شَهَادَتِهِمْ؛ لأَِنَّ الشُّهُودَ لَمَّا أَكْذَبُوا أَنْفُسَهُمْ بِالرُّجُوعِ تَنَاقَضَ كَلاَمُهُمْ، وَالْقَضَاءُ بِالْكَلاَمِ الْمُتَنَاقِضِ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَصَدَقُوا فِي الأَْوَّل أَمْ فِي الثَّانِي،
وَهَذَا قَوْل عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ.
وَقَال أَبُو ثَوْرٍ: يَحْكُمُ بِمُوجَبِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ؛ لأَِنَّهَا قَدْ أُدِّيَتْ فَلاَ تَبْطُل بِرُجُوعِ مَنْ شَهِدَ بِهَا كَمَا لَوْ رَجَعَ الشُّهُودُ بَعْدَ الْحُكْمِ (1) .
ب - التَّنَاقُضُ فِي الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْل الاِسْتِيفَاءِ:
7 - إِذَا وَقَعَ التَّنَاقُضُ فِي الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْل الاِسْتِيفَاءِ فَيُنْظَرُ: إِذَا كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ عُقُوبَةً كَالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ لَمْ يَجُزِ اسْتِيفَاؤُهُ، فَعَلَيْهِ إِذَا رَجَعَ الشُّهُودُ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْقَتْل الْعَمْدِ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْل إِنْفَاذِهِ فَلاَ يَنْفُذُ وَلاَ يَجْرِي الْحُكْمُ؛ لأَِنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَرُجُوعُ الشُّهُودِ مِنْ أَعْظَمِ الشُّبُهَاتِ؛ وَلأَِنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ عُقُوبَةٌ وَلَمْ يَتَعَيَّنِ اسْتِحْقَاقُهَا وَلاَ سَبِيل إِلَى جَبْرِهَا فَلَمْ يَجُزِ اسْتِيفَاؤُهَا كَمَا لَوْ رَجَعَ الشُّهُودُ قَبْل الْحُكْمِ (2) .
__________
(1) درر الحكام 4 / 407، 1 / 70، 71، ومعين الحكام ص179، 180، والبناية شرح الهداية 7 / 240، والشرح الصغير 4 / 294، ونهاية المحتاج 8 / 310، والمغني مع الشرح الكبير 12 / 136، 137.
(2) المغني مع الشرح الكبير 12 / 137، ودرر الحكام 4 / 412، ونهاية المحتاج 8 / 310، والشرح الصغير 4 / 295.(14/45)
8 - أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ مَالاً فَيُسْتَوْفَى وَلاَ يُنْقَضُ حُكْمُ الْقَاضِي. لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحُكْمُ بِالْكَلاَمِ الْمُتَنَاقِضِ غَيْرَ جَائِزٍ، فَلاَ يَجُوزُ أَيْضًا نَقْضُ الْحُكْمِ بِهِ؛ وَلأَِنَّ الْكَلاَمَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الدَّلاَلَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَقَدْ رَجَحَ الأَْوَّل عَلَى الثَّانِي بِاتِّصَالِهِ بِالْقَضَاءِ، وَالْمَرْجُوحُ لاَ يُعَارِضُ الرَّاجِحَ فَلاَ يَخْتَل الْحُكْمُ وَلاَ يُنْقَضُ؛ وَلأَِنَّ رُجُوعَ الشُّهُودِ عَنِ الشَّهَادَةِ إِقْرَارٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا سَبَبًا لِضَيَاعِ الْمَال وَلِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ، إِلاَّ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ إِقْرَارُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحًا وَلَوْ كَانَ الْمُقِرُّ أَفْسَقَ النَّاسِ، إِلاَّ أَنَّ إِقْرَارَهُ عَلَى الْغَيْرِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَلَوْ كَانَ أَعْدَل النَّاسِ، فَلِذَلِكَ وَإِنْ صَحَّ الرُّجُوعُ الْمَذْكُورُ فِي حَقِّ الشَّاهِدِ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ فِي حَقِّ الْغَيْرِ أَيْ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
هَذَا قَوْل أَهْل الْفُتْيَا مِنْ عُلَمَاءِ الأَْمْصَارِ.
وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالأَْوْزَاعِيِّ أَنَّهُمَا قَالاَ: يُنْقَضُ الْحُكْمُ إِذَا اسْتَوْفَى الْحَقَّ؛ لأَِنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا، فَإِذَا رَجَعَا زَال مَا يَثْبُتُ بِهِ فَنُقِضَ الْحُكْمُ، كَمَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمَا كَانَا كَافِرَيْنِ (1) .
ج - التَّنَاقُضُ فِي الشَّهَادَةِ بَعْدَ الاِسْتِيفَاءِ:
9 - إِذَا وَقَعَ التَّنَاقُضُ فِي الشَّهَادَةِ بَعْدَ الاِسْتِيفَاءِ
__________
(1) درر الحكام 4 / 408، 1 / 71، وحاشية ابن عابدين 4 / 396 ط بولاق، ونهاية المحتاج 8 / 310، والمغني مع الشرح الكبير 12 / 137 - 138، والشرح الصغير 4 / 294.(14/46)
فَإِنَّهُ لاَ يُبْطِل الْحُكْمَ وَلاَ يَلْزَمُ الْمَشْهُودَ لَهُ شَيْءٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ مَالاً أَوْ عُقُوبَةً؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ قَدْ تَمَّ بِاسْتِيفَاءِ الْمَحْكُومِ بِهِ وَوُصُول الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الشُّهُودِ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفَاصِيل فِي مُخْتَلَفِ مَسَائِل الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ وَتَضْمِينِ الشُّهُودِ بِسَبَبِ رُجُوعِهِمْ تُنْظَرُ فِي أَبْوَابِ الْبَيِّنَاتِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَفِي مُصْطَلَحَيْ (شَهَادَةٌ، ضَمَانٌ) .
__________
(1) درر الحكام 4 / 412، 415، ونهاية المحتاج 8 / 311 - 313، والمغني مع الشرح الكبير 12 / 138.(14/46)
تَنْجِيزٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنْجِيزُ: تَفْعِيلٌ مِنْ نَجَّزَ، وَلَهُ فِي اللُّغَةِ عِدَّةُ مَعَانٍ مِنْهَا الْفَنَاءُ وَالذَّهَابُ. يُقَال: نَجَزَ الشَّيْءُ وَنَجِزَ إِذَا فَنِيَ وَذَهَبَ فَهُوَ نَاجِزٌ، وَمِنْهَا الاِنْقِطَاعُ يُقَال نَجِزَ وَنَجَزَ الْكَلاَمُ: إِذَا انْقَطَعَ وَمِنْهَا الْحُضُورُ وَالتَّعْجِيل. يُقَال نَجَزَ الْوَعْدُ يَنْجُزُ نَجْزًا: إِذَا حَضَرَ، وَمِنْهَا قَضَاءُ الْحَاجَةِ. يُقَال: نُجِزَتِ الْحَاجَةُ إِذَا قُضِيَتْ.
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُضُورِ وَالتَّعْجِيل (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَوْرُ:
2 - الْفَوْرُ: هُوَ الأَْدَاءُ فِي أَوَّل أَوْقَاتِ الإِْمْكَانِ بِحَيْثُ يَلْحَقُهُ الذَّمُّ فِي التَّأْخِيرِ عَنْهُ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَسْتَعْمِلُونَ التَّنْجِيزَ
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " نجز "، ودستور العلماء 1 / 354 باب التاء مع النون، والنظم المستعذب في شرح غريب المهذب 2 / 94، وطلبة الطلبة ص58.
(2) المصباح المنير مادة: " فور "، والتعريفات ص169، والموسوعة الفقهية ج5 ص66.(14/47)
فِي صِيَغِ الْعُقُودِ وَيَسْتَعْمِلُونَ الْفَوْرَ فِي الأَْحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ كَمَا فِي الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ.
ب - تَعْلِيقٌ:
3 - التَّعْلِيقُ لُغَةً، رَبْطُ أَمْرٍ بِآخَرَ.
وَاصْطِلاَحًا: رَبْطُ حُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِحُصُول مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى.
فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ التَّضَادُّ (1) .
ج - الإِْضَافَةُ:
4 - مِنْ مَعَانِي الإِْضَافَةِ فِي اللُّغَةِ الإِْسْنَادُ، أَوْ نِسْبَتُهُ، وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِسْنَادُ أَمْرٍ إِلَى أَمْرٍ يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَل. فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّنْجِيزِ وَالإِْضَافَةِ التَّضَادُّ (2) .
د - التَّأْجِيل:
5 - التَّأْجِيل لُغَةً: تَحْدِيدُ الأَْجَل، يُقَال: أَجَّلْته تَأْجِيلاً: أَيْ جَعَلْت لَهُ أَجَلاً، وَالأَْجَل: مُدَّةُ الشَّيْءِ وَوَقْتُهُ الَّذِي يَحِل فِيهِ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّنْجِيزِ وَالتَّأْجِيل التَّضَادُّ (3) .
__________
(1) لسان العرب مادة: " علق "، وابن عابدين 4 / 222.
(2) الصحاح، والقاموس المحيط، والمصباح المنير، ولسان العرب مادة: " ضيف "، والموسوعة ج5 ص66.
(3) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " أجل ".(14/47)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
6 - يُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ التَّصَرُّفَاتِ إِلَى قِسْمَيْنِ رَئِيسِيَّيْنِ: قِسْمٍ يَقْبَل التَّعْلِيقَ وَالإِْضَافَةَ.
وَقِسْمٍ لاَ يَقْبَل التَّعْلِيقَ وَالإِْضَافَةَ، فَلاَ يَصِحُّ وُقُوعُهُ إِلاَّ مُنَجَّزًا، فَإِنْ وَقَعَ مُعَلَّقًا أَوْ مُضَافًا بَطَل، وَذَلِكَ كَالإِْيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالدُّخُول فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ لاَ يَقْبَل التَّعْلِيقَ وَالإِْضَافَةَ، فَلاَ يَدْخُل فِي الإِْسْلاَمِ كَافِرٌ قَال إِنْ لَمْ آتِ بِالدَّيْنِ فِي وَقْتِ كَذَا فَأَنَا مُسْلِمٌ أَوْ مُؤْمِنٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي يُعَلَّقُ عَلَيْهَا، فَلاَ يَلْزَمُ إِسْلاَمٌ إِذَا وُجِدَ ذَلِكَ الشَّرْطُ، بَل يَبْقَى عَلَى كُفْرِهِ بِسَبَبِ أَنَّ الدُّخُول فِي الدِّينِ يَعْتَمِدُ الْجَزْمَ بِصِحَّتِهِ وَالْمُعَلِّقُ لَيْسَ جَازِمًا (1) .
أَمَّا الْعُقُودُ فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الأَْصْل فِيهَا أَنْ تَكُونَ مُنَجَّزَةً وَعَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ فِي التَّمْلِيكَاتِ وَالنِّكَاحِ، وَأَجَازُوا التَّعْلِيقَ فِي الطَّلاَقِ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ مَنْ مَلَكَ التَّنْجِيزَ مَلَكَ التَّعْلِيقَ (2) .
وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ تَعْلِيقَ الْبَيْعِ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ كَالشَّافِعِيَّةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ تَعْلِيقَ الْعُقُودِ بِإِطْلاَقٍ كَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ.
__________
(1) الفروق 1 / 228 وما بعدها.
(2) المنثور ج3 ص211، والأشباه والنظائر، للسيوطي ص377، 378، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص368.(14/48)
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ تَعْلِيقَ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَالتَّبَرُّعَاتِ وَالاِلْتِزَامَاتِ وَغَيْرِهَا بِالشُّرُوطِ أَمْرٌ قَدْ تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ أَوِ الْحَاجَةُ أَوِ الْمَصْلَحَةُ فَلاَ يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْمُكَلَّفُ.
وَقَدْ نَصَّ الإِْمَامُ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ النِّكَاحِ بِالشَّرْطِ كَمَا يَتَعَلَّقُ الطَّلاَقُ، وَعَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ الْبَيْعِ وَالإِْبْرَاءِ (1) .
وَتَفْصِيل تَنْجِيزِ هَذِهِ الْعُقُودِ وَعَدَمِهِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مَوَاطِنِهِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ وَالنِّكَاحِ.
__________
(1) أعلام الموقعين لابن القيم ج3 ص399 المطبعة التجارية الكبرى.(14/48)
تَنْجِيسٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنْجِيسُ مَصْدَرُ نَجَّسَ. يُقَال: نَجَّسَ الشَّيْءَ إِذَا أَلْحَقَ بِهِ نَجَاسَةً، أَوْ نَسَبَهُ إِلَيْهَا.
وَإِذَا أُطْلِقَ النَّجَسُ (بِفَتْحَتَيْنِ) فِي الشَّرْعِ فَهُوَ يَعُمُّ بِالإِْضَافَةِ إِلَى النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْخَبَثُ، النَّجَاسَةَ الْحُكْمِيَّةَ الَّتِي هِيَ الْحَدَثُ، فَالنَّجَسُ أَعَمُّ مِنَ النَّجَاسَةِ.
قَال صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: كَمَا يُطْلَقُ (النَّجَسُ) عَلَى الْحَقِيقِيِّ يُطْلَقُ عَلَى الْحُكْمِيِّ، وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: النَّجَاسَةُ إِمَّا حُكْمِيَّةٌ بِأَنْ جَاوَزَتْ مَحَلَّهَا كَالْجَنَابَةِ، وَإِمَّا عَيْنِيَّةٌ لَمْ تُجَاوِزْهُ وَهَذِهِ تُطْلَقُ عَلَى الأَْعْيَانِ النَّجِسَةِ وَعَلَى الْوَصْفِ الْقَائِمِ بِمَحَلِّهَا (1) .
وَصَرَّحَ الْبُهُوتِيُّ: الْحَدَثُ لَيْسَ بِنَجَاسَةٍ، وَالْمُحْدِثُ لَيْسَ نَجِسًا، وَالنَّجَاسَةُ قِسْمَانِ عَيْنِيَّةٌ وَحُكْمِيَّةٌ ".
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " نجس "، ودستور العلماء 3 / 395 باب النون مع الجيم، ومغني المحتاج 1 / 17، 77، والمطلع على أبواب المقنع ص7، وفتح القدير 1 / 132، والقليوبي 1 / 68.(14/49)
وَالْحُكْمِيَّةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ النَّجَاسَةُ الطَّارِئَةُ عَلَى مَحَلٍّ طَاهِرٍ وَيُقَابِلُهَا النَّجَاسَةُ الْعَيْنِيَّةُ وَهِيَ الذَّوَاتُ النَّجِسَةُ كَالْبَوْل. . وَالنَّجَاسَةُ الْعَيْنِيَّةُ لاَ تَطْهُرُ بِغَسْلِهَا بِحَالٍ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّقْذِيرُ:
2 - الْقَذَرُ لُغَةً: ضِدُّ النَّظَافَةِ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
فَالْقَذَرُ عِنْدَهُمْ أَعَمُّ مِنَ النَّجَسِ، فَكُل نَجَسٍ قَذَرٌ وَلاَ عَكْسَ
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَأَكْمَل الْغُسْل إِزَالَةُ الْقَذَرِ طَاهِرًا كَانَ كَالْمَنِيِّ أَوْ نَجَسًا كَالْوَدْيِ
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: الاِسْتِقْذَارُ عِلَّةٌ تَقْتَضِي النَّجَاسَةَ مَا لَمْ يُعَارِضْهَا مُعَارِضٌ، كَمَشَقَّةِ التَّكْرَارِ فِي نَحْوِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ (2) .
ب - التَّطْهِيرُ:
3 - التَّطْهِيرُ مَصْدَرُ طَهَّرَ، وَالطُّهْرُ وَالطَّهَارَةُ لُغَةً: نَقِيضُ النَّجَاسَةِ، وَالطَّهَارَةُ النَّزَاهَةُ وَالنَّظَافَةُ عَنِ الأَْقْذَارِ. وَالتَّطْهِيرُ شَرْعًا: رَفْعُ مَا يَمْنَعُ الصَّلاَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَجَاسَةٍ بِالْمَاءِ، أَوْ رَفْعُ حُكْمِهِ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 181.
(2) لسان العرب ومختار الصحاح مادة: " قذر "، وحاشية الدسوقي 1 / 56، ومغني المحتاج 1 / 73.(14/49)
بِالتُّرَابِ ". وَالطَّهَارَةُ نَوْعَانِ: طَهَارَةٌ كُبْرَى، وَهِيَ الْغُسْل أَوْ نَائِبُهُ وَهُوَ التَّيَمُّمُ عَنِ الْجَنَابَةِ، وَطَهَارَةٌ صُغْرَى، وَهُوَ الْوُضُوءُ أَوْ نَائِبُهُ وَهُوَ التَّيَمُّمُ عَنِ الْحَدَثِ.
فَالتَّطْهِيرُ ضِدُّ التَّنْجِيسِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَكْل الْمُتَنَجِّسِ أَوِ اسْتِعْمَالَهُ حَرَامٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلاَ يَحِل إِلاَّ بِتَطَهُّرِهِ أَوْ تَطْهِيرِهِ (2) . وَكَيْفِيَّةُ تَطْهِيرِ الْمُتَنَجِّسِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْمُنَجِّسِ.
فَإِنْ كَانَ الْمُنَجِّسُ كَلْبًا فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَطْهُرُ الْمُتَنَجِّسُ إِلاَّ بِغَسْلِهِ سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ. وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ التُّرَابَ فِي التَّطْهِيرِ مِنْ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ فَلاَ يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى قِيَامِ الأُْشْنَانِ وَالصَّابُونِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُنَظِّفَاتِ مَقَامَ التُّرَابِ وَلَوْ مَعَ وُجُودِهِ وَعَدَمِ تَضَرُّرِ الْمَحَل بِهِ.
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " طهر "، ودستور العلماء 2 / 284، باب الطاء مع الهاء، والتعريفات ص142 باب الطاء، والمطلع على أبواب المقنع ص5.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 205، 212 وما بعدها، وبدائع الصنائع 1 / 60 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 1 / 33، 48 وما بعدها، ومغني المحتاج 1 / 17، 77 وما بعدها، وكشاف القناع 1 / 24، 25، 181 وما بعدها، والمبدع 1 / 235 وما بعدها، والفروع 1 / 235 وما بعدها.(14/50)
وَقَدْ أَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْخِنْزِيرَ بِالْكَلْبِ فِي وُجُوبِ غَسْل الْمُتَنَجِّسِ بِهِ سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ.
وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ الْغَسْل سَبْعًا بِمَا إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ فَقَطْ، وَلاَ يُشْتَرَطُ التَّتْرِيبُ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا إِذَا أَدْخَل الْكَلْبُ رِجْلَهُ أَوْ لِسَانَهُ بِلاَ تَحْرِيكٍ فِي الإِْنَاءِ، أَوْ كَانَ الإِْنَاءُ فَارِغًا وَلَعِقَهُ الْكَلْبُ فَلاَ يُسْتَحَبُّ غَسْلُهُ عِنْدَهُمْ، وَالْحُكْمُ بِالْغَسْل سَبْعًا تَعَبُّدِيٌّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَذَلِكَ لأَِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِطَهَارَةِ الْكَلْبِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُتَنَجِّسَ بِرِيقِ الْكَلْبِ كَالْمُتَنَجِّسِ بِغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ الْكَلْبَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِنَجَسِ الْعَيْنِ بَل نَجَاسَتُهُ بِنَجَاسَةِ لَحْمِهِ وَدَمِهِ، وَأَمَّا شَعْرُهُ فَطَاهِرٌ.
وَإِنْ كَانَ الْمُنَجِّسُ بَوْل صَبِيٍّ لَمْ يَطْعَمْ غَيْرَ لَبَنِ الآْدَمِيَّةِ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِالنَّضْحِ، وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ بَوْل الصَّبِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ.
5 - وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُنَجِّسُ غَيْرَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ الْمُغَلَّظَةِ نَجَاسَتُهَا وَبَوْل الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَطْعَمْ غَيْرَ اللَّبَنِ نُظِرَ، فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةً عَلَى الْمُتَنَجِّسِ فَلاَ يَطْهُرُ الْمَحَل إِلاَّ بِغَسْلِهَا وَزَوَال عَيْنِهَا، وَيَجِبُ كَذَلِكَ أَنْ يَزُول الأَْثَرُ، إِنْ كَانَ مِمَّا يَزُول أَثَرُهُ، فَإِنْ عَسِرَ لَمْ يُشْتَرَطْ زَوَالُهُ غَيْرَ الطَّعْمِ فَيَجِبُ إِزَالَتُهُ سَوَاءٌ عَسِرَ زَوَالُهُ أَمْ لاَ، وَأَمَّا اللَّوْنُ وَالرِّيحُ فَلاَ يُشْتَرَطُ زَوَالُهُمَا إِنْ عَسِرَا، سَوَاءٌ بَقِيَ(14/50)
أَحَدُهُمَا أَوْ بَقِيَا مَعًا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ: إِلَى عَدَمِ طَهَارَةِ الْمُتَنَجِّسِ إِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ وَالرِّيحُ مَعًا لِقُوَّةِ دَلاَلَتِهِمَا عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ.
6 - وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ عَلَى الْمُتَنَجِّسِ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ طَهَارَتِهَا إِلاَّ بِالْغَسْل وَلَوْ دُونَ الثَّلاَثِ وَهُوَ مُفَوَّضٌ إِلَى غَالِبِ رَأْيِهِ وَأَكْبَرِ ظَنِّهِ بِأَنَّهَا طَهُرَتْ وَلَيْسَتِ الْغَسَلاَتُ الثَّلاَثُ بِلاَزِمَةٍ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذْ مَيَّزَ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ مِنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ غَسَلَهُ وَحْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يُمَيِّزْ غَسَل الْجَمِيعَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي فِي التَّطْهِيرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ جَرْيُ الْمَاءِ عَلَى مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَابِلَةُ فِي أَصْل الْمَذْهَبِ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْمَرْئِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَقَالُوا: بِوُجُوبِ الْغَسْل سَبْعًا، وَإِنْ لَمْ يُنَقَّ الْمَحَل الْمُتَنَجِّسُ بِالسَّبْعِ زَادَ حَتَّى يُنَقَّى الْمَحَل، لَكِنْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَاخْتَارَهُ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ لاَ يَجِبُ فِي الْغَسْل عَدَدٌ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ فِي غَيْرِ الْكَلْبِ لاَ فِي قَوْلِهِ وَلاَ فِي فِعْلِهِ وَالْعِبْرَةُ بِالإِْنْقَاءِ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ إِنَّ مَنِيَّ الآْدَمِيِّ طَاهِرٌ، وَيَجِبُ غَسْلُهُ رَطْبًا وَفَرْكُهُ يَابِسًا، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ نَجَسٌ وَلَكِنْ يَطْهُرُ بِالْحَكِّ وَالْفَرْكِ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ وَكَانَ جَافًّا، أَمَّا إِنْ كَانَ رَطْبًا فَلاَ بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ.
7 - ثُمَّ هُنَاكَ مِنَ الْمُتَنَجِّسَاتِ مَا لاَ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ(14/51)
كَالزَّيْتِ وَالدُّهْنِ الْمَائِعِ وَاللَّبَنِ وَالْعَسَل وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَوَائِعِ غَيْرِ الْمَاءِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهَا نَجَاسَةٌ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُصَبّ فِيهِ مَاءٌ بِقَدْرِهِ حَتَّى يَعُودَ إِلَى مَكَانِهِ، وَالدُّهْنُ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَيَغْلِي فَيَعْلُو الدُّهْنُ الْمَاءَ فَيُرْفَعُ بِشَيْءٍ، يَفْعَل هَكَذَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. أَمَّا إِنْ كَانَ الدُّهْنُ جَامِدًا وَوَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَإِنَّهُ يُقَوِّرُ مَكَانَ النَّجَاسَةِ وَمَا حَوْلَهَا، وَقَدْ تَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُطَهِّرَاتِ كَثِيرًا حَتَّى أَوْصَلُوهَا إِلَى نَيِّفٍ وَثَلاَثِينَ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (نَجَاسَةٌ)
__________
(1)) حاشية ابن عابدين 1 / 205 وما بعدها، وبدائع الصنائع 1 / 84 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 1 / 59، 80 وما بعدها، والقوانين الفقهية 39 وما بعدها، ومغني المحتاج 1 / 83 وما بعدها، وكشاف القناع 1 / 181 وما بعدها 188. / 50(14/51)
تَنْجِيمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنْجِيمُ مَصْدَرُ نَجَّمَ يُقَال: نَجَّمْتُ الْمَال عَلَيْهِ إِذَا وَزَّعْته، كَأَنَّك فَرَضْتَ أَنْ يَدْفَعَ عِنْدَ طُلُوعِ كُل نَجْمٍ نَصِيبًا، ثُمَّ صَارَ مُتَعَارَفًا فِي تَقْدِيرِ دَفْعِهِ، بِأَيِّ شَيْءٍ قَدَّرْتَ ذَلِكَ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُؤَقِّتُ بِطُلُوعِ النُّجُومِ؛ لأَِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحِسَابَ. وَإِنَّمَا يَحْفَظُونَ أَوْقَاتَ السَّنَةِ بِالأَْنْوَاءِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْوَقْتَ الَّذِي يَحِل فِيهِ الأَْدَاءُ نَجْمًا لِوُقُوعِهِ فِي الأَْصْل فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَطْلُعُ فِيهِ النَّجْمُ، وَاشْتَقُّوا مِنْهُ فَقَالُوا: نَجَّمْت الدَّيْنَ بِالتَّثْقِيل إِذَا جَعَلْته نُجُومًا (1) .
وَيُطْلَقُ التَّنْجِيمُ أَيْضًا عَلَى النَّظَرِ فِي النُّجُومِ.
وَاصْطِلاَحًا هُوَ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ الاِسْتِدْلاَل بِالتَّشَكُّلاَتِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى الْحَوَادِثِ السُّفْلِيَّةِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي.
__________
(1) المفردات، والمغرب، والمصباح المنير، ولسان العرب مادة: " نجم ".
(2) ابن عابدين 3 / 30.(14/52)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - السِّحْرُ:
2 - السِّحْرُ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الأَْخْذَةُ، وَكُل مَا لَطُفَ وَدَقَّ فَهُوَ سِحْرٌ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ عِلْمٌ يُسْتَفَادُ بِهِ حُصُول مَلَكَةٍ نَفْسَانِيَّةٍ يُقْتَدَرُ بِهَا عَلَى أَفْعَالٍ غَرِيبَةٍ.
ب - الْكَهَانَةُ:
3 - الْكَهَانَةُ وَهِيَ تَعَاطِي الْخَبَرِ عَنِ الْكَائِنَاتِ فِي الْمُسْتَقْبَل وَادِّعَاءُ مَعْرِفَةِ الأَْسْرَارِ.
ج - الشَّعْوَذَةُ:
4 - الشَّعْوَذَةُ وَهِيَ خِفَّةٌ فِي الْيَدِ كَالسِّحْرِ (2) .
د - الرَّمَل:
5 - الرَّمَل وَهُوَ مَعْرِفَةُ أَشْكَالٍ مِنَ الْخُطُوطِ، وَالنُّقَطِ بِقَوَاعِدَ مَعْلُومَةٍ تَخْرُجُ حُرُوفًا تُجْمَعُ وَيُسْتَخْرَجُ جُمْلَةٌ دَالَّةٌ بِادِّعَاءِ أَصْحَابِهِ عَلَى عَوَاقِبِ الأُْمُورِ (3) .
هـ - الْعَرَافَةُ:
6 - الْعَرَافَةُ هِيَ ادِّعَاءُ مَعْرِفَةِ الأُْمُورِ بِمُقَدِّمَاتٍ يُسْتَدَل بِهَا عَلَى مَوَاقِعِهَا فِي كَلاَمِ مَنْ يَسْأَلُهُ أَوْ
__________
(1) مختار الصحاح.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 30 - 31.
(3) المصدر السابق.(14/52)
حَالِهِ، أَوْ فِعْلِهِ، وَكُلُّهَا حَرَامٌ، تَعَلُّمُهَا، وَفِعْلُهَا وَأَخْذُ الأُْجْرَةِ بِهَا، بِالنَّصِّ فِي حُلْوَانِ الْكَاهِنِ (1) .
وَخَبَرِ مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُول فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِل عَلَى مُحَمَّدٍ (2) وَالْبَاقِي بِمَعْنَاهُ لأَِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي كُل مَنْ يَتَعَاطَى عِلْمًا دَقِيقًا كَاهِنًا (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
أَوَّلاً: التَّنْجِيمُ بِمَعْنَى النَّظَرِ فِي سَيْرِ النُّجُومِ:
7 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ عِلْمَ النُّجُومِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الأَْوَّل: حِسَابِيٌّ: وَهُوَ تَحْدِيدُ أَوَائِل الشُّهُورِ بِحِسَابِ سَيْرِ النُّجُومِ.
وَيُسَمَّى مَنْ يُمَارِسُ ذَلِكَ الْمُنَجِّمَ بِالْحِسَابِ. وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ مُمَارَسَةِ التَّنْجِيمِ
بِهَذَا الْمَعْنَى، وَتَعَلُّمِ مَا يُعْرَفُ بِمَوَاقِيتِ الصَّلاَةِ وَالْقِبْلَةِ، بَل ذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ (4) . وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ
__________
(1) النص في حلوان الكاهن. هو حديث أبي مسعود البدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن. أخرجه البخاري (الفتح 10 / 216 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1198 ط الحلبي) .
(2) حديث: " من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ". أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة وصححه العراقي كما في فيض القدير (6 / 23ط المكتبة التجارية) .
(3) ابن عابدين 1 / 31، وفتح الباري 10 / 216 217، وروض الطالب 4 / 82.
(4) الزواجر 2 / 90 - 91، ومواهب الجليل 2 / 387.(14/53)
ابْنِ عَابِدِينَ (1) : وَالْحِسَابِيُّ حَقٌّ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ فِي قَوْل الْحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (2) } .
وَأَجَازَ الْفُقَهَاءُ الاِعْتِمَادَ عَلَيْهِ فِي دُخُول أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ وَتَحْدِيدِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ (3)
وَقَالُوا: إِنَّ حِسَابَ الأَْهِلَّةِ، وَالْخُسُوفِ وَالْكُسُوفِ قَطْعِيٌّ، فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَجْرَى حَرَكَاتِ الأَْفْلاَكِ وَانْتِقَالاَتِ الْكَوَاكِبِ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ دَائِمٍ، وَكَذَلِكَ الْفُصُول الأَْرْبَعَةُ. وَالْعَوَائِدُ إِذَا اسْتَمَرَّتْ أَفَادَتِ الْقَطْعَ، فَيَنْبَغِي الاِعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا، وَفِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ.
وَفَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الأَْكْثَرُونَ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ حِسَابِ الْمُنَجِّمِينَ فِي ثُبُوتِ هِلاَل رَمَضَانَ بِأَنَّ الشَّارِعَ نَصَبَ زَوَال الشَّمْسِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الظُّهْرِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْل (4) } وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الأَْوْقَاتِ، فَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ حُكْمُهُ. أَمَّا ثُبُوتُ هِلاَل رَمَضَانَ فَقَدْ عَلَّقَ الشَّارِعُ وُجُوبَهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل، فَلَمْ يُجِزِ الاِعْتِمَادُ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْفَلَكِيَّةِ،
__________
(1) ابن عابدين 1 / 30.
(2) سورة الرحمن / 5.
(3) مواهب الجليل 2 / 387، وابن عابدين 1 / 288 - 289، والمغني 1 / 441، وروض الطالب 1 / 138.
(4) سورة الإسراء / 78.(14/53)
وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي نَفْسِهَا.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ إِثْبَاتِ دُخُول رَمَضَانَ وَخُرُوجِهِ بِالْحِسَابِ (1) .
الثَّانِي: اسْتِدْلاَلِيٌّ:
وَقَدْ عَرَّفَ ابْنُ عَابِدِينَ هَذَا الْقِسْمَ بِأَنَّهُ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ الاِسْتِدْلاَل بِالتَّشَكُّلاَتِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى الْحَوَادِثِ السُّفْلِيَّةِ. وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إِذَا ادَّعَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْهُ، أَوْ أَنَّ لَهَا تَأْثِيرًا عَلَى الْحَوَادِثِ بِذَاتِهَا؛ لِخَبَرِ: مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ (2) وَخَبَرِ: مَنْ صَدَّقَ كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا، أَوْ مُنَجِّمًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِل عَلَى مُحَمَّدٍ (3) .
أَمَّا إِذَا أَسْنَدَ الْحَوَادِثَ لِعَادَةٍ أَجْرَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْوَقْتِ الْفُلاَنِيِّ فَلاَ يَأْثَمُ بِذَلِكَ لِخَبَرِ: {إِذَا أَنْشَأَتْ بَحْرِيَّةً ثُمَّ تَشَاءَمَتْ فَتِلْكَ غُدِيقَةٌ (4) أَيْ: كَثِيرَةُ الْمَطَرِ. وَهِيَ كَاسْتِدْلاَل
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) حديث: " من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد " أخرجه أبو داود (3 / 226 - 227 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث ابن عباس. وصححه النووي في رياض الصالحين (629 ط الرسالة) .
(3) من صدق كاهنا أو عرافا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد. سبق تخريجه بهذا المعنى ف / 6.
(4) حديث " إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك غديقة " أورده مالك في الموطأ (1 / 192 ط الحلبي) بلاغا وقال ابن عبد البر: هذا الحديث لا أعرفه بوجه من الوجوه في غير الموطأ، إلا ما ذكره الشافعي الأم.(14/54)
الطَّبِيبِ بِالنَّبْضِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ (1) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّمَا زُجِرَ عَنْ ذَلِكَ لأَِسْبَابٍ ثَلاَثَةٍ:
أ - أَنَّهُ مُضِرٌّ بِأَكْثَرِ الْخَلْقِ فَإِنَّهُ إِذَا أُلْقِيَ إِلَيْهِمْ أَنَّ هَذِهِ الآْثَارَ تَحْدُثُ عَقِيبَ سَيْرِ الْكَوَاكِبِ وَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ أَنَّهَا الْمُؤَثِّرَةُ.
ب - أَنَّ أَحْكَامَ النُّجُومِ تَخْمِينٌ مَحْضٌ. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَقَدْ كَانَتْ مُعْجِزَةً لإِِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا يُحْكَى وَقَدِ انْدَرَسَ.
ج - أَنَّهُ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ، فَإِنَّ مَا قُدِّرَ كَائِنٌ، وَالاِحْتِرَازُ عَنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ (2) .
ثَانِيًا: التَّنْجِيمُ بِمَعْنَى: تَوْزِيعِ الدَّيْنِ
تَنْجِيمُ دِيَةِ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ مُنَجَّمَةٌ عَلَى ثَلاَثِ سِنِينَ تَخْفِيفًا عَلَى الْعَاقِلَةِ (3) وَكَذَلِكَ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ (ر: دِيَةٌ) .
تَنْجِيمُ بَدَل الْكِتَابَةِ:
9 - تَصِحُّ الْكِتَابَةُ عَلَى مُؤَجَّلٍ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَوَازِ عَلَى بَدَلٍ حَالٍّ فَذَهَبَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 30، والزواجر 2 / 91، وجواهر الإكليل 1 / 145.
(2) حاشية ابن عابدين 1 / 30 - 31.
(3) المغني 7 / 766، وروض الطالب 4 / 86، والزرقاني 8 / 47 - 48.(14/54)
الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ مُؤَجَّلَةً مُنَجَّمَةً بِنَجْمَيْنِ فَأَكْثَر، فَقَالُوا: إِنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْبَدَل عِنْدَ الْعَقْدِ لأَِنَّهُ مُعْسِرٌ لاَ مَال لَهُ، وَالْعَجْزُ عَنِ التَّسْلِيمِ يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ بِدَلِيل أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَى الْعَقْدِ يَرْفَعُهُ، فَإِذَا قَارَنَهُ يَمْنَعُهُ فِي الاِنْعِقَادِ بِطَرِيقِ الأَْوْلَى.
وَمَأْخَذُ الاِسْمِ يَدُل عَلَى مَا قُلْنَا، فَإِنَّ الْكِتَابَةَ يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي الْمُؤَجَّل، وَأَيْضًا الْكِتَابَةُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ، وَمِنْ تَتِمَّةِ الإِْرْفَاقِ التَّنْجِيمُ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالَّةً، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَقَالُوا: إِنَّ الآْيَةَ قَدْ أَطْلَقَتْ: وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا (2) }
؛ وَلأَِنَّ بَدَل الْكِتَابَةِ دَيْنٌ يَجُوزُ الاِسْتِبْدَال بِهِ قَبْل الْقَبْضِ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْجِيل كَسَائِرِ الدُّيُونِ (3) (ر: كِتَابَةٌ) .
__________
(1) روض الطالب 4 / 473، والمغني 9 / 417.
(2) سورة النور / 33.
(3) بدائع الصنائع 4 / 140، والزرقاني 8 / 149.(14/55)
تَنْزِيهٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنْزِيهُ عَنِ الْمَكْرُوهِ: التَّبْعِيدُ عَنْهُ.
وَتَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى: تَبْعِيدُهُ عَمَّا لاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ النَّقَائِصِ،
وَأَصْل النَّزْهِ: الْبُعْدُ.
وَالتَّنَزُّهُ: التَّبَاعُدُ وَمِنْهُ فُلاَنٌ يَتَنَزَّهُ عَنِ الأَْقْذَارِ: أَيْ يُبَاعِدُ نَفْسَهُ عَنْهَا.
قَال صَاحِبُ الْقَامُوسِ: وَأَرْضٌ نَزْهَةٌ وَنَزِهَةٌ وَنَزِيهَةٌ: بَعِيدَةٌ عَنِ الرِّيفِ وَغَمَقِ الْمِيَاهِ وَذِبَّانِ الْقُرَى وَوَمَدِ الْبِحَارِ وَفَسَادِ الْهَوَاءِ.
وَمِثْل التَّنْزِيهِ التَّقْدِيسُ وَالتَّكْرِيمُ وَمِنْهُ اسْمُهُ تَعَالَى (الْقُدُّوسُ) وَمِنْهُ (الأَْرْضُ الْمُقَدَّسَةُ (1)) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِلْكَلِمَةِ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ (2) .
__________
(1) لسان العرب والنهاية لابن الأثير والقاموس المحيط، والمصباح المنير مادة: " نزه ".
(2) التعريفات للجرجاني.(14/55)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
1 - تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى:
2 - أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ وَتَوَاتَرَتِ الأَْدِلَّةُ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الشَّرِيكِ، وَعَنِ الْوَلَدِ، وَالْوَالِدِ، وَالزَّوْجِ، وَعَلَى أَنَّ كُل مَنْ أَشْرَكَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَهُوَ كَافِرٌ (1) . قَال تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (2) } . وَقَال تَعَالَى: {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (3) } .
وَقَال تَعَالَى {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا (4) } .
3 - كَمَا اتَّفَقَ أَهْل الْمِلَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، لاَ فِي ذَاتِهِ، وَلاَ فِي صِفَاتِهِ، وَلاَ فِي أَفْعَالِهِ، مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَال، مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (5) } قَال أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ أَنْ يَنْطِقَ فِي ذَاتِ اللَّهِ بِشَيْءٍ، بَل يَصِفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ
__________
(1) التمهيد للباقلاني ص25، شرح الطحاوية ص49، أصول الدين للبزدوي ص18 - عيسى البابي، وكشاف القناع 6 / 168 - النصر، والشفا 2 / 1065 1067 - دار الكتاب العربي، والشرح الصغير 4 / 431 - دار المعارف.
(2) سورة المؤمنون / 117.
(3) سورة الإخلاص / 1 - 4.
(4) سورة الجن / 3.
(5) سورة الشورى / 11.(14/56)
نَفْسَهُ، وَاعْتِقَادُ اتِّصَافِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَل - بِالنَّقْصِ صَرِيحًا كُفْرٌ، وَأَمَّا اعْتِقَادُ أَمْرٍ يَلْزَمُ مِنْهُ النَّقْصُ أَوْ يُفْهَمُ بِطَرِيقِ الاِجْتِهَادِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ؛ لأَِنَّ لاَزِمَ الْقَوْل لَيْسَ بِقَوْلٍ.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ قَالُوا: هُمْ فُسَّاقٌ عُصَاةٌ ضُلاَّلٌ (1) .
4 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا سَبَّ اللَّهَ يُقْتَل، لأَِنَّهُ بِذَلِكَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ، وَأَسْوَأُ مِنَ الْكَافِرِ، فَإِنَّ الْكَافِرَ يُعَظِّمُ الرَّبَّ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْبَاطِل لَيْسَ بِاسْتِهْزَاءٍ بِاَللَّهِ وَلاَ مَسَبَّةٍ لَهُ.
وَاخْتُلِفَ فِي قَبُول تَوْبَتِهِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى قَبُولِهَا.
وَكَذَا مَنْ سَخِرَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِأَمْرِهِ، أَوْ بِوَعْدِهِ، أَوْ وَعِيدِهِ كَفَرَ (2) .
وَأَمَّا الذِّمِّيُّ، فَقَدْ قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ الْمُتَقَدِّمِينَ (أَيْ مِنْ أَصْحَابِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ) وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ إِقْرَارُ نُصُوصِ أَحْمَدَ عَلَى حَالِهَا وَهُوَ قَدْ نَصَّ فِي مَسَائِل سَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى انْتِقَاضِ الْعَهْدِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ،
__________
(1) أصول الدين للبزدوي ص21، وشرح الطحاوية ص39، 62، 247، والشفا 2 / 1051، 1054، 1056، والزواجر 268.
(2) الصارم المسلول ص546 مكتبة تاج، والشفا 2 / 1047، وكشاف القناع 6 / 168، والخرشي 8 / 74، والروضة 10 / 66 - المكتب الإسلامي، وابن عابدين 4 / 284، وإحياء التراث، الأعلام للهيتمي ص67.(14/56)
وَعَلَى أَنَّهُ يُقْتَل (1) وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (سَبٌّ) .
2 - تَنْزِيهُ الأَْنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
أ - عَنِ الْخَطَأِ أَوِ الْكَذِبِ فِي الرِّسَالَةِ:
5 - أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَنَّ الرُّسُل وَالأَْنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ - وَلَوْ قَلَّتْ - وَالْعِصْمَةُ لَهُمْ وَاجِبَةٌ.
وَأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ وَلاَ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ أَلاَّ يُبَلِّغُوا مَا أُنْزِل إِلَيْهِمْ، أَوْ يُخْبِرُوا عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ بِخِلاَفِ مَا هُوَ بِهِ، لاَ قَصْدًا وَعَمْدًا، وَلاَ سَهْوًا، وَغَلَطًا فِيمَا يُبَلِّغُ.
أَمَّا تَعَمُّدُ الْخُلْفِ فِي ذَلِكَ فَمُنْتَفٍ، بِدَلِيل الْمُعْجِزَةِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ قَوْل اللَّهِ فِيمَا قَال - اتِّفَاقًا - وَبِإِطْبَاقِ أَهْل الْمِلَّةِ - إِجْمَاعًا - وَكَذَا لاَ يَجُوزُ وُقُوعُهُ عَلَى جِهَةِ الْغَلَطِ - إِجْمَاعًا -
وَالنَّبِيُّ مَعْصُومٌ عَنِ الْكَذِبِ فِي أَقْوَالِهِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا؛ لأَِنَّ الْكَذِبَ مَتَى عُرِفَ مِنْ أَحَدٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الأَْخْبَارِ - عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ - اُسْتُرِيبَ بِخَبَرِهِ وَاتُّهِمَ فِي حَدِيثِهِ، وَلَمْ يَقَعْ قَوْلُهُ فِي النُّفُوسِ مَوْقِعًا (2) .
ب - تَنْزِيهُ الأَْنْبِيَاءِ عَنِ السَّبِّ وَالاِسْتِهْزَاءِ:
6 - كُل مَنْ سَبَّ نَبِيًّا مِنَ الأَْنْبِيَاءِ، أَوْ عَابَهُ، أَوْ
__________
(1) أحكام أهل الذمة لابن القيم 2 / 800.
(2) الشفا 2 / 717، 745، 768، وعصمة الأنبياء للرازي ص2 - المنيرية، لوامع الأنوار 2 / 306، وشرح السنوسية الكبرى ص371 دار القلم، المسامرة ص234 - السعادة.(14/57)
أَلْحَقَ بِهِ نَقْصًا فِي نَفْسِهِ، أَوْ نَسَبِهِ أَوْ دِينِهِ، أَوْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِهِ، أَوْ عَرَّضَ بِهِ، أَوْ شَبَّهَهُ بِشَيْءٍ عَلَى طَرِيقِ السَّبِّ لَهُ، أَوِ الإِْزْرَاءِ بِهِ، أَوِ التَّصْغِيرِ لِشَأْنِهِ، أَوِ الْغَضِّ مِنْهُ، أَوِ الْعَيْبِ لَهُ، فَهُوَ كَافِرٌ.
وَكَذَلِكَ مَنْ لَعَنَهُ، أَوْ دَعَا عَلَيْهِ، أَوْ تَمَنَّى مَضَرَّةً لَهُ، أَوْ نَسَبَ إِلَيْهِ مَا لاَ يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ، أَوْ عَبِثَ فِي جِهَتِهِ الْعَزِيزَةِ بِسُخْفٍ مِنَ الْكَلاَمِ وَهَجْرٍ، وَمُنْكَرٍ مِنَ الْقَوْل وَزُورٍ، أَوْ عَيَّرَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا جَرَى مِنَ الْبَلاَءِ وَالْمِحْنَةِ عَلَيْهِ، أَوْ غَمَصَهُ بِبَعْضِ الْعَوَارِضِ الْبَشَرِيَّةِ الْجَائِزَةِ وَالْمَعْهُودَةِ لَدَيْهِ.
قَال إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ اللَّهَ، أَوْ رَسُولاً مِنْ رُسُلِهِ، أَوْ دَفَعَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَل اللَّهُ - عَزَّ وَجَل - أَوْ قَتَل نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَل - أَنَّهُ كَافِرٌ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِكُل مَا أَنْزَل اللَّهُ.
وَالسَّابُّ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَيُقْتَل بِغَيْرِ خِلاَفٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَإِنَّهُ يُقْتَل عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ يُقْتَل، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ عَلَى إِظْهَارِ ذَلِكَ (1) . وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (سَبٌّ) .
__________
(1) الشفا 2 / 926 933، 1032، 1097، والصارم المسلول ص4 - 10، 561، 565، والزواجر 1 / 26، والأعلام ص43.(14/57)
تَنْزِيهُ الْمَلاَئِكَةِ:
7 - أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمَلاَئِكَةَ مُؤْمِنُونَ مُكَرَّمُونَ، وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ حُكْمُ النَّبِيِّينَ فِي الْعِصْمَةِ وَالتَّبْلِيغِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ، وَالصَّوَابُ عِصْمَةُ جَمِيعِهِمْ، وَتَنْزِيهُ مَقَامِهِمِ الرَّفِيعِ عَنْ جَمِيعِ مَا يَحُطُّ مِنْ رُتْبَتِهِمْ وَمَنْزِلَتِهِمْ عَنْ جَلِيل مِقْدَارِهِمْ (1) .
وَأَدِلَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (2) } ، وَقَوْلُهُ {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (3) } ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل {وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْل وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتَرُونَ (4) }
قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: مَنْ سَبَّ أَحَدًا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمْ أَوْ جُمْلَتِهِمْ يُقْتَل (5) .
تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:
أ - تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيل:
8 - الْقُرْآنُ مَحْفُوظٌ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيل بِاتِّفَاقِ
__________
(1) عصمة الأنبياء ص10، والشفا 2 / 851، وشرح الطحاوية ص236.
(2) سورة التحريم / 6.
(3) سورة النحل / 50.
(4) سورة الأنبياء / 19 - 20.
(5) الشفا 2 / 1098.(14/58)
الْمُسْلِمِينَ، قَال تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (1) } ، وَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِل مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (2) } وَقَال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا (3) } .
فَمَنْ جَحَدَ حَرْفًا مِنَ الْقُرْآنِ آيَةً، أَوْ كَذَّبَ بِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ، أَوْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ مِمَّا صَرَّحَ بِهِ فِيهِ مِنْ حُكْمٍ أَوْ خَبَرٍ، أَوْ أَثْبَت مَا نَفَاهُ، أَوْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِذَلِكَ، أَوْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ (4) .
ب - تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ عَنِ الاِمْتِهَانِ:
9 - مَنِ اسْتَخَفَّ بِالْقُرْآنِ أَوِ الْمُصْحَفِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ، أَوْ سَبَّ شَيْئًا مِنْهُ، أَوْ أَلْقَاهُ فِي الْقَاذُورَاتِ، أَوْ أَلْقَى وَرَقَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ لَطَّخَ الْمُصْحَفَ بِنَجَسٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَلاَ قَرِينَةَ تَدُل عَلَى عَدَمِ الاِسْتِهْزَاءِ - وَإِنْ ضَعُفَتْ - فَهُوَ كَافِرٌ، بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
__________
(1) سورة الحجر / 9.
(2) سورة فصلت / 42.
(3) سورة النساء / 82.
(4) القرطبي 10 / 5 دار الكتب، الرازي 19 / 160 المطبعة البهية، الشيخ زاده علي البيضاوي 3 / 147 - المكتبة الإسلامية، وروح المعاني 14 / 16 - المنيرية، ومعترك الأقران 1 / 27 - دار الفكر العربي، الشفا 2 / 1101.(14/58)
وَلاَ تَجُوزُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِشَيْءٍ نَجِسٍ،
كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ وَحَمْلُهُ (1) .
ج - تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ:
10 - تَحْرُمُ الْمُسَافَرَةُ بِالْمُصْحَفِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ إذَا خِيفَ وُقُوعُهُ فِي أَيْدِيهِمْ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ (2) .
وَيَحْرُمُ بَيْعُ الْمُصْحَفِ مِنَ الْكَافِرِ (3) .
تَنْزِيهُ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ:
11 - يَجِبُ تَنْزِيهُ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ عَنِ الاِمْتِهَانِ.
فَمَنْ أَلْقَى وَرَقَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنْ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى، أَوِ اسْمُ نَبِيٍّ، أَوْ مَلَكٍ، فِي نَجَاسَةٍ، أَوْ لَطَّخَ ذَلِكَ بِنَجَسٍ - وَلَوْ مَعْفُوًّا عَنْهُ - حُكِمَ بِكُفْرِهِ، إذَا قَامَتِ الدَّلاَلَةُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الإِْهَانَةَ لِلشَّرْعِ (4) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 116، 3 / 284، وجواهر الإكليل 1 / 21، الشفا 2 / 1101، والزواجر 1 / 26، والأعلام 38، التبيان ص112 - 113 دار الفكر، والفروع 1 / 188، 193.
(2) حديث: " نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 133 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1490 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(3) التبيان 113، والفروع 1 / 196، وجواهر الإكليل 1 / 254، 2 / 3، ابن عابدين 3 / 223.
(4) الزواجر 1 / 26، والأعلام 38، والقليوبي 4 / 176.(14/59)
وَرَأَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وُجُوبَ صِيَانَةِ كُتُبِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ عَنِ الْوُقُوعِ بِأَيْدِي الْكُفَّارِ - سَوَاءٌ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ - خَوْفًا عَلَيْهَا مِنَ الاِمْتِهَانِ. وَالْمَسْأَلَةُ خِلاَفِيَّةٌ (1) وَيُرْجَعُ إلَيْهَا فِي أَبْوَابِ الْجِهَادِ وَالْبَيْعِ.
تَنْزِيهُ الصَّحَابَةِ:
12 - قَال السُّيُوطِيّ: الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ، مَنْ لاَبَسَ الْفِتَنَ وَغَيْرَهُمْ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ " قَال تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا (2) } أَيْ عُدُولاً، وَقَال تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (3) } وَالْخِطَابُ فِيهَا لِلْمَوْجُودِينَ حِينَئِذٍ، وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي (4) .
قَال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالسَّبَبُ فِي عَدَمِ الْفَحْصِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ: أَنَّهُمْ حَمَلَةُ الشَّرِيعَةِ، فَلَوْ ثَبَتَ تَوَقُّفٌ فِي رِوَايَتِهِمْ لاَنْحَصَرَتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى عَصْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلمَا اسْتَرْسَلَتْ عَلَى سَائِرِ الأَْعْصَارِ، وَقِيل: يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ مُطْلَقًا، وَقِيل: بَعْدَ وُقُوعِ الْفِتَنِ.
وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: عُدُولٌ إلاَّ مَنْ قَاتَل عَلِيًّا، وَقِيل: إذَا انْفَرَدَ، وَقِيل: إلاَّ الْمُقَاتِل وَالْمُقَاتَل،
__________
(1) الروضة 3 / 344، وجواهر الإكليل 2 / 3، وابن عابدين 3 / 223.
(2) سورة البقرة / 143.
(3) سورة آل عمران / 110.
(4) حديث: " خير الناس قرني " أخرج البخاري (الفتح 5 / 259 - ط السلفية) . ومسلم (4 / 1963 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود.(14/59)
وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِصَوَابٍ إحْسَانًا لِلظَّنِّ بِهِمْ وَحَمْلاً لَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى الاِجْتِهَادِ الْمَأْجُورِ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمْ.
وَقَال الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ: لَسْنَا نَعْنِي بِقَوْلِنَا: الصَّحَابَةُ عُدُولٌ " كُل مَنْ رَآهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا مَا أَوْ زَارَهُ لِمَامًا، أَوِ اجْتَمَعَ بِهِ لِغَرَضٍ وَانْصَرَفَ، وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ الَّذِينَ لاَزَمُوهُ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ. قَال الْعَلاَئِيُّ: وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ يُخْرِجُ كَثِيرًا مِنَ الْمَشْهُورِينَ بِالصُّحْبَةِ وَالرِّوَايَةِ عَنِ الْحُكْمِ بِالْعَدَالَةِ، كَوَائِل بْنِ حُجْرٍ، وَمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ وَفَدَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُقِمْ عِنْدَهُ إلاَّ قَلِيلاً وَانْصَرَفَ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ إلاَّ بِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ وَمَنْ لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُ إقَامَتِهِ مِنْ أَعْرَابِ الْقَبَائِل، وَالْقَوْل بِالتَّعْمِيمِ هُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ (1) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلاَتٌ أُخْرَى تُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
وَقَال ابْنُ حَمْدَانَ الْحَنْبَلِيُّ: يَجِبُ حُبُّ كُل الصَّحَابَةِ، وَالْكَفُّ عَمَّا جَرَى بَيْنَهُمْ - كِتَابَةً، وَقِرَاءَةً، وَإِقْرَاءً، وَسَمَاعًا، وَتَسْمِيعًا - وَيَجِبُ ذِكْرُ مَحَاسِنِهِمْ، وَالتَّرَضِّي عَنْهُمْ، وَالْمَحَبَّةُ لَهُمْ، وَتَرْكُ التَّحَامُل عَلَيْهِمْ، وَاعْتِقَادُ الْعُذْرِ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إنَّمَا فَعَلُوا مَا فَعَلُوا بِاجْتِهَادٍ سَائِغٍ لاَ يُوجِبُ كُفْرًا
__________
(1) تدريب الراوي ص400 - 401 ط المكتبة العلمية.(14/60)
وَلاَ فِسْقًا، بَل رُبَّمَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ اجْتِهَادٌ سَائِغٌ (1) .
13 - وَسَبُّ آل بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَتَنَقُّصُهُمْ حَرَامٌ. قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لاَ تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي، فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ (2) .
وَقَال السُّبْكِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ:
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِلاَفُ فِيمَا إذَا سَبَّهُ لأَِمْرٍ خَاصٍّ بِهِ. أَمَّا لَوْ سَبَّهُ لِكَوْنِهِ صَحَابِيًّا فَيَنْبَغِي الْقَطْعُ بِتَكْفِيرِهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ اسْتِخْفَافٌ بِحَقِّ الصُّحْبَةِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي كُفْرِ مَنْ سَبَّ الشَّيْخَيْنِ، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ تَكْفِيرُ مَنْ سَبَّ الشَّيْخَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ عَلَى خِلاَفِهِ (3) .
__________
(1) لوامع الأنوار 2 / 387.
(2) الشفا 2 / 1106، ولوامع الأنوار 2 / 389، الجامع لابن أبي زيد 112 - دار الغرب. وحديث " الله الله في أصحابي. . . . " أخرجه الترمذي (5 / 696 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه وقال: " هذا حديث غريب من هذا الوجه " وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي وهو ضعيف كما في الميزان للذهبي (2 / 561 - 563 ط الحلبي) .
(3) ابن عابدين 3 / 293، والشفا 2 / 1106، والصارم المسلول 567، والأعلام 49.(14/60)
قَال أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيَّ: إذَا رَأَيْتَ الرَّجُل يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ؛ لأَِنَّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَنَا حَقٌّ، وَالْقُرْآنَ حَقٌّ، وَإِنَّمَا أَدَّى إلَيْنَا هَذَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يَجْرَحُوا شُهُودَنَا لِيُبْطِلُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَالْجَرْحُ أَوْلَى بِهِمْ، وَهُمْ زَنَادِقَةٌ (1) .
تَنْزِيهُ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
14 - مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ كَفَرَ بِلاَ خِلاَفٍ، وَقَدْ حَكَى الإِْجْمَاعَ عَلَى هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الأَْئِمَّةِ.
رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَال: مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ جُلِدَ، وَمَنْ سَبَّ عَائِشَة قُتِل، قِيل لَهُ: لِمَ؟ قَال: مَنْ رَمَاهَا فَقَدْ خَالَفَ الْقُرْآنَ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (2) } .
وَهَل تُعْتَبَرُ سَائِرُ زَوْجَاتِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعَائِشَةَ؟ فِيهِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَسَابِّ غَيْرِهِنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مَنْ قَذَفَ وَاحِدَةً مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ كَقَذْفِ عَائِشَةَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ هَذَا فِيهِ عَارٌ وَغَضَاضَةٌ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَذًى لَهُ
__________
(1) الكفاية ص49.
(2) سورة النور / 17.(14/61)
أَعْظَمُ مِنْ أَذَاهُ بِنِكَاحِهِنَّ بَعْدَهُ قَال تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ (1) } .
وَاخْتَارَ الثَّانِيَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ (2) .
تَنْزِيهُ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ:
15 - يَتَأَكَّدُ وُجُوبُ تَرْكِ الْمَعَاصِي فِي مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ وَحَرَمِهَا؛ لأَِنَّ الْمَعْصِيَةَ أَشَدُّ فِيهَا مِنْ غَيْرِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (3) } .
قَال مُجَاهِدٌ: تُضَاعَفُ السَّيِّئَاتُ بِمَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ (4) .
وَيَجِبُ تَنْزِيهُهَا عَنِ الْقِتَال فِيهَا قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلاَ يَحِل لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلاَ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَال رَسُول اللَّهِ فِيهِ، فَقُولُوا إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا
__________
(1) سورة الأحزاب / 57.
(2) الصارم المسلول 565 567، المحلي 11 / 502 ط الإمام، فتاوى السبكي 2 / 569، 562، والخرشي 8 / 74، والزواجر 1 / 27.
(3) سورة الحج / 25.
(4) تحفة الراكع - للجراعي ص74 - المكتب الإسلامي، شفاء الغرام للفاسي 1 / 68 الحلبي، إعلام الساجد للزركشي 128 - المجلس الأعلى.(14/61)
الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَْمْسِ (1) .
16 - وَيَجِبُ تَنْزِيهُهَا عَنْ حَمْل السِّلاَحِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَحِل لأَِحَدِكُمْ أَنْ يَحْمِل بِمَكَّةَ السِّلاَحَ (2) .
17 - وَيَجِبُ تَنْزِيهُهَا عَنْ دُخُول الْكُفَّارِ. قَال تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا (3) }
فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْكَافِرَ لاَ يُمَكَّنُ مِنْ دُخُول حَرَمِ مَكَّةَ، لاَ مُقِيمًا وَلاَ مَارًّا بِهِ (4) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنِ اسْتِيطَانِ مَكَّةَ، وَلَكِنْ لَوْ دَخَل بِتِجَارَةٍ جَازَ وَلاَ يُطِيل (5) .
تَنْزِيهُ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ:
18 - يَجِبُ تَنْزِيهُ الْمَدِينَةِ عَنْ إرَادَةِ أَهْلِهَا بِسُوءٍ
__________
(1) حديث: " إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس " أخرجه البخاري (4 / 41 ط السلفية) . من حديث أبي شريح العدوي.
(2) شفاء الغرام 1 / 7، والمجموع 7 / 15، وإعلام الساجد 160 - 164، وجواهر الإكليل 1 / 207، وتحفة الراكع 111، 114، وبدائع الصنائع 7 / 114، وابن عابدين 2 / 256. / 50 وحديث: " لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح " أخرجه مسلم (2 / 989 ط الحلبي) عن جابر بن عبد الله.
(3) سورة التوبة / 28.
(4) شفاء الغرام 1 / 70، وجواهر الإكليل 1 / 267، وإعلام الساجد 173، وتحفة الراكع 112، والقرطبي 8 / 104.
(5) ابن عابدين 3 / 275.(14/62)
فَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْل الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ إلاَّ أَذَابَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ (1) .
وَيَجِبُ تَنْزِيهُهَا عَنِ الإِْحْدَاثِ فِيهَا: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (2) .
تَنْزِيهُ الْمَسَاجِدِ عَنِ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ عَلَى وُجُوبِ تَنْزِيهِ الْمَسَاجِدِ عَنِ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ.
فَلاَ يَجُوزُ إدْخَال النَّجَاسَةِ إلَى الْمَسْجِدِ، أَوْ أَنْ يَدْخُلَهُ مَنْ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ نَجَاسَةٌ، أَوْ جِرَاحَةٌ، وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِخَشْيَةِ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ بِنَاؤُهُ بِمُتَنَجِّسٍ.
وَلاَ يَجُوزُ الْبَوْل وَالتَّغَوُّطُ فِيهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْل، وَلاَ الْقَذَرِ، إنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَالصَّلاَةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ (3) .
__________
(1) حديث: " لا يريد أحد أهل المدينة بسوء. . . . " أخرجه مسلم (2 / 993 ط الحلبي) من حديث سعد بن أبي وقاص.
(2) حديث: " من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 81 ط السلفية) من حديث علي بن أبي طالب، وأخرجه البخاري ومسلم (2 / 994 ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(3) حديث: " إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا. . . . " أخرجه مسلم (1 / 237 ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.(14/62)
وَاخْتُلِفَ فِي اتِّخَاذِ إنَاءٍ لِلْبَوْل فِيهِ فِي الْمَسْجِدِ:
فَالأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَنْعُ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ جَائِزٌ إذَا اتَّخَذَهُ الْبَائِتُ لَيْلاً فِي الْمَسْجِدِ إذَا خَافَ أَنْ يَسْبِقَهُ الْبَوْل قَبْل خُرُوجِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَتَحْرُمُ الْحِجَامَةُ وَالْفَصْدُ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ فِيهِ الْجِمَاعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ (1) } .
وَيَجُوزُ الْوُضُوءُ فِي الْمَسْجِدِ إذَا أَمِنَ تَلْوِيثَهُ بِغُسَالَتِهِ، وَلاَ تَجُوزُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْعَالِقَةِ بِالأَْعْضَاءِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى عَدَمِ حُرْمَةِ الْفُسَاءِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالأَْوْلَى اجْتِنَابُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ (2) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى التَّحْرِيمِ حَمْلاً لِلْحَدِيثِ عَلَيْهِ.
وَلاَ يَجُوزُ الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا (3) .
__________
(1) سورة البقرة / 187.
(2) حديث: " فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ". أخرجه مسلم (1 / 395 ط الحلبي) من حديث جابر.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 116، 441، والمجموع 2 / 175، والقليوبي وعميرة 2 / 77، وجواهر الإكليل 2 / 203، وشرح الزرقاني 1 / 34، وإعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي ص243 وما بعدها وحديث: " البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 511 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 390 ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك.(14/63)
وَيُكْرَهُ إدْخَال الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ إلَى الْمَسَاجِدِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَكَل ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ فَلْيَعْتَزِل مَسَاجِدَنَا (1) .
وَتَفْصِيل هَذِهِ الأَْحْكَامِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (مَسْجِدٌ وَنَجَاسَةٌ) .
تَنْزِيهُ الْمَسَاجِدِ عَنْ دُخُول الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ:
20 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ - مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ - عَلَى تَحْرِيمِ دُخُول الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ الْمَسْجِدَ وَتَحْرِيمِ مُكْثِهِمَا فِيهِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ (2) } . أَيْ لاَ تَقْرَبُوا مَوْضِعَ الصَّلاَةِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ حَالَةَ السُّكْرِ وَالْجَنَابَةِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: جَاءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُجُوهُ بُيُوتِ أَصْحَابِنَا شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ فَقَال: وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ دَخَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَصْنَعِ الْقَوْمُ شَيْئًا رَجَاءَ أَنْ يَنْزِل لَهُمْ رُخْصَةٌ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ بَعْدُ
__________
(1) حديث: " من أكل ثوما أو بصلا. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 575 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 394 ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) سور النساء / 43.(14/63)
فَقَال: وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنِ الْمَسْجِدِ فَإِنِّي لاَ أُحِل الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلاَ جُنُبٍ (1) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ مُرُورِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ مِنَ الْمَسْجِدِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْل سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهُويَهْ إِلَى تَحْرِيمِ مُرُورِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ. وَاسْتَدَلُّوا بِإِطْلاَقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ حَيْثُ لَمْ يُقَيَّدِ التَّحْرِيمُ بِشَيْءٍ فَبَقِيَ عَلَى إِطْلاَقِهِ فَيُفِيدُ تَحْرِيمَ الْمُكْثِ وَالْمُرُورِ.
إِلاَّ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُمَا الْمُرُورُ لِلضَّرُورَةِ كَالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَال.
وَحَمَلُوا قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ جُنُبًا إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ (2) } عَلَى الْمُسَافِرِ الَّذِي لاَ يَجِدُ الْمَاءَ فَيَتَيَمَّمُ.
وَالْمُرَادُ بِكَلِمَةِ " إِلاَّ " فِي الآْيَةِ " لاَ " أَيْ: لاَ عَابِرِي سَبِيلٍ. (وَالصَّلاَةُ) فِي الآْيَةِ الْمَقْصُودُ بِهَا حَقِيقَتُهَا لاَ مَوَاضِعُهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إذَا اُضْطُرَّ لِدُخُول الْمَسْجِدِ أَوِ الْمُكْثِ فِيهِ لِخَوْفٍ تَيَمَّمَ وُجُوبًا. نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْعِنَايَةِ: مُسَافِرٌ مَرَّ بِمَسْجِدٍ فِيهِ عَيْنُ مَاءٍ وَهُوَ
__________
(1) حديث: " جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابنا. . . " أخرجه أبو داود (1 / 158 - 159 تحقيق عزت عبيد دعاس) والبيهقي (2 / 442 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عائشة، وأعله البيهقي.
(2) سورة النساء / 43.(14/64)
جُنُبٌ وَلاَ يَجِدُ غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِدُخُول الْمَسْجِدِ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا لَوْ احْتَلَمَ فِي الْمَسْجِدِ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ تَيَمَّمَ نَدْبًا، فَالْحَنَفِيَّةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الدُّخُول فِي الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ مُرُورِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ لِحَاجَةٍ أَوْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ. وَالأَْوْلَى عَدَمُ الْعُبُورِ إلاَّ لِحَاجَةٍ خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَكَذَلِكَ جَوَازُ مُرُورِ الْحَائِضِ بِشَرْطِ أَنْ تَأْمَنَ تَلْوِيثَ الْمَسْجِدِ فَإِنْ خَافَتْ تَلْوِيثَهُ حَرُمَ عَلَيْهَا الْمُرُورُ.
وَبِجَوَازِ مُرُورِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ جُنُبًا إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ (1) } أَيْ لاَ تَقْرَبُوا مَوَاضِعَ الصَّلاَةِ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلاَةِ عُبُورُ سَبِيلٍ إنَّمَا الْعُبُورُ فِي مَوْضِعِ الصَّلاَةِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ أَحَدُنَا يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ جُنُبًا مُجْتَازًا (2)
__________
(1) سورة النساء / 43.
(2) حديث جابر: كان أحدنا يمر في المسجد جنبا مجتازا " رواه سعيد بن منصور كما في كشاف القناع (1 / 148 ط عالم الكتب) .(14/64)
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ (1) .
وَذَهَبَ الْمُزَنِيّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ إِلَى جَوَازِ مُكْثِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا. مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُسْلِمُ لاَ يَنْجُسُ وَبِأَنَّ الْمُشْرِكَ يَمْكُثُ فِي الْمَسْجِدِ، فَالْمُسْلِمُ الْجُنُبُ أَوْلَى، وَبِأَنَّ الأَْصْل عَدَمُ التَّحْرِيمِ وَلَيْسَ لِمَنْ حَرَّمَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الأَْحْكَامِ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٌ، جَنَابَةٌ، حَيْضٌ) .
تَنْزِيهُ الْمَسَاجِدِ عَنِ الْخُصُومَةِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ:
21 - تُكْرَهُ الْخُصُومَةُ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ، وَنِشْدَانُ الضَّالَّةِ، وَالْبَيْعُ، وَالإِْجَارَةُ، وَنَحْوُهَا مِنَ الْعُقُودِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُل: لاَ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا (3)
__________
(1) حديث: " إن حيضتك ليست في يدك " أخرجه مسلم (1 / 245 ط الحلب) عن عائشة.
(2) البناية 1 / 636، وحاشية ابن عابدين 1 / 115، 194، وكشاف القناع 1 / 148، 198، والمجموع 2 / 160، 172، 358، ومواهب الجليل 1 / 374، وجواهر الإكليل 1 / 23، 32.
(3) حديث: " من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل. . . . " أخرجه مسلم (1 / 397 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(14/65)
وَفِي رِوَايَةٍ إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ، أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لاَ أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا: لاَ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِل بَيْنَ كَرَاهَةٍ وَتَحْرِيمٍ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٌ) .
تَنْزِيهُ الْمَسَاجِدِ عَنِ الْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ:
22 - يُكْرَهُ إدْخَال الْبَهَائِمِ، وَالْمَجَانِينِ، وَالصِّبْيَانِ الَّذِينَ لاَ يُمَيِّزُونَ الْمَسْجِدَ، لأَِنَّهُ لاَ يُؤْمَنُ تَلْوِيثُهُمْ إيَّاهُ. وَلاَ يَحْرُمُ (2) ذَلِكَ لأَِنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى حَامِلاً أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (3) وَكَذَلِكَ طَافَ عَلَى بَعِيرٍ (4) .
وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِتَنْزِيهِ الْمَسَاجِدِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٌ) .
__________
(1) حديث: " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا: لا رد الله عليك " أخرجه الترمذي وحسنه (3 / 610 - 611 ط الحلبي) .
(2) المدخل لابن الحاج 2 / 235، وإعلام الساجد 312، وتحفة الراكع 204، والمجموع 2 / 176.
(3) حديث " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملا أمامة بنت زينب " أخرجه البخاري (1 / 590 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 385 ط الحلبي) من حديث أبي قتادة.
(4) حديث: " طاف على بعير ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 472 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 926 ط الحلبي) من حديث ابن عباس.(14/65)
تَنْشِيفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنْشِيفُ لُغَةً مَصْدَرُ نَشَّفَ، يُقَال: نَشَّفَ الْمَاءَ تَنْشِيفًا أَخَذَهُ بِخِرْقَةٍ وَنَحْوِهَا. قَال ابْنُ الأَْثِيرِ: أَصْل النَّشْفِ دُخُول الْمَاءِ فِي الأَْرْضِ وَالثَّوْبِ، يُقَال نَشَفَتِ الأَْرْضُ الْمَاءَ تُنَشِّفُهُ نَشْفًا: شَرِبَتْهُ (1) ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ كَانَ لِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَشَّافَةٌ يُنَشِّفُ بِهَا غُسَالَةُ وَجْهِهِ (2) يَعْنِي مِنْدِيلاً يَمْسَحُ بِهَا وُضُوءَهُ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَقَالُوا: الْمُرَادُ بِالتَّنْشِيفِ أَخْذُ الْمَاءِ بِخِرْقَةٍ مَثَلاً (3) .
__________
(1) القاموس المحيط، والمصباح المنير، والنهاية لابن الأثير مادة: " نشف ".
(2) حديث: " كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم نشافة ينشف بها غسالة وجهه " أورده ابن الأثير في النهاية (5 / 58) بهذا اللفظ، وأخرجه الترمذي والحاكم من حديث عائشة بلفظ " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له خرقة ينشف بها بعد الوضوء، قال الحاكم: هو حديث قد روي عن أنس بن مالك وغيره ولم يخرجه الشيخان وأقره الذهبي، وقال أحمد شاكر: وبذلك يكون إسناده الحديث صحيحا (سنن الترمذي 1 / 74، 75 ط الحلب والمستدرك 1 / 154) .
(3) القليوبي وعميرة 1 / 55.(14/66)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّجْفِيفُ:
2 - التَّجْفِيفُ لُغَةً مَعْنَاهُ التَّيْبِيسُ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِنَفْسِ الْمَعْنَى (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّنْشِيفِ وَالتَّجْفِيفِ، أَنَّ التَّنْشِيفَ يَكُونُ غَالِبًا بِتَشَرُّبِ الْمَاءِ بِخِرْقَةٍ أَوْ صُوفَةٍ وَنَحْوِهِمَا، أَمَّا التَّجْفِيفُ فَيَكُونُ بِذَلِكَ وَبِغَيْرِهِ كَالْمَسْحِ بِالتُّرَابِ، وَالْوَضْعِ فِي الشَّمْسِ أَوِ الظِّل وَمَا إلَى ذَلِكَ، فَالتَّجْفِيفُ أَعَمُّ مِنَ التَّنْشِيفِ (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - التَّنْشِيفُ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل:
لاَ بَأْسَ بِالتَّنْشِيفِ وَالْمَسْحِ بِالْمِنْدِيل أَوِ الْخِرْقَةِ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل، بِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ إبَاحَةَ التَّنْشِيفِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَبِشْرِ بْنِ أَبِي مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ
__________
(1) محيط المحيط والمصباح المنير ولسان العرب، وكشاف القناع 5 / 495، ومطالب أولي النهى 3 / 211، وحاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 272، وحاشية ابن عابدين 1 / 207.
(2) البناية 1 / 728، وفتح القدير 1 / 174 ط دار إحياء التراث العربي، وحاشية الطحطاوي على الدر 1 / 157، وحاشية ابن عابدين 1 / 206.(14/66)
وَعَلْقَمَةَ وَالأَْسْوَدِ وَمَسْرُوقٍ وَالضَّحَّاكِ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ (1) .
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّنْشِيفِ بِعِدَّةِ أَحَادِيثَ مِنْهَا:
حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ قَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى غُسْلِهِ فَسَتَرَتْ عَلَيْهِ فَاطِمَةُ ثُمَّ أَخَذَ ثَوْبَهُ فَالْتَحَفَ بِهِ (2) وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي التَّنْشِيفِ.
وَحَدِيثُ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَتَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعْنَا لَهُ مَاءً فَاغْتَسَل، ثُمَّ أَتَيْنَاهُ بِمِلْحَفَةٍ وَرْسِيَّةٍ فَاشْتَمَل بِهَا فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى أَثَرِ الْوَرْسِ عَلَى عُكَنِهِ (3) .
وَحَدِيثُ سَلْمَانَ " أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ
__________
(1) عمدة القاري 3 / 194، 195 ط المنيرية، والبناية 1 / 191، 192 ط دار الفكر، والفتاوى الهندية 1 /، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 1 / 226، وروضة الطالبين 1 / 63، وكشاف القناع 1 / 106، 107، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 133، وفتح الباري 1 / 363 ط السلفية.
(2) حديث: " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غسله فسترت عليه فاطمة ثم أخذ ثوبه فالتحف به ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 469 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 266 ط عيسى الحلبي) واللفظ لمسلم.
(3) حديث: " أتانا النبي صلى الله عليه وسلم - فوضعنا له ماء فاغتسل ثم أتيناه بملحفة ورسية فاشتمل بها فكأني أنظر إلى أثر الورس على عكنه "، أخرجه أبو داود (5 / 373 ط عزت عبيد الدعاس) ، وابن ماجه (1 / 158 ط عيسى الحلبي. قال المنذري " أخرجه النسائي مرسلا ومسندا ".(14/67)
فَقَلَبَ جُبَّةَ صُوفٍ كَانَتْ عَلَيْهِ فَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ (1) .
وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِرْقَةٌ يَتَنَشَّفُ بِهَا بَعْدَ الْوُضُوءِ (2)
وَحَدِيثُ أَبِي مَرْيَمَ إيَاسِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ مِنْدِيلٌ أَوْ خِرْقَةٌ يَمْسَحُ بِهَا وَجْهَهُ إذَا تَوَضَّأَ (3) .
وَكَرِهَ التَّنْشِيفَ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالنَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ شَاهِينَ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِالْمِنْدِيل بَعْدَ الْوُضُوءِ (4) وَلاَ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرُ وَلاَ ابْنُ مَسْعُودٍ.
__________
(1) حديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - توضأ فقلب جبة صوف كانت عليه فمسح بها وجهه " أخرجه ابن ماجه (1 / 158 ط عيسى الحلبي) . وفي الزوائد للبوصيري: إسناده صحيح. ورواته ثقات. وفي سماع محفوظ من سلمان نظر: (ابن ماجه 1 / 158 ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " كانت للنبي صلى الله عليه وسلم - خرقة يتنشف بها بعد الوضوء " أخرجه الترمذي (1 / 74 ط مصطفى الحلبي) والبيهقي (1 / 185 ط دار المعرفة) من حديث أبي بكر. وصححه أحمد شاكر (الترمذي 1 / 75 ط مصطفى الحلبي) .
(3) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان له منديل أو خرقة يمسح بها وجهه إذا توضأ " قال العيني: رواه النسائي في الكني بإسناد صحيح (عمدة القاري 3 / 195 ط المنيرية) .
(4) حديث: " أن رسول صلى الله عليه وسلم - لم يكن يمسح وجهه بالمنديل " قال الشوكاني رواه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ، وقال الحافظ إسناده ضعيف (نيل الأوطار 1 / 221 دار الجيل) .(14/67)
وَحُكِيَ كَرَاهَتُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْوُضُوءِ دُونَ الْغُسْل. وَنَهَى عَنْهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (1) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ التَّنْشِيفِ وَتَرْكِهِ بَعْدَ الْوُضُوءِ:
4 - اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّنْشِيفِ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ بَعْدَ الْوُضُوءِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ أَصَحُّ أَقْوَال الشَّافِعِيَّةِ - إلَى أَفْضَلِيَّةِ تَرْكِ التَّنْشِيفِ لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَل قَالَتْ: فَأَتَيْته بِخِرْقَةٍ فَلَمْ يُرِدْهَا فَجَعَل يَنْفُضُ بِيَدِهِ (2) .
هَذَا إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ لِخَوْفِ بَرْدٍ أَوِ الْتِصَاقِ نَجَاسَةٍ أَوْ نَحْوِهِ وَإِلاَّ فَلاَ يُسَنُّ تَرْكُهُ. قَال الأَْذْرَعِيُّ: بَل يُتَأَكَّدُ سُنَّةً إذَا خَرَجَ عَقِبَ الْوُضُوءِ فِي مَحَل النَّجَاسَاتِ عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيحِ وَكَذَا لَوْ آلَمَهُ شِدَّةُ بَرْدِ الْمَاءِ أَوِ الْمَرَضِ أَوِ الْجُرْحِ أَوْ كَانَ يَتَيَمَّمُ أَثَرَهُ أَوْ نَحْوِهَا (3) .
__________
(1) البناية 1 / 192، وعمدة القاري 3 / 195، ونيل الأوطار 1 / 221 ط دار الجيل، والمغني مع الشرح الكبير 1 / 133.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل قالت: فأتيته بخرقة فلم يردها فجعل ينفض بيده "، أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 382 ط السلفية) . ومسلم (1 / 254 ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري وهو من حديث ميمونة.
(3) كشاف القناع 1 / 106، وروضة الطالبين 1 / 63، وأسنى المطالب 1 / 42، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 1 / 266.(14/68)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ أَفْضَلِيَّةَ التَّنْشِيفِ وَالتَّمَسُّحِ بِمِنْدِيلٍ بَعْدَ الْوُضُوءِ (1) .
وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل فِي (غُسْلٌ، وَوُضُوءٌ) .
تَنْشِيفُ الْمَيِّتِ:
5 - يُنْدَبُ تَنْشِيفُ الْمَيِّتِ بِخِرْقَةٍ طَاهِرَةٍ قَبْل إدْرَاجِهِ فِي الْكَفَنِ لِئَلاَّ تَبْتَل أَكْفَانُهُ فَيُسْرِعَ إلَيْهِ الْفَسَادُ، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ فَإِذَا فَرَغْت مِنْهَا فَأَلْقِ عَلَيْهَا ثَوْبًا نَظِيفًا (2) وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي غُسْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فَجَفَّفُوهُ بِثَوْبٍ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (ر: تَكْفِينٌ) .
__________
(1) حاشية أبي السعود على شرح الكنز 1 / 40 روضة الطالبين 1 / 63.
(2) حديث: " فإذا فرغت منها فألق عليها ثوبا نظيفا. . . " قال الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما ليث بن أبي سليم وهو مدلس ولكنه ثقة، وفي الآخر جنيد وقد وثق وفيه بعض كلام (مجمع الزوائد 3 / 22 دار الكتاب العربي) .
(3) الاختيار لتعليل المختار 1 / 92، وفتح القدير 1 / 251 ط دار صادر، والشرح الصغير 1 / 549، ومواهب الجليل 2 / 223، والمجموع شرح المهذب 5 / 176 ونهاية المحتاج 2 / 437، والمغني مع الشرح الكبير 2 / 328 وحديث: " فجففوه بثوب " أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده (1 / 260) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ " حتى إذا فرغوا من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يغسل بالماء والسدر جفوه ثم صنع به ما يصنع بالميت. . . . " وقال أحمد شاكر محقق المسند (4 / 2355 - وساق ابن كثير حديث ابن عباس في صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: انفرد أحمد (البداية والنهاية 5 / 260، 261) .(14/68)
التَنْعِيمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنْعِيمُ مَوْضِعٌ فِي الْحِل فِي شِمَال مَكَّةَ الْغَرْبِيِّ، وَهُوَ حَدُّ الْحَرَمِ مِنْ جِهَةِ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ.
قَال الْفَاسِيُّ: الْمَسَافَةُ بَيْنَ بَابِ الْعُمْرَةِ وَبَيْنَ أَعْلاَمِ الْحَرَمِ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ الَّتِي فِي الأَْرْضِ لاَ الَّتِي عَلَى الْجَبَل اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ ذِرَاعٍ وَأَرْبَعُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ الْيَدِ (1) .
وَإِنَّمَا سُمِّيَ التَّنْعِيمُ بِهَذَا الاِسْمِ لأَِنَّ الْجَبَل الَّذِي عَنْ يَمِينِ الدَّاخِل يُقَال لَهُ نَاعِمٌ وَاَلَّذِي عَنِ الْيَسَارِ يُقَال لَهُ مُنْعِمٌ أَوْ نُعَيْمٌ وَالْوَادِي نُعْمَانُ (2) .
__________
(1) لقد استنتج إبراهيم رفعت باشا مقدار الذراع اليدوي من قياس الفاسي لبعض الأماكن به، فكان ذراع اليد 49 سنتيا، فالمسافة بين التنعيم وبين باب العمرة - حسب تقديره - 6148 مترا، (مرآة الحرمين) 1 / 341.
(2) معجم البلدان 2 / 49 وكتاب المناسك لأبي إسحاق الحربي ص 467، ولسان العرب مادة: " نعم " ومرآة الحرمين 1 / 341 ط دار الكتب المصرية، وشفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1 / 63 ط الحلبي، وفتح الباري 3 / 607 ط السلفية، والبناية 3 / 458.(14/69)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّنْعِيمِ:
2 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَمِرَ الْمَكِّيَّ لاَ بُدَّ لَهُ مِنَ الْخُرُوجِ إلَى الْحِل ثُمَّ يُحْرِمُ مِنَ الْحِل لِيَجْمَعَ فِي النُّسُكِ بَيْنَ الْحِل وَالْحَرَمِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ الْحَاجِّ الْمَكِّيِّ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ فَإِنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ مَنْزِلِهِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ إلَى عَرَفَةَ وَهِيَ مِنَ الْحِل فَيَجْمَعُ بِذَلِكَ بَيْنَ الْحِل وَالْحَرَمِ (1) .
وَالْمُرَادُ بِالْمَكِّيِّ هُوَ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَهْلِهَا أَمْ لاَ (2) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَفْضَل بِقَاعِ الْحِل لِلاِعْتِمَارِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ - وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إلَى أَنَّ أَفْضَل الْبِقَاعِ مِنْ أَطْرَافِ الْحِل لإِِحْرَامِ الْعُمْرَةِ الْجِعْرَانَةُ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ (3) . وَلِبُعْدِهَا عَنْ مَكَّةَ، ثُمَّ يَلِي الْجِعْرَانَةَ فِي الْفَضْل التَّنْعِيمُ؛ لأَِنَّ
__________
(1) بداية المجتهد 1 / 288 ط المكتبة التجارية، والمغني لابن قدامة 3 / 259 ط الرياض، والبناية 3 / 457 - 459، وفتح القدير 2 / 336 ط إحياء التراث العربي، وتبيين الحقائق 2 / 8، وحاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 457، نشر دار المعرفة، والمجموع شرح المهذب 7 / 209 ط المنيرية، وروضة الطالبين 3 / 43، ونهاية المحتاج 3 / 255.
(2) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 457.
(3) حديث: " اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة " أخرجه البخاري (الفتح 7 / 439 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 916 - ط الحلبي) .(14/69)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ تَعْتَمِرَ مِنْهَا (1) .
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَعْدَ التَّنْعِيمِ الْحُدَيْبِيَةَ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَّ بِالاِعْتِمَارِ مِنْهَا فَصَدَّهُ الْكُفَّارُ (2) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ وَأَبُو إسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إنَّ أَفْضَل جِهَاتِ الْحِل التَّنْعِيمُ فَالإِْحْرَامُ مِنْهُ لِلْعُمْرَةِ أَفْضَل مِنَ الإِْحْرَامِ لَهَا مِنَ الْجِعْرَانَةِ، وَذَلِكَ لأَِمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِأَنْ يَذْهَبَ بِأُخْتِهِ عَائِشَةَ إلَى التَّنْعِيمِ لِتُحْرِمَ مِنْهُ (3) . وَالدَّلِيل الْقَوْلِيُّ مُقَدَّمٌ - عِنْدَهُمْ - عَلَى الدَّلِيل الْفِعْلِيِّ (4) .
قَال الطَّحَاوِيُّ وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لاَ مِيقَاتَ لِلْعُمْرَةِ لِمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ إلاَّ التَّنْعِيمُ
__________
(1) حديث: " أمر أم المؤمنين عائشة أن تعتمر من التنعيم ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 586 ط السلفية) .
(2) حاشية العدوي على شرح الرسالة 1 / 457، ومواهب الجليل 3 / 38 نشر مكنية النجاح ليبيا، وحاشية الصاوي بهامش الشرح الصغير 2 / 19 ط المعارف بمصر، وروضة الطالبين 3 / 44، ونهاية المحتاج 3 / 255، والإنصاف 4 / 54، 55 ط دار إحياء التراث العربي، والفروع لابن مفلح 3 / 279 ط عالم الكتب. وحديث: " هم النبي صلى الله عليه وسلم بالاعتمار من الحديبية فصده الكفار " أخرجه البخاري (7 / 453 ط السلفية) .
(3) حديث: " أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يذهب بأخته عائشة إلى. . . . ". أخرجه مسلم (2 / 881 - ط الحلبي) .
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 155 ط بولاق، والبناية 3 / 459، والإنصاف 4 / 54، والتنبيه في الفقه على مذهب الإمام الشافعي ص57 مصطفى الحلبي 1370 هـ.(14/70)
وَلاَ يَنْبَغِي مُجَاوَزَتُهُ كَمَا لاَ يَنْبَغِي مُجَاوَزَةُ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي لِلْحَجِّ (1) . قَال ابْنُ سِيرِينَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لأَِهْل مَكَّةَ التَّنْعِيمَ (2) .
ثُمَّ قَال الطَّحَاوِيُّ: وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ فَقَالُوا: مِيقَاتُ الْعُمْرَةِ الْحِل وَإِنَّمَا أَمَرَ عَائِشَة بِالإِْحْرَامِ مِنَ التَّنْعِيمِ لأَِنَّهُ كَانَ أَقْرَب الْحِل إلَى مَكَّةَ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ فِي حَدِيثِهَا أَنَّهَا قَالَتْ: فَكَانَ أَدْنَانَا مِنَ الْحَرَمِ التَّنْعِيمُ فَاعْتَمَرْتُ مِنْهُ. قَال فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ التَّنْعِيمَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ. أَيْ فِي الإِْجْزَاءِ (3) .
تَنَفُّلٌ
اُنْظُرْ: نَافِلَةٌ.
__________
(1) نيل الأوطار 5 / 26 ط دار الجيل، وعمدة القاري 10 / 120 ط المنيرية، والمغني لابن قدامة 3 / 259.
(2) حديث ابن سيرين: " وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . . " أخرجه أبو داود في المراسيل كما في تحفة الإشراف للمزي (13 / 357 - ط الدار القيمة) ونقل أبو داود عن سفيان أنه قال: " هذا حديث لا يعرف ".
(3) نيل الأوطار 5 / 26، وشرح معاني الآثار للطحاوي 2 / 240.(14/70)
تَنْفِيذٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنْفِيذُ فِي اللُّغَةِ: جَعْل الشَّيْءِ يُجَاوِزُ مَحَلَّهُ.
يُقَال: نَفَذَ السَّهْمُ فِي الرَّمِيَّةِ تَنْفِيذًا: أَخْرَجَ طَرَفَهُ مِنَ الشِّقِّ الآْخَرِ. وَنَفَذَ الْكِتَابُ أَرْسَلَهُ: وَنَفَذَ الْحَاكِمُ الأَْمْرَ أَجْرَاهُ وَقَضَاهُ (1) .
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَالنَّفَاذُ تَرَتُّبُ الآْثَارِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْحُكْمِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ " تَنْفِيذٍ " عَلَى إحَاطَةِ الْحَاكِمِ عِلْمًا بِحُكْمٍ أَصْدَرَهُ حَاكِمٌ آخَرُ عَلَى وَجْهِ التَّسْلِيمِ، وَيُسَمَّى اتِّصَالاً. وَيُتَجَوَّزُ بِذِكْرِ (الثُّبُوتِ) (وَالتَّنْفِيذِ) قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ عَلَيْهِ فِي زَمَانِنَا هَذَا غَالِبًا (2) .
2 - وَالْفَرْقُ بَيْنَ نَفَاذِ الْحُكْمِ أَوِ الْعَقْدِ وَتَنْفِيذِهِمَا هُوَ: أَنَّ النَّفَاذَ صِحَّةُ الْعَقْدِ أَوِ الْحُكْمِ وَتَرَتُّبُ آثَارِهِ الْخَاصَّةِ مِنْهُ، كَوُجُوبِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَانْتِقَال مِلْكِيَّةِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي،
__________
(1) تاج العروس ولسان العرب مادة: " نفذ ".
(2) ابن عابدين 4 / 297، ومطالب أولي النهى 6 / 488.(14/71)
وَالثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ. أَمَّا التَّنْفِيذُ فَهُوَ الْعَمَل بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ أَوِ الْحُكْمِ وَإِمْضَاؤُهُ بِتَنْفِيذِ عُقُوبَةِ الْحَدِّ عَلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَالثَّمَنِ لِلْبَائِعِ مِنَ الْعَاقِدِ طَوْعًا أَوْ بِإِلْزَامٍ مِنَ الْحَاكِمِ. قَال الْفُقَهَاءُ: إنَّ التَّنْفِيذَ لَيْسَ بِحُكْمٍ، إنَّمَا هُوَ عَمَلٌ بِحُكْمٍ سَابِقٍ وَإِجَازَةٌ لِلْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ.
وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْحُكْمَ بِالْمَحْكُومِ بِهِ تَحْصِيل الْحَاصِل وَهُوَ مَمْنُوعٌ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقَضَاءُ:
3 - الْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ: الْحُكْمُ (2) ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّك أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ (3) } .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالتَّنْفِيذِ أَنَّ التَّنْفِيذَ يَأْتِي بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَالْقَضَاءُ سَبَبٌ لَهُ
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - يَجِبُ عَلَى الْوَصِيِّ، أَوِ الْوَرَثَةِ تَنْفِيذُ وَصَايَا الْمَيِّتِ بِشُرُوطِهَا، وَعَلَى الْحَاكِمِ، أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ تَنْفِيذُ الْعُقُوبَاتِ عَلَى مَنْ حُكِمَ عَلَيْهِ،
__________
(1) ابن عابدين 4 / 324، ومطالب أولي النهى 6 / 487، والمغني 9 / 76.
(2) تاج العروس.
(3) سورة الإسراء / 23.(14/71)
وَعَلَى مَنِ الْتَزَمَ حُقُوقًا مَالِيَّةً بِاخْتِيَارِهِ، أَوْ أَلْزَمَهُ الشَّارِعُ حَقًّا تَنْفِيذُ مَا لَزِمَهُ مِنْ حُقُوقٍ، وَعَلَى الْحَاكِمِ التَّنْفِيذُ جَبْرًا عَلَى مَنِ امْتَنَعَ عَنِ التَّنْفِيذِ طَوْعًا إذَا طَلَبَ صَاحِبُ الْحَقِّ حَقَّهُ.
مَنْ يَمْلِكُ التَّنْفِيذَ:
5 - يَخْتَلِفُ مَنْ لَهُ سُلْطَةُ التَّنْفِيذِ بِاخْتِلاَفِ الْحَقِّ الْمُرَادِ تَنْفِيذُهُ:
فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الْمُنَفَّذُ عُقُوبَةً كَالْحَدِّ، وَالتَّعَازِيرِ وَالْقِصَاصِ، فَلاَ يَجُوزُ تَنْفِيذُهُ إلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الإِْمَامِ أَوْ نَائِبِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. لأَِنَّ ذَلِكَ يَفْتَقِرُ إلَى الاِجْتِهَادِ، وَالْحَيْطَةِ، وَلاَ يُؤْمَنُ فِيهِ الْحَيْفُ وَالْخَطَأُ، فَوَجَبَ تَفْوِيضُهُ إلَى نَائِبِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ؛ وَلأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقِيمُ الْحُدُودَ، وَكَذَا خُلَفَاؤُهُ (1) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِيفَاءٌ) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُل مُسْلِمٍ، تَنْفِيذُ الْعُقُوبَةِ حَال مُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ لأَِنَّهُ نَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْكُل مَأْمُورٌ بِهِ (2) .
أَمَّا إذَا كَانَ الْحُكْمُ الْمُنَفَّذُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ الْمَالِيَّةِ، فَالتَّنْفِيذُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَإِذَا امْتَنَعَ بِلاَ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ نَفَّذَهُ الْحَاكِمُ بِقُوَّةِ الْقَضَاءِ بِنَاءً
__________
(1) مطالب أولي النهى 6 / 159، وروضة الطالبين 9 / 1221، 10 / 102، والخرشي 8 / 24، وابن عابدين 3 / 181.
(2) ابن عابدين 3 / 181.(14/72)
عَلَى طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ: (اسْتِيفَاءٌ - وَحِسْبَةٌ) .
الأَْمْرُ بِتَنْفِيذِ حُكْمِ الْقَاضِي:
6 - إذَا طُلِبَ مِنَ الْقَاضِي تَنْفِيذُ حُكْمٍ أَصْدَرَهُ هُوَ نَفَّذَهُ وُجُوبًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إذَا كَانَ ذَاكِرًا أَنَّهُ حُكْمُهُ. أَمَّا إذَا نَسِيَ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ أَنَّهُ حُكْمُهُ، فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَنْفِيذِهِ لِمَا حَكَمَ بِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ تَنْفِيذُهُ حَتَّى يَتَذَكَّرَ، وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى أَنَّهُ حُكْمُهُ، أَوْ رَأَى وَرَقَةً فِيهَا أَنَّهُ حُكْمُهُ؛ لأَِنَّهُ يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَى الْعِلْمِ وَالإِْحَاطَةِ بِالتَّذَكُّرِ فَلاَ يَرْجِعُ إلَى الظَّنِّ؛ وَلإِِمْكَانِ التَّزْوِيرِ فِي الْخَطِّ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى أَنَّهُ حُكْمُهُ لَزِمَهُ قَبُولُهَا، وَإِمْضَاءُ الْحُكْمِ، وَقَالُوا: لأَِنَّهُ لَوْ شَهِدَا عِنْدَهُ بِحُكْمِ غَيْرِهِ قُبِل، فَكَذَلِكَ هُنَا (2) .
الأَْمْرُ بِتَنْفِيذِ حُكْمِ قَاضٍ آخَرَ.
7 - إذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي حُكْمُ قَاضٍ آخَرَ نَفَّذَهُ، وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ، أَوْ رَأَى أَنَّ غَيْرَهُ أَصْوَبُ
__________
(1) المحلي شرح المنهاج 4 / 304، 305، وروضة الطالبين 11 / 157.
(2) المغني 9 / 76 - 77، والخرشي 7 / 169.(14/72)
مِنْهُ، مَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَجِبُ نَقْضُهُ، كَأَنْ خَالَفَ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا (1) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ) .
تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ:
8 - الْوَصِيَّةُ بِتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ مُسْتَحَبَّةٌ وَتَنْفِيذُهَا وَاجِبٌ عَلَى الْوَصِيِّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. فَإِذَا أَوْصَى إلَى اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، فَإِنْ أَثْبَتَ الاِسْتِقْلاَل لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الاِنْفِرَادُ بِالتَّنْفِيذِ. أَمَّا إذَا شَرَطَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى التَّنْفِيذِ فَلَيْسَ لأَِحَدِهِمَا الاِنْفِرَادُ، فَإِنِ انْفَرَدَ لَمْ يَصِحَّ التَّنْفِيذُ، وَإِنْ أَطْلَقَ حُمِل عَلَى التَّعَاوُنِ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لأَِحَدِهِمَا أَنْ يَسْتَقِل بِالتَّصَرُّفِ دُونَ صَاحِبِهِ (2) .
أَمَّا الْوَصَايَا الَّتِي يَجُوزُ تَنْفِيذُهَا وَاَلَّتِي لاَ يَجُوزُ تَنْفِيذُهَا، وَشُرُوطُ الْمُوصِي وَالْوَصِيِّ فَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ إلَى مُصْطَلَحِ " وَصِيَّةٌ ".
تَنْفِيذُ حُكْمِ قَاضِي الْبُغَاةِ:
9 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ أَهْل الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ فَوَلَّوْا قَاضِيًا مِنْهُمْ، فَرُفِعَ حُكْمُهُ إِلَى قَاضِي أَهْل الْعَدْل نَفَّذَ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا يُنَفَّذُ مِنْ أَحْكَامِ قَاضِي أَهْل الْعَدْل بِشُرُوطٍ هِيَ:
__________
(1) ابن عابدين 4 / 324 - 325. وروضة الطالبين 11 / 152، والخرشي 7 / 166، ومطالب أولي النهى 6 / 498.
(2) روضة الطالبين 6 / 318، والدسوقي 4 / 455، والمغني 6 / 142، والاختيار 5 / 67.(14/73)
أ - أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ غَيْرُ ظَاهِرِ الْبُطْلاَنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَأْوِيلٌ فَلاَ يُنَفِّذُ أَحْكَامُ قَاضِيهِمْ. وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَأْوِيلٌ فَيَتَعَقَّبُ أَحْكَامَهُ، فَمَا وَجَدَ مِنْهَا صَوَابًا مَضَى، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ رُدَّ.
ب - أَلاَّ يَكُونَ مِمَّنْ يَسْتَبِيحُونَ دِمَاءَ أَهْل الْعَدْل وَأَمْوَالَهُمْ، فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ لاَ تَنْفُذُ أَحْكَامُهُ.
ج - أَلاَّ يُخَالِفَ نَصًّا، أَوْ إجْمَاعًا، أَوْ قِيَاسًا جَلِيًّا (1) .
هَذَا مُجْمَل آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي تَنْفِيذِ حُكْمِ قَاضِي الْبُغَاةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: بُغَاةٌ.
تَنْفِيذُ حُكْمِ الْمَرْأَةِ:
10 - لاَ يَصِحُّ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ: لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً (2)
وَلاَ يَنْفُذُ حُكْمُهَا (3) ، لأَِنَّ التَّنْفِيذَ فَرْعُ صِحَّةِ الْحُكْمِ
__________
(1) حاشية الدسوقي 4 / 355، وروضة الطالبين 10 / 53، وابن عابدين 4 / 307، ونهاية المحتاج 7 / 404، والمغني 8 / 119 - 120، وكشاف القناع 6 / 166.
(2) حديث: " لن يفلح قوم. . . . " أخرجه البخاري من حديث أبي بكرة (فتح الباري 8 / 126 ط السلفية) .
(3) حاشية الدسوقي 4 / 129، وتحفة المحتاج 8 / 311، ونهاية المحتاج 8 / 240، وكشاف القناع 6 / 294.(14/73)
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الأَْئِمَّةُ، مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ، فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ شَهَادَتُهَا، وَهِيَ مَا عَدَا الْقَوَدِ، وَالْحَدِّ، فَإِذَا حَكَمَتْ بَيْنَ خَصْمَيْنِ، فَقَضَتْ قَضَاءً مُوَافِقًا لِدِينِ اللَّهِ يَنْفُذُ (1) . وَإِذَا حَكَمَتْ فِي حَدٍّ أَوْ قَوَدٍ، فَرُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى جَوَازَهُ فَأَمْضَاهُ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ إبْطَالُهُ (2) .
وَأَفْتَى بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ، إذَا اُبْتُلِيَ النَّاسُ بِوِلاَيَةِ امْرَأَةٍ، نَفَذَ قَضَاؤُهَا لِلضَّرُورَةِ (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي: قَضَاءٌ ".
تَنْفِيذُ حُكْمِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ:
11 - لاَ يَصِحُّ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ الْقَضَاءَ لاِنْتِفَاءِ أَهْلِيَّتِهِ لِلْوِلاَيَةِ، وَنَصْبُهُ عَلَى مِثْلِهِ مُجَرَّدُ رِئَاسَةٍ لاَ تَقْلِيدُ حُكْمٍ وَقَضَاءٍ. وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَلْزَمْ حُكْمُهُ عَلَيْهِمْ إلاَّ إذَا رَضُوا بِهِ (4) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إنَّ تَقْلِيدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ الْقَضَاءَ صَحِيحٌ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ قَضَاؤُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ حَال كُفْرِهِ، وَيَنْفُذُ عَلَى أَهْل مِلَّتِهِ (5)
وَالتَّفْصِيل فِي بَابِ الْقَضَاءِ.
__________
(1) ابن عابدين 4 / 356، وفتح القدير 6 / 391 ط إحياء التراث.
(2) المصادر السابقة.
(3) نهاية المحتاج مع حاشية الشبراملسي 8 / 240.
(4) نهاية المحتاج 8 / 238 ط مصطفى بابي الحلبي، وكشاف القناع 6 / 294.
(5) حاشية ابن عابدين 4 / 299.(14/74)
تَنْفِيلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنْفِيل فِي اللُّغَةِ مِنَ النَّفَل وَهُوَ الْغَنِيمَةُ:
يُقَال: نَفَّلَهُ أَعْطَاهُ النَّفَل، وَنَفَلَهُ بِالتَّخْفِيفِ نَفَلاً وَأَنْفَلَهُ إيَّاهُ، وَنَفَل الإِْمَامُ الْجُنْدَ إذَا جَعَل لَهُمْ مَا غَنِمُوا، وَنَفَل فُلاَنٌ عَلَى فُلاَنٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ
قَال أَهْل اللُّغَةِ: جِمَاعُ مَعْنَى النَّفَل وَالنَّافِلَةِ مَا كَانَ زِيَادَةً عَلَى الأَْصْل،
وَهُوَ فِي الاِصْطِلاَحِ زِيَادَةُ مَالٍ عَلَى سَهْمِ الْغَنِيمَةِ يَشْتَرِطُهُ الإِْمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ لِمَنْ يَقُومُ بِمَا فِيهِ نِكَايَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْعَدُوِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الرَّضْخُ:
2 - الرَّضْخُ هُوَ الْعَطِيَّةُ الْقَلِيلَةُ، وَفِي الشَّرْعِ عَطِيَّةٌ مِنَ الْغَنِيمَةِ دُونَ السَّهْمِ لِغَيْرِ مَنْ يُسْهَمُ لَهُمْ، كَالصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ إذَا قَامُوا بِعَمَلٍ فِيهِ إعَانَةٌ عَلَى الْقِتَال (2) .
__________
(1) لسان العرب مادة: " نفل "، وحاشية ابن عابدين 3 / 238، وروضة الطالبين 6 / 368، والمغني 8 / 378.
(2) لسان العرب مختار الصحاح مادتي: " رضخ، وسهم ".(14/74)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّنْفِيل، إلاَّ مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَإِنَّهُ قَال: لاَ نَفْل بَعْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لاَ تَنْفِيل إلاَّ إذَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ بِأَنْ كَثُرَ الْعَدُوُّ وَقَل الْمُسْلِمُونَ وَاقْتَضَى الْحَال بَعْثَ السَّرَايَا وَحِفْظَ الْمَكَامِنِ؛ لِذَلِكَ نَفَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ دُونَ بَعْضٍ (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ هُوَ مُسْتَحَبٌّ؛ لأَِنَّهُ نَوْعٌ مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْجِهَادِ (2) .
4 - وَلِلتَّنْفِيل صُوَرٌ ثَلاَثٌ:
إحْدَاهَا: أَنْ يَبْعَثَ الإِْمَامُ أَمَامَ الْجَيْشِ سَرِيَّةً تُغِيرُ عَلَى الْعَدُوِّ، وَيَجْعَل لَهُمْ شَيْئًا مِمَّا يَغْنَمُونَ، كَالرُّبُعِ أَوِ الثُّلُثِ.
ثَانِيَتُهَا: أَنْ يُنَفِّل الإِْمَامُ أَوِ الأَْمِيرُ بَعْضَ أَفْرَادِ الْجَيْشِ لِمَا أَبْدَاهُ فِي الْقِتَال مِنْ شَجَاعَةٍ وَإِقْدَامٍ، أَوْ أَيِّ عَمَلٍ مُفِيدٍ فَاقَ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ شَرْطٍ.
ثَالِثَتُهَا: أَنْ يَقُول الإِْمَامُ: مَنْ قَامَ بِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ فَلَهُ كَذَا كَهَدْمِ سُوَرٍ أَوْ نَقْبِ جِدَارٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكُل هَذِهِ الصُّوَرِ جَائِزَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 102، وروضة الطالبين 6 / 368، والزرقاني 3 / 128، جواهر الإكليل 1 / 261.
(2) فتح القدير 5 / 249، وابن عابدين 3 / 238.(14/75)
الْفُقَهَاءِ (1) .
وَكَرِهَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ الصُّورَةَ الأَْخِيرَةَ:
قَالُوا: لأَِنَّ ذَلِكَ يَصْرِفُ نِيَّةَ الْمُجَاهِدِينَ لِقِتَال الدُّنْيَا، وَيُؤَدِّي إلَى التَّحَامُل عَلَى الْقِتَال، وَرُكُوبِ الْمَخَاطِرِ، وَقَال عُمَرُ الْفَارُوقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ تُقَدِّمُوا جَمَاجِمَ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْحُصُونِ، لَمُسْلِمٌ أَسْتَبْقِيهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ حِصْنٍ أَفْتَحُهُ وَقَالُوا: يَنْفُذُ الشَّرْطُ وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا، إنْ لَمْ يُبْطِلْهُ الإِْمَامُ قَبْل حَوْزِ الْمَغْنَمِ (2) .
مَحَل التَّنْفِيل:
5 - يَجُوزُ التَّنْفِيل مِنْ بَيْتِ الْمَال الَّذِي عِنْدَ الإِْمَامِ، وَيُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ: أَنْ يَكُونَ النَّفَل مَعْلُومًا نَوْعًا، وَقَدْرًا، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُنَفِّل مِمَّا سَيَغْنَمُ مِنَ الأَْعْدَاءِ وَتُغْتَفَرُ الْجَهَالَةُ فِيهَا لِلْحَاجَةِ (3) .
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ النَّفَل إِذَا كَانَ مِنَ الْغَنِيمَةِ.
فَقَال الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَكُونُ النَّفَل مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْل
__________
(1) المغني 8 / 379 381، وروضة الطالبين 6 / 369، والقليوبي 3 / 193، وحاشية ابن عابدين 3 / 238، وفتح القدير 5 / 249.
(2) حاشية الزرقاني 3 / 128.
(3) حاشية ابن عابدين 3 / 238، وروضة الطالبين 6 / 369، والمغني 8 / 383.(14/75)
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (1) . وَاسْتَدَل بِحَدِيثِ: لاَ نَفْل إلاَّ بَعْدَ الْخُمُسِ (2) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ إذَا نَفَل الإِْمَامُ فِي أَثْنَاءِ الْقِتَال، أَمَّا إذَا نَفَل بَعْدَ الإِْحْرَازِ فَلاَ يُنَفِّل إلاَّ مِنَ الْخُمُسِ (3) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الْخُمُسِ (4) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، وَهُوَ حَظُّ الإِْمَامِ. وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَهُمْ: يَكُونُ مِنْ أَصْل الْغَنِيمَةِ (5) .
وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَقُول: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ، وَلاَ يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ، قَالُوا: وَمَا نُقِل أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ فَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ (6) .
قَدْرُ النَّفَل:
6 - لَيْسَ لِلنَّفَل حَدٌّ أَدْنَى فَلِلإِْمَامِ أَنْ يُنَفِّل الثُّلُثَ أَوِ الرُّبُعَ أَوْ أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَلاَّ يُنَفِّل أَصْلاً. هَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَلَفُوا:
__________
(1) المغني 8 / 384.
(2) حديث: " لا تقل إلا بعد الخمس " أخرجه أبو داود (3 / 187 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث معن بن يزيد، وإسناده حسن.
(3) ابن عابدين 3 / 241، وفتح القدير 5 / 250.
(4) الزرقاني 3 / 128 وما بعدها، وبداية المجتهد 1 / 413.
(5) القليوبي 3 / 193.
(6) القليوبي 3 / 193، ورضة الطالبين 6 / 370، والمغني 8 / 380.(14/76)
هَل لِلتَّنْفِيل حَدٌّ أَعْلَى؟ .
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلتَّنْفِيل حَدٌّ أَعْلَى، فَلِلإِْمَامِ أَنْ يُنَفِّل السَّرِيَّةَ كُل مَا تَغْنَمُهُ، أَوْ بِقَدْرٍ مِنْهُ، كَأَنْ يَقُول: مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ أَوْ لَكُمْ ثُلُثُهُ أَوْ رُبُعُهُ بَعْدَ الْخُمُسِ، أَوْ قَبْلَهُ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ لِلإِْمَامِ أَنْ يَقُول ذَلِكَ لِلْعَسْكَرِ كُلِّهِ، وَقَال ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يَجُوزُ أَنْ يَقُول ذَلِكَ لِلسَّرِيَّةِ أَيْضًا (1) .
وَلَيْسَ لِلتَّنْفِيل حَدٌّ أَعْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بَل هُوَ مَوْكُولٌ بِاجْتِهَادِ الإِْمَامِ وَتَقْدِيرِهِ حَسَبَ قِيمَةِ الْعَمَل وَخَطَرِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنَفِّل الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ وَالثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ إذَا نَفَّل (2) .
وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ مَوْكُولٌ لاِجْتِهَادِ الإِْمَامِ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ يَجُوزُ تَنْفِيل أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ؛ لأَِنَّ نَفْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَتَجَاوَزِ الثُّلُثَ (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 3 / 240، والقليوبي 3 / 193.
(2) حديث حبيب بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل الربع بعد الخمس إذا نفل، أخرجه أبو داود (3 / 182 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده صحيح.
(3) نهاية المحتاج 6 / 146، ومغني المحتاج 3 / 102، والقليوبي 3 / 193.
(4) المغني 8 / 380.(14/76)
وَقْتُ التَّنْفِيل:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ التَّنْفِيل يَكُونُ قَبْل إِصَابَةِ الْمَغْنَمِ، أَمَّا بَعْدَ إِصَابَةِ الْمَغْنَمِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَخُصَّ الْبَعْضَ بِبَعْضِ مَا أَصَابُوهُ؛ لأَِنَّ حَقَّ الْغَانِمِينَ قَدْ تَأَكَّدَ بِالإِْصَابَةِ وَالإِْحْرَازِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لِلإِْمَامِ أَنْ يُنَفِّل بَعْدَ الإِْحْرَازِ مِنَ الْخُمُسِ؛ لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لِلْغَانِمِينَ فِيهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُنَفَّلُونَ مِنْ أَصْنَافِ الْخُمُسِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ نَفَل إلاَّ بَعْدَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ (1)
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 102، ونهاية المحتاج 6 / 146، وابن عابدين 3 / 238، وفتح القدير 5 / 250، وبداية المجتهد 1 / 414.(14/77)
تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّنْقِيحُ: التَّهْذِيبُ وَالتَّمْيِيزُ.
وَالْمَنَاطُ: الْعِلَّةُ (1) .
وَتَنْقِيحُ الْمَنَاطِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: هُوَ النَّظَرُ وَالاِجْتِهَادُ فِي تَعْيِينِ مَا دَل النَّصُّ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، بِحَذْفِ مَا لاَ مَدْخَل لَهُ فِي الاِعْتِبَارِ مِمَّا اُقْتُرِنَ بِهِ مِنَ الأَْوْصَافِ، كُل وَاحِدٍ بِطَرِيقِهِ - وَذَلِكَ مِثْل قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلأَْعْرَابِيِّ الَّذِي قَال: هَلَكْتُ يَا رَسُول اللَّهِ - مَا صَنَعْتَ؟ ، قَال: وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً (2) ، فَإِنَّهُ يَدُل عَلَى كَوْنِ الْوِقَاعِ عِلَّةً لِلْعِتْقِ، وَالتَّعْلِيل بِالْوِقَاعِ وَإِنْ كَانَ مُومًى إلَيْهِ بِالنَّصِّ، غَيْرَ أَنَّهُ يُفْتَقَرُ فِي مَعْرِفَتِهِ عَيْنًا إلَى حَذْفِ كُل مَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الأَْوْصَافِ عَنْ
__________
(1) مختار الصحاح، والمصباح المنير، ولسان العرب، وإرشاد الفحول للشوكاني 221.
(2) حديث: " أعتق رقبة " أخرجه البخاري (الفتح 9 / 514 ط السلفية) من حديث أبي هريرة.(14/77)
دَرَجَةِ الاِعْتِبَارِ بِالرَّأْيِ وَالاِجْتِهَادِ. وَذَلِكَ بِأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ كَوْنَهُ أَعْرَابِيًّا، وَكَوْنَهُ شَخْصًا مُعَيَّنًا، وَأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَذَلِكَ الشَّهْرَ بِخُصُوصِهِ، وَذَلِكَ الْيَوْمَ بِعَيْنِهِ، وَكَوْنَ الْمَوْطُوءَةِ زَوْجَةً وَامْرَأَةً مُعَيَّنَةً لاَ مَدْخَل لَهُ فِي التَّأْثِيرِ بِمَا يُسَاعِدُ مِنَ الأَْدِلَّةِ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَتَعَدَّى إِلَى كُل مَنْ وَطِئَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا، وَهُوَ مُكَلَّفٌ صَائِمٌ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - إلْغَاءُ الْفَارِقِ:
2 - إِلْغَاءُ الْفَارِقِ هُوَ بَيَانُ عَدَمِ تَأْثِيرِ الْفَارِقِ بَيْنَ الأَْصْل وَالْفَرْعِ فِي الْقِيَاسِ، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ لِمَا اشْتَرَكَا فِيهِ. وَذَلِكَ كَإِلْحَاقِ الأَْمَةِ بِالْعَبْدِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ الثَّابِتَةِ بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْل فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ (2) فَالْفَارِقُ بَيْنَ الأَْمَةِ وَالْعَبْدِ هُوَ الأُْنُوثَةُ وَلاَ تَأْثِيرَ لَهَا فِي مَنْعِ السِّرَايَةِ، فَتَثْبُتُ السِّرَايَةُ فِيهَا لِمَا شَارَكَتْ فِيهِ الْعَبْدَ أَيْ لِلْوَصْفِ الَّذِي شَارَكَتْ فِيهِ الْعَبْدَ وَهُوَ الرِّقِّيَّةُ (3) .
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3 / 63، وروضة الناظر 146، 147، والمستصفى 2 / 231.
(2) حديث: " من أعتق شركا له في عبد. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 150 - 151 ط السلفية) ومسلم (3 / 1286 ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(3) جمع الجوامع 2 / 293.(14/78)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ وَإِلْغَاءِ الْفَارِقِ أَنَّ إِلْغَاءَ الْفَارِقِ لَيْسَ فِيهِ تَعْيِينٌ لِلْعِلَّةِ، وَإِنَّمَا يَحْصُل الإِْلْحَاقُ بِمُجَرَّدِ الإِْلْغَاءِ، أَمَّا تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ فَفِيهِ اجْتِهَادٌ فِي تَعْيِينِ الْبَاقِي مِنَ الأَْوْصَافِ لِلْعِلِّيَّةِ، قَال الْبُنَانِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ: لاَ يَلْزَمُ مِنَ الْقَطْعِ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ الْقَطْعُ بِعِلِّيَّةِ الْبَاقِي بَعْدَ الْفَارِقِ الْمُلْغَى؛ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَمْرًا آخَرَ وَرَاءَهُمَا ثُمَّ قَال: وَالْحَاصِل أَنَّ هُنَا أَمْرَيْنِ: كَوْنَ الْفَارِقِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِي الْعِلِّيَّةِ، وَكَوْنَ الْبَاقِي بَعْدَ ذَلِكَ الْفَارِقِ هُوَ الْعِلَّةُ، وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الأَْوَّل ثُبُوتُ الثَّانِي (1) .
غَيْرَ أَنَّ تَعْرِيفَ الشَّوْكَانِيِّ لِتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ يَكَادُ يَكُونُ هُوَ تَعْرِيفُ إِلْغَاءِ الْفَارِقِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمَحَلِّيُّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ، مَعَ ذِكْرِ نَفْسِ الْمِثَال، وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ.
قَال الشَّوْكَانِيُّ فِي تَعْرِيفِ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ: مَعْنَى تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: إِلْحَاقُ الْفَرْعِ بِالأَْصْل بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ، بِأَنْ يُقَال: لاَ فَرْقَ بَيْنَ الأَْصْل وَالْفَرْعِ إلاَّ كَذَا، وَذَلِكَ لاَ مَدْخَل لَهُ فِي الْحُكْمِ أَلْبَتَّةَ فَيَلْزَمُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ؛ لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُوجِبِ لَهُ، كَقِيَاسِ الأَْمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي السِّرَايَةِ، فَإِنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلاَّ الذُّكُورَةَ وَهُوَ مُلْغًى بِالإِْجْمَاعِ إِذْ لاَ مَدْخَل لَهُ فِي الْعِلِّيَّةِ (2) .
__________
(1) حاشية البناني على جمع الجوامع 2 / 293.
(2) إرشاد الفحول للشوكاني ص221، 222.(14/78)
ب - السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ:
3 - السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ حَصْرُ الأَْوْصَافِ الْمَوْجُودَةِ فِي الأَْصْل الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، وَإِبْطَال مَا لاَ يَصْلُحُ مِنْهَا لِلْعِلِّيَّةِ، فَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لَهَا، كَأَنْ يَحْصُرَ أَوْصَافَ الْبُرِّ فِي قِيَاسِ الذُّرَةِ عَلَيْهِ فِي الطَّعْمِ وَغَيْرِهِ، وَيُبْطِل مَا عَدَا الطَّعْمَ بِطَرِيقِهِ، فَيَتَعَيَّنُ الطَّعْمُ لِلْعِلِّيَّةِ (1) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ وَبَيْنَ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، أَنَّ الْوَصْفَ فِي تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، بِخِلاَفِهِ فِي السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ أَنَّ الْفَخْرَ الرَّازِيَّ زَعَمَ أَنَّ مَسْلَكَ " تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ " هُوَ مَسْلَكُ " السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ " فَلاَ يَحْسُنُ عَدُّهُ نَوْعًا آخَرَ.
وَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا ظَاهِرًا؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَصْرَ فِي دَلاَلَةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ إِمَّا اسْتِقْلاَلاً أَوِ اعْتِبَارًا، وَفِي تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ لِتَعْيِينِ الْفَارِقِ وَإِبْطَالِهِ، لاَ لِتَعْيِينِ الْعِلَّةِ (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
4 - تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ مَسْلَكٌ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ، وَلَكِنَّهُ دُونَ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ فِي الْمَرْتَبَةِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ بَل قَال أَبُو حَنِيفَةَ:
__________
(1) جمع الجوامع 2 / 270.
(2) هامش جمع الجوامع 2 / 292.
(3) إرشاد الفحول ص222.(14/79)
لاَ قِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَأَثْبَتَ هَذَا النَّمَطَ مِنَ التَّصَرُّفِ وَسَمَّاهُ اسْتِدْلاَلاً.
يَقُول الْغَزَالِيُّ: فَمَنْ جَحَدَ هَذَا الْجِنْسَ مِنْ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ وَأَصْحَابِ الظَّاهِرِ لَمْ يَخْفَ فَسَادُ كَلاَمِهِ.
وَقَدْ نَازَعَ الْعَبْدَرِيُّ الْغَزَالِيَّ بِأَنَّ الْخِلاَفَ فِيهِ ثَابِتٌ بَيْنَ مَنْ يُثْبِتُ الْقِيَاسَ وَيُنْكِرُهُ لِرُجُوعِهِ إلَى الْقِيَاسِ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) المستصفى 2 / 233، والأحكام للآمدي 3 / 63، وإرشاد الفحول ص222.(14/79)
تَنَمُّصٌ
التَّعْرِيفُ
1 - النَّمْصُ: هُوَ نَتْفُ الشَّعْرِ،
وَقِيل: هُوَ نَتْفُ الشَّعْرِ مِنَ الْوَجْهِ.
وَالنَّامِصَةُ: هِيَ الَّتِي تَنْتِفُ الشَّعْرَ مِنْ وَجْهِهَا أَوْ مِنْ وَجْهِ غَيْرِهَا
وَالْمُتَنَمِّصَةُ: هِيَ الَّتِي تَنْتِفُ الشَّعْرَ مِنْ وَجْهِهَا، أَوْ هِيَ مَنْ تَأْمُرُ غَيْرَهَا بِفِعْل ذَلِكَ.
وَالْمِنْمَاصُ: الْمِنْقَاشُ، الَّذِي يُسْتَخْرَجُ بِهِ الشَّوْكُ
وَتَنَمَّصَتِ الْمَرْأَةُ: أَخَذَتْ شَعْرَ جَبِينِهَا بِخَيْطٍ لِتَنْتِفَهُ.
وَانْتَمَصَتْ: أَمَرَتِ النَّامِصَةَ أَنْ تَنْتِفَ شَعْرَ وَجْهِهَا، وَنَتَفَتْ هِيَ شَعْرَ وَجْهِهَا.
وَالنَّمْصُ: رِقَّةُ الشَّعْرِ وَدِقَّتُهُ، حَتَّى تَرَاهُ كَالزَّغَبِ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلْكَلِمَةِ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ، إلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَيَّدَ النَّمْصَ
__________
(1) لسان العرب، والنهاية لابن الأثير، ومجمع البحار للفتني، مادة: " نمص " والقرطبي 5 / 392، والفائق للزمخشري 2 / 130 عيسى الحلبي.(14/80)
بِتَرْقِيقِ الْحَوَاجِبِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَفُّ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْحَفِّ الإِْزَالَةُ
يُقَال: حَفَّ اللِّحْيَةَ يَحُفُّهَا حَفًّا: إِذَا أَخَذَ مِنْهَا وَيُقَال: حَفَّتِ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا حَفًّا وَحِفَافًا: أَيْ أَزَالَتْ عَنْهُ الشَّعْرَ بِالْمُوسَى وَقَشَّرَتْهُ (2) .
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَفِّ وَالتَّنَمُّصِ أَنَّ الْحَفَّ بِالْمُوسَى.
ب - الْحَلْقُ:
3 - الْحَلْقُ هُوَ اسْتِئْصَال الشَّعْرِ بِالْمُوسَى وَنَحْوِهَا، قَال تَعَالَى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ (3) }
وَيُطْلَقُ - أَيْضًا - عَلَى قَطْعِ الشَّعْرِ، وَالأَْخْذِ مِنْهُ (4) .
__________
(1) أحكام النساء لابن الجوزي ص94 ط التراث الإسلامي، ونيل الأوطار 6 / 192 - مصطفى الحلبي، والقرطبي 5 / 92، والجمل على المنهج 1 / 418 - ط إحياء التراث، الأبي والسنوسي 5 / 408 - دار الكتب العلمية، ابن عابدين 5 / 239 - إحياء التراث، وعون المعبود 11 / 228 - السلفية وزروق على الرسالة 1 / 370 - الجمالية، ومجمع البحار 3 / 398، والعدوي على الرسالة 2 / 423 - دار المعرفة، فح الباري 10 / 377 - السلفية.
(2) اللسان، والمصباح، والمعجم الوسيط - مادة: " حف ".
(3) سورة الفتح / 27.
(4) مفردات القرآن واللسان والنهاية مادة: " حلق ".(14/80)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَتْفَ شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ دَاخِلٌ فِي نَمْصِ الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَعَنَ اللَّهُ النَّامِصَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ (1) . "
وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَفِّ وَالْحَلْقِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الْحَفَّ فِي مَعْنَى النَّتْفِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ الْحَفِّ وَالْحَلْقِ، وَأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ النَّتْفُ فَقَطْ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ نَتْفَ مَا عَدَا الْحَاجِبَيْنِ مِنْ شَعْرِ الْوَجْهِ دَاخِلٌ أَيْضًا فِي النَّمْصِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَأَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ، وَبَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَذَاهِبِ الثَّلاَثَةِ الأُْخْرَى إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّنَمُّصِ فِي الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى الْحُرْمَةِ، وَنُقِل عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ.
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ عَامًّا، وَذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ إلَى عُمُومِ النَّهْيِ، وَأَنَّ التَّنَمُّصَ حَرَامٌ عَلَى كُل حَالٍ (2) .
__________
(1) حديث: " أنه صلى الله عليه وسلم لعن النامصات والمتنمصات. . . " أخرجه مسلم (3 / 1678 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود.
(2) أحكام النساء ص94، ونيل الأوطار 6 / 192، والقرطبي 5 / 392، والجمل على المنهج 1 / 418، وابن عابدين 2 / 239، وزرق على الرسالة 1 / 370، وعون المعبود 11 / 228، وفتح الباري 10 / 377، والمجموع 3 / 141 - النيرية، الآداب الشرعية لابن مفلح 3 / 355 - النار، والمغني 1 / 94 - الرياض، الطحطاوي على الدر 4 / 186 - دار المعرفة، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 501 - عيسى الحلبي.(14/81)
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّنَمُّصُ لِغَيْرِ الْمُتَزَوِّجَةِ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ لِغَيْرِ الْمُتَزَوِّجَةِ فِعْل ذَلِكَ إِذَا اُحْتِيجَ إِلَيْهِ لِعِلاَجٍ أَوْ عَيْبٍ، بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهِ تَدْلِيسٌ عَلَى الآْخَرِينَ.
قَال الْعَدَوِيُّ: وَالنَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمَنْهِيَّةِ عَنِ اسْتِعْمَال مَا هُوَ زِينَةٌ لَهَا، كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا وَالْمَفْقُودِ زَوْجُهَا.
أَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا التَّنَمُّصُ، إِذَا كَانَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ، أَوْ دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ مِنَ الزِّينَةِ، وَالزِّينَةُ مَطْلُوبَةٌ لِلتَّحْصِينِ، وَالْمَرْأَةُ مَأْمُورَةٌ بِهَا شَرْعًا لِزَوْجِهَا.
وَدَلِيلُهُمْ مَا رَوَتْهُ بَكْرَةُ بِنْتُ عُقْبَةَ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ الْحِفَافِ، فَقَالَتْ: إِنْ كَانَ لَك زَوْجٌ فَاسْتَطَعْتِ أَنْ تَنْتَزِعِي مُقْلَتَيْك فَتَصْنَعِيهِمَا أَحْسَن مِمَّا هُمَا فَافْعَلِي (1) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 8 / 426، والآداب الشرعية 3 / 355، والثمر الداني 504، والعدوي على الرسالة 2 / 423، وابن عابدين 5 / 239، والأبي والسنوسي 5 / 408، ونهاية المحتاج 2 / 23 - مصطفى الحلبي، وأحكام النساء ص94.(14/81)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّنَمُّصِ - وَهُوَ النَّتْفُ - وَلَوْ كَانَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ، وَإِلَى جَوَازِ الْحَفِّ وَالْحَلْقِ.
وَخَالَفَهُمْ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَأَبَاحَهُ، وَحَمَل النَّهْيَ عَلَى التَّدْلِيسِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ شِعَارَ الْفَاجِرَاتِ (1) .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ إِذَا نَبَتَتْ لَهَا لِحْيَةٌ أَوْ شَوَارِبُ أَوْ عَنْفَقَةٌ أَنْ تُزِيلَهَا، وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِإِذْنِ الزَّوْجِ.
وَأَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَيْهَا - فِي الْمُعْتَمَدِ - أَنْ تُزِيلَهَا؛ لأَِنَّ فِيهَا مُثْلَةٌ.
أَمَّا ابْنُ جَرِيرٍ فَذَهَبَ إلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ (2) .
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُزِيل شَعْرَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا وَظَهْرِهَا وَبَطْنهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّ فِي تَرْكِ هَذَا الشَّعْرِ مُثْلَةً.
يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُل التَّنَمُّصُ، وَيُكْرَهُ لَهُ حَفُّ
__________
(1) أحكام النساء 94، والفروع 1 / 135، والآداب الشرعية 3 / 355.
(2) المجموع 1 / 290، 378، وابن عابدين 5 / 239، وفتح الباري 10 / 377 حسن الأسود لصديق خان 2 / 787 المدني، والعدوي على الرسالة 2 / 409، وزاد المسلم للشنقيطي 1 / 178، 2 / 19، والقرطبي 5 / 392 ونيل الأوطار 6 / 192.(14/82)
حَاجِبِهِ أَوْ حَلْقُهُ، وَيَجُوزُ لَهُ الأَْخْذُ مِنْهُ مَا لَمْ يُشْبِهِ الْمُخَنَّثِينَ (1) .
تَنْمِيَةٌ
اُنْظُرْ: إنْمَاءٌ.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 261، والعدوي على الرسالة 2 / 409، والثمر الداني 500 والطحطاوي على الدر 4 / 186، زروق على الرسالة 1 / 370، الآداب الشرعية 3 / 355، والفروع 1 / 130.(14/82)
تَنَوُّرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي التَّنَوُّرُ لُغَةً: الطِّلاَءُ بِالنُّورَةِ (1) ،
يُقَال: تَنَوَّرَ: تَطَلَّى بِالنُّورَةِ لِيُزِيل الشَّعْرَ (2)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الاِسْتِحْدَادُ:
2 - الاِسْتِحْدَادُ حَلْقُ الْعَانَةِ، سُمِّيَ اسْتِحْدَادًا لاِسْتِعْمَال الْحَدِيدَةِ وَهِيَ الْمُوسَى، وَفِي حُكْمِ الْحَلْقِ الْقَصُّ وَالنَّتْفُ وَالنُّورَةُ (3) .
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الاِسْتِحْدَادُ أَعَمَّ مِنَ التَّنَوُّرِ؛ لأَِنَّهُ كَمَا يَكُونُ بِالتَّنَوُّرِ يَكُونُ بِغَيْرِهِ مِنْ حَلْقٍ وَقَصٍّ وَنَتْفٍ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - إزَالَةُ شَعْرِ الْعَانَةِ وَالإِْبْطِ مِنْ خِصَال الْفِطْرَةِ
__________
(1) النورة بالضم، هو من الحجر يحرق ويسوي منه الكلس ويحلق به شعر العانة.
(2) الصحاح وتاج العروس والمصباح المنير مادة: " نور ".
(3) نيل الأوطار 1 / 133 ط دار الجيل، وصحيح مسلم بشرح النووي 2 / 148 ط المطبعة المصرية.(14/83)
الَّتِي وَرَدَ بِمَشْرُوعِيَّتِهَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، وَالإِْزَالَةُ تَكُونُ بِأُمُورٍ مِنْهَا: التَّنَوُّرُ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ إزَالَةِ شَعْرِ الْعَانَةِ وَالإِْبْطِ بِالتَّنَوُّرِ، لِمَا رَوَاهُ الْخَلاَّل بِإِسْنَادِهِ عَنْ نَافِعٍ قَال: كُنْت أَطْلِي ابْنَ عُمَرَ فَإِذَا بَلَغَ عَانَتَهُ نَوَّرَهَا هُوَ بِيَدِهِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) وَلأَِنَّ أَصْل السُّنَّةِ يَتَأَدَّى بِالإِْزَالَةِ بِكُل مُزِيلٍ (2) .
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ التَّنَوُّرِ وَالْحَلْقِ وَالنَّتْفِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَل لإِِزَالَةِ شَعْرِ الْعَانَةِ فِي حَقِّ الرَّجُل لِمُوَافَقَتِهِ خَبَرَ عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الأَْظْفَارِ، وَغَسْل الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الإِْبْطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ (3) .
__________
(1) حديث: طلائه صلى الله عليه وسلم بالنورة، أخرجه ابن ماجه (2 / 234 ط الحلبي) من حديث أن سلمة. وقال البوصيري: " هذا حديث رجاله ثقات، وهو منقطع، وحبيب بن أبي ثابت لم يسمع من أم سلمة، قاله أبو زرعة.
(2) المغني 1 / 86 ط الرياض، وكشاف القناع 1 / 76، والإنصاف 1 / 122 ط دار إحياء التراث العربي، وكفاية الطالب الرباني 2 / 409 نشر دار المعرفة، وروضة الطالبين 3 / 234 نشر المكتب الإسلامي، وحاشبة ابن عابدين 5 / 261، وفتح الباري 10 / 243، 244 ط السلفية، وصحيح مسلم بشرح النووي 3 / 148 ط المطبعة المصرية، ونيل الأوطار 1 / 160 ط دار الجيل.
(3) حديث: " عشر من الفطرة. . . . " أخرجه مسلم (1 / 223 ط الحلبي من حديث عائشة) .(14/83)
قَال أَبُو شَامَةَ: يَقُومُ التَّنَوُّرُ مَكَانَ الْحَلْقِ وَكَذَلِكَ النَّتْفُ وَالْقَصُّ (1) .
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَالأَْوْلَى فِي حَقِّهَا النَّتْفُ. وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
وَيَرَى جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ تَرْجِيحَ الْحَلْقِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ بَأْسَ بِالإِْزَالَةِ بِأَيِّ شَيْءٍ وَالْحَلْقُ أَفْضَل.
أَمَّا إزَالَةُ شَعْرِ الإِْبْطَيْنِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ النَّتْفِ فِيهِ لِمُوَافَقَتِهِ الْخَبَرَ، فَغَيْرُهُ مِنَ الْحَلْقِ وَالتَّنَوُّرِ خِلاَفُ الأَْوْلَى (2) .
وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيل تَحْتَ عِنْوَانِ: (اسْتِحْدَادٌ) .
__________
(1) المغني 1 / 86، ورضة الطالبين 3 / 234، وحاشية الجمل 2 / 48، وكفاية الطالب الرباني 2 / 409، وابن عابدين 5 / 261، والاختيار 4 / 167، وفتح الباري 10 / 343 ط السلفية.
(2) ابن عابدين 5 / 261، والاختيار 4 / 167، نشر دار المعرفة، وحاشية الجمل على شرح المنهج 2 / 48، وأسنى المطالب 1 / 550، وروضة الطالبين 3 / 234، وفتح الباري 10 / 344 ط السلفية، وكفاية الطالب الرباني 2 / 409 نشر دار المعرفة، والمغني 1 / 86 - 87.(14/84)
تَهَاتُرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّهَاتُرُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْهِتْرِ بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْكَذِبُ وَالسَّقْطُ مِنَ الْكَلاَمِ وَالْخَطَأُ فِيهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّهَادَاتِ الَّتِي يُكَذِّبُ بَعْضُهَا بَعْضًا يُقَال: تَهَاتَرَتِ الْبَيِّنَتَانِ أَيْ: تَعَارَضَتَا وَتَسَاقَطَتَا. وَتَهَاتَرَ الرَّجُلاَنِ إذَا ادَّعَى كُل وَاحِدٍ عَلَى الآْخَرِ بَاطِلاً (1) .
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
تَهَاتُرُ الْبَيِّنَتَيْنِ:
2 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ وَلَمْ يُمْكِنِ الْعَمَل بِهِمَا مَعًا، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُرَجِّحُ إحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى، فَإِنَّهُمَا تَتَهَاتَرَانِ كَالْخَبَرَيْنِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الصُّوَرِ الَّتِي يُمْكِنُ الْعَمَل بِهِمَا مَعًا،
وَفِي الصُّوَرِ الَّتِي لاَ يُمْكِنُ الْعَمَل بِهِمَا فَتَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ فِيهَا.
__________
(1) تاج العروس، والمصباح المنير مادة: " هتر " وفتح القدير 6 / 217 ط صادر للطباعة بيروت.(14/84)
فَإِذَا ادَّعَى - مَثَلاً - اثْنَانِ عَيْنًا فِي يَدِ ثَالِثٍ وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، وَلاَ مُرَجِّحَ لإِِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى، فَإِنَّهُمَا تَتَهَاتَرَانِ فِي أَصَحِّ الأَْقْوَال عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ وَقَالُوا: لأَِنَّ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ لاِسْتِحَالَةِ الْمِلْكَيْنِ فِي الْكُل، وَلأَِنَّهُمَا حُجَّتَانِ تَعَارَضَتَا مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ لإِِحْدَاهُمَا عَلَى الأُْخْرَى فَتَسَاقَطَتَا كَالْخَبَرَيْنِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُعْمَل بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا بِالتَّسَاوِي، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ (1) .
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاقَةٍ وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً، فَقَضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ (2) ، قَالُوا: وَلأَِنَّ الْمُطْلِقَ لِلشَّهَادَةِ فِي مَا مَعَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُحْتَمِلٌ الْوُجُودَ، بِأَنْ تَعْتَمِدَ إحْدَاهُمَا سَبَبَ الْمِلْكِ وَالأُْخْرَى الْيَدَ فَصَحَّتِ الشَّهَادَتَانِ، فَيَجِبُ الْعَمَل بِهِمَا مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ بِالتَّنْصِيفِ، لاِسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الاِسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ.
وَمَدَارُ الْعَمَل بِالشَّهَادَتَيْنِ صِحَّتُهُمَا لاَ صِدْقُهُمَا فَإِنَّهُ مِمَّا لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ.
__________
(1) القليوبي وعميرة 4 / 743، والمغني 9 / 287، وفتح القدير 6 / 217.
(2) حديث: " أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناقة. . . . " أخرجه أبو داود (4 / 37، 38 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . والببيهقي (10 / 254، 38 - ط دائرة المعارف العثمانية) وأعله البيهقي بالإرسال.(14/85)
أَمَّا بَاقِي حَالاَتِ التَّهَاتُرِ، وَمَا يُعْتَبَرُ مُرَجِّحًا لإِِحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ وَآرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ فَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِهِ إلَى مُصْطَلَحِ: (تَعَارُضٌ) .
تَهَايُؤٌ
اُنْظُرْ: مُهَايَأَةٌ.(14/85)
تَهَجُّدٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّهَجُّدُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْهُجُودِ وَيُطْلَقُ عَلَى النَّوْمِ وَالسَّهَرِ. يُقَال هَجَدَ: نَامَ بِاللَّيْل فَهُوَ هَاجِدٌ وَالْجَمْعُ هُجُودٌ مِثْل: رَاقِدٍ وَرُقُودٌ وَقَاعِدٌ وَقُعُودٌ. وَهَجَدَ. صَلَّى بِاللَّيْل، وَيُقَال: تَهَجَّدَ: إذَا نَامَ. وَتَهَجَّدَ: إذَا صَلَّى فَهُوَ مِنَ الأَْضْدَادِ (1) .
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: قَال الأَْزْهَرِيُّ: الْمَعْرُوفُ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ أَنَّ الْهَاجِدَ هُوَ النَّائِمُ. هَجَدَ هُجُودًا إذَا نَامَ. وَأَمَّا الْمُتَهَجِّدُ فَهُوَ الْقَائِمُ إلَى الصَّلاَةِ مِنَ النَّوْمِ. وَكَأَنَّهُ قِيل لَهُ مُتَهَجِّدٌ لإِِلْقَائِهِ الْهُجُودَ عَنْ نَفْسِهِ (2) .
وَقَدْ فَسَّرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَمُجَاهِدٌ {نَاشِئَةَ اللَّيْل (3) } بِالْقِيَامِ لِلصَّلاَةِ بَعْدَ النَّوْمِ، فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلتَّهَجُّدِ (4) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هُوَ صَلاَةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْل
__________
(1) المصباح المنير مادة: " هجد ".
(2) لسان العرب مادة: " هجد ".
(3) سورة المزمل / 6.
(4) تفسير القرطبي 19 / 39.(14/86)
بَعْدَ النَّوْمِ (1) ، وَقَال أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: فِي مَعْنَى التَّهَجُّدِ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ (الأَْوَّل) أَنَّهُ النَّوْمُ ثُمَّ الصَّلاَةُ ثُمَّ النَّوْمُ ثُمَّ الصَّلاَةُ، (الثَّانِي) أَنَّهُ الصَّلاَةُ بَعْدَ النَّوْمِ، (وَالثَّالِثُ) أَنَّهُ بَعْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ. ثُمَّ قَال عَنِ الأَْوَّل: إنَّهُ مِنْ فَهْمِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ عَوَّلُوا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنَامُ وَيُصَلِّي، وَيَنَامُ وَيُصَلِّي (2) . وَالأَْرْجَحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الرَّأْيُ الثَّانِي (3) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - قِيَامُ اللَّيْل:
2 - الأَْصْل فِي قِيَامِ اللَّيْل أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الاِشْتِغَال فِيهِ بِالصَّلاَةِ دُونَ غَيْرِهَا. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الاِشْتِغَال بِمُطْلَقِ الطَّاعَةِ مِنْ تِلاَوَةٍ وَتَسْبِيحٍ وَنَحْوِهِمَا.
وَقِيَامُ اللَّيْل قَدْ يَسْبِقُهُ نَوْمٌ بَعْدَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ وَقَدْ لاَ يَسْبِقُهُ أَمَّا التَّهَجُّدُ فَلاَ يَكُونُ إلاَّ بَعْدَ نَوْمٍ
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 3 / 245، والدسوقي 2 / 211، ونهاية المحتاج 2 / 127، ومطالب أولي النهى 1 / 567.
(2) حديث: " كان ينام ويصلي وينام ويصلي " أخرجه مسلم (1 / 526 - 527 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.
(3) الإقناع للشربيني الخطيب 1 / 106 دار المعرفة، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 308، وأحكام القرآن لابن العربي 3 / 1211، والدسوقي 2 / 211، وجواهر الإكليل 1 / 272.(14/86)
ب - إحْيَاءُ اللَّيْل:
3 - الْمُرَادُ بِإِحْيَاءِ اللَّيْل قَضَاؤُهُ أَوْ أَكْثَرَهُ بِالْعِبَادَةِ كَالصَّلاَةِ، وَالذِّكْرِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ، فَالإِْحْيَاءُ أَخَصُّ لِشُمُولِهِ اللَّيْل كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ، وَالتَّهَجُّدُ أَخَصُّ لِكَوْنِهِ بِالصَّلاَةِ دُونَ غَيْرِهَا.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (إحْيَاءُ اللَّيْل) .
حُكْمُهُ:
4 - التَّهَجُّدُ مَسْنُونٌ فِي حَقِّ الأُْمَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك (1) } .
أَيْ فَرِيضَةً زَائِدَةً عَلَى الْفَرِيضَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمُوَاظَبَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّهَجُّدِ؛ وَلِمَا وَرَدَ فِي شَأْنِهِ مِنَ الأَْحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى سُنِّيَّتِهِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِصَلاَةِ اللَّيْل، فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَقُرْبَةٌ إلَى رَبِّكُمْ، وَمُكَفِّرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِْثْمِ (2) .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَفْضَل الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْل (3) وَالْمُرَادُ بِهَا التَّهَجُّدُ.
__________
(1) سورة الإسراء / 79.
(2) حديث: " عليكم بصلاة الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم ". أخرجه الحاكم (1 / 308 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي أمامة الباهلي وصححه ووافقه الذهبي.
(3) حديث: " أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل " أخرجه مسلم (2 / 821 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.(14/87)
وَأَمَّا فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِهِ أَوْ نَفْلِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ (1) : يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اخْتِصَاصٌ) .
وَقْتُهُ:
5 - أَفْضَل أَوْقَاتِ التَّهَجُّدِ جَوْفُ اللَّيْل الآْخَرِ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ قَال: قُلْت: يَا رَسُول اللَّهِ: أَيُّ اللَّيْل أَسْمَعُ؟ قَال: جَوْفُ اللَّيْل الآْخَرِ فَصَل مَا شِئْت (2)
فَلَوْ جَعَل اللَّيْل نِصْفَيْنِ أَحَدَهُمَا لِلنَّوْمِ وَالآْخَرَ لِلْقِيَامِ فَالأَْخِيرُ أَفْضَل؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَنْزِل رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُل لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْل الأَْخِيرِ فَيَقُول: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ (3) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
__________
(1) مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه 216 - 217، والإقناع للشربيني الخطيب 1 / 106، ودار المعرفة، نهاية المحتاج للرملي 2 / 127، والفواكه الدواني 1 / 234، والمغني لابن قدامة 2 / 135 م الرياض الحديثة، مطالب أولي النهى 1 / 568، والموسوعة ج2 ص257.
(2) حديث: " أي الليل أسمع قال: جوف الليل الآخر، فصل ما شئت ". أخرجه أبو داود (2 / 56 - 57 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (5 / 570 - ط الحلبي) من حديث أبي أمامة وقال: حديث حسن صحيح.
(3) حديث: " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 29 ط السلفية) ومسلم (1 / 521 - ط الحلبي) .(14/87)
قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ أَثْلاَثًا فَيَقُومَ ثُلُثَهُ وَيَنَامَ ثُلُثَيْهِ، فَالثُّلُثُ الأَْوْسَطُ أَفْضَل مِنْ طَرَفَيْهِ، لأَِنَّ الْغَفْلَةَ فِيهِ أَتَمُّ، وَالْعِبَادَةُ فِيهِ أَفْضَل وَالْمُصَلِّينَ فِيهِ أَقَل؛ وَلِهَذَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ مِثْل الشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ فِي وَسَطِ الشَّجَرِ (1) وَالأَْفْضَل مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ السُّدُسُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ مِنَ اللَّيْل؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أَحَبُّ الصَّلاَةِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل صَلاَةُ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْل وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ (2) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَأَفْضَلُهُ عِنْدَهُمْ ثُلُثُهُ الأَْخِيرُ لِمَنْ تَكُونُ عَادَتُهُ الاِنْتِبَاهَ آخِرَ اللَّيْل، أَمَّا مَنْ كَانَ غَالِبُ حَالِهِ أَنْ لاَ يَنْتَبِهَ آخِرَهُ بِأَنْ كَانَ غَالِبُ أَحْوَالِهِ النَّوْمَ إلَى الصُّبْحِ، فَالأَْفْضَل أَنْ يَجْعَلَهُ أَوَّل اللَّيْل احْتِيَاطًا (3) .
__________
(1) حديث: " ذاكر الله في الغافلين مثل الشجرة الخضراء في وسط الشجر " أخرجه أبو نعيم (6 / 181 - ط السعادة) من حديث عبد الله بن عمر وضعفه العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (1 / 302 - ط الحلبي) .
(2) ابن عابدين 1 / 460، وروضة الطالبين 1 / 338، ونهاية المحتاج للرملي 2 / 126، والمهذب في فقه الإمام الشافعي 1 / 91، والمغني لابن قدامة 2 / 136 م الرياض الحديثة. وحديث: " أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 16 - ط السلفية) .
(3) الفواكه الدواني 1 / 234 من دار المعرفة.(14/88)
عَدَدُ رَكَعَاتِهِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَقَلَّهَا رَكْعَتَانِ خَفِيفَتَانِ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْل فَلْيَفْتَتِحْ صَلاَتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَكْثَرِهَا فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: مُنْتَهَى رَكَعَاتِهِ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ (2) قَال ابْنُ الْهُمَامِ: الظَّاهِرُ أَنَّ أَقَلّ تَهَجُّدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ رَكْعَتَيْنِ، وَأَنَّ مُنْتَهَاهُ كَانَ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ وَسَتَأْتِي الرِّوَايَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: أَكْثَرُهُ عَشْرُ رَكَعَاتٍ أَوِ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً (3) فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْل إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ (4) وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِيهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ (5) . يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اخْتِصَاصٌ) .
__________
(1) حديث: " إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين " أخرجه مسلم (1 / 532 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) ابن عابدين 1 / 460، والفتاوى الهندية 1 / 112 المكتبة الإسلامية وفتح القدير 1 / 390 دار إحياء التراث العربي.
(3) الفواكه الدواني 1 / 234 دار المعرفة.
(4) حديث: " كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة " أخرجه مسلم (1 / 508 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(5) حديث: " كان يصلي فيه اثنتي عشرة ركعة ثم يوتر بواحدة " أخرجه مسلم (1 / 531 - 532 ط الحلبي) من حديث زيد بن خالد.(14/88)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ حَصْرَ لِعَدَدِ رَكَعَاتِهِ وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ (1) . لِخَبَرِ: الصَّلاَةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ مَنْ شَاءَ أَقَلّ وَمَنْ شَاءَ أَكْثَر (2) .
رَكَعَاتُ تَهَجُّدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
7 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: اُخْتُلِفَ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ تَهَجُّدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُوِيَ أَنَّهُ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْل ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً (3) . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ غَيْرِهِ عَلَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلاَ تَسْأَل عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلاَ تَسْأَل عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا. وَفِي لَفْظٍ قَالَتْ: كَانَتْ صَلاَتُهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ بِاللَّيْل ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ وَفِي لَفْظٍ: مِنْهَا الْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ. وَفِي لَفْظٍ كَانَ يُصَلِّي ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ. وَفِي لَفْظٍ كَانَ يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى الْفَجْرِ إحْدَى
__________
(1) نهاية المحتاج للرملي 2 / 124 - 128، وكشاف القناع 1 / 438 - 439، والمغني 2 / 138 - 141.
(2) حديث: " الصلاة خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر " أخرجه أحمد (5 / 178 ط الميمنية) من حديث ذر، وأورده الهيثمي في المجمع (1 / 160 - ط القدسي) وقال: " فيه المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط ".
(3) " كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة " أخرجه مسلم (1 / 531 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس.(14/89)
عَشْرَةَ رَكْعَةً يُسَلِّمُ مِنْ كُل رَكْعَتَيْنِ وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ (1) .
تَرْكُ التَّهَجُّدِ لِمُعْتَادِهِ:
8 - يُكْرَهُ لِمَنِ اعْتَادَ التَّهَجُّدَ أَنْ يَتْرُكَهُ بِلاَ عُذْرٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاِبْنِ عَمْرٍو يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَكُنْ مِثْل فُلاَنٍ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْل فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْل (2) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ الأَْعْمَال إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَل (3) وَقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلاَةً دَاوَمَ عَلَيْهَا (4) هَذَا وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ وَمَا عَدَاهُ مِمَّا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ مِنْ صِفَةِ صَلاَتِهِ وَمَا يَقُولُهُ الْمُتَهَجِّدُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْل يَتَهَجَّدُ وَمَا يَقْرَأُ فِي تَهَجُّدِهِ، وَإِسْرَارِهِ بِالْقِرَاءَةِ وَجَهْرِهِ بِهَا، وَهَل تَهَجُّدُهُ فِي الْبَيْتِ أَفْضَل مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ أَوِ الْعَكْسُ، وَإِيقَاظِهِ مَنْ يُطْمَعُ فِي تَهَجُّدِهِ إذَا لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا، وَهَل إطَالَةُ الْقِيَامِ
__________
(1) حديث: " ما كان يزيد في رمضان ولا غيره عن إحدى عشرة ركعة " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 33 - ط السلفية) .
(2) حديث: " يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم من الليل فترك قيام الليل ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 37 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمرو.
(3) حديث: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل " أخرجه مسلم (1 / 541 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(4) حديث: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى داوم عليها " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 213 - ط السلفية) من حديث عائشة.(14/89)
أَفْضَل مِنْ تَكْثِيرِ الرَّكَعَاتِ أَوِ الْعَكْسُ (1) ،
تَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي بَحْثَيْ: (قِيَامِ اللَّيْل، وَإِحْيَاءِ اللَّيْل) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 460، الإقناع للشربين الخطيب 1 / 107 دار المعرفة، نهاية المحتاج للرملي 2 / 128، ومطالب أولي النهى1 / 570، والمغني لابن قدامة 2 / 104 - ط مكتبة القاهرة.(14/90)
تُهْمَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التُّهْمَةُ بِسُكُونِ الْهَاءِ وَفَتْحِهَا الشَّكُّ وَالرِّيبَةُ وَأَصْل التَّاءِ فِيهَا الْوَاوُ وَلأَِنَّهَا مِنَ الْوَهْمِ.
