفْظُهُ، فَإِِنْ كَانَ فَهُوَ مُحْرَزٌ بِهِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي (سَرِقَةٌ، وَقَطْعٌ) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ: أَنَّ الْقَطْعَ لاَ يَجِبُ بِالأَْخْذِ مِنَ الْحِرْزِ بِالْمَكَانِ إِلاَّ بِالإِِْخْرَاجِ مِنْهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ يَدَ الْمَالِكِ قَائِمَةٌ مَا لَمْ(17/174)
يُخْرِجْهُ، فَلَمْ تَتِمَّ السَّرِقَةُ. وَأَمَّا الْمُحْرَزُ بِالْحَافِظِ فَيَجِبُ الْقَطْعُ بِمُجَرَّدِ أَخْذِهِ، لأَِنَّ يَدَ الْمَالِكِ تُزَال بِمُجَرَّدِ الأَْخْذِ، فَتَمَّتِ السَّرِقَةُ (1) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - فَصَّل الْفُقَهَاءُ الْكَلاَمَ حَوْل الْحِرْزِ فِي بَابِ السَّرِقَةِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ شُرُوطِهَا، وَفِي الْعُقُودِ الَّتِي لَهَا ضَمَانٌ كَالْوَدِيعَةِ وَغَيْرِهَا. وَبَابِ السِّيَرِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْغَنِيمَةِ (2) . وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (قَبْضٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 3 / 194، والمبسوط 9 / 147 وما بعدها، وفتح القدير 5 / 144، 145، والبدائع 7 / 73، والاختيار 4 / 104، وبداية المجتهد 2 / 485، وروضة الطالبين 10 / 121، والمغني 8 / 249، ونيل المآرب 2 / 372، 373.
(2) ابن عابدين 3 / 281 وما بعدها، و 4 / 500 ط دار إحياء التراث العربي، والاختيار 3 / 25، 26 و 4 / 130، 132 ط دار المعرفة، وجواهر الإكليل 2 / 140، 141، وما بعدها - ط دار المعرفة، والخرشي 6 / 111، 112، ط دار صادر، والقليوبي 3 / 182، 183 ط دار إحياء الكتب العربية، ونهاية المحتاج 6 / 116 ط مصطفى البابي الحلبي. والمغني 6 / 384 وما بعدها ط الرياض، ونيل المآرب 1 / 433، 475، ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة / 166.(17/174)
حِرْفَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحِرْفَةُ اسْمٌ مِنَ الاِحْتِرَافِ وَهُوَ الاِكْتِسَابُ، يُقَال: هُوَ يَحْرِفُ لِعِيَالِهِ وَيَحْتَرِفُ.
وَالْمُحْتَرَفُ: الصَّانِعُ، وَفُلاَنٌ حَرِيفِيٌّ، أَيْ مُعَامِلِيٌّ، وَجَمْعُهُ حُرَفَاءُ.
وَالْمُحَرِّفُ: الَّذِي نَمَا مَالُهُ وَصَلُحَ، وَالاِسْمُ: الْحِرْفَةُ.
وَالْحِرْفَةُ: الصِّنَاعَةُ وَجِهَةُ الْكَسْبِ.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: لَمَّا اسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مُؤْنَةِ أَهْلِي، وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَسَيَأْكُل آل أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَال، وَأحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ (1) .
أَرَادَ بِاحْتِرَافِهِ لِلْمُسْلِمِينَ نَظَرَهُ فِي أُمُورِهِمْ وَتَثْمِيرَ مَكَاسِبِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ الْحِرْفَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فَهُمْ يَعْتَبِرُونَ كُل مَا كَانَ طَرِيقًا لِلاِكْتِسَابِ حِرْفَةً وَمِنْ ذَلِكَ الْوَظَائِفُ.
__________
(1) أثر عائشة أخرجه البخاري (الفتح 4 / 302 ط السلفية) .
(2) لسان العرب والمصباح المنير ومختار الصحاح مادة (حرف) .(17/175)
يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: الْوَظَائِفُ تُعْتَبَرُ مِنَ الْحَرْفِ، لأَِنَّهَا صَارَتْ طَرِيقًا لِلاِكْتِسَابِ. وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: الْحِرْفَةُ هِيَ مَا يُتَحَرَّفُ بِهِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ مِنَ الصَّنَائِعِ وَغَيْرِهَا (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2 - صَنْعَةٌ - كَسْبٌ - عَمَلٌ - مِهْنَةٌ:
هَذِهِ الأَْلْفَاظُ تُرَادِفُ الْحِرْفَةَ بِمَعْنَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُكْتَسَبُ بِهَا.
وَقَدْ يَكُونُ الْكَسْبُ وَالْعَمَل وَالْمِهْنَةُ أَعَمَّ مِنَ الْحِرْفَةِ إِذْ قَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهَا حِرْفَةً وَقَدْ لاَ يَكُونُ. وَالْحِرْفَةُ أَعَمُّ مِنَ الصَّنْعَةِ. إِذِ الصَّنْعَةُ تَكُونُ فِي الْعَمَل بِالْيَدِ فِي حِينِ أَنَّ الْحِرْفَةَ قَدْ تَكُونُ بِالْيَدِ قَدْ تَكُونُ بِالْعَقْل وَالتَّفْكِيرِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل مَعَانِي هَذِهِ الأَْلْفَاظِ فِي أَبْحَاثِ (احْتِرَافٌ - اكْتِسَابٌ - امْتِهَانٌ) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْقِيَامِ بِالْحِرَفِ:
3 - الْقِيَامُ بِالْحِرَفِ فِي الْجُمْلَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَقَدْ يَنْقَلِبُ إِِلَى فَرْضِ عَيْنٍ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: احْتِرَافٌ فِقْرَةُ 10.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحِرْفَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
أَوَّلاً: الصَّلاَةُ بِثِيَابِ الْحِرْفَةِ:
4 - طَهَارَةُ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْمَكَانِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلاَةِ.
__________
(1) ابن عابدين 2 / 321 ومنح الجليل 1 / 711 ونهاية المحتاج 6 / 253.(17/175)
وَمَنْ كَانَتْ حِرْفَتُهُ تُصِيبُ النَّجَاسَةُ بِسَبَبِهَا ثَوْبَهُ، أَوْ بَدَنَهُ كَالْجَزَّارِ وَالْكَنَّاسِ فَإِِنَّهُ يَجْعَل لِنَفْسِهِ ثَوْبًا طَاهِرًا لِلصَّلاَةِ فِيهِ، أَوْ يَجْتَهِدُ فِي إِبْعَادِ ثَوْبِهِ عَنِ النَّجَاسَةِ.
فَإِِنْ تَعَذَّرَ إِعْدَادُ ثَوْبٍ آخَرَ، وَتَعَذَّرَ إِبْعَادُ ثَوْبِهِ عَنِ النَّجَاسَةِ. وَغَلَبَ وُصُول النَّجَاسَةِ لِلثَّوْبِ فَإِِنَّهُ يُصَلِّي فِيهِ، وَيُعْفَى عَنِ النَّجَاسَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لِدَفْعِ الْحَاجَةِ. بِهَذَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ.
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ ثَوْبًا نَجِسًا قَال أَحْمَدُ: يُصَلِّي فِيهِ وَلاَ يُصَلِّي عُرْيَانًا وَهُوَ قَوْل الْمُزَنِيِّ. وَقَال الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: يُصَلِّي عُرْيَانًا وَلاَ يُعِيدُ لأَِنَّهَا سُتْرَةٌ نَجِسَةٌ فَلَمْ تَجُزْ لَهُ الصَّلاَةُ فِيهَا كَمَا لَوْ قَدَرَ عَلَى غَيْرِهَا، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ جَمِيعُ الثَّوْبِ نَجِسًا فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْفِعْلَيْنِ، لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ تَرْكِ وَاجِبٍ فِي كِلاَ الْفِعْلَيْنِ، وَإِِنْ كَانَ صَلاَتُهُ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ أَوْلَى، لأَِنَّهُ بِالصَّلاَةِ فِي الثَّوْبِ النَّجَسِ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ فِي الصَّلاَةِ وَخَارِجَهَا (1) .
ثَانِيًا: وَقْتُ الصَّلاَةِ لِلْمُحْتَرِفِ:
5 - الصَّلاَةُ فِي أَوْقَاتِهَا وَاجِبَةٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ. وَصَاحِبُ الْحِرْفَةِ إِذَا كَانَ أَجِيرًا خَاصًّا لِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ فَإِِنَّ الإِِْجَارَةَ لاَ تَمْنَعُهُ مِنْ أَدَاءِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِ مِنَ الصَّلاَةِ وَلاَ يَحْتَاجُ لإِِِذْنِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي
__________
(1) الاختيار 1 / 46 ومنح الجليل 1 / 38 والمهذب 1 / 67 ومنتهى الإرادات 1 / 145.(17/176)
ذَلِكَ، وَلاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَجْرِهِ. وَفِي أَدَاءِ السُّنَنِ خِلاَفٌ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِجَارَةٌ، صَلاَةٌ) .
ثَالِثًا: صِيَامُ أَصْحَابِ الْحِرَفِ:
6 - صِيَامُ رَمَضَانَ فَرْضٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ، وَلاَ يُعْفَى مِنْ أَدَاءِ الصِّيَامِ فِي وَقْتِهِ إِلاَّ أَصْحَابَ الأَْعْذَارِ الْمُرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْفِطْرِ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لأَِصْحَابِ الْحِرَفِ فَمُفَادُ نُصُوصِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ لِعَمَلِهِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، أَوْ خَشِيَ تَلَفَ الْمَال إِنْ لَمْ يُعَالِجْهُ، أَوْ سَرِقَةَ الزَّرْعِ إِنْ لَمْ يُبَادِرْ لِحَصَادِهِ، فَلَهُ أَنْ يَعْمَل مَعَ الصَّوْمِ وَلَوْ أَدَّاهُ الْعَمَل إِِلَى الْفِطْرِ حِينَ يَخَافُ الْجَهْدَ.
وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَرْكُ الْعَمَل لِيَقْدِرَ عَلَى إِتْمَامِ الصَّوْمِ، وَإِِذَا أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ.
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ:
فَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ الْفَتَاوَى: سُئِل عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ عَنْ الْمُحْتَرِفِ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوِ اشْتَغَل بِحِرْفَتِهِ يَلْحَقُهُ مَرَضٌ يُبِيحُ الْفِطْرَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ لِلنَّفَقَةِ هَل يُبَاحُ لَهُ الأَْكْل قَبْل أَنْ يَمْرَضَ فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْمَنْعِ، وَهَكَذَا حَكَاهُ عَنْ
__________
(1) المجلة مادة / 495 وابن عابدين 5 / 70 ونهاية المحتاج 5 / 279 وكشاف القناع 4 / 2 - 25.(17/176)
أُسْتَاذِهِ الْوَبَرِيِّ. وَسُئِل أَبُو حَامِدٍ عَنْ خَبَّازٍ يَضْعُفُ فِي آخِرِ النَّهَارِ هَل لَهُ أَنْ يَعْمَل هَذَا الْعَمَل قَال: لاَ، وَلَكِنْ يَخْبِزُ نِصْفَ النَّهَارِ وَيَسْتَرِيحُ الْبَاقِيَ، فَإِِنْ قَال لاَ يَكْفِيهِ كُذِّبَ بِأَيَّامِ الشِّتَاءِ فَإِِنَّهَا أَقْصَرُ فَمَا يَفْعَلُهُ فِيهَا يَفْعَلُهُ الْيَوْمَ.
وَقَال الرَّمْلِيُّ فِي جَامِعِ الْفَتَاوَى: لَوْ ضَعُفَ عَنِ الصَّوْمِ لاِشْتِغَالِهِ بِالْمَعِيشَةِ، فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيُطْعِمَ لِكُل يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ إِذَا لَمْ يُدْرِكْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُمْكِنُهُ الصَّوْمُ فِيهَا وَإِِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَعَلَى هَذَا الْحَصَادُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ مَعَ الصَّوْمِ وَيَهْلِكُ الزَّرْعُ بِالتَّأْخِيرِ، لاَ شَكَّ فِي جَوَازِ الْفِطْرِ وَالْقَضَاءِ، وَكَذَا الْخَبَّازُ وَفِي تَكْذِيبِهِ نَظَرٌ، فَإِِنَّ طُول النَّهَارِ وَقِصَرَهُ لاَ دَخْل لَهُ فِي الْكِفَايَةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَاَلَّذِي يَنْبَغِي فِي مَسْأَلَةِ الْمُحْتَرِفِ - حَيْثُ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ مَا مَرَّ مِنْ تَفَقُّهَاتِ الْمَشَايِخِ لاَ مِنْ مَنْقُول الْمَذْهَبِ - أَنْ يُقَال: إِذَا كَانَ عِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ وَعِيَالَهُ لاَ يَحِل لَهُ الْفِطْرُ، لأَِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ السُّؤَال مِنَ النَّاسِ فَالْفِطْرُ أَوْلَى، وَإِِلاَّ فَلَهُ الْعَمَل بِقَدْرِ مَا يَكْفِيهِ، كَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ صِيَامَهُ مَعَ الْعَمَل سَيُؤَدِّيهِ إِِلَى الْفِطْرِ يَحِل لَهُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْعَمَل فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُؤَدِّيهِ إِِلَى الْفِطْرِ، وَكَذَا لَوْ خَافَ هَلاَكَ زَرْعِهِ أَوْ سَرِقَتَهُ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَعْمَل لَهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا. وَلَوْ آجَرَ نَفْسَهُ فِي الْعَمَل مُدَّةً مَعْلُومَةً فَجَاءَ رَمَضَانُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ لَهُ الْفِطْرَ، وَإِِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ إِذَا لَمْ يَرْضَ الْمُسْتَأْجِرُ بِفَسْخِ الإِِْجَارَةِ، كَمَا فِي الظِّئْرِ(17/177)
فَإِِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا الإِِْرْضَاعُ بِالْعَقْدِ، وَيَحِل لَهَا الإِِْفْطَارُ إِذَا خَافَتْ عَلَى الْوَلَدِ فَيَكُونُ خَوْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْلَى (1) .
وَفِي التَّاجِ وَالإِِْكْلِيل مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ: نَقَل ابْنُ مُحْرِزٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الَّذِي يُعَالِجُ مِنْ صَنْعَتِهِ فَيَعْطَشُ فَيُفْطِرُ، فَقَال: لاَ يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَتَكَلَّفُوا مِنْ عِلاَجِ الصَّنْعَةِ مَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْفَرَائِضِ وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ. فَقَال ابْنُ مُحْرِزٍ: يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا شَدَّدَ فِي ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ فِي كِفَايَةٍ مِنْ عَيْشِهِ أَوْ كَانَ يُمْكِنُهُ مِنَ التَّسَبُّبِ مَا لاَ يَحْتَاجُ مَعَهُ إِِلَى الْفِطْرِ، وَإِِلاَّ كُرِهَ لَهُ. بِخِلاَفِ رَبِّ الزَّرْعِ فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ.
وَفِي نَوَازِل الْبُرْزُلِيُّ: الْفَتْوَى عِنْدَنَا أَنَّ الْحَصَادَ الْمُحْتَاجَ لَهُ الْحَصَّادُ، أَيْ وَلَوْ أَدَّى بِهِ إِِلَى الْفِطْرِ وَإِِلاَّ كُرِهَ لَهُ، بِخِلاَفِ رَبِّ الزَّرْعِ فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا لِحِرَاسَةِ مَالِهِ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَال (2) .
وَفِي حَاشِيَةِ الْجَمَل مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: يُبَاحُ تَرْكُ الصَّوْمِ لِنَحْوِ حَصَادٍ، أَوْ بِنَاءٍ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ تَبَرُّعًا أَوْ بِأُجْرَةٍ، وَإِِنْ لَمْ يَنْحَصِرِ الأَْمْرُ فِيهِ وَقَدْ خَافَ عَلَى الْمَال إِنْ صَامَ وَتَعَذَّرَ الْعَمَل لَيْلاً، أَوْ لَمْ يَكْفِهِ فَيُؤَدِّي لِتَلَفِهِ أَوْ نَقْصِهِ نَقْصًا لاَ يُتَغَابَنُ بِمِثْلِهِ. هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 114 - 115.
(2) التاج والإكليل للمواق بهامش الحطاب 2 / 395.(17/177)
إِبَاحَةُ الْفِطْرِ لإِِِنْقَاذِ مُحْتَرَمٍ، خِلاَفًا لِمَنْ أَطْلَقَ فِي نَحْوِ الْحَصَادِ الْمَنْعَ، وَلِمَنْ أَطْلَقَ الْجَوَازَ.
وَلَوْ تَوَقَّفَ كَسْبُهُ لِنَحْوِ قُوتِهِ الْمُضْطَرِّ إِلَيْهِ هُوَ أَوْ مُمَوِّنُهُ عَلَى فِطْرِهِ، فَظَاهِرٌ أَنَّ لَهُ الْفِطْرَ لَكِنْ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ (1) .
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: قَال أَبُو بَكْرٍ الآْجُرِّيُّ: مَنْ صَنْعَتُهُ شَاقَّةٌ فَإِِنْ خَافَ بِالصَّوْمِ تَلَفًا أَفْطَرَ وَقَضَى إِنْ ضَرَّهُ تَرْكُ الصَّنْعَةِ، فَإِِنْ لَمْ يَضُرَّهُ تَرْكُهَا أَثِمَ بِالْفِطْرِ وَيَتْرُكُهَا، وَإِِنْ لَمْ يَنْتِفِ التَّضَرُّرُ بِتَرْكِهَا فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ بِالْفِطْرِ لِلْعُذْرِ (2) .