يُقَال اُتُّهِمَ الرَّجُل أَيْ: أَتَى بِمَا يُتَّهَمُ عَلَيْهِ. وَأَتْهَمْتُهُ ظَنَنْتُ بِهِ سُوءًا، وَاتَّهَمْتُهُ بِالتَّثْقِيل مِثْلُهُ (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
تَقْسِيمُ التُّهْمَةِ:
2 - قَسَّمَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ التُّهَمَ مِنْ حَيْثُ الْقُوَّةُ وَالضَّعْفُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ فَقَال: التُّهَمُ ثَلاَثَةُ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا تُهْمَةٌ قَوِيَّةٌ كَحُكْمِ الْحَاكِمِ لِنَفْسِهِ، وَشَهَادَةِ الشَّاهِدِ لِنَفْسِهِ، فَهَذِهِ تُهْمَةٌ مُوجِبَةٌ لِرَدِّ الْحُكْمِ وَالشَّهَادَةِ، لأَِنَّ قُوَّةَ الدَّاعِي الطَّبْعِيِّ قَادِحَةٌ فِي الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْوَازِعِ الشَّرْعِيِّ قَدْحًا ظَاهِرًا لاَ يَبْقَى مَعَهُ إِلاَّ ظَنٌّ
__________
(1) المصباح المنير مادة: " تهم " ولسان العرب والوسيط في اللغة، مادة: " وهم ".(14/90)
ضَعِيفٌ لاَ يَصْلُحُ لِلاِعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَلاَ لاِسْتِنَادِ الْحُكْمِ إلَيْهِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: تُهْمَةٌ ضَعِيفَةٌ كَشَهَادَةِ الأَْخِ لأَِخِيهِ، وَالصَّدِيقِ لِصَدِيقِهِ، وَالرَّفِيقِ لِرَفِيقِهِ، فَلاَ أَثَرَ لِهَذِهِ التُّهْمَةِ، وَقَدْ خَالَفَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الصَّدِيقِ الْمُلاَطِفِ، وَلاَ تَصْلُحُ تُهْمَةُ الصَّدَاقَةِ لِلْقَدْحِ فِي الْوَازِعِ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ وَقَعَ الاِتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لاَ تُرَدُّ بِكُل تُهْمَةٍ.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: تُهْمَةٌ مُخْتَلَفٌ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ وَالْحُكْمِ بِهَا وَلَهَا رُتَبٌ:
أَحَدُهَا: تُهْمَةٌ قَوِيَّةٌ وَهِيَ تُهْمَةُ شَهَادَةِ الْوَالِدِ لأَِوْلاَدِهِ وَأَحْفَادِهِ، أَوْ لآِبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، فَالأَْصَحُّ أَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلرَّدِّ لِقُوَّةِ التُّهْمَةِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رِوَايَاتٌ: ثَالِثُهَا: رَدُّ شَهَادَةِ الأَْبِ وَقَبُول شَهَادَةِ الاِبْنِ؛ لِقُوَّةِ تُهْمَةِ الأَْبِ لِفَرْطِ شَفَقَتِهِ وَحُنُوِّهِ عَلَى الْوَلَدِ.
الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ: تُهْمَةُ شَهَادَةِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ وَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلرَّدِّ لِقُوَّةِ التُّهْمَةِ وَخَالَفَ فِيهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ.
الرُّتْبَةُ الثَّالِثَةُ: تُهْمَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إِذَا شَهِدَ لِلآْخَرِ وَفِيهَا أَقْوَالٌ: ثَالِثُهَا رَدُّ شَهَادَةِ الزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ لأَِنَّ تُهْمَتَهَا أَقْوَى مِنْ تُهْمَةِ الزَّوْجِ؛ لأَِنَّ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنَ الْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ لِكِسْوَتِهَا وَنَفَقَتِهَا وَسَائِرِ حُقُوقِهَا.
الرُّتْبَةُ الرَّابِعَةُ: تُهْمَةُ الْقَاضِي إِذَا حَكَمَ(14/91)
بِعِلْمِهِ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهَا لاَ تُوجِبُ الرَّدَّ إِذَا كَانَ الْحَاكِمُ ظَاهِرَ التَّقْوَى وَالْوَرَعِ.
الرُّتْبَةُ الْخَامِسَةُ: تُهْمَةُ الْحَاكِمِ فِي إِقْرَارِهِ بِالْحُكْمِ، وَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلرَّدِّ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، لأَِنَّ مَنْ مَلَكَ الإِْنْشَاءَ مَلَكَ الإِْقْرَارَ، وَالْحَاكِمُ مَالِكٌ لإِِنْشَاءِ الْحُكْمِ فَمَلَكَ الإِْقْرَارَ بِهِ. وَقَوْل مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مُتَّجَهٌ إِذَا مَنَعْنَا الْحُكْمَ بِالْعِلْمِ.
الرُّتْبَةُ السَّادِسَةُ: تُهْمَةُ حُكْمِ الْحَاكِمِ مَانِعَةٌ مِنْ نُفُوذِ حُكْمِهِ لأَِوْلاَدِهِ وَأَحْفَادِهِ وَعَلَى أَعْدَائِهِ وَأَضْدَادِهِ. قَال: وَإِنَّمَا رُدَّتِ الشَّهَادَةُ بِالتُّهَمِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مُضْعِفَةٌ لِلظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الشَّهَادَةِ، وَمُوجِبَةٌ لاِنْحِطَاطِهِ عَنِ الظَّنِّ الَّذِي لاَ يُعَارِضُهُ تُهْمَةٌ، وَبِأَنَّ دَاعِيَ الطَّبْعِ أَقْوَى مِنْ دَاعِي الشَّرْعِ، وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ رَدُّ شَهَادَةِ أَعْدَل النَّاسِ لِنَفْسِهِ، وَرَدُّ حُكْمِ أَقْسَطِ النَّاسِ لِنَفْسِهِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
اللَّوْثُ:
3 - يُطْلَقُ اللَّوْثُ عَلَى الْبَيِّنَةِ الضَّعِيفَةِ غَيْرِ الْكَامِلَةِ، وَعَلَى الْجِرَاحَاتِ وَالْمُطَالَبَاتِ بِالأَْحْقَادِ لِشِبْهِ الدَّلاَلَةِ، وَلاَ تَكُونُ بَيِّنَةً تَامَّةً (2)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ قَرِينَةٌ تُثِيرُ الظَّنَّ، وَتُوقِعُ فِي الْقَلْبِ صِدْقَ الْمُدَّعِي (3) .
__________
(1) القواعد للعز بن عبد السلام ص29 - 30.
(2) المصباح ومتن اللغة مادة: " لوث "، والروضة للنووي 10 / 10.
(3) روضة الطالبين 10 / 10، وأسنى المطالب 4 / 98.(14/91)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4 - تَحْرُمُ التُّهْمَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَمَارَةٌ صَحِيحَةٌ، أَوْ سَبَبٌ ظَاهِرٌ كَاتِّهَامِ مَنْ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَسُوءِ الظَّنِّ بِهِمْ. أَمَّا مَنِ اُشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ بِتَعَاطِي الرِّيَبِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِالْخَبَائِثِ، فَلاَ يَحْرُمُ اتِّهَامُهُ فِي الْجُمْلَةِ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ (1) } .
وَفِي الآْيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ جَمِيعَ الظَّنِّ (2) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحُدُودَ لاَ تُقَامُ بِالتُّهْمَةِ وَالظَّنِّ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ التُّهْمَةَ لَهَا بَعْضُ الآْثَارِ فِي الْمُتَّهَمِ.
التُّهْمَةُ فِي الشَّهَادَةِ:
5 - أَصْل رَدِّ الشَّهَادَةِ، وَمَبْنَاهُ التُّهْمَةُ: وَالشَّهَادَةُ خَبَرٌ يَحْتَمِل الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَحُجَّتُهُ بِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ، فَإِذَا شَابَتِ الْحُجَّةَ شَائِبَةُ التُّهْمَةِ ضَعُفَتْ، وَلَمْ تَصْلُحْ لِلتَّرْجِيحِ (3) .
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ مُتَّهَمٍ (4) .
__________
(1) سورة الحجرات / 11.
(2) أحكام القرآن للهراسي 4 / 415.
(3) فتح القدير 6 / 473 ط إحياء التراث - بيروت.
(4) حديث: " لا تجوز شهادة متهم " أخرجه ابن عدي في الكامل (4 / 1448 ط دار الفكر) وهو ضعيف في سنده عبد الله بن محمد بن عقيل، انظر تهذيب التهذيب (6 / 13 ط دار صادر) .(14/92)
أَسْبَابُ تُهْمَةِ الشَّاهِدِ
6 - مِنْ أَسْبَابِ تُهْمَةِ الشَّاهِدِ:
مَا يَرْجِعُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الشَّاهِدِ كَالْفِسْقِ إِذَا ثَبَتَ؛ لأَِنَّ مَنْ لاَ يَنْزَجِرُ عَنْ غَيْرِ الْكَذِبِ مِنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِ فَلاَ يُؤْمَنُ أَلاَّ يَنْزَجِرَ عَنِ الْكَذِبِ فِي الشَّهَادَةِ، فَلاَ تَحْصُل بِشَهَادَتِهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ (1) . وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إلَى (فِسْقٌ) .
وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى فِي الْمَشْهُودِ لَهُ: كَالإِْيثَارِ لِلْقَرَابَةِ.
وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إلَى خَلَلٍ فِي التَّمْيِيزِ وَإِدْرَاكِ الأُْمُورِ عَلَى حَقِيقَتِهَا: كَالْغَفْلَةِ وَالْعَمَى، وَالصِّبَا وَنَحْوِ ذَلِكَ (2) .
هَذَا وَلَمْ نَقِفْ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ بِتُهْمَةِ الْكَذِبِ.
7 - وَلَمْ يَخْتَلِفْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي رَدِّ شَهَادَةِ كُل مَنْ لَهُ مَصْلَحَةٌ فِي مَوْضُوعِ الشَّهَادَةِ بِتُهْمَةِ جَرِّ النَّفْعِ لِنَفْسِهِ أَوْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، كَالشَّرِيكِ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ عَلَى عَمَلٍ قَامَ بِهِ هُوَ كَمَا تُرَدُّ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ بِفِسْقِ شُهُودِ قَتْلٍ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ يَتَحَمَّلُونَهُ، وَشَهَادَةُ الْغُرَمَاءِ بِفِسْقِ شُهُودِ دَيْنٍ آخَرَ وَذَلِكَ بِتُهْمَةِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ (3) . وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٌ) .
__________
(1) المغني 9 / 165، وروضة الطالبين 11 / 222، وفتح القدير 6 / 473.
(2) فتح القدير 6 / 473 - ط إحياء التراث - بيروت.
(3) فتح القدير 6 / 480، وروضة الطالبين 10 / 34، 11 / 234.(14/92)
رَدُّ الشَّهَادَةِ بِتُهْمَةِ الإِْيثَارِ وَالْمَحَبَّةِ:
8 - مِمَّا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَأْثِيرِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فِي إِسْقَاطِ الشَّهَادَةِ: تُهْمَةُ الْمَحَبَّةِ وَالإِْيثَارِ، فَتُرَدُّ شَهَادَةُ الأَْصْل لِفَرْعِهِ وَإِنْ سَفَل، وَشَهَادَةِ الْفَرْعِ لِلأَْصْل عَلَى خِلاَفٍ فِي ذَلِكَ وَإِنْ عَلاَ الأَْصْل لِتُهْمَةِ إِيثَارِ الْمَشْهُودِ لَهُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ مُتَّصِلَةٌ؛ وَلِهَذَا مَنَعُوا أَدَاءَ زَكَاةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، فَتَكُونُ شَهَادَةً لِلنَّفْسِ وَتَتَمَكَّنُ فِيهِ التُّهْمَةُ (1) . وَلِحَدِيثِ: لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ ظَنِينٍ فِي وَلاَءٍ وَلاَ قَرَابَةٍ (2) .
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ تَأْثِيرِ تُهْمَةِ الإِْيثَارِ عَلَى شَهَادَةِ الأَْخِ لأَِخِيهِ، بِتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: شَهَادَةٌ. (3)
وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْثِيرِ تُهْمَةِ الْمَحَبَّةِ وَالإِْيثَارِ فِي شَهَادَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى رَدِّ شَهَادَةِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ
__________
(1) المغني 9 / 185، وبداية المجتهد 2 / 500، وروضة الطالبين 11 / 236، وفتح القديؤ 6 / 477، والهداية 3 / 122.
(2) حديث: " لا تجوز شهادة ظنين في ولاء ولا قرابة " أخرجه الترمذي (4 / 545 ط. مصطفى البابي) وقال: (هذا حديث غريب لا تعرفه إلا من حديث يزيد بن زياد الدمشقي ويزيد يضعف في الحديث) وضعفه ابن حجر في التلخيص الحبير (4 / 198 ط شركة الطباعة الفنية) .
(3) المغني 9 / 185، وبداية المجتهد 2 / 500، وروضة الطالبين 11 / 236، وفتح القدير 6 / 477، والهداية 3 / 122.(14/93)
لِلآْخَرِ وَقَالُوا: لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرِثُ الآْخَرَ مِنْ غَيْرِ حَجْبٍ وَتَتَبَسَّطُ الزَّوْجَةُ فِي مَال الزَّوْجِ، وَتَزِيدُ نَفَقَتُهَا بِغِنَاهُ فَلَمْ تُقْبَل شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلآْخَرِ بِتُهْمَةِ جَرِّ النَّفْعِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: تُقْبَل شَهَادَةُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلآْخَرِ؛ لأَِنَّ الأَْمْلاَكَ بَيْنَهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا، وَلاَ اعْتِبَارَ بِمَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ لِثُبُوتِهِ ضِمْنًا فَلاَ تُهْمَةَ (2) .
رَدُّ شَهَادَةِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ:
9 - تُرَدُّ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ لِتُهْمَةِ قَصْدِ الإِْضْرَارِ وَالتَّشَفِّي إِذَا كَانَتِ الْعَدَاوَةُ دُنْيَوِيَّةً عِنْدَ الأَْكْثَرِ؛ لأَِنَّ الْعَدُوَّ قَدْ يَجُرُّ لِنَفْسِهِ نَفْعًا بِشَهَادَتِهِ، وَهُوَ التَّشَفِّي مِنَ الْعَدُوِّ فَيَصِيرُ مُتَّهَمًا كَشَهَادَةِ الْقَرِيبِ لِقَرِيبِهِ. أَمَّا الْعَدَاوَةُ الدِّينِيَّةُ فَلاَ تَمْنَعُ قَبُول الشَّهَادَةِ اتِّفَاقًا (3) .
رَدُّ الشَّهَادَةِ بِالْغَفْلَةِ وَالْغَلَطِ:
10 - وَمِمَّا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ: الْغَفْلَةُ وَكَثْرَةُ الْغَلَطِ. فَتُرَدُّ شَهَادَةُ الْمُغَفَّل وَكُل مَنْ يُعْرَفُ بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ وَعَدَمِ الضَّبْطِ، كَمَا تُرَدُّ رِوَايَتُهُ؛ لِقِيَامِ
__________
(1) المغني 9 / 193، وفتح القدير 6 / 479، وبداية المجتهد 2 / 500.
(2) القليوبي 4 / 332، وروضة الطالبين 11 / 237.
(3) المغني 9 / 185، وبداية المجتهد 2 / 501، وابن عابدين 4 / 376.(14/93)
احْتِمَال الْغَلَطِ، وَعَدَمِ الضَّبْطِ فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا (1) .
حُكْمُ الْقَاضِي لِمَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ:
11 - لاَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ فِيمَا لاَ يُقْبَل فِيهِ شَهَادَتُهُ فَلاَ يَقْضِي لِنَفْسِهِ، وَلاَ يَقْضِي لأَِحَدٍ مِنْ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، وَإِنْ نَزَلُوا أَوْ عَلَوْا، وَلاَ لِشَرِيكِهِ فِيمَا لَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ، وَلِوَكِيلِهِ فِيمَا هُوَ مُوَكَّلٌ فِيهِ، فَإِنْ فَعَل لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. وَذَلِكَ لِمَوْضِعِ التُّهْمَةِ، وَلِلتَّفْصِيل وَاخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ) .
حِرْمَانُ الْوَارِثِ مِنَ الْمِيرَاثِ بِالتُّهْمَةِ:
12 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حِرْمَانِ الْقَاتِل عَمْدًا عُدْوَانًا مِنَ الْمِيرَاثِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَوْرِيثِ الْقَاتِل خَطَأً أَوِ الْقَاتِل بِحَقٍّ. فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى حِرْمَانِهِمَا، وَذَلِكَ لِتُهْمَةِ اسْتِعْجَال الإِْرْثِ قَبْل أَوَانِهِ.
وَالتَّفْصِيل: فِي مُصْطَلَحِ: (إرْثٌ) .
عَدَمُ وُقُوعِ طَلاَقِ الْمُطَلِّقِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ:
13 - لاَ يَقَعُ طَلاَقُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ عِنْدَ فَرِيقٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ لِتُهْمَةِ قَصْدِ إِضْرَارِ الزَّوْجَةِ بِحِرْمَانِهَا الْمِيرَاثَ.
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ: (طَلاَقٌ) .
__________
(1) المصادر السابقة.(14/94)
التَّعْزِيرُ بِالتُّهْمَةِ:
14 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحُدُودَ لاَ تُقَامُ بِالتُّهْمَةِ.
أَمَّا التَّعْزِيرُ بِالتُّهْمَةِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَوِ الْوَالِي تَعْزِيرَ الْمُتَّهَمِ، إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا وَلَمْ يَكْتَمِل نِصَابُ الْحُجَّةِ. أَوِ اسْتَفَاضَ عَنْهُ أَنَّهُ يَعِيثُ فِي الأَْرْضِ فَسَادًا. وَقَالُوا: إِنَّ الْمُتَّهَمَ بِذَلِكَ إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَلاَ يَجُوزُ تَعْزِيرُهُ بَل يُعَزَّرُ مُتَّهِمُهُ. وَإِنْ كَانَ مَجْهُول الْحَال فَيُحْبَسُ حَتَّى يَنْكَشِفَ أَمْرُهُ. إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ فَيُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ بِالْحَبْسِ. وَقَالُوا: وَهُوَ الَّذِي يَسَعُ النَّاسَ، وَعَلَيْهِ الْعَمَل.
قَال ابْنُ قَيِّمٍ الْجَوْزِيَّةَ: إِذَا كَانَ الْمُتَّهَمُ مَعْرُوفًا بِالْفُجُورِ كَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْقَتْل وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِذَا جَازَ حَبْسُ الْمَجْهُول فَحَبْسُ هَذَا أَوْلَى. قَال شَيْخُنَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنَ الأَْئِمَّةِ أَيْ: أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ يَقُول: إِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الدَّعَاوَى يَحْلِفُ وَيُرْسَل بِلاَ حَبْسٍ وَلاَ غَيْرِهِ فَلَيْسَ هَذَا عَلَى إِطْلاَقِهِ مَذْهَبًا لأَِحَدٍ مِنَ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ، وَلاَ غَيْرِهِمْ مِنَ الأَْئِمَّةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا عَلَى إِطْلاَقِهِ وَعُمُومِهِ هُوَ الشَّرْعُ، فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا مُخَالِفًا لِنُصُوصِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلإِِجْمَاعِ الأُْمَّةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَكْفِي لِقِيَامِ التُّهْمَةِ إِنْ كَانَ مَجْهُول الْحَال، شَهَادَةُ مَسْتُورَيْنِ أَوْ عَدْلٍ وَاحِدٍ.(14/94)
أَمَّا إِذَا كَانَ مَشْهُورًا بِالْفَسَادِ فَيَكْفِي فِيهِ عِلْمُ الْقَاضِي (1) .
التَّحْلِيفُ لِلتُّهْمَةِ:
15 - يَحْلِفُ الْمُودَعُ، وَالْوَكِيل، وَالْمُضَارِبُ، وَكُل مَنْ يُصَدَّقُ قَوْلُهُ عَلَى تَلَفِ مَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ، إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى خِيَانَتِهِ، كَخَفَاءِ سَبَبِ التَّلَفِ وَنَحْوِهِ.
وَلِلتَّفْصِيل يُرْجَعُ إِلَى الأَْبْوَابِ الْمَذْكُورَةِ.
__________
(1) ابن عابدين 3 / 188 - 195، والطرق الحكمية لابن القيم ص103 - مطبعة الآداب والمؤيد 1317هـ، مواهب الجليل 5 / 275.(14/95)
تَهْنِئَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّهْنِئَةُ فِي اللُّغَةِ خِلاَفُ التَّعْزِيَةِ، يُقَال: هَنَّأَهُ بِالأَْمْرِ وَالْوِلاَيَةِ تَهْنِئَةً وَتَهْنِيئًا إِذَا قَال لَهُ: لِيَهْنِئَك وَلِيَهْنِيكَ، أَوْ هَنِيئًا، وَيُقَال: هَنَّأَهُ تَهْنِئَةً وَتَهْنِيًا. وَالْهَنِيءُ وَالْمَهْنَأُ: مَا أَتَاك بِلاَ مَشَقَّةٍ وَلاَ تَنْغِيصٍ وَلاَ كَدَرٍ.
وَالْهَنِيءُ مِنَ الطَّعَامِ: السَّائِغُ، وَاسْتَهْنَأْتُ الطَّعَامَ اسْتَمْرَأْتُهُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: لاَ تَخْرُجُ التَّهْنِئَةُ - فِي الْجُمْلَةِ - عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، لَكِنَّهَا فِي مَوَاطِنِهَا قَدْ تَكُونُ لَهَا مَعَانٍ أَخَصُّ كَالتَّبْرِيكِ، وَالتَّبْشِيرِ، وَالتَّرْفِئَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَرِدُ ذِكْرُهُ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّبْرِيكُ:
2 - التَّبْرِيكُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ بَرَّكَ، يُقَال: بَرَّكْتُ عَلَيْهِ تَبْرِيكًا أَيْ قُلْت لَهُ: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْك، وَبَارَكَ اللَّهُ الشَّيْءَ وَبَارَكَ فِيهِ وَعَلَيْهِ: وَضَعَ فِيهِ
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط ومعجم مقاييس اللغة 6 / 68.(14/95)
الْبَرَكَةَ، وَيَكُونُ مَعْنَى التَّبْرِيكِ عَلَى هَذَا: الدُّعَاءَ لِلإِْنْسَانِ أَوْ غَيْرِهِ بِالْبَرَكَةِ، وَهِيَ النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ وَالسَّعَادَةُ (1) .
وَالتَّبْرِيكُ فِي الاِصْطِلاَحِ: الدُّعَاءُ بِالْبَرَكَةِ وَهِيَ الْخَيْرُ الإِْلَهِيُّ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْ حَيْثُ لاَ يُحِسُّ، وَعَلَى وَجْهٍ لاَ يُحْصَى وَلاَ يُحْصَرُ، وَلِذَا قِيل لِكُل مَا يُشَاهَدُ مِنْهُ زِيَادَةٌ غَيْرُ مَحْسُوسَةٍ: هُوَ مُبَارَكٌ، وَفِيهِ بَرَكَةٌ، وَإِلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ أُشِيرُ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ (2) .
ب - التَّبْشِيرُ:
3 - وَهُوَ مَصْدَرُ بَشَّرَ، وَمَعْنَاهُ لُغَةً: الإِْخْبَارُ بِالْخَيْرِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَل فِي الإِْخْبَارِ بِالشَّرِّ إِذَا قُيِّدَ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) ، وَالاِسْمُ: الْبِشَارَةُ، وَالْبِشَارَةُ - بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ - وَالْبِشَارَةُ إِذَا أُطْلِقَتِ اخْتُصَّتْ بِالْخَيْرِ. وَالْبِشَارَةُ - بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ - أَيْضًا: مَا يُعْطَاهُ الْمُبَشِّرُ بِالأَْمْرِ (4) .
وَالتَّبْشِيرُ فِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ،
__________
(1) لسان العرب والقاموس المحيط.
(2) المفردات في غريب القرآن ص44. وحديث أنه " ما نقصت صدقة من مال "، أخرجه مسلم (4 / 2001 ط عيسى الحلبي) .
(3) سورة آل عمران / 21.
(4) لسان العرب والمصباح المنير مادة: " بشر ".(14/96)
وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْبِشَارَةَ بِأَنَّهَا الْخَبَرُ الَّذِي لاَ يَكُونُ عِنْدَ الْمُبَشَّرِ عِلْمٌ بِهِ: فَقَدْ عَرَّفَهَا الْعَسْكَرِيُّ بِأَنَّهَا: أَوَّل مَا يَصِل إِلَيْك مِنَ الْخَبَرِ السَّارِّ فَإِذَا وَصَل إِلَيْك ثَانِيًا لَمْ يُسَمَّ بِشَارَةً، وَأَضَافَ: وَلِهَذَا قَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّ مَنْ قَال مَنْ بَشَّرَنِي مِنْ عَبِيدِي بِمَوْلُودٍ فَهُوَ حُرٌّ أَنَّهُ يُعْتَقُ أَوَّل مَنْ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ.
وَوُجُودُ الْمُبَشَّرِ بِهِ وَقْتَ الْبِشَارَةِ لَيْسَ بِلاَزِمٍ (1) بِدَلِيل قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقِ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (2) وَتَفْصِيل أَحْكَامِ التَّبْشِيرِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بِشَارَةٌ) ج 8 ص 93
ج - التَّرْفِئَةُ:
4 - مَصْدَرُ رَفَأَ، يُقَال: رَفَّاهُ تَرْفِئَةً وَتَرْفِيًا، وَرَفَّأَهُ تَرْفِئَةً وَتَرْفِيئًا أَيْ دَعَا لَهُ وَقَال: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، أَيْ: بِالاِلْتِئَامِ وَجَمْعِ الشَّمْل؛ لأَِنَّ أَصْل الرَّفْءِ الاِجْتِمَاعُ وَالتَّلاَؤُمُ، وَمِنْهُ رَفَأَ أَيْ تَزَوَّجَ (3) .
وَعَلَى هَذَا تَكُونُ التَّرْفِئَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّهْنِئَةَ بِالنِّكَاحِ.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهَا فِي الاِصْطِلاَحِ عَنِ الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ.
وَالتَّرْفِئَةُ أَخَصُّ مِنَ التَّهْنِئَةِ؛ لأَِنَّ التَّرْفِئَةَ هِيَ
__________
(1) التعريفات ص39، 44، والمفردات في غريب القرآن ص48، والكليات 1 / 413، والفروق في اللغة ص259.
(2) سورة الصافات / 112.
(3) القاموس المحيط ولسان العرب.(14/96)
التَّهْنِئَةُ بِالنِّكَاحِ خَاصَّةً، أَمَّا التَّهْنِئَةُ فَتَكُونُ بِالنِّكَاحِ أَوْ بِغَيْرِهِ
. الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - التَّهْنِئَةُ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْجُمْلَةِ؛ لأَِنَّهَا مُشَارَكَةٌ بِالتَّبْرِيكِ وَالدُّعَاءِ - مِنِ الْمُسْلِمِ لأَِخِيهِ الْمُسْلِمِ فِيمَا يَسُرُّهُ وَيُرْضِيهِ؛ وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّوَادِّ، وَالتَّرَاحُمِ، وَالتَّعَاطُفِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ تَهْنِئَةُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا يَنَالُونَ مِنْ نَعِيمٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1) .
وَالتَّهْنِئَةُ تَكُونُ بِكُل مَا يُسِرُّ وَيُسْعِدُ مِمَّا يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ ذَلِكَ: التَّهْنِئَةُ بِالنِّكَاحِ، وَالتَّهْنِئَةُ بِالْمَوْلُودِ، وَالتَّهْنِئَةُ بِالْعِيدِ وَالأَْعْوَامِ وَالأَْشْهُرِ، وَالتَّهْنِئَةُ بِالْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ، وَالتَّهْنِئَةُ بِالْقُدُومِ مِنَ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ، وَالتَّهْنِئَةُ بِالطَّعَامِ، وَالتَّهْنِئَةُ بِالْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ.
أَوَّلاً: التَّهْنِئَةُ بِالنِّكَاحِ:
6 - وَهِيَ الدُّعَاءُ لِلزَّوْجِ أَوْ لِلزَّوْجَةِ أَوْ لَهُمَا بِالْبَرَكَةِ وَالاِلْتِئَامِ وَجَمْعِ الشَّمْل وَالذُّرِّيَّةِ الطَّيِّبَةِ.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّهْنِئَةِ بِالنِّكَاحِ: أَيِ الدُّعَاءِ لِلزَّوْجِ أَوْ لِلزَّوْجَةِ أَوْ لَهُمَا بِالسُّرُورِ وَعَدَمِ الْكَدَرِ (2) . لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) سورة الطور / 19
(2) مواهب الجليل 3 / 408، ونهاية المحتاج 6 / 203، والمغني لابن قدامة 6 / 539(14/97)
رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَثَرَ صُفْرَةٍ فَقَال: مَا هَذَا؟ قَال: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَارَكَ اللَّهُ لَك، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ (1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ: بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْك (2) .
وَاسْتِحْبَابُ التَّهْنِئَةِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ مَنْ حَضَرَ النِّكَاحَ سَوَاءٌ الْوَلِيُّ أَوْ غَيْرُهُ، وَيَنْبَغِي ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَحْضُرْ إِذَا لَقِيَ الزَّوْجَ.
وَتَكُونُ التَّهْنِئَةُ عَقِبَ عَقْدِ النِّكَاحِ وَالدُّخُول، وَيَطُول وَقْتُهَا بِطُول الزَّمَنِ عُرْفًا وَذَلِكَ لِمَنْ حَضَرَ الْعَقْدَ أَوِ الدُّخُول، أَمَّا مَنْ لَمْ يَحْضُرْ فَتُسْتَحَبُّ لَهُ التَّهْنِئَةُ إِذَا لَقِيَ الزَّوْجَ مَا لَمْ تَطُل الْمُدَّةُ فِي عُرْفِ النَّاسِ (3) .
صِيغَةُ التَّهْنِئَةِ بِالنِّكَاحِ:
7 - وَلَفْظُ تَهْنِئَةِ الزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ: بَارَكَ اللَّهُ لَك، وَبَارَكَ عَلَيْك، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ لِمَا وَرَدَ فِي
__________
(1) حديث: " بارك الله لك، أولم ولو بشاة ". أخرجه البخاري (11 / 190 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1042 ط عيسى الحلبي) وهو من حديث أنس
(2) حديث " بارك الله عليك ". أخرجه البخاري (11 / 190 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 1088 ط عيسى الحلبي) ، واللفظ للبخاري وهو من حديث جابر
(3) مواهب الجليل 3 / 408، ونهاية المحتاج 6 / 203(14/97)
حَدِيثَيْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - السَّابِقَيْنِ - وَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَّأَ إِنْسَانًا تَزَوَّجَ قَال: بَارَكَ اللَّهُ لَك، وَبَارَكَ عَلَيْك، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ (1) .
وَلَفْظُ تَهْنِئَةِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ: بَارَكَ اللَّهُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْكُمَا فِي صَاحِبِهِ وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ (2) .
8 - وَكَانَتِ التَّرْفِئَةُ بِالنِّكَاحِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِلَفْظِ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، وَجَاءَتِ الأَْحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ بِالأَْلْفَاظِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ التَّرْفِئَةِ بِلَفْظِ، بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّرْفِئَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ لاَ كَرَاهَةَ فِيهَا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُقَال فِي التَّرْفِئَةِ: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ (3) ، وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ عَقِيل بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي جُشَمَ فَقَالُوا: بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، فَقَال: لاَ تَقُولُوا هَكَذَا، وَلَكِنْ قُولُوا كَمَا قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِمْ
__________
(1) حديث: " بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير " أخرجه أبو داود (2 / 598 - 599 ط عبيد الدعاس) . وابن ماجه (1 / 614 ط عيسى الحلبي) . والترمذي 3 / 400 ط مصطفى الحلبي) . وقال: حديث حسن صحيح
(2) الأذكار ص251، والمغني 6 / 539، ونهاية المحتاج 6 / 203، ونيل الأوطار 6 / 148
(3)) مواهب الجليل 3 / 408 والأذكار ص251، ونيل الأوطار 6 / 149(14/98)
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ بِمَعْنَاهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: لاَ تَقُولُوا ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، قُولُوا: بَارَكَ اللَّهُ لَهَا فِيك، وَبَارَكَ لَك فِيهَا (1) .
وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ النَّهْيِ عَنِ التَّرْفِئَةِ بِلَفْظِ (بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ) ، فَقِيل: لأَِنَّهُ لاَ حَمْدَ فِيهِ وَلاَ ثَنَاءَ وَلاَ ذِكْرَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقِيل: لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْشَارَةِ إِلَى بُغْضِ الْبَنَاتِ لِتَخْصِيصِ الْبَنِينَ بِالذِّكْرِ، وَإِلاَّ فَهُوَ دُعَاءٌ بِالاِلْتِئَامِ وَالاِئْتِلاَفِ فَلاَ كَرَاهَةَ فِيهِ، وَقَال ابْنُ الْمُنِيرِ: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ اللَّفْظَ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الْجَاهِلِيَّةِ لأَِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَهُ تَفَاؤُلاً لاَ دُعَاءً. فَيَظْهَرُ أَنَّهُ لَوْ قِيل بِصُورَةِ الدُّعَاءِ لَمْ يُكْرَهْ كَأَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَهُمَا وَارْزُقْهُمَا بَنِينَ صَالِحِينَ (2) .
ثَانِيًا: التَّهْنِئَةُ بِالْمَوْلُودِ:
9 - التَّهْنِئَةُ بِالْمَوْلُودِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مُسْتَحَبَّةٌ، وَتَكُونُ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ، وَالأَْوْجَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ امْتِدَادُ زَمَنِهَا ثَلاَثًا بَعْدَ الْعِلْمِ أَوِ الْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ (3) .
__________
(1) حديث " بارك الله لها فيك، وبارك لك فيها "، أخرجه أحمد (1 / 201 ط المكتب الإسلامي) . قال أحمد شاكر: إسناده صحيح (مسند أحمد 3 / 178 - 1738 ط دار المعارف)
(2) عمدة القاري للعيني 20 - 145 - 146، وفتح الباري 9 / 221 - 222، ونيل الأوطار 6 / 148 - 150
(3) المبسوط للسرخسي 7 / 52، وروضة الطالبين 3 / 233، والمغني لابن قدامة 8 / 649، وحاشية الجمل 5 / 267(14/98)
وَلَفْظُهَا الَّذِي يَقُولُهُ الْمُهَنِّئُ لِوَالِدِ الْمَوْلُودِ وَنَحْوِهِ، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي الْوَلَدِ الْمَوْهُوبِ، وَشَكَرْتَ الْوَاهِبَ، وَبَلَغَ أَشُدَّهُ، وَرُزِقْتَ بِرَّهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَّمَ إِنْسَانًا التَّهْنِئَةَ فَقَال: قُل بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي الْمَوْهُوبِ لَكَ، وَشَكَرْتَ الْوَاهِبَ، وَبَلَغَ أّشُدَّهُ، وَرُزِقْت بِرَّهُ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ.
وَيُسْتَحَبُّ لَلْمُهَنَّأِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْمُهَنِّئِ فَيَقُول: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَرَزَقَكَ مِثْلَهُ، أَوْ: أَجْزَل اللَّهُ ثَوَابَك، وَنَحْوَ هَذَا (1) .
ثَالِثًا: التَّهْنِئَةُ بِالْعِيدِ وَالأَْعْوَامِ وَالأَْشْهُرِ:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّهْنِئَةِ بِالْعِيدِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.
فَقَال صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ - إِنَّ التَّهْنِئَةَ بِالْعِيدِ بِلَفْظِ " يَتَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ " لاَ تُنْكَرُ.
وَعَقَّبَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا قَال - أَيْ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ - كَذَلِكَ لأَِنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ فِيهَا شَيْءٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَقَال
__________
(1) الأذكار ص256، وحاشية الجمل 5 / 267، المغني لابن قدامة 8 / 650(14/99)
الْمُحَقِّقُ ابْنُ أَمِيرِ حَاجٍّ: بَل الأَْشْبَهُ أَنَّهَا جَائِزَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْجُمْلَةِ، ثُمَّ سَاقَ آثَارًا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي فِعْل ذَلِكَ، ثُمَّ قَال: وَالْمُتَعَامَل فِي الْبِلاَدِ الشَّامِيَّةِ وَالْمِصْرِيَّةِ: عِيدٌ مُبَارَكٌ عَلَيْكَ وَنَحْوُهُ، وَقَال: يُمْكِنُ أَنْ يُلْحَقَ بِذَلِكَ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ وَالاِسْتِحْبَابِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّلاَزُمِ، فَإِنَّ مَنْ قُبِلَتْ طَاعَتُهُ فِي زَمَانٍ كَانَ ذَلِكَ الزَّمَانُ عَلَيْهِ مُبَارَكًا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ الدُّعَاءُ بِالْبَرَكَةِ فِي أُمُورٍ شَتَّى فَيُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ بِهَا هُنَا أَيْضًا.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ سُئِل الإِْمَامُ مَالِكٌ عَنْ قَوْل الرَّجُل لأَِخِيهِ يَوْمَ الْعِيدِ: تَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ يُرِيدُ الصَّوْمَ وَفِعْل الْخَيْرِ الصَّادِرِ فِي رَمَضَانَ، وَغَفَرَ اللَّهُ لَنَا وَلَكَ فَقَال: مَا أَعْرِفُهُ وَلاَ أُنْكِرُهُ. قَال ابْنُ حَبِيبٍ: مَعْنَاهُ لاَ يَعْرِفُهُ سُنَّةً وَلاَ يُنْكِرُهُ عَلَى مَنْ يَقُولُهُ؛ لأَِنَّهُ قَوْلٌ حَسَنٌ لأَِنَّهُ دُعَاءٌ، حَتَّى قَال الشَّيْخُ الشَّبِيبِيُّ يَجِبُ الإِْتْيَانُ بِهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهِ مِنَ الْفِتَنِ وَالْمُقَاطَعَةِ. وَيَدُل لِذَلِكَ مَا قَالُوهُ فِي الْقِيَامِ لِمَنْ يَقْدَمُ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ قَوْل النَّاسِ لِبَعْضِهِمْ فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ: عِيدٌ مُبَارَكٌ، وَأَحْيَاكُمُ اللَّهُ لأَِمْثَالِهِ، لاَ شَكَّ فِي جَوَازِ كُل ذَلِكَ بَل لَوْ قِيل بِوُجُوبِهِ لَمَا بَعُدَ؛ لأَِنَّ النَّاسَ مَأْمُورُونَ بِإِظْهَارِ الْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ لِبَعْضِهِمْ (1) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ نَقَل الرَّمْلِيُّ عَنِ الْقَمُولِيِّ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 1 / 557، والفواكه الدواني 1 / 322(14/99)
قَوْلَهُ: لَمْ أَرَ لأَِصْحَابِنَا كَلاَمًا فِي التَّهْنِئَةِ بِالْعِيدِ وَالأَْعْوَامِ وَالأَْشْهُرِ كَمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ، لَكِنْ نَقَل الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ عَنِ الْحَافِظِ الْمَقْدِسِيِّ أَنَّهُ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا مُخْتَلِفِينَ فِيهِ، وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ مُبَاحٌ لاَ سُنَّةَ فِيهِ وَلاَ بِدْعَةَ.
ثُمَّ قَال الرَّمْلِيُّ: وَقَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: إِنَّهَا مَشْرُوعَةٌ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ الْبَيْهَقِيّ عَقَدَ لِذَلِكَ بَابًا فَقَال: بَابُ مَا رُوِيَ فِي قَوْل النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي يَوْمِ الْعِيدِ: تَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك، وَسَاقَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَخْبَارٍ وَآثَارٍ ضَعِيفَةٍ لَكِنْ مَجْمُوعُهَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي مِثْل ذَلِكَ، ثُمَّ قَال: وَيُحْتَجُّ لِعُمُومِ التَّهْنِئَةِ لِمَا يَحْدُثُ مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ يَنْدَفِعُ مِنْ نِقْمَةٍ بِمَشْرُوعِيَّةِ سُجُودِ الشُّكْرِ وَالتَّعْزِيَةِ، وَبِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ تَوْبَتِهِ لَمَّا تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكٍ أَنَّهُ لَمَّا بُشِّرَ بِقَبُول تَوْبَتِهِ وَمَضَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ إِلَيْهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَهَنَّأَهُ. وَكَذَلِكَ نَقَل الْقَلْيُوبِيُّ عَنِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ التَّهْنِئَةَ بِالأَْعْيَادِ وَالشُّهُورِ وَالأَْعْوَامِ مَنْدُوبَةٌ. قَال الْبَيْجُورِيُّ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ (1) .
وَجَاءَ فِي الْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ: قَال أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَقُول الرَّجُل لِلرَّجُل يَوْمَ
__________
(1) نهاية المحتاج 2 / 391، ومغني المحتاج 1 / 316، وأسنى المطالب 1 / 283، والقليوبي وعميرة 1 / 310، وحاشية البيجوري 1 / 233.(14/100)
الْعِيدِ: تَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ، وَقَال حَرْبٌ: سُئِل أَحْمَدُ عَنْ قَوْل النَّاسِ فِي الْعِيدَيْنِ: تَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ قَال: لاَ بَأْسَ بِهِ، يَرْوِيهِ أَهْل الشَّامِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قِيل: وَوَاثِلَةُ بْنُ الأَْسْقَعِ؟ قَال: نَعَمْ، قِيل: فَلاَ تَكْرَهُ أَنْ يُقَال هَذَا يَوْمَ الْعِيدِ؟ قَال: لاَ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي تَهْنِئَةِ الْعِيدِ أَحَادِيثَ مِنْهَا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ زِيَادٍ قَال: كُنْتُ مَعَ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا إِذَا رَجَعُوا مِنَ الْعِيدِ يَقُول بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَقَبَّل اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك، وَقَال أَحْمَدُ: إِسْنَادُ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ جَيِّدٌ (1) .
رَابِعًا: التَّهْنِئَةُ بِالْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ:
11 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَهْنِئَةَ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرٍ وَالسَّلاَمَ عَلَيْهِ وَمُعَانَقَتَهُ تَحْسُنُ وَتُسْتَحَبُّ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ تَقْبِيل الْقَادِمِ، وَمُصَافَحَتَهُ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَصُنْعَ وَلِيمَةٍ لَهُ تُسَمَّى النَّقِيعَةَ، وَاسْتِقْبَالَهُ وَتَلَقِّيَهُ. . مَنْدُوبٌ كَذَلِكَ، قَال الشَّعْبِيُّ: وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ تَعَانَقُوا، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُول اللَّهِ فِي بَيْتِي، فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ، فَقَامَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 399، وكشاف القناع 2 / 60.(14/100)
فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ (1) .
وَالتَّهْنِئَةُ الْمُسْتَحَبَّةُ لِلْقَادِمِ مِنَ السَّفَرِ تَكُونُ بِلَفْظِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَلَّمَك أَوِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَمَعَ الشَّمْل بِكَ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الأَْلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى الاِسْتِبْشَارِ بِقُدُومِ الْقَادِمِ (2) . وَلَمْ نَجِدْ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِهَذَا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَيُهَنَّأُ الْقَادِمُ مِنْ سَفَرٍ كَانَ لِلْغَزْوِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ وَالْعِزِّ وَإِقْرَارِ الْعَيْنِ، وَيُقَال لَهُ: مَا وَرَدَ عَلَى لِسَانِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوْ نَحْوِهِ، فَقَدْ قَالَتْ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوٍ فَلَمَّا دَخَل اسْتَقْبَلْته عَلَى الْبَابِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقُلْت: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَصَرَك وَأَعَزَّك وَأَكْرَمَك (3) .
خَامِسًا: التَّهْنِئَةُ بِالْقُدُومِ مِنَ الْحَجِّ:
12 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ يُقَال
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها: قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي. . . . " أخرجه الترمذي (5 / 77 ط الحلبي) وفي إسناده ضعف، تحفة الأحوذي (7 / 523 ط المكتبة السلفية) .
(2) قليوبي وعميرة 2 / 251، 3 / 213، والفتوحات الربانية 5 / 389، 5 / 174، وزاد المعاد 2 / 34، ومطالب أولي النهى 2 / 502، والحاوي للفتاوى للسيوطي 1 / 79.
(3) الفتوحات الربانية 5 / 175. وحديث: " الحمد لله الذي نصرك وأعزك وأكرمك " أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة 142 ط. دائرة المعارف من حديث عائشة، وإسناده صحيح.(14/101)
لِلْحَاجِّ أَوِ الْمُعْتَمِرِ، تَقَبَّل اللَّهُ حَجَّكَ أَوْ عُمْرَتَك، وَغَفَرَ ذَنْبَك، وَأَخْلَفَ عَلَيْك نَفَقَتَك (1) .
التَّهْنِئَةُ بِالأَْكْل وَالشُّرْبِ:
13 - وَالدُّعَاءُ لِلآْكِل وَالشَّارِبِ يَكُونُ بِلَفْظِ هَنِيئًا مَرِيئًا وَنَحْوَهُ، قَال اللَّهُ تَعَالَى {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (2) وَقَال عَزَّ وَجَل: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (3) .
التَّهْنِئَةُ بِالنِّعْمَةِ وَدَفْعِ النِّقْمَةِ:
14 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّهْنِئَةِ بِمَا يَحْدُثُ مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ يَنْدَفِعُ مِنْ نِقْمَةٍ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ كَعْبٍ وَتَهْنِئَةِ طَلْحَةَ لَهُ (4) . وَفِيهِ قَوْل كَعْبٍ: فَانْطَلَقْت أَتَأَمَّمُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونَنِي بِالتَّوْبَةِ وَيَقُولُونَ: لِتَهْنِئْكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْك، حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَحَوْلَهُ النَّاسُ فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِل حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ وَيَقُول: أَبْشِرْ
__________
(1) قليوبي وعميرة 2 / 151، والفتوحات الربانية على الأذكار النووية 5 / 176، ومطالب أولي النهى2 / 502.
(2) سورة النساء / 4.
(3) سورة الطور / 9.
(4) نهاية المحتاج 2 / 391، ومغني المحتاج 1 / 316، وأسنى المطالب 1 / 283.(14/101)
بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْك مُنْذُ وَلَدَتْك أُمُّك (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّهْنِئَةَ بِالأُْمُورِ وَالنِّعَمِ الدِّينِيَّةِ الْمُتَجَدِّدَةِ مُسْتَحَبَّةٌ، وَاحْتَجُّوا بِقِصَّةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَمَّا التَّهْنِئَةُ بِالأُْمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَأَجَازَهَا بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ، وَقَال بَعْضُهُمْ: تَحْسُنُ أَوْ تُسْتَحَبُّ. وَلَمْ نَجِدْ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ (2) .
__________
(1) القرطبي 8 / 282 - 286. وحديث كعب " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك. . . . " أخرجه البخاري (8 / 116 ط السلفية) .
(2) الآداب الشرعية 3 / 239، ومطالب أولي النهى 2 / 502.(14/102)
تَوْأَمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوْأَمُ لُغَةً: اسْمٌ لِوَلَدٍ يَكُونُ مَعَهُ آخَرُ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، وَلاَ يُقَال تَوْأَمٌ إِلاَّ لأَِحَدِهِمَا، وَيُقَال لِلأُْنْثَى تَوْأَمَةٌ، وَالْوَلَدَانِ تَوْأَمَانِ، وَالْجَمْعُ تَوَائِمُ.
وَأَتْأَمَتِ الْمَرْأَةُ وَضَعَتِ اثْنَيْنِ مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ فَهِيَ مُتْئِمٌ (1) .
جَاءَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: أَنَّ التَّوْأَمَ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ الْمَوْلُودُ مَعَ غَيْرِهِ فِي بَطْنٍ مِنَ الاِثْنَيْنِ إِلَى مَا زَادَ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى أَوْ ذَكَرًا مَعَ أُنْثَى (2) .
وَاصْطِلاَحًا: قَال الْجُرْجَانِيُّ: التَّوْأَمَانِ هُمَا وَلَدَانِ مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ بَيْنَ وِلاَدَتِهِمَا أَقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ (3) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّوَائِمِ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ التَّوَائِمِ فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ وَهِيَ كَمَا يَلِي:
__________
(1) المصباح المنير مادة: " توم ".
(2) لسان العرب مادة: " تأم ".
(3) التعريفات للجرجاني ص70.(14/102)
فِي النِّفَاسِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الدَّمِ الْخَارِجِ بَيْنَ التَّوْأَمَيْنِ، أَوِ التَّوَائِمِ، أَهُوَ دَمُ نِفَاسٍ، أَمِ اسْتِحَاضَةٍ، أَمْ حَيْضٍ؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - إِلَى أَنَّ نِفَاسَ أُمِّ التَّوْأَمَيْنِ أَوِ التَّوَائِمِ يَبْدَأُ مِنَ الأَْوَّل؛ لأَِنَّ مَا بَعْدَ وِلاَدَةِ الْوَلَدِ الأَْوَّل دَمٌ بَعْدِ وِلاَدَةٍ، فَكَانَ نِفَاسًا كَالْمُنْفَرِدِ.
فَإِنْ تَخَلَّل بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ النِّفَاسِ وَهُوَ - أَرْبَعُونَ يَوْمًا - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَسِتُّونَ يَوْمًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَمْ يَكُنْ مَا بَعْدَهُ نِفَاسًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، بَل هُوَ دَمُ اسْتِحَاضَةٍ وَفَسَادٍ، وَلاَ نِفَاسَ مِنَ الثَّانِي لأَِنَّهُ تَبَعٌ لِلأَْوَّل. رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَال لأَِبِي حَنِيفَةَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَال: هَذَا لاَ يَكُونُ. قَال: فَإِنْ كَانَ قَال: لاَ نِفَاسَ لَهَا مِنَ الثَّانِي وَلَكِنَّهَا تَغْتَسِل وَقْتَ أَنْ تَضَعَ الثَّانِيَ وَتُصَلِّيَ ( x661 ;) .
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنْ تَخَلَّل بَيْنَ وِلاَدَةِ التَّوْأَمَيْنِ أَقَل مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا فَنِفَاسٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ تَخَلَّل بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ النِّفَاسِ وَهُوَ سِتُّونَ يَوْمًا فَنِفَاسَانِ، وَتَسْتَأْنِفُ لِلثَّانِي نِفَاسًا مُبْتَدَأً إِذَا كَانَ بَيْنَ الأَْوَّل وَالثَّانِي سِتَّةُ أَشْهُرٍ الَّتِي هِيَ أَقَل مُدَّةِ الْحَمْل لأَِنَّهَا وِلاَدَةٌ ثَانِيَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 200، وجواهر الإكليل 1 / 32، والمغني لابن قدامة 1 / 350، وكشف المخدرات ص50.(14/103)
وَقَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ بِدَايَةَ النِّفَاسِ تَكُونُ مِنَ الأَْوَّل وَنِهَايَتَهُ تَكُونُ مِنَ الثَّانِي؛ لأَِنَّ الثَّانِيَ وُلِدَ فَلاَ تَنْتَهِي مُدَّةُ النِّفَاسِ قَبْل انْتِهَائِهَا مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا تَزِيدُ مُدَّةُ النِّفَاسِ عَلَى الأَْرْبَعِينَ فِي حَقِّ مَنْ وَلَدَتْ تَوْأَمَيْنِ أَوْ أَكْثَر.
وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَآخَرُونَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْقَدِيمُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ النِّفَاسَ يَبْدَأُ مِنَ الثَّانِي فَقَطْ؛ لأَِنَّ مُدَّةَ النِّفَاسِ تَتَعَلَّقُ بِالْوِلاَدَةِ فَكَانَ ابْتِدَاؤُهَا وَانْتِهَاؤُهَا مِنَ الثَّانِي، وَعَلَى هَذَا فَمَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ مِنَ الدَّمِ قَبْل وِلاَدَةِ الثَّانِي أَوِ الأَْخِيرِ مِنَ التَّوَائِمِ لاَ يَكُونُ نِفَاسًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِحَاضَةً.
أَمَّا الْجَدِيدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّ الدَّمَ الْخَارِجَ بَيْنَ التَّوْأَمَيْنِ أَوِ التَّوْأَمِ حَيْضٌ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ (1) .
فِي اللِّعَانِ وَالنَّسَبِ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَلْحَقَ الرَّجُل أَحَدَ التَّوْأَمَيْنِ أَوِ التَّوَائِمِ وَنَفَى الآْخَرَ لَحِقُوا بِهِ؛ لأَِنَّ الْحَمْل الْوَاحِدَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ مِنْهُ وَبَعْضُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ ثَبَتَ نَسَبُ أَحَدِهِمَا مِنْهُ ثَبَتَ نَسَبُ الآْخَرِ ضَرُورَةً بِجَعْل مَا نَفَاهُ تَابِعًا لِمَا اسْتَلْحَقَهُ؛ لأَِنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لإِِثْبَاتِهِ لاَ لِنَفْيِهِ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 200، وجواهر الإكليل 1 / 32، وتحفة المحتاج 1 / 411، 413، ومغني المحتاج 1 / 118، والمغني لابن قدامة 1 / 350، وكشف المخدرات ص50.(14/103)
وَإِنْ اسْتَلْحَقَ أَحَدَهُمَا وَسَكَتَ عَنِ الآْخَرِ لَحِقَ بِهِ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ، لأَِنَّهُ لَوْ نَفَاهُ لَلَحِقَهُ، فَإِذَا سَكَتَ كَانَ أَوْلَى.
وَإِنْ نَفَى أَحَدَهُمَا وَسَكَتَ عَنِ الآْخَرِ لَحِقَا بِهِ جَمِيعًا؛ لأَِنَّ حَقَّ النَّسَبِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيبِ، وَهُوَ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الإِْمْكَانِ (1) .
4 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوْ أَتَتِ الْمَرْأَةُ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ بَعْدَ الْوِلاَدَةِ بِاللِّعَانِ، ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ تَوْأَمًا لِلأَْوَّل بِأَنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُدَّةٌ أَقَل مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْوَلَدَ الثَّانِيَ لاَ يَنْتَفِي بِاللِّعَانِ الأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ تَنَاوَل الْوَلَدَ الأَْوَّل وَحْدَهُ.
فَإِذَا أَرَادَ نَفْيَ الثَّانِي فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ آخَرَ، وَلاَ يَحْتَاجُ فِي اللِّعَانِ الثَّانِي إِلَى إِعَادَةِ ذِكْرِ الْوَلَدِ الأَْوَّل.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ اللِّعَانَ الأَْوَّل لِعَانٌ فِي حَقِّ الثَّانِي لأَِنَّهُمَا مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ. وَلَكِنِ الْفُقَهَاءُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْوَلَدِ الثَّانِي بَعْدَ نَفْيِهِ لِلْوَلَدِ الأَْوَّل لَحِقَهُ الثَّانِي وَالأَْوَّل، وَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ؛ لأَِنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ؛ لأَِنَّ الإِْقْرَارَ بِثُبُوتِ نَسَبِ بَعْضِ الْحَمْل إِقْرَارٌ بِالْكُل.
وَكَذَا إِنْ سَكَتَ بَعْدَ وِلاَدَةِ الْوَلَدِ الثَّانِي وَلَمْ يَنْفِهِ لَحِقَاهُ جَمِيعًا، إِلاَّ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الأَْخِيرَةِ لَيْسَ عَلَيْهِ حَدٌّ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُنَاقِضْ قَوْلَهُ الأَْوَّل، وَلُحُوقُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 591، وجواهر الإكليل 1 / 380، وروضة الطالبين 8 / 358، وحاشية الباجوري 2 / 171، والمغني لابن قدامة 7 / 419.(14/104)
الْوَلَدِ الأَْوَّل بِهِ هُوَ حُكْمُ الشَّرْعِ (1) .
5 - وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَيِّتِ مِنَ التَّوْأَمَيْنِ هَل يَحِقُّ لِلرَّجُل أَنْ يَنْفِيَهُ أَمْ لاَ؟
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُلاَعِنَ لِنَفْيِ الْمَيِّتِ مِنَ التَّوْأَمَيْنِ أَوِ التَّوَائِمِ، كَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُلاَعِنَ لِنَفْيِ الْحَيِّ مِنْهُمَا وَلِنَفْيِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ جَمِيعًا؛ لأَِنَّ نَسَبَهُ لاَ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، بَل يُقَال مَاتَ وَلَدُ فُلاَنٍ، وَهَذَا قَبْرُ وَلَدِ فُلاَنٍ؛ وَلأَِنَّ عَلَيْهِ مُؤْنَةَ تَجْهِيزِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ نَفَاهُمَا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ قُتِل قَبْل اللِّعَانِ لَزِمَهُ نَسَبُهُمَا؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ نَفْيُ الْمَيِّتِ، لاِنْتِهَائِهِ بِالْمَوْتِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَمِنْهَا (أَيْ شُرُوطِ اللِّعَانِ) أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ حَيًّا وَقْتَ قَطْعِ النَّسَبِ وَهُوَ وَقْتُ التَّفْرِيقِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لاَ يُقْطَعُ نَسَبُهُ مِنَ الأَْبِ حَتَّى لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَمَاتَ ثُمَّ نَفَاهُ الزَّوْجُ يُلاَعِنُ وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدُ؛ لأَِنَّ النَّسَبَ يَتَقَرَّرُ بِالْمَوْتِ فَلاَ يُحْتَمَل الاِنْقِطَاعُ.
وَإِذَا لَمْ يَنْتِفِ الْمَيِّتُ مِنَ التَّوْأَمَيْنِ لَمْ يَنْتِفِ الْحَيُّ مِنْهُمَا لأَِنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ، وَعَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ نَسَبُ الْحَيِّ، وَلَهُ أَنْ يُلاَعِنَ لِنَفْيِ الْحَدِّ عَنْهُ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 591، وجواهر الإكليل 1 / 380، 384، ومواهب الجليل 4 / 139، وروضة الطالبين 8 / 358، وحاشية الباجوري 2 / 171، والمغني لابن قدامة 7 / 419.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 591، نقلا عن فتح القدير والبدائع للكاساني 3 / 247، وجواهر الإكليل 1 / 380، ومغني المحتاج 3 / 380، والمغني لابن قدامة 7 / 419، وروضة الطالبين 8 / 358(14/104)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا نَفَى الْحَمْل بِاللِّعَانِ وَوَضَعَتِ الْمَرْأَةُ تَوْأَمَيْنِ أَوْ تَوَائِم انْتَفَوْا بِاللِّعَانِ جَمِيعًا، سَوَاءٌ وُلِدُوا مُتَعَاقِبِينَ أَوْ تَخَلَّلَتْ بَيْنَهُمْ فَتْرَةٌ تَقِل عَنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لأَِنَّهُ لاَعَنَ عَنِ الْحَمْل، وَالْحَمْل اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا فِي الْبَطْنِ (1) .
فِي الإِْرْثِ:
6 - تَطَرَّقَ عُلَمَاءُ الْفَرَائِضِ فِي أَبْوَابِ إِرْثِ الْحَمْل إِلَى مَسْأَلَتَيْنِ تَتَعَلَّقَانِ بِالتَّوَائِمِ:
الأُْولَى: افْتِرَاضُ الْحَمْل بِأَنَّهُ تَوْأَمَانِ أَوْ تَوَائِمُ عَمَلاً بِالأَْحْوَطِ فِي حَقِّهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ الَّذِي يُفْتَرَضُ مِنَ التَّوَائِمِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُوقَفُ نَصِيبُ تَوْأَمَيْنِ مِنَ التَّرِكَةِ؛ لأَِنَّ وِلاَدَةَ التَّوْأَمَيْنِ كَثِيرَةٌ وَمُعْتَادَةٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِمَا نَادِرٌ، فَلاَ يُوقَفُ لِمَا زَادَ شَيْءٌ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ - إِنَّ الْحَمْل لاَ يَتَقَدَّرُ بِعَدَدٍ وَلاَ يَتَحَدَّدُ بِحَدٍّ مُعَيَّنٍ لِعَدَمِ انْضِبَاطِهِ، فَيُوقَفُ الْمَال كُلُّهُ إِذَا كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يُحْجَبَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ بِالتَّوَائِمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُمْكِنِ حَجْبُهُمْ وَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ الْمُقَدَّرَةِ أُعْطِيَ لَهُمْ حَظُّهُمْ مِنَ التَّرِكَةِ،
__________
(1) روضة الطالبين 8 / 359.(14/105)
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَصِيبٌ مَفْرُوضٌ لَمْ يُعْطَوْا شَيْئًا حَتَّى تَضَعَ الْحَامِل (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: فِي الْمَرْجُوحِ يُوقَفُ نَصِيبُ أَرْبَعَةِ أَوْلاَدٍ ذُكُورٍ.
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِرْثٌ) .
الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ: إِذَا وَلَدَتِ الْحَامِل بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ تَوْأَمَيْنِ فَاسْتَهَل أَحَدُهُمَا وَمَاتَا وَلَمْ يُعْلَمِ الْمُسْتَهِل بِعَيْنِهِ، فَإِنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ، أَوْ أُنْثَيَيْنِ، أَوْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، لاَ يَخْتَلِفُ مِيرَاثُهُمَا فَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَا ذَكَرًا وَأُنْثَى يَخْتَلِفُ مِيرَاثُهُمَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمَا:
فَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: ذَهَبَ الْفَرَضِيُّونَ إِلَى أَنْ تُعْمَل الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْحَالَيْنِ وَيُعْطَى كُل وَارِثٍ الْيَقِينَ، وَيُوقَفُ الْبَاقِي حَتَّى يَصْطَلِحُوا عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَل أَنْ يُقْسَمَ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ الاِحْتِمَال (2) .
وَالتَّفَاصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِرْثٌ) .
فِي الْعِدَّةِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْحَامِل بِانْفِصَال جَمِيعِ الْوَلَدِ إِذَا كَانَ الْحَمْل وَاحِدًا وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ إِذَا كَانَ الْحَمْل اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَر.
__________
(1) مغني المحتاج 3 / 28، وحاشبة ابن عابدين 3 / 332، والمغني لابن قدامة 6 / 313.
(2) المغني لابن قدامة 6 / 318.(14/105)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ عِدَّتَهَا لاَ تَنْقَضِي إِلاَّ بِوَضْعِ آخِرِ التَّوَائِمِ؛ لأَِنَّهَا لاَ تَكُونُ وَاضِعَةً لِحَمْلِهَا مَا لَمْ يَخْرُجْ كُلُّهُ، وَالْحَمْل اسْمٌ لِلْجَمِيعِ.
وَذَهَبَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو قِلاَبَةَ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِأَوَّل التَّوَائِمِ، وَلَكِنَّهَا لاَ تَتَزَوَّجُ حَتَّى تَضَعَ الأَْخِيرَ مِنَ التَّوَائِمِ (1) .
فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ حَامِلٍ فَأَلْقَتْ جَنِينَيْنِ أَوْ أَجِنَّةً فَفِي كُل وَاحِدٍ غُرَّةٌ لأَِنَّهُ ضَمَانُ آدَمِيٍّ فَتَعَدَّدَ بِتَعَدُّدِهِ.
وَإِنْ أَلْقَتْهُمْ أَحْيَاءَ فِي وَقْتٍ يَعِيشُونَ فِي مِثْلِهِ، ثُمَّ مَاتُوا فَفِي كُل وَاحِدٍ دِيَةٌ كَامِلَةٌ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ حَيًّا فَمَاتَ، وَبَعْضُهُمْ مَيِّتًا، فَفِي الْحَيِّ دِيَةٌ، وَفِي الْمَيِّتِ غُرَّةٌ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ هَذَا إِذَا مَاتَ عَاجِلاً بَعْدَ الضَّرْبِ، لأَِنَّ مَوْتَهُ بِالْفَوْرِ يَدُل عَلَى أَنَّهُ مَاتَ مِنْ ضَرْبِ الْجَانِي.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا مَاتَتِ الأُْمُّ الْمَضْرُوبَةُ ثُمَّ خَرَجَا مَيِّتَيْنِ، أَوْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا مَيِّتًا قَبْل مَوْتِ الأُْمِّ، ثُمَّ خَرَجَ الآْخَرُ مَيِّتًا بَعْدَ مَوْتِهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 200، 2 / 604، وجواهر الإكليل 1 / 387، والقوانين الفقهية ص241، وحاشية الباجوري 2 / 174، والمغني لابن قدامة 7 / 474.(14/106)
شَيْءٌ فِي الَّذِي خَرَجَ بَعْدَ مَوْتِ الأُْمِّ، وَهُوَ مَيِّتٌ؛ لأَِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى أَعْضَاءِ الأُْمِّ، وَسَقَطَ ضَمَانُ أَعْضَائِهَا بِمَوْتِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ غُرَّتَيْنِ فِي اللَّذَيْنِ خَرَجَا مَيِّتِينَ بَعْدَ مَوْتِ الأُْمِّ، وَكَذَلِكَ فِي الَّذِي خَرَجَ مِنْهُمَا بَعْدَ مَوْتِهَا؛ لأَِنَّهُ جَنِينٌ خَرَجَ بِجِنَايَةٍ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ كَاَلَّذِي خَرَجَ قَبْل مَوْتِ الأُْمِّ؛ وَلأَِنَّهُ آدَمِيٌّ مَوْرُوثٌ فَلاَ يَدْخُل فِي ضَمَانِ أُمِّهِ كَمَا لَوْ خَرَجَ حَيًّا فَمَاتَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَأَمَّا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَسْقَطَ أَجِنَّةً خَطَأً.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْجَانِي عَنْ كُل جَنِينٍ مِنَ التَّوَائِمِ؛ لأَِنَّهُ آدَمِيٌّ مَعْصُومٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَل مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (2)
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنْ لاَ كَفَّارَةَ فِي الأَْجِنَّةِ إِنْ خَرَجُوا أَمْوَاتًا، وَلَكِنْ يُنْدَبُ لِلْجَانِي أَنْ يُكَفِّرَ (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 377، وجواهر الإكليل 2 / 267، والقوانين الفقهية 352، والدسوقي 4 / 269، والمغني لابن قدامة 7 / 802، 806، ومغني المحتاج 4 / 103، 104.
(2) سورة النساء / 92.
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 378، ومغني المحتاج 4 / 108، والمغني لابن قدامة 7 / 815.(14/106)
تَوًى
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوَى وِزَانُ الْحَصَى، مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْهَلاَكُ، يُقَال تَوَى يَتْوَى كَرَضِي يَرْضَى أَيْ هَلَكَ، وَأَتْوَاهُ اللَّهُ فَهُوَ تَوٌّ. قَال فِي اللِّسَانِ: التَّوَى بِالْقَصْرِ. وَقَدْ يُمَدُّ فَيُقَال: تَوَاءُ.
وَجَاءَ فِي اللِّسَانِ أَنَّ التَّوَى الْهَلاَكُ، وَذَهَابُ مَالٍ لاَ يُرْجَى مِنْ تَوَى الْمَال يَتْوَى تَوًى (1) .
وَيَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِي الْمَعْنَى نَفْسِهِ، أَيِ الْهَلاَكِ، وَذَهَابِ الْمَال (2) . وَقَدْ عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ فِي بَحْثِ الْحَوَالَةِ بِالْعَجْزِ عَنِ الْوُصُول إلَى الْحَقِّ، وَذَلِكَ بِجُحُودِ الْمُحَال عَلَيْهِ أَوْ مَوْتِهِ مُفْلِسًا كَمَا سَيَأْتِي (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
بَحَثَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ التَّوَى فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا:
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب، في المادة، تاج العروس 10 / 54 ط القاهرة.
(2) ابن عابدين 4 / 292، والمقنع 2 / 276، والمغني 6 / 387، والمغرب للمطرزي.
(3)) ابن عابدين 4 / 292، 293، والعناية بهامش فتح القدير 6 / 352.(14/107)
الْحَوَالَةُ، الْوَدِيعَةُ، وَالرَّهْنُ، عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
أَوَّلاً - التَّوَى فِي الْحَوَالَةِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا تَوَى حَقُّ الْمُحَال بِمَوْتِ الْمُحَال عَلَيْهِ أَوْ إِفْلاَسِهِ فَهَل لِلْمُحَال حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيل أَمْ لاَ؟
فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَحَال الشَّخْصُ آخَرَ عَلَى ثَالِثٍ بِشُرُوطِ الإِْحَالَةِ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمُحِيل، وَلاَ حَقَّ لِلْمُحَال فِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحِيل بِأَيِّ وَجْهٍ، حَتَّى إِنْ تَعَذَّرَ أَخْذُ الْمُحَال بِهِ مِنْهُ بِفَلَسٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَجَحْدٍ، أَوْ مَطْلٍ، أَوْ مَوْتٍ؛ لأَِنَّ الْحَوَالَةَ تَنْقُل الدَّيْنَ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيل إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَال عَلَيْهِ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: بِعَدَمِ رُجُوعِ الْمُحَال وَإِنْ شَرَطَ يَسَارَ الْمُحَال عَلَيْهِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ شَرَطَ الرُّجُوعَ عِنْدَ التَّعَذُّرِ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ لَمْ تَصِحَّ الْحَوَالَةُ أَصْلاً (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: بِعَدَمِ رُجُوعِ الْمُحَال وَلَوْ كَانَتِ الْحَوَالَةُ عَلَى غَيْرِ مَلِيءٍ بِرِضَاهُ، إِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ يَسَارَ الْمُحَال عَلَيْهِ (3) .
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مَا إِذَا كَانَ يَعْلَمُ الْمُحِيل فَقَطْ (دُونَ الْمُحَال) بِإِفْلاَسِ الْمُحَال عَلَيْهِ، فَفِي هَذِهِ
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 108، والقليوبي 2 / 318، 319، وكشاف القناع 3 / 383.
(2) الجمل على شرح المنهج 3 / 375.
(3) كشاف القناع 3 / 383، 384.(14/107)
الصُّورَةِ يَرْجِعُ الْمُحَال عَلَى الْمُحِيل؛ لأَِنَّهُ غَرَّهُ (1) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ لِلْمُحَال حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيل فِي حَالَةِ التَّوَى، حَيْثُ قَالُوا: لاَ يَرْجِعُ الْمُحَال عَلَى الْمُحِيل إِلاَّ بِالتَّوَى، بِأَنْ يَجْحَدَ الْمُحَال عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ وَلاَ بَيِّنَةَ لِلْمُحِيل وَلاَ لِلْمُحَال، أَوْ أَنْ يَمُوتَ الْمُحَال عَلَيْهِ مُفْلِسًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ بِأَنْ يُفَلِّسَهُ الْحَاكِمُ فِي حَيَاتِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَفْلِيسَ الْقَاضِي يَصِحُّ عِنْدَهُمَا وَلاَ يَصِحُّ عِنْدَهُ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حَوَالَةٌ) .
ثَانِيًا - التَّوَى فِي الْوَدِيعَةِ:
3 - الأَْصْل فِي الْوَدِيعَةِ أَنْ لاَ يُخْرِجَهَا الْوَدِيعُ عَنْ مَكَانٍ عَيَّنَهُ رَبُّ الْوَدِيعَةِ لِحِفْظِهَا، فَإِذَا حَفِظَهَا الْوَدِيعُ فِي مَكَان عَيَّنَهُ الْمُودِعُ، وَلَمْ يَخْشَ عَلَيْهَا فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّهُ مُمْتَثِلٌ لأَِمْرِهِ غَيْرُ مُفَرِّطٍ فِي مَالِهِ.
وَإِنْ خَافَ عَلَيْهَا سَيْلاً وَتَوًى - أَيْ هَلاَكًا - فَأَخْرَجَهَا مِنْهُ إِلَى حِرْزِهَا فَتَلِفَتْ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا، لأَِنَّ نَقْلَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِحِفْظِهَا، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهَا.
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 328.
(2) ابن عابدين 4 / 293.(14/108)
وَإِنْ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهَا فَنَقَلَهَا عَنِ الْحِرْزِ إِلَى مَا دُونَهُ ضَمِنَهَا، لأَِنَّهُ خَالَفَهُ فِي الْحِفْظِ الْمَأْمُورِ بِهِ (1) . وَلِلتَّفْصِيل (ر: وَدِيعَةٌ) .
ثَالِثًا - التَّوَى فِي الرَّهْنِ:
4 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَضْعُ الرَّهْنِ عَلَى يَدِ عَدْلٍ وَيَتِمُّ بِقَبْضِهِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا هَلَكَ فَهَل يَهْلِكُ مِنْ ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ أَوِ الرَّاهِنِ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ: (رَهْنٌ) .
لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ الْعَدْل الْمُسَلَّطُ عَلَى بَيْعِهِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ رَهْنًا؛ لأَِنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي، وَصَارَ ثَمَنُهُ هُوَ الرَّهْنُ؛ لأَِنَّهُ قَامَ مَقَامَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَقْبُوضًا أَمْ غَيْرَ مَقْبُوضٍ حَتَّى لَوْ تَوَى عِنْدَ الْمُشْتَرِي كَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَيَهْلِكُ بِالأَْقَل مِنْ قَدْرِ الثَّمَنِ وَمِنَ الدَّيْنِ؛ لِبَقَاءِ عَقْدِ الرَّهْنِ فِي الثَّمَنِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمَبِيعِ الْمَرْهُونِ (2) .
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (رَهْنٌ) .
__________
(1) ابن عابدين 4 / 495 وما بعدها، والمهذب 1 / 367، والمغني لابن قدامة 6 / 387، والمقنع 2 / 176.
(2) ابن عابدين 5 / 2325، والبناية على الهداية 9 / 108 والبدائع 6 / 149.(14/108)
تَوَاتُرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوَاتُرُ فِي اللُّغَةِ: التَّتَابُعُ، وَقِيل: هُوَ تَتَابُعُ الأَْشْيَاءِ، وَبَيْنَهَا فَجَوَاتٌ وَفَتَرَاتٌ. وَالْمُتَوَاتِرُ: الشَّيْءُ يَكُونُ هُنَيْهَةً ثُمَّ يَجِيءُ الآْخَرُ، فَإِذَا تَتَابَعَتْ فَلَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً إِنَّمَا هِيَ مُتَدَارِكَةٌ وَمُتَتَابِعَةٌ. وَالْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ لُغَةً: أَنْ يُحَدِّثَهُ وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ (1) .
وَلِلْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ فِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ عِدَّةُ تَعَارِيفَ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي الأَْلْفَاظِ إِلاَّ أَنَّهَا مُتَّفِقَةً فِي الْمَعْنَى.
فَعَرَّفَهُ صَاحِبُ الْمَحْصُول بِأَنَّهُ: خَبَرُ أَقْوَامٍ بَلَغُوا فِي الْكَثْرَةِ إِلَى حَيْثُ حَصَل الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ. وَقَال صَاحِبُ كَشْفِ الأَْسْرَارِ: هُوَ خَبَرُ جَمَاعَةٍ مُفِيدٌ بِنَفْسِهِ الْعِلْمَ بِصِدْقِهِ. وَعَرَّفَهُ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ بِأَنَّهُ: خَبَرُ جَمَاعَةٍ يُفِيدُ الْعِلْمَ، لاَ بِالْقَرَائِنِ الْمُنْفَصِلَةِ.
وَقَال صَاحِبُ دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ: التَّوَاتُرُ هُوَ إِخْبَارُ قَوْمٍ دَفْعَةً أَوْ مُتَفَرِّقًا بِأَمْرٍ لاَ يُتَصَوَّرُ عَادَةً
__________
(1) لسان العرب مادة: " وتر ".(14/109)
تَوَاطُؤُهُمْ وَتَوَافُقُهُمْ عَلَيْهِ بِالْكَذِبِ.
وَالْفُقَهَاءُ لاَ يَقْصُرُونَ اسْتِعْمَالَهُ عَلَى الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيِّ بَل قَدْ يَعُدُّونَهُ إِلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ كَمَا سَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الآْحَادُ:
2 - الآْحَادُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ أَحَدٍ. وَالأَْحَدُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى: وَهُوَ الْفَرْدُ الَّذِي لَمْ يَزَل وَحْدَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ آخَرُ. وَالأَْحَدُ: بِمَعْنَى الْوَاحِدِ، وَهُوَ أَوَّل الْعَدَدِ. وَخَبَرُ الآْحَادِ فِي الاِصْطِلاَحِ: خَبَرٌ لاَ يُفِيدُ بِنَفْسِهِ الْعِلْمَ ". وَقِيل " مَا يُفِيدُ الظَّنَّ (2) ". فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ التَّوَاتُرِ وَالآْحَادِ التَّضَادُّ وَخَبَرُ الآْحَادِ يَشْمَل الْمَشْهُورَ، وَالْعَزِيزَ وَالْغَرِيبَ. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي عِلْمِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - اتَّفَقَ الأُْصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ
__________
(1) المحصول الجزء الثاني - القسم الأول / 323، وكشف الأسرار 2 / 360، وتيسير التحرير 3 / 30، والأحكام للآمدي 2 / 14، والكليات 2 / 97 فصل التاء، والتعريفات 70، ودستور العلماء 1 / 364 باب التاء مع الواو.
(2) لسان العرب مادة: " أحد "، وتيسير التحرير 3 / 37.(14/109)
الْعِلْمَ، وَالْجُمْهُورُ مِنْهُمْ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ ضَرُورِيٌّ، وَذَهَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَالْكَعْبِيُّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالدَّقَّاقُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ نَظَرِيٌّ، وَتَوَقَّفَ الآْمِدِيُّ وَفَصَّل الْغَزَالِيُّ فَقَال: هُوَ ضَرُورِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يُحْتَاجُ فِي حُصُولِهِ إِلَى الشُّعُورِ بِتَوَسُّطِ وَاسِطَةٍ مُفْضِيَةٍ إِلَيْهِ، مَعَ أَنَّ الْوَاسِطَةَ حَاضِرَةٌ فِي الذِّهْنِ، وَلَيْسَ ضَرُورِيًّا بِمَعْنَى أَنَّهُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ.
وَحَتَّى يُفِيدَ التَّوَاتُرُ الْعِلْمَ لاَ بُدَّ أَنْ تَتَوَفَّرَ فِيهِ شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ، بَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِينَ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُسْتَمِعِينَ، وَبَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَفِيمَا يَلِي الشُّرُوطُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، أَمَّا الشُّرُوطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا وَمُنَاقَشَتُهَا فَتَفْصِيلُهَا فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ وَعِلْمِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ.
4 - فَالشُّرُوطُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِينَ وَهِيَ مَحَل اتِّفَاقِ الأُْصُولِيِّينَ أَرْبَعَةٌ:
أَوَّلُهَا: أَنْ يُخْبِرُوا عَنْ عِلْمٍ لاَ عَنْ ظَنٍّ.
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُمْ ضَرُورِيًّا مُسْتَنِدًا إِلَى مَحْسُوسٍ.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَسْتَوِيَ طَرَفَاهُ وَوَسَطُهُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَفِي كَمَال الْعَدَدِ.
رَابِعُهَا: الْعَدَدُ الْكَامِل الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَالْمَقْصُودُ بِالْكَامِل هُوَ أَقَل عَدَدٍ يُورِثُ الْعِلْمَ أَوْ هُوَ تَعَدُّدُ النَّقَلَةِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ التَّوَاطُؤَ عَادَةً عَلَى(14/110)
الْكَذِبِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ فَقِيل: أَقَلُّهُ خَمْسَةٌ، وَقِيل: اثْنَا عَشَرَ، وَقِيل: عِشْرُونَ. وَقِيل: أَرْبَعُونَ، وَقِيل: سَبْعُونَ، وَقِيل: ثَلاَثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ عَدَدُ أَهْل بَدْرٍ، وَقِيل: عَدَدُ أَهْل بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ (أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ) .
وَقِيل: لَيْسَ مَعْلُومًا لَنَا لَكِنَّا بِحُصُول الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ نَتَبَيَّنُ كَمَال الْعَدَدِ، لاَ أَنَّا بِكَمَال الْعَدَدِ نَسْتَدِل عَلَى حُصُول الْعِلْمِ.
وَضَابِطُهُ: مَا حَصَل الْعِلْمُ عِنْدَهُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنَ الأُْصُولِيِّينَ مِنْهُمْ الْغَزَالِيُّ، وَالرَّازِيُّ، وَابْنُ الْهُمَامِ وَوَأَمِيرُ بَادْشَاهْ شَارِحُ التَّحْرِيرِ، وَسَعْدُ الدِّينِ التَّفْتَازَانِيُّ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ (كَشْفِ الأَْسْرَارِ) .
وَأَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمُسْتَمِعِينَ فَشَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لاَ يَكُونَ السَّامِعُ عَالِمًا بِمَا أُخْبِرَ بِهِ.
ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ أَهْلاً لِقَبُول الْعِلْمِ بِمَا أُخْبِرَ بِهِ.
أَقْسَامُ التَّوَاتُرِ:
5 - التَّوَاتُرُ يَنْقَسِمُ إِلَى لَفْظِيٍّ وَمَعْنَوِيٍّ، فَاللَّفْظِيُّ: هُوَ مَا تَوَاتَرَ لَفْظُهُ كَحَدِيثِ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا (1) ".
__________
(1) حديث: " من كذب علي متعمدا فليتوبأ مقعده من النار. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 160 ط السلفية) ، ومسلم، (1 / 10 ط الحلبي) .(14/110)
وَالْمَعْنَوِيُّ: هُوَ نَقْل رُوَاةِ الْخَبَرِ قَضَايَا مُتَعَدِّدَةً بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ عَلَى جِهَةِ التَّضَمُّنِ أَوِ الاِلْتِزَامِ.
أَوْ هُوَ نَقْل جَمَاعَةٍ يَسْتَحِيل تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَقَائِعَ مُخْتَلِفَةً تَشْتَرِكُ فِي أَمْرٍ يَتَوَاتَرُ ذَلِكَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ، كَمَا نُقِل عَنْ شَجَاعَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَرَمِ حَاتِمٍ، وَكَأَحَادِيثِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا كَانَ الْخَبَرُ الْمُتَوَاتِرُ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ فَلاَ يَنْسَخُهُ إِلاَّ مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ مِثْلَهُ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِالآْحَادِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الأُْصُولِيِّينَ إِلَى مَنْعِهِ؛ وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُتَوَاتِرَ قَطْعِيٌّ وَخَبَرُ الآْحَادِ ظَنِّيٌّ فَلاَ يُبْطِلُهُ؛ لأَِنَّ الشَّيْءَ لاَ يُبْطِل أَقْوَى مِنْهُ، وَنَقَل صَاحِبُ الْبُرْهَانِ الإِْجْمَاعَ عَلَيْهِ، وَنَقَل صَاحِبُ تَيْسِيرِ التَّحْرِيرِ جَوَازَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَال الرَّازِيُّ فِي الْمَحْصُول: هُوَ جَائِزٌ فِي الْعَقْل غَيْرُ وَاقِعٍ فِي السَّمْعِ عِنْدَ الأَْكْثَرِينَ.
وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ عَقْلاً لَوْ تَعَبَّدَ بِهِ، وَوُقُوعُهُ سَمْعًا فِي زَمَانِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
وَذَهَبَ صَاحِبُ التَّوْضِيحِ إِلَى جَوَازِ نَسْخِ الْمُتَوَاتِرِ بِالْمَشْهُورِ مِنَ الآْحَادِ فَقَطْ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ مِنْ(14/111)
حَيْثُ إِنَّهُ بَيَانٌ يَجُوزُ بِالآْحَادِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَبْدِيلٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّوَاتُرُ فَيَجُوزُ بِمَا هُوَ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ.
6 - ثُمَّ إِنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ كُل مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا فِي أَصْلِهِ وَأَجْزَائِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ التَّوَاتُرِ فِي مَحَلِّهِ وَوَضْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ.
فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الأُْصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ التَّوَاتُرَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي مَحَلِّهِ وَوَضْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ، بَل يَكْثُرُ فِيهَا نَقْل الآْحَادِ. قَال السُّيُوطِيّ: الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْل السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ التَّوَاتُرِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا (1) .
(وَلِلتَّفْصِيل رَاجِعِ الْمُلْحَقَ الأُْصُولِيَّ) .
__________
(1) المستصفى 1 / 136 وما بعدها، والبرهان 1 / 567 وما بعدها، 579، 2 / 1311، والمحصول القسم الأول من الجزء الثاني / 323 وما بعدها، 377، والمحصول 2 / القسم الأول 368، 383، والمحصول 1 / القسم الثالث 498، وتيسير التحرير 3 / 30 وما بعدها 34، 36، وكشف الأسرار 2 / 360 وما بعدها، والتلويح على التوضيح 2 / 2، 3، 36، والأحكام للآمدي 2 / 18، 19، 23، 25، 27، وتدريب الراوي 374، ومسلم الثبوت 2 / 9، 13، والإتقان 1 / 77 وما بعدها ط مصطفى الحلبي.(14/111)
تَوَاطُؤٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوَاطُؤُ مَصْدَرُ تَوَاطَأَ، وَأَصْل فِعْلِهِ الثُّلاَثِيِّ: وَطِئَ
وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: التَّوَافُقُ، يُقَال: تَوَاطَأْنَا عَلَى الأَْمْرِ: تَوَافَقْنَا، وَتَوَاطَئُوا عَلَيْهِ: إِذَا تَوَافَقُوا، وَحَقِيقَتُهُ كَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَطِئَ مَا وَطِئَهُ الآْخَرُ، وَالْمُتَوَاطِئُ الْمُتَوَافِقُ (1) .
وَفِي حَدِيثِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ: أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَْوَاخِرِ (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّمَالُؤُ:
2 - التَّمَالُؤُ فِي اللُّغَةِ: الاِجْتِمَاعُ وَالتَّعَاوُنُ، يُقَال: تَمَالَئُوا عَلَى الأَْمْرِ: إِذَا تَعَاوَنُوا، وَقَال ابْنُ
__________
(1) لسان العرب 3 / 946، تاج العروس 1 / 495.
(2) حديث: " أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 256 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 823 ط عيسى الحلبي) .(14/112)
السِّكِّيتِ: اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَقَال أَبُو عُبَيْدٍ: يُقَال لِلْقَوْمِ إِذَا تَتَابَعُوا بِرَأْيِهِمْ عَلَى أَمْرٍ قَدْ تَمَالَئُوا عَلَيْهِ (1) .
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَتَل سَبْعَةَ نَفَرٍ بِرَجُلٍ قَتَلُوهُ غِيلَةً وَقَال: لَوْ تَمَالأََ عَلَيْهِ أَهْل صَنْعَاءَ لأََقَدْتهمْ بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: لَقَتَلْتهمْ، يَقُول: لَوْ تَضَافَرُوا عَلَيْهِ وَتَعَاوَنُوا وَتَسَاعَدُوا.
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
ب - التَّضَافُرُ:
3 - وَمَعْنَاهُ التَّعَاوُنُ وَالتَّجَمُّعُ، يُقَال تَضَافَرَ الْقَوْمُ. إِذَا تَعَاوَنُوا، وَضَافَرْتُهُ: عَاوَنْتُهُ، قَال ابْنُ سِيدَهْ: تَضَافَرَ الْقَوْمُ عَلَى الأَْمْرِ. تَظَاهَرُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَيْهِ (2) .
وَهَذِهِ الأَْلْفَاظُ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى بَل كَالْمُتَرَادِفَةِ.
__________
(1) لسان العرب 3 / 518، والمصباح المنير 2 / 580، والقاموس المحيط 1 / 30، والمغرب 432.
(2) المصباح المنير 2 / 363، ولسان العرب 2 / 540.(14/112)
ج - التَّصَادُقُ:
4 - التَّصَادُقُ وَالْمُصَادَقَةُ وَالصَّدَاقُ وَالصَّدَاقَةُ وَالْمُخَالَّةُ بِمَعْنًى.
وَهُوَ مَصْدَرُ تَصَادَقَ، وَأَصْل فِعْلِهِ صَدَقَ، يُقَال: صَدَقَهُ النَّصِيحَةَ وَالإِْخَاءَ أَمْحَضَهُ لَهُ، وَتَصَادَقَا فِي الْحَدِيثِ وَفِي الْمَوَدَّةِ ضِدُّ تَكَاذَبَا (1) .
وَالتَّوَاطُؤُ تَوَافُقُ شَخْصَيْنِ أَوْ أَكْثَر عَلَى أَمْرٍ مَا إِمَّا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبَيْنِ. أَمَّا التَّصَادُقُ فَتَصْدِيقُ شَخْصٍ لآِخَرَ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ، وَعَادَةً يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ مِنَ الآْخَرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّوَاطُؤِ بِاخْتِلاَفِ مَا تُوُوطِئَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا: الْجِنَايَاتُ، وَالشَّهَادَاتُ، وَالرَّضَاعُ الْمُحَرِّمُ، وَالإِْقْرَارُ بِالنَّسَبِ، وَالإِْقْرَارُ بِطَلاَقٍ سَابِقٍ، وَالْوَطْءُ فِي حَال الطَّلاَقِ قَبْل الدُّخُول، وَالرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ.
أَوَّلاً: التَّوَاطُؤُ فِي الْجِنَايَاتِ:
6 - التَّوَاطُؤُ فِي الْجِنَايَاتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى النَّفْسِ بِإِزْهَاقِهَا، أَوْ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ بِإِتْلاَفِهَا أَوِ الْعُدْوَانِ عَلَيْهَا.
الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ:
7 - إِذَا تَوَاطَأَ جَمْعٌ عَلَى قَتْل وَاحِدٍ مَعْصُومِ الدَّمِ
__________
(1) تاج العروس ولسان العرب مادة: " صدق ".(14/113)
عَمْدًا عُدْوَانًا، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْجَمْعَ يُقْتَلُونَ بِالْفَرْدِ الَّذِي تَمَّ التَّوَاطُؤُ عَلَى قَتْلِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا، مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَتَل سَبْعَةً مِنْ صَنْعَاءَ قَتَلُوا رَجُلاً وَقَال: لَوْ تَمَالأََ عَلَيْهِ أَهْل صَنْعَاءَ لَقَتَلْتهمْ جَمِيعًا (1) . وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَتَل ثَلاَثَةً قَتَلُوا رَجُلاً، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَتَل جَمَاعَةً بِوَاحِدٍ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مَعَ شُهْرَتِهِ فَصَارَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلأَِنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ تَجِبُ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْوَاحِدِ، فَوَجَبَتْ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَيُفَارِقُ الدِّيَةَ فَإِنَّهَا تَتَبَعَّضُ وَالْقِصَاصُ لاَ يَتَبَعَّضُ؛ وَلأَِنَّ الْقِصَاصَ لَوْ سَقَطَ بِالاِشْتِرَاكِ أَدَّى إِلَى التَّسَارُعِ بِالْقَتْل بِهِ، فَيُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاطِ حِكْمَةِ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ (2) .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: لاَ يُقْتَلُونَ بِهِ وَتَجِبُ عَلَيْهِمِ الدِّيَةُ، وَهَذَا قَوْل ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَرَبِيعَةَ، وَدَاوُد، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَال: وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ " وَغَيْرِهِ " أَنَّهُ يُقْتَل وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْبَاقِينَ حِصَصُهُمْ مِنَ الدِّيَةِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُكَافِئٌ لَهُ فَلاَ تُسْتَوْفَى أَبْدَالٌ بِمُبْدَلٍ وَاحِدٍ، كَمَا لاَ تَجِبُ دِيَاتٌ
__________
(1) حديث: أثر عمر " لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا " سبق تخريجه.
(2) المغني 7 / 671، 672.(14/113)
لِمَقْتُولٍ وَاحِدٍ؛ وَلأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَال: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} (1) وَقَال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (2) فَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لاَ يُؤْخَذُ بِالنَّفْسِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدةٍ؛ وَلأَِنَّ التَّفَاوُتَ فِي الأَْوْصَافِ يُمْنَعُ بِدَلِيل أَنَّ الْحُرَّ لاَ يُؤْخَذُ بِالْعَبْدِ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الْعَدَدِ أَوْلَى (3) .
وَلَكِنْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى (قَتْل الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ) اخْتَلَفُوا فِي التَّفْصِيل.
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يُقْتَل جَمْعٌ بِمُفْرَدٍ إِنْ جَرَحَ كُل وَاحِدٍ جُرْحًا مُهْلِكًا مَعًا؛ لأَِنَّ زَهُوقَ الرُّوحِ يَتَحَقَّقُ بِالْمُشَارَكَةِ؛ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ بِخِلاَفِ الأَْطْرَافِ، وَاشْتِرَاكُ الْجَمَاعَةِ فِيمَا لاَ يَتَجَزَّأُ يُوجِبُ التَّكَامُل فِي حَقِّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَيُضَافُ إِلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَلاً كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ كَوِلاَيَةِ الإِْنْكَاحِ، فَإِنْ كَانَ جُرْحُ الْبَعْضِ مُهْلِكًا، وَجُرْحُ الآْخَرِينَ غَيْرَ مُهْلِكٍ، فَالْقَوَدُ عَلَى ذِي الْجُرْحِ الْمُهْلِكِ، وَعَلَى الآْخَرِينَ التَّعْزِيرُ، وَالدِّيَةُ - فِي الظَّاهِرِ - لِتَعَمُّدِهِمْ، أَمَّا إِذَا بَاشَرَ الْقَتْل بَعْضُهُمْ وَكَانَ الآْخَرُونَ نِظَارَةً أَوْ مُغْرِينَ فَلاَ قَوَدَ وَلاَ دِيَةَ (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يُقْتَل الْجَمْعُ الْمُتَمَالِئُونَ عَلَى
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) سورة المائدة / 45.
(3) المغني 7 / 671، 672.
(4) رد المحتار على الدر المختار 5 / 357.(14/114)
قَتْل شَخْصٍ إِنْ تَمَالَئُوا بِضَرْبِهِ بِنَحْوِ سُيُوفٍ، أَوْ بِسَوْطٍ مِنْ أَحَدِهِمْ وَسَوْطٍ مِنْ آخَرَ، وَهَكَذَا حَتَّى مَاتَ فَيُقْتَلُونَ بِهِ؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، هَذَا إِذَا كَانَ جَمِيعُ الْمُتَمَالِئِينَ مُكَلَّفِينَ، فَإِنْ اشْتَرَكَ مُكَلَّفٌ مَعَ صَبِيٍّ فِي قَتْل مَعْصُومِ الدَّمِ، فَعَلَى الْمُكَلَّفِ الْقِصَاصُ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ إِنْ تَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ.
وَعِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِنْ تَعَدَّدَ مَنْ بَاشَرُوا الضَّرْبَ أَوِ الْجُرْحَ الْعَمْدَ الْعُدْوَانَ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ الْمَوْتُ، فَإِنْ كَانُوا تَمَالَئُوا عَلَى قَتْلِهِ، يُقْتَل الْجَمِيعُ بِقَتْل وَاحِدٍ إِنْ مَاتَ مَكَانَهُ، أَوْ رُفِعَ مَغْمُورًا حَتَّى مَاتَ، لاَ فَرْقَ بَيْنَ الأَْقْوَى ضَرْبًا وَغَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُمَالأََةٌ عَلَى قَتْلِهِ، بِأَنْ قَصَدَ كُلٌّ مِنْهُمْ قَتْلَهُ بِانْفِرَادِهِ مِنْ غَيْرِ اتِّفَاقٍ مَعَ غَيْرِهِ، أَوْ قَصَدَ كُلٌّ مِنْهُمْ ضَرْبَهُ بِلاَ قَصْدِ قَتْلٍ فَمَاتَ. . . قُدِّمَ الأَْقْوَى فِعْلاً حَيْثُ تَمَيَّزَتْ أَفْعَالُهُمْ فَيُقْتَل، وَيُقْتَصُّ مِمَّنْ جَرَحَ أَوْ قَطَعَ، وَيُؤَدَّبُ مَنْ لَمْ يَجْرَحْ، فَإِنْ لَمْ تَتَمَيَّزِ الضَّرَبَاتُ بِأَنْ تَسَاوَتْ أَوْ لَمْ يُعْلَمِ الأَْقْوَى قُتِل الْجَمِيعُ إِنْ مَاتَ مَكَانَهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَإِلاَّ فَوَاحِدٌ بِقَسَامَةٍ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُقْتَل الْجَمْعُ بِوَاحِدٍ وَإِنْ تَفَاضَلَتِ الْجِرَاحَاتُ فِي الْعَدَدِ، وَالْفُحْشِ، وَالأَْرْشِ، حَيْثُ كَانَ لَهَا دَخْلٌ فِي الزَّهُوقِ سَوَاءٌ أَقَتَلُوهُ بِمُحَدَّدٍ، أَمْ بِمُثَقَّلٍ، أَمْ أَلْقَوْهُ مِنْ شَاهِقٍ،
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 245 - 249، وجواهر الإكليل 2 / 257 - 258.(14/114)
أَوْ فِي بَحْرٍ؛ لأَِنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ لِلْوَاحِدِ عَلَى الْوَاحِدِ فَيَجِبُ لَهُ عَلَى الْجَمَاعَةِ كَحَدِّ الْقَذْفِ؛ وَلأَِنَّهُ شُرِعَ لِحَقْنِ الدِّمَاءِ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ عِنْدَ الاِشْتِرَاكِ لاَُتُّخِذَ ذَرِيعَةً إِلَى سَفْكِهَا؛ وَلِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَمَّا مَنْ لَيْسَ لِجُرْحِهِ أَوْ ضَرْبِهِ دَخْلٌ فِي الزَّهُوقِ بِقَوْل أَهْل الْخِبْرَةِ فَلاَ يُعْتَبَرُ. وَلَوْ ضَرَبُوهُ بِسِيَاطٍ، أَوْ عَصًا خَفِيفَةٍ فَقَتَلُوهُ وَضَرْبُ كُلٍّ مِنْهُمْ لاَ يَقْتُل، قُتِلُوا إِنْ تَوَاطَئُوا أَيِ اتَّفَقُوا عَلَى ضَرْبِهِ. وَكَانَتْ جُمْلَةُ السِّيَاطِ بِحَيْثُ يُقْصَدُ بِهَا الْهَلاَكُ (1) . وَإِنْ وَقَعَ مُصَادَفَةً وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُتَأَخِّرُ ضَرْبَ غَيْرِهِ، فَالدِّيَةُ تَجِبُ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الضَّرَبَاتِ إِنْ عُلِمَ يَقِينًا، فَإِنْ جُهِل أَوْ شُكَّ فِيهِ فَالتَّوْزِيعُ عَلَى الرُّءُوسِ كَالتَّوْزِيعِ فِي الْجِرَاحِ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرِ التَّوَاطُؤُ فِي الْجِرَاحَاتِ وَالضَّرَبَاتِ الْمُهْلِكِ كُلٍّ مِنْهَا لَوِ انْفَرَدَ؛ لأَِنَّهَا قَاتِلَةٌ فِي نَفْسِهَا وَيُقْصَدُ بِهَا الْهَلاَكُ مُطْلَقًا، وَالضَّرْبُ الْخَفِيفُ لاَ يَظْهَرُ فِيهِ قَصْدُ الإِْهْلاَكِ مُطْلَقًا إِلاَّ بِالْمُوَالاَةِ مِنْ وَاحِدٍ وَالْمُوَاطِئُ مِنْ جَمْعٍ.
وَلَوْ ضَرَبَ اثْنَانِ شَخْصًا بِسِيَاطٍ أَوْ عَصًا خَفِيفَةٍ فَقَتَلُوهُ، وَضَرْبُ أَحَدِهِمَا يَقْتُل، وَضَرْبُ الآْخَرِ لاَ يَقْتُل، فَإِنْ سَبَقَ الضَّرْبُ الَّذِي يَقْتُل
__________
(1) ذلك ما جاء في شرح المنهج، وفي نهاية المحتاج أن في القصاص أوجها أصحها الوجوب في هذه الحالة، وفيها كذلك أن ضرب كل منهم لو كان قاتلا لو انفرد وجب عليهم القود جزما.(14/115)
كَخَمْسِينَ سَوْطًا مَثَلاً، ثُمَّ تَبِعَهُ الضَّرْبُ الَّذِي لاَ يَقْتُل كَسَوْطَيْنِ حَالَةَ أَلَمِهِ مِنْ ضَرْبِ الأَْوَّل، وَكَانَ الضَّارِبُ الثَّانِي عَالِمًا بِضَرْبِ الأَْوَّل اُقْتُصَّ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ جَاهِلاً بِهِ فَلاَ قِصَاصَ، وَعَلَى الأَْوَّل مِنْهُمَا حِصَّةُ ضَرْبِهِ مِنْ دِيَةِ الْعَمْدِ، وَعَلَى الثَّانِي كَذَلِكَ مِنْ دِيَةِ شِبْهِهِ بِاعْتِبَارِ الضَّرَبَاتِ.
وَإِنْ سَبَقَ الضَّرْبُ الَّذِي لاَ يَقْتُل، ثُمَّ تَبِعَهُ الَّذِي يَقْتُل حَال الأَْلَمِ، وَلاَ تَوَاطُؤَ، فَلاَ قَوَدَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، بَل يَجِبُ عَلَى الضَّارِبِ الأَْوَّل حِصَّةُ ضَرْبِهِ مِنْ دِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَعَلَى الثَّانِي حِصَّةُ ضَرْبِهِ مِنْ دِيَةِ الْعَمْدِ بِاعْتِبَارِ الضَّرَبَاتِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا قَتَلُوا وَاحِدًا فَعَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْقِصَاصُ، إِذَا كَانَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوِ انْفَرَدَ بِفِعْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: - بَعْدَ ذَلِكَ - رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةَ. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالأَْوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَلاَ يُعْتَبَرُ - عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُشْتَرِكِينَ التَّسَاوِي فِي سَبَبِهِ، فَلَوْ جَرَحَهُ رَجُلٌ جُرْحًا، وَالآْخَرُ مِائَةً فَمَاتَ، كَانَا
__________
(1) نهاية المحتاج 7 / 261، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5 / 25 - 26.(14/115)
سَوَاءً فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ؛ لأَِنَّ اعْتِبَارَ التَّسَاوِي يُفْضِي إِلَى سُقُوطِ الْقِصَاصِ عَنِ الْمُشْتَرِكِينَ إِذْ لاَ يَكَادُ جُرْحَانِ يَتَسَاوَيَانِ مِنْ كُل وَجْهٍ، وَلَوِ احْتُمِل التَّسَاوِي لَمْ يَثْبُتِ الْحُكْمُ؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ يُعْتَبَرُ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ وَلاَ يُكْتَفَى بِاحْتِمَال الْوُجُودِ، بَل الْجَهْل بِوُجُودِهِ كَالْعِلْمِ بِعَدَمِهِ فِي انْتِفَاءِ الْحُكْمِ؛ وَلأَِنَّ الْجُرْحَ الْوَاحِدَ قَدْ يَمُوتُ مِنْهُ دُونَ الْمِائَةِ؛ وَلأَِنَّ الْجِرَاحَ إِذَا أَفَضْت إِلَى قَتْل النَّفْسِ سَقَطَ اعْتِبَارُهَا، فَكَانَ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ كَحُكْمِ الْوَاحِدِ، أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ أَطْرَافَهُ كُلَّهَا فَمَاتَ وَجَبَتْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، كَمَا لَوْ قَطَعَ طَرَفَهُ فَمَاتَ (1) .
الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:
8 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي جُرْحٍ أَوْ جِنَايَةٍ عَلَى طَرَفٍ مُوجِبَيْنِ لِلْقِصَاصِ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى جَمِيعِهِمْ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ فَقَالاَ: هَذَا هُوَ السَّارِقُ وَأَخْطَأْنَا فِي الأَْوَّل فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا عَلَى الثَّانِي وَغَرَّمَهُمَا دِيَةَ الأَْوَّل، وَقَال: لَوْ عَلِمْت أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا؛ وَلأَِنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْقِصَاصِ فَتُؤْخَذُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ كَالأَْنْفُسِ.
وَيَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُشْتَرِكِينَ إِذَا لَمْ يَتَمَيَّزْ فِعْل أَحَدِهِمْ عَنْ فِعْل الآْخَرِ، كَأَنْ يَضَعُوا سَيْفًا عَلَى يَدِ شَخْصٍ وَيَتَحَامَلُوا عَلَيْهِ
__________
(1) المغني 7 / 671 672.(14/116)
حَتَّى تَبِينُ يَدُهُ، فَإِنْ قَطَعَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ جَانِبٍ، أَوْ ضَرَبَ كُل وَاحِدٍ ضَرْبَةً فَلاَ قِصَاصَ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَقْطَعِ الْيَدَ، وَلَمْ يُشَارِكْ فِي قَطْعِ جَمِيعِهَا (1) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تُقْطَعُ الْيَدَانِ، أَوِ الأَْيْدِي بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ؛ لاِنْعِدَامِ الْمُمَاثَلَةِ؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ فِي الأَْطْرَافِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْقِيمَةِ بِخِلاَفِ النَّفْسِ، فَإِنَّ الشَّرْطَ فِيهَا الْمُسَاوَاةُ فِي الْعِصْمَةِ.
وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ وَجْهًا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ؛ لأَِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لاَ يُقْتَلُونَ بِالْوَاحِدِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الأَْطْرَافَ لاَ تُؤْخَذُ بِطَرَفٍ وَاحِدٍ (2) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ تَمَيَّزَتْ جِنَايَاتٌ مِنْ جَمَاعَةٍ وَلَمْ يَمُتِ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ تَمَالُؤٌ مِنْهُمْ، فَيُقْتَصُّ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ فِعْلِهِ، وَإِنْ لَمْ تَتَمَيَّزِ الْجِنَايَاتُ مَعَ عَدَمِ التَّمَالُؤِ فَعَلَيْهِمْ دِيَةُ جَمِيعِ الْجِنَايَاتِ، وَأَمَّا إِنْ تَمَالَئُوا اُقْتُصَّ مِنْ كُلٍّ بِقَدْرِ الْجَمِيعِ تَمَيَّزَتِ الْجِنَايَاتُ أَمْ لاَ (3) .
ثَانِيًا - تَوَاطُؤُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى طَلاَقٍ فِي وَقْتٍ سَابِقٍ:
9 - إِذَا أَقَرَّ رَجُلٌ بِطَلاَقِ امْرَأَتِهِ الْمُعْتَدَّةِ وَأَسْنَدَ هَذَا الطَّلاَقَ إِلَى وَقْتٍ سَابِقٍ عَلَى وَقْتِ الإِْقْرَارِ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ. فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ:
__________
(1) مغني المحتاج 4 / 25، والمغني 7 / 674 - 676.
(2) الدر المختار 5 / 358، والمغني 7 / 674.
(3) حاشية الدسوقي 4 / 245.(14/116)
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَقَرَّ بِطَلاَقِهَا مُنْذُ زَمَانٍ مَاضٍ فَإِنَّ الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهَا تَطْلُقُ وَتَعْتَدُّ مِنْ وَقْتِ الإِْقْرَارِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ صَدَّقَتْهُ أَمْ كَذَّبَتْهُ، أَمْ قَالَتْ لاَ أَدْرِي نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ أَيِ الْمُوَافَقَةِ عَلَى الطَّلاَقِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَقَرَّ صَحِيحٌ بِطَلاَقٍ بَائِنٍ أَوْ رَجْعِيٍّ مُتَقَدِّمٍ عَلَى وَقْتِ إِقْرَارِهِ، وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ، اسْتَأْنَفَتِ امْرَأَتُهُ الْعِدَّةَ مِنْ وَقْتِ إِقْرَارِهِ، فَيُصَدَّقُ فِي الطَّلاَقِ لاَ فِي إِسْنَادِهِ لِلْوَقْتِ السَّابِقِ، وَلَوْ صَدَّقَتْهُ لأَِنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى إِسْقَاطِ الْعِدَّةِ وَهِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْعِدَّةُ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي أَسْنَدَتِ الْبَيِّنَةُ الطَّلاَقَ فِيهِ. وَالْمَرِيضُ كَالصَّحِيحِ فِي هَذَا عِنْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَرِيضِ بَيِّنَةٌ وَرِثَتْهُ أَبَدًا إِنْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ وَلَمْ يَقْصِدْ إِنْشَاءَ طَلاَقٍ بَل قَصَدَ الإِْخْبَارَ بِالطَّلاَقِ أَمْسِ فِي هَذَا النِّكَاحِ، وَصَدَّقَتْهُ تُحْسَبُ عِدَّتُهَا مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَهُ (3) .
وَيُفْهَمُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ مِثْل مَا قَال الشَّافِعِيَّةُ (4) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 2 / 610.
(2) حاشية الدسوقي 2 / 477.
(3) مغني المحتاج 3 / 314 - 315.
(4) شرح منتهى الإرادات 3 / 188.(14/117)
ثَالِثًا - التَّوَاطُؤُ عَلَى الرَّجْعَةِ فِي الْعِدَّةِ:
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ إِذَا انْقَضَتْ فَقَال الزَّوْجُ: كُنْت رَاجَعْتهَا فِي الْعِدَّةِ وَصَدَّقَتْهُ فَهِيَ رَجْعَةٌ؛ لأَِنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا لاَ يَمْلِكُ إِنْشَاءَهُ فِي الْحَال، فَكَانَ مُتَّهَمًا، إِلاَّ أَنَّهُ بِالتَّصْدِيقِ تَرْتَفِعُ التُّهْمَةُ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ لاَ تَثْبُتُ؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ خَبَرٌ، وَالْخَبَرُ مُجَرَّدُ دَعْوَى تَمَلُّكِ بُضْعِهَا أَوْ مَنْفَعَتِهِ بَعْدَ ظُهُورِ انْقِطَاعِ مِلْكِهِ، وَمُجَرَّدُ دَعْوَى مِلْكٍ فِي وَقْتٍ لاَ يَمْلِكُ إِنْشَاءَهُ فِيهِ لاَ يَجُوزُ قَبُولُهَا مَعَ إِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُهُ فِيهِ إِنْشَاؤُهُ كَأَنْ يَقُول فِي الْعِدَّةِ: كُنْت رَاجَعْتُك أَمْسِ ثَبَتَتْ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ مُتَّهَمًا فِيهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ يُنْشِئَهُ فِي الْحَال، أَوْ يَجْعَل ذَلِكَ إِنْشَاءً إِنْ كَانَتِ الصِّيغَةُ تَحْتَمِلُهُ (1) .
تَوَاعُدٌ
اُنْظُرْ: وَعْدٌ
__________
(1) فتح القدير 4 / 18 - 19، وجواهر الإكليل 1 / 363، ومغني المحتاج 3 / 340 - 341، والمغني 7 / 295.(14/117)
تَوَافُقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - لِلتَّوَافُقِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ: مِنْهَا: الاِتِّفَاقُ وَالتَّظَاهُرُ وَعَدَمُ الاِخْتِلاَفِ، يُقَال: وَافَقَهُ مُوَافَقَةً وَوِفَاقًا وَاتَّفَقَ مَعَهُ وَتَوَافَقَا.
وَالْوَفْقُ مِنَ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَهُوَ أَيْضًا قَدْرُ الْكِفَايَةِ. يُقَال: حَلُوبَتُهُ وَفْقَ عِيَالِهِ. أَيْ لَهَا لَبَنٌ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ لاَ فَضْل فِيهِ (1) .
2 - وَتَوَافُقُ الْعَدَدَيْنِ فِي اصْطِلاَحِ الْمُحَاسِبِينَ وَالْفَرْضِيِّينَ: أَنْ لاَ يَعُدَّ (أَيْ لاَ يُغْنِي) أَقَلُّهُمَا الأَْكْثَرَ لَكِنْ يَعُدُّهُمَا عَدَدٌ ثَالِثٌ غَيْرُ الْوَاحِدِ كَالثَّمَانِيَةِ مَعَ الْعِشْرِينَ. فَإِنَّ الثَّمَانِيَةَ لاَ تَعُدُّ الْعِشْرِينَ لَكِنْ تَعُدُّهُمَا الأَْرْبَعَةُ، فَإِنَّهَا تَعُدُّ الثَّمَانِيَةَ بِمَرَّتَيْنِ وَالْعِشْرِينَ بِخَمْسِ مَرَّاتٍ فَهُمَا مُتَوَافِقَانِ بِالرُّبُعِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْعَدَدَ الْعَادَّ لَهُمَا مُخْرِجٌ جُزْءَ ذَلِكَ الْوَفْقِ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا عَدَّهُمَا الأَْرْبَعَةُ وَهِيَ مَخْرَجُ الرُّبُعِ كَانَا مُتَوَافِقَيْنِ بِهِ. وَكَذَلِكَ يَعُدُّهُمَا اثْنَانِ فَيَتَوَافَقَانِ بِالنِّصْفِ أَيْضًا. وَكَذَلِكَ الثَّمَانِيَةُ وَالْعَشَرَةُ يَعْدُهُمَا اثْنَانِ (2) .
__________
(1) تاج العروس، ولسان العرب، ومختار الصحاح مادة: " وفق ".
(2) شرح السراجية 204 - 205، ورد المحتار على الدر المختار 5 / 516، ومنهاج الطالبين وحاشية القليوبي عليه 3 / 153، والتعريفات للجرجاني ص69، والتعريفات الفقهية للمجددي البركتي. الرسالة الرابعة 239.(14/118)
وَالتَّوَافُقُ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ هُوَ أَحَدُ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ هِيَ: التَّمَاثُل، وَالتَّدَاخُل، وَالتَّبَايُنُ، وَالتَّوَافُقُ، وَهِيَ لَيْسَتْ بَابًا مِنْ عِلْمِ الْفَرَائِضِ بَل مِنْ مَحْضِ مَسَائِل الْحِسَابِ مُنْفَصِلٍ عَنْ مَسَائِل الْفَرَائِضِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهَا يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا فِي تَقْسِيمِ التَّرِكَةِ عَلَى أَعْدَادِ الْمُسْتَحِقِّينَ بِلاَ كَسْرٍ (1) . وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قِسْمَةُ التَّرِكَاتِ) .
__________
(1) شرح السراجية ص201.(14/118)
تَوْبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوْبَةُ فِي اللُّغَةِ الْعَوْدُ وَالرُّجُوعُ، يُقَال: تَابَ إِذَا رَجَعَ عَنْ ذَنْبِهِ وَأَقْلَعَ عَنْهُ. وَإِذَا أُسْنِدَ فِعْلُهَا إِلَى الْعَبْدِ يُرَادُ بِهِ رُجُوعُهُ مِنَ الزَّلَّةِ إِلَى النَّدَمِ، يُقَال: تَابَ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً وَمَتَابًا: أَنَابَ وَرَجَعَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَإِذَا أُسْنِدَ فِعْلُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يُسْتَعْمَل مَعَ صِلَةِ (عَلَى) يُرَادُ بِهِ رُجُوعُ لُطْفِهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَى الْعَبْدِ وَالْمَغْفِرَةِ لَهُ، يُقَال: تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ: غَفَرَ لَهُ وَأَنْقَذَهُ مِنَ الْمَعَاصِي (1) . قَال اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ التَّوْبَةُ هِيَ: النَّدَمُ وَالإِْقْلاَعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْصِيَةٌ لاَ؛ لأَِنَّ فِيهَا ضَرَرًا لِبَدَنِهِ وَمَالِهِ، وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهَا إِذَا قَدَرَ (3) .
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب وتاج العروس مادة " توب " ودستور العلماء 1 / 362، 363.
(2) سورة التوبة / 118.
(3) تفسير روح المعاني للألوسي 28 / 158، وبلغة السالك 4 / 738، والفواكه الدواني 1 / 88، والكليات لأبي البقاء 2 / 96، والجمل 5 / 387، وكشاف القناع 1 / 418، والمغني 9 / 200.(14/119)
وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا الرُّجُوعُ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُعْوَجِّ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ (1) .
وَعَرَّفَهَا الْغَزَالِيُّ بِأَنَّهَا: الْعِلْمُ بِعَظَمَةِ الذُّنُوبِ، وَالنَّدَمُ وَالْعَزْمُ عَلَى التَّرْكِ فِي الْحَال وَالاِسْتِقْبَال وَالتَّلاَفِي لِلْمَاضِي، وَهَذِهِ التَّعْرِيفَاتُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ لَفْظًا هِيَ مُتَّحِدَةٌ مَعْنًى. وَقَدْ تُطْلَقُ التَّوْبَةُ عَلَى النَّدَمِ وَحْدَهُ إِذْ لاَ يَخْلُو عَنْ عِلْمٍ أَوْجَبَهُ وَأَثْمَرَهُ وَعَنْ عَزْمٍ يَتْبَعُهُ (2) ، وَلِهَذَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّدَمُ تَوْبَةٌ (3) وَالنَّدَمُ تَوَجُّعُ الْقَلْبِ وَتَحَزُّنُهُ لِمَا فَعَل وَتَمَنِّي كَوْنَهُ لَمْ يَفْعَل (4) .
قَال ابْنُ قَيِّمٍ الْجَوْزِيَّةَ: التَّوْبَةُ فِي كَلاَمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا تَتَضَمَّنُ الإِْقْلاَعَ عَنِ الذَّنْبِ فِي الْحَال وَالنَّدَمَ عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي وَالْعَزْمَ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ فِي الْمُسْتَقْبَل، تَتَضَمَّنُ أَيْضًا الْعَزْمَ عَلَى فِعْل الْمَأْمُورِ وَالْتِزَامِهِ، فَحَقِيقَةُ التَّوْبَةِ: الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ بِالْتِزَامِ فِعْل مَا يَجِبُ وَتَرْكِ مَا يَكْرَهُ؛ وَلِهَذَا عَلَّقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْفَلاَحَ الْمُطْلَقَ عَلَى التَّوْبَةِ (5) حَيْثُ قَال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (6) .
__________
(1) القليوبي 4 / 201، والآداب الشرعية 1 / 98.
(2) إحياء علوم الدين للغزالي 4 / 3.
(3) حديث: " الندم توبة ". أخرجه أحمد في المسند (5 / 194، 3568. ط دار المعارف) وصحح إسناده أحمد شاكر.
(4) تفسير الألوسي 28 / 158، والجمل 5 / 387، والإحياء للغزالي 4 / 3.
(5) مدارج السالكين 1 / 305.
(6) سورة النور / 31.(14/119)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِعْتِذَارُ:
2 - الاِعْتِذَارُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ اعْتَذَرَ أَصْلُهُ مِنَ الْعُذْرِ، وَأَصْل الْعُذْرِ إِزَالَةُ الشَّيْءِ عَنْ جِهَتِهِ يُقَال: اعْتَذَرَ عَنْ فِعْلِهِ أَيْ أَظْهَرَ عُذْرَهُ، وَاعْتَذَرَ إِلَيَّ أَيْ طَلَبَ قَبُول مَعْذِرَتِهِ، وَاعْتَذَرَ إِلَى فُلاَنٍ فَعَذَرَهُ أَيْ: أَزَال مَا كَانَ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ فِي الظَّاهِرِ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الاِعْتِذَارُ إِظْهَارُ نَدَمٍ عَلَى ذَنْبٍ تُقِرُّ بِأَنَّ لَك فِي إِتْيَانِهِ عُذْرًا، وَالتَّوْبَةُ هِيَ النَّدَمُ عَلَى ذَنْبٍ تُقِرُّ بِأَنَّهُ لاَ عُذْرَ لَك فِي إِتْيَانِهِ فَكُل تَوْبَةٍ نَدَمٌ وَلاَ عَكْسَ. وَقَدْ يَكُونُ الْمُعْتَذِرُ مُحِقًّا فِيمَا فَعَلَهُ، بِخِلاَفِ التَّائِبِ مِنَ الذَّنْبِ (1) .
ب - الاِسْتِغْفَارُ:
3 - الاِسْتِغْفَارُ فِي اللُّغَةِ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ، وَأَصْل الْغَفْرِ التَّغْطِيَةُ وَالسَّتْرُ، يُقَال: غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ أَيْ سَتَرَهَا. وَفِي الاِصْطِلاَحِ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الطَّاعَةِ (2) .
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الاِسْتِغْفَارُ إِذَا ذُكِرَ مُفْرَدًا يُرَادُ بِهِ التَّوْبَةُ مَعَ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ مَحْوُ الذَّنْبِ وَإِزَالَةُ أَثَرِهِ وَوِقَايَةُ شَرِّهِ، وَالسَّتْرُ لاَزِمٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا
__________
(1) المصباح مادة: " عذر "، والكليات لأبي البقاء 2 / 96، والفروق في اللغة ص229، ومدارج السالكين 1 / 182.
(2) المصباح ولسان العرب مادة: " غفر "، والفروق في اللغة ص229.(14/120)
رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} (1) ، فَالاِسْتِغْفَارُ بِهَذَا الْمَعْنَى يَتَضَمَّنُ التَّوْبَةَ.
أَمَّا عِنْدَ اقْتِرَانِ إِحْدَى اللَّفْظَتَيْنِ بِالأُْخْرَى فَالاِسْتِغْفَارُ طَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ مَا مَضَى، وَالتَّوْبَةُ الرُّجُوعُ وَطَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ مَا يَخَافُهُ فِي الْمُسْتَقْبَل مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِ (2) ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (3) .
أَرْكَانُ وَشُرُوطُ التَّوْبَةِ:
4 - ذَكَرَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ أَنَّ لِلتَّوْبَةِ أَرْبَعَةَ شُرُوطٍ: الإِْقْلاَعَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ حَالاً، وَالنَّدَمَ عَلَى فِعْلِهَا فِي الْمَاضِي، وَالْعَزْمَ عَزْمًا جَازِمًا أَنْ لاَ يَعُودَ إِلَى مِثْلِهَا أَبَدًا. وَإِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ تَتَعَلَّقُ بِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا رَدُّ الْمَظَالِمِ إِلَى أَهْلِهَا أَوْ تَحْصِيل الْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ (4) .
وَصَرَّحُوا كَذَلِكَ بِأَنَّ النَّدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ؛ وَلِقُبْحِهَا شَرْعًا. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: النَّدَامَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً "؛ لأَِنَّ النَّدَامَةَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لإِِضْرَارِهَا بِبَدَنِهِ، وَإِخْلاَلِهَا بِعِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لاَ تَكُونُ تَوْبَةً، فَلَوْ نَدِمَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا
__________
(1) سورة نوح / 10.
(2) مدارج السالكين 1 / 307، 309.
(3) سورة هود / 3.
(4) البدائع 7 / 96، والفواكه الدواني 1 / 88، 89، وحاشية القليوبي 4 / 201، والمغني 9 / 201، والآداب الشرعية 1 / 100، وتفسير الألوسي 28 / 159.(14/120)
لِلصُّدَاعِ، وَخِفَّةِ الْعَقْل، وَزَوَال الْمَال، وَخَدْشِ الْعِرْضِ لاَ يَكُونُ تَائِبًا.
وَالنَّدَمُ لِخَوْفِ النَّارِ أَوْ طَمَعِ الْجَنَّةِ يُعْتَبَرُ تَوْبَةٌ (1) .
وَاعْتَبَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ هَذِهِ الشُّرُوطَ أَوْ أَكْثَرَهَا مِنْ أَرْكَانِ التَّوْبَةِ فَقَالُوا: التَّوْبَةُ النَّدَمُ مَعَ الإِْقْلاَعِ وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ، وَرَدِّ الْمَظَالِمِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: النَّدَمُ رُكْنٌ مِنَ التَّوْبَةِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الإِْقْلاَعَ عَنِ الذَّنْبِ وَالْعَزْمَ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ، وَأَمَّا رَدُّ الْمَظَالِمِ لأَِهْلِهَا فَوَاجِبٌ مُسْتَقِلٌّ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ (2) . وَيُؤَيِّدُ هَذَا الرَّأْيَ مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: النَّدَمُ تَوْبَةٌ (3) .
وَعَلَى جَمِيعِ الاِعْتِبَارَاتِ لاَ بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الإِْقْلاَعَ عَنِ الذَّنْبِ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِرَدِّ الْحُقُوقِ إِلَى أَهْلِهَا، أَوْ بِاسْتِحْلاَلِهِمْ مِنْهَا فِي حَالَةِ الْقُدْرَةِ، وَهَذَا كَمَا يَلْزَمُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ يَلْزَمُ كَذَلِكَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، كَدَفْعِ الزَّكَوَاتِ، وَالْكَفَّارَاتِ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا (4) .
__________
(1) تفسير الألوسي 28 / 158، وبلغة السالك 4 / 738، ودستور العلماء 1 / 362، والفواكه الدواني 1 / 88، والجمل على شرح المنهج 5 / 387، وكشاف القناع 6 / 425.
(2) المراجع السابقة.
(3) حديث: " الندم توبة ". سبق تخريجه ف / 1.
(4) تفسير الألوسي 28 / 159، وحاشية العدوي 1 / 67، والروضة 11 / 245، وحاشية القليوبي 4 / 201، ومدارج السالكين لابن القيم 1 / 305.(14/121)
وَرَدُّ الْحُقُوقِ يَكُونُ حَسَبَ إِمْكَانِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ أَوِ الْمَغْصُوبُ مَوْجُودًا رَدَّهُ بِعَيْنِهِ، وَإِلاَّ يَرُدُّ الْمِثْل إِنْ كَانَا مِثْلِيَّيْنِ وَالْقِيمَةَ إِنْ كَانَا قِيَمِيَّيْنِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ نَوَى رَدَّهُ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ، وَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِنِيَّةِ الضَّمَانِ لَهُ إِنْ وَجَدَهُ. فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِيهَا حَقٌّ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ كَالْقِصَاصِ اشْتَرَطَ فِي التَّوْبَةِ التَّمْكِينَ مِنْ نَفْسِهِ وَبَذْلَهَا لِلْمُسْتَحِقِّ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَتَوْبَتُهُ بِالنَّدَمِ وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي آثَارِ التَّوْبَةِ (1) .
إِعْلاَنُ التَّوْبَةِ:
5 - قَال ابْنُ قُدَامَةَ: التَّوْبَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ بَاطِنَةٍ وَحُكْمِيَّةٍ، فَأَمَّا الْبَاطِنَةُ: فَهِيَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ لاَ تُوجِبُ حَقًّا عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ كَقُبْلَةِ أَجْنَبِيَّةٍ أَوِ الْخَلْوَةِ بِهَا، وَشُرْبِ مُسْكِرٍ، أَوْ كَذِبٍ، فَالتَّوْبَةُ مِنْهُ النَّدَمُ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لاَ يَعُودَ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال:
النَّدَمُ تَوْبَةٌ (2) وَقِيل: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ تَجْمَعُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ، النَّدَمَ بِالْقَلْبِ، وَالاِسْتِغْفَارَ بِاللِّسَانِ، وَإِضْمَارَ أَنْ لاَ يَعُودَ، وَمُجَانَبَةَ خُلَطَاءِ السُّوءِ، وَإِنْ كَانَتْ تُوجِبُ عَلَيْهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لآِدَمِيٍّ كَمَنْعِ الزَّكَاةِ وَالْغَصْبِ، فَالتَّوْبَةُ مِنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَتَرْكُ الْمَظْلِمَةِ حَسَبَ إِمْكَانِهِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ
__________
(1) الفواكه الدواني 1 / 89، والروضة 11 / 245، والمغني 9 / 201.
(2) حديث: " الندم توبة " سبق تخريجه ف / 1.(14/121)
الزَّكَاةَ وَيَرُدَّ الْمَغْصُوبَ أَوْ مِثْلَهُ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَإِلاَّ قِيمَتَهُ. وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ نَوَى رَدَّهُ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فِيهَا حَقٌّ فِي الْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ اشْتَرَطَ فِي التَّوْبَةِ التَّمْكِينَ مِنْ نَفْسِهِ وَبَذْلَهَا لِلْمُسْتَحِقِّ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَتَوْبَتُهُ أَيْضًا بِالنَّدَمِ، وَالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ وَلاَ يُشْتَرَطُ الإِْقْرَارُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَشْتَهِرْ عَنْهُ فَالأَْوْلَى لَهُ سَتْرُ نَفْسِهِ، وَالتَّوْبَةُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ (1) فَإِنَّ الْغَامِدِيَّةَ حِينَ أَقَرَّتْ بِالزِّنَى لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ (2) ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْصِيَةً مَشْهُورَةً فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الأَْوْلَى الإِْقْرَارُ بِهِ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لأَِنَّهُ إِذَا كَانَ مَشْهُورًا فَلاَ فَائِدَةَ فِي تَرْكِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ تَرْكَ الإِْقْرَارِ أَوْلَى؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَّضَ لِلْمُقِرِّ عِنْدَهُ بِالرُّجُوعِ عَنِ الإِْقْرَارِ فَعَرَّضَ لِمَاعِزٍ (3) ، وَلِلْمُقِرِّ
__________
(1) حديث: " من أصاب من هذه القاذورة. . . " أخرجه الطحاوي في المشكل (1 / 20 ط دائرة المعارف) والبيهقي (8 / 330 ط دار المعرفة) ، والحاكم (4 / 244 ط دار الكتاب العربي) . وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
(2) حديث: " أن الغامدية حين أقرت بالزنى لم ينكر. . . . . " أخرجه مسلم (3 / 1323ط عيسى الحلبي) .
(3) حديث: " عرض النبي صلى الله عليه وسلم الرجوع على المقر بالزنى. . . . " أخرجه البخاري (12 / 135 ط السلفية) .(14/122)
عِنْدَهُ بِالسَّرِقَةِ (1) بِالرُّجُوعِ مَعَ اشْتِهَارِهِ عَنْهُ بِإِقْرَارِهِ، وَكَرِهَ الإِْقْرَارَ حَتَّى إِنَّهُ قِيل لَمَّا قُطِعَ السَّارِقُ كَأَنَّمَا أَسِفَ وَجْهُهُ رَمَادًا، وَلَمْ يَرِدِ الأَْمْرُ بِالإِْقْرَارِ وَلاَ الْحَثُّ عَلَيْهِ فِي كِتَابٍ وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ يَصِحُّ لَهُ قِيَاسٌ. إِنَّمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِالسَّتْرِ وَالاِسْتِتَارِ وَالتَّعْرِيضِ لِلْمُقِرِّ بِالرُّجُوعِ عَنِ الإِْقْرَارِ، وَقَال لِهُزَالٍ وَكَانَ هُوَ الَّذِي أَمَرَ مَاعِزًا بِالإِْقْرَارِ يَا هُزَال لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك كَانَ خَيْرًا لَك (2) .
وَقَال أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: تَوْبَةُ هَذَا إِقْرَارُهُ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِمَا ذَكَرْنَا؛ وَلأَِنَّ التَّوْبَةَ تُوجَدُ حَقِيقَتُهَا بِدُونِ الإِْقْرَارِ وَهِيَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا، كَمَا وَرَدَ فِي الأَْخْبَارِ مَعَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآْيَاتُ فِي مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ بِالاِسْتِغْفَارِ وَتَرْكِ الإِْصْرَارِ. وَأَمَّا الْبِدْعَةُ فَالتَّوْبَةُ مِنْهَا بِالاِعْتِرَافِ بِهَا، وَالرُّجُوعِ عَنْهَا، وَاعْتِقَادِ ضِدِّ مَا كَانَ يَعْتَقِدُ مِنْهَا (3) .
__________
(1) حديث: " عرض النبي صلى الله عليه وسلم الرجوع على المقر بالسرقة. . . " أخرجه أبو داود (4 / 542 ط عزت عبيد الدعاس) . أخرجه الحاكم (4 / 381 ط دار الكتاب العربي) وقال على شرط مسلم.
(2) حديث: " يا هزال لو سترته بثوبك كان خيرا لك ". أخرجه أبو داود (4 / 541 ط عزت عبيد الدعاس) . والحاكم (4 / 362 ط دار الكتاب العربي) وقال حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(3) ابن عابدين (3 / 140، 4 / 379، والمغني 9 / 200، 201، وكشاف القناع 1 / 99، والفواكه الدواني 1 / 89، والوجيز للغزالي 2 / 271، والجمل 5 / 387، 389.(14/122)
عَدَمُ الْعَوْدِ:
6 - لاَ يُشْتَرَطُ فِي التَّوْبَةِ عَدَمُ الْعَوْدِ إِلَى الذَّنْبِ الَّذِي تَابَ مِنْهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا تَتَوَقَّفُ التَّوْبَةُ عَلَى الإِْقْلاَعِ عَنِ الذَّنْبِ وَالنَّدَمِ عَلَيْهِ وَالْعَزْمِ الْجَازِمِ عَلَى تَرْكِ مُعَاوَدَتِهِ، فَإِنْ عَاوَدَهُ مَعَ عَزْمِهِ حَال التَّوْبَةِ عَلَى أَنْ لاَ يُعَاوِدَهُ صَارَ كَمَنْ ابْتَدَأَ الْمَعْصِيَةَ، وَلَمْ تَبْطُل تَوْبَتُهُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَلاَ يَعُودُ إِلَيْهِ إِثْمُ الذَّنْبِ الَّذِي ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ، وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَذَلِكَ بِنَصِّ الْحَدِيثِ: التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ (1) .
وَقَال بَعْضُهُمْ يَعُودُ إِلَيْهِ إِثْمُ الذَّنْبِ الأَْوَّل؛ لأَِنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الذَّنْبِ بِمَنْزِلَةِ الإِْسْلاَمِ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْكَافِرُ إِذَا أَسْلَمَ هَدَمَ إِسْلاَمُهُ مَا قَبْلَهُ مِنْ إِثْمِ الْكُفْرِ وَتَوَابِعِهِ، فَإِذَا ارْتَدَّ عَادَ إِلَيْهِ الإِْثْمُ الأَْوَّل مَعَ الرِّدَّةِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ عَدَمَ مُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ وَاسْتِمْرَارَ التَّوْبَةِ شَرْطٌ فِي كَمَال التَّوْبَةِ وَنَفْعِهَا الْكَامِل لاَ فِي صِحَّةِ مَا مَضَى مِنْهَا.
هَذَا وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ فِي ثُبُوتِ بَعْضِ أَحْكَامِ التَّوْبَةِ إِصْلاَحَ الْعَمَل، فَلاَ تَكْفِي التَّوْبَةُ
__________
(1) حديث: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له ". أخرجه ابن ماجه (2 / 1418) ط عيسى الحلبي) . قال السخاوي " حسنه شيخنا - يعني ابن حجر - لشواهده ". (المقاصد الحسنة ص249. ط دار الكتاب العربي) .(14/123)
حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ مُدَّةٌ تَظْهَرُ فِيهَا آثَارُ التَّوْبَةِ وَيَتَبَيَّنُ فِيهَا صَلاَحُهُ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي فِي آثَارِ التَّوْبَةِ (1) .
التَّوْبَةُ مِنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ:
7 - تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الإِْصْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَالتَّوْبَةُ تَتَبَعَّضُ كَالْمَعْصِيَةِ وَتَتَفَاضَل فِي كَمِّيَّتِهَا كَمَا تَتَفَاضَل فِي كَيْفِيَّتِهَا، فَكُل ذَنْبٍ لَهُ تَوْبَةٌ تَخُصُّهُ، وَلاَ تَتَوَقَّفُ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ بَقِيَّةِ الذُّنُوبِ، كَمَا لاَ يَتَعَلَّقُ أَحَدُ الذَّنْبَيْنِ بِالآْخَرِ، وَكَمَا يَصِحُّ إِيمَانُ الْكَافِرِ مَعَ إِدَامَتِهِ شُرْبَ الْخَمْرِ وَالزِّنَى تَصِحُّ التَّوْبَةُ عَنْ ذَنْبٍ مَعَ الإِْصْرَارِ عَلَى آخَرَ (2) .
وَنَقَل ابْنُ الْقَيِّمِ قَوْلاً بِعَدَمِ قَبُول التَّوْبَةِ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الإِْصْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ثُمَّ قَال: وَاَلَّذِي عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ التَّوْبَةَ لاَ تَصِحُّ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الإِْصْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ نَوْعِهِ، وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ مُبَاشَرَةِ ذَنْبٍ آخَرَ لاَ تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ وَلاَ هُوَ مِنْ نَوْعِهِ فَتَصِحُّ، كَمَا
__________
(1) تفسير الألوسي 28 / 159، والفواكه الدواني 1 / 189، والروضة 11 / 249، 250، والجمل 5 / 387، 389، وكشاف القناع 1 / 425، ومدارج السالكين 1 / 276، والمغني لابن قدامة 9 / 202، والمهذب 2 / 332.
(2) تفسير الألوسي 28 / 159، وبلغة السالك 4 / 738، والفواكه الدواني 1 / 89، والروضة 11 / 249، ومدارج السالكين 1 / 273، 274، والآداب الشرعية 1 / 65، 66.(14/123)
إِذَا تَابَ مِنَ الرِّبَا، وَلَمْ يَتُبْ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ مَثَلاً فَإِنَّ تَوْبَتَهُ مِنَ الرِّبَا صَحِيحَةٌ، وَأَمَّا إِذَا تَابَ مِنْ رِبَا الْفَضْل وَلَمْ يَتُبْ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ تَابَ مِنْ تَنَاوُل الْحَشِيشَةِ وَأَصَرَّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ بِالْعَكْسِ فَهَذَا لاَ تَصِحُّ تَوْبَتُهُ، كَمَنْ يَتُوبُ عَنْ زِنَى بِامْرَأَةٍ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الزِّنَى بِغَيْرِهَا (1) .
أَقْسَامُ التَّوْبَةِ:
8 - صَرَّحَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ التَّوْبَةَ نَوْعَانِ: تَوْبَةٌ فِي الْبَاطِنِ، وَتَوْبَةٌ فِي الظَّاهِرِ.
فَأَمَّا التَّوْبَةُ فِي الْبَاطِنِ: فَهِيَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل، فَيُنْظَرُ فِي الْمَعْصِيَةِ فَإِنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهَا مَظْلَمَةٌ لآِدَمِيٍّ، وَلاَ حَدٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، كَالاِسْتِمْتَاعِ بِالأَْجْنَبِيَّةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، فَالتَّوْبَةُ مِنْهَا أَنْ يُقْلِعَ عَنْهَا وَيَنْدَمَ عَلَى فِعْل مَا فَعَل، وَيَعْزِمَ عَلَى أَنْ لاَ يَعُودَ إِلَى مِثْلِهَا. وَالدَّلِيل عَلَى، ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} (2) الآْيَةَ.
وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ آدَمِيٍّ، فَالتَّوْبَةُ مِنْهَا أَنْ يُقْلِعَ عَنْهَا، وَيَنْدَمَ عَلَى مَا فَعَل، وَيَعْزِمَ عَلَى أَنْ لاَ يَعُودَ إِلَى مِثْلِهَا، وَأَنْ يَبْرَأَ مِنْ حَقِّ الآْدَمِيِّ، إِمَّا
__________
(1) مدارج السالكين 1 / 275.
(2) سورة آل عمران / 135.(14/124)
بِأَنْ يُؤَدِّيَهُ أَوْ يَسْأَلَهُ حَتَّى يُبْرِئَهُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ نَوَى أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ أَوْفَاهُ حَقَّهُ.
وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْمَعْصِيَةِ حَدٌّ لِلَّهِ، كَحَدِّ الزِّنَى وَالشُّرْبِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ، فَالأَْوْلَى أَنْ يَسْتُرَهُ عَلَى نَفْسِهِ (1) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ (2) .
وَأَمَّا التَّوْبَةُ فِي الظَّاهِرِ - وَهِيَ الَّتِي تَعُودُ بِهَا الْعَدَالَةُ وَالْوِلاَيَةُ وَقَبُول الشَّهَادَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ فِعْلاً كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّةِ التَّوْبَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَتَّى يَصْلُحَ عَمَلُهُ، وَقَدَّرُوهَا بِسَنَةٍ أَوْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، أَوْ حَتَّى ظُهُورِ عَلاَمَاتِ الصَّلاَحِ عَلَى اخْتِلاَفِ أَقْوَالِهِمْ خِلاَفًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا إِصْلاَحَ الْعَمَل بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ قَذْفًا أَوْ شَهَادَةَ زُورٍ فَلاَ بُدَّ مِنْ إِكْذَابِ نَفْسِهِ كَمَا سَيَأْتِي (3) .
التَّوْبَةُ النَّصُوحُ:
9 - أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ لِيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ فَقَال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى
__________
(1) المهذب للشيرازي 2 / 332، والمغني لابن قدامة 9 / 200، 201.
(2) حديث: " من أصاب من هذه القاذورة. . . . " سبق تخريجه ف / 5.
(3) تفسير الألوسي 28 / 159، والفواكه الدواني 1 / 89، والمهذب للشيرازي 2 / 332، والمغني 9 / 201.(14/124)
رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهَارُ} (1) .
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، وَأَشْهَرُهَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا أَنَّ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ هِيَ الَّتِي لاَ عَوْدَةَ بَعْدَهَا كَمَا لاَ يَعُودُ اللَّبَنُ إِلَى الضَّرْعِ (2) . وَقِيل: هِيَ النَّدَمُ بِالْقَلْبِ، وَالاِسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ، وَالإِْقْلاَعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَالاِطْمِئْنَانُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَعُودُ (3) .
حُكْمُ التَّوْبَةِ:
10 - التَّوْبَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبَةٌ شَرْعًا عَلَى الْفَوْرِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّهَا مِنْ أُصُول الإِْسْلاَمِ الْمُهِمَّةِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ، وَأَوَّل مَنَازِل السَّالِكِينَ (4) ،
__________
(1) سورة التحريم / 8.
(2) حديث: " إن التوبة النصوح هي التي لا عودة بعدها كما لا يعود اللبن إلى الضرع ". قال السيوطي: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال معاذ بن جبل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما التوبة النصوح؟ قال: أن يندم العبد على الذنب الذي أصاب فيعتذر إلى الله ثم
(3) تفسير الألوسي 28 / 157، والقرطبي 18 / 197، والآداب الشرعية 1 / 101، 105، ومدارج السالكين 1 / 309، 310، والمغني 9 / 201.
(4) الكليات لأبي البقاء 2 / 96، وتفسير الألوسي 28 / 159، والفواكه الدواني 1 / 89، ونهاية المحتاج 2 / 424، والروضة 11 / 249، وكشاف القناع 2 / 81، وبلغة السالك 4 / 738.(14/125)
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) .
وَقْتُ التَّوْبَةِ:
11 - إِذَا أَخَّرَ الْمُذْنِبُ التَّوْبَةَ إِلَى آخِرِ حَيَاتِهِ، فَإِنْ ظَل آمِلاً فِي الْحَيَاةِ غَيْرَ يَائِسٍ بِحَيْثُ لاَ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْمَوْتَ يُدْرِكُهُ لاَ مَحَالَةَ فَتَوْبَتُهُ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمَوْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَل التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} (2) وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ يَقْبَل تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ (3) .
وَإِنْ قَطَعَ الأَْمَل مِنَ الْحَيَاةِ وَكَانَ فِي حَالَةِ الْيَأْسِ (مُشَاهَدَةُ دَلاَئِل الْمَوْتِ) فَاخْتَلَفُوا فِيهِ:
قَال الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَرَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَنُسِبَ إِلَى مَذْهَبِ الأَْشَاعِرَةِ: إِنَّهُ لاَ تُقْبَل تَوْبَةُ الْيَائِسِ الَّذِي يُشَاهِدُ دَلاَئِل الْمَوْتِ، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَال إِنِّي تُبْتُ الآْنَ} (4) الآْيَةَ.
قَالُوا: إِنَّ الآْيَةَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ الذُّنُوبَ وَيُؤَخِّرُونَ التَّوْبَةَ إِلَى وَقْتِ
__________
(1) سورة النور / 31.
(2) سورة الشورى / 25.
(3) حديث: " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ". أخرجه أحمد في المسند (9 / 19 - 20 / 6160. ط دار المعارف) وصحح إسناده أحمد شاكر.
(4) سورة النساء / 18.(14/125)
الْغَرْغَرَةِ، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى بَعْدَهُ: {وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} (1) لأَِنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَ مَنْ أَخَّرَ التَّوْبَةَ إِلَى حُضُورِ الْمَوْتِ مِنَ الْفَسَقَةِ وَبَيْنَ مَنْ يَمُوتُ وَهُوَ كَافِرٌ، فَلاَ تُقْبَل تَوْبَةُ الْيَائِسِ كَمَا لاَ يُقْبَل إِيمَانُهُ. وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَقْبَل التَّوْبَةَ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطْ لِصِحَّةِ التَّوْبَةِ صُدُورُهَا قَبْل الْغَرْغَرَةِ، وَهِيَ حَالَةُ الْيَأْسِ وَبُلُوغُ الرُّوحِ الْحُلْقُومَ (2) .
وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ - وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ إِلَى مَذْهَبِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِيَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ وَلَوْ فِي حَالَةِ الْغَرْغَرَةِ، بِخِلاَفِ إِيمَانِ الْيَائِسِ فَإِنَّهُ لاَ يُقْبَل، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ عَارِفٍ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَيَبْدَأُ إِيمَانًا وَعِرْفَانًا، وَالْفَاسِقُ عَارِفٌ وَحَالُهُ حَال الْبَقَاءِ، وَالْبَقَاءُ أَسْهَل مِنَ الاِبْتِدَاءِ (3) وَلإِِطْلاَقِ قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَل التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (4) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ قَبُول تَوْبَةِ الْكَافِرِ بِإِسْلاَمِهِ فِي حَالَةِ الْيَأْسِ (5) بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى
__________
(1) سورة النساء / 18.
(2) ابن عابدين 1 / 571، 3 / 289، والفواكه الدواني 1 / 90، وتفسير الماوردي 1 / 372، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 127.
(3) المراجع السابقة.
(4) سورة الشورى / 25.
(5) تفسير الطبري 8 / 96، 97، وانظر أيضا تفسير الماوردي 1 / 372، 373.(14/126)
حِكَايَةً عَنْ حَال فِرْعَوْنَ: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَال آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيل وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الآْنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْل وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (1) .
مَنْ تُقْبَل تَوْبَتُهُمْ وَمَنْ لاَ تُقْبَل:
12 - تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقْبَل التَّوْبَةَ مِنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ الْعَاصِي بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ كَمَا وَعَدَ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ حَيْثُ قَال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَل التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} (2) لَكِنْ هُنَاكَ بَعْضُ الْحَالاَتِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول التَّوْبَةِ فِيهَا نَظَرًا لِلأَْدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِهَا وَمِنْ هَذِهِ الْحَالاَتِ:
أ - تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ:
13 - الزِّنْدِيقُ هُوَ الَّذِي لاَ يَتَمَسَّكُ بِشَرِيعَةٍ وَلاَ يَتَدَيَّنُ بِدِينٍ (3) .
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، (الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) عَلَى أَنَّهُ لاَ تُقْبَل تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (4) الآْيَةَ.
__________
(1) سورة يونس / 90، 91.
(2) سورة الشورى / 25.
(3) ابن عابدين 3 / 296، وحاشية القليوبي 4 / 177، وكشاف القناع 6 / 176، 178.
(4) سورة البقرة / 160.(14/126)
وَالزِّنْدِيقُ لاَ يَظْهَرُ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ خِلاَفُ مَا كَانَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ الإِْسْلاَمَ مُسِرًّا بِالْكُفْرِ؛ وَلأَِنَّ التَّوْبَةَ عِنْدَ الْخَوْفِ عَيْنُ الزَّنْدَقَةِ. لَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ صَرَّحُوا بِقَبُول التَّوْبَةِ مِنَ الزِّنْدِيقِ إِذَا أَظْهَرَهَا قَبْل الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الزِّنْدِيقَ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ فَتُقْبَل تَوْبَتُهُ بِشُرُوطِهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (2) .
وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ بِالزَّنَادِقَةِ الْبَاطِنِيَّةَ بِمُخْتَلَفِ فِرَقِهِمْ (3) ، كَمَا أَلْحَقَ بِهِمِ الْحَنَابِلَةُ الْحُلُولِيَّةَ وَالإِْبَاحِيَّةَ وَسَائِرَ الطَّوَائِفِ الْمَارِقِينَ مِنَ الدِّينِ (4) .
ب - تَوْبَةُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ:
14 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَنُسِبَ إِلَى مَالِكٍ بِأَنَّهُ لاَ تُقْبَل تَوْبَةُ مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} (5) . وَلِقَوْلِهِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 31، و3 / 290، 296، والحطاب 6 / 282، وجواهر الإكليل 2 / 279، والقليوبي 4 / 177، والمغني 6 / 298، وكشاف القناع 6 / 177، 178.
(2) سورة الأنفال / 38.
(3) الباطنية هم القائلون بأن للقرآن باطنا وظاهرا، والباطن هو المراد منه دون ظاهره. (قليوبي 4 / 177) .
(4) المراجع السابقة.
(5) سورة النساء / 137.(14/127)
سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَل تَوْبَتُهُمْ} (1) وَالاِزْدِيَادُ يَقْتَضِي كُفْرًا جَدِيدًا لاَ بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ إِيمَانٍ عَلَيْهِ.
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ فَقَال لَهُ: إِنَّهُ أُتِيَ بِك مَرَّةً فَزَعَمْتَ أَنَّك تُبْتَ وَأَرَاكَ قَدْ عُدْتَ فَقَتَلَهُ. وَلأَِنَّ تَكْرَارَ الرِّدَّةِ مِنْهُ يَدُل عَلَى فَسَادِ عَقِيدَتِهِ وَقِلَّةِ مُبَالاَتِهِ بِالدِّينِ فَيُقْتَل (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ تُقْبَل تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ وَلَوْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ؛ لإِِطْلاَقِ قَوْله تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (3) وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ (4) . لَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُرْتَدَّ الْمُتَكَرِّرَةُ مِنْهُ الرِّدَّةُ إِذَا تَابَ ثَانِيًا عُزِّرَ بِالضَّرْبِ أَوْ بِالْحَبْسِ وَلاَ يُقْتَل، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا ارْتَدَّ ثَانِيًا ثُمَّ تَابَ ضَرَبَهُ الإِْمَامُ
__________
(1) سورة آل عمران / 90.
(2) المغني 8 / 126، 127، وكشاف القناع 6 / 177.
(3) سورة الأنفال / 38.
(4) حديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا. . . . " أخرجه مسلم (1 / 53 ط عيسى الحلبي) وأصله في البخاري.(14/127)
وَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَإِنِ ارْتَدَّ ثَالِثًا ثُمَّ تَابَ ضَرَبَهُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَحَبَسَهُ حَتَّى تَظْهَرَ عَلَيْهِ آثَارُ التَّوْبَةِ وَيَرَى أَنَّهُ مُخْلِصٌ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ، فَإِنْ عَادَ فَعَل بِهِ هَكَذَا أَبَدًا مَا دَامَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الإِْسْلاَمِ،
وَقَدْ جَاءَ مِثْل هَذَا عَنِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (1) .
ج - تَوْبَةُ السَّاحِرِ:
15 - السِّحْرُ عِلْمٌ يُسْتَفَادُ مِنْهُ حُصُول مَلَكَةٍ نَفْسَانِيَّةٍ يَقْتَدِرُ بِهَا عَلَى أَفْعَالٍ غَرِيبَةٍ بِأَسْبَابٍ خَفِيَّةٍ.
وَعَرَّفَهُ ابْنُ خَلْدُونٍ بِأَنَّهُ عِلْمٌ بِكَيْفِيَّةِ اسْتِعْدَادَاتٍ تَقْتَدِرُ النُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ بِهَا عَلَى التَّأْثِيرَاتِ فِي عَالَمِ الْعَنَاصِرِ بِغَيْرِ مُعَيَّنٍ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَعْلِيمَهُ وَتَعَلُّمَهُ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (2) فَذَمَّهُمْ عَلَى تَعْلِيمِهِ؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَّهُ مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ لاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ تُقْبَل تَوْبَةُ السَّاحِرِ فَيَجِبُ قَتْلُهُ وَلاَ يُسْتَتَابُ، وَذَلِكَ لِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ كُفْرِهِ مُطْلَقًا عَدَمُ قَتْلِهِ؛ لأَِنَّ
__________
(1) ابن عابدين 3 / 286، والحطاب 6 / 282، وأسنى المطالب 4 / 122، والجمل على شرح المنهج 5 / 126.
(2) سورة البقرة / 102.(14/128)
قَتْلَهُ بِسَبَبِ سَعْيِهِ بِالْفَسَادِ، فَإِذَا ثَبَتَ ضَرَرُهُ وَلَوْ بِغَيْرِ مُكَفِّرٍ يُقْتَل دَفْعًا لِشَرِّهِ كَالْخَنَّاقِ وَقَطَّاعِ الطَّرِيقِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ.
وَحَدُّ السَّاحِرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْقَتْل وَيَكْفُرُ بِتَعَلُّمِهِ وَفِعْلِهِ سَوَاءٌ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ أَوْ إِبَاحَتَهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ لاَ يَكْفُرُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا حُكِمَ بِكُفْرِهِ فَإِنْ كَانَ مُجَاهِرًا بِهِ يُقْتَل إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ فَتُقْبَل تَوْبَتُهُ، وَإِنْ كَانَ يُخْفِيهِ فَهُوَ كَالزِّنْدِيقِ لاَ تُقْبَل تَوْبَتُهُ (2) .
16 - وَالدَّلِيل عَلَى عَدَمِ قَبُول تَوْبَةِ السَّاحِرِ حَدِيثُ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ (3) فَسَمَّاهُ حَدًّا وَالْحَدُّ بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبِهِ لاَ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ. وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ السَّاحِرَةَ سَأَلَتْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ - هَل لَهَا
__________
(1) ابن عابدين 1 / 31، المغني 8 / 154، والمقدمة 496 ط دار التراث.
(2) الخرشي 8 / 63، والجواهر 2 / 281.
(3) حديث: " حد الساحر ضربة بالسيف " أخرجه الترمذي (4 / 60 ط مصطفى الحلبي) وقال: لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث، ثم قال والصحيح عن جندب موقوف، وقال ابن حجر وفي سنده ضعف (فتح الباري 10 / 236 ط السلفية) .(14/128)
مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَمَا أَفْتَاهَا أَحَدٌ (1) ، وَلأَِنَّهُ لاَ طَرِيقَ لَنَا إِلَى إِخْلاَصِهِ فِي تَوْبَتِهِ لأَِنَّهُ يُضْمِرُ السِّحْرَ وَلاَ يَجْهَرُ بِهِ، فَيَكُونُ إِظْهَارُ الإِْسْلاَمِ وَالتَّوْبَةِ خَوْفًا مِنَ الْقَتْل مَعَ بَقَائِهِ عَلَى تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ عَلَّمَ أَوْ تَعَلَّمَ السِّحْرَ وَاعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ لَمْ يَكْفُرْ، وَإِنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهِ كَفَرَ؛ لأَِنَّهُ كَذَّبَ اللَّهَ تَعَالَى فِي خَبَرِهِ وَيُقْتَل كَمَا يُقْتَل الْمُرْتَدُّ (3) .
فَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِهِمْ أَنَّهُ تُقْبَل تَوْبَةُ السَّاحِرِ كَمَا تُقْبَل تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ. وَهَذَا مَا قَرَّرَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَهُمْ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ السَّاحِرَ إِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِأَعْظَمَ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْمُشْرِكُ يُسْتَتَابُ وَمَعْرِفَةُ السِّحْرِ لاَ تَمْنَعُ قَبُول تَوْبَتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبِل تَوْبَةَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ (4) .
وَفِي الْجُمْلَةِ، فَالْخِلاَفُ فِي قَبُول تَوْبَةِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ، إِنَّمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا مِنْ تَرْكِ قَتْلِهِمْ وَثُبُوتِ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ فِي حَقِّهِمْ، وَأَمَّا قَبُول اللَّهِ لَهَا فِي الْبَاطِنِ وَغُفْرَانُهُ لِمَنْ تَابَ
__________
(1) الأثر عن عائشة رضي الله عنها: " أن الساحرة سألت أصحاب. . . " أورده المغني (8 / 153 ط مكتبة الرياض) . ولم نعثر عليه في كتب الحديث التي بين أيدينا.
(2) ابن عابدين 1 / 31، و3 / 286، وفتح القدير 4 / 408.
(3) المهذب 2 / 225.
(4) المغني 8 / 154.(14/129)
وَأَقْلَعَ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا فَلاَ خِلاَفَ فِيهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَسُدَّ بَابَ التَّوْبَةِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ (1) وَقَدْ قَال فِي الْمُنَافِقِينَ: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاَللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِي اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (2)
وَتَفْصِيل مَا يَتَّصِل بِالسِّحْرِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (سِحْرٌ) .
آثَارُ التَّوْبَةِ:
أَوَّلاً: فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ:
17 - التَّوْبَةُ بِمَعْنَى النَّدَمِ عَلَى مَا مَضَى وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ لِمِثْلِهِ لاَ تَكْفِي لإِِسْقَاطِ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ. فَمَنْ سَرَقَ مَال أَحَدٍ أَوْ غَصَبَهُ أَوْ أَسَاءَ إِلَيْهِ بِطَرِيقَةٍ أُخْرَى لاَ يَتَخَلَّصُ مِنَ الْمُسَائِلَةِ بِمُجَرَّدِ النَّدَمِ وَالإِْقْلاَعِ عَنِ الذَّنْبِ وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ، بَل لاَ بُدَّ مِنْ رَدِّ الْمَظَالِمِ، وَهَذَا الأَْصْل مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (3) .
قَال النَّوَوِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ مَالِيٌّ كَمَنْعِ الزَّكَاةِ وَالْغَصْبِ وَالْجِنَايَاتِ،
__________
(1) المغني 8 / 128.
(2) سورة النساء / 146.
(3) ابن عابدين 3 / 323، والفواكه 1 / 88، 89، والروضة 11 / 245، 246، ونهاية المحتاج 8 / 6، والمغني 9 / 200، 201.(14/129)
فِي أَمْوَال النَّاسِ وَجَبَ مَعَ ذَلِكَ تَبْرِئَةُ الذِّمَّةِ عَنْهُ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَيَرُدَّ أَمْوَال النَّاسِ إِنْ بَقِيَتْ، وَيَغْرَمَ بَدَلَهَا إِنْ لَمْ تَبْقَ، أَوْ يَسْتَحِل الْمُسْتَحِقَّ فَيُبَرِّئَهُ، وَيَجِبُ أَنْ يُعْلِمَ الْمُسْتَحِقُّ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْحَقِّ وَأَنْ يُوَصِّلَهُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ غَائِبًا إِنْ كَانَ غَصَبَهُ هُنَاكَ. فَإِنْ مَاتَ سَلَّمَهُ إِلَى وَارِثِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ رَفَعَهُ إِلَى قَاضٍ تُرْضَى سِيرَتُهُ وَدِيَانَتُهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِنِيَّةِ الضَّمَانِ لَهُ إِنْ وَجَدَهُ.
وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا نَوَى الضَّمَانَ إِذَا قَدَرَ. فَإِنْ مَاتَ قَبْل الْقُدْرَةِ فَالْمَرْجُوُّ مِنْ فَضْل اللَّهِ تَعَالَى الْمَغْفِرَةُ،
وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلْعِبَادِ لَيْسَ بِمَالِيٍّ كَالْقِصَاصِ وَحَقِّ الْقَذْفِ فَيَأْتِي الْمُسْتَحِقَّ وَيُمَكِّنُهُ مِنَ الاِسْتِيفَاءِ، فَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ عَفَا (1) .
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَعَ تَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ حَسَبَ نَوْعِيَّةِ الْمَعْصِيَةِ وَتَنَاسُبِ التَّوْبَةِ مَعَهَا كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوَاضِعِهَا (2) .
ثَانِيًا: فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى:
18 - حُقُوقُ اللَّهِ الْمَالِيَّةُ كَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ لاَ تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، بَل يَجِبُ مَعَ التَّوْبَةِ
__________
(1) روضة الطالبين 11 / 246.
(2) المراجع السابقة للمذاهب.(14/130)
تَبْرِئَةُ الذِّمَّةِ بِأَدَائِهَا كَمَا تَقَدَّمَ (1) .
أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ الْمَالِيَّةِ كَالْحُدُودِ مَثَلاً فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ جَرِيمَةَ قَطْعِ الطَّرِيقِ (الْحِرَابَةُ) تَسْقُطُ بِتَوْبَةِ الْقَاطِعِ قَبْل أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْل أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) .
فَدَلَّتْ هَذِهِ الآْيَةُ عَلَى أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ إِذَا تَابَ قَبْل أَنْ يُظْفَرَ بِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ، وَالْمُرَادُ بِمَا قَبْل الْقُدْرَةِ فِي الآْيَةِ أَنْ لاَ تَمْتَدَّ إِلَيْهِمْ يَدُ الإِْمَامِ بِهَرَبٍ أَوِ اسْتِخْفَاءٍ أَوِ امْتِنَاعٍ.
وَتَوْبَتُهُ بِرَدِّ الْمَال إِلَى صَاحِبِهِ إِذَا كَانَ قَدْ أَخَذَ الْمَال لاَ غَيْرُ، مَعَ الْعَزْمِ عَلَى أَنْ لاَ يَعُودَ لِمِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَل. فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَطْعُ أَصْلاً، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَتْل حَدًّا، وَكَذَلِكَ إِنْ أَخَذَ الْمَال وَقَتَل حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِلإِْمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ حَدًّا، وَلَكِنْ يَدْفَعَهُ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُول يَقْتُلُونَهُ قِصَاصًا إِذَا تَحَقَّقَتْ شُرُوطُهُ. وَإِنْ لَمْ يَأْخُذِ الْمَال وَلَمْ يَقْتُل فَتَوْبَتُهُ النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَل وَالْعَزْمُ عَلَى التَّرْكِ فِي الْمُسْتَقْبَل (3) .
وَلاَ يَسْقُطُ عَنِ الْمُحَارِبِ حَدُّ الزِّنَى وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ إِذَا ارْتَكَبَهَا حَال الْحِرَابَةِ ثُمَّ تَابَ قَبْل
__________
(1) الروضة 11 / 246، وكشاف القناع 2 / 257.
(2) سورة المائدة / 34.
(3) البدائع 7 / 96، ابن عابدين 3 / 140، وجواهر الإكليل 2 / 295، والفروق للقرافي 4 / 181، ونهاية المحتاج 8 / 6، والمغني 8 / 296، 297، والقليوبي 4 / 201.(14/130)
الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ، وَهُوَ احْتِمَالٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمَفْهُومُ إِطْلاَقِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحُدُودِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ خِلاَفُ الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تَسْقُطُ عَنِ الْمُحَارِبِ إِذَا تَابَ قَبْل الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِعُمُومِ الآْيَةِ.
أَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ مِنَ الأَْمْوَال وَالْجِرَاحِ فَلاَ تَسْقُطُ عَنِ الْمُحَارِبِ كَغَيْرِ الْمُحَارِبِ إِلاَّ أَنْ يُعْفَى لَهُ عَنْهَا (1) .
19 - أَمَّا فِي غَيْرِ الْمُحَارَبَةِ فَإِنَّ الْحُدُودَ الْمُخْتَصَّةَ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلاَ تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (2) وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (3) وَهَذَا عَامٌّ فِي التَّائِبِينَ وَغَيْرِهِمْ؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ، وَقَطَعَ الَّذِي أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ، وَقَدْ جَاءُوا تَائِبِينَ يَطْلُبُونَ التَّطْهِيرَ
__________
(1) المراجع السابقة، والدسوقي 4 / 2050، وكشاف القناع 6 / 153، وابن عابدين 4 / 479، ومسلم الثبوت 1 / 328، والوجيز 2 / 251، ونهاية المحتاج 8 / 6، والقليوبي 4 / 201، ومغني المحتاج 4 / 184، والفواكه الدواني 2 / 281، والمغني 8 / 296.
(2) سورة النور / 2.
(3) سورة المائدة / 38.(14/131)
بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَقَدْ سَمَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلَهُمْ تَوْبَةً فَقَال فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ عَلَى سَبْعِينَ مِنْ أَهْل الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ (1)
وَالرَّأْيُ الثَّانِي وَهُوَ خِلاَفُ الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَرَأْيٌ لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ تَابَ مَنْ عَلَيْهِ حَدٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُحَارِبِينَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} (2) وَذَكَرَ حَدَّ السَّارِقِ ثُمَّ قَال:
{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (3) .
عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ فَرَّقُوا بَيْنَ التَّوْبَةِ مِنْ هَذِهِ الْجَرَائِمِ قَبْل الرَّفْعِ لِلإِْمَامِ وَبَعْدَهُ فَيَقُولُونَ بِإِسْقَاطِ التَّوْبَةِ لَهَا قَبْل الرَّفْعِ لاَ بَعْدَهُ (4) . كَمَا فُصِّل فِي مُصْطَلَحَاتِهَا،
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عُقُوبَةَ الرِّدَّةِ تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ قَبْل الرَّفْعِ وَبَعْدَهُ. (ر: رِدَّةٌ) .
__________
(1) حديث: " لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من. . . . " أخرجه مسلم 3 / 444 ط عيسى الحلبي.
(2) سورة النساء / 16.
(3) سورة المائدة / 39.
(4) البدائع 7 / 96، وبلغة السالك 4 / 489، وحاشية الجمل 2 / 130، ونهاية المحتاج 8 / 6، والمغني 8 / 297، وكشاف القناع 6 / 154.(14/131)
ثَالِثًا: فِي التَّعْزِيرَاتِ:
20 - يَسْقُطُ التَّعْزِيرُ بِالتَّوْبَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، كَتَرْكِ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ مَثَلاً؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّعْزِيرِ التَّأْدِيبُ وَالإِْصْلاَحُ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوْبَةِ، بِخِلاَفِ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَالضَّرْبِ وَالشَّتْمِ؛ لأَِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُشَاحَّةِ كَمَا مَرَّ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَعْزِيرٌ) .
رَابِعًا: فِي قَبُول الشَّهَادَةِ:
21 - يُشْتَرَطُ فِي قَبُول الشَّهَادَةِ الْعَدَالَةُ، فَمَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً أَوْ أَصَرَّ عَلَى صَغِيرَةٍ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ وَلاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ إِذَا لَمْ يَتُبْ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ (2) .
وَإِذَا تَابَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَقِيل بِقَبُول تَوْبَتِهِ تُقْبَل شَهَادَتُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمَعْصِيَةُ مِنَ الْحُدُودِ أَمْ مِنَ التَّعْزِيرَاتِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ أَمْ قَبْلَهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُول شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ:
__________
(1) ابن عابدين 1 / 31، و3 / 191، والفروق للقرافي 4 / 181، ونهاية المحتاج 7 / 398، وجواهر الإكليل 2 / 265، وكشاف القناع 6 / 153، والمغني 10 / 316.
(2) الزيلعي 4 / 226، وروضة الطالبين 11 / 225، وجواهر الإكليل 2 / 233، والمغني 9 / 167 - 170.(14/132)
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَابَ الْمَحْدُودُ فِي قَذْفٍ تُقْبَل شَهَادَتُهُ، وَتَوْبَتُهُ بِتَكْذِيبِ نَفْسِهِ فِيمَا قَذَفَ بِهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَال: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} (1) ، فَاسْتَثْنَى التَّائِبِينَ بِقَوْلِهِ: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} وَالاِسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} فَاقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ وَلَيْسُوا بِفَاسِقِينَ؛ لأَِنَّ الْجُمَل الْمَعْطُوفَةَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْوَاوِ، وَالْوَاوُ لِلْجَمْعِ فَتُجْعَل الْجُمَل كُلُّهَا كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، فَيَعُودُ الاِسْتِثْنَاءُ إِلَى جَمِيعِهَا (2) .
وَلأَِنَّ الْقَاذِفَ لَوْ تَابَ قَبْل إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ تُقْبَل شَهَادَتُهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَلاَ جَائِزَ أَنْ تَكُونَ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ؛ لأَِنَّهُ فِعْل الْغَيْرِ وَهُوَ مُطَهِّرٌ أَيْضًا. وَلأَِنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ فَهَذَا أَوْلَى (3) .
وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُول لأَِبِي بَكْرَةَ حِينَ شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: تُبْ أَقْبَل شَهَادَتَك. وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَقَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ
__________
(1) سورة النور / 4.
(2) التاج والإكليل للمواق 6 / 161، والوجيز للغزالي 2 / 251، والمغني لابن قدامة 9 / 197، 199.
(3) تبيين الحقائق للزيلعي في سرد أدلة الشافعية 4 / 218.(14/132)
شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ثَلاَثَةُ رِجَالٍ، أَبُو بَكْرَةَ، وَنَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ، وَشِبْل بْنُ مَعْبَدٍ، وَنَكَل زِيَادٌ، فَجَلَدَ عُمَرُ الثَّلاَثَةَ وَقَال لَهُمْ: تُوبُوا تُقْبَل شَهَادَتُكُمْ، فَتَابَ رَجُلاَنِ وَقَبِل عُمَرُ شَهَادَتَهُمَا وَأَبَى أَبُو بَكْرَةَ فَلَمْ تُقْبَل شَهَادَتُهُ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لاَ تُقْبَل شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ وَإِنْ تَابَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) ، وَوَجْهُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ شَهَادَتَهُ عَلَى التَّأْبِيدِ نَصًّا، فَمَنْ قَال هُوَ مُؤَقَّتٌ إِلَى وُجُودِ التَّوْبَةِ يَكُونُ رَدًّا لِمَا اقْتَضَاهُ النَّصُّ فَيَكُونُ مَرْدُودًا. وَالْقِيَاسُ عَلَى الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْجَرَائِمِ لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ الْقِيَاسَ الْمُخَالِفَ لِلنَّصِّ لاَ يَصِحُّ. وَلأَِنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلَى {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (2) وَهِيَ حَدٌّ فَكَذَا هَذَا، فَصَارَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ الأَْئِمَّةُ بِهِ، وَالْحَدُّ لاَ يَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3) لَيْسَ بِحَدٍّ؛ لأَِنَّ الْحَدَّ يَقَعُ بِفِعْل الأَْئِمَّةِ، (أَيِ الْحُكَّامِ) ، وَالْفِسْقُ وَصْفٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ، فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا عَنِ الأَْوَّل، فَيَنْصَرِفُ الاِسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} (4) إِلَى مَا يَلِيهِ
__________
(1) سورة النور / 4.
(2) سورة النور / 4.
(3) سورة النور / 4.
(4) سورة النور / 4.(14/133)
ضَرُورَةً، لاَ إِلَى الْجَمِيعِ. فَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ إِذَا تَابَ لاَ يُسَمَّى فَاسِقًا لَكِنَّهُ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ (1) .
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 218، 219، 226، وابن عابدين 4 / 479.(14/133)
تَوْثِيقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوْثِيقُ لُغَةً: مَصْدَرُ وَثَّقَ الشَّيْءَ إِذَا أَحْكَمَهُ وَثَبَّتَهُ، وَثُلاَثِيُّهُ وَثُقَ. يُقَال وَثُقَ الشَّيْءُ وَثَاقَةً: قَوِيَ وَثَبَتَ وَصَارَ مُحْكَمًا.
وَالْوَثِيقَةُ مَا يُحْكَمُ بِهِ الأَْمْرُ، وَالْوَثِيقَةُ: الصَّكُّ بِالدَّيْنِ أَوِ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ، وَالْمُسْتَنَدُ، وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى وَالْجَمْعُ وَثَائِقُ. وَالْمُوَثِّقُ مَنْ يُوَثِّقُ الْعُقُودَ، وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّزْكِيَةُ وَالتَّعْدِيل:
التَّزْكِيَةُ:
2 - التَّزْكِيَةُ: الْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ، يُقَال: زَكَّى فُلاَنٌ بَيِّنَتَهُ أَيْ مَدَحَهَا، وَتَزْكِيَةُ الرَّجُل نِسْبَتُهُ إِلَى
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير والمعجم الوسيط وطلبة الطلبة ص140، ودرر الحكام 2 / 52، أحكام القرآن القرآن للجصاص 1 / 620، والمبسوط 3 / 168.(14/134)
الزَّكَاءِ وَهُوَ الصَّلاَحُ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الإِْخْبَارُ بِعَدَالَةِ الشَّاهِدِ.
وَالتَّعْدِيل مِثْلُهُ وَهُوَ نِسْبَةُ الشَّاهِدِ إِلَى الْعَدَالَةِ (1)
فَالتَّزْكِيَةُ وَالتَّعْدِيل تَوْثِيقٌ لِلأَْشْخَاصِ لِيُؤْخَذَ بِأَقْوَالِهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّوْثِيقُ أَعَمُّ لأَِنَّهُ يَشْمَل التَّزْكِيَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ وَغَيْرِهِمَا.
الْبَيِّنَةُ:
3 - الْبَيِّنَةُ مِنْ بَانَ الشَّيْءُ إِذَا ظَهَرَ، وَأَبَنْتُهُ: أَظْهَرْتُهُ، وَالْبَيِّنَةُ اسْمٌ لِكُل مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ، وَسَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّهُودَ بَيِّنَةً لِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِقَوْلِهِمْ وَارْتِفَاعِ الإِْشْكَال بِشَهَادَتِهِمْ (2) وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّوْثِيقُ أَعَمُّ مِنَ الْبَيِّنَةِ لأَِنَّهُ يَتَنَاوَل الْبَيِّنَةَ وَالرَّهْنَ وَالْكَفَالَةَ.
التَّسْجِيل:
4 - هُوَ الإِْثْبَاتُ فِي السِّجِل وَهُوَ كِتَابُ الْقَاضِي وَنَحْوِهِ.
وَفِي الدُّرَرِ: الْمَحْضَرُ: مَا كُتِبَ فِيهِ مَا جَرَى بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ مِنْ إِقْرَارٍ أَوْ إِنْكَارٍ وَالْحُكْمِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ نُكُولٍ عَلَى وَجْهٍ يَرْفَعُ الاِشْتِبَاهَ، وَالصَّكُّ:
__________
(1) المصباح المنير وشرح غريب المهذب 2 / 342، مسلم الثبوت 2 / 148.
(2) لسان العرب وشرح غريب المهذب 2 / 311، والتبصرة بهامش فتح العلي المالك 1 / 202.(14/134)
مَا كُتِبَ فِيهِ الْبَيْعُ وَالرَّهْنُ وَالإِْقْرَارُ وَغَيْرُهَا. وَالْحُجَّةُ وَالْوَثِيقَةُ يَتَنَاوَلاَنِ الثَّلاَثَةَ.
وَقَال ابْنُ بَطَّالٍ: الْمَحَاضِرُ: مَا يُكْتَبُ فِيهَا قِصَّةُ الْمُتَحَاكِمَيْنِ عِنْدَ حُضُورِهِمَا مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَمَا جَرَى بَيْنَهُمَا وَمَا أَظْهَرَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حُجَّةٍ مِنْ غَيْرِ تَنْفِيذٍ وَلاَ حُكْمٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَالسِّجِلاَّتُ: الْكُتُبُ الَّتِي تَجْمَعُ الْمَحَاضِرَ وَتَزِيدُ عَلَيْهَا بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ وَإِمْضَائِهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّسْجِيل هُوَ إِثْبَاتُ الأَْحْكَامِ الَّتِي يَصْدُرُهَا الْقَاضِي وَتَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ. فَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّوْثِيقِ (1) .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ التَّوْثِيقِ:
5 - فِي التَّوْثِيقِ مَنْفَعَةٌ مِنْ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: صِيَانَةُ الأَْمْوَال وَقَدْ أُمِرْنَا بِصِيَانَتِهَا وَنُهِينَا عَنْ إِضَاعَتِهَا.
وَالثَّانِي: قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ الْوَثِيقَةَ تَصِيرُ حُكْمًا بَيْنَ الْمُتَعَامِلَيْنِ وَيَرْجِعَانِ إِلَيْهَا عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ فَتَكُونُ سَبَبًا لِتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ وَلاَ يَجْحَدُ أَحَدُهُمَا حَقَّ صَاحِبِهِ مَخَافَةَ أَنْ تَخْرُجَ الْوَثِيقَةُ وَتَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَيَنْفَضِحَ أَمْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ.
وَالثَّالِثُ: التَّحَرُّزُ عَنِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ لأَِنَّ الْمُتَعَامِلَيْنِ رُبَّمَا لاَ يَهْتَدِيَانِ إِلَى الأَْسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ
__________
(1) لسان العرب وابن عابدين 4 / 308 وشرح غريب المهذب 2 / 299، والمغني 9 / 75، والتبصرة 1 / 102، ويطلق التسجيل الآن على كل عملية الإثبات في المحررات الرسمية من قبل الموظف المختص بتحريرها. (اللجنة) .(14/135)
لِلْعَقْدِ لِيَتَحَرَّزَا عَنْهَا فَيَحْمِلُهُمَا الْكَاتِبُ عَلَى ذَلِكَ إِذَا رَجَعَا إِلَيْهِ لِيَكْتُبَ.
وَالرَّابِعُ: رَفْعُ الاِرْتِيَابِ فَقَدْ يُشْتَبَهُ عَلَى الْمُتَعَامِلَيْنِ إِذَا تَطَاوَل الزَّمَانُ مِقْدَارُ الْبَدَل وَمِقْدَارُ الأَْجَل فَإِذَا رَجَعَا إِلَى الْوَثِيقَةِ لاَ يَبْقَى لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا رِيبَةٌ (1) .
وَهَذِهِ فَوَائِدُ التَّوْثِيقِ بِالتَّسْجِيل، وَهُنَاكَ تَوْثِيقٌ بِالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ لِحِفْظِ الْحَقِّ.
حُكْمُ التَّوْثِيقِ:
6 - تَوْثِيقُ التَّصَرُّفَاتِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ لاِحْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَيْهِ فِي مُعَامَلاَتِهِمْ خَشْيَةَ جَحْدِ الْحُقُوقِ أَوْ ضَيَاعِهَا.
وَالأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّوْثِيقِ مَا وَرَدَ مِنْ نُصُوصٍ، فَفِي مَسَائِل الدَّيْنِ جَاءَ قَوْله تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْل وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِل الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِل هُوَ فَلْيُمْلِل وَلِيُّهُ بِالْعَدْل وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِل إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ
__________
(1) المبسوط 30 / 168، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 575.(14/135)
إِحْدَاهُمَا الأُْخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهَ وَاَللَّهُ بِكُل شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (1) .
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْل بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (2) } .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الأَْمْرِ بِالْكِتَابَةِ وَالإِْشْهَادِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
7 - الأَْوَّل: أَنَّ الأَْمْرَ لِلنَّدْبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الأَْمْرَ بِالْكِتَابَةِ وَالإِْشْهَادِ فِي الْمُبَايَعَاتِ وَالْمُدَايَنَاتِ لَمْ يَرِدْ إِلاَّ مَقْرُونًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ (3) } .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الأَْمْنَ لاَ يَقَعُ إِلاَّ بِحَسَبِ الظَّنِّ وَالتَّوَهُّمِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ يَدُل عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا أُمِرَ بِهَا لِطُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ لاَ لِحَقِّ الشَّرْعِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِحَقِّ
__________
(1) سورة البقرة / 282، 283.
(2) سورة يوسف / 72.
(3) سورة البقرة / 283.(14/136)
الشَّرْعِ مَا قَال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ، وَلاَ ثِقَةَ بِأَمْنِ الْعِبَادِ، إِنَّمَا الاِعْتِمَادُ عَلَى مَا يَرَاهُ الشَّرْعُ مَصْلَحَةً، فَالشَّهَادَةُ مَتَى شُرِعَتْ فِي النِّكَاحِ لَمْ تَسْقُطْ بِتَرَاضِيهِمَا وَأَمْنِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الأَْمْرَ بِالْكِتَابَةِ وَالإِْشْهَادِ مَنْدُوبٌ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ شُرِعَ لِلطُّمَأْنِينَةِ.
كَذَلِكَ جَاءَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} عَقِبَ قَوْلِهِ: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ (1) } فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَتْرُكَ الرَّهْنَ الَّذِي هُوَ بَدَل الشَّهَادَةِ جَازَ تَرْكُ الإِْشْهَادِ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ (2) . وَاشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ سَرَاوِيل (3) ، وَمِنْ أَعْرَابِيٍّ فَرَسًا فَجَحَدَهُ الأَْعْرَابِيُّ حَتَّى شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ (4) ، وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَشْهَدَ فِي ذَلِكَ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) سورة البقرة / 283.
(2) حديث شراء النبي صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاما. أخرجه البخاري (الفتح 4 / 302ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1226 - ط الحلبي) من حديث عائشة.
(3) حديث شراء النبي صلى الله عليه وسلم من رجل سراويل. أخرجه أبو يعلى والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (5 / 122 ط القدسي) . وقال الهيثمي: " فيه يوسف بن زياد البصري وهو ضعيف ".
(4) حديث شراء النبي صلى الله عليه وسلم من أعرابي فرسا. أخرجه أبو داود (4 / 32 - تحقيق عزت عبيد دعاس) . وقال الشوكاني: " رجاله ثقات ". (نيل الأوطار (5 / 170 ط المطبعة العثمانية) .(14/136)
عُرْوَةَ بْنَ الْجَعْدِ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً (1) وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإِْشْهَادِ، وَأَخْبَرَهُ عُرْوَةُ أَنَّهُ اشْتَرَى شَاتَيْنِ فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ تَرْكَ الإِْشْهَادِ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَتَبَايَعُونَ فِي عَصْرِهِ فِي الأَْسْوَاقِ، فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالإِْشْهَادِ، وَلاَ نُقِل عَنْهُمْ فِعْلُهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ نَقَلَتِ الأُْمَّةُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ عُقُودَ الْمُدَايَنَاتِ وَالأَْشْرِبَةِ وَالْبِيَاعَاتِ فِي أَمْصَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ مَعَ عِلْمِ فُقَهَائِهِمْ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ كَانَ الإِْشْهَادُ وَاجِبًا لَمَا تَرَكُوا النَّكِيرَ عَلَى تَارِكِهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْهُ نَدْبًا.
ثُمَّ إِنَّ الْمُبَايَعَةَ تَكْثُرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَغَيْرِهَا، فَلَوْ وَجَبَ الإِْشْهَادُ فِي كُل مَا يَتَبَايَعُونَهُ أَمْضَى إِلَى الْحَرَجِ الْمَحْطُوطِ عَنَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (2) }
فَآيَةُ الْمُدَايَنَاتِ الأَْمْرُ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ لِلإِْرْشَادِ إِلَى حِفْظِ الأَْمْوَال وَالتَّعْلِيمِ، كَمَا أَمَرَ بِالرَّهْنِ وَالْكِتَابَةِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ صَرَّحَ بِذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَأَبُو أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ،
__________
(1) حديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم عروة بن الجعد. أخرجه البخاري (الفتح 6 / 632 - ط السلفية) .
(2) سورة الحج / 78.(14/137)
وَإِسْحَاقُ، وَجُمْهُورُ الأُْمَّةِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ (1) .
8 - الثَّانِي: أَنَّ الأَْمْرَ لِلْوُجُوبِ فَالإِْشْهَادُ فَرْضٌ لاَزِمٌ يَعْصِي بِتَرْكِهِ لِظَاهِرِ الأَْمْرِ، وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ آيَةَ الدَّيْنِ مُحْكَمَةٌ وَمَا فِيهَا نَسْخٌ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا إِذَا بَاعَ بِنَقْدٍ أَشْهَدَ وَلَمْ يَكْتُبْ، وَإِذَا بَاعَ بِنَسِيئَةٍ كَتَبَ وَأَشْهَدَ.
قَال بِذَلِكَ الضَّحَّاكُ، وَعَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (2) .
8 - وَقَدْ يَكُونُ التَّوْثِيقُ وَاجِبًا بِالاِتِّفَاقِ كَتَوْثِيقِ النِّكَاحِ فَإِنَّ الإِْشْهَادَ فِيهِ وَاجِبٌ سَوَاءٌ أَكَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ كَمَا يَقُول الْجُمْهُورُ أَمْ عِنْدَ الدُّخُول كَمَا يَقُول الْمَالِكِيَّةُ - وَالأَْصْل فِيهِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ (3) . فَاعْتَبَرَ
__________
(1) أحكام القرآن لعماد الدين بن محمد الطبري المعروف بالكيا الهراس 1 / 364، 365، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 572، 573، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 259 والتبصرة لابن فرحون بهامش فتح العلي 1 / 209، والمغني لابن قدامة 4 / 302، 303، 362، والبدائع 2 / 252، والمجموع 9 / 154.
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 / 572، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 259، والمغني 4 / 302، وأحكام القرآن للهراس 1 / 364.
(3) حديث: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ". أخرجه ابن حبان من حديث عائشة، وصححه (6 / 152 - الإحسان ط دار الكتب العلمية) .(14/137)
الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةً إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْوَطْءِ (1) .
9 - وَقَدْ يَكُونُ التَّوْثِيقُ مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا، وَذَلِكَ كَالإِْشْهَادِ عَلَى الْعَطِيَّةِ لِلأَْوْلاَدِ إِنْ حَصَل فِيهَا تَفَاوُتٌ. إِذِ اعْتَبَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مَكْرُوهًا وَاعْتَبَرَهُ بَعْضُهُمُ الآْخَرُ حَرَامًا (2) . وَذَلِكَ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ قَال: لاَ، قَال: اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلاَدِكُمْ، فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ، وَفِي لَفْظٍ قَال: فَلاَ تُشْهِدْنِي إِذًا فَإِنِّي لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ، وَفِي لَفْظٍ فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي (3) .
10 - وَمَعَ الاِخْتِلاَفِ فِي حُكْمِ تَوْثِيقِ الْمُعَامَلاَتِ فَإِنَّهُ حَقٌّ لِكُل مَنْ طَلَبَهُ. يَقُول ابْنُ فَرْحُونَ: إِذَا قُلْنَا إِنَّ الإِْشْهَادَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الدَّيْنِ وَالْبَيْعِ فَإِنَّهُ حَقٌّ لِكُل مَنْ دَعَى إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَوِ الْمُتَدَايِنَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ يُقْضَى لَهُ بِهِ عَلَيْهِ إِنْ أَبَاهُ؛ لأَِنَّ مِنْ
__________
(1) البدائع 2 / 252، 253، والتبصرة 1 / 209، 210، والأشباه للسيوطي 308.
(2) مغني المحتاج 2 / 401، والمغني 5 / 664 - 665.
(3) حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: " اتقوا الله واعدلوا بين أولاكم "، أخرجه البخاري (الفتح 5 / 211 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1242 - 1243 - ط الحلبي) .(14/138)
حَقِّهِ أَنْ لاَ يَأْتَمِنَهُ؛ وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى مَنْ بَاعَ سِلْعَةً لِغَيْرِهِ الإِْشْهَادُ عَلَى الْبَيْعِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَل ضَمِنَ؛ لأَِنَّ رَبَّ السِّلْعَةِ لَمْ يَرْضَ بِائْتِمَانِهِ، وَكَذَلِكَ كُل مَا فِيهِ حَقٌّ لِغَائِبٍ الإِْشْهَادُ فِيهِ وَاجِبٌ، قَال اللَّهُ تَعَالَى فِي الزَّانِيَيْنِ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (1) } فَأَمَرَ بِالإِْشْهَادِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ اللِّعَانُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِمَحْضَرِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لاِنْقِطَاعِ نَسَبِ الْوَلَدِ (2) .
طُرُقُ التَّوْثِيقِ:
11 - لِلتَّوْثِيقِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَهِيَ قَدْ تَكُونُ بِعَقْدٍ - وَهُوَ مَا يُسَمَّى عُقُودُ التَّوْثِيقَاتِ - كَالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ، وَقَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ عَقْدٍ كَالْكِتَابَةِ وَالإِْشْهَادِ وَحَقِّ الْحَبْسِ وَالاِحْتِبَاسِ.
وَمِنَ التَّوْثِيقَاتِ مَا هُوَ وَثِيقَةٌ بِمَالٍ كَالرَّهْنِ وَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ وَثِيقَةٌ بِذِمَّةٍ كَالْكَفَالَةِ (3) .
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أ - الْكِتَابَةُ:
12 - كِتَابَةُ الْمُعَامَلاَتِ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ وَسِيلَةٌ لِتَوْثِيقِهَا، أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَا فِي
__________
(1) سورة النور / 2.
(2) التبصرة 1 / 209.
(3) المنثور في القواعد 3 / 327، 328، درر الحكام 2 / 52، والمبسوط 21 / 69.(14/138)
قَوْلِهِ: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} وَقَدْ وَثَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكِتَابَةِ فِي مُعَامَلاَتِهِ، فَبَاعَ وَكَتَبَ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَثِيقَةُ التَّالِيَةُ:
هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَاءُ بْنُ خَالِدٍ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً، لاَ دَاءَ، وَلاَ غَائِلَةَ، وَلاَ خِبْثَةَ، بَيْعُ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمُسْلِمِ (1) .
كَذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكِتَابِ فِيمَا قَلَّدَ فِيهِ عُمَّالَهُ مِنَ الأَْمَانَةِ (2) ، وَأَمَرَ بِالْكِتَابِ فِي الصُّلْحِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ (3) . وَالنَّاسُ تَعَامَلُوهُ مِنْ لَدُنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.
وَالْمَقْصُودُ بِكِتَابَةِ التَّصَرُّفَاتِ هُوَ إِحْكَامُهَا بِاسْتِيفَاءِ شُرُوطِهَا، وَالْفِقْهُ هُوَ الَّذِي رَسَمَ هَذِهِ الشُّرُوطَ، وَعَنْ طَرِيقِهِ يُعْرَفُ مَا يَصِحُّ مِنَ الْوَثَائِقِ وَمَا يَبْطُل؛ إِذْ لَيْسَ لِلتَّوْثِيقِ أَرْكَانٌ وَشُرُوطٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْفِقْهِ، وَمَا يُكْتَبُ يُسَمَّى وَثِيقَةً.
لَكِنْ لَيْسَتْ كُل وَثِيقَةٍ تُكْتَبُ بِتَصَرُّفٍ مِنْ
__________
(1) حديث: " هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة " أخرجه الترمذي (3 / 511 - ط الحلبي) وحسنه.
(2) حديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكتاب فيما قلد فيه عماله من الأمانة. ذكر ابن حجر في الإصابة (1 / 255 ط السعادة) في ترجمة جهم بن سعد أنه ذكره القصاعي في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو والزبير كانا يكتبان أموال الصدقة.
(3) حديث: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكتاب في الصلح ". أخرجه البخاري (الفتح 7 / 453 - ط السلفية) من حديث مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة.(14/139)
بَيْعٍ، أَوْ رَهْنٍ، أَوْ إِجَارَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ تُسَمَّى وَثِيقَةً شَرْعًا، إِنَّمَا تُسَمَّى كَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْكِتَابَةُ حَسَبَ الشُّرُوطِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ - فِيمَا يُسَمَّى بِعِلْمِ الشُّرُوطِ - وَمَا لِذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ انْعِقَادٍ، وَصِحَّةٍ وَنَفَاذٍ، وَلُزُومٍ؛ لأَِنَّ الأَْحْكَامَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْعِبَارَاتِ فِي الدَّعَاوَى وَالإِْقْرَارَاتِ وَالشَّهَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَاتِّبَاعُ الشُّرُوطِ الَّتِي وَضَعَهَا الْفُقَهَاءُ هُوَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ حُقُوقَ الْمَحْكُومِ لَهُ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ. وَالشَّهَادَةُ لاَ تُسْمَعُ إِلاَّ بِمَا فِيهِ (1) . وَلِذَلِكَ يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا (2) } .
ب - الإِْشْهَادُ:
13 - إِشْهَادُ الشُّهُودِ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ وَسِيلَةٌ لِتَوْثِيقِهَا، وَاحْتِيَاطٌ لِلْمُتَعَامِلِينَ عِنْدَ التَّجَاحُدِ؛ إِذْ هِيَ إِخْبَارٌ لإِِثْبَاتِ حَقٍّ - وَالْقِيَاسُ يَأْبَى كَوْنَ الشَّهَادَةِ حُجَّةً فِي الأَْحْكَامِ لأَِنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَالْمُحْتَمَل لاَ يَكُونُ حُجَّةً مُلْزِمَةً؛ وَلأَِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لاَ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْقَضَاءُ مُلْزِمٌ، فَيَسْتَدْعِي سَبَبًا مُوجِبًا لِلْعِلْمِ وَهُوَ الْمُعَايَنَةُ، فَالْقَضَاءُ أَوْلَى. لَكِنْ تُرِكَ ذَلِكَ
__________
(1) المبسوط 30 / 168 - 169، والتبصرة بهامش فتح العلي 1 / 27، والبهجة على التحفة 1 / 11، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 620.
(2) سورة البقرة / 282.(14/139)
بِالنُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا أَمْرٌ لِلأَْحْكَامِ بِالْعَمَل بِالشَّهَادَةِ. مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ (1) } .
وَلَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّهُودَ بَيِّنَةً لِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِقَوْلِهِمْ وَارْتِفَاعِ الإِْشْكَال بِشَهَادَتِهِمْ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (2) قَال السَّرَخْسِيُّ: فِي ذَلِكَ مَعْنَيَانِ:
أَحَدُهُمَا: حَاجَةُ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْمُنَازَعَاتِ وَالْخُصُومَاتِ تَكْثُرُ بَيْنَ النَّاسِ وَتَتَعَذَّرُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ فِي كُل خُصُومَةٍ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ.
وَالثَّانِي: مَعْنَى إِلْزَامِ الشُّهُودِ حَيْثُ جَعَل الشَّرْعُ شَهَادَتَهُمْ حُجَّةً لإِِيجَابِ الْقَضَاءِ مَعَ احْتِمَال الْكَذِبِ إِذَا ظَهَرَ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ.
وَالْعَمَل عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْل الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) حديث: " البينة على المدعي واليمين على من أنكر ". أخرجه الدارقطني في سننه (3 / 110 - ط دار المحاسن) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وضعفه بن حجر في التلخيص (2 / 208 - ط شركة الطباعة الفنية) . ولكن روى البخاري (الفتح 8 / 213 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1336 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس مرفوعا: " اليمين على المدعى عليه ". / 50 وأخرجه البيهقي في سننه (10 / 252 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث ابن عباس كذلك قوله: " البينة على المدعي "، وإسناده صحيح.(14/140)
إِلَى الشَّهَادَةِ لِحُصُول التَّجَاحُدِ بَيْنَ النَّاسِ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا.
وَالْبَيِّنَاتُ مُرَتَّبَةٌ بِحَسَبِ الْحُقُوقِ الْمَشْهُودِ فِيهَا، وَلاَ يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَحْصُل لَهُ بِهِ الْعِلْمُ؛ إِذْ لاَ يَجُوزُ الشَّهَادَةُ إِلاَّ بِمَا عَلِمَ وَقَطَعَ بِمَعْرِفَتِهِ لاَ بِمَا يَشُكُّ فِيهِ، وَلاَ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَعْرِفَتُهُ (1) .
وَلِبَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّهَادَةِ يُنْظَرُ فِي (إِشْهَادٌ - شَهَادَةٌ) .
ج - الرَّهْنُ:
14 - الرَّهْنُ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِل التَّوْثِيقِ، إِذْ هُوَ الْمَال الَّذِي يُجْعَل وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ لِيَسْتَوْفِيَ الدَّائِنُ مِنْ ثَمَنِهِ إِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَالأَْصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ (2) } .
قَال الْجَصَّاصُ: يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إِذَا عَدِمْتُمِ التَّوَثُّقَ بِالْكِتَابِ وَالإِْشْهَادِ، فَالْوَثِيقَةُ بِرِهَانٍ مَقْبُوضَةٍ، فَأَقَامَ الرَّهْنَ فِي بَابِ التَّوَثُّقِ فِي الْحَال الَّتِي لاَ يَصِل (الدَّائِنُ) فِيهَا إِلَى التَّوَثُّقِ بِالْكِتَابِ وَالإِْشْهَادِ مَقَامَهَا (3) "؛
وَلأَِنَّ الرَّهْنَ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إِلَى تَوْثِيقِ الدَّيْنِ عَنْ تَوَاءِ الْحَقِّ (أَيْ هَلاَكِهِ) بِالْجُحُودِ وَالإِْنْكَارِ
__________
(1) التبصرة 1 / 203 - 204، والمبسوط 16 / 112، والمغني 9 / 145 - 146.
(2) سورة البقرة / 283.
(3) أحكام القرآن للجصاص 1 / 622.(14/140)
فَكَانَ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ حَبْسُ الْعَيْنِ الَّتِي وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا رَهْنًا. إِذِ التَّوْثِيقُ إِنَّمَا يَحْصُل إِذَا كَانَ يَمْلِكُ حَبْسَ الْعَيْنِ، فَيَحْمِل ذَلِكَ الْمَدِينَ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ فِي أَسْرَعِ الأَْوْقَاتِ. وَبِالرَّهْنِ يُؤْمَنُ الْجُحُودُ وَالإِْنْكَارُ. وَلِذَلِكَ إِذَا حَل أَجَل الدَّيْنِ كَانَ لِلدَّائِنِ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى الْقَاضِي، فَيَبِيعَ عَلَيْهِ الرَّهْنَ وَيُنْصِفَهُ مِنْهُ إِنْ لَمْ يُجِبْهُ الرَّاهِنُ إِلَى ذَلِكَ. وَمِنْ ثَمَّ يَخْتَصُّ الرَّهْنُ بِأَنْ يَكُونَ مَحَلًّا قَابِلاً لِلْبَيْعِ، فَلاَ يَجُوزُ التَّوْثِيقُ بِرَهْنِ مَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي الْجُمْلَةِ.
وَلأَِنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِجُمْلَةِ الْحَقِّ الْمَرْهُونِ فِيهِ وَبِبَعْضِهِ، فَإِذَا أَدَّى بَعْضَ الدَّيْنِ بَقِيَ الرَّهْنُ جَمِيعُهُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ؛ لأَِنَّهُ مَحْبُوسٌ بِحَقٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا بِكُل جُزْءٍ مِنْهُ.
وَقِيل: يَبْقَى مِنَ الرَّهْنِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِ مَا يَبْقَى مِنَ الْحَقِّ؛ لأَِنَّ جَمِيعَهُ مَحْبُوسٌ بِجَمِيعِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَبْعَاضُهُ مَحْبُوسَةً بِأَبْعَاضِهِ (1) .
هَذَا وَلِلرَّهْنِ شُرُوطٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَقْبُوضًا وَكَوْنُهُ بِدَيْنٍ لاَزِمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (رَهْنٌ) .
__________
(1) البدائع 6 / 135، 143، 145، والكافي لابن عبد البر 2 / 812، وجواهر الإكليل 2 / 77، وبداية المجتهد 2 / 275، والأشباه للسيوطي 308، والمبسوط للسرخسي 21 / 63، 69، ومغني المحتاج 2 / 121، والمغني لابن قدامة 4 / 361، 362، 447.(14/141)
د - الضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ:
15 - الضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ قَدْ يُسْتَعْمَلاَنِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدْ يُسْتَعْمَل الضَّمَانُ لِلدَّيْنِ وَالْكَفَالَةُ لِلنَّفْسِ، وَهُمَا مَشْرُوعَانِ لِلتَّوْثِيقِ. إِذْ فِيهِ ضَمُّ ذِمَّةِ الْكَفِيل إِلَى ذِمَّةِ الأَْصِيل عَلَى وَجْهِ التَّوْثِيقِ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْل بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (1) } .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَْكْوَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَال: هَل عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ دِينَارَانِ، قَال: هَل تَرَكَ لَهُمَا وَفَاءً؟ قَالُوا: لاَ، فَتَأَخَّرَ فَقِيل: لِمَ لاَ تُصَلِّي عَلَيْهِ؟ فَقَال: مَا تَنْفَعُهُ صَلاَتِي وَذِمَّتُهُ مَرْهُونَةٌ إِلاَّ إِنْ قَامَ أَحَدُكُمْ فَضَمِنَهُ. فَقَامَ أَبُو قَتَادَةَ فَقَال: هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُول اللَّهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) ؛
وَلأَِنَّ الْكَفَالَةَ تُؤَمِّنُ الدَّائِنَ عَنِ التَّوَى بِإِفْلاَسِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَعْدَمَ الْمَضْمُونُ أَوْ غَابَ أَنَّ الضَّامِنَ يَغْرَمُ الْمَال. وَإِذَا حَضَرَ الضَّامِنُ وَالْمَضْمُونُ وَهُمَا مُوسِرَانِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لِلطَّالِبِ أَنْ يُطَالِبَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا؛ لأَِنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ فَمَلَكَ مُطَالَبَتَهُ كَالأَْصِيل وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِمَالِكٍ.
__________
(1) سورة يوسف / 72.
(2) حديث سلمة بن الأكوع: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل ليصلي عليه. أخرجه البخاري (الفتح 4 / 466 - ط السلفية) .(14/141)
وَفِي قَوْلِهِ الآْخَرِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيل مَعَ وُجُودِ الأَْصِيل إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَتْ مُطَالَبَةُ الأَْصِيل؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ لِلتَّوَثُّقِ فَلاَ يُسْتَوْفَى الْحَقُّ مِنَ الْكَفِيل إِلاَّ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الأَْصِيل كَالرَّهْنِ (1) .
هَذَا وَشُرُوطُ الضَّمَانِ وَمَنْ يَصِحُّ مِنْهُ وَمَا يَصِحُّ بِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (كَفَالَةٌ وَضَمَانٌ) .
هـ - حَقُّ الْحَبْسِ وَالاِحْتِبَاسِ:
16 - لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّوْثِيقِ صِيَانَةَ الْحُقُوقِ وَالاِحْتِيَاطَ؛ لِذَلِكَ كَانَ مِنْ حَقِّ الدَّائِنِ أَنْ يَتَوَثَّقَ لِحَقِّهِ بِحَبْسِ مَا تَحْتَ يَدِهِ لاِسْتِيفَاءِ حَقِّهِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ يَتَعَلَّقُ بِهِ؛ وَلِذَلِكَ صُوَرٌ مُخْتَلِفَةٌ:
مِنْهَا: حَقُّ احْتِبَاسِ الْمَبِيعِ إِلَى قَبْضِ الثَّمَنِ - يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ إِلَى قَبْضِ الثَّمَنِ، وَلَوْ بَقِيَ مِنْهُ دِرْهَمٌ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ شَيْئَيْنِ بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَسَمَّى لِكُلٍّ ثَمَنًا فَلَهُ حَبْسُهُمَا إِلَى اسْتِيفَاءِ الْكُل، وَلاَ يَسْقُطُ حَقُّ الْحَبْسِ بِالرَّهْنِ، وَلاَ بِالْكَفِيل، وَلاَ بِإِبْرَائِهِ عَنْ بَعْضِ الثَّمَنِ حَتَّى يَسْتَوفِيَ الْبَاقِي.
وَيَنْظُرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (بَيْعٌ وَحَبْسٌ) .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُؤَجِّرَ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَنَافِعِ إِلَى
__________
(1) المبسوط 19 / 1160 21 / 69، والقرطبي 9 / 225، والبدائع 6 / 4 - 11، وابن عابدين 4 / 249، والمغني 4 / 590 - 605، وجواهر الإكليل 2 / 111، وأشباه السيوطي / 308.(14/142)
أَنْ يَتَسَلَّمَ الأُْجْرَةَ الْمُعَجَّلَةَ، وَكَذَلِكَ لِلصَّانِعِ حَقُّ حَبْسِ الْعَيْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَل حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ إِذَا كَانَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِجَارَةٌ وَاسْتِصْنَاعٌ) .
وَمِنْ ذَلِكَ حَبْسُ الْمَدِينِ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ دَيْنِهِ، وَمَاطَل فِي الأَْدَاءِ، وَطَلَبَ صَاحِبُ الدَّيْنِ مِنَ الْقَاضِي حَبْسَهُ؛ وَلِلدَّائِنِ كَذَلِكَ مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ؛ لأَِنَّ لَهُ وِلاَيَةَ حَبْسِهِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (دَيْنٌ، أَدَاءٌ، وَفَاءٌ) .
17 - هَذِهِ هِيَ أَشْهَرُ أَنْوَاعِ التَّوْثِيقِ، وَهُنَاكَ أُمُورٌ أُخْرَى يَكُونُ الْقِيَامُ بِهَا تَوْثِيقًا لِلْحَقِّ وَصِيَانَةً لَهُ. فَكِتَابَةُ الأَْحْكَامِ فِي السِّجِلاَّتِ تُعْتَبَرُ تَوْثِيقًا لِهَذِهِ الأَْحْكَامِ، وَالْحَجْرُ عَلَى الْمُفْلِسِ تَوْثِيقٌ لِحُقُوقِ الدَّائِنِينَ. وَهَكَذَا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (إِفْلاَسٌ، حَجْرٌ، كِتَابَةٌ) .
مَا يَدْخُلُهُ التَّوْثِيقُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ:
18 - كُل تَصَرُّفٍ صَحِيحٍ مُسْتَوْفٍ لِشُرُوطِهِ يَدْخُلُهُ التَّوْثِيقُ إِذْ التَّوْثِيقُ يُؤَكِّدُ الْحُقُوقَ
__________
(1) ابن عابدين 4 / 42، والبدائع 4 / 204، 7 / 173، والهداية 3 / 233، والحطاب 5 / 431، والتبصرة بهامش فتح العلي 2 / 319، والقواعد لابن رجب ص87، والمنثور 3 / 328.(14/142)
لأَِصْحَابِهَا وَيُسَهِّل لَهُمُ الْوُصُول إِلَيْهَا عِنْدَ التَّنَازُعِ، وَالتَّجَاحُدِ يَقُول الْجَصَّاصُ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ (1) . . .} . فِي الآْيَةِ الأَْمْرُ بِالإِْشْهَادِ إِذَا صَحَّتِ الْمُدَايَنَةُ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْل} : فِيهِ أَمْرٌ لِمَنْ تَوَلَّى كِتَابَةَ الْوَثَائِقِ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَكْتُبَهَا بِالْعَدْل بَيْنَهُمْ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} قَال الْجَصَّاصُ: يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَا بَيَّنَهُ مِنْ أَحْكَامِ الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ وَالْمُدَايَنَاتِ الثَّابِتَةِ الْجَائِزَةِ لِكَيْ يَحْصُل لِكُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَدَايِنَيْنِ مَا قَصَدَ مِنْ تَصْحِيحِ عَقْدِ الْمُدَايَنَةِ.
أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الْبَاطِلَةُ فَالأَْصْل فِيهَا أَنَّ الإِْقْدَامَ عَلَيْهَا حَرَامٌ، وَيَأْثَمُ فَاعِلُهَا لاِرْتِكَابِهِ الْمَعْصِيَةَ بِمُخَالَفَتِهِ الْمَشْرُوعَ، وَبِالتَّالِي يَكُونُ تَوْثِيقُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ حَرَامًا؛ إِذْ وَسِيلَةُ الشَّيْءِ تَأْخُذُ حُكْمَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ لاَ فَائِدَةَ مِنْ تَوْثِيقِ التَّصَرُّفَاتِ الْبَاطِلَةِ لأَِنَّهَا مَفْسُوخَةٌ شَرْعًا، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارُهَا كَمَا تَتَرَتَّبُ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الصَّحِيحَةِ (2) .
كَذَلِكَ أَبَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى -
__________
(1) سورة البقرة / 282.
(2) أحكام القرآن للجصاص 1 / 574 - 575، والمنثور في القواعد 1 / 352 - 354، وبدائع الصنائع 5 / 305، والدسوقي 3 / 71، ومنتهى الإرادات 2 / 190.(14/143)
تَصَرُّفٍ جَائِرٍ فَامْتَنَعَ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى هِبَةِ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ ابْنَهُ النُّعْمَانَ (1) لأَِنَّهُ لَمْ يَعْدِل بَيْنَ أَوْلاَدِهِ فِي الْعَطِيَّةِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ بَشِيرًا رَدَّ عَطِيَّتَهُ (2) .
وَيَقُول الدُّسُوقِيُّ: الْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَالْقَرْضُ الْفَاسِدُ إِذَا شُرِطَ فِيهِ رَهْنٌ فَدَفَعَهُ الْمُشْتَرِي أَوِ الْمُقْتَرِضُ فَإِنَّ الرَّهْنَ يَكُونُ فَاسِدًا، وَيَجِبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرُدَّهُ لِلرَّاهِنِ؛ لأَِنَّ الرَّهْنَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَالْمَبْنِيُّ عَلَى الْفَاسِدِ فَاسِدٌ.
وَإِذَا كَانَ التَّوْثِيقُ لاَ يَرِدُ إِلاَّ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنَّ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَجُوزُ أَنْ تَجْمَعَ أَكْثَرُ مِنْ تَوْثِيقٍ، وَمِنْهَا مَا يُوَثَّقُ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ فَقَطْ (3) .
يَقُول الزَّرْكَشِيُّ: مِنَ الْعُقُودِ مَا يَدْخُلُهُ الرَّهْنُ وَالْكَفِيل وَالشَّهَادَةُ، كَالْبَيْعِ وَالسَّلَمِ وَالْقَرْضِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ.
وَمِنْهُ مَا يَسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِالشَّهَادَةِ لاَ بِالرَّهْنِ وَهُوَ الْمُسَاقَاةُ، جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِهَا، قَال: لأَِنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ - وَكَذَلِكَ الْجَعَالَةُ، وَمِنْهُ الْمُسَابَقَةُ إِذَا اسْتَحَقَّ رَهْنَهَا جَازَ الرَّهْنُ وَالضَّمِينُ، وَقِيل: وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ أَوْ لاَزِمٌ.
__________
(1) حديث امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة على هبة البشير بن سعد ابنة النعمان.
(2) المغني 5 / 664 وحديث رد بشير عطيته. تقدم تخريجه ف / 9.
(3) الدسوقي 3 / 240.(14/143)
وَمِنْهُ مَا يَدْخُلُهُ الضَّمِينُ دُونَ الرَّهْنِ وَهُوَ ضَمَانُ الدَّرْكِ قَالَهُ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ (1) .
بُطْلاَنُ التَّوْثِيقِ:
19 - يَبْطُل التَّوْثِيقُ بِعِدَّةِ أُمُورٍ مِنْهَا:
أ - إِذَا كَانَ التَّوْثِيقُ ضِمْنَ تَصَرُّفٍ فَاسِدٍ، إِذْ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا فَسَدَ الْمُتَضَمِّنُ فَسَدَ الْمُتَضَمَّنُ.
وَلِذَلِكَ قَال الْفُقَهَاءُ: إِذَا كَانَ الرَّهْنُ فِي بَيْعٍ فَاسِدٍ بَطَل الرَّهْنُ لِفَسَادِ الْبَيْعِ حَتَّى لاَ يَثْبُتَ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْحَبْسِ وَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ (2) .
ب - إِذَا فُقِدَتْ شُرُوطُ الْوَثَائِقِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. فَفِي الشَّهَادَةِ مَثَلاً تَبْطُل شَهَادَةُ الْفَاسِقِ وَشَهَادَةُ مَنْ يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ أَوْ يَدْفَعُ عَنْهَا مَضَرَّةً، وَمِنْ ذَلِكَ شَهَادَةُ الْمِدْيَانِ الْمُعْسِرِ لِرَبِّ الدَّيْنِ (3) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (شَهَادَةٌ) .
وَفِي الرَّهْنِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ مَحَلًّا قَابِلاً لِلْبَيْعِ وَهُوَ - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ - أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ، وَأَنْ يَكُونَ مَالاً مُطْلَقًا
__________
(1) المنثور في القواعد للزركشي 3 / 327.
(2) الأشباه لابن نجيم / 391، والبدائع 6 / 163، والدسوقي 3 / 240، 340، والمغني 4 / 425، ومنح الجليل 3 / 265.
(3) التبصرة لابن فرحون بهامش فتح العلي 1 / 223.(14/144)
مُتَقَوِّمًا مَعْلُومًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، فَلاَ يَجُوزُ رَهْنُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلاَ مَا يَحْتَمِل الْوُجُودَ، وَلاَ رَهْنُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَلاَ رَهْنُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَالإِْحْرَامِ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (رَهْنٌ) .
وَفِي الْكَفَالَةِ يُشْتَرَطُ فِي الْكَفِيل أَوِ الضَّامِنِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ، فَيَبْطُل ضَمَانُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ - وَأَنْ يَكُونَ الْمَكْفُول لَهُ مَعْلُومًا لأَِنَّ الْمَكْفُول لَهُ إِذَا كَانَ مَجْهُولاً لاَ يَحْصُل مَا شُرِعَتْ لَهُ الْكَفَالَةُ وَهُوَ التَّوَثُّقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ (2) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (كَفَالَةٌ - ضَمَانٌ) .
ج - إِذَا كَانَ التَّوْثِيقُ مُخَالِفًا لأَِمْرِ الشَّرْعِ فَإِذَا كَانَ الْمَدِينُ مُعْسِرًا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ لاَ يَجُوزُ حَبْسُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ (3) } .
كَذَلِكَ لاَ يُحْبَسُ الْوَالِدُ بِدَيْنِ الْوَلَدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (4) } وَقَوْلُهُ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (5) } وَيَقُول الدُّسُوقِيُّ: يَبْطُل الضَّمَانُ إِذَا كَانَ الْمُتَحَمَّل بِهِ فَاسِدًا كَمَا لَوْ كَانَ رِبًا كَمَا لَوْ قَال شَخْصٌ لآِخَرَ: ادْفَعْ لِهَذَا دِينَارًا فِي دِينَارَيْنِ لِشَهْرٍ، أَوِ ادْفَعْ لَهُ
__________
(1) البدائع 6 / 135.
(2) البدائع 6 / 5 - 6، 16، والمغني 4 / 598، والدسوقي 3 / 340.
(3) سورة البقرة / 280.
(4) سورة لقمان / 15.
(5) سورة البقرة / 83.(14/144)
دَرَاهِمَ فِي دَنَانِيرَ إِلَى شَهْرٍ، وَأَنَا حَمِيلٌ بِذَلِكَ (أَيْ كَفِيلٌ) فَالْحَمَالَةُ بَاطِلَةٌ وَلاَ يَلْزَمُ الضَّامِنَ شَيْءٌ مُطْلَقًا.
وَكَبَيْعِ السِّلْعَةِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ لأَِجَلٍ مَجْهُولٍ أَوْ مَعْلُومٍ، أَوْ كَانَ الْبَيْعُ وَقْتَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ - عِنْدَ مَنْ يَرَى بُطْلاَنَهُ - فَإِذَا ضَمِنَ ذَلِكَ الثَّمَنَ إِنْسَانٌ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ، وَلاَ يَلْزَمُ الضَّامِنَ شَيْءٌ.
وَكَمَا إِذَا كَانَتْ الْحَمَالَةُ بِجُعْلٍ فَهِيَ فَاسِدَةٌ. لأَِنَّ شَرْطَ الْحَمَالَةِ أَنْ تَكُونَ لِلَّهِ، فَإِذَا كَانَتْ بِمُقَابِلٍ لاَ يُعْتَدُّ بِهَا (1) .
د - إِذَا ضَاعَتْ وَثِيقَةُ الْحَقِّ فَصَالَحَ صَاحِبُهَا ثُمَّ وَجَدَ الْوَثِيقَةَ بَعْدَ الصُّلْحِ فَلاَ قِيَامَ (مُطَالَبَةَ) لَهُ بِهَا جَاءَ فِي الدُّسُوقِيِّ: مَنِ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ بِحَقٍّ فَقَال لَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقُّك ثَابِتٌ إِنْ أَتَيْت بِالْوَثِيقَةِ الَّتِي فِيهَا الْحَقُّ، فَقَال الْمُدَّعِي: ضَاعَتْ مِنِّي فَصَالَحَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْوَثِيقَةَ بَعْدُ فَلاَ قِيَامَ لَهُ بِهَا، وَلاَ يُنْقَضُ الصُّلْحُ اتِّفَاقًا؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا صَالَحَ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّهِ (2) .
انْتِهَاءُ التَّوْثِيقِ:
20 - يَنْتَهِي التَّوْثِيقُ بِانْتِهَاءِ مَا كَانَ سَبَبًا لَهُ وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - احْتِبَاسُ الْمَبِيعِ لأَِجْل قَبْضِ الثَّمَنِ يَنْتَهِي بِأَدَاءِ
__________
(1) الدسوقي 3 / 340.
(2) الدسوقي 3 / 315.(14/145)
الثَّمَنِ وَيَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ.
وَاحْتِبَاسُ الْمَرْهُونِ يَنْقَضِي بِأَدَاءِ الدَّيْنِ وَيَجِبُ فِكَاكُ الرَّهْنِ وَتَسْلِيمُهُ لِلرَّاهِنِ.
وَهَكَذَا كُل مَنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الاِحْتِبَاسِ فَإِنَّهُ يَنْتَهِي بِأَدَاءِ مَا كَانَ الاِحْتِبَاسُ لأَِجْلِهِ (1) .
ب - كَذَلِكَ يَنْتَهِي التَّوْثِيقُ بِإِبْرَاءِ الدَّائِنِ لِلْمَدِينِ وَبِحَوَالَةِ الْمَدِينِ لِلدَّائِنِ فِي الْجُمْلَةِ (2) .
ج - بِالْفَسْخِ أَوْ بِالْعَزْل كَمَا فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ كَالْوَكَالَةِ وَالْقِرَاضِ الْوَدِيعَةِ إِذْ لاَ فَائِدَةَ فِي التَّوْثِيقِ (3) .
د - بِبَيْعِ الْوَثِيقَةِ كَالْمَرْهُونِ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ (4) .
هـ - بِالْمُقَاصَّةِ فِي الدُّيُونِ (5) .
و بِهَلاَكِ الْمَعْقُود عَلَيْهِ كَالْمَبِيعِ إِذَا هَلَكَ قَبْل الْقَبْضِ (6) .
ز - مَوْتُ الْمَكْفُول بِهِ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ (7) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل كُل ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ.
__________
(1) المنثور 3 / 327 - 328، والبدائع 2 / 288، 4 / 204، 7 / 173، والهداية 3 / 233، والحطاب 5 / 431، والتبصرة 2 / 318.
(2) الأشباه لابن نجيم / 263، 264، والمغني 4 / 605، والقواعد لابن رجب / 32، والبدائع 6 / 12، 18.
(3) الأشباه للسيوطي / 314، والأشباه لابن نجيم / 336، والبدائع 6 / 18.
(4) الفواكه الدواني 2 / 231 - 232، والمغني 4 / 447.
(5) المنثور 1 / 391 - 392، ومنح الجليل 3 / 52.
(6) البدائع 6 / 143، 5 / 238.
(7) ابن عابدين 4 / 251 - 257.(14/145)
أَثَرُ التَّوْثِيقِ:
21 - أَهَمُّ أَثَرٍ لِلتَّوْثِيقِ صِيَانَةُ الْحُقُوقِ لأَِرْبَابِهَا وَإِثْبَاتُهَا عِنْدَ التَّجَاحُدِ. وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ الآْثَارِ التَّبَعِيَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
أ - مَنْعُ تَصَرُّفِ الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ بِبَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ هِبَةٍ، وَيُعْتَبَرُ تَصَرُّفًا بَاطِلاً؛ لأَِنَّهُ - كَمَا يَقُول ابْنُ قُدَامَةَ - تَصَرُّفٌ يُبْطِل حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مِنَ الْوَثِيقَةِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ (1) .
ب - ثُبُوتُ وِلاَيَةِ مُطَالَبَةِ الْكَفِيل بِمَا عَلَى الأَْصِيل، فَيُطَالَبُ الْكَفِيل بِالدَّيْنِ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ عَلَى الأَْصِيل، وَيُطَالَبُ الْكَفِيل بِالنَّفْسِ بِإِحْضَارِ الْمَكْفُول بِنَفْسِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ غَائِبًا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا يُؤَخِّرُ الْكَفِيل إِلَى مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ إِحْضَارُهُ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فِي الْمُدَّةِ وَلَمْ يَظْهَرْ عَجْزُهُ لِلْقَاضِي حَبَسَهُ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ عَجْزُهُ لَهُ (2) .
ج - ثُبُوتُ وِلاَيَةِ مُطَالَبَةِ الْكَفِيل الأَْصِيل إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ وَأَدَّى الْكَفِيل مَا عَلَى الأَْصِيل (3) .
د - بَيْعُ الْمَرْهُونِ فِي الرَّهْنِ إِذَا عَجَزَ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ عَنْ وَفَائِهِ (4) .
__________
(1) المغني 4 / 401.
(2) البدائع 6 / 10 - 11.
(3) البدائع 6 / 11.
(4) الفواكه الدواني 2 / 231.(14/146)
التَّوْثِيقُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ:
22 - يَقُول الْغَزَالِيُّ: الْمَقْبُول رِوَايَتُهُ: كُل مُكَلَّفٍ عَدْلٍ مُسْلِمٍ ضَابِطٍ فَلاَ تَحْصُل الثِّقَةُ بِمَا يُخَالِفُ هَذِهِ الشُّرُوطَ.
وَيَثْبُتُ ذَلِكَ إِمَّا بِالاِخْتِبَارِ أَوْ بِالتَّزْكِيَةِ.
وَالتَّزْكِيَةُ هِيَ إِخْبَارُ الْعَدْل بِالْعَدَالَةِ. وَالأَْصْل فِي مَرَاتِبِهَا اصْطِلاَحُ الْمُزَكِّي فِي أَلْفَاظِ التَّزْكِيَةِ، وَالأَْشْهَرُ بَيْنَ أَهْل الْحَدِيثِ أَنَّ أَرْفَعَهَا فِي التَّعْدِيل: حُجَّةٌ وَثِقَةٌ، وَحَافِظٌ وَضَابِطٌ، وَهِيَ تَوْثِيقٌ لِلْعَدْل، ثُمَّ بَعْدَهَا ثَلاَثَةُ أَلْفَاظٍ. مَأْمُونٌ، صَدُوقٌ، لاَ بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ بَعْدَهَا. . . إِلَخْ.
وَمِمَّا يُعْتَبَرُ تَوْثِيقًا: حُكْمُ الْحَاكِمِ وَعَمَل الْمُجْتَهِدِ بِرِوَايَتِهِ (1) .
وَيُرْجَعُ إِلَى هَذَا فِي عِلْمِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ، وَالْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) المستصفى للغزالي 1 / 155، 156 168، ومسلم الثبوت 2 / 149 - 155، والذخيرة للقرافي / 115.(14/146)
تَوَرُّقٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوَرُّقُ مَصْدَرُ تَوَرَّقَ، يُقَال تَوَرَّقَ الْحَيَوَانُ: أَيْ أَكَل الْوَرَقَ، وَالْوَرِقُ بِكَسْرِ الرَّاءِ الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ مِنَ الْفِضَّةِ، وَقِيل: الْفِضَّةُ مَضْرُوبَةً أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبَةٍ (1) .
وَالتَّوَرُّقُ فِي الاِصْطِلاَحِ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلْعَةً نَسِيئَةً، ثُمَّ يَبِيعَهَا نَقْدًا - لِغَيْرِ الْبَائِعِ - بِأَقَل مِمَّا اشْتَرَاهَا بِهِ؛ لِيَحْصُل بِذَلِكَ عَلَى النَّقْدِ.
وَلَمْ تَرِدِ التَّسْمِيَةُ بِهَذَا الْمُصْطَلَحِ إِلاَّ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ (2) ، أَمَّا غَيْرُهُمْ فَقَدْ تَكَلَّمُوا عَنْهَا فِي مَسَائِل (بَيْعِ الْعِينَةِ) .
__________
(1) أساس البلاغة، ولسان العرب، وتاج العروس، ومعجم متن اللغة، والمعجم الوسيط، والمصباح المنير مادة: " ورق ".
(2) كشاف القناع 3 / 186 مكتبة النصر، الفروع 4 / 171 ط عالم الكتب، وشرح ابن القيم علي أبي داود 5 / 108 السنة المحمدية.(14/147)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرِّبَا:
2 - الرِّبَا لُغَةً الزِّيَادَةُ (1) ، وَاصْطِلاَحًا: فَضْلٌ خَالٍ عَنْ عِوَضٍ بِعَقْدٍ.
وَالْعَلاَقَةُ بَيْنَهُمَا التَّبَايُنُ، وَلاَ يَجْمَعُهُمَا إِلاَّ مُجَرَّدُ حُصُول الزِّيَادَةِ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
ب - الْعِينَةُ:
3 - الْعِينَةُ لُغَةً السَّلَفُ، وَاصْطِلاَحًا: أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً نَسِيئَةً، ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا الْبَائِعُ نَفْسُهُ بِثَمَنٍ حَالٍّ أَقَلّ مِنْهُ (2) . وَلاَ صِلَةَ بَيْنَ التَّوَرُّقِ وَبَيْنَ الْعِينَةِ إِلاَّ فِي تَحْصِيل النَّقْدِ الْحَال فِيهِمَا، وَفِيمَا وَرَاءَهُ مُتَبَايِنَانِ؛ لأَِنَّ الْعِينَةَ لاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ رُجُوعِ السِّلْعَةِ إِلَى الْبَائِعِ الأَْوَّل بِخِلاَفِ التَّوَرُّقِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ رُجُوعُ الْعَيْنِ إِلَى الْبَائِعِ، إِنَّمَا هُوَ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِيمَا مَلَكَهُ كَيْفَ شَاءَ.
حُكْمُ التَّوَرُّقِ:
4 - جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى إِبَاحَتِهِ سَوَاءٌ مَنْ سَمَّاهُ تَوَرُّقًا وَهُمُ الْحَنَابِلَةُ أَوْ مَنْ لَمْ يُسَمِّهِ بِهَذَا الاِسْمِ وَهُمْ مَنْ عَدَا الْحَنَابِلَةِ (3) . لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى:
__________
(1) المطلع ط المكتب الإسلامي 239، والعجم الوسيط مادة: " ربو "، وابن عابدين 4 / 176 - بولاق بتصرف.
(2) المصباح، والمعجم الوسيط مادة: " عين "، وكشاف القناع 3 / 185، والقاموس الفقهي 270.
(3) كشاف القناع 3 / 186، والفروع 4 / 171 ط عالم الكتب، وشرح ابن قيم الجوزية لمختصر سنن أبي داود 5 / 108 تحقيق أحمد شاكر ط دار المعرفة، وفتح القدير 5 / 25 ط بولاق، ابن عابدين 4 / 279 ط بولاق، والروضة 3 / 416، وأوجز المسالك 11 / 128 ط المعارف، ونقل الفيومي الاتفاق على جوازه - المصباح 2 / 441.(14/147)
{وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ (1) } وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَامِلِهِ عَلَى خَيْبَرَ: بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا (2) وَلأَِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ قَصْدُ الرِّبَا وَلاَ صُورَتُهُ. وَكَرِهَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ (3) .
وَقَال ابْنُ الْهُمَامِ: هُوَ خِلاَفُ الأَْوْلَى، وَاخْتَارَ تَحْرِيمَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ لأَِنَّهُ بَيْعُ الْمُضْطَرِّ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِبَاحَتُهُ (4) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ التَّوَرُّقَ فِي بَحْثِ بَيْعِ الْعِينَةِ، وَالْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَالرِّبَا.
__________
(1) سورة البقرة / 275.
(2) حديث: أخرجه البخاري (الفتح 4 / 399 - ط السلفية) من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة جميعا.
(3) شرح ابن قيم الجوزيه لمختصر سنن أبي داود 5 / 108، ابن عابدين 4 / 279، والمصنف لابن أبي شيبة 6 / 593، والمصنف لعبد الرزاق 8 / 188.
(4) شرح ابن قيم الجوزيه لمختصر سنن أبي داود 5 / 108، والفروع 4 / 171، والاختيارات 4 / 75.(14/148)
تَوَرُّكٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي التَّوَرُّكِ لُغَةً: الاِعْتِمَادُ عَلَى الْوَرِكِ، وَهُوَ مَا فَوْقَ الْفَخِذَيْنِ يُقَال: قَعَدَ مُتَوَرِّكًا أَيْ مُتَّكِئًا عَلَى إِحْدَى وَرِكَيْهِ. (1)
وَالتَّوَرُّكُ اصْطِلاَحًا: تَنْحِيَةُ الرِّجْلَيْنِ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ، وَإِلْصَاقُ الْمَقْعَدَةِ بِالأَْرْضِ فِي قُعُودِ الصَّلاَةِ.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ يُسَنُّ لَهُ فِي التَّشَهُّدِ الأَْوَّل فِي الصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّلاَثِيَّةِ الاِفْتِرَاشُ عِنْدَ الْقُعُودِ، وَالاِفْتِرَاشُ: أَنْ يَنْصِبَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى قَائِمَةً عَلَى أَطْرَافِ الأَْصَابِعِ وَيَفْرِشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى بِأَنْ يُلْصِقَ ظَهْرَهَا بِالأَْرْضِ وَيَجْلِسَ عَلَى بَاطِنِهَا، أَمَّا التَّوَرُّكُ فَيُسَنُّ فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ فِي الصَّلاَةِ الرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّلاَثِيَّةِ. وَصِفَتُهُ: أَنْ يَنْصِبَ الْمُصَلِّي رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَيَضَعَ بُطُونَ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ عَلَى الأَْرْضِ وَرُءُوسَهَا لِلْقِبْلَةِ، وَيُخْرِجَ يُسْرَاهُ مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ، وَيُلْصِقَ وَرِكَهُ بِالأَْرْضِ، وَكَذَا أَلْيَتَهُ الْيُسْرَى لِلاِتِّبَاعِ.
__________
(1) المصباح المنير مادة: " ورك ".(14/148)
وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُل فِي هَذَا لِشُمُول الْخِطَابِ لَهَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي (1) وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ التَّوَرُّكَ يَكُونُ أَيْضًا فِي التَّشَهُّدِ الأَْخِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَانِيًا كَتَشَهُّدِ الصُّبْحِ وَالْجُمُعَةِ وَصَلاَةِ التَّطَوُّعِ (2) . وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: التَّوَرُّكُ خَاصٌّ بِالْمَرْأَةِ فَيُسَنُّ لَهَا أَنْ تَتَوَرَّكَ لأَِنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا،
وَلاَ يَتَوَرَّكُ الرَّجُل بَل يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَفْرِشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَيَجْعَلَهَا تَحْتَ أَلْيَتَيْهِ وَيَجْلِسَ عَلَيْهَا، وَيَنْصِبَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَيُوَجِّهَ أَصَابِعَهَا نَحْوَ الْقِبْلَةِ فِي الْفَرْضِ، وَالنَّفَل (3) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (جُلُوسٌ، صَلاَةٌ) .
تَوْرِيَةٌ
اُنْظُرْ: تَعْوِيضٌ.
__________
(1) حديث: " صلوا كما رأيتموني أصلي " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 111 - ط السلفية) من حديث مالك بن الحويرث.
(2) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 249 ط عيسى الحلبي بمصر، ونهاية المحتاج 1 / 500، والمجموع شرح المهذب 3 / 450 ط المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، والمغني لابن قدامة 1 / 539 م الرياض، وكشاف القناع 1 / 363 ط الرياض.
(3) حاشية ابن عابدين 1 / 508 ط مصطفى الحلبي بمصر - الطبعة الثانية، وبدائع الصنائع 1 / 211 - الطبعة الأولى 1327 هـ، ومراقي الفلاح 146.(14/149)
تَوَسُّلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوَسُّل لُغَةً: التَّقَرُّبُ. يُقَال: تَوَسَّلْت إِلَى اللَّهِ بِالْعَمَل: أَيْ تَقَرَّبْت إِلَيْهِ، وَتَوَسَّل إِلَى فُلاَنٍ بِكَذَا: تَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِحُرْمَةٍ آصِرَةٍ تَعْطِفُهُ عَلَيْهِ. وَالْوَسِيلَةُ هِيَ الَّتِي يُتَوَصَّل بِهَا إِلَى تَحْصِيل الْمَقْصُودِ.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ (1) }
وَوَسَل إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَوْسِيلاً: عَمِل عَمَلاً تَقَرَّبَ بِهِ إِلَيْهِ كَتَوَسَّل.
وَالْوَاسِل: الرَّاغِبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (2) .
وَلاَ يَخْرُجُ التَّوَسُّل فِي الاِصْطِلاَحِ عَنْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، فَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فِعْل الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَعَلَيْهِ حَمَل الْمُفَسِّرُونَ قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} .
وَيُطْلَقُ التَّوَسُّل أَيْضًا عَلَى التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِطَلَبِ الدُّعَاءِ مِنَ الْغَيْرِ، وَعَلَى الدُّعَاءِ الْمُتَقَرَّبِ
__________
(1) سورة المائدة / 35.
(2) لسان العرب وأساس البلاغة وترتيب القاموس المحيط مادة " وسل ".(14/149)
بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، أَوْ بِخَلْقِهِ كَنَبِيٍّ، أَوْ صَالِحٍ، أَوِ الْعَرْشِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ (1) . عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَيَتَّضِحُ.
وَأُطْلِقَتِ الْوَسِيلَةُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَنْزِلَةٍ فِي الْجَنَّةِ. قَال النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لاَ تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِسْتِعَانَةُ:
2 - الاِسْتِعَانَةُ لُغَةً طَلَبُ الْعَوْنِ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ كَذَلِكَ. وَتَكُونُ الاِسْتِعَانَةُ بِاَللَّهِ وَبِغَيْرِهِ، أَمَّا الاِسْتِعَانَةُ بِاَللَّهِ فَهِيَ مَطْلُوبَةٌ فِي كُل خَيْرٍ، وَأَمَّا الاِسْتِعَانَةُ بِغَيْرِ اللَّهِ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِعَانَةٌ) (3) .
وَالتَّوَسُّل وَالاِسْتِعَانَةُ لَفْظَانِ مُتَسَاوِيَانِ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا.
__________
(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص13 وما بعدها، وتفسير الألوسي 6 / 124.
(2) حديث: " سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو ". أخرجه مسلم (1 / 289 ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
(3) الموسوعة 4 / 17.(14/150)
ب - الاِسْتِغَاثَةُ:
3 - الاِسْتِغَاثَةُ طَلَبُ الْغَوْثِ وَالنَّصْرِ، وَفِي الاِصْطِلاَحِ كَذَلِكَ.
وَالاِسْتِغَاثَةُ غَيْرُ التَّوَسُّل؛ لأَِنَّ الاِسْتِغَاثَةَ لاَ تَكُونُ إِلاَّ فِي حَال الشِّدَّةِ، وَالتَّوَسُّل يَكُونُ فِي حَال الشِّدَّةِ وَحَال الرَّخَاءِ قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَلَمْ يَقُل أَحَدٌ إِنَّ التَّوَسُّل بِنَبِيٍّ هُوَ اسْتِغَاثَةٌ بِهِ، بَل الْعَامَّةُ الَّذِينَ يَتَوَسَّلُونَ فِي أَدْعِيَتِهِمْ بِأُمُورٍ، كَقَوْل أَحَدِهِمْ: أَتَوَسَّل إِلَيْك بِحَقِّ الشَّيْخِ فُلاَنٍ أَوْ بِحُرْمَتِهِ، أَوْ أَتَوَسَّل إِلَيْك بِاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ أَوْ بِالْكَعْبَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُونَهُ فِي أَدْعِيَتِهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَغِيثُونَ بِهَذِهِ الأُْمُورِ، فَإِنَّ الْمُسْتَغِيثَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَالِبٌ مِنْهُ وَسَائِلٌ لَهُ.
وَالْمُتَوَسَّل بِهِ لاَ يُدْعَى وَلاَ يُطْلَبُ مِنْهُ وَلاَ يُسْأَل، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ بِهِ، وَكُل أَحَدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَدْعُوِّ وَالْمَدْعُوِّ بِهِ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّوَسُّل:
4 - لَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوَسُّل إِلَيْهِ بِالأَْعْمَال الصَّالِحَةِ مَعَ التَّقْوَى الْمُكَلَّلَةِ بِالإِْيمَانِ الصَّادِقِ فَقَال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ (2) } .
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَهَذَا التَّوَسُّل بِالإِْيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ فَرْضٌ عَلَى كُل أَحَدٍ فِي كُل حَالٍ، بَاطِنًا
__________
(1) مجموعة الفتاوى ابن تيمية 1 / 103.
(2) سورة المائدة / 35.(14/150)
وَظَاهِرًا، فِي حَيَاةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ مَوْتِهِ، فِي مَشْهَدِهِ وَمَغِيبِهِ، لاَ يَسْقُطُ التَّوَسُّل بِالإِْيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ فِي حَالٍ مِنَ الأَْحْوَال بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَلاَ بِعُذْرٍ مِنَ الأَْعْذَارِ، وَلاَ طَرِيقَ إِلَى كَرَامَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ وَالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِهِ إِلاَّ التَّوَسُّل بِالإِْيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ (1) .
وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ الْمُتَوَسِّلِينَ إِلَيْهِ بِمَا يُرْضِيهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمِ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّك كَانَ مَحْذُورًا (2) } .
وَهُنَاكَ صُوَرٌ أُخْرَى لِلتَّوَسُّل مِنْهَا: مَا هُوَ جَائِزٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يَأْتِي بَيَانُهُ.
أَوَّلاً: التَّوَسُّل بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّوَسُّل إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مُسْتَحَبٌّ لأَِيِّ شَأْنٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الأَْسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (3) } .
وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ
__________
(1) قاعدة جليلة ص5.
(2) سورة الإسراء / 57.
(3) سورة الأعراف / 180.(14/151)
يَتَوَسَّل فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَسْمَائِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ مِنْهَا: حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَال: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيثُ (1) وَمِنْهَا: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْأَلُك بِكُل اسْمٍ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَك، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِك، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِك، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَل الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ بَصَرِي، وَجَلاَءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي (2) .
وَمِنْهَا: حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَاصٍّ يَقْرَأُ ثُمَّ يَسْأَل، فَاسْتَرْجَعَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَيْ قَال: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ثُمَّ قَال: سَمِعْت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلْيَسْأَل اللَّهَ بِهِ، فَإِنَّهُ سَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَسْأَلُونَ بِهِ النَّاسَ (3) .
__________
(1) حديث كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر قال: " يا حي يا قيوم. . . " أخرجه الترمذي (5 / 539 ط الحلبي) من حديث أنس بن مالك. وقال: " هذا حديث غريب " ففي إسناده يزيد بن أبان الرقاشي وهو ضعيف كما في الميزان للذهبي (4 / 418 ط الحلبي) .
(2) حديث: " أسألك بكل اسم سميت به نفسك. . . " أخرجه أحمد (1 / 193 - الميمنية) والحاكم (1 / 509 - 510 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5 / 266 - ط المعارف) .
(3) حديث: " من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به الناس " أخرجه الترمذي (5 / 179 - ط الحلبي) ، وقال: " هذا حديث حسن، ليس إسناده بذاك ".(14/151)
كَرَاهَةُ أَنْ يَسْأَل بِوَجْهِ اللَّهِ غَيْرَ الْجَنَّةِ:
6 - لَمَّا كَانَتْ أَسْمَاؤُهُ تَعَالَى عَظِيمَةَ الْقَدْرِ وَصِفَاتُهُ جَلِيلَةً مُقَدَّسَةً نَاسَبَ أَنْ يَسْأَل بِهَا الشَّيْءَ الْعَظِيمَ كَالْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالطَّاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَكِنْ خُصَّ الْوَجْهُ بِسُؤَال الْجَنَّةِ بِهِ، وَلاَ يُسْأَل بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْجَنَّةَ أَعْظَمُ مَا يَسْأَل الْمُسْلِمُ مِنْ رَبِّهِ، إِذْ هِيَ دَارُ رَحْمَتِهِ، وَمُسْتَقَرُّ رِضَاهُ وَأَمْنِهِ.
عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُسْأَل بِوَجْهِ اللَّهِ إِلاَّ الْجَنَّةُ (1) .
ثَانِيًا: التَّوَسُّل بِالإِْيمَانِ وَالأَْعْمَال الصَّالِحَةِ:
7 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّل إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالأَْعْمَال الصَّالِحَةِ الَّتِي يَعْمَلَهَا الإِْنْسَانُ مُتَقَرِّبًا بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَهَبَ الْمُفَسِّرُونَ إِلَى أَنَّ الْوَسِيلَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ (2) } وَفِي قَوْله تَعَالَى {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمِ الْوَسِيلَةَ (3) } تُطْلَقُ عَلَى الأَْعْمَال الصَّالِحَةِ (4) .
__________
(1) حديث: " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة " أخرجه أبو داود (2 / 309 - 310 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وضعفه عبد الحق الإشبيلي والقطان كما في فيض القدير للمناوي (6 / 451 - ط المكتبة التجارية) .
(2) سورة المائدة / 35.
(3) سورة الإسراء / 57.
(4) روح المعاني للآلوسي 6 / 124، وتفسير القاسمي 6 / 1968.(14/152)
وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (1) } فَقَدْ قَدَّمَ ذِكْرَ الأَْعْمَال الصَّالِحَةِ ثُمَّ تَلاَ ذَلِكَ بِالدُّعَاءِ.
وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (2) } ، وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَال مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَال الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَأَشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُول فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (3) } .
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الآْيَاتِ الْكَرِيمَةِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ رَجُلاً يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُك أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّك أَنْتَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الأَْحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَقَال: لَقَدْ سَأَلْت اللَّهَ بِالاِسْمِ الَّذِي إِذَا سُئِل بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ (4) .
__________
(1) سورة الفاتحة / 5 - 6.
(2) سورة البقرة / 19.
(3) سورة آل عمران / 52 - 53.
(4) حديث بريدة: " لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب " أخرجه أبو داود (2 / 167 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وفي رواية: " لقد سأل الله باسمه الأعظم " وقال المنذري: " قال شيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي: وهو إسناد لا مطعن فيه. مختصر أبي(14/152)
وَمِنْهَا حَدِيثُ الْغَارِ الْمَرْوِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَل فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنَجِّيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ. قَال رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَكُنْت لاَ أَغْبِقُ (1) قَبْلَهُمَا أَهْلاً وَلاَ مَالاً. فَنَأَى بِي طَلَبُ الشَّجَرِ يَوْمًا فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، فَكَرِهْت أَنْ أُوقِظَهُمَا، وَأَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلاً أَوْ مَالاً، فَلَبِثْت - وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ - أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمِي، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا. اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْت ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِك فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهُ
قَال الآْخَرُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَفِي رِوَايَةٍ: كُنْتُ أُحِبُّهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَال النِّسَاءَ فَأَرَدْتهَا عَلَى نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي، فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخِلِّي بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا فَفَعَلَتْ، حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ
__________
(1) أغبق من الغبوق وهو الشرب بالعشي، والصبوح الشرب بالصباح.(14/153)
عَلَيْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ: اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتهَا.
اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرِجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا.
وَقَال الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ وَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَْمْوَال، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ، فَقَال: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْت: كُل مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِْبِل وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ. فَقَال: يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَسْتَهْزِئْ بِي، فَقُلْت: لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا. اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِك فَافْرِجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ.
فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ (1) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ يَتَهَجَّدُ قَال: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُك الْحَقُّ؛ وَلِقَاؤُك حَقٌّ، وَقَوْلُك حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ
__________
(1) حديث أبن عمر: " انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 505 - 506 - ط السلفية) ومسلم (4 / 2099 - 2100 - ط الحلبي) .(14/153)
حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ (1) .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى الصَّلاَةِ فَقَال: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك وَبِحَقِّ مَمْشَايَ. . فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِرًا وَلاَ بَطَرًا (2) . . . " الْحَدِيثَ.
ثَالِثًا: التَّوَسُّل بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ التَّوَسُّل بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَْحْوَال التَّالِيَةِ:
أَوَّلاً - التَّوَسُّل بِالنَّبِيِّ بِمَعْنَى طَلَبِ الدُّعَاءِ مِنَّا فِي الدُّنْيَا وَالشَّفَاعَةِ فِي الآْخِرَةِ.
أ - طَلَبُ الدُّعَاءِ مِنَ النَّبِيِّ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا:
8 - إِنَّ التَّوَسُّل بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْنَى طَلَبِ الدُّعَاءِ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ قَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ، فَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ
__________
(1) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام بتهجد قال: أخرجه البخاري (الفتح 3 / 3 - ط السلفية) .
(2) حديث أبي سعيد الخدري: " ما خرج رجل من بيته. . . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 256 - ط الحلبي) وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص24 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال البوصيري في الزوائد: " هذا إسناده مسلسل بالضعفاء ". .(14/154)
الْكِرَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ الدُّعَاءَ فِي الأُْمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالأُْخْرَوِيَّةِ. وَقَدْ أَرْشَدَهُمُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ إِلَى ذَلِكَ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوك فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُول لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (1) } .
وَفِي كُتُبِ السُّنَّةِ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءُ الْكَثِيرُ، فَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلاً ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي.
قَال: إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ وَإِنْ شِئْت صَبَرْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَك، قَال: فَادْعُهُ. قَال: فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ. يَا مُحَمَّدُ إِنِّي تَوَجَّهْت بِك إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى. . . إِلَى قَوْلِهِ: اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِي فَقَامَ وَقَدْ أَبْصَرَ (2) . وَزَادَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَإِنْ كَانَتْ لَكَ حَاجَةٌ فَافْعَل مِثْل ذَلِكَ وَمِنْهَا أَنَّ رَجُلاً دَخَل الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ هَلَكَتِ الأَْمْوَال وَانْقَطَعَتِ السُّبُل فَادْعُ اللَّهُ يُغِيثُنَا. فَرَفَعَ رَسُول اللَّهِ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَال: اللَّهُمَّ أَغِثْنَا. اللَّهُمَّ أَغِثْنَا. اللَّهُمَّ أَغِثْنَا.
قَال أَنَسٌ: وَلاَ وَاَللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ
__________
(1) سورة النساء / 64.
(2) حديث عثمان بن حنيف: أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم. . . . " أخرجه الترمذي (5 / 569 - ط الحلبي وقال: حديث حسن صحيح.(14/154)
سَحَابٍ وَلاَ قَزَعَةٍ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سِلَعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ، فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْل التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، فَلاَ وَاَللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سَبْتًا، ثُمَّ دَخَل رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ هَلَكَتِ الأَْمْوَال وَانْقَطَعَتِ السُّبُل فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكُهَا عَنَّا
فَرَفَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَال: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا. اللَّهُمَّ عَلَى الآْكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الأَْوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ. فَأَقْلَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ (1) .
ب - طَلَبُ الدُّعَاءِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
9 - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّوَسُّل بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسُؤَال الْخَلْقِ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي الْمَحْشَرِ وَاقِعٌ لاَ مَحَالَةَ خِلاَفًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.
وَالشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى يَوْمَئِذٍ خُصُوصِيَّةٌ مَنَحَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِحَبِيبِهِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ تَكْرِيمًا وَتَشْرِيفًا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالاَ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَجْمَعُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ
__________
(1)) حديث أنس: " اللهم أغثنا. . . . " أخرجه مسلم (2 / 612 - 613 - ط الحلبي) .(14/155)
لَهُمُ الْجَنَّةُ. فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ فَيَقُول: وَهَل أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلاَّ خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ؟ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيل اللَّهِ. قَال: فَيَقُول إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ إِنَّمَا كُنْت خَلِيلاً مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ. اعْمِدُوا إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُول: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللَّهِ وَرُوحِهِ، فَيَقُول عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتُرْسَل الأَْمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَتَقُومَانِ جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالاً فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ (1) . . . الْحَدِيثَ ".
وَفِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ لَهُ: اشْفَعْ لِذُرِّيَّتِك فَيَقُول: لَسْتُ لَهَا. . فَيُؤْتَى عِيسَى فَيَقُول: لَسْتُ لَهَا وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُوتِيَ، فَأَقُول: أَنَا لَهَا، فَأَنْطَلِقُ، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لاَ أَقْدِرُ عَلَيْهِ الآْنَ يُلْهِمنِيهِ اللَّهُ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَال لِي: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُل يُسْمَعُ لَك وَسَل تُعْطَهُ
__________
(1) حديث أبي هريرة وحذيفة: " يجمع الله الناس يوم القيامة. . . " أخرجه مسلم (1 / 180 - 181 - ط الحلبي) .(14/155)
وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُول: يَا رَبُّ أُمَّتِي أُمَّتِي (1) . . . الْحَدِيثَ ".
ج - التَّوَسُّل بِالنَّبِيِّ عَلَى مَعْنَى الإِْيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ:
10 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي التَّوَسُّل بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَعْنَى الإِْيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَذَلِكَ كَأَنْ يَقُول: أَسْأَلُك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ وَيُرِيدُ: إِنِّي أَسْأَلُك بِإِيمَانِي بِهِ وَبِمَحَبَّتِهِ، وَأَتَوَسَّل إِلَيْك بِإِيمَانِي بِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: مَنْ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ بِلاَ نِزَاعٍ، وَإِذَا حُمِل عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَلاَمُ مَنْ تَوَسَّل بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَمَاتِهِ مِنَ السَّلَفِ - كَمَا نُقِل عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَعَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - كَانَ هَذَا حَسَنًا. وَحِينَئِذٍ فَلاَ يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعَوَامّ يُطْلِقُونَ هَذَا اللَّفْظَ وَلاَ يُرِيدُونَ هَذَا الْمَعْنَى، فَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ أَنْكَرَ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُرِيدُونَ بِالتَّوَسُّل بِهِ التَّوَسُّل بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَهَذَا جَائِزٌ بِلاَ نِزَاعٍ، ثُمَّ إِنَّ أَكْثَر النَّاسِ فِي زَمَانِنَا لاَ يُرِيدُونَ هَذَا الْمَعْنَى بِهَذَا اللَّفْظِ.
وَقَال الأَْلُوسِيُّ: أَنَا لاَ أَرَى بَأْسًا فِي التَّوَسُّل
__________
(1) حديث أنس بن مالك: " إذا كان يوم القيامة ماج الناس. . . . . أخرجه البخاري (الفتح 13 / 473 - ط السلفية) ومسلم (1 / 182 - ط الحلبي) .(14/156)
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِجَاهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى حَيًّا وَمَيِّتًا، وَيُرَادُ مِنَ الجَاهِ مَعْنًى يَرْجِعُ إِلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، مِثْل أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَحَبَّةُ التَّامَّةُ الْمُسْتَدْعِيَةُ عَدَمَ رَدِّهِ وَقَبُول شَفَاعَتِهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْل الْقَائِل: إِلَهِي أَتَوَسَّل بِجَاهِ نَبِيَّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَقْضِيَ لِي حَاجَتِي. إِلَهِي اجْعَل مَحَبَّتَك لَهُ وَسِيلَةً فِي قَضَاءِ حَاجَتِي، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَقَوْلِك: إِلَهِي أَتَوَسَّل بِرَحْمَتِك أَنْ تَفْعَل كَذَا، إِذْ مَعْنَاهُ أَيْضًا إِلَهِي اجْعَل رَحْمَتَك وَسِيلَةً فِي فِعْل كَذَا، وَالْكَلاَمُ فِي الْحُرْمَةِ (أَيِ الْمَنْزِلَةِ - وَالْمُرَادُ حُرْمَةُ النَّبِيِّ) كَالْكَلاَمِ فِي الْجَاهِ (1) .
د - التَّوَسُّل بِالنَّبِيِّ بَعْدَ وَفَاتِهِ:
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّوَسُّل بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَقَوْل الْقَائِل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُك بِنَبِيِّك أَوْ بِجَاهِ نَبِيَّك أَوْ بِحَقِّ نَبِيَّك، عَلَى أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل:
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَمُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) إِلَى جَوَازِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّوَسُّل سَوَاءٌ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ (2) .
__________
(1) قاعدة جليلة ص63، 64 - 95، وتفسير الألوسي 6 / 128.
(2) شرح المواهب 8 / 304، والمجموع 8 / 274 والمدخل 1 / 248 وما بعدها، وابن عابدين 5 / 254، والفتاوى الهندية 1 / 266، 5 / 318، وفتح القدير 8 / 497 - 498، والفتوحات الربانية على الأذكار النووية 5 / 36.(14/156)
قَال الْقَسْطَلاَّنِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَالِكًا لَمَّا سَأَلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ الْعَبَّاسِيُّ - ثَانِي خُلَفَاء بَنِي الْعَبَّاسِ - يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَأَسْتَقْبِل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَدْعُو أَمْ أَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ وَأَدْعُو؟
فَقَال لَهُ مَالِكٌ: وَلِمَ تَصْرِفْ وَجْهَك عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ بَل اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعُهُ اللَّهُ.
وَقَدْ رَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ فِهْرٍ فِي كِتَابِهِ " فَضَائِل مَالِكٍ " بِإِسْنَادٍ لاَ بَأْسَ بِهِ وَأَخْرَجَهَا الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ شُيُوخٍ عِدَّةٍ مِنْ ثِقَاتِ مَشَايِخِهِ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي بَيَانِ آدَابِ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَّ يَرْجِعُ الزَّائِرُ إِلَى مَوْقِفٍ قُبَالَةَ وَجْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَوَسَّل بِهِ وَيَسْتَشْفِعُ بِهِ إِلَى رَبِّهِ، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يَقُول (الزَّائِرُ) مَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْعُتْبِيِّ مُسْتَحْسِنِينَ لَهُ قَال: كُنْت جَالِسًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَال: السَّلاَمُ عَلَيْك يَا رَسُول اللَّهِ. سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول: {
__________
(1) شرح المواهب 8 / 304 - 305، والمدخل 1 / 248، 252، ووفاء الوفاء 4 / 1371 وما بعدها، والفواكه الدواني 2 / 466، وشرح أبي الحسن على رسالة القيرواني 2 / 478، والقوانين الفقهية ص148.(14/157)
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوك فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُول لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (1) } وَقَدْ جِئْتُك مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِك إِلَى رَبِّي. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُول:
يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ
وَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالأَْكَمُ
نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ
فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرْمُ.
وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: يَنْبَغِي كَوْنُ هَذَا مَقْصُورًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَأَنْ لاَ يُقْسَمَ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِهِ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ وَالْمَلاَئِكَةِ الأَْوْلِيَاءِ؛ لأَِنَّهُمْ لَيْسُوا فِي دَرَجَتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا خُصَّ بِهِ تَنْبِيهًا عَلَى عُلُوِّ رُتْبَتِهِ.
وَقَال السُّبْكِيُّ: وَيَحْسُنُ التَّوَسُّل وَالاِسْتِغَاثَةُ وَالتَّشَفُّعُ بِالنَّبِيِّ إِلَى رَبِّهِ.
وَفِي إِعَانَةِ الطَّالِبِينَ:. . . وَقَدْ جِئْتُكَ مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذَنْبِيَ مُسْتَشْفِعًا بِك إِلَى رَبِّي (2) .
مَا تَقَدَّمَ أَقْوَال الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَال ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي بَعْدَ أَنْ نَقَل قِصَّةَ الْعُتْبِيِّ مَعَ الأَْعْرَابِيِّ: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَل الْمَسْجِدَ أَنْ يُقَدِّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى. . .
إِلَى أَنْ قَال: ثُمَّ تَأْتِيَ الْقَبْرَ فَتَقُول. . . وَقَدْ
__________
(1) سورة النساء 64.
(2) المجموع 8 / 274، وفيض القدير 2 / 134 - 135 وإعانة الطالبين 2 / 315، ومقدمة التجريد الصريح بتحقيق الدكتور مصطفى ديب البغاص.(14/157)
أَتَيْتُك مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذُنُوبِي مُسْتَشْفِعًا بِك إِلَى رَبِّي. . . ".
وَمِثْلُهُ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ (1) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحَ مُتَأَخِّرُوهُمْ أَيْضًا بِجَوَازِ التَّوَسُّل بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَال الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: ثُمَّ يَقُول فِي مَوْقِفِهِ: السَّلاَمُ عَلَيْك يَا رَسُول اللَّهِ. . . وَيَسْأَل اللَّهَ تَعَالَى حَاجَتَهُ مُتَوَسِّلاً إِلَى اللَّهِ بِحَضْرَةِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَقَال صَاحِبُ الاِخْتِيَارِ فِيمَا يُقَال عِنْدَ زِيَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . جِئْنَاكَ مِنْ بِلاَدٍ شَاسِعَةٍ. . . وَالاِسْتِشْفَاعُ بِك إِلَى رَبِّنَا. . . ثُمَّ يَقُول: مُسْتَشْفِعِينَ بِنَبِيِّك إِلَيْك.
وَمِثْلُهُ فِي مَرَاقِي الْفَلاَحِ وَالطَّحَاوِيُّ عَلَى الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ.
وَنَصُّ هَؤُلاَءِ: عِنْدَ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ. . . وَقَدْ جِئْنَاكَ سَامِعِينَ قَوْلَك طَائِعِينَ أَمْرَك مُسْتَشْفِعِينَ بِنَبِيِّك إِلَيْكَ.
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: وَيَتَوَسَّل إِلَى اللَّهِ بِأَنْبِيَائِهِ وَالصَّالِحِينَ (2) .
__________
(1) كشاف القناع 2 / 68، والمبدع 2 / 204، والفروع 2 / 159 والمغني مع الشرح 3 / 588 وما بعدها، والشرح الكبير مع المغني 3 / 494 - 495، والإنصاف 2 / 456.
(2) الاختيار 1 / 174 - 175، وفتح القدير 2 / 337 ومراقي الفلاح بحاشية الطحطاوي ص407، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 1 / 562، والفتاوى الهندية 1 / 266، وتحفة الأحوذي 10 / 34 وتحفة الذاكرين للشوكاني (37) .(14/158)
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِمَا يَأْتِي (1) :
أ - قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ (2) } .
ب - حَدِيثُ الأَْعْمَى (3) الْمُتَقَدِّمِ وَفِيهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ.
فَقَدْ تَوَجَّهَ الأَْعْمَى فِي دُعَائِهِ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيْ بِذَاتِهِ.
ج - قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّعَاءِ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ: اغْفِرْ لأُِمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ وَوَسِّعْ عَلَيْهَا مُدْخَلَهَا بِحَقِّ نَبِيِّك وَالأَْنْبِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِي فَإِنَّك أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (4) .
د - تَوَسُّل آدَمَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي " دَلاَئِل النُّبُوَّةِ " وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اقْتَرَفَ آدَمُ الْخَطِيئَةَ قَال:
__________
(1) المراجع السابقة، والمدخل 1 / 248 وما بعدها، وشرح المواهب 8 / 304، وجلاء العينين ص433 وما بعدها، وقاعدة جليلة ص65 وما بعدها، وحقيقة التوسل والوسيلة ص38 وما بعدها لمؤلفه موسى محمد علي، والتوسل وأنواعه وأحكامه للألباني ص51 وما بعدها.
(2) سورة المائدة / 35.
(3) حديث الأعمى سبق تخريجه ف / 8.
(4) حديث دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت الأسد: أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط كما في مجمع الزوائد للهيثمي (9 / 257 - ط القدسي) ، وقال: فيه روح بن صلاح، وثقه ابن حبان والحاكم وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح.(14/158)
يَا رَبِّ أَسْأَلُك بِحَقِّ مُحَمَّدٍ لَمَا غَفَرْتَ لِي فَقَال اللَّهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ كَيْفَ عَرَفْتَ مُحَمَّدًا وَلَمْ أَخْلُقْهُ؟
قَال: يَا رَبِّ إِنَّكَ لَمَّا خَلَقْتنِي رَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ عَلَى قَوَائِمِ الْعَرْشِ مَكْتُوبًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ فَعَلِمْتُ أَنَّك لَمْ تُضِفْ إِلَى اسْمِك إِلاَّ أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْك، فَقَال اللَّهُ تَعَالَى: صَدَقْتَ يَا آدَمُ، إِنَّهُ لأََحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيَّ، وَإِذْ سَأَلْتنِي بِحَقِّهِ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، وَلَوْلاَ مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُك (1) .
هـ - حَدِيثُ الرَّجُل الَّذِي كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي زَمَنِ خِلاَفَتِهِ، فَكَانَ لاَ يَلْتَفِتُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فِي حَاجَتِهِ، فَشَكَا ذَلِكَ لِعُثْمَانِ بْنِ حُنَيْفٍ، فَقَال لَهُ: ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ ائْتِ الْمَسْجِدَ فَصَل، ثُمَّ قُل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِك إِلَى رَبِّك فَيَقْضِي لِي حَاجَتِي، وَتَذْكُرُ حَاجَتَكَ، فَانْطَلَقَ الرَّجُل فَصَنَعَ
__________
(1) حديث لما اقترف آدم الخطيئة. . . . . " أخرجه الحاكم (2 / 615 - ط دائرة المعارف العثمانية) وعنه البيهقي في دلائل النبوة (5 / 489 - ط دار الكتب العلمية) وقال البيهقي: " تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه، وهو ضعيف " وتعقب الذهبي تصحيح الحاكم في تلخيص المستدرك بقوله: " بل موضوع، وعبد الرحمن واه ".(14/159)
ذَلِكَ ثُمَّ أَتَى بَابَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَجَاءَ الْبَوَّابُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَأَدْخَلَهُ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ وَقَال لَهُ: اُذْكُرْ حَاجَتَك، فَذَكَرَ حَاجَتَهُ فَقَضَاهَا لَهُ، ثُمَّ قَال: مَا لَكَ مِنْ حَاجَةٍ فَاذْكُرْهَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِيَ ابْنَ حُنَيْفٍ فَقَال لَهُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا مَا كَانَ يَنْظُرُ لِحَاجَتِي حَتَّى كَلَّمْتَهُ لِي، فَقَال ابْنُ حُنَيْفٍ، وَاَللَّهِ مَا كَلَّمْتُهُ وَلَكِنْ شَهِدْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتَاهُ ضَرِيرٌ فَشَكَا إِلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ (1) . إِلَى آخِرِ حَدِيثِ الأَْعْمَى الْمُتَقَدِّمِ.
قَال المباركفوري: قَال الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ فِي إِنْجَاحِ الْحَاجَةِ: ذَكَرَ شَيْخُنَا عَابِدٌ السِّنْدِيُّ فِي رِسَالَتِهِ وَالْحَدِيثُ - حَدِيثُ الأَْعْمَى - يَدُل عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّل وَالاِسْتِشْفَاعِ بِذَاتِهِ الْمُكَرَّمِ فِي حَيَاتِهِ، وَأَمَّا بَعْدَ مَمَاتِهِ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى عُثْمَانَ. . إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ.
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ فِي تُحْفَةِ الذَّاكِرِينَ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّل بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ الْفَاعِل هُوَ اللَّهُ
__________
(1) حديث الرجل الذي كانت له حاجة عند عثمان بن عفان أخرجه الطبراني في معجمه الصغير (1 / 183 _ ط المكتبة السلفية) وقد تكلم الذهبي في ميزان الاعتدال (2 / 262 - ط الحلبي) في رواية شعيب بن سعيد بما يقتضي تضعيف زيادته في هذا الحديث.(14/159)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَنَّهُ الْمُعْطِي الْمَانِعُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ (1) .
الْقَوْل الثَّانِي فِي التَّوَسُّل بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ:
12 - جَاءَ فِي التتارخانية مَعْزِيًّا لِلْمُنْتَقَى: رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ إِلاَّ بِهِ (أَيْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ) وَالدُّعَاءُ الْمَأْذُونُ فِيهِ الْمَأْمُورُ بِهِ مَا اُسْتُفِيدَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الأَْسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا (2) } .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو اللَّيْثِ لِلأَْثَرِ.
وَفِي الدُّرِّ: وَالأَْحْوَطُ الاِمْتِنَاعُ لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ فِيمَا يُخَالِفُ الْقَطْعِيَّ، إِذِ الْمُتَشَابِهُ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَطْعِيِّ (3) .
أَمَّا التَّوَسُّل بِمِثْل قَوْل الْقَائِل: بِحَقِّ رُسُلِك وَأَنْبِيَائِك وَأَوْلِيَائِك، أَوْ بِحَقِّ الْبَيْتِ فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى كَرَاهَتِهِ. قَال الْحَصْكَفِيُّ: لأَِنَّهُ لاَ حَقَّ لِلْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا يَخُصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: قَدْ يُقَال: إِنَّهُ لاَ حَقَّ لَهُمْ
__________
(1) تحفة الأحوذي 10 / 34.
(2) سورة الأعراف / 180.
(3) ابن عابدين 5 / 254 والفتاوى الهندية 1 / 266، 5 / 318، وفتح القدير 8 / 497 - 498، وحاشية الطحطاوي على الدر المختار 4 / 199.(14/160)
وُجُوبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَكِنِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَل لَهُمْ حَقًّا مِنْ فَضْلِهِ، أَوْ يُرَادُ بِالْحَقِّ الْحُرْمَةُ وَالْعَظَمَةُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْوَسِيلَةِ، وَقَدْ قَال تَعَالَى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ (1) }
وَقَدْ عُدَّ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ التَّوَسُّل عَلَى مَا فِي " الْحِصْنِ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك، وَبِحَقِّ مَمْشَايَ إِلَيْك، فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِرًا وَلاَ بَطَرًا (2) الْحَدِيثَ.
وَيُحْتَمَل أَنْ يُرَادَ بِحَقِّهِمْ عَلَيْنَا وُجُوبُ الإِْيمَانِ بِهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ. وَفِي " الْيَعْقُوبِيَّةِ ": يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مَصْدَرًا لاَ صِفَةً مُشَبَّهَةً، فَالْمَعْنَى بِحَقِّيَّةِ رُسُلِك، فَلْيُتَأَمَّل. اهـ. أَيْ: الْمَعْنَى بِكَوْنِهِمْ حَقًّا لاَ بِكَوْنِهِمْ مُسْتَحِقِّينَ. أَقُول (أَيْ ابْنُ عَابِدِينَ) : لَكِنْ هَذِهِ كُلُّهَا احْتِمَالاَتٌ مُخَالِفَةٌ لِظَاهِرِ الْمُتَبَادَرِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ، وَمُجَرَّدُ إِيهَامِ اللَّفْظِ مَا لاَ يَجُوزُ كَافٍ فِي الْمَنْعِ. . . فَلِذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَطْلَقَ أَئِمَّتُنَا الْمَنْعَ، عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ هَذِهِ الْمَعَانِي مَعَ هَذَا الإِْيهَامِ فِيهَا الإِْقْسَامُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَانِعٌ آخَرُ، تَأَمَّل (3) .
الْقَوْل الثَّالِثِ فِي التَّوَسُّل بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ:
13 - ذَهَبَ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَى أَنَّ التَّوَسُّل بِذَاتِ
__________
(1) سورة المائدة / 35.
(2) حديث: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك. . . . " سبق تخرجه ف / 7.
(3) ابن عابدين 5 / 254، والفتاوى الهندية 1 / 266، 5 / 318، وفتح القدير 8 / 497، 498، والطحطاوي على الدر 4 / 199.(14/160)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَجُوزُ، وَأَمَّا التَّوَسُّل بِغَيْرِ الذَّاتِ فَقَدْ قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَلَفْظُ التَّوَسُّل قَدْ يُرَادُ بِهِ ثَلاَثَةُ أُمُورٍ. أَمْرَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ أَصْل الإِْيمَانِ وَالإِْسْلاَمِ، وَهُوَ التَّوَسُّل بِالإِْيمَانِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِطَاعَتِهِ.
وَالثَّانِي: دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَيْ فِي حَال حَيَاتِهِ) وَهَذَا أَيْضًا نَافِعٌ يَتَوَسَّل بِهِ مَنْ دَعَا لَهُ وَشَفَعَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَمَنْ أَنْكَرَ التَّوَسُّل بِهِ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِل مُرْتَدًّا.
وَلَكِنِ التَّوَسُّل بِالإِْيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ هُوَ أَصْل الدِّينِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالاِضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الإِْسْلاَمِ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، فَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فَكُفْرُهُ ظَاهِرٌ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ.
وَأَمَّا دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ وَانْتِفَاعُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ فَمَنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ كَافِرٌ أَيْضًا، لَكِنْ هَذَا أَخْفَى مِنَ الأَْوَّل، فَمَنْ أَنْكَرَهُ عَنْ جَهْلٍ عَرَفَ ذَلِكَ، فَإِنْ(14/161)
أَصَرَّ عَلَى إِنْكَارِهِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ.
أَمَّا دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ فِي الدُّنْيَا فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْل الْقِبْلَةِ، وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَذْهَبُ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَهُمُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الأَْرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ لَهُ شَفَاعَاتٍ خَاصَّةً وَعَامَّةً.
وَأَمَّا التَّوَسُّل بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّوَجُّهُ بِهِ فِي كَلاَمِ الصَّحَابَةِ فَيُرِيدُونَ بِهِ التَّوَسُّل بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ.
وَالتَّوَسُّل بِهِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ يُرَادُ بِهِ الإِْقْسَامُ بِهِ وَالسُّؤَال بِهِ، كَمَا يُقْسِمُونَ بِغَيْرِهِ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَمَنْ يُعْتَقِدُ فِيهِ الصَّلاَحَ.
وَحِينَئِذٍ فَلَفْظُ التَّوَسُّل بِهِ يُرَادُ بِهِ مَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُرَادُ بِهِ مَعْنًى ثَالِثٌ لَمْ تَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ.
وَمِنَ الْمَعْنَى الْجَائِزِ قَوْل عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إِلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّل إِلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا " أَيْ: بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ (1) }
أَيْ: الْقُرْبَةَ إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ، وَطَاعَةُ رَسُولِهِ طَاعَتُهُ. قَال تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُول فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ (2) } فَهَذَا التَّوَسُّل الأَْوَّل هُوَ أَصْل الدِّينِ، وَهَذَا لاَ يُنْكِرُهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا التَّوَسُّل بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ - كَمَا قَال عُمَرُ
__________
(1) سورة المائدة / 35.
(2) سورة النساء / 8.(14/161)
فَإِنَّهُ تَوَسُّلٌ بِدُعَائِهِ لاَ بِذَاتِهِ؛ وَلِهَذَا عَدَلُوا عَنِ التَّوَسُّل بِهِ (أَيْ بَعْدَ وَفَاتِهِ) إِلَى التَّوَسُّل بِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ، وَلَوْ كَانَ التَّوَسُّل هُوَ بِذَاتِهِ لَكَانَ هَذَا أَوْلَى مِنَ التَّوَسُّل بِالْعَبَّاسِ، فَلَمَّا عَدَلُوا عَنِ التَّوَسُّل بِهِ إِلَى التَّوَسُّل بِالْعَبَّاسِ، عُلِمَ أَنَّ مَا يُفْعَل فِي حَيَاتِهِ قَدْ تَعَذَّرَ بِمَوْتِهِ. بِخِلاَفِ التَّوَسُّل الَّذِي هُوَ الإِْيمَانُ بِهِ، وَالطَّاعَةُ لَهُ، فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ دَائِمًا.
وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ: التَّوَسُّل بِهِ بِمَعْنَى الإِْقْسَامِ عَلَى اللَّهِ بِذَاتِهِ، وَالسُّؤَال بِذَاتِهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَمْ يَكُنِ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ فِي الاِسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ، لاَ فِي حَيَاتِهِ وَلاَ بَعْدَ مَمَاتِهِ، لاَ عِنْدَ قَبْرِهِ وَلاَ غَيْرِ قَبْرِهِ، وَلاَ يُعْرَفُ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنَ الأَْدْعِيَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّمَا يُنْقَل شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ مَرْفُوعَةٍ وَمَوْقُوفَةٍ، أَوْ عَمَّنْ لَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً.
ثُمَّ يَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَالْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ حَرَامٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَقَدْ حُكِيَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيل: هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ. وَالأَْوَّل أَصَحُّ (1) .
فَالإِْقْسَامُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اللَّهِ - وَالسُّؤَال بِهِ بِمَعْنَى الإِْقْسَامِ - هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ (2) .
__________
(1) الموسوعة الفقهية بالكويت 7 / 263 وما بعدها.
(2) قاعدة جليلة ص51.(14/162)
وَيَذْهَبُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى أَنَّ التَّوَسُّل بِلَفْظِ " أَسْأَلُكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ " يَجُوزُ إِذَا كَانَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، فَيَقُول فِي ذَلِكَ: فَإِنْ قِيل: إِذَا كَانَ التَّوَسُّل بِالإِْيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: تَارَةً يَتَوَسَّل بِذَلِكَ إِلَى ثَوَابِ اللَّهِ وَجَنَّتِهِ (وَهَذَا أَعْظَمُ الْوَسَائِل) وَتَارَةً يَتَوَسَّل بِذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ - كَمَا ذَكَرْتُمْ نَظَائِرَهُ - فَيُحْمَل قَوْل الْقَائِل: أَسْأَلُكَ بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ: إِنِّي أَسْأَلُك بِإِيمَانِي بِهِ وَبِمَحَبَّتِهِ، وَأَتَوَسَّل إِلَيْك بِإِيمَانِي بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ هَذَا جَائِزٌ بِلاَ نِزَاعٍ. قِيل: مَنْ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ بِلاَ نِزَاعٍ، وَإِذَا حُمِل عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِكَلاَمِ مَنْ تَوَسَّل بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَمَاتِهِ مِنَ السَّلَفِ، كَمَا نُقِل عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَعَنْ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، كَانَ هَذَا حَسَنًا، وَحِينَئِذٍ فَلاَ يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ، وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنَ الْعَوَّامِ يُطْلِقُونَ هَذَا اللَّفْظَ، وَلاَ يُرِيدُونَ هَذَا الْمَعْنَى، فَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ أَنْكَرَ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُرِيدُونَ بِالتَّوَسُّل بِهِ التَّوَسُّل بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَهَذَا جَائِزٌ بِلاَ نِزَاعٍ.
ثُمَّ يَقُول: وَاَلَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ - مِنْ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَسْأَل اللَّهَ تَعَالَى بِمَخْلُوقٍ لاَ بِحَقِّ الأَْنْبِيَاءِ وَلاَ غَيْرِ ذَلِكَ - يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ:
أَحَدَهُمَا: الإِْقْسَامَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ، وَهَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا(14/162)
تَقَدَّمَ، كَمَا يُنْهَى أَنْ يُقْسَمَ عَلَى اللَّهِ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَشَاعِرِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَالثَّانِيَ: السُّؤَال بِهِ فَهَذَا يُجَوِّزُهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَنُقِل فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي دُعَاءِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، لَكِنْ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ضَعِيفٌ بَل مَوْضُوعٌ، وَلَيْسَ عَنْهُ حَدِيثٌ ثَابِتٌ قَدْ يُظَنُّ أَنَّ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةً إِلاَّ حَدِيثَ الأَْعْمَى الَّذِي عَلَّمَهُ أَنْ يَقُول: أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْك بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ (1) وَحَدِيثُ الأَْعْمَى لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ إِنَّمَا تَوَسَّل بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَفَاعَتِهِ، وَهُوَ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ، وَقَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِي " وَلِهَذَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ لَمَّا دَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ذَلِكَ يُعَدُّ مِنْ آيَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَوْ تَوَسَّل غَيْرُهُ مِنَ الْعُمْيَانِ الَّذِينَ لَمْ يَدْعُ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّؤَال بِهِ لَمْ تَكُنْ حَالُهُمْ كَحَالِهِ (2) .
وَسَاغَ النِّزَاعُ فِي السُّؤَال بِالأَْنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ دُونَ الإِْقْسَامِ بِهِمْ؛ لأَِنَّ بَيْنَ السُّؤَال وَالإِْقْسَامِ فَرْقًا، فَإِنَّ السَّائِل مُتَضَرِّعٌ ذَلِيلٌ يَسْأَل بِسَبَبٍ يُنَاسِبُ الإِْجَابَةَ، وَالْمُقْسِمُ أَعْلَى مِنْ هَذَا، فَإِنَّهُ طَالِبٌ مُؤَكِّدٌ طَلَبَهُ بِالْقَسَمِ، وَالْمُقْسِمُ لاَ يُقْسِمُ إِلاَّ عَلَى مَنْ يَرَى أَنَّهُ يَبَرُّ قَسَمَهُ، فَإِبْرَارُ الْقَسَمِ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَأَمَّا إِجَابَةُ السَّائِلِينَ
__________
(1) حديث الأعمى سبق تخريجه ف / 8.
(2) قاعدة جليلة ص64 - 66(14/163)
فَعَامٌّ، فَإِنَّ اللَّهَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلاَ قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاَثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّل لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآْخِرَةِ مِثْلَهَا، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَال: اللَّهُ أَكْثَرُ (1) .
وَهَذَا التَّوَسُّل بِالأَْنْبِيَاءِ بِمَعْنَى السُّؤَال بِهِمْ - وَهُوَ الَّذِي قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ - لَيْسَ فِي الْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ، فَمَنْ نَقَل عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَ التَّوَسُّل بِهِ بِمَعْنَى الإِْقْسَامِ أَوِ السُّؤَال بِهِ فَلَيْسَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ.
ثُمَّ يَقُول: وَلَمْ يَقُل أَحَدٌ مِنَ أَهْل الْعِلْمِ: إِنَّهُ يَسْأَل اللَّهَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ لاَ بِنَبِيٍّ وَلاَ بِغَيْرِ نَبِيٍّ. وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَل عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ جَوَّزَ سُؤَال الرَّسُول أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ أَوْ نَقَل ذَلِكَ عَنْ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ - غَيْرِ مَالِكٍ - كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ (2) .
ثُمَّ يُقَرِّرُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ خِلاَفِيَّةٌ وَأَنَّ التَّكْفِيرَ فِيهَا حَرَامٌ وَإِثْمٌ.
__________
(1) حديث: " ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم. . . . " أخرجه أحمد (3 / 18 ط الميمنية) والحاكم (1 / 493 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) قاعدة جليلة ص64 - 66.(14/163)
وَيَقُول بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلاَفِ فِي الْمَسْأَلَةِ: وَلَمْ يَقُل أَحَدٌ: إِنَّ مَنْ قَال بِالْقَوْل الأَْوَّل فَقَدْ كَفَرَ، وَلاَ وَجْهَ لِتَكْفِيرِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ خَفِيَّةٌ لَيْسَتْ أَدِلَّتُهَا جَلِيَّةً ظَاهِرَةً، وَالْكُفْرُ إِنَّمَا يَكُونُ بِإِنْكَارِ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، أَوْ بِإِنْكَارِ الأَْحْكَامِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ. بَل الْمُكَفِّرُ بِمِثْل هَذِهِ الأُْمُورِ يَسْتَحِقُّ مِنْ غَلِيظِ الْعُقُوبَةِ وَالتَّعْزِيرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ أَمْثَالُهُ مِنَ الْمُفْتَرِينَ عَلَى الدِّينِ، لاَ سِيَّمَا مَعَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّمَا رَجُلٍ قَال لأَِخِيهِ: يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا (1) .
رَابِعًا: التَّوَسُّل بِالصَّالِحِينَ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ:
14 - لاَ يَخْرُجُ حُكْمُ التَّوَسُّل بِالصَّالِحِينَ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ عَمَّا سَبَقَ مِنَ الْخِلاَفِ فِي التَّوَسُّل بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
__________
(1) مجموعة فتاوى ابن تيمية 1 / 106. / 50 وحديث: " أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 514 - ط السلفية) ومسلم (1 / 79 - الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(2) وفاء الوفاء 4 / 1375 والمدخل 1 / 249 وتفسير روح المعاني 6 / 128، وتحفة الأحوذي 10 / 34 وتحفة الذاكرين للشوكاني (37) .(14/164)
تَوْسِعَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوْسِعَةُ وَالتَّوْسِيعُ: لُغَةً: مَصْدَرُ وَسَّعَ الشَّيْءَ أَيْ جَعَلَهُ وَاسِعًا، وَهِيَ ضِدُّ التَّضْيِيقِ، وَوَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ أَغْنَاهُ (1) .
وَالتَّوْسِعَةُ فِي الرِّزْقِ أَوِ النَّفَقَةِ وَالْبَسْطِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَفِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ، وَالْبَسْطَةُ: السِّعَةُ، وَبَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ: كَثَّرَهُ وَوَسَّعَهُ، وَ {كُل الْبَسْطِ (2) } كِنَايَةٌ عَنِ الإِْسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ (3) .
وَالتَّوْسِعَةُ غَيْرُ الإِْسْرَافِ،
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْسْرَافُ وَالتَّبْذِيرُ:
2 - الإِْسْرَافُ فِي اللُّغَةِ: التَّبْذِيرُ وَالإِْغْفَال وَالْخَطَأُ، وَقَال إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: مَا جَاوَزْتَ بِهِ أَمْرَ اللَّهِ فَهُوَ سَرَفٌ وَإِسْرَافٌ.
__________
(1) القاموس مادة: " وسع ".
(2) سورة الإسراء / 29.
(3) المصباح المنير.(14/164)
وَفِي مَعْنَى التَّبْذِيرِ قَال الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: التَّبْذِيرُ: إِنْفَاقُ الْمَال فِي غَيْرِ حَقِّهِ. وَلاَ تَبْذِيرَ فِي عَمَل الْخَيْرِ، وَهَذَا قَوْل الْجُمْهُورِ (1) .
وَقَال السُّدِّيُّ: {وَلاَ تُسْرِفُوا} وَلاَ تُعْطُوا أَمْوَالَكُمْ فَتَقْعُدُوا فُقَرَاءَ. فَالتَّوْسِعَةُ غَيْرُ الإِْسْرَافِ؛ لأَِنَّ التَّوْسِعَةَ مَحْمُودَةٌ لِعَدَمِ تَجَاوُزِ الْحَدِّ الشَّرْعِيِّ فِي قَدْرِ الإِْنْفَاقِ.
ب - الْقَصْدُ وَالاِقْتِصَادُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الْقَصْدِ وَالاِقْتِصَادِ التَّوَسُّطُ بَيْنَ الإِْسْرَافِ وَبَيْنَ التَّقْتِيرِ (2) ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ.
ج - التَّقْتِيرُ وَالإِْقْتَارُ:
4 - التَّقْتِيرُ وَالإِْقْتَارُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الإِْنْفَاقُ أَقَل مِنَ الْحَاجَةِ. قَال تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (3) } .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5 - التَّوْسِعَةُ فِي إِنْفَاقِ الْمُسْلِمِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى عِيَالِهِ سُنَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ
__________
(1) القرطبي 10 / 247، 248 ط كتاب الشعب.
(2) لسان العرب.
(3) سورة الفرقان / 67.(14/165)
الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ (1) } وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ (2) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ (3) .
وَيُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (4) } وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ (5) .
وَيُشْتَرَطُ فِي التَّوْسِعَةِ فِي الصَّدَقَةِ أَنْ تَكُونَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى. لِمَا رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فَقُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكِ فَهُوَ خَيْرٌ لَك (6) .
__________
(1) سورة الأعراف / 32.
(2) حديث: " إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " أخرجه الترمذي (5 / 124 - ط مصطفى الحلبي) وقال: هذا حديث حسن.
(3) حديث: " فإن الله إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه " أخرجه أحمد (3 / 473 - 474 ط المكتب الإسلامي) ، والترمذي (5 / 124 ط مصطفى الحلبي) بنحوه وقال: هذا حديث حسن.
(4) سورة الأعراف / 31.
(5) حديث: " كلوا واشربوا وألبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة " أخرجه أحمد في المسند (10 / 222 ط دار المعارف وصحح إسناده أحمد شاكر) .
(6) حديث: " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " أخرجه البخاري (3 / 294 ط السلفية) .(14/165)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُول وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى (1) .
الأَْوْقَاتُ الَّتِي يَتَأَكَّدُ فِيهَا التَّوْسِعَةُ:
أ - التَّوْسِعَةُ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ:
6 - تَتَأَكَّدُ مَشْرُوعِيَّةُ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْعِيَال فِي أَيَّامِ الأَْعْيَادِ بِأَنْوَاعِ مَا يَحْصُل بِهِ لَهُمْ بَسْطُ النَّفْسِ وَتَرْوِيحُ الْبَدَنِ مِنْ كَلَفِ الْعِبَادَةِ، كَمَا أَنَّ إِظْهَارَ السُّرُورِ فِي الأَْعْيَادِ شِعَارُ هَذَا الدِّينِ، وَاللَّعِبُ وَالزَّفْنُ فِي أَيَّامِ الْعِيدَيْنِ مُبَاحٌ، فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ، إِذَا كَانَ عَلَى النَّحْوِ الْوَارِدِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي لَعِبِ الْحَبَشَةِ بِالسِّلاَحِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَنَظَّفَ الْمَرْءُ وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ وَيَتَطَيَّبَ وَيَتَسَوَّكَ (2) .
وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَل عَلَيَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّل وَجْهَهُ، وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَال. مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَل عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال:
__________
(1) حديث: " اليد العليا خير. . . . " أخرجه البخاري (3 / 294 ط السلفية) .
(2) فتح الباري 5 / 116، والمحلي 5 / 92، والمغني 2 / 370، والأم 1 / 206.(14/166)
دَعْهُمَا. فَلَمَّا غَفَل غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا (1) . وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُل قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا، وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ فِيهِ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمَّا قَال: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ خَدِّي عَلَى خَدِّهِ وَهُوَ يَقُول: دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَال: حَسْبُكِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَال: فَاذْهَبِي (2) .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: وَجَدَ عُمَرُ حُلَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَخَذَهَا، فَأَتَى بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ فَتَجَمَّل بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوَفْدِ، فَقَال: إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ (3) . قَال فِي الْمُغْنِي: وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ التَّجَمُّل عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كَانَ مَشْهُورًا (4) .
__________
(1) حديث: " دعهما " فلما غفل غمزتهما فخرجتا. وفي رواية هشام " يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا " الرواية الأولى أخرجها البخاري (2 / 440 ط السلفية) والرواية الثانية أخرجها البخاري كذلك في (2 / 445 ط السلفية) ، وأخرجها مسلم (2 / 607، 608، 609 ط عيسى الحلبي) .
(2) فتح الباري 5 / 114 والحديث: " دونكم يا بني أرفده " أخرجه البخاري (2 / 440 ط السلفية) ومسلم (2 / 409 ط عيسى الحلبي) .
(3) حديث: " إنما هذه لباس من لا خلاق له " أخرجه البخاري (2 / 439 ط السلفيتة) .
(4) المغني 2 / 370.(14/166)
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّجَمُّل لِلْعِيدِ تَقْرِيرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرِ عَلَى أَصْل التَّجَمُّل لِلْعِيدِ وَقَصْرُ الإِْنْكَارِ عَلَى مَنْ لَبِسَ مِثْل تِلْكَ الْحُلَّةِ لِكَوْنِهَا كَانَتْ حَرِيرًا (1) .
وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْبَسُ بُرْدَ حِبَرَةً فِي كُل عِيدٍ (2) .
وَعَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدَ أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ (3) .
وَقَال مَالِكٌ: سَمِعْتُ أَهْل الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّونَ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ فِي كُل عِيدٍ، وَالإِْمَامُ بِذَلِكَ أَحَقُّ؛ لأَِنَّهُ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ إِلاَّ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْخُرُوجُ فِي ثِيَابِ اعْتِكَافِهِ لِيَبْقَى عَلَيْهِ أَثَرُ الْعِبَادَةِ وَالنُّسُكِ. وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ
__________
(1) نيل الأوطار 3 / 284.
(2) حديث: " كان يلبس برد حبرة في كل عيد " أخرجه الشافعي في كتابه الأم (1 / 233 ط دار المعرفة) ومن طريقه البيهقي (3 / 280 ط دار المعرفة) ورواه علي بن الحسين مرسلا (انظر جامع التحصيل (ص: 294 ط الدار العربية) .
(3) حديث: " ما على أحدكم إن وجد أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته " أخرجه أبو داود (1 / 650 ط عزت عبيد دعاس) وابن ماجه (1 / 348 ط عيسى الحلبي) ، وابن حبان (4 / 194 ط دار الكتب العلمية) وقال البوصيري: هذا إسناده صحيح رجاله ثقات، الزوائد (1 / 131 ط الدار العربية) وهو من حديث عائشة.(14/167)
الْمَرُّوذِيِّ: طَاوُسٍ كَانَ يَأْمُرُ بِزِينَةِ الثِّيَابِ، وَعَطَاءٌ قَال: هُوَ يَوْمُ التَّخَشُّعِ وَاسْتَحْسَنَهُمَا جَمِيعًا، وَذُكِرَ اسْتِحْبَابُ خُرُوجِهِ فِي ثِيَابِ اعْتِكَافِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ (1) .
وَمِنَ التَّوْسِعَةِ فِي الْعِيدَيْنِ، الأُْضْحِيَّةُ فِي عِيدِ الأَْضْحَى، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ.
ب - التَّوْسِعَةُ فِي رَمَضَانَ:
7 - تُسْتَحَبُّ التَّوْسِعَةُ فِي رَمَضَانَ فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَد النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَد مَا يَكُونُ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيل، وَكَانَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ يَلْقَاهُ كُل لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَجْوَد بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ (2) .
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قِيل يَا رَسُول اللَّهِ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَل؟ قَال: صَدَقَةُ رَمَضَانَ (3) . قَال فِي الْمَجْمُوعِ: قَال أَصْحَابُنَا:
__________
(1) المغني 3 / 370.
(2) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود. . . . " أخرجه البخاري (1 / 30 ط السلفية) .
(3) حديث: " قيل: يا رسول الله: فأي الصدقة أفضل قال: " صدقة في رمضان ". أخرجه الترمذي (3 / 52 ط مصطفى الحلبي) وقال: هذا حديث غريب، وصدقة بن موسى ليس عندهم بذاك القوى.(14/167)
وَالْجُودُ وَالإِْفْضَال مُسْتَحَبٌّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَفِي الْعَشْرِ الأَْوَاخِرِ أَفْضَل اقْتِدَاءً بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالسَّلَفِ؛ وَلأَِنَّهُ شَهْرٌ شَرِيفٌ فَالْحَسَنَةُ فِيهِ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهِ؛ وَلأَِنَّ النَّاسَ يَشْتَغِلُونَ فِيهِ بِصِيَامِهِمْ، وَزِيَادَةِ طَاعَتِهِمْ عَنِ الْمَكَاسِبِ، فَيَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى الْمُوَاسَاةِ (1) .
ج - التَّوْسِعَةُ فِي عَاشُورَاءَ:
8 - قَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ تُسْتَحَبُّ التَّوْسِعَةُ عَلَى الْعِيَال وَالأَْهْل فِي عَاشُورَاءَ (2) ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَوْسَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ (3) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي كِتَابِهِ " اقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَمُخَالَفةُ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ": وَقَدْ رُوِيَ فِي التَّوْسِعَةِ عَلَى الْعِيَال آثَارٌ مَعْرُوفَةٌ: أَعْلَى مَا فِيهَا حَدِيثُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ قَال: مَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ
__________
(1) فتح الباري 8 / 251.
(2) الترغيب والترهيب الجزء 2 / 77، والمدخل لابن الحاج 1 / 283 وما بعدها.
(3) حديث: " أبي سعيد: من وسع على أهله في يوم عاشوراء أوسع الله عليه سائر سنته كلها ". أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (المنهاج في شعب الإيمان للحليمي 2 / 394 ط دار الفكر) قال الهيثمي ورواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن إسماعيل الجعفري قال أبو حاتم منكر الحديث: المجمع 3 / 188 ط دار الكتاب العربي.(14/168)
وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَائِرَ سَنَتِهِ (1) " وَهَذَا بَلاَغٌ مُنْقَطِعٌ لاَ يُعْرَفُ قَائِلُهُ، ثُمَّ قَال: وَتَوْسِيعُ النَّفَقَاتِ فِيهِ هُوَ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ (2) .
د - التَّوْسِعَةُ فِي أَلْوَانِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ:
9 - أَحَل اللَّهُ الأَْكْل وَالشُّرْبَ مَا لَمْ يَكُنْ سَرَفًا أَوْ مَخِيلَةً، فَأَمَّا مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا سَدَّ الْجَوْعَةَ، وَسَكَّنَ الظَّمَأَ فَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ عَقْلاً وَشَرْعًا لِمَا فِيهِ مِنَ حِفْظِ النَّفْسِ وَحِرَاسَةِ الْحَوَاسِّ؛ وَلِذَلِكَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْوِصَال لأَِنَّهُ يُضْعِفُ الْجَسَدَ، وَيُمِيتُ النَّفْسَ، وَيُضْعِفُ الْعِبَادَةَ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ وَيَدْفَعُهُ الْعَقْل، وَلَيْسَ لِمَنْ مَنَعَ نَفْسَهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ حَظٌّ مِنْ بِرٍّ وَلاَ نَصِيبٌ مِنْ زُهْدٍ؛ لأَِنَّ مَا حَرَّمَهَا مِنْ فِعْل الطَّاعَةِ بِالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ أَكْثَرُ ثَوَابًا وَأَعْظَمُ أَجْرًا. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا (3) } .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الزَّائِدِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
__________
(1) حديث: عن عبد الله بن مسعود من وسع على أهله يوم عاشواء وسع الله عليه سائر سنته. قال الهيثمي (رواه الطبراني في الكبير وفيه الهيثم بن الشداخ وهو ضعيف جدا، المجمع 3 / 189 ط دار الكتاب العربي) .
(2) اقتضاء الطريق المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ص300.
(3) سورة الأعراف / 31.(14/168)
فَقِيل حَرَامٌ، وَقِيل مَكْرُوهٌ. قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. فَإِنَّ قَدْرَ الشِّبَعِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْبُلْدَانِ وَالأَْزْمَانِ وَالأَْسْنَانِ (الأَْعْمَارِ) وَالطُّعْمَانِ. ثُمَّ قِيل: فِي قِلَّةِ الأَْكْل مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الرَّجُل أَصَحّ جِسْمًا، وَأَجْوَد حِفْظًا، وَأَزْكَى فَهْمًا، وَأَقَل نَوْمًا، وَأَخَفّ نَفْسًا. وَالْكَثْرَةُ فِي الأَْكْل وَالشُّرْبِ تُثْقِل الْمَعِدَةَ، وَتُثْبِطُ الإِْنْسَانَ عَنْ خِدْمَةِ رَبِّهِ، وَالأَْخْذِ بِحَظِّهِ مِنْ نَوَافِل الْخَيْرِ. فَإِنْ تَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى مَا فَوْقَهُ مِمَّا يَمْنَعُهُ مِنَ الْقِيَامِ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ حَرُمَ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ أَسْرَفَ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ، رَوَى أَسَدُ بْنُ مُوسَى مِنْ حَدِيثِ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَال: أَكَلْتُ ثَرِيدًا بِلَحْمٍ سَمِينٍ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَتَجَشَّأُ، فَقَال: اُكْفُفْ عَلَيْكَ مِنْ جُشَائِكَ أَبَا جُحَيْفَةَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُوعًا (1) فَمَا أَكَل أَبُو جُحَيْفَةَ بِمِلْءِ بَطْنِهِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، وَكَانَ إِذَا تَغَدَّى لاَ يَتَعَشَّى، وَإِذَا تَعَشَّى لاَ يَتَغَدَّى. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: الْكَافِرُ يَأْكُل فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُل فِي مِعًى وَاحِدٍ (2) .
__________
(1) حديث: " كف من جشائك فإن أكثر الناس في الدنيا شبعا أكثرها يوم القيامة جوعا " أخرجه الحاكم (4 / 121 ط دار الكتاب العربي) ، تكلم الذهبي في اثنين من رواته بأن أحدهما كذاب والآخر هالك.
(2) حديث: " الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معي واحدة " أخرجه مسلم (3 / 1631 ط عيسى البابي) .(14/169)
وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنَ التَّامُّ الإِْيمَانُ لأَِنَّ مَنْ حَسُنَ إِسْلاَمُهُ وَكَمُل إِيمَانُهُ كَأَبِي جُحَيْفَةَ تَفَكَّرَ فِيمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمَوْتِ وَمَا بَعْدَهُ، فَيَمْنَعُهُ الْخَوْفُ وَالإِْشْفَاقُ مِنْ تِلْكَ الأَْهْوَال مِنِ اسْتِيفَاءِ شَهَوَاتِهِ (1) .
كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ لأَِبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ مَنْ كَثُرَ تَفَكُّرُهُ قَل طَعْمُهُ، وَمَنْ قَل تَفَكُّرُهُ كَثُرَ طَعْمُهُ وَقَسَا قَلْبُهُ (2) .
وَقَال فِي الْفَتْحِ تَعْلِيقًا عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا اطِّرَادُهُ فِي حَقِّ كُل مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، فَقَدْ يَكُونُ فِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَأْكُل كَثِيرًا إِمَّا بِحَسَبِ الْعَادَةِ، وَإِمَّا لِعَرَضٍ يَعْرِضُ لَهُ مِنْ مَرَضٍ بَاطِنٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ.
10 - وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَرْكِ الطَّيِّبَاتِ وَالإِْعْرَاضِ عَنِ اللَّذَّاتِ، فَقَال قَوْمٌ: لَيْسَ ذَلِكَ مِنَ القُرُبَاتِ، وَالْفِعْل وَالتَّرْكُ يَسْتَوِي فِي الْمُبَاحَاتِ. قَال آخَرُونَ: لَيْسَ قُرْبَةً فِي ذَاتِهِ وَإِنَّمَا هُوَ سَبِيلٌ إِلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَقَصْرُ الأَْمَل فِيهَا، وَتَرْكُ التَّكَلُّفِ لأَِجْلِهَا، وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَالْمَنْدُوبُ قُرْبَةٌ، وَنُقِل عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ: لَوْ شِئْنَا لاَتَّخَذْنَا صِلاَءً، وَصَلاَئِقَ، وَصِنَابًا، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَل يَذُمُّ أَقْوَامًا
__________
(1) القرطبي 7 / 194.
(2) حديث: " من كثر تفكره قل طعمه ومن قل تفكيره كثر طعمه وقسا قلبه " لم نعثر عليه في المصادر التي بين أيدينا من كتب الحديث.(14/169)
فَقَال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا (1) } .
وَيُرْوَى صَرَائِقُ بِالرَّاءِ وَهُمَا جَمِيعًا الْجَرَادِقُ، وَالصَّلاَئِقُ جَمْعُ صَلِيقَةٍ وَهِيَ اللَّحْمُ الْمَشْوِيُّ، وَالصِّلاَءُ بِكَسْرِ الصَّادِ وَالْمَدِّ الشِّوَاءُ، وَالصِّنَابُ الْخَرْدَل بِالزَّبِيبِ، وَفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ حُضُورِ ذَلِكَ كُلِّهِ بِكُلْفَةٍ وَبِغَيْرِ كُلْفَةٍ، قَال أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْفَضْل الْمَقْدِسِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ طَعَامٍ مِنْ أَجْل طِيبِهِ قَطُّ بَل كَانَ يَأْكُل الْحَلْوَى وَالْعَسَل (2) ، وَالْبِطِّيخَ وَالرُّطَبَ، وَإِنَّمَا يَكْرَهُ التَّكَلُّفَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَاغُل بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا عَنْ مُهِمَّاتِ الآْخِرَةِ (3) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ أَكْل الطَّيِّبَاتِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِيَّاكُمْ وَاللَّحْمَ، فَإِنَّ لَهُ ضَرَاوَةً كَضَرَاوَةِ الْخَمْرِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مِنَ عُمَرَ قَوْلٌ خَرَجَ عَلَى مَنْ خُشِيَ مِنْهُ إِيثَارُ التَّنَعُّمِ فِي الدُّنْيَا وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الشَّهَوَاتِ، وَشَقَاءُ النَّفْسِ مِنَ اللَّذَّاتِ، وَنِسْيَانُ الآْخِرَةِ، وَالإِْقْبَال عَلَى الدُّنْيَا؛ وَلِذَلِكَ كَانَ عُمَرُ يَكْتُبُ إِلَى عُمَّالِهِ: إِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ أَهْل الْعَجَمِ، وَاخْشَوْشِنُوا، وَلَمْ يُرِدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَحْرِيمَ شَيْءٍ أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَلاَ تَحْظِيرَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ
__________
(1) سورة الأحقاف / 20.
(2) حديث: " كان يحب الحلوى والعسل " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 557 ط السلفية) .
(3) القرطبي 7 / 191 وما بعدها.(14/170)
تَبَارَكَ اسْمُهُ، وَقَوْل اللَّهِ أَوْلَى مَا امْتَثَل وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ: قَال تَعَالَى: {قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ (1) } وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: سَيِّدُ الإِْدَامِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ اللَّحْمُ (2) وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُل الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ وَيَقُول: نَكْسِرُ حَرَّ هَذَا بِبَرْدِ هَذَا، وَبَرْدَ هَذَا بِحَرِّ هَذَا (3) .
وَالطِّبِّيخُ لُغَةٌ فِي الْبِطِّيخِ. وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَال: أَرَادَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أَنْ يَتَبَتَّل فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ أَجَازَ لَهُ ذَلِكَ لاَخْتَصَيْنَا (4) .
__________
(1) سورة الأعراف / 32.
(2) الحديث: " سيد الأدام في الدنيا والآخرة اللحم " قال الهيثمي: (رواه الطبراني في الأوسط وفيه سعيد بن بليته القطان ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات وفي بعضهم كلام لا يضر. . . . ا. هـ. مجمع الزوائد 5 / 35 ط. دار الكتاب العربي) وله شاهد عن ابن ماجه (2 / 109 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي الدرداء. وضعفه البوصيري في الزوائد (4 / 17 ط الدار العربية) .
(3) الحديث: " كان يأكل البطيخ بالرطب ويقول: نكسر حر هذا ببرد هذا وبرد هذا بحر هذا " أخرجه أبو داود (4 / 176 ط عزت عبيد الدعاس) ، والترمذي 4 / 280 ط مصطفى الحلبي) وحسنه. وكلاهما رواه من حديث عائشة.
(4) الحديث: " أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو أجاز له. . . " أخرجه الدارمي (2 / 133 ط دار الكتب العلمية) وأحمد (6 / 268 ط المكتب الإسلامي) مطولا واللفظ للأول، وقال الهيثمي (أسانيد أحمد رجالها ثقات المجمع 4 / 301 ط دار الكتاب العربي) .(14/170)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: قَال عُلَمَاؤُنَا: فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَل اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (1) } وَمَا شَابَهَ هَذِهِ الآْيَةَ وَالأَْحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي مَعْنَاهَا رَدٌّ عَلَى غُلاَةِ الزَّاهِدِينَ، وَعَلَى أَهْل الْبَطَالَةِ مِنَ الْمُتَصَوِّفِينَ؛ إِذْ كُل فَرِيقٍ مِنْهُمْ قَدْ عَدَل عَنْ طَرِيقِهِ وَحَادَ عَنْ تَحْقِيقِهِ (2) ، قَال الطَّبَرِيُّ: لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَحْرِيمُ شَيْءٍ مِمَّا أَحَل اللَّهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ طَيِّبَاتِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلاَبِسِ وَالْمُنَاكَحِ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ بِإِحْلاَل ذَلِكَ بِهَا بَعْضَ الْعَنَتِ وَالْمَشَقَّةِ؛ وَلِذَلِكَ رَدَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّبَتُّل عَلَى ابْنِ مَظْعُونٍ (3) فَثَبَتَ أَنَّهُ لاَ فَضْل فِي تَرْكِ شَيْءٍ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ، وَأَنَّ الْفَضْل وَالْبِرَّ إِنَّمَا هُوَ فِي فِعْل مَا نَدَبَ عِبَادَهُ إِلَيْهِ، وَعَمِل بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَنَّهُ لأُِمَّتِهِ وَاتَّبَعَهُ عَلَى مِنْهَاجِهِ الأَْئِمَّةُ الرَّاشِدُونَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَبَيَّنَ خَطَأُ مَنْ آثَرَ لُبْسَ الشَّعْرِ وَالصُّوفِ عَلَى لِبَاسِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ إِذَا قَدَرَ عَلَى لِبَاسِ ذَلِكَ مِنْ حِلِّهِ، وَآثَرَ أَكْل الْخَشِنِ مِنَ الطَّعَامِ وَتَرَكَ اللَّحْمَ وَغَيْرَهُ حَذَرًا مِنْ عَارِضِ الْحَاجَةِ إِلَى النِّسَاءِ.
قَال الطَّبَرِيُّ: فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْخَيْرَ فِي غَيْرِ
__________
(1) سورة المائدة / 87.
(2) القرطبي 6 / 259.
(3) حديث: " رد رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي مظعون " سبق تخريجه.(14/171)
الَّذِي قُلْنَا لِمَا فِي لِبَاسِ الْخَشِنِ وَأَكْلِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَى النَّفْسِ، وَصَرْفِ مَا فَضَل بَيْنَهُمَا مِنَ الْقِيمَةِ إِلَى أَهْل الْحَاجَةِ فَقَدْ ظَنَّ خَطَأً، وَذَلِكَ أَنَّ الأَْوْلَى بِالإِْنْسَانِ صَلاَحُ نَفْسِهِ وَعَوْنُهُ لَهَا عَلَى طَاعَةِ رَبِّهَا، وَلاَ شَيْءَ أَضَرُّ لِلْجِسْمِ مِنَ الْمَطَاعِمِ الرَّدِيئَةِ؛ لأَِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِعَقْلِهِ وَمُضْعِفَةٌ لأَِدَوَاتِهِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ سَبَبًا إِلَى طَاعَتِهِ.
وَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، فَقَال: لِي جَارٌ لاَ يَأْكُل الْفَالُوذَجَ فَقَال: وَلِمَ؟ قَال: لاَ يُؤَدِّي شُكْرَهُ، فَقَال الْحَسَنُ: أَفَيَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ؟ فَقَال: نَعَمْ، فَقَال: إِنَّ جَارَك جَاهِلٌ، فَإِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ أَكْثَرُ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ فِي الْفَالُوذَجِ (1) .
قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَمَا شَهْوَةُ الأَْشْيَاءِ اللَّذَّةُ وَمُنَازَعَةُ النَّفْسِ إِلَى طَلَبِ الأَْنْوَاعِ الشَّهِيَّةِ، فَمَذَاهِبُ النَّاسِ فِي تَمْكِينِ النَّفْسِ مِنْهَا مُخْتَلِفَةٌ. فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى صَرْفَ النَّفْسِ عَنْهَا وَقَهْرَهَا عَنِ اتِّبَاعِ شَهَوَاتِهَا أَحْرَى لِيُذِل قِيَادَهَا وَيَهُونَ عَلَيْهِ عِنَادُهَا، فَإِنَّهُ إِذَا أَعْطَاهَا الْمُرَادَ يَصِيرُ أَسِيرَ شَهَوَاتِهِ وَمُنْقَادًا بِانْقِيَادِهَا.
وَقَال آخَرُونَ: تَمْكِينُ النَّفْسِ مِنْ لَذَّاتِهَا أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنِ ارْتِيَاحِهَا وَنَشَاطِهَا بِإِدْرَاكِ إِرَادَتِهَا. وَقَال آخَرُونَ: بَل التَّوَسُّطُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى لأَِنَّ فِي عَطَائِهَا ذَلِكَ مَرَّةً وَمَنْعِهَا أُخْرَى جَمْعًا بَيْنَ
__________
(1) القرطبي - سورة المائدة 6 / 259.(14/171)
الأَْمْرَيْنِ، وَذَلِكَ النِّصْفُ مِنْ غَيْرِ شَيْنٍ.
قَال جَابِرٌ: اشْتَهَى أَهْلِي لَحْمًا فَاشْتَرَيْتُهُ لَهُمْ، فَمَرَرْتُ بِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَال مَا هَذَا يَا جَابِرُ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَال: أَوَكُلَّمَا اشْتَهَى أَحَدُكُمْ شَيْئًا جَعَلَهُ فِي بَطْنِهِ؟ ، أَمَا يَخْشَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْل هَذِهِ الآْيَةِ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا (1) } .
قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا عِتَابٌ مِنْهُ لَهُ عَلَى التَّوَسُّعِ بِابْتِيَاعِ اللَّحْمِ وَالْخُرُوجِ عَنْ جِلْفِ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ، فَإِنَّ تَعَاطِيَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْحَلاَل تَسْتَشْرِهُ لَهَا الطِّبَاعُ وَتَسْتَمْرِئُهَا الْعَادَةُ، فَإِذَا فَقَدَتْهَا اسْتَسْهَلَتْ فِي تَحْصِيلِهَا بِالشُّبُهَاتِ، حَتَّى تَقَعَ فِي الْحَرَامِ الْمَحْضِ بِغَلَبَةِ الْعَادَةِ، وَاسْتَشْرَاهِ الْهَوَى عَلَى النَّفْسِ الأَْمَّارَةِ بِالسُّوءِ، فَأَخَذَ عُمَرُ الأَْمْرَ مِنْ أَوَّلِهِ وَحَمَاهُ مِنِ ابْتِدَائِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ.
وَاَلَّذِي يَضْبِطُ هَذَا الْبَابَ وَيَحْفَظُ قَانُونَهُ أَنَّ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَأْكُل مَا وَجَدَ طَيِّبًا كَانَ أَوْ قِفَارًا (أَيْ بِلاَ إِدَامٍ) ، وَلاَ يَتَكَلَّفُ الطَّيِّبَ وَيَتَّخِذُهُ عَادَةً، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُل الْحَلْوَى إِذَا قَدَرَ عَلَيْهَا وَيَشْرَبُ الْعَسَل إِذَا اتَّفَقَ لَهُ، وَيَأْكُل اللَّحْمَ إِذَا تَيَسَّرَ وَلاَ يَعْتَمِدُهُ أَصْلاً، وَلاَ يَجْعَلُهُ دَيْدَنًا، وَمَعِيشَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومَةٌ، وَطَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ مَنْقُولَةٌ، فَأَمَّا الْيَوْمَ عِنْدَ اسْتِيلاَءِ الْحَرَامِ، وَفَسَادِ الْحُطَامِ، فَالْخَلاَصُ عَسِيرٌ، وَاَللَّهُ يَهَبُ الإِْخْلاَصَ، وَيُعِينُ عَلَى الْخَلاَصِ بِرَحْمَتِهِ.
__________
(1) سورة الأحقاف / 20.(14/172)
وَقِيل: فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ (1) } الآْيَةَ: وَاقِعٌ عَلَى تَرْكِ الشُّكْرِ لاَ عَلَى تَنَاوُل الطَّيِّبَاتِ الْمُحَلَّلَةِ، وَهُوَ حَسَنٌ، فَإِنَّ تَنَاوُل الطَّيِّبِ الْحَلاَل مَأْذُونٌ فِيهِ، فَإِذَا تَرَكَ الشُّكْرَ عَلَيْهِ، وَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى مَا لاَ يَحِل لَهُ فَقَدْ أَذْهَبَهُ (2) .
هـ - التَّوْسِعَةُ فِي اللِّبَاسِ:
11 - يُسْتَحَبُّ لُبْسُ الثَّوْبِ الْحَسَنِ، وَالنَّعْل الْحَسَنِ، وَتَخَيُّرُ اللِّبَاسِ الْجَمِيل؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَدْخُل الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَال ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، فَقَال رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُل يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَال: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَال، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ (3) .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ (4) .
قَال الشَّوْكَانِيُّ: وَلاَ شَكَّ أَنَّ لُبْسَ مَا فِيهِ جَمَالٌ زَائِدٌ مِنَ الثِّيَابِ يَجْذِبُ بَعْضَ الطِّبَاعِ إِلَى الزَّهْوِ وَالْخُيَلاَءِ وَالْكِبْرِ، وَقَدْ كَانَ هَدْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَال
__________
(1) سورة الأحقاف 20
(2) القرطبي 16 / 202 - 203.
(3) الحديث: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثال ذرة من كبر ". أخرجه مسلم (1 / 93 ط عيسى الحلبي) .