رَابِعًا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالزَّكَاةِ:
7 - أ - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي آلاَتِ الْعَمَل لِلْمُحْتَرِفِينَ، لأَِنَّهَا مِنَ الْحَاجَاتِ الأَْصْلِيَّةِ الَّتِي لاَ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ. يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِلْكُ نِصَابٍ فَارِغٍ عَنْ دَيْنٍ وَعَنْ حَاجَتِهِ الأَْصْلِيَّةِ، لأَِنَّ الْمَشْغُول بِهَا كَالْمَعْدُومِ، وَالْحَاجَةَ الأَْصْلِيَّةَ هِيَ مَا يَدْفَعُ الْهَلاَكَ عَنِ الإِِْنْسَانِ تَحْقِيقًا كَالنَّفَقَةِ، وَدُورِ السُّكْنَى، وَآلاَتِ الْحَرْبِ، وَكَآلاَتِ الْحِرْفَةِ، وَكُتُبِ الْعِلْمِ لأَِهْلِهَا. . هَذَا إِذَا كَانَتْ آلاَتُ الْحِرَفِ لَمْ تُقْتَنَ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ وَإِِلاَّ فَفِيهَا الزَّكَاةُ كَبَاقِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ (3)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (زَكَاةٌ) .
__________
(1) حاشية الجمل 2 / 332.
(2) كشاف القناع 2 / 310.
(3) ابن عابدين 2 / 6 - 9 والبدائع 2 / 13 وجواهر الإكليل 1 / 133 ومنتهى الإرادات 1 / 409.(17/178)
ب - مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْفَقِيرَ مِنَ الأَْصْنَافِ الْمُسْتَحِقَّةِ لِلزَّكَاةِ.
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَنَّ مَنْ لَهُ حِرْفَةٌ يَكْسِبُ مِنْهَا مَا يَكْفِيهِ فَلاَ يُعْتَبَرُ فَقِيرًا وَلاَ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ.
أَمَّا إِنْ كَانَ مَا يَكْسِبُهُ مِنْ حِرْفَتِهِ لاَ يَكْفِيهِ فَإِِنَّهُ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ تَمَّامَ كِفَايَتِهِ، وَيُصَدَّقُ إِنِ ادَّعَى كَسَادَ الْحِرْفَةِ.
وَإِِنْ كَانَ يُحْسِنُ حِرْفَةً وَيَحْتَاجُ إِِلَى الآْلَةِ فَإِِنَّهُ يُعْطَى مِنَ الزَّكَاةِ ثَمَنَ آلَةِ حِرْفَتِهِ وَإِِنْ كَثُرَتْ، وَكَذَا إِنْ كَانَ يُحْسِنُ تِجَارَةً فَيُعْطَى رَأْسَ مَالٍ يَكْفِيهِ رِبْحُهُ غَالِبًا بِاعْتِبَارِ عَادَةِ بَلَدِهِ.
وَيَعْتَبِرُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْفَقِيرَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ مَنْ كَانَ يَمْلِكُ أَقَل مِنْ نِصَابٍ، وَإِِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا، لأَِنَّهُ فَقِيرٌ، وَالْفُقَرَاءُ هُمْ مِنَ الْمَصَارِفِ، وَلأَِنَّ حَقِيقَةَ الْحَاجَةِ لاَ يُوقَفُ عَلَيْهَا، فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَى دَلِيلِهَا وَهُوَ فَقْدُ النِّصَابِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (زَكَاةٌ) .
خَامِسًا: الْحَجُّ بِالنِّسْبَةِ لأَِصْحَابِ الْحِرَفِ:
8 - مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ الاِسْتِطَاعَةُ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ زَادًا وَرَاحِلَةً لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
__________
(1) الهداية 1 / 114 ومنح الجليل 1 / 370 ونهاية المحتاج 6 / 159 وكشاف القناع 2 / 286 والمغني 2 / 663.(17/178)
لَكِنْ مَنْ كَانَ صَاحِبَ حِرْفَةٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتَسِبَ مِنْهَا أَثْنَاءَ سَفَرِهِ لِلْحَجِّ مَا يَكْفِيهِ فَهَل يُعْتَبَرُ مُسْتَطِيعًا وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مُسْتَطِيعًا وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ إِذَا كَانَتِ الْحِرْفَةُ لاَ تُزْرِي بِهِ وَيَكْتَسِبُ مِنْهَا، أَثْنَاءَ سَفَرِهِ وَعَوْدَتِهِ مَا يَكْفِيهِ وَعَلِمَ أَوْ ظَنَّ عَدَمَ كَسَادِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ مُسْتَطِيعًا وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، لأَِنَّ الاِسْتِطَاعَةَ مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ.
لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَحُجَّ لأَِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِسْقَاطِ الْفَرْضِ بِمَشَقَّةٍ لاَ يُكْرَهُ تَحَمُّلُهَا، فَاسْتُحِبَّ لَهُ إِسْقَاطُ الْفَرْضِ كَالْمُسَافِرِ إِذَا قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ كَمَا يَقُول الشَّافِعِيَّةُ. وَخُرُوجًا مِنَ الْخِلاَفِ كَمَا يَقُول الْحَنَابِلَةُ (1) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَجٌّ) .
سَادِسًا: الْقِيَامُ بِالْحِرَفِ فِي الْمَسَاجِدِ:
9 - لِلْمَسَاجِدِ حُرْمَةٌ لأَِنَّهَا بُيُوتُ اللَّهِ أُقِيمَتْ لِلْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ، وَيَجِبُ صِيَانَتُهَا عَنْ كُل مَا يَشْغَل عَنْ ذَلِكَ.
لَكِنْ هَل يُعْتَبَرُ الْقِيَامُ بِالْحِرَفِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ تِجَارَةً أَمْ صِنَاعَةً فِي الْمَسَاجِدِ مُنَافِيًا لِحُرْمَتِهَا؟
__________
(1) الشلبي على الزيلعي 2 / 4 وفتح القدير 2 / 322 ومنح الجليل 1 / 437 والمهذب 1 / 204 وكشاف القناع 2 / 388.(17/179)
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْعِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَيْعِ وَالاِشْتِرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ (1) .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لاَ أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ. وَإِِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لاَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ (2)
وَقَدْ رَأَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلاً (يُسَمَّى الْقَصِيرَ) يَبِيعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَال لَهُ: يَا هَذَا إِنَّ هَذَا سُوقُ الآْخِرَةِ فَإِِنْ أَرَدْتَ الْبَيْعَ فَاخْرُجْ إِِلَى سُوقِ الدُّنْيَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْمَنْعِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِِلَى الْكَرَاهَةِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِِلَى التَّحْرِيمِ.
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْتَكِفِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، فَإِِنْ كَانَ
__________
(1) حديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البيع والاشتراء في المسجد " أخرجه الترمذي (2 / 139 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر، وقال: حديث حسن.
(2) حديث: " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع. . . " أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 220 - ط الرسالة) والحاكم (2 / 56 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(17/179)
لِتِجَارَةٍ كُرِهَ، وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَثْنَاءَ الاِعْتِكَافِ بِعَدَمِ إِحْضَارِ السِّلْعَةِ إِِلَى الْمَسْجِدِ وَإِِلاَّ كُرِهَ، لأَِنَّ الْمَسْجِدَ مُحْرَزٌ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَفِيهِ شَغْلُهُ بِهَا.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ الْمُعْتَكِفِ وَغَيْرِهِ (1) .
10 - أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْقِيَامِ بِالصَّنْعَةِ فِيهِ، فَإِِنَّهُ يُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، لَكِنْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّمَا يُمْنَعُ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ عَمَل الصِّنَاعَاتِ مَا يَخْتَصُّ بِنَفْعِهِ آحَادُ النَّاسِ مِمَّا يَتَكَسَّبُ بِهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ يَشْمَل الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ مِثْل إِصْلاَحِ آلاَتِ الْجِهَادِ مِمَّا لاَ امْتِهَانَ لِلْمَسْجِدِ فِي عَمَلِهِ فِيهِ فَلاَ بَأْسَ بِهِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يُكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ الصَّنَائِعُ فِي الْمَسْجِدِ كَالْخِيَاطَةِ وَالْكِتَابَةِ مَا لَمْ يَكْثُرْ، فَإِِنْ أَكْثَرَ مِنْهَا كُرِهَتْ لِحُرْمَتِهِ، إِلاَّ كِتَابَةَ الْعِلْمِ ثُمَّ قَالُوا: تُكْرَهُ الْحِرْفَةُ كَخِيَاطَةٍ وَنَحْوِهَا فِي الْمَسْجِدِ كَالْمُعَاوَضَةِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ بِلاَ حَاجَةٍ وَإِِنْ قَلَّتْ صِيَانَةً لَهُ (3) .
__________
(1) الهداية وفتح القدير والعناية 2 / 312 ومنح الجليل 4 / 22 وجواهر الإكليل 2 / 203، ومغني المحتاج 1 / 452، ونهاية المحتاج 3 / 214 وأسنى المطالب 1 / 434، وكشاف القناع 2 / 366 - 367 والمغني 3 / 202 - 203.
(2) أشباه ابن نجيم ص 370 ومنح الجليل 4 / 20 - 22.
(3) أسنى المطالب 1 / 434، ومغني المحتاج 1 / 452، 2 / 371، وأشباه السيوطي ص 451.(17/180)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجُوزُ التَّكَسُّبُ فِي الْمَسْجِدِ بِالصَّنْعَةِ كَخِيَاطَةٍ وَغَيْرِهَا قَلِيلاً كَانَ ذَلِكَ أَوْ كَثِيرًا لِحَاجَةٍ وَغَيْرِهَا، وَفِي الْمُسْتَوْعِبِ: سَوَاءٌ كَانَ الصَّانِعُ يُرَاعِي الْمَسْجِدَ بِكَنْسٍ أَوْ رَشٍّ وَنَحْوِهِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُتَّخَذَ الْمَسْجِدُ مَكَانًا لِلْمَعَايِشِ، لأَِنَّهُ لَمْ يُبْنَ لِذَلِكَ.
وَقُعُودُ الصُّنَّاعِ وَالْفَعَلَةِ فِيهِ يَنْتَظِرُونَ مَنْ يُكْرِيهِمْ بِمَنْزِلَةِ وَضْعِ الْبَضَائِعِ فِيهِ يَنْتَظِرُونَ مَنْ يَشْتَرِيهَا، وَعَلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ كَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالْمَسَاجِدُ إِنَّمَا بُنِيَتْ لِلذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ وَالصَّلاَةِ فَإِِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ خَرَجَ إِِلَى مَعَاشِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَْرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل اللَّهِ} . وَيَجِبُ أَنْ يُصَانَ الْمَسْجِدُ عَنْ عَمَل صَنْعَةٍ لِتَحْرِيمِهَا فِيهِ.
وَلاَ يُكْرَهُ الْيَسِيرُ مِنَ الْعَمَل فِي الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ التَّكَسُّبِ كَرَقْعِ ثَوْبِهِ وَخَصْفِ نَعْلِهِ وَمِثْل أَنْ يَنْحَل شَيْءٌ يَحْتَاجُ إِِلَى رَبْطٍ فَيَرْبِطَهُ، أَوْ أَنْ يَنْشَقَّ قَمِيصُهُ فَيَخِيطَهُ.
وَيَحْرُمُ فِعْل ذَلِكَ لِلتَّكَسُّبِ (1) .
سَابِعًا: اعْتِبَارُ الْحِرْفَةِ فِي النِّكَاحِ:
11 - الْكَفَاءَةُ فِي الْحِرْفَةِ مُعْتَبَرَةٌ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ، وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ الرِّجَال لِلنِّسَاءِ، لأَِنَّ
__________
(1) كشاف القناع 2 / 366 - 367، والمغني 3 / 203.(17/180)
الْمَرْأَةَ الشَّرِيفَةَ تُعَيَّرُ بِذَلِكَ، وَلاَ تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ لِلرَّجُل، لأَِنَّ الْوَلَدَ يَشْرُفُ بِشَرَفِ أَبِيهِ لاَ أُمِّهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ فِي الأُْمِّ.
وَقَدْ بَنَى الْفُقَهَاءُ اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ فِي الْحِرْفَةِ عَلَى الْعُرْفِ وَعَادَةِ أَهْل الْبِلاَدِ.
هَذَا وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْحِرْفَةِ هُوَ عُرْفُ بَلَدِ الزَّوْجَةِ لاَ بَلَدِ الْعَقْدِ، لأَِنَّ الْمَدَارَ عَلَى عَارِهَا وَعَدَمِهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالنِّسْبَةِ لِعُرْفِ بَلَدِهَا، أَيِ الَّتِي هِيَ بِهَا حَالَةَ الْعَقْدِ (1) .
وَاعْتِبَارُ الْحِرْفَةِ فِي الْكَفَاءَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَلاَ يَضُرُّ زَوَالُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ، فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ كُفْئًا وَقْتَ الْعَقْدِ ثُمَّ زَالَتِ الْكَفَاءَةُ لَمْ يُفْسَخِ الْعَقْدُ.
لَكِنْ لَوْ بَقِيَ أَثَرُ الْحِرْفَةِ لَمْ يَكُنْ كُفْئًا.
أَمَّا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ حَال الْعَقْدِ غَيْرَ كُفْءٍ فِي حِرْفَتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بُطْلاَنِ النِّكَاحِ أَوْ ثُبُوتِ الْخِيَارِ (2) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (نِكَاحٌ - كَفَاءَةٌ) .
كَوْنُ الاِنْتِفَاعِ بِالْحِرْفَةِ مَهْرًا:
12 - يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَكُونَ
__________
(1) ابن عابدين 2 / 321، والبدائع 2 / 320، وحاشية الدسوقي 2 / 250، ونهاية المحتاج 6 / 253 - 254 والمغني 6 / 485 - 487 وكشاف القناع 5 / 68.
(2) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 317، 318، 322 - 323، ونهاية المحتاج 6 / 250 - 251 والمغني 6 / 480، 481.(17/181)
الاِنْتِفَاعُ بِالْحِرْفَةِ مَهْرًا، فَيَصِحُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُل الْمَرْأَةَ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ مُعَيَّنٍ، وَبِنَاءِ دَارٍ وَتَعْلِيمِ صَنْعَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُل مَا هُوَ مُبَاحٌ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الأُْجْرَةِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ (1) } . وَلأَِنَّ مَنْفَعَةَ الْحُرِّ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا فِي الإِِْجَارَةِ فَجَازَتْ صَدَاقًا (2)
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خِلاَفٌ مُلَخَّصُهُ أَنَّ مَا هُوَ مَالٌ أَوْ مَنْفَعَةٌ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا يَجُوزُ التَّزَوُّجُ عَلَيْهَا، وَمَا لاَ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ لاَ يَجُوزُ وَلِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجُ الْحُرُّ عَلَى خِدْمَتِهِ إِيَّاهَا سَنَةً، لأَِنَّ مَوْضُوعَ الزَّوْجِيَّةِ أَنْ تَكُونَ هِيَ خَادِمَةً لَهُ لاَ بِالْعَكْسِ. لأَِنَّ خِدْمَةَ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ - كَمَا قِيل قَلْبٌ لِلأَْوْضَاعِ - لأَِنَّ الْمَفْرُوضَ أَنْ تَخْدُمَهُ هِيَ لاَ الْعَكْسُ. وَأَمَّا إِذَا سَمَّى إِيجَارَ بَيْتٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِ الأَْعْيَانِ فَإِِنَّ هَذَا جَائِزٌ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ خِدْمَةً أَوْ لاَ كَرَعْيِ غَنَمِهَا أَوْ زِرَاعَةِ أَرْضِهَا، فَإِِنَّ الرِّوَايَاتِ قَدِ اخْتَلَفَتْ فِي ذَلِكَ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا هُوَ الأَْرْجَحُ (3) .
__________
(1) سورة القصص / 27.
(2) مغني المحتاج 3 / 238 - 239 وكشاف القناع 5 / 129 والمغني 6 / 683.
(3) حاشية ابن عابدين - طبعة بولاق الأولى 2 / 333 - 334، وفتح القدير 3 / 224، 225.(17/181)
وَقَالُوا: إِذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ امْرَأَةً عَلَى أَنْ يَخْدُمَهَا هُوَ سَنَةً مَثَلاً فَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ فَاسِدَةٌ وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ وَوَجَبَ عَلَيْهِ إِمَّا مَهْرُ الْمِثْل فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، أَوْ قِيمَةُ خِدْمَتِهِ الْمُدَّةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ (1) .
كَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي جَعْل الصَّدَاقِ خِدْمَتَهُ لَهَا فِي زَرْعٍ أَوْ فِي بِنَاءِ دَارٍ أَوْ تَعْلِيمِهَا فَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ، وَكَرِهَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَجَازَهُ أَصْبَغُ. قَال اللَّخْمِيُّ: وَعَلَى قَوْل مَالِكٍ يُفْسَخُ النِّكَاحُ قَبْل الْبِنَاءِ وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ بِصَدَاقِ الْمِثْل. وَقَال ابْنُ الْحَاجِبِ عَلَى الْقَوْل بِالْمَنْعِ: النِّكَاحُ صَحِيحٌ قَبْل الْبِنَاءِ وَبَعْدَهُ، وَيَمْضِي بِمَا وَقَعَ بِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ لِلاِخْتِلاَفِ فِيهِ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ (2) .
ثَامِنًا: شَهَادَةُ أَهْل الْحِرَفِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ صَاحِبِ الْحِرْفَةِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْمُنَجِّمِ وَالْعَرَّافِ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْحِرْفَةِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا الرِّبَا كَالصَّائِغِ وَالصَّيْرَفِيِّ إِذَا لَمْ يَتَوَقَّيَا ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُول شَهَادَةِ أَصْحَابِ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ، كَالْحَائِكِ، وَالْحَجَّامِ، وَالزَّبَّال. فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ تُقْبَل
__________
(1) المرجعين السابقين.