(4) الحديث: " إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " سبق تخريجه ف / 5.(14/172)
الْحَافِظُ ابْنُ الْقَيِّمِ - أَنْ يَلْبَسَ مَا تَيَسَّرَ مِنَ اللِّبَاسِ، الصُّوفَ تَارَةً، وَالْقُطْنَ أُخْرَى، وَالْكَتَّانَ تَارَةً، وَلَبِسَ الْبُرُودَ الْيَمَانِيَّةَ، وَالْبُرُدَ الأَْخْضَرَ، وَلَبِسَ الْجُبَّةَ، وَالْقَبَاءَ، وَالْقَمِيصَ، إِلَى أَنْ قَال: فَاَلَّذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَمَّا أَبَاحَ اللَّهُ مِنَ الْمَلاَبِسِ وَالْمَطَاعِمِ وَالْمُنَاكَحِ تَزَهُّدًا وَتَعَبُّدًا بِإِزَائِهِمْ طَائِفَةٌ قَابِلُوهُمْ فَلاَ يَلْبَسُونَ إِلاَّ أَشْرَفَ الثِّيَابِ، وَلَمْ يَأْكُلُوا إِلاَّ أَطْيَبَ وَأَلْيَنَ الطَّعَامِ، وَكِلاَ الطَّائِفَتَيْنِ هَدْيُهُ مُخَالِفٌ لِهَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلِهَذَا قَال بَعْضُ السَّلَفِ: كَانُوا يَكْرَهُونَ الشُّهْرَتَيْنِ مِنَ الثِّيَابِ الْعَالِيَ وَالْمُنْخَفِضَ، وَفِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَلْهَبَ فِيهِ النَّارَ (1) " وَهَذَا لأَِنَّهُ قَصَدَ بِهِ الاِخْتِيَال وَالْفَخْرَ فَعَاقَبَهُ اللَّهُ بِنَقِيضِ ذَلِكَ. إِلَى آخِرِ كَلاَمِهِ (2) .
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: اعْلَمْ أَنَّ الْكِسْوَةَ فِيهَا فَرْضٌ: وَهُوَ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَيَدْفَعُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، وَالأَْوْلَى كَوْنُهُ مِنَ الْقُطْنِ، أَوِ الْكَتَّانِ، أَوِ الصُّوفِ عَلَى وِفَاقِ السُّنَّةِ بِأَنْ يَكُونَ ذَيْلُهُ لِنِصْفِ سَاقِهِ
__________
(1) الحديث: " من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ثم ألهب فيه نارا " أخرجه أبو داود (4 / 314 ط عزت عبيد الدعاس) وابن ماجه (2 / 1192 ط عيسى الحلبي) وحسنه البوصيري في الزوائد (4 / 90 ط الدار العربية) .
(2) نيل الأوطار 2 / 112، وزاد المعاد 1 / 36، 37.(14/173)
وَكُمُّهُ لِرُءُوسِ أَصَابِعِهِ، وَفَمُهُ قَدْرَ شِبْرٍ، كَمَا فِي " النُّتَفِ " بَيْنَ النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ إِذْ خَيْرُ الأُْمُورِ أَوْسَاطُهَا؛ وَلِلنَّهْيِ عَنِ الشُّهْرَتَيْنِ وَهُوَ مَا كَانَ فِي نِهَايَةِ النَّفَاسَةِ وَالْخَسَاسَةِ.
وَمُسْتَحَبٌّ: وَهُوَ الزَّائِدُ لأَِخْذِ الزِّينَةِ وَإِظْهَارِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. قَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ (1) . وَمُبَاحٌ: وَهُوَ الثَّوْبُ الْجَمِيل لِلتَّزَيُّنِ فِي الأَْعْيَادِ وَالْجُمَعِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ لاَ فِي جَمِيعِ الأَْوْقَاتِ لأَِنَّهُ صَلَفٌ وَخُيَلاَءُ، وَرُبَّمَا يَغِيظُ الْمُحْتَاجِينَ فَالتَّحَرُّزُ عَنْهُ أَوْلَى، وَمَكْرُوهٌ: وَهُوَ اللُّبْسُ لِلتَّكَبُّرِ. ثُمَّ قَال: وَفِي الْهِنْدِيَّةِ عَنِ السِّرَاجِيَّةِ: لُبْسُ الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ مُبَاحٌ إِذَا لَمْ يَتَكَبَّرْ، وَتَفْسِيرُهُ: أَنْ يَكُونَ مَعَهَا كَمَا كَانَ قَبْلَهَا (2) .
و التَّوسِعَةُ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ:
12 - حَضَّ الشَّارِعُ عَلَى بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ. قَال تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ (3) } قَال مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: تُعْلَى وَتُبْنَى، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيل (4) } وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَال:
__________
(1) الحديث: " إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " سبق تخريجه ف / 5.
(2) حاشية ابن عابدين 6 / 351.
(3) سورة النور / 36.
(4) سورة البقرة / 127.(14/173)
سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ (1) وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ تَحُضُّ عَلَى بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ.
ز - تَشْيِيدُ الْمَسَاجِدِ وَزَخْرَفَتُهَا:
13 - قَال الْبَغَوِيّ: التَّشْيِيدُ: رَفْعُ الْبِنَاءِ وَتَطْوِيلُهُ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (2) وَهِيَ الَّتِي طُوِّل بِنَاؤُهَا، وَقِيل الْمُرَادُ بِالْبُرُوجِ الْمُشَيَّدَةِ، الْمُجَصَّصَةُ، وَالزَّخْرَفَةُ، الزِّينَةُ. (3)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الزَّخْرَفَةِ، فَكَرِهَهَا قَوْمٌ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ، بَل قَال الأَْذْرَعِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَال لاَ سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِنَ مَال الْمَسْجِدِ. وَأَبَاحَهَا آخَرُونَ، فَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ وَقَتَادَةَ كِلاَهُمَا عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ (4) وَقَال أَنَسٌ: يَتَبَاهُونَ بِهَا ثُمَّ لاَ يُعَمِّرُونَهَا إِلاَّ قَلِيلاً.
__________
(1) الحديث: " من بنى لله مسجدا بنى الله له مثله في الجنة ". أخرجه مسلم (1 387 ط عيسى الحلبي) وابن ماجه (1 243 ط عيسى الحلبي) واللفظ لابن ماجه وهو من حديث عثمان بن عثمان.
(2) سورة النساء / 78
(3) المجموع 2 / 180، ونيل الأوطار جزء 2 / 150
(4) الحديث: " لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد " أخرجه أحمد (3 / 134 ط المكتب الإسلامي) وأبو داود (1 / 1361 ط عزت عبيد الدعاس وصححه السيوطي وأقره المناوي (فيض القدير 6 / 417 ط المكتبة التجارية)(14/174)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. (1)
وَقَال أَبُو سَعِيدٍ: كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْل، وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَقَال: أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ.
قَال ابْنُ بِطَالٍ: كَأَنَّ عُمَرَ فَهِمَ ذَلِكَ مِنْ رَدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَمِيصَةَ إِلَى أَبِي جَهْمٍ مِنْ أَجْل الأَْعْلاَمِ الَّتِي فِيهَا وَقَال: إِنَّهَا أَلْهَتْنِي عَنْ صَلاَتِي (2) .
وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَ ذَلِكَ بِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمَ الْمَسَاجِدِ، وَاَللَّهُ أَمَرَ بِتَعْظِيمِهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} (3) يَعْنِي تُعَظَّمَ، وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ بَنَى مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) الحديث: " ما أمرت بتشييد المساجد " أخرجه أبو داود (1 / 310 ط عزت عبيد الدعاس) وابن حبان في صحيحه (3 / 70 ط دار الكتب العلمية، وحسنه عبد القادر الأرناؤوط (جامع الأصول 11 / 309 ط مكتبة دار البيان)
(2) حديث: " اذهبوا. . . . " رواه مسلم عن عائشة ولفظه قالت: " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في قميصة ذات أعلام فنظر إلى علمها فلما قضى صلاته قال: اذهبوا بهذه الخميصة إلى أبي جهم بن حذيفة وائتوني بأنبجائية فإنها ألهتني آنفا في صلاتي "
(3) سورة النور / 36(14/174)
بِالسَّاجِ وَحَسَّنَهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ نَقَشَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَالَغَ فِي عِمَارَتِهِ وَتَزْيِينِهِ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ وِلاَيَتِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ قَبْل خِلاَفَتِهِ، وَذُكِرَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَنْفَقَ فِي عِمَارَةِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ وَفِي تَزْيِينِهِ مِثْل خَرَاجِ الشَّامِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَرُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بَنَى مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبَالَغَ فِي تَزْيِينِهِ. (1)
قَال فِي الْفَتْحِ: وَأَوَّل مَنْ زَخْرَفَ الْمَسَاجِدَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فِي أَوَاخِرِ عَهْدِ الصَّحَابَةِ، وَسَكَتَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَنْ إِنْكَارِ ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ، وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيل التَّعْظِيمِ لِلْمَسَاجِدِ، وَلَمْ يَقَعِ الصَّرْفُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَال، وَقَال ابْنُ الْمُنِيرِ: لَمَّا شَيَّدَ النَّاسُ بُيُوتَهُمْ وَزَخْرَفُوهَا نَاسَبَ أَنْ نَصْنَعَ ذَلِكَ بِالْمَسَاجِدِ صَوْنًا لَهَا عَنِ الاِسْتِهَانَةِ. (2)
ح - تَطْيِيبُ الْمَسَاجِدِ:
14 - تَطْيِيبُ الْمَسَاجِدِ مَشْرُوعٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. قَال الزَّرْكَشِيُّ: يُسْتَحَبُّ تَجْمِيرُ (3) الْمَسْجِدِ بِالْبَخُورِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُجَمِّرِ يُجَمِّرُ الْمَسْجِدَ
__________
(1) القرطبي 12 / 266 - 267
(2) فتح الباري الجزء 3 / 109، ونيل الأوطار 2 / 150
(3) تجمير المسجد / تبخيره بالطيب(14/175)
إِذَا قَعَدَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَنْكَرَ مَالِكٌ تَجْمِيرَ الْمَسَاجِدِ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ السَّلَفِ تَخْلِيقَ (1) الْمَسَاجِدِ بِالزَّعْفَرَانِ وَالطِّيبِ، وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلُهُ، وَقَال الشَّعْبِيُّ: هُوَ سُنَّةٌ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمَّا بَنَى الْكَعْبَةَ طَلاَ حِيطَانَهَا بِالْمِسْكِ (2) .
ط - التَّوسِعَةُ فِي الْمَسْكَنِ:
15 - أَجَازَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْبِنَاءَ الرَّفِيعَ كَالْقُصُورِ وَنَحْوِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَْرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَال بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَْرْضِ مُفْسِدِينَ} (3)
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (4) ذُكِرَ أَنَّ ابْنًا لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ بَنَى دَارًا وَأَنْفَقَ فِيهَا مَالاً كَثِيرًا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَقَال: مَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يَبْنِيَ الرَّجُل بِنَاءً يَنْفَعُهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَال: إِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ (5) .
__________
(1) تطييبها بالخلوق
(2) أعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي ص338.
(3) سورة الأعراف / 74
(4) سورة الأعراف / 32
(5) الحديث: " إذا أنعم الله على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه ". سبق تخريجه ف / 5(14/175)
وَمِنْ آثَارِ النِّعْمَةِ الْبِنَاءُ الْحَسَنُ وَالثِّيَابُ الْحَسَنَةُ. وَكَرِهَ ذَلِكَ آخَرُونَ مِنْهُمْ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ. (1)
__________
(1) تفسير القرطبي 7 / 239(14/176)
تَوَقُّفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوَقُّفُ فِي اللُّغَةِ: التَّلَوُّمُ وَالتَّلَبُّثُ وَالتَّمَكُّثُ. يُقَال: تَوَقَّفَ عَنِ الأَْمْرِ إِذَا أَمْسَكَ عَنْهُ وَامْتَنَعَ وَكَفَّ. وَتَوَقَّفَ فِي الأَْمْرِ تَمَكَّثَ وَانْتَظَرَ وَلَمْ يُمْضِ فِيهِ رَأْيًا. (1)
وَاسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ وَالأُْصُولِيُّونَ التَّوَقُّفَ بِمَعْنَى عَدَمِ إِبْدَاءِ قَوْلٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الاِجْتِهَادِيَّةِ لِعَدَمِ ظُهُورِ وَجْهِ الصَّوَابِ فِيهَا لِلْمُجْتَهِدِ. (2)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
أَوَّلاً: التَّوَقُّفُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ:
بَحَثَ الأُْصُولِيُّونَ التَّوَقُّفَ فِي مَسَائِل، مِنْهَا:
أ - التَّوَقُّفُ بَعْدَ نَسْخِ الْوُجُوبِ:
2 - اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الأُْصُول عَلَى أَنَّهُ إِذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ بِنَصٍّ دَالٍّ عَلَى الْجَوَازِ، كَنَسْخِ وُجُوبِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَوْ دَالٍّ عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ كَنَسْخِ
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب، وتاج العروس ومتن اللغة والمعجم الوسيط مادة: " وقف "
(2) ابن عابدين 3 / 108، 109، ومسلم الثبوت 1 / 103،267(14/176)
التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، يُعْمَل بِمُقْتَضَى النَّصِّ النَّاسِخِ مِنَ الْجَوَازِ أَوِ التَّحْرِيمِ:
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ مِنْ غَيْرِ إِبَانَةِ الْجَوَازِ أَوِ التَّحْرِيمِ: فَقَال الْحَنَفِيَّةُ: حُكْمُهُ التَّوَقُّفُ إِلَى قِيَامِ دَلِيلٍ آخَرَ عَلَى الْجَوَازِ أَوِ التَّحْرِيمِ؛ لأَِنَّ دَلِيل الْجَوَازِ الْمُقَارِنَ لِلْحَرَجِ فِي التَّرْكِ - وَهُوَ مَعْنَى الْوُجُوبِ - زَال بِالنَّسْخِ، فَلاَ يَبْقَى دَلِيلٌ لِلْجَوَازِ أَوْ عَدَمِ الْجَوَازِ، فَنَتَوَقَّفُ إِلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى أَحَدِ الأَْمْرَيْنِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ مِنْ غَيْرِ إِبَانَةِ الْجَوَازِ وَالتَّحْرِيمِ بَقِيَ الْجَوَازُ بِالنَّصِّ الْمَنْسُوخِ؛ لأَِنَّ الْوُجُوبَ يَتَضَمَّنُ الْجَوَازَ، فَإِنَّهُ جَوَازٌ مَعَ الْحَرَجِ فِي التَّرْكِ، وَالنَّاسِخُ لاَ يُنَافِيهِ، فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْجَوَازِ وَانْتَفَى الْحَرَجُ فِي التَّرْكِ. (1)
ب - التَّوَقُّفُ عَنِ الْعَمَل بِالْعَامِّ قَبْل الْبَحْثِ عَنِ الْمُخَصِّصِ:
3 - قَال بَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ مِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ يَجُوزُ الْعَمَل بِالْعَامِّ قَبْل الْبَحْثِ عَنِ الْمُخَصِّصِ؛ لأَِنَّ الْعَامَّ قَطْعِيُّ الدَّلاَلَةِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ الْحُكْمُ قَطْعًا، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى عَدَمِ احْتِمَال
__________
(1) مسلم الثبوت مع المستصفى 1 / 103، 104.(14/177)
الْمُعَارِضِ، كَمَا لاَ يَتَوَقَّفُ حُكْمُ الْخَاصِّ عَلَى عَدَمِ احْتِمَال النَّسْخِ وَالتَّأْوِيل.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَكَمَ بِالدِّيَةِ فِي الأَْصَابِعِ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ بِكِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَتَرَكَ الْقِيَاسَ وَالرَّأْيَ، وَلَمْ يَبْحَثْ عَنِ الْمُخَصِّصِ. وَلَمْ يُنْقَل عَنْ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَطُّ التَّوَقُّفُ فِي الْعَامِّ إِلَى الْبَحْثِ عَنِ الْمُخَصِّصِ، وَلاَ إِنْكَارُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَنْ تَمَسَّكَ بِالْعَامِّ قَبْل الْبَحْثِ عَنِ الْمُخَصِّصِ.
وَقَال بَعْضُهُمْ بِالتَّوَقُّفِ عَنِ الْعَمَل بِالْعَامِّ قَبْل الْبَحْثِ عَنِ الْمُخَصِّصِ؛ لأَِنَّ كُل عَامٍّ يَحْتَمِل التَّخْصِيصَ، وَلاَ حُجَّةَ مَعَ الاِحْتِمَال الْمُعَارِضِ.
هَذَا وَقَدْ وَفَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الرَّأْيَيْنِ فَقَال: " إِنَّ الْعَامِّيَّ يَلْزَمُهُ الْعَمَل بِعُمُومِ الْعَامِّ كَمَا سَمِعَ، وَأَمَّا الْفَقِيهُ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ فَيَقِفُ سَاعَةً لاِسْتِكْشَافِ هَذَا الاِحْتِمَال بِالنَّظَرِ فِي الأَْشْبَاهِ مَعَ كَوْنِهِ حُجَّةً لِلْعَمَل بِهِ إِنْ عَمِل، لَكِنْ يَقِفُ احْتِيَاطًا حَتَّى لاَ يَحْتَاجَ إِلَى نَقْضِ مَا أَمْضَاهُ ". (1)
ج - التَّوَقُّفُ فِي أَنَّ الأَْمْرَ لِلْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي:
4 - صَرَّحَ بَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ مِنْهُمُ الْجُوَيْنِيُّ بِأَنَّ
__________
(1) مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت بذيل المستصفى 1 / 267(14/177)
الأَْمْرَ الْمُطْلَقَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي فَيَتَوَقَّفُ فِيهِ إِلَى ظُهُورِ الدَّلاَئِل، وَمَعْنَى التَّوَقُّفِ أَنَّا لاَ نَدْرِي أَنَّ أَوَّل الْوَقْتِ يَتَعَيَّنُ لِلاِمْتِثَال فَيَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ، أَوْ يَسُوغُ لِلْمُكَلَّفِ أَدَاءُ الْوَاجِبِ فِي أَوَّل الْوَقْتِ أَوْ آخِرِهِ فَلاَ يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ. (1)
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
ثَانِيًا: التَّوَقُّفُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
بَحَثَ الْفُقَهَاءُ التَّوَقُّفَ فِي مَسَائِل، مِنْهَا:
أ - تَوَقُّفُ الْخَصْمِ عَنْ جَوَابِ الدَّعْوَى أَوْ عَنْ حَلِفِ الْيَمِينِ:
5 - إِنْ تَوَقَّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ جَوَابِ الدَّعْوَى لِلتَّرَوِّي أَوْ عَنْ حَلِفِ الْيَمِينِ إِذَا تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ لاَ يُعْتَبَرُ نُكُولاً مَا لَمْ يَحْكُمُ الْقَاضِي بِنُكُولِهِ. (2)
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (دَعْوَى، نُكُولٌ) .
ب - تَوَقُّفُ الْقَاضِي عَنِ الْحُكْمِ:
6 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ بِأَنَّهُ إِذَا رَجَعَ الشُّهُودُ عَنِ الشَّهَادَةِ قَبْل الْحُكْمِ
__________
(1) إرشاد الفحول ص100، 101، وشرح البدخشي مع حاشية الأسنوي 2 / 44 - 47
(2) ابن عابدين 4 / 424، وتبصرة الحكام 1 / 273، وبلغة السالك 4 / 319، ونهاية المحتاج 8 / 336، والمغني 9 / 235(14/178)
امْتَنَعَ الْحُكْمُ بِهَا، وَلاَ تُقْبَل لَوْ أَعَادُوهَا. (1) أَمَّا إِذَا سَأَلُوا الْحَاكِمَ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَنِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّوَقُّفُ، ثُمَّ إِذَا قَالُوا لَهُ: اُحْكُمْ فَلَهُ الْحُكْمُ إِنْ أَعَادُوا الشَّهَادَةَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبِغَيْرِ إِعَادَةٍ لَهَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. (2)
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا أَشْكَل الْحُكْمُ عَلَى الْحَاكِمِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ وَلاَ يَحْكُمُ، وَكَذَلِكَ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مَتَى أَوْقَعَ الْحُكْمَ تَفَاقَمَ الأَْمْرُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ وَعَظُمَ الأَْمْرُ وَخُشِيَتِ الْفِتْنَةُ. (3)
وَتَفْصِيل هَذِهِ الْمَسَائِل وَالْخِلاَفِ فِيهَا فِي مُصْطَلَحِ: (دَعْوَى، شَهَادَةٌ، قَضَاءٌ) .
ج - تَوَقُّفُ أَثَرِ الْعَقْدِ:
7 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْعَقْدَ قَدْ يَكُونُ مُنْعَقِدًا لَكِنْ يَتَوَقَّفُ أَثَرُهُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ، كَالْقَبْضِ أَوِ الإِْجَازَةِ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ - وَهُوَ مَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ لاَ بِوَصْفِهِ - بَيْعٌ حَقِيقَةً وَمُنْعَقِدٌ وَإِنْ تَوَقَّفَ حُكْمُهُ أَيِ الْمِلْكِ عَلَى الْقَبْضِ. (4)
__________
(1) ابن عابدين 4 / 396، وجواهر الإكليل 2 / 245، 246، والقليوبي 4 / 332، وكشاف القناع 6 / 442
(2) القليوبي 4 / 332، ونهاية المحتاج 8 / 310، وكشاف القناع 6 / 442
(3) التاج والإكليل بهامش الحطاب 6 / 133
(4) ابن عابدين 4 / 4، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 44، وفتح القدير 1 / 43(14/178)
وَالْبَيْعُ الْمَوْقُوفَ - وَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، كَبَيْعِ الصَّبِيِّ وَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ عَقْدٌ صَحِيحٌ يُفِيدُ الْحُكْمَ بِلاَ تَوَقُّفٍ عَلَى الْقَبْضِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) ، لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الإِْجَازَةِ، (1) كَمَا فُصِّل فِي مُصْطَلَحِ: (الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ) .
د - التَّوَقُّفُ فِي الْفَتْوَى:
8 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي آدَابِ الْفَتْوَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يَتَأَمَّل فِي الْمَسْأَلَةِ تَأَمُّلاً شَافِيًا، وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ حُكْمَهَا يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابُ، وَيَكُونَ تَوَقُّفُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّهْلَةِ الَّتِي لاَ يَعْلَمُ حُكْمَهَا كَالصَّعْبَةِ لِيَعْتَادَهُ. (2)
وَلاَ يَجُوزُ التَّسَاهُل فِي الْفَتْوَى، كَأَنْ يَتَسَرَّعَ وَلاَ يَتَثَبَّتَ فِي الْفَتْوَى قَبْل اسْتِيفَاءِ حَقِّهَا مِنَ النَّظَرِ وَالْفِكْرِ. قَال الْحَطَّابُ: مَنْ عُرِفَ بِالتَّسَاهُل فِي الْفَتْوَى لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَفْتَى، وَرُبَّمَا يَكُونُ التَّسَاهُل بِإِسْرَاعِهِ وَعَدَمِ تَثَبُّتِهِ، وَقَدْ يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ تَوَهُّمُهُ أَنَّ السُّرْعَةَ بَرَاعَةٌ، وَالْبُطْءَ عَجْزٌ؛ وَلأََنْ يُبْطِئَ وَلاَ يُخْطِئَ أَجْمَل بِهِ مِنْ أَنْ يَضِل وَيُضِل. (3)
وَقَدْ رَوَى النَّوَوِيُّ عَنِ السَّلَفِ وَفُضَلاَءِ الْخَلَفِ التَّوَقُّفَ عَنِ الْفُتْيَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِل،
__________
(1) البدائع 5 / 148، والدسوقي 3 / 10، ومغني المحتاج 2 / 15، والمغني مع الشرح 4 / 274
(2) المجموع النووي 1 / 48، 49
(3) مواهب الجليل للحطاب 1 / 32(14/179)
كَمَا نُقِل عَنِ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ تَوَقَّفُوا عَنِ الإِْجَابَةِ فِي مَسَائِل كَثِيرَةٍ. (1)
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ لِكُل مُفْتٍ أَنْ لاَ يَسْتَنْكِفَ مِنَ التَّوَقُّفِ فِيمَا لاَ وُقُوفَ لَهُ عَلَيْهِ، إِذِ الْمُجَازَفَةُ افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَحْرِيمِ الْحَلاَل وَضِدِّهِ ". (2)
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (فَتْوَى) .
تَوْقِيتٌ
اُنْظُرْ: تَأْقِيتِ.
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 48، 49، 50
(2) ابن عابدين 1 / 108، 109، والمراجع السابقة.(14/179)
تَوْقِيفٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوْقِيفُ مَصْدَرُ وَقَّفَ بِالتَّشْدِيدِ
وَالتَّوْقِيفُ: الاِطِّلاَعُ عَلَى الشَّيْءِ، يُقَال: وَقَفْتُهُ عَلَى ذَنْبِهِ: أَطْلَعْتُهُ عَلَيْهِ، وَوَقَّفْتُ الْقَارِئَ تَوْقِيفًا: إِذَا أَعْلَمْتُهُ مَوَاضِعَ الْوُقُوفِ.
وَتَوْقِيفُ النَّاسِ فِي الْحَجِّ: وُقُوفُهُمْ بِالْمَوَاقِفِ.
وَالتَّوْقِيفُ كَالنَّصِّ (نَصُّ الشَّارِعِ الْمُتَعَلِّقُ بِبَعْضِ الأُْمُورِ) يُقَال: أَسْمَاءُ اللَّهِ تَوْقِيفِيَّةٌ. (1)
وَيُسْتَعْمَل التَّوْقِيفُ أَيْضًا بِمَعْنَى مَنْعِ التَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَمَّا وَرَدَ فِي اللُّغَةِ. (2)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - التَّوْقِيفُ فِي إِثْبَاتِ الأَْسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى.
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير، ومختار الصحاح، والمغرب وترتيب القاموس المحيط والمعجم الوسيط مادة: " وقف "
(2) المواقف ص333، ومسلم الثبوت 2 / 11، وشرح جوهرة التوحيد ص90 والتبصرة بهامش فتح العلي 1 / 179، والأم 5 / 269 - 271، والمهذب 2 / 26، والسراجية ص317.(14/180)
قَال صَاحِبُ شَرْحِ جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ: اخْتَارَ جُمْهُورُ أَهْل السُّنَّةِ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ، وَكَذَا صِفَاتُهُ، فَلاَ تُثْبِتُ لَهُ اسْمًا وَلاَ صِفَةً إِلاَّ إِذَا وَرَدَ بِذَلِكَ تَوْقِيفٌ مِنَ الشَّارِعِ.
وَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى جَوَازِ إِثْبَاتِ مَا كَانَ اللَّهُ مُتَّصِفًا بِمَعْنَاهُ وَلَمْ يُوهِمْ نَقْصًا وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِهِ تَوْقِيفٌ مِنَ الشَّارِعِ، وَمَال إِلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ. وَتَوَقَّفَ فِيهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ،
وَفَصَّل الْغَزَالِيُّ فَجَوَّزَ إِطْلاَقَ الصِّفَةِ، وَهِيَ مَا دَل عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ عَلَى الذَّاتِ، وَمَنَعَ إِطْلاَقَ الاِسْمِ وَهُوَ مَا دَل عَلَى نَفْسِ الذَّاتِ.
وَالْمُخْتَارُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.
3 - وَفِي الْمَوَاقِفِ فِي عِلْمِ الْكَلاَمِ: تَسْمِيَتُهُ تَعَالَى بِالأَْسْمَاءِ تَوْقِيفِيَّةٌ أَيْ يَتَوَقَّفُ إِطْلاَقُهَا عَلَى الإِْذْنِ فِيهِ، وَذَلِكَ لِلاِحْتِيَاطِ احْتِرَازًا عَمَّا يُوهِمُ بَاطِلاً لِعِظَمِ الْخَطَرِ فِي ذَلِكَ.
وَاَلَّذِي وَرَدَ بِهِ التَّوْقِيفُ فِي الْمَشْهُورِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا. (1)
وَقَال ابْنُ كَثِيرٍ: لِيُعْلَمْ أَنَّ الأَْسْمَاءَ الْحُسْنَى غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ، بِدَلِيل مَا رَوَاهُ الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: مَا أَصَابَ أَحَدًا هَمٌّ وَلاَ حُزْنٌ قَطُّ. فَقَال: اللَّهُمَّ
__________
(1) شرح جوهرة التوحيد ص89 - 90 ط دار الكتب العلمية، والمواقف ص333 ط عالم الكتب(14/180)
إِنِّي عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك ابْنُ أَمَتِك، نَاصِيَتِي بِيَدِك مَاضٍ فِيَّ حُكْمُك، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُك، أَسْأَلُك بِكُل اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَل الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلاَءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلاَّ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا فَقِيل يَا رَسُول اللَّهِ: أَلاَ نَتَعَلَّمَهَا؟ فَقَال: بَلَى. يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا (1) .
وَقَدْ أَخْرَجَهُ الإِْمَامُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ الْبُسْتِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِمِثْلِهِ، وَذَكَرَ الْفَقِيهُ الإِْمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي كِتَابِهِ الأَْحْوَذِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ بَعْضَهُمْ جَمَعَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَلْفَ اسْمٍ، فَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (2)
التَّوْقِيفُ فِي تَرْتِيبِ آيِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَسُوَرِهِ:
4 - جَاءَ فِي مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ: أَجْمَعَ أَهْل الْحَقِّ أَيْ أَهْل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ آيِ كُل سُورَةٍ تَوْقِيفِيٌّ أَيْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِأَمْرِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ لاَ شُبْهَةَ فِيهِ، وَتَوَاتَرَ بِلاَ شُبْهَةٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) حديث: " ما أصاب أحدا هم. . . . " أخرجه أحمد (1 / 391 ط المكتب الإسلامي) وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح (مجمع الزوائد 10 / 136 ط دار الكتاب العربي) .
(2) تفسير ابن كثير عند الآية 180 من سورة الأعراف.(14/181)
وَفِي الإِْتْقَانِ: الإِْجْمَاعُ وَالنُّصُوصُ الْمُتَرَادِفَةُ عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَ الآْيَاتِ تَوْقِيفِيٌّ لاَ شُبْهَةَ فِي ذَلِكَ. أَمَّا الإِْجْمَاعُ فَنَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبُرْهَانِ، وَأَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي مُنَاسَبَاتِهِ، وَعِبَارَتُهُ تَرْتِيبُ الآْيَاتِ فِي سُوَرِهَا وَاقِعٌ بِتَوْقِيفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرِهِ مِنْ غَيْرِ خِلاَفٍ فِي هَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
ثُمَّ قَال صَاحِبُ مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ: أَمَّا تَرْتِيبُ السُّوَرِ فِيمَا بَيْنَهَا، فَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيل: هَذَا التَّرْتِيبُ بِاجْتِهَادٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَاسْتَدَل عَلَيْهِ ابْنُ فَارِسٍ بِاخْتِلاَفِ الْمَصَاحِفِ فِي تَرْتِيبِ السُّوَرِ. فَمُصْحَفُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَانَ عَلَى تَرْتِيبِ النُّزُول، وَمُصْحَفُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى غَيْرِ هَذَا، وَالْحَقُّ هُوَ الأَْوَّل.
ثُمَّ قَال: إِنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ الْمُتَوَارَثَ الْمُتَوَاتِرَ بِلاَ شُبْهَةٍ فِيمَا بَيْنَ الآْيَاتِ وَالسُّوَرِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا. (1)
وَنَقَل الزَّرْكَشِيُّ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا إِلاَ أَنَّهُ قَال فِي آخِرِ كَلاَمِهِ، وَتَرْتِيبُ بَعْضِهَا بَعْدَ بَعْضٍ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا أَوْجَبَهُ اللَّهُ، بَل أَمْرٌ رَاجِعٌ إِلَى اجْتِهَادِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ؛ وَلِهَذَا كَانَ لِكُل مُصْحَفٍ تَرْتِيبٌ، وَلَكِنْ تَرْتِيبُ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ أَكْمَل. (2) (ر: الْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ) .
__________
(1) مسلم الثبوت 2 / 11 - 12، والإتقان للسيوطي 1 / 60 - 62، والفواكه الدواني 1 / 77
(2) البرهان في علوم القرآن 1 / 262 ط دار المعرفة بيروت(14/181)
التَّوْقِيفُ فِي مُقَدَّرَاتِ الشَّرِيعَةِ:
5 - ذَكَرَ السُّيُوطِيّ فِي الأَْشْبَاهِ أَنَّ مُقَدَّرَاتِ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدِهَا: مَا يُمْنَعُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَالْحُدُودِ، وَفُرُوضِ الْمَوَارِيثِ.
الثَّانِي: مَا لاَ يُمْنَعُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَالثَّلاَثِ فِي الطَّهَارَةِ.
الثَّالِثِ: مَا يُمْنَعُ فِيهِ الزِّيَادَةُ دُونَ النُّقْصَانِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ بِثَلاَثٍ، وَإِمْهَال الْمُرْتَدِّ ثَلاَثًا.
الرَّابِعِ عَكْسُهُ: كَالثَّلاَثِ فِي الاِسْتِنْجَاءِ، وَالتَّسْبِيعِ فِي الْوُلُوغِ، وَالطَّوَافِ، وَالْخَمْسِ فِي الرَّضَاعِ، وَنُصُبِ الزَّكَاةِ، وَالشَّهَادَةِ، وَالسَّرِقَةِ. (1)
وَهَذَا التَّفْصِيل لِلشَّافِعِيَّةِ وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَسَائِل خِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ.
التَّوْقِيفُ بِمَعْنَى مَنْعِ التَّصَرُّفِ فِي الْمُدَّعَى بِهِ:
6 - اسْتَعْمَل الْفُقَهَاءُ التَّوْقِيفَ بِمَعْنَى مَنْعِ التَّصَرُّفِ فِي الْمُدَّعَى بِهِ. يَقُول ابْنُ فَرْحُونَ فِي التَّبْصِرَةِ:
تَوْقِيفُ الْمُدَّعَى بِهِ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: تَوْقِيفُ الْعَقَارِ وَيَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: دُورٍ، وَأَرَاضٍ، وَالتَّوْقِيفُ لاَ يَكُونُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْخَصْمِ فِي الشَّيْءِ الْمُدَّعَى بِهِ، وَلاَ يُعْقَل عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْغَيْرِ
__________
(1) الأشباه للسيوطي 421 - 422.(14/182)
فِيهِ حَتَّى يَنْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ سَبَبٌ يُقَوِّي الدَّعْوَى كَشَهَادَةِ الْعَدْل أَوْ لَطْخٍ (الشُّهُودُ غَيْرُ الْعُدُول) فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالاِعْتِقَال فِي الرُّبَاعِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
الأَْوَّل: عِنْدَ قِيَامِ الشُّبْهَةِ الظَّاهِرَةِ أَوْ ظُهُورِ اللَّطْخِ فَيُرِيدُ الْمُدَّعِي تَوْقِيفَهُ لِيُثْبِتَهُ، فَالتَّوْقِيفُ هُنَا بِأَنْ يُمْنَعَ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ (الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا يُفِيتُهُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، أَوْ يُخْرِجُهُ بِهِ عَنْ حَالِهِ، كَالْبِنَاءِ وَالْهَدْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ عَنْهُ.
الثَّانِي: بَعْدَ أَنْ يُثْبِتَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ فِي ذَلِكَ بِشَهَادَةٍ، قَاطِعَةٍ وَيَدَّعِيَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُ مَدْفَعًا فِيمَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي، فَيُضْرَبُ لِلْمُسْتَحِقِّ مِنْهُ الآْجَال. فَيُوقَفُ الْمُدَّعَى بِهِ حِينَئِذٍ بِأَنْ تُرْفَعَ يَدُ الأَْوَّل عَنْهُ، فَإِذَا كَانَتْ دَارًا اُعْتُقِلَتْ بِالْقَفْل، أَوْ أَرْضًا مُنِعَ مِنْ حَرْثِهَا، أَوْ حَانُوتًا لَهُ خَرَاجٌ وُقِفَ الْخَرَاجُ. (1)
النَّوْعُ الثَّانِي: تَوْقِيفُ الْحَيَوَانِ - فَمَنِ ادَّعَى دَابَّةً بِيَدِ رَجُلٍ وَأَرَادَ تَوْقِيفَهَا لِيَأْتِيَ عَلَى ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ بُعْدٌ، فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مَا ادَّعَى مِنَ الْبَيِّنَةِ بِمَوْضِعِهِ ذَلِكَ وَقَفَهُ فِيمَا قَرُبَ مِنْ يَوْمٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ فَلاَ شَيْءَ لَهُ، ثُمَّ لاَ يَكُونُ لَهُ يَمِينٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي إِنْكَارِ دَعْوَاهُ؛ لأَِنَّهُ يَقُول: لاَ عِلْمَ عِنْدِي مِمَّا تَقُول. فَإِنْ ظَنَّ بِهِ عِلْمَ ذَلِكَ حَلَفَ. (2)
__________
(1) التبصرة بهامش فتح العلي المالك 1 / 179 ط دار المعرفة.
(2) المرجع السابق 1 / 180.(14/182)
النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَوْقِيفُ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، كَاللَّحْمِ وَرُطَبِ الْفَوَاكِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنْ شَهِدَ لِلْمُدَّعِي شَاهِدٌ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ، وَقَال عِنْدِي شَاهِدٌ آخَرُ أَوْ أَتَى بِلَطْخٍ وَادَّعَى بَيِّنَةً قَاطِعَةً، فَإِنَّهُ يُؤَجَّل أَجَلاً لاَ يَفْسُدُ فِي مِثْلِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ، فَإِنْ أَحْضَرَ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ، وَإِلاَّ خُلِّيَ بَيْنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَمَتَاعِهِ. (1)
وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مَنْقُولاً وَطَلَبَ الْمُدَّعِي مِنَ الْقَاضِي أَنْ يَضَعَهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ وَلَمْ يَكْتَفِ بِإِعْطَاءِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَفِيلاً بِنَفْسِهِ وَبِنَفْسِ الْمُدَّعَى بِهِ - فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَدْلاً فَالْقَاضِي لاَ يُجِيبُهُ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا أَجَابَهُ.
وَلَوْ ادَّعَى عَقَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً لاَ يَأْمُرُهُ الْقَاضِي بِالْوَضْعِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ وَلاَ بِالْكَفِيل بِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَرْضًا فِيهَا شَجَرٌ فِيهِ ثَمَرٌ فَيُوضَعُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ. (2)
وَإِذَا تَنَازَعَ شَخْصَانِ فِي عَقَارٍ، وَلَمْ يُثْبِتْ أَحَدٌ مِنَ الْخَصْمَيْنِ كَوْنَهُ ذَا الْيَدِ يَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِطَلَبِ الآْخَرِ عَلَى عَدَمِ كَوْنِ خَصْمِهِ ذَا الْيَدِ فِي ذَلِكَ الْعَقَارِ، فَإِنْ نَكَلاَ عَنِ الْيَمِينِ يَثْبُتُ كَوْنُهُمَا ذَوِي الْيَدِ فِي ذَلِكَ الْعَقَارِ وَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ.
وَإِنْ نَكَل أَحَدُهُمَا وَحَلَفَ الآْخَرُ، يَحْكُمُ بِكَوْنِ الْحَالِفِ ذَا الْيَدِ مُسْتَقِلًّا بِذَلِكَ الْعَقَارِ، وَيُعَدُّ الآْخَرُ خَارِجًا.
__________
(1) التبصرة 1 / 181.
(2) شرح المجلة المادة 1816 للأتاسي 6 / 94.(14/183)
وَإِنْ حَلَفَا مَعًا فَلاَ يُحْكَمُ لأَِحَدٍ مِنْهُمَا بِكَوْنِهِ ذَا الْيَدِ، وَيُوقَفُ الْعَقَارُ الْمُدَّعَى بِهِ إِلَى ظُهُورِ حَقِيقَةِ الْحَال. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ عَيْنًا فِي يَدِهِ، وَكَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ غَائِبَةٌ أَوْ حَاضِرَةٌ لَكِنَّهَا مَجْهُولَةٌ، وَخَافَ مِنْ نَقْلِهَا، أَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ دَيْنًا أَوْ أَعْيَانًا حَاضِرَةً مِنْ عَقَارٍ وَغَيْرِهِ فَأَنْكَرَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ، وَخِيفَ مِنْ إِقْرَارِهِ بِمَا هُوَ فِي يَدِهِ لأَِوْلاَدِهِ أَوْ لِغَيْرِهِمْ، وَجَرَى هَذَا فِي بَلَدٍ قَدْ عَمَّ هَذَا بَيْنَهُمْ، وَاشْتُهِرَ هَذَا فِيمَا لَدَيْهِمْ، وَهَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَشْهَرُ مِنْ غَيْرِهِ فِي فِعْل هَذَا فَالْتَمَسَ الْمُدَّعِي الْحَجْرَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، فَذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِيهِ خِلاَفًا، وَرَأَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَآخَرُونَ - أَنَّهُ إِنْ عُرِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْحِيلَةِ وَاسْتَمَرَّتْ لَهُ عَادَةٌ بِهَا حَجَرَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ وَرَأَى غَيْرُهُمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ هَذَا كَالْمُفْلِسِ إِذَا أَحَاطَتْ بِهِ الدُّيُونُ وَتَحَقَّقَ أَنَّ خَرْجَهُ أَكْثَرُ مِنْ دَخْلِهِ وَخِيفَ عَلَيْهِ فَوَاتُ مَالِهِ، وَهُنَاكَ يَتَعَيَّنُ ضَرْبُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ عَلَى الأَْصَحِّ، فَهَذَا قَرِيبُ الشَّبَهِ بِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا: إِذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ مَجْهُولَيْنِ وَطَلَبَ الْحَيْلُولَةَ بَيْنَ الدَّاخِل وَبَيْنَهُ إِلَى أَنْ يُزَكِّيَ بَيِّنَتَهُ هَل يُجَابُ إِلَيْهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. (2)
__________
(1) المادة 1755 من المجلة وشرحها من درر الحكام 4 / 465.
(2) أدب القضاء 268، 270 وتنظر الروضة 12 / 51.(14/183)
وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِالتَّوْقِيفِ فِي الدَّعْوَى. (1)
وَمِنْ ذَلِكَ تَوْقِيفُ مَال الْغَائِبِ وَالْيَتِيمِ. (2)
وَكَذَلِكَ تَوْقِيفُ قَسْمِ التَّرِكَةِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهَا بِسَبَبِ الْحَمْل أَوِ الْفَقْدِ (ر: إِرْثٌ) .
تَوْقِيفُ الْمُولِي:
7 - مَنْ آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ وَمَضَتْ مُدَّةُ الإِْيلاَءِ (أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ) فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَل تَطْلُقُ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ؟ أَمْ يَقِفُهُ الْقَاضِي، فَإِمَّا فَاءَ وَإِمَّا طَلَّقَ؟ .
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّهُ يَقِفُهُ الْحَاكِمُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الأَْرْبَعَةِ الأَْشْهُرِ فَإِمَّا فَاءَ وَإِمَّا طَلَّقَ، وَلاَ تَطْلُقُ زَوْجَتُهُ بِنَفْسِ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، قَال أَحْمَدُ: فِي الإِْيلاَءِ يُوقَفُ، عَنِ الأَْكَابِرِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عُمَرَ شَيْءٌ يَدُل عَلَى ذَلِكَ، وَعَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَجَعَل يُثْبِتُ حَدِيثَ عَلِيٍّ، وَبِهِ قَال ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَقَال سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: كَانَ تِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوقِفُونَ فِي الإِْيلاَءِ، وَقَال سُهَيْل بْنُ أَبِي صَالِحٍ: سَأَلْتُ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلُّهُمْ يَقُول: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَيُوقَفُ، فَإِنْ فَاءَ
__________
(1) المغني 9 / 287 - 288.
(2) التبصرة 1 / 182.(14/184)
وَإِلاَّ طَلَّقَ، وَبِهَذَا قَال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةُ وَمُجَاهِدٌ وَطَاوُوسٌ. وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) .
وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَيْئَةَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؛ لِذِكْرِهِ الْفَيْئَةَ بَعْدَهَا بِالْفَاءِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّعْقِيبِ، ثُمَّ قَال تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2)
وَلَوْ وَقَعَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى عَزْمٍ عَلَيْهِ. (3)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الطَّلاَقَ يَقَعُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ؛ لأَِنَّهُ بِالإِْيلاَءِ عَزَمَ عَلَى مَنْعِ نَفْسِهِ مِنْ إِيفَاءِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ وَأَكَّدَ الْعَزْمَ بِالْيَمِينِ، فَإِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ، وَلَمْ يَفِئْ إِلَيْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْفَيْءِ فَقَدْ حَقَّقَ الْعَزْمَ الْمُؤَكَّدَ بِالْيَمِينِ بِالْفِعْل، فَتَأَكَّدَ الظُّلْمُ فِي حَقِّهَا، فَتَبِينُ مِنْهُ عُقُوبَةً لَهُ جَزَاءً عَلَى ظُلْمِهِ وَمَرْحَمَةً عَلَيْهَا، وَلاَ يُوقَفُ؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَل مُدَّةَ التَّرَبُّصِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَالْوَقْفُ يُوجِبُ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمُدَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا. (4)
__________
(1) سورة البقرة / 226.
(2) سورة البقرة 227.
(3) المغني 7 / 318 - 319، وبداية المجتهد 2 / 108 نشر مكتبة الكليات الأزهرية، والأم 5 / 269 - 271.
(4) البدائع 3 / 176(14/184)
تَوَكُّلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوَكُّل فِي اللُّغَةِ: إِظْهَارُ الْعَجْزِ وَالاِعْتِمَادُ عَلَى الْغَيْرِ وَالتَّفْوِيضُ وَالاِسْتِسْلاَمُ، وَالاِسْمُ مِنْهُ الْوَكَالَةُ. يُقَال: وَكَّل أَمْرَهُ إِلَى فُلاَنٍ أَيْ فَوَّضَهُ إِلَيْهِ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَوَثِقَ بِهِ، وَاتَّكَل عَلَيْهِ فِي أَمْرِهِ كَذَلِكَ. وَالتَّوَكُّل أَيْضًا قَبُول الْوَكَالَةِ، يُقَال وَكَّلْتُهُ تَوْكِيلاً فَتَوَكَّل. (1)
وَفِي الشَّرِيعَةِ يُطْلَقُ التَّوَكُّل عَلَى الثِّقَةِ بِاَللَّهِ وَالإِْيقَانِ بِأَنَّ قَضَاءَهُ مَاضٍ، وَاتِّبَاعٍ لِسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّعْيِ فِيمَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنَ الأَْسْبَابِ. (2)
حُكْمُ التَّوَكُّل:
2 - التَّوَكُّل بِمَعْنَى الثِّقَةِ بِاَللَّهِ، وَالاِعْتِمَادِ عَلَيْهِ فِي كُل الأُْمُورِ وَاجِبٌ، وَمَأْمُورٌ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَفِي سُنَّةِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
__________
(1) لسان العرب، ومتن اللغة، والمصباح المنير مادة: " وكل "، وإحياء علوم الدين 2 / 65.
(2) تفسير القرطبي في تفسير آية 122 من سورة آل عمران 4 / 189.(14/185)
الْمُتَوَكِّلِينَ} (1) وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ بِالتَّوَكُّل عَلَى اللَّهِ، وَقَال: تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤُهُ: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ} (2) وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَال مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاَللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (3) .
3 - أَمَّا التَّوَكُّل بِمَعْنَى جَعْل الْغَيْرِ وَكِيلاً عَنْهُ يَتَصَرَّفُ فِي شُؤُونِهِ فِيمَا يَقْبَل النِّيَابَةَ، فَهُوَ جَائِزٌ وَيَأْتِي بَحْثُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَكَالَةٌ) .
4 - وَأَمَّا التَّوَكُّل بِمَعْنَى: الاِعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ وَالثِّقَةِ بِهِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ فِي كُل الأُْمُورِ: فَهُوَ مِنْ أَعْمَال الْقَلْبِ كَالإِْيمَانِ، وَمَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَالتَّفَكُّرِ وَالصَّبْرِ وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ، وَمَحَبَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمَحَبَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّطَهُّرِ مِنَ الرَّذَائِل الْبَاطِنَةِ كَالْحِقْدِ، وَالْحَسَدِ، وَالرِّيَاءِ فِي الْعَمَل، لاَ يَدْخُل فِي مَبَاحِثِ الْفِقْهِ. وَمَوْطِنُهُ الأَْصْلِيُّ: كُتُبُ التَّوْحِيدِ، وَعِلْمُ الأَْخْلاَقِ. (4)
التَّوَكُّل لاَ يَتَنَافَى مَعَ الأَْخْذِ بِالأَْسْبَابِ:
5 - ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ، وَمُحَقِّقُو الصُّوفِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّوَكُّل عَلَى اللَّهِ لاَ يَتَنَافَى مَعَ السَّعْيِ وَالأَْخْذِ بِالأَْسْبَابِ مِنْ مَطْعَمٍ، وَمَشْرَبٍ، وَتَحَرُّزٍ مِنَ الأَْعْدَاءِ وَإِعْدَادِ الأَْسْلِحَةِ، وَاسْتِعْمَال مَا تَقْتَضِيهِ سُنَّةُ اللَّهِ الْمُعْتَادَةُ، مَعَ الاِعْتِقَادِ أَنَّ الأَْسْبَابَ
__________
(1) سورة آل عمران / 159.
(2) سورة آل عمران / 122.
(3) سورة يونس / 84.
(4) نهاية المحتاج 2 / 106 - 107 ط مصطفى البابي الحلبي بمصر.(14/185)
وَحْدَهَا لاَ تَجْلُبُ نَفْعًا، وَلاَ تَدْفَعُ ضَرًّا، بَل السَّبَبُ (الْعِلاَجُ) وَالْمُسَبَّبُ (الشِّفَاءُ) فِعْل اللَّهِ تَعَالَى، وَالْكُل مِنْهُ وَبِمَشِيئَتِهِ، وَقَال سَهْلٌ: مَنْ قَال: التَّوَكُّل يَكُونُ بِتَرْكِ الْعَمَل، فَقَدْ طَعَنَ فِي سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (1)
وَقَال الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ فَإِذَا عَزَمْت فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ} (2) دَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ التَّوَكُّل أَنْ يُهْمِل الإِْنْسَانُ نَفْسَهُ كَمَا يَقُول بَعْضُ الْجُهَّال وَإِلاَّ كَانَ الأَْمْرُ بِالْمُشَاوَرَةِ مُنَافِيًا لِلأَْمْرِ بِالتَّوَكُّل. بَل التَّوَكُّل عَلَى اللَّهِ: أَنْ يُرَاعِيَ الإِْنْسَانُ الأَْسْبَابَ الظَّاهِرَةَ وَلَكِنْ لاَ يُعَوِّل بِقَلْبِهِ عَلَيْهَا، بَل يُعَوِّل عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. (3)
وَجُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّل الصَّحِيحَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الأَْخْذِ بِالأَْسْبَابِ. وَبِدُونِهِ تَكُونُ دَعْوَى التَّوَكُّل جَهْلاً بِالشَّرْعِ وَفَسَادًا فِي الْعَقْل.
وَقِيل لأَِحْمَد: مَا تَقُول فِيمَنْ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ وَمَسْجِدِهِ وَقَال لاَ أَعْمَل شَيْئًا حَتَّى يَأْتِيَ رِزْقِي. فَقَال أَحْمَدُ: هَذَا رَجُلٌ جَهِل الْعِلْمَ، أَمَا سَمِعَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جُعِل رِزْقِي تَحْتَ ظِل رُمْحِي (4) .
__________
(1) تفسير القرطبي 4 / 189 في تفسير آية 122 من آل عمران.
(2) سورة آل عمران / 159.
(3) تفسير الرازي 9 / 68 الآية 159 من آل عمران.
(4) حديث: " وجعل رزقي تحت ظل رمحي " وهو جزء من حديث أوله " بعثت بين يدي الساعة بالسيف. . . " أخرجه أحمد (7 / 142 / 5114 ط دار المعارف وصححه أحمد شاكر) .(14/186)
وَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لاَ يَقْعُدُ أَحَدُكُمْ عَنْ طَلَبِ الرِّزْقِ وَيَقُول اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ السَّمَاءَ لاَ تُمْطِرُ ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً. (1) وَقَدْ تَوَاتَرَ الأَْمْرُ بِالأَْخْذِ بِالأَْسْبَابِ فِي الْقُرْآنِ وَسُنَّةِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادَ أَنْ يَتْرُكَ نَاقَتَهُ وَقَال: أَأَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّل، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّل؟ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْقِلْهَا، وَتَوَكَّل (2) .
وَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأََنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَل النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ (3) .
وَقَال تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} (4) وَالْغَنِيمَةُ اكْتِسَابٌ، وَقَال تَعَالَى {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَْعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُل بَنَانٍ} (5) وَالضَّرْبُ عَمَلٌ، وَقَال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} (6) وَقَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
__________
(1) إحياء علوم الدين 2 / 63.
(2) حديث: " أعقلها وتوكل ". أخرجه الترمذي (4 / 668 ط مصطفى الحلبي) من حديث أنس بن مالك وحسنه.
(3) حديث: " لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه ". أخرجه البخاري (3 / 335 ط السلفية) ، ومسلم 2 / 721 ط عيسى الحلبي من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري.
(4) سورة الأنفال / 69.
(5) سورة الأنفال / 12.
(6) سورة الملك / 15.(14/186)
الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (1) ، وَقَال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل} (2) .
وَأَمَرَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّدَاوِي: وَقَال تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ مَعَهُ الشِّفَاءَ (3) .
وَقَال شَارِحُ ثُلاَثِيَّاتِ مُسْنَدِ أَحْمَدَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: وَصَفَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِالْعُبُودِيَّةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ التَّدَاوِيَ لاَ يُنَافِي التَّوَكُّل: أَيْ تَدَاوَوْا وَلاَ تَعْتَمِدُوا فِي الشِّفَاءِ عَلَى التَّدَاوِي. بَل كُونُوا مُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَالتَّدَاوِي لاَ يُنَافِي التَّوَكُّل، كَمَا لاَ يُنَافِيهِ رَفْعُ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ بِالأَْكْل وَالشُّرْبِ وَتَجَنُّبُ الْمُهْلِكَاتِ، وَالدُّعَاءُ بِطَلَبِ الْعَافِيَةِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، وَقَال: وَفِي الأَْحَادِيثِ السَّابِقَةِ إِثْبَاتٌ لِلأَْسْبَابِ، وَأَنَّهَا لاَ تُنَافِي التَّوَكُّل عَلَى اللَّهِ لِمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا بِإِذْنِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ وَلاَ تَشْفِي بِذَوَاتِهَا بَل بِمَا قَدَّرَ اللَّهُ فِيهَا. (4)
وَقَدْ قَرَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّوَكُّل بِتَرْكِ الأَْعْمَال الْوَهْمِيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا، جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
__________
(1) سورة النساء / 71.
(2) سورة الأنفال / 60.
(3) حديث: " تداووا عباد الله فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع معه الشفاء ". أخرجه أبو داود (4 / 192 - 193 ط عزت عبيد الدعاس) ، والترمذي (4 / 383 ط مصطفى الحلبي) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (2 / 1137 ط عيسى الحلبي) .
(4) شرح ثلاثيات مسند أحمد 2 / 636 - 637.(14/187)
: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: يَدْخُل الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَقَالُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُول اللَّهِ؟ فَقَال: الَّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ، وَلاَ يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (1) .
وَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا ( x662 ;) . وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ التَّوَكُّل يَكُونُ مَعَ السَّعْيِ؛ لأَِنَّهُ ذَكَرَ لِلطَّيْرِ عَمَلاً وَهُوَ الذَّهَابُ صَبَاحًا فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَهِيَ فَارِغَةُ الْبُطُونِ، وَالرُّجُوعُ وَهِيَ مُمْتَلِئَتُهَا.
تُوَلَةٌ
اُنْظُرْ: تَعْوِيذَةٌ.
__________
(1) حديث: " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب. . . " أخرجه البخاري (11 / 405 - 406 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 199ط عيسى الحلبي) من حديث ابن عباس.
(2) حديث: " لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم. . . . " أخرجه الترمذي (4 / 573 ط مصطفى الحلبي) وقال: حسن صحيح وأخرجه ابن ماجه (2 / 1394 ط، عيسى الحلبي) وأحمد (1 / 243 - 205 ط دار المعارف وقال أحمد شاكر إسناده صحيح) من حديث عمر بن الخطاب واللفظ لابن ماجه.(14/187)
تَوَلِّي
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوَلِّي: مَصْدَرُ تَوَلَّى، وَأَصْلُهُ الثُّلاَثِيُّ: وَلِيَ.
وَالتَّوَلِّي يَأْتِي فِي اللُّغَةِ بِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا: النُّصْرَةُ: وَيُقَال تَوَلَّيْتُ فُلاَنًا أَيِ اتَّخَذْتُهُ وَلِيًّا. (1)
وَالاِتِّبَاعُ وَالرِّضَا، يُقَال: تَوَلَّيْتُهُ: أَطَعْتُهُ. (2)
وَالتَّقَلُّدُ. (3) وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَهَل عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَْرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (4) .
قَال أَبُو الْعَالِيَةِ: إِنْ تَوَلَّيْتُمِ الْحُكْمَ فَجُعِلْتُمْ حُكَّامًا أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَْرْضِ بِأَخْذِ الرُّشَا. (5)
وَفِعْل الْمَرْءِ الشَّيْءَ بِنَفْسِهِ. قَال تَعَالَى: {
__________
(1) القاموس المحيط 4 / 404، ولسان العرب 3 / 986، والكليات 2 / 97.
(2) تفسير القرطبي 10 / 176.
(3) القاموس المحيط 4 / 404، ولسان العرب 3 / 987.
(4) سورة محمد / 22.
(5) تفسير القرطبي 16 / 245.(14/188)
وَاَلَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أَيْ وَلِيَ وِزْرَ الإِْفْكِ وَإِشَاعَتِهِ. (1)
وَالرُّجُوعُ وَالإِْدْبَارُ وَالإِْعْرَاضُ وَالإِْقْبَال: يُقَال: تَوَلَّى إِلَيْهِ أَيْ أَقْبَل، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّل} (2) .
وَتَوَلَّى إِذَا عُدِّيَ بِعَنْ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا اقْتَضَى مَعْنَى الإِْعْرَاضِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَتَوَل عَنْهُمْ} (3) وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} (4) .
وَالتَّوَلِّي قَدْ يَكُونُ بِالْجِسْمِ وَقَدْ يَكُونُ بِتَرْكِ الإِْصْغَاءِ وَالاِئْتِمَارِ، قَال تَعَالَى: {وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} (5) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ.
وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةُ فِي تَعَابِيرِ الشَّرْعِ كَمَا تَقَدَّمَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلتَّوَلِّي بِاخْتِلاَفِ مَوْضُوعِهِ وَمَعَانِيهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمِنْ أَهَمِّهَا: التَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَتَوَلِّي الْقَضَاءِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْوِلاَيَاتِ، وَتَوَلِّي الْمَرْأَةِ عَقْدَ النِّكَاحِ، وَتَوَلِّي
__________
(1) سورة النور / 11، ولسان العرب 3 / 988.
(2) سورة القصص / 24، والكليات 2 / 97.
(3) سورة الصافات / 174.
(4) سورة آل عمران / 63.
(5) سورة الأنفال / 20، وانظر المفردات في غريب القرآن.(14/188)
الشَّخْصِ الْوَاحِدِ طَرَفَيِ الْعَقْدِ، وَتَوَلِّي الصَّالِحِينَ وَتَوَلِّي الْفَاسِقِينَ.
أَوَّلاً: التَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ:
3 - الزَّحْفُ: الدُّنُوُّ قَلِيلاً، وَأَصْلُهُ الاِنْدِفَاعُ عَلَى الأَْلْيَةِ، ثُمَّ سُمِّيَ كُل مَاشٍ فِي الْحَرْبِ إِلَى الآْخَرِ زَاحِفًا. (1)
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (2) إِلَى أَنَّ التَّوَلِّيَ يَوْمَ الزَّحْفِ وَهُوَ الْفِرَارُ مِنَ قِتَال الْكُفَّارِ حَرَامٌ، فَلاَ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ الَّذِي حَضَرَ صَفَّ الْقِتَال أَنْ يَنْصَرِفَ إِذَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَتَدَانَى الصَّفَّانِ؛ لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمِ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَْدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (3) وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) نَهَى اللَّهُ تَعَالَى فِي الآْيَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ - فِي الذِّكْرِ هُنَا - عَنِ الْفِرَارِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَمَرَ فِي الآْيَةِ الأَْخِيرَةِ بِالثَّبَاتِ عِنْدَ قِتَالِهِمْ،
__________
(1) تفسير القرطبي 7 / 380.
(2) جواهر الإكليل 1 / 254، والزرقاني 3 / 115، والقليوبي 4 / 219، والمغني 8 / 346، وكشاف القناع 3 / 47.
(3) سورة الأنفال / 15، 16.
(4) سورة الأنفال / 45.(14/189)
فَالْتَقَى الأَْمْرُ وَالنَّهْيُ عَلَى سَوَاءٍ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ عَلَى الْوُقُوفِ لِلْعَدُوِّ وَالتَّجَلُّدِ لَهُ. (1)
وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْفِرَارُ وَالتَّوَلِّي. إِذَا لَمْ يَزِدِ الْكُفَّارُ عَلَى مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {. . . فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ. .} (2)
فَإِنْ زَادَ الْكُفَّارُ عَلَى مِثْلَيِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَحْرُمِ الْفِرَارُ، وَالصَّبْرُ أَحْسَنُ، فَقَدْ وَقَفَ جَيْشُ مُؤْتَةَ وَهُمْ ثَلاَثَةُ آلاَفٍ فِي مُقَابَلَةِ مِائَتَيْ أَلْفٍ. وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَحْرِيمِ الْفِرَارِ الْعَدَدَ لاَ الْقُوَّةَ وَالْعُدَّةَ، وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - وَهُوَ مَا مَال إِلَيْهِ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ - إِلَى اعْتِبَارِ الْعُدَّةِ وَالْقُوَّةِ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا انْصِرَافُ مِائَةٍ مِنَّا ضُعَفَاءُ عَنْ مِائَتَيْنِ إِلاَّ وَاحِدًا أَقْوِيَاءَ، أَوْ مِائَةُ فَارِسٍ مِنْ مِائَةِ فَارِسٍ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ مَا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ النَّجْدَةِ وَالْبَسَالَةِ ضِعْفُ مَا عِنْدَهُمْ.
وَعَلَى قَوْل الْجُمْهُورِ لاَ يَحِل فِرَارُ مِائَةٍ مَثَلاً إِلاَّ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ. (3)
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ حَالَةً أُخْرَى يَحْرُمُ فِيهَا الْفِرَارُ، وَهِيَ مَا إِذَا بَلَغَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ اثْنَتَيْ عَشَرَ أَلْفًا،
__________
(1) تفسير القرطبي 8 / 23.
(2) سورة الأنفال / 66.
(3) جواهر الإكليل 1 / 254 والقليوبي وعميرة 4 / 219، وتفسير القرطبي 7 / 380 - 381.(14/189)
فَإِنْ بَلَغُوا هَذَا الْعَدَدَ لَمْ يَحِل لَهُمُ الْفِرَارُ، وَإِنْ زَادَ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَلَى الْمِثْلَيْنِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:. . وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ (1) فَإِنَّ أَكْثَرَ أَهْل الْعِلْمِ خَصَّصُوا هَذَا الْعَدَدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ عُمُومِ الآْيَةِ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّمَا يَحْرُمُ الْفِرَارُ إِذَا بَلَغُوا اثْنَتَيْ عَشَرَ أَلْفًا مَا لَمْ تَخْتَلِفْ كَلِمَتُهُمْ، وَمَا لَمْ يَكُنِ الْعَدُوُّ بِمَحَل مَدَدِهِ وَلاَ مَدَدَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِلاَّ جَازَ، وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُهُمْ مَحَل الْحُرْمَةِ أَيْضًا: فِيمَا إِذَا كَانَ فِي الاِثْنَيْ عَشَرَ نِكَايَةٌ لِلْعَدُوِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ ذَلِكَ وَظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقْتُلُونَهُمْ جَازَ الْفِرَارُ. (3)
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: فِي الْخَانِيَّةِ: لاَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفِرُّوا إِذَا كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ أَكْثَر لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ. . وَالْحَاصِل: أَنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يُغْلَبُ لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَفِرَّ، وَلاَ بَأْسَ لِلْوَاحِدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِلاَحٌ أَنْ يَفِرَّ مِنِ اثْنَيْنِ لَهُمَا سِلاَحٌ، وَيُكْرَهُ لِلْوَاحِدِ الْقَوِيِّ أَنْ يَفِرَّ مِنَ
__________
(1) حديث: " ولن يغلب اثنا عشر ألفًا من قلة ". أخرجه أبو داود (1 / 443 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عباس، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) جواهر الإكليل 1 / 253، ورد المحتار على الدر المختار 3 / 224، وتفسير القرطبي 7 / 382.
(3) جواهر الإكليل 1 / 254، وحاشية الزرقاني على خليل 3 / 115.(14/190)
الْكَافِرَيْنِ، وَالْمِائَةُ مِنَ الْمِائَتَيْنِ فِي قَوْل مُحَمَّدٍ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَفِرَّ الْوَاحِدُ مِنَ الثَّلاَثَةِ وَالْمِائَةُ مِنَ الثَّلاَثِمِائَةِ. (1)
وَاسْتُثْنِيَ مِنَ الْحُكْمِ بِتَحْرِيمِ التَّوَلِّي عِنْدَ الزَّحْفِ - بِنَصِّ الآْيَةِ الْكَرِيمَةِ - الْمُتَحَرِّفُ لِقِتَالٍ وَهُوَ: الَّذِي يُظْهِرُ الْهَزِيمَةَ وَيَنْصَرِفُ لِيَتْبَعَهُ الْعَدُوُّ فَيَكْمُنُ وَيَهْجُمُ عَلَيْهِ فَيَقْتُلُهُ، أَوْ يَنْصَرِفُ مِنْ مَضِيقٍ لِيَتْبَعَهُ الْعَدُوُّ إِلَى مُتَّسَعٍ سَهْلٍ لِلْقِتَال. . وَذَلِكَ مِنْ مَكَايِدِ الْحَرْبِ وَفُنُونِ الْقِتَال فَلاَ وِزْرَ فِيهِ وَلاَ حُرْمَةَ.
وَكَذَلِكَ اسْتَثْنَتِ الآْيَةُ مِنْ تَحْرِيمِ التَّوَلِّي عِنْدَ الزَّحْفِ الْمُتَحَيِّزَ إِلَى فِئَةٍ وَهُوَ: الَّذِي يَنْصَرِفُ عَنِ الْعَدُوِّ بِنِيَّةِ الذِّهَابِ إِلَى فِئَةٍ يَسْتَنْجِدُ وَيَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى الْقِتَال، وَلاَ حُرْمَةَ عَلَى مَنْ يَنْصَرِفُ بِنِيَّةِ التَّحَيُّزِ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِجَوَازِ التَّحَرُّفِ أَوِ التَّحَيُّزِ: كَوْنَ الْمُتَحَرِّفِ أَوِ الْمُتَحَيِّزِ غَيْرَ أَمِيرِ الْجَيْشِ وَالإِْمَامِ، وَأَمَّا هُمَا فَلَيْسَ لَهُمَا التَّحَرُّفُ وَلاَ التَّحَيُّزُ لِحُصُول الْخَلَل وَالْمَفْسَدَةِ بِهِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْمُتَحَرِّفِ وَالْمُتَحَيِّزِ مَنْ عَجَزَ بِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ لَهُ الاِنْصِرَافَ بِكُل حَالٍ. (2)
وَالْفِرَارُ - التَّوَلِّي - الْمُحَرَّمُ كَبِيرَةٌ مُوبِقَةٌ بِظَاهِرِ
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 3 / 224.
(2) جواهر الإكليل 1 / 254، والقليوبي وعميرة 4 / 219، والمفردات في غريب القرآن 136.(14/190)
الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَإِجْمَاعِ الأَْكْثَرِ مِنَ الأَْئِمَّةِ لِمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ. . . وَفِيهِ وَالتَّوَلِّيَ يَوْمَ الزَّحْفِ (1) وَهِيَ كَبِيرَةٌ تُكَفِّرُهَا التَّوْبَةُ بِعَفْوِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ. (2) وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جِهَادٌ، سَيْرٌ) .
ثَانِيًا: تَوَلِّي الْقَضَاءِ:
4 - تَوَلِّي الْقَضَاءِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْوِلاَيَاتِ تَعْتَرِيهِ الأَْحْكَامُ الْخَمْسَةُ:
فَيَكُونُ وَاجِبًا: إِنْ كَانَ مَنْ يَتَوَلاَّهُ أَهْلاً لِلْقَضَاءِ دُونَ غَيْرِهِ لاِنْفِرَادِهِ بِشُرُوطِهِ، فَحِينَئِذٍ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ التَّقَلُّدُ صِيَانَةً لِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَإِخْلاَءً لِلْعَالَمِ عَنِ الْفَسَادِ؛ وَلأَِنَّ الْقَضَاءَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَلاَ يُوجَدُ سِوَاهُ يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ، كَغُسْل الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ، وَسَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ.
وَيَكُونُ مَنْدُوبًا: لِصَاحِبِ عِلْمٍ خَفِيٍّ لاَ يَعْرِفُهُ النَّاسُ، وَوُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْقَاضِي، وَذَلِكَ لِيُشْهِرَ عِلْمَهُ لِلنَّاسِ فَيُنْتَفَعُ بِهِ.
وَيَكُونُ حَرَامًا: لِفَاقِدِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ، رُوِيَ
__________
(1) حديث: " اجتنبوا السبع الموبقات ". أخرجه البخاري (الفتح 12 / 181 ط السلفية) ، ومسلم (1 / 92 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) حاشية الزرقاني 3 / 115، وتفسير القرطبي 7 / 380 - 382.(14/191)
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ وَذَكَرَ مِنْهُمْ رَجُلاً قَضَى بَيْنَ النَّاسِ بِجَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ (1) ؛ وَلأَِنَّ مَنْ لاَ يُحْسِنُهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْعَدْل فِيهِ فَيَأْخُذُ الْحَقَّ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ فَيَدْفَعُهُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَيَكُونُ مَكْرُوهًا: لِمَنْ يَخَافُ الْعَجْزَ عَنْهُ وَلاَ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ الْحَيْفَ فِيهِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ تَوَلِّيهِ، وَكَرِهَ بَعْضُهُمُ الدُّخُول فِيهِ مُخْتَارًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ (2) .
وَيَكُونُ مُبَاحًا: لِلْعَدْل الْمُجْتَهِدِ الصَّالِحِ لِلْقَضَاءِ الَّذِي يَثِقُ بِنَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ فَرْضَهُ وَلاَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ مِثْلِهِ. (3)
وَالْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْوِلاَيَاتِ كَالْحُكْمِ فِي الْقَضَاءِ، وَمَا يَتَّصِل بِشُرُوطِ مَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ أَوْ نَحْوَهُ مِنَ الْوِلاَيَاتِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ، وَإِمَامَةٌ) إِلَخْ.
ثَالِثًا: تَوَلِّي الْمَرْأَةِ عَقْدَ النِّكَاحِ:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لاَ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا وَلاَ غَيْرَهَا، أَيْ لاَ وِلاَيَةَ لَهَا
__________
(1) حديث: " القضاة ثلاثة ". أخرجه الترمذي (3 / 604 - ط الحلبي) ، والحاكم (4 / 90 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.
(2) حديث: " من ولي القضاء. . . . " أخرجه أبو داود 4 / 4 تحقيق عزت عبيد دعاس، والحاكم 4 / 91 وصححه ووافقه الذهبي.
(3) فتح القدير 6 / 362 - 364، وجواهر الإكليل 2 / 222، والقليوبي وعميرة 4 / 295 - 296، والمغني 9 / 35 - 36.(14/191)
فِي عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى نَفْسِهَا وَلاَ غَيْرِهَا بِالْوِلاَيَةِ، وَهُوَ مَا نَقَلَهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ كُلٌّ مِنَ الطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ وَأَنَّهُ الْقَوْل الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ أَخِيرًا عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ (1) وَمِنَ الصِّفَاتِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الْوَلِيِّ الذُّكُورَةُ، فَإِنْ تَوَلَّتِ الْمَرْأَةُ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (2) أَيْ قَائِمُونَ بِمَصَالِحِهِنَّ، وَمِنْهَا وِلاَيَةُ تَزْوِيجِهِنَّ كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ تَنْكِيرُ الْوَلِيِّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى ذُكُورَتِهِ، وَإِرَادَةُ التَّغْلِيبِ فِيهِ مَدْفُوعَةٌ بِحَدِيثِ: لاَ تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلاَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا (3) .
__________
(1) حديث: " لا نكاح إلا بولي. . . " أخرجه الترمذي (3 / 398 - ط الحلبي) ، والحاكم (2 / 172 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي موسى الأشعري، وقال الحاكم: " وقد صحت الروايات فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش رضي الله عنهن ".
(2) سورة النساء / 34.
(3) حديث: " لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها. . . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 606 - ط الحلبي) ، والدارقطني (3 / 227 - ط دار المحاسن) وفي إسناده راوٍ فيه مقال كما قال البوصيري في زوائد ابن ماجه، ولكنه قد تربع عند الدارقطني (3 / 228) .(14/192)
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ، فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَل مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ فِي الرِّوَايَةِ الأُْولَى عَنْهُ وَهِيَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ: تَجُوزُ مُبَاشَرَةُ الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ عَقْدَ نِكَاحِهَا وَنِكَاحَ غَيْرِهَا مُطْلَقًا إِلاَّ أَنَّهُ خِلاَفُ الْمُسْتَحَبِّ.
وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ الْمُخْتَارَةُ لِلْفَتْوَى: إِنْ عَقَدَتْ مَعَ كُفْءٍ جَازَ وَمَعَ غَيْرِهِ لاَ يَصِحُّ.
وَنُقِل عَنْ أَبِي يُوسُفَ ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ، اُخْتُلِفَ فِي تَرْتِيبِهَا، فَذَكَرَ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَال: لاَ يَجُوزُ مُطْلَقًا إِذَا كَانَ لَهَا وَلِيٌّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْجَوَازِ مِنَ الْكُفْءِ لاَ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا مِنَ الْكُفْءِ وَغَيْرِهِ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ الْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ هُوَ عَدَمُ الْجَوَازِ إِلاَّ بِوَلِيٍّ، وَكَذَا الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ حَيْثُ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 281، والقليوبي وعميرة 3 / 221، والمغني 6 / 449، وحديث: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها. . . " أخرجه أحمد (6 / 47 - ط الميمنية) ، وأبو داود (2 / 566 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسنه الترمذي (3 / 399 - ط الحلبي) .(14/192)
قَال: وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَهُوَ قَوْلُهُ الأَْخِيرُ.
قَال الْكَمَال: وَرَجَحَ قَوْل الشَّيْخَيْنِ (الطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ) وَهُوَ أَنَّ قَوْل أَبِي يُوسُفَ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ هُوَ عَدَمُ الْجَوَازِ؛ لأَِنَّ الطَّحَاوِيَّ وَالْكَرْخِيَّ أَقْوَمُ وَأَعْرَفُ بِمَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ: الأُْولَى: انْعِقَادُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ إِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ وَإِلاَّ بَطَل، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ كُفْئًا وَامْتَنَعَ الْوَلِيُّ يُجَدِّدُ الْقَاضِي الْعَقْدَ وَلاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِيَةُ: رُجُوعُهُ إِلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَاسْتَدَلاَّ لِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (1) وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَإِذَا طَلَّقْتُمِ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} (2) وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (3) ،
وَهَذِهِ الآْيَاتُ تُصَرِّحُ بِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ؛ لأَِنَّ النِّكَاحَ الْمَذْكُورَ فِيهَا مَنْسُوبٌ إِلَى الْمَرْأَةِ، وَمَنْ قَال لاَ يَنْعَقِدُ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ فَقَدْ رَدَّ نَصَّ الْكِتَابِ.
__________
(1) سورة البقرة / 234.
(2) سورة البقرة / 232.
(3) سورة البقرة / 230.(14/193)
وَاسْتَدَل بِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الأَْيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا (1) وَبِأَنَّهَا حُرَّةٌ عَاقِلَةٌ بَالِغَةٌ فَتَكُونُ لَهَا الْوِلاَيَةُ عَلَى نَفْسِهَا كَالْغُلاَمِ وَلِتَصَرُّفِهَا فِي الْمَال؛ وَبِأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ بِالنِّكَاحِ صَحَّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِنْشَاءُ الْعَقْدِ لَمَا صَحَّ. (2)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي (نِكَاحٌ) .
رَابِعًا: تَوَلِّي طَرَفَيِ الْعَقْدِ:
أ - فِي النِّكَاحِ:
6 - يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَتَوَلَّى شَخْصٌ طَرَفَيْ الْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ، عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ عَقْدِ النِّكَاحِ وَاحِدٌ بِإِيجَابٍ يَقُومُ مَقَامَ الْقَبُول فِي خَمْسِ صُوَرٍ، كَأَنْ كَانَ وَلِيًّا، أَوْ وَكِيلاً مِنَ الْجَانِبَيْنِ، أَوْ أَصِيلاً مِنْ جَانِبٍ وَوَكِيلاً، أَوْ وَلِيًّا مِنْ آخَرَ، أَوْ وَلِيًّا مِنْ جَانِبٍ وَكِيلاً مِنْ آخَرَ. (3)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لاِبْنِ عَمِّ الْمَرْأَةِ إِذَا وَكَّلَتْهُ عَلَى تَزْوِيجِهَا، وَعَيَّنَ نَفْسَهُ لِمُوَكِّلَتِهِ وَرَضِيَتْ بِهِ، أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ تَزَوَّجْتُك بِكَذَا مِنَ الْمَهْرِ وَلاَ يَحْتَاجُ لِقَبُولٍ بَعْدَ هَذَا؛ لِتَوَلِّي ابْنِ الْعَمِّ الإِْيجَابَ وَالْقَبُول، عَلَى أَنْ تَرْضَى الزَّوْجَةُ بِالْمَهْرِ الَّذِي سَمَّاهُ وَيَشْهَدُ عَدْلاَنِ عَلَى
__________
(1) حديث: " الأيم أحق بنفسها من وليها. . . " أخرجه مسلم (2 / 1037 ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(2) فتح القدير 3 / 157، وتبيين الحقائق 2 / 117.
(3) رد المحتار على الدر المختار 2 / 326.(14/193)
تَزْوِيجِهَا لِنَفْسِهِ، وَمِثْل ابْنِ الْعَمِّ الْحَاكِمُ وَالْوَصِيُّ وَالْكَافِل وَوَلِيُّ الإِْسْلاَمِ. (1)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لِلْجَدِّ تَوَلِّي طَرَفَيْ عَقْدِ تَزْوِيجِ بِنْتِ ابْنِهِ بِابْنِ ابْنِهِ الآْخَرِ، وَيَصِحُّ النِّكَاحُ فِي الأَْصَحِّ لِقُوَّةِ وِلاَيَةِ الْجَدِّ، وَالثَّانِي: لاَ يَصِحُّ لأَِنَّ خِطَابَ الإِْنْسَانِ مَعَ نَفْسِهِ لاَ يَنْتَظِمُ.
وَلاَ يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ غَيْرِ الْجَدِّ تَوَلِّي الطَّرَفَيْنِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، فَلاَ يُزَوِّجُ وَاحِدٌ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ مَوْلِيَتَهُ لِنَفْسِهِ بِتَوَلِّيهِ الطَّرَفَيْنِ بَل يُزَوِّجُهُ بِهَا نَظِيرُهُ فِي دَرَجَتِهِ وَيَقْبَل هُوَ لِنَفْسِهِ فَلاَ وِلاَيَةَ بِهِ حِينَئِذٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ زَوَّجَهَا لَهُ الْقَاضِي. (2)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: وَلِيُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَحِل لَهُ نِكَاحُهَا وَهُوَ ابْنُ الْعَمِّ، أَوِ الْمَوْلَى، أَوِ الْحَاكِمُ، أَوِ السُّلْطَانُ إِذَا أَذِنَتْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ ذَلِكَ، وَفِي تَوَلِّيهِ طَرَفَيِ الْعَقْدِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لَهُ ذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَال لأُِمِّ حَكِيمٍ: أَتَجْعَلِينَ أَمْرَك إِلَيَّ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَال: قَدْ تَزَوَّجْتُك (3) ، وَلأَِنَّهُ يَمْلِكُ الإِْيجَابَ وَالْقَبُول فَجَازَ أَنْ يَتَوَلاَّهُمَا.
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 282.
(2) القليوبي وعميرة 3 / 232.
(3) حديث: " أثر عبد الرحمن بن عوف. . . " أخرجه البخاري تعليقًا (الفتح 9 / 188 - ط السلفية) وعزاه لابن سعد في طبقاته وابن حجر في الفتح وفي التغليق (3 / 416 - ط المكتب الإسلامي) .(14/194)
الثَّانِيَةُ: لاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ وَلَكِنْ يُوَكِّل رَجُلاً يُزَوِّجُهُ إِيَّاهَا بِإِذْنِهَا؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَمَرَ رَجُلاً زَوَّجَهُ امْرَأَةً الْمُغِيرَةُ أَوْلَى بِهَا مِنْهُ؛ وَلأَِنَّهُ عَقْدٌ مَلَكَهُ بِالإِْذْنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْهِ كَالْبَيْعِ. (1)
ب - فِي الْبَيْعِ:
7 - صَحَّحَ بَعْضُهُمْ تَوَلِّيَ طَرَفَيِ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْعُقُودِ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ بَاعَ الْوَصِيُّ أَوِ اشْتَرَى مَال الْيَتِيمِ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ وَصِيَّ الْقَاضِي لاَ يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ وَصِيَّ الأَْبِ جَازَ لِشَرْطِ مَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ لِلصَّغِيرِ وَهِيَ قَدْرُ النِّصْفِ زِيَادَةً أَوْ نَقْصًا، وَقَالاَ: لاَ يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَبَيْعُ الأَْبِ مَال صَغِيرٍ مِنْ نَفْسِهِ جَائِزٌ بِمِثْل الْقِيمَةِ وَبِمَا يُتَغَابَنُ فِيهِ وَهُوَ الْيَسِيرُ، وَإِلاَّ لاَ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمَنْقُول. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: وَمَنْعُ بَيْعِ الْوَكِيل مَا وُكِّل عَلَى بَيْعِهِ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَلَوْ سَمَّى لَهُ الثَّمَنَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ لاِحْتِمَال الرَّغْبَةِ فِيهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى، فَإِنْ تَحَقَّقَ عَدَمُهَا فِيهِ أَوِ اشْتَرَاهُ بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ أَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ جَازَ. (3)
__________
(1) المغني 6 / 469 - 471.
(2) رد المحتار على الدر المختار 5 / 453.
(3) حاشية الزرقاني 6 / 83.(14/194)
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: وَيَصِحُّ التَّوْكِيل فِي طَرَفَيْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ، وَسَلَمٍ، وَرَهْنٍ، وَنِكَاحٍ وَطَلاَقٍ وَسَائِرِ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ، كَالصُّلْحِ، وَالْحَوَالَةِ، وَالضَّمَانِ، أَيْ يَصِحُّ فِيمَا لَهُ طَرَفَانِ فِيهِمَا مَعًا، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا، أَوْ فِي حَالَةِ طَرَفٍ وَاحِدٍ فِي ذَلِكَ الطَّرَفِ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: مَنْ وُكِّل فِي بَيْعِ شَيْءٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْ نَفْسِهِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ لاَ يَشْتَرِي مَال الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ: يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْوَكِيل وَالْوَصِيُّ مَال الْمُوَكِّل أَوِ الْمُوصَى عَلَيْهِ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنْ يَزِيدَ عَلَى مَبْلَغِ ثَمَنِهِ فِي النِّدَاءِ. وَالثَّانِيَةِ: أَوْ يَتَوَلَّى النِّدَاءَ غَيْرُهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ الأَْبُ لِنَفْسِهِ مِنْ مَال وَلَدِهِ الطِّفْل. (2)
__________
(1) القليوبي وعميرة 2 / 338.
(2) المغني 5 / 117 - 122.(14/195)
تَوْلِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوْلِيَةُ لُغَةً مَصْدَرُ: وَلَّى، يُقَال: وَلَّيْتُ فُلاَنًا الأَْمْرَ جَعَلْتُهُ وَالِيًا عَلَيْهِ، وَيُقَال: وَلَّيْتُهُ الْبَلَدَ، وَعَلَى الْبَلَدِ. وَوَلَّيْتُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ أَيْ جَعَلْتُ وَالِيًا عَلَيْهِمَا. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ تُطْلَقُ التَّوْلِيَةُ بِإِطْلاَقَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: مُوَافِقٍ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَثَانِيهِمَا: تُطْلَقُ عَلَى التَّوْلِيَةِ فِي الْبَيْعِ وَهِيَ: أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُل سِلْعَةً بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ يَبِيعَ تِلْكَ السِّلْعَةَ لِرَجُلٍ آخَرَ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ فَإِنْ قَال: وَلَّيْتُك إِيَّاهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَهُ إِيَّاهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَاهَا أَوْ بِأَقَل؛ لأَِنَّ لَفْظَ التَّوْلِيَةِ يَقْتَضِي دَفْعَهَا إِلَيْهِ بِمِثْل مَا اشْتَرَاهَا بِهِ. (2)
وَعَرَّفَهَا الشَّيْخُ عَمِيرَةُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: بِأَنَّهَا نَقْل جَمِيعِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُوَلَّى بِمِثْل الثَّمَنِ الْمِثْلِيِّ أَوْ عَيْنِ الْمُتَقَوِّمِ (الْقِيَمِيِّ) بِلَفْظِ وَلَّيْتُكَ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ. (3)
__________
(1) المصباح المنير مادة: " ولي ".
(2) الزاهر ص220 ط الأوقاف - الكويت، والقليوبي وعميرة 2 / 219 - 220
(3) مرادهم من جعل عين المتقوم ثمنًا أنه لا تصلح التولية بالثمن القيمي إلا للبالغ نفسه (حاشية عميرة 2 / 219) .(14/195)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِْشْرَاكُ:
2 - الإِْشْرَاكُ لُغَةً: جَعْل الْغَيْرِ شَرِيكًا، وَاصْطِلاَحًا: نَقْل بَعْضِ الْمَبِيعِ إِلَى الْغَيْرِ بِمِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل (أَيْ بِمِثْل ثَمَنِ الْبَعْضِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ كُلِّهِ) .
ب - الْمُرَابَحَةُ:
3 - الْمُرَابَحَةُ لُغَةً: الزِّيَادَةُ، وَاصْطِلاَحًا: نَقْل كُل الْمَبِيعِ إِلَى الْغَيْرِ بِزِيَادَةٍ عَلَى مِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل.
ج - الْمُحَاطَّةُ:
4 - الْمُحَاطَّةُ لُغَةً: النَّقْصُ. وَاصْطِلاَحًا: نَقْل كُل الْمَبِيعِ إِلَى الْغَيْرِ بِنَقْصٍ عَنْ مِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل. وَالْفَرْقُ وَاضِحٌ بَيْنَ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ وَبَيْنَ بَيْعِ التَّوْلِيَةِ وَجَمِيعُهَا مِنْ بُيُوعِ الأَْمَانَةِ. (1)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
أَوَّلاً: التَّوْلِيَةُ (بِمَعْنَى نَصْبِ الْوُلاَةِ)
5 - تَوْلِيَةُ إِمَامٍ عَامٍّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَفْصِل فِي أُمُورِهِمْ وَيَسُوسُهُمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، مُخَاطَبٌ بِهِ أَهْل
__________
(1) القليوبي 2 / 220.(14/196)
الْحَل وَالْعَقْدِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ حَتَّى يَخْتَارُوا الإِْمَامَ.
وَدَلِيل ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي السَّقِيفَةِ، فَقَالَتِ الأَْنْصَارُ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، دَفَعَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالاَ: (إِنَّ الْعَرَبَ لاَ تَدِينُ إِلاَّ لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ) . وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ أَخْبَارًا، فَلَوْلاَ أَنَّ الإِْمَامَةَ وَاجِبَةٌ لَمَا سَاغَتْ تِلْكَ الْمُحَاوَرَةُ وَالْمُنَاظَرَةُ عَلَيْهَا وَلَقَال قَائِلٌ: لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ لاَ فِي قُرَيْشٍ وَلاَ فِي غَيْرِهِمْ.
وَعَلَى الإِْمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ مَنْ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الدَّوْلَةُ فِي أُمُورِهَا الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مِنْ وُزَرَاءَ وَقُضَاةٍ وَأُمَرَاءِ الْجُيُوشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ أَمْرَ الدَّوْلَةِ لاَ يَصْلُحُ وَلاَ يَسْتَقِيمُ إِلاَّ بِتَوْلِيَةِ هَؤُلاَءِ وَأَمْثَالِهِمْ؛ لأَِنَّ مَا وُكِّل إِلَى الإِْمَامِ مِنْ تَدْبِيرِ الأُْمَّةِ لاَ يَقْدِرُ عَلَى مُبَاشَرَةِ جَمِيعِهِ إِلاَّ بِاسْتِنَابَةٍ. (1)
6 - وَالإِْمَامَةُ تَنْعَقِدُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا اخْتِيَارِ أَهْل الْعَقْدِ وَالْحَل، وَالثَّانِي بِعَهْدِ الإِْمَامِ مِنْ قَبْل.
وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِشُرُوطِ اخْتِيَارِ الإِْمَامِ وَمَنْ يَخْتَارُهُ وَمَا تَنْتَهِي بِهِ الإِْمَامَةُ وَمَنْ يُوَلِّيهِمُ الإِْمَامُ لِمُعَاوَنَتِهِ مِنْ وُزَرَاءَ وَغَيْرِهِمْ وَصِيَغِ تَوْلِيَتِهِمْ تَفْصِيلاَتٌ
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص (28) ط دار الكتب العلمية، والماوردي ص22.(14/196)
وَشُرُوطٌ مَحَلُّهَا (الإِْمَامَةُ الْكُبْرَى، وَقَضَاءٌ، وَوَزَارَةٌ، وَإِمَارَةٌ. إِلَخْ) .
7 - تَوْلِيَةُ الْوُزَرَاءِ جَائِزَةٌ شَرْعًا، فَإِنَّ سَيِّدَنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَل لَهُ وَزِيرًا مِنْ أَهْلِهِ {وَاجْعَل لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} (1) فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي النُّبُوَّةِ فَهُوَ فِي غَيْرِهَا أَوْلَى {قَال قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَك يَا مُوسَى} (2) وَتَعْيِينُ الْوُزَرَاءِ لِمُسَاعَدَةِ الأَْمِيرِ لاَ بُدَّ مِنْهُ؛ إِذْ إِنَّ الأَْمِيرَ لاَ يَسْتَطِيعُ وَحْدَهُ مُبَاشَرَةَ جَمِيعِ الأُْمُورِ.
وَالْوَزَارَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: وَزَارَةِ تَفْوِيضٍ، وَوَزَارَةِ تَنْفِيذٍ. (3)
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (وَزَارَةٌ) .
تَوْلِيَةُ الْقُضَاةِ:
8 - الْقَضَاءُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الأَْئِمَّةِ فِي أَنَّ الْقِيَامَ بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ، وَلاَ يَتَعَيَّنُ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ أَنْ لاَ يُوجَدَ غَيْرُهُ فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ إِلْزَامُهُ بِتَوَلِّيهِ لِئَلاَّ تَتَعَطَّل مَصَالِحُ النَّاسِ. (4)
أَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي يَجِبُ تَحَقُّقُهَا فِيمَنْ يُوَلَّى الْقَضَاءَ، وَفِيمَنْ يَمْلِكُ تَوْلِيَةَ الْقَاضِي، وَفِي
__________
(1) سورة طه / 29.
(2) سورة طه / 36.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي ص17.
(4) الأحكام السلطانية للماوردي ص22.(14/197)
اخْتِصَاصِ الْقَاضِي فَمَحَلُّهَا (1) (مُصْطَلَحِ قَضَاءٌ) .
الْوِلاَيَاتُ الأُْخْرَى:
9 - عَلَى الإِْمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ فِي كُل أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدَّوْلَةِ مَنْ يَقُومُ بِهَا؛ لأَِنَّ أُمُورَ الدَّوْلَةِ لاَ تَسْتَقِيمُ إِلاَّ إِذَا كَانَ فِيهَا مَنْ يَقُومُ عَلَى مُبَاشَرَتِهَا.
قَال أَبُو يَعْلَى: وَمَا يَصْدُرُ عَنْ الإِْمَامِ مِنْ وِلاَيَاتِ خُلَفَائِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَنْ تَكُونُ وِلاَيَتُهُ عَامَّةً فِي الأَْعْمَال الْعَامَّةِ، وَهُمُ الْوُزَرَاءُ؛ لأَِنَّهُمْ مُسْتَنَابُونَ فِي جَمِيعِ النَّظَرَاتِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ.
الثَّانِي: مَنْ تَكُونُ وِلاَيَتُهُ عَامَّةً فِي أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ، وَهُمُ الأُْمَرَاءُ لِلأَْقَالِيمِ وَالْبُلْدَانِ. لأَِنَّ النَّظَرَ فِيمَا خُصُّوا بِهِ مِنَ الأَْعْمَال عَامٌّ فِي جَمِيعِ الأُْمُورِ.
الثَّالِثُ: مَنْ تَكُونُ وِلاَيَتُهُ خَاصَّةً فِي الأَْعْمَال الْعَامَّةِ، وَهُمْ مِثْل قَاضِي الْقُضَاةِ، وَنَقِيبِ الْجُيُوشِ، وَحَامِي الثُّغُورِ، وَمُسْتَوْفِي الْخَرَاجِ، وَجَابِي الصَّدَقَاتِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَقْصُورٌ عَلَى نَظَرٍ خَاصٍّ فِي جَمِيعِ الأَْعْمَال.
الرَّابِعُ: مَنْ تَكُونُ وِلاَيَتُهُ خَاصَّةً فِي أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ، وَهُمْ مِثْل قَاضِي بَلَدٍ، أَوْ إِقْلِيمٍ، أَوْ
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 8 ط دار الكتب العلمية - بيروت، ومعين الحكام ص7(14/197)
مُسْتَوْفِي خَرَاجَهُ، أَوْ جَابِي صَدَقَاتِهِ، أَوْ حَامِي ثَغْرِهِ، أَوْ نَقِيبِ جُنْدِهِ؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَاصُّ النَّظَرِ مَخْصُوصُ الْعَمَل. وَلِكُل وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ الْوُلاَةِ شُرُوطٌ تَنْعَقِدُ بِهَا وِلاَيَتُهُ وَيَصِحُّ مَعَهَا نَظَرُهُ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا. (1)
الأَْلْفَاظُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْوِلاَيَةُ:
10 - وَالأَْلْفَاظُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْوِلاَيَةُ ضَرْبَانِ: صَرِيحٌ، وَكِنَايَةٌ.
فَالصَّرِيحُ أَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ " قَدْ وَلَّيْتُك، وَقَلَّدْتُك، وَاسْتَخْلَفْتُك، وَاسْتَنَبْتُكَ ". فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ هَذِهِ الأَْلْفَاظِ انْعَقَدَتْ بِهِ وِلاَيَةُ الْقَضَاءِ وَغَيْرُهَا مِنَ الْوِلاَيَاتِ، وَلاَ يَحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى قَرِينَةٍ.
وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَقَدْ قِيل: إِنَّهَا سَبْعَةُ أَلْفَاظٍ: " قَدِ اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ، وَعَوَّلْتُ عَلَيْكَ، وَرَدَدْتُ إِلَيْكَ، وَجَعَلْتُ إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ إِلَيْكَ، وَوَكَّلْتُ إِلَيْكَ، وَأَسْنَدْتُ إِلَيْكَ "
فَإِنِ اقْتُرِنَ بِهَا قَرِينَةٌ صَارَتْ فِي حُكْمِ الصَّرِيحِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: " فَانْظُرْ فِيمَا وَكَلْتُهُ إِلَيْكَ " وَاحْكُمْ فِيمَا اعْتَمَدْتُ فِيهِ عَلَيْكَ ".
فَإِنْ كَانَ التَّقْلِيدُ مُشَافَهَةً فَقَبُولُهُ عَلَى الْفَوْرِ لَفْظًا، وَإِنْ كَانَ مُرَاسَلَةً، أَوْ مُكَاتَبَةً، جَازَ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّرَاخِي.
فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْقَبُول لَفْظًا، لَكِنْ وُجِدَ مِنْهُ
__________
(1) الأحكام السلطانية ص28 ط دار الكتب العلمية.(14/198)
الشُّرُوعُ فِي النَّظَرِ، احْتَمَل أَنْ يَجْرِيَ ذَلِكَ مَجْرَى النُّطْقِ، وَاحْتَمَل أَنْ لاَ يَجْرِيَ؛ لأَِنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّظَرِ فَرْعٌ لِعَقْدِ الْوِلاَيَةِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ قَبُولُهَا. (1) وَالْكَلاَمُ عَنْ ذَلِكَ مَنْثُورٌ فِي أَبْوَابِ الْجِهَادِ وَالْقَضَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثَانِيًا: التَّوْلِيَةُ فِي الْبَيْعِ:
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ بَيْعَ التَّوْلِيَةِ جَائِزٌ شَرْعًا؛ لأَِنَّ شَرَائِطَ الْبَيْعِ مُجْتَمِعَةٌ فِيهِ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَحْكَامِهِ كَتَجَدُّدِ شُفْعَةٍ عَفَا عَنْهَا الشَّفِيعُ فِي الْعَقْدِ الأَْوَّل، وَبَقَاءِ الزَّوَائِدِ لِلْمُولِّي - بِكَسْرِ اللاَّمِ - وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ تَمْلِيكٌ جَدِيدٌ، وَلِتَعَامُل النَّاسِ بِهِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا؛ وَلأَِنَّ مَنْ لاَ يَهْتَدِي إِلَى التِّجَارَةِ يَحْتَاجُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى فِعْل الذَّكِيِّ الْمُهْتَدِي فِيهَا (2) ، وَلَمَّا أَرَادَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْهِجْرَةَ وَابْتَاعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعِيرَيْنِ، قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِّنِي أَحَدَهُمَا، فَقَال لَهُ هُوَ لَك بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَقَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
__________
(1) الأحكام السلطانية ص64 ط دار الكتب العلمية.
(2) فتح القدير 5 / 253 ط بولاق، وتبيين الحقائق 4 / 73 - 76، والبناية 6 / 486، والدسوقي 3 / 158، وجواهر الإكليل 2 / 55، والشرح الصغير 3 / 211 ومغني المحتاج 2 / 76، وأسنى المطالب 2 / 91، ونهاية المحتاج 4 / 104، والروضة 3 / 525، والمغني 4 / 207، وكشاف القناع 3 / 229.(14/198)
أَمَّا بِغَيْرِ شَيْءٍ فَلاَ، فَوَجَبَ الْقَوْل بِجَوَازِهَا. (1)
مَا تَصِحُّ فِيهِ التَّوْلِيَةُ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّوْلِيَةِ فِي بَيْعِ الْمَنْقُول الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ وَجَعَلُوهُ كَالْبَيْعِ الْمُسْتَقِل. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: تَجُوزُ التَّوْلِيَةُ فِي الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَنَّهُ قَال: مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ وَيَسْتَوْفِيَهُ، إِلاَّ أَنْ يُشْرِكَ فِيهِ أَوْ يُوَلِّيَهُ أَوْ يُقِيلَهُ (3) .
وَشَرْطُهَا قَبْل قَبْضِهِ: اسْتِوَاءُ الْعَقْدَيْنِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ وَأَجَلِهِ أَوْ حُلُولِهِ وَكَوْنُ الثَّمَنِ عَيْنًا.
__________
(1) حديث: " لما أراد عليه الصلاة والسلام الهجرة وابتاع أبو بكر رضي الله تعالى عنه بعيرين. . . . . " أورده الزيلعي في نصب الراية (4 / 31 ط المجلس العلمي) بغير سند وقال: غريب ولم ينسبه إلى كتاب معين، ثم ذكر رواية البخاري (فتح الباري 6 / 231 ط. السلفية) بلفظ قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالثمن.
(2) البدائع 5 / 180، وابن عابدين 4 / 162، والشرح الكبير للدردير 3 / 152، وروضة الطالبين 3 / 25 ط المكتب الإسلامي، ومغني المحتاج 2 / 76.
(3) حديث: " من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه ويستوفيه إلا أن يشرك فيه أو يوليه أو يقيله " أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8 / 49 - ط المجلس العلمي) عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن مرسلاً.(14/199)
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَتَجُوزُ التَّوْلِيَةُ فِي الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ قَبْل الْقَبْضِ فِيمَا عَدَا الْمَكِيل وَالْمَوْزُونَ وَنَحْوَهُمَا مِمَّا يَحْتَاجُ فِي قَبْضِهِ إِلَى كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ. (1)
مَا يُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ التَّوْلِيَةِ:
13 - أ - اشْتَرَطَ الْجُمْهُورُ فِي بَيْعِ التَّوْلِيَةِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ فِي الْبَيْعِ الأَْوَّل مَعْلُومًا لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي لأَِنَّ الْعِلْمَ بِالثَّمَنِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ؛ وَلأَِنَّ بَيْعَ التَّوْلِيَةِ يَعْتَمِدُ عَلَى أَسَاسِ الثَّمَنِ الأَْوَّل، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمِ الثَّمَنَ الأَْوَّل فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ فِي الْمَجْلِسِ وَيَرْضَى بِهِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى افْتَرَقَ الْعَاقِدَانِ عَنِ الْمَجْلِسِ بَطَل الْعَقْدُ لِتَقَرُّرِ الْفَسَادِ. (2)
14 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَنِ اشْتَرَى سِلْعَةً ثُمَّ وَلاَّهَا لِشَخْصٍ بِمَا اشْتَرَاهَا بِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا لَهُ وَلاَ ثَمَنَهَا أَوْ ذَكَرَ لَهُ أَحَدَهُمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الإِْلْزَامِ، وَلَهُ الْخِيَارُ إِذَا رَأَى وَعَلِمَ الثَّمَنَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا، أَوْ عَرَضًا، أَوْ حَيَوَانًا. وَإِنْ عَلِمَ حِينَ التَّوْلِيَةِ بِأَحَدِ الْعِوَضَيْنِ - الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ - دُونَ الآْخَرِ ثُمَّ عَلِمَ بِالآْخَرِ
__________
(1) الشرح الصغير 3 / 210 - 212، وبلغة السالك 2 / 57، والمغني 4 / 128.
(2) البدائع 5 / 220، وفتح القدير 5 / 256، وتبيين الحقائق 4 / 77 - 79، ومغني المحتاج 2 / 76، وروضة الطالبين 3 / 525، وكشاف القناع 3 / 229، والمغني 4 / 211، والمقنع 2 / 52(14/199)
فَكَرِهَ الْبَيْعَ فَلَهُ الْخِيَارُ؛ لأَِنَّ التَّوْلِيَةَ مِنَ المَعْرُوفِ تَلْزَمُ الْمُوَلِّيَ - بِالْكَسْرِ - وَلاَ تَلْزَمُ الْمُولَّى - بِالْفَتْحِ - إِلاَّ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ.
15 - ب - اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا إِنْ كَانَتِ التَّوْلِيَةُ فِي الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ. وَأَمَّا فِيهِ بَعْدَ الْقَبْضِ أَوْ فِي غَيْرِ الطَّعَامِ مُطْلَقًا فَتَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ. (1)
16 - ج - يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ كَالْمَكِيلاَتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، سَوَاءٌ تَمَّ الْعَقْدُ مَعَ الْبَائِعِ الأَْوَّل أَوْ مَعَ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِمَّا لاَ مِثْل لَهُ كَالْعَرَضِ، فَلاَ يَجُوزُ التَّوْلِيَةُ مِمَّنْ لَيْسَ الْعَرَضُ فِي مِلْكِهِ؛ لأَِنَّ التَّوْلِيَةَ بَيْعٌ بِمِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ الأَْوَّل مِنْ جِنْسِهِ كَالذَّرْعِيَّاتِ، وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى عَيْنِ ذَلِكَ الْعَرَضِ، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ عَلَى قِيمَتِهِ، وَعَيْنُهُ لَيْسَتْ فِي مِلْكِهِ، وَقِيمَتُهُ مَجْهُولَةٌ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ لاِخْتِلاَفِ أَهْل التَّقْوِيمِ فِيهِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَوْلِيَةً مِمَّنِ الْعَرَضُ نَفْسُهُ فِي مِلْكِهِ وَيَدِهِ. (2)
17 - د - وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ لاَ يَكُونَ الْبَيْعُ
__________
(1) الخرشي 5 / 169، والدسوقي 3 / 158، والمدونة 4 / 84 ط دار صادر بيروت، والشرح الصغير 3 / 210 ط دار المعارف بمصر.
(2) البدائع 5 / 221، وفتح القدير 5 / 254، والشرح الصغير 3 / 211، وروضة الطالبين 3 / 525، ومغني المحتاج 2 / 76، والمجموع 9 / 3، وكشاف القناع 3 / 229.(14/200)
صَرْفًا حَتَّى لَوْ بَاعَ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ لاَ تَجُوزُ فِيهِ التَّوْلِيَةُ؛ لأَِنَّهُمَا فِي الذِّمَّةِ فَلاَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّوْلِيَةُ، وَالْمَقْبُوضُ غَيْرُ مَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ. (1)
حُكْمُ الْخِيَانَةِ فِي بَيْعِ التَّوْلِيَةِ:
إِذَا ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي التَّوْلِيَةِ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ، أَوْ بِالْبَيِّنَةِ، أَوِ النُّكُول عَنِ الْيَمِينِ، فَإِمَّا أَنْ تَظْهَرَ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ أَوْ فِي قَدْرِهِ:
18 - أ - فَإِنْ ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ: بِأَنْ اشْتَرَى شَيْئًا نَسِيئَةً ثُمَّ بَاعَهُ تَوْلِيَةً عَلَى الثَّمَنِ الأَْوَّل وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ نَسِيئَةً ثُمَّ عَلِمَ الْمُشْتَرِي فَلَهُ الْخِيَارُ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَبِيعَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ؛ لأَِنَّ التَّوْلِيَةَ عَقْدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الأَْمَانَةِ، إِذْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ اعْتَمَدَ عَلَى أَمَانَةِ الْبَائِعِ فِي الإِْخْبَارِ عَنِ الثَّمَنِ الأَْوَّل، فَكَانَتْ صِيَانَةُ الْبَيْعِ الثَّانِي عَنِ الْخِيَانَةِ مَشْرُوطَةً دَلاَلَةً، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الشَّرْطُ ثَبَتَ الْخِيَارُ كَمَا فِي حَالَةِ عَدَمِ تَحَقُّقِ سَلاَمَةِ الْمَبِيعِ عَنِ الْعَيْبِ.
وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا، وَأَمَّا بَعْدَ الْهَلاَكِ أَوِ الاِسْتِهْلاَكِ فَلاَ خِيَارَ لَهُ، بَل يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ حَالًّا؛ لأَِنَّ الرَّدَّ تَعَذَّرَ بِالْهَلاَكِ أَوْ غَيْرِهِ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَرُدُّ قِيمَةَ الْهَالِكِ وَيَسْتَرِدُّ كُل الثَّمَنِ كَمَا قَال فِيمَا إِذَا اسْتَوْفَى عَشَرَةً زُيُوفًا مَكَانَ عَشَرَةٍ جِيَادٍ وَعَلِمَ بَعْدَ الإِْنْفَاقِ، يَرُدُّ مِثْل الزُّيُوفِ وَيَرْجِعُ بِالْجِيَادِ، وَقَال
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 84.(14/200)
أَبُو جَعْفَرٍ: الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى أَنْ يُقَوَّمَ الْمَبِيعُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِفَضْل مَا بَيْنَهُمَا لِلتَّعَارُفِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الأَْجَل مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ وَكَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِيهِ وَلَكِنْ مَعْنَاهُ مُتَعَارَفٌ بَيْنَهُمْ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ فِي كُل جُمُعَةٍ قَدْرٌ مَعْلُومٌ. (1)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ ظَهَرَ الثَّمَنُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ مُؤَجَّلاً وَقَدْ كَتَمَهُ، ثُمَّ عَلِمَ الْمُشْتَرِي تَأْجِيلَهُ أَخَذَ الْمَبِيعَ بِالثَّمَنِ مُؤَجَّلاً بِالأَْجَل الَّذِي اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ إِلَيْهِ، وَلاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فَلاَ يَمْلِكُ الْفَسْخَ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا كَانَ لَهُ ذَلِكَ إِلَى الأَْجَل يَعْنِي وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتُهْلِكَ حَبَسَ الْمُشْتَرِيُ الثَّمَنَ بِقَدْرِ الأَْجَل وَهَذَا قَوْل شُرَيْحٍ؛ لأَِنَّهُ كَذَلِكَ وَقَعَ عَلَى الْبَائِعِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي أَخْذُهُ بِذَلِكَ عَلَى صِفَتِهِ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثَّمَنِ. (2)
19 - ب - وَإِنْ ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فِي التَّوْلِيَةِ بِأَنْ قَال اشْتَرَيْتُ بِعَشَرَةٍ، وَوَلَّيْتُكَ بِمَا تَوَلَّيْتُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهُ بِتِسْعَةٍ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي الأَْظْهَرِ - وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ
__________
(1) البدائع 5 / 225 و226، وتبيين الحقائق 4 / 79، المبسوط 13 / 86 والبناية 6 / 494، والخرشي 5 / 197، والدسوقي 3 / 169، ومغني المحتاج 2 / 79.
(2) كشاف القناع 3 / 231، والمغني 4 / 206.(14/201)
يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ وَلاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِالثَّمَنِ الْبَاقِي؛ لأَِنَّ الْخِيَانَةَ فِي بَيْعِ التَّوْلِيَةِ تُخْرِجُ الْعَقْدَ عَنْ كَوْنِهِ تَوْلِيَةً؛ لأَِنَّهَا بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الأَْوَّل مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلاَ نُقْصَانٍ، فَإِذَا ظَهَرَ النُّقْصَانُ فِي الثَّمَنِ الأَْوَّل وَلَوْ ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي خَرَجَ الْعَقْدُ عَنْ كَوْنِهِ تَوْلِيَةً وَصَارَ مُرَابَحَةً، وَهَذَا إِنْشَاءُ عَقْدٍ جَدِيدٍ لَمْ يَتَرَاضَيَا عَلَيْهِ وَهُوَ لاَ يَجُوزُ فَيَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ وَيَلْزَمُهُ الْعَقْدُ بِالثَّمَنِ الْبَاقِي. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْبَائِعَ إِذَا كَذَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِأَنْ زَادَ فِي ثَمَنِ السِّلْعَةِ عَلَى مَا هُوَ فِي الْوَاقِعِ سَوَاءٌ عَمْدًا أَوْ غَيْرَ عَمْدٍ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ، فَإِنْ حَطَّ الْبَائِعُ الزَّائِدَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ الْبَيْعُ وَإِنْ لَمْ يَحُطَّ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ السِّلْعَةَ وَيَأْخُذَ ثَمَنَهُ أَوْ يَأْخُذَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ. (2)
وَقَال مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي الْخِيَارُ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَبِيعَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَرْضَ بِلُزُومِ الْعَقْدِ إِلاَّ بِالْقَدْرِ الَّذِي سَمَّاهُ عَنِ الثَّمَنِ فَلاَ يَلْزَمُ بِدُونِهِ، وَثَبَتَ لَهُ
__________
(1) البدائع 5 / 226، والمبسوط 13 / 82، وفتح القدير 5 / 256، والبناية 6 / 493، وروضة الطالبين 3 / 525، ومغني المحتاج 2 / 79، وكشاف القناع 3 / 231، والمغني 4 / 209.
(2) الدسوقي 3 / 165، والخرشي 5 / 179، والمقدمات لابن رشد 94، والقوانين الفقهية 174.(14/201)
الْخِيَارُ لِفَوَاتِ السَّلاَمَةِ عَنِ الْخِيَانَةِ كَمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِفَوَاتِ السَّلاَمَةِ عَنِ الْعَيْبِ إِذَا وَجَدَ الْمَبِيعَ مَعِيبًا.
وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، أَوِ اسْتَهْلَكَهُ قَبْل رَدِّهِ أَوْ حَدَثَ بِهِ مَا يَمْنَعُ الرَّدَّ كَعَيْبٍ مَثَلاً لَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ مُجَرَّدُ خِيَارٍ لاَ يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ. (1)
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِنَّهُ يَفْسَخُ الْبَيْعَ عَلَى الْقِيمَةِ إِنْ كَانَتْ أَقَل مِنَ الثَّمَنِ حَتَّى يَنْدَفِعَ الضَّرَرُ عَنِ الْمُشْتَرِي بِنَاءً عَلَى حَاصِلِهِ فِي مَسْأَلَةِ التَّحَالُفِ بَعْدَ هَلاَكِ السِّلْعَةِ، أَنَّهُ يَفْسَخُ بَعْدَ التَّحَالُفِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمُشْتَرِي وَيَرُدُّ الْقِيمَةَ وَيَسْتَرِدُّ الثَّمَنَ كَذَا هَاهُنَا. (2)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِنْ فَاتَتِ السِّلْعَةُ خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ دَفْعِ الثَّمَنِ الصَّحِيحِ أَوِ الْقِيمَةِ مَا لَمْ تَزِدْ عَلَى الْكَذِبِ. (3) أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَدْ قَال النَّوَوِيُّ: إِذَا ظَهَرَ الْحَال بَعْدَ هَلاَكِ الْمَبِيعِ، فَقَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ بِسُقُوطِ الزِّيَادَةِ، قَالَهُ فِي الرَّوْضَةِ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَالشَّاشِيُّ عَنِ الأَْصْحَابِ مُطْلَقًا.
__________
(1) فتح القدير 5 / 256، 257، والبناية 6 / 494، والمغني 4 / 206، وروضة الطالبين 3 / 525.
(2) فتح القدير 5 / 256، 257، والبناية 6 / 494.
(3) الدسوقي 3 / 533.(14/202)
ثُمَّ قَال النَّوَوِيُّ: وَالأَْصَحُّ طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ السُّقُوطَ وَعَدَمَهُ، فَإِنْ قُلْنَا بِالسُّقُوطِ فَلاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ قُلْنَا بِعَدَمِ السُّقُوطِ فَهَل لِلْمُشْتَرِي الْفَسْخُ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لاَ، كَمَا لَوْ عَلِمَ الْعَيْبَ بَعْدَ تَلَفِ الْمَبِيعِ، لَكِنْ يَرْجِعُ بِقَدْرِ التَّفَاوُتِ كَمَا يَرْجِعُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ (1)
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 533.(14/202)
تَوَهُّمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّوَهُّمُ فِي اللُّغَةِ: الظَّنُّ. (1)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ عَرَّفَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ: تَجْوِيزُ وُجُودِ الشَّيْءِ فِي الذِّهْنِ تَجْوِيزًا مَرْجُوحًا (2) وَقَال بَعْضُهُمْ: التَّوَهُّمُ يَجْرِي مَجْرَى الظُّنُونِ، يَتَنَاوَل الْمُدْرَكَ وَغَيْرَ الْمُدْرَكِ. (3)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّصَوُّرُ:
2 - التَّصَوُّرُ هُوَ حُصُول صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الْعَقْل، وَإِدْرَاكُ الْمَاهِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهَا بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ. (4) وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّوَهُّمِ وَالتَّصَوُّرِ: أَنَّ تَصَوُّرَ الشَّيْءِ يَكُونُ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ، وَتَوَهُّمَهُ لاَ يَكُونُ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ؛ لأَِنَّ التَّوَهُّمَ مِنْ قَبِيل التَّجْوِيزِ، وَالتَّجْوِيزُ يُنَافِي الْعِلْمَ. (5)
__________
(1) المصباح المنير، ومختار الصحيح مادة: " وهم ".
(2) نهاية المحتاج 1 / 265 ط مصطفى البابي الحلبي، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص104.
(3) الفروق في اللغة / 91.
(4) التعريفات للجرجاني.
(5) الفروق في اللغة / 91.(14/203)
ب - الظَّنُّ:
3 - الظَّنُّ هُوَ الاِعْتِقَادُ الرَّاجِحُ مَعَ احْتِمَال النَّقِيضِ، وَيُسْتَعْمَل أَيْضًا فِي الْيَقِينِ وَالشَّكِّ.
وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْوَهْمَ الطَّرَفُ الْمَرْجُوحُ مُطْلَقًا
وَقِيل: الظَّنُّ أَحَدُ طَرَفَيِ الشَّكِّ بِصِفَةِ الرُّجْحَانِ
وَقِيل: الظَّنُّ الطَّرَفُ الرَّاجِحُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ، الْوَهْمُ: الطَّرَفُ الرَّاجِحُ غَيْرُ الْمُطَابِقِ لِلْوَاقِعِ. (1)
ج - الشَّكُّ:
4 - الشَّكُّ هُوَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ بِلاَ تَرْجِيحٍ لأَِحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ عِنْدَ الشَّاكِّ
وَقِيل: الشَّكُّ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ، وَهُوَ الْوُقُوفُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لاَ يَمِيل الْقَلْبُ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَإِذَا تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُطْرَحِ الآْخَرُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ. (2)
د - الْيَقِينُ:
5 - الْيَقِينُ فِي اللُّغَةِ: الْعِلْمُ الَّذِي لاَ شَكَّ فِيهِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اعْتِقَادُ الشَّيْءِ بِأَنَّهُ كَذَا، مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ إِلاَّ كَذَا، مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ غَيْرَ مُمْكِنِ الزَّوَال. (3)
__________
(1) التعريفات للجرجاني. والأشباه والنظائر لابن نجيم. ط دار الطباعة العامرة / 104.
(2) التعريفات للجرجاني، ونهاية المحتاج 1 / 265، والأشباه والنظائر لابن نجيم / 104.
(3) التعريفات للجرجاني.(14/203)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ التَّوَهُّمَ بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ لاَ عِبْرَةَ لَهُ فِي الأَْحْكَامِ، فَكَمَا لاَ يَثْبُتُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ اسْتِنَادًا عَلَى وَهْمٍ، لاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الشَّيْءِ الثَّابِتِ بِصُورَةٍ قَطْعِيَّةٍ بِوَهْمٍ طَارِئٍ.
مِثَال ذَلِكَ: إِذَا تُوُفِّيَ الْمُفْلِسُ، تُبَاعُ أَمْوَالُهُ وَتُقْسَمُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ تُوُهِّمَ أَنَّهُ رُبَّمَا ظَهَرَ غَرِيمٌ آخَرُ جَدِيدٌ؛ لأَِنَّهُ لاَ عِبْرَةَ لِلتَّوَهُّمِ. (1)
وَكَمَا إِذَا ظَنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ مِنْ صَلاَةٍ، وَتَوَهَّمَ شَغْلَهَا بِهَا فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ. إِذْ لاَ عِبْرَةَ لِلْوَهْمِ. (2)
وَيُذْكَرُ التَّوَهُّمُ وَيُرَادُ بِهِ مَا يُقَابِل الْيَقِينَ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ بِقَوْلِهِمْ: " فَإِنْ تَيَقَّنَ الْمُسَافِرُ فَقْدَ الْمَاءِ تَيَمَّمَ بِلاَ طَلَبٍ وَإِنْ تَوَهَّمَهُ (أَيْ وَقَعَ فِي وَهْمِهِ: أَيْ ذِهْنِهِ، بِأَنْ جَوَّزَ وُجُودَ ذَلِكَ تَجْوِيزًا رَاجِحًا وَهُوَ الظَّنُّ، أَوْ مَرْجُوحًا وَهُوَ الْوَهْمُ، أَوْ مُسْتَوِيًا وَهُوَ الشَّكُّ) طَلَبَهُ. (3)
وَقَدْ يُعْمَل بِالْوَهْمِ فِي حَال شَغْل الذِّمَّةِ وَتَوَهُّمِ بَرَاءَتِهَا، وَهِيَ لاَ تَبْرَأُ إِلاَّ بِالْيَقِينِ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بِقَوْلِهِمْ: " إِذَا ظَنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ مِنْ
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام العدلية 1 / 65، ومجلة الأحكام العدلية م (74) .
(2) حاشية الدسوقي 1 / 264، 265.
(3) نهاية المحتاج 1 / 265، 271، 288، 304، 305، 306.(14/204)
صَلاَةٍ، وَتَوَهَّمَ شَغْلَهَا بِهَا، فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، بِخِلاَفِ مَنْ ظَنَّ تَمَامَ صَلاَتِهِ، وَتَوَهَّمَ بَقَاءَ رَكْعَةٍ مِنْهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَل بِالْوَهْمِ ". (1)
وَتَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنْ قَاعِدَةِ " لاَ عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ ". (2) وَقَاعِدَةِ " لاَ عِبْرَةَ بِالتَّوَهُّمِ " (3) وَفَرَّعُوا عَلَيْهِمَا مَسَائِل كَثِيرَةً يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِاخْتِلاَفِ الْمَوَاطِنِ، وَلاَ يُمْكِنُ حَصْرُهَا فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ فَيُرْجَعُ إِلَى مَظَانِّهَا فِي كُل مَذْهَبٍ.
قَال صَاحِبُ دُرَرِ الْحُكَّامِ شَرْحِ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ عِنْدَ قَاعِدَةِ (لاَ عِبْرَةَ لِلتَّوَهُّمِ) مَا نَصُّهُ:
يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّهُ كَمَا لاَ يَثْبُتُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ اسْتِنَادًا عَلَى وَهْمٍ لاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الشَّيْءِ الثَّابِتِ بِصُورَةٍ قَطْعِيَّةٍ بِوَهْمٍ طَارِئٍ.
مِثَال ذَلِكَ: إِذَا تُوُفِّيَ الْمُفْلِسُ تُبَاعُ أَمْوَالُهُ وَتُقْسَمُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ تُوُهِّمَ أَنَّهُ رُبَّمَا ظَهَرَ غَرِيمٌ
__________
(1) حاشية الدسوقي 1 / 264، 265.
(2) مجلة الأحكام العدلية م (72) ، ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام ط مكتبة النهضة 1 / 64، والأشباه والنظائر لابن نجيم 1 / 193 ط دار الطباعة العامرة. وقواعد الأحكام 1 / 23، والأشباه والنظائر للسيوطي / 157 ط دار الكتب العلمية، والمنثور في القواعد للزركشي 2 / 353، والقواعد لابن رجب / 120، 121 ط دار المعرفة. ونيل المآرب 1 / 94، وكشاف القناع 1 / 167، 177، والمغني 1 / 196، 197.
(3) مجلة الأحكام العدلية م (74) ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 64، وقواعد الأحكام 1 / 23، والشرح الصغير 1 / 81، 230، 364، 377، وكشاف القناع 1 / 167، 177.(14/204)
آخَرُ جَدِيدٌ، وَالْوَاجِبُ مُحَافَظَةً عَلَى حُقُوقِ ذَلِكَ الدَّائِنِ الْمَجْهُول، أَلاَّ تُقْسَمَ، وَلَكِنْ لأَِنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ لِلتَّوَهُّمِ تُقْسَمُ الأَْمْوَال عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَمَتَى ظَهَرَ غَرِيمٌ جَدِيدٌ يَأْخُذُ حَقَّهُ مِنْهُمْ حَسَبَ الأُْصُول الْمَشْرُوعَةِ.
كَذَا إِذَا بِيعَتْ دَارٌ وَكَانَ لَهَا جَارَانِ لِكُلٍّ حَقُّ الشُّفْعَةِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ فَادَّعَى الشَّفِيعُ الْحَاضِرُ الشُّفْعَةَ فِيهَا يُحْكَمُ لَهُ بِذَلِكَ، وَلاَ يَجُوزُ إِرْجَاءُ الْحُكْمِ بِدَاعِي أَنَّ الْغَائِبَ رُبَّمَا طَلَبَ الشُّفْعَةَ فِي الدَّارِ الْمَذْكُورَةِ. كَذَلِكَ إِذَا كَانَ لِدَارِ شَخْصٍ نَافِذَةٌ عَلَى أُخْرَى لِجَارِهِ تَزِيدُ عَلَى طُول الإِْنْسَانِ فَجَاءَ الْجَارُ طَالِبًا سَدَّ تِلْكَ النَّافِذَةِ بِدَاعِي أَنَّهُ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَأْتِيَ صَاحِبُ النَّافِذَةِ بِسُلَّمِ وَيُشْرِفَ عَلَى مَقَرِّ النِّسَاءِ فَلاَ يُلْتَفَتُ لِطَلَبِهِ. وَكَذَا لاَ يُلْتَفَتُ لِطَلَبِهِ فِيمَا لَوْ وَضَعَ جَارُهُ فِي غُرْفَةٍ مُجَاوِرَةٍ لَهُ تِبْنًا وَطَلَبَ رَفْعَهُ بِدَاعِي أَنَّهُ مِنَ الْمُحْتَمَل أَنْ تَعْلَقَ بِهِ النَّارُ فَتَحْتَرِقَ دَارُهُ.
كَذَا: إِذَا جَرَحَ شَخْصٌ آخَرَ ثُمَّ شُفِيَ الْمَجْرُوحُ مِنْ جُرْحِهِ تَمَامًا وَعَاشَ مُدَّةً ثُمَّ تُوُفِّيَ فَادَّعَى وَرَثَتُهُ بِأَنَّهُ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ وَالِدُهُمْ مَاتَ بِتَأْثِيرِ الْجُرْحِ فَلاَ تُسْمَعُ دَعْوَاهُمْ. (1)
__________
(1) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 / 65.(14/205)
تَيَامُنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّيَامُنُ مَصْدَرُ تَيَامَنَ إِذَا أَخَذَ ذَاتَ الْيَمِينِ، وَمِثْلُهُ يَامَنَ.
وَتَيَمَّنْتُ بِهِ مِثْل تَبَرَّكْتُ وَزْنًا وَمَعْنًى.
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ فِي الاِصْطِلاَحِ عَنْ أَصْل الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فَالتَّيَامُنُ: الْبَدْءُ بِالْيَمِينِ فِي الْوُضُوءِ وَاللُّبْسِ، وَسَقْيِ الْمَاءِ. . إِلَخْ. وَمِثْلُهُ التَّيَمُّنُ قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: التَّيَمُّنُ: الاِبْتِدَاءُ فِي الأَْفْعَال بِالْيَدِ الْيُمْنَى، وَالرِّجْل الْيُمْنَى، وَالْجَانِبِ الأَْيْمَنِ. (1)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - التَّيَامُنُ سُنَّةٌ لِحَدِيثِ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ فِي طَهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ (2) . وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي
__________
(1) الصحاح للجوهري، والمصباح المنير، وغريب القرآن للراغب الأصفهاني ولسان العرب (يمن) .
(2) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن. . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 523 - ط السلفية) ومسلم (1 / 226 ط الحلبي)(14/205)
الْغُسْل:
3 - تَقْدِيمُ الشِّقِّ الأَْيْمَنِ عَلَى الشِّقِّ الأَْيْسَرِ فِي الأَْغْسَال الْمَفْرُوضَةِ وَالْمَسْنُونَةِ سُنَّةٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ السَّابِقِ. فَيَغْسِل الشِّقَّ الأَْيْمَنَ الْمُقْبِل مِنْهُ وَالْمُدْبِرَ، ثُمَّ الأَْيْسَرَ كَذَلِكَ. (1)
الْوُضُوءُ:
4 - التَّيَامُنُ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ، مَنْ خَالَفَهَا فَاتَهُ الْفَضْل وَتَمَّ وُضُوءُهُ - فَيَغْسِل يَدَهُ الْيُمْنَى قَبْل الْيَدِ الْيُسْرَى، وَالرِّجْل الْيُمْنَى قَبْل الرِّجْل الْيُسْرَى؛ لِلتَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَانَ يَفْعَل ذَلِكَ فِي وُضُوئِهِ عَلَى الدَّوَامِ. (2)
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا تَوَضَّأْتُمْ فَابْدَءُوا بِمَيَامِنِكُمْ (3) .
مَسْحُ الْخُفَّيْنِ:
5 - الأَْفْضَل تَقْدِيمُ الرِّجْل الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى
__________
(1) بدائع الصنائع 1 / 22، والقوانين الفقهية ص31، ومغني المحتاج 1 / 74، والمغني لابن قدامة 1 / 217.
(2) حديث " كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك في وضوئه. . . "، ورد ذلك في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم (1 / 216 - ط الحلبي) .
(3) بدائع الصنائع 1 / 22، والقوانين الفقهية ص28، ومغني المحتاج 1 / 60 وحديث: " إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم ". أخرجه ابن ماجه (1 / 141 ط الحلبي) . وقال ابن دقيق العيد: هو حقيق بأن يصح، التلخيص لابن حجر (1 / 88 - ط شركة الطباعة الفنية) .(14/206)
فِي مَسْحِ الْخُفَّيْنِ وَالْجَوْرَبَيْنِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ السَّابِقِ. (1)
التَّيَمُّمُ:
6 - تَقْدِيمُ الْيَمِينِ عَلَى الْيَسَارِ فِي التَّيَمُّمِ سُنَّةٌ. فَيَمْسَحُ يَدَهُ الْيُمْنَى قَبْل الْيَدِ الْيُسْرَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: بَعَثَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِِدِ الْمَاءَ فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَال: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيَكَ أَنْ تَقُول بِيَدَيْك هَكَذَا، حَتَّى قَال ثُمَّ ضَرَبَ بِشِمَالِهِ عَلَى يَمِينِهِ، وَبِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ (2) .
دُخُول الْمَسْجِدِ:
7 - يُسْتَحَبُّ التَّيَامُنُ عِنْدَ دُخُول الْمَسْجِدِ وَالْبَيْتِ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْخَلاَءِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلِكَ الْيُمْنَى، وَإِذَا خَرَجْتَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلِك الْيُسْرَى (3) فَيُقَدِّمَ
__________
(1) البدائع 1 / 22، ومغني المحتاج 1 / 67، والمغني لابن قدامة 1 / 298.
(2) سبل السلام 1 / 147، وبدائع الصنائع 1 / 46، ومغني المحتاج 1 / 100، والمغني لابن قدامة 1 / 254، والقوانين الفقهية ص43 وحديث: " إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 356 - ط السلفية) .
(3) حديث: " عن أنس: من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى ". أخرجه الحاكم (1 / 218 - ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه ووافقه الذهبي.(14/206)
رِجْلَهُ الْيُمْنَى عِنْدَ دُخُول الْمَسْجِدِ وَالْبَيْتِ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْخَلاَءِ وَيُؤَخِّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى. (1)
اللِّبَاسُ:
8 - يُسْتَحَبُّ الاِبْتِدَاءُ بِالْيَمِينِ فِي اللِّبَاسِ، فَيُدْخِل كُمَّهُ الأَْيْمَنَ قَبْل الأَْيْسَرِ فِي لُبْسِ الْجُبَّةِ وَالْقَمِيصِ وَغَيْرِهِمَا، وَيُدْخِل رِجْلَهُ الْيُمْنَى قَبْل الْيُسْرَى فِي لُبْسِ السَّرَاوِيل، وَالنِّعَال، وَالأَْخْفَافِ، وَأَشْبَاهِهَا. (2) لِحَدِيثِ عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا السَّابِقِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِذَا انْتَعَل أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ، وَإِذَا انْتَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَال لِتَكُنِ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَل وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ (3) .
وَعَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْعَل يَمِينَهُ لِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَثِيَابِهِ، وَيَجْعَل شِمَالَهُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ (4) .
__________
(1) البدائع 1 / 22، ومغني المحتاج 1 / 39، والمغني لابن قدامة 1 / 168.
(2) القوانين الفقهية ص443.
(3) حديث: " إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين وإذا انتزع فليبدأ بالشمال ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 311 - ط السلفية) .
(4) حديث: " كان يجعل يمينه لطعامه. . . " أخرجه أبو داود (1 / 32 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث حفصة بنت عمر رضي الله عنهما وحسنه النووي كما في فيض القدير (5 / 204) .(14/207)
الصَّلاَةُ
9 - يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي التَّيَامُنُ عِنْدَ التَّسْلِيمِ فِي آخِرِ الصَّلاَةِ فَيَبْدَأُ بِالاِلْتِفَاتِ إِلَى جِهَةِ يَمِينِهِ. (1) لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الأَْيْمَنِ وَعَنْ يَسَارِهِ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الأَْيْسَرِ (2) .
وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا الْوُقُوفُ عَنْ يَمِينِ الإِْمَامِ إِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا مَعَ الإِْمَامِ. (3)
لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْسِي مِنْ وَرَائِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ (4) .
فَلَوْ وَقَفَ الْمَأْمُومُ الْوَاحِدُ عَنْ يَسَارِ الإِْمَامِ أَدَارَهُ الإِْمَامُ إِلَى الْيَمِينِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَوْ أَكْمَل رَكْعَةً مِنَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 / 321، والقوانين الفقهية ص71، ومغني المحتاج 1 / 177، والمغني لابن قدامة 1 / 556.
(2) حديث: " كان يسلم عن يمينه. . . . " أخرجه النسائي (3 / 64 ط المكتبة التجارية) من حديث عبد الله بن مسعود ونقل ابن حجر عن العقيلي أنه صححه (التلخيص 1 / 270 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة) .
(3) بدائع الصنائع 1 / 158، ومغني المحتاج 1 / 246، والقوانين الفقهية ص71، والمغني لابن قدامة 2 / 214.
(4) حديث ابن عباس رضي الله عنهما: " صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة. . . " أخرجه البخاري (الفتح 2 / 211 ط السلفية) .(14/207)
الصَّلاَةِ وَهُوَ عَنْ يَسَارِ الإِْمَامِ مَعَ خُلُوِّ يَمِينِهِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ لَكِنْ لَوْ كَبَّرَ عَنْ يَسَارِ الإِْمَامِ ثُمَّ انْتَقَل إِلَى يَمِينِهِ قَبْل إِتْمَامِ الرَّكْعَةِ صَحَّتْ صَلاَتُهُ. (1)
وَيُسْتَحَبُّ الْوُقُوفُ عَنْ يَمِينِ الصَّفِّ إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً (2) لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ قَال: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ يُقْبِل عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ (3) . وَيُسْتَحَبُّ الصَّلاَةُ فِي مَيْمَنَةِ الْمَسْجِدِ إِذَا كَانَ يُصَلِّي مُنْفَرِدًا.
الأَْذَانُ:
10 - يَبْدَأُ الْمُؤَذِّنُ فِي الأَْذَانِ لِلصَّلاَةِ بِالاِلْتِفَاتِ إِلَى يَمِينِهِ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ الأُْولَى وَهِيَ " حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ " ثُمَّ إِلَى الْيَسَارِ عِنْدَ قَوْلِهِ " حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ " لِفِعْل بِلاَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ. (4) وَتُقَدَّمُ الأُْذُنُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى عِنْدَ الأَْذَانِ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ فَيُؤَذِّنُ فِي أُذُنِهِ الْيُمْنَى أَوَّلاً ثُمَّ يُقِيمُ فِي أُذُنِهِ الْيُسْرَى، وَذَلِكَ لِيَسْبِقَ ذِكْرُ اللَّهِ
__________
(1) كشاف القناع 1 / 486.
(2) بدائع الصنائع 1 / 159.
(3) حديث البراء: " كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . . " أخرجه مسلم (1 / 492 ط الحلبي) .
(4) بدائع الصنائع 1 / 149، ومغني المحتاج 1 / 136، والمغني لابن قدامة 1 / 426.(14/208)
تَعَالَى إِلَى مَسَامِعِ الطِّفْل قَبْل أَيِّ شَيْءٍ آخَرَ (1) ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ طَرْدِ الشَّيْطَانِ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُدْبِرُ عِنْدَ سَمَاعِ الأَْذَانِ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ (2) .
غُسْل الْمَيِّتِ:
11 - يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ غُسْل الْجَانِبِ الأَْيْمَنِ مِنَ الْمَيِّتِ عَلَى الْجَانِبِ الأَْيْسَرِ، فَيُغَسِّل شِقَّهُ الأَْيْمَنَ مِمَّا يَلِي الْقَفَا وَالظَّهْرَ إِلَى الْقَدَمِ، ثُمَّ يَحْرِفُهُ إِلَى شِقِّهِ الأَْيْمَنِ فَيُغَسِّل شِقَّهُ الأَْيْسَرَ كَذَلِكَ. (3)
لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لَهُنَّ فِي غُسْل ابْنَتِهِ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا (4) .
خِصَال الْفِطْرَةِ:
12 - يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ الْيَمِينِ فِي السِّوَاكِ فَيَبْدَأُ بِجَانِبِ الْفَمِ الأَْيْمَنِ قَبْل الأَْيْسَرِ، وَيُمْسِكُ
__________
(1) تحفة المحتاج 9 / 376، ومغني المحتاج 4 / 296.
(2) خبر إدبار الشيطان عند سماع الأذان أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين " (الفتح 2 / 84 - ط السلفية) ومسلم (1 / 398 - ط الحلبي) .
(3) بدائع الصنائع 1 / 301، والسراج الوهاج على متن المنهاج ص104، والمغني لابن قدامة 2 / 458، والقوانين الفقهية ص97.
(4) حديث: " ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 130 - ط السلفية) ومسلم (2 / 647 - ط الحلبي) .(14/208)
السِّوَاكَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى لاَ الْيُسْرَى (1) لِحَدِيثِ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ فِي طَهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ وَسِوَاكِهِ (2) .
وَيُسْتَحَبُّ التَّيَامُنُ فِي تَقْلِيمِ الأَْظَافِرِ. فَيُقَدِّمُ تَقْلِيمَ أَظَافِرِ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى تَقْلِيمِ أَظَافِرِ الْيَدِ الْيُسْرَى، وَأَظَافِرِ الرِّجْل الْيُمْنَى عَلَى تَقْلِيمِ أَظَافِرِ الرِّجْل الْيُسْرَى. (3)
الْحَلْقُ:
13 - يُسْتَحَبُّ التَّيَامُنُ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ فَيُقَدِّمُ الشِّقَّ الأَْيْمَنَ عَلَى الشِّقِّ الأَْيْسَرِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَل الْعِبْرَةُ بِيَمِينِ الْمَحْلُوقِ أَوْ بِيَمِينِ الْحَالِقِ؟ .
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِيَمِينِ الْمَحْلُوقِ فَيَبْدَأُ بِشِقِّ رَأْسِهِ الأَْيْمَنِ ثُمَّ الشِّقِّ الأَْيْسَرِ. (4)
وَدَلِيل الْجُمْهُورِ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى مِنًى فَأَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى وَنَحَرَ، ثُمَّ قَال لِلْحَلاَّقِ: خُذْ وَأَشَارَ إِلَى جَانِبِهِ
__________
(1) مغني المحتاج 1 / 55، والمغني لابن قدامة 1 / 96.
(2) حديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن. . . . " سبق تخريجه ف / 2.
(3) تحفة المحتاج بشرح المنهاج 3 / 476، ومغني المحتاج 4 / 296، والمغني لابن قدامة 10 / 87.
(4) المغني لابن قدامة 3 / 434، والقوانين الفقهية ص139، ومغني المحتاج 502.(14/209)
الأَْيْمَنِ ثُمَّ الأَْيْسَرِ، ثُمَّ جَعَل يُعْطِيهِ النَّاسَ (1) .
وَفِي رِوَايَةٍ: لَمَّا رَمَى الْجَمْرَةَ وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَل الْحَلاَّقَ شِقَّهُ الأَْيْمَنَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الأَْنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الأَْيْسَرَ فَقَال: احْلِقْ: فَحَلَقَهُ، فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ فَقَال: اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ (2) .
وَذَهَبَ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا عَلَى يَمِينِ الْحَالِقِ وَهُوَ شِقُّ رَأْسِ الْمَحْلُوقِ الأَْيْسَرِ.
إِدَارَةُ الإِْنَاءِ:
14 - يُسَنُّ إِدَارَةُ الإِْنَاءِ عَلَى الأَْيْمَنِ فَالأَْيْمَنِ بَعْدَ الْمُبْتَدِئِ بِالشُّرْبِ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ جُلَسَاءُ آخَرُونَ وَأَرَادَ أَنْ يُعَمِّمَ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ أَفْضَل مِنَ الذِي عَلَى يَمِينِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَشَرِبَ فَقَال عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ يَا رَسُول اللَّهِ فَأَعْطَى الأَْعْرَابِيَّ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ قَال: الأَْيْمَنَ فَالأَْيْمَنَ (3) .
__________
(1) حديث أنس: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة. . . " أخرجه مسلم (2 / 947 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " اقسمه بين الناس " أخرجه مسلم (2 / 948 - ط الحلبي) .
(3) حديث: " الأيمن فالأيمن " أخرجه أبو أحمد (3 / 110، 231 - ط الميمنية) وأصله في البخاري (الفتح 10 / 86 - ط السلفية) .(14/209)
وَلِحَدِيثِ سَهْل بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الأَْشْيَاخُ، فَقَال لِلْغُلاَمِ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاَءِ؟ فَقَال الْغُلاَمُ: وَاَللَّهِ يَا رَسُول اللَّهِ لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا. فَتَلَّهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ (1) .
وَهَذَا الْغُلاَمُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. (2)
النَّوْمُ:
15 - يُسْتَحَبُّ النَّوْمُ عَلَى الشِّقِّ الأَْيْمَنِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رُوِيَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَامَ عَلَى شِقِّهِ الأَْيْمَنِ ثُمَّ قَال: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ. آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ (3) .
__________
(1) حديث سهل بن سعد: " أتأذن لي أن أعطي هؤلاء " أخرجه البخاري (الفتح 10 / 86 - ط السلفية) .
(2) دليل الفالحين شرح رياض الصالحين 3 / 249، وسبل السلام 3 / 251.
(3) حديث البراء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 115 - ط السلفية) .(14/210)
وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قَال لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَْيْمَنِ وَقُل: وَذَكَرَ نَحْوَهُ: وَفِيهِ: وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُول (1) .
وَهُنَاكَ أُمُورٌ يُسَنُّ فِعْلُهَا بِالْيَمِينِ دُونَ الْيَسَارِ إِلاَّ لِلضَّرُورَةِ، مِنْهَا: اسْتِلاَمُ الْحَجَرِ الأَْسْوَدِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، وَالْمُصَافَحَةُ، وَالأَْكْل وَالشُّرْبُ وَتَفْصِيل كُل ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ. (2)
__________
(1) حديث البراء: " إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضؤك " أخرجه البخاري (الفتح 11 / 109 - ط السلفية) .
(2) القوانين الفقهية ص442، ومغني المحتاج 3 / 250.(14/210)
تَيْسِيرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّيْسِيرُ لُغَةً مَصْدَرُ يَسَّرَ، يُقَال: يَسَّرَ الأَْمْرَ إِذَا سَهَّلَهُ وَلَمْ يُعَسِّرْهُ وَلَمْ يَشُقَّ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ نَفْسِهِ فِيهِ. وَفِي التَّنْزِيل {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَل مِنْ مُدَّكِرٍ} (1) أَيْ سَهَّلْنَاهُ وَجَعَلْنَا الاِتِّعَاظَ بِهِ مَيْسُورًا.
وَفِي الْحَدِيثِ يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا (2) وَهُوَ مِنَ الْيُسْرِ، وَالْيُسْرُ فِي اللُّغَةِ اللِّينُ وَالاِنْقِيَادُ، وَيُقَال: يَاسَرَ فُلاَنٌ فُلاَنًا إِذَا لاَيَنَهُ، وَتَيَسَّرَتِ الْبِلاَدُ إِذَا أَخْصَبَتْ، وَالْيُسْرُ وَالْمَيْسَرَةُ الْغِنَى، وَكَذَلِكَ الْيَسَارُ (3) ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (4) .
وَمِنْ مَعَانِي التَّيْسِيرِ فِي اللُّغَةِ التَّهْيِئَةُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (5) أَيْ نُهَيِّئُهُ
__________
(1) سورة القمر / 54.
(2) حديث: " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تفرقوا " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 163 - ط السلفية) . ومسلم (3 / 1359 - ط عيسى الحلبي) .
(3) لسان العرب.
(4) سورة البقرة / 280.
(5) سورة الليل / 7.(14/211)
لِلْعَوْدِ إِلَى الْعَمَل الصَّالِحِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ تَيَسَّرُوا لِلْقِتَال (1) أَيْ تَهَيَّئُوا لَهُ وَتَأَهَّبُوا.
وَمَعْنَى التَّيْسِيرِ فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ مُوَافِقٌ لِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّخْفِيفُ:
2 - التَّخْفِيفُ لُغَةً ضِدُّ التَّثْقِيل، سَوَاءٌ أَكَانَ حِسِّيًّا أَمْ مَعْنَوِيًّا، وَالْخِفَّةُ ضِدُّ الثِّقَل، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} (2) أَيْ: قَلَّتْ أَعْمَالُهُ الصَّالِحَةُ حَتَّى رَجَحَتْ عَلَيْهَا سَيِّئَاتُهُ. وَالْخِفَّةُ خِفَّةُ الْوَزْنِ وَخِفَّةُ الْحَال. (3)
وَالتَّكْلِيفُ الْخَفِيفُ هُوَ الَّذِي يَسْهُل أَدَاؤُهُ، وَالثَّقِيل هُوَ الَّذِي يَشُقُّ أَدَاؤُهُ، كَالْجِهَادِ.
وَالتَّخْفِيفُ فِي الاِصْطِلاَحِ رَفْعُ مَشَقَّةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِنَسْخٍ، أَوْ تَسْهِيلٍ، أَوْ إِزَالَةِ بَعْضِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (4) أَيْ إِنْ كَانَ فِيهِ فِي الأَْصْل حَرَجٌ أَوْ مَشَقَّةٌ.
فَالتَّخْفِيفُ أَخَصُّ مِنَ التَّيْسِيرِ إِذْ هُوَ تَيْسِيرُ مَا كَانَ فِيهِ عُسْرٌ فِي الأَْصْل، وَلاَ يَدْخُل فِيهِ مَا كَانَ فِي الأَْصْل مُيَسَّرًا.
__________
(1) حديث: " تيسروا للقتال " أخرجه مسلم (1 / 125 - ط. عيسى الحلبي) .
(2) سورة القارعة / 8.
(3) لسان العرب.
(4) زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 2 / 60 عند قوله تعالى (يريد الله أن يخفف عنكم) ، بيروت، المكتب الإسلامي 1384 هـ.(14/211)
ب - التَّرْخِيصُ:
3 - التَّرْخِيصُ لُغَةً التَّيْسِيرُ وَالتَّسْهِيل. وَالاِسْمُ الرُّخْصَةُ. وَيُقَال: رَخَّصَ لَهُ فِي الأَْمْرِ، وَأَرْخَصَ لَهُ فِيهِ: إِذَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: وَأَرْخَصَ فِي السَّلَمِ (1) أَيْ أَذِنَ فِيهِ. وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الرَّخَاصَةِ، وَهِيَ فِي النَّبَاتِ هَشَاشَتُهُ وَلِينُهُ، وَفِي الْمَرْأَةِ نُعُومَةُ بَشَرَتِهَا وَلُيُونَتُهَا. وَمِنْهُ الرُّخْصُ لاِنْخِفَاضِ السِّعْرِ، ضِدُّ الْغَلاَءِ؛ لِمَا فِي الرُّخْصِ مِنَ السُّهُولَةِ، وَفِي الْغَلاَءِ مِنَ الشِّدَّةِ.
وَالتَّرْخِيصُ فِي الاِصْطِلاَحِ أَنْ يَجْعَل فِي الأَْمْرَ سُهُولَةً. وَالرُّخْصَةُ تُسْتَعْمَل بِاصْطِلاَحَيْنِ:
الأَْوَّل: الْحُكْمِ النَّازِل بِالْيُسْرِ بَعْدَ الْعُسْرِ لِعُذْرٍ مِنَ الأَْعْذَارِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الأَْوَّل: مَا اُسْتُبِيحَ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ. فَالإِْذْنُ فِي السَّلَمِ مَعَ انْعِدَامِ الْمَبِيعِ رُخْصَةٌ مِنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ عَلَى التَّعْرِيفِ الأَْوَّل،
__________
(1) حديث: " وأرخص في السلم " قال الزيلعي حديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان أخرجه أصحاب السنن. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. . . " وأما الرخصة في السلم، فأخرج الأئمة الستة في كتبهم. . . عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم والناس يستلفون في الثمر السنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم ". نصب الراية (4 / 45 - 46ط المجلس الأعلى) .(14/212)
وَلَيْسَ رُخْصَةً عَلَى التَّعْرِيفِ الثَّانِي، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا. وَكَذَا مَا نُسِخَ عَنَّا مِنَ الآْصَارِ وَالأَْغْلاَل الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا رُخْصَةٌ عَلَى الأَْوَّل، لاَ عَلَى الثَّانِي؛ لأَِنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَبْقَ عَلَيْنَا. (1)
ج - التَّوْسِعَةُ:
4 - التَّوْسِعَةُ مَصْدَرُ وَسَّعَ، أَيْ صَيَّرَ الشَّيْءَ وَاسِعًا، وَالسِّعَةُ ضِدُّ الضِّيقِ، وَالسِّعَةُ الْغِنَى وَالرَّفَاهِيَةُ. وَوَسَّعَ اللَّهُ عَلَى فُلاَنٍ: أَغْنَاهُ وَرَفَّهَهُ، وَوَسَّعَ فُلاَنٌ عَلَى أَهْلِهِ: أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ عَنْ سِعَةٍ، أَيْ بِمَا يَزِيدُ عَنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ. (2)
فَالتَّوْسِعَةُ مِنَ التَّيْسِيرِ، بَل هِيَ أَعْلَى التَّيْسِيرِ.
د - رَفْعُ الْحَرَجِ:
5 - الْحَرَجُ لُغَةً: الضِّيقُ وَمَا لاَ مَخْرَجَ لَهُ، وَقَال بَعْضُهُمْ: هُوَ أَضْيَقُ الضِّيقِ. سُئِل ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْحَرَجِ، فَدَعَا رَجُلاً مِنْ هُذَيْلٍ فَقَال لَهُ: مَا الْحَرَجُ فِيكُمْ؟ فَقَال: الْحَرِجَةُ مِنَ الشَّجَرِ مَا لاَ مَخْرَجَ لَهُ. فَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ ذَلِكَ. الْحَرَجُ مَا لاَ مَخْرَجَ لَهُ. (3)
__________
(1) المصباح المنير، مسلم الثبوت 1 / 116 - 118، والمستصفى بهامشه 1 / 68، القاهرة، مطبعة بولاق.
(2) لسان العرب مادة: " وسع ".
(3) الموفقات للشاطبي بتعليق الشيخ عبد الله دراز 2 / 159، القاهرة، المكتبة التجارية، 1955 م.(14/212)
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: الْحَرَجُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ فَوْقَ الْمُعْتَادِ. (1)
وَرَفْعُ الْحَرَجِ: إِزَالَةُ مَا فِي التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ مِنَ الْمَشَقَّةِ بِرَفْعِ التَّكْلِيفِ مِنْ أَصْلِهِ، أَوْ بِتَخْفِيفِهِ، أَوِ بِالتَّخْيِيرِ فِيهِ، أَوْ بِأَنْ يُجْعَل لَهُ مَخْرَجٌ، كَرَفْعِ الْحَرَجِ فِي الْيَمِينِ بِإِبَاحَةِ الْحِنْثِ فِيهَا مَعَ التَّكْفِيرِ عَنْهَا أَوْ بِنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْوَسَائِل، فَرَفْعُ الْحَرَجِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ الشِّدَّةِ، خِلاَفًا لِلتَّيْسِيرِ.
هـ - التَّوَسُّطُ:
6 - التَّوَسُّطُ فِي الأَْمْرِ أَنْ لاَ يَذْهَبَ فِيهِ إِلَى أَحَدِ طَرَفَيْهِ. وَالتَّوَسُّطُ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ. فَلاَ غُلُوَّ فِيهَا وَلاَ تَقْصِيرَ، وَلَكِنْ هِيَ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا. وَالتَّوَسُّطُ فِي الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهَا لاَ تَمِيل إِلَى جَانِبِ الإِْفْرَاطِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَى الْعِبَادِ، وَلاَ إِلَى جَانِبِ التَّيْسِيرِ الشَّدِيدِ الَّذِي يَصِل إِلَى حَدِّ التَّحَلُّل مِنَ الأَْحْكَامِ. وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ. فَالتَّوَسُّطُ نَوْعٌ مِنَ التَّيْسِيرِ، وَلَيْسَ مُقَابِلاً لَهُ؛ إِذْ الَّذِي يُقَابِل التَّيْسِيرَ التَّعْسِيرُ وَالتَّشْدِيدُ، أَمَّا التَّوَسُّطُ فَفِيهِ الْيُسْرُ لأَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَمِثَالُهُ يُسْرُ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ؛ إِذْ فِيهِمَا مَشَقَّةٌ، وَلَكِنَّهَا مُعْتَادَةٌ. (2)
__________
(1) الموافقات 2 / 159.
(2) الموافقات 2 / 163 و4 / 259، 260.(14/213)
و - التَّشْدِيدُ وَالتَّثْقِيل:
7 - التَّشْدِيدُ وَالتَّثْقِيل ضِدُّ التَّخْفِيفِ، وَأَصْل التَّشْدِيدِ فِي اللُّغَةِ مِنْ شَدِّ الْحَبْل، وَالشِّدَّةُ الصَّلاَبَةُ وَالْقُوَّةُ. (1)
حُكْمُ التَّيْسِيرِ:
8 - الْيُسْرُ وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ صِفَتَانِ أَسَاسِيَّتَانِ فِي دِينِ الإِْسْلاَمِ وَشَرِيعَتِهِ، وَالتَّيْسِيرُ مَقْصِدٌ أَسَاسِيٌّ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ. وَيَدُل عَلَى هَذَا الأَْصْل آيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَحَادِيثُ نَبَوِيَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَأَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَيْهِ:
فَمِنَ الْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (2) قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا ذَلِكَ سِعَةُ الإِْسْلاَمِ وَمَا جَعَل اللَّهُ فِيهِ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (3) وَقَوْلُهُ {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِْنْسَانُ ضَعِيفًا} (4) .
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ (5) أَيِ السَّهْلَةِ اللَّيِّنَةِ، وَقَوْلُهُ إِنَّ هَذَا
__________
(1) لسان العرب مادة: " شدد " و " ثقل ".
(2) سورة الحج / 78.
(3) سورة البقرة / 185.
(4) سورة النساء / 28.
(5) حديث: " بعثت بالحنيفية السمحة ". أخرجه أحمد (5 / 266 - ط المكتب الإسلامي) . والطبراني في الكبير (5 / 77 - ط الوطن العربي) من حديث أبي أمامة وأحمد (6 / 116 ط المكتب الإسلامي) من حديث عائشة قال السخاوي في المقاصد (ح214) ط دار الكتاب العربي بعد أن عزاه لأحمد: " سنده حسن ".(14/213)
الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ (1) وَقَوْلُهُ إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ (2) .
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ شَرَعَ هَذَا الدِّينَ فَجَعَلَهُ سَمْحًا سَهْلاً وَاسِعًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ ضَيِّقًا (3) .
وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي هَذَا الْبَابِ، قَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ إِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، إِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ أَيْ: الأَْمْرِ الْقَدِيمِ، أَيْ: الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ.
وَقَوْل إِبْرَاهِيمِ النَّخَعِيِّ: " إِذَا تَخَالَجَكَ أَمْرَانِ فَظُنَّ أَنَّ أَحَبَّهُمَا إِلَى اللَّهِ أَيْسَرُهُمَا ".
أَنْوَاعُ الْيُسْرِ فِي الشَّرِيعَةِ:
9 - يُسْرُ الشَّرِيعَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:
__________
(1) حديث: " إن هذا الدين يسر، ولن يشدد الدين أحد إلا غلبه ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 93 ط السلفية) .
(2) حديث: " إن خير دينكم أيسره ". أخرجه أحمد (4 / 338 ط المكتب الإسلامي) . قال الهيثمي (رواه أحمد ورجاله رجال صحيح خلا رجاء وقد وثقه ابن حبان. مجمع الزوائد 3 / 308 ط دار الكتاب العربي) .
(3) حديث: " إن الله شرع هذا الدين فجعله سمحًا وسهلاً واسعًا. . . . " لم نعثر عليه في المصادر الحديثية التي بين أيدينا.(14/214)
1 - تَيْسِيرُ مَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ وَالْعِلْمِ بِهَا وَسُهُولَةِ إِدْرَاكِ أَحْكَامِهَا وَمَرَامِيهَا.
2 - تَيْسِيرُ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ حَيْثُ سُهُولَةُ تَنْفِيذِهَا وَالْعَمَل بِهَا.
3 - أَمْرُ الشَّرِيعَةِ لِلْمُكَلَّفِينَ بِالتَّيْسِيرِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ.
النَّوْعُ الأَْوَّل: تَيْسِيرُ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ:
10 - اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ حَمَل هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الإِْسْلاَمِيَّةَ - أَوَّل مَا حَمَلَهَا - قَوْمٌ أُمِّيُّونَ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِكُتُبِ الأَْقْدَمِينَ وَلاَ بِعُلُومِهِمْ، مِنَ الْعُلُومِ الْكَوْنِيَّةِ، وَالْمَنْطِقِ، وَالرِّيَاضِيَّاتِ، وَغَيْرِهَا، وَلاَ مِنَ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ، بَل كَانُوا بَاقِينَ قَرِيبًا مِنَ الْفِطْرَةِ. وَأَرْسَل اللَّهُ إِلَيْهِمْ رَسُولاً أُمِّيًّا لَمْ يَكْتُبْ كِتَابًا، وَلَمْ يَخُطَّهُ بِيَمِينِهِ، وَلاَ عَرَفَ أَنْ يَقْرَأَ شَيْئًا مِمَّا كَتَبَهُ الْكَاتِبُونَ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُْمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْل لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} (1) وَقَال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِك إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (2) ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل أَرَادَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ الْمُبَارَكَةُ خَاتِمَةَ الشَّرَائِعِ،
__________
(1) سورة الجمعة / 2.
(2) سورة العنكبوت / 48.(14/214)
فَهِيَ لِمَنْ عَاصَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنْ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ عَامَّةٌ لِلْبَشَرِ جَمِيعًا، لَيْسَتْ لِلْعَرَبِ وَحْدَهُمْ، بَل لَهُمْ وَلِمَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الأُْمَمِ فِي مَشَارِقِ الأَْرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَفِيهِمِ الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، وَالْعَالِمُ وَالْجَاهِل، وَالْقَارِئُ وَالأُْمِّيُّ، وَالذَّكِيُّ وَالْبَلِيدُ. فَاقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ تَعَالَى أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الشَّرِيعَةُ الْعَامَّةُ الْخَاتِمَةُ مَيْسُورًا فَهْمُهَا وَتَعَقُّلُهَا وَالْعِلْمُ بِهَا لِتَسَعَ الْجَمِيعَ؛ إِذْ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِهَا عَسِيرًا، أَوْ مُتَوَقِّفًا عَلَى وَسَائِل عِلْمِيَّةٍ تَدُقُّ عَلَى الأَْفْهَامِ لَكَانَ مِنَ الْعَسِيرِ عَلَى جُمْهُورِ الْمُكَلَّفِينَ بِهَا أَخْذُهَا وَمَعْرِفَتُهَا أَوَّلاً، وَالاِمْتِثَال لأَِوَامِرِهَا وَنَوَاهِيهَا ثَانِيًا.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا يَلِي:
أ - تَيْسِيرُ الْقُرْآنِ:
11 - جَعَل اللَّهُ عَزَّ وَجَل الْقُرْآنَ مُيَسَّرَ التِّلاَوَةِ وَالْفَهْمِ عَلَى الْجُمْهُورِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِك لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} (1) وَقَال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَل مِنْ مُدَّكِرٍ} (2) . وَمِنْ تَيْسِيرِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ مُرَاعَاةً لِحَال النَّاسِ مِنْ حَيْثُ الْقُدْرَةُ عَلَى النُّطْقِ. وَيَدُل عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أُبَيٌّ بْنُ كَعْبٍ قَال: لَقِيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيل، فَقَال: يَا جِبْرِيل إِنِّي أُرْسِلْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ، إِلَى الشَّيْخِ
__________
(1) سورة مريم / 97.
(2) سورة القمر / 54.(14/215)
وَالْعَجُوزِ، وَالْغُلاَمِ وَالْجَارِيَةِ، وَالشَّيْخِ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ. فَقَال: إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِل عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ (1) .
وَيَرْجِعُ تَيْسِيرُ الْقُرْآنِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
الأَْوَّل: أَنَّهُ مُيَسَّرٌ لِلتِّلاَوَةِ لِسَلاَسَتِهِ وَخُلُوِّهِ مِنَ التَّعْقِيدِ اللَّفْظِيِّ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مُيَسَّرٌ لِلْحِفْظِ، فَيُمْكِنُ حِفْظُهُ وَيَسْهُل. قَال الرَّازِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى يُحْفَظُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَيْرَ الْقُرْآنِ.
الثَّالِثِ: سُهُولَةُ الاِتِّعَاظِ بِهِ لِشِدَّةِ تَأْثِيرِهِ فِي الْقُلُوبِ؛ وَلاِشْتِمَالِهِ عَلَى الْقَصَصِ وَالْحِكَمِ وَالأَْمْثَال، وَتَصْرِيفُ آيَاتِهِ عَلَى أَوْجُهٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَمَا قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثَ لَهُمْ ذِكْرًا} (2) .
الرَّابِعِ: أَنَّهُ جَعَلَهُ بِحَيْثُ يَعْلَقُ بِالْقُلُوبِ، وَيُسْتَلَذُّ سَمَاعُهُ، وَلاَ يُسْأَمُ مِنْ سَمَاعِهِ وَفَهْمِهِ، وَلاَ يَقُول سَامِعُهُ: قَدْ عَلِمْتُ وَفَهِمْتُ فَلاَ أَسْمَعُهُ، بَل كُل سَاعَةٍ يَجِدُ مِنْهُ لَذَّةً وَعِلْمًا. (3)
__________
(1) حديث: " يا جبريل إني أرسلت إلى أمة أمية. . . " أخرجه أحمد (5 / 405 - المكتب الإسلامي) قال الهيثمي: (فيه عاصم بن بهدلة وهو ثقة وفيه كلام لا يضر. (مجمع الزوائد 7 / 150 - ط دار الكتاب العربي) .
(2) سورة طه / 113.
(3) تفسير الرازي 29 / 42 - عند الآية 17 من سورة القمر.(14/215)
وَهَذَا التَّيْسِيرُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى إِنَّمَا هُوَ فِي الْغَالِبِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى جُمْهُورِ النَّاسِ. وَفِي الْقُرْآنِ مِنَ الأَْسْرَارِ، وَالْمَوَاعِظِ، وَالْعِبَرِ، مَا يَدُقُّ عَنْ فَهْمِ الْجُمْهُورِ، وَيَتَنَاوَل بَعْضَ الْخَوَاصِّ مِنْهُ شَيْئًا فَشَيْئًا بِحَسَبِ مَا يُيَسِّرُهُ اللَّهُ لَهُمْ وَيُلْهِمُهُمْ إِيَّاهُ، يَفْتَحُ عَلَى هَذَا بِشَيْءٍ لَمْ يَفْتَحْ بِهِ عَلَى الآْخَرِ، وَإِذَا عُرِضَ عَلَى الآْخَرِ أَقَرَّهُ. (1)
ب - التَّيْسِيرُ فِي عِلْمِ الأَْحْكَامِ الاِعْتِقَادِيَّةِ:
12 - التَّكَالِيفُ الاِعْتِقَادِيَّةُ فِي الإِْسْلاَمِ مُيَسَّرٌ تَعَقُّلُهَا وَفَهْمُهَا، يَشْتَرِكُ فِي فَهْمِهَا الْجُمْهُورُ، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ثَاقِبَ الْفَهْمِ وَمَنْ كَانَ بَلِيدًا، وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا لاَ يُدْرِكُهُ إِلاَّ الْخَوَاصُّ لَمَا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ عَامَّةً؛ وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْمَعَانِي الْمَطْلُوبُ عِلْمُهَا وَاعْتِقَادُهَا سَهْلَةَ الْمَأْخَذِ. فَعَرَّفَتِ الشَّرِيعَةُ الأُْمُورَ الإِْلَهِيَّةَ بِمَا يَسَعُ الْجُمْهُورَ فَهْمُهُ، وَحَضَّتْ عَلَى النَّظَرِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَالسَّيْرِ فِي الأَْرْضِ، وَالاِعْتِبَارِ بِآثَارِ الأُْمَمِ السَّالِفَةِ، وَأَحَالَتْ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ الاِشْتِبَاهُ مِنَ الأُْمُورِ الإِْلَهِيَّةِ إِلَى قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (2) ، وَسَكَتَتْ عَنْ أَشْيَاءَ لاَ تَهْتَدِي الْعُقُول إِلَيْهَا.
وَمِمَّا يَدُل عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يَبْلُغْنَا عَنْهُمْ مِنَ الْخَوْضِ فِي هَذِهِ الأُْمُورِ مَا يَكُونُ أَصْلاً لِلْبَاحِثِينَ، وَالْمُتَكَلَّفِينَ، كَمَا
__________
(1) الموافقات وتعليق الشيخ دراز 2 / 69، 86.
(2) سورة الشورى / 11.(14/216)
لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ الْمُقْتَدَى بِهِمْ لَمْ يَكُونُوا إِلاَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ. وَثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَال، وَعَنْ تَكَلُّفِ مَا لاَ يَعْنِي، عَامًّا فِي الاِعْتِقَادِيَّات وَالْعَمَلِيَّاتِ. (1)
ج - التَّيْسِيرُ فِي عِلْمِ الأَْحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ:
13 - رَاعَى الشَّارِعُ الْحَكِيمُ أُمَيَّةَ الْمَدْعُوِّينَ وَتَنَوُّعَ أَحْوَالِهِمْ فِي الْفَهْمِ، فَجَعَل الأَْحْكَامَ الْعَمَلِيَّةَ مِمَّا يَسْهُل تَعَقُّلُهَا وَتَعَلُّمُهَا وَفَهْمُهَا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَلَّفَهُمْ بِجَلاَئِل الأَْعْمَال الْعِبَادِيَّةِ، وَقَرَّبَ الْمَنَاطَ فِيهَا بِحَيْثُ يُدْرِكُهَا الْجُمْهُورُ، وَجَعَلَهُ ظَاهِرًا مُنْضَبِطًا، كَتَعْرِيفِ أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ بِالظِّلاَل وَطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَزَوَال الشَّمْسِ، وَغُرُوبِهَا، وَغُرُوبِ الشَّفَقِ، وَكَذَلِكَ فِي الصِّيَامِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَْسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (2) . وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسِبُ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا (3) وَقَال: لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَل وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ
__________
(1) الموافقات 2 / 88، 89.
(2) سورة البقرة / 187.
(3) حديث: " إنا أمة لا نكتب ولا نحسب: الشهر هكذا وهكذا " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 136 - ط السلفية) . ومسلم (2 / 761 - عيسى الحلبي)(14/216)
عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ (1) وَلَمْ يُطَالِبْنَا بِجَعْل ذَلِكَ مُرْتَبِطًا بِحِسَابِ مَسِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي الْمَنَازِل؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الدِّقَّةِ وَالْخَفَاءِ. (2)
وَلاَ يَعْنِي ذَلِكَ خُلُوُّ الشَّرِيعَةِ مِمَّا يَسْتَقِل الْخَاصَّةُ بِإِدْرَاكِهِ، وَهِيَ الأُْمُورُ الاِجْتِهَادِيَّةُ، الَّتِي تَخْفَى عَلَى الْجُمْهُورِ، غَيْرَ أَنَّ عَامَّةَ الأَْحْكَامِ الَّتِي يَحْتَاجُهَا الْمُكَلَّفُ، وَتَقُومُ مَقَامَ الأُْسُسِ مِنَ الدِّينِ، ظَاهِرَةٌ لاَ تَخْفَى عَلَى الْجُمْهُورِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ يَحْتَاجُ فِي تَطَلُّبِهِ إِلَى بَذْل جَهْدٍ، إِلاَّ أَنَّهُ يَتَيَسَّرُ لأَِهْل الْعِلْمِ الْوُصُول إِلَيْهِ بِاتِّبَاعِ مَا بَيَّنَتْهُ الشَّرِيعَةُ مِنْ طُرُقِ الاِجْتِهَادِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: يُسْرُ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ:
14 - يُسْرُ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ يَتَشَعَّبُ فِيهِ النَّظَرُ شُعْبَتَيْنِ:
1 - الْيُسْرُ الأَْصْلِيُّ، وَهُوَ الْيُسْرُ فِي مَا شُرِعَ مِنَ الأَْحْكَامِ مِنْ أَصْلِهِ مُيَسَّرًا لاَ عَنَتَ فِيهِ.
2 - الْيُسْرُ التَّخْفِيفِيُّ، وَهُوَ مَا وُضِعَ فِي الأَْصْل مُيَسَّرًا، غَيْرَ أَنَّهُ طَرَأَ فِيهِ الثِّقَل بِسَبَبِ ظُرُوفٍ اسْتِثْنَائِيَّةٍ، وَأَحْوَالٍ تَخُصُّ بَعْضَ الْمُكَلَّفِينَ، فَيُخَفِّفُ الشَّرْعُ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ الأَْصْلِيِّ.
__________
(1) حديث: " لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 119 - ط السلفية) . مسلم (2 / 759 - ط عيسى الحلبي) .
(2) الموافقات 2 / 91.(14/217)
الشُّعْبَةُ الأُْولَى: الْيُسْرُ الأَْصْلِيُّ:
15 - التَّيْسِيرُ الأَْصْلِيُّ صِفَةٌ عَامَّةٌ لِلشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ فِي أَحْكَامِهَا الأَْصْلِيَّةِ الَّتِي تَلْزَمُ الْمُكَلَّفِينَ. قَال الشَّاطِبِيُّ: إِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى التَّكْلِيفِ بِالشَّاقِّ وَالإِْعْنَاتِ فِيهِ،
وَيُسْتَدَل لِذَلِكَ بِأُمُورٍ، مِنْهَا:
16 - أ - النُّصُوصُ الَّتِي تُبَيِّنُ ذَلِكَ صَرَاحَةً، مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِل عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (1) وَمِنْهَا مَا امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي سِيَاقِ بَيَانِ بَعْضِ الأَْحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2) وَقَوْلُهُ جَل وَعَلاَ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} (3) وَقَوْلُهُ: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيمِ إِلاَّ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْل وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (4) .
__________
(1) سورة البقرة / 286.
(2)) سورة الأعراف / 42.
(3) سورة البقرة / 233.
(4) سورة الأنعام / 152.(14/217)
وَمِنَ الْيُسْرِ الأَْصْلِيِّ إِعْفَاءُ الصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونِ، مِنْ سَرَيَانِ الأَْحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ عَلَيْهِمَا، وَإِعْفَاءِ النِّسَاءِ مِنْ وُجُوبِ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ، وَمِنْ تَأَكُّدِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ أَوْ وُجُوبِهَا عَلَى الْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا مَعْنَى كَثِيرٍ مِنَ الاِشْتِرَاطَاتِ الَّتِي تُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَالْحُدُودِ، وَبَعْضِ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَحَقِّ الْقِصَاصِ، وَحَقِّ حَدِّ الْقَذْفِ، فَقَدِ اشْتُرِطَ فِيهَا جَمِيعًا الْبُلُوغُ وَالْعَقْل، وَاشْتُرِطَ فِي حَدِّ الزِّنَى أَرْبَعَةُ شُهُودٍ تَقْلِيلاً لِحَالاَتِ وُجُوبِ الْحَدِّ، تَخْفِيفًا وَتَيْسِيرًا، وَاشْتُرِطَ لِلرَّجْمِ لِشِدَّتِهِ الإِْحْصَانُ تَخْفِيفًا عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِ، وَاسْتُثْنِيَ الْوَلِيُّ الْفَقِيرُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الأَْكْل مِنْ مَال الْيَتِيمِ؛ تَخْفِيفًا عَنْهُ، فَقَدْ أُذِنَ لَهُ أَنْ يَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ.
17 - ب - وَمِنْهَا مَا عُهِدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنَّهُ يَسْتَثْنِي مِنْ نُصُوصِ التَّكْلِيفِ الصُّوَرَ الَّتِي فِيهَا عُسْرٌ فَيُيَسِّرُهَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَذِنَ لِلْوَلِيِّ فِي مُخَالَطَةِ الْيَتِيمِ فِي النَّفَقَةِ بَعْدَ أَنْ نَهَى عَنْ أَكْل أَمْوَالِهِمْ وَأَمَرَ بِإِصْلاَحِهَا فَقَال: {وَيَسْأَلُونَك عَنِ الْيَتَامَى قُل إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} (1) ثُمَّ قَال تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} (2) فَأَذِنَ فِي الْمُخَالَطَةِ، لأَِنَّ فِي عَزْل نَفَقَةِ الْيَتِيمِ وَحْدَهُ عُسْرًا عَلَى الْوَلِيِّ. وَالْمُخَالَطَةُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَال
__________
(1) سورة البقرة / 220.
(2) سورة البقرة / 220.(14/218)
الْيَتِيمِ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ كَافِيهِ، بِالتَّحَرِّي، فَيَجْعَلُهَا مَعَ نَفَقَةِ أَهْلِهِ، مَعَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ يَأْكُل أَكْثَر مِنْ بَعْضٍ فَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إِصْلاَحًا. ثُمَّ قَال تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأََعْنَتَكُمْ} (1) أَيْ بِإِيجَابِ عَزْل نَفَقَةِ الْيَتِيمِ وَحْدَهَا لِيَأْمَنَ الْوَلِيُّ مِنْ أَكْلِهِ أَوْ أَهْلِهِ شَيْئًا مِنْهَا (2) .
وَدَلَّتِ الآْيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَشَقَّةَ عَلَى هَذِهِ الأُْمَّةِ لَيْسَتْ مُرَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى.
18 - ج - وَمِنْهَا مَا عُلِمَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَفَادَى مَا يَكُونُ سَبَبًا لِتَكَالِيفَ قَدْ تَشُقُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ يَتَجَنَّبُ أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا يَكُونُ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى أَصْحَابِهِ إِذَا اقْتَدَوْا بِهِ فِيهِ، كَمَا قَال تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (3)
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحُثُّ أَصْحَابَهُ عَلَى تَرْكِ السُّؤَال لِئَلاَّ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ فَرَائِضُ بِسَبَبِ سُؤَالِهِمْ. فَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الْحَجِّ. أَفِي كُل عَامٍ هُوَ؟ فَقَال: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ (4)
__________
(1) سورة البقرة / 220.
(2) تفسير القرطبي: سورة البقرة / 220.
(3) سورة التوبة / 128.
(4) حديث: " لو قلت نعم لو جبت، ولما استطعتم ذروني ما تركتم " أخرجه ابن ماجه (2 / 963 - ط عيسى الحلبي) قال البوصيري (هذا إسناد صحيح رجاله ثقات) . الزوائد (3 / 180 - ط الدار العربية) .(14/218)
وَقَال: لَوْلاَ أَنْ أَشُقّ عَلَى أُمَّتِي لأََمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُل صَلاَةٍ (1) . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ الْيُسْرَ عَلَى النَّاسِ (2) .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِي وَهُوَ مَسْرُورٌ طَيِّبُ النَّفْسِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ وَهُوَ كَئِيبٌ، فَقَال: إِنِّي دَخَلْتُ الْكَعْبَةَ وَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ دَخَلْتُهَا إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ أَتْعَبْتُ أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي (3) وَقَال: لَوْلاَ أَنْ أَشُقّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ قَطُّ (4) .
19 - د - وَمِنْهَا الإِْجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ قَصْدِ الْمَشَقَّةِ وَالْعَنَتِ فِي التَّكْلِيفِ، وَأَنَّهَا وُضِعَتْ عَلَى قَصْدِ الرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ، وَعَلَى هَذَا لَمْ يَزَل أَهْل الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا فِي الأُْمَّةِ عَلَى طَلَبِ الْيُسْرِ عَلَى النَّاسِ.
__________
(1) حديث: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " أخرجه البخاري (2 / 374 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 220 - ط عيسى الحلبي) واللفظ له.
(2) حديث: " كان يجب السير على الناس " لم نعثر عليه في المصادر التي بين أيدينا إلا أنه يدل على ذلك حديث " ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 524 - ط السلفية) .
(3) حديث: " إني دخلت الكعبة. . . . " أخرجه أحمد (6 / 137 ط المكتب الإسلامي) وأبو داود (2 / 526 - ط عزت عبيد دعاس) . والترمذي (3 / 223 - ط مصطفى الحلبي) . وقال: (حديث حسن صحيح) .
(4) حديث: " ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية قط ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 92 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1497 - ط عيسى الحلبي) .(14/219)
دَرَجَاتُ الْمَشَاقِّ، وَالتَّكْلِيفُ بِهَا:
20 - لَيْسَ مَعْنَى يُسْرِ الشَّرِيعَةِ خُلُوُّ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ فِي الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ مِنْ جِنْسِ الْمَشَقَّةِ أَصْلاً، بَل إِنَّ التَّكْلِيفَ، مَا سُمِّيَ بِهَذَا إِلاَّ لأَِنَّهُ طَلَبُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، فَلاَ يَخْلُو شَيْءٌ مِنَ التَّكَالِيفِ عَنِ الْمَشَقَّةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَشَقَّةَ عَلَى دَرَجَاتٍ:
الدَّرَجَةِ الأُْولَى:
21 - الْمَشَقَّةُ الَّتِي لاَ يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى حَمْلِهَا أَصْلاً، فَهَذَا النَّوْعُ لَمْ يَرِدْ التَّكْلِيفُ بِهِ فِي الشَّرْعِ أَصْلاً؛ إِذْ لاَ قُدْرَةَ لِلْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ فِي الْعَادَةِ، فَلاَ يَقَعُ التَّكْلِيفُ بِهِ شَرْعًا، وَإِنْ جَازَ عَقْلاً، وَقِيل يَمْتَنِعُ التَّكْلِيفُ بِهِ شَرْعًا وَعَقْلاً. فَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مِثْل تَكْلِيفِ الإِْنْسَانِ بِحَمْل جَبَلٍ، وَلاَ كَتَكْلِيفِ مَقْطُوعِ الرِّجْلَيْنِ الْقِيَامَ أَوِ الْمَشْيَ (1) .
وَهَذَا التَّكْلِيفُ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ، لَمْ يُوجَدْ فِي الشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ السَّابِقَةِ أَيْضًا، بِخِلاَفِ الأَْنْوَاعِ الآْتِيَةِ. وَيُعَبِّرُ الأُْصُولِيُّونَ عَنْ هَذَا بِمَنْعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لاَ يُطَاقُ (2) .
__________
(1) مسلم الثبوت 1 / 123.
(2) الموافقات 2 / 107 وما بعدها، وتفسير القرطبي 3 / 428.(14/219)
الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ:
22 - أَنْ يَكُونَ الْفِعْل مَقْدُورًا عَلَيْهِ، لَكِنْ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ، كَمَشَقَّةِ الْخَوْفِ عَلَى النُّفُوسِ وَالأَْعْضَاءِ وَمَنَافِعِ الأَْطْرَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (1) .
فَالتَّكْلِيفُ بِهَذَا النَّوْعِ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا فِيمَا قَبْلَهَا مِنَ الشَّرَائِعِ. وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي بَيَانِ الْمِنَّةِ عَلَى أَهْل الْكِتَابِ بِإِرْسَال مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُول النَّبِيَّ الأُْمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيل يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِل لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمِ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَْغْلاَل الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (2) وَالإِْصْرُ الْعَهْدُ الثَّقِيل، وَالتَّكَالِيفُ الثَّقِيلَةُ الَّتِي تَخْرُجُ مَشَقَّتُهَا عَنِ الْمُعْتَادِ. أَيْ مَا عُهِدَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَهْدٍ ثَقِيلٍ.
وَفِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِل عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (3) فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: قَال اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ فَعَلْتُ (4) أَيْ: أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ
__________
(1) قواعد الأحكام 2 / 7.
(2) سورة الأعراف / 157.
(3) سورة البقرة / 286.
(4) حديث: قال الله تعالى: " قد فعلت. . . . " أخرجه مسلم 1 / 116. ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.(14/220)
دُعَاءَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمَوْضِعُ الدَّلاَلَةِ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِل عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} وَمِنْ تِلْكَ التَّكَالِيفِ الثَّقِيلَةِ الَّتِي شَدَّدَ بِهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَتَوْا بِخَطِيئَةٍ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّعَامِ بَعْضُ مَا كَانَ حَلاَلاً لَهُمْ قَال تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} (1) .
الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ:
23 - الْمَشَقَّةُ الَّتِي تُطَاقُ وَيُمْكِنُ احْتِمَالُهَا لَكِنْ فِيهَا شِدَّةٌ بِحَيْثُ تُشَوِّشُ عَلَى النُّفُوسِ فِي تَصَرُّفِهَا، وَتُقْلِقُهَا فِي الْقِيَامِ بِمَا فِيهِ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ.
وَيَكُونُ الإِْنْسَانُ مَعَهَا فِي ضِيقٍ وَحَرَجٍ، فَلاَ يَشْعُرُ بِالرَّاحَةِ لِخُرُوجِ الْمَشَقَّةِ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الأَْعْمَال الْعَادِيَّةِ.
وَهَذَا النَّوْعُ قَدْ يَكُونُ فِي الأَْصْل مِنَ الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا فُعِل مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَحْصُل مِنْهُ لِلإِْنْسَانِ الضِّيقُ وَالْحَرَجُ، وَلَكِنْ إِذَا تَكَرَّرَ وَدَامَ جَاءَ الْحَرَجُ بِسَبَبِ الدَّوَامِ عَلَيْهِ. قَال الشَّاطِبِيُّ: وَيُوجَدُ هَذَا فِي النَّوَافِل وَحْدَهَا إِذَا تَحَمَّل الإِْنْسَانُ مِنْهَا فَوْقَ مَا يَحْتَمِلُهُ عَلَى وَجْهٍ مَا، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الدَّوَامِ يُتْعِبُهُ حَتَّى يَحْصُل لِلنَّفْسِ بِسَبَبِهِ مَا يَحْصُل لَهَا بِالْعَمَل مَرَّةً وَاحِدَةً فِي غَيْرِهِ قَال: وَهَذَا هُوَ
__________
(1) سورة النساء / 160.(14/220)
الْمَوْضِعُ الَّذِي شُرِعَ لَهُ الرِّفْقُ وَالأَْخْذُ مِنَ الْعَمَل بِمَا لاَ يُحَصِّل مَلَلاً، حَسْبَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَهْيِهِ عَنِ الْوِصَال، وَعَنِ التَّنَطُّعِ وَالتَّكَلُّفِ (1) .
وَقَال: خُذُوا مِنَ الأَْعْمَال مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَل حَتَّى تَمَلُّوا (2) وَقَال: الْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا (3) وَقَال: إِنَّ الْمَنْبَتَ لاَ أَرْضًا قَطَعَ وَلاَ ظَهْرًا أَبْقَى. (4)
الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ:
24 - الْمَشَقَّةُ الَّتِي فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَعَبِ النَّفْسِ خُرُوجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الأَْعْمَال الْعَادِيَّةِ، وَلَكِنْ نَفْسُ التَّكْلِيفِ بِهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَاتُ قَبْل التَّكْلِيفِ. فَفِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ؛ وَلِذَلِكَ
__________
(1) الموافقات 2 / 120.
(2) حديث: " خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لن يمل حتى تملوا "، أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 213 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 811 ط عيسى الحلبي) ، واللفظ له.
(3) حديث: " القصد القصد تبلغوا " أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 284 - ط السلفية) .
(4) حديث: " إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى ". قال الهيثمي: رواه البزار وفيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل وهو كذاب مجمع الزوائد 1 / 62 - ط مكتبة المقدس) . وضعفه العجلوني في كشف الخفاء (2 / 284 - ط مؤسسة الرسالة) وقال: " وهذا كالحديث الآخر الذي أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة " إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ".(14/221)
أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ " التَّكْلِيفِ " وَهُوَ فِي اللُّغَةِ يَقْتَضِي مَعْنَى الْمَشَقَّةِ؛ لأَِنَّ الْعَرَبَ تَقُول " كَلَّفْتُهُ تَكْلِيفًا " إِذَا حَمَّلْتُهُ أَمْرًا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَأَمَرْتُهُ بِهِ، وَتَقُول: " تَكَلَّفْتُ الشَّيْءَ " إِذَا تَحَمَّلْتُهُ عَلَى مَشَقَّةٍ. فَمِثْل هَذَا يُسَمَّى مَشَقَّةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ؛ لأَِنَّهُ دُخُولٌ فِي أَعْمَالٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا. وَأَقَل مَا فِيهِ فِي الأَْعْمَال الدِّينِيَّةِ إِخْرَاجُ الْمُكَلَّفِ عَمَّا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ، وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى فِيهِ مَشَقَّةٌ مَا.
وَلَكِنِ الشَّرِيعَةُ جَاءَتْ لإِِخْرَاجِ الْمُكَلَّفِ مِنِ اتِّبَاعِ هَوَاهُ حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ اخْتِيَارًا كَمَا هُوَ عَبْدٌ لِلَّهِ اضْطِرَارًا (1) .
وَهَذَا النَّوْعُ لاَزِمٌ لِكُل تَكْلِيفٍ؛ إِذْ لاَ تَخْلُو مِنْهُ التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ. وَالْمَشَقَّةُ الَّتِي فِيهِ - وَإِنْ سُمِّيَتْ مَشَقَّةً مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ - إِلاَّ أَنَّهَا لاَ تُسَمَّى فِي الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ مَشَقَّةً، كَمَا لاَ يُسَمَّى فِي الْعَادَةِ مَشَقَّةً طَلَبُ الْمَعَاشِ بِالْحِرَفِ وَسَائِرِ الصَّنَائِعِ، بَل أَهْل الْعُقُول، وَأَصْحَابُ الْعَادَاتِ يَعُدُّونَ الْمُنْقَطِعَ عَنْهُ كَسْلاَنَ، وَيَذُمُّونَهُ بِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْمُعْتَادُ فِي التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ (2) .
فَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الدَّرَجَةَ الأُْولَى لاَ تَكْلِيفَ بِهَا أَصْلاً، فَالشَّرِيعَةُ لاَ تُكَلِّفُ الْعِبَادَ بِمَا لَيْسَ مَقْدُورًا لَهُمْ أَصْلاً، وَكَذَلِكَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ، فَالْمَشَقَّاتُ الْفَادِحَةُ كَقَتْل الإِْنْسَانِ نَفْسَهُ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ لاَ تَكْلِيفَ بِهَا فِي هَذِهِ
__________
(1) الموافقات 2 / 121 - 153.
(2) الموافقات 2 / 123.(14/221)
الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ حَصَل التَّكْلِيفُ بِهَا فِيمَا قَبْلَهَا مِنَ الشَّرَائِعِ.
وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ فَهِيَ مَوْضِعُ النَّظَرِ، وَتَفْصِيل ابْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِأَدْنَاهَا، أَوْ أَوْسَطِهَا دُونَ أَعْلاَهَا، وَإِنَّهُ إِنْ حَصَل التَّكْلِيفُ بِمَا مَشَقَّتُهُ مُعْتَادَةٌ، فَحَصَل فِيهِ خُرُوجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، جَاءَ فِيهِ التَّخْفِيفُ، كَمَا يَأْتِي.
وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الرَّابِعَةُ، مِنَ الْمَشَقَّاتِ الْمُعْتَادَةِ فِي الأَْعْمَال فَلاَ تَمْنَعُ التَّكْلِيفَ،
غَيْرَ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي بَيَانِ مَعْنَى الاِعْتِيَادِ فِيهِ؛ إِذْ قَدْ يَكُونُ فِي التَّكْلِيفِ شِدَّةٌ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ وَاقِعٌ فِي حَيِّزِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَأْتِي فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
مَوَاضِعُ الْمَشَقَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الشَّرِيعَةِ:
الْيُسْرُ وَإِنْ كَانَ هُوَ الصِّبْغَةُ الْعَامَّةُ لِلشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ، وَهُوَ الأَْصْل فِي أَحْكَامِهَا، إِلاَّ أَنَّ فِيهَا أَحْكَامًا فِيهَا نَوْعٌ مِنَ الْمَشَقَّةِ لِدَوَاعٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ، مِنْهَا:
25 - أَوَّلاً: أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي تُرْجَى مِنْ ذَلِكَ الْفِعْل الْمَحْكُومِ فِيهِ مَصْلَحَةً عَظِيمَةً لاَ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا إِلاَّ بِتَعَرُّضِ الْبَعْضِ لِلْمَشَاقِّ، كَإِنْقَاذِ الْغَرْقَى وَالْحَرْقَى وَالْهَدْمَى، فَإِنَّ الَّذِي يَتَصَدَّى لِذَلِكَ قَدْ يَتَعَرَّضُ لأَِخْطَارٍ جَسِيمَةٍ، وَكَذَلِكَ دَرْءُ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي(14/222)
لاَ يُمْكِنُ دَرْؤُهَا إِلاَّ بِتَعَرُّضِ الْبَعْضِ لِلْمَشَاقِّ، كَالْجِهَادِ لِدَفْعِ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الدِّيَارِ، وَالأَْعْرَاضِ، وَالْحُقُوقِ، فَكُل ذَلِكَ يُعَرِّضُ حَيَاةَ الْقَائِمِ بِهِ لِلأَْخْطَارِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مَطْلُوبٌ شَرْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيل اللَّهِ} (1) وَقَوْلُهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَال وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (2) وَمَا وَرَدَ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَال: بَايَعْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا، وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا، وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا (3) .
26 - ثَانِيًا: حَالاَتٌ مِنَ الاِحْتِيَاطِ فِيهَا نَوْعٌ مِنَ الْعُسْرِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ غَالِبًا اطْمِئْنَانُ الْمُكَلَّفِ إِلَى خُرُوجِهِ مِنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِيَقِينٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَذَكَّرَ أَنَّهُ نَسِيَ صَلاَةً مِنْ يَوْمٍ لاَ يَدْرِي، أَيِّ الْخَمْسِ هِيَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الْخَمْسَ، أَوْ فَاتَتْهُ صَلاَةٌ لاَ يَدْرِي أَهِيَ الظُّهْرُ أَمِ الْعَصْرُ، فَيَقْضِيهِمَا، وَإِذَا تَعَارَضَ دَلِيلاَنِ أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَالآْخَرُ يَقْتَضِي الإِْبَاحَةَ، يَغْلِبُ التَّحْرِيمُ مَعَ أَنَّ الإِْبَاحَةَ أَيْسَرُ، وَلَوْ
__________
(1) سورة التوبة / 41.
(2) سورة البقرة / 216.
(3) حديث: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا ". أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 192 ط. السلفية، ومسلم (3 / 140ط. عيسى الحلبي) . من حديث عبادة بن الصامت.(14/222)
اشْتَبَهَتْ مَحْرَمٌ بِأَجْنَبِيَّاتٍ مَحْصُورَاتٍ لَمْ تَحِل أَيُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، أَوْ اشْتَبَهَتْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ لَمْ يَجُزْ تَنَاوُل شَيْءٍ مِنْهُمَا.
لَكِنْ إِنْ وَصَل الأَْمْرُ بِالاِحْتِيَاطِ إِلَى الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ، فَالأَْكْثَرُونَ عَلَى تَغْلِيبِ قَاعِدَةِ رَفْعِ الْحَرَجِ، فَلَوْ كَانَ النِّسْوَةُ اللاَّتِي اخْتَلَطَتْ بِهِنَّ مَحْرَمُهُ غَيْرَ مَحْصُورَاتٍ بِأَنِ اخْتَلَطَتْ بِنِسَاءِ قَرْيَةٍ كَبِيرَةٍ، فَلَهُ النِّكَاحُ مِنْهُنَّ، وَلَوِ اخْتَلَطَ حَمَامٌ مَمْلُوكٌ بِحَمَامٍ مُبَاحٍ لاَ يَنْحَصِرُ جَازَ لَهُ الصَّيْدُ. وَلَوِ اخْتَلَطَ فِي الْبَلَدِ حَرَامٌ لاَ يَنْحَصِرُ لَمْ يَحْرُمِ الشِّرَاءُ مِنْهُ، بَل يَجُوزُ الأَْخْذُ مِنْهُ، إِلاَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ عَلاَمَةٌ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْحَرَامِ (1) .
وَرُبَّمَا غَلَّبَ الْبَعْضُ قَاعِدَةَ الاِحْتِيَاطِ عَلَى قَاعِدَةِ رَفْعِ الْحَرَجِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ.
مَنْ شُرِعَ لَهُ التَّيْسِيرُ:
27 - التَّيْسِيرُ فِي الشَّرِيعَةِ الإِْسْلاَمِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ.
أَمَّا الْكَافِرُ فَلَهُ التَّشْدِيدُ وَالتَّضْيِيقُ وَالتَّغْلِيظُ بِسَبَبِ كُفْرِهِ بِاَللَّهِ وَجَحْدِهِ لِنِعْمَتِهِ وَحَقِّهِ؛ وَلِرَفْضِهِ الدُّخُول تَحْتَ أَحْكَامِ اللَّهِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى {مُحَمَّدٌ رَسُول اللَّهِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (2) وَقَال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص105 - 107 ط مصطفى الحلبي.
(2) سورة الفتح / 29.(14/223)
النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (1) .
وَلِذَلِكَ شُرِعَ قِتَال الْكُفَّارِ وَإِدْخَالُهُمْ تَحْتَ الْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ. فَإِنْ دَخَل الْكَافِرُ فِي الذِّمَّةِ وَتَرَكَ الْمُحَارَبَةَ، أَوْ دَخَل مُسْتَأْمَنًا، حَصَل لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْوَاعٌ مِنَ التَّيْسِيرِ، كَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ، وَمَنْعِ ظُلْمِهِ فِي النَّفْسِ أَوِ الْمَال، وَإِقْرَارِهِ عَلَى مَا يَجُوزُ فِي دِينِهِ. وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَهْل الذِّمَّةِ) (وَجِهَادٌ) . وَأَمَّا الْفَاسِقُ وَالْمُعْتَدِي وَالظَّالِمُ مِنَ أَهْل الإِْسْلاَمِ فَلَهُ مِنَ التَّشْدِيدِ بِحَسَبِ فِسْقِهِ وَعُدْوَانِهِ وَظُلْمِهِ بِقَدْرِ الذَّنْبِ الَّذِي جَنَاهُ، وَلَهُ مِنَ التَّيْسِيرِ بِحَسَبِ إِسْلاَمِهِ وَإِيمَانِهِ. فَمِنَ التَّشْدِيدِ عَلَى الْفَاسِقِ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الزَّانِي بِرَجْمِهِ حَتَّى الْمَوْتِ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا، وَهِيَ مِنْ أَعْسَرِ أَنْوَاعِ الْقَتْل وَأَشَدِّهَا، وَبِجِلْدِهِ مِائَةَ جَلْدَةٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا. وَمِنْهَا قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ، وَقَتْل قَاطِعِ الطَّرِيقِ، أَوْ صَلْبُهُ، أَوْ تَقْطِيعُ يَدِهِ وَرِجْلِهِ مِنْ خِلاَفٍ، أَوْ نَفْيُهُ مِنَ الأَْرْضِ. وَالتَّفْصِيل فِي الْحُدُودِ (2) .
مَوَاضِعُ الْيُسْرِ فِي الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ:
28 - الأَْحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ خَمْسَةٌ: الإِْبَاحَةُ، وَالنَّدْبُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالإِْيجَابُ، وَالتَّحْرِيمُ.
__________
(1) سورة التوبة / 73.
(2) قواعد الأحكام 1 / 206 - 208 والمغني لابن قدامة 8 / 182 الطبعة الثالثة.(14/223)
فَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ فَلاَ مَشَقَّةَ فِيهَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ؛ لأَِنَّ الْخِيَارَ فِي فِعْلِهَا أَوْ تَرْكِهَا إِلَى الْمُكَلَّفِ، وَالشَّارِعُ لَمْ يَدْعُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إِلَى فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ.
وَأَمَّا الْمَنْدُوبَاتُ وَالْمَكْرُوهَاتُ فَنَظَرًا إِلَى عَدَمِ اسْتِلْزَامِ فِعْلِهَا أَوْ تَرْكِهَا لِعُقُوبَةٍ يُعْلَمُ أَنَّ لِلْمُكَلَّفِ فِيهَا خِيَارًا كَذَلِكَ، وَإِنْ حَثَّ الشَّارِعُ عَلَى فِعْل الْمَنْدُوبِ وَتَرْكِ الْمَكْرُوهِ لِتَحْصِيل الأَْجْرِ، إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ إِذَا شَقَّ عَلَى الْمُكَلَّفِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْمَنْدُوبَ أَوْ يَفْعَل الْمَكْرُوهَ رِفْقًا بِنَفْسِهِ كَمَا يَأْتِي فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ.
هَذَا بِالإِْضَافَةِ إِلَى أَنَّ الْفِعْل الْمُكَلَّفَ بِهِ فِي الْمَنْدُوبَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ لَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ لِذَاتِهِ، بَل الَّذِي نَدَبَ الشَّارِعُ إِلَى فِعْلِهِ مِنْ صَلاَةٍ، أَوْ صَوْمٍ، أَوِ اعْتِكَافٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَخْرُجُ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الْمَشَقَّاتِ، وَكَذَا مَا كَرِهَ لَنَا فِعْلَهُ لَيْسَ فِي تَرْكِهِ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْعَادَةِ.
وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ فِيمَا أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِفِعْلِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، أَوْ أَلْزَمَ بِتَرْكِهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّهَا بِالإِْلْزَامِ وَفَرْضِ الْعُقُوبَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوِ الأُْخْرَوِيَّةِ، أَوْ كِلَيْهِمَا عَلَى الْمُخَالِفِ لاَ يَكُونُ لِلْمُكَلَّفِ فِيهِمَا خِيَارٌ.
فَأَمَّا بَابُ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّ التَّيْسِيرَ فِيهِ وَاضِحٌ، فَإِنَّ الشَّارِعَ الْحَكِيمَ بِرَحْمَتِهِ ضَيَّقَ بَابَ التَّحْرِيمِ جِدًّا، حَتَّى إِنَّ مُحَرَّمَاتِ الأَْطْعِمَةِ يُورِدُهَا الْقُرْآنُ غَالِبًا عَلَى سَبِيل الْحَصْرِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا(14/224)
أُهِّل لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (1) فَالأَْصْل فِي الْمَطْعُومَاتِ وَنَحْوِهَا الإِْبَاحَةُ، وَالتَّحْرِيمُ اسْتِثْنَاءٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ مَا يَشُقُّ الاِمْتِنَاعُ عَنْهُ كَالْمَاءِ أَوِ الْهَوَاءِ أَوِ اللِّبَاسِ أَوِ الْمَسْكَنِ. وَإِنَّمَا انْصَبَّ التَّحْرِيمُ عَلَى أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ مِمَّا لاَ يَشُقُّ تَرْكُهُ. وَتِلْكَ الْمُحَرَّمَاتُ إِنَّمَا حَرَّمَهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الأَْضْرَارِ عَلَى صِحَّةِ الإِْنْسَانِ، أَوْ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ كَمَا فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ إِلاَّ شَيْئًا مُتَمَحِّضًا لِلضَّرَرِ، أَوْ ضَرَرُهُ أَغْلَبُ مِنْ نَفْعِهِ. وَهَذَا الَّذِي قَدْ يَكُونُ فِيهِ نَفْعٌ يَكُونُ فِي الْحَلاَل عِوَضٌ عَنْهُ. ثُمَّ إِن اُضْطُرَّ الإِْنْسَانُ إِلَى الْمُحَرَّمِ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الشُّعْبَةِ الثَّانِيَةِ.
وَأَمَّا الْفَرَائِضُ وَالْوَاجِبَاتُ فَلَمْ يُكَلِّفْنَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَلاَ تَرَكَ الْعِبَادَ مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفٍ، بَل كَانَتِ الشَّرِيعَةُ فِي هَذَا الأَْمْرِ جَارِيَةً عَلَى الطَّرِيقِ الْوَسَطِ الأَْعْدَل: لاَ تَمِيل إِلَى فَرْضِ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ تَبْهَظُ الْمُكَلَّفَ أَوْ تُقْعِدُهُ عَنِ الْعَمَل فِي الْحَال أَوِ الْمَآل، أَوْ تُدْخِل عَلَيْهِ الْخَلَل فِي نَفْسِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ مَالِهِ.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: مَا تَرَكَتِ الشَّرِيعَةُ الإِْنْسَانَ دُونَ تَكْلِيفٍ يَحْصُل بِهِ الاِبْتِلاَءُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ عَبَثًا وَلَمْ يُتْرَكْ سُدًى، بَل كَلَّفَتْهُ بِتَكَالِيفَ تَقْتَضِي فِيهِ غَايَةَ التَّوَسُّطِ وَالاِعْتِدَال، كَتَكَالِيفِ الصَّلاَةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ (2) .
__________
(1) سورة النحل / 115.
(2) الموافقات للشاطبي 2 / 163.(14/224)
وَهَذَا لاَ يُنَاقِضُ الْيُسْرَ، فَإِنَّ الْيُسْرَ يُنَاقِضُهُ الْعُسْرُ، أَمَّا الْوَسَطُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْيُسْرِ؛ إِذْ لاَ عُسْرَ فِيهِ.
وَالْوَسَطُ - كَمَا قَال الشَّاطِبِيُّ - هُوَ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ، فَهِيَ وَسَطٌ بَيْنَ التَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ.
فَمُعْظَمُهَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّوَسُّطِ، لاَ عَلَى مُطْلَقِ التَّخْفِيفِ وَلاَ عَلَى مُطْلَقِ التَّشْدِيدِ (1) .
فَالصَّلاَةُ مَثَلاً: خَمْسُ مَرَّاتٍ كُل يَوْمٍ، كُل صَلاَةٍ مِنْهَا رَكَعَاتٌ مَعْدُودَةٌ، لاَ تَتَضَمَّنُ فِعْلاً شَاقًّا، بَل مَا فِيهَا مِنَ الْقِيَامِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالأَْذْكَارِ كُلُّهَا أُمُورٌ مُيَسَّرَةٌ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَفْتَرِضْ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِيهَا إِلاَّ الْقَلِيل، وَلاَ مِنَ الأَْذْكَارِ إِلاَّ الْقَلِيل، وَتَعَلُّمُهَا وَحِفْظُهَا أَمْرٌ مَيْسُورٌ. وَلَكِنْ قَدْ تَأْتِي الْمَشَقَّةُ فِي الصَّلاَةِ مِنْ جِهَةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى إِقَامَتِهَا عَلَى الْوَجْهِ الأَْمْثَل وَمِنْ جِهَةِ الاِسْتِمْرَارِ وَالدَّوَامِ عَلَيْهَا، مَعَ مُخَالَفَتِهَا فِي بَعْضِ الأَْوْقَاتِ لِرَاحَةِ الْبَدَنِ؛ وَلِلاِنْطِلاَقِ مَعَ الأَْعْمَال وَهَوَى النُّفُوسِ، لَكِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَشَقَّةٍ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَ أَهْل التَّقْوَى. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (2) .
وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ تُفْرَضُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي مَالِهِ مَرَّةً كُل عَامٍ، وَذَلِكَ مَيْسُورٌ غَيْرُ مَعْسُورٍ، وَلَمْ
__________
(1) الموافقات 4 / 259، 260.
(2) سورة البقرة / 45.(14/225)
تُفْرَضْ إِلاَّ فِي الأَْمْوَال النَّامِيَةِ أَوِ الْقَابِلَةِ لِلنَّمَاءِ دُونَ مَا لاَ يَقْبَل ذَلِكَ مِنَ الْمَسَاكِنِ وَالأَْثَاثِ وَالْمُمْتَلَكَاتِ الَّتِي هِيَ لِلاِسْتِعْمَال الْخَاصِّ، كَمَا قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ عَلَى الْمُؤْمِنِ فِي عَبْدِهِ وَلاَ فَرَسِهِ صَدَقَةٌ (1) . وَفُرِضَتْ بِنِسَبٍ يَسِيرَةٍ تَتَفَاوَتُ غَالِبًا تَبَعًا لِلْجُهْدِ الْمَبْذُول.
فَالْخُمُسُ فِي الرِّكَازِ؛ لأَِنَّ الْجُهْدَ فِيهِ يَسِيرٌ جِدًّا مَعَ عِظَمِ مَا يَحْصُل بِهِ، وَالْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ مِنِ الأَْرْضِ إِنْ كَانَتْ بَعْلاً، وَنِصْفُ الْعُشْرِ إِنْ سُقِيَتْ بِالنَّضْحِ، وَرُبُعُ الْعُشْرِ فِي الأَْمْوَال النَّاضَّةِ، وَمِثْل ذَلِكَ أَوْ أَقَل مِنْهُ فِي السَّائِمَةِ، حَتَّى إِنَّ الْغَنَمَ الَّتِي تَبْلُغُ (400) إِلَى (499) شَاةٌ، فِيهَا فِي كُل مِائَةٍ شَاةٌ وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ وَاحِدٌ بِالْمِائَةِ أَوْ أَقَل، بِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا فِي فَرِيضَةِ الزَّكَاةِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّيْسِيرِ الَّتِي تُعْلَمُ بِتَتَبُّعِ أَحْكَامِهَا فِي كُتُبِ الشَّرِيعَةِ.
وَهَكَذَا غَيْرُ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مِنْ فَرَائِضِ الإِْسْلاَمِ تُعْرَفُ أَوْجُهَ مَا فِيهَا مِنَ الْيُسْرِ، وَأَنَّهَا أَفْعَالٌ، وَأَقْوَالٌ، وَتَكَالِيفُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ الْبَشَرِ دُونَ مُبَالَغَةٍ وَلاَ تَشْدِيدٍ.
أَمَّا الأَْحْكَامُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الشَّرِيعَةُ لِتَسْهِيل هَذِهِ الأَْفْعَال الْمُكَلَّفِ بِهَا وَالْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهَا فَهِيَ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:
__________
(1) حديث: " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة "، أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 326 ط. السلفية) ، ومسلم (2 / 675 - 676 ط عيسى الحلبي) . واللفظ له وهو من حديث أبي هريرة.(14/225)
التَّوْسِيعُ فِي الْوَاجِبَاتِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ، كَصَلَوَاتِ الْفَرَائِصِ، فَإِنَّ فِعْلَهَا لاَ يَسْتَغْرِقُ إِلاَّ جُزْءًا يَسِيرًا مِنْ وَقْتِهَا، فَيَكُونُ لَدَى الْمُكَلَّفِ الْفُرْصَةُ لأَِدَائِهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي لاَ يَشُقُّ عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا يَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي.
وَمِنْهَا التَّخْيِيرُ فِي الأَْدَاءِ بَيْنَ أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَهُوَ أَيْسَرُ مِنْ أَدَاءِ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ.
وَمِنَ التَّيْسِيرِ أَيْضًا مَا يَقْبَل التَّدَاخُل مِنَ الْوَاجِبَاتِ، فَمِنْ ذَلِكَ الْعُمْرَةُ تَدْخُل فِي الْحَجِّ لِمَنْ قَرَنَ (1) .
وَمَوَاضِعُ الْيُسْرِ فِي الشَّرِيعَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَمَا ذُكِرَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيل التَّمْثِيل لاَ الْحَصْرِ. وَيُنْظَرُ: (تَخْيِيرٌ، وَتَدَاخُلٌ، وَتَرَاخِي) .
الشُّعْبَةُ الثَّانِيَةُ: الْيُسْرُ التَّخْفِيفِيُّ:
29 - وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَرِدَ التَّكْلِيفُ الْعَامُّ بِمَا مَشَقَّتُهُ فِي الأَْصْل مُعْتَادَةٌ، وَلَكِنْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيل التَّخْفِيفِ بَعْضُ الصُّوَرِ الَّتِي فِيهَا مَشَقَّةٌ فَوْقَ الْمُعْتَادِ.
حُكْمُ الأَْخْذِ بِالتَّخْفِيفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ:
30 - التَّثْقِيل الَّذِي يَعْتَرِي الْمُكَلَّفَ فِي عِبَادَاتِهِ أَوْ مُعَامَلاَتِهِ، يُقَابِلُهُ تَخْفِيفٌ مِنْ قِبَل الشَّرْعِ.
وَالتَّخْفِيفُ حُكْمٌ طَارِئٌ عَلَى الأَْصْل، رُوعِيَ فِي تَشْرِيعِهِ ضَرُورَاتُ الْعِبَادِ وَأَعْذَارُهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ فُسْحَةً لَهُمْ فِي مُقَابَلَةِ التَّضْيِيقِ، بِحُصُول الْجَوَازِ لِلْفِعْل أَوِ التَّرْكِ.
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 26 وما بعدها و1 / 206 - 211.(14/226)
وَالتَّخْفِيفُ قَدْ يُوجِبُ الشَّارِعُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الأَْخْذَ بِهِ، وَقَدْ يَجْعَلُهُ مَنْدُوبًا فِي حَقِّهِ، وَقَدْ يَجْعَل الأَْخْذَ بِهِ خِلاَفَ الأَْوْلَى كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ، وَقَدْ يُبِيحُهُ لَهُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ أَوْ يَتْرُكَهُ عَلَى السَّوَاءِ.
وَمِنَ التَّخْفِيفِ الَّذِي يُنْدَبُ الأَْخْذُ بِهِ، قَصْرُ الصَّلاَةِ فِي السَّفَرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ} (1) وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يُوجِبُ الْقَصْرَ عَلَى الْمُسَافِرِ. وَيُنْدَبُ الإِْفْطَارُ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (2) .
وَمِنَ التَّخْفِيفِ الَّذِي هُوَ مَكْرُوهٌ، أَوْ خِلاَفُ الأَْوْلَى، الْفِطْرُ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ إِذَا لَمْ يُجْهِدْهُ الصَّوْمُ، وَكَذَا الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ، وَمِنْهُ التَّيَمُّمُ لِمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ يُبَاعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الثَّمَنِ. وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الصُّوَرِ خِلاَفٌ فِي حُكْمِهَا، فَيُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي أَبْوَابِهَا.
وَمِنَ التَّخْفِيفِ الْمُبَاحِ مَا رُخِّصَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْمُعَامَلاَتِ كَبَيْعِ السَّلَمِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ قَدْ رَخَّصَ فِيهِ عَلَى خِلاَفِ الأَْصْل؛ إِذِ الأَْصْل مَنْعُهُ، لَكِنْ رَخَّصَ فِيهِ تَخْفِيفًا عَلَى النَّاسِ فِي مُعَامَلاَتِهِمْ، وَكَذَا الْمُسَاقَاةُ، وَالْقِرَاضُ، وَبَيْعُ
__________
(1) سورة النساء / 101.
(2) سورة البقرة / 184.(14/226)
الْعَرَايَا (1) .
أَسْبَابُ التَّخْفِيفِ:
31 - لِلتَّخْفِيفِ أَسْبَابٌ بُنِيَتْ عَلَى الأَْعْذَارِ. وَقَدْ رَخَّصَ الشَّارِعُ لأَِصْحَابِهَا بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ: فِي الْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلاَتِ، وَالْبُيُوعِ، وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا.
فَكُل مَا تَعَسَّرَ أَمْرُهُ، وَشَقَّ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَضْعُهُ، يَسَّرَتْهُ الشَّرِيعَةُ بِالتَّخْفِيفِ، وَضَبَطَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْقَوَاعِدِ الْمُحْكَمَةِ.
وَمِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الأَْعْذَارِ الَّتِي جُعِلَتْ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْعِبَادِ: الْمَرَضُ، وَالسَّفَرُ، وَالإِْكْرَاهُ، وَالنِّسْيَانُ، وَالْجَهْل، وَالْعُسْرُ، وَعُمُومُ الْبَلْوَى.
السَّبَبُ الأَْوَّل: الْمَرَضُ:
32 - الْمَرِيضُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ بَدَنُهُ عَنْ حَدِّ الاِعْتِدَال وَالاِعْتِيَادِ (2) ، فَيَضْعُفُ عَنِ الْقِيَامِ بِالْمَطْلُوبِ مِنْهُ.
وَقَدْ خَصَّتِ الشَّرِيعَةُ الْمَرِيضَ بِحَظٍّ وَافِرٍ مِنَ التَّخْفِيفِ؛ لأَِنَّ الْمَرَضَ مَظِنَّةٌ لِلْعَجْزِ. فَخَفَّفَ عَنْهُ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ فِي حَالَةِ عَجْزِهِ عَنِ الْوُضُوءِ، أَوْ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ، أَوْ خَوْفِهِ
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5 / 216.(14/227)
زِيَادَةَ الْمَرَضِ، وَكُل مَا كَانَ الْمَاءُ سَبَبًا فِي الْهَلاَكِ أَوْ تَأَخُّرِ شِفَائِهِ، أَوْ زِيَادَةِ الْمَرَضِ، رَخَّصَ لَهُ فِي تَرْكِ الْوُضُوءِ تَخْفِيفًا، وَالاِنْتِقَال إِلَى التَّيَمُّمِ، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمِ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (1) .
كَمَا خَفَّفَ عَنْهُ غَسْل الْعُضْوِ الْمُجَبَّرِ، إِلَى الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ، مَوْقُوتًا بِالْبُرْءِ. وَخَفَّفَ عَنْهُ فِي حَالَةِ عَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ لِلصَّلاَةِ، فِي أَدَائِهَا قَاعِدًا، أَوْ مُضْطَجِعًا، أَوْ مُومِئًا، أَوْ مَا يَتَنَاسَبُ مَعَ عَجْزِهِ الَّذِي سَبَّبَهُ الْمَرَضُ، يَقُول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ أَصَابَهُ الْمَرَضُ: صَل قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ (2) . وَخَفَّفَ عَنِ الْمَرِيضِ بِالإِْذْنِ لَهُ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَخَفَّفَ عَنْهُ بِإِجَازَةِ التَّدَاوِي بِالنَّجَاسَاتِ، وَإِبَاحَةِ نَظَرِ الطَّبِيبِ لِلْعَوْرَةِ وَلَوْ لِلسَّوْأَتَيْنِ.
وَخَفَّفَ أَيْضًا عَنِ الْمَرِيضِ فِي حَالَةِ عَجْزِهِ عَنِ الصِّيَامِ، بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ، وَقَضَاءِ مَا فَاتَهُ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (3) .
__________
(1) سورة النساء / 43 وانظر: الجامع لأحكام القرآن 5 / 214، والمغني لابن قدامة 1 / 233، وبدائع الصنائع 1 / 187، والمجموع شرح المهذب 2 / 288.
(2) حديث: " صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا. . . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 5870 ط. السلفية) من حديث عمران بن حصين.
(3) سورة البقرة / 185.(14/227)
وَخَفَّفَ عَنِ الشَّيْخِ الْهَرِمِ، فَخَصَّهُ بِجَوَازِ إِخْرَاجِ الْفِدْيَةِ بَدَلاً عَنِ الصِّيَامِ الَّذِي عَجَزَ عَنْ أَدَائِهِ، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (1) .
وَأُجِيزَ لِلْمَرِيضِ الْخُرُوجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ.
وَخَفَّفَ الشَّرْعُ عَنِ الْمَرِيضِ أَيْضًا بَعْضَ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَأَجَازَ لَهُ التَّحَلُّل عِنْدَ الإِْحْصَارِ، مَعَ ذَبْحِ هَدْيٍ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ فَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ.
وَأَجَازَ لَهُ الاِسْتِنَابَةَ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ، وَأَبَاحَ لَهُ فِعْل مَحْظُورَاتِ الإِْحْرَامِ، مِنْ لُبْسِ الْقَمِيصِ وَنَحْوِهِ، كَمَا أَبَاحَ لَهُ حَلْقَ رَأْسِهِ إِنْ كَانَ بِهِ جِرَاحَةٌ أَوْ قَمْلٌ وَاحْتَاجَ إِلَى الْحَلْقِ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (2) .
وَقَدْ جَعَل اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَرَضَ سَبَبًا فِي التَّخْفِيفِ عَنِ الْمَرِيضِ يَوْمَ الْحِسَابِ، وَذَلِكَ بِتَكْفِيرِ ذُنُوبِهِ، بِمَا يُصِيبُهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يَلْحَقُهُ مِنْ أَلَمٍ، أَوْ هَمٍّ، أَوْ غَمٍّ.
يَقُول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ، وَلاَ حُزْنٍ،
__________
(1) سورة البقرة / 184.
(2) سورة البقرة / 196 وانظر: المغني مع الشرح الكبير 1 / 239، ومغني المحتاج 1 / 87.(14/228)
وَلاَ أَذًى، وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ (1) .
هَذَا بَعْضٌ مِنْ كُلٍّ، مِمَّا وَرَدَ فِي التَّخْفِيفِ عَنِ الْمَرِيضِ فِي الْعِبَادَاتِ.
وَهُنَاكَ تَخْفِيفَاتٌ أُخْرَى وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ، يَضِيقُ الْمَقَامُ عَنْ ذِكْرِهَا (2) .
وَالاِسْتِحَاضَةُ، وَالسَّلَسُ، مِنْ قَبِيل الْمَرَضِ، وَلَهُمَا تَخْفِيفَاتُهُمَا الْمَعْرُوفَةُ
. السَّبَبُ الثَّانِي: السَّفَرُ:
33 - السَّفَرُ سَبَبٌ لِلتَّخْفِيفِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَشَقَّةٍ؛ وَلِحَاجَةِ الْمُسَافِرِ إِلَى التَّقَلُّبِ فِي حَاجَاتِهِ، وَقَضَاءِ مَآرِبِهِ مِنْ سَفَرِهِ؛ وَلِذَا شُرِعَ التَّخْفِيفُ عَنِ الْمُسَافِرِ فِي الْعِبَادَاتِ.
قَال السُّيُوطِيّ نَقْلاً عَنِ النَّوَوِيِّ: وَرُخَصُ السَّفَرِ ثَمَانٍ: فَمِنْهَا الْقَصْرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ} . (3)
وَمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ فَصَلَّى
__________
(1) حديث: " ما يصب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن. . . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 102 - ط السلفية) والنصب: التعب، والوصب: دوام الوجه ولزومه، والغم: ما يضيق على القلب انظر: النهاية لابن الأثير 5 / 62، 190.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص77.
(3) سورة النساء / 101.(14/228)
رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ (1) .
وَمِنْهَا: رُخْصَةُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (2) .
وَمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ، قَال: كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلاَ الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ (3) .
وَمِنْهَا: الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا.
وَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِلسَّفَرِ الْمُجَوِّزِ لِلتَّخْفِيفِ شُرُوطًا مِنْهَا - عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ (4) - أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ مَشْرُوعًا - وَلَوْ مُبَاحًا - كَالسَّفَرِ لِلْحَجِّ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالتِّجَارَةِ لِئَلاَّ يَكُونَ التَّخْفِيفُ إِعَانَةً لِلْعَاصِي عَلَى مَعْصِيَتِهِ (5) .
السَّبَبُ الثَّالِثُ: الإِْكْرَاهُ:
34 - الإِْكْرَاهُ هُوَ حَمْل الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ لاَ يَرْضَاهُ
__________
(1) فتح القدير 2 / 403، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي للدردير 1 / 358، ومغني المحتاج 1 / 263، والكافي لابن قدامة 1 / 196، وحديث: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فصلى ركعتين حتى رجع. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 561 - ط السلفية.
(2) سورة البقرة / 184.
(3) حديث: " كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 186 - ط السلفية) . ومسلم (2 / 787 - ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري وهو من حديث أنس.
(4) شرح الأشباه والنظائر للحموي 1 / 106.
(5) الفروق للقرافي 2 / 33 - 34، الفرق 58.(14/229)
وَذَلِكَ بِتَهْدِيدِهِ بِالْقَتْل، أَوْ بِقَطْعِ طَرَفٍ، أَوْ نَحْوِهِمَا، إِنْ لَمْ يَفْعَل مَا يُطْلَبْ مِنْهُ (وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ إِكْرَاهٌ) ، وَقَدْ عَدَّ الشَّارِعُ الإِْكْرَاهَ بِغَيْرِ حَقٍّ عُذْرًا مِنَ الأَْعْذَارِ الْمُخَفِّفَةِ، الَّتِي تَسْقُطُ بِهَا الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، فَتُخُفِّفَ عَنِ الْمُكْرَهِ مَا يَنْتُجُ عَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنْ آثَارٍ دُنْيَوِيَّةٍ، أَوْ أُخْرَوِيَّةٍ، بِحُدُودِهِ (1) .
وَشَبِيه بِمَسْأَلَةِ الإِْكْرَاهِ مَسْأَلَةُ التَّقِيَّةِ فَإِنَّ التَّقِيَّةَ أَنْ يَرْتَكِبَ الْمُحَرَّمَ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ مَكْرُوهٍ دُونَ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَيْهِ إِكْرَاهٌ مُعَيَّنٌ، أَوْ يَتْرُكَ الْوَاجِبَ لأَِجْل ذَلِكَ (2) . وَلَهَا ضَوَابِطُ فِيمَا يَحِل بِهَا (ر: تَقِيَّةٌ) .
السَّبَبُ الرَّابِعُ: النِّسْيَانُ:
35 - النِّسْيَانُ هُوَ عَدَمُ اسْتِحْضَارِ الإِْنْسَانِ مَا كَانَ يَعْلَمُهُ، بِدُونِ نَظَرٍ وَتَفْكِيرٍ، مَعَ عِلْمِهِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ (3) . وَقَدْ جَعَلَتْهُ الشَّرِيعَةُ عُذْرًا وَسَبَبًا مُخَفِّفًا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (4) . فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ رَفَعَ عَنَّا إِثْمَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ، وَالْخَطَأِ غَيْرِ الْمَقْصُودِ. فَفِي أَحْكَامِ
__________
(1) المبسوط للسرخسي 24 / 39 وما بعدها، والأم 2 / 210، والمهذب 2 / 78، والمغني 8 / 261، وكشف الأسرار 4 / 383، والأشباه والنظائر ص228.
(2) فتاوى ابن تيمية 19 / 217.
(3) مسلم الثبوت 1 / 170.
(4) سورة البقرة / 286.(14/229)
الآْخِرَةِ يُعْذَرُ النَّاسِي وَيُرْفَعُ عَنْهُ الإِْثْمُ مُطْلَقًا (1) .
فَالنِّسْيَانُ - كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ السُّيُوطِيّ -: مُسْقِطٌ لِلإِْثْمِ مُطْلَقًا. وَذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَيَقُول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (2) .
أَمَّا النِّسْيَانُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَلاَ يُعَدُّ عُذْرًا مُخَفِّفًا؛ لأَِنَّ حَقَّ اللَّهِ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُشَاحَّةِ وَالْمُطَالَبَةِ، فَلاَ يَكُونُ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِيهَا (3) .
السَّبَبُ الْخَامِسُ: الْجَهْل:
36 - الْجَهْل عَدَمُ الْعِلْمِ بِالأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ بِأَسْبَابِهَا.
وَالْجَهْل عُذْرٌ مُخَفِّفٌ فِي أَحْكَامِ الآْخِرَةِ اتِّفَاقًا، فَلاَ إِثْمَ عَلَى مَنْ فَعَل الْمُحَرَّمَ أَوْ تَرَكَ الْوَاجِبَ جَاهِلاً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (4) .
أَمَّا فِي الْحُكْمِ فَكَمَا تَقَدَّمَ فِي النِّسْيَانِ، إِنْ وَقَعَ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص206.
(2) الأشباه والنظائر ص206 وحديث: " تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. . . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 659 - ط عيسى الحلبي) والحاكم (2 / 198 - ط دار الكتاب العربي) وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) . ووافقه الذهبي.
(3) الموافقات للشاطبي 1 / 103، وتيسير التحرير 2 / 426.
(4) سورة الإسراء / 15.(14/230)
الْجَهْل فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ بِتَرْكِ مَأْمُورٍ لَمْ يَسْقُطْ بَل يَجِبُ تَدَارُكُهُ، وَلاَ يَحْصُل الثَّوَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَدَارُكٍ، أَوْ وَقَعَ فِي فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الإِْتْلاَفِ فَلاَ شَيْءَ فِيهِ، أَوْ فِيهِ إِتْلاَفٌ لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ، كَمَا فِي قَتْل صَيْدِ الْحَرَمِ أَوْ قَطْعِ شَجَرِهِ. وَإِنْ كَانَ الْجَهْل فِي فِعْل مَا فِيهِ عُقُوبَةٌ كَانَ شُبْهَةً فِي إِسْقَاطِهَا، وَلاَ يُؤَثِّرُ الْجَهْل فِي إِسْقَاطِ حُقُوقِ الْعِبَادِ.
وَلَيْسَ كُل أَحَدٍ يُقْبَل مِنْهُ دَعْوَى الْجَهْل بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْ جَهِل تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِي الْعِلْمِ بِهِ غَالِبُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُقْبَل، مَا لَمْ يَكُنْ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالإِْسْلاَمِ، أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ يَخْفَى فِيهَا مِثْل ذَلِكَ، كَتَحْرِيمِ الزِّنَى، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْكَلاَمِ فِي الصَّلاَةِ، وَالأَْكْل فِي الصَّوْمِ.
وَقَدْ يَكُونُ الْجَهْل فِيمَا يَخْفَى حُكْمُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْعَامِّيِّ دُونَ الْعَالِمِ، فَتُقْبَل فِيهِ دَعْوَى الْجَهْل مِنَ الأَْوَّل دُونَ الثَّانِي، كَكَوْنِ الْقَدْرِ الَّذِي أَتَى بِهِ مِنَ الْكَلاَمِ مُفْسِدًا لِلصَّلاَةِ، أَوْ كَوْنِ النَّوْعِ الَّذِي دَخَل جَوْفَهُ مُفْسِدًا لِلصَّوْمِ، فَالأَْصَحُّ فِيمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمُ الْبُطْلاَنِ.
وَلاَ تُقْبَل دَعْوَى الْجَهْل بِالأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ قَدِيمِ الإِْسْلاَمِ لاِشْتِهَارِهِ، وَتُقْبَل فِي نَفْيِ الْوَلَدِ لأَِنَّهُ لاَ يَعْرِفُهُ إِلاَّ الْخَوَاصُّ (1) .
وَكُل مَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ وَجَهِل مَا يَتَرَتَّبُ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص200، 201.(14/230)
عَلَيْهِ لَمْ يُفِدْهُ ذَلِكَ، كَمَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الزِّنَى وَالْخَمْرِ وَجَهِل وُجُوبَ الْحَدِّ، فَإِنَّهُ يُحَدُّ بِالاِتِّفَاقِ، وَكَمَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الطِّيبِ فِي الإِْحْرَامِ وَجَهِل وُجُوبَ الْفِدْيَةِ فِيهِ، فَتَجِبُ الْفِدْيَةُ (1) .
السَّبَبُ السَّادِسُ: الْخَطَأُ:
37 - الْخَطَأُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْفِعْل أَوْ فِي الْقَصْدِ. فَكُل مَنْ أَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ: كَمَنْ يَرْمِي صَيْدًا فَيُصِيبُ إِنْسَانًا، أَوْ فِي قَصْدِهِ: كَمَنْ يَرْمِي شَخْصًا يَظُنُّهُ غَيْرَ مَعْصُومِ الدَّمِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ. وَكَمَنْ اجْتَهَدَ فِي التَّعَرُّفِ عَلَى الْقِبْلَةِ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا خِلاَفُهَا. وَالْخَطَأُ بِنَوْعَيْهِ مِنَ الأَْسْبَابِ الْمُخَفِّفَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (2) .
وَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (3) . وَلَيْسَ الْخَطَأُ مُسْقِطًا حُقُوقَ الْعِبَادِ، فَلَوْ أَتْلَفَ مَال غَيْرِهِ خَطَأً فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ.
وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مُخَفِّفًا فِي الْجِنَايَاتِ، دَارِئًا لِلْحُدُودِ، فَيُخَفِّفُ عَنِ الْقَاتِل خَطَأً مِنَ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ، وَيَدْرَأُ الْحَدَّ عَنِ الْوَاطِئِ غَيْرَ زَوْجَتِهِ خَطَأً.
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص201.
(2) سورة الأحزاب / 5.
(3) أحكام القرآن للجصاص 3 / 354.(14/231)
أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ فَيَسْقُطُ الإِْثْمُ، وَقَدْ تَسْقُطُ مُطَالَبَةُ الشَّارِعِ بِإِعَادَةِ الْعِبَادَةِ مَرَّةً أُخْرَى.
هَذَا وَإِنَّ قَوَاعِدَ التَّخْفِيفِ الْمَذْكُورَةَ فِي أَبْوَابِ النِّسْيَانِ وَالْجَهْل وَالْخَطَأِ هِيَ قَوَاعِدُ غَالِبِيَّةٌ يَقَعُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الاِسْتِثْنَاءَاتِ، وَقَدْ حَاوَل بَعْضُ أَصْحَابِ كُتُبِ الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ، وَكُتُبِ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ، حَصْرَهَا فَيُرْجَعُ إِلَيْهَا هُنَاكَ (1) . وَانْظُرْ أَيْضًا (نِسْيَانٌ. جَهْلٌ. خَطَأٌ) .
السَّبَبُ السَّابِعُ: الْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى:
38 - يَدْخُل فِيهِ الأَْعْذَارُ الْغَالِبَةُ الَّتِي تَكْثُرُ الْبَلْوَى بِهَا وَتَعُمُّ فِي النَّاسِ، دُونَ مَا كَانَ مِنْهَا نَادِرًا، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ فَرَّقَ فِي الأَْعْذَارِ بَيْنَ غَالِبِهَا وَنَادِرِهَا، فَعَفَا عَنْ غَالِبِهَا لِمَا فِي اجْتِنَابِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْغَالِبَةِ. وَإِنَّمَا تَكُونُ غَالِبَةً لِتَكَرُّرِهَا، وَكَثْرَتِهَا وَشُيُوعِهَا فِي النَّاسِ، بِخِلاَفِ مَا كَانَ مِنْهَا نَادِرًا فَالأَْكْثَرُ أَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلاَ يَكُونُ عُذْرًا لاِنْتِفَاءِ الْمَشَقَّةِ غَالِبًا، فَإِنْ كَانَ فِيهِ عُسْرٌ كَمَشَقَّةِ الاِحْتِرَازِ عَمَّا لاَ يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ مِنْ رَشَاشِ الْبَوْل فَيُعْفَى عَنْهُ أَيْضًا. وَمَثَّل الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ بِمَنْ أَتَى بِمَحْظُورِ الصَّلاَةِ نِسْيَانًا، فَإِنَّهُ إِنْ قَصُرَ زَمَانُهُ يُعْفَى عَنْهُ اتِّفَاقًا لِعُمُومِ الْبَلْوَى، وَإِنْ طَال زَمَانُهُ فَفِيهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعْفَى عَنْهُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَنْتَهِكِ الْحُرْمَةَ، وَالآْخَرُ: لاَ يُعْفَى عَنْهُ لأَِنَّهُ نَادِرٌ (2) .
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص541.
(2) قواعد الأحكام 2 / 3.(14/231)
وَأَصْل ذَلِكَ فِي بَابِ الْحَيْضِ، فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الصَّلاَةَ حَتَّى لاَ تَجِبَ وَلاَ يَجِبَ قَضَاؤُهَا؛ لِتَكَرُّرِهَا كُل شَهْرٍ، بِخِلاَفِ قَضَاءِ مَا تُفْطِرُهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَيَجِبُ لأَِنَّهُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً (1) . وَأَيْضًا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِرَّةِ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ (2) فَقَدْ عَلَّل طَهَارَتَهَا بِكَثْرَةِ طَوَافِهَا أَيْ لِعُسْرِ الاِحْتِرَازِ عَنْهَا لِكَثْرَةِ مُلاَبَسَتِهَا لِثِيَابِ النَّاسِ وَآنِيَتِهِمْ، مَعَ كَوْنِهَا تَأْكُل الْفَأْرَ وَالْمَيْتَةَ. وَمَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي امْرَأَةٌ أُطِيل ذَيْلِي وَأَمْشِي فِي الْمَكَانِ الْقَذِرِ؟ قَال: يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ (3) وَقَال: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ فَإِنْ وَجَدَ فِيهِمَا أَذًى أَوْ قَذَرًا فَلْيَمْسَحْهُ وَلِيُصَل فِيهِمَا (4) .
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص78.
(2) حديث: " إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم " أخرجه أبو داود (1 / 160 ط عزت عبيد دعاس) والنسائي (1 / 55 ط مكتب المطبوعات الإسلامية) والترمذي (1 / 153 ط مصطفى الحلبي) وقال: حديث حسن صحيح. ووافقه أحمد شاكر
(3) حديث: " إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر؟ قال: " يطهره ما بعد ". أخرجه أبو داود (1 / 296 - ط عزت عبيد الدعاس) . والترمذي (1 / 266 - ط مصطفى الحلبي) . وصححه الترمذي وأحمد شاكر) .
(4) حديث: " إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن وجد. . . . " أخرجه أبو داود (1 / 426 - ط عزت عبيد دعاس) والبيهقي (2 / 431 - ط دار المعرفة) والحاكم (1 / 260 - ط دار الكتاب العربي) وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي) من حديث أبي سعيد الخدري.(14/232)
وَالتَّخْفِيفُ بِالْعُسْرِ وَعُمُومِ الْبَلْوَى يَدْخُل فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الشَّرِيعَةِ. وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مَا جَمَعَهُ السُّيُوطِيّ وَغَيْرُهُ فِي الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ مِنَ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ فِي الْمُعَامَلاَتِ: بَيْعُ الرُّمَّانِ وَالْبَيْضِ وَنَحْوِهِمَا فِي الْقِشْرِ، وَبَيْعُ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ السَّلَمُ، مَعَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَالاِكْتِفَاءُ بِرُؤْيَةِ ظَاهِرِ الصُّبْرَةِ، وَأُنْمُوذَجِ الْمُتَمَاثِل (1) .
السَّبَبُ الثَّامِنُ: النَّقْصُ:
39 - إِنَّ الإِْنْسَانَ إِنْ كَانَتْ قُدُرَاتُهُ نَاقِصَةً يَعْسُرُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَمَّل مِثْل مَا يَحْمِلُهُ غَيْرُهُ مِنْ أَهْل الْكَمَال، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ التَّخْفِيفَ.
فَمِنْ ذَلِكَ عَدَمُ تَكْلِيفِ الصَّبِيِّ.
وَمِنْهُ عَدَمُ تَكْلِيفِ الأَْرِقَّاءِ بِكَثِيرٍ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الأَْحْرَارِ، كَالْجُمُعَةِ، وَتَنْصِيفِ الْحُدُودِ وَالْعَدَدِ (2) .
وَمِنْهُ التَّخْفِيفَاتُ الْوَارِدَةُ فِي شَأْنِ النِّسَاءِ. فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ خَفَّفَتْ عَنْهُنَّ بَعْضَ الأَْحْكَامِ، فَرَفَعَتْ عَنْهُنَّ كَثِيرًا مِمَّا أُلْزِمَ بِهِ الرِّجَال مِنْ أَحْكَامٍ. وَمِنْ ذَلِكَ الْجَمَاعَةُ، وَالْجُمُعَةُ، وَأَبَاحَتْ بَعْضَ مَا حُرِّمَ عَلَى الرَّجُل كَلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ.
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص78 - 80، وشرح الأشباه لابن نجيم، وابن عابدين 1 / 206، 210، 215، وإغاثة اللهفان 1 / 150، والشرح الصغير على خليل 1 / 72 - 75
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص82.(14/232)
السَّبَبُ التَّاسِعُ: الْوَسْوَسَةُ:
40 - الْمُوَسْوِسُ هُوَ مَنْ يَشُكُّ فِي الْعِبَادَةِ وَيَكْثُرُ مِنْهُ الشَّكُّ فِيهَا حَتَّى يَشُكَّ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَل الشَّيْءَ وَهُوَ قَدْ فَعَلَهُ. وَالشَّكُّ فِي الأَْصْل مُوجِبٌ لِلْعَوْدِ لِمَا شَكَّ فِي تَرْكِهِ، كَمَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ وَشَكَّ هَل رَكَعَ أَمْ لاَ، فَإِنَّ عَلَيْهِ الرُّكُوعَ؛ لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ مَا شَكَّ فِيهِ، وَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ (1) . وَمَنْ شَكَّ أَنَّهُ صَلَّى ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا جَعَلَهَا ثَلاَثًا وَأَتَى بِوَاحِدَةٍ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. لَكِنْ إِنْ كَانَ مُوَسْوِسًا فَلاَ يَلْتَفِتُ لِلْوَسْوَاسِ لأَِنَّهُ يَقَعُ فِي الْحَرَجِ، وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ فِي الشَّرِيعَةِ، بَل يَمْضِي عَلَى مَا غَلَبَ فِي نَفْسِهِ. تَخْفِيفًا عَنْهُ وَقَطْعًا لِلْوَسْوَاسِ (2) . قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَالاِحْتِيَاطُ حَسَنٌ مَا لَمْ يُفِضْ بِصَاحِبِهِ إِلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ، فَإِذَا أَفْضَى إِلَى ذَلِكَ فَالاِحْتِيَاطُ تَرْكُ هَذَا الاِحْتِيَاطِ (3) .
السَّبَبُ الْعَاشِرُ: التَّرْغِيبُ فِي الدُّخُول فِي الإِْسْلاَمِ وَحَدَاثَةُ الدُّخُول فِيهِ:
41 - وَهَذَا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّيْسِيرِ يُعْلَمُ بِتَتَبُّعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَمِمَّا شُرِعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الدَّاخِل فِي الإِْسْلاَمِ يُعْذَرُ بِالْجَهْل بِالتَّحْرِيمِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُدُودِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي السَّبَبِ الْخَامِسِ.
وَمِنْهُ سُقُوطُ الْعِبَادَاتِ وَسَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص55.
(2) المغني 1 / 501، 2 / 502.
(3) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم 1 / 183.(14/233)
تَعَالَى السَّابِقَةِ عَلَى الإِْسْلاَمِ، فَلاَ يُطَالَبُ بِقَضَائِهَا: حَتَّى عَلَى قَوْل مَنْ يَرَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ؛ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الإِْسْلاَمِ؛ وَلِئَلاَّ تَكُونَ مَشَقَّةُ الْقَضَاءِ حَائِلاً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الإِْسْلاَمِ (1) .
وَمِنْهُ إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِلْكَافِرِ الَّذِي يُرْجَى إِسْلاَمُهُ تَرْغِيبًا لَهُ فِي الإِْسْلاَمِ لِتَمِيل إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَإِعْطَاءُ مَنْ أَسْلَمَ حَدِيثًا إِذَا كَانَ فِي إِعْطَائِهِ قُوَّةٌ لِلإِْسْلاَمِ، أَوْ تَرْغِيبٌ لِنُظَرَائِهِ لِيُسْلِمُوا (2) .
وَمِنْهُ تَوْرِيثُ الْكَافِرِ مِنْ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ إِنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ قَبْل قِسْمَةِ التَّرِكَةِ، عَلَى قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ انْفَرَدُوا بِهِ؛ تَرْغِيبًا لَهُ فِي الدُّخُول فِي الإِْسْلاَمِ (3) .
الْمَشَاقُّ الْمُوجِبَةُ لِلتَّيْسِيرِ:
42 - الْمَشَاقُّ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَشَاقَّ لاَ يَنْفَكُّ عَنْهَا التَّكْلِيفُ غَالِبًا كَمَشَقَّةِ الْبَرْدِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل، وَمَشَقَّةِ الصَّوْمِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَطُول النَّهَارِ، وَمَشَقَّةِ السَّفَرِ الَّتِي لاَ انْفِكَاكَ لِلْحَجِّ وَالْجِهَادِ عَنْهَا غَالِبًا، وَمَشَقَّةِ أَلَمِ الْحُدُودِ كَرَجْمِ الزُّنَاةِ، وَقَتْل الْجُنَاةِ، وَقِتَال الْبُغَاةِ، فَلاَ أَثَرَ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَشَقَّاتِ فِي إِسْقَاطِ حَقِّ اللَّهِ الْوَاجِبِ، فِي كُل الأَْوْقَاتِ، أَيْ: لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَهُ
__________
(1) الفروق للقرافي 3 / 184، 185.
(2) المغني 6 / 428.
(3) المغني 6 / 300.(14/233)
عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ لِمَصَالِحَ يَعْلَمُهَا، فَيَكُونُ إِسْقَاطُهَا دَائِمًا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَشَقَّاتِ الْمُلاَزِمَةِ إِلْغَاءً لِمَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ.
وَالْقِسْمِ الثَّانِي: مَشَاقَّ يَنْفَكُّ عَنْهَا التَّكْلِيفُ غَالِبًا، فَمَا لاَ يُطَاقُ مِنْهَا اقْتَضَى التَّخْفِيفَ بِالإِْسْقَاطِ أَوْ غَيْرِهِ اتِّفَاقًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِلاَّ فَإِنْ كَانَتْ عَظِيمَةً فَادِحَةً كَالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ، أَوِ الأَْعْضَاءِ، فَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلتَّخْفِيفِ؛ لأَِنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ، وَالأَْطْرَافِ لإِِقَامَةِ مَصَالِحِ الدِّينِ أَوْلَى مِنْ تَعْرِيضِهَا لِلْفَوَاتِ فِي عِبَادَةٍ أَوْ عِبَادَاتٍ يَفُوتُ بِهَا أَمْثَالُهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْمَشَقَّةُ خَفِيفَةً كَأَدْنَى وَجَعٍ فِي أُصْبُعٍ، أَوْ سُوءِ مِزَاجٍ خَفِيفٍ، فَهَذَا لاَ أَثَرَ لَهُ، وَلاَ يَتَرَخَّصُ بِهِ؛ لأَِنَّ تَحْصِيل مَصَالِحِ الْعِبَادَاتِ أَوْلَى مِنْ دَفْعِ مِثْل هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي لاَ أَثَرَ لَهَا، وَالْمَشَقَّةُ الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الدَّرَجَتَيْنِ مَا دَنَا مِنْهَا مِنَ الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا أَوْجَبَ التَّخْفِيفَ، أَوْ مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يُوجِبْهُ، كَحُمَّى خَفِيفَةٍ، وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مِمَّا يُخْتَلَفُ فِيهِ غَالِبًا. وَلاَ ضَبْطَ لِهَذِهِ الْمَرَاتِبِ إِلاَّ بِالتَّقْرِيبِ (1) .
قَال عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ وَتَخْتَلِفُ الْمَشَاقُّ بِاخْتِلاَفِ الْعِبَادَاتِ فِي اهْتِمَامِ الشَّرْعِ. فَمَا اشْتَدَّ اهْتِمَامُهُ بِهِ شَرَطَ فِي تَخْفِيفِهِ الْمَشَاقَّ الشَّدِيدَةَ أَوِ الْعَامَّةَ، وَمَا لَمْ يَهْتَمَّ بِهِ خَفَّفَهُ بِالْمَشَاقِّ الْخَفِيفَةِ،
__________
(1) قواعد الأحكام لابن عبد السلام 2 / 8، وأشباه السيوطي ص80، وأشباه ابن نجيم بحاشية الحموي 1 / 116.(14/234)
وَقَدْ تُخَفَّفُ مَشَاقُّهُ مَعَ شَرَفِهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ لِتَكَرُّرِ مَشَاقِّهِ كَيْ لاَ يُؤَدِّيَ إِلَى الْمَشَاقِّ الْعَامَّةِ الْكَثِيرَةِ الْوُقُوعِ (1) .
وَمِنْ هُنَا جَاءَتِ الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ الْمَشْهُورَةُ (الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ) وَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ قَوَاعِدِ الْفِقْهِ الإِْسْلاَمِيِّ، يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمُجْتَهِدُ وَالْمُفْتِي كَثِيرًا.
وَقَدْ قَال السُّيُوطِيّ: يَرْجِعُ إِلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ غَالِبُ أَبْوَابِ الْفِقْهِ (2) .
وَمِثْلُهَا قَاعِدَةُ (إِنَّ الأَْمْرَ إِذَا ضَاقَ اتَّسَعَ) وَالْمُرَادُ بِالاِتِّسَاعِ التَّرَخُّصُ عَنِ اتِّبَاعِ الأَْقْيِسَةِ وَطَرْدِ الْقَوَاعِدِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الضِّيقِ وَهُوَ الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ (3) .
غَيْرَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ مُقَيَّدَتَانِ بِقَاعِدَةٍ أُخْرَى هِيَ أَنَّ (الْمَيْسُورَ لاَ يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ) وَدَلِيلُهَا قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ. (4) قَال الْجُوَيْنِيُّ: " هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنَ الأُْصُول الشَّائِعَةِ الَّتِي لاَ تَكَادُ تُنْسَى مَا أُقِيمَتْ أُصُول الشَّرِيعَةِ ". وَوَجْهُهَا أَنَّ الْعُسْرَ
__________
(1) قواعد الأحكام 2 / 8 - 14.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص80.
(3) الحموي على الأشباه 1 / 117.
(4) حديث: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " أخرجه البخاري (فتح الباري 13 / 251 - ط السلفية) . ومسلم (4 / 1830 - ط عيسى الحلبي) .(14/234)
هُوَ سَبَبُ التَّخْفِيفِ، فَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ مَيْسُورًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْفِيفِ فِيهِ مَوْضِعٌ.
وَمِنْ فُرُوعِهَا: إِذَا كَانَ مَقْطُوعَ بَعْضِ الأَْطْرَافِ غَسَل الْبَاقِيَ جَزْمًا. وَالْقَادِرُ عَلَى سَتْرِ بَعْضِ عَوْرَتِهِ دُونَ بَعْضٍ سَتَرَ الْقَدْرَ الْمُمْكِنَ. وَالْقَادِرُ عَلَى بَعْضِ الْفَاتِحَةِ دُونَ بَعْضٍ يَأْتِي بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ. وَمَنْ وَجَدَ مَاءً لاَ يَكْفِي لِكُل طَهَارَتِهِ اسْتَعْمَلَهُ. وَمَنْ وَجَدَ بَعْضَ صَاعٍ فِي الْفِطْرَةِ أَخْرَجَهُ.
وَهِيَ قَاعِدَةٌ غَالِبِيَّةٌ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهَا فُرُوعٌ مِنْهَا: وَاجِدُ بَعْضِ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ لاَ يُعْتِقُهَا، بَل يَنْتَقِل إِلَى الْبَدَل. وَمِنْهَا: الْقَادِرُ عَلَى صَوْمِ بَعْضِ يَوْمٍ دُونَ كُلِّهِ لاَ يَلْزَمُهُ إِمْسَاكُهُ، وَإِذَا وَجَدَ الشَّفِيعُ بَعْضَ الثَّمَنِ لاَ يَأْخُذُ قِسْطَهُ مِنَ الشِّقْصِ (1) .
تَعَارُضُ قَاعِدَةِ رَفْعِ الْحَرَجِ وَالنَّصِّ:
43 - ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي أَشْبَاهِهِ.
وَنَقَل عَنِ السَّرَخْسِيِّ قَوْلَهُ: " إِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْبَلْوَى فِي مَوْضِعٍ لاَ نَصَّ فِيهِ بِخِلاَفِهِ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فَلاَ يُعْتَدُّ بِهِ ". ثُمَّ قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلِذَا قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِحُرْمَةِ رَعْيِ حَشِيشِ الْحَرَمِ وَقَطْعِهِ إِلاَّ الإِْذْخِرَ.
وَمِنْ فُرُوعِهَا أَيْضًا قَوْل ابْنِ نُجَيْمٍ: قَال
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي ص159، 160.(14/235)
أَبُو حَنِيفَةَ: بِتَغْلِيظِ نَجَاسَةِ الأَْرْوَاثِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّوْثَةِ: < إِنَّهَا رِكْسٌ > (1) أَيْ نَجَسٌ، وَلاَ اعْتِبَارَ عِنْدَهُ بِالْبَلْوَى فِي مَوْضِعِ النَّصِّ (2) .
وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا؛ وَلِذَا خَالَفَ فِي الْفَرْعِ الأَْوَّل أَبُو يُوسُفَ، فَأَجَازَ رَعْيَ حَشِيشِ الْحَرَمِ؛ لِلْحَرَجِ فِي الاِمْتِنَاعِ مِنْهُ. وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يَجُوزُ رَعْيُهُ؛ لأَِنَّ الْهَدْيَ كَانَتْ تَدْخُل الْحَرَمَ فَتَكْثُرُ فِيهِ، فَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ كَانَتْ تُسَدُّ أَفْوَاهُهَا؛ وَلأَِنَّ بِهِمْ حَاجَةً إِلَى ذَلِكَ، أَشْبَهَ قَطْعَ الإِْذْخِرِ (3) .
أَنْوَاعُ التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ:
44 - أَوْرَدَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّخْفِيفَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الشَّرِيعَةِ سِتَّةَ أَنْوَاعٍ (4) : ثُمَّ زَادَ عَلَيْهَا غَيْرُهُ: فَالسِّتَّةُ هِيَ:
النَّوْعُ الأَْوَّل: تَخْفِيفُ الإِْسْقَاطِ، فَيَسْقُطُ الْفِعْل عَنِ الْمُكَلَّفِ، كَإِسْقَاطِ الْجُمُعَةِ عَنْ أَصْحَابِ الأَْعْذَارِ، وَالْحَجِّ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، وَالْجِهَادِ عَنِ الأَْعْمَى وَالأَْعْرَجِ وَمَقْطُوعِ الْيَدِ، وَكَإِسْقَاطِ الصَّلاَةِ عَنِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ.
__________
(1) حديث: " هذا ركس. . . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 256 - ط السلفية) .
(2) الأشباه بحاشية الحموي 1 / 117.
(3) المغني 3 / 351.
(4) قواعد الأحكام 2 / 6.(14/235)
النَّوْعُ الثَّانِي: تَخْفِيفُ تَنْقِيصٍ، كَقَصْرِ الصَّلاَةِ لِلْمُسَافِرِ وَالاِكْتِفَاءِ بِرَكْعَتَيْنِ لِدَفْعِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ، وَتَنْقِيصِ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْمَرِيضُ مِنْ أَفْعَال الصَّلَوَاتِ عَنِ الْحَدِّ الأَْدْنَى الْمُجْزِئِ لِغَيْرِ الْمَرِيضِ، كَتَنْقِيصِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إِلَى الْحَدِّ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَخْفِيفُ إِبْدَالٍ، كَإِجَازَةِ الشَّارِعِ لِلْمَرِيضِ إِبْدَال الْغُسْل وَالْوُضُوءِ بِالتَّيَمُّمِ، وَإِبْدَال الْقِيَامِ فِي الصَّلاَةِ بِالْقُعُودِ، أَوِ الاِضْطِجَاعِ، وَإِبْدَال الصِّيَامِ لِلشَّيْخِ الْفَانِي بِالإِْطْعَامِ، وَإِبْدَال بَعْضِ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ بِالْكَفَّارَاتِ عِنْدَ قِيَامِ الأَْعْذَارِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: تَخْفِيفُ تَقْدِيمٍ، كَإِجَازَةِ جَمْعِ التَّقْدِيمِ فِي الصَّلاَةِ لِلْمُسَافِرِ وَالْحَاجِّ، وَإِجَازَةِ تَعْجِيل تَقْدِيمِ الزَّكَاةِ عَنِ الْحَوْل لِدَاعٍ، وَتَقْدِيمِ زَكَاةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ قَبْل يَوْمِ الْعِيدِ بِيَوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيْنِ، وَأَجَازَ الْبَعْضُ تَقْدِيمَهَا لأَِكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ: تَخْفِيفُ تَأْخِيرٍ، كَإِجَازَةِ الْجَمْعِ تَأْخِيرًا لِوُجُودِ عُذْرٍ يَجْعَل أَدَاءَهُ فِي وَقْتِهِ شَاقًّا عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَتَأْخِيرِ صِيَامِ رَمَضَانَ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، فَقَدْ خُفِّفَ عَنْهُمَا بِالْفِطْرِ، مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلصَّوْمِ، الْمُحَرِّمِ لِلْفِطْرِ، وَتَأْخِيرِ الصَّلاَةِ فِي حَقِّ النَّائِمِ وَالنَّاسِي.
النَّوْعُ السَّادِسُ: تَخْفِيفُ تَرْخِيصٍ، وَهُوَ مَا اُسْتُبِيحَ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، أَوْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، كَإِبَاحَةِ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لِمَنْ أُكْرِهَ(14/236)
بِإِجْرَاءِ قَوْل الْكُفْرِ عَلَى لِسَانِهِ، وَأَكْل الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ لِخَوْفِ الْهَلاَكِ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْجُوعِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ لإِِزَالَةِ الْغُصَّةِ. وَإِجَازَةِ الصَّلاَةِ لِلْمُسْتَجْمِرِ مَعَ بَقِيَّةِ النَّجْوِ (1) .
قَال السُّيُوطِيّ: وَأَضَافَ الْعَلاَئِيُّ سَابِعًا، وَهُوَ تَخْفِيفُ التَّغْيِيرِ، كَتَغْيِيرِ نَظْمِ الصَّلاَةِ فِي الْخَوْفِ (2) .
45 - وَلَمَّا كَانَ التَّخْفِيفُ وَارِدًا فِي الْعِبَادَاتِ بِأَنْوَاعِهَا، وَالْمُعَامَلاَتِ، وَالْحُدُودِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الْفِقْهِ، فَمِنَ الصَّعْبِ جَمْعُ هَذِهِ الأُْمُورِ الْمُخَفَّفَةِ كُلِّهَا مِنْ أَبْوَابِهَا الْمُخْتَلِفَةِ. فَنُورِدُ أَمْثِلَةً مِنْهَا.
التَّخْفِيفُ فِي النَّجَاسَاتِ:
46 - أَوْجَبَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ عَلَى الْمُسْلِمِ الطَّهَارَةَ مِنَ النَّجَاسَاتِ فِي الثَّوْبِ، وَالْبَدَنِ، وَالْبُقْعَةِ، عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلاَةِ، وَأَنْ يَكُونَ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ طَاهِرًا. وَهَذَا هُوَ الأَْصْل، وَلَكِنْ بَعْضُ صُوَرِ النَّجَاسَاتِ اُسْتُثْنِيَتْ مِنْ هَذَا الأَْصْل لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهَا، وَصُعُوبَةِ التَّحَرُّزِ مِنْهَا، وَالتَّخْفِيفُ وَارِدٌ عَلَى مَا يُصِيبُ الإِْنْسَانَ
__________
(1) انظر قواعد الأحكام لابن عبد السلام 2 / 6، والأشباه والنظائر للسيوطي ص82، وفتح الغفار لابن نجيم 2 / 70.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص82، وشرح أشباه ابن نجيم 1 / 117.(14/236)
مِنْهَا، بِحَيْثُ لَوْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ غَسْلَهَا، لَوَقَعَ النَّاسُ فِي حَرَجٍ وَضِيقٍ (1) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ (نَجَاسَةٌ وَطَهَارَةٌ) . التَّخْفِيفُ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ:
47 - سَتْرُ الْعَوْرَةِ عَنِ النَّظَرِ بِمَا لاَ يَصِفُ الْبَشَرَةَ وَاجِبٌ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِهِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ: فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ بِشَرْطِيَّتِهِ.
وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ سَتْرَهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ، وَقِيل: إِنَّهَا شَرْطٌ مَعَ الذِّكْرِ دُونَ السَّهْوِ.
وَقَال التَّمِيمِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ بَدَتْ عَوْرَتُهُ وَقْتًا، وَاسْتَتَرَتْ وَقْتًا، فَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ (2) .
وَالْعُرْيَانُ الَّذِي لاَ يَجِدُ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، خُفِّفَ عَنْهُ، فَإِذَا وَجَدَ جِلْدًا طَاهِرًا، أَوْ وَرَقًا يُمْكِنُهُ خَصْفُهُ عَلَيْهِ، أَوْ حَشِيشًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْبِطَهُ فَيَسْتَتِرَ بِهِ، جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَصَحَّتِ الصَّلاَةُ بِمَا ذُكِرَ، فَإِذَا وَجَدَ ثَوْبًا نَجَسًا جَازَ لَهُ الصَّلاَةُ فِيهِ، وَلاَ يُصَلِّي عُرْيَانًا، عَلَى خِلاَفٍ فِي ذَلِكَ (3) .
فَإِذَا لَمْ يَجِدْ إِلاَّ مَا يَسْتُرُ بَعْضَ الْعَوْرَةِ، سَتَرَ
__________
(1) القليوبي على شرح المنهاج 1 / 68، القاهرة، عيسى الحلبي.
(2) فتح القدير 1 / 260، وبداية المجتهد 1 / 99، والمجموع 3 / 175 والمغني 1 / 577 - 580، ونيل الأوطار 2 / 73.
(3) المغني 1 / 593، 594.(14/237)
السَّوْأَتَيْنِ؛ لأَِنَّهُمَا أَفْحَشُ، وَسَتْرُهُمَا آكَدُ. فَإِنْ كَانَ لاَ يَكْفِي إِلاَّ أَحَدَهُمَا سَتَرَ أَيَّهمَا شَاءَ - عَلَى خِلاَفٍ فِي أَيِّهِمَا أَوْلَى بِالسَّتْرِ. وَالْعُرْيُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ، غَيْرُ مَانِعٍ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ، وَالاِنْفِرَادُ حَال الْعُرْيِ أَفْضَل مِنَ الْجَمَاعَةِ.
وَإِنْ انْكَشَفَ مِنَ الْمَرْأَةِ أَقَل مِنْ رُبُعِ شَعْرِهَا أَوْ رُبُعِ فَخِذِهَا، أَوْ رُبُعِ بَطْنِهَا، لَمْ تَبْطُل صَلاَتُهَا، تَخْفِيفًا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ (1) .
وَانْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٌ) .
التَّيْسِيرُ فِي الْمُعَامَلاَتِ:
48 - لِلْمُعَامَلاَتِ نَصِيبٌ مِنَ التَّخْفِيفِ كَمَا لِلْعِبَادَاتِ وَالْحُدُودِ.
فَقَدْ خَفَّفَتِ الشَّرِيعَةُ وَيَسَّرَتِ الْمُعَامَلاَتِ، فَشَرَعَتْ: خِيَارَ الْمَجْلِسِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ.
وَشَرَعَتْ خِيَارَ الشَّرْطِ لِلْمُشْتَرِي دَفْعًا لِلنَّدَمِ.
وَشَرَعَتِ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ دَفْعًا لِمَا يَلْحَقُ الْمُشْتَرِيَ مِنَ الضَّرَرِ، إِذَا بَانَ بِالشَّيْءِ الْمُشْتَرَى عَيْبٌ، وَلَمْ يَرْضَ عَنْهُ الْمُشْتَرِي.
وَكَذَا خَفَّفَتِ الشَّرِيعَةُ فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ، فَلَمْ تُلْزِمْ بِهَا أَحَدَ طَرَفَي الْعَقْدِ؛ إِذْ أَنَّ لُزُومَهَا شَاقٌّ، فَتَكُونُ سَبَبًا لِعَدَمِ تَعَاطِيهَا (2) .
__________
(1) المجموع 3 / 187، والمغني لابن قدامة 1 / 595، 596، 601، 602، وحاشية الدسوقي 1 / 221.
(2) المغني 3 / 563، 586 - 592.(14/237)
التَّيْسِيرُ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ:
49 - يُنْدَبُ تَلْقِينُ مَنْ أَقَرَّ بِمُوجِبِ الْحَدِّ الرُّجُوعَ عَنْهُ، إِمَّا بِالتَّعْرِيضِ، وَإِمَّا بِأَوْضَحَ مِنْهُ؛ لِيُدْرَأَ عَنْهُ الْحَدُّ (1) ، وَذَلِكَ مِثْل مَا فَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَاعِزٍ حَيْثُ قَال لَهُ: لَعَلَّك قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ (2) .
وَقَدْ جَعَل اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التَّوْبَةَ وَالتَّكْفِيرَ عَنِ الذُّنُوبِ رَفْعًا لِلضِّيقِ وَالْحَرَجِ، وَمَاحِيًا لِلشُّعُورِ بِالذَّنْبِ وَالْخَطِيئَةِ.
وَمِنْ دَرْءِ الْحُدُودِ بِالشُّبْهَةِ أَنَّ مَنْ زُفَّتْ إِلَيْهِ غَيْرُ زَوْجَتِهِ فَوَطِئَهَا ظَنًّا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، فَلاَ حَدَّ عَلَيْهِ، وَلاَ يَكُونُ آثِمًا؛ لِثُبُوتِ عُذْرِهِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَهُوَ هُنَا مَهْرُ الْمِثْل.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حُدُودٌ) .
تَخْفِيفُ الدِّيَةِ:
50 - الْجَانِي الْمُخْطِئُ خَفَّفَ عَنْهُ الشَّارِعُ بِإِيجَابِ الدِّيَةِ بَدَل الْقِصَاصِ، ثُمَّ جَعَلَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَعَاقِلَةُ الْجَانِي ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى: ذُكُورُ عَصَبَتِهِ نَسَبًا، كَالآْبَاءِ، وَالأَْبْنَاءِ، وَالإِْخْوَةِ لِغَيْرِ أُمٍّ وَبَنُوهُمْ، وَالأَْعْمَامُ، وَالْمُعْتِقُ.
وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
__________
(1) جامع الأصول لابن الأثير 3 / 597، 598.
(2) حديث: " لعلك قبلت. . . . " أخرجه البخاري (12 / 135 ط السلفية) وأبو داود (4 / 579 - 580 ط عزت عبيد الدعاس) .(14/238)
جَدِّهِ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنْ يَعْقِل عَنِ الْمَرْأَةِ عَصَبَتُهَا مَنْ كَانُوا، وَلاَ يَرِثُونَ مِنْهَا إِلاَّ مَا فَضَل عَنْ وِرْثِهَا (1) .
وَكَمَا خُفِّفَ عَنِ الْجَانِي بِتَحْمِيل الدِّيَةِ الْعَاقِلَةَ، خُفِّفَ عَنِ الْعَاقِلَةِ، فَجَعَل الشَّارِعُ دِيَةَ شَبَهِ الْعَمْدِ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلاَثِ سِنِينَ - تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ - فِي آخِرِ كُل سَنَةٍ ثُلُثُهَا، إِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دِيَةً كَامِلَةً، كَدِيَةِ النَّفْسِ، عَلَى مَا وَرَدَ فِي قَوْل عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا.
وَخُفِّفَ أَيْضًا عَنِ الْعَاقِلَةِ: فَمَنْ مَاتَ مِنْهَا قَبْل الْحَوْل أَوِ افْتَقَرَ أَوْ جُنَّ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ (2) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَةٌ) .
النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَيْسِيرُ الْمُكَلَّفِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ:
أَوَّلاً: تَيْسِيرُ الْمُكَلَّفِ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْعِبَادَاتِ:
51 - أَرْشَد النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ يَأْخُذَ الإِْنْسَانُ نَفْسَهُ فِي النَّوَافِل وَمَا فِيهِ تَخْيِيرٌ مِنَ الْفَرَائِضِ،
__________
(1) بداية المجتهد 2 / 377، والمغني 7 / 267، 776، وكشاف القناع 6 / 59 - 63 وحديث " قضى أن يعقل. . . . . " أخرجه أبو داود (4 / 691 - 694 ط عزت عبيد الدعاس) والنسائي (8 / 43 ط مكتب المطبوعات الإسلامية) وابن ماجه (2 / 844 ط عيسى الحلبي) وأحمد (12 / 43 ط دار المعارف) وقال أحمد شاكر إسناده صحيح) .
(2) المغني 7 / 267 - 271، وكشاف القناع 6 / 64.(14/238)
كَالصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، بِالْمَيْسُورِ، فَقَال: عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الأَْعْمَال فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَل حَتَّى تَمَلُّوا (1) وَقَال: إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِل فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلاَ تُبَغِّضُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ عِبَادَةَ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لاَ أَرْضًا قَطَعَ وَلاَ ظَهْرًا أَبْقَى (2) وَقَال: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا فَإِنَّهُ لاَ يُدْخِل أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُول اللَّهِ؟ قَال: وَلاَ أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ (3) . وَنَهَى عَنِ الْوِصَال فِي الصَّوْمِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ. وَقَال: لاَ تُشَدِّدُوا فَيُشَدِّدِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ {رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} (4) .
__________
(1) حديث: " عليكم ما تطيقون من الأعمال فإن الله لا يمل حتى تملوا ". أخرجه البخاري (3 / 36 ط. السلفية) .
(2) حديث: " إن هذا الدين. . . . ". سبق تخريجه، هامش 60.
(3) حديث: " سددوا وقاربوا وابشروا، فإنه لا يدخل أحدًا الجنة عمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 11 / 294 ط - السلفية) ، ومسلم (4 / 2170، 2171 ط. عيسى الحلبي) .
(4) سورة الحديد / 27 وحديث: " نهى عن الوصال في الصوم لما فيه من المشقة، وقال: " لا تشددوا فيشدد الله. . . . . . ". أخرجه أبو داود (5 / 209 ط عزت عبيد الدعاس) . وفي سنده سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العجار قال الحافظ في التقريب (مقبول) تقريب التهذيب ص238 ط. دار الرشيد) .(14/239)
وَلَيْسَ مَعْنَى الْيُسْرِ فِي هَذَا الْبَابِ تَرْكُ الْعَمَل وَالتَّكَاسُل عَنْهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَدَحَ عِبَادَهُ الْمُتَّقِينَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْل ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْل مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (1) وَلَكِنِ الْمَعْنَى أَنْ لاَ يَحْمِل نَفْسَهُ مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا، بَل يَتَعَبَّدُ مَا شَاءَ مَا دَامَ نَشِيطًا لِذَلِكَ، فَإِنْ نَشَأَتْ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ أَرَاحَ نَفْسَهُ، فَفِي الْحَدِيثِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَل الْمَسْجِدَ، وَحَبْلٌ مَرْبُوطٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ، فَقَال: مَا هَذَا؟ قَالُوا: حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، تُصَلِّي فَإِذَا كَسِلَتْ أَوْ فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ. فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُلُّوهُ؛ لِيُصَل أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا كَسِل أَوْ فَتَرَ قَعَدَ (2) .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلاً قَدْ ظُلِّل عَلَيْهِ. فَسَأَل عَنْهُ فَقَالُوا: صَائِمٌ. فَقَال: لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ (3) فُسِّرَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ بَلَغَ مِنْهُ الْجَهْدُ إِلَى مِثْل هَذِهِ الْحَال وَلَمْ يُفْطِرْ. وَأَرْشَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنَّ تَحْصِيل أَجْرِ النَّوَافِل بِفِعْل الْقَلِيل مِنْهَا مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ مِنْهَا وَالدَّوَامِ عَلَيْهِ
__________
(1) سورة الذاريات / 17 - 19.
(2) حديث: " حلوه، ليصل أحدكم نشاطه. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 36 ط السلفية) .
(3) حديث: " ليس من البر الصوم في السفر ". أخرجه البخاري (4 / 183 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 786 ط عيسى الحلبي) .(14/239)
أَفْضَل مِنَ التَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ حِينًا وَالتَّرَاخِي حِينًا آخَرَ، فَقَال: أَحَبُّ الأَْعْمَال إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَل (1) .
ثَانِيًا: تَيْسِيرُ الإِْنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ فِي شُؤُونِ الدُّنْيَا:
52 - لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يُضَيِّقَ عَلَى نَفْسِهِ فِي شُؤُونِ حَيَاتِهِ، وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَظُنَّ أَنَّ التَّضْيِيقَ عَلَيْهَا مِنَ الزُّهْدِ، أَوْ أَنَّهُ يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ، بَل إِذَا أَخَذَ الْمَال مِنْ حِلِّهِ وَأَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْحَلاَل، فِي مَأْكَلٍ أَوْ مَشْرَبٍ أَوْ مَسْكَنٍ فَإِنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ إِذَا كَانَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، كَمَا يُؤْجَرُ إِنْ زَادَ عَلَيْهِ بِقَصْدِ التَّقَوِّي عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ مَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى حَدِّ السَّرَفِ وَالتَّرَفِ.
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُل هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (2) ، وَفِي الْحَدِيثِ: ابْدَأْ بِنَفْسِك فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَل شَيْءٌ فَلأَِهْلِك، فَإِنْ فَضَل عَنْ أَهْلِك شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِك، فَإِنْ فَضَل عَنْ ذِي قَرَابَتِك
__________
(1) الموافقات 2 / 136، 137 وحديث " أحب الأعمال. . . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 315 ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 541 ط عيسى الحلبي) من حديث عائشة.
(2) سورة الأعراف / 32.(14/240)
شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا (1) .
وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَال، وَقَدْ قَال سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ لأَِبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا؛ وَلأَِهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا؛ وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُل ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَأَخْبَرَ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: صَدَقَ سَلْمَانُ (2) وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا مِنْ فِقْهِ الرَّجُل رِفْقُهُ فِي مَعِيشَتِهِ. (3)
مَشَقَّةُ الْوَرَعِ وَاجْتِنَابُ الشُّبُهَاتِ:
53 - مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشُقُّ عَلَى نَفْسِهِ تَوَرُّعًا وَاتِّقَاءً لِلشُّبُهَاتِ وَالْتِزَامًا لِجَانِبِ التَّقْوَى، قَال الشَّاطِبِيُّ: (وَلاَ كَلاَمَ فِي أَنَّ الْوَرَعَ شَدِيدٌ فِي نَفْسِهِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ إِشْكَال فِي أَنَّ الْتِزَامَ جَانِبِ التَّقْوَى شَدِيدٌ (4)) وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ الْحَلاَل بَيِّنٌ
__________
(1) حديث: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا ". أخرجه مسلم (2 / 292 - 293 ط عيسى الحلبي) .
(2) حديث: صدق سلمان ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 534 ط السلفية) .
(3) حديث: " من فقه الرجل رفقه في معيشته ". أخرجه أحمد (5 / 194 ط المكتب الإسلامي) وابن عدي في الكامل (3 / 1197 ط دار الفكر وضعفه. وقال الهيثمي: وفيه أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط، (مجمع الزوائد 4 / 74 ط دار الكتاب العربي) ، وضعفه المناوي في فيض القدير (6 / 16 ط المكتبة التجارية) .
(4) الموافقات 1 / 106، وانظر: إغاثة اللهفان لابن القيم 1 / 183.(14/240)
وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ (1) وَقَوْلُهُ: دَعْ مَا يَرِيبُك إِلَى مَا لاَ يَرِيبُك (2) فَالْوَرَعُ بِتَرْكِ الشُّبُهَاتِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، لَكِنْ مَا دَامَ خَارِجَ دَائِرَةِ الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ، فَإِنْ كَانَ فِي التَّوَرُّعِ حَرَجٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَمَشَقَّةٌ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ سَقَطَ، كَمَا يَسْقُطُ الْحَرَامُ لِلضَّرُورَةِ.
غَيْرَ أَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي بَيَانُهُ أَنَّ مَا يَكُونُ فِيهِ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِغَالِبِ النَّاسِ قَدْ يَكُونُ مُعْتَادًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَمِنْ هُنَا تَمَيَّزَ أَهْل شِدَّةِ الْوَرَعِ مِنْ هَذِهِ الأُْمَّةِ؛ لأَِنَّهُمْ مَا كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الشُّبُهَاتِ (3) .
ثَالِثًا: تَيْسِيرُ الْمُكَلَّفِ عَلَى غَيْرِهِ:
54 - الْمُؤْمِنُ مُطَالَبٌ شَرْعًا بِالتَّيْسِيرِ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلاَقَةٌ وَمُعَامَلَةٌ، حَيْثُ يُمْكِنُهُ التَّيْسِيرُ، وَلاَ يُخَالِفُ حُكْمًا شَرْعِيًّا.
__________
(1) حديث: " إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 126 ط. السلفية) ، ومسلم (3 / 1219 - 1220 ط عيسى الحلبي) واللفظ لمسلم.
(2)) حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يربيك ". أخرجه أحمد (1 / 200 ط. المكتب الإسلامي) ، والترمذي (4 / 2518 ط مصطفى الحلبي) . وقال: حديث حسن صحيح.
(3) جامع العلوم والحكم ص68، 69، 104.(14/241)
قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيل وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) وَمِنَ الإِْحْسَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ التَّيْسِيرُ فِيمَا يُمْكِنُ التَّيْسِيرُ فِيهِ. وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ (2) .
وَقَدْ نَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الرِّفْقِ فِي تَنَاوُل الأُْمُورِ وَمُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ فَقَال: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِأَهْل بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَل عَلَيْهِمِ الرِّفْقَ (3) وَقَال: إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ (4) وَقَال: مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ
__________
(1) سورة النساء / 26.
(2) حديث: من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه. . . . . . " أخرجه مسلم (4 / 2074 ط. عيسى الحلبي) .
(3) حديث: " إذا أراد الله بأهل بيت خيرًا أدخل عليهم الرفق. . . . . " أخرجه أحمد (6 / 71ط. المكتب الإسلامي) قال الهيثمي: " ورجال أحمد رجال الصحيح " (مجمع الزوائد 8 / 19 ط دار الكتاب العربي) وصححه أيضًا المناوي (فيض القدير 1 / 263 ط المكتبة التجارية) .
(4) حديث: " إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه ". أخرجه مسلم (4 / 2003 - 2003ط عيسى الحلبي) .(14/241)
يُحْرَمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ (1) .
وَيَظْهَرُ هَذَا الأَْصْل فِي أَبْوَابٍ مِنَ الْفِقْهِ مِنْهَا مَا يَلِي:
تَخْفِيفُ الإِْمَامِ فِي الصَّلاَةِ:
55 - أَوْرَدَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ التَّخْفِيفَ فِي بَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلاَةِ؛ مُرَاعَاةً لأَِحْوَال النَّاسِ، وَتَيْسِيرًا لَهُمْ، فَقَدْ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَْئِمَّةَ بِالتَّخْفِيفِ فِي الصَّلاَةِ وَعَدَمِ تَطْوِيل قِرَاءَتِهَا، وَهُوَ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ، وَذَلِكَ لاِخْتِلاَفِ أَحْوَال الْمَأْمُومِينَ؛ لأَِنَّ فِيهِمِ الضَّعِيفَ، وَالْمَرِيضَ، وَالْعَاجِزَ (2) .
فَلاَ يُطَوِّل الإِْمَامُ الصَّلاَةَ لِئَلاَّ يَشُقَّ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَالسَّقِيمَ، وَالْكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ، فَلْيُطَوِّل مَا شَاءَ (3) . وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً قَال: وَاَللَّهِ يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي لأََتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْل فُلاَنٍ، مِمَّا يُطِيل بِنَا، فَمَا رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدُّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَال: إِنَّ مِنْكُمْ
__________
(1) حديث: " من يحرم الرفق يحرم الخير كله " أخرجه مسلم (4 / 2003 عيسى الحلبي) .
(2) تحفة الأحوذي 2 / 37.
(3) حديث: " إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن فيهم. . . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 199 ط. السلفية) .(14/242)
مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَالْكَبِيرَ، وَذَا الْحَاجَةِ. (1)
وَسَبَبُهُ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، كَانَ يُصَلِّي بِأَهْل قُبَاءٍ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةً طَوِيلَةً، فَدَخَل مَعَهُ غُلاَمٌ مِنَ الأَْنْصَارِ فِي الصَّلاَةِ، فَلَمَّا سَمِعَهُ اسْتَفْتَحَهَا، انْفَلَتَ مِنْ صَلاَتِهِ، فَغَضِبَ أُبَيٌّ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو الْغُلاَمَ، وَأَتَى الْغُلاَمُ يَشْكُو أُبَيًّا فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَال: إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَالْكَبِيرَ، وَذَا الْحَاجَةِ (2) وَنَحْوُهُ حَدِيثُ مُعَاذٍ الْمَعْرُوفُ.
وَالْمُرَادُ بِالتَّخْفِيفِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَدْنَى الْكَمَال، فَيَأْتِي بِالْوَاجِبَاتِ، وَالسُّنَنِ، وَلاَ يَقْتَصِرُ عَلَى الأَْقَل وَلاَ يَسْتَوْفِي الأَْكْمَل. وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُومُونَ مَحْصُورِينَ وَرَضُوا بِتَطْوِيلِهِ الصَّلاَةَ جَازَ، وَعَلَيْهِ يُحْمَل تَطْوِيل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَا أُثِرَ عَنْهُ (3) .
__________
(1) حديث: " إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 197، 198ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 340 ط. عيسى الحلبي) من حديث أبي مسعود الأنصاري.
(2) حديث: " إن منكم منفرين فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 197 - 198ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 340 ط. عيسى الحلبي) من حديث أبي مسعود الأنصاري.
(3) حديث: " تطويل النبي صلى الله عليه وسلم - في بعض ما أثر عنه. . . . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 246 ط. السلفية) .(14/242)
وَيُشْرَعُ لَهُ أَيْضًا التَّخْفِيفُ لِنَازِلَةٍ تَسْتَدْعِي ذَلِكَ؛ لِمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: إِنِّي لأََقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّل فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقّ عَلَى أُمِّهِ (1) .
وَالتَّخْفِيفُ لِلأَْئِمَّةِ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ (2) . وَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِمَامَةٌ) .
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِلإِْمَامِ أَنْ يُرَاعِيَ عَدَمَ التَّطْوِيل فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ لِمَا فِي الْحَدِيثِ إِنَّ طُول صَلاَةِ الرَّجُل وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ فَأَطِيلُوا الصَّلاَةَ وَأَقْصِرُوا الْخُطْبَةَ (3) .
تَيْسِيرُ الإِْمَامِ، وَالْوُلاَةِ، وَالْعُمَّال، عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَالرِّفْقُ بِهِمْ:
56 - يَنْبَغِي لِمَنْ وَلِيَ أَمْرَ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ بِحَيْثُ يَنْفُذُ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ وَيَلْزَمُهُمْ طَاعَتُهُ أَنْ لاَ يَشُقَّ عَلَيْهِمْ فِيمَا يُكَلِّفُهُمْ مَشَقَّةً تَغْلِبُهُمْ، وَذَلِكَ
__________
(1) حديث: " إني لأقوم في الصلاة. . . . . " أخرجه البخاري (2 / 201 ط. السلفية) ، ومسلم (1 / 343 ط. عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري هو عنده من حديث أبي قتادة، وعند مسلم من حديث أنس.
(2) نيل الأوطار 3 / 137.
(3) المغني لابن قدامة 2 / 308 وحديث: " إن طول صلاة الرجل. . . . " أخرجه مسلم (2 / 594 ط. عيسى الحلبي) .(14/243)
لِيُمْكِنَهُمْ طَاعَتُهُ وَمُوَاصَلَةُ الاِمْتِثَال لَهُ؛ وَلِئَلاَّ يَخْرُجُوا عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْمَعْصِيَةِ فَيُضْطَرُّ هُوَ إِلَى اسْتِخْدَامِ الْعُقُوبَةِ. وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ (1) .
وَإِذَا كَانَ فِي مَنْ تَحْتَ يَدِهِ الضَّعِيفُ وَالصَّغِيرُ وَالْمَرْأَةُ خَصَّهُمْ بِمَزِيدٍ مِنَ الرِّفْقِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَحَدَا الْحَادِي، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَنْجَشَةُ وَيْحَكَ بِالْقَوَارِيرِ (2) يَعْنِي النِّسَاءَ.
وَعَلَى أَمِيرِ الْجَيْشِ أَنْ يَرْفُقَ بِمَنْ مَعَهُ فِي الْمَسِيرِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الأَْمِيرِ فِي الْمَسِيرِ سَبْعَةُ حُقُوقٍ: أَوَّلُهَا: الرِّفْقُ بِهِمْ فِي الْمَسِيرِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَضْعَفُهُمْ، وَتُحْفَظُ بِهِ قُوَّةُ أَقْوَاهُمْ، وَلاَ يُجِدُّ السَّيْرَ فَيُهْلِكَ الضَّعِيفَ، وَيَسْتَفْرِغُ جَلَدَ الْقَوِيِّ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْمُضْعَفُ أَمِيرُ الرَّكْبِ (3) يُرِيدُ أَنَّ مَنْ
__________
(1) حديث: " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم، فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به ". أخرجه مسلم (3 / 1458 ط. عيسى الحلبي) .
(2) حديث: " يا أنجشة ويحك بالقوارير. . . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 593 ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1811 - 1812 ط عيسى الحلبي) .
(3)
) حديث: " المضعف أمير الركب ". لم نعثر عليه بهذا اللفظ ولكن ورد بلفظ (اقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على آذانه أجرًا) . أخرجه أبو داود (1 / 363 ط عزت عبيد الدعاس) وله شاهد عند الترمذي (1 / 409 - 410 ط عيسى الحلبي) وقال: حسن صحيح. وأخرجه الحاكم (1 / 201 ط دار الكتاب العربي) . وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.(14/243)
ضَعُفَتْ دَابَّتُهُ كَانَ عَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَسِيرُوا بِسَيْرِهِ.
وَذَكَرَ مِثْل ذَلِكَ فِي أَمِيرِ الْحَجِّ (1) .
تَيْسِيرُ الْمُعَلِّمِينَ، وَالدُّعَاةِ عَلَى الْمَدْعُوِّينَ، وَالرِّفْقُ بِهِمْ:
57 - يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يَتَوَلَّى التَّعْلِيمَ أَوِ الدَّعْوَةَ أَنْ يَرْفُقَ بِمَنْ مَعَهُ، وَيَأْخُذَهُمْ بِاللِّينِ لاَ بِالْعُنْفِ.
وَلاَ يَأْتِيَ بِمَا يُنَفِّرُهُمْ عَنِ الْحَقِّ، بَل يَنْتَقِل بِهِمْ مِمَّا يَعْرِفُونَ إِلَى مَا لاَ يَعْرِفُونَ، بِلُطْفٍ وَيُسْرٍ، وَلاَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ. قَال النَّوَوِيُّ: " يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَاذِلاً وُسْعَهُ فِي تَفْهِيمِهِمْ، وَتَقْرِيبِ الْفَائِدَةِ إِلَى أَذْهَانِهِمْ، حَرِيصًا عَلَى هِدَايَتِهِمْ، وَيُفْهِمُ كُل وَاحِدٍ بِحَسَبِ فَهْمِهِ وَحِفْظِهِ، فَلاَ يُعْطِيهِ مَا لاَ يَحْتَمِلُهُ، وَلاَ يَقْصُرُ بِهِ عَمَّا يَحْتَمِلُهُ بِلاَ مَشَقَّةٍ، وَيُخَاطِبُ كُل وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ دَرَجَتِهِ، وَبِحَسَبِ فَهْمِهِ وَهِمَّتِهِ ".
وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِقَوْل مُوسَى لِلْخَضِرِ:
{هَل أَتَّبِعُك عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} (2) ثُمَّ قَال: {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ
__________
(1) الأحكام السلطانية ص35، 108.
(2) سورة الكهف / 66.(14/244)
وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} (1) وَقَدْ أَرْسَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا مُوسَى الأَْشْعَرِيَّ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ، وَكَانَ فِيمَا أَوْصَاهُمَا بِهِ أَنْ قَال: بَشِّرَا وَيَسِّرَا وَعَلِّمَا وَلاَ تُنَفِّرَا (2) وَقَال أَنَسٌ: قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا وَسَكِّنُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا (3) .
التَّيْسِيرُ فِي الْفُتْيَا:
58 - عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يُرَاعِيَ أَحْوَال السَّائِلِينَ، فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّحَرُّجُ وَالتَّشَدُّدُ، وَأَنْ يُحَمِّل نَفْسَهُ مَا يُرْهِقُهَا، يُفْتِي بِمَا فِيهِ التَّرْجِيَةُ، وَالتَّرْغِيبُ، وَالتَّرْخِيصُ، وَيُخْبِرُ بِمَا فِيهِ سِعَةٌ، وَأَنَّهُ يُجْزِئُهُ الْقَلِيل مِنَ الْعَمَل إِنْ كَانَ خَالِصًا صَوَابًا. وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّهَاوُنُ، وَالتَّسَاهُل، وَالاِنْحِلاَل مِنَ الدِّينِ يُفْتِي بِمَا فِيهِ التَّرْهِيبُ، وَالتَّخْوِيفُ، وَالزَّجْرُ، فِعْل الطَّبِيبِ بِمَنِ انْحَرَفَتْ بِهِ الْعِلَّةُ عَنْ حَال الاِسْتِوَاءِ (4) . وَكُل ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَدِّل الْمُفْتِي حُكْمًا شَرْعِيًّا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، بَل تَكُونُ فُتْيَاهُ طِبْقًا لِمُقْتَضَى الأَْدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَأُصُول الْفُتْيَا، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ
__________
(1) سورة الكهف / 73.
(2) حديث: " بشرا ويسرا ولا تنفرا. . . . . " أخرجه البيهقي (8 / 294 ط دار المعرفة) وأصله في الصحيحين.
(3) حديث: " يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا " أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 524 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1359 ط عيسى الحلبي) .
(4) الموافقات للشاطبي 2 / 166 - 168.(14/244)
أُصُول الْفِقْهِ. وَقَال النَّوَوِيُّ: " إِنْ رَأَى الْمُفْتِي الْمَصْلَحَةَ أَنْ يُفْتِي الْعَامِّيُّ بِمَا فِيهِ تَغْلِيظٌ، وَهُوَ مِمَّا لاَ يَعْتَقِدُ ظَاهِرَهُ، وَلَهُ فِيهِ تَأْوِيلٌ، جَازَ ذَلِكَ، زَجْرًا لِلْعَامَّةِ؛ وَلِمَنْ قَل دِينُهُ وَمُرُوءَتُهُ (1) .
- فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْفُتْيَا بِمُقْتَضَى الدَّلِيل، بَل أَفْتَاهُ بِمَا فِيهِ الرُّخْصَةُ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ، فَيَكُونُ التَّرْخِيصُ تَشَهِّيًا وَجَرْيًا مَعَ الْهَوَى، وَهُوَ مَمْنُوعٌ وَلَيْسَ اخْتِلاَفُ الْعُلَمَاءِ دَلِيلاً عَلَى جَوَازِ الأَْمْرِ عَلَى الْوُجُوهِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا.
قَال الشَّاطِبِيُّ: الْفَقِيهُ لاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَتَخَيَّرَ بَعْضَ الأَْقْوَال بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالأَْغْرَاضِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ، وَلاَ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ أَحَدًا. وَالْمُقَلِّدُ فِي اخْتِلاَفِ الأَْقْوَال عَلَيْهِ مِثْل مَا عَلَى الْمُفْتِي (2) .
- هَذَا وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى لَيْسَ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِمَا فِيهِ حَرَجٌ وَشِدَّةٌ عَلَى الْمُسْتَفْتِي مَا دَامَ يَجِدُ لَهُ مَخْرَجًا شَرْعِيًّا صَحِيحًا. قَال الْجَصَّاصُ فِي أَحْكَامِهِ عِنْدَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَل عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (3) قَال: لَمَّا كَانَ الْحَرَجُ الضِّيقُ، وَنَفَى اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ إِرَادَةَ الْحَرَجِ بِنَا، سَاغَ الاِسْتِدْلاَل بِظَاهِرِهِ فِي نَفْيِ الضِّيقِ
__________
(1) المجموع للنووي 1 / 50 نشر منير الدمشقي.
(2) الموافقات 4 / 140، 141، والفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر 4 / 304، والأحكام للقرافي ص271، وفتاوى ابن تيمية 20 / 220، 221، وشرح الإقناع للبهوتي 6 / 307.
(3) سورة المائدة / 6.(14/245)
وَإِثْبَاتِ التَّوْسِعَةِ فِي كُل مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ السَّمْعِيَّاتِ، فَيَكُونُ الْقَائِل بِمَا يُوجِبُ الْحَرَجَ وَالضِّيقَ مَحْجُوجًا بِظَاهِرِ الآْيَةِ، وَقَال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: " إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ الرُّخْصَةِ عَنْ ثِقَةٍ فَأَمَّا التَّشْدِيدُ فَيُحْسِنُهُ كُل أَحَدٍ (1) ".
- أَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْمُسْتَفْتِينَ جَارِيًا عَلَى التَّوَسُّطِ، فَإِنَّ فُتْيَاهُ تَكُونُ عَلَى التَّوَسُّطِ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَلاَ تَسْهِيلٍ. وَالتَّوَسُّطُ هُوَ الأَْصْل فِي الشَّرِيعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
التَّيْسِيرُ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ:
الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ:
59 - أَرْشَد اللَّهُ تَعَالَى إِلَى تَسْهِيل أَمْرِ التَّزْوِيجِ وَلَوْ كَانَ الْخَاطِبُ فَقِيرًا، إِنْ كَانَ صَالِحًا، فَقَال تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَْيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمِ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (2) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرَ خِطْبَتِهَا، وَتَيْسِيرَ صَدَاقِهَا (3) وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مُؤْنَةً (4) وَقَال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
__________
(1) أحكام القرآن 2 / 291، وصفة الفتوى لابن حمدان.
(2) سورة النور / 32.
(3) حديث: " إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها. . . . " أخرجه أحمد (6 / 77 ط المكتب الإسلامي) ، والحاكم (2 / 181 ط دار الكتاب العربي) . قال: " حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي ".
(4) حديث: " إن من أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة ". أخرجه البيهقي (7 / 235 ط دار المعرفة) ، والحاكم (2 / 178 دار الكتاب العربي) وقال: " صحيح على شرط مسلم "، وافقه الذهبي.(14/245)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " لاَ تُغَالُوا فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا أَوْ تَقْوَى فِي الآْخِرَةِ كَانَ أَوْلاَكُمْ بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقْلِيل الصَّدَاقِ سُنَّةٌ.
وَكَذَا أَرْشَد اللَّهُ تَعَالَى إِلَى الْعِشْرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَدَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ لِلآْخَرِ، مَعَ تَرْكِ الشُّحِّ بِحَقِّهِ هُوَ؛ لِتَتَيَسَّرَ الْحَيَاةُ بَيْنَهُمَا، قَال تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَْنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (1) .
هَذَا فِي حَال قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، وَكَذَا بَعْدَ انْفِصَامِهَا؛ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنْسَوْا الْفَضْل بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (2) .
التَّيْسِيرُ فِي مُطَالَبَةِ الْمَدِينِ:
60 - أَذِنَتِ الشَّرِيعَةُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ فِي الْمُطَالَبَةِ
__________
(1) سورة النساء / 128.
(2) سورة البقرة / 237.(14/246)
بِحَقِّهِ الَّذِي عِنْدَ صَاحِبِهِ، وَجَعَلَتْ لَهُ التَّشَدُّدَ فِي الْمُطَالَبَةِ إِنْ كَانَ الْمَدِينُ مُمَاطِلاً، بِأَنْ كَانَ وَاجِدًا مُمْتَنِعًا مِنَ الأَْدَاءِ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ (1) .
أَمَّا إِنْ كَانَ مَنْ عِنْدَهُ الْحَقُّ فِي ضِيقٍ مِنَ الأَْدَاءِ فِي الْحَال، بِأَنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا، أَوْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى تَنَاوُل الطَّعَامِ، أَوِالشَّرَابِ، أَوْ نَحْوِهِمَا، وَيُؤَخِّرُهُ ذَلِكَ عَنْ أَدَاءِ الْمَال. فَقَدْ نَدَبَ الشَّرْعُ الدَّائِنَ إِلَى التَّيْسِيرِ عَلَيْهِ، أَمَّا إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ لاَ يَجِدُ مَا يُؤَدِّي، فَإِنَّ الإِْنْظَارَ وَاجِبٌ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (2) وَقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَلَقَّتِ الْمَلاَئِكَةُ رَوْحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَقَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟ قَال: لاَ. قَالُوا: تَذَكَّرْ قَال: كُنْت أُدَايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ وَيَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُوسِرِ (3) . قَال: قَال اللَّهُ عَزَّ وَجَل: تَجَوَّزُوا عَنْهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى (4) حَتَّى لَوْ كَانَ الدَّيْنُ إِنَّمَا نَشَأَ عَنْ
__________
(1) حديث: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته ". أخرجه أحمد (4 / 222 ط. المكتب الإسلامي) وأبو داود (4 / 45 - 46 ط عزت عبيد الدعاس) وعلقه البخاري (فتح الباري 5 / 62 ط السلفية) وحسن إسناده ابن حجر.
(2) سورة البقرة / 280.
(3) حديث: " تلقت الملائكة روح رجل. . . . " أخرجه مسلم (3 / 1194) من حديث حذيفة رضي الله عنه
(4) حديث: " رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى " أخرجه البخاري (فتح الباري (4 / 304 ط السلفية) .(14/246)
ظُلْمٍ وَعُدْوَانٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (1) .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أَمْرٌ بِأَنْ تَكُونَ الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَ. وَيُرَاجَعُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (إِعْسَارٌ) .
مُيَاسَرَةُ الشَّرِيكِ وَالصَّاحِبِ:
61 - أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالإِْحْسَانِ إِلَى الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ، وَهُوَ كُل مَنْ جَمَعَك بِهِ السَّفَرُ، أَوِ الْعَمَل، أَوْ نَحْوُهُمَا. وَمِنَ الإِْحْسَانِ إِلَيْهِ عَدَمُ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِ، وَمُعَاوَنَتُهُ إِنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ. قَال رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الْمُرُوءَةُ فِي السَّفَرِ بَذْل الزَّادِ، وَقِلَّةُ الْخِلاَفِ، وَكَثْرَةُ الْمِزَاحِ فِي غَيْرِ مَسَاخِطِ اللَّهِ (2) .
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ الْجِهَادِ فَأَمَّا مَنِ ابْتَغَى وَجْهَ اللَّهِ، وَأَطَاعَ الإِْمَامَ، وَأَنْفَقَ الْكَرِيمَةَ، وَيَاسَرَ الشَّرِيكَ، وَاجْتَنَبَ الْفَسَادَ، فَإِنَّ نَوْمَهُ وَنُبْهَهُ أَجْرٌ كُلُّهُ (3) . وَيَاسَرَ الشَّرِيكَ: مِنَ الْمُيَاسَرَةِ بِمَعْنَى الْمُسَاهَلَةِ، أَيْ سَاهَل الرَّفِيقَ وَعَامَلَهُ بِالْيُسْرِ.
__________
(1) سورة البقرة / 178.
(2) تفسير القرطبي 5 / 189.
(3) حديث: " فأما من ابتغى وجه الله - وأطاع الإمام وأنفق الكريمة. . . . " أخرجه أبو داود (3 / 30 ط عزت عبيد الدعاس) والنسائي (6 / 49 ط الكتاب العربي) ، والحاكم (2 / 85 ط دار الكتاب العربي) وقال: حديث صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي.(14/247)
التَّيْسِيرُ عَلَى الأُْجَرَاءِ:
62 - يَنْبَغِي التَّخْفِيفُ عَنِ الْعُمَّال فِي أَوْقَاتِ الأَْكْل، وَالشُّرْبِ، وَالصَّلاَةِ، وَقَضَاءِ الْحَاجَاتِ؛ لأَِنَّهَا مُسْتَثْنًى شَرْعًا عَنْ وَقْتِ الْعَمَل؛ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَكَذَا مَنِ اسْتُؤْجِرَ سَنَةً، أَوْ شَهْرًا، أَوْ جُمُعَةً، خَرَجَتْ هَذِهِ الأَْوْقَاتُ عَنِ الاِسْتِحْقَاقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَوْ مُنِعَ لأََدَّى إِلَى ضَرَرٍ عَظِيمٍ، فَلِذَا خَفَّفَ عَنِ الأُْجَرَاءِ. وَلاَ يَجُوزُ لِرَبِّ الْعَمَل تَكْلِيفُ الأَْجِيرِ عَمَلاً لاَ يُطِيقُهُ، وَهُوَ مَا يَحْصُل لَهُ بِهِ ضَرَرٌ لاَ يُحْتَمَل عَادَةً (1) . وَلِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّقِيقِ: لاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ (2) .
__________
(1) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1 / 145، 185.
(2) حديث: " لا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتوهم فأعينوهم ". أخرجه البخاري (فتح الباري 1 / 84 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1282 - 1283 ط عيسى الحلبي) .(14/247)
تَيَمُّمٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - التَّيَمُّمُ لُغَةً: الْقَصْدُ وَالتَّوَخِّي وَالتَّعَمُّدُ.
يُقَال: تَيَمَّمَهُ بِالرُّمْحِ تَقَصَّدَهُ وَتَوَخَّاهُ وَتَعَمَّدَهُ دُونَ مَنْ سِوَاهُ (1) ، وَمِثْلُهُ: تَأَمَّمَهُ. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (2) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ عَنْ صَعِيدٍ مُطَهَّرٍ، وَالْقَصْدُ شَرْطٌ لَهُ؛ لأَِنَّهُ النِّيَّةُ، فَهُوَ قَصْدُ صَعِيدٍ مُطَهِّرٍ وَاسْتِعْمَالُهُ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ لإِِقَامَةِ الْقُرْبَةِ.
وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهُ طَهَارَةٌ تُرَابِيَّةٌ تَشْتَمِل عَلَى مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِنِيَّةٍ.
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ إِيصَال التُّرَابِ إِلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بَدَلاً عَنِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل، أَوْ بَدَلاً عَنْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِمَا بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ.
__________
(1) تاج العروس ولسان العرب والمصباح المنير والمعجم الوسيط مادة: " يمم " والزاهر ص52.
(2) سورة البقرة / 267.(14/248)
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِتُرَابٍ طَهُورٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ (1) .
مَشْرُوعِيَّةُ التَّيَمُّمِ:
2 - يَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ (2) بِشَرْطِهِمَا كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ. فَمِنَ الْكِتَابِ: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (3) .
وقَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (4)
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: جُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا (5) أَيْ: لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلأُِمَّتِهِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 153 - 154 والحطاب 1 / 325، 345، ومغني المحتاج 1 / 87، وكشاف القناع 1 / 160 ط الرياض.
(2)) البدائع 1 / 45 وابن عابدين 1 / 152 وما بعدها، ومراقي الفلاح ص19، والصاوي على الشرح الصغير 1 / 67 وما بعدها، ومغني المحتاج 1 / 87، وكشاف القناع 1 / 1.
(3) سورة النساء / 43.
(4) سورة المائدة / 6.
(5) حديث: " جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا " شطر من حديث جابر بن عبد الله. أخرجه البخاري (1 / 436 ط السلفية) ومسلم (1 / 370 - 371 ط الحلبي) .(14/248)
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ مَشْرُوعٌ بَدَلاً عَنِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ (1) .
3 - وَسَبَبُ نُزُول آيَةِ التَّيَمُّمِ هُوَ مَا وَقَعَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَالْمُسَمَّاةِ غَزْوَةَ الْمُرَيْسِيعِ لَمَّا أَضَلَّتْ عِقْدَهَا. فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهِ فَحَانَتِ الصَّلاَةُ وَلَيْسَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مَاءٌ، فَأَغْلَظَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى عَائِشَةَ وَقَال: حَبَسْتِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَنَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ، فَجَاءَ أُسَيْدُ بْن حُضَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَعَل يَقُول: مَا أَكْثَر بَرَكَتَكُمْ يَا آل أَبِي بَكْرٍ (2) .
اخْتِصَاصُ هَذِهِ الأُْمَّةِ بِالتَّيَمُّمِ:
4 - التَّيَمُّمُ مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي اخْتَصَّ اللَّهُ بِهَا هَذِهِ الأُْمَّةَ (3) ، فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي. نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَل، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِل لأَِحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةُ،
__________
(1) كشاف القناع 1 / 160، ومغني المحتاج 1 / 87.
(2) حديث: " سبب نزول آية التيمم " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 431 - ط السلفية) (1 / 279 - ط الحلبي) .
(3) ابن عابدين 1 / 153 - 154، وكشاف القناع 1 / 160.(14/249)
وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ فِي قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً (1) .
وَهَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ مِصْدَاقُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَل عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (2) .
التَّيَمُّمُ رُخْصَةٌ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ رُخْصَةٌ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، وَقَال الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّهُ عَزِيمَةٌ. وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي التَّيَمُّمِ لِلْمُسَافِرِ، فَظَاهِرُ قَوْل الرِّسَالَةِ: إِنَّهُ عَزِيمَةٌ، وَفِي مُخْتَصَرِ ابْنِ جَمَاعَةَ: إِنَّهُ رُخْصَةٌ، وَقَال التَّادَلِيُّ: وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّهُ عَزِيمَةٌ فِي حَقِّ الْعَادِمِ لِلْمَاءِ، رُخْصَةٌ فِي حَقِّ الْوَاجِدِ الْعَاجِزِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ.
ثُمَّ إِنَّ وَجْهَ التَّرْخِيصِ هُوَ فِي أَدَاةِ التَّطْهِيرِ إِذِ اكْتَفَى بِالصَّعِيدِ الَّذِي هُوَ مُلَوَّثٌ، وَهُوَ أَيْضًا فِي مَحَل التَّطْهِيرِ لاِقْتِصَارِهِ عَلَى شَطْرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.
وَمِنْ ثَمَرَةِ الْخِلاَفِ: مَا لَوْ تَيَمَّمَ فِي سَفَرِ مَعْصِيَةٍ لِفَقْدِ الْمَاءِ فَإِنْ قُلْنَا رُخْصَةٌ وَجَبَ الْقَضَاءُ وَإِلاَّ لَمْ يَجِبْ (3) .
__________
(1)) حديث: " أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 436 - ط السلفية) ومسلم (1 / 370 - 371 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) سورة المائدة / 6.
(3) الشلبي على تبيين الحقائق 1 / 36، والحطاب 1 / 325، ومغني المحتاج 1 / 87، وكشاف القناع 1 / 161.(14/249)
شُرُوطُ وُجُوبِ التَّيَمُّمِ:
6 - يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ التَّيَمُّمِ مَا يَلِي:
أ - الْبُلُوغُ: فَلاَ يَجِبُ التَّيَمُّمُ عَلَى الصَّبِيِّ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ.
ب - الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَال الصَّعِيدِ.
ج - وُجُودُ الْحَدَثِ النَّاقِضِ. أَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ بِالْمَاءِ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ.
أَمَّا الْوَقْتُ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الأَْدَاءِ عِنْدَ الْبَعْضِ لاَ لأَِصْل الْوُجُوبِ، وَمِنْ ثَمَّ فَلاَ يَجِبُ التَّيَمُّمُ إِلاَّ إِذَا دَخَل الْوَقْتُ عِنْدَهُمْ. فَيَكُونُ الْوُجُوبُ مُوَسَّعًا فِي أَوَّلِهِ وَمُضَيَّقًا إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ.
هَذَا وَلِلتَّيَمُّمِ شُرُوطُ وُجُوبٍ وَصِحَّةٍ مَعًا وَهِيَ:
أ - الإِْسْلاَمُ: فَلاَ يَجِبُ التَّيَمُّمُ عَلَى الْكَافِرِ لأَِنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، وَلاَ يَصِحُّ مِنْهُ لأَِنَّهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلنِّيَّةِ.
ب - انْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ.
ج - الْعَقْل.
د - وُجُودُ الصَّعِيدِ الطَّهُورِ.
فَإِنَّ فَاقِدَ الصَّعِيدِ الطَّهُورِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ وَلاَ يَصِحُّ مِنْهُ بِغَيْرِهِ حَتَّى وَلَوْ كَانَ طَاهِرًا فَقَطْ، كَالأَْرْضِ الَّتِي أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ ثُمَّ جَفَّتْ، فَإِنَّهَا تَكُونُ طَاهِرَةً تَصِحُّ الصَّلاَةُ عَلَيْهَا، وَلاَ تَكُونُ مُطَهَّرَةً فَلاَ يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِهَا.
ثُمَّ إِنَّ الإِْسْلاَمَ وَالْعَقْل وَالْبُلُوغَ وَوُجُودَ(14/250)
الْحَدَثِ النَّاقِضِ لِلطَّهَارَةِ، وَانْقِطَاعَ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، شُرُوطٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ (وُضُوءٌ، وَغُسْلٌ) لأَِنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عَنْهُمَا (1) . وَسَيَأْتِي تَفْصِيل بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ.
أَرْكَانُ التَّيَمُّمِ:
7 - لِلتَّيَمُّمِ أَرْكَانٌ أَوْ فَرَائِضُ، وَالرُّكْنُ مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ وُجُودُ الشَّيْءِ، وَكَانَ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَتِهِ، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا قَالُوا: لِلتَّيَمُّمِ رُكْنَانِ هُمَا: الضَّرْبَتَانِ، وَاسْتِيعَابُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ بِالْمَسْحِ فَقَطْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي النِّيَّةِ هَل هِيَ رُكْنٌ أَمْ شَرْطٌ؟
أ - النِّيَّةُ:
8 - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ عِنْدَ مَسْحِ الْوَجْهِ فَرْضٌ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهَا شَرْطٌ.
مَا يَنْوِيهِ بِالتَّيَمُّمِ:
9 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ نِيَّةِ التَّيَمُّمِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ الصَّلاَةُ أَنْ يَنْوِيَ أَحَدَ أُمُورٍ ثَلاَثَةٍ: إِمَّا نِيَّةَ الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ، أَوِ اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ، أَوْ نِيَّةَ عِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ لاَ تَصِحُّ بِدُونِ طَهَارَةٍ كَالصَّلاَةِ، أَوْ سَجْدَةِ التِّلاَوَةِ، أَوْ صَلاَةِ الْجِنَازَةِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 154، 159، 168، والشرح الصغير 1 / 154، 157 - 158، ومغني المحتاج 1 / 96، 105 - 106، والمغني 1 / 247 - 249، كشاف القناع 1 / 172.(14/250)
وَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِهِ إِذَا خَافَ فَوْتَهَا فَإِنَّمَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلاَةُ عَلَى جِنَازَةٍ أُخْرَى إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَاصِلٌ. فَإِنْ نَوَى التَّيَمُّمَ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ مُلاَحَظَةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلاَةِ، أَوْ رَفْعِ الْحَدَثِ الْقَائِمِ بِهِ، لَمْ تَصِحَّ الصَّلاَةُ بِهَذَا التَّيَمُّمِ، كَمَا إِذَا نَوَى مَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ أَصْلاً كَدُخُول الْمَسْجِدِ، وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، أَوْ نَوَى عِبَادَةً غَيْرَ مَقْصُودَةٍ لِذَاتِهَا، كَالأَْذَانِ، وَالإِْقَامَةِ، أَوْ نَوَى عِبَادَةً مَقْصُودَةً تَصِحُّ بِدُونِ طَهَارَةٍ كَالتَّيَمُّمِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ لِلسَّلاَمِ، أَوْ رَدِّهِ مِنَ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَر، فَإِنْ تَيَمَّمَ الْجُنُبُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ صَحَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ، وَأَمَّا تَعْيِينُ الْحَدَثِ أَوِ الْجَنَابَةِ فَلاَ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ، وَيَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِإِطْلاَقِ النِّيَّةِ، وَيَصِحُّ أَيْضًا بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ؛ لأَِنَّ التَّيَمُّمَ رَافِعٌ لَهُ كَالْوُضُوءِ.
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ لِصِحَّةِ النِّيَّةِ: الإِْسْلاَمُ، وَالتَّمْيِيزُ، وَالْعِلْمُ بِمَا يَنْوِيهِ؛ لِيَعْرِفَ حَقِيقَةَ الْمَنْوِيِّ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَنْوِي بِالتَّيَمُّمِ اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ أَوْ فَرْضَ التَّيَمُّمِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ، مُلاَحَظَةُ الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ مِنَ الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ، فَإِنْ لَمْ يُلاَحِظْهُ بِأَنْ نَسِيَهُ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ وَأَعَادَ تَيَمُّمَهُ، هَذَا إِذَا لَمْ يَنْوِ فَرْضَ التَّيَمُّمِ، أَمَّا إِذَا نَوَى فَرْضَ التَّيَمُّمِ فَيُجْزِيهِ عَنِ الأَْكْبَرِ وَالأَْصْغَرِ وَإِنْ لَمْ يُلاَحِظْ، وَلاَ يُصَلَّى فَرْضٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِتَيَمُّمٍ نَوَاهُ لِغَيْرِهِ.(14/251)
قَال فِي الْمُقَدِّمَاتِ: وَلاَ صَلاَةَ بِتَيَمُّمٍ نَوَاهُ لِغَيْرِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَنْوِي اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَفْتَقِرُ اسْتِبَاحَتُهُ إِلَى طَهَارَةٍ. كَطَوَافٍ، وَحَمْل مُصْحَفٍ، وَسُجُودِ تِلاَوَةٍ، وَلَوْ تَيَمَّمَ بِنِيَّةِ الاِسْتِبَاحَةِ ظَانًّا أَنَّ حَدَثَهُ أَصْغَرُ فَبَانَ أَكْبَرُ أَوْ عَكْسَهُ صَحَّ؛ لأَِنَّ مُوجِبَهُمَا وَاحِدٌ، وَإِنْ تَعَمَّدَ لَمْ يَصِحَّ فِي الأَْصَحِّ لِتَلاَعُبِهِ. فَلَوْ أَجْنَبَ فِي سَفَرِهِ وَنَسِيَ، وَكَانَ يَتَيَمَّمُ وَقْتًا، وَيَتَوَضَّأُ وَقْتًا، أَعَادَ صَلاَةَ الْوُضُوءِ فَقَطْ.
وَلاَ تَكْفِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ، أَوِ الأَْكْبَرِ، أَوِ الطَّهَارَةِ عَنْ أَحَدِهِمَا؛ لأَِنَّ التَّيَمُّمَ لاَ يَرْفَعُهُ لِبُطْلاَنِهِ بِزَوَال مُقْتَضِيهِ؛ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَقَدْ تَيَمَّمَ عَنِ الْجَنَابَةِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ: يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ (1) ؟ .
قَال الرَّمْلِيُّ: وَشَمِل كَلاَمَهُ (النَّوَوِيَّ) مَا لَوْ كَانَ مَعَ التَّيَمُّمِ غَسْل بَعْضِ الأَْعْضَاءِ، وَإِنْ قَال بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ يَرْفَعُهُ حِينَئِذٍ.
وَلَوْ نَوَى فَرْضَ التَّيَمُّمِ، أَوْ فَرْضَ الطُّهْرِ، أَوِ التَّيَمُّمَ الْمَفْرُوضَ، أَوِ الطَّهَارَةَ عَنِ الْحَدَثِ أَوِ الْجَنَابَةِ لَمْ يَكْفِ فِي الأَْصَحِّ لأَِنَّ التَّيَمُّمَ لَيْسَ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ عَنْ ضَرُورَةٍ،
__________
(1) حديث: " يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ ". رواه البخاري تعليقًا (فتح الباري 1 / 454 - ط السلفية) ووصله أبو داود (1 / 238 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقواه ابن حجر (1 / 454) .(14/251)
فَلاَ يُجْعَل مَقْصُودًا، بِخِلاَفِ الْوُضُوءِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَهُمْ: يَكْفِي كَالْوُضُوءِ.