(2) الدسوقي 2 / 309.(17/182)
شَهَادَتُهُمْ، لأَِنَّهُ قَدْ تَوَلَّى هَذِهِ الْحِرَفَ قَوْمٌ صَالِحُونَ فَمَا لَمْ يُعْلَمِ الْقَادِحُ لاَ يُبْنَى عَلَى ظَاهِرِ الصِّنَاعَةِ، فَالْعِبْرَةُ لِلْعَدَالَةِ لاَ لِلْحِرْفَةِ، فَكَمْ مِنْ دَنِيءِ الصِّنَاعَةِ أَتْقَى مِنْ ذِي مَنْصِبٍ وَوَجَاهَةٍ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (1) } .
لَكِنْ يَقُول الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ مَنْ يَقُومُ بِهَذِهِ الْحِرَفِ مِمَّنْ لاَ تَلِيقُ بِهِ، وَرَضِيَهَا اخْتِيَارًا بِأَنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا وَلَمْ يَتَوَقَّفْ قُوتُهُ وَقُوتُ عِيَالِهِ عَلَيْهَا لَمْ تُقْبَل شَهَادَتُهُ، لأَِنَّ ذَلِكَ يَدُل عَلَى قِلَّةِ الْمُبَالاَةِ وَعَلَى خَبَلٍ فِي عَقْلِهِ، وَتُقْبَل إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا أَوِ اضْطُرَّ إِلَيْهَا.
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْوَجْهُ الآْخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ، لأَِنَّ الْقِيَامَ بِهَذِهِ الْحِرَفِ يُسْقِطُ الْمُرُوءَةَ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ فِي الْحِرْفَةِ مُبَاشَرَةُ النَّجَاسَةِ (2) .
كَمَا أَنَّ شَهَادَةَ الأَْجِيرِ الْخَاصِّ لِمُسْتَأْجِرِهِ لاَ تُقْبَل، لأَِنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَلاَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، وَلاَ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، وَلاَ الزَّوْجِ
__________
(1) سورة الحجرات / 13.
(2) حاشية ابن عابدين 4 / 378، والاختيار 2 / 147، والدسوقي 4 / 166، ومنح الجليل 4 / 220، ونهاية المحتاج 8 / 285، والمهذب 2 / 326، ومغني المحتاج 4 / 432، وكشاف القناع 6 / 424، والمغني 9 / 169 ويجدر التنبه إلى أن اعتبار المهنة دنيئة أو غير دنيئة مرده إلى العرف.(17/182)
لاِمْرَأَتِهِ، وَلاَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وَلاَ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ، وَلاَ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ، وَلاَ الأَْجِيرِ لِمَنِ اسْتَأْجَرَهُ (1) .
وَلأَِنَّ الأَْجِيرَ يَسْتَحِقُّ الأُْجْرَةَ فِي مُدَّةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَصَارَ كَالْمُسْتَأْجَرِ لأَِدَاءِ الشَّهَادَةِ. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَتُقْبَل شَهَادَتُهُ لِمُسْتَأْجِرِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ الأَْجِيرُ مُبَرَّزًا فِي الْعَدَالَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِي عِيَال الْمَشْهُودِ لَهُ (2) .
تَاسِعًا: بَيْعُ آلَةِ الْحِرْفَةِ عَلَى الْمُفْلِسِ وَإِِجْبَارُهُ عَلَى الاِحْتِرَافِ:
14 - مِنَ الأَْحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ بَيْعُ مَالِهِ لِسَدَادِ دُيُونِ الْغُرَمَاءِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَيْعِ آلَةِ الْحِرْفَةِ لِلْمُحْتَرِفِ.
فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُبَاعُ آلَةُ حِرْفَتِهِ لِسَدَادِ دُيُونِهِ.
وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهَا أَوْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهَا.
__________
(1) حديث " لا تجوز شهادة الوالد لولده " ذكره ابن الهمام في فتح القدير (6 / 31 - ط الميمنية) وعزاه إلى الخصاف، وذكر إسناده، وفيه يزيد بن أبي زياد الشامي وهو ضعيف كما في التهذيب لابن حجر (11 / 329 - ط دائرة المعارف العثمانية) .
(2) الاختيار 2 / 147، وفتح القدير 6 / 477 ط دار إحياء التراث، وشرح منتهى الإرادات 3 / 553، ومنح الجليل 4 / 222، والدسوقي 4 / 169 وترى اللجنة أن العبرة في قبول الشهادة وردها اطمئنان القاضي إلى عدالة وصدق الشاهد.(17/183)
فَإِِنْ كَانَ مُحْتَاجًا لَهَا أَوْ قَلَّتْ قِيمَتُهَا فَلاَ تُبَاعُ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: تُتْرَكُ لَهُ آلَةُ حِرْفَتِهِ وَلاَ تُبَاعُ.
وَلَمْ يُعْثَرْ عَلَى نَصٍّ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَإِِذَا فُرِّقَ مَال الْمُفْلِسِ عَلَى الْغُرَمَاءِ وَبَقِيَتْ عَلَيْهِ دُيُونٌ، وَكَانَتْ لَهُ صَنْعَةٌ فَهَل يُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ عَلَى التَّكَسُّبِ أَوْ إِيجَارِ نَفْسِهِ لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلاَ يُلْزَمُ بِتَجْرٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ إِيجَارِ نَفْسِهِ لِتَوْفِيَةِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ لِغُرَمَائِهِ مِنْ دُيُونِهِمْ، لأَِنَّ الدُّيُونَ إِنَّمَا تَعَلَّقَتْ بِذِمَّتِهِ لاَ بِبَدَنِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِِلَى مَيْسَرَةٍ (1) } ، وَلِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلاً أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ (2) ، وَلأَِنَّ هَذَا تَكَسُّبٌ لِلْمَال، فَلاَ يُجْبِرُهُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ، كَقَبُول الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ. وَقَال اللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يُجْبَرُ الصَّانِعُ - لاَ التَّاجِرُ - عَلَى الْعَمَل إِنْ كَانَ غُرَمَاؤُهُ قَدْ عَامَلُوهُ عَلَى ذَلِكَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْحَاكِمَ يُجْبِرُهُ عَلَى الْكَسْبِ (3) .
__________
(1) سورة البقرة / 280.
(2) حديث: " تصدقوا عليه " أخرجه مسلم (3 / 1191 - ط الحلبي) .
(3) الزيلعي 5 / 199، ومنح الجليل 3 / 131، ونهاية المحتاج 4 / 319 وأسنى المطالب 2 / 193، والمغني 4 / 493 - 494.(17/183)
عَاشِرًا: تَضْمِينُ أَصْحَابِ الْحِرَفِ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْحِرْفَةِ يَضْمَنُ مَا هَلَكَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالٍ، أَوْ مَا هَلَكَ بِعَمَلِهِ إِذَا كَانَ الْهَلاَكُ بِسَبَبِ إِهْمَالٍ مِنْهُ أَوْ تَعَدٍّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ أَجِيرًا خَاصًّا أَمْ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا، أَمَّا مَا هَلَكَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٍ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ (إِجَارَةٌ ف 107 - 133 وَضَمَانٌ)
حَادِيَ عَشَرَ: التَّسْعِيرُ عَلَى أَهْل الْحِرَفِ:
16 - لاَ يَجُوزُ التَّسْعِيرُ عَلَى أَهْل الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ إِلاَّ إِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إِِلَى حِرْفَةِ طَائِفَةٍ كَالْفِلاَحَةِ، وَالنِّسَاجَةِ، وَالْبِنَاءِ وَغَيْرِهَا. فَإِِنَّ وَلِيَّ الأَْمْرِ يُجْبِرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأُجْرَةِ الْمِثْل، وَهَذَا مِنَ التَّسْعِيرِ الْوَاجِبِ كَمَا يَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَسْعِيرٌ ف 14) .
حَرْقٌ
انْظُرْ: إِحْرَاقٌ.
__________
(1) الطرق الحكمية ص 297.(17/184)
حَرَمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَرَمُ بِفَتْحَتَيْنِ مِنْ حَرُمَ الشَّيْءُ حَرَمًا وَحَرَامًا وَحَرُمَ حَرَمًا وَحَرَامًا أَيِ امْتَنَعَ فِعْلُهُ.
وَمِنْهُ الْحَرَامُ بِمَعْنَى الْمَمْنُوعِ. وَالْحُرْمَةُ مَا لاَ يَحِل انْتِهَاكُهُ. وَالْحُرْمَةُ أَيْضًا الْمَهَابَةُ، وَهِيَ اسْمٌ بِمَعْنَى الاِحْتِرَامِ، مِثْل الْفُرْقَةِ وَالاِفْتِرَاقِ، وَالْجَمْعُ حُرُمَاتٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ يُطْلَقُ الْحَرَمُ عَلَى أُمُورٍ:
أ - مَكَّةُ وَمَا حَوْلَهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ عِنْدَ إِطْلاَقِ كَلِمَةِ الْحَرَمِ يَقُول الْمَاوَرْدِيُّ: (أَمَّا الْحَرَمُ فَمَكَّةُ وَمَا طَافَ بِهَا مِنْ جَوَانِبِهَا إِِلَى أَنْصَابِ الْحَرَمِ (2)) وَعَلَى ذَلِكَ فَمَكَّةُ جُزْءٌ مِنَ الْحَرَمِ. قَال الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ (3) } هِيَ مَكَّةُ، وَهُمْ قُرَيْشٌ. أَمَّنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا (4) .
__________
(1) المصباح المنير والمفردات للراغب الأصبهاني والقاموس المحيط.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص 156، 164.
(3) سورة العنكبوت / 67.
(4) شفاء الغرام 1 / 54، وتفسير القرطبي 13 / 363، ومغني المحتاج 2 / 417، والقليوبي 2 / 138.(17/184)
وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلاَ تَحِل لأَِحَدٍ قَبْلِي وَلاَ تَحِل لأَِحَدٍ بَعْدِي (1) .
وَجْهُ تَسْمِيَةِ الْحَرَمِ هُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَ فِيهِ كَثِيرًا مِمَّا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ فِي غَيْرِهِ، كَالصَّيْدِ وَقَطْعِ النَّبَاتِ وَنَحْوِهِمَا.
ب - الْمَدِينَةُ وَمَا حَوْلَهَا، كَمَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِِلَى كَذَا لاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ. مَنْ أَحْدَث حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (2) .
وَسَيَأْتِي بَيَانُ حُدُودِهِ.
أَوَّلاً: حَرَمُ مَكَّةَ:
أ - دَلِيل تَحْرِيمِهِ:
2 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا أَيِ الْحَرَمَ الْمَكِّيَّ حَرَامٌ بِتَحْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ.
وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ مِنْهَا:
قَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ (3) }
قَال الْقُرْطُبِيُّ: أَيْ جُعِلَتْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا أَمِنُوا فِيهِ مِنَ السَّبْيِ وَالْغَارَةِ وَالْقَتْل (4) .
__________
(1) حديث: " إن الله حرم مكة فلم تحل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 46 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عباس.
(2) حديث: " إن الله حرم مكة فلم تحل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 46 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عباس.
(3) سورة العنكبوت / 67.
(4) القرطبي 13 / 364.(17/185)
وَمِنْهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضَ (1) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِل لأَِحَدٍ قَبْلِي وَلاَ تَحِل لأَِحَدٍ بَعْدِي، وَإِِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ (2) .
وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي حِكْمَتِهِ وُجُوهًا مِنْهَا: الْتِزَامُ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ أَحْكَامٍ، وَتَبْيِينُ مَا اخْتُصَّ بِهِ مِنَ الْبَرَكَاتِ (3) .
ب - تَحْدِيدُ حَرَمِ مَكَّةَ::
3 - حَدُّ الْحَرَمِ مِنْ جِهَةِ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ عِنْدَ التَّنْعِيمِ وَهُوَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ. وَفِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ أَرْبَعَةُ أَوْ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ. وَمَبْدَأُ التَّنْعِيمِ مِنْ جِهَةِ مَكَّةَ عِنْدَ بُيُوتِ السُّقْيَا، وَيُقَال لَهَا بُيُوتُ نِفَارٍ، وَيُعْرَفُ الآْنَ بِمَسْجِدِ عَائِشَةَ، فَمَا بَيْنَ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ وَالتَّنْعِيمِ حَرَمٌ. وَالتَّنْعِيمُ مِنَ الْحِل.
وَمِنْ جِهَةِ الْيَمَنِ سَبْعَةُ أَمْيَالٍ عِنْدَ أَضَاةِ لِبْنٍ (بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَشِفَاءِ الْغَرَامِ) وَمِنْ جِهَةِ جُدَّةَ عَشَرَةُ أَمْيَالٍ عِنْدَ مُنْقَطَعِ الأَْعْشَاشِ لآِخِرِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَهِيَ مِنَ الْحَرَمِ.
وَمِنْ جِهَةِ الْجِعْرَانَةِ تِسْعَةُ أَمْيَالٍ فِي شِعْبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ.
__________
(1) حديث: " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 47 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 986 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس واللفظ لمسلم.
(2) حديث: " إن الله حرم مكة فلم تحل. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 46 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عباس.
(3) إعلام الساجد 63 - 65 والقليوبي 2 / 138.(17/185)
وَمِنْ جِهَةِ الْعِرَاقِ سَبْعَةُ أَمْيَالٍ عَلَى ثَنِيَّةٍ بِطَرَفِ جَبَل الْمُقَطَّعِ، وَذُكِرَ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ ثَمَانِيَةُ أَمْيَالٍ.
وَمِنْ جِهَةِ الطَّائِفِ عَلَى عَرَفَاتٍ مِنْ بَطْنِ نَمِرَةَ سَبْعَةُ أَمْيَالٍ عِنْدَ طَرَفِ عُرَنَةَ.
وَلَعَل الاِخْتِلاَفَ فِي تَحْدِيدِ الأَْمْيَال يَرْجِعُ إِِلَى الاِخْتِلاَفِ فِي تَحْدِيدِ أَذْرُعِ الْمِيل وَأَنْوَاعِهَا (1) .
وَابْتِدَاءُ الأَْمْيَال مِنَ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ (2) .
هَذَا وَقَدْ حُدِّدَ الْحَرَمُ الْمَكِّيُّ الآْنَ مِنْ مُخْتَلَفِ الْجِهَاتِ بِأَعْلاَمٍ بَيِّنَةٍ مُبَيِّنَةٍ عَلَى أَطْرَافِهِ مِثْل الْمَنَارِ مَكْتُوبٍ عَلَيْهَا اسْمُ الْعَلَمِ بِاللُّغَاتِ الْعَرَبِيَّةِ وَالأَْعْجَمِيَّةِ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَعْلاَمُ الْحَرَمِ) .
دُخُول الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ
أ - الدُّخُول بِقَصْدِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ دُخُول الْحَرَمِ بِقَصْدِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْمَوَاقِيتِ الْمُحَدَّدَةِ أَوْ قَبْلَهَا. وَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ وَيُحْرِمَ مِنْهُ. فَإِِنْ لَمْ يَرْجِعْ فَعَلَيْهِ
__________
(1) البدائع 2 / 164، وحاشية ابن عابدين 2 / 155، 156، ومواهب الجليل 3 / 171، وجواهر الإكليل 1 / 194، ونهاية المحتاج 3 / 345، ومغني المحتاج 1 / 528، وإعلام الساجد 63 - 65، وكشاف القناع 2 / 473، ومطالب أولي النهى 2 / 382، وشفاء الغرام 1 / 54 وما بعدها.
(2) مطالب أولي النهى 2 / 382.(17/186)
دَمٌ سَوَاءٌ أَتَرَكَ الْعَوْدَ بِعُذْرٍ أَمْ بِغَيْرِ عُذْرٍ، عَامِدًا كَانَ أَمْ نَاسِيًا. إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا خَافَ فَوَاتَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوِ الْمَرَضِ الشَّاقِّ فَيُحْرِمُ مِنْ مَكَانِهِ وَعَلَيْهِ الدَّمُ (1) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ) .
ب - الدُّخُول لأَِغْرَاضٍ أُخْرَى:
5 - يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ دَاخِل الْمَوَاقِيتِ (بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَالْحَرَمِ) أَنْ يَدْخُل الْحَرَمَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لِحَاجَتِهِ، لأَِنَّهُ يَتَكَرَّرُ دُخُولُهُ لِحَوَائِجِهِ فَيُحْرَجُ فِي ذَلِكَ، وَالْحَرَجُ مَرْفُوعٌ، فَصَارَ كَالْمَكِّيِّ إِذَا خَرَجَ ثُمَّ دَخَل، بِخِلاَفِ مَا إِذَا دَخَل لِلْحَجِّ لأَِنَّهُ لاَ يَتَكَرَّرُ، فَإِِنَّهُ لاَ يَكُونُ فِي السَّنَةِ إِلاَّ مَرَّةً. وَكَذَا لأَِدَاءِ الْعُمْرَةِ لأَِنَّهُ الْتَزَمَهَا لِنَفْسِهِ.