وَيَجِبُ قَرْنُ النِّيَّةِ بِنَقْل الصَّعِيدِ الْحَاصِل بِالضَّرْبِ إِلَى الْوَجْهِ؛ لأَِنَّهُ أَوَّل الأَْرْكَانِ، وَكَذَا يَجِبُ اسْتِدَامَتُهَا إِلَى مَسْحِ شَيْءٍ مِنَ الْوَجْهِ عَلَى الصَّحِيحِ. فَلَوْ زَالَتِ النِّيَّةُ قَبْل الْمَسْحِ لَمْ يَكْفِ؛ لأَِنَّ النَّقْل وَإِنْ كَانَ رُكْنًا فَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ.
وَيَنْوِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اسْتِبَاحَةَ مَا لاَ يُبَاحُ إِلاَّ بِالتَّيَمُّمِ، وَيَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لِمَا تَيَمَّمَ لَهُ كَصَلاَةٍ، أَوْ طَوَافٍ، أَوْ مَسِّ مُصْحَفٍ مِنْ حَدَثٍ أَصْغَر أَوْ أَكْبَر أَوْ نَجَاسَةٍ عَلَى بَدَنِهِ؛ لأَِنَّ التَّيَمُّمَ لاَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَإِنَّمَا يُبِيحُ الصَّلاَةَ، فَلاَ بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ النِّيَّةِ تَقْوِيَةً لِضَعْفِهِ.
وَصِفَةُ التَّعْيِينِ: أَنْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ صَلاَةِ الظُّهْرِ مَثَلاً مِنَ الْجَنَابَةِ إِنْ كَانَ جُنُبًا، أَوْ مِنَ الْحَدَثِ إِنْ كَانَ مُحْدِثًا، أَوْ مِنْهُمَا إِنْ كَانَ جُنُبًا مُحْدِثًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَإِنْ تَيَمَّمَ لِجَنَابَةٍ لَمْ يُجِزْهُ عَنِ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ؛ لأَِنَّهُمَا طَهَارَتَانِ فَلَمْ تُؤَدَّ إِحْدَاهُمَا بِنِيَّةِ الأُْخْرَى. وَلاَ يَصِحُّ التَّيَمُّمُ بِنِيَّةِ رَفْعِ حَدَثٍ لأَِنَّ التَّيَمُّمَ لاَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (1) ، لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: فَإِذَا وَجَدْتَ
__________
(1) البدائع 1 / 45، واللباب 1 / 37، والشرح الكبير مع الدسوقي 1 / 54، ومغني المحتاج 1 / 97 - 98، 278، والمغني 1 / 251، 254.(14/252)
الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَك (1) .
نِيَّةُ التَّيَمُّمِ لِصَلاَةِ النَّفْل وَغَيْرِهِ:
10 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ نَوَى بِتَيَمُّمِهِ فَرْضًا وَنَفْلاً صَلَّى بِهِ الْفَرْضَ وَالنَّفَل، وَإِنْ نَوَى فَرْضًا وَلَمْ يُعَيِّنْ فَيَأْتِي بِأَيِّ فَرْضٍ شَاءَ، وَإِنْ عَيَّنَ فَرْضًا جَازَ لَهُ فِعْل فَرْضٍ وَاحِدٍ غَيْرِهِ، وَإِنْ نَوَى الْفَرْضَ اسْتَبَاحَ مِثْلَهُ وَمَا دُونَهُ مِنَ النَّوَافِل، وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّفَل أَخَفُّ، وَنِيَّةُ الْفَرْضِ تَتَضَمَّنُهُ.
أَمَّا إِذَا نَوَى نَفْلاً أَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ كَأَنْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ بِلاَ تَعْيِينِ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ لَمْ يُصَل إِلاَّ نَفْلاً؛ لأَِنَّ الْفَرْضَ أَصْلٌ وَالنَّفَل تَابِعٌ فَلاَ يُجْعَل الْمَتْبُوعُ تَابِعًا، وَكَمَا إِذَا أَحْرَمَ بِالصَّلاَةِ مُطْلَقًا بِغَيْرِ تَعْيِينٍ فَإِنَّ صَلاَتَهُ تَنْعَقِدُ نَفْلاً.
وَالْمَالِكِيَّةُ كَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِوُجُوبِ نِيَّةِ الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَال نِيَّةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلاَةِ، فَإِنْ لَمْ يُلاَحِظْهُ بِأَنْ نَسِيَهُ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ الْحَدَثَ الأَْكْبَرَ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ وَأَعَادَ أَبَدًا.
وَيُنْدَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ نِيَّةُ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ إِذَا نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ، أَوِ اسْتِبَاحَةَ مَا مَنَعَهُ الْحَدَثُ، لَكِنْ لَوْ نَوَى فَرْضَ التَّيَمُّمِ فَلاَ تُنْدَبُ نِيَّةُ الأَْصْغَرِ وَلاَ الأَْكْبَرِ؛ لأَِنَّ نِيَّةَ الْفَرْضِ تُجْزِئُ عَنْ كُل ذَلِكَ.
__________
(1) حديث: " فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك ". أخرجه أبو داود (1 / 237 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والترمذي (1 / 212 - ط الحلبي) ولفظه: " فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير " وقال الترمذي: حسن صحيح.(14/252)
وَإِذَا تَيَمَّمَ لِقِرَاءَةِ قُرْآنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ لِلْمُتَيَمِّمِ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ صَلاَةِ الْفَرْضِ وَالنَّفَل سَوَاءٌ نَوَى بِتَيَمُّمِهِ الْفَرْضَ أَوِ النَّفَل؛ لأَِنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ عَنِ الْمَاءِ، وَهُوَ رَافِعٌ لِلْحَدَثِ أَيْضًا عِنْدَهُمْ (1) .
ب - مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَرْكَانِ التَّيَمُّمِ مَسْحَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (2) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَسْحَ الْوَجْهِ فَرْضٌ، وَمَسْحَ الْيَدَيْنِ فَرْضٌ آخَرُ. لَكِنْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ الأَْوَّل هُوَ الضَّرْبَةُ الأُْولَى، وَالْفَرْضَ الثَّانِيَ هُوَ تَعْمِيمُ مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي الْيَدَيْنِ هُوَ مَسْحُهُمَا إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ عَلَى وَجْهِ الاِسْتِيعَابِ كَالْوُضُوءِ. لِقِيَامِ التَّيَمُّمِ مَقَامَ الْوُضُوءِ فَيُحْمَل التَّيَمُّمُ عَلَى الْوُضُوءِ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ مَسْحُ الْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ إِلَى الْكُوعَيْنِ، وَمِنَ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 163 والبدائع 1 / 55 وما بعدها، والدسوقي 1 / 154، ومغني المحتاج 1 / 98، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي (1 / 90) ، وكشاف القناع 1 / 173 - 174.
(2) سورة المائدة / 6.(14/253)
الْكُوعَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ سُنَّةٌ؛ لِحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ.
فَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَال: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبِ الْمَاءَ. فَقَال عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ: أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَل، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا، فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَفَّيْهِ الأَْرْضَ وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ (1) .
ثُمَّ إِنَّ الْمَفْرُوضَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الضَّرْبَةَ الأُْولَى فَرْضٌ، وَالثَّانِيَةُ سُنَّةٌ. وَسَبَبُ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا هُوَ أَنَّ آيَةَ التَّيَمُّمِ مُجْمَلَةٌ، وَالأَْحَادِيثُ الْوَارِدَةُ مُتَعَارِضَةٌ، فَحَدِيثُ عَمَّارٍ الْمُتَقَدِّمُ فِيهِ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ تُصَرِّحُ بِالضَّرْبَتَيْنِ كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ (2) . وَرَوَى أَبُو دَاوُد: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَيَمَّمَ
__________
(1) حديث: عبد الرحمن بن أبزى: ". . . . . " أخرجه البخاري (الفتح 1 / 443 - ط السلفية) ومسلم (1 / 280 - 281 ط الحلبي) .
(2) حديث: " التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين " أخرجه الدارقطني (1 / 180 دار المحاسن) من حديث عبد الله بن عمر مرفوعًا، وصوب وقفه، ونقل مقالة ابن حجر في التلخيص (1 / 159 - ط شركة الطباعة الفنية) ثم أعله كذلك براوٍ ضعيف.(14/253)
بِضَرْبَتَيْنِ مَسَحَ بِإِحْدَاهُمَا وَجْهَهُ وَبِالأُْخْرَى ذِرَاعَيْهِ (1) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِزَالَةِ الْحَائِل عَنْ وُصُول التُّرَابِ إِلَى الْعُضْوِ الْمَمْسُوحِ كَنَزْعِ خَاتَمٍ وَنَحْوِهِ بِخِلاَفِ الْوُضُوءِ. وَذَلِكَ لأَِنَّ التُّرَابَ كَثِيفٌ لَيْسَ لَهُ سَرَيَانُ الْمَاءِ وَسَيَلاَنُهُ. وَمَحَل الْوُجُوبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ وَيُسْتَحَبُّ فِي الأُْولَى، وَيَجِبُ النَّزْعُ عِنْدَ الْمَسْحِ لاَ عِنْدَ نَقْل التُّرَابِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ تَخْلِيل الأَْصَابِعِ بِبَاطِنِ الْكَفِّ أَوِ الأَْصَابِعِ كَيْ يَتِمَّ الْمَسْحُ.
وَالتَّخْلِيل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَنْدُوبٌ احْتِيَاطًا. وَأَمَّا إِيصَال التُّرَابِ إِلَى مَنَابِتِ الشَّعْرِ الْخَفِيفِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُسْرِ بِخِلاَفِ الْوُضُوءِ (2) .
ج - التَّرْتِيبُ:
12 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي
__________
(1) حديث: إنه صلى الله عليه وسلم تيمم بضربتين، مسح بإحداهما وجهه وبالأخرى ذراعيه " أخرجه أبو داود (1 / 234 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمر وضعفه ابن حجر في التلخيص (1 / 151 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(2) ابن عابدين 1 / 158، ومغني المحتاج 1 / 99، وكشاف القناع 1 / 174 والشرح الصغير مع حاشيته 1 / 151 وما بعدها.(14/254)
التَّيَمُّمِ بَيْنَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَل مُسْتَحَبٌّ؛ لأَِنَّ الْفَرْضَ الأَْصْلِيَّ الْمَسْحُ، وَإِيصَال التُّرَابِ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ فَلاَ يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْفِعْل الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الْمَسْحُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فَرْضٌ كَالْوُضُوءِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فَرْضٌ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِ حَدَثٍ أَكْبَر، أَمَّا التَّيَمُّمُ لِحَدَثٍ أَكْبَر وَنَجَاسَةٍ بِبَدَنٍ فَلاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ تَرْتِيبٌ (1) .
د - الْمُوَالاَةُ:
13 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَالاَةَ فِي التَّيَمُّمِ سُنَّةٌ كَمَا فِي الْوُضُوءِ، وَكَذَا تُسَنُّ الْمُوَالاَةُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالصَّلاَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَالاَةَ فِي التَّيَمُّمِ عَنِ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ فَرْضٌ، وَأَمَّا عَنِ الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ فَهِيَ فَرْضٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ دُونَ الْحَنَابِلَةِ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الْمُوَالاَةِ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَبَيْنَ مَا يُفْعَل لَهُ مِنْ صَلاَةٍ وَنَحْوِهَا (2) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 154، والشرح الصغير بحاشيته 1 / 155، ومغني المحتاج 1 / 99، وكشاف القناع 1 / 175.
(2) المراجع السابقة.(14/254)
الأَْعْذَارُ الَّتِي يُشْرَعُ بِسَبَبِهَا التَّيَمُّمُ:
14 - الْمُبِيحُ لِلتَّيَمُّمِ فِي الْحَقِيقَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ، وَالْعَجْزُ، إِمَّا لِفَقْدِ الْمَاءِ وَإِمَّا لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ مَعَ وُجُودِهِ:
أَوَّلاً: فَقْدُ الْمَاءِ:
أ - فَقْدُ الْمَاءِ لِلْمُسَافِرِ:
15 - إِذَا فَقَدَ الْمُسَافِرُ الْمَاءَ بِأَنْ لَمْ يَجِدْهُ أَصْلاً، أَوْ وَجَدَ مَاءً لاَ يَكْفِي لِلطَّهَارَةِ حِسًّا جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ، لَكِنْ يَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَسْتَعْمِل مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْهُ فِي بَعْضِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ ثُمَّ يَتَيَمَّمَ عَنِ الْبَاقِي (1) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2) وَيَكُونُ فَقْدُ الْمَاءِ شَرْعًا لِلْمُسَافِرِ بِأَنْ خَافَ الطَّرِيقَ إِلَى الْمَاءِ، أَوْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ فَلاَ يُكَلَّفُ الْمُسَافِرُ حِينَئِذٍ بِطَلَبِهِ.
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِمَنْ ظَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ أَوْ شَكَّ فِي وُجُودِهِ (وَمِثْلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَارٌّ تَوَهَّمَ وُجُودَهُ) أَنْ يَطْلُبَهُ فِيمَا قَرُبَ مِنْهُ لاَ فِيمَا بَعُدَ.
__________
(1)) مغني المحتاج 1 / 87.
(2) حديث: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ". أخرجه البخاري (الفتح 13 / 251 - ط السلفية) ومسلم (2 / 975، 4 / 1830 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة، واللفظ لمسلم في الموضع الأول(14/255)
حَدُّ الْبُعْدِ عَنِ الْمَاءِ:
16 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الْبُعْدِ عَنِ الْمَاءِ الَّذِي يُبِيحُ التَّيَمُّمَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مِيلٌ (1) وَهُوَ يُسَاوِي أَرْبَعَةَ آلاَفِ ذِرَاعٍ.
وَحَدَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِمِيلَيْنِ، وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَرْبَعِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَهُوَ حَدُّ الْغَوْثِ وَهُوَ مِقْدَارُ غَلْوَةٍ (رَمْيَةُ سَهْمٍ) ، وَذَلِكَ فِي حَالَةِ تَوَهُّمِهِ لِلْمَاءِ أَوْ ظَنِّهِ أَوْ شَكِّهِ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَأَوْجَبُوا طَلَبَ الْمَاءِ إِلَى أَرْبَعِمِائَةِ خُطْوَةٍ إِنْ ظَنَّ قُرْبَهُ مِنَ الْمَاءِ مَعَ الأَْمْنِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَيَقَّنَ فَقْدَ الْمَاءِ حَوْلَهُ تَيَمَّمَ بِلاَ طَلَبٍ، أَمَّا إِذَا تَيَقَّنَ وُجُودَ الْمَاءِ حَوْلَهُ طَلَبَهُ فِي حَدِّ الْقُرْبِ (وَهُوَ سِتَّةُ آلاَفِ خُطْوَةٍ) وَلاَ يَطْلُبُ الْمَاءَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ سَوَاءٌ فِي حَدِّ الْقُرْبِ أَوِ الْغَوْثِ إِلاَّ إِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَانْقِطَاعِهِ عَنِ الرُّفْقَةِ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا تَيَقَّنَ أَوْ ظَنَّ الْمَاءَ طَلَبَهُ لأَِقَل مِنْ مِيلَيْنِ، وَيَطْلُبُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِيمَا قَرُبَ مِنْهُ عَادَةً (2) .
__________
(1) الميل بالمقاييس العصرية يعادل 1680 مترًا (المقادير الشرعية والأحكام الفقهية المتعلقة بها للكردي ص300) .
(2) (البدائع 1 / 46 - 49، وابن عابدين 1 / 155 وما بعدها. والدسوقي 1 / 149 وما بعدها، ومغني المحتاج 1 / 87 - 95، وكشاف القناع 1 / 162 وما بعدها والأنصاف 1 / 273.(14/255)
هَذَا فِيمَا إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، أَمَّا إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ عِنْدَ غَيْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ فِي رَحْلِهِ فَهَل يَجِبُ عَلَيْهِ شِرَاؤُهُ أَوْ قَبُول هِبَتِهِ؟
الشِّرَاءُ:
17 - يَجِبُ عَلَى وَاجِدِ الْمَاءِ عِنْدَ غَيْرِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ إِذَا وَجَدَهُ بِثَمَنِ الْمِثْل أَوْ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ، وَكَانَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَال فَاضِلاً عَنْ حَاجَتِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ إِلاَّ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ثَمَنُ الْمَاءِ تَيَمَّمَ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ إِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ أَوْ يَرْجُو الْوَفَاءَ بِبَيْعِ شَيْءٍ، أَوِ اقْتِضَاءِ دَيْنٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَقَالُوا أَيْضًا بِوُجُوبِ اقْتِرَاضِ الْمَاءِ أَوْ ثَمَنِهِ إِذَا كَانَ يَرْجُو وَفَاءَهُ (1) .
الْهِبَةُ:
18 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ وُهِبَ لَهُ مَاءُ أَوْ أُعِيرَ دَلْوًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَبُول، أَمَّا لَوْ وُهِبَ ثَمَنَهُ فَلاَ يَجِبُ قَبُولُهُ بِالاِتِّفَاقِ لِعِظَمِ الْمِنَّةِ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 167، والشرح الصغير 1 / 188، والجمل 1 / 202 - 204، والمغني 1 / 240، وكشاف القناع 1 / 165.
(2) المراجع السابقة.(14/256)
ب - فَقْدُ الْمَاءِ لِلْمُقِيمِ:
19 - إِذَا فَقَدَ الْمُقِيمُ الْمَاءَ وَتَيَمَّمَ فَهَل يُعِيدُ صَلاَتَهُ أَمْ لاَ؟ فِيهِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يُعِيدُ؛ لأَِنَّ الشَّرْطَ هُوَ عَدَمُ الْمَاءِ فَأَيْنَمَا تَحَقَّقَ جَازَ التَّيَمُّمُ.
وَيُعِيدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْمُقَصِّرُ فِي طَلَبِ الْمَاءِ نَدْبًا فِي الْوَقْتِ، وَصَحَّتْ صَلاَتُهُ إِنْ لَمْ يُعِدْ، كَوَاجِدِ الْمَاءِ الَّذِي طَلَبَهُ طَلَبًا لاَ يَشُقُّ عَلَيْهِ بِقُرْبِهِ بَعْدَ صَلاَتِهِ لِتَقْصِيرِهِ، أَوْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ بَعْدَ طَلَبِهِ. أَمَّا خَارِجَ الْوَقْتِ فَلاَ يُعِيدُ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَيَمُّمِ الصَّحِيحِ الْحَاضِرِ الْفَاقِدِ لِلْمَاءِ لِصَلاَةِ الْجُمُعَةِ إِذَا خَشِيَ فَوَاتَهَا بِطَلَبِ الْمَاءِ، فَفِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ لاَ يَتَيَمَّمُ لَهَا فَإِنْ فَعَل لَمْ يُجْزِهِ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ، وَخِلاَفُ الْمَشْهُورِ يَتَيَمَّمُ لَهَا وَلاَ يَدَعُهَا وَهُوَ أَظْهَر مَدْرَكًا مِنَ الْمَشْهُورِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ فَرْضُ التَّيَمُّمِ لِعَدَمِ الْمَاءِ بِالْمَرَّةِ فَيُصَلِّيهَا بِالتَّيَمُّمِ وَلاَ يَدَعُهَا، وَيُصَلِّي الظُّهْرَ وَهُوَ ظَاهِرُ نَقَل الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ يُونُسَ، وَلاَ خِلاَفَ فِي هَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَكَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لاَ يَتَيَمَّمُ الْحَاضِرُ الصَّحِيحُ الْفَاقِدُ لِلْمَاءِ لِجِنَازَةٍ إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ مِنْ مُتَوَضِّئٍ أَوْ مَرِيضٍ أَوْ مُسَافِرٍ.
وَلاَ يَتَيَمَّمُ لِنَفْلٍ اسْتِقْلاَلاً، وَلاَ وِتْرًا إِلاَّ تَبَعًا لِفَرْضٍ بِشَرْطِ أَنْ يَتَّصِل النَّفَل بِالْفَرْضِ حَقِيقَةً أَوْ(14/256)
حُكْمًا، فَلاَ يَضُرُّ الْفَصْل الْيَسِيرُ (1) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَال النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِعَادِمِ الْمَاءِ التَّيَمُّمُ إِلاَّ بَعْدَ طَلَبِهِ. ثُمَّ قَال: وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْعِرَاقِيِّينَ وَبَعْضِ الْخُرَاسَانِيِّينَ. وَقَال جَمَاعَاتٌ مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ: إِنْ تَحَقَّقَ عَدَمَ الْمَاءِ حَوَالَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَبُ، وَبِهَذَا قَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا إِذْ اخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ فِيهِ وَجْهَيْنِ: قَال الرَّافِعِيُّ: أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الطَّلَبُ.
وَقَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: إِنْ تَيَقَّنَ الْمُسَافِرُ أَوِ الْمُقِيمُ فَقْدَ الْمَاءِ تَيَمَّمَ بِلاَ طَلَبٍ؛ لأَِنَّ طَلَبَ مَا عُلِمَ عَدَمُهُ عَبَثٌ، وَقِيل: لاَ بُدَّ مِنَ الطَّلَبِ لأَِنَّهُ لاَ يُقَال لِمَنْ لَمْ يَطْلُبْ لَمْ يَجِدْ.
ثُمَّ قَال: وَإِنْ تَوَهَّمَهُ أَيْ جَوَّزَهُ تَجَوُّزًا رَاجِحًا وَهُوَ الظَّنُّ، أَوْ مَرْجُوحًا وَهُوَ الْوَهْمُ، أَوْ مُسْتَوِيًا وَهُوَ الشَّكُّ، طَلَبَهُ بَعْدَ دُخُول الْوَقْتِ وُجُوبًا؛ لأَِنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، وَلاَ ضَرُورَةَ مَعَ الإِْمْكَانِ. وَمِثْل ذَلِكَ قَالَهُ الْقَلْيُوبِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ (2) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 155، وكشاف القناع 1 / 162، ومغني المحتاج 1 / 106 - 107، وكفاية الأخيار 1 / 117، والدسوقي 1 / 159، والشرح الصغير 1 / 144 - 145.
(2) المجموع 2 / 249، ومغني المحتاج 1 / 87، والقليوبي 1 / 77.(14/257)
نِسْيَانُ الْمَاءِ:
20 - لَوْ نَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى فَإِنْ تَذَكَّرَهُ قَطَعَ صَلاَتَهُ وَأَعَادَهَا إِجْمَاعًا، أَمَّا إِذَا أَتَمَّ صَلاَتَهُ ثُمَّ تَذَكَّرَ الْمَاءَ فَإِنَّهُ يَقْضِي صَلاَتَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةِ سَوَاءٌ فِي الْوَقْتِ أَوْ خَارِجِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَذَكَّرَ فِي الْوَقْتِ أَعَادَ صَلاَتَهُ، أَوْ خَارِجَ الْوَقْتِ فَلاَ يَقْضِي. وَسَبَبُ الْقَضَاءِ تَقْصِيرُهُ فِي الْوُقُوفِ عَلَى الْمَاءِ الْمَوْجُودِ عِنْدَهُ، فَكَانَ كَمَا لَوْ تَرَكَ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَصَلَّى عُرْيَانًا، وَكَانَ فِي رَحْلِهِ ثَوْبٌ نَسِيَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَقْضِي لأَِنَّ الْعَجْزَ عَنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ قَدْ تَحَقَّقَ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ وَالنِّسْيَانِ، فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ كَمَا لَوْ حَصَل الْعَجْزُ بِسَبَبِ الْبُعْدِ أَوِ الْمَرَضِ أَوِ عَدَمِ الدَّلْوِ وَالرِّشَاءِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُعِيدُ إِذَا كَانَ هُوَ الْوَاضِعُ لِلْمَاءِ فِي الرَّحْل أَوْ غَيْرِهِ بِعِلْمِهِ سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْوَاضِعُ لِلْمَاءِ غَيْرَهُ وَبِلاَ عِلْمِهِ فَلاَ إِعَادَةَ اتِّفَاقًا عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَضَل رَحْلَهُ فِي رِحَالٍ وَطَلَبَهُ بِإِمْعَانٍ فَلَمْ يَجِدْهُ فَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُمْعِنْ فِي الطَّلَبِ قَضَى لِتَقْصِيرِهِ (1) .
__________
(1) البدائع 1 / 49، وابن عابدين 1 / 166، والشرح الصغير 1 / 192، والجمل 1 / 204، ومغني المحتاج 1 / 91، وكشاف القناع 1 / 169.(14/257)
ثَانِيًا: عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَال الْمَاءِ:
21 - يَجِبُ عَلَى مَنْ وَجَدَ الْمَاءَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِي عِبَادَةٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِالطَّهَارَةِ، وَلاَ يَجُوزُ الْعُدُول عَنْ ذَلِكَ إِلَى التَّيَمُّمِ إِلاَّ إِذَا عُدِمَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى اسْتِعْمَال الْمَاءِ، وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالْمَرَضِ، أَوْ خَوْفِ الْمَرَضِ مِنَ الْبَرْدِ وَنَحْوِهِ، أَوِ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ.
أ - الْمَرَضُ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِلْمَرِيضِ إِذَا تَيَقَّنَ التَّلَفَ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الأَْكْثَرِينَ إِذَا خَافَ مِنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عُضْوِهِ هَلاَكَهُ، أَوْ زِيَادَةَ مَرَضِهِ، أَوْ تَأَخُّرَ بُرْئِهِ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْعَادَةِ أَوْ بِإِخْبَارِ طَبِيبٍ حَاذِقٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ، وَاكْتَفَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا أَيْ غَيْرَ ظَاهِرِ الْفِسْقِ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ - وَالْحَنَابِلَةُ زِيَادَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ - خَوْفَ حُدُوثِ الشَّيْنِ الْفَاحِشِ.
وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِمَا يَكُونُ فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ؛ لأَِنَّهُ يُشَوِّهُ الْخِلْقَةَ وَيَدُومُ ضَرَرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالظَّاهِرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَا يَبْدُو عِنْدَ الْمِهْنَةِ غَالِبًا كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرِيضَ الَّذِي لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَلاَ يَجِدُ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ يَتَيَمَّمُ كَعَادِمِ الْمَاءِ وَلاَ يُعِيدُ.(14/258)
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنْ وَجَدَ مَنْ يُوَضِّئُهُ وَلَوْ بِأَجْرِ الْمِثْل وَعِنْدَهُ مَالٌ لاَ يَتَيَمَّمُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ (1) .
ب - خَوْفُ الْمَرَضِ مِنَ الْبَرْدِ وَنَحْوِهِ:
22 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ (خِلاَفًا لأَِبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي الْحَضَرِ) لِمَنْ خَافَ مِنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ هَلاَكًا، أَوْ حُدُوثَ مَرَضٍ، أَوْ زِيَادَتَهُ، أَوْ بُطْءَ بُرْءٍ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يُسَخِّنُ بِهِ الْمَاءَ، أَوْ لَمْ يَجِدْ أُجْرَةَ الْحَمَّامِ، أَوْ مَا يُدْفِئُهُ، سَوَاءٌ فِي الْحَدَثِ الأَْكْبَرِ أَوِ الأَْصْغَرِ؛ لإِِقْرَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى تَيَمُّمِهِ خَوْفَ الْبَرْدِ وَصَلاَتِهِ بِالنَّاسِ إِمَامًا وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإِْعَادَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ جَوَازَ التَّيَمُّمِ لِلْبَرْدِ خَاصٌّ بِالْجُنُبِ؛ لأَِنَّ الْمُحْدِثَ لاَ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لِلْبَرْدِ فِي الصَّحِيحِ خِلاَفًا لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ إِلاَّ إِذَا تَحَقَّقَ الضَّرَرُ مِنَ الْوُضُوءِ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ حِينَئِذٍ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لِلْبَرْدِ - عَلَى الْخِلاَفِ السَّابِقِ - لاَ يُعِيدُ صَلاَتَهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعِيدُ صَلاَتَهُ فِي الأَْظْهَرِ إِنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَالثَّانِي: لاَ يُعِيدُ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَمَّا إِذَا تَيَمَّمَ الْمُقِيمُ لِلْبَرْدِ فَالْمَشْهُورُ كَمَا قَال الرَّافِعِيُّ الْقَطْعُ
__________
(1) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص62 وابن عابدين 1 / 156، والدسوقي 1 / 149، ومغني المحتاج 1 / 92 - 93، 106، والجمل 1 / 206 - 207، والمغني 1 / 273 وكشاف القناع 1 / 162 - 165.(14/258)
بِوُجُوبِ الإِْعَادَةِ، وَقَال النَّوَوِيُّ: إِنَّ جُمْهُورَ الشَّافِعِيَّةِ قَطَعُوا بِهِ (1) .
ج - الْعَجْزُ عَنِ اسْتِعْمَال الْمَاءِ:
23 - يَتَيَمَّمُ الْعَاجِزُ الَّذِي لاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى اسْتِعْمَال الْمَاءِ وَلاَ يُعِيدُ كَالْمُكْرَهِ، وَالْمَحْبُوسِ، وَالْمَرْبُوطِ بِقُرْبِ الْمَاءِ، وَالْخَائِفِ مِنْ حَيَوَانٍ، أَوِ إِنْسَانٍ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ؛ لأَِنَّهُ عَادِمٌ لِلْمَاءِ حُكْمًا، وَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ (2) . وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِمَّا تَقَدَّمَ الْمُكْرَهَ عَلَى تَرْكِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُعِيدُ صَلاَتَهُ (3) .
د - الْحَاجَةُ إِلَى الْمَاءِ:
24 - يَتَيَمَّمُ وَلاَ يُعِيدُ مَنِ اعْتَقَدَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يَحْتَاجُ الْمَاءَ الَّذِي مَعَهُ وَلَوْ فِي الْمُسْتَقْبَل؛ لِنَحْوِ عَطَشِ إِنْسَانٍ مَعْصُومِ الدَّمِ، أَوْ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ شَرْعًا - وَلَوْ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 156، والزرقاني 1 / 115، والدسوقي 1 / 149، ومغني المحتاج 1 / 93، 107، وكشاف القناع 1 / 163.
(2) حديث: " إن الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين ". أخرجه الترمذي (1 / 212 - ط الحلبي) والحاكم (1 / 176 - 177 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي ذر وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) الطحطاوي على مراقي الفلاح ص62، والدسوقي 1 / 148، ومغني المحتاج 1 / 106 - 107، والمغني 1 / 235، والإنصاف 1 / 281، وكفاية الأخيار 1 / 117.(14/259)
كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ حِرَاسَةٍ - عَطَشًا مُؤَدِّيًا إِلَى الْهَلاَكِ أَوْ شِدَّةِ الأَْذَى، وَذَلِكَ صَوْنًا لِلرُّوحِ عَنِ التَّلَفِ، بِخِلاَفِ الْحَرْبِيِّ، وَالْمُرْتَدِّ، وَالْكَلْبِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَتَيَمَّمُ بَل يَتَوَضَّأُ بِالْمَاءِ الَّذِي مَعَهُ لِعَدَمِ حُرْمَةِ هَؤُلاَءِ.
وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْحَاجَةُ لِلْمَاءِ لِلشُّرْبِ، أَمِ الْعَجْنِ، أَمِ الطَّبْخِ.
وَمِنْ قَبِيل الاِحْتِيَاجِ لِلْمَاءِ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ غَيْرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَلَى الْبَدَنِ أَمِ الثَّوْبِ، وَخَصَّهَا الشَّافِعِيَّةُ بِالْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الثَّوْبِ تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ وَصَلَّى عُرْيَانًا إِنْ لَمْ يَجِدْ سَاتِرًا وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ (1) .
التَّيَمُّمُ لِلنَّجَاسَةِ:
25 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ وَعَجَزَ عَنْ غَسْلِهَا لِعَدَمِ الْمَاءِ، أَوْ خَوْفِ الضَّرَرِ بِاسْتِعْمَالِهِ تَيَمَّمَ لَهَا وَصَلَّى، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ.
__________
(1) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص62 - 63، ومغني المحتاج 1 / 106، وحاشية الصاوي مع الشرح الصغير 1 / 180 وما بعدها، والمغني 1 / 273، وكشاف القناع 1 / 161، 163 - 164.(14/259)
وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ وَعَجَزَ عَنْ غَسْلِهَا يُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ بِلاَ تَيَمُّمٍ وَلاَ يُعِيدُ (1) .
مَا يَجُوزُ بِهِ التَّيَمُّمُ:
26 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِالصَّعِيدِ الطَّاهِرِ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَرْضٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) . قَال اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (3) .
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالصَّعِيدِ هَل هُوَ وَجْهُ الأَْرْضِ أَوِ التُّرَابُ الْمُنْبِتُ؟ أَمَّا جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى التُّرَابِ الْمُنْبِتِ فَبِالإِْجْمَاعِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِمَّا عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّعِيدِ وَجْهُ الأَْرْضِ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ التَّيَمُّمُ بِكُل مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ؛ لأَِنَّ الصَّعِيدَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصُّعُودِ وَهُوَ الْعُلُوُّ، وَهَذَا لاَ يُوجِبُ الاِخْتِصَاصَ
__________
(1) نفس المراجع.
(2) البدائع 1 / 53 وما بعدها، واللباب 1 / 37، وفتح القدير 1 / 88، وابن عابدين 1 / 159 وما بعدها، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص64، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي 1 / 154 ط الحلبي، والدسوقي 1 / 155 وما بعدها، ومغني المحتاج 1 / 96 وما بعدها، والمغني 1 / 247 - 249، وكشاف القناع 1 / 172، والبجيرمي على الخطيب 1 / 252، وغاية المنتهى 1 / 61.
(3) سورة المائدة / 6.(14/260)
بِالتُّرَابِ، بَل يَعُمُّ كُل مَا صَعِدَ عَلَى الأَْرْضِ مِنْ أَجْزَائِهَا. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِالأَْرْضِ (1) مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: جُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا (2) وَاسْمُ الأَْرْضِ يَتَنَاوَل جَمِيعَ أَنْوَاعِهَا.
وَالطَّيِّبُ عِنْدَهُمْ هُوَ الطَّاهِرُ، وَهُوَ الأَْلْيَقُ هُنَا؛ لأَِنَّهُ شُرِعَ مُطَهِّرًا، وَالتَّطْهِيرُ لاَ يَقَعُ إِلاَّ بِالطَّاهِرِ، مَعَ أَنَّ مَعْنَى الطَّهَارَةِ صَارَ مُرَادًا بِالإِْجْمَاعِ حَتَّى لاَ يَجُوزَ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ النَّجَسِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ مَا يَجُوزُ بِهِ التَّيَمُّمُ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالتُّرَابِ - وَهُوَ الأَْفْضَل مِنْ غَيْرِهِ عِنْدَ وُجُودِهِ - وَالرَّمْل، وَالْحَصَى، وَالْجِصِّ الَّذِي لَمْ يُحْرَقْ بِالنَّارِ، فَإِنْ أُحْرِقَ أَوْ طُبِخَ لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ بِهِ.
وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْمَعَادِنِ مَا دَامَتْ فِي مَوَاضِعِهَا وَلَمْ تُنْقَل مِنْ مَحَلِّهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ - الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ - أَوْ مِنَ الْجَوَاهِرِ كَاللُّؤْلُؤِ، فَلاَ يَتَيَمَّمُ عَلَى الْمَعَادِنِ مِنْ شَبٍّ، وَمِلْحٍ، وَحَدِيدٍ، وَرَصَاصٍ، وَقَصْدِيرٍ، وَكُحْلٍ، إِنْ نُقِلَتْ مِنْ مَحَلِّهَا وَصَارَتْ أَمْوَالاً فِي أَيْدِي النَّاسِ.
__________
(1) حديث: " عليكم بالأرض. . . . . " أخرجه البيهقي (1 / 217 - ط دائرة المعارف العثمانية) ، ثم نواه البيهقي بضعف أحد رواته.
(2) حديث: " جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا " تقدم تخريجه ف / 2.(14/260)
وَلاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْخَشَبِ وَالْحَشِيشِ سَوَاءٌ أَوْجَدَ غَيْرَهُمَا أَمْ لاَ؛ لأَِنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَجْزَاءِ الأَْرْضِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ عِنْدَهُمْ بِالْجَلِيدِ وَهُوَ الثَّلْجُ الْمُجَمَّدُ مِنَ الْمَاءِ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ أَوِ الْبَحْرِ، حَيْثُ عَجَزَ عَنْ تَحْلِيلِهِ وَتَصْيِيرِهِ مَاءً؛ لأَِنَّهُ أَشْبَهَ بِجُمُودِهِ الْحَجَرَ فَالْتُحِقَ بِأَجْزَاءِ الأَْرْضِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُل مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُل مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ الْتَزَقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ أَوْ لاَ؛ لأَِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الاِلْتِزَاقِ، وَلاَ يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إِلاَّ بِدَلِيلٍ.
وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا الْتَزَقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، فَالأَْصْل عِنْدَهُ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنِ اسْتِعْمَال جُزْءٍ مِنَ الصَّعِيدِ وَلاَ يَكُونُ ذَلِكَ إِلاَّ بِأَنْ يَلْتَزِقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْهُ.
فَعَلَى قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْجِصِّ، وَالنُّورَةِ، وَالزِّرْنِيخِ، وَالطِّينِ الأَْحْمَرِ، وَالأَْسْوَدِ، وَالأَْبْيَضِ، وَالْكُحْل، وَالْحَجَرِ الأَْمْلَسِ، وَالْحَائِطِ الْمُطَيَّنِ، وَالْمُجَصَّصِ، وَالْمِلْحِ الْجَبَلِيِّ دُونَ الْمَائِيِّ، وَالآْجُرِّ، وَالْخَزَفِ الْمُتَّخَذِ مِنْ طِينٍ خَالِصٍ، وَالأَْرْضِ النَّدِيَّةِ، وَالطِّينِ الرَّطْبِ.
وَلَكِنْ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالطِّينِ مَا لَمْ يَخَفْ ذَهَابَ الْوَقْتِ؛ لأَِنَّ فِيهِ تَلْطِيخَ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ(14/261)
ضَرُورَةٍ فَيَصِيرُ بِمَعْنَى الْمُثْلَةِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ تَيَمَّمَ بِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَهُمَا؛ لأَِنَّ الطِّينَ مِنْ أَجْزَاءِ الأَْرْضِ، فَإِنْ خَافَ ذَهَابَ الْوَقْتِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى عِنْدَهُمَا.
وَيَحُوزُ التَّيَمُّمُ عِنْدَهُمَا بِالْغُبَارِ بِأَنْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى ثَوْبٍ، أَوْ لِبَدٍ، أَوْ صِفَةِ سَرْجٍ، فَارْتَفَعَ غُبَارٌ، أَوْ كَانَ عَلَى الْحَدِيدِ، أَوْ عَلَى الْحِنْطَةِ، أَوِ الشَّعِيرِ، أَوْ نَحْوِهَا غُبَارٌ، فَتَيَمَّمَ بِهِ أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِهِمَا؛ لأَِنَّ الْغُبَارَ وَإِنْ كَانَ لَطِيفًا فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الأَْرْضِ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ، كَمَا يَجُوزُ بِالْكَثِيفِ بَل أَوْلَى.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ بِالْجَابِيَةِ (1) فَمُطِرُوا فَلَمْ يَجِدُوا مَاءً يَتَوَضَّئُونَ بِهِ، وَلاَ صَعِيدًا يَتَيَمَّمُونَ بِهِ، فَقَال ابْنُ عُمَرَ: لِيَنْفُضَ كُل وَاحِدٍ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ، أَوْ صِفَةَ سَرْجِهِ، وَلْيَتَيَمَّمْ، وَلْيُصَل، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا. وَلَوْ كَانَ الْمُسَافِرُ فِي طِينٍ وَرَدْغَةٍ لاَ يَجِدُ مَاءً وَلاَ صَعِيدًا وَلَيْسَ فِي ثَوْبِهِ وَسَرْجِهِ غُبَارٌ لَطَّخَ ثَوْبَهُ أَوْ بَعْضَ جَسَدِهِ بِالطِّينِ فَإِذَا جَفَّ تَيَمَّمَ بِهِ.
أَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الأَْرْضِ فَلاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ اتِّفَاقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. فَكُل مَا يَحْتَرِقُ بِالنَّارِ فَيَصِيرُ رَمَادًا كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ مَا يَنْطَبِعُ وَيَلِينُ كَالْحَدِيدِ، وَالصُّفْرِ، وَالنُّحَاسِ، وَالزُّجَاجِ وَنَحْوِهَا، فَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ
__________
(1) الجابية منطقة في دمشق.(14/261)
الأَْرْضِ.
كَمَا لاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالرَّمَادِ لأَِنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَطَبِ فَلَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الأَْرْضِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلاَّ بِتُرَابٍ طَاهِرٍ ذِي غُبَارٍ يَعْلَقُ بِالْيَدِ غَيْرِ مُحْتَرِقٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (1) وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَمْسَحُ بِجُزْءٍ مِنْهُ، فَمَا لاَ غُبَارَ لَهُ كَالصَّخْرِ، لاَ يَمْسَحُ بِشَيْءٍ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جُعِل التُّرَابُ لِي طَهُورًا (2) .
فَإِنْ كَانَ جَرِيشًا أَوْ نَدِيًّا لاَ يَرْتَفِعُ لَهُ غُبَارٌ لَمْ يَكْفِ. لأَِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ هُوَ التُّرَابُ الْمُنْبِتُ، وَقَدْ سُئِل ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَيُّ الصَّعِيدِ أَطْيَبُ فَقَال: الْحَرْثُ، وَهُوَ التُّرَابُ الَّذِي يَصْلُحُ لِلنَّبَاتِ دُونَ السَّبْخَةِ وَنَحْوِهَا.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى التُّرَابِ الرَّمْل الَّذِي فِيهِ غُبَارٌ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ الْجَوَازُ وَعَدَمُهُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ أَيْضًا.
وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا (الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ) التَّيَمُّمُ بِمَعْدِنٍ كَنَفْطٍ، وَكِبْرِيتٍ، وَنُورَةٍ، وَلاَ بِسَحَاقَةِ خَزْفٍ؛ إِذْ لاَ يُسَمَّى ذَلِكَ تُرَابًا.
وَلاَ بِتُرَابٍ مُخْتَلِطٍ بِدَقِيقٍ وَنَحْوِهِ كَزَعْفَرَانٍ،
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) حديث: " جعل التراب لي طهورًا " أخرجه أحمد (1 / 98 - ط الميمنية) وحسنه الهيثمي في المجمع (1 / 261 - ط القدسي) .(14/262)
وَجِصٍّ؛ لِمَنْعِهِ وُصُول التُّرَابِ إِلَى الْعُضْوِ، وَلاَ بِطِينٍ رَطْبٍ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِتُرَابٍ، وَلاَ بِتُرَابٍ نَجَسٍ كَالْوُضُوءِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ إِنَّ مَا اُسْتُعْمِل فِي التَّيَمُّمِ لاَ يَتَيَمَّمُ بِهِ كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَل. وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ الْمَغْصُوبَ وَنَحْوَهُ فَلاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ.
وَيَجُوزُ الْمَسْحُ بِالثَّلْجِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ إِذَا تَعَذَّرَ تَذْوِيبُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ (2) . ثُمَّ إِذَا جَرَى الْمَاءُ عَلَى الأَْعْضَاءِ بِالْمَسِّ لَمْ يُعِدِ الصَّلاَةَ لِوُجُودِ الْغُسْل وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا، وَإِنْ لَمْ يَسِل أَعَادَ صَلاَتَهُ؛ لأَِنَّهُ صَلَّى بِدُونِ طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ (3) .
كَيْفِيَّةُ التَّيَمُّمِ:
27 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّيَمُّمِ:
أ - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ (4) .
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) حديث: " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " تقدم تخريجه ف / 25.
(3) ابن عابدين 1 / 167، والشرح الصغير 1 / 188، والجمل 1 / 202 - 204، والمغني 1 / 240، والمغني 1 / 240، وكشاف القناع 1 / 165، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص64.
(4) حديث: " التيمم ضربتان " تقدم تخريجه ف / 11.(14/262)
ب - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ الْوَاجِبَ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِحَدِيثِ عَمَّارٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال فِي التَّيَمُّمِ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ (1) وَالْيَدُ إِذَا أُطْلِقَتْ لاَ يَدْخُل فِيهَا الذِّرَاعُ كَمَا فِي الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ فِي السَّرِقَةِ. وَالأَْكْمَل عَنْهُمْ ضَرْبَتَانِ وَإِلَى الْمِرْفَقَيْنِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَصُورَتُهُ - عِنْدَهُمْ جَمِيعًا - فِي مَسْحِ الْيَدَيْنِ بِالضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ: أَنْ يُمِرَّ الْيَدَ الْيُسْرَى عَلَى الْيَدِ الْيُمْنَى مِنْ فَوْقِ الْكَفِّ إِلَى الْمِرْفَقِ، ثُمَّ بَاطِنِ الْمِرْفَقِ إِلَى الْكُوعِ (الرُّسْغِ) ، ثُمَّ يُمِرَّ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى كَذَلِكَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّيَمُّمِ إِيصَال التُّرَابِ إِلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، فَبِأَيِّ صُورَةٍ حَصَل اسْتِيعَابُ الْعُضْوَيْنِ بِالْمَسْحِ أَجْزَأَهُ تَيَمُّمُهُ. سَوَاءٌ احْتَاجَ إِلَى ضَرْبَتَيْنِ أَوْ أَكْثَر، وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ (2) .
سُنَنُ التَّيَمُّمِ:
يُسَنُّ فِي التَّيَمُّمِ أُمُورٌ:
أ - التَّسْمِيَةُ:
28 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ
__________
(1) حديث: " إنما كان يكفيك ضربة واحدة " تقدم تخريجه ف / 11.
(2) البدائع 1 / 46، وتبيين الحقائق 1 / 38، ومغني المحتاج 1 / 99 - 100، والشرح الصغير 1 / 151 - 152، وكشاف القناع 1 / 178 - 179.(14/263)
سُنَّةٌ فِي أَوَّل التَّيَمُّمِ كَالْوُضُوءِ بِأَنْ يَقُول: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم، وَيَكْتَفِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِبِسْمِ اللَّهِ، وَقِيل: الأَْفْضَل ذِكْرُهَا كَامِلَةً.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ فَضِيلَةٌ - وَهِيَ عِنْدَهُمْ أَقَل مِنَ السُّنَّةِ - أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَالتَّسْمِيَةُ وَاجِبَةٌ كَالتَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ.
ب - التَّرْتِيبُ:
29 - يُسَنُّ التَّرْتِيبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِأَنْ يَمْسَحَ الْوَجْهَ أَوَّلاً ثُمَّ الْيَدَيْنِ، فَإِنْ عَكَسَ صَحَّ تَيَمُّمُهُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يُعِيدَ مَسْحَ الْيَدَيْنِ إِنْ قَرُبَ الْمَسْحُ وَلَمْ يُصَل بِهِ، وَإِلاَّ بَطَل التَّيَمُّمُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ كَالْوُضُوءِ.
ج - الْمُوَالاَةُ:
30 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَالاَةَ سُنَّةٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى وُجُوبِ الْمُوَالاَةِ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ الْمُسْتَعْمَل مَاءً لاَ يَجِفُّ الْعُضْوُ السَّابِقُ قَبْل غَسْل الثَّانِي كَمَا فَعَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ الْمَنْقُولَةِ عَنْهُ حَيْثُ لَمْ يَقَعْ فِيهَا الْفَصْل بَيْنَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ (1) .
__________
(1) وردت أحاديث كثيرة في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم أشهرها حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه فعن حمران مولى عثمان أنه رأى عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار، فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ويديه إلى المرفقين ثلاث(14/263)
د - سُنَنٌ أُخْرَى:
31 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى سُنِّيَّةِ الضَّرْبِ بِبَاطِنِ الْكَفَّيْنِ وَإِقْبَال الْيَدَيْنِ بَعْدَ وَضْعِهِمَا فِي التُّرَابِ وَإِدْبَارِهِمَا مُبَالَغَةً فِي الاِسْتِيعَابِ، ثُمَّ نَفْضِهِمَا اتِّقَاءَ تَلْوِيثِ الْوَجْهِ، نُقِل ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَذَهَبُوا أَيْضًا إِلَى سُنِّيَّةِ تَفْرِيجِ الأَْصَابِعِ لِيَصِل التُّرَابُ إِلَى مَا بَيْنَهَا، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُنِّيَّةِ الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ لِيَدَيْهِ وَالْمَسْحِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَأَنْ لاَ يَمْسَحَ بِيَدَيْهِ شَيْئًا بَعْدَ ضَرْبِهِمَا بِالأَْرْضِ قَبْل مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، فَإِنْ فَعَل كُرِهَ وَأَجْزَأَهُ، وَهَذَا لاَ يَمْنَعُ مِنْ نَفْضِهِمَا نَفْضًا خَفِيفًا.
وَمِنَ الْفَضَائِل عِنْدَهُمْ فِي التَّيَمُّمِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ، وَالْبَدْءُ بِالْيُمْنَى، وَتَخْلِيل الأَْصَابِعِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُسَنُّ الْبُدَاءَةُ بِأَعْلَى الْوَجْهِ، وَتَقْدِيمُ الْيُمْنَى، وَتَفْرِيقُ الأَْصَابِعِ فِي الضَّرْبَةِ الأُْولَى، وَتَخْلِيل الأَْصَابِعِ بَعْدَ مَسْحِ الْيَدَيْنِ احْتِيَاطًا، وَتَخْفِيفُ الْغُبَارِ لِئَلاَّ تَتَشَوَّهَ بِهِ خِلْقَتُهُ.
وَيُسَنُّ عِنْدَهُمْ أَيْضًا الْمُوَالاَةُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالصَّلاَةِ خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهَا - وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ - وَيُسَنُّ أَيْضًا إِمْرَارُ الْيَدِ عَلَى الْعُضْوِ(14/264)
كَالدَّلْكِ فِي الْوُضُوءِ، وَعَدَمُ تَكْرَارِ الْمَسْحِ، وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ، وَالشَّهَادَتَانِ بَعْدَهُ كَالْوُضُوءِ فِيهِمَا.
وَيُسَنُّ نَزْعُ الْخَاتَمِ فِي الضَّرْبَةِ الأُْولَى بِاعْتِبَارِ الْيَدِ فِيهَا أَدَاةً لِلْمَسْحِ، وَفِي الثَّانِيَةِ هِيَ مَحَلٌّ لِلتَّطْهِيرِ، وَهُوَ رُكْنٌ فَيَجِبُ، وَيُسَنُّ السِّوَاكُ قَبْلَهُ، وَنَقْل التُّرَابِ إِلَى أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ. وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَخْلِيل الأَْصَابِعِ أَيْضًا (1) .
مَكْرُوهَاتُ التَّيَمُّمِ:
32 - يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْمَسْحِ بِالاِتِّفَاقِ، وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَثْرَةُ الْكَلاَمِ فِي غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِطَالَةُ الْمَسْحِ إِلَى مَا فَوْقَ الْمِرْفَقَيْنِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّحْجِيل.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ تَكْثِيرُ التُّرَابِ وَتَجْدِيدُ التَّيَمُّمِ وَلَوْ بَعْدَ فِعْل صَلاَةٍ، وَمَسْحُ التُّرَابِ عَنْ أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ، فَالأَْحَبُّ أَنْ لاَ يَفْعَلَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الصَّلاَةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُكْرَهُ الضَّرْبُ أَكْثَرُ مِنْ مَرَّتَيْنِ، وَنَفْخُ التُّرَابِ إِنْ كَانَ خَفِيفًا (2) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 213 ومراقي الفلاح ص20، والدسوقي 1 / 157 وما بعدها، والقوانين الفقهية ص38، ومغني المحتاج 1 / 99 - 100، وكشاف القناع 1 / 178، والمغني 1 / 254.
(2) المصادر السابقة.(14/264)
نَوَاقِضُ التَّيَمُّمِ:
33 - يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ مَا يَأْتِي:
أ - كُل مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَالْغُسْل؛ لأَِنَّهُ بَدَلٌ عَنْهُمَا، وَنَاقِضُ الأَْصْل نَاقِضٌ لِخَلَفِهِ، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَيْ (وُضُوءٌ وَغُسْلٌ) .
ب - رُؤْيَةُ الْمَاءِ أَوِ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَال الْمَاءِ الْكَافِي وَلَوْ مَرَّةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكْفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَذَلِكَ قَبْل الصَّلاَةِ لاَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ فَاضِلاً عَنْ حَاجَتِهِ الأَْصْلِيَّةِ؛ لأَِنَّ الْمَاءَ الْمَشْغُول بِالْحَاجَةِ كَالْمَعْدُومِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مُرُورَ نَائِمٍ أَوْ نَاعِسٍ مُتَيَمِّمٍ عَلَى مَاءٍ كَافٍ يُبْطِل تَيَمُّمَهُ كَالْمُسْتَيْقِظِ أَمَّا رُؤْيَةُ الْمَاءِ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّهَا تُبْطِل التَّيَمُّمَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِبُطْلاَنِ الطَّهَارَةِ بِزَوَال سَبَبِهَا؛ وَلأَِنَّ الأَْصْل إِيقَاعُ الصَّلاَةِ بِالْوُضُوءِ.
وَلاَ تُبْطِلُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلاَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ فِي مَحَلٍّ لاَ يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ؛ لِوُجُودِ الإِْذْنِ بِالدُّخُول فِي الصَّلاَةِ بِالتَّيَمُّمِ، وَالأَْصْل بَقَاؤُهُ؛ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (1) وَقَدْ كَانَ عَمَلُهُ سَلِيمًا قَبْل رُؤْيَةِ الْمَاءِ وَالأَْصْل بَقَاؤُهُ، وَقِيَاسًا عَلَى رُؤْيَةِ الْمَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلاَةِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِصَلاَةِ الْمُقِيمِ بِالتَّيَمُّمِ فَإِنَّهَا تَبْطُل
__________
(1) سورة محمد / 33(14/265)
عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ وَتَلْزَمُهُ الإِْعَادَةُ لِوُجُودِ الْمَاءِ، لَكِنْ لَيْسَ مُطْلَقًا، بَل قَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ فِي مَحَلٍّ يَغْلِبُ فِيهِ الْمَاءُ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُقِيمُ فِي مَحَلٍّ لاَ يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ فَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَحُكْمُهُ حِينَئِذٍ حُكْمُ الْمُسَافِرِ.
وَأَمَّا إِذَا رَأَى الْمَاءَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الصَّلاَةِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلاَةِ فَلاَ يُعِيدُهَا الْمُسَافِرُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ لَمْ يُعِدْهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُقِيمَ فِي مَحَلٍّ يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ إِذَا تَيَمَّمَ لِفَقْدِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ صَلاَتَهُ لِنُدُورِ الْفَقْدِ وَعَدَمِ دَوَامِهِ وَفِي قَوْلٍ: لاَ يَقْضِي وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ؛ لأَِنَّهُ أَتَى بِالْمَقْدُورِ، وَفِي قَوْلٍ: لاَ تَلْزَمُهُ الصَّلاَةُ فِي الْحَال بَل يَصْبِرُ حَتَّى يَجِدَهُ فِي الْوَقْتِ، بِخِلاَفِ الْمُسَافِرِ فَإِنَّهُ لاَ يُعِيدُ إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ كَمَا سَبَقَ.
ج - زَوَال الْعُذْرِ الْمُبِيحِ لَهُ، كَذَهَابِ الْعَدُوِّ وَالْمَرَضِ وَالْبَرْدِ؛ لأَِنَّ مَا جَازَ بِعُذْرٍ بَطَل بِزَوَالِهِ.
د - خُرُوجُ الْوَقْتِ: فَإِنَّهُ يُبْطِل التَّيَمُّمَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ أَمْ لاَ، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ تَبْطُل صَلاَتُهُ؛ لأَِنَّهَا طَهَارَةٌ انْتَهَتْ بِانْتِهَاءِ وَقْتِهَا، كَمَا لَوِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمَسْحِ وَهُوَ فِي الصَّلاَةِ.
هـ - الرِّدَّةُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - لاَ تُبْطِل التَّيَمُّمَ فَيُصَلِّي بِهِ(14/265)
إِذَا أَسْلَمَ؛ لأَِنَّ الْحَاصِل بِالتَّيَمُّمِ الطَّهَارَةُ، وَالْكُفْرُ لاَ يُنَافِيهَا كَالْوُضُوءِ؛ وَلأَِنَّ الرِّدَّةَ تُبْطِل ثَوَابَ الْعَمَل لاَ زَوَال الْحَدَثِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ تُبْطِل التَّيَمُّمَ لِضَعْفِهِ بِخِلاَفِ الْوُضُوءِ لِقُوَّتِهِ.
و الْفَصْل الطَّوِيل: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْفَصْل الطَّوِيل بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالصَّلاَةِ لاَ يُبْطِلُهُ، وَالْمُوَالاَةُ لَيْسَتْ وَاجِبَةً بَيْنَهُمَا. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَصْل الطَّوِيل بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالصَّلاَةِ يُبْطِلُهُ لاِشْتِرَاطِهِمِ الْمُوَالاَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُكْرَهُ لِلرَّجُل أَنْ يُصِيبَ زَوْجَتَهُ إِذَا كَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْت يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أَعْزُبُ عَنِ الْمَاءِ وَمَعِي أَهْلِي فَتُصِيبُنِي الْجَنَابَةُ فَأُصَلِّي بِغَيْرِ طَهُورٍ فَقَال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهِيَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى كَرَاهَةِ نَقْضِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل لِمَنْ هُوَ فَاقِدٌ الْمَاءَ إِلاَّ لِضَرَرٍ يُصِيبُ الْمُتَوَضِّئَ مِنْ حَقْنٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ لِضَرَرٍ يُصِيبُ تَارِكَ الْجِمَاعِ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ ضَرَرٌ فَلاَ كَرَاهَةَ حِينَئِذٍ (2) .
__________
(1) حديث: " الصعيد الطيب وضوء المسلم ". تقدم تخريجه ف / 22.
(2) ابن عابدين 1 / 169 وما بعدها، ومراقي الفلاح ص21، واللباب 1 / 37 وما بعدها، والبدائع 1 / 56، والشرح الكبير بحاشية الدسوقي 1 / 156 - 158، والشرح الصغير بحاشية الصاوي 1 / 158، ومغني المحتاج 1 / 101، وكفاية الأخيار 1 / 116 وما بعدها، والمهذب 1 / 36، والمغني 1 / 268 وما بعدها، وكشاف القناع 1 / 177 - 178، وغاية المنتهى 1 / 63 وما بعدها.(14/266)
تَيَمُّمُ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ وَمَرَضِهِ:
34 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْل بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى جَوَازِ تَيَمُّمِ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ أَوْ مَرَضِهِ؛ لأَِنَّهُ مِنْ أَهْل الرُّخْصَةِ كَغَيْرِهِ، وَالأَْدِلَّةُ عَامَّةٌ تَشْمَل الطَّائِعَ وَالْعَاصِيَ وَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا؛ وَلأَِنَّ الْعَاصِيَ قَدْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَخَرَجَ مِنْ عُهْدَتِهِ، وَإِنَّ الْقُبْحَ الْمُجَاوِرَ لاَ يُعْدِمُ الْمَشْرُوعِيَّةَ.
هَذَا عَلَى الْقَوْل بِأَنَّهُ رُخْصَةٌ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ التَّيَمُّمَ عَزِيمَةٌ فَحِينَئِذٍ لاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ إِلَى أَنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ، وَمَنْ سَافَرَ لِيُتْعِبَ نَفْسَهُ أَوْ دَابَّتَهُ عَبَثًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ وَيَقْضِيَ؛ لأَِنَّهُ مِنْ أَهْل الرُّخْصَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا إِلَى أَنَّ الْعَاصِيَ بِمَرَضِهِ لَيْسَ مِنْ أَهْل الرُّخْصَةِ، فَإِنْ عَصَى بِمَرَضِهِ لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ حَتَّى يَتُوبَ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 527، والبناية 2 / 778، وتبيين الحقائق 1 / 215 - 216، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص228 - 229، والدسوقي 1 / 148، والشرح الصغير 1 / 140، ومغني المحتاج 1 / 106، والمغني 1 / 234 - 235، وكشاف القناع 1 / 160 - 161، والأشباه والنظائر للسيوطي 138.(14/266)
التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنِ الْمَاءِ:
35 - ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ (1) إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَنُوبُ عَنِ الْوُضُوءِ مِنِ الْحَدَثِ الأَْصْغَرِ، وَعَن الْغُسْل مِنَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَيَصِحُّ بِهِ مَا يَصِحُّ بِهِمَا مِنْ صَلاَةِ فَرْضٍ أَوْ سُنَّةٍ وَطَوَافٍ وَقِرَاءَةٍ لِلْجُنُبِ وَمَسِّ مُصْحَفٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ مِنْ مُصْطَلَحَيْ (وُضُوءٌ وَغُسْلٌ) .
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (2) بِنَاءً عَلَى اخْتِلاَفِهِمْ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْ لاَمَسْتُمِ النِّسَاءَ} (3) فَمَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُلاَمَسَةَ هِيَ الْجِمَاعُ. قَال: إِنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْمُحْدِثِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَدَثُ أَصْغَر أَمْ أَكْبَر أَمَّا مَنْ ذَهَبَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُلاَمَسَةَ بِمَعْنَى اللَّمْسِ بِالْيَدِ قَال: إِنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَر فَقَطْ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ مَشْرُوعِيَّةُ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ ثَابِتَةً بِالسُّنَّةِ. كَحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَال: كُنَّا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ. فَقَال: مَا مَنَعَك أَنْ تُصَلِّيَ؟ قَال: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 152، 159، والبدائع 1 / 44 - 45، ونيل الأوطار 1 / 323، وبداية المجتهد 1 / 61، ومغني المحتاج 1 / 87، وكشاف القناع 1 / 160.
(2) سورة المائدة / 6.
(3) سورة المائدة / 6.(14/267)
وَلاَ مَاءَ. قَال: عَلَيْك بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيك (1) .
وَكَحَدِيثِ جَابِرٍ قَال: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلاً مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَل أَصْحَابَهُ، هَل تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَك رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَل فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَال: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلاَ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَال، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ، أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهِ، وَيَغْسِل سَائِرَ جَسَدِهِ (2) .
فَيَدُل هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ الْعُدُول عَنِ الْغُسْل إِلَى التَّيَمُّمِ إِذَا خَافَ الضَّرَرَ. وَمِثْل حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّهُ لَمَّا بُعِثَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلاَسِل قَال: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلاَةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَال: يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ
__________
(1) حديث: " عليك بالصعيد فإنه يكفيك ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 457 - ط السلفية) .
(2) حديث: " قتلوه قتلهم الله ". أخرجه أبو داود (1 / 240 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وقال ابن حجر: صححه ابن السكن (التلخيص الحبير 1 / 147 - ط شركة الطباعة الفنية) .(14/267)
وَأَنْتَ جُنُبٌ، فَقُلْت: ذَكَرْتُ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (1) فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ، فَضَحِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُل شَيْئًا (2) . فَيَدُل هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ (3) .
نَوْعُ بَدَلِيَّةِ التَّيَمُّمِ عَنِ الْمَاءِ:
36 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَوْعِ الْبَدَل هَل هُوَ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ أَوْ بَدَلٌ مُطْلَقٌ؟
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْحَدَثَ لاَ يَرْتَفِعُ بِالتَّيَمُّمِ، فَيُبَاحُ لِلْمُتَيَمِّمِ الصَّلاَةُ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ حَقِيقَةً لِلضَّرُورَةِ، كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَك فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَك (4) . وَلَوْ رَفَعَ التَّيَمُّمُ الْحَدَثَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْمَاءِ إِذَا وَجَدَهُ، وَإِذَا رَأَى الْمَاءَ عَادَ الْحَدَثُ، مِمَّا يَدُل عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يَرْتَفِعْ، وَأُبِيحَتْ لَهُ الصَّلاَةُ لِلضَّرُورَةِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ أَجَازُوا بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ صَلاَةَ مَا عَلَيْهِ مِنْ فَوَائِتَ فِي الْوَقْتِ إِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ خِلاَفًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
__________
(1) سورة النساء / 29.
(2) حديث: " يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب " تقدم تخريجه ف / 9.
(3) ابن عابدين 1 / 156، والزرقاني 1 / 115.
(4) حديث: " فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك ". تقدم تخريجه ف / 9.(14/268)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ، وَلَيْسَ بِبَدَلٍ ضَرُورِيٍّ، فَالْحَدَثُ يَرْتَفِعُ بِالتَّيَمُّمِ إِلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ فِي حَقِّ الصَّلاَةِ الْمُؤَدَّاةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إِلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ أَوْ يُحْدِثْ (1) .
أَطْلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوُضُوءَ عَلَى التَّيَمُّمِ وَسَمَّاهُ بِهِ. وَالْوُضُوءُ مُزِيلٌ لِلْحَدَثِ فَكَذَا التَّيَمُّمُ؛ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا (2) وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلْمُطَهِّرِ، وَالْحَدِيثُ يَدُل عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ يَزُول بِالتَّيَمُّمِ إِلَى حِينِ وُجُودِ الْمَاءِ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ عَادَ حُكْمُ الْحَدِيثِ (3) .
ثَمَرَةُ هَذَا الْخِلاَفِ:
37 - يَتَرَتَّبُ عَلَى خِلاَفِ الْفُقَهَاءِ فِي نَوْعِ بَدَلِيَّةِ التَّيَمُّمِ مَا يَلِي:
أ - وَقْتُ التَّيَمُّمِ:
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ التَّيَمُّمِ إِلاَّ بَعْدَ دُخُول وَقْتِ مَا يَتَيَمَّمُ لَهُ مِنْ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ.
__________
(1) حديث: " الصعيد الطيب وضوء المسلم ". تقدم تخريجه ف / 22.
(2) حديث: " جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ". تقدم تخريجه ف / 2.
(3) تبيين الحقائق 1 / 42، والبدائع 1 / 46 وما بعدها، والدسوقي 1 / 154، ومغني المحتاج 1 / 97، كشاف القناع 1 / 174، وابن عابدين 1 / 161.(14/268)
وَاسْتَدَلُّوا لِلْفَرْضِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ} (1) وَالْقِيَامُ إِلَى الصَّلاَةِ بَعْدَ دُخُول الْوَقْتِ لاَ قَبْلَهُ. كَمَا اسْتَدَلُّوا لِلنَّفْل بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جُعِلَتِ الأَْرْضُ كُلُّهَا لِي وَلأُِمَّتِي مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي الصَّلاَةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَعِنْدَهُ طَهُورُهُ (2) .
وَإِنَّمَا جَازَ قَبْل الْوَقْتِ لِكَوْنِهِ رَافِعًا لِلْحَدَثِ بِخِلاَفِ التَّيَمُّمِ، فَإِنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ قَبْل الْوَقْتِ.
أَمَّا صَلاَةُ الْجِنَازَةِ أَوِ النَّفْل الَّذِي لاَ وَقْتَ لَهُ، أَوِ الْفَوَائِتِ الَّتِي أَرَادَ قَضَاءَهَا، فَإِنَّهُ لاَ وَقْتَ لِهَذَا التَّيَمُّمِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي وَقْتٍ مَنْهِيٍّ عَنِ الصَّلاَةِ فِيهِ شَرْعًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ قَبْل الْوَقْتِ وَلأَِكْثَرَ مِنْ فَرْضٍ وَلِغَيْرِ الْفَرْضِ أَيْضًا لأَِنَّ التَّيَمُّمَ يَرْتَفِعُ بِهِ الْحَدَثُ إِلَى وُجُودِ الْمَاءِ، وَلَيْسَ بِمُبِيحٍ فَقَطْ، وَقَاسُوا ذَلِكَ عَلَى الْوُضُوءِ؛ وَلأَِنَّ التَّوْقِيتَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ، وَلاَ دَلِيل فِيهِ (3) .
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) حديث: " جعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدًا وطهورًا "، أخرجه أحمد (5 / 248 - ط الميمنية) وعزاه ابن حجر إلى كتاب الثقفيات (التلخيص 1 / 149 - ط شركة الطباعة الفنية) وصحح إسناده.
(3) البدائع 1 / 54، وتبيين الحقائق 1 / 42، وابن عابدين 1 / 161، والقوانين الفقهية ص37، ومغني المحتاج 1 / 105، وكشاف القناع 1 / 161.(14/269)
تَأْخِيرُ الصَّلاَةِ بِالتَّيَمُّمِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ:
38 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلاَةِ بِالتَّيَمُّمِ لآِخِرِ الْوَقْتِ أَفْضَل مِنْ تَقْدِيمِهِ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الْمَاءَ آخِرَ الْوَقْتِ، أَمَّا إِذَا يَئِسَ مِنْ وُجُودِهِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ تَقْدِيمُهُ أَوَّل الْوَقْتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ) .
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ أَفْضَلِيَّةَ التَّأْخِيرِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ أَنْ لاَ يَخْرُجَ وَقْتُ الْفَضِيلَةِ لاَ مُطْلَقًا، حَتَّى لاَ يَقَعَ الْمُصَلِّي فِي كَرَاهَةِ الصَّلاَةِ بَعْدَ وَقْتِ الْفَضِيلَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي صَلاَةِ الْمَغْرِبِ هَل يُؤَخَّرُ أَمْ لاَ؟ ذَهَبَ إِلَى كُلٍّ فَرِيقٌ مِنَ الحَنَفِيَّةِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالُوا: اسْتِحْبَابُ التَّأْخِيرِ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ ظَنًّا أَوْ يَقِينًا، أَمَّا إِذَا كَانَ مُتَرَدِّدًا أَوْ رَاجِيًا لَهُ فَيَتَوَسَّطُ فِي فِعْل الصَّلاَةِ.
وَالْقَوْل بِاسْتِحْبَابِ التَّأْخِيرِ هُوَ قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ؛ لأَِنَّ مُرِيدَ الصَّلاَةِ حِينَ حَلَّتِ الصَّلاَةُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ لَهَا غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ فَدَخَل فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (1) .
فَكَانَ مُقْتَضَى الأَْمْرِ وُجُوبَ التَّيَمُّمِ أَوَّل الْوَقْتِ لَكِنَّهُ أَخَّرَ نَظَرًا لِرَجَائِهِ، فَجَعَل لَهُ حَالَةً وُسْطَى وَهِيَ الاِسْتِحْبَابُ.
__________
(1) سورة المائدة / 6.(14/269)
وَذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ فِي أَوَّل الْوَقْتِ إِنَّمَا هُوَ لِحَوْزِ فَضِيلَتِهِ، وَإِذَا كَانَ مُوقِنًا بِوُجُودِ الْمَاءِ فِي الْوَقْتِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ لِيُصَلِّيَ بِالطَّهَارَةِ الْكَامِلَةِ، فَإِنْ خَالَفَ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى كَانَتْ صَلاَتُهُ بَاطِلَةً وَيُعِيدُهَا أَبَدًا.
وَالشَّافِعِيَّةُ خَصُّوا أَفْضَلِيَّتَهُ تَأْخِيرَ الصَّلاَةِ بِالتَّيَمُّمِ بِحَالَةِ تَيَقُّنِ وُجُودِ الْمَاءِ آخِرَ الْوَقْتِ - مَعَ جَوَازِهِ فِي أَثْنَائِهِ - لأَِنَّ الْوُضُوءَ هُوَ الأَْصْل وَالأَْكْمَل، فَإِنَّ الصَّلاَةَ بِهِ - وَلَوْ آخِرَ الْوَقْتِ - أَفْضَل مِنْهَا بِالتَّيَمُّمِ أَوَّلَهُ.
أَمَّا إِذَا ظَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ فِي آخِرِهِ، فَتَعْجِيل الصَّلاَةِ بِالتَّيَمُّمِ أَفْضَل فِي الأَْظْهَرِ؛ لأَِنَّ فَضِيلَةَ التَّقْدِيمِ مُحَقَّقَةٌ بِخِلاَفِ فَضِيلَةِ الْوُضُوءِ. وَالْقَوْل الثَّانِي: التَّأْخِيرُ أَفْضَل.
أَمَّا إِذَا شَكَّ فَالْمَذْهَبُ تَعْجِيل الصَّلاَةِ بِالتَّيَمُّمِ. وَمَحَل الْخِلاَفِ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى صَلاَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ صَلَّى أَوَّل الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ وَبِالْوُضُوءِ فِي أَثْنَائِهِ فَهُوَ النِّهَايَةُ فِي إِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلاَةِ بِالتَّيَمُّمِ أَوْلَى بِكُل حَالٍ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِقَوْل عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْجُنُبِ: يَتَلَوَّمُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخِرِ الْوَقْتِ، فَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ وَإِلاَّ تَيَمَّمَ وَلأَِنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّأْخِيرُ لِلصَّلاَةِ إِلَى مَا بَعْدَ(14/270)
الْعِشَاءِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ كَيْ لاَ يَذْهَبَ خُشُوعُهَا، وَحُضُورُ الْقَلْبِ فِيهَا، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا لإِِدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ، فَتَأْخِيرُهَا لإِِدْرَاكِ الطَّهَارَةِ الْمُشْتَرَطَةِ أَوْلَى (1) .
مَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ:
39 - لَمَّا كَانَ التَّيَمُّمُ بَدَلاً عَنِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْل يَصِحُّ بِهِ مَا يَصِحُّ بِهِمَا كَمَا سَبَقَ، لَكِنْ عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَصِحُّ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ يُصَلِّي بِتَيَمُّمِهِ مَا شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِل؛ لأَِنَّهُ طَهُورٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ كَمَا سَبَقَ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ (2) وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْوُضُوءِ، وَعَلَى مَسْحِ الْخُفِّ؛ وَلأَِنَّ الْحَدَثَ الْوَاحِدَ لاَ يَجِبُ لَهُ طُهْرَانِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُصَلِّي بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ فَرْضَيْنِ، فَلاَ يَجُوزُ لِلْمُتَيَمِّمِ أَنْ يُصَلِّيَ أَكْثَر مِنْ فَرْضٍ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ نَوَافِل، وَبَيْنَ فَرِيضَةٍ وَنَافِلَةٍ إِنْ قَدَّمَ الْفَرِيضَةَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيَتَنَفَّل مَا شَاءَ قَبْل الْمَكْتُوبَةِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 166، والدسوقي 1 / 157، وحاشية العدوي على شرح ابن الحسن 1 / 199، والفواكه الدواني 1 / 180، ومغني المحتاج 1 / 89، والمغني 1 / 243.
(2) حديث: " الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ". تقدم تخريجه ف / 22.(14/270)
وَبَعْدَهَا لأَِنَّهَا غَيْرُ مَحْصُورَةٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لاَ يُصَلِّيَ الرَّجُل بِالتَّيَمُّمِ إِلاَّ صَلاَةً وَاحِدَةً ثُمَّ يَتَيَمَّمَ لِلصَّلاَةِ الأُْخْرَى (1) .
وَهَذَا مُقْتَضَى سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلأَِنَّهُ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، فَلاَ يُصَلِّي بِهَا فَرِيضَتَيْنِ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ لِكُل فَرْضٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ} (2) وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْهُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ، فَبَقِيَ التَّيَمُّمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ؛ وَلِقَوْل ابْنِ عُمَرَ يَتَيَمَّمُ لِكُل صَلاَةٍ وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَيَمَّمَ صَلَّى الصَّلاَةَ الَّتِي حَضَرَ وَقْتُهَا، وَصَلَّى بِهِ فَوَائِتُ وَيَجْمَعُ بَيْنَ صَلاَتَيْنِ، وَيَتَطَوَّعُ بِمَا شَاءَ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ، فَإِذَا دَخَل وَقْتُ صَلاَةٍ أُخْرَى بَطَل تَيَمُّمُهُ وَتَيَمَّمَ، وَاسْتَدَل الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ كَوُضُوءِ الْمُسْتَحَاضَةِ يَبْطُل بِدُخُول الْوَقْتِ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ. صَلاَةُ الْجِنَازَةِ مَعَ الْفَرْضِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ؛ لأَِنَّ صَلاَةَ الْجِنَازَةِ لَمَّا كَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ سَلَكَ بِهَا مَسْلَكَ النَّفْل فِي جَوَازِ التَّرْكِ فِي الْجُمْلَةِ.
__________
(1) الأثر عن ابن عباس: من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة ثم يتيمم للصلاة الأخرى. أخرجه الدارقطني (1 / 185 - ط دار المحاسن) ثم قال: الحسن بن عمارة - يعني الذي في إسناده - ضعيف ".
(2) سورة المائدة / 6.(14/271)
وَيَجُوزُ بِالتَّيَمُّمِ أَيْضًا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ إِنْ كَانَ جُنُبًا وَمَسُّ الْمُصْحَفِ، وَدُخُول الْمَسْجِدِ لِلْجُنُبِ، أَمَّا الْمُرُورُ فَيَجُوزُ بِلاَ تَيَمُّمٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُجَدِّدُ التَّيَمُّمَ لِلنَّذْرِ لأَِنَّهُ كَالْفَرْضِ فِي الأَْظْهَرِ، وَلاَ يَجْمَعُهُ فِي فَرْضٍ آخَرَ (1) .
وَيَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِمَنْ نَسِيَ صَلاَةً مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَنْ يُصَلِّيَهَا جَمِيعًا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا نَسِيَ صَلاَةً وَلَمْ يَعْلَمْ عَيْنَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الْخَمْسَ لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ بِيَقِينٍ - وَإِنَّمَا جَازَ تَيَمُّمٌ وَاحِدٌ لَهُنَّ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِنَّ وَاحِدَةٌ وَالْبَاقِيَ وَسِيلَةٌ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَتَيَمَّمُ خَمْسًا لِكُل صَلاَةٍ تَيَمُّمٌ خَاصٌّ بِهَا، وَلاَ يَجْمَعُ بَيْنَ فَرْضَيْنِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ (2) .
مَا يَصِحُّ فِعْلُهُ بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ:
40 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ فِعْل عِبَادَةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى الطَّهَارَةِ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ إِلاَّ لِمَرِيضٍ، أَوْ مُسَافِرٍ وَجَدَ الْمَاءَ لَكِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، أَوْ عِنْدَ خَوْفِ الْبَرْدِ كَمَا سَيَأْتِي.
__________
(1) فتح القدير 1 / 95، والشرح الكبير للدسوقي 1 / 151، ومغني المحتاج 1 / 103 - 105، والمغني 1 / 262 وما بعدها وابن عابدين 1 / 162 - 163، وكشاف القناع 1 / 161.
(2) مغني المحتاج 1 / 104، والدسوقي على الشرح الكبير 1 / 161 - 162.(14/271)
وَعَلَى هَذَا فَمَنْ فَعَل شَيْئًا مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الطَّهَارَةِ بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ فِي غَيْرِ الأَْحْوَال الْمَذْكُورَةِ بَطَلَتْ عِبَادَتُهُ وَلَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ - فِي الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ - إِلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِخَوْفِ فَوْتِ صَلاَةِ جِنَازَةٍ - أَيْ: فَوْتِ جَمِيعِ تَكْبِيرَاتِهَا - أَمَّا إِذَا كَانَ يَرْجُو أَنْ يُدْرِكَ بَعْضَ تَكْبِيرَاتِهَا فَلاَ يَتَيَمَّمُ لأَِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الْبَاقِي وَحْدَهُ، سَوَاءٌ كَانَ بِلاَ وُضُوءٍ، أَوْ كَانَ جُنُبًا، أَوْ حَائِضًا، أَوْ نُفَسَاءَ إِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا عَلَى الْعَادَةِ. لَكِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي الْحَائِضِ أَنْ يَكُونَ انْقِطَاعُ دَمِهَا لأَِكْثَرِ الْحَيْضِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الاِنْقِطَاعُ لِتَمَامِ الْعَادَةِ فَلاَ بُدَّ أَنْ تَصِيرَ الصَّلاَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا، أَوْ تَغْتَسِل، أَوْ يَكُونَ تَيَمُّمُهَا كَامِلاً بِأَنْ يَكُونَ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ.
وَلَوْ جِيءَ بِجِنَازَةٍ أُخْرَى إِنْ أَمْكَنَهُ التَّوَضُّؤُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ زَال تَمَكُّنُهُ أَعَادَ التَّيَمُّمَ وَإِلاَّ لاَ يُعِيدُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعِيدُ عَلَى كُل حَالٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وَلِيِّ الْمَيِّتِ، هَل يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لأَِنَّ لَهُ حَقَّ التَّقَدُّمِ، أَوْ يَنْتَظِرُ لأَِنَّ لَهُ حَقَّ الإِْعَادَةِ وَلَوْ صَلَّوْا؟ فِيهِ خِلاَفٌ فِي النَّقْل عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ أَيْضًا لِخَوْفِ فَوْتِ صَلاَةِ الْعِيدِ بِفَرَاغِ إِمَامٍ، أَوْ زَوَال شَمْسٍ وَلَوْ بِنَاءً عَلَى صَلاَتِهِ بَعْدَ شُرُوعِهِ مُتَوَضِّئًا وَسَبَقَ حَدَثُهُ فَيَتَيَمَّمُ لإِِكْمَال صَلاَتِهِ، بِلاَ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِهِ إِمَامًا أَوْ(14/272)
مَأْمُومًا فِي الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ الْمَنَاطَ خَوْفُ الْفَوْتِ لاَ إِلَى بَدَلٍ.
وَكَذَا كُل صَلاَةٍ غَيْرِ مَفْرُوضَةٍ خَافَ فَوْتَهَا كَكُسُوفٍ وَخُسُوفٍ، وَسُنَنِ رَوَاتِبَ وَلَوْ سُنَّةَ فَجْرٍ خَافَ فَوْتَهَا وَحْدَهَا؛ لأَِنَّهَا تَفُوتُ لاَ إِلَى بَدَلٍ، وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، أَمَّا عَلَى قِيَاسِ مُحَمَّدٍ فَلاَ يَتَيَمَّمُ لَهَا؛ لأَِنَّهَا إِذَا فَاتَتْهُ لاِشْتِغَالِهِ بِالْفَرِيضَةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ يَقْضِيهَا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لاَ يَقْضِيهَا، وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ لِكُل مَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الطَّهَارَةُ، وَلاَ تُشْتَرَطُ كَنَوْمٍ وَسَلاَمٍ وَرَدِّ سَلاَمٍ؛ وَلِدُخُول مَسْجِدٍ وَالنَّوْمِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَجُزْ بِهِ الصَّلاَةُ.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ التَّيَمُّمَ لِمَا لاَ تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَصْلاً مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مِمَّا يَخَافُ فَوْتَهُ لاَ إِلَى بَدَلٍ، فَلَوْ تَيَمَّمَ الْمُحْدِثُ لِلنَّوْمِ، أَوْ لِدُخُول الْمَسْجِدِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمَاءِ فَهُوَ لَغْوٌ، بِخِلاَفِ تَيَمُّمِهِ لِرَدِّ السَّلاَمِ مَثَلاً لأَِنَّهُ يَخَافُ فَوْتَهُ لأَِنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ؛ وَلِذَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) . قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيل عَلَيْهِ.
وَلَمْ نَجِدْ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ذِكْرًا عِنْدَ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ.
__________
(1) حديث: " تيمم النبي صلى الله عليه وسلم لرد السلام ". أخرجه أبو داود (1 / 234 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وضعفه ابن حجر في التلخيص (1 / 151 - ط شركة الطباعة الفنية) .(14/272)
وَلاَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لِخَوْفِ فَوْتِ جُمُعَةٍ وَوَقْتٍ، وَلَوْ وِتْرًا؛ لِفَوَاتِهَا إِلَى بَدَلٍ.
وَقَال زُفَرُ: يَتَيَمَّمُ لِفَوَاتِ الْوَقْتِ. قَال الْحَلَبِيُّ: فَالأَْحْوَطُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ ثُمَّ يُعِيدَ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا - قَوْل الْحَلَبِيِّ - قَوْلٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَفِيهِ الْخُرُوجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ مَنْقُولاً فِي التتارخانية عَنْ أَبِي نَصْرِ بْنِ سَلاَّمٍ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الأَْئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، فَيَنْبَغِي الْعَمَل بِهِ احْتِيَاطًا، وَلاَ سِيَّمَا وَكَلاَمُ ابْنِ الْهُمَامِ يَمِيل إِلَى تَرْجِيحِ قَوْل زُفَرَ (1) .
حُكْمُ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ:
41 - فَاقِدُ الطَّهُورَيْنِ هُوَ الَّذِي لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلاَ صَعِيدًا يَتَيَمَّمُ بِهِ، كَأَنْ حُبِسَ فِي مَكَان لَيْسَ فِيهِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، أَوْ فِي مَوْضِعٍ نَجَسٍ لَيْسَ فِيهِ مَا يَتَيَمَّمُ بِهِ، وَكَانَ مُحْتَاجًا لِلْمَاءِ الَّذِي مَعَهُ لِعَطَشٍ، وَكَالْمَصْلُوبِ وَرَاكِبِ سَفِينَةٍ لاَ يَصِل إِلَى الْمَاءِ، وَكَمَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ الْوُضُوءَ وَلاَ التَّيَمُّمَ لِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ صَلاَةَ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ وَاجِبَةٌ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ وَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ مَعَ وُجُوبِ إِعَادَتِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلاَ تَجِبُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 161 - 164.(14/273)
إِعَادَتُهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ الصَّلاَةَ عَنْهُ سَاقِطَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَدَاءً وَقَضَاءً (1) . وَفِي مَسْأَلَةِ صَلاَةِ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ تَفْصِيلاَتٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ: (صَلاَةٌ) .
التَّيَمُّمُ لِلْجَبِيرَةِ وَالْجُرْحِ وَغَيْرِهِمَا:
42 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي جَسَدِهِ كُسُورٌ أَوْ جُرُوحٌ أَوْ قُرُوحٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا أَوْ شَيْئًا وَجَبَ غَسْلُهَا فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل، فَإِنْ خَافَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجُرْحِ وَنَحْوِهِ، وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ وَذَلِكَ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ يُذْكَرُ تَفْصِيلُهَا وَالْخِلاَفُ فِيهَا فِي مُصْطَلَحِ: (جَبِيرَةٌ) .
تَيَمُّنٌ
اُنْظُرْ: تَفَاؤُلٌ.
__________
(1) ابن عابدين 1 / 168، والشرح الصغير حاشية الصاوي 1 / 157 - 158، ومغني المحتاج 1 / 105 - 106 وكشاف القناع 1 / 171.(14/273)
ثَأْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الثَّأْرُ: الدَّمُ، أَوْ الطَّلَبُ بِالدَّمِ، يُقَال: ثَأَرْتُ الْقَتِيل وَثَأَرْتُ بِهِ فَأَنَا ثَائِرٌ، أَيْ قَتَلْتُ قَاتِلَهُ (1)
وَالثَّأْرُ: الذَّحْل، يُقَال: طَلَبَ بِذَحْلِهِ، أَيْ بِثَأْرِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: إِنَّ مِنْ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاَثَةٌ: رَجُلٌ قَتَل غَيْرَ قَاتِلِهِ، وَرَجُلٌ قَتَل فِي الْحَرَمِ، وَرَجُلٌ أَخَذَ بِذُحُول الْجَاهِلِيَّةِ (2)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الثَّانِي وَهُوَ طَلَبُ الدَّمِ.
__________
(1) لسان العرب والنهاية لابن الأثير والمفردات للأصفهاني والمعجم الوسيط، ومعجم مقاييس اللغة
(2) القرطبي 2 / 225 - 226 ط أولى دار الكتب سنة 1353 هـ. وحديث: " إن من أعتى الناس. . . " أخرجه أحمد في المسند (4 / 32 - ط الميمنية) من حديث أبي شريح قال الهيثمي: " رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح " (مجمع الزوائد 7 / 174 - ط دار الكتاب العربي)(15/5)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقِصَاصُ:
2 - الْقِصَاصُ: الْقَوَدُ، وَهُوَ الْقَتْل بِالْقَتْل، أَوْ الْجَرْحُ بِالْجَرْحِ. (1)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الثَّأْرِ وَالْقِصَاصِ أَنَّ الْقِصَاصَ يَدُل عَلَى الْمُسَاوَاةِ فِي الْقَتْل أَوْ الْجَرْحِ، أَمَّا الثَّأْرُ فَلاَ يَدُل عَلَى ذَلِكَ بَل رُبَّمَا دَل عَلَى الْمُغَالاَةِ لِمَا فِي مَعْنَاهُ مِنِ انْتِشَارِ الْغَضَبِ، وَطَلَبِ الدَّمِ وَإِسَالَتِهِ.
الثَّأْرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ:
3 - تَزْخَرُ كُتُبُ التَّارِيخِ وَالتَّفْسِيرِ وَالسُّنَنِ بِذِكْرِ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الثَّأْرِ، وَكُلُّهَا تُؤَكِّدُ أَنَّ عَادَةَ الثَّأْرِ كَانَتْ مُتَأَصِّلَةً عِنْدَ الْعَرَبِ قَبْل الإِْسْلاَمِ، وَأَنَّ الثَّأْرَ كَانَ شَائِعًا ذَائِعًا حَيْثُ كَانَ نِظَامُ الْقَبِيلَةِ يَقُومُ مَقَامَ الدَّوْلَةِ، وَكُل قَبِيلَةٍ تُفَاخِرُ بِنَسَبِهَا وَحَسَبِهَا وَقُوَّتِهَا، وَتَعْتَبِرُ نَفْسَهَا أَفْضَل مِنْ غَيْرِهَا، وَكَانَتِ الْعَلاَقَةُ بَيْنَ الْقَبَائِل خَاضِعَةً لِحُكْمِ الْقُوَّةِ، فَالْقُوَّةُ هِيَ الْقَانُونُ، وَالْحَقُّ لِلْقَوِيِّ وَلَوْ كَانَ مُعْتَدِيًا، وَالاِعْتِدَاءُ عَلَى أَحَدِ أَفْرَادِ الْقَبِيلَةِ يُعْتَبَرُ اعْتِدَاءً عَلَى الْقَبِيلَةِ بِأَجْمَعِهَا، يَتَضَامَنُ أَفْرَادُهَا فِي الاِنْتِقَامِ وَيُسْرِفُونَ فِي الثَّأْرِ، فَلاَ تَكْتَفِي قَبِيلَةُ الْمَقْتُول بِقَتْل الْجَانِي، لأَِنَّهَا تَرَاهُ غَيْرَ كُفْءٍ لِمَنْ فَقَدُوهُ. وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي نُشُوبِ
__________
(1) لسان العرب، ومعجم مقاييس اللغة، ومختار الصحاح والنهاية لابن الأثير، والقرطبي 2 / 225(15/5)
الْحُرُوبِ الْمُدَمِّرَةِ الَّتِي اسْتَغْرَقَتِ الأَْعْوَامَ الطِّوَال.
4 - وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ رُوحَ الْقَتِيل الَّذِي لَمْ يُؤْخَذْ بِثَأْرِهِ تَصِيرُ هَامَةً فَتَرْقُو عِنْدَ قَبْرِهِ: وَتَقُول: اسْقُونِي، اسْقُونِي مِنْ دَمِ قَاتِلِي، فَإِذَا أُخِذَ بِثَأْرِهِ طَارَتْ.
وَهَذَا أَحَدُ تَأْوِيلَيْنِ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ صَفَرَ وَلاَ هَامَةَ (1) كَمَا يَقُول الدَّمِيرِيُّ فِي كِتَابِهِ (حَيَاةُ الْحَيَوَانِ)
وَكَانَ الْعَرَبُ مِنْ حِرْصِهِمْ عَلَى الثَّأْرِ وَإِسْرَافِهِمْ فِيهِ، وَخَوْفِهِمْ مِنَ الْعَارِ إذَا تَرَكُوهُ يُحَرِّمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ النِّسَاءَ، وَالطِّيبَ، وَالْخَمْرَ حَتَّى يَنَالُوا ثَأْرَهُمْ، وَلاَ يُغَيِّرُونَ ثِيَابَهُمْ وَلاَ يَغْسِلُونَ رُءُوسَهُمْ، وَلاَ يَأْكُلُونَ لَحْمًا حَتَّى يَشْفُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا الثَّأْرِ. (2)
5 - وَظَل الْعَرَبُ مُتَأَثِّرِينَ بِهَذِهِ الْعَادَةِ حَتَّى بَعْدَ ظُهُورِ الإِْسْلاَمِ، يَرْوِي الشَّافِعِيُّ وَالطَّبَرِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَال: كَانَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ
__________
(1) حديث: " لا صفر ولا هامة " جزء من حديث أخرجه البخاري (فتح الباري 10 / 215 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1743 - ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة
(2) ينظر في هذا: الكامل لابن الأثير 1 / 336 وما بعدها، والأم 6 / 8، والألوسي 5 / 69، والقرطبي 2 / 225 - 226، والطبري 2 / 60 وما بعدها، 15 / 58 وما بعدها، وأحكام القرآن للشافعي / 267 وما بعدها، وأحكام القرآن لابن العربي 1 / 61، وأحكام القرآن للجصاص 1 / 155 وما بعدها، والسياسة الشرعية لابن تيمية / 156(15/6)
الأَْنْصَارِ قِتَالٌ كَانَ لأَِحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ الطَّوْل فَكَأَنَّهُمْ طَلَبُوا الْفَضْل، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) كَمَا نَزَل عَلَيْهِ مِنْ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالثَّأْرِ:
6 - أ - حَرَّمَ الإِْسْلاَمُ قَتْل النَّفْسِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ حَقٍّ لِحُرْمَةِ النَّفْسِ الإِْنْسَانِيَّةِ، فَقَال تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} (3) وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَقَّ الَّذِي يُقْتَل بِهِ الْمُسْلِمُ (4) فَقَال: لاَ يَحِل دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمُفَارِقُ لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ (5) .
7 - ب - أَبَاحَ الإِْسْلاَمُ الأَْخْذَ بِالثَّأْرِ عَلَى سَبِيل الْقِصَاصِ بِشُرُوطِهِ الْمُفَصَّلَةِ فِي مُصْطَلَحِ:
__________
(1)) حديث: " إصلاح النبي صلى الله عليه وسلم بين حيين من الأنصار. . . " أخرجه الطبري (2 / 61 - ط دار المعرفة) من طريق السدي عن أبي مالك مرسلا. والسدي متكلم فيه (التقريب ص 108 - ط دار الرشيد)
(2) سورة البقرة / 178. وانظر الطبري 2 / 61، وأحكام القرآن للشافعي / 271.
(3) سورة الأنعام / 151
(4) السياسة الشرعية لابن تيمية / 153 - 154، وفتح الباري 12 / 201، والألوسي 15 / 69
(5)) حديث: " لا يحل دم امرئ مسلم. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 201 - ط السلفية) . ومسلم (3 / 1302 - ط عيسى الحلبي) من حديث عبد الله بن مسعود(15/6)
(قِصَاصٌ وَجِنَايَةٌ عَلَى النَّفْسِ وَجِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ) .
قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قُتِل لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُودَى وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ (1) وَقَال أَبُو عُبَيْدٍ: إِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْل الْقَتِيل، قَال ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ يُؤْخَذُ لَهُمْ بِثَأْرِهِمْ (2) .
هَذَا وَإِنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ إِذْنِ الإِْمَامِ، فَإِنِ اسْتَوْفَاهُ صَاحِبُ الْحَقِّ بِدُونِ إِذْنِهِ وَقَعَ مَوْقِعَهُ، وَعُزِّرَ لاِفْتِيَاتِهِ عَلَى الإِْمَامِ.
وَصَرَّحَ الزُّرْقَانِيُّ بِأَنَّ التَّعْزِيرَ يَسْقُطُ إِذَا عَلِمَ وَلِيُّ الْمَقْتُول أَنَّ الإِْمَامَ لاَ يَقْتُل الْقَاتِل، فَلاَ أَدَبَ عَلَيْهِ فِي قَتْلِهِ وَلَوْ غِيلَةً، وَلَكِنْ يُرَاعِي فِيهِ أَمْنَ الْفِتْنَةِ وَالرَّذِيلَةِ. (3)
8 - ج - إِبَاحَةُ الإِْسْلاَمِ لِلثَّأْرِ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ التَّعَدِّي عَلَى غَيْرِ الْقَاتِل، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الإِْسْلاَمُ مَا كَانَ شَائِعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ قَتْل غَيْرِ الْقَاتِل، وَمِنَ الإِْسْرَافِ فِي الْقَتْل، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِل مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْل} (4) ، قَال الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ فَلاَ يُسْرِفِ
__________
(1) حديث: " من قتل له قتيل. . . " أخرجه النسائي (8 / 38 - ط دار البشائر) . وابن ماجه (2 / 876 - ط عيسى الحلبي) من حديث أبي هريرة
(2) فتح الباري 12 / 205 - 208
(3) شرح الزرقاني 8 / 4
(4) سورة الإسراء / 33(15/7)
الْوَلِيُّ فِي قَتْل الْقَاتِل بِأَنْ يُمَثِّل بِهِ، أَوْ يَقْتَصَّ مِنْ غَيْرِ الْقَاتِل، وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاَثَةٌ: رَجُلٌ قَتَل غَيْرَ قَاتِلِهِ (1) ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلاَثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإِْسْلاَمِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ (2) ، قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَمُبْتَغٍ فِي الإِْسْلاَمِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ أَيْ يَكُونُ لَهُ الْحَقُّ عِنْدَ شَخْصٍ فَيَطْلُبُهُ مِنْ غَيْرِهِ. (3)
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْقِصَاصِ وَتَحْرِيمِ الثَّأْرِ عَلَى طَرِيقَةِ الْجَاهِلِيَّةِ:
9 - أ - الْقِصَاصُ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى الْجَانِي فَلاَ يُؤْخَذُ غَيْرُهُ بِجَرِيرَتِهِ، فِي حِينِ أَنَّ الثَّأْرَ لاَ يُبَالِي وَلِيُّ الدَّمِ فِي الاِنْتِقَامِ مِنَ الْجَانِي أَوْ أُسْرَتِهِ أَوْ قَبِيلَتِهِ
وَبِذَلِكَ يَتَعَرَّضُ الأَْبْرِيَاءُ لِلْقَتْل دُونَ ذَنْبٍ جَنَوْهُ.
__________
(1) حديث: " إن من أعتى الناس على الله عز وجل. . . " سبق تخريجه ف / 1
(2) حديث: " أبغض الناس إلى الله ثلاثة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 210 - ط السلفية) من حديث ابن عباس
(3) الألوسي 15 / 69، والطبري 15 / 59 - 60، ومختصر تفسير ابن كثير 2 / 376، وفتح الباري 12 / 210 - 211، وأحكام القرآن للشافعي / 272، والسياسة الشرعية لابن تيمية / 155(15/7)
ب - الْقِصَاصُ يَرْدَعُ الْقَاتِل عَنِ الْقَتْل لأَِنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ كَفَّ عَنِ الْقَتْل بَيْنَمَا الثَّأْرُ يُؤَدِّي إِلَى الْفِتَنِ وَالْعَدَاوَاتِ.
يَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُول تَغْلِي قُلُوبُهُمْ بِالْغَيْظِ حَتَّى يُؤْثِرُوا أَنْ يَقْتُلُوا الْقَاتِل وَأَوْلِيَاءَهُ، وَرُبَّمَا لَمْ يَرْضَوْا بِقَتْل الْقَاتِل، بَل يَقْتُلُونَ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ الْقَاتِل كَسَيِّدِ الْقَبِيلَةِ وَمُقَدَّمِ الطَّائِفَةِ، فَيَكُونُ الْقَاتِل قَدِ اعْتَدَى فِي الاِبْتِدَاءِ، وَتَعَدَّى هَؤُلاَءِ فِي الاِسْتِيفَاءِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ الْخَارِجُونَ عَنِ الشَّرِيعَةِ فِي هَذِهِ الأَْوْقَاتِ مِنَ الأَْعْرَابِ، وَالْحَاضِرَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ يَسْتَعْظِمُونَ قَتْل الْقَاتِل لِكَوْنِهِ عَظِيمًا أَشْرَفَ مِنَ الْمَقْتُول، فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُول يَقْتُلُونَ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَاتِل، وَرُبَّمَا حَالَفَ هَؤُلاَءِ قَوْمًا وَاسْتَعَانُوا بِهِمْ وَهَؤُلاَءِ قَوْمًا فَيُفْضِي إِلَى الْفِتَنِ وَالْعَدَاوَاتِ الْعَظِيمَةِ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ خُرُوجُهُمْ عَنْ سَنَنِ الْعَدْل الَّذِي هُوَ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى، فَكَتَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْقِصَاصَ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ، وَالْمُعَادَلَةُ فِي الْقَتْلَى، وَأَخْبَرَ أَنَّ فِيهِ حَيَاةً فَإِنَّهُ يَحْقِنُ دَمَ غَيْرِ الْقَاتِل مِنْ أَوْلِيَاءِ الرَّجُلَيْنِ، وَأَيْضًا فَإِذَا عَلِمَ مَنْ يُرِيدُ الْقَتْل أَنَّهُ يُقْتَل كَفَّ عَنِ الْقَتْل. (1) قَال
__________
(1) السياسة الشرعية لابن تيمية / 156 - 157(15/8)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، أَلاَ لاَ يُقْتَل مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلاَ ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ (1) .
__________
(1) حديث: " المؤمنون تتكافأ. . . ". أخرجه أبو داود (4 / 666 - 668 ط عزت عبيد الدعاس) . والنسائي (8 / 24 - ط دار البشائر) . من حديث علي بن أبي طالب وصححه أحمد شاكر (المسند 2 / 212 - ط دار المعارف)(15/8)
ثُبُوتٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الثُّبُوتُ مَصْدَرُ ثَبَتَ الشَّيْءُ يَثْبُتُ ثَبَاتًا وَثُبُوتًا إِذَا دَامَ وَاسْتَقَرَّ فَهُوَ ثَابِتٌ.
وَثَبَتَ الأَْمْرُ صَحَّ، وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزِ وَالتَّضْعِيفِ، فَيُقَال: أَثْبَتَهُ وَثَبَّتَهُ، وَرَجُلٌ ثَبْتٌ أَيْ: مُتَثَبِّتٌ فِي أُمُورِهِ، وَرَجُلٌ ثَبَتٌ إِذَا كَانَ عَدْلاً ضَابِطًا، وَالْجَمْعُ أَثْبَاتٌ.
وَيُقَال: ثَبَتَ فُلاَنٌ فِي الْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ. (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُهُ اصْطِلاَحًا عَنِ الدَّوَامِ وَالاِسْتِقْرَارِ وَالضَّبْطِ. وَمِنْهُ ثُبُوتُ النَّسَبِ مَثَلاً يُقْصَدُ بِهِ اسْتِقْرَارُ النَّسَبِ وَلُزُومُهُ عَلَى وَجْهٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ الشَّرْعِيَّةُ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالثُّبُوتِ:
ثُبُوتُ النَّسَبِ:
2 - ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ آثَارِ عَقْدِ النِّكَاحِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب مادة: " ثبت "(15/9)
: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ (1) .
وَيَثْبُتُ النَّسَبُ بِالإِْقْرَارِ بِهِ، وَبِاسْتِلْحَاقِ الْوَلَدِ، وَبِالْبَيِّنَةِ (2) ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (نَسَبٌ، إِقْرَارٌ، اسْتِلْحَاقٌ) .
ثُبُوتُ الشَّهْرِ:
3 - يُعْتَمَدُ فِي ثُبُوتِ الشَّهْرِ فِي السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ عَلَى أَمْرَيْنِ:
الأَْوَّل: رُؤْيَةُ الْهِلاَل. وَالثَّانِي: إِكْمَال عِدَّةِ الشَّهْرِ قَبْلَهُ ثَلاَثِينَ يَوْمًا، إِنْ غُمَّ الْهِلاَل فِي لَيْلَةِ الثَّلاَثِينَ مِنْهُ.
وَيُغَمُّ الْهِلاَل بِأَنْ تَكُونَ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً فِي آخِرِ الشَّهْرِ، أَوْ حَال دُونَ رُؤْيَتِهِ قَتَرٌ أَوْ غُبَارٌ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً فَلاَ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى إِكْمَال ثَلاَثِينَ، بَل تَارَةً يَثْبُتُ بِإِكْمَال الْعِدَّةِ إِذَا لَمْ يُرَ الْهِلاَل، وَتَارَةً يَثْبُتُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ. (3)
وَتَثْبُتُ الرُّؤْيَةُ لَدَى الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، أَمَّا فِي رَمَضَانَ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى اشْتِرَاطِ عَدْلَيْنِ،
__________
(1) حديث: " الولد للفراش " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 127 ط السلفية) ومسلم (2 / 1030 - ط الحلبي) من حديث عائشة رضي الله عنها
(2) نهاية المحتاج 7 / 106، وبدائع الصنائع 7 / 228، والشرح الصغير 3 / 54، والمغني 5 / 200
(3) حاشية الدسوقي 1 / 519، وحاشية ابن عابدين 2 / 95(15/9)
وَاكْتَفَى الْبَعْضُ بِشَهَادَةِ عَدْلٍ وَاحِدٍ. (1)
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ثُبُوتِ الشَّهْرِ جُمْلَةٌ مِنَ الأَْحْكَامِ: كَوُجُوبِ صِيَامِ رَمَضَانَ بِثُبُوتِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَالْفِطْرِ بِثُبُوتِ شَهْرِ شَوَّال، وَكَالْحَجِّ بِثُبُوتِ أَشْهُرِهِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: شَهْرُ رَمَضَانَ - شَهَادَةٌ - حَجٌّ.
ثُبُوتُ الْحُقُوقِ:
4 - ثُبُوتُ الْحُقُوقِ لأَِصْحَابِهَا شَرْعًا يَعْتَمِدُ عَلَى ثُبُوتِ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَدِلَّةٍ وَبَيِّنَاتٍ، سَوَاءٌ الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَال، أَوِ الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّفْسِ.
وَبَحَثَ الْفُقَهَاءُ ثُبُوتَهَا فِي أَبْوَابِ الدَّعَاوَى، وَالْبَيِّنَاتِ، وَالْقَضَاءِ، وَالشَّهَادَةِ، وَالإِْقْرَارِ، وَالأَْيْمَانِ. وَتَقَدَّمَ تَفْصِيل أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ: (إِثْبَاتٌ) .
وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مَظَانِّهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
ثُبُوتُ الْحَدِيثِ:
5 - الْحَدِيثُ هُوَ الأَْصْل الثَّانِي مِنَ الأَْدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَيُعْتَمَدُ فِي ثُبُوتِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا، وَأَنْ يَتَّصِل إِسْنَادُهُ بِنَقْل الْعَدْل الضَّابِطِ عَنِ الْعَدْل الضَّابِطِ إِلَى مُنْتَهَاهُ، وَلاَ يَكُونَ شَاذًّا، وَلاَ
__________
(1) المجموع 6 / 280(15/10)
مُعَلًّا. وَيَتَنَوَّعُ الْحَدِيثُ الثَّابِتُ الْمَقْبُول إِلَى الصَّحِيحِ بِنَفْسِهِ وَالصَّحِيحِ لِغَيْرِهِ، وَإِلَى الْحَسَنِ بِنَفْسِهِ وَالْحَسَنِ لِغَيْرِهِ. وَيَقْدَحُ فِي ثُبُوتِ الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ مُعَلًّا.
وَأَسْبَابُ ضَعْفِ الْحَدِيثِ: الإِْرْسَال، وَالاِنْقِطَاعُ، وَالتَّدْلِيسُ، وَالشُّذُوذُ، وَالنَّكَارَةُ، وَالاِضْطِرَابُ، وَالَّتِي تَشْمَلُهَا أَنْوَاعُ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ، وَالْمَوْضُوعِ.
وَمِنْ صِفَاتِ رَاوِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ الْمَقْبُول أَنْ يَكُونَ ثَبْتًا أَيْ عَدْلاً ضَابِطًا، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَلْفَاظِ التَّعْدِيل مَا وُصِفَ بِأَفْعَل كَأَثْبَتَ النَّاسِ، أَوْ إِلَيْهِ الْمُنْتَهَى فِي التَّثَبُّتِ، وَيَلِي هَذِهِ الدَّرَجَةَ مَنْ وُصِفَ بِصِفَتَيْنِ كَقَوْلِهِمْ: ثَبْتٌ ثَبْتٌ، أَوْ ثِقَةٌ حَافِظٌ، أَوْ عَدْلٌ ضَابِطٌ، مِمَّا يُفِيدُ تَثَبُّتَهُ فِي النَّقْل وَضَبْطَهُ لِمَا تَلَقَّاهُ وَسَمِعَهُ مِنْ شُيُوخِهِ. (1)
ثُغُورٌ
انْظُرْ: رِبَاطٌ.
ثَلْجٌ
انْظُرْ: مِيَاهٌ، تَيَمُّمٌ
__________
(1) علوم الحديث لابن الصلاح - تحقيق نور الدين عتر ص 10، نزهة النظر ط - الهند ص 134(15/10)
ثِمَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الثِّمَارُ لُغَةً جَمْعُ ثَمَرٍ، وَالثَّمَرُ: حَمْل الشَّجَرِ. وَيُطْلَقُ الثَّمَرُ أَيْضًا عَلَى أَنْوَاعِ الْمَال. (1)
وَاصْطِلاَحًا: اسْمٌ لِكُل مَا يُسْتَطْعَمُ مِنْ أَحْمَال الشَّجَرِ. قَالَهُ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ: الثَّمَرُ الْحَمْل الَّذِي تُخْرِجُهُ الشَّجَرَةُ وَإِنْ لَمْ يُؤْكَل فَيُقَال: ثَمَرُ الأَْرَاكِ وَالْعَوْسَجِ، كَمَا يُقَال ثَمَرُ الْعِنَبِ وَالنَّخْل. قَال: وَفِي الْفَتْحِ: وَيَدْخُل فِي الثَّمَرَةِ الْوَرْدُ وَالْيَاسَمِينُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الْمَشْمُومَاتِ، وَقَدْ عَرَّفَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِتَعْرِيفِ صَاحِبِ الْكُلِّيَّاتِ وَشَهَّرَهُ. وَقَال الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الدُّسُوقِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ: الثِّمَارُ الْفَوَاكِهُ. (2)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْفَوَاكِهُ:
2 - الْفَوَاكِهُ لُغَةً أَجْنَاسُ الْفَاكِهَةِ
__________
(1) لسان العرب ومختار الصحاح مادة: " ثمر "
(2) الكليات 2 / 122، حاشية ابن عابدين 2 / 49، 4 / 37، وحاشية الدسوقي 3 / 176(15/11)
وَهِيَ اسْمٌ لِمَا يُؤْكَل عَلَى سَبِيل التَّفَكُّهِ أَيِ التَّنَعُّمِ بِأَكْلِهِ وَالاِلْتِذَاذِ بِهِ (1)
فَالْفَوَاكِهُ أَخَصُّ مِنَ الثِّمَارِ.
ب - الزُّرُوعُ:
3 - الزُّرُوعُ جَمْعُ زَرْعٍ وَهُوَ مَا اسْتُنِبْتَ بِالْبَذْرِ، سُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ، يُقَال زَرَعَ الْحَبَّ يَزْرَعُهُ زَرْعًا وَزِرَاعَةً إِذَا بَذَرَهُ. وَقَدْ غَلَبَ عَلَى الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ.
وَقِيل: الزَّرْعُ نَبَاتُ كُل شَيْءٍ يُحْرَثُ. (2)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالثِّمَارِ:
4 - بَعْضُ الثِّمَارِ مِنَ الأَْمْوَال الزَّكَوِيَّةِ عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِيمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلِلثِّمَارِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ فِي الْبَيْعِ، وَالرَّهْنِ، وَالشُّفْعَةِ، وَالسَّرِقَةِ، كَمَا سَيَأْتِي:
أَوَّلاً: زَكَاةُ الثِّمَارِ:
أ - الثِّمَارُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ:
5 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ زَكَاةَ فِي ثَمَرٍ إِلاَّ التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ لِكَوْنِهِمَا مِنَ الْقُوتِ. (3)
وَأَوْجَبَ الْحَنَابِلَةُ الزَّكَاةَ فِي كُل ثَمَرٍ يُكَال
__________
(1) لسان العرب ومختار الصحاح مادة: " فكه "، والمغرب 364، والكليات 3 / 318، 357، دستور العلماء 3 / 13
(2) لسان العرب ومختار الصحاح مادة: " زرع "
(3) حاشية الدسوقي 1 / 447، ومواهب الجليل 2 / 280، ونهاية المحتاج 3 / 69(15/11)
وَيُدَّخَرُ، كَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَاللَّوْزِ، وَالْفُسْتُقِ، وَالْبُنْدُقِ. (1)
وَذَهَبَ الإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ - الَّتِي يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهَا نَمَاءُ الأَْرْضِ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ} (2) وَلأَِنَّ السَّبَبَ هِيَ الأَْرْضُ النَّامِيَةُ وَقَدْ تُسْتَنْمَى بِمَا لاَ يَبْقَى فَيَجِبُ الْعُشْرُ كَالْخَرَاجِ.
وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الثِّمَارِ الَّتِي لَهَا ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ (3) .
ب - نِصَابُ الثِّمَارِ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي زَكَاةِ الثِّمَارِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الثِّمَارِ،
__________
(1) المغني لابن قدامة 2 / 690، 691، وكشاف القناع 2 / 204
(2) سورة البقرة / 267
(3) حديث: " ليس في الخضروات صدقة. . . " أخرجه الدارقطني (2 / 96 ط دار المحاسن بمصر) من حديث طلحة بن عبيد الله بإسناد ضعيف، ونوه بذكر طرقه وشواهده ابن حجر في التلخيص (2 / 165 - ط شركة الطباعة الفنية) والشوكاني في نيل الأوطار (4 / 142 - ط المطبعة العثمانية) وقال الشوكاني: " طرقه يقوي بعضها بعضا "(15/12)
وَهُوَ عِنْدَهُمْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، فَلاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا دُونَهَا. وَمِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ (1) .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ فِي كَثِيرِ الْخَارِجِ وَقَلِيلِهِ (2) .
وَمِمَّا اسْتَدَل بِهِ عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ} (3) .
ج - وَقْتُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الثِّمَارِ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الثِّمَارِ بِبُدُوِّ صَلاَحِهَا؛ لأَِنَّهَا حِينَئِذٍ ثَمَرَةٌ كَامِلَةٌ. وَالْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ هُنَا هُوَ انْعِقَادُ سَبَبِ وُجُوبِ إِخْرَاجِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ عِنْدَ الصَّيْرُورَةِ كَذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وُجُوبَ إِخْرَاجِهَا فِي الْحَال.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ وَقْتَ
__________
(1) حديث: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 310 ط السلفية) ، ومسلم (2 / 674 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري
(2) ابن عابدين 2 / 49، البدائع 2 / 59
(3) سورة البقرة / 267(15/12)
الْوُجُوبِ هُوَ وَقْتُ ظُهُورِ الثَّمَرِ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَْرْضِ} (1) . قَال: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالإِْنْفَاقِ مِمَّا أَخْرَجَهُ مِنَ الأَْرْضِ فَدَل أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْخُرُوجِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ هُوَ وَقْتُ اسْتِحْقَاقِ الْحَصَادِ وَالإِْدْرَاكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (2) وَيَوْمُ حَصَادِهِ يَوْمُ إِدْرَاكِهِ فَكَانَ هُوَ وَقْتُ الْوُجُوبِ.
وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ وَقْتُ الْجِذَاذِ لأَِنَّ حَال الْجِذَاذِ هِيَ حَال تَنَاهِي عِظَمِ الثَّمَرِ وَاسْتِحْكَامِهِ فَكَانَتْ هِيَ حَال الْوُجُوبِ. (3)
د - الْقَدْرُ الْوَاجِبُ فِي زَكَاةِ الثَّمَرِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الثِّمَارِ الَّتِي تُسْقَى بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ كَالَّذِي يُسْقَى بِالْغَيْثِ، وَالسُّيُول، وَالأَْنْهَارِ، وَالسَّوَّاقِي الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ مِنَ الأَْنْهَارِ بِلاَ آلَةٍ، وَمَا يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ لِقُرْبِهِ مِنَ الْمَاءِ. وَيَجِبُ نِصْفُ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ مِنْهَا بِمُؤْنَةٍ كَالدَّالِيَةِ، وَالنَّاعُورَةِ، وَالسَّانِيَةِ. (4) لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ
__________
(1) سورة البقرة / 267
(2) سورة الأنعام / 141
(3) بدائع الصنائع 2 / 63، وحاشية ابن عابدين 2 / 53، وحاشية الدسوقي 1 / 451، ومغني المحتاج 1 / 386، كشاف القناع 2 / 210
(4) السانية: البعير يسني عليه أي يستقي من البئر. وتطلق السانية أيضا على القرب (الدلو) مع أدواته من حبل ونحوه (المغرب للمطرزي) والعثري: ما يشرب بعروقه(15/13)
عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ (1) .
وَفِي زَكَاةِ الثِّمَارِ تَفْصِيلاَتٌ (2) يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ) .
ثَانِيًا: بَيْعُ الثِّمَارِ:
9 - بَيْعُ الثِّمَارِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْل ظُهُورِهَا أَوْ بَعْدَهُ.
وَإِذَا بِيعَتْ بَعْدَ ظُهُورِهَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْل بُدُوِّ الصَّلاَحِ أَوْ بَعْدَهُ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - بَيْعُ الثِّمَارِ قَبْل ظُهُورِهَا:
10 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْل ظُهُورِهَا لأَِنَّهَا مَعْدُومَةٌ. وَبَيْعُ الْمَعْدُومِ غَيْرُ جَائِزٍ لِلْغَرَرِ.
ب - بَيْعُ الثِّمَارِ بَعْدَ ظُهُورِهَا وَقَبْل بُدُوِّ الصَّلاَحِ:
11 - بَيْعُ الثِّمَارِ قَبْل بُدُوِّ صَلاَحِهَا لاَ يَخْلُو مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْوَالٍ:
__________
(1) حديث: " فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 347 ط السلفية) .
(2) بدائع الصنائع 2 / 62، وفتح القدير 2 / 190، وابن عابدين 2 / 48 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 1 / 448، 449، ومغني المحتاج 1 / 385، 386، وكشاف القناع 2 / 209، 210(15/13)
إِحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، وَحِينَئِذٍ لاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ بِالإِْجْمَاعِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ (1) وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْل بِجُمْلَةِ هَذَا الْحَدِيثِ.
ثَانِيَتُهَا: أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَال فَيَصِحُّ الْبَيْعُ بِالإِْجْمَاعِ. لأَِنَّ الْمَنْعَ إِنَّمَا كَانَ خَوْفًا مِنْ تَلَفِ الثَّمَرَةِ وَحُدُوثِ الْعَاهَةِ عَلَيْهَا قَبْل أَخْذِهَا بِدَلِيل مَا رَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ التَّمْرِ حَتَّى يَزْهُوَ. قَال: أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَ، بِمَ تَسْتَحِل مَال أَخِيكَ (2) وَهَذَا مَأْمُونٌ فِيمَا يُقْطَعُ فَصَحَّ بَيْعُهُ كَمَا لَوْ بَدَا صَلاَحُهُ.
ثُمَّ إِنَّ صِحَّةَ هَذَا الْبَيْعِ لَيْسَتْ عَلَى إِطْلاَقِهَا، بَل هِيَ مَشْرُوطَةٌ بِشُرُوطٍ، بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
فَالَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ
__________
(1) حديث: " نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 394 - ط السلفية)
(2) حديث: " نهى عن بيع ثمر التمر حتى يزهو. قال: أرأيت إن منع الله الثمر بم تستحل مال أخيك " أخرجه البخاري (فتح الباري 4 / 404 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1190 - ط الجمل) واللفظ للبخاري(15/14)
الاِنْتِفَاعُ، أَيْ أَنْ تَكُونَ الثِّمَارُ الْمَقْطُوعَةُ مُنْتَفَعًا بِهَا.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهَا عِنْدَ الْقَطْعِ، وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى مُطْلَقِ الاِنْتِفَاعِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْقَطْعَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَال، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْهُ لَكِنْ بِحَيْثُ لاَ يَزِيدُ وَلاَ يَنْتَقِل مِنْ طَوْرِهِ إِلَى طَوْرٍ آخَرَ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ هُمَا: الْحَاجَةُ، وَعَدَمُ التَّمَالُؤِ. وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْحَاجَةُ مُتَعَلِّقَةً بِأَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَوْ بِكِلَيْهِمَا. وَالْمُرَادُ بِالتَّمَالُؤِ اتِّفَاقُهُمْ وَلَوْ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ، فَإِنْ تَمَالأََ عَلَيْهِ الأَْكْثَرُ بِالْفِعْل مُنِعَ.
وَشَرَطَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ لاَ يَكُونَ الثَّمَرُ مَشَاعًا، بِأَنْ يَشْتَرِيَ نِصْفَ الثَّمَرَةِ قَبْل بُدُوِّ صَلاَحِهَا مَشَاعًا؛ لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُهُ قَطْعُ مَا يَمْلِكُهُ إِلاَّ بِقَطْعِ مَا لاَ يَمْلِكُهُ. وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
ثَالِثَتُهَا: أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ مُطْلَقًا - أَيْ لاَ يَذْكُرُ قَطْعًا وَلاَ تَبْقِيَةً - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى بُطْلاَنِ الْبَيْعِ لإِِطْلاَقِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْل بُدُوِّ صَلاَحِهَا. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَرُ مُنْتَفَعًا بِهِ أَوْ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الثَّمَرُ بِحَالٍ لاَ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الأَْكْل، وَلاَ فِي عَلَفِ الدَّوَابِّ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ عَلَى خِلاَفٍ لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ. وَإِنْ(15/14)
كَانَ بِحَيْثُ يُنْتَفَعُ بِهِ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَهْل الْمَذْهَبِ، وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْل بُدُوِّ صَلاَحِهِ مَا إِذَا بِيعَ الثَّمَرُ مَعَ الأَْصْل، وَذَلِكَ بِأَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَةَ مَعَ الشَّجَرِ؛ لأَِنَّهُ إِذَا بِيعَ مَعَ الأَْصْل دَخَل تَبَعًا فِي الْبَيْعِ فَلَمْ يَضُرَّ احْتِمَال الْغَرَرِ فِيهِ، كَمَا احْتُمِلَتِ الْجَهَالَةُ فِي بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ مَعَ الشَّاةِ، وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ مَعَ التَّمْرِ؛ وَلأَِنَّ الثَّمَرَةَ هُنَا تَبَعٌ لِلأَْصْل وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لِلْعَاهَةِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ كَذَلِكَ بَيْعَ الثَّمَرِ قَبْل بُدُوِّ صَلاَحِهِ إِذَا أُلْحِقَ بِأَصْلِهِ الْمَبِيعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الإِْلْحَاقُ قَرِيبًا أَمْ بَعِيدًا. (1)
ج - بَيْعُ الثِّمَارِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ:
12 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الثِّمَارِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا مُطْلَقًا، وَبِشَرْطِ قَطْعِهَا، وَبِشَرْطِ إِبْقَائِهَا، لأَِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْل بُدُوِّ صَلاَحِهَا. (2) فَيَجُوزُ بَعْدَ بُدُوِّهِ وَهُوَ صَادِقٌ بِكُلٍّ مِنَ الأَْحْوَال الثَّلاَثَةِ. وَالْفَارِقُ أَمْنُ الْعَاهَةِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ غَالِبًا لِغِلَظِهَا وَكِبَرِ نَوَاهَا. وَقَبْلَهُ تُسْرِعُ إِلَيْهِ لِضَعْفِهِ فَيَفُوتُ بِتَلَفِهِ الثَّمَنُ.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 38، وحاشية الدسوقي 3 / 176 وما بعدها، ونهاية المحتاج 4 / 141 وما بعدها، ومغني المحتاج 3 / 88 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 281 وما بعدها
(2) حديث: " نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها. . . " تقدم تخريجه ف / 11(15/15)
ثُمَّ إِنَّ مَعْنَى بُدُوِّ الصَّلاَحِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ، فَبُدُوُّ الصَّلاَحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ ظُهُورُ مَبَادِئِ النُّضْجِ وَالْحَلاَوَةِ بِأَنْ يَتَمَوَّهَ وَيَلِينَ فِيمَا لاَ يَتَلَوَّنُ، وَأَنْ يَأْخُذَ فِي الْحُمْرَةِ، أَوْ السَّوَادِ، أَوْ الصُّفْرَةِ فِيمَا يَتَلَوَّنُ. وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ تُؤْمَنَ الْعَاهَةُ وَالْفَسَادُ. (1)
بَيْعُ الثِّمَارِ الْمُتَلاَحِقَةِ الظُّهُورِ:
13 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الثِّمَارِ الْمُتَلاَحِقَةِ الظُّهُورِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ لأَِنَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا مَعْدُومٌ، وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الإِْنْسَانِ (2) ، وَلِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ، ثُمَّ هِيَ ثَمَرَةٌ لَمْ تُخْلَقْ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا كَمَا لَوْ بَاعَهَا قَبْل ظُهُورِ شَيْءٍ مِنْهَا.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَا لَوْ حَصَل الاِخْتِلاَطُ قَبْل التَّخْلِيَةِ فِيمَا يَغْلِبُ فِيهِ التَّلاَحُقُ وَالاِخْتِلاَطُ، أَوْ فِيمَا يَنْدُرُ فِيهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لاَ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ لِبَقَاءِ عَيْنِ الْمَبِيعِ؛ وَلإِِمْكَانِ تَسْلِيمِهِ، وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَالإِْجَازَةِ؛ لأَِنَّ الاِخْتِلاَطَ عَيْبٌ حَدَثَ قَبْل التَّسْلِيمِ.
__________
(1) المراجع السابقة
(2) حديث: " نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان. . . " ورد من حديث حكيم بن حزام قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تبع ما ليس عندك " أخرجه الترمذي وحسنه (تحفة الأحوذي 4 / 430 - ط المكتبة السلفية) .(15/15)
وَذَهَبَ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْجَوَازِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ يَشُقُّ تَمْيِيزُهُ فَجُعِل مَا لَمْ يَظْهَرْ تَبَعًا لِمَا ظَهَرَ، كَمَا أَنَّ مَا لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ تَبَعٌ لِمَا بَدَا.
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَصَرُوا الْجَوَازَ عَلَى الثِّمَارِ الْمُتَتَابِعَةِ، فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ بَيْعُ سَائِرِ الْبُطُونِ بِبُدُوِّ صَلاَحِ الأَْوَّل، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُنْفَصِلَةً فَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الثَّانِي بِصَلاَحِ الأَْوَّل اتِّفَاقًا.
وَالْحَنَفِيَّةُ إِنَّمَا أَجَازُوا ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ. قَالُوا: وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا رَخَّصَ فِي السَّلَمِ لِلضَّرُورَةِ مَعَ أَنَّهُ بَيْعٌ لِلْمَعْدُومِ فَحَيْثُ تَحَقَّقَتِ الضَّرُورَةُ هُنَا أَيْضًا أَمْكَنَ إِلْحَاقُهُ بِالسَّلَمِ بِطَرِيقِ الدَّلاَلَةِ، فَلَمْ يَكُنْ مُصَادِمًا لِلنَّصِّ، فَلِذَا جَعَلُوهُ مِنْ الاِسْتِحْسَانِ، وَمَا ضَاقَ الأَْمْرُ إِلاَّ اتَّسَعَ، وَلاَ يَخْفَى أَنَّ هَذَا مُسَوِّغٌ لِلْعُدُول عَنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. (1)
مِلْكِيَّةُ الثِّمَارِ عِنْدَ بَيْعِ الشَّجَرِ:
14 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الثِّمَارِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى الشَّجَرِ عِنْدَ بَيْعِهِ، هَل هِيَ لِلْبَائِعِ أَمْ لِلْمُشْتَرِي.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالأَْوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُشْتَرِي فَتَكُونُ لَهُ وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَنِ ابْتَاعَ نَخْلاً بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلَّذِي بَاعَهَا إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ (2) وَلأَِنَّ هَذَا
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 38، 39، وحاشية الدسوقي 3 / 177، 178، والقوانين الفقهية 260، ومغني المحتاج 2 / 92، والمغني لابن قدامة 4 / 103
(2) حديث: " الثمرة للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ". أخرجه مسلم (3 / 1173 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر. بلفظ " من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها، إلا أن يشترط المبتاع "(15/16)
نَمَاءٌ لَهُ حَدٌّ، فَلَمْ يَتْبَعْ أَصْلَهُ فِي الْبَيْعِ كَمَا لاَ يَتْبَعُ الزَّرْعَ فِي الأَْرْضِ. وَيُؤْمَرُ الْبَائِعُ بِقَطْعِ الثَّمَرِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ صَلاَحُهُ إِذَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ الْمُشْتَرِي، وَتَسْلِيمِ الشَّجَرِ عِنْدَ وُجُوبِ تَسْلِيمِهِ؛ لأَِنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْبَائِعِ، فَيُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَارِغًا.
وَقَال ابْنُ أَبِي لَيْلَى: هِيَ لِلْمُشْتَرِي وَذَلِكَ لأَِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالأَْصْل اتِّصَال خِلْقَةٍ، فَكَانَتْ تَابِعَةً لَهُ كَالأَْغْصَانِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَرُ مُؤَبَّرًا أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرٍ: فَقَرَّرُوا أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مُؤَبَّرَةً فَهِيَ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهَا أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَهِيَ لَهُ مُؤَبَّرَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ، وَذَلِكَ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنِ ابْتَاعَ نَخْلاً بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلَّذِي بَاعَهَا، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ (1) فَإِنَّهُ جَعَل التَّأْبِيرَ حَدًّا لِمِلْكِ الْبَائِعِ لِلثَّمَرَةِ، فَيَكُونُ مَا قَبْلَهُ لِلْمُشْتَرِي، وَإِلاَّ لَمْ يَكُنْ حَدًّا، وَلاَ كَانَ ذِكْرُ التَّأْبِيرِ مُفِيدًا؛ وَلأَِنَّهُ نَمَاءٌ كَامِنٌ لِظُهُورِهِ غَايَةٌ، فَكَانَ تَابِعًا لأَِصْلِهِ قَبْل ظُهُورِهِ، وَغَيْرَ تَابِعٍ لَهُ بَعْدَ ظُهُورِهِ كَالْحَمْل فِي الْحَيَوَانِ.
__________
(1) حديث: " من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر. . . " سبق تخريجه.(15/16)
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ مَنَعُوا أَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ الثَّمَرَ غَيْرَ الْمُؤَبَّرِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ اشْتِرَاطَهُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ شِرَائِهِ لَهُ قَبْل بُدُوِّ صَلاَحِهِ بِشَرْطِ التَّرْكِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَاسْتَدَل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ جَوَازِ اشْتِرَاطِ الْبَائِعِ الثَّمَرَ غَيْرَ الْمُؤَبَّرِ، بِأَنَّهُ اسْتَثْنَى بَعْضَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَهُوَ مَعْلُومٌ، فَصَحَّ كَمَا لَوْ بَاعَ بُسْتَانًا وَاسْتَثْنَى نَخْلَةً بِعَيْنِهَا، وَلأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ (1) وَلأَِنَّهُ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَصَحَّ اشْتِرَاطُهُ لِلثَّمَرَةِ كَالْمُشْتَرِي وَقَدْ ثَبَتَ الأَْصْل بِالاِتِّفَاقِ عَلَيْهِ وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ.
15 - ثُمَّ إِنَّ الْجُمْهُورَ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي حَالَةِ مَا إِذَا أُبِّرَ بَعْضُ الشَّجَرِ دُونَ بَعْضٍ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا كُلَّهَا لِلْبَائِعِ كَمَا لَوْ أُبِّرَتْ كُلُّهَا لِمَا فِي تَتَبُّعِ ذَلِكَ مِنَ الْعُسْرِ، وَلأَِنَّا إِذَا لَمْ نَجْعَل الْكُل لِلْبَائِعِ أَدَّى إِلَى الإِْضْرَارِ بِاشْتِرَاكِ الأَْيْدِي فِي الْبُسْتَانِ، فَيَجِبُ أَنْ يُجْعَل مَا لَمْ يُؤَبَّرْ تَبَعًا لِمَا أُبِّرَ، كَثَمَرَةِ النَّخْلَةِ الْوَاحِدَةِ، فَإِنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ تَأْبِيرَ بَعْضِ النَّخْلَةِ يَجْعَل جَمِيعَ ثَمَرِهَا لِلْبَائِعِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَا أُبِّرَ فَلِلْبَائِعِ وَمَا لَمْ
__________
(1) حديث: " نهى عن الثنيا إلا أن تعلم " أخرجه النسائي (7 / 296 - ط المكتبة التجارية) من حديث جابر بن عبد الله. وأخرجه مسلم (3 / 1175 - ط الحلبي) دون قوله " إلا أن تعلم "(15/17)
يُؤَبَّرْ فَلِلْمُشْتَرِي، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نَوْعِ مَا تَشَقَّقَ أَوْ غَيْرِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَبَّرُ النِّصْفَ وَمَا قَارَبَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَقَل أَوْ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ، فَإِنْ كَانَ الْمُؤَبَّرُ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ فَهِيَ لِلْبَائِعِ، وَالْعَقْدُ حِينَئِذٍ عَلَى الأُْصُول لاَ يَتَنَاوَل تِلْكَ الثَّمَرَةَ، وَالْقَوْل قَوْلُهُ فِي أَنَّ التَّأْبِيرَ كَانَ قَبْل الْعَقْدِ إِنْ نَازَعَهُ الْمُشْتَرِي وَادَّعَى حُدُوثَهُ بَعْدَهُ. وَإِنْ كَانَ الْمُؤَبَّرُ أَقَل مِنَ النِّصْفِ فَالثَّمَرَةُ لِلْمُشْتَرِي.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُؤَبَّرُ النِّصْفَ أَوْ مَا قَارَبَهُ فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ أَيْ إِنَّ مَا أُبِّرَ لِلْبَائِعِ، وَمَا لَمْ يُؤَبَّرْ لِلْمُشْتَرِي، وَهَذَا إِذَا كَانَ النِّصْفُ مُعَيَّنًا بِأَنْ كَانَ مَا أُبِّرَ فِي نَخَلاَتٍ بِعَيْنِهَا، وَمَا لَمْ يُؤَبَّرْ فِي نَخَلاَتٍ بِعَيْنِهَا. وَأَمَّا إِنْ كَانَ النِّصْفُ الْمُؤَبَّرُ شَائِعًا فِي كُل نَخْلَةٍ، وَكَذَلِكَ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ شَائِعًا، فَفِيهِ عِنْدَهُمْ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: فَقِيل: كُلُّهُ لِلْبَائِعِ، وَقِيل: كُلُّهُ لِلْمُبْتَاعِ، وَقِيل: يُخَيَّرُ الْبَائِعُ فِي تَسْلِيمِهِ جَمِيعَ الثَّمَرَةِ وَفِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَقِيل: الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ، وَقِيل: إِنَّ الْبَيْعَ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِرِضَا أَحَدِهِمَا بِتَسْلِيمِ الْجَمِيعِ لِلآْخَرِ. قَال ابْنُ الْعَطَّارِ: وَهُوَ الَّذِي بِهِ الْقَضَاءُ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ الشَّيْخُ الدُّسُوقِيُّ وَشَيْخُهُ الْعَدَوِيُّ.
16 - ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَقْصُودِ بِالتَّأْبِيرِ هُنَا، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّأْبِيرِ هُنَا هُوَ بُرُوزُ جَمِيعِ الثَّمَرَةِ عَنْ مَوْضِعِهَا(15/17)
وَتَمَيُّزُهَا عَنْ أَصْلِهَا وَذَلِكَ فِي غَيْرِ النَّخْل مِنَ الثِّمَارِ. وَأَمَّا فِي النَّخْل فَهُوَ تَعْلِيقُ طَلْعِ الذَّكَرِ عَلَى الأُْنْثَى. وَلَمْ يُخَالِفِ الشَّافِعِيَّةُ الْمَالِكِيَّةَ فِي مَعْنَى التَّأْبِيرِ الْمُضَافِ لِلنَّخْل، وَفَصَّلُوا فِي غَيْرِهِ مِنَ الثِّمَارِ.
فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الثَّمَرُ بِلاَ نَوْرٍ، كَتِينٍ وَعِنَبٍ فَالاِعْتِبَارُ بِالْبُرُوزِ، فَإِنْ بَرَزَ الثَّمَرُ فَهُوَ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ لَمْ يَبْرُزْ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي.
وَإِنْ كَانَ الثَّمَرُ بِنَوْرٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لِلْبَائِعِ وَهِيَ أَنْ يَسْقُطَ النَّوْرُ وَتَكُونَ الثَّمَرَةُ بَارِزَةً فَهِيَ حِينَئِذٍ لِلْبَائِعِ، أَمَّا إِنْ سَقَطَ النَّوْرُ وَلَمْ تَنْعَقِدِ الثَّمَرَةُ، أَوِ انْعَقَدَتْ وَلَمْ يَسْقُطِ النَّوْرُ فَهِيَ حِينَئِذٍ لِلْمُشْتَرِي، لأَِنَّهَا فِي حَالَةِ سُقُوطِ النَّوْرِ وَعَدَمِ انْعِقَادِهَا كَالْمَعْدُومَةِ، وَفِي حَالَةِ انْعِقَادِهَا وَعَدَمِ سُقُوطِ النَّوْرِ كَالطَّلْعِ قَبْل تَشَقُّقِهِ؛ لأَِنَّ اسْتِتَارَهَا بِالنَّوْرِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِتَارِ ثَمَرَةِ النَّخْل بِأَكْمَامِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّأْبِيرِ هُنَا هُوَ ظُهُورُ الثَّمَرِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ فِي غَيْرِ النَّخْل. وَأَمَّا فِي النَّخْل فَهُوَ تَشَقُّقُ طَلْعِهِ وَإِنْ لَمْ يُؤَبَّرْ، فَالْحُكْمُ عِنْدَهُمْ مَنُوطٌ بِالتَّشَقُّقِ. (1)
وَضْعُ الْجَوَائِحِ فِي الثِّمَارِ الْمَبِيعَةِ:
17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وَضْعِ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 37 وما بعدها، وحاشية الدسوقي 3 / 171 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 86، 87، وكشاف القناع 3 / 279 وما بعدها، والمغني لابن قدامة 4 / 74 وما بعدها(15/18)
الْجَوَائِحِ فِي الثِّمَارِ الْمَبِيعَةِ، فَإِذَا تَلِفَتِ الثِّمَارُ بِجَائِحَةٍ سَمَاوِيَّةٍ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، سَوَاءٌ أَتَتِ الْجَائِحَةُ عَلَى كُل الثِّمَارِ أَمْ بَعْضِهَا لِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ (1) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلاَ يَحِل لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَال أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ (2) .
ثُمَّ إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِوَضْعِ الْجَوَائِحِ أَنْ تُصِيبَ الْجَائِحَةُ ثُلُثَ الثِّمَارِ فَأَكْثَرَ، فَإِنْ أَصَابَتْ أَقَل مِنَ الثُّلُثِ لَمْ يُوضَعْ عَنِ الْمُشْتَرِي شَيْءٌ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ الثُّلُثَ فَأَكْثَرَ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ قِيمَتُهَا بَعْدَ حَطِّ مَا أَصَابَتْهُ الْجَائِحَةُ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْجَائِحَةَ مِنَ الْعَطَشِ فَيُوضَعُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا سَوَاءٌ بَلَغَتِ الثُّلُثَ أَمْ لاَ.
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْجَائِحَةُ قَبْل التَّخْلِيَةِ أَوْ بَعْدَهَا. فَقَالُوا: إِنْ تَلِفَتِ الثِّمَارُ بِجَائِحَةٍ قَبْل التَّخْلِيَةِ فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، وَهَذَا فِيمَا إِذَا أَتَتِ الْجَائِحَةُ عَلَى كُل الثِّمَارِ، أَمَّا إِذَا أَتَتْ عَلَى بَعْضِهَا فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ مِنَ الْعَقْدِ بِقَدْرِ التَّالِفِ،
__________
(1) حديث: " أمر بوضع الجوائح " أخرجه مسلم (3 / 1191 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.
(2) حديث: " إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق ". أخرجه مسلم (3 / 1190 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله(15/18)
وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي فِي الْبَاقِي.
وَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ، فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي لِقَبْضِهِ بِالتَّخْلِيَةِ.
قَالُوا: وَالأَْمْرُ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ، أَوْ عَلَى مَا قَبْل التَّخْلِيَةِ جَمْعًا بَيْنَ الأَْدِلَّةِ. (1)
ثَالِثًا: رَهْنُ الثِّمَارِ:
18 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ رَهْنِ الثِّمَارِ سَوَاءٌ مَا كَانَتْ عَلَى الشَّجَرِ أَمْ لاَ، وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ أَوْ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ قَبْل بُدُوِّ الصَّلاَحِ إِنَّمَا كَانَ لِعَدَمِ الأَْمْنِ مِنَ الْعَاهَةِ وَهَذَا مَفْقُودٌ هُنَا، وَبِتَقْدِيرِ تَلَفِهَا لاَ يَفُوتُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ مِنَ الدَّيْنِ لِتَعَلُّقِهِ بِذِمَّةِ الرَّاهِنِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ رَهْنَ الثِّمَارِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَمْ يُجَوِّزُوا رَهْنَ الثَّمَرِ بِدُونِ الشَّجَرِ، أَوْ الشَّجَرِ بِدُونِ الثَّمَرِ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ عِنْدَهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمَرْهُونَ مَتَى اتَّصَل بِغَيْرِ الْمَرْهُونِ خِلْقَةً لاَ يَجُوزُ لاِمْتِنَاعِ قَبْضِ الرَّهْنِ وَحْدَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ رَهَنَ شَجَرًا وَفِيهِ ثَمَرٌ لَمْ يُسَمِّهِ فِي الرَّهْنِ دَخَل فِي الرَّهْنِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ، وَقَدْ فَصَّل الشَّافِعِيَّةُ فِي رَهْنِ الثِّمَارِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ
__________
(1) مجمع الضمانات 220، وحاشية الدسوقي 3 / 182 وما بعدها، والقوانين الفقهية 260، 261، وشرح روض الطالب 2 / 108، وكشاف القناع 3 / 285 وما بعدها(15/19)
الثِّمَارُ مَعَ الشَّجَرِ أَوْ وَحْدَهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَرُ مِمَّا يَتَسَارَعُ فَسَادُهُ أَوْ لاَ، فَقَرَّرُوا أَنَّ رَهْنَ الثِّمَارِ عَلَى الشَّجَرِ لَهُ حَالاَنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْهَنَ الثَّمَرَ مَعَ الشَّجَرِ، وَحِينَئِذٍ فَإِنْ كَانَ الثَّمَرُ مِمَّا يُمْكِنُ تَجْفِيفُهُ صَحَّ الرَّهْنُ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ أَبَدَا فِيهِ الصَّلاَحُ أَمْ لاَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلاً.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ تَجْفِيفُهُ فَسَدَ الرَّهْنُ إِلاَّ فِي ثَلاَثِ مَسَائِل هِيَ: أَنْ يَرْهَنَهُ بِدَيْنٍ حَالٍّ، أَوْ مُؤَجَّلٍ يَحِل قَبْل فَسَادِهِ، أَوْ يَحِل بَعْدَ فَسَادِهِ، أَوْ مَعَهُ، لَكِنْ بِشَرْطِ بَيْعِهِ عِنْدَ إِشْرَافِهِ عَلَى الْفَسَادِ وَجَعْل الثَّمَنِ رَهْنًا مَكَانَهُ.
الثَّانِي: رَهْنُ الثَّمَرِ وَحْدَهُ. فَإِنْ كَانَ لاَ يُحْفَظُ بِالْجَفَافِ فَهُوَ كَالَّذِي يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ، وَإِنْ كَانَ يَتَجَفَّفُ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
الضَّرْبُ الأَْوَّل: أَنْ يَرْهَنَ قَبْل بُدُوِّ الصَّلاَحِ، فَإِنْ رَهَنَ بِدَيْنٍ حَالٍّ وَشَرَطَ قَطْعَهُ وَبَيْعَهُ جَازَ، وَإِنْ أَطْلَقَ جَازَ أَيْضًا، وَإِنْ رَهَنَ بِمُؤَجَّلٍ نَظَرَ، إِنْ كَانَ يَحِل قَبْل بُلُوغِ الثَّمَرِ وَقْتَ الإِْدْرَاكِ أَوْ بَعْدَهُ جَازَ الرَّهْنُ، إِلاَّ أَنَّ الْجَوَازَ فِي حَالَةِ مَا قَبْل بُلُوغِهِ وَقْتَ الإِْدْرَاكِ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، أَمَّا إِذَا رَهَنَهَا مُطْلَقًا لَمْ يَصِحَّ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْهَنَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ. فَيَجُوزُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ مُطْلَقًا إِنْ رَهَنَ بِحَالٍّ أَوْ(15/19)
مُؤَجَّلٍ هُوَ فِي مَعْنَاهُ. وَإِنْ رَهَنَهُ بِمُؤَجَّلٍ يَحِل قَبْل بُلُوغِ الثَّمَرِ وَقْتَ الإِْدْرَاكِ، فَعَلَى مَا سَبَقَ فِي الضَّرْبِ الأَْوَّل. (1)
رَابِعًا: الشُّفْعَةُ فِي الثِّمَارِ:
19 - الشُّفْعَةُ فِي الْعَقَارِ ثَابِتَةٌ، لِخَبَرِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ (2) وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فِي أَرْضٍ أَوْ رَيْعٍ أَوْ حَائِطٍ (3) وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَرَيَانِ الشُّفْعَةِ فِي الثَّمَرِ، سَوَاءٌ بِيعَ مَعَ الأَْصْل أَمْ مُفْرَدًا.
أَوَّلاً: إِذَا بِيعَ مَعَ الأَْصْل:
20 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي الثَّمَرِ إِذَا بِيعَ مَعَ الأَْصْل، لِتَبَعِيَّتِهِ لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الأَْرْضَ مَعَ ثَمَرِهَا
__________
(1)) بدائع الصنائع 6 / 138، 140، 141، وتبيين الحقائق 6 / 69، وحاشية ابن عابدين 5 / 317، وحاشية الدسوقي 3 / 233، 234، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 5 / 4، وروضة الطالبين 4 / 48، ومغني المحتاج 2 / 124، وكشاف القناع 3 / 328، والمغني 4 / 379
(2) حديث جابر: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم. . . " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 436 - ط السلفية) وأخرجه مسلم (3 / 1229 - ط الحلبي) بلفظ: " قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم "
(3) حديث: " في أرض أو ريع أو حائط. . " أخرجه مسلم (3 / 1229 - ط الحلبي)(15/20)
إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَى الأَْرْضَ مَعَ ثَمَرِهَا بِأَنْ شَرَطَهُ فِي الْبَيْعِ أَوْ أَثْمَرَ الشَّجَرُ عِنْدَ الشِّرَاءِ، قَالُوا: لأَِنَّ الثَّمَرَ لاَ يَدْخُل فِي الْبَيْعِ إِلاَّ بِالشَّرْطِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ بِتَبَعٍ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ أَخْذُ الثَّمَرِ لِعَدَمِ التَّبَعِيَّةِ كَالْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ فِيهَا، وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ أَنَّهُ بِالاِتِّصَال خِلْقَةً صَارَ تَبَعًا مِنْ وَجْهٍ؛ وَلأَِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الْمَبِيعِ فَيَسْرِي إِلَيْهِ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي الأَْصْل الْحَادِثِ قَبْل الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الثَّمَرَ الْمُؤَبَّرَ (عَلَى خِلاَفٍ تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى التَّأْبِيرِ) لاَ يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَدْخُل فِي الْبَيْعِ، فَلاَ يَدْخُل فِي الشُّفْعَةِ، كَأَثَاثِ الدَّارِ لأَِنَّ الشُّفْعَةَ بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ لَكِنَّ الشَّارِعَ جَعَل لِلشَّفِيعِ سُلْطَانَ الأَْخْذِ بِغَيْرِ رِضَا الْمُشْتَرِي، وَأَمَّا الثَّمَرُ غَيْرُ الْمُؤَبَّرِ فَإِنَّهُ يَدْخُل فِي الشُّفْعَةِ؛ لأَِنَّهُ يَتْبَعُ فِي الْبَيْعِ، فَتَبِعَ فِي الشُّفْعَةِ؛ لأَِنَّهَا بَيْعٌ فِي الْمَعْنَى.
ثَانِيًا: إِذَا بِيعَ مُفْرَدًا:
21 - مَنَعَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) الشُّفْعَةَ فِي الثَّمَرِ إِذَا بِيعَ مُفْرَدًا؛ لأَِنَّ الشُّفْعَةَ لاَ تَثْبُتُ فِي الْمَنْقُولاَتِ عِنْدَهُمْ، لِعَدَمِ دَوَامِ الْمِلْكِ فِيهَا، وَالشُّفْعَةُ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِدَفْعِ ضَرَرِ سُوءِ الْجِوَارِ عَلَى الدَّوَامِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الشُّفْعَةِ فِي الثِّمَارِ الَّتِي لَهَا أَصْلٌ أَيْ بِحَيْثُ تُجْنَى ثَمَرَتُهُ وَيَبْقَى أَصْلُهُ(15/20)
لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً حِينَ الشِّرَاءِ وَمُؤَبَّرَةً. (1)
نَمَاءُ ثَمَرِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي:
22 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثَمَرِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ، هَل يَكُونُ لِلشَّفِيعِ أَمْ لِلْمُشْتَرِي فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الثِّمَارَ لِلشَّفِيعِ اسْتِحْسَانًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَى الأَْرْضَ مَعَ ثَمَرِهَا بِأَنْ شَرَطَهُ فِي الْبَيْعِ، أَمْ أَثْمَرَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لاَ يَكُونَ لَهُ أَخْذُ الثَّمَرِ لِعَدَمِ التَّبَعِيَّةِ كَالْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ فِيهَا، وَوَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ أَنَّهُ خِلْقَةً صَارَ تَبَعًا مِنْ وَجْهٍ؛ وَلأَِنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الْمَبِيعِ فَيَسْرِي إِلَيْهِ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي الأَْرْضِ الْحَادِثُ قَبْل الأَْخْذِ بِالشُّفْعَةِ، كَالْمَبِيعَةِ إِذَا وَلَدَتْ قَبْل الْقَبْضِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ الْوَلَدَ تَبَعًا لِلأُْمِّ كَذَا هَذَا.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلاَنِ فِي الْمَسْأَلَةِ - حَيْثُ نَقَلُوا قَوْلَيْنِ لِلإِْمَامِ مَالِكٍ وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا بِيعَتِ الثَّمَرَةُ مُفْرَدَةً أَوْ مَعَ أَصْلِهَا - وَنَصُّهُمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ - حَيْثُ قَال مَرَّةً بِسُقُوطِ الشُّفْعَةِ فِيهَا إِذَا لَمْ يَأْخُذْ بِالشُّفْعَةِ حَتَّى يَبِسَتِ الثِّمَارُ، وَحِينَئِذٍ فَإِنْ أَخَذَ أَصْلَهَا بِالشُّفْعَةِ
__________
(1) تكملة فتح القدير 8 / 326، 327، وتبيين الحقائق 5 / 252، وحاشية الدسوقي 3 / 480، ومغني المحتاج 2 / 296، 297، ونهاية المحتاج 5 / 193 وما بعدها، وكشاف القناع 4 / 140(15/21)
حَطَّ عَنْهُ مَا يَنُوبُهَا مِنَ الثَّمَنِ إِنْ أَزْهَتْ أَوْ أُبِّرَتْ وَقْتَ الْبَيْعِ لأَِنَّ لَهَا حِصَّةً حِينَئِذٍ مِنَ الثَّمَنِ، وَمَرَّةً قَال: لَهُ أَخْذُهَا بِالشُّفْعَةِ مَا لَمْ تَيْبَسْ أَوْ تُجَذَّ.
وَوَفَّقَ الدَّرْدِيرُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِحَمْل الأَْوَّل عَلَى مَا إِذَا اشْتَرَاهَا مُفْرَدَةً عَنِ الأَْصْل فَالشُّفْعَةُ تَابِعَةٌ فِيهَا مَا لَمْ تَيْبَسْ، فَإِنْ جُذَّتْ قَبْل الْيُبْسِ فَلَهُ أَخْذُهَا، وَبِحَمْل الثَّانِي عَلَى مَا إِذَا اشْتَرَاهَا مَعَ الأَْصْل، فَالشُّفْعَةُ ثَابِتَةٌ فِيهَا مَا لَمْ تَيْبَسْ أَوْ تُجَذَّ وَلَوْ قَبْل الْيُبْسِ.
أَمَّا إِذَا اشْتَرَى أَصْلَهَا فَقَطْ وَلَيْسَ فِيهِ ثَمَرَةٌ أَوْ كَانَ فِيهِ ثَمَرَةٌ وَلَمْ تُؤَبَّرْ بَعْدُ فَهِيَ لِلشَّفِيعِ، سَوَاءٌ أُبِّرَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي أَمْ لَمْ تُؤَبَّرْ عِنْدَهُ، إِلاَّ أَنْ تَيْبَسَ أَوْ تُجَذَّ فَتَكُونَ لِلْمُشْتَرِي. وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ الأُْصُول بِالثَّمَنِ، وَلاَ يَحُطُّ عَنْهُ حِصَّتَهَا مِنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشَّجَرَ بِثَمَرَةٍ حَدَثَتْ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَلَمْ تُؤَبَّرْ عِنْدَ الأَْخْذِ؛ لأَِنَّهَا قَدْ تَبِعَتِ الأَْصْل فِي الْبَيْعِ، فَتَبِعَتْهُ فِي الأَْخْذِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا أُبِّرَتْ عِنْدَهُ فَلاَ يَأْخُذُهَا؛ لاِنْتِفَاءِ التَّبَعِيَّةِ، أَمَّا الْمُؤَبَّرَةُ عِنْدَ الْبَيْعِ إِذَا دَخَلَتْ بِالشَّرْطِ فَلاَ تُؤْخَذُ؛ لاِنْتِفَاءِ التَّبَعِيَّةِ كَمَا سَبَقَ، فَتَخْرُجُ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الثَّمَرَةِ الظَّاهِرَةِ وَغَيْرِ الظَّاهِرَةِ.
فَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ ظَاهِرَةً فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا حَقٌّ؛ لأَِنَّهُ مِلْكُهُ، يَبْقَى إِلَى أَوَانِ أَخْذِهِ بِحَصَادٍ أَوْ جِذَاذٍ أَوْ غَيْرِهِمَا.(15/21)
وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ فَهِيَ لِلشَّفِيعِ، وَمِثْل الثَّمَرَةِ الظَّاهِرَةِ وَغَيْرِ الظَّاهِرَةِ، الْمُؤَبَّرَةُ وَغَيْرُ الْمُؤَبَّرَةِ. فَلَوْ كَانَ الطَّلْعُ مَوْجُودًا حَال الشِّرَاءِ غَيْرَ مُؤَبَّرٍ، ثُمَّ أُبِّرَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَهُوَ لَهُ مُبْقًى إِلَى أَوَانِ جِذَاذِهِ، لَكِنْ يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الأَْرْضَ وَالنَّخْل بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّهُ فَاتَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَا شَمَلَهُ عَقْدُ الشِّرَاءِ، وَهُوَ الطَّلْعُ الَّذِي لَمْ يُؤَبَّرْ حَال الْعَقْدِ فَهُوَ كَمَا لَوْ شَمَل الشِّرَاءُ الشِّقْصَ وَعَرْضًا مَعَهُ. (1)
خَامِسًا: الْعَمَل فِي الأَْرْضِ عَلَى جُزْءٍ مِنَ الثَّمَرِ:
23 - أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ وَهُمَا الْعَمَل فِي الأَْرْضِ أَوِ الشَّجَرِ مُقَابِل جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنَ الثَّمَرَةِ الْخَارِجَةِ مِنْهُمَا، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَل أَهْل خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ (2) . قَال أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَامَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْل خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ ثُمَّ
__________
(1) تبيين الحقائق 5 / 251، وحاشية الدسوقي 3 / 480، 481، والتاج والإكليل بهامش مواهب الجليل 5 / 318، ومغني المحتاج ج 2 ص 297، وكشاف القناع 4 / 156
(2) حديث: " عامل أهل الخير خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 13 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1186 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.(15/22)
أَهْلُوهُمْ إِلَى الْيَوْمِ يُعْطُونَ الثُّلُثَ أَوِ الرُّبُعَ (1) فَهَذَا عَمِل بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ فَكَانَ كَالإِْجْمَاعِ؛ وَلأَِنَّهُمَا مِنْ عَقْدِ الشَّرِكَةِ بِمَالٍ مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَعَمَلٍ مِنَ الآْخَرِ فَيَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْمُضَارَبَةِ، وَالْجَامِعُ دَفْعُ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْمَال قَدْ لاَ يَهْتَدِي إِلَى الْعَمَل، وَالْمُهْتَدِي إِلَيْهِ قَدْ لاَ يَجِدُ الْمَال؛ فَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى انْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا.
قَال ابْنُ جُزَيٍّ فِي حُكْمِ الْمُسَاقَاةِ: وَهِيَ جَائِزَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ أَصْلَيْنِ مَمْنُوعَيْنِ: وَهُمَا الإِْجَارَةُ الْمَجْهُولَةُ، وَبَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ (بَيْعُ الْمَعْدُومِ) .
وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ وَذَهَبَ إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ، فَقِيل: مَا الْمُخَابَرَةُ؟ قَال: الْمُزَارَعَةُ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ. (2)
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ فَلْيَزْرَعْهَا أَخَاهُ، وَلاَ يُكَارِيهَا بِثُلُثٍ، وَلاَ بِرُبُعٍ، وَلاَ بِطَعَامٍ مُسَمًّى (3) وَلأَِنَّ الأَْجْرَ مَجْهُولٌ أَوْ
__________
(1) حديث: " عامل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خبير بالشطر ثم أبو بكر " أخرجه ابن حزم في المحلى (8 / 214 - ط المنيرية) ، وفي إسناده إرسال
(2) حديث: " نهى عن المخابرة. فقيل: ما المخابرة؟ قال: المزارعة بالثلث والربع ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 50 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1174 ط الحلبي)
(3) حديث: " من كانت له أرض فليزرعها أو فليزرعها أخاه ولا يكاريها بثلث أو بربع ولا بطعام مسمى ". أخرجه أبو داود (3 / 989 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث رافع بن خديج وأصله في صحيح مسلم (3 / 1181 - ط الحلبي)(15/22)
مَعْدُومٌ وَكُل ذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ.
غَيْرَ أَنَّ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بِالْجَوَازِ لِلْحَاجَةِ، وَقِيَاسًا عَلَى الْمُضَارَبَةِ.
وَمَنَعَ الشَّافِعِيَّةُ كَذَلِكَ الْمُزَارَعَةَ بِعَقْدٍ مُنْفَرِدٍ. أَمَّا إِذَا أُدْخِلَتْ مَعَ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بَيْنَ النَّخْل بَيَاضٌ، فَتَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ عِنْدَهُمْ، وَلَكِنْ بِشُرُوطٍ. (1)
وَهُنَاكَ شُرُوطٌ لِعَقْدَيِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَتَفْصِيلاَتٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (مُزَارَعَةٌ، مُسَاقَاةٌ، مُعَامَلَةٌ، مُخَابَرَةٌ) .
سَادِسًا: سَرِقَةُ الثِّمَارِ:
24 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لاَ قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الشَّجَرِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلاَ كَثَرٍ (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 174 وما بعدها، 181 وما بعدها، وتبيين الحقائق 5 / 278 وما بعدها 284، وحاشية الدسوقي 3 / 372، 539، ومواهب الجليل 5 / 176، 372، والقوانين الفقهية 277 وما بعدها، ومغني المحتاج 2 / 322 وما بعدها، وكشاف القناع 3 / 532
(2) حديث: " لا قطع في ثمر ولا كثر. . . " أخرجه أبو داود (4 / 549 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث رافع بن خديج، ونقل ابن حجر في التلخيص (4 / 65 - ط شركة الطباعة الفنية) عن الطحاوي أنه قال: " هذا الحديث تلقت العلماء متنه بالقبول "(15/23)
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلاً مِنْ مُزَيْنَةَ أَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِي حَرِيسَةِ الْجَبَل؟ فَقَال: هِيَ مِثْلُهَا وَالنَّكَال، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَاشِيَةِ قَطْعٌ إِلاَّ فِيمَا آوَاهُ الْمُرَاحُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ، فَفِيهِ قَطْعُ الْيَدِ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ. قَال: يَا رَسُول اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِي الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ؟ قَال: هُوَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ وَالنَّكَال، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ قَطْعٌ، إِلاَّ فِيمَا آوَاهُ الْجَرِينُ، فَمَا أُخِذَ مِنَ الْجَرِينِ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ الْقَطْعُ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ (1) . وَلأَِنَّهُ لاَ إِحْرَازَ فِيمَا عَلَى الشَّجَرِ ".
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِلَى الْقَطْعِ، وَهَذَا الْقَوْل مُخَرَّجٌ لِلَّخْمِيِّ عَلَى السَّرِقَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي الدَّارِ، وَأَمَّا الْقَوْل الأَْوَّل فَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ. ثُمَّ إِنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَحَلُّهُمَا ثِمَارُ الشَّجَرِ الْمُعَلَّقِ خِلْقَةً إِنْ كَانَ عَلَيْهِ غَلْقٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَلْقٌ فَلاَ قَطْعَ فِي سَرِقَتِهِ اتِّفَاقًا، وَكَذَلِكَ لاَ قَطْعَ اتِّفَاقًا إِنْ قُطِعَ ثُمَّ عُلِّقَ وَلَوْ بِغَلْقٍ.
__________
(1) حديث: عبد الله بن عمرو. أخرجه النسائي (8 / 86 - ط المكتبة التجارية) وإسناده حسن.(15/23)
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ الأَْشْجَارَ الَّتِي عَلَيْهَا حَارِسٌ يُرَاقِبُهَا مُحْرَزَةً، وَكَذَا الأَْشْجَارُ إِنْ اتَّصَلَتْ بِجِيرَانٍ يُرَاقِبُونَهَا عَادَةً، وَمِنْ ثَمَّ يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى سَارِقِ ثِمَارِهَا عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَشْجَارَ أَفْنِيَةِ الدُّورِ مُحْرَزَةٌ وَإِنْ كَانَتْ بِلاَ حَارِسٍ.
ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَحْرَزَ الثِّمَارَ وَجَبَ فِيهِ الْقَطْعُ، فَلَوْ وُضِعَ الثَّمَرُ فِي جَرِينٍ وَنَحْوِهِ عَلَيْهِ بَابٌ أَوْ حَافِظٌ فَهِيَ مُحْرَزَةٌ عَلَى سَارِقِهَا الْقَطْعُ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ الْبَابَ أَوْ الْحَافِظَ، فَيُقْطَعُ عِنْدَهُمْ إِنْ سَرَقَهُ مِنَ الْجَرِينِ مُطْلَقًا. كَمَا أَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا جُذَّ الثَّمَرُ وَوُضِعَ فِي مَحَلٍّ اعْتُبِرَ وَضْعُهُ فِيهِ قَبْل وُصُولِهِ إِلَى الْجَرِينِ ثُمَّ سَرَقَ مِنْهُ سَارِقٌ فَفِيهِ أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ:
الأَْوَّل: يُقْطَعُ مُطْلَقًا: وَالثَّانِي: لاَ يُقْطَعُ مُطْلَقًا، وَالثَّالِثُ: يُقْطَعُ إِنْ كُدِّسَ أَيْ يُجْمَعُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى يَصِيرَ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ بِتَكْدِيسِهِ أَشْبَهَ مَا فِي الْجَرِينِ، ثُمَّ إِنَّ مَحَل هَذِهِ الأَْقْوَال إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَارِسٌ، وَإِلاَّ قُطِعَ قَوْلاً وَاحِدًا، وَأَوْجَبَهُ الْحَنَابِلَةُ عَلَى سَارِقِ الثِّمَارِ الْمُعَلَّقِ أَنْ يَضْمَنَ عِوَضَهُ مَرَّتَيْنِ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَال: سُئِل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ. فَقَال: مَنْ أَصَابَ مِنْهُ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ(15/24)
وَالْعُقُوبَةُ، وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَمَنْ سَرَقَ دُونَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ وَلأَِنَّ الثِّمَارَ فِي الْعَادَةِ تَسْبِقُ الْيَدُ إِلَيْهَا، فَجَازَ أَنْ تُغَلَّظَ قِيمَتُهَا عَلَى سَارِقِهَا رَدْعًا لَهُ وَزَجْرًا بِخِلاَفِ غَيْرِهَا (1)
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 73، وحاشية ابن عابدين 3 / 198، وحاشية الدسوقي 4 / 339، 344، والقوانين الفقهية 352، وحواشي الشرواني وابن القاسم العبادي على تحفة المحتاج 9 / 135، وشرح روض الطالب، وكشاف القناع 6 / 139، 140(15/24)
ثَمَنٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الثَّمَنُ لُغَةً: مَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الشَّيْءُ. وَفِي الصِّحَاحِ: الثَّمَنُ ثَمَنُ الْمَبِيعِ، وَفِي التَّهْذِيبِ: ثَمَنُ كُل شَيْءٍ قِيمَتُهُ.
قَال الزَّبِيدِيُّ: قَال شَيْخُنَا: اشْتُهِرَ أَنَّ الثَّمَنَ مَا يَقَعُ بِهِ التَّرَاضِي وَلَوْ زَادَ أَوْ نَقَصَ عَنْ الْوَاقِعِ، وَالْقِيمَةُ مَا يُقَاوِمُ الشَّيْءَ، أَيْ: يُوَافِقُ مِقْدَارَهُ فِي الْوَاقِعِ وَيُعَادِلُهُ.
وَقَال الرَّاغِبُ: الثَّمَنُ اسْمٌ لِمَا يَأْخُذُهُ الْبَائِعُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَبِيعِ، عَيْنًا كَانَ أَوْ سِلْعَةً، وَكُل مَا يُحَصَّل عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ فَهُوَ ثَمَنُهُ.
وَالثَّمَنُ هُوَ: مَبِيعٌ بِثَمَنٍ. (1)
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَالثَّمَنُ، مَا يَكُونُ بَدَلاً لِلْمَبِيعِ وَيَتَعَيَّنُ فِي الذِّمَّةِ، وَتُطْلَقُ الأَْثْمَانُ أَيْضًا عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. (2)
__________
(1) لسان العرب وتاج العروس والمصباح والمفردات للراغب الأصفهاني مادة: " ثمن "
(2) البحر الرائق لابن نجيم 5 / 277، والمغني لابن قدامة - ط دار الكتاب العربي ببيروت 4 / 2، وكشاف القناع للبهوتي - تحقيق الشيخ هلال مصيلحي. بيروت 3 / 146، ومغني المحتاج للشربيني 2 / 2، وشرح الزرقاني على سيدي خليل - دار الفكر بيروت 5 / 3(15/25)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقِيمَةُ:
2 - الْقِيمَةُ مَا قُوِّمَ بِهِ الشَّيْءُ بِمَنْزِلَةِ الْمِعْيَارِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلاَ نُقْصَانٍ. (1)
وَالثَّمَنُ مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الْمُتَعَاقِدَانِ سَوَاءٌ زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ أَوْ نَقَصَ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّمَنِ أَنَّ الْقِيمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ ثَمَنِ الْمِثْل، وَالثَّمَنُ الْمُتَرَاضَى عَلَيْهِ قَدْ يُسَاوِي الْقِيمَةَ أَوْ يَزِيدُ عَنْهَا أَوْ يَنْقُصُ (2) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل أَحْكَامِ ثَمَنِ الْمِثْل فِي (الْقِيمَةُ) .
ب - السِّعْرُ:
3 - السِّعْرُ هُوَ الثَّمَنُ الْمُقَدَّرُ لِلسِّلْعَةِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّمَنِ أَنَّ الثَّمَنَ هُوَ مَا يَتَرَاضَى عَلَيْهِ الْعَاقِدَانِ أَمَّا السِّعْرُ فَهُوَ مَا يَطْلُبُهُ الْبَائِعُ.
الثَّمَنُ مِنْ أَرْكَانِ عَقْدِ الْبَيْعِ:
4 - اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (3) عَلَى أَنَّ
__________
(1) المغرب مادة: " ثمن "، المجلة، المادة / 153، ورد المحتار على الدر المختار لابن عابدين - ط 2 مصرة سنة 1966 - 4 / 575
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 340
(3) مغني المحتاج للشربيني 2 / 3، والمنهج وشرحه والجمل عليه - 3 / 5، والشرح الكبير للدردير 3 / 2، والزرقاني على سيدي خليل 5 / 3، وكشاف القناع 3 / 146 وما بعدها، ومطالب أولي النهى للرحيباني 3 / 4 وما بعدها.(15/25)
الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ (وَهُوَ الثَّمَنُ وَالْمَبِيعُ) مِنْ أَرْكَانِ عَقْدِ الْبَيْعِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (1) إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ (الإِْيجَابُ وَالْقَبُول) أَمَّا الثَّمَنُ فَهُوَ أَحَدُ جُزْأَيْ مَحَل عَقْدِ الْبَيْعِ الَّذِي هُوَ (الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ) وَلَيْسَ الْمَحَل رُكْنًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا تَفَاسَخَ الْمُتَبَايِعَانِ بَعْدَ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ، كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَرُدَّ الْبَائِعُ الَّذِي قَبَضَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَبِيعِ، عَرَضًا كَانَ أَوْ نَقْدًا، ثَمَنًا كَانَ أَوْ قِيمَةً؛
لأَِنَّ الْمَبِيعَ مُقَابَلٌ بِهِ فَيَصِيرُ مَحْبُوسًا بِهِ كَالرَّهْنِ. فَكَانَ لَهُ وِلاَيَةُ أَنْ لاَ يَدْفَعَ الْمَبِيعَ إِلَى أَنْ يَأْخُذَ الثَّمَنَ مِنَ الْبَائِعِ.
وَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ فِي حَالَةِ التَّفَاسُخِ فَالْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِحَبْسِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ؛ لأَِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَال حَيَاتِهِ، فَكَذَا يُقَدَّمُ عَلَى تَجْهِيزِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. (2)
شُرُوطُ الثَّمَنِ:
5 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَأَنْ يَكُونَ مَالاً، وَمَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي، وَمَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَمَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
__________
(1) البحر الرائق 5 / 278، ورد المحتار 4 / 504، 505
(2) تبيين الحقائق للزيلعي 4 / 65، والعناية وفتح القدير على الهداية 5 / 234 - طبعة مصطفى محمد بمصر سنة 1356 هـ(15/26)
الشَّرْطُ الأَْوَّل - تَسْمِيَةُ الثَّمَنِ:
6 - تَسْمِيَةُ الثَّمَنِ حِينَ الْبَيْعِ لاَزِمَةٌ، فَلَوْ بَاعَ بِدُونِ تَسْمِيَةِ ثَمَنٍ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ مَعَ نَفْيِ الثَّمَنِ بَاطِلٌ، إِذْ لاَ مُبَادَلَةَ حِينَئِذٍ، وَمَعَ السُّكُوتِ عَنْهُ فَاسِدٌ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ. (1)
فَإِذَا بِيعَ الْمَال وَلَمْ يُذْكَرِ الثَّمَنُ حَقِيقَةً، كَأَنْ يَقُول الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ هَذَا الْمَال مَجَّانًا أَوْ بِلاَ بَدَلٍ فَيَقُول الْمُشْتَرِي: قَبِلْتُ، فَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ.
وَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ الثَّمَنُ حُكْمًا، كَأَنْ يَقُول إِنْسَانٌ لآِخَرَ: بِعْتُكَ هَذَا الْمَال بِالأَْلْفِ الَّتِي لَكَ فِي ذِمَّتِي، فَيَقْبَل الْمُشْتَرِي، مَعَ كَوْنِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَعْلَمَانِ أَنْ لاَ دَيْنَ، فَالْبَيْعُ فِي مِثْل هَذِهِ الصُّورَةِ بَاطِلٌ أَيْضًا، وَيَكُونُ الشَّيْءُ هِبَةً فِي الصُّورَتَيْنِ.
وَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ مَسْكُوتًا عَنْهُ حِينَ الْبَيْعِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ وَلَيْسَ بِبَاطِلٍ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ، فَإِذَا سَكَتَ الْبَائِعُ عَنِ الثَّمَنِ كَانَ مَقْصِدُهُ أَخْذَ قِيمَةِ الْمَبِيعِ، فَكَأَنَّهُ يَقُول: بِعْتُ مَا لِي بِقِيمَتِهِ، وَذِكْرُ الْقِيمَةِ مُجْمَلَةً يَجْعَل الثَّمَنَ مَجْهُولاً فَيَكُونُ الْبَيْعُ فَاسِدًا. (2)
وَبَيْعُ التَّعَاطِي صَحِيحٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لأَِنَّ
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية المادة 237 وشرحها لمنير القاضي 1 / 276، ومنحة الخالق على البحر الرائق 5 / 296
(2) درر الحكام شرح مجلة الأحكام - علي حيدر 1 / 185 - طبعة مصورة ببيروت(15/26)
الثَّمَنَ وَالْمُثَمَّنَ مَعْلُومَانِ فِيهِ، وَالتَّرَاضِي قَائِمٌ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ صِفَةٌ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لاَ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ إِلاَّ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ. قَال ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَلَى الصَّدَاقِ: الصَّدَاقُ نِحْلَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَرَضَهَا لِلزَّوْجَاتِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، لاَ عَنْ عِوَضٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَفْتَقِرْ عَقْدُ النِّكَاحِ إِلَى تَسْمِيَةٍ، وَلَوْ كَانَ الصَّدَاقُ ثَمَنًا لِلْبُضْعِ حَقِيقَةً لَمَا صَحَّ النِّكَاحُ دُونَ تَسْمِيَةٍ، كَالْبَيْعِ الَّذِي لاَ يَنْعَقِدُ إِلاَّ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ. وَفِي الْمَجْمُوعِ قَال النَّوَوِيُّ: يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ أَنْ يَذْكُرَ الثَّمَنَ فِي حَال الْعَقْدِ، فَيَقُول: بِعْتُكَ كَذَا بِكَذَا، فَإِنْ قَال: بِعْتُكَ هَذَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا، فَقَال الْمُخَاطَبُ: اشْتَرَيْتُ أَوْ قَبِلْتُ لَمْ يَكُنْ هَذَا بَيْعًا بِلاَ خِلاَفٍ، وَلاَ يَحْصُل بِهِ الْمِلْكُ لِلْقَابِل عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقِيل: فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا هَذَا، وَالثَّانِي: يَكُونُ هِبَةً.
وَقَال السُّيُوطِيُّ: إِذَا قَال: بِعْتُكَ بِلاَ ثَمَنٍ، أَوْ لاَ ثَمَنَ لِي عَلَيْكَ، فَقَال: اشْتَرَيْتُ وَقَبَضَهُ فَلَيْسَ بَيْعًا، وَفِي انْعِقَادِهِ هِبَةً قَوْلاَ تَعَارُضِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَإِذَا قَال الْبَائِعُ: بِعْتُكَ وَلَمْ يَذْكُرْ ثَمَنًا، فَإِنْ رَاعَيْنَا الْمَعْنَى انْعَقَدَ هِبَةً، أَوْ اللَّفْظَ فَهُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَقَدْ جَاءَ فِي الإِْنْصَافِ: يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الثَّمَنِ حَال الْعَقْدِ عَلَى الصَّحِيحِ(15/27)
مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الأَْصْحَابُ، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ صِحَّةَ الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ، وَلَهُ ثَمَنُ الْمِثْل كَالنِّكَاحِ. (1)
الشَّرْطُ الثَّانِي - كَوْنُ الثَّمَنِ مَالاً:
7 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الثَّمَنِ لاِنْعِقَادِ الْبَيْعِ: أَنْ يَكُونَ مَالاً مُتَقَوِّمًا.
لأَِنَّ الْبَيْعَ هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَال بِالْمَال بِالتَّرَاضِي. (2)
وَالْمَال هُوَ مَا يَمِيل إِلَيْهِ الطَّبْعُ وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، وَالْمَالِيَّةُ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِتَمَوُّل النَّاسِ كَافَّةً أَوْ بَعْضِهِمْ.
وَالتَّقَوُّمُ يَثْبُتُ بِهَا وَبِإِبَاحَةِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا. فَمَا يَكُونُ مُبَاحَ الاِنْتِفَاعِ بِدُونِ تَمَوُّل النَّاسِ لاَ يَكُونُ مَالاً، كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ. وَمَا يَكُونُ مَالاً بَيْنَ النَّاسِ، وَلاَ يَكُونُ مُبَاحَ الاِنْتِفَاعِ لاَ يَكُونُ مُتَقَوِّمًا، كَالْخَمْرِ. وَإِذَا عُدِمَ الأَْمْرَانِ لَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَالدَّمِ.
فَالْمَال أَعَمُّ مِنَ الْمُتَقَوِّمِ؛ لأَِنَّ الْمَال مَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ وَلَوْ غَيْرَ مُبَاحٍ كَالْخَمْرِ، وَالْمُتَقَوِّمُ مَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ مَعَ الإِْبَاحَةِ. فَالْخَمْرُ مَالٌ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، فَلِذَا فَسَدَ الْبَيْعُ بِجَعْلِهَا ثَمَنًا، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْعَقِدْ
__________
(1) المقدمات الممهدات 2 / 30، والمجموع 9 / 158، 159 تحقيق المطيعي والأشباه للسيوطي ص / 184، والإنصاف 4 / 309، الاختيارات الفقهية ص / 122
(2) البحر الرائق 5 / 277(15/27)
أَصْلاً بِجَعْلِهَا مَبِيعًا؛ لأَِنَّ الثَّمَنَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَل وَسِيلَةٌ إِلَى الْمَقْصُودِ، إِذْ الاِنْتِفَاعُ بِالأَْعْيَانِ لاَ بِالأَْثْمَانِ، وَلِهَذَا اشْتُرِطَ وُجُودُ الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ فَبِهَذَا الاِعْتِبَارِ صَارَ الثَّمَنُ مِنْ جُمْلَةِ الشُّرُوطِ بِمَنْزِلَةِ آلاَتِ الصُّنَّاعِ.
وَمِنْ هَذَا قَال فِي الْبَحْرِ: الْبَيْعُ وَإِنْ كَانَ مَبْنَاهُ عَلَى الْبَدَلَيْنِ، لَكِنَّ الأَْصْل فِيهِ الْمَبِيعُ دُونَ الثَّمَنِ، وَلِذَا تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ، وَيَنْفَسِخُ بِهَلاَكِ الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ. (1)
وَالتَّقَوُّمُ فِي الثَّمَنِ شَرْطُ صِحَّةٍ، وَفِي الْمَبِيعِ شَرْطُ انْعِقَادٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ الثَّمَنِ:
أَنْ يَكُونَ مَالاً طَاهِرًا، فَلاَ يَصِحُّ مَا نَجَاسَتُهُ أَصْلِيَّةٌ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، (2) وَقَال: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَْصْنَامِ (3) . وَقِيسَ عَلَيْهَا مَا فِي مَعْنَاهَا. وَلاَ يَصِحُّ مَا هُوَ
__________
(1) رد المحتار 4 / 501، والبحر الرائق 5 / 278.
(2) حديث: " نهى عن ثمن الكلب. . . " أخرجه أبو داود (3 / 754 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث جابر بن عبد الله، وأصله في صحيح مسلم (3 / 1199 ط الحلبي)
(3) حديث: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 424 ط السلفية) من حديث جابر بن عبد الله(15/28)
مُتَنَجِّسٌ لاَ يَقْبَل التَّطْهِيرَ كَسَمْنٍ وَلَبَنٍ تَنَجَّسَ. وَأَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ انْتِفَاعًا شَرْعِيًّا وَلَوْ فِي الْمَال كَالْبَهِيمَةِ الصَّغِيرَةِ. فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ مَا لاَ نَفْعَ فِيهِ، لأَِنَّهُ لاَ يُعَدُّ مَالاً، كَالْحَشَرَاتِ الَّتِي لاَ نَفْعَ فِيهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَالاً.
وَالْمَال شَرْعًا: (مَا يُبَاحُ نَفْعُهُ مُطْلَقًا، وَيُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ بِلاَ حَاجَةٍ) فَخَرَجَ: مَا لاَ نَفْعَ فِيهِ أَصْلاً كَبَعْضِ الْحَشَرَاتِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُحَرَّمَةٌ كَالْخَمْرِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ لِلْحَاجَةِ كَالْكَلْبِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ تُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ كَالْمَيْتَةِ فِي حَال الْمَخْمَصَةِ، وَخَمْرٍ لِدَفْعِ لُقْمَةٍ غَصَّ بِهَا. (1)
أَنْوَاعُ الأَْمْوَال مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةِ:
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الأَْمْوَال أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
أ - ثَمَنٌ بِكُل حَالٍ، وَهُوَ النَّقْدَانِ، صَحِبَهُ الْبَاءُ أَوْ لاَ، قُوبِل بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ؛ لأَِنَّ الثَّمَنَ مَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْعَرَبِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ، (2) وَالنُّقُودُ لاَ تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ إِلاَّ دَيْنًا فِي
__________
(1) الشرح الكبير للدردير 3 / 10، وشرح الزرقاني 5 / 16، والمنهاج ومغني المحتاج عليه 2 / 11، وكشاف القناع 3 / 152، ومطالب أولي النهى 3 / 12
(2) قال الفراء في قوله عز وجل: (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) . (سورة البقرة / 41) . اشتريت ثوبا بكساء، أيهما شئت تجعله ثمنا لصاحبه، لأنه ليس من الأثمان، وما كان ليس من الأثمان مثل الرقيق والدور وجميع العروض فهو على هذا فإذا جئت إلى الدراهم والدنانير(15/28)
الذِّمَّةِ، فَكَانَتْ ثَمَنًا بِكُل حَالٍ.
ب - مَبِيعٌ بِكُل حَالٍ، كَالدَّوَابِّ وَنَحْوِهَا مِنَ الأَْعْيَانِ غَيْرِ الْمِثْلِيَّةِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ؛ لأَِنَّ الْعُرُوضَ لاَ تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ إِلاَّ عَيْنًا فَكَانَتْ مَبِيعَةً.
ج - ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا مِثْلِيَّةٌ فَثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ فَأَشْبَهَتِ النَّقْدَ، وَمَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ، نَظَرًا إِلَى الاِنْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا فَأَشْبَهَتِ الْعُرُوضَ. وَذَلِكَ كَالْمِثْلِيَّاتِ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ كَالْبَيْضِ. فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ مُعَيَّنًا فِي الْعَقْدِ كَانَ مَبِيعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا وَصَحِبَهُ الْبَاءُ، وَقُوبِل بِالْمَبِيعِ فَهُوَ ثَمَنٌ. وَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ حَرْفُ الْبَاءِ وَلَمْ يُقَابِلْهُ ثَمَنٌ فَهُوَ مَبِيعٌ؛
لأَِنَّ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونَ غَيْرَ النَّقْدَيْنِ يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ عَيْنًا تَارَةً، وَدَيْنًا أُخْرَى، فَكَانَ ثَمَنًا فِي حَالٍ، مَبِيعًا فِي حَالٍ.
د - ثَمَنٌ بِالاِصْطِلاَحِ، وَهُوَ سِلْعَةٌ فِي الأَْصْل كَالْفُلُوسِ.(15/29)
فَإِنْ كَانَ رَائِجًا كَانَ ثَمَنًا، وَإِنْ كَانَ كَاسِدًا فَهُوَ سِلْعَةٌ مُثَمَّنٌ. وَالْحَاصِل - كَمَا قَال الْحَصْكَفِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ - إِنَّ الْمِثْلِيَّاتِ تَكُونُ ثَمَنًا إِذَا دَخَلَتْهَا الْبَاءُ وَلَمْ تُقَابَل بِثَمَنٍ، أَيْ: بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ، سَوَاءٌ تَعَيَّنَتْ أَوْ لاَ. وَكَذَا إِذَا لَمْ تَدْخُلْهَا الْبَاءُ، وَلَمْ تُقَابَل بِثَمَنٍ وَتَعَيَّنَتْ. وَتَكُونُ مَبِيعًا إِذَا قُوبِلَتْ بِثَمَنٍ مُطْلَقًا، أَيْ: سَوَاءٌ دَخَلَتْهَا الْبَاءُ أَوْ لاَ، تَعَيَّنَتْ أَوْ لاَ. وَكَذَا إِذَا لَمْ تُقَابَل بِثَمَنٍ وَلَمْ يَصْحَبْهَا الْبَاءُ وَلَمْ تُعَيَّنْ، كَبِعْتُكَ كُرَّ حِنْطَةٍ بِهَذَا الْعَبْدِ.
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: الْفُلُوسُ الرَّائِجَةُ إِنْ قُوبِلَتْ بِخِلاَفِ جِنْسِهَا فَهِيَ أَثْمَانٌ، وَكَذَا إِنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا مُتَسَاوِيَةً فِي الْعَدَدِ. وَإِنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلَةً فِي الْعَدَدِ فَهِيَ مَبِيعَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ أَثْمَانٌ عَلَى كُل حَالٍ. (1)
وَقَرِيبٌ مِنْهُ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الثَّمَنَ النَّقْدُ إِنْ قُوبِل بِغَيْرِهِ لِلْعُرْفِ، فَإِنْ كَانَ الْعِوَضَانِ نَقْدَيْنِ أَوْ عَرَضَيْنِ فَالثَّمَنُ مَا الْتَصَقَتْ بِهِ بَاءُ الثَّمَنِيَّةِ وَالْمُثَمَّنُ مَا يُقَابِلُهُ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ كُلًّا مِنَ الْعِوَضَيْنِ ثَمَنٌ لِلآْخَرِ وَمُثَمَّنٌ، وَلاَ مَانِعَ مِنْ كَوْنِ النُّقُودِ مَبِيعَةً؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الْعِوَضَيْنِ مَبِيعٌ بِالآْخَرِ، لَكِنْ جَرَى
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 145، والبحر الرائق 6 / 221، ورد المحتار 4 / 531، 5 / 272، وفتح القدير 5 / 83، 368، وبدائع الصنائع 7 / 3225(15/29)
الْعُرْفُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ وَالْعِوَضُ الثَّانِي شَيْئًا مِنَ الْمُثَمَّنَاتِ، عَرَضًا أَوْ نَحْوَهُ، أَنَّ الثَّمَنَ هُوَ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ وَمَا عَدَاهُمَا مُثَمَّنَاتٌ. (1)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الثَّمَنَ يَتَمَيَّزُ عَنِ الْمُثَمَّنِ بِبَاءِ الْبَدَلِيَّةِ، وَلَوْ أَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ نَقْدٌ.
فَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ فَهُوَ ثَمَنٌ، فَدِينَارٌ بِثَوْبٍ: الثَّمَنُ الثَّوْبُ، لِدُخُول الْبَاءِ عَلَيْهِ. (2)
تَعَيُّنُ الثَّمَنِ بِالتَّعْيِينِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعَيُّنِ الأَْثْمَانِ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: إِنَّ النُّقُودَ لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، فَإِذَا اشْتَرَى بِهَذَا الدِّرْهَمِ فَلَهُ دَفْعُ دِرْهَمٍ غَيْرِهِ.
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ - إِلاَّ زُفَرَ - وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ إِلاَّ إِنْ كَانَ الْعَاقِدُ مِنْ ذَوِي الشُّبُهَاتِ.
وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي تَعَيُّنِ الأَْثْمَانِ.
فَالأَْثْمَانُ النَّقْدِيَّةُ الرَّائِجَةُ لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالإِْجَارَةِ.
أَمَّا فِي غَيْرِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالأَْمَانَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْغَصْبِ فَإِنَّهَا تَتَعَيَّنُ
__________
(1) البهجة شرح التحفة 2 / 86، والحطاب 4 / 479، والمجموع شرح المهذب 9 / 262، ومغني المحتاج 2 / 70
(2) مطالب أولي النهى 3 / 185(15/30)
بِالتَّعْيِينِ؛ لأَِنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَسَائِل لِغَيْرِهَا بَل تَكُونُ مَقْصُودَةً بِالذَّاتِ، فَإِذَا هَلَكَ رَأْسُ مَال أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ قَبْل الشِّرَاءِ وَقَبْل الْخَلْطِ تَنْفَسِخُ الشَّرِكَةُ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الأَْثْمَانُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ غَيْرِ النُّقُودِ، فَإِنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ؛ لأَِنَّهَا إِذَا عُيِّنَتْ تَكُونُ مَبِيعَةً مِنْ وَجْهٍ وَمَقْصُودَةً بِالذَّاتِ.
أَمَّا الْفُلُوسُ وَالدَّرَاهِمُ الَّتِي غَالِبُهَا الْغِشُّ:
فَإِنْ كَانَتْ رَائِجَةً فَلاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، لِكَوْنِهَا أَثْمَانًا بِالاِصْطِلاَحِ، فَمَا دَامَ ذَلِكَ الاِصْطِلاَحُ مَوْجُودًا لاَ تَبْطُل الثَّمَنِيَّةُ، لِقِيَامِ الْمُقْتَضِي. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ رَائِجَةٍ فَتَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ؛ لِزَوَال الْمُقْتَضِي لِلثَّمَنِيَّةِ وَهُوَ الاِصْطِلاَحُ، وَهَذَا لأَِنَّهَا فِي الأَْصْل سِلْعَةٌ، وَإِنَّمَا صَارَتْ أَثْمَانًا بِالاِصْطِلاَحِ، فَإِذَا تَرَكُوا الْمُعَامَلَةَ بِهَا رَجَعَتْ إِلَى أَصْلِهَا.
كَمَا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوُا الصَّرْفَ وَالْكِرَاءَ فَفِيهِمَا تَتَعَيَّنُ النُّقُودُ بِالتَّعْيِينِ، وَوَجْهُ الْقَوْل بِأَنَّ الأَْثْمَانَ النَّقْدِيَّةَ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ لاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، أَنَّ الْمَبِيعَ فِي الأَْصْل اسْمٌ لِمَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالثَّمَنَ فِي الأَْصْل مَا لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ. فَالْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ مِنَ الأَْسْمَاءِ الْمُتَبَايِنَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ.
فَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ عَلَى هَذَا الأَْصْل أَثْمَانٌ لاَ تَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فِي حَقِّ الاِسْتِحْقَاقِ وَإِنْ عُيِّنَتْ، حَتَّى لَوْ قَال: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الثَّوْبَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ أَوْ بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ كَانَ(15/30)
لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُمْسِكَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ وَيَرُدَّ مِثْلَهُ.
وَلَكِنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ، حَتَّى يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مِثْل الْمُشَارِ إِلَيْهِ جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً، وَلَوْ هَلَكَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ لاَ يَبْطُل الْعَقْدُ. (1)
10 - وَالثَّمَنُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا فِي الذِّمَّةِ، هَكَذَا نُقِل عَنِ الْفَرَّاءِ، وَهُوَ إِمَامٌ فِي اللُّغَةِ، وَلأَِنَّ أَحَدَهُمَا يُسَمَّى ثَمَنًا، وَالآْخَرَ مَبِيعًا فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَاخْتِلاَفُ الأَْسَامِي دَلِيل اخْتِلاَفِ الْمَعَانِي فِي الأَْصْل، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَعْمَل أَحَدُهُمَا مَكَانَ صَاحِبِهِ تَوَسُّعًا؛ لأَِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقَابِل صَاحِبَهُ، فَيُطْلَقُ اسْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ، كَمَا يُسَمَّى جَزَاءُ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةً، وَجَزَاءُ الاِعْتِدَاءِ اعْتِدَاءً.
وَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ اسْمًا لِمَا فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلاً لِلتَّعْيِينِ بِالإِْشَارَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْيِينُ حَقِيقَةً فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ، فَجُعِل كِنَايَةً عَنْ بَيَانِ الْجِنْسِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَنَوْعِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ، تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْعَاقِل بِقَدْرِ الإِْمْكَانِ. وَلأَِنَّ التَّعْيِينَ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لأَِنَّ كُل عِوَضٍ يُطْلَبُ مِنَ الْمُعَيَّنِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ
__________
(1) رد المحتار 5 / 153، وتبيين الحقائق 4 / 141، والمجلة مادة 243، 244، ودرر الأحكام لعلي حيدر 1 / 191، والبحر الرائق 5 / 299، 6 / 218، والعناية 5 / 83، والمنتقى شرح الموطأ 4 / 268، والدسوقي 3 / 155، والمغني مع الشرح الكبير 4 / 169، 175(15/31)
مِنْ مِثْلِهِ، فَلَمْ يَكُنِ التَّعْيِينُ فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ مُفِيدًا فَيَلْغُو فِي حَقِّهِ، وَيُعْتَبَرُ فِي بَيَانِ حَقِّ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ، وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ؛ لأَِنَّ التَّعْيِينَ فِي حَقِّهِ مُفِيدٌ.
وَلأَِنَّهُ يَجُوزُ إِطْلاَقُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الْعَقْدِ، فَلاَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِيهِ، كَالْمِكْيَال وَالصَّنْجَةِ.
وَيَسْتَثْنِي الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ الصَّرْفَ فَتَتَعَيَّنُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ بِالتَّعْيِينِ فِيهِ لاِشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِيهِ فِي الْمَجْلِسِ وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ أَيْضًا الْكِرَاءَ. (1)
الْقَوْل الثَّانِي: الأَْثْمَانُ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ:
11 - فَيَتَعَيَّنُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي الدَّرَاهِمَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا، كَمَا فِي سَائِرِ الأَْعْيَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، وَلَوْ هَلَكَ قَبْل الْقَبْضِ يَبْطُل الْعَقْدُ، كَمَا لَوْ هَلَكَ سَائِرُ الأَْعْيَانِ، وَلاَ يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ.
وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَالأَْظْهَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. (2)
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 3223 - 3225، والمنتقى شرح الموطأ 4 / 268، والمغني لابن قدامة 4 / 169 وبهامشه الشرح الكبير 4 / 175
(2) بدائع الصنائع 7 / 3224، وفتح القدير 5 / 368، والمهذب 1 / 226، والمجموع 9 / 332 ط المنيرية، والمغني لابن قدامة 4 / 169 وبهامشه الشرح الكبير ص 175، وكشاف القناع 3 / 270، ومطالب أولي النهى 3 / 187(15/31)
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْل:
أَنَّ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ يُسْتَعْمَلاَنِ اسْتِعْمَالاً وَاحِدًا - فَهُمَا مِنَ الأَْسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنِ الآْخَرِ فِي الأَْحْكَامِ بِحَرْفِ الْبَاءِ - قَال تَعَالَى: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} (1) سَمَّى تَعَالَى الْمُشْتَرَى وَهُوَ الْمَبِيعُ ثَمَنًا، فَدَل عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ مَبِيعٌ، وَالْمَبِيعَ ثَمَنٌ.
وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يُذَكَّرَ الشِّرَاءُ بِمَعْنَى الْبَيْعِ، يُقَال: شَرَيْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى بِعْتُهُ، قَال تَعَالَى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ} (2) أَيْ: وَبَاعُوهُ؛
وَلأَِنَّ ثَمَنَ الشَّيْءِ قِيمَتُهُ، وَقِيمَةَ الشَّيْءِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ. وَلِهَذَا سُمِّيَ قِيمَةً لِقِيَامِهِ مَقَامَ غَيْرِهِ. وَالثَّمَنُ وَالْمُثَمَّنُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُومُ مَقَامَ صَاحِبِهِ، فَكَانَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَمَبِيعًا. دَل عَلَى أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ فِي اللُّغَةِ.
وَالْمَبِيعُ يَحْتَمِل التَّعَيُّنَ بِالتَّعْيِينِ فَكَذَا الثَّمَنُ، إِذْ هُوَ مَبِيعٌ.
وَلأَِنَّ الثَّمَنَ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ، فَيَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَسَائِرِ الأَْعْوَاضِ. (3)
__________
(1) سورة البقرة / 41
(2) سورة يوسف / 20
(3) بدائع الصنائع 7 / 3224، والمغني لابن قدامة 4 / 169، وبهامشة الشرح الكبير ص 175، (لأنه أحد العوضين، فيتعين بالتعيين كالآخر) . المهذب 1 / 266(15/32)
مَا يَحْصُل بِهِ التَّعْيِينُ:
12 - يَحْصُل التَّعْيِينُ بِالإِْشَارَةِ، سَوَاءٌ أَضَمَّ إِلَيْهَا الاِسْمَ أَمْ لاَ، كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، أَوْ بِهَذِهِ فَقَطْ، مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الدَّرَاهِمِ.
أَوْ بِعْتُكَ هَذَا بِهَذَا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْعِوَضَيْنِ.
وَيَحْصُل التَّعْيِينُ أَيْضًا بِالاِسْمِ كَبِعْتُكَ دَارِي بِمَوْضِعِ كَذَا، أَوْ بِمَا فِي يَدِي أَوْ كِيسِي مِنَ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ، وَهُمَا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ. (1)
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي:
13 - يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي. وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَمِلْكُ الْمُشْتَرِي يَكُونُ وَقْتَ الْعَقْدِ مِلْكًا تَامًّا، لاَ حَقَّ لِغَيْرِهِ فِيهِ. (2) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ (3) ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِبَائِعِهِ. وَالثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مِثْل الْمَبِيعِ فِي هَذَا الْحُكْمِ. (4)
__________
(1) مطالب أولي النهى 3 / 188، وكشاف القناع 3 / 271
(2) رد المحتار 4 / 505، والبحر الرائق 5 / 279 - 280، وكشاف القناع 3 / 157، ومطالب أولي النهى 3 / 18، والزرقاني والبناني عليه 5 / 16، ومغني المحتاج 2 / 15، والقليوبي 2 / 160
(3) حديث: " لا تبع ما ليس عندك " أخرجه الترمذي وحسنه من حديث حكيم بن حزام (تحفة الأحوذي 4 / 430 - نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة)
(4) كشاف القناع 3 / 157، ومطالب أولي النهى 3 / 18(15/32)
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ:
14 - يُشْتَرَطُ فِي الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ؛ لأَِنَّ مَا لاَ يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ شَبِيهٌ بِالْمَعْدُومِ، وَالْمَعْدُومُ لاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا. فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ ثَمَنًا، وَكَذَا الْجَمَل الشَّارِدُ الَّذِي لاَ يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ. (1) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ (2) قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْغَرَرُ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ مُتَضَادَّيْنِ أَغْلَبُهُمَا أَخْوَفُهُمَا. وَقِيل: مَا انْطَوَتْ عَنَّا عَاقِبَتُهُ. . . وَالْمَبِيعُ وَمِثْلُهُ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ إِذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى تَسْلِيمِهِ دَاخِلٌ فِي الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. (3)
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: مَعْرِفَةُ الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ فِي الثَّمَنِ:
15 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: الثَّمَنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إِلَيْهِ أَوْ غَيْرَ مُشَارٍ إِلَيْهِ.
__________
(1) البحر الرائق 5 / 279 و 280، ورد المحتار 4 / 505، والشرح الكبير للدردير 3 / 10 - 11، والزرقاني 5 / 16، ومغني المحتاج 2 / 12، والقليوبي 2 / 158، وكشاف القناع 3 / 162، ومطالب أولي النهى 3 / 25
(2) حديث: " نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر " أخرجه مسلم (3 / 1153 - ط الحلبي)
(3) مغني المحتاج 2 / 12، وأسنى المطالب 2 / 11(15/33)
فَإِنْ كَانَ مُشَارًا إِلَيْهِ فَلاَ حَاجَةَ إِلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهِ وَصِفَتِهِ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ.
(وَالْقَدْرُ: كَخَمْسَةِ أَوْ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَكْرَارُ حِنْطَةٍ. (1) وَالصِّفَةُ: كَعَشْرَةِ دَنَانِيرَ كُوَيْتِيَّةٍ أَوْ أُرْدُنِيَّةٍ، وَكَذَا حِنْطَةٌ بُحَيْرِيَّةٌ أَوْ صَعِيدِيَّةٌ) .
فَإِذَا قَال: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ مِنَ الْحِنْطَةِ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي فِي يَدِكَ وَهِيَ مَرْئِيَّةٌ لَهُ فَقَبِل جَازَ وَلَزِمَ؛ لأَِنَّ الإِْشَارَةَ أَبْلَغُ طُرُقِ التَّعْرِيفِ، وَجَهَالَةُ وَصْفِهِ وَقَدْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لاَ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ اللَّذَيْنِ أَوْجَبَهُمَا عَقْدُ الْبَيْعِ فَلاَ يَمْنَعُ الْجَوَازَ؛ لأَِنَّ الْعِوَضَيْنِ حَاضِرَانِ.
وَهَذَا بِخِلاَفِ الرِّبَوِيِّ إِذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ، حَيْثُ لاَ يَجُوزُ جُزَافًا؛ لاِحْتِمَال الرِّبَا لأَِنَّ عَدَمَ تَحَقُّقِ التَّمَاثُل يُعْتَبَرُ بِمَثَابَةِ الْعِلْمِ بِالتَّفَاضُل، وَبِخِلاَفِ رَأْسِ مَال السَّلَمِ، حَيْثُ لاَ يَجُوزُ إِذَا كَانَ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفَ الْقَدْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. (2)
وَوَافَقَ الْحَنَابِلَةُ الْحَنَفِيَّةَ فِي ذَلِكَ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: (وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ الأَْثْمَانِ وَالْمُثَمَّنَاتِ فِي صِحَّةِ بَيْعِهَا جُزَافًا) .
__________
(1) الكر جمعه أكرار، وهو كيل معروف، مقداره ستون قفيزا، والقفيز ثمانية مكاكيك، والمكوك صاع ونصف. المصباح المنير للفيومي مادة: (كرر)
(2) تبيين الحقائق 4 / 5، والبحر الرائق 5 / 294، والدر المختار ورد المحتار عليه 4 / 530، وانظر: المادة 238، 239 من مجلة الأحكام العدلية وفتح القدير 5 / 82، 83(15/33)
فَذَهَبُوا إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ إِذَا عُقِدَ عَلَى ثَمَنٍ بِوَزْنِ صَنْجَةٍ وَمِلْءِ كَيْلٍ مَجْهُولَيْنِ عُرْفًا، وَعَرَفَهُمَا الْمُتَعَاقِدَانِ بِالْمُشَاهَدَةِ، كَبِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ بِوَزْنِ هَذَا الْحَجَرِ فِضَّةً، أَوْ بِمِلْءِ هَذَا الْوِعَاءِ أَوْ الْكِيسِ دَرَاهِمَ.
وَذَهَبُوا أَيْضًا إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ بِصُبْرَةٍ مُشَاهَدَةٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ دَرَاهِمَ وَنَحْوِهَا، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمَا كَيْلَهَا وَلاَ وَزْنَهَا وَلاَ عَدَّهَا. (1)
وَنَحْوُ هَذَا الْقَوْل مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، قَال الشِّيرَازِيُّ: إِنْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ جُزَافًا جَازَ لأَِنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَيُكْرَهُ ذَلِكَ لأَِنَّهُ يُجْهَل قَدْرُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ. (2)
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ النَّقْدِ أَيِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ جُزَافًا إِذَا كَانَ مَسْكُوكًا، وَكَانَ التَّعَامُل بِهِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدَدِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الْوَزْنِ، لِقَصْدِ أَفْرَادِهِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ النَّقْدُ مَسْكُوكًا (3) سَوَاءٌ تَعَامَلُوا بِهِ وَزْنًا أَوْ عَدَدًا جَازَ بَيْعُهُ جُزَافًا، لِعَدَمِ قَصْدِ آحَادِهِ. (4)
__________
(1) المهذب 1 / 265، 266، ومغني المحتاج 2 / 18
(2) المهذب 1 / 265، 266، ومغني المحتاج 2 / 18
(3) المسكوك: المصوغ بالكيفية الخاصة، والمختوم بختم السلطان / جواهر الإكليل 2 / 8
(4) جواهر الإكليل 2 / 8، والدسوقي 3 / 22(15/34)
16 - أَمَّا إِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُشَارٍ إِلَيْهِ فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ بِهِ الْعَقْدُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ؛ لأَِنَّ جَهَالَتَهُ تُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ الْمَانِعِ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، فَيَخْلُو الْعَقْدُ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَكُل جَهَالَةٍ تُفْضِي إِلَيْهِ يَكُونُ مُفْسِدًا.
وَالصِّفَةُ إِذَا كَانَتْ مَجْهُولَةً تَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ فِي وَصْفِهَا، فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ دَفْعَ الأَْدْوَنِ، وَالْبَائِعُ يَطْلُبُ الأَْرْفَعَ. فَلاَ يَحْصُل مَقْصُودُ شَرْعِيَّةِ الْعَقْدِ، وَهُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِلاَ مُنَازَعَةٍ.
فَالْعِلْمُ بِالثَّمَنِ عِلْمًا مَانِعًا مِنَ الْمُنَازَعَةِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ عِنْدَهُمْ. (1)
17 - وَبِنَاءً عَلَى هَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ.
أ - لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْءِ بِقِيمَتِهِ. فَإِذَا بَاعَهُ بِقِيمَتِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّهُ جَعَل ثَمَنَهُ قِيمَتَهُ،
__________
(1) الهداية والعناية عليها 5 / 83، والدر المختار 4 / 529، 5 / 505، وكنز الدقائق - تبيين الحقائق 4 / 4، وانظر توجيه كلام بدائع الصنائع الوارد في 6 / 3053 (إن معرفة وصف المبيع والثمن ليست شرطا لصحة البيع، والجهل بها ليس بمانع من الصحة، لكن شرط اللزوم، فيصح بيع ما لم يره) . المنهاج ومغني المحتاج عليه 2 / 16، والقليوبي 2 / 157 المقدمات الممهدات لابن رشد (الجد) ص 550، بداية المجتهد لابن رشد (الحفيد) 2 / 147، والشرح الكبير للدردير 3 / 15، وجواهر الإكليل 2 / 6، والقوانين لابن جزي ص 272، والشرح الكبير لابن قدامة 4 / 33، وكشاف القناع 3 / 173، ومطالب أولي النهى 3 / 38(15/34)
وَالْقِيمَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، فَكَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولاً.
ب - وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْءِ بِمَا حَل بِهِ، أَوْ بِمَا تُرِيدُ، أَوْ تُحِبُّ، أَوْ بِرَأْسِ مَالِهِ، أَوْ بِمَا اشْتَرَاهُ، أَوْ بِمِثْل مَا اشْتَرَى فُلاَنٌ. فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْقَدْرِ فِي الْمَجْلِسِ فَرَضِيَهُ انْقَلَبَ جَائِزًا.
- وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إِلاَّ دِينَارًا، أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ إِلاَّ دِرْهَمًا.
- وَكَذَا لاَ يَجُوزُ بِمِثْل مَا يَبِيعُ النَّاسُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا لاَ يَتَفَاوَتُ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ. (1)
- وَكَذَا إِذَا بَاعَ بِحُكْمِ الْمُشْتَرِي، أَوْ بِحُكْمِ فُلاَنٍ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَدْرِي بِمَاذَا يَحْكُمُ فُلاَنٌ فَكَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولاً.
18 - ج - وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا بِأَنَّهُ وَإِنْ بَاعَهُ بِمَا يَنْقَطِعُ السِّعْرُ بِهِ، أَوْ بِمِثْل مَا بَاعَ بِهِ فُلاَنٌ، وَهُمَا لاَ يَعْلَمَانِهِ أَوْ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ.
د - وَإِنْ بَاعَهُ سِلْعَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ذَهَبًا وَفِضَّةً لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّهُ مَجْهُولٌ، لأَِنَّ مِقْدَارَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الأَْلْفِ مَجْهُولٌ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَال بِمِائَةٍ بَعْضُهَا ذَهَبٌ؛ وَلأَِنَّهُ بَيْعُ غَرَرٍ، فَيَدْخُل فِي عُمُومِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ. (2)
__________
(1) فتح القدير 5 / 83، وبدائع الصنائع 6 / 3041، والبحر الرائق 5 / 296
(2) بدائع الصنائع 6 / 3041، والبحر الرائق 5 / 296، والشرح الكبير لابن قدامة 4 / 33، وكشاف القناع 3 / 174، ومطالب أولي النهى 3 / 40، ومغني المحتاج 2 / 16، والمهذب 1 / 266، والشرح الكبير للدردير 3 / 15(15/35)
هـ - وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْءِ بِرَقْمِهِ، وَالْمُرَادُ الثَّمَنُ لاَ يَعْلَمُ بِهِ الْمُشْتَرِي حَتَّى يَنْظُرَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ.
وَهَذَا قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَالرَّقْمُ: عَلاَمَةٌ يُعْلَمُ بِهَا مِقْدَارُ مَا وَقَعَ الْبَيْعُ بِهِ مِنَ الثَّمَنِ.
وَالْبَيْعُ بِالرَّقْمِ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّ فِيهِ زِيَادَةَ جَهَالَةٍ تَمَكَّنَتْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، وَهِيَ جَهَالَةُ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّهَا بِرَقْمٍ لاَ يَعْلَمُهُ الْمُشْتَرِي، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْقِمَارِ، لِلْخَطَرِ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ كَذَا وَكَذَا.
وَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ الْعَقْدُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْل الْعِلْمِ بَطَل.
وَكَانَ الإِْمَامُ شَمْسُ الأَْئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ يَقُول: وَإِنْ عَلِمَ بِالرَّقْمِ فِي الْمَجْلِسِ لاَ يَنْقَلِبُ ذَلِكَ الْعَقْدُ جَائِزًا، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ الْبَائِعُ دَائِمًا عَلَى ذَلِكَ الرِّضَا وَرَضِيَ بِهِ الْمُشْتَرِي فِي الْمَجْلِسِ يَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا عَقْدَ ابْتِدَاءٍ بِالتَّرَاضِي. (1)
وَوَرَدَ فِي الْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ: (قَال أَحْمَدُ: وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ بِالرَّقْمِ. وَمَعْنَاهُ: أَنْ يَقُول: بِعْتُكَ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 / 3042، والبحر الرائق 5 / 296، وابن عابدين 4 / 514، 541، ومنحة الخالق على البحر الرائق 5 / 296، والمهذب 1 / 266، ومغني المحتاج 2 / 17، وأسنى المطالب 2 / 17، والمغني لابن قدامة 4 / 266، وبهامشه الشرح الكبير ص 33، ومطالب أولي النهى 3 / 40، وكشاف القناع 3 / 174.(15/35)
هَذَا الثَّوْبَ بِرَقْمِهِ، وَهُوَ الثَّمَنُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا لَهُمَا حَال الْعَقْدِ. وَهَذَا قَوْل عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَكَرِهَهُ طَاوُسٌ
وَلَنَا أَنَّهُ بَيْعٌ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ذَكَرَ مِقْدَارَهُ، أَوْ مَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ هَذَا بِمَا اشْتَرَيْتُهُ بِهِ وَقَدْ عَلِمَا قَدْرَهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُمَا أَوْ لأَِحَدِهِمَا لَمْ يَصِحَّ؛ لأَِنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ) . (1)
إِذَنْ فَالْحُكْمُ بِجَوَازِهِ هُنَا بِنَاءٌ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي يُفِيدُ أَنَّ الثَّمَنَ مَعْلُومٌ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا حَسَبَ التَّفْسِيرِ الْمُتَقَدِّمِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَلاَ خِلاَفَ عِنْدَئِذٍ.
و بَيْعُ صُبْرَةِ طَعَامٍ، كُل قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ:
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ. وَهُوَ قَوْل عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ؛ بِحُجَّةِ: أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَبْلَغَ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ حَال الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُ بَعْدَ الْكَيْل. (2)
الْقَوْل الثَّانِي: يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ، إِلاَّ أَنْ يُسَمِّيَ جُمْلَةَ قُفْزَانِهَا. وَهُوَ قَوْل الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، بِحُجَّةِ: أَنَّ صَرْفَ اللَّفْظِ إِلَى الْكُل مُتَعَذِّرٌ؛ لِجَهَالَةِ الْبَيْعِ وَالثَّمَنِ جَهَالَةً تُفْضِي إِلَى
__________
(1) المغني لابن قدامة 4 / 294
(2) المقدمات الممهدات ص 541، مغني المحتاج جـ 2 / 17، وأسنى المطالب 2 / 17(15/36)
الْمُنَازَعَةِ؛ لأَِنَّ الْبَائِعَ يَطْلُبُ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ أَوَّلاً، وَالثَّمَنُ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَيَقَعُ النِّزَاعُ. وَإِذَا تَعَذَّرَ الصَّرْفُ إِلَى الْكُل صُرِفَ إِلَى الأَْقَل، وَهُوَ مَعْلُومٌ، إِلاَّ أَنْ تَزُول الْجَهَالَةُ فِي الْمَجْلِسِ بِتَسْمِيَةِ جَمِيعِ الْقُفْزَانِ أَوْ بِالْكَيْل فِي الْمَجْلِسِ فَيَجُوزُ، لأَِنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ بِمَنْزِلَةِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. (1)
الْقَوْل الثَّالِثُ: يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْكُل، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا قَدْرَ قُفْزَانِهَا حَال الْعَقْدِ.
وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ. (2)
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي:
1 - أَنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَالثَّمَنَ مَعْلُومٌ لإِِشَارَتِهِ إِلَى مَا يُعْرَفُ مَبْلَغُهُ بِجِهَةٍ لاَ تَتَعَلَّقُ بِالْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ كَيْل الصُّبْرَةِ، فَجَازَ كَمَا لَوْ بَاعَ مَا رَأْسُ مَالِهِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ، لِكُل ثَلاَثَةَ عَشَرَ دِرْهَمٌ، فَإِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ فِي الْحَال، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالْحِسَابِ، كَذَا هَاهُنَا.
__________
(1) الهداية والعناية عليها 5 / 88، وتبيين الحقائق 4 / 5، والبحر الرائق 5 / 307، والاختيار 1 / 178، وبدائع الصنائع 6 / 3043، والشرح الكبير لابن قدامة 4 / 34، والزرقاني 5 / 23، وبداية المجتهد 2 / 158
(2) مصادر الحنفية السابقة، والزرقاني 5 / 23، والشرح الكبير للدردير 3 / 15، وبداية المجتهد 2 / 158، والشرح الكبير لابن قدامة 4 / 34، ومطالب أولي النهى 3 / 42، وكشاف القناع 3 / 174، والمهذب 1 / 266، ومغني المحتاج 2 / 17، وأسنى المطالب 2 / 17(15/36)
2 - أَنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَالثَّمَنَ مَعْلُومٌ قَدْرَ مَا يُقَابِل كُل جُزْءٍ مِنَ الْمَبِيعِ فَصَحَّ كَالأَْصْل الْمَذْكُورِ، وَالْغَرَرَ مُنْتَفٍ فِي الْحَال؛ لأَِنَّ مَا يُقَابِل كُل صَاعٍ مَعْلُومُ الْقَدْرِ حِينَئِذٍ. فَغَرَرُ الْجَهَالَةِ يَنْتَفِي بِالْعِلْمِ بِالتَّفْصِيل. كَمَا يَنْتَفِي بِالْعِلْمِ بِالْجُمْلَةِ، فَإِذَا جَازَ بِالْعِلْمِ بِالْجُمْلَةِ جَازَ بِالْعِلْمِ بِالتَّفْصِيل أَيْ: لاَ يَضُرُّ الْجَهْل بِحَمَلَةِ الثَّمَنَ لأَِنَّهُ مَعْلُومٌ بِالتَّفْصِيل، وَالْغَرَرُ مُرْتَفِعٌ بِهِ، كَمَا إِذَا بَاعَ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ جُزَافًا.
3 - لأَِنَّ إِزَالَةَ الْجَهَالَةِ بِيَدِهِمَا، فَتَرْتَفِعُ بِكَيْل كُلٍّ مِنْهُمَا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ. (1)
وَانْظُرْ أَيْضًا (بَيْعُ الْجُزَافِ) .
ز - لاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ إِلاَّ بِثَمَنٍ مَعْلُومِ الصِّفَةِ:
20 - لِذَلِكَ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ:
مَنْ أَطْلَقَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ عَنْ ذِكْرِ الصِّفَةِ دُونَ الْقَدْرِ، كَأَنْ قَال: اشْتَرَيْتُ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يَقُل بُخَارِيَّةً أَوْ سَمَرْقَنْدِيَّةً، وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، أَيْ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَعَامَل بِهِ فِي بَلَدِهِ.
وَبِهِ قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْل:
أَنَّ الْمَعْلُومَ بِالْعُرْفِ كَالْمَعْلُومِ بِالنَّصِّ، لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِيهِ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِهِ. (2)
__________
(1) المصادر السابقة
(2) الهداية والعناية 5 / 84، وتبيين الحقائق 4 / 5، وانظر الاختيار 1 / 178، وبدائع الصنائع 2 / 3042، والزرقاني 5 / 24، والمنهاج ومغني المحتاج عليه 3 / 17، والشرح الكبير لابن قدامة 4 / 33، ومطالب أولي النهى 3 / 40، وكشاف القناع 3 / 174(15/37)
وَيَبْنِي الْحَنَفِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً فِي الْمَالِيَّةِ كَالذَّهَبِ الْمِصْرِيِّ وَالْمَغْرِبِيِّ، فَإِنَّ الْمِصْرِيَّ أَفْضَل فِي الْمَالِيَّةِ مِنَ الْمَغْرِبِيِّ، وَكَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي الرَّوَاجِ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، لأَِنَّ مِثْل هَذِهِ الْجَهَالَةِ مُفْضِيَةٌ إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ دَفْعَ الأَْنْقَصِ مَالِيَّةً، وَالْبَائِعُ يُرِيدُ أَخْذَ الأَْعْلَى، فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ إِلاَّ أَنْ تُرْفَعَ الْجَهَالَةُ بِبَيَانِ أَحَدِهِمَا فِي الْمَجْلِسِ وَيَرْضَى الآْخَرُ؛ لاِرْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ قَبْل تَقَرُّرِهِ.
- وَإِذَا كَانَتِ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً فِي الرَّوَاجِ وَالْمَالِيَّةِ صَحَّ الْبَيْعُ وَانْصَرَفَ إِلَى الأَْرْوَجِ.
- وَإِذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي الرَّوَاجِ مُسْتَوِيَةً فِي الْمَالِيَّةِ صَحَّ الْبَيْعُ وَانْصَرَفَ إِلَى الأَْرْوَجِ أَيْضًا تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ.
- أَمَّا إِذَا اسْتَوَتْ فِي الرَّوَاجِ وَالْمَالِيَّةِ، وَإِنَّمَا الاِخْتِلاَفُ فِي الاِسْمِ كَالْمِصْرِيِّ وَالدِّمَشْقِيِّ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي فِي أَنْ يُؤَدِّيَ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لأَِنَّهُ لاَ مُنَازَعَةَ فِيهَا. (1)
__________
(1) الهداية والعناية 5 / 85، وتبيين الحقائق 4 / 5، وتعيين الذهب المصري والمغربي في هذا المثال هو في زمن البابرتي صاحب العناية المتوفى سنة 786 هـ، وفتح القدير 5 / 85، ورد المحتار 4 / 536، 538، وفي بدائع الصنائع 6 / 3043 (وإن كان في البلد نقود غالبة فالبيع فاسد، لأن الثمن مجهول، إذ لبعض ليس بأولى من بعض)(15/37)
فَالْحَاصِل:
أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ لأَِنَّ النُّقُودَ إِمَّا أَنْ تَسْتَوِيَ فِي الرَّوَاجِ وَالْمَالِيَّةِ مَعًا، أَوْ تَخْتَلِفَ فِيهِمَا، أَوْ يَسْتَوِيَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ.
وَالْفَسَادُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ: وَهِيَ: الاِسْتِوَاءُ فِي الرَّوَاجِ وَالاِخْتِلاَفُ فِي الْمَالِيَّةِ، وَالصِّحَّةُ فِي الثَّلاَثِ الْبَاقِيَةِ.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ الْفَاسِدَةُ ذَكَرَهَا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. (1)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ تَعَدَّدَتِ السِّكَكُ فِي الْبَلَدِ وَلَمْ يُبَيِّنْ، فَإِنْ اتَّحَدَتْ رَوَاجًا قَضَاهُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ قَضَاهُ مِنَ الْغَالِبِ إِنْ كَانَ، وَإِلاَّ فَسَدَ الْبَيْعُ لِعَدَمِ الْبَيَانِ.
وَعِبَارَةُ الشِّرْبِينِيِّ الشَّافِعِيِّ: إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ وَلَمْ يَغْلِبْ أَحَدُهُمَا أَوْ غَلَبَ أَحَدُهُمَا وَاخْتَلَفَتِ الْقِيمَةُ اشْتُرِطَ التَّعْيِينُ لَفْظًا لاِخْتِلاَفِ الْغَرَضِ بِاخْتِلاَفِهِمَا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ بَاعَ بِدِينَارٍ مُطْلَقٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَلاَ مَوْصُوفٍ وَفِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنَ الدَّنَانِيرِ كُلُّهَا رَائِجَةٌ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ. (2)
__________
(1) العناية شرح الهداية 5 / 85، والزرقاني 5 / 24، وانظر المقدمات الممهدات ص 550، والمنهاج ومغني المحتاج عليه 2 / 17، والشرح الكبير لابن قدامة 4 / 33، وكشاف القناع 3 / 174، ومطالب أولي النهى 3 / 40
(2) البهجة شرح التحفة 2 / 11، ومغني المحتاج 72، وكشاف القناع 3 / 174(15/38)
الْحُلُول وَالتَّأْجِيل فِي الثَّمَنِ:
21 - يَجُوزُ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ حَالٍّ، أَوْ مُؤَجَّلٍ إِذَا كَانَ الأَْجَل مَعْلُومًا، بِدَلِيل:
1 - إِطْلاَقِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) فَشَمَل مَا بِيعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمَا بِيعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ.
2 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتِ: اشْتَرَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ (2) .
قَال فِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ:
إِنَّ الْحُلُول مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَمُوجَبُهُ، وَالأَْجَل لاَ يَثْبُتُ إِلاَّ بِالشَّرْطِ.
فَإِذَا بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ ثُمَّ أَجَّلَهُ صَحَّ؛ لأَِنَّهُ حَقُّهُ. (3)
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ بِيعَ عَلَى شَرْطِ النَّقْدِ أَيْ تَعْجِيل الثَّمَنِ ثُمَّ تَرَاضَيَا عَلَى تَأْجِيلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْمُرَابَحَةِ بَيَانُ الأَْجَل، فَيُفْهَمُ مِنْهُ لُزُومُ الأَْجَل الَّذِي تَرَاضَيَا عَلَيْهِ. قَالُوا: لأَِنَّ
__________
(1) سورة البقرة / 275
(2) حديث: " اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعا من حديد " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 433 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1226 - ط الحلبي) واللفظ لمسلم.
(3) الهداية وفتح القدير 5 / 83 - 84، وتبيين الحقائق 4 / 5، وبدائع الصنائع 7 / 3227، والبحر الرائق 5 / 301، ورد المحتار 4 / 531، والاختيار 1 / 181(15/38)
اللاَّحِقَ لِلْعَقْدِ كَالْوَاقِعِ فِيهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الأَْجَل إِنْ كَانَتْ فِي مُدَّةِ الْخِيَارَيْنِ - خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارِ الشَّرْطِ - لَحِقَتْ بِأَصْل الْعَقْدِ، أَمَّا بَعْدَ لُزُومِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الأَْجَل لاَ تَلْحَقُ وَلَكِنْ يُنْدَبُ الْوَفَاءُ بِهَا، وَكَذَلِكَ تَأْجِيل الدَّيْنِ الْحَال. (1)
وَدَلِيل وُجُوبِ كَوْنِ الأَْجَل مَعْلُومًا:
1 - أَنَّ جَهَالَتَهُ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَتَكُونُ مَانِعَةً مِنَ التَّسَلُّمِ وَالتَّسْلِيمِ الْوَاجِبَيْنِ بِالْعَقْدِ، فَرُبَّمَا يُطَالِبُ الْبَائِعُ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ وَالْمُشْتَرِي يُؤَخِّرُ إِلَى بَعِيدِهَا.
2 - وَلأَِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَوْضِعِ شَرْطِ الأَْجَل وَهُوَ السَّلَمُ أَوْجَبَ فِيهِ التَّعْيِينَ، حَيْثُ قَال: مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ (2) فَيُقَاسُ عَلَيْهِ تَأْجِيل الثَّمَنِ.
3 - وَعَلَى كُل ذَلِكَ انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ. (3)
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 57، ومغني المحتاج 2 / 120، والمغني لابن قدامة ط الرياض 4 / 349، وكشاف القناع ط عالم الكتب 3 / 234
(2) حديث: " من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 429 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1227 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس، واللفظ لمسلم
(3) الهداية وفتح القدير والعناية 5 / 84، وانظر علة الإفضاء إلى المنازعة في: تبيين الحقائق 4 / 5، والبحر الرائق 5 / 301، ورد المحتار 4 / 531(15/39)
22 - وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ مَعْلُومِيَّةَ الأَْجَل فِي الْبَيْعِ الْمُؤَجَّل ثَمَنُهُ. فَإِنْ كَانَ مَجْهُولاً فَهُوَ فَاسِدٌ.
وَمِنْ جَهَالَةِ الأَْجَل:
أ - مَا إِذَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهِ الثَّمَنَ فِي بَلَدٍ آخَرَ.
وَلَوْ قَال: إِلَى شَهْرٍ عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَ الثَّمَنَ فِي بَلَدٍ آخَرَ جَازَ بِأَلْفٍ إِلَى شَهْرٍ. وَيَبْطُل شَرْطُ الإِْيفَاءِ فِي بَلَدٍ آخَرَ؛ لأَِنَّ تَعْيِينَ مَكَانِ الإِْيفَاءِ فِيمَا لاَ حَمْل لَهُ وَلاَ مُؤْنَةَ لاَ يَصِحُّ. فَلَوْ كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ صَحَّ.
وَمِنْهُ: عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ: مَا إِذَا بَاعَهُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ الْمَبِيعَ قَبْل أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ، فَإِنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَّلَهُ بِتَضَمُّنِهِ أَجَلاً مَجْهُولاً، حَتَّى لَوْ سَمَّى الْوَقْتَ الَّذِي يُسَلِّمُ إِلَيْهِ فِيهِ الْمَبِيعَ جَازَ الْبَيْعُ.
وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَإِنَّمَا عَلَّلَهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ. (1)
ب - وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ جَهَالَةَ الأَْجَل هِيَ مِنَ الْغَرَرِ فِي الثَّمَنِ، وَمَثَّلُوا لَهُ: بِأَنْ يَبِيعَ مِنْهُ السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ إِلَى قُدُومِ زَيْدٍ أَوْ إِلَى مَوْتِهِ. قَال ابْنُ رُشْدٍ: فَإِذَا بَاعَ الرَّجُل السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ أَوْ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ فُسِخَ عَلَى كُل حَالٍ فِي الْقِيَامِ وَالْفَوَاتِ، شَاءَ الْمُتَبَايِعَانِ أَوْ أَبَيَا.
__________
(1) البحر الرائق 5 / 281، 301، 302، ورد المحتار 4 / 505 - 531، وفتح القدير 5 / 84(15/39)
ج - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ:
إِنْ بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ لَمْ يَجُزْ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ، كَالْبَيْعِ إِلَى الْعَطَاءِ، لأَِنَّهُ عِوَضٌ فِي بَيْعٍ، فَلَمْ يَجُزْ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ كَالْمُسَلَّمِ فِيهِ.
د - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ تَأْجِيل الثَّمَنِ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ، وَيَبْطُل الشَّرْطُ وَيَصِحُّ الْعَقْدُ، وَلِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْفَسْخِ؛ لِفَوَاتِ غَرَضِهِ بِفَسَادِ الشَّرْطِ. (1)
الاِخْتِلاَفُ فِي الأَْجَل:
23 - إِذَا اخْتَلَفَا فِي الأَْجَل فَالْقَوْل لِمَنْ يَنْفِيهِ وَهُوَ الْبَائِعُ، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُهُ وَهُوَ الْحُلُول.
وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ، فَالْقَوْل لِمُدَّعِي الأَْقَل لإِِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ.
وَالْبَيِّنَةُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لأَِنَّهُ يُثْبِتُ خِلاَفَ الظَّاهِرِ، وَالْبَيِّنَاتُ لِلإِْثْبَاتِ. (2)
وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَدْرِهِ، وَاخْتَلَفَا فِي مُضِيِّهِ فَالْقَوْل لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَمْ يَمْضِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا.
لأَِنَّهُمَا لَمَّا اتَّفَقَا عَلَى الأَْجَل فَالأَْصْل بَقَاؤُهُ،
__________
(1) المقدمات الممهدات ص 542 - 550، وانظر بداية المجتهد 2 / 147، والمهذب 1 / 266، وكشاف القناع 3 / 194، وفتح القدير 5 / 84
(2) البحر الرائق 5 / 301، والدر المختار مع رد المحتار 4 / 532(15/40)
فَكَانَ الْقَوْل لِلْمُشْتَرِي فِي عَدَمِ مُضِيِّهِ؛ وَلأَِنَّهُ مُنْكِرٌ تَوَجُّهَ الْمُطَالَبَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَأَمَّا تَقْدِيمُ بَيِّنَتِهِ عَلَى بَيِّنَةِ الْبَائِعِ فَعَلَّلَهُ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْجَوْهَرَةِ بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الدَّعْوَى. قَال ابْنُ عَابِدِينَ: " وَهُوَ مُشْكِلٌ، فَإِنَّ شَأْنَ الْبَيِّنَةِ إِثْبَاتُ خِلاَفِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ هُنَا دَعْوَى الْبَائِعِ عَلَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَدَمِ الْمُضِيِّ شَهَادَةٌ عَلَى النَّفْيِ، وَقَدْ يُجَابُ عَنِ الثَّانِي بِأَنَّهُ إِثْبَاتٌ فِي الْمَعْنَى؛ لأَِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الأَْجَل بَاقٍ.
وَحِينَئِذٍ فَوَجْهُ تَقْدِيمِ بَيِّنَتِهِ كَوْنُهَا أَكْثَرَ إِثْبَاتًا، وَيَدُل لَهُ مَا سَيَأْتِي فِي السَّلَمِ مِنْ أَنَّهُمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّ الأَْجَل فَالْقَوْل لِلْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ بِيَمِينِهِ.
وَإِنْ بَرْهَنَا فَبَيِّنَتُهُ أَوْلَى، وَعَلَّلَهُ فِي الْبَحْرِ بِإِثْبَاتِهَا زِيَادَةَ الأَْجَل. قَال: فَالْقَوْل قَوْلُهُ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ ". (1)
وَانْظُرْ لاِسْتِكْمَال مَبَاحِثِ الأَْجَل مُصْطَلَحَ (أَجَلٌ) .
اعْتِبَارُ مَكَانِ الْعَقْدِ وَزَمَنِهِ عِنْدَ دَفْعِ الثَّمَنِ الْمُؤَجَّل:
24 - يُعْتَبَرُ الْبَلَدُ الَّذِي جَرَى فِيهِ الْبَيْعُ، لاَ بَلَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ.
فَإِنْ بَاعَ عَيْنًا مِنْ رَجُلٍ بِأَصْفَهَانَ بِكَذَا مِنَ الدَّنَانِيرِ، فَلَمْ يَنْقُدِ الثَّمَنَ حَتَّى وَجَدَ
__________
(1) البحر الرائق 5 / 301، وانظر الدر المختار مع رد المحتار 4 / 532(15/40)
الْمُشْتَرِيَ بِبُخَارَى، يَجِبُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ بِعِيَارِ أَصْفَهَانَ. فَيُعْتَبَرُ مَكَانُ الْعَقْدِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ:
وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مَالِيَّةُ الدِّينَارِ مُخْتَلِفَةً فِي الْبَلَدَيْنِ، وَتَوَافَقَ الْعَاقِدَانِ عَلَى أَخْذِ قِيمَةِ الدِّينَارِ لِفَقْدِهِ أَوْ كَسَادِهِ فِي الْبَلْدَةِ الأُْخْرَى، فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُلْزِمَهُ بِأَخْذِ قِيمَتِهِ الَّتِي فِي بُخَارَى إِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ الَّتِي فِي أَصْفَهَانَ.
وَهَذَا قَوْل الْحَنَفِيَّةِ.
وَاعْتِبَارُ مَكَانِ الْعَقْدِ قَال بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ.
وَكَمَا يُعْتَبَرُ مَكَانُ الْعَقْدِ يُعْتَبَرُ زَمَنُهُ أَيْضًا، فَلاَ يُعْتَبَرُ زَمَنُ الإِْيفَاءِ؛ لأَِنَّ الْقِيمَةَ فِيهِ مَجْهُولَةٌ وَقْتَ الْعَقْدِ.
وَفِي الْبَحْرِ عَنْ شَرْحِ الْمَجْمَعِ: لَوْ بَاعَهُ إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ، وَشَرَطَ أَنْ يُعْطِيَهُ الْمُشْتَرِي أَيَّ نَقْدٍ يَرُوجُ يَوْمَئِذٍ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا. (1)
زِيَادَةُ الثَّمَنِ وَالْحَطُّ مِنْهُ:
25 - بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ قَدْ يَرَى الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَغْبُونٌ فِي الصَّفْقَةِ، أَوْ يَرَى تَعْدِيلَهَا لِمَصْلَحَةِ الآْخَرِ لِسَبَبٍ مَا، فَيَجُوزُ الزِّيَادَةُ أَوْ الْحَطُّ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ اتِّفَاقًا.
__________
(1) البحر الرائق 5 / 303، ورد المحتار 4 / 536، ومغني المحتاج للشربيني 3 / 17، والمدونة 4 / 222(15/41)
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ، هَل يَلْتَحِقَانِ بِأَصْل الْعَقْدِ؟ عَلَى ثَلاَثَةِ اتِّجَاهَاتٍ:
26 - الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ عَدَا زُفَرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ وَالْحَطَّ مِنْهُ أَوْ الزِّيَادَةَ فِي الْمَبِيعِ تَلْحَقُ بِالْعَقْدِ وَتَأْخُذُ حُكْمَ الثَّمَنِ.
فَإِذَا اشْتَرَى عَيْنًا بِمِائَةٍ ثُمَّ زَادَ عَشْرَةً مَثَلاً، أَوْ بَاعَ عَيْنًا بِمِائَةٍ، ثُمَّ زَادَ عَلَى الْمَبِيعِ شَيْئًا، أَوْ حَطَّ بَعْضَ الثَّمَنِ جَازَ وَالْتَحَقَتِ الزِّيَادَةُ أَوْ الْحَطُّ بِأَصْل الْعَقْدِ. (1)
وَيَتَعَلَّقُ الاِسْتِحْقَاقُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، مِنَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَالزِّيَادَةِ، فَيَكُونُ لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الزِّيَادَةَ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْنَعَ الزِّيَادَةَ، وَلاَ مُطَالَبَةَ الْبَائِعِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ قَبْل إِعْطَائِهَا. وَلَوْ سَلَّمَهَا ثُمَّ اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ رَجَعَ بِهَا مَعَ أَصْل الثَّمَنِ.
وَفِي صُورَةِ الْحَطِّ: لِلْمُشْتَرِي مُطَالَبَةُ الْبَائِعِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِذَا سَلَّمَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْحَطِّ.
فَالزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ يَلْتَحِقَانِ بِأَصْل الْعَقْدِ. (2)
27 - وَاحْتَجُّوا بِمَا يَلِي:
1 - أَنَّ الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ بِالْحَطِّ وَالزِّيَادَةِ غَيَّرَا
__________
(1) الهدية مع الفتح 5 / 270، وتبيين الحقائق 4 / 83، والبحر الرائق 6 / 129، ورد المحتار 5 / 154، والاختيار 1 / 181، وبدائع الصنائع 7 / 3281، والدسوقي 3 / 35، و 1165، وهامش الفروق 3 / 290
(2) فتح القدير مع الهداية 5 / 270(15/41)
الْعَقْدَ بِتَرَاضِيهِمَا مِنْ وَصْفٍ مَشْرُوعٍ إِلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ؛ لأَِنَّ الْبَيْعَ الْمَشْرُوعَ إِمَّا خَاسِرٌ، أَوْ رَابِحٌ، أَوْ عَدْلٌ، وَالزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ تَجْعَل الْخَاسِرَ عَدْلاً، وَالْعَدْل رَابِحًا، وَالْحَطُّ يَجْعَل الرَّابِحَ عَدْلاً، وَالْعَدْل خَاسِرًا، وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ.
2 - لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وِلاَيَةُ التَّصَرُّفِ بِرَفْعِ أَصْل الْعَقْدِ بِالإِْقَالَةِ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُمَا وِلاَيَةُ التَّغْيِيرِ مِنْ وَصْفٍ إِلَى وَصْفٍ؛ لأَِنَّ التَّصَرُّفَ فِي صِفَةِ الشَّيْءِ أَهْوَنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي أَصْلِهِ، وَصَارَ كَمَا إِذَا كَانَ لأَِحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ لَهُمَا خِيَارُ الشَّرْطِ، فَأَسْقَطَاهُ أَوْ شَرَطَاهُ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَصَحَّ إِلْحَاقُ الزِّيَادَةِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ. وَإِذَا صَحَّ يَلْتَحِقُ بِأَصْل الْعَقْدِ، لأَِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ كَالْوَصْفِ لَهُ، وَوَصْفُ الشَّيْءِ يَقُومُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ لاَ بِنَفْسِهِ، فَالزِّيَادَةُ تَقُومُ بِالثَّمَنِ لاَ بِنَفْسِهَا.
3 - ثَبَتَتْ صِحَّةُ الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ شَرْعًا فِي الْمَهْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} (1) فَبَيَّنَ أَنَّهُمَا إِذَا تَرَاضَيَا بَعْدَ تَقْدِيرِ الْمَهْرِ عَلَى حَطِّ بَعْضِهِ أَوْ زِيَادَتِهِ جَازَ. فَهَذَا نَظِيرُهُ.
4 - رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال لِلْوَازِنِ: زِنْ وَأَرْجِحْ (2) وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ، وَقَدْ نُدِبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
__________
(1) سورة النساء / 24
(2) حديث: " زن وأرجح " أخرجه النسائي (7 / 284 - ط المكتبة التجارية) والحاكم (4 / 192 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث سويد بن قيس، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي)(15/42)
إِلَيْهَا بِالْقَوْل وَالْفِعْل، وَأَقَل أَحْوَال الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ الْجَوَازُ. (1)
28 - وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِجَوَازِ الزِّيَادَةِ مَا يَأْتِي:
1 - الْقَبُول مِنَ الآْخَرِ، حَتَّى لَوْ زَادَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَقْبَل الآْخَرُ لَمْ تَصِحَّ الزِّيَادَةُ؛ لأَِنَّ الزِّيَادَةَ تَمْلِيكٌ.
2 - اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ، حَتَّى لَوِ افْتَرَقَا قَبْل الْقَبُول بَطَلَتِ الزِّيَادَةُ؛ لأَِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ إِيجَابُ الْبَيْعِ فِيهِمَا، فَلاَ بُدَّ مِنَ الْقَبُول فِي الْمَجْلِسِ كَمَا فِي أَصْل الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ.
29 - وَأَمَّا الْحَطُّ فَلاَ يُشْتَرَطُ لَهُ الْقَبُول؛ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الثَّمَنِ بِالإِْسْقَاطِ وَالإِْبْرَاءِ عَنْ بَعْضِهِ، فَيَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ، إِلاَّ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَالإِْبْرَاءِ عَنِ الثَّمَنِ كُلِّهِ.
وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَائِمًا، قَابِلاً لِلتَّصَرُّفِ ابْتِدَاءً، حَتَّى لاَ تَصِحُّ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ هَلاَكِهِ، وَيَصِحُّ الْحَطُّ بَعْدَ هَلاَكِ الْمَبِيعِ؛ لأَِنَّهُ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ، وَالزِّيَادَةُ إِثْبَاتٌ. (2)
29 م - الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ أَوِ الْحَطَّ مِنْهُ إِنْ كَانَ
__________
(1) العناية على الهداية 5 / 271، وبدائع الصنائع 7 / 3283، والوازن هو الذي يزن الثمن ليدفعه للبائع
(2) العناية على الهداية 5 / 271، وبدائع الصنائع 7 / 3283، والوازن هو الذي يزن الثمن ليدفعه للبائع(15/42)
فِي زَمَنِ أَحَدِ الْخِيَارَيْنِ (خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ) فَإِنَّهُ يَلْتَحِقُ بِالْعَقْدِ وَتَأْخُذُ الزِّيَادَةُ أَوْ الْحَطُّ حُكْمَ الثَّمَنِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ الثَّمَنِ فَوَجَبَ إِلْحَاقُهُ بِرَأْسِ الْمَال، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ أَوِ الْحَطُّ مِنَ الثَّمَنِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ فَإِنَّهَا لاَ تَلْحَقُ بِالْعَقْدِ. (1)
30 - الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: قَوْل زُفَرَ إِنَّ الزِّيَادَةَ وَالْحَطَّ لاَ يَصِحَّانِ عَلَى اعْتِبَارِ الاِلْتِحَاقِ بِأَصْل الْعَقْدِ، بَل الزِّيَادَةُ بِرٌّ مُبْتَدَأٌ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَالْحَطُّ إِبْرَاءٌ عَنْ بَعْضِ الثَّمَنِ مَتَى رَدَّهُ يَرْتَدُّ.
وَاسْتَدَل زُفَرُ بِأَنَّ الْمَبِيعَ دَخَل فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِالْقَدْرِ الأَْوَّل لِلثَّمَنِ، فَلَوِ الْتَحَقَ الزَّائِدُ بِالْعَقْدِ صَارَ مِلْكَهُ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَزِدْهُ بَدَلاً عَنْ مِلْكِهِ، وَهُوَ الْمَبِيعُ، وَكَذَا الثَّمَنُ دَخَل فِي مِلْكِ الْبَائِعِ، فَلَوْ جَازَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ كَانَ الْمَزِيدُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ أَيِ الثَّمَنِ. (2)
31 - وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الاِتِّجَاهِ الْقَائِل بِالْتِحَاقِ الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ مَا يَلِي:
1 - فِي التَّوْلِيَةِ وَالْمُرَابَحَةِ، تَجُوزُ عَلَى الْكُل فِي الزِّيَادَةِ وَعَلَى الْبَاقِي فِي الْحَطِّ، فَإِنَّ الْبَائِعَ إِذَا حَطَّ بَعْضَ الثَّمَنِ عَنِ الْمُشْتَرِي، وَالْمُشْتَرِي قَال لآِخَرَ: وَلَّيْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ وَقَعَ عَقْدُ التَّوْلِيَةِ عَلَى
__________
(1) المجموع 9 / 370، والمهذب 1 / 296، والجمل 3 / 85، وشرح منتهى الإرادات 2 / 151، 183، 446، وكشاف القناع 3 / 234
(2) الهدية وفتح القدير عليها 5 / 270 - 271(15/43)
مَا بَقِيَ مِنَ الثَّمَنِ بَعْدَ الْحَطِّ، فَكَانَ الْحَطُّ بَعْدَ الْعَقْدِ مُلْتَحِقًا بِأَصْل الْعَقْدِ، كَأَنَّ الثَّمَنَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ هُوَ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ، وَكَذَلِكَ فِي الزِّيَادَةِ.
2 - فِي الشُّفْعَةِ، يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الْمَشْفُوعَ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ الْحَطِّ، وَلاَ تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِبْطَال حَقِّهِ الثَّابِتِ بِالْبَيْعِ الأَْوَّل وَهُمَا لاَ يَمْلِكَانِهِ. أَلاَ تَرَى أَنَّهُ يَنْتَقِضُ جَمِيعُ تَصَرُّفَاتِ الْمُشْتَرِي حَتَّى الْفَسْخُ.
3 - فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالزِّيَادَةِ، وَلَوْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ الْبَيْعَ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالزِّيَادَةِ.
4 - فِي حَبْسِ الْمَبِيعِ، فَلَهُ حَبْسُهُ حَتَّى يَقْبِضَ الزِّيَادَةَ.
5 - فِي هَلاَكِ الزِّيَادَةِ، فَلَوْ هَلَكَتِ الزِّيَادَةُ قَبْل الْقَبْضِ تَسْقُطُ حِصَّتُهَا مِنَ الثَّمَنِ، بِخِلاَفِ الزِّيَادَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْمَبِيعِ حَيْثُ لاَ يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ بِهَلاَكِهَا قَبْل الْقَبْضِ. (1) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ فِي الْمَوْسُوعَةِ ج 9 ص 30 مُصْطَلَحُ (بَيْعٌ) ف 56
تَصَرُّفُ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ:
32 - يَصِحُّ تَصَرُّفُ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ قَبْل قَبْضِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُطْلَقًا إِذَا كَانَ التَّصَرُّفُ بِتَمْلِيكِهِ مِمَّنْ
__________
(1) العناية 5 / 271، وتبيين الحقائق 834، 84، والبحر الرائق 6 / 130، ورد المحتار 5 / 155(15/43)
عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ وَلأَِنَّ الثَّمَنَ فِي الذِّمَّةِ وَلاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، فَلاَ يُحْتَمَل فِيهِ غَرَرُ الاِنْفِسَاخِ بِالْهَلاَكِ؛ وَلأَِنَّ الثَّمَنَ مَا وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ، وَالْقَبْضُ لاَ يَرِدُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا بِقَبْضِ غَيْرِهِ مِثْلَهُ عَيْنًا، فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الثَّمَنُ قِسْمَانِ: تَارَةً يَكُونُ حَاضِرًا كَمَا لَوِ اشْتَرَى فَرَسًا بِهَذَا الإِْرْدَبِّ مِنَ الْحِنْطَةِ أَوْ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، فَهَذَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ بِهِبَةٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُشْتَرِي وَغَيْرِهِ.
وَتَارَةً يَكُونُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ كَمَا لَوِ اشْتَرَى الْفَرَسَ بِإِرْدَبِّ حِنْطَةٍ فِي الذِّمَّةِ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ فَهَذَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِتَمْلِيكِهِ مِنَ الْمُشْتَرِي فَقَطْ؛ لأَِنَّهُ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ وَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ الْقَوْل الْمُقَابِل الْمُعْتَمَدُ لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَاسْتَثْنَى ابْنُ نُجَيْمٍ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ - وَمِنْهُ الثَّمَنُ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ - لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ ثَلاَثَ صُوَرٍ:
الأُْولَى: إِذَا سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ، فَيَكُونُ وَكِيلاً قَابِضًا.
الثَّانِيَةُ: الْحَوَالَةُ.
الثَّالِثَةُ: الْوَصِيَّةُ. (1)
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 82 - 83، ومغني المحتاج 2 / 69، والهداية والعناية وفتح القدير 5 / 269، والبحر الرائق 6 / 129، والدر المختار ورد المحتار عليه 5 / 152، والاختيار ص 181، وبدائع الصنائع 7 / 3226(15/44)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ قَبْل قَبْضِهِ.
أَمَّا الثَّمَنُ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ: فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ. (1)
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ قَبْل قَبْضِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ طَعَامًا فَلاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ. (2)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا فَإِنْ كَانَ التَّعَاقُدُ عَلَيْهِ بِكَيْلٍ، أَوْ وَزْنٍ، أَوْ ذَرْعٍ، أَوْ عَدٍّ فَلاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ بِالْكَيْل، أَوِ الْوَزْنِ، أَوِ الزَّرْعِ أَوِ الْعَدِّ، وَإِنْ كَانَ التَّعَاقُدُ عَلَيْهِ جُزَافًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مَكِيلاً، وَلاَ مَوْزُونًا، وَلاَ مَعْدُودًا، وَلاَ مَزْرُوعًا، جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ.
وَأَمَّا الَّذِي فِي الذِّمَّةِ فَلاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَيَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ. (3)
تَسْلِيمُ الثَّمَنِ:
33 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِسِلْعَةٍ أَوْ ثَمَنًا بِثَمَنٍ أَيْ نَقْدًا بِنَقْدٍ سُلِّمَا مَعًا، لاِسْتِوَائِهِمَا فِي
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 69، والمجموع 9 / 263
(2) الحطاب 4 / 482، والدسوقي 3 / 329، والفروق 3 / 279 - 280
(3) شرح منتهى الإرادات 2 / 189(15/44)
التَّعْيِينِ فِي الأَْوَّل، وَعَدَمِ التَّعْيِينِ فِي الثَّانِي؛ وَلأَِنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مَطْلُوبَةٌ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ عَادَةً، وَتَحْقِيقُ الْمُسَاوَاةِ هَاهُنَا فِي التَّسْلِيمِ مَعًا. (1)
وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَال الْمَالِكِيَّةُ: فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ثَمَنٌ وَمُثَمَّنٌ، فَالثَّمَنُ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ وَعَدَا ذَلِكَ مُثَمَّنَاتٌ، فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى دَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ أَوْ بِدَرَاهِمَ، أَوْ عَلَى دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ وَتَشَاحَّا فِي الإِْقْبَاضِ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَى أَحَدِهِمَا وُجُوبُ التَّسْلِيمِ قَبْل الآْخَرِ. وَكَذَا إِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُثَمَّنَاتِ كَعَرَضٍ بِعَرَضٍ وَتَشَاحَّا فِي الإِْقْبَاضِ. إِلاَّ أَنَّ الْعَقْدَ يُفْسَخُ بِالتَّرَاضِي فِي الْقَبْضِ فِي الصُّورَةِ الأُْولَى (الصَّرْفُ) وَلاَ يُفْسَخُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ؛ لأَِنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الصَّرْفِ دُونَ الْمُقَايَضَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الثَّمَنَ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا نَقْدًا أَوْ عَرْضًا، يُجْبَرُ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي كِلاَهُمَا عَلَى التَّسْلِيمِ فِي الأَْظْهَرِ؛ لاِسْتِوَاءِ الْجَانِبَيْنِ، لأَِنَّ الثَّمَنَ الْمُعَيَّنَ كَالْمَبِيعِ فِي تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِالدَّيْنِ، وَالتَّسْلِيمُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمَا، فَيُلْزِمُ الْحَاكِمُ كُلًّا مِنْهُمَا إِحْضَارَ مَا عَلَيْهِ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى عَدْلٍ، ثُمَّ يُسَلِّمُ كُلًّا مَا وَجَبَ لَهُ، وَالْخِيَرَةُ فِي الْبِدَايَةِ إِلَيْهِ.
وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عَدَمُ إِجْبَارِهِمَا. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ عَيْنًا بَل فِي الذِّمَّةِ (الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ) فَفِيهِ
__________
(1) الاختيار 2 / 8، وابن عابدين 4 / 44، والزيلعي 4 / 14، والبناية على الهداية 6 / 255، والبدائع 7 / 3234(15/45)
أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، الْمُقَدَّمُ مِنْهَا إِجْبَارُ الْبَائِعِ.
وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَال الْحَنَابِلَةُ: فَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا أَوْ عَرْضًا، وَالْمَبِيعُ مِثْلُهُ جُعِل بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَدْلٌ يَقْبِضُ مِنْهُمَا وَيُسَلِّمُ إِلَيْهِمَا؛ لأَِنَّهُ حَقُّ الْبَائِعِ قَدْ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الثَّمَنِ، كَمَا تَعَلَّقَ حَقُّ الْمُشْتَرِي بِعَيْنِ الْمَبِيعِ فَاسْتَوَيَا.
وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَوَّلاً. (1)
34 - وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً حَاضِرَةً بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ أَوَّلاً عَلَى اتِّجَاهَاتٍ:
الأَْوَّل: يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ أَوَّلاً.
وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَحَدُ أَقْوَال الشَّافِعِيَّةِ (2)) . فَلِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ حَتَّى يَقْبِضَ الْمَبِيعَ، وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ نَقْدًا مُعَيَّنًا لأَِنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.
35 - وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ (3)
__________
(1) جواهر الإكليل 2 / 10، والحطاب 4 / 305، ومغني المحتاج 2 / 74، والقليوبي 2 / 218، والشرح الكبير مع المغني 4 / 113
(2) الهداية 5 / 108، وبدائع الصنائع 7 / 3233، ومواهب الجليل 4 / 305، ومغني المحتاج 2 / 74، وتحفة المحتاج 4 / 420، والشرح الكبير لابن قدامة 4 / 113
(3) حديث: " الدين مقضي " أخرجه الترمذي (3 / 556 - ط الحلبي) من حديث أبي أمامة وحسنه(15/45)
فَقَدْ وَصَفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الدَّيْنَ بِكَوْنِهِ مَقْضِيًّا عَامًّا أَوْ مُطْلَقًا، فَلَوْ تَأَخَّرَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الدَّيْنُ مَقْضِيًّا، وَهَذَا خِلاَفُ النَّصِّ.
وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُول بِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي تَعَيُّنِ حَقِّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَحَقُّ الْمُشْتَرِي قَدْ تَعَيَّنَ فِي الْمَبِيعِ، فَيُسَلِّمُ هُوَ الثَّمَنَ أَوَّلاً، لِيَتَعَيَّنَ حَقُّ الْبَائِعِ فِيهِ، كَمَا تَعَيَّنَ حَقُّهُ فِي الْمَبِيعِ، إِذْ الثَّمَنُ لاَ يَتَعَيَّنُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إِلاَّ بِالْقَبْضِ.
وَصُورَةُ هَذَا: أَنْ يُقَال لِلْبَائِعِ أَحْضِرِ الْمَبِيعَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ قَائِمٌ، فَإِذَا حَضَرَ قِيل لِلْمُشْتَرِي: سَلِّمِ الثَّمَنَ أَوَّلاً.
36 - وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الْقَوْل ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لَوْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَبِيعَ قَبْل نَقْدِ الثَّمَنِ فَسَدَ الْبَيْعُ، لأَِنَّهُ لاَ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ. وَقَال مُحَمَّدٌ: لاَ يَصِحُّ لِجَهَالَةِ الأَْجَل، حَتَّى لَوْ سَمَّى الْوَقْتَ الَّذِي يُسَلِّمُ فِيهِ الْمَبِيعَ جَازَ. وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ غَائِبًا فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ حَتَّى يُحْضِرَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ؛ (1) لأَِنَّ تَقْدِيمَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ غَائِبًا لاَ تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بِالتَّقْدِيمِ، بَل يَتَقَدَّمُ حَقُّ الْبَائِعِ وَيَتَأَخَّرُ
__________
(1) تبيين الحقائق 4 / 14، والاختيار 1 / 180، وبدائع الصنائع 7 / 3233، 3260، والبحر الرائق 5 / 331، ومغني المحتاج 2 / 74، وتحفة المحتاج 4 / 420(15/46)
حَقُّ الْمُشْتَرِي، حَيْثُ يَكُونُ الثَّمَنُ بِالْقَبْضِ عَيْنًا مُشَارًا إِلَيْهَا وَالْمَبِيعُ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ وَلأَِنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ قَدْ هَلَكَ وَسَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي، فَلاَ يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إِلاَّ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ أَمْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِحَيْثُ تَلْحَقُهُ الْمُؤْنَةُ بِالإِْحْضَارِ، وَالْمُشْتَرِي إِذَا لَقِيَ الْبَائِعَ فِي غَيْرِ مِصْرِهِمَا، وَطَلَبَ مِنْهُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ كَفِيلاً أَوْ يَبْعَثُ وَكِيلاً يَنْقُدُ الثَّمَنَ لَهُ ثُمَّ يَتَسَلَّمُ الْمَبِيعَ.
لِذَلِكَ فَإِنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ كُلَّهُ، وَلَوْ بَقِيَ مِنْهُ دِرْهَمٌ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلاً؛ لأَِنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لاَ يَتَجَزَّأُ، فَكَانَ كُل الْمَبِيعِ مَحْبُوسًا بِكُل جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الثَّمَنِ.
فَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلاً، فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ؛ لأَِنَّهُ بِالتَّأْجِيل أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْحَبْسِ.
وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلاً، فَلَهُ حَبْسُ الْمَبِيعِ إِلَى اسْتِيفَاءِ الْحَال. (1)
وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ بَعْضِ الثَّمَنِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْبَاقِيَ، لأَِنَّ الإِْبْرَاءَ كَالاِسْتِيفَاءِ.
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 3233 - 3234، 3261 - 3262، وفتح القدير 5 / 108، والشلبي على تبيين الحقائق 4 / 14(15/46)
وَلاَ يَسْقُطُ حَقُّ حَبْسِ الْبَائِعِ لِلْمَبِيعِ، وَلَوْ أَخَذَ بِالثَّمَنِ كَفِيلاً أَوْ رَهَنَ الْمُشْتَرِي بِهِ رَهْنًا؛ لأَِنَّ هَذَا وَثِيقَةٌ بِالثَّمَنِ فَلاَ يَسْقُطُ حَقُّهُ عَنْ حَبْسِ الْمَبِيعِ لاِسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ. (1)
37 - الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: يَلْزَمُ الْبَائِعَ تَسَلُّمُ الْمَبِيعِ أَوَّلاً.
وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَحَدُ أَقْوَال الشَّافِعِيَّةِ، لأَِنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي فِي الْعَيْنِ وَحَقَّ الْبَائِعِ فِي الذِّمَّةِ، فَيُقَدَّمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، وَهَذَا كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الدُّيُونِ.
وَلأَِنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ لِلثَّمَنِ مُسْتَقِرٌّ، لأَِمْنِهِ مِنْ هَلاَكِهِ وَنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ بِالْحَوَالَةِ وَالاِعْتِيَاضِ، وَمِلْكُ الْمُشْتَرِي لِلْمَبِيعِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، فَعَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُهُ لِيَسْتَقِرَّ. (2)
38 - الاِتِّجَاهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُسَلِّمَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي مَعًا.
وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَال الشَّافِعِيَّةِ.
فَالْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي إِذَا تَرَافَعَا إِلَى حَاكِمٍ يُجْبَرَانِ؛ لأَِنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمَا، فَيُلْزِمُ الْحَاكِمُ كُلًّا مِنْهُمَا بِإِحْضَارِ مَا عَلَيْهِ إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى
__________
(1) فتح القدير 5 / 108 - 109، والشلبي على تبيين الحقائق 4 / 14.
(2) مغني المحتاج 2 / 74، وتحفة المحتاج 4 / 420، والروض وأسنى المطالب عليه 2 / 89، وبدائع الصنائع 7 / 3260، والشرح الكبير لابن قدامة 4 / 13، 113(15/47)
عَدْلٍ، فَإِنْ فَعَل سَلَّمَ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ وَالْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي، يَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ. (1)
39 - الاِتِّجَاهُ الرَّابِعُ: إِذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، وَتَرَافَعَا إِلَى حَاكِمٍ، فَلاَ إِجْبَارَ أَوَّلاً، وَعَلَى هَذَا يَمْنَعُهُمَا الْحَاكِمُ مِنَ التَّخَاصُمِ، فَمَنْ سَلَّمَ أُجْبِرَ صَاحِبُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَال الشَّافِعِيَّةِ.
وَذَلِكَ: لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ إِيفَاءٌ وَاسْتِيفَاءٌ وَلاَ سَبِيل إِلَى تَكْلِيفِ الإِْيفَاءِ. (2)
وَتَرِدُ هَذِهِ الأَْقْوَال الأَْرْبَعَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا فِي الذِّمَّةِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ.
40 - وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْحَبْسَ بِخَوْفِ الْفَوْتِ، فَقَالُوا: لِلْبَائِعِ حَبْسُ مَبِيعِهِ حَتَّى يَقْبِضَ ثَمَنَهُ الْحَال كُلَّهُ إِنْ خَافَ فَوْتَهُ بِلاَ خِلاَفٍ، وَكَذَا لِلْمُشْتَرِي حَبْسُ الثَّمَنِ الْمَذْكُورِ إِنْ خَافَ فَوْتَ الْمَبِيعِ بِلاَ خِلاَفٍ، لِمَا فِي التَّسْلِيمِ حِينَئِذٍ مِنَ الضَّرَرِ الظَّاهِرِ.
وَإِنَّمَا الأَْقْوَال السَّابِقَةُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَخَفِ الْبَائِعُ فَوْتَ الثَّمَنِ، وَكَذَا الْمُشْتَرِي إِذَا لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الْمَبِيعِ، وَتَنَازَعَا فِي مُجَرَّدِ الاِبْتِدَاءِ بِالتَّسْلِيمِ؛ لأَِنَّ
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 74، وتحفة المحتاج 4 / 420، وبدائع الصنائع 7 / 2260، والشرح الكبير لابن قدامة 4 / 113.
(2) مغني المحتاج 2 / 74، وتحفة المحتاج 4 / 420(15/47)
الإِْجْبَارَ عِنْدَ خَوْفِ الْفَوَاتِ بِالْهَرَبِ، أَوْ تَمْلِيكِ الْمَال لِغَيْرِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فِيهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ.
أَمَّا الثَّمَنُ الْمُؤَجَّل فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ بِهِ، لِرِضَاهُ بِتَأْخِيرِهِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا مَا إِذَا كَانَ الْبَائِعُ وَكِيلاً، أَوْ وَلِيًّا، أَوْ نَاظِرَ وَقْفٍ، أَوْ الْحَاكِمَ فِي بَيْعِ مَال الْمُفْلِسِ، فَإِنَّهُ لاَ يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ بَل لاَ يَجُوزُ لَهُ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ. فَلاَ يَأْتِي إِلاَّ إِجْبَارُهُمَا أَوْ إِجْبَارُ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ تَبَايَعَ وَلِيَّانِ أَوْ وَكِيلاَنِ لَمْ يَأْتِ سِوَى إِجْبَارِهِمَا.
الْحَوَالَةُ بِالثَّمَنِ هَل تُبْطِل حَقَّ حَبْسِ الْمَبِيعِ:
41 - قَال أَبُو يُوسُفَ: تُبْطِلُهُ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْحَوَالَةُ مِنَ الْمُشْتَرِي، بِأَنْ أَحَال الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى إِنْسَانٍ وَقَبِل الْمُحَال عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ، أَمْ كَانَتْ مِنَ الْبَائِعِ، بِأَنْ أَحَال الْبَائِعُ غَرِيمًا لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي.
وَقَال مُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَتِ الْحَوَالَةُ مِنَ الْمُشْتَرِي لاَ تُبْطِل حَقَّ الْحَبْسِ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ مِنَ الْمُحَال عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْبَائِعِ: فَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً لاَ تُبْطِلُهُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِمَا عَلَيْهِ تُبْطِلُهُ.
فَأَبُو يُوسُفَ أَرَادَ بَقَاءَ الْحَبْسِ عَلَى بَقَاءِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، وَذِمَّتُهُ بَرِئَتْ مِنْ دَيْنِ الْمُحِيل بِالْحَوَالَةِ، فَيَبْطُل حَقُّ الْحَبْسِ.(15/48)
وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ بَقَاءَ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِبَقَاءِ حَقِّ الْحَبْسِ، وَحَقُّ الْمُطَالَبَةِ لَمْ يَبْطُل بِحَوَالَةِ الْمُشْتَرِي، أَلاَ تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمُحَال عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْطُل حَقُّ الْحَبْسِ، وَبَطَلَتْ حَوَالَةُ الْبَائِعِ إِذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِمَا عَلَى الْمُحَال عَلَيْهِ فَبَطَل حَقُّ الْحَبْسِ.
قَال الْكَاسَانِيُّ: وَالصَّحِيحُ قَوْل مُحَمَّدٍ، لأَِنَّ حَقَّ الْحَبْسِ فِي الشَّرْعِ يَدُورُ مَعَ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ، لاَ مَعَ قِيَامِ الثَّمَنِ فِي ذَاتِهِ بِدَلِيل: أَنَّ الثَّمَنَ إِذَا كَانَ مُؤَجَّلاً لاَ يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ وَالثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي قَائِمٌ، وَإِنَّمَا سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ، فَدَل ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ يَتْبَعُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ لاَ قِيَامَ الثَّمَنِ فِي ذَاتِهِ، وَحَقُّ الْمُطَالَبَةِ فِي حَوَالَةِ الْمُشْتَرِي، وَحَوَالَةُ الْبَائِعِ إِذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً فَكَانَ حَقُّ الْحَبْسِ ثَابِتًا، وَفِي حَوَالَةِ الْبَائِعِ إِذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً يَنْقَطِعُ فَلَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْحَبْسِ. (1)
مَصْرُوفَاتُ التَّسْلِيمِ:
42 - أُجْرَةُ كَيَّال الْمَبِيعِ وَوَزَّانِهِ وَذُرَّاعِهِ وَعَادِّهِ.
إِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْكَيْل أَوْ الْوَزْنِ أَوْ الذَّرْعِ أَوْ الْعَدِّ تَكُونُ عَلَى الْبَائِعِ. قَال الدَّرْدِيرُ: مَا لَمْ يَكُنْ شَرْطٌ أَوْ عُرْفٌ بِخِلاَفِهِ. لأَِنَّ عَلَيْهِ إِيفَاءَ الْمَبِيعِ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلاَّ بِكَيْلِهِ وَوَزْنِهِ وَعَدِّهِ وَلأَِنَّهُ بِكُلٍّ
__________
(1) بدائع الصنائع 7 / 3264، وفتح القدير 5 / 109، ورد المحتار 4 / 561(15/48)
مِنْ ذَلِكَ يُمَيِّزُ مِلْكَهُ عَنْ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلأَِنَّهُ كَبَائِعِ الثَّمَرَةِ الَّذِي عَلَيْهِ سَقْيُهَا.
وَأُجْرَةُ كَيَّال الثَّمَنِ وَوَزَّانِهِ وَذُرَّاعِهِ وَعَادِّهِ تَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (1) ؛
لأَِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْتَاجُ إِلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَتَمْيِيزِ صِفَتِهِ، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِ، وَبِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَال الصَّاوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ:
لَوْ تَوَلَّى الْمُشْتَرِي الْكَيْل أَوِ الْوَزْنَ أَوِ الْعَدَّ بِنَفْسِهِ، هَل لَهُ مُطَالَبَةُ الْبَائِعِ أُجْرَةَ ذَلِكَ أَمْ لاَ؟
وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ الدُّسُوقِيُّ أَنَّ لَهُ الأُْجْرَةَ إِذَا كَانَ شَأْنُهُ ذَلِكَ أَوْ سَأَلَهُ الآْخَرُ.
وَأُجْرَةُ إِحْضَارِ الْمَبِيعِ الْغَائِبِ إِلَى مَجْلِسِ الْعَقْدِ عَلَى الْبَائِعِ، وَأُجْرَةُ إِحْضَارِ الثَّمَنِ الْغَائِبِ عَلَى الْمُشْتَرِي، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ (2) .
43 - أَمَّا أُجْرَةُ النَّقْل الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ الْمَنْقُول فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّهَا عَلَى الْمُشْتَرِي.
__________
(1) مغني المحتاج 2 / 75، وتحفة المحتاج 4 / 423، والجمل 3 / 177.
(2) فتح القدير 5 / 108، وهو مفاد المادة 288 و 289 من مجلة الأحكام العدلية، وشرح المجلة لمنير القاضي 1 / 253، ومغني المحتاج 2 / 73، والمغني لابن قدامة 4 / 220، والشرح الصغير للدردير والصاوي عليه 3 / 197، والشرح الكبير بحاشية الدسوقي 3 / 130 ط التجارية.(15/49)
وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيَّةِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الإِْمَامُ أَحْمَدُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ.
قَالُوا: وَقِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ.
الثَّانِي: عَلَى حَسَبِ عُرْفِ الْبَلْدَةِ وَعَادَتِهَا.
وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْمَادَّةُ 291 مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ.
أَمَّا الأَْشْيَاءُ الْمَبِيعَةُ جُزَافًا فَمُؤَنُهَا وَمَصَارِيفُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي. . مَثَلاً: لَوْ بِيعَتْ ثَمَرَةُ كَرْمٍ جُزَافًا كَانَتْ أُجْرَةُ قَطْعِ تِلْكَ الثَّمَرَةِ وَجَزِّهَا عَلَى الْمُشْتَرِي.
وَكَذَا لَوْ بِيعَ أَنْبَارُ حِنْطَةٍ مُجَازَفَةً فَأُجْرَةُ إِخْرَاجِ الْحِنْطَةِ مِنَ الأَْنْبَارِ وَنَقْلِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي.
وَهُوَ مُفَادُ الْمَادَّةِ 290 مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ (1) .
وَقِيَاسُهُ أَنْ تَكُونَ مُؤَنُ الثَّمَنِ وَمَصَارِيفُهُ إِنْ كَانَ جُزَافًا عَلَى الْبَائِعِ.
44 - وَاخْتَلَفُوا فِي أُجْرَةِ نَاقِدِ الثَّمَنِ (2) عَلَى الأَْقْوَال الآْتِيَةِ:
1 - أَنَّهُ عَلَى الْبَائِعِ وَبِهِ قَال الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الَّذِي
__________
(1) فتح القدير 5 / 108، والصاوي على الشرح الصغير للدردير 3 / 197، ومغني المحتاج 2 / 73.
(2) مغني المحتاج 2 / 73، والمغني لابن قدامة 4 / 220، وشرح المجلة لمنير القاضي 1 / 254، وأنبار الطعام واحدها (نبر) ومعنى الأنبار: جماعة الطعام من البر والتمر والشعير. انظر: " مختار الصحاح مادة: (نبر) .(15/49)
رَوَاهُ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَوَجْهُهُ:
أَنَّ النَّقْدَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَهُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ لاِحْتِيَاجِهِ إِلَى تَمَيُّزِ حَقِّهِ وَهُوَ الْجِيَادُ عَنْ غَيْرِ حَقِّهِ، أَوْ لِيَعْرِفَ الْمَعِيبَ لِيَرُدَّهُ.
2 - أَنَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الصَّدْرُ الشَّهِيدُ لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَسْلِيمِ الْجَيِّدِ، وَالْجَوْدَةُ تُعْرَفُ بِالنَّقْدِ، كَمَا يُعْرَفُ الْمِقْدَارُ بِالْوَزْنِ فَكَانَ هُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ.
3 - أَنَّ أُجْرَةَ النَّقْدِ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَقَبْلَهُ عَلَى الْمَدِينِ لأَِنَّ عَلَى الْمَدِينِ إِيفَاءَ حَقِّهِ، فَتَكُونُ أُجْرَةُ التَّمْيِيزِ عَلَيْهِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ دَخَل فِي ضَمَانِ رَبِّ الدَّيْنِ، وَيَدَّعِي أَنَّهُ خِلاَفُ حَقِّهِ، فَيَكُونُ تَمْيِيزُ حَقِّهِ عَلَيْهِ (1) .
هَذَا وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِالثَّمَنِ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْهَا مَا يَلِي:
اخْتِلاَفُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ (ر: دَعْوَى) .
__________
(1) وأجرة نقد الثمن: هي التي تعطى للناقد (الصيرفي أو نحوه) ليميز النقود الزيوف من غيرها. والنقد: تمييز الدراهم وإخراج الزيف منها، وكذا تمييز غيرها / تاج العروس مادة: (نقد) وانظر: عبارات البحر الرائق 5 / 331.(15/50)
وَبَيْعُ جِنْسِ الأَْثْمَانِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ (ر: صَرْفٌ) .
وَكُل مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ الثَّمَنِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ فَهُوَ عَيْبٌ: (ر: خِيَارُ الْعَيْبِ) .
وَالْبَيْعُ بِمِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل (ر: تَوْلِيَةٌ) .
وَالْبَيْعُ بِمِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل مَعَ زِيَادَةٍ (ر: مُرَابَحَةٌ) .
وَالْبَيْعُ بِأَنْقَصَ مِنَ الثَّمَنِ: (ر: وَضِيعَةٌ) .
وَإِشْرَاكُ الْغَيْرِ فِيمَا اشْتَرَاهُ بِأَنْ يَبِيعَهُ نِصْفَهُ مَثَلاً (ر: شَرِكَةٌ (1)) .
الثَّمَنِيَّةُ فِي عِلَّةِ الرِّبَا (ر: رِبًا) .
__________
(1) الهداية مع فتح القدير 5 / 108، ومغني المحتاج 2 / 73، وتبيين الحقائق 4 / 14، والبحر الرائق 5 / 330، والدر المختار وعليه رد المحتار 4 / 560، وبدائع الصنائع 7 / 3247 - 3248.(15/50)
ثُنْيَا
انْظُرْ: اسْتِثْنَاءٌ، بَيْعُ الْوَفَاءِ.
ثَنِيٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الثَّنِيُّ فِي اللُّغَةِ: الَّذِي يُلْقِي ثَنِيَّتَهُ وَالْجَمْعُ ثُنْيَانٌ وَثُنَاءٌ، وَالأُْنْثَى ثَنِيَّةٌ وَجَمْعُهَا ثَنِيَّاتٌ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي ذَوَاتِ الظِّلْفِ وَالْخُفِّ وَالْحَافِرِ.
وَالثَّنِيَّةُ: وَاحِدَةُ الثَّنَايَا وَهِيَ مِنَ الأَْسْنَانِ الأَْرْبَعِ الَّتِي فِي مُقَدِّمِ الْفَمِ ثِنْتَانِ مِنْ فَوْقُ وَثِنْتَانِ مِنْ أَسْفَل. وَالثَّنِيَّةُ أَيْضًا طَرِيقُ الْعَقَبَةِ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ (1) .
2 - وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَال الْفُقَهَاءِ فِي الْمُرَادِ بِالثَّنِيَّةِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - الثَّنِيُّ مِنَ الإِْبِل:
الثَّنِيُّ مِنَ الإِْبِل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) مختار الصحاح مادة: (ثني) .(15/51)
وَالْحَنَابِلَةِ مَا كَانَ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ وَطَعَنَ فِي السَّادِسَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ حَرْمَلَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ.
ب - مِنَ الْبَقَرِ وَالْجَامُوسِ:
يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّ الثَّنِيَّ مِنَ الْبَقَرِ وَالْجَامُوسِ مَا اسْتَكْمَل سَنَتَيْنِ وَدَخَل فِي الثَّالِثَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ: وَهُوَ مَا رَوَاهُ حَرْمَلَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ مَا اسْتَكْمَل ثَلاَثَ سِنِينَ، وَدَخَل فِي الرَّابِعَةِ (1) .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ الثَّنِيَّ مِنَ الْبَقَرِ مَا اسْتَكْمَل سَنَةً (2) .
ج - مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ مَا اسْتَكْمَل سَنَةً وَدَخَل فِي الثَّانِيَةِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ مَا اسْتَكْمَل سَنَتَيْنِ وَدَخَل فِي الثَّالِثَةِ (3) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 19، و 5 / 204، والاختيار لتعليل المختار 1 / 108، والقوانين / 93، وروضة الطالبين 3 / 193 ط المكتب الإسلامي، والمغني 8 / 623 ط مكتبة الرياض، وكشاف القناع 2 / 185.
(2) روضة الطالبين 2 / 152.
(3) ابن عابدين 2 / 19 و 5 / 204 ط دار إحياء التراث العربي، وروضة الطالبين 3 / 193، والمغني 8 / 623.(15/51)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَذَعُ:
3 - الْجَذَعُ بِفَتْحَتَيْنِ قَبْل الثَّنِيِّ، وَلَيْسَ تَسْمِيَتُهُ بِسِنٍّ تَسْقُطُ أَوْ تَنْبُتُ، وَالْجَمْعُ جِذْعَانٌ وَجِذَاعٌ، وَالأُْنْثَى جَذَعَةٌ، وَالْجَمْعُ جَذَعَاتٌ، وَجِذَاعٌ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ لِوَلَدِ الشَّاةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَلِوَلَدِ الْبَقَرَةِ وَوَلَدِ ذَاتِ الْحَافِرِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، وَلِلإِْبِل فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ (1) .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ (2) يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (جَذَعٌ) .
ب - الْحِقُّ:
4 - الْحِقُّ بِالْكَسْرِ مَا كَانَ مِنَ الإِْبِل ابْنَ ثَلاَثِ سِنِينَ وَقَدْ دَخَل فِي الرَّابِعَةِ، وَالأُْنْثَى حِقَّةٌ وَحِقٌّ أَيْضًا وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّهَا اسْتَحَقَّتْ أَنْ تُرْكَبَ وَيُحْمَل عَلَيْهَا، وَيَطْرُقَهَا الْفَحْل (3) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِلثَّنِيِّ فِي أَبْوَابِ الزَّكَاةِ، وَالأُْضْحِيَّةِ، وَالْهَدْيِ، وَذَهَبُوا إِلَى جَوَازِ دَفْعِ
__________
(1) مختار الصحاح مادة: (جذع) .
(2) ابن عابدين 5 / 204، والقوانين الفقهية / 193، وروضة الطالبين 2 / 153، 154، 3 / 193، وكشاف القناع 2 / 185.
(3) مختار الصحاح مادة: (حقق) ، وابن عابدين 2 / 17، وكشاف القناع 2 / 185، 186(15/52)
الثَّنِيِّ مِنَ الإِْبِل، وَالْبَقَرِ، وَالضَّأْنِ، وَالْمَعْزِ فِي الزَّكَاةِ، وَإِجْزَائِهِ فِي الأُْضْحِيَّةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهِ عَلَى مَا سَبَقَ (ف 2 (1)) .
__________
(1) ابن عابدين 2 / 19، و 5 / 204، 205، والقوانين الفقهية 113، 193، وروضة الطالبين 3 / 193، و 2 / 153، 154، وكشاف القناع 2 / 186، 191، 194، والمغني 8 / 622.(15/52)
ثَوَابٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الثَّوَابُ: الْعِوَضُ: وَاللَّهُ يَأْجُرُ عَبْدَهُ، أَيْ يُثِيبُهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ ثَابَ أَيْ رَجَعَ، كَأَنَّ الْمُثِيبَ يُعَوِّضُ الْمُثَابَ مِثْل مَا أَسْدَى إِلَيْهِ
وَالثَّوَابُ: الْجَزَاءُ؛ لأَِنَّهُ نَفْعٌ يَعُودُ إِلَى الْمَجْزِيِّ، وَهُوَ اسْمٌ مِنَ الإِْثَابَةِ أَوِ التَّثْوِيبِ، مِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْهِبَةِ: مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا، أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ (1) .
وَالثَّوَابُ: جَزَاءُ الطَّاعَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَثُوبَةُ، قَال تَعَالَى: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ (2) } وَأَعْطَاهُ ثَوَابَهُ وَمَثُوبَتَهُ، أَيْ جَزَاءَ مَا عَمِلَهُ.
وَفِي تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ: الثَّوَابُ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الرَّحْمَةَ وَالْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّفَاعَةَ مِنَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيل: الثَّوَابُ هُوَ إِعْطَاءُ مَا يُلاَئِمُ الطَّبْعَ (3) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير والمغرب والزاهر والمعجم الوسيط، وأنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء مادة: " ثوب ".
(2) سورة البقرة / 103.
(3) التعريفات للجرجاجي وكشاف اصطلاحات الفنون.(15/53)
وَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: الثَّوَابُ مِقْدَارٌ مِنَ الْجَزَاءِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِ لِعِبَادِهِ فِي نَظِيرِ أَعْمَالِهِمْ الْحَسَنَةِ الْمَقْبُولَةِ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَسَنَةُ:
2 - الْحَسَنَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَدْحُ فِي الْعَاجِل وَالثَّوَابُ فِي الآْجِل (2) . وَهِيَ بِذَلِكَ تَكُونُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ.
ب - الطَّاعَةُ:
3 - الطَّاعَةُ: الاِنْقِيَادُ (3) فَإِذَا كَانَتْ فِي الْخَيْرِ كَانَتْ سَبَبًا لِلثَّوَابِ، وَإِذَا كَانَتْ فِي الْمَعْصِيَةِ كَانَتْ سَبَبًا فِي الْعِقَابِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّوَابِ مِنْ أَحْكَامٍ.
لِلثَّوَابِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِطْلاَقَانِ:
أ - الثَّوَابُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ جَزَاءَ طَاعَتِهِ.
ب - الثَّوَابُ فِي الْهِبَةِ (أَيْ الْعِوَضِ الْمَالِيِّ) .
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلاً:
الثَّوَابُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى:
4 - الأَْصْل أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، بَل الثَّوَابُ فَضْلُهُ وَالْعِقَابُ عَدْلُهُ {لاَ يُسْأَل عَمَّا
__________
(1) الفواكه الدواني 1 / 32.
(2) التعريفات للجرجاني.
(3) لسان العرب والمصباح المنير.(15/53)
يَفْعَل (1) } وَالتَّكَالِيفُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَةِ الْكُل، لاَ تَنْفَعُهُ طَاعَةُ الطَّائِعِينَ، وَلاَ تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ الْعَاصِينَ (2) .، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحْكَامَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَسْبَابٍ رَبَطَهَا بِهَا، لِيَعْرِفَ الْعِبَادُ بِالأَْسْبَابِ أَحْكَامَهَا، فَيُسَارِعُوا بِذَلِكَ إِلَى طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، إِذَا وَقَفُوا عَلَى الأَْسْبَابِ، فَأَمَرَ الْمُكَلَّفِينَ كُلَّهُمْ وَنَهَاهُمْ، وَقَدْ وَعَدَ مَنْ أَطَاعَهُ بِالثَّوَابِ، وَتَوَعَّدَ مَنْ عَصَاهُ بِالْعِقَابِ (3) .
مَنْ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ:
5 - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُثَابُ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى الْمَعَاصِي إِلاَّ أَنْ يَشْمَلَهُ اللَّهُ بِعَفْوِهِ؛ لأَِنَّ الْمُكَلَّفَ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ أَوَامِرَ وَنَوَاهٍ وَهِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ (4) .
6 - أَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفِينَ كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ فَالأَْصْل أَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ،
__________
(1) سورة الأنبياء / 23.
(2) فتح الباري 3 / 229، وصحيح مسلم بشرح النووي 17 / 160.
(3) قواعد الأحكام 1 / 14، 2 / 63، والفروق للقرافي 2 / 3، 3 / 193.
(4) التلويح 2 / 122، والأحكام للآمدي 1 / 147 - 148، والمستصفى 1 / 90، وقواعد الأحكام 1 / 114، والفروق 3 / 193.(15/54)
غَيْرَ أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ أَهْلٌ لِلثَّوَابِ لِمَا لَهُ مِنْ قُدْرَةٍ قَاصِرَةٍ، وَتَصِحُّ عِبَادَتُهُ مِنْ صَلاَةٍ، وَصَوْمٍ، وَاعْتِكَافٍ، وَحَجٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُكْتَبُ لَهُ ثَوَابُ مَا يَعْمَلُهُ، وَالدَّلِيل عَلَى صِحَّةِ عِبَادَتِهِ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ (1) وَحَدِيثُ صَلاَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَصَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ فَجِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ (2) وَحَدِيثُ تَصْوِيمِ الصَّحَابَةِ الصِّبْيَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. فَعَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: أَرْسَل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَْنْصَارِ: مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيَصُمْ. قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَل لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ. فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِْفْطَارِ (3) ، وَقَدْ رَجَّحَ الْمَالِكِيَّةُ تَعَلُّقَ النَّدْبِ
__________
(1) حديث: " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين ". أخرجه أبو داود (1 / 334 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسنه النووي في رياض الصالحين (ص 171 ط الرسالة) .
(2) حديث صلاة ابن عباس مع النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري (الفتح 2 / 190 - ط السلفية) .
(3) حديث تصويم الصحابة الصبيان يوم عاشوراء. أخرجه البخاري (الفتح 4 / 200 ط السلفية) .(15/54)
وَالْكَرَاهَةِ بِالصَّبِيِّ دُونَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ فَيُشْتَرَطُ لَهَا الْبُلُوغُ، وَذَلِكَ لأَِمْرِهِ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعٍ مِنَ الشَّارِعِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الأَْمْرَ بِالأَْمْرِ أَمْرٌ بِالشَّيْءِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ أَهْلٌ لِلثَّوَابِ؛ لأَِنَّهُ يَبْقَى مُسْلِمًا بَعْدَ الْجُنُونِ وَالْمُسْلِمُ يُثَابُ (1) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ: (صَبِيٌّ، جُنُونٌ، أَهْلِيَّةٌ) .
7 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْكَافِرُ مِنْ أَعْمَال الْبِرِّ ثُمَّ يُسْلِمُ، هَل يَنْفَعُهُ عَمَلُهُ السَّابِقُ أَوْ لاَ يَنْفَعُهُ؟ وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَمِنْ صِلَةِ رَحِمٍ فَهَل فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ (2) .
قَال الْحَرْبِيُّ: مَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ لَكَ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي عَمِلْتَهُ هُوَ لَكَ. وَقَال الْمَازِرِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْخَيْرَ الَّذِي أَسْلَفَهُ، كُتِبَ لَهُ، لَكِنَّ ابْنَ حَجَرٍ نَقَل عَنِ الْمَازِرِيِّ رِوَايَةً أُخْرَى فِي مَكَانٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْكَافِرَ لاَ يَصِحُّ مِنْهُ التَّقَرُّبُ، فَلاَ
__________
(1) التلويح 2 / 164 - 167، وجمع الجوامع 1 / 52 - 53، والمجموع 7 / 34 تحقيق نجيب المطيعي، وابن عابدين 1 / 587، وشرح منتهى الإرادات 1 / 119، وتهذيب الفروق بهامش الفروق 1 / 177، والدسوقي 1 / 186.
(2) حديث: " أسلمت على ما أسلفت من خير ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 301 - ط السلفية) .(15/55)
يُثَابُ عَلَى الْعَمَل الصَّالِحِ الصَّادِرِ مِنْهُ فِي شِرْكِهِ. . . وَتَابَعَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَلَى ذَلِكَ.
وَاسْتَضْعَفَ النَّوَوِيُّ رَأْيَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الثَّوَابِ وَقَال: الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ بَل نَقَل بَعْضُهُمْ فِيهِ الإِْجْمَاعَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا فَعَل أَفْعَالاً جَمِيلَةً كَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ عَلَى الإِْسْلاَمِ أَنَّ ثَوَابَ ذَلِكَ يُكْتَبُ لَهُ، وَقَدْ جَزَمَ بِمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْقُدَمَاءِ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ الْمُنِيرِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ (1) .
أَمَّا مَا فَعَلَهُ الْكَافِرُ مِنْ أَعْمَال الْبِرِّ ثُمَّ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَا قَال النَّوَوِيُّ عَلَى أَنَّهُ لاَ ثَوَابَ لَهُ فِي الآْخِرَةِ، وَإِنَّمَا يُطْعَمُ فِي الدُّنْيَا بِمَا عَمِلَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ (2) ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآْخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِل بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآْخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا (3) .
مَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَشُرُوطُهُ:
8 - مِنَ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا أَنَّ الإِْنْسَانَ يُثَابُ - بِفَضْل
__________
(1) فتح الباري 1 / 99 - 100، 3 / 301 - 302.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 17 / 150 وهامش الفروق 3 / 222، والقرطبي 20 / 150 - 151.
(3) حديث: " إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة ". أخرجه مسلم (4 / 2162 - ط الحلبي) .(15/55)
اللَّهِ - عَلَى مَا يُؤَدِّي مِنْ طَاعَاتٍ، وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ مَنْدُوبَةً، وَعَلَى مَا يَتْرُكُ مِنْ مُحَرَّمَاتٍ وَمَكْرُوهَاتٍ. يَقُول اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (1) } ، وَيَقُول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآْخِرَةِ لَكِنَّ فِعْل الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ لَيْسَ سَبَبًا فِي حَدِّ ذَاتِهِ - لِلثَّوَابِ - مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْفِعْل مُجْزِئًا وَمُبْرِئًا لِلذِّمَّةِ وَالتَّرْكُ كَافِيًا لِلْخُرُوجِ مِنَ الْعُهْدَةِ؛ لأَِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِحُصُول الثَّوَابِ فِي الْفِعْل وَالتَّرْكِ نِيَّةُ امْتِثَال أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. بَل إِنَّ الْمُبَاحَاتِ رَغْمَ أَنَّهَا لاَ تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، لَكِنْ إِنْ أُرِيدَ بِهَا الثَّوَابُ بِجَعْلِهَا وَسِيلَةً لِلْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ افْتَقَرَتْ إِلَى نِيَّةٍ (2) .
قَال الشَّاطِبِيُّ: الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَالْمَقَاصِدُ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَالأَْدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لاَ تَنْحَصِرُ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (3) } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ،
__________
(1) سورة الزلزلة / 7، 8.
(2) الذخيرة / 62، 240، والموافقات للشاطبي وما بعدها 1 / 149 - 151، إلى 2 / 323 - 329، والفروق للقرافي 1 / 130، 2 / 50 - 51، والمنثور في القواعد 3 / 287 - 288.
(3) سورة البينة / 5.(15/56)
وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى (1) . وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ: لاَ ثَوَابَ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: قَرَّرَ الْمَشَايِخُ فِي حَدِيثِ. إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ، أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُقْتَضَى، إِذْ لاَ يَصِحُّ بِدُونِ تَقْدِيرٍ لِكَثْرَةِ وُجُودِ الأَْعْمَال بِدُونِهَا فَقَدَّرُوا مُضَافًا أَيْ حُكْمَ الأَْعْمَال، وَهُوَ نَوْعَانِ: أُخْرَوِيٌّ، وَهُوَ الثَّوَابُ وَاسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ، وَدُنْيَوِيٌّ وَهُوَ الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ، وَقَدْ أُرِيدَ الأُْخْرَوِيُّ بِالإِْجْمَاعِ لِلإِْجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لاَ ثَوَابَ وَلاَ عِقَابَ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَسَاقَ ابْنُ نُجَيْمٍ الأَْمْثِلَةَ عَلَى ذَلِكَ فِي الأَْفْعَال وَالتُّرُوكِ، ثُمَّ قَال: وَلاَ تُشْتَرَطُ لِلثَّوَابِ صِحَّةُ الْعِبَادَةِ، بَل يُثَابُ عَلَى نِيَّتِهِ وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً بِغَيْرِ تَعَمُّدِهِ، كَمَا لَوْ صَلَّى مُحْدِثًا عَلَى ظَنِّ طَهَارَتِهِ (2) .
9 - بَل إِنَّ الإِْنْسَانَ قَدْ يُثَابُ عَلَى مَا لَمْ يَعْمَل، وَيَكُونُ الثَّوَابُ عَلَى النِّيَّةِ لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً (3) وَقَوْلِهِ: مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّيَ فِي اللَّيْل فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى
__________
(1) حديث: " إنما الأعمال بالنيات ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 9 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1515 - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب، واللفظ للبخاري.
(2) الأشباه لابن نجيم / 19 - 26.
(3) حديث: " من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ". أخرجه البخاري (الفتح 11 / 323 - ط السلفية) ومسلم (1 / 118 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس واللفظ لمسلم.(15/56)
وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَل (1)
وَيُثَابُ كَذَلِكَ عَلَى الْعَمَل وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ الْمُنَاسِبَ، فَفِي الْبُخَارِيِّ حَدِيثُ الْمُتَصَدِّقِ الَّذِي وَقَعَتْ صَدَقَتُهُ فِي يَدِ زَانِيَةٍ وَغَنِيٍّ وَسَارِقٍ (2) . وَحَدِيثُ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الأَْخْنَسِ الَّذِي أَخَذَ صَدَقَةَ أَبِيهِ مِنَ الرَّجُل الَّذِي وُضِعَتْ عِنْدَهُ وَقَال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ (3) قَال ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمُتَصَدِّقِ إِذَا كَانَتْ صَالِحَةً قُبِلَتْ صَدَقَتُهُ وَإِنْ لَمْ تَقَعِ الْمَوْقِعَ (4) . وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ فَقَدْ قِيل: إِنَّ الْقُرُبَاتِ الَّتِي لاَ لُبْسَ فِيهَا لاَ تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ كَالإِْيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى (5) .
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (نِيَّةٌ) .
مَا يُثَابُ عَلَيْهِ الإِْنْسَانُ مِمَّا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ:
لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ الثَّوَابَ يَتَعَلَّقُ بِمَا هُوَ مِنْ كَسْبِ
__________
(1) الموافقات للشاطبي 2 / 235. وحديث: " من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى أصبح كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه عز وجل ". أخرجه النسائي (3 / 258، - ط المكتبة التجارية) ، والحاكم (1 / 311 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أبي الدرداء وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) حديث " المتصدق الذي وقعت صدقته في يد زانية ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 290 - ط السلفية) .
(3) حديث: " لك ما نويت يا يزيد " أخرجه البخاري (الفتح 3 / 291 - ط السلفية) .
(4) فتح الباري 3 / 290 - 291.
(5) قواعد الأحكام 1 / 149، والذخيرة 1 / 237.(15/57)
الإِْنْسَانِ وَاكْتِسَابِهِ، أَمَّا ثَوَابُ مَا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ. وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ:
أَوَّلاً - فِيمَا يَهَبُهُ الإِْنْسَانُ لِغَيْرِهِ مِنَ الثَّوَابِ:
10 - يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَجْعَل الإِْنْسَانُ ثَوَابَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ لِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعِبَادَةُ صَلاَةً، أَمْ صَوْمًا، أَمْ حَجًّا، أَمْ صَدَقَةً، أَمْ قِرَاءَةً وَذِكْرًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ لِظَاهِرِ الأَْدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِْيمَانِ (1) } وقَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ (2) } وَقَدْ ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْهُ وَالآْخَرُ عَنْ أُمَّتِهِ (3) ، وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ أَبِيهِ: لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ بَلَغَهُ ذَلِكَ (4) .
__________
(1) سورة الحشر / 10.
(2) سورة محمد / 19.
(3) حديث: " ضحى بكبشين أملحين أحدهما عنه والآخر عن أمته " أخرجه أبو يعلى عن جابر بن عبد الله كما في مجمع الزوائد (4 / 22 - ط القدسي) وقال الهيثمي: " إسناده حسن ".
(4) حديث: " لو كان مسلما فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه ". أخرجه أبو داود (3 / 302 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وإسناده حسن.(15/57)
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأَْدِلَّةِ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (1) } فَمَعْنَاهُ لاَ يَجِبُ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ فِيمَا عَدَا الصَّلاَةَ وَالصِّيَامَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا عَدَا الصَّلاَةَ، وَفِي الصِّيَامِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ خِلاَفٌ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالإِْجْمَاعِ وَلأَِنَّ الصَّلاَةَ وَالصِّيَامَ لاَ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَال الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
11 - وَاخْتُلِفَ فِي إِهْدَاءِ الثَّوَابِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ وَمَنَعَهُ الآْخَرُونَ.
وَقَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ فِي بَعْضِ فَتَاوِيهِ: لاَ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَل ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الثَّوَابِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الشَّارِعِ، لَكِنَّ الْحَطَّابَ قَال: التَّصَرُّفُ الْمَمْنُوعُ مَا يَكُونُ بِصِيغَةِ جَعَلْتُهُ لَهُ، أَوْ أَهْدَيْتُهُ لَهُ، أَمَّا الدُّعَاءُ بِجَعْل ثَوَابِهِ لَهُ فَلَيْسَ تَصَرُّفًا بَل سُؤَالٌ لِنَقْل الثَّوَابِ إِلَيْهِ وَلاَ مَانِعَ مِنْهُ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ أَدَاءٌ (ف 14) .
(الْمَوْسُوعَةُ 2 334) .
ثَانِيًا - ثَوَابُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ:
12 - مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ
__________
(1) سورة النجم / 39.
(2) ابن عابدين 2 / 236 - 237، ومنح الجليل 1 / 306 - 442، والحطاب 2 / 543 إلى 546، ومغني المحتاج 3 / 67 - 69 - 70، وقليوبي 3 / 73، والمغني 2 / 567 - 568، وقواعد الأحكام 1 / 114 - 115.(15/58)
الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، لَكِنْ هَل يَحْصُل ثَوَابُ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَفْعَل؟
قَال الْفُقَهَاءُ: الثَّوَابُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ يَحْصُل لِفَاعِلِهِ فَقَطْ؛ لأَِنَّهُ ثَوَابُ الْفِعْل نَفْسِهِ، وَهُوَ لِفَاعِلِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْفَاعِل فَيَسْتَوِي مَعَ الْفَاعِل فِي سُقُوطِ التَّكْلِيفِ، لاَ فِي الثَّوَابِ وَعَدَمِهِ، نَعَمْ إِنْ كَانَ نَوَى الْفِعْل فَلَهُ الثَّوَابُ عَلَى نِيَّتِهِ، قَال بَعْضُ شُرَّاحِ الرِّسَالَةِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَحْصُل الثَّوَابُ بِغَيْرِ مَنْ رَدَّ السَّلاَمَ - أَيْ بَعْدَ رَدِّ غَيْرِهِ - إِذَا نَوَى الرَّدَّ وَتَرَكَهُ لأَِجْل رَدِّ الْغَيْرِ، وَإِلاَّ فَلاَ. وَنُقِل عَنِ الأَْبِيِّ أَنَّ الثَّوَابَ يَحْصُل مُطْلَقًا قَال الزُّرْقَانِيُّ: وَفِيهِ تَعَسُّفٌ (1) .
ثَالِثًا - الْمَصَائِبُ الَّتِي تَنْزِل بِالإِْنْسَانِ هَل يُثَابُ عَلَيْهَا أَمْ لاَ
13 - الأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا (2) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ،
__________
(1) الفروق 1 / 117، ومنح الجليل 1 / 711، والزرقاني 3 / 109، وقواعد الأحكام 1 / 44، ومغني المحتاج 4 / 213.
(2) حديث: " ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله ". أخرجه البخاري (الفتح 10 / 103 ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1992 - ط الحلبي) من حديث عائشة، واللفظ للبخاري.(15/58)
وَلاَ حُزْنٍ، وَلاَ أَذًى، وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ (1) .
قَال الشَّاطِبِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْمَصَائِبُ مِنْ فِعْل الْغَيْرِ، كَفَّرَ بِهَا مِنْ سَيِّئَاتِهِ، وَأَخَذَ بِهَا مِنْ أَجْرِ غَيْرِهِ، وَحَمَل غَيْرُهُ وِزْرَهُ (2) كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْمُفْلِسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَصَائِبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: فَهِيَ كَفَّارَاتٌ فَقَطْ، أَوْ كَفَّارَاتٌ وَأُجُورٌ (3) .
وَقَال الْقَرَافِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: الْمَصَائِبُ كَفَّارَاتٌ لِلذُّنُوبِ قَطْعًا، سَوَاءٌ أَسَخِطَ، أَمْ رَضِيَ، غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ صَبَرَ وَرَضِيَ اجْتَمَعَ مَعَ التَّكْفِيرِ الثَّوَابُ، فَالْمَصَائِبُ لاَ ثَوَابَ فِيهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مُصِيبَةٌ؛ لأَِنَّهَا غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ، وَالتَّكْفِيرُ بِالْمُصِيبَةِ يَقَعُ بِالْمُكْتَسَبِ وَغَيْرِ الْمُكْتَسَبِ (4) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةٌ لِذَنْبٍ يُوَازِيهَا، وَبِالرِّضَا يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُصَابِ ذَنْبٌ عُوِّضَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ بِمَا يُوَازِيهِ (5) .
__________
(1) حديث: " ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 103 - ط السلفية) ، ومسلم (4 / 1992 - 1993 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة معا واللفظ للبخاري.
(2) الموافقات 2 / 234 - 235.
(3) حديث المفلس. أخرجه مسلم (4 / 1997 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(4) الفروق 4 / 234، وقواعد الأحكام 1 / 115.
(5) فتح الباري 10 / 105.(15/59)
وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: مَا وَرَدَ بِهِ السَّمْعُ مِنْ وَعْدِ الرِّزْقِ، وَوَعْدِ الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَعَلَى أَلَمِ الْمُؤْمِنِ، وَأَلَمِ طِفْلِهِ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا مَحْضُ فَضْلٍ وَتَطَوُّلٍ مِنْهُ تَعَالَى لاَ بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ لِوَعْدِهِ الصَّادِقِ (1) .
تَفَاوُتُ الثَّوَابِ:
يَتَفَاوَتُ الثَّوَابُ قِلَّةً وَكَثْرَةً بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَلِي:
أ - مِنْ حَيْثُ الْمَشَقَّةُ:
14 - الأَْصْل أَنَّ الْمَشَقَّةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ، فَإِنَّ الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ عَنِ الْمُكَلَّفِ، وَلَكِنَّ الْمَشَقَّةَ فِي الْجُمْلَةِ مُثَابٌ عَلَيْهَا إِذَا لَحِقَتْ فِي أَثْنَاءِ التَّكْلِيفِ، وَيَخْتَلِفُ أَجْرُ تَحَمُّل الْمَشَاقِّ بِشِدَّةِ الْمَشَاقِّ وَخِفَّتِهَا، وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَيْنِ إِذَا اتَّحَدَا فِي الشَّرَفِ، وَالشَّرَائِطِ، وَالسُّنَنِ، وَالأَْرْكَانِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا شَاقًّا فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي أَجْرِهِمَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي جَمِيعِ الْوَظَائِفِ، وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِتَحَمُّل الْمَشَقَّةِ لأَِجْل اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَأُثِيبَ عَلَى تَحَمُّل الْمَشَقَّةِ لاَ عَلَى عَيْنِ الْمَشَاقِّ، وَذَلِكَ كَالاِغْتِسَال فِي الصَّيْفِ وَالرَّبِيعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الاِغْتِسَال فِي شِدَّةِ بَرْدِ الشِّتَاءِ، فَيَزِيدُ أَجْرُ الاِغْتِسَال فِي الشِّتَاءِ لأَِجْل تَحَمُّل مَشَقَّةِ الْبَرْدِ، وَكَذَلِكَ مَشَاقُّ الْوَسَائِل فِي مَنْ يَقْصِدُ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 603.(15/59)
الْمَسَاجِدَ، وَالْحَجَّ، وَالْغَزْوَ، مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ، وَمَنْ يَقْصِدُ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، فَإِنَّ ثَوَابَهَا يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْوَسِيلَةِ، وَيَتَسَاوَى مِنْ جِهَةِ الْقِيَامِ بِسُنَنِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَشَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا، فَإِنَّ الشَّرْعَ يُثِيبُ عَلَى الْوَسَائِل إِلَى الطَّاعَاتِ، كَمَا يُثِيبُ عَلَى الْمَقَاصِدِ مَعَ تَفَاوُتِ أُجُورِ الْوَسَائِل وَالْمَقَاصِدِ، وَكَذَلِكَ جَعَل لِكُل خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا الْمُصَلِّي إِلَى إِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ رَفْعَ دَرَجَةٍ وَحَطَّ خَطِيئَةٍ، وَجَعَل أَبْعَدَهُمْ مَمْشًى إِلَى الصَّلاَةِ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ أَقْرَبِهِمْ مَمْشًى إِلَيْهَا، وَجَعَل لِلْمُسَافِرِينَ إِلَى الْجِهَادِ بِمَا يَلْقَوْنَهُ مِنَ الظَّمَأِ، وَالنَّصَبِ، وَالْمَخْمَصَةِ، وَالنَّفَقَةِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، وَقَطْعِ الأَْوْدِيَةِ، وَبِمَا يَنَالُونَهُ مِنَ الأَْعْدَاءِ أَجْرَ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّاتُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَشَقَّاتٌ مُثَابًا عَلَيْهَا زِيَادَةً عَلَى مُعْتَادِ التَّكْلِيفِ دَل عَلَى أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ لَهُ، وَإِلاَّ فَلَوْ لَمْ يَقْصِدْهَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا ثَوَابٌ (1) .
ب - تَفَاوُتُ الثَّوَابِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ:
15 - مِنْ ذَلِكَ تَفْضِيل شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ، وَتَفْضِيل صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَعَرَفَةَ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الأَْيَّامِ، وَتَفْضِيل الْعَمَل فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ اللَّيَالِيِ مَعَ مُسَاوَاتِهَا لِقِيَامِ كُل لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَتَفْضِيل الثُّلُثِ الأَْخِيرِ
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 31، والموافقات 2 / 125.(15/60)
مِنَ اللَّيْل عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الأَْزْمِنَةِ. وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ الْكَثِيرُ مِنَ الأَْدِلَّةِ (1) .
مِنْهَا قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (2) } .
ج - تَفَاوُتُ الثَّوَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانُ:
16 - تَفَضَّل اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَضْعِيفِ الأُْجُورِ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي بَعْضِ الأَْمَاكِنِ، فَجَعَل الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَل مِنَ الصَّلاَةِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الصَّلاَةِ، وَالصَّلاَةَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَفْضَل مِنَ الصَّلاَةِ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى، وَالصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الأَْقْصَى أَفْضَل مِنَ الصَّلاَةِ فِي غَيْرِهِ، وَكَتَفْضِيل عَرَفَةَ، وَالْمَطَافِ وَالْمَسْعَى وَمُزْدَلِفَةَ، وَمِنًى، وَمَرْمَى الْجِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْبِقَاعِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى غَيْرِهَا (3) . يَقُول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ (4) .
__________
(1) المغني 3 / 178، وقواعد الأحكام 1 / 26 - 27.
(2) سورة القدر / 3.
(3) فتح الباري 3 / 63 - 64 - 65، والجمل 5 / 333.
(4) حديث: " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 63 - ط السلفية) من حديث أبي هريرة.(15/60)
د - تَفَاوُتُ الثَّوَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَصْلَحَةُ فِي الْفِعْل:
17 - مِنْ ذَلِكَ الإِْيمَانُ فَإِنَّهُ أَفْضَل مِنْ جَمِيعِ الأَْعْمَال بِكَثْرَةِ ثَوَابِهِ، فَإِنَّ ثَوَابَهُ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ وَالْخُلُوصُ مِنَ النَّارِ.
وَصَلاَةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَل مِنْ صَلاَةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ صَلاَةً (1) .
بُطْلاَنُ الثَّوَابِ:
18 - لاَ تَلاَزُمَ بَيْنَ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ وَإِجْزَائِهَا وَبَيْنَ بُطْلاَنِ ثَوَابِهَا، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ قَدْ تَكُونُ صَحِيحَةً مُجْزِئَةً لاِسْتِكْمَال أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا، وَلَكِنْ لاَ يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهَا الثَّوَابَ، لِمَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنَ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ الَّتِي تُبْطِل ثَمَرَتَهَا فِي الآْخِرَةِ، وَدَلِيل ذَلِكَ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ (2) .
وَمِنْ ذَلِكَ الرِّيَاءُ فَإِنَّهُ يُبْطِل ثَوَابَ الْعِبَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
19 - وَقَدْ يَصِحُّ الْعَمَل وَيَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الثَّوَابَ وَلَكِنْ يُتْبِعُهُ بِمَا يُبْطِل هَذَا الثَّوَابَ، فَالْمَنُّ وَالأَْذَى يُبْطِل أَجْرَ الصَّدَقَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَْذَى (3) } يَقُول
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 26 - 27، والحطاب 2 / 84.
(2) حديث: " إنما الأعمال بالنيات ". تقدم ف 8.
(3) سورة البقرة / 264.(15/61)
ابْنُ الْقَيِّمِ: فَمَثَل صَاحِبِهَا وَبُطْلاَنِ عَمَلِهِ {كَمَثَل صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا (1) } ، وَمِنَ الْمَعَاصِي مَا يُبْطِل ثَوَابَ الْعِبَادَةِ، فَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَل لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (2) .
قَال النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لاَ ثَوَابَ لَهُ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَةً فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْهُ.
20 - وَالإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ يُبْطِل صِحَّةَ الْعَمَل وَثَوَابَهُ (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَئِنْ أَشْرَكَتْ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (4) } .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (رِدَّةٌ) .
ثَانِيًا:
الثَّوَابُ فِي الْهِبَةِ:
21 - الْمَقْصُودُ بِالثَّوَابِ فِي الْهِبَةِ الْعِوَضُ الْمَالِيُّ، وَالأَْصْل فِي الْهِبَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهَا عِوَضٌ مَادِّيٌّ، لأَِنَّهَا تَبَرُّعٌ وَلَيْسَتْ مُعَاوَضَةً، إِلاَّ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْوِيضُ فِيهَا وَتُسَمَّى هِبَةَ الثَّوَابِ، وَهِيَ الْهِبَةُ الَّتِي يَتِمُّ الاِعْتِيَاضُ عَنْهَا، وَالْعِوَضُ فِي الْهِبَةِ إِمَّا
__________
(1) سورة البقرة / 264.
(2) حديث: " من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ". أخرجه مسلم (4 / 1751 - ط الحلبي) عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) الموافقات للشاطبي 1 / 295 - 296، 2 / 118، وأعلام الموقعين 1 / 185، وصحيح مسلم بشرح النووي 14 / 227، ابن عابدين 1 / 278، وقواعد الأحكام 1 / 124 - 125.
(4) سورة الزمر / 65.(15/61)
أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لاَ:
فَإِنِ اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ وَكَانَ مَعْلُومًا صَحَّ الْعَقْدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْظْهَرِ نَظَرًا لِلْمَعْنَى عِنْدَهُمْ، وَالْقَوْل الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ لِتَنَاقُضِهِ، فَإِنَّ لَفْظَ الْهِبَةِ يَقْتَضِي التَّبَرُّعَ.
وَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ اعْتُبِرَ بَيْعًا أَوْ كَالْبَيْعِ فِي الْجُمْلَةِ. وَيَكُونُ لَهُ أَحْكَامُ الْبَيْعِ فَيَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الْخِيَارِ، وَحَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَحَقُّ الشُّفْعَةِ، وَيَسْقُطُ حَقُّ الرُّجُوعِ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اشْتَرَطُوا لإِِسْقَاطِ حَقِّ الرُّجُوعِ التَّقَابُضَ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي أَنْ يُغَلَّبَ فِيهَا حُكْمُ الْهِبَةِ فَلاَ تَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ.
22 - وَإِذَا اشْتُرِطَ الْعِوَضُ وَكَانَ مَجْهُولاً صَحَّ الْعَقْدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ وَمُقَابِل الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. إِلاَّ أَنَّ الْعَقْدَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُعْتَبَرُ هِبَةً ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا عَلَى أَصْل مَذْهَبِهِمُ الَّذِي يُجِيزُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ، وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لِلْمَوْهُوبِ لَهُ دَفْعُ الْقِيمَةِ أَوْ رَدُّ الْهِبَةِ، فَإِذَا دَفَعَ الْقِيمَةَ أُلْزِمَ الْوَاهِبُ قَبُولَهَا، وَإِذَا لَمْ يَدْفَعْ كَانَ لِلْوَاهِبِ الرَّدُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بُطْلاَنُ الْعَقْدِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ.