كَمَا يَجُوزُ لِمَنْ يَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ إِِلَى الْحِل (دَاخِل الْمَوَاقِيتِ) أَنْ يَدْخُل الْحَرَمَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الْحَرَمِ، كَالآْفَاقِيِّ الْمُفْرِدِ بِالْعُمْرَةِ، وَالْمُتَمَتِّعِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
كَذَلِكَ يَجُوزُ دُخُول الْحَرَمِ لِقِتَالٍ مُبَاحٍ أَوْ خَوْفٍ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ لِحَاجَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ كَالْحَطَّابِينَ وَالصَّيَّادِينَ وَنَحْوِهِمَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ، وَفِي وُجُوبِ الإِِْحْرَامِ عَلَى مَنْ تَتَكَرَّرُ حَاجَتُهُ مَشَقَّةٌ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 139، وجواهر الإكليل 1 / 170، ومغني المحتاج 1 / 474، والمغني 3 / 268
(2) الاختيار 1 / 141، 142، ابن عابدين 2 / 155، والمجموع 7 / 10 وما بعدها والشرح الصغير 2 / 23 - 25، وكشاف القناع 2 / 402، 403.(17/186)
6 - أَمَّا الآْفَاقِيُّ (1) وَمَنْ فِي حُكْمِهِ - غَيْرُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ - مِمَّنْ يَمُرُّونَ عَلَى الْمَوَاقِيتِ إِذَا أَرَادُوا دُخُول الْحَرَمِ لِحَاجَةٍ أُخْرَى غَيْرِ النُّسُكِ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) يَرَوْنَ وُجُوبَ الإِِْحْرَامِ عَلَيْهِمْ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُمْ مُجَاوَزَةُ الْمِيقَاتِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُول الْحَرَمِ لِلآْفَاقِيِّ أَيْضًا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لَكِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ (2) .
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَتَفْصِيلُهُ كَالتَّالِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: الآْفَاقِيُّ إِذَا أَرَادَ دُخُول الْحَرَمِ بِغَيْرِ النُّسُكِ كَمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ أَوِ النُّزْهَةِ أَوِ التِّجَارَةِ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ إِلاَّ مُحْرِمًا، لأَِنَّ فَائِدَةَ التَّأْقِيتِ هَذَا، لأَِنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الإِِْحْرَامِ عَلَى الْمَوَاقِيتِ. لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: لاَ تُجَاوِزِ الْمُوَقَّتَ إِلاَّ بِإِِحْرَامٍ (3)
__________
(1) القياس أن ينسب إلى المفرد فـ " أفقي " ونسب إلى المفرد أيضا بفتحتين على غير قياس فقيل أفقي، وكثر في كلام الفقهاء النسبة إلى الجمع فقالوا " آفاقي " (انظر المصباح المنير والمراجع المذكورة أدناه) .
(2) الاختيار 1 / 141، وابن عابدين 2 / 154، والشرح الصغير 2 / 24، ومغني المحتاج 1 / 474، وكشاف القناع 2 / 402.
(3) حديث: " لا تجاوز الموقت إلا بإحرام " أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3 / 216 - ط القدسي) من حديث عبد الله بن عباس، وقال: " رواه الطبراني في الكبير وفيه خصيف، وفيه كلام " وقد وثقه جماعة.(17/187)
فَإِِنْ جَاوَزَهَا الآْفَاقِيُّ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ فَعَلَيْهِ شَاةٌ. فَإِِنْ عَادَ فَأَحْرَمَ مِنْهُ سَقَطَ الدَّمُ.
أَمَّا لَوْ قَصَدَ مَوْضِعًا مِنَ الْحِل، كَخَلِيصٍ وَجُدَّةَ حَل لَهُ مُجَاوَزَتُهُ بِلاَ إِحْرَامٍ. فَإِِذَا حَل بِهِ الْتَحَقَ بِأَهْلِهِ فَلَهُ دُخُول الْحَرَمِ بِلاَ إِحْرَامٍ. قَالُوا: وَهُوَ الْحِيلَةُ لِمُرِيدِ ذَلِكَ بِقَصْدٍ أَوْلَى، كَمَا إِذَا كَانَ قَصْدُهُ لِجَدَّةٍ مَثَلاً لِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ، وَإِِذَا فَرَغَ مِنْهُ يَدْخُل مَكَّةَ ثَانِيًا، إِذْ لَوْ كَانَ قَصْدُهُ الأَْوَّلِيُّ دُخُول مَكَّةَ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَمُرَّ بِالْحِل فَلاَ يَحِل لَهُ تَجَاوُزُ الْمِيقَاتِ بِدُونِ إِحْرَامٍ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ كُل مُكَلَّفٍ حُرٍّ أَرَادَ دُخُول مَكَّةَ فَلاَ يَدْخُلُهَا إِلاَّ بِإِِحْرَامٍ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ وُجُوبًا، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ تَعَدِّي الْمِيقَاتِ بِلاَ إِحْرَامٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَرَدِّدِينَ أَوْ يَعُودُ إِِلَى مَكَّةَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْهَا مِنْ مَكَان قَرِيبٍ (أَيْ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ) لَمْ يَمْكُثْ فِيهِ كَثِيرًا فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ كَصَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجُوزُ لِمَنْ أَرَادَ دُخُول مَكَّةَ أَوِ الْحَرَمَ أَوْ أَرَادَ نُسُكًا تَجَاوُزُ الْمِيقَاتِ. . إِلاَّ لِقِتَالٍ مُبَاحٍ لِدُخُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ
__________
(1) الاختيار 1 / 141، وابن عابدين 2 / 154.
(2) الشرح الصغير 2 / 24.(17/187)
الْمِغْفَرُ (1) . أَوْ لِخَوْفٍ، أَوْ حَاجَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ كَحَطَّابٍ، وَنَاقِل الْمِيرَةِ، وَلِصَيْدٍ، وَاحْتِشَاشٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَكِّيٍّ يَتَرَدَّدُ إِِلَى قَرْيَتِهِ بِالْحِل (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ - كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ -: إِنَّ مَنْ أَرَادَ دُخُول مَكَّةَ لِحَاجَةٍ لاَ تَتَكَرَّرُ كَزِيَارَةٍ، أَوْ تِجَارَةٍ، أَوْ رِسَالَةٍ، أَوْ كَانَ مَكِّيًّا عَائِدًا مِنْ سَفَرِهِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ. وَفِي قَوْلٍ: يَجِبُ عَلَيْهِ الإِِْحْرَامُ. وَعَلَى كُلٍّ فَقَدْ نَصُّوا أَنَّهُ لَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ ثُمَّ أَرَادَ النُّسُكَ فَمِيقَاتُهُ مَوْضِعُهُ وَلاَ يُكَلَّفُ الْعَوْدَ إِِلَى الْمِيقَاتِ (3) .
دُخُول الْكَافِرِ لِلْحَرَمِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ السُّكْنَى وَالإِِْقَامَةُ فِي الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا (4) }
وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْحَرَمُ بِدَلِيل قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعْدَهُ: {وَإِِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ (5) } أَيْ إِنْ خِفْتُمْ فَقْرًا وَضَرَرًا بِمَنْعِهِمْ مِنَ الْحَرَمِ وَانْقِطَاعِ مَا كَانَ يَحْصُل
__________
(1) حديث: " دخل صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 59 - السلفية) . ومسلم (2 / 990 - ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(2) كشاف القناع 2 / 402، 403.
(3) المجموع 7 / 10 - 12، ومغني المحتاج 1 / 474.
(4) سورة التوبة / 28.
(5) سورة التوبة / 28.(17/188)
لَكُمْ بِمَا يَجْلِبُونَهُ إِلَيْكُمْ مِنَ الْمَكَاسِبِ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَلَبَ إِنَّمَا يُجْلَبُ إِِلَى الْبَلَدِ وَالْحَرَمِ، لاَ إِِلَى الْمَسْجِدِ نَفْسِهِ.
وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، فَعُوقِبُوا بِالْمَنْعِ مِنْ دُخُولِهِ بِكُل حَالٍ (1) . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاخْتَلَفُوا فِي اجْتِيَازِ الْكَافِرِ الْحَرَمَ بِصِفَةٍ مُؤَقَّتَةٍ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِِلَى مَنْعِ دُخُول الْكُفَّارِ إِِلَى الْحَرَمِ مُطْلَقًا، لِعُمُومِ الآْيَةِ. فَإِِنْ أَرَادَ كَافِرٌ الدُّخُول إِِلَى الْحَرَمِ مُنِعَ مِنْهُ. فَإِِنْ كَانَتْ مَعَهُ مِيرَةٌ أَوْ تِجَارَةٌ خَرَجَ إِلَيْهِ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ وَلَمْ يُتْرَكْ هُوَ يَدْخُل. وَإِِنْ كَانَ رَسُولاً إِِلَى إِمَامٍ بِالْحَرَمِ خَرَجَ إِلَيْهِ مَنْ يَسْمَعُ رِسَالَتَهُ وَيُبَلِّغُهَا إِيَّاهُ. فَإِِنْ قَال: لاَ بُدَّ لِي مِنْ لِقَاءِ الإِِْمَامِ وَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ خَرَجَ إِلَيْهِ الإِِْمَامُ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدُّخُول.
وَإِِذَا أَرَادَ مُشْرِكٌ دُخُول الْحَرَمِ لِيُسْلِمَ فِيهِ مُنِعَ مِنْهُ حَتَّى يُسْلِمَ قَبْلَهُ (2) .
قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: وَإِِذَا دَخَل الْمُشْرِكُ الْحَرَمَ بِغَيْرِ إِذْنٍ عُزِّرَ وَلَمْ يُسْتَبَحْ بِهِ قَتْلُهُ، وَإِِنْ دَخَلَهُ بِإِِذْنٍ لَمْ يُعَزَّرْ وَيُنْكَرُ عَلَى مَنْ أَذِنَ لَهُ (3) .
__________
(1) تفسير الأحكام للجصاص 3 / 88، وتفسير القرطبي 8 / 104، والزرقاني 3 / 142، والحطاب 3 / 381، والجمل 5 / 215، والمغني 8 / 529 - 531.
(2) المراجع السابقة، والأحكام السلطانية للماوردي ص 167، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 195.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص 167، ولأبي يعلى ص 195.(17/188)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُمْنَعُ الذِّمِّيُّ مِنْ دُخُول الْحَرَمِ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ جَوَازُ دُخُولِهِ عَلَى إِذْنِ مُسْلِمٍ وَلَوْ كَانَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ (1) .
يَقُول الْجَصَّاصُ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ (2) } : يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ دُخُول سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَإِِنَّمَا مَعْنَى الآْيَةِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ خَاصًّا فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ دُخُول مَكَّةَ وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ، لأَِنَّهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ ذِمَّةٌ، وَكَانَ لاَ يُقْبَل مِنْهُمُ إِلاَّ الإِِْسْلاَمُ أَوِ السَّيْفُ وَهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ. أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْعُهُمْ مِنْ دُخُول مَكَّةَ لِلْحَجِّ، وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً (3) } الآْيَةَ، وَإِِنَّمَا كَانَتْ خَشْيَةُ الْعَيْلَةِ لاِنْقِطَاعِ تِلْكَ الْمَوَاسِمِ بِمَنْعِهِمْ مِنَ الْحَجِّ، لأَِنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِالتِّجَارَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ (4) .
مَرَضُ الْكَافِرِ فِي الْحَرَمِ وَمَوْتُهُ:
8 - تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَافِرَ لاَ يَجُوزُ لَهُ الدُّخُول إِِلَى الْحَرَمِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. فَلَوْ دَخَل مَسْتُورًا وَمَرِضَ أُخْرِجَ إِِلَى الْحِل. وَإِِذَا مَاتَ فِي الْحَرَمِ حَرُمَ دَفْنُهُ فِيهِ،
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 369، وتفسير الجصاص 3 / 88.
(2) سورة التوبة / 28.
(3) سورة التوبة / 28.
(4) تفسير الأحكام للجصاص 3 / 88.(17/189)
فَإِِنْ دُفِنَ نُبِشَ قَبْرُهُ وَنُقِل إِِلَى الْحِل، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلِيَ فَيُتْرَكُ كَمَا تُرِكَ أَمْوَاتُ الْجَاهِلِيَّةِ (1) .
الْقِتَال فِي الْحَرَمِ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ دَخَل الْحَرَمَ مُقَاتِلاً وَبَدَأَ الْقِتَال فِيهِ، يُقَاتَل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ (2) } .
وَكَذَلِكَ مَنِ ارْتَكَبَ فِي الْحَرَمِ جَرِيمَةً مِنْ جَرَائِمِ الْحُدُودِ أَوِ الْقِصَاصِ مِمَّا يُوجِبُ الْقَتْل فَإِِنَّهُ يُقْتَل فِيهِ اتِّفَاقًا لاِسْتِخْفَافِهِ بِالْحَرَمِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفِقْرَةِ التَّالِيَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قِتَال الْكُفَّارِ وَالْبُغَاةِ عَلَى أَهْل الْعَدْل فِي الْحَرَمِ إِذَا لَمْ يَبْدَءُوا بِالْقِتَال. فَذَهَبَ طَاوُسٌ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ شَاسٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَقَوْل الْقَفَّال وَالْمَاوَرْدِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ إِِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ قِتَالُهُمْ فِي الْحَرَمِ مَعَ بَغْيِهِمْ. وَلَكِنَّهُمْ لاَ يُطْعَمُونَ وَلاَ يُسْقَوْنَ وَلاَ يُؤْوَوْنَ وَلاَ يُبَايَعُونَ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنَ الْحَرَمِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ
__________
(1) تفسير القرطبي 7 / 104، والأحكام السلطانية للماوردي ص 167، ولأبي يعلى ص 195، والمغني 8 / 531.
(2) سورة البقرة / 191.(17/189)
فِيهِ} قَال مُجَاهِدٌ: الآْيَةُ مُحْكَمَةٌ، فَلاَ يَجُوزُ قِتَال أَحَدٍ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يُقَاتِل.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا (1) } . وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِِنَّهُ لَمْ يَحِل الْقِتَال فِيهِ لأَِحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِل لِي إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَصَوَّبَهُ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ إِذَا الْتَجَأَ إِِلَى الْحَرَمِ طَائِفَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، أَوْ طَائِفَةٌ مِنَ الْبُغَاةِ، أَوْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ فِي الْحَرَمِ فَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلاَ يَحِل لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلاَ يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً. فَإِِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَْمْسِ (3) .
وَهَذَا قَوْل سَنَدٍ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ،
__________
(1) سورة العنكبوت / 67.
(2) حديث: " إن هذا البلد حرمه الله. . . . " سبق تخريجه ف / 2.
(3) حديث: " إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 41 ط السلفية) مسلم (2 / 987 - 988 ط الحلبي) .(17/190)
وَصَوَّبَهُ ابْنُ هَارُونَ فِي الْحَاصِرِ مِنَ الْحَجِّ، وَحَكَى الْحَطَّابُ عَنْ مَالِكٍ جَوَازَ قِتَال أَهْل مَكَّةَ إِذَا بَغَوْا عَلَى أَهْل الْعَدْل، قَال: وَهُوَ قَوْل عِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ.
وَهَذَا قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، فَقَدْ جَاءَ فِي تُحْفَةِ الرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ: فَإِِنْ بَغَوْا عَلَى أَهْل الْعَدْل قَاتَلَهُمْ عَلَى بَغْيِهِمْ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُمْ عَنِ الْبَغْيِ إِلاَّ بِالْقِتَال.
وَاسْتَدَل مَنْ أَجَازَ الْقِتَال فِي الْحَرَمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِِذَا انْسَلَخَ الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (1) } وَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الآْيَةَ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (2) } . وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل مَكَّةَ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَقِيل: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَال: اقْتُلُوهُ (3) .
وَأَجَابُوا عَنِ الأَْحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي تَحْرِيمِ الْقِتَال بِمَكَّةَ أَنَّ مَعْنَاهَا تَحْرِيمُ نَصْبِ الْقِتَال عَلَيْهِمْ بِمَا يَعُمُّ كَالْمَنْجَنِيقِ وَغَيْرِهِ إِذَا أَمْكَنَ إِصْلاَحُ الْحَال بِدُونِ ذَلِكَ.
وَلأَِنَّ قِتَال أَهْل الْبَغْيِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لاَ يَجُوزُ أَنْ تُضَاعَ، وَلأََنْ تَكُونَ مَحْفُوظَةً فِي حَرَمِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ تَكُونَ مُضَاعَةً فِيهِ (4) .
__________
(1) سورة التوبة / 5.
(2) سورة البقرة / 191.
(3) حديث: " دخل مكة وعليه المغفر " سبق تخريجه ف / 6.
(4) ابن عابدين 2 / 256، والبدائع 7 / 114، وجواهر الإكليل 1 / 207، والحطاب 3 / 203، 204، والقرطبي 2 / 351، و 353، وشفاء الغرام 1 / 70، والمجموع 7 / 215، وإعلام الساجد ص 107، والأحكام السلطانية للماوردي ص 166، وتحفة الراكع والساجد ص 112، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 193.(17/190)
ج - قَطْعُ نَبَاتِ الْحَرَمِ:
10 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ قَطْعِ أَوْ قَلْعِ نَبَاتِ الْحَرَمِ إِذَا كَانَ مِمَّا لاَ يَسْتَنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً وَهُوَ رَطْبٌ، كَالطُّرَفَاءِ، وَالسَّلَمِ، وَالْبَقْل، الْبَرِّيِّ، وَنَحْوِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ شَجَرًا أَمْ غَيْرَهُ، وَالأَْصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا (1) } .
وَلِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: حَرَّمَ اللَّهُ مَكَّةَ إِِلَى قَوْلِهِ: لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا (2) .
وَيَسْتَوِي فِي الْحُرْمَةِ الْمُحَرَّمُ وَغَيْرُهُ، لأَِنَّهُ لاَ تَفْصِيل فِي النُّصُوصِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلأَْمْنِ. وَلأَِنَّ حُرْمَةَ التَّعَرُّضِ لأَِجْل الْحَرَمِ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُحَرَّمُ وَغَيْرُهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (3) .
وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ الإِِْذْخِرُ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَال فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: لاَ يُعْضَدُ
__________
(1) سورة العنكبوت / 67.
(2) حديث: " حرم الله مكة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 213 - ط السلفية) .
(3) البدائع 5 / 200 وما بعدها، وتبيين الحقائق 2 / 70، وجواهر الإكليل 1 / 198، 199، ومغني المحتاج 1 / 527، والأحكام السلطانية للماوردي ص 167، ولأبي يعلى ص 194، والمغني لابن قدامة 3 / 349 - 352، والشرقاوي 1 / 464.(17/191)
شَجَرُهَا قَال الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلاَّ الإِِْذْخِرَ يَا رَسُول اللَّهِ فَإِِنَّهُ مَتَاعٌ لأَِهْل مَكَّةَ لِحَيِّهِمْ وَمَيِّتِهِمْ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلاَّ الإِِْذْخِرَ (1) . وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ حَاجَةُ أَهْل مَكَّةَ إِِلَى ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِمْ وَمَمَاتِهِمْ (2) .
وَأَلْحَقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ) بِالإِِْذْخِرِ السِّنَّا وَالسِّوَاكَ وَالْعَصَا وَمَا أُزِيل مِنَ النَّبَاتِ بِقَصْدِ السُّكْنَى بِمَوْضِعِهِ لِلضَّرُورَةِ. كَمَا أَلْحَقَ بِهِ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ الشَّوْكَ كَالْعَوْسَجِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُل مَا هُوَ مُؤْذٍ (3) .
وَأَطْلَقَ غَيْرُهُمُ الْقَوْل بِالْحُرْمَةِ لِيَشْمَل سَائِرَ الأَْشْجَارِ وَالْحَشِيشَ إِلاَّ مَا وَرَدَ النَّصُّ بِاسْتِثْنَائِهِ وَهُوَ الإِِْذْخِرُ، وَذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا أَيْ مَكَّةَ. وَلأَِنَّ الْغَالِبَ فِي شَجَرِ الْحَرَمِ الشَّوْكُ، فَلَمَّا حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطْعَ شَجَرِهِ وَالشَّوْكُ غَالِبُهُ كَانَ ظَاهِرًا فِي تَحْرِيمِهِ (4) .
__________
(1) حديث: " حرم الله مكة. . . " سبق تخريجه آنفا.
(2) نفس المراجع.
(3) الشرح الصغير 2 / 110، 111، والحطاب 3 / 178، وجواهر الإكليل 1 / 198، 199، والمغني 3 / 350.
(4) المغني 3 / 350 - 351.(17/191)
وَلاَ بَأْسَ بِأَخْذِ الْكَمْأَةِ (الْفَقْعِ) لأَِنَّهُمَا لاَ أَصْل لَهُمَا فَلَيْسَا بِشَجَرٍ وَلاَ حَشِيشٍ (1) .
أَمَّا الْيَابِسُ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ وَحَشِيشِهِ فَلاَ يَحْرُمُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) ، لأَِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ لِخُرُوجِهِ عَنْ حَدِّ النُّمُوِّ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ فَرْقَ بَيْنَ أَخْضَرِهِ وَيَابِسِهِ (3) .
وَيَجُوزُ قَطْعُ وَقَلْعُ مَا يَسْتَنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً كَخَسٍّ، وَبَقْلٍ، وَكُرَّاتٍ، وَحِنْطَةٍ، وَبِطِّيخٍ، وَقِثَّاءٍ وَنَخْلٍ وَعِنَبٍ، وَإِِنْ لَمْ يُعَالَجْ بِأَنْ نَبَتَ بِنَفْسِهِ، اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ، فَإِِنَّ النَّاسَ مِنْ لَدُنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِِلَى يَوْمِنَا هَذَا يَزْرَعُونَهُ فِي الْحَرَمِ وَيَحْصُدُونَهُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ.
وَلاَ فَرْقَ فِي الْجَوَازِ بَيْنَ الشَّجَرِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَا اسْتَنْبَتَهُ الآْدَمِيُّ مِنَ الشَّجَرِ كَغَيْرِ الْمُسْتَنْبَتِ فِي الْحُرْمَةِ وَالضَّمَانِ، لِعُمُومِ الْحَدِيثِ الْمَانِعِ مِنْ قَطْعِ الشَّجَرِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَهُمْ: قِيَاسُهُ بِالزَّرْعِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْخَضْرَاوَاتِ، فَإِِنَّهُ يَجُوزُ قَطْعُهُ وَلاَ ضَمَانَ فِيهِ بِلاَ خِلاَفٍ.
__________
(1) كشاف القناع 2 / 470، والبدائع 2 / 210.
(2) البدائع 5 / 210، ومغني المحتاج 1 / 527، والمغني 3 / 351، وكشاف القناع 2 / 470، والزيلعي 2 / 70.
(3) الشرح الصغير 2 / 110، وجواهر الإكليل 1 / 198.(17/192)
وَإِِذَا كَانَ أَصْل الشَّجَرَةِ فِي الْحَرَمِ وَأَغْصَانُهَا فِي الْحِل فَهِيَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ، وَإِِنْ كَانَ أَصْلُهَا فِي الْحِل وَأَغْصَانُهَا فِي الْحَرَمِ فَهِيَ مِنَ الْحِل اعْتِبَارًا لِلأَْصْل (1) .
رَعْيُ حَشِيشِ الْحَرَمِ وَالاِحْتِشَاشُ فِيهِ
11 - يَجُوزُ رَعْيُ حَشِيشِ الْحَرَمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) لأَِنَّ الْهَدْيَ كَانَ يَدْخُل إِِلَى الْحَرَمِ فَيَكْثُرُ فِيهِ فَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُمْ كَانُوا يَكُمُّونَ أَفْوَاهَهُ، وَلأَِنَّ بِهِمْ حَاجَةً إِِلَى ذَلِكَ أَشْبَهَ الإِِْذْخِرَ.
وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُ لَمَّا مُنِعَ مِنَ التَّعَرُّضِ لِحَشِيشِ الْحَرَمِ اسْتَوَى فِيهِ التَّعَرُّضُ بِنَفْسِهِ وَبِإِِرْسَال الْبَهِيمَةِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ فِعْل الْبَهِيمَةِ يُضَافُ إِِلَى صَاحِبِهَا، كَمَا فِي الصَّيْدِ فَإِِنَّهُ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ التَّعَرُّضُ اسْتَوَى فِيهِ اصْطِيَادُهُ بِنَفْسِهِ، وَبِإِِرْسَال الْكَلْبِ، كَذَا هَذَا (2) .
أَمَّا الاِحْتِشَاشُ أَيْ قَطْعُ نَبَاتِ الْحَرَمِ لِلْبَهَائِمِ
__________
(1) البدائع 2 / 210 - 211، وجواهر الإكليل 1 / 198، ومغني المحتاج 1 / 527، والمغني لابن قدامة 3 / 349 - 352.
(2) البدائع 2 / 210 - 211، والحطاب 3 / 178، 179، ونهاية المحتاج ومغني المحتاج 1 / 528، وكشاف القناع 2 / 471.(17/192)
فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا (1)
وَفِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حِل أَخْذِ نَبَاتِهِ مِنْ حَشِيشٍ أَوْ نَحْوِهِ بِالْقَطْعِ لاَ بِالْقَلْعِ لِعَلَفِ الْبَهَائِمِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ كَالإِِْذْخِرِ.
وَالْخِلاَفُ فِيمَا لاَ يَسْتَنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً: أَمَّا مَا يَسْتَنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً فَيَجُوزُ فِيهِ الاِحْتِشَاشُ اتِّفَاقًا (2) .
ضَمَانُ قَطْعِ النَّبَاتِ فِي الْحَرَمِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِِلَى أَنَّ مَنْ قَطَعَ مَا يَحْرُمُ مِنْ نَبَاتِ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ مُحْرِمًا كَانَ أَوْ حَلاَلاً. وَاسْتَدَلُّوا بِفِعْل عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ بِشَجَرٍ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يُضْمَرُ بِأَهْل الطَّوَافِ فَقُطِعَ وَفْدَاهُ. وَيَقُول ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الدَّوْحَةِ بَقَرَةٌ، وَفِي الْجَزْلَةِ شَاةٌ. وَالدَّوْحَةُ الشَّجَرَةُ الْعَظِيمَةُ، وَالْجَزْلَةُ الصَّغِيرَةُ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي نَوْعِ الضَّمَانِ: فَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تُضْمَنُ الشَّجَرَةُ الْكَبِيرَةُ وَالْمُتَوَسِّطَةُ عُرْفًا بِبَقَرَةٍ، وَالصَّغِيرَةُ بِشَاةٍ، لِمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
__________
(1) الخلا: الرطب من الحشيش ويختلى: أي يقطع (مختار الصحاح) .
(2) المراجع السابقة والشرح الصغير 2 / 110.(17/193)
وَيُضْمَنُ الْغُصْنُ بِمَا نَقَصَ. وَإِِنْ قَلَعَ شَجَرًا مِنَ الْحَرَمِ فَغَرَسَهُ فِي الْحِل لَزِمَهُ رَدُّهُ، فَإِِنْ تَعَذَّرَ أَوْ يَبِسَتْ وَجَبَ الضَّمَانُ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: الضَّمَانُ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ بِالْقِيمَةِ.
وَاتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَكُونُ لِلصَّوْمِ فِي جَزَاءِ قَطْعِ نَبَاتِ الْحَرَمِ مَدْخَلٌ، لأَِنَّ حُرْمَتَهُ بِسَبَبِ الْحَرَمِ لاَ بِالإِِْحْرَامِ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَالْحَلاَل عَلَى السَّوَاءِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَمَعَ قَوْلِهِمْ بِحُرْمَةِ قَطْعِ نَبَاتِ الْحَرَمِ الَّذِي يَحْرُمُ قَطْعُهُ. قَالُوا: إِنْ فَعَل فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ (1) .
صَيْدُ الْحَرَمِ:
13 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ فِي الْحَرَمِ صَيْدُ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ، وَهُوَ مَا يَكُونُ تَوَالُدُهُ وَتَنَاسُلُهُ فِي الْبَرِّ دُونَ الْبَحْرِيِّ وَهُوَ مَا يَكُونُ تَوَالُدُهُ فِي الْبَحْرِ.
وَالْمُرَادُ بِصَيْدِ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ أَنْ يَكُونَ الْحَيَوَانُ مُتَوَحِّشًا فِي أَصْل الْخِلْقَةِ، وَلَوْ صَارَ مُسْتَأْنَسًا، نَحْوَ الظَّبْيِ الْمُسْتَأْنَسِ.
وَيَسْتَوِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَأْكُول اللَّحْمِ أَوْ غَيْرَ مَأْكُول اللَّحْمِ.
وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنْ يَكُونَ مَأْكُول
__________
(1) البدائع 2 / 210، والشرح الصغير 2 / 110، والحطاب 3 / 178، ومغني المحتاج 1 / 527، ونهاية المحتاج 3 / 343، والمغني لابن قدامة 3 / 352، وكشاف القناع 2 / 471.(17/193)
اللَّحْمِ، فَلاَ يَحْرُمُ صَيْدُ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ غَيْرِ مَأْكُول اللَّحْمِ عِنْدَهُمْ.
وَدَلِيل حُرْمَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضَ إِِلَى قَوْلِهِ: لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا وَلاَ يُعْضَدُ شَوْكُهَا وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا (1) .
وَحُرْمَةُ صَيْدِ الْحَرَمِ تَشْمَل الْمُحْرِمَ وَالْحَلاَل، كَمَا تَشْمَل الْحُرْمَةُ إِيذَاءَ الصَّيْدِ أَوِ الاِسْتِيلاَءَ عَلَيْهِ وَتَنْفِيرَهُ أَوِ الْمُسَاعِدَةَ عَلَى الصَّيْدِ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، مِثْل الدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ، أَوِ الإِِْشَارَةِ إِلَيْهِ أَوِ الأَْمْرِ بِقَتْلِهِ (2) .
وَمَنْ مَلَكَ صَيْدًا فِي الْحِل فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُل بِهِ الْحَرَمَ لَزِمَهُ رَفْعُ يَدِهِ عَنْهُ وَإِِرْسَالُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّ الْحَرَمَ سَبَبٌ مُحَرِّمٌ لِلصَّيْدِ وَيُوجِبُ ضَمَانَهُ، فَحَرُمَ اسْتِدَامَةُ إِمْسَاكِهِ كَالإِِْحْرَامِ، فَإِِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ وَتَلِفَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، فَإِِنْ بَاعَهُ رُدَّ الْبَيْعُ إِنْ بَقِيَ، وَإِِنْ فَاتَ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَدْخَل الْحَلاَل مَعَهُ إِِلَى الْحَرَمِ صَيْدًا مَمْلُوكًا لَهُ لاَ يَضْمَنُهُ، بَل لَهُ إِمْسَاكُهُ فِيهِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ، لأَِنَّهُ صَيْدُ حِلٍّ.
__________
(1) حديث: " لا يختلى خلاها ولا يعضد. . . " سبق تخريجه ف / 9.
(2) البدائع 2 / 207، 209، والزيلعي 2 / 63، 69، وابن عابدين 2 / 212، والدسوقي 2 / 72، والحطاب 3 / 170، 171، ومغني المحتاج 1 / 524، والمغني 3 / 344، 345.(17/194)
وَلَوْ رَمَى مِنَ الْحِل صَيْدًا فِي الْحَرَمِ ضَمِنَهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ صَيْدُ الْحَرَمِ. وَكَذَا لَوْ رَمَى مِنَ الْحَرَمِ صَيْدًا فِي الْحِل عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لأَِنَّ بِدَايَةِ الرَّمْيِ مِنَ الْحَرَمِ. وَقَال أَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لاَ يُضْمَنُ نَظَرًا لاِنْتِهَاءِ الرَّمْيَةِ.
وَضَمَانُ الصَّيْدِ يَكُونُ بِالْمِثْل فِيمَا لَهُ مِثْل مِنَ النَّعَمِ، أَوِ الْقِيمَةِ فِيهِ، وَفِيمَا لاَ مِثْل لَهُ بِتَقْوِيمِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ عَلَى النَّحْوِ الْمُبَيَّنِ فِي جَزَاءِ الإِِْحْرَامِ. يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ: ف 160 - 164) .
وَفِي الزَّيْلَعِيِّ وَلاَ يُجْزِيهِ الصَّوْمُ لأَِنَّهُ غَرَامَةٌ كَغَرَامَةِ الأَْمْوَال وَشَجَرِ الْحَرَمِ. وَالْجَامِعُ أَنَّهُمَا ضَمَانُ الْمَحَل لاَ جَزَاءُ الْفِعْل (1) .
14 - وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ وَلاَ لِلْحَلاَل أَكْل لَحْمِ صَيْدِ الْحَرَمِ الْبَرِّيِّ، وَلاَ الاِنْتِفَاعُ بِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. أَمَّا صَيْدُ الْبَحْرِ فَحَلاَلٌ أَكْلُهُ لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلاَل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِل لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا (2) } .
أَمَّا إِذَا صَادَ الْحَلاَل صَيْدًا خَارِجَ الْحَرَمِ فَهَل
__________
(1) ابن عابدين 2 / 217، الزيلعي 2 / 68 - 69، والمغني 3 / 345، 346، وجواهر الإكليل 1 / 195 - 198 ومغني المحتاج 1 / 524، والأحكام السلطانية للماوردي ص 167، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 194.
(2) سورة المائدة / 96.(17/194)
يَحِل لِلْمُحْرِمِ أَكْلُهُ أَمْ لاَ (1) ؟ فِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ (2))
وَتَفْصِيل أَحْكَامِ الصَّيْدِ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ) .
مَا يَجُوزُ قَتْلُهُ فِي الْحَرَمِ:
15 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ قَتْل الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ، وَالْعَقْرَبِ، وَالْحَيَّةِ، وَالْفَأْرَةِ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَالذِّئْبِ فِي الْحِل وَالْحَرَمِ، لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ (3) وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِل وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ، وَالْغُرَابُ الأَْبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحُدَيَّا (4) .
وَالْغُرَابُ الأَْبْقَعُ هُوَ الَّذِي يَأْكُل الْجِيَفَ، فَلاَ يَجُوزُ صَيْدُ الْغُرَابِ الصَّغِيرِ الَّذِي يَأْكُل الْحَبَّ.
__________
(1) المراجع السابقة، والدسوقي 2 / 72، ومطالب أولي النهى 2 / 333، والمهذب 7 / 423.
(2) الموسوعة 2 / 164 ف 87.
(3) حديث: " خمس من الدواب ليس على المحرم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 355 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 858 - ط الحلبي) . من حديث عبد الله بن عمر واللفظ لمسلم.
(4) حديث: " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم. . . " أخرجه مسلم (2 / 856 - ط الحلبي) من حديث عائشة.(17/195)
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ قَتْل الْحِدَأَةِ الصَّغِيرَةِ أَيْضًا لاِنْتِفَاءِ الإِِْيذَاءِ مِنْهَا (1) .
وَأَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) قَتْل كُل مُؤْذٍ بِطَبْعِهِ كَالأَْسَدِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَسَائِرِ السِّبَاعِ، خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي السِّبَاعِ غَيْرِ الصَّائِلَةِ وَنَحْوِهَا كَالْبَازِي وَالصَّقْرِ. كَمَا أَجَازَ الْجُمْهُورُ قَتْل سَائِرِ الْهَوَامِّ وَالْحَشَرَاتِ. وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنَ الْجَوَازِ قَتْل مَا لاَ يَكُونُ مُؤْذِيًا مِنْهَا (2) . وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ) .
نَقْل تُرَابِ الْحَرَمِ:
16 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِحُرْمَةِ نَقْل تُرَابِ الْحَرَمِ وَأَحْجَارِهِ وَمَا عُمِل مِنْ طِينِهِ - كَالأَْبَارِيقِ وَغَيْرِهَا - إِِلَى الْحِل، فَيَجِبُ رَدُّهُ إِِلَى الْحَرَمِ، وَنُقِل عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ كَرَاهَتُهُ. قَال الزَّرْكَشِيُّ فِي إِعْلاَمِ السَّاجِدِ: يَحْرُمُ نَقْل تُرَابِ الْحَرَمِ وَأَحْجَارِهِ عَنْهُ إِِلَى جَمِيعِ الْبُلْدَانِ، وَهَذَا هُوَ الأَْصَحُّ وَاَلَّذِي أَوْرَدَهُ الرَّافِعِيُّ كَرَاهَتُهُ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ
__________
(1) الزيلعي 2 / 66، وابن عابدين 2 / 218، 219، مواهب الجليل 3 / 173، والدسوقي 2 / 74، وجواهر الإكليل 1 / 195، والقليوبي 2 / 137، 138، ونهاية المحتاج 3 / 333، والمغني لابن قدامة 3 / 341 - 343.
(2) المراجع السابقة، والبدائع 2 / 195 - 197، وجواهر الإكليل 1 / 194 - 195. (3) الموسوعة 2 / 166 - 168 ف 89 - 92.(17/195)
بِإِِخْرَاجِ أَحْجَارِ الْحَرَمِ وَتُرَابِهِ، نَقَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ، وَهُوَ الْمَنْقُول عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، لَكِنَّهُمَا كَرِهَاهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّهُ لاَ يُخْرَجُ مِنْ تُرَابِ الْحَرَمِ، وَلاَ يُدْخَل إِلَيْهِ مِنَ الْحِل، وَلاَ يُخْرَجُ مِنْ حِجَارَةِ مَكَّةَ إِِلَى الْحِل، وَالإِِْخْرَاجُ أَشَدُّ فِي الْكَرَاهَةِ (1) .
أَمَّا نَقْل تُرَابِ الْحِل إِِلَى الْحَرَمِ فَجَوَّزَهُ الْفُقَهَاءُ، لَكِنَّهُ قَال بَعْضُهُمْ: مَكْرُوهٌ. وَقَال بَعْضُهُمْ: خِلاَفُ الأَْوْلَى، لِئَلاَّ يَحْدُثَ لَهَا حُرْمَةٌ لَمْ تَكُنْ.
وَلاَ خِلاَفَ فِي جَوَازِ نَقْل مَاءِ زَمْزَمَ إِِلَى الْحِل لأَِنَّهُ يُسْتَخْلَفُ، فَهُوَ كَالثَّمَرَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِل مَاءَ زَمْزَمَ وَتُخْبِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْمِلُهُ (2) .
وَلَمْ نَعْثُرْ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي الْمَوْضُوعِ.
بَيْعُ رِبَاعِ (3) الْحَرَمِ وَكِرَاؤُهَا:
17 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 528، وإعلام الساجد ص 137 - 138، المجموع للنووي 7 / 458، وكشاف القناع 2 / 472.
(2) نفس المراجع.
(3) الرباع - بكسر الراء - المنازل ودار الإقامة. كشاف القناع 3 / 160.(17/196)
عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ رِبَاعِ الْحَرَمِ وَبِقَاعِ الْمَنَاسِكِ وَلاَ كِرَاؤُهَا، لِحَدِيثِ: مَكَّةُ حَرَامٌ وَحَرَامٌ بَيْعُ رِبَاعِهَا وَحَرَامٌ أَجْرُ بُيُوتِهَا (1) وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَال: تُوُفِّيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَدُورُ مَكَّةَ كَانَتْ تُدْعَى السَّوَائِبَ، مَنِ احْتَاجَ سَكَنَ وَمِنِ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ.
قَال فِي الْبَدَائِعِ: ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ: إِنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ وَهِيَ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ، وَالْحَرَامُ لاَ يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ.
وَعَلَّل الْبُهُوتِيُّ التَّحْرِيمَ بِأَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَلَمْ تُقْسَمْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَصَارَتْ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَهُوَ غَيْرُ الْمَشْهُورِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ وَإِِجَارَةُ دُورِ الْحَرَمِ، لأَِنَّهَا عَلَى مِلْكِ أَرْبَابِهَا، يَجُوزُ لَهُمُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِبَيْعٍ، وَرَهْنٍ، وَإِِجَارَةٍ.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ (3) } فَنَسَبَ الدِّيَارَ إِِلَى
__________
(1) حديث: " مكة حرام، وحرام بيع رباعها وحرام. . . " أخرجه الدارقطني (3 / 57 - ط دار المحاسن) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا وصوب الدارقطني وقفه على عبد الله بن عمرو.
(2) البدائع 5 / 146، والفروق وعلى هامشها التهذيب 4 / 10 - 11، والأعلام للزركشي 146، 147، وكشاف القناع 3 / 160.
(3) سورة الحشر / 8.(17/196)
الْمَالِكِينَ. وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ دَخَل دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ (1) نَسَبَ الدَّارَ إِِلَى مَالِكِهَا. وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا: " وَهَل تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ (2) ".
وَاسْتَدَلُّوا لِلْجَوَازِ أَيْضًا بِعُمُومِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. وَلأَِنَّ الأَْصْل فِي الأَْرَاضِي أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ، إِلاَّ أَنَّهُ امْتَنَعَ تَمَلُّكُ بَعْضِهَا شَرْعًا لِعَارِضِ الْوَقْفِ كَالْمَسَاجِدِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْحَرَمِ. وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: بِالْجَوَازِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَقَيَّدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ - كَرَاهَةَ إِجَارَةِ بُيُوتِ مَكَّةَ بِالْمَوْسِمِ مِنَ الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ، لِكَثْرَةِ احْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَيْهَا - أَمَّا مِنَ الْمُقِيمِ وَالْمُجَاوِرِ فَلاَ بَأْسَ بِهَا.
هَذَا، وَقَدْ بَحَثَ الزَّرْكَشِيُّ هَذَا الْمَوْضُوعَ مَعَ اتِّجَاهَاتِ الْفُقَهَاءِ وَأَدِلَّتِهِمْ بِإِِسْهَابٍ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ أَيْضًا فِي مُصْطَلَحِ: (رِبَاعٌ) .
مَا اخْتُصَّ بِهِ الْحَرَمُ مِنْ أَحْكَامٍ أُخْرَى:
أ - نَذْرُ الْمَشْيِ إِِلَى الْحَرَمِ وَالصَّلاَةِ فِيهِ:
18 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِِلَى
__________
(1) حديث: " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ". أخرجه مسلم (3 / 1406 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 451 - ط السلفية) ومسلم (2 / 984 - ط الحلبي) من حديث أسامة بن زيد.
(3) المراجع السابقة. إعلام الساجد للزركشي ص 143 - 152.(17/197)
بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إِتْيَانَهُ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا آخَرَ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ فَعَلَيْهِ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ: (الْحَجُّ أَوِ الْعُمْرَةُ) لأَِنَّهُ قَدْ تُعُورِفَ إِيجَابُ النُّسُكِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَكَانَ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ.
وَلِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أُخْتِ عُقْبَةَ أَنَّهَا نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إِِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَمْشِيَ وَتَرْكَبَ. (1) وَكَذَا إِذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إِِلَى مَكَّةَ أَوْ إِِلَى الْكَعْبَةِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ إِِلَى بَيْتِ اللَّهِ (2) .
أَمَّا إِذَا نَذَرَ الإِِْتْيَانَ أَوِ الْمَشْيَ إِِلَى الْحَرَمِ أَوِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ نَوَى بِبَيْتِ اللَّهِ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ أَوِ الْمَسْجِدَ الأَْقْصَى، أَوْ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ فَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَال: عَلَيَّ الْمَشْيُ إِِلَى الْحَرَمِ أَوِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِعَدَمِ الْعُرْفِ فِي الْتِزَامِ النُّسُكِ بِهِ. وَقَال الصَّاحِبَانِ: يَلْزَمُهُ النُّسُكُ أَخْذًا بِالاِحْتِيَاطِ لأَِنَّهُ لاَ يُتَوَصَّل إِِلَى الْحَرَمِ وَلاَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلاَّ بِالإِِْحْرَامِ فَكَانَ بِذَلِكَ مُلْتَزِمًا لِلإِِْحْرَامِ، وَلَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ (بَيْتَ اللَّهِ) مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ أَوْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَوْ مَسْجِدًا غَيْرَهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، لأَِنَّ
__________
(1) حديث " أخت عقبة بن عامر. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 79 - ط السلفية) ، ومسلم (5 / 79 - الحلبي) .
(2) فتح القدير 3 / 88، وابن عابدين 2 / 153، وجواهر الإكليل 1 / 246، ومغني المحتاج 4 / 362، والمغني لابن قدامة 9 / 15 - 16.(17/197)
النَّذْرُ إِنَّمَا يَجِبُ وَفَاؤُهُ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ، إِذِ الْمَسَاجِدُ كُلُّهَا بُيُوتُ اللَّهِ، وَسَائِرُ الْمَسَاجِدِ يَجُوزُ الدُّخُول فِيهَا بِلاَ إِحْرَامٍ فَلاَ يَصِيرُ بِهِ مُلْتَزِمًا لِلإِِْحْرَامِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِِلَى أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِِلَى مَسْجِدِ مَكَّةَ وَلَوْ لِصَلاَةٍ يَلْزَمُهُ، كَمَا يَلْزَمُ نَاذِرَ الْمَشْيِ إِِلَى مَكَّةَ أَوْ الْبَيْتِ الْحَرَامِ أَوْ جُزْئِهِ الْمُتَّصِل بِهِ كَبَابِهِ، وَرُكْنِهِ، وَمُلْتَزَمِهِ، وَشَاذَرْوَانِهِ وَحِجْرِهِ. وَلاَ يَلْزَمُ الْمَشْيُ لِغَيْرِ ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْحَرَمِ، كَزَمْزَمَ وَالْمَقَامِ، وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَوْ خَارِجًا عَنِ الْحَرَمِ كَعَرَفَةَ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إِِلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إِتْيَانَهُ وَقَصَدَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، أَوْ صَرَّحَ بِلَفْظِ الْحَرَامِ، فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ إِتْيَانِهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَقُل الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَلاَ نَوَاهُ، أَوْ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ وَلَمْ يَنْوِ الْحَجَّ لَمْ يَنْعَقِدْ نَذْرُهُ، لأَِنَّ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى يَصْدُقُ عَلَى بَيْتِهِ الْحَرَامِ وَعَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِلَفْظٍ وَلاَ نِيَّةٍ.
وَلَوْ نَذَرَ إِتْيَانَ مَكَانٍ مِنْ الْحَرَمِ كَالصَّفَا أَوِ الْمَرْوَةِ، أَوْ مَسْجِدِ الْخَيْفِ، أَوْ مِنًى، أَوْ مُزْدَلِفَةَ، لَزِمَهُ إِتْيَانُ الْحَرَمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، لأَِنَّ الْقُرْبَةَ إِنَّمَا تَتِمُّ فِي إِتْيَانٍ بِنُسُكِهِ، وَالنَّذْرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَاجِبِ. وَحُرْمَةُ الْحَرَمِ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ
__________
(1) فتح القدير 3 / 88، وحاشية ابن عابدين 2 / 253، وجواهر الإكليل 1 / 246.(17/198)
الأَْمْكِنَةِ وَنَحْوِهَا فِي تَنْفِيرِ الصَّيْدِ وَغَيْرِهِ (1) .
وَتَفْصِيل الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحِ؛ (نَذْرٌ) وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ: (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ) .
ب - لُقَطَةُ الْحَرَمِ:
19 - اللُّقَطَةُ هِيَ الْمَال الضَّائِعُ مِنْ رَبِّهِ يَلْتَقِطُهُ غَيْرُهُ. وَلاَ فَرْقَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ لُقَطَةِ الْحَرَمِ وَالْحِل فِي الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْ أَنَّ أَخْذَهَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ التَّمَلُّكِ مَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِوُجُوبِ الأَْخْذِ إِذَا خَافَ الضَّيَاعَ، وَهِيَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الآْخِذِ (الْمُلْتَقِطِ) وَيُشْهِدُ عَلَى أَخْذِهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ أَوْ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلاَ يَكْتُمُ، وَلاَ يُغَيِّبُ، فَإِِنْ وَجَدَ صَاحِبَهَا فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِ، وَإِِلاَّ فَهُوَ مَال اللَّهِ عَزَّ وَجَل يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ (2) .
وَيَجِبُ تَعْرِيفُ اللُّقَطَةِ إِِلَى سَنَةٍ أَوْ إِِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ صَاحِبَهَا لاَ يَطْلُبُهَا. وَتَخْتَلِفُ بَعْضُ أَحْكَامِهَا عَلَى حَسَبِ اخْتِلاَفِ نَوْعِيَّةِ اللُّقَطَةِ وَقِيمَتِهَا، وَهَل يَمْلِكُهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهَا أَوْ يَحْبِسُهَا فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 362، 363، والمغني لابن قدامة 9 / 15 - 16.
(2) حديث: " من وجد لقطة فليشهد ذا عدل. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 335 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عياض بن حمار وإسناده صحيح.(17/198)
وَتَفْصِيلٌ (1) ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (لُقَطَةٌ) .
وَفِي الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْل الْبَاجِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ لاَ تَحِل لُقَطَةُ الْحَرَمِ لِلتَّمَلُّكِ بَل تُؤْخَذُ لِلْحِفْظِ وَيَجِبُ تَعْرِيفُهَا أَبَدًا، لِحَدِيثِ: فَإِِنَّ هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَ اللَّهُ، لاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا (2) فَفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ لُقَطَةِ غَيْرِ الْحَرَمِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهَا لاَ تَحِل إِلاَّ لِلتَّعْرِيفِ، وَلَمْ يُوَقِّتِ التَّعْرِيفَ بِسَنَةٍ كَغَيْرِهَا. فَدَل عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْرِيفَ عَلَى الدَّوَامِ.
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ حَرَمَ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى مَثَابَةٌ لِلنَّاسِ يَعُودُونَ إِلَيْهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الأُْخْرَى، فَرُبَّمَا يَعُودُ مَالِكُهَا أَوْ يَبْعَثُ فِي طَلَبِهَا بَعْدَ السَّنَةِ (3) .
الْغُسْل لِدُخُول الْحَرَمِ:
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ الْغُسْل لِدُخُول الْحَرَمِ، وَذَلِكَ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ، قَال
__________
(1) الزيلعي 3 / 301 - 304، والبدائع 6 / 202، وحاشية الدسوقي 4 / 121، وقوانين الأحكام 225، ومغني المحتاج 2 / 417، والمغني لابن قدامة 5 / 706، وفتح القدير 4 / 430، وإعلام الساجد 125، وقليوبي 3 / 120.
(2) حديث: " فإن هذا بلد حرم الله. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 47 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عباس.
(3) المراجع السابقة.(17/199)
الزَّرْكَشِيُّ: وَيُسْتَحَبُّ الْغُسْل لِدُخُول مَكَّةَ اتِّفَاقًا لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَقْدُمُ مَكَّةَ إِلاَّ بَاتَ بِذِي طُوَى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِل ثُمَّ يَدْخُل مَكَّةَ نَهَارًا، وَيُذْكَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَعَلَهُ. (1) وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الدَّاخِل مُحْرِمًا أَوْ حَلاَلاً (2) .
الْمُؤَاخَذَةُ بِالْهَمِّ:
21 - مِنِ اخْتِصَاصَاتِ الْحَرَمِ أَنَّ الإِِْنْسَانَ إِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فِيهِ يُؤَاخِذُ بِهِ وَإِِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا، بِخِلاَفِ سَائِرِ الْبُلْدَانِ فَإِِنَّهُ إِذَا هَمَّ الإِِْنْسَانُ فِيهَا بِسَيِّئَةٍ لاَ يُؤَاخَذُ بِهَمِّهِ مَا لَمْ يَفْعَلْهَا.
وَوَجْهُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْهَمِّ فِي الْحَرَمِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) .
وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الآْيَةِ قَال: (لَوْ أَنَّ رَجُلاً هَمَّ فِيهِ بِإِِلْحَادٍ وَهُوَ بِعَدَنِ أَبْيَنَ (4) لأََذَاقَهُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا)
__________
(1) حديث ابن عمر " أنه كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 435 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 919 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2) الأشباه لابن نجيم ص 369، ومغني المحتاج 1 / 479، والشرح الصغير 2 / 41، وإعلام الساجد للزركشي ص 114، 115، وتحفة الراكع والساجد ص 107.
(3) سورة الحج / 25.
(4) عدن أبين جزيرة باليمن.(17/199)
وَذَلِكَ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ - وَكَذَلِكَ فَعَل اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيل (1) .
الْمُجَاوَرَةُ بِمَكَّةَ وَالْحَرَمِ:
22 - تُسْتَحَبُّ الْمُجَاوَرَةُ بِمَكَّةَ وَالْحَرَمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ) وَذَلِكَ لِمَا يَحْصُل مِنَ الطَّاعَاتِ الَّتِي لاَ تَحْصُل فِي غَيْرِهَا مِنَ الطَّوَافِ وَتَضْعِيفِ الصَّلَوَاتِ وَالْحَسَنَاتِ.
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ كَرَاهَةُ الْمُجَاوَرَةِ بِالْحَرَمِ خَوْفًا مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حُرْمَتِهِ وَالتَّبَرُّمِ وَاعْتِيَادِ الْمَكَانِ. وَلِمَا يَحْصُل بِالْمُفَارَقَةِ مِنْ تَهْيِيجِ الشَّوْقِ وَانْبِعَاثِ دَاعِيَةِ الْعَوْدِ.
قَال تَعَالَى: {وَإِِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} (2) أَيْ يَثُوبُونَ إِلَيْهِ، وَيَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.
وَعَلَّل بَعْضُهُمُ الْكَرَاهَةَ بِالْخَوْفِ مِنْ رُكُوبِ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ فِيهِ (3) .
تَضَاعُفُ الصَّلاَةِ وَالْحَسَنَاتِ فِي الْحَرَمِ:
23 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صَلاَةً فِي الْمَسْجِدِ
__________
(1) الأشباه ص 369، وشفاء الغرام 1 / 68، 69، وإعلام الساجد 129، وتحفة الراكع والساجد ص 107.
(2) سورة البقرة / 125.
(3) الأشباه ص 369، وشفاء الغرام ص 84، وإعلام الساجد ص 129، 130.(17/200)
الْحَرَامِ تَعْدِل مِائَةَ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، لِمَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ أَحَادِيثَ: مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ (1) وَالْمَعْنَى أَنَّ الصَّلاَةَ فِيهِ تَفْضُل عَلَى مَسْجِدِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ حَرَمَ مَكَّةَ كَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْمُضَاعَفَةِ الْمَذْكُورَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي الْخَبَرِ الْمُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْحَرَمِ، وَيَتَأَيَّدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالَبَّادِ} (3) وقَوْله تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِِلَى الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى} (4) ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ.
وَقِيل: الْمُرَادُ بِهِ مَسْجِدُ الْجَمَاعَةِ الَّذِي يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ الإِِْقَامَةُ فِيهِ. وَقَدْ ذَكَرَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ: إِلاَّ
__________
(1) حديث: " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 63 - ط السلفية) ومسلم (2 / 1012 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) إعلام الساجد 115، وشفاء الغرام 1 / 74 - 82 والأشباه لابن نجيم ص 369.
(3) سورة الحج / 25.
(4) سورة الإسراء / 1.(17/200)
الْمَسْجِدَ الْكَعْبَةَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْهَا: إِلاَّ مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ (1) .
وَرَجَّحَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ تَخْتَصُّ بِمَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ بِالنِّسْبَةِ إِِلَى الصَّلاَةِ.
هَذَا وَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ مَاشِيًا حَتَّى يَرْجِعَ إِِلَى مَكَّةَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُل خُطْوَةٍ سَبْعَمِائَةِ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ (2) فَقَال بَعْضُهُمْ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قَال: بِكُل حَسَنَةٍ مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُل عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي تَضْعِيفِ الصَّلاَةِ الْحَرَمُ جَمِيعُهُ، قَال الزَّرْكَشِيُّ نَقْلاً عَنْ الْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ: نَقُول بِمُوجِبِهِ إِنَّ حَسَنَةَ الْحَرَمِ مُطْلَقًا بِمِائَةِ أَلْفٍ لَكِنَّ الصَّلاَةَ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ. وَلِهَذَا قَال: بِمِائَةِ صَلاَةٍ فِي مَسْجِدِي وَلَمْ يَقُل حَسَنَةً.
وَصَلاَةٌ فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفِ صَلاَةٍ، كُل صَلاَةٍ بِعَشْرِ حَسَنَاتٍ، فَتَكُونُ الصَّلاَةُ فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشَرَةِ آلاَفِ حَسَنَةٍ، وَتَكُونُ فِي
__________
(1) حديث ميمونة: " إلا المسجد الكعبة " أخرجه مسلم (2 / 1014 - ط الحلبي) والنسائي (5 / 213 - ط المكتبة التجارية بمصر) .
(2) حديث: " من حج من مكة ماشيا. . . " أخرجه الحاكم (1 / 461 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال الذهبي: " ليس بصحيح، أخشى أن يكون كذبا، وعسى - يعني ابن سوادة - قال أبو حاتم: منكر الحديث ".(17/201)
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِأَلْفِ أَلْفِ حَسَنَةٍ إِمَّا مَسْجِدُ الْجَمَاعَةِ وَإِِمَّا الْكَعْبَةُ عَلَى اخْتِلاَفِ الْقَوْلَيْنِ.
وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي شِفَاءِ الْغَرَامِ (1) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ "
مُضَاعَفَةُ السَّيِّئَاتِ بِالْحَرَمِ:
24 - ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِِلَى أَنَّ السَّيِّئَاتِ تُضَاعَفُ بِمَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ. مِمَّنْ قَال ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ لِتَعْظِيمِ الْبَلَدِ. وَسُئِل ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ مُقَامِهِ بِغَيْرِ مَكَّةَ فَقَال: مَالِي وَلِبَلَدٍ تُضَاعَفُ فِيهِ السَّيِّئَاتُ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ؟ فَحُمِل ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى مُضَاعَفَةِ السَّيِّئَاتِ بِالْحَرَمِ، ثُمَّ قِيل: تَضْعِيفُهَا كَمُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ بِالْحَرَمِ. وَقِيل: بَل كَخَارِجِهِ، وَمَنْ أَخَذَ بِالْعُمُومَاتِ لَمْ يَحْكُمْ بِالْمُضَاعَفَةِ قَال تَعَالَى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} (2) .
وَقَال الْفَاسِيُّ: وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ السَّيِّئَةَ بِمَكَّةَ كَغَيْرِهَا (3) .
__________
(1) إعلام الساجد ص 119، 120، 128 وشفاء الغرام 1 / 68، 82 - 83، والأشباه لابن نجيم 128، 369، وتحفة الراكع والساجد ص 170.
(2) سورة الأنعام / 160.
(3) المراجع السابقة(17/201)
لاَ تَمَتُّعَ وَلاَ قِرَانَ عَلَى أَهْل مَكَّةَ:
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَمَتُّعَ وَلاَ قِرَانَ عَلَى أَهْل مَكَّةَ، فَالْمَكِّيُّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا فَقَطْ وَلاَ دَمَ عَلَيْهِ (1) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (2) .
وَهَل يَجُوزُ لأَِهْل الْحَرَمِ أَنْ يُحْرِمَ بِالتَّمَتُّعِ أَوِ الْقِرَانِ أَوْ لاَ يَجُوزُ؟ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (تَمَتُّعٌ وَقِرَانٌ) .
ذَبْحُ الْهَدْيِ وَالْفِدْيَةِ فِي الْحَرَمِ:
26 - الْهَدْيُ هُوَ مَا يُهْدَى إِِلَى الْبَيْتِ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعَامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ تَطَوُّعًا أَمْ هَدْيَ تَمَتُّعٍ، أَمْ قِرَانٍ أَمْ جَزَاءَ صَيْدٍ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِِلَى أَنَّ ذَبْحَهُ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (3) وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (4) وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (5) . وَيَجُوزُ الذَّبْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنَ الْحَرَمِ وَلاَ يَخْتَصُّ بِمِنًى لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) الأشباه لابن نجيم ص 369، وابن عابدين 2 / 198، والاختيار 1 / 159، والفواكه الدواني 1 / 435، ومغني المحتاج 1 / 595، وإعلام الساجد ص 78، 179، والمغني 3 / 472.
(2) سورة البقرة / 196.
(3) سورة المائدة / 95.
(4) سورة البقرة / 196.
(5) سورة الحج / 33.(17/202)
نَحَرْتُ هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ (1) } وَكُل فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ (2) وَالأَْفْضَل لِلْحَاجِّ أَنْ يَذْبَحَ بِمِنًى، وَلِلْمُعْتَمِرِ أَنْ يَذْبَحَ بِمَكَّةَ. وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُحْصَرِ، أَمَّا الْمُحْصَرُ فَفِي ذَبْحِهِ خَارِجَ الْحَرَمِ أَوْ دَاخِلَهُ خِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي (إِحْصَارٌ) .
وَأَمَّا مَا يُذْبَحُ فِي فِدْيَةِ الأَْذَى فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، فَفِي قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: يَجِبُ ذَبْحُهُ بِمَكَّةَ وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَحُكْمُ الطَّعَامِ كَحُكْمِ الْفِدْيَةِ فِي أَنَّهُ يُوَزَّعُ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ.
وَأَمَّا الصِّيَامُ فَيَجُوزُ فِعْلُهُ فِي الْحَرَمِ وَخَارِجَهُ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ (فِدْيَةٌ) (وَصِيَامٌ) .
وَفِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْهَدْيِ وَوَقْتِ ذَبْحِهِ، وَمَنْ يُتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ بِالْهَدْيِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (حَجٌّ، هَدْيٌ، فِدْيَةٌ، نَذْرٌ) ، وَيُرَاجَعُ أَيْضًا مُصْطَلَحُ: (إِحْصَارٌ ف 38، 39) .
__________
(1) حديث: " نحرت ههنا ومنى كلها منحر " أخرجه مسلم (2 / 893 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) حديث: " كل فجاج مكة طريق ومنحر ". أخرجه أبو داود (2 / 479 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث جابر بن عبد الله، وحسنه الزيلعي في نصب الراية (3 / 162 - ط المجلس العلمي بالهند) .
(3) المجموع 7 / 413.(17/202)
تَغْلِيظُ الدِّيَةِ فِي الْحَرَمِ:
27 - يَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ تَغْلِيظَ الدِّيَةِ عَلَى الْجِنَايَةِ الَّتِي تُرْتَكَبُ فِي الْحَرَمِ، فَقَدْ قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَنْ قَتَل فِي الْحَرَمِ بِالدِّيَةِ وَثُلُثِ الدِّيَةِ. وَقَال بَعْضُهُمْ لاَ تُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِي الْحَرَمِ (1) .
وَفِي كَيْفِيَّةِ تَغْلِيظِهَا خِلاَفٌ، تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَةٌ) .
هَذَا، وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ أُخْرَى بَعْضُهَا يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، كَجَوَازِ قَصْدِهِ بِالزِّيَارَةِ وَشَدِّ الرِّحَال إِلَيْهِ، وَتَقَدُّمِ الإِِْمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ، وَعَدَمِ كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ فِيهِ فِي الأَْوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، فَصَّلَهَا الزَّرْكَشِيُّ فِي إِعْلاَمِ السَّاجِدِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا أَيْضًا فِي مُصْطَلَحِ: (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ) .
ثَانِيًا: حَرَمُ الْمَدِينَةِ:
28 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِِلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ الْمُنَوَّرَةَ حَرَمٌ، لَهُ حُدُودٌ وَأَحْكَامٌ، تَخْتَلِفُ عَنْ سَائِرِ الْبِقَاعِ، كَمَا تَخْتَلِفُ عَنْ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ فِي بَعْضِ الأَْحْكَامِ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنِّي حَرَّمْتُ
__________
(1) المغني 7 / 772، وسنن البيهقي 8 / 71، وإعلام الساجد ص 167.
(2) إعلام الساجد للزركشي ص 85، 115 - 129.(17/203)
الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَإِِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلَيْ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لأَِهْل مَكَّةَ (1) وَعَلَى ذَلِكَ فَلاَ يَحِل صَيْدُهَا وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا (2) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: لَيْسَ لِلْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ حَرَمٌ، وَلاَ يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ أَخْذِ صَيْدِهَا وَشَجَرِهَا. وَإِِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثِهِ الْمُتَقَدِّمِ بَقَاءَ زِينَتِهَا، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ تَهْدِمُوا الآْطَامَ فَإِِنَّهَا زِينَةُ الْمَدِينَةِ (3) .
وَيَدُل عَلَى حِل صَيْدِهَا حَدِيثُ أَنَسٍ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنُ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَال لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ، قَال أَحْسَبُهُ فَطِيمًا، وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَال: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَل النُّغَيْرُ؟ (4) وَنُغَيْرٌ بَالِغِينَ الْمُعْجَمَةِ طَائِرٌ صَغِيرٌ كَانَ يُلْعَبُ بِهِ (5) .
__________
(1) حديث: " إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم. . . " أخرجه مسلم (2 / 991 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم.
(2) الشرح الصغير 2 / 1111، ومغني المحتاج 1 / 529، والمغني لابن قدامة 3 / 353 - 355.
(3) حديث: " لا تهدموا الأطام فإنها زينة المدينة ". أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4 / 194 - ط مطبعة الأنوار المحمدية بمصر) . من حديث عبد الله بن عمر.
(4) حديث: " يا أبا عمير، ما فعل النغير ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 526 - ط السلفية) من حديث أنس بن مالك.
(5) حاشية ابن عابدين 2 / 256.(17/203)
حُدُودُ الْحَرَمِ الْمَدَنِيِّ:
29 - يَرَى الْجُمْهُورُ أَنَّ حَدَّ حَرَمِ الْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ ثَوْرٍ إِِلَى عِيرٍ، لِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: حَرَمُ الْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ ثَوْرٍ إِِلَى عِيرٍ (1) . وَوَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ الْحَرَمَ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْ الْمَدِينَةِ، فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا حَرَامٌ، وَاللاَّبَةُ الْحَرَّةُ، وَهِيَ أَرْضٌ تَرْكَبُهَا حِجَارَةٌ سُودٌ. وَوَرَدَ فِي رِوَايَةٍ: مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا. (2) . وَقَدْرُهُ بَرِيدٌ فِي بَرِيدٍ أَيِ اثْنَا عَشَرَ مِيلاً مِنْ كُل جِهَةٍ (3) .
مَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْحَرَمُ الْمَدَنِيُّ عَنِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ:
30 - يَخْتَلِفُ الْحَرَمُ الْمَدَنِيُّ عَنِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ عِنْدَ
__________
(1) الثور والعير جبلان بالمدينة كما حققه الزركشي (إعلام الساجد ص 227 - 229) وحديث: " حرم المدينة ما بين ثور إلى عير ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 42 - ط السلفية) ، مسلم (2 / 995 - ط الحلبي) من حديث علي بن أبي طالب.
(2) قال البهوتي نقلا عن فتح الباري: روايته (ما بين لابتيها) أرجح لتوارد الرواة عليها، ورواية (جبليها) لا تنافيها، فيكون عند كل جبل لابة. أو لابتيها من جهة الجنوب والشمال، وجبليها من جهة المشرق والمغرب) (كشاف القناع 2 / 475. وحديث: " ما بين لابتيها حرام ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 89 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1000 - ط. الحلبي) . من حديث أبي هريرة.
(3) الشرح الصغير 2 / 111، 112، ومغني المحتاج 1 / 129، والمغني لابن قدامة 3 / 353، 354 وكشاف القناع 2 / 475، وجواهر الإكليل 1 / 198.(17/204)
مَنْ يَقُول بِوُجُودِ حَرَمٍ لِلْمَدِينَةِ فِي بَعْضِ الأَْحْكَامِ مِنْهَا مَا يَلِي:
أ - يَجُوزُ أَخْذُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ شَجَرِ الْمَدِينَةِ لِلرَّحْل، وَآلَةِ الْحَرْثِ، كَآلَةِ الدِّيَاسِ وَالْجُذَاذِ، وَالْحَصَادِ، وَالْعَارِضَةِ لِسَقْفِ الْمَحْمَل، وَالْمَسَانِدِ مِنَ الْقَائِمَتَيْنِ، وَالْعَارِضَةُ بَيْنَهُمَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَرَّمَ الْمَدِينَةَ قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّا أَصْحَابُ عَمَلٍ، وَأَصْحَابُ نَضْحٍ، وَإِِنَّا لاَ نَسْتَطِيعُ أَرْضًا غَيْرَ أَرْضِنَا فَرَخِّصْ لَنَا، فَقَال: الْقَائِمَتَانِ وَالْوِسَادَةُ وَالْعَارِضَةُ وَالْمُسْنَدُ، أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلاَ يُعْضَدُ (1) .
ب - يَجُوزُ أَخْذُ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ حَشِيشِهَا لِلْعَلَفِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: وَلاَ يَصْلُحُ أَنْ يُقْطَعَ مِنْهَا شَجَرَةٌ إِلاَّ أَنْ يَعْلِفَ رَجُلٌ بَعِيرَهُ (2) .
وَلأَِنَّ الْمَدِينَةَ يَقْرُبُ مِنْهَا شَجَرٌ وَزَرْعٌ، فَلَوْ مَنَعْنَا مِنِ احْتِشَاشِهَا أَفْضَى إِِلَى الْحَرَجِ، بِخِلاَفِ حَرَمِ مَكَّةَ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
ج - مَنْ أَدْخَل إِلَيْهَا صَيْدًا فَلَهُ إِمْسَاكُهُ وَذَبْحُهُ،
__________
(1) حديث جابر: " القائمتان، والوسادة ". أورده البهوتي في كشاف القناع (2 / 474 - ط عالم الكتب) وعزاه لأحمد، ولم نجده في المسند.
(2) حديث: " لا يصلح أن يقطع منها شجرة، إلا أن. . . " أخرجه أبو داود (2 / 532 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث علي بن أبي طالب.(17/204)
وَخَصَّهُ الْمَالِكِيَّةُ بِسَاكِنِي الْمَدِينَةِ (1) .
د - لاَ جَزَاءَ فِيمَا حَرُمَ مِنْ صَيْدِهَا وَشَجَرِهَا وَحَشِيشِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، بِخِلاَفِ حَرَمِ مَكَّةَ. وَفِي الْقَوْل الْقَدِيمِ لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِيهِ الْجَزَاءُ.
هـ - يَجُوزُ دُخُول الْمَدِينَةِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ بِلاَ خِلاَفٍ.
- وَلاَ يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ دُخُول الْمَدِينَةِ مِنْ أَجْل الْمَصْلَحَةِ مُؤَقَّتًا مِنْ غَيْرِ اسْتِيطَانٍ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، بِخِلاَفِ حَرَمِ مَكَّةَ الْمَكْرُمَةِ.
ز - لاَ يَخْتَصُّ حَرَمُ الْمَدِينَةِ بِالنُّسُكِ وَذَبْحِ الْهَدَايَا، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ.
ح - لَيْسَ لِلُقَطَةِ الْحَرَمِ الْمَدَنِيِّ حُكْمٌ خَاصٌّ كَالْحَرَمِ الْمَكِّيِّ مِنْ عَدَمِ تَمَلُّكِهَا وَوُجُوبِ تَعْرِيفِهَا لِلأَْبَدِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ.
هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ فِي إِعْلاَمِ السَّاجِدِ سَائِرَ خَصَائِصِ الْحَرَمِ الْمَدَنِيِّ وَأَحْكَامِهِ بِإِِسْهَابٍ. وَبَعْضُ هَذِهِ الأَْحْكَامِ تَخْتَصُّ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ، وَجَوَازِ شَدِّ الرِّحَال إِلَيْهِ وَنَحْوِهِمَا (2) . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل هُنَاكَ وَفِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٌ) وَمُصْطَلَحِ: (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ) .
__________
(1) الشرح الصغير 2 / 112، وكشاف القناع 2 / 474.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 256 وجواهر الإكليل 1 / 198، والشرح الصغير 2 / 110 - 113، وحاشية القليوبي 2 / 143، ومغني المحتاج 1 / 529 وما بعدها، وكشاف القناع 2 / 475، 476 وينظر كتاب وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى للسمهودي.(17/205)
حَرِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْحَرِيرُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ دُودَةٍ تُسَمَّى دُودَةَ الْقَزِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الإِِْبْرَيْسَمُ:
2 - الإِِْبْرَيْسَمُ بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا: الْحَرِيرُ وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالْخَامِ (2) .
الإِِْسْتَبْرَقُ:
3 - الإِِْسْتَبْرَقُ: غَلِيظُ الدِّيبَاجِ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ (3) .
الْخَزُّ
4 - الْخَزُّ مِنَ الثِّيَابِ مَا يُنْسَجُ مِنْ صُوفٍ
__________
(1) جاء في المنجد في اللغة والأدب والعلوم ص 626 ط بيروت: القز، والجمع قزوز، ما يسوى منه الإبريسم أو الحرير (فارسية) ودود القز معروف مجاجه القز.
(2) تاج العروس للزبيدي باب الميم فصل الباء.
(3) المرجع السابق باب القاف فصل الميم.(17/205)
وَإِِبْرَيْسَمٍ، أَوْ مِنْ خَالِصِ الإِِْبْرَيْسَمِ (1) . وَفِي اللِّسَانِ، الْخَزُّ يُنْسَجُ مِنْ صُوفٍ وَغَيْرِهِ وَيُحْمَل عَلَيْهِ مَا وَرَدَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَبِسُوهُ (2) .
الدِّيبَاجُ:
5 - الدِّيبَاجُ: ثَوْبٌ سُدَاهُ وَلُحْمَتُهُ إِبْرَيْسَمٌ (3) .
السُّنْدُسُ
6 - السُّنْدُسُ: ضَرْبٌ مِنْ رَقِيقِ الدِّيبَاجِ (4) .
الْقَزُّ:
7 - الْقَزُّ الإِِْبْرَيْسَمُ (5) : وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّ الْقَزَّ هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْحَرِيرِ كَمِدُ اللَّوْنِ وَهُوَ مَا قَطَعَتْهُ الدُّودَةُ وَخَرَجَتْ مِنْهُ. وَالْحَرِيرُ مَا يَحِل بَعْدَ مَوْتِهَا (6) .
الدِّمَقْسُ:
8 - الدِّمَقْسُ: الإِِْبْرَيْسَمُ أَوِ الْقَزُّ أَوِ الدِّيبَاجُ، أَوِ الْكَتَّانُ (7) .
__________
(1) تاج العروس والمعجم الوسيط.
(2) الخرشي على مختصر خليل 1 / 252، 253.
(3) المصباح المنير. والسدى بوزن عصى هو ما يمد طولا في النسج، واللحمة ما يمد عرضا.
(4) ترتيب القاموس على طريقة المصباح المنير للزاوي.
(5) المرجع السابق
(6) حاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 80 - 82.
(7) ترتيب القاموس على طريقة المصباح.(17/206)
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَرِيرِ مِنْ أَحْكَامٍ:
لُبْسُ الْحَرِيرِ الْمُصْمَتِ وَاسْتِعْمَالُهُ:
9 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حِل الْحَرِيرِ الْمُصْمَتِ أَيِ الْخَالِصِ لِلنِّسَاءِ لُبْسًا وَاسْتِعْمَالاً (1) .
لِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أُحِل الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لإِِِنَاثٍ مِنْ أُمَّتِي وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا (2) .
وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ حَرِيرًا فَجَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ وَذَهَبًا فِي شِمَالِهِ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ بِهِمَا فَقَال: إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لإِِِنَاثِهِمْ (3) .
وَلِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَوَاثِلَةَ بْنِ الأَْسْقَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ حِلٌّ لإِِِنَاثِ
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني 5 / 132 ط بيروت، والخرشي على مختصر خليل 1 / 252، 253 ط القاهرة، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل 1 / 505 ط ليبيا، وحاشية الجمل على شرح المنهج للشيخ زكريا الأنصاري 2 / 80 - 82 ط القاهرة، والمغني لابن قدامة 1 / 421، 422 ط 1970 م.
(2) حديث: " أحل الذهب والحرير لإناث من أمتي. . . . " أخرجه النسائي (8 / 161 - ط المكتبة التجارية) من حديث أبي موسي. وحسنه ابن المديني كما في التلخيص لابن حجر (1 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) حديث: " إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم " أخرجه ابن ماجه (2 / 1189 - ط الحلبي) ، وحسنه ابن المديني كما في التلخيص لابن حجر (1 / 53 - ط شركة الطباعة الفنية) .(17/206)
أُمَّتِي حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِهَا (1) .
وَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ (أَنَّهُ رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرْدُ حَرِيرٍ سِيَرَاءُ) (2)
وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا قَال: (رَأَيْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَ حَرِيرٍ سِيَرَاءَ) (3)
وَاتَّفَقُوا عَلَى حُرْمَةِ لُبْسِ الْحَرِيرِ الْمُصْمَتِ عَلَى الرِّجَال ثِيَابًا وَغِطَاءً لِلرَّأْسِ وَاشْتِمَالاً وَلَوْ بِحَائِلٍ لِلأَْحَادِيثِ السَّابِقَةِ الَّتِي تُصَرِّحُ بِحُرْمَتِهِ عَلَى الرِّجَال. وَهَذَا فِي غَيْرِ حَالَةِ الْحَرْبِ أَوِ الْمَرَضِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا.
__________
(1) حديث: " الذهب والحرير حل لإناث أمتي حرام على ذكورها " حديث زيد بن أرقم أخرجه الطبراني في الكبير (5 / 240 - ط وزارة الأوقاف العراقية) . وقال الهيثمي في المجمع (5 / 143 - ط القدسي) : " فيه ثابت بن زيد بن أرقم، وهو ضعيف ". وأما حديث واثلة فأخرجه الطبراني كذلك كما في التلخيص لابن حجر (1 / 54 - ط شركة الطباعة الفنية) وقال ابن حجر: " إسناده مقارب ".
(2) حديث أنس: أنه رأى على أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم برد حرير سيراء أخرجه البخاري (الفتح 10 / 296 - ط السلفية) .
(3) حديث أنس: " رأيت على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . " أخرجه ابن ماجه (2 / 1190 - ط الحلبي) والنسائي (8 / 197 - ط المكتبة التجارية) . ونوه ابن حجر في الفتح (10 / 300 - ط السلفية) أن المحفوظ ذكر " أم كلثوم " بدلا من " زينب ".(17/207)
أَمَّا فِي الْحَرْبِ فَإِِنَّهُ يَجُوزُ لُبْسُ الْحَرِيرِ لِلرِّجَال عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مُطْلَقًا. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِقَيْدٍ، وَهُوَ مَا إِذَا كَانَتْ بِاللاَّبِسِ حَاجَةٌ إِلَيْهِ. فَإِِذَا لَمْ تَكُنْ بِاللاَّبِسِ حَاجَةٌ إِلَيْهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ عِنْدَهُمْ.
أَحَدُهُمَا: الإِِْبَاحَةُ لأَِنَّ الْمَنْعَ مِنْ لُبْسِهِ لِلْخُيَلاَءِ، وَالْخُيَلاَءُ وَقْتَ الْحَرْبِ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ.
وَالْوَجْهُ الآْخَرُ: الْحُرْمَةُ وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ إِبَاحَتُهُ مُطْلَقًا.
وَأَضَافَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ حَال الْحَكَّةِ. وَهَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِمَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا (1) .
وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُبَاحُ لِلْمَرَضِ لاِحْتِمَال أَنْ تَكُونَ الرُّخْصَةُ خَاصَّةً بِهَذَيْنِ الصَّحَابِيِّينَ.
وَتَوَسَّعَ الشَّافِعِيَّةُ فِي حَال الْعُذْرِ الْمُبِيحِ مَعَ التَّقْيِيدِ فَقَالُوا: كَحَرٍّ وَبَرْدٍ مُضِرَّيْنِ إِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ، وَحَاجَةٍ كَجَرَبٍ إِنْ آذَى الْمَرِيضَ غَيْرُهُ.
__________
(1) حديث: " رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير لحكة كانت بهما " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 295 - ط السلفية) . ومسلم (3 / 1646 - ط الحلبي) .(17/207)
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لُبْسُ ثِيَابِ الْحَرِيرِ الْمُصْمَتِ مُطْلَقًا لِعُمُومِ الْخَبَرِ (1) .
إِلْبَاسُ الْحَرِيرِ لِصِغَارِ الذُّكُورِ:
10 - يَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِلْبَاسُ الصَّغِيرِ الذَّكَرِ الْحَرِيرَ. لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَارَ الْحُرْمَةَ عَلَى الذُّكُورَةِ. إِلاَّ أَنَّ اللاَّبِسَ إِذَا كَانَ صَغِيرًا فَالإِِْثْمُ عَلَى مَنْ أَلْبَسَهُ لاَ عَلَيْهِ. لأَِنَّهُ لَيْسَ مُكَلَّفًا. وَلِعُمُومِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا.
وَلِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدُ بِإِِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ قَال: كُنَّا نَنْزِعُهُ عَنِ الْغِلْمَانِ وَنَتْرُكُهُ عَلَى الْجَوَارِي (2) وَالْجَوَارِي الْبَنَاتُ الصَّغِيرَاتُ. وَمَنْ قَال مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِذَلِكَ اسْتَثْنَى الرَّضِيعَ لِلْمَشَقَّةِ الدَّاخِلَةِ عَلَى أُمِّهِ (3) .
وَيَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةُ إِِلَى جَوَازِ إِلْبَاسِهِ صِغَارَ
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني 5 / 132 ط بيروت، الخرشي على مختصر خليل 1 / 252، 253 ط القاهرة، مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 1 / 505 ط ليبيا، حاشية الجمل على شرح المنهج للشيخ زكريا الأنصاري 2 / 80 - 82 ط القاهرة، والمغني لابن قدامة 1 / 421، 422 ط 1970 م.
(2) حديث جابر: كنا ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري. أخرجه أبو داود (4 / 331 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .
(3) بدائع الصنائع 5 / 130، مواهب الجليل 1 / 505، والمغني لابن قدامة 1 / 423.(17/208)
الذُّكُورِ. وَهَذَا قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فَلاَ يَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِلُبْسِهِمْ.
وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ سَبْعَ سَنَوَاتٍ يَحْرُمُ إِلْبَاسُهُ ثَوْبَ حَرِيرٍ (1) .
أَعْلاَمُ الْحَرِيرِ فِي الثَّوْبِ غَيْرِ الْحَرِيرِ:
11 - الأَْعْلاَمُ جَمْعُ عَلَمٍ. وَهُوَ الْقِطْعَةُ فِي الثَّوْبِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ لَوْنِهِ. يَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِِلَى أَنَّ أَعْلاَمَ الْحَرِيرِ فِي الثَّوْبِ غَيْرِ الْحَرِيرِ جَائِزَةٌ إِذَا كَانَتْ قَدْرَ أَرْبَعِ أَصَابِع فَمَا دُونَهَا. لِمَا رَوَى عُمَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إِلاَّ مَوْضِعَ إِصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلاَثٍ أَوْ أَرْبَعٍ (2) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلاَّ الْبُخَارِيُّ. وَزَادَ فِيهِ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدُ وَأَشَارَ بِكَفِّهِ (3) وَلأَِنَّ هَذِهِ الأَْعْلاَمَ تَابِعَةٌ. وَالْعِبْرَةُ لِلْمَتْبُوعِ. وَلأَِنَّ لاَبِسَهُ لاَ يُسَمَّى لاَبِسَ حَرِيرٍ.
وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ بَأْسَ بِالْعَلَمِ الْحَرِيرِ فِي الثَّوْبِ وَإِِنْ عَظُمَ (4) . وَتُبَاحُ الْعُرَى
__________
(1) حاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 82، المغني 1 / 423، ومواهب الجليل 1 / 506.
(2) حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن لبس الحرير إلا موضع. . . " أخرجه مسلم (3 / 1644 - ط الحلبي) .
(3) نيل الأوطار للشوكاني 2 / 97.
(4) بدائع الصنائع 5 / 131، 132، وحاشية العدوي على هامش الخرشي على مختصر خليل 1 / 252، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 84، والمغني 1 / 422.(17/208)
وَالأَْزْرَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لأَِنَّهَا تَبَعٌ وَيَسِيرٌ (1) .
وَتُبَاحُ أَيْضًا لِبْنَةُ جَيْبٍ - بِكَسْرِ اللاَّمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ - وَهُوَ الزِّيقُ الْمُحِيطُ بِالْعُنُقِ. وَالْجَيْبِ وَهُوَ مَا يُفْتَحُ عَلَى نَحْرٍ أَوْ طَوْقٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَيَّدَتْهُ بَعْضُ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ بِمَا إِذَا كَانَ قَدْرَ أَرْبَعِ أَصَابِع مَضْمُومَةٍ فَمَا دُونَهَا. وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ إِنَّهُ لاَ يَجُوزُ (2) .
لُبْسُ الثِّيَابِ الْمَنْسُوجَةِ مِنْ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِِلَى أَنَّ الثَّوْبَ إِنْ كَانَتْ لُحْمَتُهُ حَرِيرًا وَسُدَاهُ غَيْرَ حَرِيرٍ، فَإِِنَّهُ لاَ يُكْرَهُ لُبْسُهُ فِي حَال الْحَرْبِ لِدَفْعِ مَضَرَّةِ السِّلاَحِ وَتَهَيُّبِ الْعَدُوِّ. أَمَّا فِي غَيْرِ حَال الْحَرْبِ فَمَكْرُوهٌ - كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ - لاِنْعِدَامِ الضَّرُورَةِ.
وَإِِنْ كَانَ سُدَاهُ حَرِيرًا وَلُحْمَتُهُ غَيْرَ حَرِيرٍ لاَ يُكْرَهُ فِي حَال الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا. لأَِنَّ الثَّوْبَ يَصِيرُ ثَوْبًا بِاللُّحْمَةِ. لأَِنَّهُ إِنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 6 / 355، وحاشية الجمل 2 / 85، وكشاف القناع 1 / 259، ومواهب الجليل 1 / 505، وحاشية الدسوقي 1 / 220، والإنصاف 1 / 480، والمغني 1 / 588، وكشاف القناع 1 / 283.
(2) حاشية ابن عابدين 6 / 354، ومواهب الجليل 1 / 505، وحاشية الجمل 2 / 50، وشرح منتهى الإرادات 1 / 151، 152.(17/209)
بِالنَّسْجِ. وَالنَّسْجُ تَرْكِيبُ اللُّحْمَةِ بِالسُّدَى. فَكَانَتِ اللُّحْمَةُ كَالْوَصْفِ الأَْخِيرِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إِلَيْهِ.
وَأَظْهَرُ الأَْقْوَال وَأَوْلاَهَا بِالصَّوَابِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا قَال ابْنُ رُشْدٍ، أَنَّ لُبْسَ هَذِهِ الثِّيَابِ مَكْرُوهٌ يُؤْجَرُ عَلَى تَرْكِهِ وَلاَ يَأْثَمُ فِي فِعْلِهِ. لأَِنَّهُ مِنَ الْمُشْتَبِهَاتِ الْمُتَكَافِئَةِ أَدِلَّةُ حُرْمَتِهَا وَأَدِلَّةُ حِلِّهَا الَّتِي قَال فِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِِلَى أَنَّ مَا أَكْثَرُهُ مِنَ الْحَرِيرِ يَحْرُمُ تَغْلِيبًا لِلأَْكْثَرِ. بِخِلاَفِ مَا أَكْثَرُهُ مِنْ غَيْرِهِ. لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لاَ يُسَمَّى ثَوْبَ حَرِيرٍ. وَالأَْصْل الْحِل. وَتَغْلِيبًا لِلأَْكْثَرِ. وَلأَِنَّ الْحَرِيرَ مُسْتَهْلَكٌ فِي غَيْرِهِ.
أَمَّا الْمُسْتَوِي مِنْهُمَا فَإِِنَّ الشَّافِعِيَّةَ يُبِيحُونَهُ. وَالتَّفْصِيل الَّذِي قَال بِهِ الشَّافِعِيَّةُ كَمَا وَرَدَ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ بَعْضَ الثَّوْبِ حَرِيرًا وَبَعْضُهُ غَيْرَهُ وَنُسِجَ مِنْهُمَا فَفِيهِ طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِنْ كَانَ الْحَرِيرُ ظَاهِرًا يُشَاهَدُ حَرُمَ وَإِِنْ قَل وَزْنُهُ، وَإِِنِ اسْتَتَرَ لَمْ يَحْرُمْ وَإِِنْ كَثُرَ وَزْنُهُ لأَِنَّ الْخُيَلاَءَ وَالْمَظَاهِرَ إِنَّمَا تَحْصُل بِالظَّاهِرِ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّ
__________
(1) الخرشي على مختصر خليل 1 / 253 وحديث: " فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه " أخرجه مسلم (3 / 1220 - ط الحلبي) من حديث النعمان بن بشير.(17/209)