23 - وَإِنْ وَهَبَ مُطْلَقًا دُونَ تَقْيِيدٍ بِثَوَابٍ أَوْ عَدَمِهِ(15/62)
فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لاَ ثَوَابَ إِنْ وَهَبَ الشَّخْصُ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَكَذَا الأَْعْلَى مِنْهُ فِي الأَْظْهَرِ وَلِنَظِيرِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُصَدَّقُ الْوَاهِبُ فِي قَصْدِهِ مَا لَمْ يَشْهَدِ الْعُرْفُ بِضِدِّهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ تَقْتَضِي ثَوَابًا، أَيْ عِوَضًا، وَالْعِوَضُ فِي الْهِبَةِ الْمُطْلَقَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُول بِهِ هُوَ قِيمَةُ الْمَوْهُوبِ أَوْ مَا يُعْتَبَرُ ثَوَابًا لِمِثْلِهِ عَادَةً (1) .
24 - وَمِنْ أَحْكَامِ هِبَةِ الثَّوَابِ - غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ، وَالْخِيَارِ، وَإِسْقَاطِ الرُّجُوعِ - أَنَّ وَلِيَّ الصَّغِيرِ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَهَبَ مِنْ مَال الصَّغِيرِ هِبَةَ ثَوَابٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لأَِنَّهَا هِبَةٌ ابْتِدَاءً يَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ فِيهَا عَلَى الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُعَاوَضَةً انْتِهَاءً، وَالْوَلِيُّ لاَ يَمْلِكُ الْهِبَةَ فَلَمْ يَنْعَقِدْ هِبَةً، فَلاَ يُتَصَوَّرُ صَيْرُورَتُهَا مُعَاوَضَةً يَمْلِكُهَا الْوَلِيُّ كَالْبَيْعِ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الأَْبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِلأَْبِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَهَبَ مِنْ مَال الصَّغِيرِ هِبَةَ ثَوَابٍ؛ لِثُبُوتِ الْعِوَضِ فِيهَا
__________
(1) البدائع 6 / 132، ابن عابدين 4 / 516 إلى 520، والشرح الصغير 2 / 319 - 320 ط الحلبي، ومنح الجليل 4 / 110 - 112، والزرقاني 6 / 179، ومغني المحتاج 2 / 404، والقليوبي 3 / 114، والروضة 5 / 386، والمغني 5 / 684 - 685، والإفصاح 2 / 59، ومنتهى الإرادات 2 / 519.(15/62)
فَكَانَتْ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ، كَالْبَيْعِ (1) .
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (هِبَةٌ - شُفْعَةٌ - خِيَارٌ) .
__________
(1) البدائع 5 / 153، الشرح الصغير 2 / 320 ط الحلبي، ومنتهى الإرادات 2 / 293.(15/63)
ثَوَلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الثَّوَل دَاءٌ يُشْبِهُ الْجُنُونَ، قَال صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الثَّوَل اسْتِرْخَاءٌ فِي أَعْضَاءِ الشَّاءِ خَاصَّةً، أَوْ كَالْجُنُونِ يُصِيبُهَا فَلاَ تَتْبَعُ الْغَنَمَ وَتَسْتَدِيرُ فِي مَرْتَعِهَا.
وَقَال ابْنُ الأَْثِيرِ: هُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ الْغَنَمَ كَالْجُنُونِ يَلْتَوِي مَعَهُ عُنُقُهَا، وَقِيل هُوَ دَاءٌ يَأْخُذُ فِي ظُهُورِهَا وَرُءُوسِهَا فَتَخِرُّ مِنْهُ، وَالثَّوْلاَءُ مِنَ الشَّاءِ، وَغَيْرِهَا الْمَجْنُونَةُ، وَالذَّكَرُ أَثَوْل (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
قَال الرَّمْلِيُّ: الثَّوْلاَءُ هِيَ الْمَجْنُونَةُ الَّتِي تَسْتَدْبِرُ الرَّعْيَ وَلاَ تَرْعَى إِلاَّ الْقَلِيل، وَذَلِكَ يُورِثُ الْهُزَال (2) .
__________
(1) المصباح المنير وتاج العروس والمغرب والصحاح والتعريفات الفقهية للمجدوي البركتي، والنهاية لابن الأثير (ثول) .
(2) البناية 9 / 149، ابن عابدين 5 / 205، والجمل على شرح المنهج 5 / 253، وبدائع الصنائع 5 / 75، 76، وشرح الزرقاني 3 / 34، والحطاب 3 / 241، ونهاية المحتاج 8 / 128.(15/63)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْهُيَامُ:
2 - مِنْ مَعَانِي الْهُيَامِ أَنَّهُ دَاءٌ يُصِيبُ الإِْبِل مِنْ مَاءٍ تَشْرَبُهُ مُسْتَنْقَعًا، أَوْ هُوَ عَطَشٌ شَدِيدٌ لاَ تَرْتَوِي مَعَهُ بِالْمَاءِ، فَتَهِيمُ فِي الأَْرْضِ وَلاَ تَرْعَى. وَالْوَاحِدُ هَيْمَانُ، وَالأُْنْثَى هَيْمَى
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهَيْمَاءِ وَالثَّوْلاَءِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُصَابَةٌ بِآفَةٍ تَمْنَعُهَا مِنَ السَّوْمِ وَالرَّعْيِ (1) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
3 - يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ عَدَمَ إِجْزَاءِ الثَّوْلاَءِ فِي الأُْضْحِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ خَصُّوا عَدَمَ الإِْجْزَاءِ بِالشَّاةِ دَائِمَةِ الْجُنُونِ الَّتِي فَقَدَتِ التَّمْيِيزَ بِحَيْثُ لاَ تَهْتَدِي لِمَا يَنْفَعُهَا وَلاَ تُجَانِبُ مَا يَضُرُّهَا، أَمَّا الْجُنُونُ غَيْرُ الدَّائِمِ فَلاَ يَضُرُّ عِنْدَهُمْ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جَوَازِ التَّضْحِيَةِ بِالثَّوْلاَءِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوا جَوَازَ التَّضْحِيَةِ بِهَا بِمَا إِذَا كَانَتْ تَعْتَلِفُ، أَمَّا إِذَا كَانَ الثَّوَل يَمْنَعُهَا مِنَ الرَّعْيِ وَالاِعْتِلاَفِ فَلاَ
__________
(1) الموسوعة الفقهية 5 / 84، ونهاية المحتاج 8 / 128.
(2) الحطاب 3 / 241، وحاشية الدسوقي 2 / 120 ط دار الفكر، ونهاية المحتاج 8 / 128، والجمل على شرح المنهج 5 / 253، وروضة الطالبين 3 / 195، والموسوعة الفقهية 5 / 86.(15/64)
تَجُوزُ؛ لأَِنَّهُ يُفْضِي إِلَى هَلاَكِهَا فَكَانَ عَيْبًا فَاحِشًا.
كَمَا قَيَّدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ جَوَازَ التَّضْحِيَةِ بِالثَّوْلاَءِ بِكَوْنِهَا سَمِينَةً (1) . وَلَمْ نَرَ نَصًّا فِي ذَلِكَ لِلْحَنَابِلَةِ. وَلِلتَّفْصِيل: (ر: أُضْحِيَّةٌ) .
ثِيَابٌ
انْظُرْ: لِبَاسٌ، لُبْسٌ.
__________
(1) البناية شرح الهداية 9 / 149، وبدائع الصنائع 5 / 75، 76 ط الجمالية، وابن عابدين 5 / 205، وشرح الزرقاني 3 / 34.(15/64)
ثُيُوبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الثُّيُوبَةُ مَصْدَرٌ صِنَاعِيٌّ مِنْ ثَابَ يَثُوبُ إِذَا رَجَعَ، وَيُقَال لِلإِْنْسَانِ إِذَا تَزَوَّجَ ثَيِّبٌ، وَإِطْلاَقُهُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَكْثَرُ؛ لأَِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهَا بِوَجْهٍ غَيْرِ الأَْوَّل.
وَوَرَدَ فِي الْخَبَرِ: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِكَلِمَةِ الثُّيُوبَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. وَقَرِيبٌ مِنَ الثُّيُوبَةِ (الإِْحْصَانُ) لأَِنَّهُ حُصُول الْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَكَارَةُ:
2 - الْبَكَارَةُ هِيَ: عُذْرَةُ الْمَرْأَةِ، وَمَوْلُودٌ بِكْرٌ إِذَا
__________
(1) حديث: " البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ". أخرجه مسلم (3 / 1316 - ط الحلبي) من حديث عبادة بن الصامت.
(2) تاج العروس، ولسان العرب، والمصباح المنير مادة: (ثوب) .(15/65)
كَانَ أَوَّل وَلَدِ أَبَوَيْهِ (1) فَالْبَكَارَةُ بِالْمَعْنَى الأَْوَّل ضِدُّ الثُّيُوبَةِ لاَ يَجْتَمِعَانِ وَلاَ يَرْتَفِعَانِ.
ب - الإِْحْصَانُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الإِْحْصَانِ: التَّزَوُّجُ، وَهُوَ شَرْعًا النِّكَاحُ الصَّحِيحُ الْمُقْتَرِنُ بِالدُّخُول مَعَ الْبُلُوغِ وَالإِْسْلاَمِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الثُّيُوبَةِ وَالإِْحْصَانِ أَنَّ الثُّيُوبَةَ قَدْ تَكُونُ بِالْوَطْءِ بِالزَّوَاجِ وَقَدْ تَكُونُ بِغَيْرِهِ.
تَحَقُّقُ الثُّيُوبَةِ:
4 - يَخْتَلِفُ الْمُرَادُ بِالثُّيُوبِةِ بِاخْتِلاَفِ مَوَاطِنِ بَحْثِهَا.
فَبِالنِّسْبَةِ لاِشْتِرَاطِ الْبَكَارَةِ فِي الزَّوَاجِ، وَفِي رَدِّ الأَْمَةِ الْمَبِيعَةِ عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ إِذَا ظَهَرَتْ ثَيِّبًا. وَكَذَلِكَ فِي الْوَكَالَةِ بِالتَّزْوِيجِ، وَالْوَصِيَّةِ لِلْبِكْرِ أَوِ الثَّيِّبِ.
يُرَادُ بِالثُّيُوبِةِ زَوَال الْعُذْرَةِ مُطْلَقًا بِجِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَيُرَادُ بِالثُّيُوبِةِ فِي اسْتِئْمَارِ الثَّيِّبِ فِي النِّكَاحِ زَوَال الْعُذْرَةِ بِالْجِمَاعِ فَقَطْ، وَيُرَادُ بِالثُّيُوبِةِ فِي الرَّجْمِ بِالزِّنَا لِلرَّجُل أَوِ الْمَرْأَةِ سَبْقُ الْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ بِشُرُوطِهِ. . وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيل ذَلِكَ إِلَى مَوَاطِنِهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَمُصْطَلَحَاتِ: (نِكَاحٌ، وَوَصِيَّةٌ، وَزِنًا (2)) .
__________
(1) المصباح المنير مادة: (بكر) .
(2) الاختيار لتلعيل المختار 4 / 88 ط دار المعرفة. ومواهب الجليل 3 / 491 ط دار الفكر، والأشباه والنظائر للسيوطي 534 ط مصطفى الحلبي.(15/65)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5 - يَظْهَرُ أَثَرُ الثُّيُوبَةِ فِي الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ فِي النِّكَاحِ.
أَمَّا الْكَبِيرَةُ فَلاَ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا فِي قَوْل عَامَّةِ أَهْل الْعِلْمِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تُنْكَحُ الأَْيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1) . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مِنَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ (2) .
وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الأَْيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا (3) وَقَال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لِلأَْبِ تَزْوِيجُ الثَّيِّبِ الْكَبِيرَةِ وَإِنْ كَرِهَتْ (4) .
وَأَمَّا الثَّيِّبُ الصَّغِيرَةُ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ
__________
(1) حديث: " لا تنكح الأيم حتى تستأمر. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 191 ط السلفية) ومسلم (2 / 1037 ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(2) حديث: " ليس للولي من الثيب أمر. . . ". أخرجه أبو داود (2 / 579 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والدارقطني (3 / 239 ط دار المحاسن) وأعله الدارقطني بمخالفة أحد رواته متنا، وإسنادا لمن اشترك معه في الرواية عن شيخه صالح بن كيسان فاللفظ الصحيح له هو ما أخرجه مسلم: " الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن من نفسها وإذنها صماتها " صحيح مسلم (2 / 1037 ط الحلبي) .
(3) حديث: " الأيم أحق بنفسها من وليها. . . ". أخرجه مسلم (2 / 1037 - ط الحلبي) من حديث ابن عباس.
(4) ابن عابدين 2 / 296، والفتاوى الهندية 1 / 289، ومواهب الجليل 3 / 427، والقوانين الفقهية 203، والقليوبي 3 / 223، وروضة الطالبين 7 / 54، والمغني 6 / 491، 492، 493.(15/66)
وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّ لِلأَْبِ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ الثَّيِّبَ الصَّغِيرَةَ وَلاَ يَسْتَأْمِرَهَا، لأَِنَّهَا صَغِيرَةٌ فَجَازَ إِجْبَارُهَا كَالْبِكْرِ وَالصَّبِيِّ (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا لِعُمُومِ الأَْخْبَارِ الْمُسْتَلْزِمَةِ اسْتِئْمَارَهَا، وَعِبَارَتُهَا فِي الأَْمْرِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِصِغَرِهَا، وَلأَِنَّ الإِْجْبَارَ يَخْتَلِفُ بِالْبَكَارَةِ وَالثُّيُوبَةِ لاَ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَهَذِهِ ثَيِّبٌ، وَلأَِنَّ فِي تَأْخِيرِهَا فَائِدَةً، وَهِيَ أَنْ تَبْلُغَ فَتَخْتَارَ لِنَفْسِهَا (2) .
6 - وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ فِي أَنَّ إِذْنَ الثَّيِّبِ النُّطْقُ مِنَ النَّاطِقَةِ، وَالإِْشَارَةُ أَوِ الْكِتَابَةُ مِنْ غَيْرِهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ (3) وَلأَِنَّ النُّطْقَ لاَ يُعْتَبَرُ عَيْبًا مِنْهَا.
وَالثَّيِّبُ الْمُعْتَبَرُ نُطْقُهَا هِيَ الْمَوْطُوءَةُ فِي الْقُبُل إِذَا كَانَ الْوَطْءُ حَلاَلاً، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَهُوَ مَا حُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) الهداية 1 / 197 ط مصطفى الحلبي، والفتاوى الهندية 1 / 289، 290، والقوانين الفقهية 204، والقليوبي 3 / 323، والمغني 6 / 493.
(3) حديث: " الثيب تشاور. . . " ذكره صاحب الهداية من الحنفية وقال الزيلعي: (غريب بهذا اللفظ، وتقدم معناه قريبا) نصب الراية (3 / 195 ط المجلس العلمي) .(15/66)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي الثُّيُوبَةِ بَيْنَ الْوَطْءِ الْحَلاَل وَالْحَرَامِ إِذَا كَانَ فِي الْقُبُل، وَأَمَّا إِنْ ذَهَبَتْ عُذْرَتُهَا بِغَيْرِ جِمَاعٍ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الأَْبْكَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الأَْصَحِّ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ أَنَّهَا كَالثَّيِّبِ لِزَوَال الْعُذْرَةِ (1) .
7 - وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَحْكَامِ الثُّيُوبَةِ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْعُيُوبِ الْمُجَوِّزَةِ لِلْفَسْخِ، فَرَأَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إِذَا شَرَطَ الزَّوْجُ بَكَارَةَ الزَّوْجَةِ فَتَبَيَّنَتْ ثَيِّبًا فَلَهُ الْفَسْخُ (2) ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ بَكَارَةٍ، كَمَا تَكَلَّمُوا عَنْهَا فِي بَابِ الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْبَيْتُوتَةِ إذَا تَزَوَّجَ ثَيِّبًا وَعِنْدَهُ غَيْرُهَا، فَإِنَّهُ يَبِيتُ عِنْدَهَا ثَلاَثًا ثُمَّ يَقْسِمُ، وَفِي الشَّهَادَةِ لإِِثْبَاتِ الثُّيُوبَةِ حَيْثُ تُقْبَل شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (قَسْمٌ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ) .
__________
(1) الهداية 1 / 197، والفتاوى الهندية 1 / 289، 290، ومواهب الجليل 3 / 427، والقوانين الفقهية 203، والقليوبي 3 / 223، وروضة الطالبين 7 / 54، والمغني 6 / 492.
(2) فتح القدير 4 / 122 ط دار إحياء التراث العربي، والاختيار لتعليل المختار 4 / 116، ومواهب الجليل 3 / 491، وجواهر الإكليل 1 / 300، 301 ط مصطفى البابي الحلبي، وروضة الطالبين 7 / 355، ونهاية المحتاج 8 / 312 ط مصطفى البابي الحلبي.(15/67)
جَائِحَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَائِحَةُ فِي اللُّغَةِ الشِّدَّةُ، تَجْتَاحُ الْمَال مِنْ سَنَةٍ أَوْ فِتْنَةٍ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْجَوْحِ بِمَعْنَى الاِسْتِئْصَال وَالْهَلاَكِ، يُقَال: جَاحَتْهُمُ الْجَائِحَةُ وَاجْتَاحَتْهُمْ، وَجَاحَ اللَّهُ مَالَهُ وَأَجَاحَهُ بِمَعْنًى، أَيْ أَهْلَكَهُ بِالْجَائِحَةِ.
وَتَكُونُ بِالْبَرْدِ يَقَعُ مِنَ السَّمَاءِ إِذَا عَظُمَ حَجْمُهُ فَكَثُرَ ضَرَرُهُ،
وَتَكُونُ بِالْبَرْدِ أَوْ الْحَرِّ الْمُفْرِطَيْنِ حَتَّى يَفْسُدَ الثَّمَرُ (1) .
وَالْجَائِحَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَمَا قَال ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَتَبِعَهُ أَكْثَرُهُمْ: كُل شَيْءٍ لاَ يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ لَوْ عُلِمَ بِهِ، كَسَمَاوِيٍّ، كَالْبَرْدِ وَالْحَرِّ، وَمِثْل ذَلِكَ رِيحُ السَّمُومِ، وَالثَّلْجُ، وَالْمَطَرُ، وَالْجَرَادُ، وَالْفِئْرَانُ وَالْغُبَارُ، وَالنَّارُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، أَوْ غَيْرِ سَمَاوِيٍّ وَجَيْشٍ، وَأَمَّا فِعْل السَّارِقِ فَفِيهِ خِلاَفٌ عِنْدَهُمْ مَحَلُّهُ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ، أَمَّا إِذَا عُلِمَ فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ جَائِحَةً عَلَى قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ وَيَكُونُ جَائِحَةً عِنْدَ غَيْرِهِمْ.
__________
(1) الصحاح والقاموس واللسان والمصباح مادة: (جوح) .(15/67)
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا كُل مَا أَذْهَبَ الثَّمَرَةَ أَوْ بَعْضَهَا بِغَيْرِ جِنَايَةِ آدَمِيٍّ، كَرِيحٍ وَمَطَرٍ وَثَلْجٍ، وَبَرْدٍ، وَجَلِيدٍ، وَصَاعِقَةٍ، وَحَرٍّ، وَعَطَشٍ وَنَحْوِهَا (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الآْفَةُ:
2 - وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عَرَضٌ يُفْسِدُ مَا يُصِيبُهُ، وَهِيَ الْعَاهَةُ، وَالْجَمْعُ آفَاتٌ (2) .
وَالآْفَةُ أَعَمُّ مِنَ الْجَائِحَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا قَدْ تُتْلِفُ الزَّرْعَ وَالثَّمَرَ أَوْ لاَ تُتْلِفُهُ، وَالْجَائِحَةُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِمَرَضٍ، أَوْ حَرٍّ، أَوْ حَرِيقٍ، أَوْ نَحْوِهِ، وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الآْفَةَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَيُقَيِّدُونَهَا فِي الْغَالِبِ بِكَوْنِهَا سَمَاوِيَّةً أَيْ إِنَّهَا لاَ صُنْعَ فِيهَا لآِدَمِيٍّ، وَالآْفَةُ قَدْ تَكُونُ عَامَّةً كَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ الْمُفْرِطَيْنِ، وَتَكُونُ خَاصَّةً كَالْجُنُونِ (3) .
__________
(1) الدسوقي 3 / 185 ط دار الفكر، وجواهر الإكليل 2 / 63 ط دار المعرفة، كفاية الطالب مع حاشية العدوي 2 / 173 ط الحلبي، المنتقى 4 / 232، 233 ط، الأولى، الأم للشافعي 3 / 58 ط، دار المعرفة، مطالب أولي النهى 3 / 200، 203 ط، المكتب الإسلامي، كشاف القناع 3 / 285 نشر مكتبة النصر، الإنصاف 5 / 76 - 77 ط التراث مصورة عن طبعة السنة المحمدية بالقاهرة.
(2) المصباح واللسان والقاموس مادة: (أوف) .
(3) حاشية ابن عابدين 5 / 47 ط، بولاق، حاشية الطحطاوي على الدر المختار 4 / 42 ط، بولاق، كفاية الطالب مع حاشية العدوي 2 / 173 ط، الحلبي، حاشية القليوبي 2 / 211 ط الحلبي، المغني مع الشرح 4 / 216 ط، والمنار، التقرير والتحبير 2 / 172 ط الأميرية، والتلويح 2 / 167 ط صبيح، وكشف الأسرار للبزدوي 4 / 263 ونيل الأوطار 5 / 280 - 281 ط مكتبة الجيل، ومصطلح آفة.(15/68)
ب - التَّلَفُ:
3 - التَّلَفُ الْهَلاَكُ. يُقَال: تَلِفَ الشَّيْءُ تَلَفًا إِذَا هَلَكَ فَهُوَ تَالِفٌ وَأَتْلَفْتُهُ، وَرَجُلٌ مُتْلِفٌ لِمَالِهِ وَمِتْلاَفٌ لِلْمُبَالَغَةِ (1) . فَالْجَائِحَةُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّلَفِ.
أَنْوَاعُ الْجَائِحَةِ وَأَحْكَامُهَا:
4 - الْجَائِحَةُ نَوْعَانِ:
أ - جَائِحَةٌ لاَ دَخْل لآِدَمِيٍّ فِيهَا.
ب - وَجَائِحَةٌ مِنْ قِبَل الآْدَمِيِّ كَفِعْل السُّلْطَانِ وَالْجَيْشِ، وَالسَّارِقِ، عَلَى قَوْل مَنْ جَعَل فِعْل الآْدَمِيِّ جَائِحَةً.
أَمَّا الْقِسْمُ الأَْوَّل: فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَوْنِهِ جَائِحَةً وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
جَائِحَةٌ مِنْ قِبَل الْمَاءِ، وَجَائِحَةٌ مِنْ قِبَل غَيْرِ الْمَاءِ. فَأَمَّا الْجَائِحَةُ مِنْ قِبَل الْمَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ قِبَل الْعَطَشِ فَقَدْ قَال مَالِكٌ فِي الْوَاضِحَةِ: يُوضَعُ قَلِيل ذَلِكَ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ شِرْبَ مَطَرٍ أَمْ غَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ قَال ابْنُ الْقَاسِمِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ مِنْ شُرُوطِ تَمَامِهَا السَّقْيُ، فَوَجَبَ أَنْ يُوضَعَ عَنِ الْمُشْتَرِي قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا لِمَنْفَعَةِ
__________
(1) المصباح مادة: (تلف) .(15/68)
الأَْرْضِ الْمُكْتَرَاةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْجَوَائِحِ أَنَّ سَائِرَ الْجَوَائِحِ لاَ تَنْفَكُّ الثَّمَرَةُ مِنْ يَسِيرِهَا، وَهَذِهِ تَنْفَكُّ الثَّمَرَةُ مِنْ يَسِيرِهَا، فَالْمُشْتَرِي دَاخِلٌ عَلَى السَّلاَمَةِ مِنْهَا، وَلَمْ يَدْخُل عَلَى سَلاَمَتِهَا مِنْ يَسِيرِ الْعَفَنِ وَالأَْكْل، وَأَمَّا الْجَائِحَةُ بِكَثْرَةِ الْمَطَرِ فَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْعَفَنِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الْعَفَنِ يَضَعُ كَثِيرَهُ دُونَ قَلِيلِهِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الْجَائِحَةُ الَّتِي تَكُونُ مِنَ الآْدَمِيِّينَ كَالسَّرِقَةِ، فَفِيهَا الْخِلاَفُ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ جَائِحَةً، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى أَنَسٌ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ (1) وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ جَائِحَةً لِدُخُولِهِ فِي حَدِّ الْجَائِحَةِ عِنْدَهُمْ (2) .
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْجَائِحَةِ مِنْ آثَارٍ:
أ - أَثَرُ الْجَائِحَةِ فِي الزَّكَاةِ:
5 - جَاءَ فِي الْمُغْنِي: إِذَا خُرِصَ التَّمْرُ وَتُرِكَ فِي رُءُوسِ النَّخْل فَعَلَيْهِمْ حِفْظُهُ، فَإِنْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَذَهَبَتِ الثَّمَرَةُ سَقَطَ عَنْهُمُ الْخَرْصُ، وَلَمْ يُؤْخَذُوا بِهِ، وَلاَ نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلاَفًا. قَال ابْنُ
__________
(1) حديث: " إذا منع الله الثمرة ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 398 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1190 - ط الحلبي) من حديث أنس، واللفظ للبخاري.
(2) المنتقى 4 / 233 ط الأولى، والمهذب 1 / 287 - 288 ط الحلبي، ونيل الأوطار 5 / 281 ط الجيل.(15/69)
الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْخَارِصَ إِذَا خَرَصَ الثَّمَرَةَ ثُمَّ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْمَالِكِ إِذَا كَانَ قَبْل الْجِذَاذِ؛ وَلأَِنَّهُ قَبْل الْجِذَاذِ فِي حُكْمِ مَا لاَ تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ، بِدَلِيل أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى ثَمَرَةً فَتَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْبَائِعِ (1) .
ثُمَّ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُمُ الَّذِينَ يُعَبِّرُونَ عَنِ الْجَائِحَةِ بِالآْفَةِ أَوِ التَّلَفِ أَوِ الْهَلاَكِ عَدَدًا مِنَ الصُّوَرِ فِي هَلاَكِ الْمَال الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَهَلاَكِ النِّصَابِ، أَوْ بَعْضِهِ، وَهَلاَكِ سَائِمَةِ الْبَدَل بَعْدَ الْحَوْل، وَهَلاَكِ الْعَفْوِ، وَبَقَاءِ النِّصَابِ، وَهَلاَكِ الْبَدَل إِنِ اسْتَبْدَلَهُ بَعْدَ الْحَوْل. وَاشْتَرَطُوا فِي الْمَال الَّذِي تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِهَلاَكِهِ أَنْ يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل فَيَهْلَكَ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ أَوِ اسْتِهْلاَكٍ قَبْل أَدَاءِ الزَّكَاةِ؛ لأَِنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَهُمْ جُزْءٌ مِنَ النِّصَابِ تَحْقِيقًا لِلتَّيْسِيرِ فَيَسْقُطُ بِهَلاَكِ مَحَلِّهِ.
وَهَذَا هُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لأَِنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَال يَسْقُطُ بِهَلاَكِهِ، فَتَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ كَحَقِّ الْمُضَارِبِ.
وَعَلَى هَذَا فَإِذَا أَصَابَتِ الثِّمَارَ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ بَعْدَ الْخَرْصِ، أَوْ سُرِقَتْ مِنَ الشَّجَرَةِ أَوِ الْجَرِينِ، فَإِنْ تَلِفَتْ كُلُّهَا بِغَيْرِ تَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْمَالِكِ بِاتِّفَاقِ الشَّافِعِيَّةِ لِفَوَاتِ الإِْمْكَانِ. فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي نِصَابًا زَكَّاهُ، وَعَلَى الْقَدِيمِ لاَ يَسْقُطُ
__________
(1) المغني 2 / 703.(15/69)
شَيْءٌ بِالتَّلَفِ بِغَيْرِ تَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ؛ لأَِنَّهُ وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الزَّرْعَ إِنْ أُصِيبَ بِجَائِحَةٍ بَعْدَ الْخَرْصِ اعْتُبِرَتْ تِلْكَ الْجَائِحَةُ فِي جَانِبِ السُّقُوطِ، فَيُزَكِّي مَا بَقِيَ إِنْ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ وَإِلاَّ فَلاَ، وَالْحَاصِل كَمَا فِي الدُّسُوقِيِّ أَنَّ الْجَائِحَةَ الَّتِي لاَ تُوضَعُ عَنِ الْمُشْتَرِي لاَ تُوضَعُ عَنِ الْبَائِعِ فِي الزَّكَاةِ، وَمَا تُوضَعُ عَنِ الْمُشْتَرِي تُوضَعُ عَنِ الْبَائِعِ زَكَاتُهَا.
وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يَسْتَقِرُّ فِي الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ إِلاَّ بِجَعْلِهَا فِي جَرِينٍ، أَوْ بَيْدَرٍ، أَوْ مِسْطَاحٍ، فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَهُ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ خُرِصَتِ الثَّمَرَةُ أَوْ لَمْ تُخْرَصْ (1) .
وَتَفْصِيل ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الزَّكَاةِ.
ب - أَثَرُ الْجَائِحَةِ فِي الْبَيْعِ:
6 - أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ (2) وَقَدْ حَمَلَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْبَائِعُ عَنِ الْمُشْتَرِي
__________
(1) فتح القدير مع العناية 1 / 511، 512، 514، 515، 516، 528 ط الأميرية، والمجموع 5 / 377، 379، 482 ط، السلفية بالمدينة المنورة مصورة عن الطبعة المنيرية، الدسوقي 1 / 454 ط، الفكر، الشرح الصغير 1 / 618 - 619 ط، المعارف، مطالب أولي النهى 2 / 26 - 27 ط، المكتب الإسلامي.
(2) حديث: " أمر بوضع الجوائح ". أخرجه مسلم (3 / 1191 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.(15/70)
لِلثَّمَرَةِ أَوِ الزَّرْعِ ثَمَنَ مَا يُتْلِفُ مِنْهُ الْجَائِحَةُ. فَالْمَبِيعُ إِنْ كَانَ ثَمَرًا أَوْ زَرْعًا، وَأُصِيبَ بِجَائِحَةٍ قَبْل الْقَبْضِ وَبُدُوِّ الصَّلاَحِ، أَوْ بَعْدَهُمَا، أَوْ أُجِيحَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاَحِ وَقَبْل الْجِذَاذِ فَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِل مِنْهَا مَا يَلِي:
مَا يُعْتَبَرُ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا لاَ يَحْتَاجُ إِلَى بَقَائِهِ فِي أَصْلِهِ لِتَمَامِ صَلاَحِهِ وَلاَ لِبَقَاءِ نَضَارَتِهِ كَالتَّمْرِ الْيَابِسِ وَالزَّرْعِ، فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ لاَ يُوضَعُ فِيهِ جَائِحَةٌ؛ لأَِنَّ تَسْلِيمَهُ قَدْ كَمُل بِتَخَلِّي الْبَائِعِ عَنْهُ إِلَى الْمُبْتَاعِ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي أَصْلِهِ مَنْفَعَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ يُسْتَنْظَرُ اسْتِيفَاؤُهَا، فَصَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الصُّبْرَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الأَْصْل، وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُ إِلَى بَقَائِهِ فِي أَصْلِهِ لِحِفْظِ نَضَارَتِهِ أَيْ لِمَعْنًى مُقْتَرِنٍ بِهِ كَالْعِنَبِ، يُشْتَرَى بَعْدَ بُدُوِّ صَلاَحِهِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِيهِ مَسَائِل اخْتَلَفُوا فِيهَا وَيَجِبُ رَدُّهَا إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ كَمَا يُفْهَمُ مِنَ الْمُنْتَقَى عَدَمُ الْحَاجَةِ إِلَى التَّبْقِيَةِ لِتَمَامِ نُضْجٍ أَوْ بُدُوِّ صَلاَحٍ (1) .
مِقْدَارُ مَا يُوضَعُ مِنَ الْجَائِحَةِ:
8 - ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمَبِيعَ الَّذِي تُصِيبُهُ الْجَائِحَةُ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
__________
(1) المنتقى 4 / 233 - 234، حاشية القليوبي 2 / 237 ط الحلبي، ومطالب أولي النهى 3 / 204.(15/70)
أَحَدُهَا: ثِمَارُ التِّينِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعِنَبِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا مِنَ الْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، وَالتُّفَّاحِ، فَهَذِهِ يُرَاعَى فِي جَوَائِحِهَا الثُّلُثُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي تَلِفَ أَقَل مِنْ ثُلُثِ الثِّمَارِ فَلاَ يُوضَعُ عَنِ الْمُشْتَرِي شَيْءٌ، وَإِنْ بَلَغَ التَّالِفُ مِنْهَا الثُّلُثَ وُضِعَ عَنْهُ جَمِيعُ الْجَائِحَةِ. وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ الثُّلُثُ لأَِنَّ الثُّلُثَ فَرْقٌ بَيْنَ الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْوَصِيَّةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ (1) .
الثَّانِي: الْبُقُول وَالأُْصُول الْمُغَيَّبَةُ مِمَّا الْغَرَضُ فِي أَعْيَانِهَا دُونَ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ:
أَحَدُهُمَا: انْتِفَاءُ وَضْعِ الْجَوَائِحِ فِيهَا،
وَالثَّانِيَةُ: إِثْبَاتُ حُكْمِ الْجَائِحَةِ فِيهَا.
فَعَلَى الْقَوْل بِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْجَائِحَةِ فِيهَا فَهَل يُعْتَبَرُ فِيهَا الثُّلُثُ أَمْ لاَ؟ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْجَائِحَةَ تُوضَعُ فِيهَا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، بَلَغَتِ الثُّلُثَ أَوْ قَصُرَتْ عَنْهُ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ التَّالِفُ شَيْئًا تَافِهًا، وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ عَنْهُ لاَ يُوضَعُ مِنْ جَائِحَتِهَا إِلاَّ مَا بَلَغَ الثُّلُثَ.
الثَّالِثُ: وَهُوَ نَوْعٌ جَرَى مَجْرَى الْبُقُول فِي أَنَّ أَصْلَهُ مَبِيعٌ مَعَ ثَمَرَتِهِ، وَيَجْرِي مَجْرَى الأَْشْجَارِ فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ ثَمَرَتُهُ، كَالْقِثَّاءِ، وَالْبِطِّيخِ، وَالْقَرْعِ، وَالْبَاذِنْجَانِ، وَالْفُول، وَالْجُلْبَانِ، فَهَذَا
__________
(1) حديث: " الثلث، والثلث كثير ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 164 ط السلفية) ومسلم (3 / 1250 - ط الحلبي) من حديث سعد بن أبي وقاص.(15/71)
النَّوْعُ يُعْتَبَرُ فِي جَائِحَتِهِ الثُّلُثُ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الْمَالِكِيَّةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ الثَّمَرَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا حُكْمَ سَائِرِ الثِّمَارِ، وَقَال أَشْهَبُ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ: الْمَقَاثِئُ، كَالْبَقْل تُوضَعُ الْجَائِحَةُ فِيهَا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا دُونَ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا نَبَاتٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الثُّلُثُ كَالْبُقُول (1) .
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جُزَيٍّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِنَ الثِّمَارِ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً كَالْعِنَبِ، وَالتِّينِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَصَابَتِ الْجَائِحَةُ صِنْفًا مِنْهَا وَسَلِمَ سَائِرُهَا فَجَائِحَةُ كُل جِنْسٍ مُعْتَبَرَةٌ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ بَلَغَتْ ثُلُثَهُ وُضِعَتْ، وَإِنْ قَصُرَتْ عَنْهُ لَمْ تُوضَعْ.
وَقَال أَصْبَغُ: يَعْتَبِرُ الْجُمْلَةَ، فَإِنْ كَانَتِ الْجَائِحَةُ ثُلُثَ الْجَمِيعِ وُضِعَتْ وَإِلاَّ فَلاَ (2) .
9 - وَلَوِ اشْتَرَطَ الْبَائِعُ عِنْدَ بَيْعِ الثَّمَرِ أَنْ لاَ يَضَعَ الْجَائِحَةَ عَنِ الْمُشْتَرِي إِنْ حَصَلَتْ فَإِنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ شَرْطًا فَاسِدًا وَلَوْ فِيمَا عَادَتُهُ أَنْ يُجَاحَ وَيَصِحُّ الْعَقْدُ لِنُدْرَةِ الْجَائِحَةِ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ الْبَائِعُ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ. وَإِذَا فَسَدَ الشَّرْطُ فَلاَ يُقَابِلُهُ مِنَ الثَّمَنِ شَيْءٌ. وَقَال أَبُو الْحَسَنِ:
__________
(1) المنتقى 4 / 235، والقوانين الفقهية 260 - 261 ط دار الكتاب العربي، بداية المجتهد 2 / 205 ط الكليات الأزهرية.
(2) الزرقاني 5 / 193، 196 ط الفكر.(15/71)
يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ أَيْ لِزِيَادَةِ الْغَرَرِ (1) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى وَضْعِ الْجَوَائِحِ فِي الثِّمَارِ. قَال الْحَنَابِلَةُ: هُوَ فِي الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّيْءَ التَّافِهَ لاَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا تَلِفَ شَيْءٌ لَهُ قَدْرٌ خَارِجٌ عَنِ الْعَادَةِ وُضِعَ مِنَ الثَّمَنِ بِقَدْرِ الذَّاهِبِ، فَإِنْ تَلِفَ الْجَمِيعُ بَطَل الْعَقْدُ، وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ مَا كَانَ يُعَدُّ دُونَ الثُّلُثِ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَلاَ يُوضَعُ عَنِ الْبَائِعِ شَيْءٌ وَيُعْتَبَرُ ثُلُثُ الْمَبْلَغِ (الْمِقْدَارُ) وَقِيل ثُلُثُ الْقِيمَةِ، فَإِنْ تَلِفَ الْجَمِيعُ أَوْ أَكْثَرُ مِنَ الثُّلُثِ رَجَعَ بِقِيمَةِ التَّالِفِ كُلِّهِ مِنَ الثَّمَنِ (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَآخَرُونَ، إِلَى أَنَّ الثِّمَارَ الْمَبِيعَةَ تَكُونُ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَلاَ يَجِبُ وَضْعُ الْجَائِحَةِ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ (3) .
قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ: إِنَّ الرَّجُل إِذَا اشْتَرَى الثَّمَرَ فَقَبَضَهُ فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَسَوَاءٌ مِنْ قَبْل أَنْ
__________
(1) الشرح الكبير والدسوقي 3 / 158، والشرح الصغير 3 / 232.
(2) المغني 4 / 217 مع الشرح الكبير، وروضة الطالبين 3 / 470، 471، والأم للشافعي 3 / 56، 57.
(3) البناية 6 / 244، وفتح القدير 5 / 102، والمبسوط 13 / 91 ط السعادة، وروضة الطالبين 3 / 470 - 471 ط المكتب الإسلامي، والأم للشافعي 3 / 56، 57، والوجيز 1 / 151، وبداية المجتهد 2 / 186.(15/72)
يَجِفَّ أَوْ بَعْدَمَا جَفَّ مَا لَمْ يَجُدَّهُ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْجَائِحَةُ أَصَابَتْ ثَمَرَةً وَاحِدَةً أَوْ أَتَتْ عَلَى جَمِيعِ الْمَال لاَ يَجُوزُ فِيهَا إِلاَّ وَاحِدٌ مِنْ قَوْلَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَمَّا قَبَضَهَا وَكَانَ مَعْلُومًا أَنْ يَتْرُكَهَا إِلَى الْجِذَاذِ كَانَ فِي غَيْرِ مَعْنَى مَنْ قَبَضَ فَلاَ يَضْمَنُ إِلاَّ مَا قَبَضَ، كَمَا يَشْتَرِي الرَّجُل مِنَ الرَّجُل الطَّعَامَ كَيْلاً، فَيَقْبِضُ بَعْضَهُ وَيَهْلَكَ بَعْضُهُ قَبْل أَنْ يَقْبِضَهُ فَلاَ يَضْمَنُ مَا هَلَكَ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَيَضْمَنُ مَا قَبَضَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِذَا قَبَضَ الثَّمَرَةَ كَانَ مُسَلَّطًا عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ قَطَعَهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا، فَمَا هَلَكَ فِي يَدَيْهِ فَإِنَّمَا هَلَكَ مِنْ مَالِهِ لاَ مِنْ مَال الْبَائِعِ، فَأَمَّا مَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَال يَضْمَنُ الْبَائِعُ الثُّلُثَ إِنْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَأَكْثَرُ، وَلاَ يَضْمَنُ أَقَل مِنَ الثُّلُثِ لأَِنَّهُ إِنَّمَا اشْتَرَاهَا بَيْعَةً وَاحِدَةً وَقَبَضَهَا قَبْضًا وَاحِدًا (1) .
10 - فَخُلاَصَةُ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا تَنْحَصِرُ فِي ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: وَضْعُ الْجَائِحَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ أَوْ نَقَصَ عَنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ.
بِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ فِي الثِّمَارِ وَفِيمَا زَادَ عَنِ الثُّلُثِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِوَضْعِ الْجَائِحَةِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ
__________
(1) الأم للشافعي 3 / 59 ط المعرفة.(15/72)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ بَاعَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلاَ يَأْخُذْ مِنْ أَخِيهِ شَيْئًا عَلاَمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَال أَخِيهِ؟ (1) .
وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: أَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ (2) . فَعُمْدَةُ مَنْ أَجَازَ الْجَوَائِحَ حَدِيثَا جَابِرٍ هَذَانِ، وَقِيَاسُ الشَّبَهِ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهُ مَبِيعٌ بَقِيَ عَلَى الْبَائِعِ فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ، بِدَلِيل مَا عَلَيْهِ مِنْ سَقْيِهِ إِلَى أَنْ يَكْمُل، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ضَمَانُهُ مِنْهُ أَصْلُهُ سَائِرُ الْمَبِيعَاتِ الَّتِي بَقِيَ فِيهَا حَقُّ تَوْفِيَةٍ، وَالْفَرْقُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ هَذَا الْمَبِيعِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْبُيُوعِ أَنَّ هَذَا بَيْعٌ وَقَعَ فِي الشَّرْعِ، وَالْمَبِيعُ لَمْ يَكْمُل بَعْدُ، فَكَأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُخْلَقْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي ضَمَانِهِ مُخَالِفًا لِسَائِرِ الْمَبِيعَاتِ.
الْقَوْل الثَّانِي: عَدَمُ وَضْعِ الْجَائِحَةِ مُطْلَقًا: وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ. وَاسْتَدَلُّوا بِتَشْبِيهِ هَذَا الْبَيْعِ بِسَائِرِ الْمَبِيعَاتِ، وَأَنَّ التَّخْلِيَةَ فِي هَذَا الْمَبِيعِ هُوَ الْقَبْضُ. وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ضَمَانَ الْمَبِيعَاتِ بَعْدَ الْقَبْضِ مِنَ الْمُشْتَرِي، وَمِنْ طَرِيقِ السَّمَاعِ أَيْضًا حَدِيثُ
__________
(1) حديث: " من باع ثمرا فأصابته جائحة فلا يأخذ من مال أخيه شيئا، علام يأخذ أحدكم مال أخيه المسلم ". أخرجه ابن ماجه (2 / 727 - ط الحلبي) والحاكم (2 / 36 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث جابر بن عبد الله واللفظ لابن ماجه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) تقدم تخرجه (ف 6) .(15/73)
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَال: أُجِيحَ رَجُلٌ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا وَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ، فَتُصُدِّقَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ وَفَاءَ دَيْنِهِ. فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ (1) قَالُوا فَلَمْ يَحْكُمْ بِالْجَائِحَةِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ أَمْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ بِالتَّصَدُّقِ عَلَيْهِ وَأَمْرَ غُرَمَائِهِ بِأَخْذِ مَا وَجَدُوا لاَ يَدُل عَلَى وُجُوبِ وَضْعِ الْجَائِحَةِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ تُوضَعُ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى أَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِالصَّدَقَةِ عَلَيْهِ وَالأَْخْذِ فَيَكُونُ الأَْمْرُ مَحْمُولاً عَلَى الاِسْتِحْبَابِ، أَوْ فِيمَا بِيعَ قَبْل بُدُوِّ الصَّلاَحِ (2) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: التَّفْرِيقُ، فَيُوضَعُ الثُّلُثُ وَمَا زَادَ عَنْهُ، وَلاَ يُوضَعُ أَقَل مِنْهُ، وَهَذَا قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ (3) .
أَثَرُ الْجَائِحَةِ فِي الإِْجَارَةِ:
11 - لَوِ اكْتَرَى أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ فَفَسَدَ الزَّرْعُ بِجَائِحَةٍ فَلاَ يُحَطُّ شَيْءٌ مِنَ الأُْجْرَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
__________
(1) حديث: " خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك ". أخرجه مسلم (3 / 1191 - ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) بداية المجتهد 2 / 186 - 188، والأم للشافعي 3 / 58 ط المعرفة، ونيل الأوطار 5 / 281 ط الجيل، وصحيح مسلم بشرح النووي 10 / 216 - 217 ط المصرية، والتفصيل يذكره الفقهاء في بيع الأصول والثمار.
(3) تقدم تخريجه (ف 8) .(15/73)
وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ فِيمَا قَبَضَهُ مِنَ الأُْجْرَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُؤَجِّرُ قَبَضَهَا فَلَهُ طَلَبُهَا؛ لأَِنَّهَا تَسْتَقِرُّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ انْتَفَعَ الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ لَمْ يَنْتَفِعْ.
وَلَوْ فَسَدَتِ الأَْرْضُ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ بِجَائِحَةٍ ثَبَتَ الرَّدُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنْ أَجَازَ الْمُسْتَأْجِرُ الإِْجَارَةَ أَجَازَهَا بِجَمِيعِ الأُْجْرَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ فَسَخَ رَجَعَ بِأُجْرَةِ بَاقِي الْمُدَّةِ وَاسْتَقَرَّتْ أُجْرَةُ مَا اسْتَوْفَاهُ مِنَ الْمُدَّةِ عَلَى الأَْصَحِّ، وَيُوَزِّعُ الْمُسَمَّى عَلَى الْمُدَّتَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ لاَ بِاعْتِبَارِ الْمُدَّةِ. وَجَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي الأَْجْوِبَةِ الْمِصْرِيَّةِ أَنَّهُ لَوِ اسْتَأْجَرَ بُسْتَانًا أَوْ أَرْضًا وَسَاقَاهُ عَلَى الشَّجَرِ بِجُزْءٍ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ إِذَا أُتْلِفَ الثَّمَرُ بِجَرَادٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الآْفَاتِ السَّمَاوِيَّةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ وَضْعُ الْجَائِحَةِ عَنِ الْمُسْتَأْجِرِ صُورَةً الْمُشْتَرِي حَقِيقَةً فَيَحُطُّ عَنْهُ مِنَ الْعِوَضِ بِقَدْرِ مَا تَلِفَ مِنَ الثَّمَرَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا أَوْ صَحِيحًا لِعُمُومِ حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ الأَْمْرُ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ (1) . أَيْ لأَِنَّهُ شِرَاءٌ لِلثَّمَرَةِ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ فِي الصُّورَةِ إِجَارَةً وَمُسَاقَاةً (2) .
أَثَرُ الْجَائِحَةِ فِي الْغَصْبِ:
12 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ عَلَى الْغَاصِبِ
__________
(1) تقدم تخريجه (ف 6) .
(2) الوجيز 1 / 238 ط. المعرفة، وكشاف القناع 3 / 286 - 287 ط النصر، مصطلح (إجارة)(15/74)
رَدَّ الْمَغْصُوبِ وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ بِالتَّلَفِ أَوْ الإِْتْلاَفِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ (1) فَإِنْ تَعَيَّبَ بِسَمَاوِيٍّ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ أَخْذِ الْمَغْصُوبِ بِلاَ أَرْشٍ لِعَيْبِهِ وَتَرْكِهِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ مِنْهُ يَوْمَ غَصْبِهِ بِلاَ فَرْقٍ بَيْنَ قَلِيل الْعَيْبِ وَكَثِيرِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
أَثَرُ الْجَائِحَةِ فِي الْوَدِيعَةِ:
13 - الأَْصْل أَنَّ الْوَدِيعَةَ إِذَا تَلِفَتْ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ فَلاَ يَضْمَنُهَا الْمُودَعُ لأَِنَّ يَدَهُ يَدَ أَمَانَةٍ فَلاَ يَضْمَنُ إِلاَّ بِتَعْدَادِ تَفْرِيطٍ، وَانْظُرْ لِلتَّفَاصِيل مُصْطَلَحَ (وَدِيعَةٌ) .
أَثَرُ الْجَائِحَةِ فِي الصَّدَاقِ:
14 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَهْرَ الْمُعَيَّنَ إِذَا تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَإِنَّ لِلْمَرْأَةِ الْخِيَارَ بَيْنَ أَنْ تَأْخُذَهُ عَلَى حَالِهِ أَوْ تُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْعَقْدِ غَيْرَ
__________
(1) حديث: " على اليد ما أخذت حتى تؤدي ". أخرجه أبو داود (3 / 822 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث سمرة بن جندب، وأعله ابن حجر في التلخيص (3 / 53 ط شركة الطباعة الفنية) بالاختلاف في سماع الحسن البصري من سمرة.
(2) فتح القدير 7 / 366 ط الأميرية، جواهر الإكليل 2 / 151 ط. المعرفة، حاشية القليوبي 3 / 28 ط، والحلبي، كشاف القناع 4 / 106 وما بعدها ط النصر، ومصطلح (غصب) .(15/74)
أَنَّهَا لاَ تُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ إِذَا اخْتَارَتْ أَخْذَهُ (1) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي وَضْعِ الْجَائِحَةِ فِي الْمَهْرِ قَوْلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْل ابْنِ الْقَاسِمِ: لاَ تُوضَعُ فِيهِ جَائِحَةٌ لأَِنَّ هَذَا الْعَقْدَ لاَ يَقْتَضِي الْمُغَابَنَةَ وَالْمُكَايَسَةَ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي الْمُوَاصَلَةَ وَالْمُكَارَمَةَ، وَوَضْعُ الْجَائِحَةِ يُنَافِي ذَلِكَ.
ثَانِيهِمَا: قَوْل ابْنِ الْمَاجِشُونِ: تُوضَعُ فِيهِ الْجَائِحَةُ لأَِنَّهُ عَقْدٌ ثَبَتَ فِيهِ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ فَثَبَتَ فِيهِ وَضْعُ الْجَائِحَةِ كَالْبَيْعِ (2) . وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي كَيْفِيَّةِ ضَمَانِ الزَّوْجِ لِلصَّدَاقِ فِيمَا إِذَا أَصْدَقَهَا عَيْنًا وَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ قَوْلَيْنِ:
أَظْهَرُهُمَا: وَهُوَ الْجَدِيدُ أَنَّهُ ضَمَانُ عَقْدٍ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَالثَّانِي: وَهُوَ الْقَدِيمُ أَنَّهُ ضَمَانُ يَدٍ كَالْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَامِ، وَفَرَّعُوا عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مَسَائِل مِنْهَا:
تَلَفُ الصَّدَاقِ الْمُعَيَّنِ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَعَلَى أَنَّهُ ضَمَانُ عَقْدٍ يَنْفَسِخُ عَقْدُ الصَّدَاقِ وَيُقَدَّرُ عَوْدُ الْمِلْكِ إِلَيْهِ قُبَيْل التَّلَفِ حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا كَانَ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ لَوْ مَاتَ، كَالْعَبْدِ الْمَبِيعِ يَتْلَفُ قَبْل الْقَبْضِ وَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرُ الْمِثْل، وَإِنْ قُلْنَا: ضَمَانُ الْيَدِ تَلِفَ عَلَى مِلْكِهَا حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا فَعَلَيْهَا
__________
(1) نتائج الأفكار 2 / 456 ط الأميرية.
(2) المنتقى 4 / 234 ط الأولى.(15/75)
تَجْهِيزُهُ، وَلاَ يَنْفَسِخُ الصَّدَاقُ عَلَى هَذَا الْقَوْل، بَل بَدَل مَا وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَيَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ مِثْل الصَّدَاقِ، إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَقِيمَتُهُ إِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا (1) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَا تَلِفَ مِنَ الصَّدَاقِ وَهُوَ فِي يَدِ الزَّوْجِ بِسَمَاوِيٍّ، فَمَا جَازَ لَهَا التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ، وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ مَكِيلاً وَلاَ مَوْزُونًا، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهَا إِنْ تَلِفَ أَوْ نَقَصَ، وَمَا لاَ تَصَرُّفَ لَهَا فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ وَهُوَ مَا عَدَا الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الزَّوْجِ، وَإِنْ مَنَعَهَا الزَّوْجُ قَبْضَهُ أَوْ لَمْ يُمَكِّنْهَا مِنْهُ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ عَلَى كُل حَالٍ، لأَِنَّ يَدَهُ مُتَعَدِّيَةٌ فَضَمِنَهُ كَالْغَاصِبِ (2) .
جَائِزٌ
انْظُرْ: جَوَازٌ.
__________
(1) روضة الطالبين 7 / 250 ط المكتب الإسلامي.
(2) المغني 6 / 704 - 705 ط الرياض، ومصطلح: (نكاح) .(15/75)
جَائِزَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَائِزَةُ: الْعَطِيَّةُ إِذَا كَانَتْ عَلَى سَبِيل الإِْكْرَامِ يُقَال: أَجَازَهُ أَيْ: أَعْطَاهُ جَائِزَةً. وَالْجَمْعُ جَوَائِزُ. وَقَرِيبٌ مِنْهَا التُّحْفَةُ فَهِيَ مَا أَتْحَفْتَهُ غَيْرَكَ مِنَ الْبِرِّ. قَال صَاحِبُ اللِّسَانِ:
" وَأَصْلُهَا أَنَّ أَمِيرًا وَاقَفَ عَدُوًّا وَبَيْنَهُمَا نَهْرٌ فَقَال:
مَنْ جَازَ هَذَا النَّهْرَ فَلَهُ كَذَا، فَكُلَّمَا جَازَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ أَخَذَ جَائِزَةً وَقَال أَبُو بَكْرٍ فِي قَوْلِهِمْ: أَجَازَ السُّلْطَانُ فُلاَنًا بِجَائِزَةٍ: أَصْل الْجَائِزَةِ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُل الرَّجُل مَاءً وَيُجِيزَهُ لِيَذْهَبَ لِوَجْهِهِ فَيَقُول الرَّجُل إِذَا وَرَدَ مَاءً لِقَيِّمِ الْمَاءِ: أَجِزْنِي مَاءً، أَيْ: أَعْطِنِي مَاءً حَتَّى أَذْهَبَ لِوَجْهِي وَأَجُوزَ عَنْكَ، ثُمَّ كَثُرَ هَذَا حَتَّى سَمَّوُا الْعَطِيَّةَ جَائِزَةً. وَقَال الأَْزْهَرِيُّ: الْجِيزَةُ مِنَ الْمَاءِ مِقْدَارُ مَا يَجُوزُ بِهِ الْمُسَافِرُ مِنْ مَنْهَلٍ إِلَى مَنْهَلٍ، يُقَال: اسْقِنِي جِيزَةً وَجَائِزَةً وَجَوْزَةً: وَفِي الْحَدِيثِ: الضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ، وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَمَا زَادَ فَهُوَ صَدَقَةٌ (1)
__________
(1) حديث: " الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة. . . " أخرجه الترمذي (4 / 345 - ط الحلبي) من حديث أبي شريح الكعبي. وقال: " حسن صحيح ". وله أصل في صحيح البخاري (الفتح 10 / 531 - ط السلفية) .(15/76)
أَيْ: يُضَافُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَيَتَكَلَّفُ لَهُ فِي الْيَوْمِ الأَْوَّل بِمَا اتَّسَعَ لَهُ مِنْ بِرٍّ وَإِلْطَافٍ، وَيُقَدِّمُ لَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مَا حَضَرَهُ، وَلاَ يَزِيدُ عَلَى عَادَتِهِ، ثُمَّ يُعْطِيهِ مَا يَجُوزُ بِهِ مَسَافَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَهِيَ قَدْرُ مَا يَجُوزُ بِهِ الْمُسَافِرُ مِنْ مَنْهَلٍ إِلَى مَنْهَلٍ، فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ وَمَعْرُوفٌ، إِنْ شَاءَ فَعَل وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ. . . وَقَال الْجَوْهَرِيُّ: أَجَازَهُ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ أَيْ بِعَطَاءٍ. . . وَفِي الْحَدِيثِ: أَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ (1) أَيْ: أَعْطُوهُمُ الْجِيزَةَ (أَيْ الْجَائِزَةَ) وَمِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَلاَ أَمْنَحُكَ أَلاَ أُجِيزُكَ أَيْ أُعْطِيكَ، وَالأَْصْل الأَْوَّل، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُل عَطَاءٍ (2) ".
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُكَافَأَةُ
2 - هِيَ مَصْدَرُ كَافَأَ، يُقَال: كَافَأَهُ عَلَى الشَّيْءِ مُكَافَأَةً وَكِفَاءً أَيْ جَازَاهُ، وَكَافَأَ فُلاَنٌ فُلاَنًا: مَاثَلَهُ.
وَاصْطِلاَحًا عَرَّفَ الرَّاغِبُ الأَْصْفَهَانِيُّ الْمُكَافَأَةَ
__________
(1) حديث: " أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 170 ط السلفية) ومسلم (3 / 1258 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.
(2) لسان العرب 1 / 32، وتاج العروس والمصباح المنير مادة " جوز " و " عطى " و " تحف "، والفروق في اللغة 160.(15/76)
بِأَنَّهَا: الْمُسَاوَاةُ وَالْمُقَابَلَةُ فِي الْفِعْل، أَوْ مُقَابَلَةُ نِعْمَةٍ بِنِعْمَةٍ هِيَ كُفْؤُهَا.
وَعَرَّفَهَا الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهَا: مُقَابَلَةُ الإِْحْسَانِ بِمِثْلِهِ أَوْ زِيَادَةٍ (1) .
فَالْجَائِزَةُ تَكُونُ بِلاَ مُقَابِلٍ، أَمَّا الْمُكَافَأَةُ فَتَكُونُ بِمُقَابِلٍ وَتَكُونُ مُمَاثِلَةً عَلَى الأَْقَل.
ب - الأَْجْرُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الأَْجْرِ: الْجَزَاءُ عَلَى الْعَمَل، وَالثَّوَابُ، وَالذِّكْرُ الْحَسَنُ، وَالْمَهْرُ. وَالأَْجْرُ قَدْ يَكُونُ دُنْيَوِيًّا أَوْ أُخْرَوِيًّا، وَيُقَال فِيمَا كَانَ عَنْ عَقْدٍ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْعَقْدِ، وَلاَ يُقَال إِلاَّ فِي النَّفْعِ دُونَ الضَّرِّ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَائِزَةِ وَالأَْجْرِ، أَنَّ الْجَائِزَةَ بِلاَ مُقَابِلٍ وَلاَ تَعَاقُدٍ وَلاَ عِلْمَ بِهَا، أَمَّا الأَْجْرُ فَيُخَالِفُ فِي كُل ذَلِكَ.
ج - الْجَزَاءُ:
4 - هُوَ مَصْدَرُ جَزَى، يُقَال: جَزَى الشَّيْءُ يَجْزِي أَيْ كَفَى، وَجَزَى عَنْهُ أَيْ قَضَى، وَالْجَزَاءُ يَكُونُ مَنْفَعَةً أَوْ مَضَرَّةً أَيْ بِالْمُقَابَلَةِ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (3) } وَإِنْ
__________
(1) القاموس المحيط، ولسان العرب مادة " كفأ " والمفردات في غريب القرآن 93، 437، والتعريفات للجرجاني.
(2) القاموس المحيط، والمصباح المنير، ولسان العرب، والكليات لأبي البقاء 1 / 55، والمفردات في غريب القرآن ص 11.
(3) سورة طه / 76.(15/77)
شَرًّا فَشَرٌّ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا (1) } وَيُقَال فِيمَا كَانَ عَنْ عَقْدٍ وَغَيْرِ عَقْدٍ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لَفْظُ جَزَى دُونَ جَازَى؛ لأَِنَّ الْمُجَازَاةَ هِيَ الْمُكَافَأَةُ أَيْ مُقَابَلَةُ نِعْمَةٍ بِنِعْمَةٍ هِيَ كُفْؤُهَا، وَنِعْمَةُ اللَّهِ لاَ كُفْءَ لَهَا، وَلِهَذَا لاَ يَسْتَعْمِل الْمُكَافَأَةَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى (2) .
وَالْجَزَاءُ يَكُونُ بِمُقَابِلٍ وَيَكُونُ بِالْمَنْفَعَةِ أَوِ الْمَضَرَّةِ بِخِلاَفِ الْجَائِزَةِ.
د - الْجُعْل:
5 - الْجُعْل: لُغَةً مَا يُجْعَل لِلْعَامِل عَلَى عَمَلِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الأَْجْرِ وَالثَّوَابِ
وَاصْطِلاَحًا: الْمَال الْمَعْلُومُ سُمِّيَ فِي الْجَعَالَةِ لِمَنْ يَعْمَل عَمَلاً مُبَاحًا وَلَوْ كَانَ مَجْهُولاً فِي الْقَدْرِ أَوْ الْمُدَّةِ أَوْ بِهِمَا فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَائِزَةِ أَنَّ الْجَائِزَةَ عَطِيَّةٌ بِلاَ مُقَابِلٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - الأَْصْل إِبَاحَةُ الْجَائِزَةِ عَلَى عَمَلٍ مَشْرُوعٍ سَوَاءٌ أَكَانَ دِينِيًّا أَوْ دُنْيَوِيًّا لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ الْحَثِّ عَلَى فِعْل الْخَيْرِ وَالإِْعَانَةِ عَلَيْهِ بِالْمَال وَهُوَ مِنْ قَبِيل الْهِبَةِ.
__________
(1) سورة الشورى / 40.
(2) القاموس المحيط، والكليات 1 / 55، 2 / 17، والمفردات في غريب القرآن 11، 93، والفروق في اللغة 41.(15/77)
وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْجَائِزَةِ بِاخْتِلاَفِ مَبْحَثِهَا الْفِقْهِيِّ.
وَهُنَاكَ مَوَاطِنُ لِلْجَائِزَةِ لَهَا حُكْمٌ خَاصٌّ مِنْهَا: جَائِزَةُ السُّلْطَانِ، وَالْجَائِزَةُ فِي السِّبَاقِ (السَّبَقِ) .
أَوَّلاً: جَائِزَةُ السُّلْطَانِ:
7 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُول جَائِزَةِ السُّلْطَانِ أَوْ هَدِيَّتِهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ قَبُول هَدِيَّةِ أُمَرَاءِ الْجَوْرِ، لأَِنَّ الْغَالِبَ فِي مَالِهِمُ الْحُرْمَةُ إِلاَّ إِذَا عَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ الْمَال حَلاَلٌ، بِأَنْ كَانَ لِصَاحِبِهِ تِجَارَةٌ، أَوْ زَرْعٌ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ؛ لأَِنَّ أَمْوَال النَّاسِ لاَ تَخْلُو عَنْ قَلِيل حَرَامٍ فَالْمُعْتَبَرُ الْغَالِبُ.
وَأَمَّا جَائِزَةُ السُّلْطَانِ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ بِالْجَوْرِ فَقَال الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: إِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي أَخْذِهَا، فَقَال بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يُعْطِيهِ مِنْ حَرَامٍ، قَال مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: وَبِهِ نَأْخُذُ مَا لَمْ نَعْرِفْ شَيْئًا حَرَامًا بِعَيْنِهِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَصْحَابِهِ.
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لاَ يَحْرُمُ الأَْكْل وَلاَ الْمُعَامَلَةُ، وَلاَ أَخْذُ الصَّدَقَةِ، وَالْهَدِيَّةِ، مِمَّنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ إِلاَّ مَا عُلِمَ حُرْمَتُهُ، وَلاَ يَخْفَى الْوَرَعُ (1) .
__________
(1) الفتاوى الهندية 5 / 342، وحاشية قليوبي وعميرة 4 / 262.(15/78)
وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ فِي جَائِزَةِ السُّلْطَانِ: أَكْرَهُهَا، وَكَانَ يَتَوَرَّعُ عَنْهَا، وَيَمْنَعُ بَنِيهِ وَعَمَّهُ مِنْ أَخْذِهَا، وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ بِمَا أَخَذُوهُ، وَذَلِكَ لأَِنَّ أَمْوَالَهُمْ تَخْتَلِطُ بِمَا يَأْخُذُونَهُ مِنَ الْحَرَامِ مِنَ الظُّلْمِ وَغَيْرِهِ فَيَصِيرُ شُبْهَةً، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَلاَل بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْل الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُل مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ (1) وَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ (2) .
وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِأَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ تَنَزَّهُوا عَنْ مَال السُّلْطَانِ، مِنْهُمْ: حُذَيْفَةُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ.
وَلَمْ يَرَ أَحْمَدُ ذَلِكَ حَرَامًا، فَإِنَّهُ سُئِل فَقِيل لَهُ: مَال السُّلْطَانِ حَرَامٌ؟ فَقَال: لاَ، وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُتَنَزَّهَ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ قَال: لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ
__________
(1) حديث: " الحلال بين والحرام بين. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 1 / 26 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 219 - ط الحلبي) .
(2) حديث: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ". أخرجه الترمذي (4 / 668 - ط الحلبي) ، والحاكم (4 / 99 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث الحسن بن علي، وقال الذهبي: " سنده قوي ".(15/78)
الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ وَلَهُ فِي هَذِهِ الدَّرَاهِمِ حَقٌّ، فَكَيْفَ أَقُول إِنَّهَا سُحْتٌ؟
وَقَال أَحْمَدُ: جَوَائِزُ السُّلْطَانِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الصَّدَقَةِ، يَعْنِي أَنَّ الصَّدَقَةَ أَوْسَاخُ النَّاسِ صِينَ عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلُهُ لِدَنَاءَتِهَا وَلَمْ يُصَانُوا عَنْ جَوَائِزِ السُّلْطَانِ (1) .
ثَانِيًا - جَائِزَةُ السَّبَقِ (الْجُعْل) :
8 - السَّبْقُ - بِسُكُونِ الْبَاءِ - مَصْدَرُ سَبَقَ، وَالسَّبَقُ - بِفَتْحِ الْبَاءِ - الْجُعْل أَيِ الْمَال الَّذِي يُوضَعُ بَيْنَ الْمُتَسَابِقِينَ لِيَأْخُذَهُ السَّابِقُ، أَيِ الْجَائِزَةُ.
وَيُعَبِّرُ الْفُقَهَاءُ بِالسَّبَقِ، أَوْ السِّبَاقِ، أَوْ الْمُسَابَقَةِ، وَيُرِيدُونَ مَا يَعُمُّ سِبَاقَ الْخَيْل أَوْ الإِْبِل وَالرَّمْيِ، لِقَوْل الأَْزْهَرِيِّ: النِّضَال فِي الرَّمْيِ، وَالرِّهَانُ فِي الْخَيْل، وَالسِّبَاقُ يَكُونُ فِي الْخَيْل وَالرَّمْيِ، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ (2) } قِيل: مَعْنَاهُ نَنْتَضِل بِالسِّهَامِ.
وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنِ الْمُسَابَقَةِ فِي الرَّمْيِ بِالسِّهَامِ بِلَفْظِ الْمُنَاضَلَةِ أَيِ الْمُبَارَاةِ وَالْمُغَالَبَةِ فِي الرَّمْيِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: نَاضَلْتُهُ فَنَضَلْتُهُ، كَغَالَبْتُهُ فَغَلَبْتُهُ، وَزْنًا وَمَعْنًى (3) .
__________
(1) المغني 6 / 443 - 444.
(2) سورة يوسف / 17.
(3) مغني المحتاج 4 / 311.(15/79)
9 - وَالأَْصْل فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْمُسَابَقَةِ السُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ.
فَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْل الْمُضْمَرَةِ مِنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ سِتَّةُ أَمْيَالٍ أَوْ سَبْعَةٌ وَبَيْنَ الْخَيْل الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي رُزَيْقٍ (1) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ فِي الْجُمْلَةِ (2) .
10 - وَالْمُسَابَقَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُسَابَقَةٌ بِعِوَضٍ وَهُوَ الْجُعْل أَوِ الْجَائِزَةُ، وَمُسَابَقَةٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
فَإِنْ كَانَتِ الْمُسَابَقَةُ بِغَيْرِ جُعْلٍ فَتَجُوزُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ مَعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فَسَابَقَتْهُ عَلَى رِجْلِهَا فَسَبَقَتْهُ، قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي فَقَال: هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ (3) . وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ فَقَال:
__________
(1) حديث: " سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء. . . " أخرجه البخاري (الفتح 6 / 71 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1491 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(2) المغني 8 / 651.
(3) حديث: " هذه بتلك السبقة ". أخرجه أبو داود (3 / 66 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وصححه العراقي في تخريخ أحاديث إحياء علوم الدين (2 / 44 - ط المكتبة التجارية) .(15/79)
ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيل فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا (1) .
وَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ إِذَا قُصِدَ بِالْمُسَابِقَةِ التَّلَهِّي أَوِ الْمُفَاخَرَةُ فَتَكُونُ مَكْرُوهَةً، أَمَّا إِذَا قُصِدَ بِهَا التَّقَوِّي وَالاِسْتِعْدَادُ لِلْجِهَادِ فَإِنَّهَا تَكُونُ مَنْدُوبَةً، بَل تَكُونُ وَاجِبَةً عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا لَمْ يَتِمَّ التَّقَوِّي عَلَى الْجِهَادِ وَالإِْعْدَادُ لِلِقَاءِ الْعَدُوِّ إِلاَّ بِهَا، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْل (2) }
وَإِنْ كَانَتِ الْمُسَابَقَةُ بِجَائِزَةٍ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا فِي الْخَيْل، وَالإِْبِل، وَالسَّهْمِ، لِحَدِيثِ: لاَ سَبَقَ إِلاَّ فِي خُفٍّ، أَوْ حَافِرٍ، أَوْ نَصْلٍ (3) .
وَقَالُوا: إِنَّهَا تَكُونُ فِي هَذِهِ الثَّلاَثَةِ مَنْدُوبَةً إِذَا قُصِدَ بِهَا الإِْعْدَادُ لِلْجِهَادِ، بَل تَكُونُ وَاجِبَةً عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا لَمْ يَتِمَّ الإِْعْدَادُ لِلْجِهَادِ إِلاَّ بِهَا (4) .
11 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا فِي غَيْرِ
__________
(1) المغني 8 / 651، ومغني المحتاج 4 / 311. وحديث: " ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا ". أخرجه البخاري (الفتح 6 / 91 - ط السلفية) من حديث سلمة بن الأكوع.
(2) سورة الأنفال / 6.
(3) حديث: " لا سبق إلا في خف أو حافر أو انصل ". أخرجه أبو داود (3 / 63 - 64 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة. وصححه ابن القطان كما في تلخيص الحبير لابن حجر (4 / 161 - ط شركة الطباعة الفنية)
(4) رد المحتار على الدر المختار 5 / 258، وجواهر الإكليل 1 / 271، ومغني المحتاج 4 / 311، والمغني 8 / 652(15/80)
الْخَيْل، وَالإِْبِل، وَالسَّهْمِ، وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي " سِبَاقٍ ".
وَالْجُعْل أَوِ الْجَائِزَةُ - يَجُوزُ بِشُرُوطٍ، مِنْهَا: كَوْنُهُ مَعْلُومًا جِنْسًا، وَقَدْرًا، وَصِفَةً، وَمِمَّا يَصِحُّ بَيْعُهُ (1) . وَالْجَائِزَةُ قَدْ يُخْرِجُهَا الإِْمَامُ أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ أَحَدُ الْمُتَسَابِقَيْنِ، أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا.
فَإِنْ أَخْرَجَهَا الإِْمَامُ أَوْ غَيْرُهُ، أَوْ أَحَدُ الْمُتَسَابِقَيْنِ لِيَأْخُذَهَا السَّابِقُ مِنْهُمَا فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عَقْدَ السَّبَقِ صَحِيحٌ وَالْجُعْل حَلاَلٌ.
وَإِنْ أَخْرَجَهَا الْمُتَسَابِقَانِ لِيَأْخُذَهَا السَّابِقُ مِنْهُمَا لَمْ تَصِحَّ الْمُسَابَقَةُ وَلَمْ يَحِل الْجُعْل لأَِنَّ ذَلِكَ قِمَارٌ (2) وَهُوَ حَرَامٌ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَصِحُّ الْمُسَابَقَةُ، وَيَحِل الْجُعْل فِي حَالَةِ إِخْرَاجِهِ، أَوِ اشْتِرَاطِهِ مِنَ الْمُتَسَابِقَيْنِ إِذَا أَدْخَلاَ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلاً يُخْرِجُ عَقْدَ الْمُسَابَقَةِ عَنْ صُورَةِ الْقِمَارِ، يَغْنَمُ إِنْ
__________
(1) شرح الزرقاني 3 / 152، ومغني المحتاج 4 / 311.
(2) قال ابن عابدين (5 / 258) القمار من القمر الذي يزداد تارة وينتقص أخرى، وسمي القمار قمارا لأن كل واحد من المقامرين يجوز أن يذهب ماله لصاحبه ويجوز أن يستفيد مال صاحبه، وهو حرام بالنص، ولا كذلك إذا شرط من جانب واحد لأن الزيادة والنقصان لا تمكن فيهما بل في أحدهما تمكن الزيادة وفي الآخر الانتقاص فلا تكون مقامرة.(15/80)
سَبَقَ وَلاَ يَغْرَمُ إِنْ سُبِقَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ فَرَسُهُ أَوْ بَعِيرُهُ أَوْ رَمْيُهُ مُكَافِئًا لِفَرَسَيْهِمَا، أَوْ بَعِيرَيْهِمَا، أَوْ رَمْيَيْهِمَا، وَيَتَوَهَّمُ أَنْ يَسْبِقَهُمَا أَيْ يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَ أَوْ يُسْبَقَ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ ضَعِيفًا عَنْهُمَا بِحَيْثُ لاَ يُتَصَوَّرُ سَبْقُهُ، أَوْ قَوِيًّا بِحَيْثُ يَسْبِقُ لاَ مَحَالَةَ، فَإِنَّ السِّبَاقَ لاَ يَصِحُّ، وَالْجُعْل لاَ يَحِل؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ قِمَارًا، وَلِذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: مَنْ أَدْخَل فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لاَ يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أَدْخَل فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أُمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ (1) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
12 - وَالْجَائِزَةُ فِي حَالَةِ وُجُودِ الْمُحَلِّل تُسْتَحَقُّ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي: إِنْ جَاءَ الْمُتَسَابِقَانِ وَالْمُحَلِّل كُلُّهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً أَحْرَزَ كُلٌّ مِنْهُمَا سَبَقَ نَفْسِهِ وَلاَ شَيْءَ لِلْمُحَلِّل لأَِنَّهُ لاَ سَابِقَ فِيهِمْ، وَكَذَلِكَ إِنْ سَبَقَا الْمُحَلِّل، وَإِنْ سَبَقَ الْمُحَلِّل وَحْدَهُ أَحْرَزَ السَّبَقَيْنِ بِالاِتِّفَاقِ، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا أَحْرَزَ سَبَقَ نَفْسِهِ، وَأَخَذَ سَبَقَ صَاحِبِهِ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنَ الْمُحَلِّل شَيْئًا، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا وَالْمُحَلِّل أَحْرَزَ السَّابِقُ مَال نَفْسِهِ، وَيَكُونُ سَبَقُ
__________
(1) حديث: " من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يؤمن. . . " رواه أبو داود (3 / 66 - 67 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة. وصوب أبو حاتم الرازي وقف الحديث على سعيد بن المسيب، كذا في التلخيص لابن حجر (4 / 163 - ط شركة الطباعة الفنية) .(15/81)
الْمَسْبُوقِ بَيْنَ السَّابِقِ وَالْمُحَلِّل نِصْفَيْنِ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ أَخْرَجَ كُلٌّ مِنَ الْمُتَسَابِقَيْنِ جُعْلاً مُتَسَاوِيًا أَوْ مُخْتَلِفًا لِيَأْخُذَهُ السَّابِقُ مِنْهُمَا فِي الْجَرْيِ أَوِ الرَّمْيِ فَيُمْنَعُ لأَِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْقِمَارِ، وَمَنَعَ الشَّرْعُ فِي بَابِ الْمُعَاوَضَةِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْعِوَضَيْنِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ، وَيَظَل الْحُكْمُ الْمَنْعُ وَلَوْ بِمُحَلِّلٍ لَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا يُمْكِنُ سَبْقُهُ لَهُمَا فِي الْجَرْيِ وَالرَّمْيِ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَقَ أَخَذَ الْجَمِيعَ؛ لِعَوْدِ الْجُعْل إِلَى مُخْرِجِهِ عَلَى تَقْدِيرِ سَبْقِهِ (2) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار 5 / 258، ومغني المحتاج 4 / 314، والمغني 8 / 659.
(2) جواهر الإكليل 1 / 271، وشرح الزرقاني 3 / 153.(15/81)
جَائِفَةٌ
التَّعْرِيفُ
1 - الْجَائِفَةُ لُغَةً الْجِرَاحَةُ الَّتِي وَصَلَتِ الْجَوْفَ. فَلَوْ وَصَلَتْ إِلَى جَوْفِ عَظْمِ الْفَخِذِ لَمْ تَكُنْ جَائِفَةً لأَِنَّ الْعَظْمَ لاَ يُعَدُّ مُجَوَّفًا (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهَا الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَهِيَ الْجُرْحُ الَّذِي يَنْفُذُ وَيَصِل إِلَى جَوْفٍ، كَبَطْنٍ، وَصَدْرٍ، وَثُغْرَةِ نَحْرٍ، وَجَنْبَيْنِ، وَخَاصِرَةٍ، وَمَثَانَةٍ، وَعَجَّانٍ، وَكَذَا لَوْ أَدْخَل مِنَ الشَّرَجِ شَيْئًا فَخَرَقَ بِهِ حَاجِزًا فِي الْبَطْنِ.
وَلَوْ نَفَذَتِ الطَّعْنَةُ أَوِ الْجُرْحُ فِي الْبَطْنِ وَخَرَجَتْ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَجَائِفَتَانِ.
وَتَحْصُل الْجَائِفَةُ بِكُل مَا يُفْضِي إِلَى بَاطِنِ جَوْفٍ، فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجِيفَ بِحَدِيدَةٍ أَوْ خَشَبَةٍ مُحَدِّدَةٍ، وَلاَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْجَائِفَةُ وَاسِعَةً أَوْ ضَيِّقَةً وَلَوْ قَدْرَ إِبْرَةٍ (2) .
__________
(1) لسان العرب والمصباح المنير. مادة: (جوف) .
(2) حاشية ابن عابدين (5 / 356) دار إحياء التراث العربي، وفتح القدير (8 / 313) دار إحياء التراث العربي ببيروت، وكفاية الطالب شرح الرسالة (2 / 243) مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1357 هـ، ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل (6 / 258) دار الفكر ببيروت ط 2 لسنة 1398 هـ، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (7 / 306) المكتبة الإسلامية، وروضة الطالبين (9 / 265) المكتب الإسلامي، ومطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى (6 / 265) ط لسنة 1380 هـ، والمكتب الإسلامي، وكشاف القناع للبهوتي (6 / 54) سنة 1402 هـ - دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.(15/82)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ فِي الْجَائِفَةِ. وَأَنَّ فِيهَا ثُلُثَ الدِّيَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَمْدًا أَمْ خَطَأً، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ، وَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ الَّذِي فِيهِ: وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ (1) . وَعَلَيْهِ الإِْجْمَاعُ؛ وَلأَِنَّهُ لاَ تُؤْمَنُ الزِّيَادَةُ فِيهَا فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا قِصَاصٌ وَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لاَ قَوَدَ فِي الْمَأْمُومَةِ وَلاَ الْجَائِفَةِ (2) .
وَاتَّفَقُوا فِي الْجَائِفَةِ إِذَا نَفَذَتْ مِنْ جَانِبٍ لآِخَرَ أَنَّهَا جَائِفَتَانِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ثُلُثُ الدِّيَةِ (3) .
__________
(1) حديث عبد الله بن عمرو " وفي الجائفة ثلث الدية ". أخرجه أحمد (2 / 217 - ط الميمنية) بلفظ " وفي الجائفة ثلث العقل " وإسناده حسن.
(2) حديث العباس بن عبد المطلب: " لا قود في المأمومة، ولا الجائفة ". أخرجه ابن ماجه (2 / 881 ط الحلبي) وأعله المناوي بجهالة أحد رواته وضعف آخر. فيض القدير (6 / 436 - ط المكتبة التجارية) .
(3) حاشية ابن عابدين (5 / 356) ، وكفاية الطالب (2 / 243) ، ومواهب الجليل (6 / 246) ، (6 / 258) ، وشرح الزرقاني (8 / 35) ، ونهاية المحتاج (7 / 306 - 307) ، وروضة الطالبين (9 / 256) ، وكشاف القناع (6 / 54 - 56) ، ومطالب أولي النهى (6 / 132) .(15/82)
وَإِنْ خَرَقَتْ جَائِفَةُ الْبَطْنِ الأَْمْعَاءَ، أَوْ لَذَعَتْ كَبِدًا أَوْ طِحَالاً، أَوْ كَسَرَتْ جَائِفَةُ الْجَنْبِ الضِّلْعَ، فَفِيهَا مَعَ الدِّيَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ.
وَمَنْ مَاتَ بِجَائِفَةٍ فَيَتَعَيَّنُ الْقَتْل بِالسَّيْفِ عَلَى الْجَانِي (عِنْدَ مَنْ لاَ يَرَى الْقَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ) لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ: يُفْعَل بِهِ كَفِعْلِهِ أَيْ يُجَافُ مَعَ قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَيَذْكُرُونَ أَحْكَامًا فِيمَنْ أَجَافَ شَخْصًا جَائِفَتَيْنِ بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ، وَفِيمَنِ الْتَحَمَتْ جَائِفَتُهُ فَفَتَحَهَا آخَرُ، وَفِيمَنْ وَسَّعَ جَائِفَةَ غَيْرِهِ فِي أَبْوَابِ الدِّيَاتِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (1) .
3 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ دَاوَى جَائِفَةً بِدَوَاءٍ فَوَصَل إِلَى جَوْفِهِ، فَإِنَّهُ يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَإِنْ لَمْ يَصِل الدَّوَاءُ إِلَى بَاطِنِ الأَْمْعَاءِ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُ أَدْخَل شَيْئًا إِلَى جَوْفِهِ بِاخْتِيَارِهِ (2) .
__________
(1) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (7 / 291، 306 - 307) ، والجمل على شرح المنهج (5 / 64) دار إحياء التراث العربي، والمغني (7 / 727) ، وحكومة العدل: ما يقدر من ضمان، وكشاف القناع للبهوتي (6 / 54 - 56) ، ومطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى (6 / 132) .
(2) فتح القدير لابن الهمام (2 / 73) ، والاختيار لتعليل المختار للموصلي (2 / 356) دار المعرفة للطباعة والنشر ط 3 لسنة 1395 هـ، وحواشي الشرواني وابن القاسم على تحفة المحتاج بشرح المنهاج (3 / 403) دار صادر ببيروت، وروضة الطالبين (2 / 356) ، وكشاف القناع (2 / 318) ، ومطالب أولي النهى (2 / 191) .(15/83)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى أَنَّ صَوْمَهُ لاَ يَفْسُدُ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّوَاءُ مَائِعًا أَمْ غَيْرَ مَائِعٍ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَصِل إِلَى مَدْخَل الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ (1) .
4 - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِالرَّضَاعِ بِإِقْطَارِ اللَّبَنِ فِي الْجَائِفَةِ مَا لَمْ يَصِل اللَّبَنُ إِلَى الْمَعِدَةِ لِخَرْقٍ فِي الأَْمْعَاءِ مَثَلاً؛ لأَِنَّ وُصُول اللَّبَنِ إِلَى الْجَوْفِ لاَ يَحْصُل بِهِ التَّغَذِّي، وَالْحُرْمَةُ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِمَا يَنْبُتُ بِهِ اللَّحْمُ، وَيَنْشُزُ بِهِ الْعَظْمُ وَيَنْدَفِعُ بِهِ الْجُوعُ (2) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَوْل الآْخَرِ إِلَى أَنَّهُ يَحْصُل التَّحْرِيمُ بِوُصُول اللَّبَنِ إِلَى جَوْفِ الرَّضِيعِ وَلَوْ مِنْ جَائِفَةٍ (3) .
__________
(1) فتح القدير لابن الهمام (2 / 73) ، والمدونة الكبرى (1 / 198) ، ومواهب الجليل (2 / 424) ، وكشاف القناع (2 / 318) .
(2) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (4 / 9) ، دار الكتاب العربي ببيروت. ط 2 لسنة 1402 هـ، وفتح القدير (3 / 15) ، وكتاب الكافي لابن عبد البر (2 / 540) مكتبة الرياض الحديثة. ط 1 لسنة 1398 هـ، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (7 / 165) ، وروضة الطالبين (9 / 6 - 7) ، وكشاف القناع (5 / 445) ، والمغني لابن قدامة (8 / 175) مكتبة القاهرة بتحقيق طه محمد الزيني.
(3) فتح القدير (3 / 15) ، والجمل على شرح المنهج (4 / 477) ، وروضة الطالبين (9 / 6 - 7) .(15/83)
وَتَوَقَّفَ الْعَلاَّمَةُ الأَُجْهُورِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي اللَّبَنِ الْوَاصِل لِلْجَوْفِ مِنْ ثُقْبَةٍ فِي حِينِ رَجَّحَ الشَّيْخُ النَّفْرَاوِيُّ التَّحْرِيمَ (1) .
جَارٌ
انْظُرْ: جِوَارٌ، شُفْعَةٌ.
__________
(1) الفواكه الدواني للنفراوي (2 / 89) دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت.(15/84)
جَارِحَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَارِحَةُ - وَاحِدَةُ الْجَوَارِحِ - وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: الَّتِي تَكْسِبُ وَهِيَ مِنْ (جَرَحَ) وَمِنْ مَعَانِيهَا كَسَبَ وَتَأْتِي أَيْضًا بِمَعْنَى كَلَمَ أَيْ شَقَّ الْجِلْدَ. قَال تَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ (1) } أَيْ كَسَبْتُمْ. وَتُطْلَقُ عَلَى أَعْضَاءِ الإِْنْسَانِ الَّتِي يَكْتَسِبُ بِهَا؛ لأَِنَّهُ يَتَكَسَّبُ بِهَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَتُطْلَقُ عَلَى ذَوَاتِ الصَّيْدِ مِنَ السِّبَاعِ كَالْكِلاَبِ، وَالطَّيْرِ كَالْبَازِي لأَِنَّهَا تَجْرَحُ لأَِهْلِهَا أَيْ تَكْسِبُ لَهُمْ (2) .
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
حُكْمُ مَا تَعْقِرُهُ الْجَارِحَةُ:
2 - الأَْصْل أَنَّ مَأْكُول اللَّحْمِ يَحِل بِالذَّبْحِ فِي الْحَلْقِ، وَهُوَ أَعْلَى الْعُنُقِ، أَوْ اللَّبَّةِ وَهِيَ أَسْفَلُهُ
__________
(1) سورة الأنعام / 60.
(2) تاج العروس مادة: " جرح ".
(3) مطالب أولي النهى 6 / 348.(15/84)
إِذَا كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، أَمَّا غَيْرُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ كَالصَّيْدِ فَجَمِيعُ أَجْزَائِهِ مَذْبَحٌ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الصَّيْدِ بِشُرُوطِهِ بِالْجَوَارِحِ مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ مِمَّا يَجْرَحُ بِنَابِهِ كَالْكَلْبِ، وَالْفَهْدِ، وَالنَّمِرِ، وَغَيْرِهَا مِنْ ذَوَاتِ النَّابِ، وَالطَّيْرِ مِمَّا يَجْرَحُ بِمِخْلَبِهِ كَالْبَازِي، وَالشَّاهِينِ، وَالصَّقْرِ، مِمَّا لَهُ مِخْلَبٌ (1) .
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِل لَهُمْ قُل أُحِل لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ (2) } .
وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ وَفِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُل، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرِ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُل (3)
شُرُوطُ الْجَارِحَةِ الَّتِي يَحِل أَكْل صَيْدِهَا:
3 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِحِل مَا تَقْتُلُهُ الْجَوَارِحُ مِنَ
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 246، وروض الطالب 1 / 555، وابن عابدين 5 / 298، ومطالب أولي النهى 6 / 348، والمدونة الكبرى 2 / 51.
(2) سورة المائدة / 4.
(3) حديث أبي ثعلبة الخشبي: " وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك غير معلم فأدركت ذكاته فكل ". أخرجه البخاري (فتح الباري 9 / 604 - 605 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1532 ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري(15/85)
الصَّيْدِ شُرُوطًا مِنْهَا:
أ - أَنْ تَكُونَ الْجَارِحَةُ مِمَّا لَهُ نَابٌ أَوْ مِخْلَبٌ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ أَلاَ يَكُونَ نَجِسَ الْعَيْنِ.
ب - أَنْ تَكُونَ مُعَلَّمَةً (1) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ (2) } أَيْ مُعَلِّمِينَ، وَحَدِيثُ ثَعْلَبَةَ السَّابِقُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ: مَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُل (3) .
ج - أَنْ يُوجَدَ الإِْرْسَال مِنْ صَاحِبِهَا فَلاَ يَحِل مَا يَقْتُلُهُ الْمُسْتَرْسِل بِنَفْسِهِ، وَأَنْ تَذْهَبَ الْجَارِحَةُ عَلَى سُنَنِ الإِْرْسَال، وَأَلاَّ يُشَارِكَهُ فِي الإِْرْسَال مَنْ لاَ يَحِل صَيْدُهُ، فَإِنْ شَارَكَهُ مَجُوسِيٌّ فَلاَ تَحِل.
د - وَأَلاَّ يُشَارِكَ الْجَارِحَةَ فِي الأَْخْذِ مَا لاَ يَحِل الصَّيْدُ بِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ.
هـ - أَلاَّ يَتَمَكَّنَ الصَّائِدُ مِنَ الذَّبْحِ بَعْدَ الصَّيْدِ فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَبْحِهِ فَلَمْ يَذْبَحْهُ حَرُمَ لِتَقْصِيرِهِ بِتَرْكِ الذَّبْحِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ.
و أَنْ يَقْتُلَهُ جَرْحًا. فَإِنْ قَتَلَهُ بِثِقَلِهِ لَمْ يَحِل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (4) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَحَامَل عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ بِضَغْطِهِ حَل فِي الْقَوْل الأَْظْهَرِ (5) .
ز - أَنْ لاَ تَأْكُل مِنْهُ شَيْئًا عِنْدَ الأَْئِمَّةِ:
__________
(1) روضة الطالبين 3 / 205.
(2) سورة المائدة / 4.
(3) حديث ثعلبة سبق تخريجه ف / 2.
(4) حاشية ابن عابدين 5 / 297، والشرح الكبير للدردير 2 / 106، ومطالب أولي النهى 6 / 351.
(5) روضة الطالبين 3 / 244.(15/85)
أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَتَكَرَّرَ مِنْهُ عَدَمُ الأَْكْل، مَرَّاتٍ يَرْجِعُ عَدَدُهَا إِلَى الْعُرْفِ (1) . لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ (2) } . وَالْجَارِحَةُ الآْكِلَةُ مِنَ الصَّيْدِ إِنَّمَا أَمْسَكَتْهُ لِنَفْسِهَا.
وَلاَ يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ الأَْكْل مِنَ الصَّيْدِ (3) ، وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ تَرْكِ الأَْكْل فِي جَارِحَةِ الطَّيْرِ لِتَعَذُّرِ تَعْلِيمِهَا تَرْكَ الأَْكْل.
وَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى بَعْضُهَا يَتَّصِل بِالصَّائِدِ وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّيْدِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ) .
__________
(1) المصادر السابقة.
(2) سورة المائدة / 4.
(3) المدونة 2 / 52.(15/86)
جَارِيَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْجَارِيَةِ لُغَةً: السَّفِينَةُ، وَفِتْيَةُ النِّسَاءِ، وَقِيل لِلأَْمَةِ جَارِيَةٌ عَلَى التَّشْبِيهِ لِجَرْيِهَا مُسْتَسْخَرَةً فِي أَشْغَال مَوَالِيهَا (1) .
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَالْفُقَهَاءُ إِنَّمَا عَنَوْا بِمُصْطَلَحِ جَارِيَةٍ بِمَعْنَى الْفَتَاةِ الصَّغِيرَةِ، وَالشَّابَّةِ، وَالأَْمَةِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْفَتَاةُ، وَالأَْمَةُ
2 - الْفَتَاةُ: الشَّابَّةُ مُطْلَقًا حُرَّةً أَوْ أَمَةً. أَمَّا الْجَارِيَةُ فَتُطْلَقُ عَلَى الشَّابَّةِ، وَعَلَى الصَّغِيرَةِ، وَعَلَى الأَْمَةِ شَابَّةً أَوْ عَجُوزًا
وَالأَْمَةُ: لاَ تُطْلَقُ إِلاَّ عَلَى الرَّقِيقَةِ مِنَ النِّسَاءِ.
أَحْكَامُ الْجَارِيَةِ فِي الإِْطْلاَقَاتِ الْفِقْهِيَّةِ:
3 - الأَْصْل أَنْ تَخْتَلِفَ الْجَارِيَةُ عَنِ الْغُلاَمِ فِي بَعْضِ الأَْحْكَامِ مِنْهَا:
__________
(1) القاموس المحيط والمصباح المنير مادة: (جري) .(15/86)
أ - حُكْمُ التَّطَهُّرِ مِنْ بَوْل الصَّبِيِّ وَالْجَارِيَةِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ الرَّضِيعَ يُطَهَّرُ الثَّوْبُ مِنْ بَوْلِهِ بِالنَّضْحِ بِالْمَاءِ، أَمَّا الْجَارِيَةُ فَلاَ يُطَهَّرُ مِنْ بَوْلِهَا إِلاَّ بِالْغَسْل بِالْمَاءِ لِخَبَرِ التِّرْمِذِيِّ يُغْسَل مِنْ بَوْل الْجَارِيَةِ وَيُرَشُّ مِنْ بَوْل الْغُلاَمِ (1) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي بَابِ النَّجَاسَةِ.
ب - حُكْمُ الْعَقِّ عَنِ الْمَوْلُودِ، يُعَقُّ عَنِ الْغُلاَمِ بِشَاتَيْنِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ بِشَاةٍ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُبَيَّنُ فِي مُصْطَلَحِ: " عَقِيقَةٌ ".
ج - الإِْجْبَارُ فِي النِّكَاحِ، فَالْجَارِيَةُ، لِوَلِيِّهَا أَنْ يَجْبُرَهَا عَلَى الزَّوَاجِ فِي أَحْوَالٍ مَحْدُودَةٍ، يُنْظَرُ بَيَانُهَا وَبَيَانُ مَنْ لَهُ حَقُّ الإِْجْبَارِ فِي مُصْطَلَحِ " نِكَاحٌ " " وَإِجْبَارٌ ".
د - وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ أَيْضًا فِي بَقَاءِ الْجَارِيَةِ وَالْغُلاَمِ فِي حَضَانَةِ الْحَاضِنَةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَضَانَةٌ) .
__________
(1) مغني المحتاج (1 / 84) ، وكشاف القناع (1 / 189) . والخبر: " يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام ". أخرجه أبو داود (1 / 262 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم من حديث أبي السمح وصححه ووافقه الذهبي (1 / 199 - ط دائرة المعارف العثمانية) .(15/87)
جَاسُوسِيَّةٌ
انْظُرْ: تَجَسُّسٌ.
جَامِعٌ
انْظُرْ: مَسْجِدٌ.(15/87)
جُبَارٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجُبَارُ: بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ.
مِنْ مَعَانِيهِ الْهَدَرُ وَالْبَرِيءُ مِنَ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ: أَنَا مِنْهُ خَلاَوَةٌ وَجُبَارٌ وَكُل مَا أُفْسِدَ وَأُهْلِكَ كَالسَّيْل يُقَال: ذَهَبَ دَمُهُ جُبَارًا أَيْ هَدَرًا.
وَمِنْهُ: حَرْبٌ جُبَارٌ: أَيْ لاَ قَوَدَ فِيهَا وَلاَ دِيَةَ (1) .
وَلَمْ يَسْتَعْمِل الْفُقَهَاءُ كَلِمَةَ جُبَارٍ إِلاَّ بِمَعْنَى الْهَدَرِ. فَإِذَا وَصَفُوا فِعْل آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ بِأَنَّهُ جُبَارٌ فَالْمُرَادُ أَنَّ مَا تَلِفَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْفِعْل يَكُونُ هَدَرًا، لاَ ضَمَانَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ بِقِصَاصٍ، وَلاَ دِيَةٍ، وَلاَ قِيمَةٍ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الضَّمَانُ:
2 - الضَّمَانُ يَأْتِي لَمَعَانٍ مِنْهَا:
__________
(1) تاج العروس، ومختار الصحاح مادة: (جبر) .
(2) كفاية الطالب الرباني بحاشية العدوي 2 / 284 ط الحلبي، والمغني لابن قدامة 8 / 337. مكتبة الرياض الحديثة.(15/88)
الاِلْتِزَامُ بِالْغُرْمِ، وَمِنْهَا الْكَفَالَةُ (1) .
قَال الْكَفَوِيُّ: " هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ رَدِّ مِثْل الْهَالِكِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا (2) ".
فَالْحُكْمُ الَّذِي يُفِيدُهُ لَفْظُ الضَّمَانِ بِهَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ ضِدًّا لِلْحُكْمِ الَّذِي يُفِيدُهُ لَفْظُ " الْجُبَارُ ".
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - يَتَعَرَّضُ الْفُقَهَاءُ لِهَذَا الْحُكْمِ فِي الْجِنَايَاتِ وَالضَّمَانِ، وَمِنَ الصُّوَرِ الَّتِي اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِهَا جُبَارًا:
أ - مَا أَتْلَفَتْهُ الدَّابَّةُ الْمُنْفَلِتَةُ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنْ صَاحِبِهَا أَوْ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ (3) .
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ (4)
__________
(1) القاموس الفقهي لغة واصطلاحا، وشرح الخرشي على مختصر خليل 4 / 237، المطبعة العامرة الشرقية. مصر. ط الأولى 1316 هـ.
(2) الكليات 3 / 142 نشر وزارة الثقافة والإرشاد القومي - دمشق سنة 1981 م.
(3) الدر المختار بحاشية ابن عابدين 6 / 608 ط الحلبي، الطبعة الثانية 1386 - 1966 م، وكفاية الطالب الرباني بحاشية العدوي 2 / 284، وروضة الطالبين 10 / 197 المكتب الإسلامي، ومطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى 4 / 89 المكتب الإسلامي.
(4) حديث: " العجماء جرحها جبار. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري 12 / 254 ط السلفية) ومسلم (3 / 1334 ط عيسى الحلبي) .(15/88)
وَالْمُرَادُ بِالْعَجْمَاءِ: الْبَهِيمَةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّهَا لاَ تَتَكَلَّمُ (1) . وَلَيْسَ ذِكْرُ الْجَرْحِ فِي الْحَدِيثِ قَيْدًا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ إِتْلاَفُهَا بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِجَرْحٍ أَمْ بِغَيْرِهِ (2) .
ب - وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، أَوْ فِي مَوَاتٍ فَسَقَطَ فِيهِ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، فَمَاتَ أَوْ جُرِحَ، أَوْ عَطِبَ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَسَبُّبٌ فِي ذَلِكَ أَوْ تَغْرِيرٌ (3) .
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ - وَالْبِئْرُ جُبَارٌ.
وَكَذَا الأَْمْرُ لَوْ حَفَرَ مَعْدِنًا (أَيْ مَنْجَمًا) فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي مَوَاتٍ مِنْ الأَْرْضِ، فَوَقَعَ فِيهِ إِنْسَانٌ فَمَاتَ فَدَمُهُ هَدَرٌ، لِقَوْلِهِ وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ (4) .
وَمِنْ صُوَرِ الإِْتْلاَفَاتِ الَّتِي حَصَل فِيهَا خِلاَفٌ هَل تَكُونُ هَدَرًا أَوْ يَلْزَمُ فِيهَا الضَّمَانُ.
أ - إِتْلاَفُ الْبَهَائِمِ لِلزَّرْعِ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا.
ب - مَا تُتْلِفُهُ الدَّابَّةُ الْمَرْكُوبَةُ بِرِجْلِهَا أَوْ يَدِهَا.
وَلِلتَّفْصِيل انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِتْلاَفٌ، وَضَمَانٌ) .
__________
(1) مختار الصحاح مادة: (عجم) .
(2) فتح الباري 12 / 257.
(3) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 10 / 4709، 4717، مطبعة الإمام. القاهرة، والمدونة 6 / 445، 454، دار صادر - بيروت، وروضة الطالبين 9 / 316، والمغني لابن قدامة 7 / 823.
(4) فتح الباري 12 / 256.(15/89)
جِبَايَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجِبَايَةُ فِي اللُّغَةِ: الْجَمْعُ وَالتَّحْصِيل يُقَال: جَبَيْتُ الْمَال وَالْخَرَاجَ أَجْبِيهِ جِبَايَةً، جَمَعْتُهُ، وَجَبَوْتُهُ أَجْبُوهُ جِبَاوَةً مِثْلُهُ، وَالْجَابِيَةُ حَوْضٌ ضَخْمٌ
وَالْجَابِي: هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ الْخَرَاجَ، وَكَذَا مَنْ يَجْمَعُ الْمَاءَ لِلإِْبِل، وَالْجِبَاوَةُ: اسْمُ الْمَاءِ الْمَجْمُوعِ (1)
وَلاَ يَخْرُجُ اصْطِلاَحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحِسَابُ:
2 - الْحِسَابُ هُوَ الْعَمَل الَّذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي ضَبْطِ الْمَال الَّذِي يَجْمَعُهُ الْجُبَاةُ، وَمَعْرِفَةِ مَوْرِدِهِ وَمَصْرِفِهِ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، إِحْصَاءُ الْمَال وَعَدُّهُ، وَالْحِسَابُ، مِنْ وَسَائِل ضَبْطِ الْجِبَايَةِ (2) .
__________
(1) انظر أساس البلاغة للزمخشري والصحاح واللسان والمصباح مادة: (جبي) وأيضا المغرب ص / 75 ط. بيروت.
(2) المصباح مادة: (حسب)(15/89)
ب - الْخَرْصُ:
3 - الْخَرْصُ تَقْدِيرُ مَا عَلَى النَّخْل وَنَحْوِهِ مِنْ ثَمَرٍ، بِالظَّنِّ
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَرْصِ وَالْجِبَايَةِ، أَنَّ الْخَارِصَ عَمَلُهُ التَّقْدِيرُ، وَالْجَابِي عَمَلُهُ الْجَمْعُ (1) .
ج - الْعِرَافَةُ:
4 - الْعِرَافَةُ وَمَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ: تَدْبِيرُ الْقَوْمِ وَالْقِيَامُ عَلَى سِيَاسَتِهِمْ، وَالْعَرِيفُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ الَّذِي يُعَرِّفُ الْجَابِيَ أَرْبَابَ الصَّدَقَاتِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُمْ (2) .
د - الْكِتَابَةُ:
5 - الْكِتَابَةُ: تَقْيِيدُ مَا يَدْفَعُهُ أَرْبَابُ الأَْمْوَال مِنَ الصَّدَقَةِ (3) . وَهِيَ مِنْ وَسَائِل ضَبْطِ الْجِبَايَةِ.
حُكْمُ الْجِبَايَةِ:
6 - جِبَايَةُ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ لِبَيْتِ الْمَال وَاجِبَةٌ عَلَى الإِْمَامِ. قَال الْمَاوَرْدِيُّ: وَالَّذِي يَلْزَمُهُ (أَيِ الإِْمَامَ) مِنَ الأُْمُورِ عَشْرَةُ أَشْيَاءَ. . ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْهَا: " جِبَايَةَ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ نَصًّا وَاجْتِهَادًا مِنْ غَيْرِ عَسْفٍ (4) ".
__________
(1) المغرب / 142 ط الكتاب العربي، المصباح مادة: (خرص) ، وحاشية القليوبي 2 / 20 ط الحلبي.
(2) المصباح مادة " عرف "، والمجموع 6 / 188 ط السلفية.
(3) المصباح وأساس البلاغة للزمخشري مادة: (كتب) ، وحاشية القليوبي 3 / 196 ط الحلبي.
(4) الأحكام السلطانية للماوردي ص 16، ولأبي يعلى ص 28.(15/90)
مَحَل الْجِبَايَةِ:
الْجِبَايَةُ تَكُونُ فِي الأَْمْوَال الَّتِي تَرِدُ إِلَى بَيْتِ الْمَال كَبَعْضِ أَمْوَال الزَّكَاةِ وَأَمْوَال الْفَيْءِ. وَفِيمَا يَلِي مَا يَتَعَلَّقُ بِجِبَايَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا.
أ - جِبَايَةُ الزَّكَاةِ:
7 - جِبَايَةُ الزَّكَاةِ وَاجِبَةٌ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِهِ كَانُوا يَبْعَثُونَ السُّعَاةَ؛ وَلأَِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ يَمْلِكُ الْمَال وَلاَ يَعْرِفُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْخَل، فَوَجَبَ أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يَأْخُذُ (1) .
وَعَمَل الْجَابِي إِنَّمَا يَكُونُ فِي الأَْمْوَال الَّتِي وَلاَّهُ الإِْمَامُ جِبَايَتَهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ شُرُوطًا لِلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا، وَهِيَ تَشْمَل الْعَامِلِينَ عَلَى جِبَايَتِهَا، وَذَكَرُوا أَيْضًا مَا يَسْتَحِقُّهُ الْعَامِل مِنْ جَابٍ وَغَيْرِهِ مُقَابِل عَمَلِهِ، وَذَكَرُوا أَيْضًا الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي تَتِمُّ بِهَا جِبَايَةُ الزَّكَاةِ. وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ النِّقَاطِ التَّالِيَةِ:
أَوَّلاً - شُرُوطُ الْجَابِي:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِلْجَابِي شُرُوطًا هِيَ:
- أ - الإِْسْلاَمُ:
8 - اشْتِرَاطُ الإِْسْلاَمِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
__________
(1) المصباح مادة (زكو) ، وحاشية القليوبي 2 / 2 ط الحلبي، والمهذب مع المجموع 6 / 167 ط السلفية.(15/90)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ (1) } وَلأَِنَّ الْعَمَل الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْجَابِي وَغَيْرُهُ فِي الزَّكَاةِ إِنَّمَا هُوَ وِلاَيَةٌ فَاشْتُرِطَ فِيهَا الإِْسْلاَمُ كَسَائِرِ الْوِلاَيَاتِ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لاَ يُشْتَرَطُ إِسْلاَمُهُ؛ لأَِنَّهُ يَأْخُذُ أَجْرًا مُقَابِل جِبَايَتِهِ (2) .
ب - أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا:
9 - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجَابِي بَالِغًا عَاقِلاً لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ لِلْقَبْضِ؛ وَلأَِنَّ عَمَلَهُ وِلاَيَةٌ، وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ لاَ وِلاَيَةَ لَهُ (3) .
ج - الْكِفَايَةُ:
10 - ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ الْحَنَابِلَةُ فِي كُتُبِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْكِفَايَةِ أَهْلِيَّتُهُ لِلْقِيَامِ بِعَمَلِهِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَحَمُّل أَعْبَائِهِ، فَإِنَّ الأَْمَانَةَ وَحْدَهَا لاَ تَفِي مَا لَمْ يَصْحَبْهَا الْقُوَّةُ عَلَى الْعَمَل وَالْكِفَايَةُ فِيهِ (4) .
__________
(1) سورة آل عمران / 118.
(2) المبدع 2 / 418 ط المكتب الإسلامي، شرح منتهى الإرادات 1 / 425 ط عالم الكتب، والدسوقي 1 / 495 ط الفكر.
(3) المبدع 2 / 415 ط المكتب الإسلامي، وكشاف القناع 2 / 275 ط النصر، وشرح منتهى الإرادات 1 / 425 ط عالم الكتب، والمغني 2 / 654 ط الرياض.
(4) منتهى الإرادات 1 / 425 ط عالم الكتب، وكشاف القناع 2 / 275 ط النصر، والمبدع 2 / 415 ط المكتب الإسلامي، والمغني 2 / 654 ط الرياض.(15/91)
د - الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ مَا يُجْبَى مِنْ زَكَاةٍ وَغَيْرِهَا:
11 - ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْعَامِل عَلَى الزَّكَاةِ مِنْ جَابٍ وَغَيْرِهِ عَالِمًا بِحُكْمِهَا لِئَلاَّ يَأْخُذَ غَيْرَ الْوَاجِبِ أَوْ يُسْقِطَ وَاجِبًا، أَوْ يَدْفَعَ لِغَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ أَوْ يَمْنَعَ مُسْتَحِقًّا. وَعِبَارَةُ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ: وَلاَ يَبْعَثُ إِلاَّ فَقِيهًا لأَِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يُؤْخَذُ وَمَا لاَ يُؤْخَذُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الاِجْتِهَادِ فِيمَا يَعْرِضُ مِنْ مَسَائِل الزَّكَاةِ وَأَحْكَامِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْعَامِل إِنْ كَانَ مِنْ عُمَّال التَّفْوِيضِ، أَيْ مِنَ الَّذِينَ يُفَوَّضُ إِلَيْهِمْ عُمُومُ الأَْمْرِ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ بِأَحْكَامِ الزَّكَاةِ، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ فِيهِ كِفَايَةٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ الْعَامِل مُنَفِّذًا وَقَدْ عَيَّنَ لَهُ الإِْمَامُ مَا يَأْخُذْهُ جَازَ أَنْ لاَ يَكُونَ عَالِمًا بِأَحْكَامِ الزَّكَاةِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ الْعُمَّال وَيَكْتُبُ لَهُمْ مَا يَأْخُذُونَ وَكَذَلِكَ كَتَبَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَّالِهِ (1) .
هـ - الْعَدَالَةُ وَالأَْمَانَةُ:
12 - ذَكَرَ هَذَا الشَّرْطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَجَعَل بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ الأَْمَانَةَ شَرْطًا مُسْتَقِلًّا وَالْمُرَادُ بِالْعَدَالَةِ أَنْ لاَ يَكُونَ فَاسِقًا؛ لأَِنَّ الْفَاسِقَ
__________
(1) الدسوقي 1 / 495 ط الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 138 ط المعرفة، والمجموع 6 / 167 ط السلفية، وكشاف القناع 2 / 275.(15/91)
لاَ وِلاَيَةَ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْعَدَالَةِ هُنَا كَمَا جَاءَ فِي الدُّسُوقِيِّ وَالْخَرَشِيِّ مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ عَدَالَةُ كُل وَاحِدٍ فِيمَا يَفْعَلُهُ، فَعَدَالَةُ الْمُفَرِّقِ فِي تَفْرِقَتِهَا، وَالْجَابِي فِي جِبَايَتِهَا، وَهَكَذَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا عَدَالَةُ الشَّهَادَةِ أَوِ الرِّوَايَةِ. وَالْعَدَالَةُ وَالْعِلْمُ بِحُكْمِهَا شَرْطَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْعَمَل وَالإِْعْطَاءِ مِنَ الزَّكَاةِ (1) .
و كَوْنُهُ مِنْ غَيْرِ آل الْبَيْتِ:
13 - يَجُوزُ اتِّفَاقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ اسْتِعْمَال ذَوِي الْقُرْبَى عَلَى الصَّدَقَاتِ إِنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِمْ أُجْرَتُهُمْ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ مَا يَأْخُذُونَهُ عَلَى عَمَلِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِعْطَائِهِمْ عَنِ الْعَمَل مِنْهَا تَنْزِيهًا لِقَرَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شُبْهَةِ أَخْذِ الصَّدَقَةِ، لأَِنَّ الْفَضْل بْنَ الْعَبَّاسِ، وَالْمُطَّلِبَ بْنَ رَبِيعَةَ سَأَلاَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِمَالَةَ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَقَال: إِنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَحِل لِمُحَمَّدٍ وَلاَ لآِل مُحَمَّدٍ (2) وَهُوَ نَصٌّ فِي التَّحْرِيمِ لاَ تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ.
__________
(1) كشاف القناع 2 / 275، والدسوقي 1 / 495، والخرشي مع حاشية العدوي عليه 2 / 216، والزرقاني على مختصر خليل 2 / 176 - 177، والمجموع 6 / 167.
(2) حديث: " إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد " أخرجه مسلم (2 / 753 ط الحلبي) وأبو داود (3 / 389 - تحقيق عزت عبيد دعاس) .(15/92)
وَجَوَّزَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ كَوْنَ الْعَامِل مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَأَنْ يُعْطَى عَلَى عَمَلِهِ مِنْ سَهْمِ الزَّكَاةِ؛ لأَِنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْعَامِل عَلَى سَبِيل الْعِوَضِ عَنْ عَمَلِهِ.
وَذَهَبَ الْبَاجِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جَوَازِ اسْتِعْمَال ذَوِي الْقُرْبَى فِي الأَْعْمَال الأُْخْرَى لِلزَّكَاةِ كَالْحِرَاسَةِ وَالسَّوْقِ؛ لأَِنَّهَا إِجَارَةٌ مَحْضَةٌ (1) .
ثَانِيًا - مِقْدَارُ مَا يَسْتَحِقُّهُ مُقَابِل عَمَلِهِ:
14 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَامِل مِنْ جَابٍ وَغَيْرِهِ يَسْتَحِقُّ أَجْرًا عَلَى عَمَلِهِ وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مُقَابِل عَمَلِهِ، وَفِي كَوْنِهِ يَتَقَيَّدُ بِالثَّمَنِ، وَفِي كَوْنِ مَا يَأْخُذُهُ أُجْرَةً.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَابِيَ فِي الصَّدَقَةِ يُعْطَى بِقَدْرِ عَمَلِهِ مَا يَسَعُهُ وَأَعْوَانَهُ زَادَ عَلَى الثَّمَنِ أَوْ نَقَصَ وَإِنْ جَاوَزَتْ كِفَايَتُهُ نِصْفَ مَا جَمَعَ مِنَ الزَّكَاةِ فَلاَ يُزَادُ عَلَى النِّصْفِ لأَِنَّ التَّنْصِيفَ عَيْنُ الإِْنْصَافِ، وَإِنَّمَا يُعْطَى كِفَايَتَهُ لأَِنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِلْعَمَل لِمَصْلَحَةِ الْفُقَرَاءِ، فَيَكُونُ كِفَايَتُهُ فِي الزَّكَاةِ كَالْمُقَاتِلَةِ وَالْقَاضِي، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالإِْجَارَةِ لأَِنَّهُ
__________
(1) الفتاوى الهندية 1 / 188 وتبيين الحقائق 1 / 297، وبدائع الصنائع 2 / 44، والدسوقي 1 / 495، والخرشي مع حاشية العدوي عليه 2 / 216، والزرقاني 2 / 177، وروضة الطالبين 2 / 336، والمجموع 6 / 167، وشرح منتهى الإرادات 1 / 425، وكشاف القناع 2 / 275، والكافي 1 / 329.(15/92)
عَمَلٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَمَا يَأْخُذُهُ الْعَامِل مِنَ الزَّكَاةِ إِنَّمَا يَأْخُذُهُ عِمَالَةً؛ لأَِنَّ أَصْحَابَ الأَْمْوَال لَوْ حَمَلُوا الزَّكَاةَ إِلَى الإِْمَامِ لاَ يَسْتَحِقُّ الْعَامِل شَيْئًا وَلَوْ هَلَكَ مَا جَمَعَهُ مِنَ الزَّكَاةِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعَامِل شَيْئًا كَالْمُضَارِبِ إِذَا هَلَكَ مَال الْمُضَارَبَةِ، إِلاَّ أَنَّ فِيهِ شِبْهَ الصَّدَقَةِ بِدَلِيل سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْ أَرْبَابِ الأَْمْوَال. وَلِذَا لاَ تَحِل لِلْعَامِل الْهَاشِمِيِّ تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ بِخِلاَفِ الْغَنِيِّ، لأَِنَّهُ لاَ يُوَازِيهِ فِي الْكَرَامَةِ، كَمَا لاَ تَحِل لِلإِْمَامِ أَوْ الْقَاضِي؛ لأَِنَّ رِزْقَهُمَا فِي بَيْتِ الْمَال (1) .
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْجَابِيَ يَأْخُذُ أُجْرَةَ مِثْلِهِ وَلاَ تَتَقَيَّدُ تِلْكَ الأُْجْرَةُ بِالثُّمُنِ وَلاَ بِالنِّصْفِ، بَل إِنَّ الزَّكَاةَ تُدْفَعُ كُلُّهَا لَهُ إِنْ لَمْ يَفِ بَعْضُهَا بِأُجْرَةِ الْمِثْل.
وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ الْجُبَاةَ لاَ تُدْفَعُ أُجُورُهُمْ مِنَ الزَّكَاةِ إِلاَّ بِوَصْفِ الْفَقْرِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ أَخَذُوا أُجُورَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَال مُقَابِل عَمَلِهِمْ، وَمِثْل الْجُبَاةِ فِي هَذَا حُرَّاسُ زَكَاةِ الْفِطْرِ، أَوْ حُرَّاسُ زَكَاةِ الْمَال، وَأَمَّا مَا سِوَى هَؤُلاَءِ مِنَ الْعَامِلِينَ فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أُجُورَهُمْ مِنَ الزَّكَاةِ بِأَحَدِ وَصْفَيْنِ: الْفَقْرُ، أَوِ الْعَمَل، أَوْ بِهِمَا مَعًا.
إِنْ لَمْ يَفِ أَحَدُهُمَا بِالأُْجْرَةِ، وَلاَ يَأْخُذُ الْجَابِي
__________
(1) الاختيار 1 / 119، وتبيين الحقائق 1 / 297، وفتح القدير مع العناية 2 / 16 - 17، والفتاوى الهندية 1 / 188.(15/93)
عِنْدَهُمْ بِوَصْفِ الْعَزْمِ إِذَا كَانَ مِدْيَانًا بِإِعْطَاءِ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّهُ يَقْسِمُهَا فَلاَ يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ (1) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وُجُوبُ صَرْفِ جَمِيعِ الزَّكَاةِ إِلَى جَمِيعِ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، مَعَ وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ حِصَصِ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، فَيَكُونُ لِكُل صِنْفٍ مِنَ الأَْصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ ثُمُنُ مَا جُمِعَ مِنَ الزَّكَاةِ.
وَيَسْتَحِقُّ الْعَامِل عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ جَابٍ وَغَيْرِهِ قَدْرَ أُجْرَةِ عَمَلِهِ قَل أَمْ كَثُرَ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ نَصِيبُهُ مِنَ الزَّكَاةِ وَهُوَ الثُّمُنُ قَدْرَ أُجْرَتِهِ فَقَطْ أَخَذَهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَتِهِ أَخَذَ أُجْرَتَهُ وَالْبَاقِي لِلأَْصْنَافِ بِلاَ خِلاَفٍ؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ مُنْحَصِرَةٌ فِي الأَْصْنَافِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لِلْعَامِل فِيهَا حَقٌّ تَعَيَّنَ الْبَاقِي لِلأَْصْنَافِ، وَإِنْ كَانَ أَقَل مِنْ أُجْرَتِهِ وَجَبَ إِتْمَامُ أُجْرَتِهِ بِلاَ خِلاَفٍ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ فِي الْجِهَةِ الَّتِي تُتَمَّمُ مِنْهَا تِلْكَ الأُْجْرَةُ أَرْبَعَ طُرُقٍ الصَّحِيحُ مِنْهَا عِنْدَهُ وَعِنْدَ الأَْصْحَابِ كَمَا جَاءَ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهَا عَلَى قَوْلَيْنِ: أَصَحُّهُمَا يُتَمَّمُ مِنْ سِهَامِ بَقِيَّةِ الأَْصْنَافِ وَهَذَا الْخِلاَفُ إِنَّمَا هُوَ فِي جَوَازِ التَّتْمِيمِ مِنْ سِهَامِ بَقِيَّةِ الأَْصْنَافِ.
وَأَمَّا بَيْتُ الْمَال فَيَجُوزُ التَّتْمِيمُ مِنْهُ بِلاَ
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 139، والدسوقي 1 / 495، والزرقاني 2 / 177، ومواهب الجليل 349 - 350، والخرشي مع حاشية العدوي 2 / 217.(15/93)
خِلاَفٍ، فَلَوْ رَأَى الإِْمَامُ أَنْ يَجْعَل أُجْرَةَ الْعَامِل كُلَّهَا مِنْ بَيْتِ الْمَال وَيَقْسِمَ جَمِيعَ الزَّكَوَاتِ عَلَى بَقِيَّةِ الأَْصْنَافِ جَازَ؛ لأَِنَّ بَيْتَ الْمَال لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا مِنَ الْمَصَالِحِ، صَرَّحَ بِهَذَا كُلِّهِ صَاحِبُ الشَّامِل وَآخَرُونَ، وَنَقَل الرَّافِعِيُّ اتِّفَاقَ الأَْصْحَابِ عَلَيْهِ (1) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ لِلإِْمَامِ تَعْيِينَ أُجْرَةِ الْجَابِي قَبْل بَعْثِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَاعِيًا وَلَمْ يَجْعَل لَهُ أُجْرَةً فَلَمَّا جَاءَ أَعْطَاهُ (2) ، فَإِنْ عَيَّنَ لَهُ أُجْرَةً دَفَعَهَا إِلَيْهِ. وَإِلاَّ دَفَعَ إِلَيْهِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ. وَيَدْفَعُ مِنْهَا أُجْرَةَ الْحَاسِبِ، وَالْكَاتِبِ، وَالْعَدَّادِ، وَالسَّائِقِ، وَالرَّاعِي، وَالْحَافِظِ، وَالْحَمَّال، وَالْكَيَّال، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ مِنْ مُؤْنَتِهَا فَقُدِّمَ عَلَى غَيْرِهِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْبَدْءُ بِالْعَامِل لأَِنَّهُ يَأْخُذُ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ، وَغَيْرُهُ يَأْخُذُ عَلَى وَجْهِ الْمُوَاسَاةِ (3) .
ثَالِثًا - كَيْفِيَّةُ جِبَايَةِ الزَّكَاةِ:
15 - الْمَال الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْهُ مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْل وَمِنْهُ مَا لاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ، فَالْمَال الَّذِي لاَ يُعْتَبَرُ
__________
(1) المجموع 6 / 188 ط السلفية.
(2) حديث: " بعث عمر ساعيا ولم يجعل له أجرة، فلما جاء أعطاه ". أخرجه مسلم (2 / 723 ط الحلبي) .
(3) الكافي 1 / 331 - 332 ط المكتب الإسلامي، والمجموع 6 / 187.(15/94)
فِيهِ الْحَوْل كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ لاَ يُجْبَى إِلاَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ وَهُوَ وَقْتُ إِدْرَاكِ الثِّمَارِ وَاشْتِدَادِ الْحَبِّ. وَلَكِنْ يُخْرَصُ، أَيْ يُقَدَّرُ مَا فِيهِ مِنَ الثَّمَرِ لِتَحْدِيدِ الْوَاجِبِ فِيهِ مِنَ الزَّكَاةِ. وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيل مُصْطَلَحَ: (خَرْصٌ) .
وَأَمَّا الْمَال الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْل كَزَكَاةِ النَّعَمِ مَثَلاً، فَإِنَّ السَّاعِيَ يُعَيِّنُ شَهْرًا مُحَدَّدًا مِنَ السَّنَةِ يَأْتِي فِيهِ أَصْحَابَ الأَْمْوَال لِجِبَايَةِ زَكَاتِهِ.
وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّهْرَ هُوَ الْمُحَرَّمَ لأَِنَّهُ أَوَّل السَّنَةِ، وَيُسْتَحَبُّ عَدُّ الْمَاشِيَةِ عَلَى مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ عَلَى الْمَاءِ أَوْ فِي الأَْفْنِيَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ النَّاسِ عَلَى مِيَاهِهِمْ، أَوْ عِنْدَ أَفْنِيَتِهِمْ (1) وَإِنْ أَخْبَرَهُ صَاحِبُ الْمَال بِعَدَدِهِ قَبِل مِنْهُ، وَإِنْ قَال لَمْ يَكْمُل الْحَوْل أَوْ فَرَّقْتُ زَكَاتَهُ وَنَحْوَ هَذَا مِمَّا يَمْنَعُ الأَْخْذَ مِنْهُ قَبِل مِنْهُ وَلَمْ يُحَلِّفْهُ، لأَِنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ وَحَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَحْلِفُ عَلَيْهَا كَالصَّلاَةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يَأْخُذَ كَرَائِمَ الْمَال لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ (2)
__________
(1) حديث: " تؤخذ صدقات الناس على مياههم أو عند أفنيتهم ". أخرجه أحمد (2 / 185 - ط الميمنية) وأبو داود الطيالسي (ص 299 ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمر، وإسناده حسن.
(2) حديث: " فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 357 ط السلفية) .(15/94)
وَذَلِكَ لأَِنَّ الزَّكَاةَ مُوَاسَاةٌ لِلْفُقَرَاءِ فَلاَ يُنَاسِبُ ذَلِكَ الإِْجْحَافَ بِمَال الأَْغْنِيَاءِ. وَلاَ يَأْخُذُ مِنْ أَرْدَئِهَا بَل يَأْخُذُ الْوَسَطَ.
وَيُسْتَحَبُّ لِلْجَابِي إِذَا قَبَضَ الصَّدَقَةَ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُزَكِّي (1) ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَل عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (2) وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى قَال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَال: اللَّهُمَّ صَل عَلَى آل فُلاَنٍ فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَةٍ فَقَال: اللَّهُمَّ صَل عَلَى آل أَبِي أَوْفَى (3) وَلاَ يَجِبُ الدُّعَاءُ. قَال ابْنُ حَجَرٍ: لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَعَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّعَاةَ؛ وَلأَِنَّ سَائِرَ مَا يَأْخُذُهُ الإِْمَامُ مِنَ الْكَفَّارَاتِ وَالدُّيُونِ وَغَيْرِهِمَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا الدُّعَاءُ، فَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ، وَأَمَّا الآْيَةُ فَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ خَاصًّا بِهِ لِكَوْنِ صَلاَتِهِ سَكَنًا بِخِلاَفِ غَيْرِهِ.
وَمِنَ الدُّعَاءِ أَنْ يَقُول: آجَرَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ، وَجَعَلَهُ اللَّهُ طَهُورًا، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُعْطِي أَنْ يَقُول: اللَّهُمَّ
__________
(1) روضة الطالبين 2 / 210 ط المكتب الإسلامي، والكافي 1 / 329 ط المكتب الإسلامي، وفتح الباري 3 / 360 ط الرياض.
(2) سورة التوبة / 103.
(3) حديث: " كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صلى على آل فلان ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 361 - ط السلفية) ، ومسلم (2 / 756 - ط الحلبي) .(15/95)
اجْعَلْهَا مَغْنَمًا وَلاَ تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا (1) .
وَنُقِل وَجْهٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ دُعَاءَ قَابِضِ الصَّدَقَةِ لِدَافِعِهَا وَاجِبٌ عَمَلاً بِظَاهِرِ الآْيَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَل عَلَيْهِمْ} (2) .
رَابِعًا - جِبَايَةُ الْفَيْءِ:
16 - الْفَيْءُ مِنْ مَوَارِدِ بَيْتِ الْمَال، وَهُوَ الْمَال الْمَأْخُوذُ مِنَ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلاَ إِيجَافِ خَيْلٍ أَوْ رِكَابٍ.
وَيَشْمَل الْفَيْءُ عَدَدًا مِنَ الأَْمْوَال مِنْهَا مَا هَرَبَ عَنْهُ الْكُفَّارُ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَمِنْهَا الْجِزْيَةُ، وَالْخَرَاجُ، وَالْعُشُورُ. (3)
أ - جِبَايَةُ الْجِزْيَةِ:
17 - الْجِزْيَةُ لُغَةً: اسْمٌ لِلْمَال الْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ (4) .
وَاصْطِلاَحًا عِبَارَةٌ عَنْ وَظِيفَةٍ أَوْ مَالٍ يُؤْخَذُ مِنَ الْكَافِرِ فِي كُل عَامٍ مُقَابِل إِقَامَتِهِ فِي دِيَارِ الإِْسْلاَمِ (5) .
__________
(1) نيل الأوطار 4 / 217 - 218 ط الجيل، وفتح الباري 3 / 361 - 362.
(2) سورة التوبة / 103.
(3) روضة الطالبين 6 / 354، والفتاوى الهندية 2 / 205، وجواهر الإكليل 1 / 260، وكشاف القناع 3 / 100، ط النصر، والمغني 6 ط الرياض.
(4) لسان العرب والمصباح المنير وأساس البلاغة.
(5) الفتاوى الهندية 2 / 244، وجواهر الإكليل 1 / 226، وكفاية الأخيار 2 / 133، والمغني 8 / 495 ط الرياض.(15/95)
أَمَّا الإِْنَابَةُ فِي أَدَائِهَا وَمِقْدَارُهَا وَمَتَى تَجِبُ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ مُصْطَلَحِ: (جِزْيَةٌ) .
18 - وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ جِبَايَتِهَا فَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمُ الْخُرَاسَانِيُّونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ صُوَرًا لِكَيْفِيَّةِ الصَّغَارِ مِنْهَا: الْوَارِدُ فِي الآْيَةِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ وَهُوَ قَائِمٌ، وَيَكُونُ الْقَابِضُ قَاعِدًا، وَتَكُونُ يَدُ الْقَابِضِ أَعْلَى مِنْ يَدِ الذِّمِّيِّ، وَيَقُول لَهُ الْقَابِضُ أَعْطِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ (1) .
وَقَال النَّوَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ: إِنَّ الأَْصَحَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَفْسِيرُ الصَّغَارِ بِالْتِزَامِ أَحْكَامِ الإِْسْلاَمِ وَجَرَيَانِهَا عَلَيْهِمْ، وَنَقَل عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ نَحْوَهُ مِنْ كَلاَمِ الشَّافِعِيِّ فِي الأُْمِّ فَقَدْ قَال: إِنْ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ أَخَذَهَا بِأَحْمَالٍ وَلَمْ يُضَرَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَمْ يَنَلْهُ بِقَوْلٍ قَبِيحٍ. قَالُوا: وَأَشَدُّ الصَّغَارِ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِمَا لاَ يَعْتَقِدُهُ وَيُضْطَرَّ إِلَى احْتِمَالِهِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ مِنْ أَنَّ أَهْل الذِّمَّةِ لاَ يُعَذَّبُونَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ (2) .
فَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَال: مَرَّ هِشَامُ بْنُ
__________
(1) الاختيار 4 / 139 ط المعرفة، وجواهر الإكليل 1 / 267، ونهاية المحتاج 8 / 89، والمغني 8 / 537.
(2) ابن عابدين 3 / 270 - 271، والاختيار 4 / 139، وجواهر الإكليل 1 / 267، والدسوقي ابن عابدين 3 / 270 - 271، والاختيار 4 / 139، وجواهر الإكليل 1 / 267، والدسوقي 2 / 202، والخرشي 3 / 145، وحاشية قليوبي 4 / 232 - 233، وروضة الطالبين 10 / 315 - 316، ونهاية المحتاج 8 / 89، وكشاف القناع 3 / 123، والمغني 8 / 537.(15/96)
حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَلَى أُنَاسٍ مِنَ الأَْنْبَاطِ بِالشَّامِ قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ فَقَال: مَا شَأْنُهُمْ؟ قَالُوا: حُبِسُوا فِي الْجِزْيَةِ، فَقَال هِشَامٌ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا (1) .
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِمَالٍ كَثِيرٍ، قَال أَبُو عُبَيْدٍ: أَحْسَبُهُ الْجِزْيَةَ فَقَال: إِنِّي لأََظُنُّكُمْ قَدْ أَهْلَكْتُمُ النَّاسَ؟ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَخَذْنَا إِلاَّ عَفْوًا صَفْوًا قَال: بِلاَ سَوْطٍ وَلاَ نَوْطٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَل ذَلِكَ عَلَى يَدِيَّ وَلاَ فِي سُلْطَانِي (2) .
ب - جِبَايَةُ الْخَرَاجِ:
19 - الْخَرَاجُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلْكِرَاءِ وَالْغَلَّةِ وَمِنْهُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ (3) وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَا وُضِعَ عَلَى رِقَابِ الأَْرْضِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا لِبَيْتِ الْمَال. وَالأَْرْضُ الْمُخْتَصَّةُ بِوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا هِيَ الَّتِي صُولِحَ عَلَيْهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَرْضِهِمْ عَلَى أَنَّهَا لَهُمْ وَلَنَا عَلَيْهَا الْخَرَاجُ. وَكَذَلِكَ الأَْرْضُ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً عِنْدَ
__________
(1) حديث: " إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا ". أخرجه مسلم (4 / 2018 - ط الحلبي) .
(2) الأموال للقاسم بن سلام ص 43. ط التجارية.
(3) حديث: " الخراج بالضمان ". أخرجه أبو داود (3 / 780 - تحقيق عزت عبيد دعاس) والحاكم (2 / 15 ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(15/96)
مَنْ يَقُول بِوَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا (1) .
فَأَمَّا مِقْدَارُ الْخَرَاجِ الْمَأْخُوذِ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (خَرَاجٌ) .
ج - جِبَايَةُ عُشُورِ أَهْل الذِّمَّةِ:
20 - الْعُشْرُ ضَرِيبَةٌ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ عَنْ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي يَتَرَدَّدُونَ بِهَا مُتَاجِرِينَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ يَدْخُلُونَ بِهَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ، أَوْ يَنْتَقِلُونَ بِهَا مِنْ بَلَدٍ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، تُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ مَرَّةً مَا لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ ثُمَّ يَعُودُوا إِلَيْهَا مِثْلُهَا عُشُورُ أَهْل الْحَرْبِ مِنَ التُّجَّارِ كَذَلِكَ إِذَا دَخَلُوا بِتِجَارَتِهِمْ إِلَيْنَا مُسْتَأْمِنِينَ (2) .
مَا يُشْتَرَطُ فِي جَابِي الْخَرَاجِ:
21 - يُرْسِل الإِْمَامُ بَعْضَ أَهْل الْخِبْرَةِ لِيُقَدِّرَ مَا يُوضَعُ عَلَى الأَْرَضِينَ الْخَرَاجِيَّةِ مِنَ الْخَرَاجِ فَإِذَا اسْتَقَرَّ ذَلِكَ وَعُلِمَ يُرْسِل الإِْمَامُ مَنْ يَجْبِي الْخَرَاجَ فِي مَوْعِدِهِ حَسَبَ التَّقْدِيرِ السَّابِقِ، وَيُشْتَرَطُ فِي مَنْ يَقُومُ بِجِبَايَةِ عُمُومِ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ أَمْوَال الْفَيْءِ مِنْ خَرَاجٍ وَغَيْرِهِ، الإِْسْلاَمُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالأَْمَانَةُ، وَالاِضْطِلاَعُ بِالْحِسَابِ وَالْمِسَاحَةِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ
__________
(1) المصباح مادة: (خرج) ، والأحكام السلطانية للماوردي ص 146 - 148 ط المكتبة العلمية.
(2) الموسوعة الفقهية 8 / 246 ف 9.(15/97)
يَكُونَ فَقِيهًا مُجْتَهِدًا؛ لأَِنَّهُ يَتَوَلَّى قَبْضَ مَا اسْتَقَرَّ بِوَضْعِ غَيْرِهِ (1) .
فَإِنْ كَانَتْ وِلاَيَتُهُ عَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ أَمْوَال الْفَيْءِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مَا وَلِيَهُ مِنْهَا، وَحِينَئِذٍ لاَ يَخْلُو حَالُهُ عَنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ لاَ يَسْتَغْنِيَ فِيهِ عَنْ الاِسْتِنَابَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَغْنِ فِيهِ عَنْ الاِسْتِنَابَةِ اعْتُبِرَ فِيهِ الإِْسْلاَمُ وَالْحُرِّيَّةُ مَعَ اضْطِلاَعِهِ بِشُرُوطِ مَا وَلِيَ مِنْ مِسَاحَةٍ أَوْ حِسَابٍ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا وَلاَ عَبْدًا لأَِنَّ فِيهَا وِلاَيَةً، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْ الاِسْتِنَابَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لأَِنَّهُ كَالرَّسُول الْمَأْمُورِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ ذِمِّيًّا فَيُنْظَرُ فِيمَا رُدَّ إِلَيْهِ مِنْ مَال الْفَيْءِ، فَإِنْ كَانَتْ مُعَامَلَتُهُ فِيهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ كَالْخَرَاجِ الْمَوْضُوعِ عَلَى رِقَابِ الأَْرَضِينَ إِذَا صَارَتْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَفِي جَوَازِ كَوْنِهِ ذِمِّيًّا وَجْهَانِ. هَذَا وَإِذَا بَطَلَتْ وِلاَيَةُ الْعَامِل فَقَبَضَ مَال الْفَيْءِ مَعَ فَسَادِ وِلاَيَتِهِ بَرِئَ الدَّافِعُ مِمَّا عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَنْهَهُ عَنِ الْقَبْضِ؛ لأَِنَّ الْقَابِضَ مِنْهُ مَأْذُونٌ لَهُ، وَإِنْ فَسَدَتْ وِلاَيَتُهُ وَجَرَى فِي الْقَبْضِ مَجْرَى الرَّسُول، وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ صِحَّةِ وِلاَيَتِهِ وَفَسَادِهَا أَنَّ لَهُ الإِْجْبَارَ عَلَى الدَّفْعِ مَعَ صِحَّةِ الْوِلاَيَةِ وَلَهُ الإِْجْبَارَ مَعَ فَسَادِهَا، فَإِنْ نُهِيَ عَنِ الْقَبْضِ مَعَ فَسَادِ وِلاَيَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْقَبْضُ وَلاَ الإِْجْبَارُ وَلَمْ يَبْرَأَ الدَّافِعُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 130 ط العلمية، والأحكام السلطانية لأبي يعلى 2 / 157 ط مصطفى الحلبي.(15/97)
إِذَا عَلِمَ بِنَهْيِهِ. وَفِي بَرَاءَتِهِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالنَّهْيِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى عَزْل الْوَكِيل إِذَا تَصَرَّفَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِالْعَزْل (1) .
هَذَا وَيُعَيِّنُ الْجَابِي شَهْرًا مِنَ السَّنَةِ لِجِبَايَةِ تِلْكَ الأَْمْوَال، وَأَمَّا مَا يَأْخُذُهُ مُقَابِل عَمَلِهِ فَهُوَ كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ كِفَايَةُ سَنَةٍ وَيُقَدِّمُهُ الإِْمَامُ عَلَى غَيْرِهِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ آل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) .
مُحَاسَبَةُ الإِْمَامِ لِلْجُبَاةِ:
22 - يَجِبُ عَلَى الإِْمَامِ مُحَاسَبَةُ الْجُبَاةِ تَأَسِّيًا بِرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِنَّهُ فَعَل ذَلِكَ فَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَل رَجُلاً مِنَ الأَْسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ (3) وَهُوَ أَصْلٌ فِي مُحَاسَبَةِ الْجُبَاةِ.
وَيَجِبُ عَلَى الْجُبَاةِ أَنْ يَكُونُوا صَادِقِينَ مَعَ الإِْمَامِ فَلاَ يُخْفُوا شَيْئًا مِنَ الْمَال الَّذِي جَمَعُوهُ لأَِنَّهُ مِنَ الأَْمَانَةِ (4) . وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُول وَتَخُونُوا
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 130 - 131 ط العلمية، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 125 وما قبلها ط الحلبي.
(2) الخرشي 3 / 129 ط. بولاق، والدسوقي 2 / 190 ط الفكر، وجواهر الإكليل 1 / 260 ط. المعرفة.
(3) حديث: " استعمل رجلا من الأسد على صدقات بني سليم ". أخرجه البخاري (الفتح 3 / 365 - 366 ط السلفية) .
(4) فتح الباري 3 / 365 - 366 ط. الرياض.(15/98)
أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) .
وَقَدْ تَوَعَّدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَفْعَل ذَلِكَ، فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَدِيِّ أَبِي عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَال: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولاً يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَال: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ الأَْنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَال يَا رَسُول اللَّهِ: اقْبَل عَنِّي عَمَلَكَ قَال: وَمَا لَكَ؟ قَال: سَمِعْتُكَ تَقُول كَذَا وَكَذَا قَال: وَأَنَا أَقُول الآْنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى (2) .
وَلَيْسَ لِلْجُبَاةِ أَنْ يَدَّعُوا أَنَّ بَعْضَهُ أُهْدِيَ إِلَيْهِمْ، وَمَا أُهْدِيَ إِلَيْهِمْ بِسَبَبِ الْعَمَل يُرَدُّ إِلَى بَيْتِ الْمَال لأَِنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْبَل ذَلِكَ مِنِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ حِينَ قَدِمَ بَعْدَ أَنِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الصَّدَقَةِ وَقَال: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي أُهْدِيَ لِي، بَل قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَال: مَا بَال عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُول: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَفَلاَ قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لاَ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَنَال أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ
__________
(1) سورة الأنفال / 27.
(2) حديث: " من استعملناه منكم على عمل فكتمنا. . . " أخرجه مسلم (3 / 1465 ط. الحلبي) .(15/98)
الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ، بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ (1) ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عَفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَال: اللَّهُمَّ هَل بَلَّغْتُ مَرَّتَيْنِ (2) ".
__________
(1) تيعر: تصيح بفتح العين وكسرها واليعار صوت الشاة.
(2) حديث: " ما بال عامل أبعثه فيقول. . . ". أخرجه البخاري (الفتح 13 / 164 ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1463 ط. الحلبي) من حديث أبي حميد الساعدي.(15/99)
جَبٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَبُّ لُغَةً الْقَطْعُ، وَمِنْهُ الْمَجْبُوبُ، وَهُوَ الَّذِي اسْتُؤْصِل ذَكَرُهُ وَخُصْيَاهُ.
وَالْجَبُّ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ: قَطْعُ الذَّكَرِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ بِحَيْثُ لاَ يَبْقَى مِنْهُ مَا يَتَأَتَّى بِهِ الْوَطْءُ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْعُنَّةُ:
2 - الْعُنَّةُ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى إِتْيَانِ النِّسَاءِ مَعَ وُجُودِ الآْلَةِ (2) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ ظَاهِرٌ فَإِنَّ عَدَمَ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الْجَبِّ يَكُونُ لِقَطْعِ الْمَذَاكِيرِ. وَالْعَجْزُ عَنْ إِتْيَانِ الزَّوْجَةِ فِي الْعُنَّةِ يَكُونُ لِدَاءٍ يَمْنَعُ مِنْ الاِنْتِشَارِ (3) .
__________
(1) النهاية لابن الأثير، وتهذيب الأسماء واللغات، والمغرب مادة: (جب) ، وكشاف القناع 5 / 105، وفتح القدير 4 / 128، والقليوبي 3 / 261، وكفاية الطالب الرباني 2 / 85، ونشر دار المعرفة.
(2) فتح القدير 4 / 128 نشر دار إحياء التراث العربي.
(3) نهاية المحتاج 6 / 303 ط مصطفى الحلبي.(15/99)
ب - الْخِصَاءُ:
3 - الْخِصَاءُ: هُوَ فَقْدُ الْخُصْيَتَيْنِ خِلْقَةً، أَوْ بِقَطْعٍ، أَوْ سَلٍّ لَهُمَا (1) . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَبِّ وَالْخِصَاءِ وَاضِحٌ.
ج - الْوِجَاءُ:
4 - الْوِجَاءُ: هُوَ اسْمُ مَصْدَرِ وَجَأَ يَجَأُ: أَيْ ضَرَبَ وَدَقَّ وَهُوَ أَنْ تُرَضَّ خُصْيَتَا الْفَحْل رَضًّا شَدِيدًا يُذْهِبُ شَهْوَةَ الْجِمَاعِ. فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَبِّ وَاضِحٌ إِذِ الْمَوْجُوءُ لَمْ يُقْطَعْ ذَكَرُهُ، بَل هُوَ شَبِيهٌ بِالْخَصِيِّ. إِلاَّ أَنَّ خُصْيَتَيْهِ لاَ أَثَرَ لَهُمَا مَعَ وُجُودِهِمَا (2) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الْجَبَّ مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي تُثْبِتُ لِلزَّوْجَةِ الْخِيَارَ بَيْنَ التَّفْرِيقِ وَالْبَقَاءِ مَتَى عَلِمَتْ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْجَبَّ يَمْنَعُ الْمَقْصُودَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَهُوَ الْوَطْءُ (3) إِلاَّ أَنَّ هُنَاكَ اخْتِلاَفًا وَتَفْصِيلاً فِي بَعْضِ الأَْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجَبِّ أَهَمُّهَا مَا يَلِي:
الْجَبُّ الْحَادِثُ بَعْدَ الدُّخُول:
6 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ
__________
(1) المغرب، والقليوبي 2 / 197، وأسنى المطالب 3 / 176.
(2) تاج العروس (وجأ) فتح القدير 4 / 128.
(3) ابن عابدين 2 / 593، وفتح القدير 4 / 131 نشر دار إحياء التراث العربي، والبناية 4 / 761، والزرقاني 3 / 237، وأسنى المطالب 3 / 176، والمغني 6 / 651.(15/100)
الْوَجْهَيْنِ أَنَّ حُدُوثَ الْجَبِّ بَعْدَ الدُّخُول لاَ يُثْبِتُ لِلزَّوْجَةِ الْخِيَارَ بَيْنَ التَّفْرِيقِ وَالْبَقَاءِ، لأَِنَّ حَقَّ الزَّوْجَةِ فِي وَطْأَةٍ وَاحِدَةٍ لِحُصُول الْمَقْصُودِ بِهَا مِنْ تَأَكُّدِ الْمَهْرِ وَالإِْحْصَانِ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا لاَ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ حُكْمًا وَيَجِبُ عَلَيْهِ دِيَانَةً (1) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ إِلَى تَخْيِيرِ الزَّوْجَةِ بَيْنَ فَسْخِ النِّكَاحِ وَإِدَامَتِهِ بِالْجَبِّ مُطْلَقًا قَبْل الدُّخُول أَوْ بَعْدَهُ وَلَوْ بِفِعْلِهَا فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ يُوَرِّثُ الْيَأْسَ مِنَ الْوَطْءِ (2) .
كَيْفِيَّةُ التَّفْرِيقِ لِلْجَبِّ:
7 - إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الزَّوْجَ مَجْبُوبٌ إِمَّا بِإِقْرَارِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ تُخَيَّرُ الزَّوْجَةُ لِلْحَال وَلاَ يُؤَجَّل؛ لأَِنَّ التَّأْجِيل لِرَجَاءِ الْوُصُول إِلَيْهَا وَلاَ يُرْجَى مِنْهُ الْوُصُول فَلَمْ يَكُنْ التَّأْجِيل مُفِيدًا (3) .
وَالْفُرْقَةُ لِلْجَبِّ لاَ تَقَعُ بِلاَ حُكْمِ حَاكِمٍ لأَِنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ أَمْرٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَتَحَرٍّ
__________
(1) مجمع الأنهر 1 / 436، والزيلعي 3 / 23، وحاشية الدسوقي 2 / 279 ط دار الفكر، والمغني 6 / 653 ط الرياض، والكافي 2 / 686، نشر المكتب الإسلامي.
(2) أسنى المطالب 3 / 176، ونهاية المحتاج 6 / 305، والشرواني على تحفة المحتاج 7 / 347، والكافي 2 / 686، والمغني 6 / 651.
(3) بدائع الصنائع 2 / 327، والفواكه الدواني 2 / 69 - 70 نشر دار المعرفة، والشرح الصغير 2 / 476، وأسنى المطالب 3 / 177، ومطالب أولي النهى 5 / 142، نشر المكتب الإسلامي.(15/100)
وَبَذْل جَهْدٍ فِي تَحْرِيرِ سَبَبِهِ وَذَلِكَ كَالطَّلاَقِ بِالإِْعْسَارِ وَالطَّلاَقِ بِالإِْضْرَارِ.
بِهَذَا قَال عَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (1) .
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الأُْصُول - أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بِنَفْسِ اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَضَاءِ كَخِيَارِ مَنْ خَيَّرَهَا زَوْجُهَا (2) .
صِفَةُ الْفُرْقَةِ لِلْجَبِّ:
8 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْفُرْقَةَ بِالْجَبِّ طَلاَقٌ بَائِنٌ لأَِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الزَّوْجِ الإِْمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا فَاتَ وَجَبَ التَّسْرِيحُ بِالإِْحْسَانِ، فَإِنْ سَرَّحَهَا الزَّوْجُ وَإِلاَّ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ، فَكَانَ الْفِعْل مَنْسُوبًا إِلَى الزَّوْجِ، فَكَانَ طَلاَقًا بَائِنًا لِيَتَحَقَّقَ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهَا، وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ النَّافِذُ اللاَّزِمُ لاَ يَحْتَمِل الْفَسْخَ، وَلِهَذَا لاَ يَنْفَسِخُ بِالْهَلاَكِ قَبْل التَّسْلِيمِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ فَسْخٌ لاَ طَلاَقٌ؛ لأَِنَّهُ رَدٌّ لِعَيْبٍ فَكَانَ فَسْخًا كَرَدِّ الْمُشْتَرِي (3) .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 / 325، وحاشية الشلبي بهامش الزيلعي 3 / 24، ومواهب الجليل 3 / 489، وقليوبي وعميرة 3 / 264، وشرح منتهى الإرادات 3 / 52 ط عالم الكتب، والمغني 6 / 654.
(2) قليوبي وعميرة 3 / 264، وحاشية الشلبي بهامش الزيلعي 3 / 24.
(3) فتاوى قاضيخان بهامش الهندية 1 / 413، والزيلعي 3 / 23، وابن عابدين 2 / 593، والتاج والإكليل بهامش الحطاب 3 / 488، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 289 ط دار الكتب العلمية، والكافي 2 / 687، نشر المكتب الإسلامي.(15/101)
نَسَبُ وَلَدِ امْرَأَةِ الْمَجْبُوبِ:
9 - ذَهَبَ أَبُو سُلَيْمَانَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالإِْصْطَخْرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَجْبُوبَ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَيُحْكَى ذَلِكَ قَوْلاً لِلشَّافِعِيِّ كَمَا أَنَّهُ ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ (1) .
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ - وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّ الْمَجْبُوبَ لاَ يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُنْزِل وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنْ يُخْلَقَ لَهُ وَلَدٌ (2) . وَقَال الْمَالِكِيَّةُ - وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِ التُّمُرْتَاشِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ -: يُسْأَل أَهْل الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ لَزِمَهُ الْوَلَدُ، وَإِلاَّ لَمْ يَلْزَمْهُ (3) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي شُرُوطِ التَّفْرِيقِ لِلْجَبِّ، وَأَثَرِ التَّفْرِيقِ بِالْجَبِّ عَلَى الْمَهْرِ وَعِدَّةِ امْرَأَةِ الْمَجْبُوبِ (ر: طَلاَقٌ، عِدَّةٌ، عَيْبٌ، مَهْرٌ، نَسَبٌ) .
__________
(1) البناية شرح الهداية 4 / 208، وفتح القدير 3 / 219، والمحلي على المنهاج 4 / 50، والمغني لابن قدامة 7 / 480.
(2) المحلي على المنهاج 4 / 50، والمغني لابن قدامة 7 / 480.
(3) المدونة الكبرى 2 / 445 ط دار صادر، وفتح القدير 3 / 219.(15/101)
جَبْرٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَبْرُ فِي اللُّغَةِ خِلاَفُ الْكَسْرِ. يُقَال: جَبَرَ عَظْمَهُ جَبْرًا أَيْ أَصْلَحَهُ بَعْدَ كَسْرٍ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الإِْحْسَانِ إِلَى الرَّجُل فَيُقَال: جَبَرَهُ جَبْرًا إِذَا أَحْسَن إِلَيْهِ، وَأَغْنَاهُ بَعْدَ فَقْرٍ. وَيَأْتِي بِمَعْنَى التَّكْمِيل فَيُقَال: مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ أَوْ أَتَى بِمَحْظُورٍ فِيهِ: جَبَرَهُ بِالدَّمِ.
كَمَا يُقَال: جَبَرَ الْمُزَكِّي مَا أَخْرَجَهُ إِذَا لَمْ يَجِدِ السِّنَّ الْوَاجِبَ فِي زَكَاةِ إِبِلِهِ فَأَخْرَجَ مَا دُونَهُ وَدَفَعَ الْفَضْل، وَيُسَمَّى دَفْعُ الْفَضْل جُبْرَانًا، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الإِْكْرَاهِ عَلَى الشَّيْءِ، فَيُقَال: جَبَرَهُ عَلَى الأَْمْرِ جَبْرًا، وَحَكَى الأَْزْهَرِيُّ: جَبَرَهُ جُبُورًا وَأَجْبَرَهُ إِجْبَارًا: أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ (1) .
وَالاِصْطِلاَحُ الشَّرْعِيُّ لاَ يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجَبْرِ بِاخْتِلاَفِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ.
فَالْجَبْرُ بِمَعْنَى الإِْكْرَاهِ: قَدْ يَكُونُ مَشْرُوعًا.
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، والمصباح المنير، مادة: (جبر) .(15/102)
كَإِجْبَارِ الْقَاضِي الْمَدِينَ الْمُمْتَنِعِ عَنْ أَدَاءِ الدَّيْنِ الْحَال بِلاَ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ بِطَلَبِ صَاحِبِهِ.
وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ كَإِجْبَارِ الشَّخْصِ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ، أَوْ طَلاَقِ زَوْجَةٍ بِغَيْرِ مُقْتَضًى شَرْعِيٍّ، فَيَحْرُمُ.
أَمَّا الْجَبْرُ بِمَعْنَى التَّكْمِيل فَيَكُونُ إِذَا تَرَكَ وَاجِبًا فِي الْحَجِّ أَوِ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا فِيهِ. وَكَذَا إِذَا لَمْ يَجِدْ فِي زَكَاةِ الإِْبِل السِّنَّ الْوَاجِبَةَ فَأَرَادَ أَنْ يَنْزِل إِلَى مَا تَحْتَهَا فَيَجِبُ دَفْعُ الْجُبْرَانِ عَلَيْهِ.
وَالْجَبْرُ بِمَعْنَى إِصْلاَحِ الْعَظْمِ بَعْدَ كَسْرِهِ مَشْرُوعٌ إِذَا خِيفَ ضَرَرٌ بِفَوَاتِ الْعُضْوِ، أَوْ هَلاَكُ النَّفْسِ. وَتَفْصِيلُهُ فِي: (تَدَاوِي) .
أَمَّا الْجَبْرُ: بِمَعْنَى الإِْجْبَارِ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجْبَارٌ - وَإِحَالاَتُهُ) .
الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ:
3 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ فِي وُجُوبِ الْمَسْحِ عَلَى مَوْضُوعِ الْجَبْرِ إِذَا شُدَّتْ عَلَيْهِ جَبِيرَةٌ، وَهُوَ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَتَعَذَّرَ الْغَسْل عَلَى الْعُضْوِ، أَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغَسْل كَالْجُنُبِ (1) .
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (جَبِيرَةٌ، مَسْحٌ، تَيَمُّمٌ) .
جَبْرُ وَاجِبِ الزَّكَاةِ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 186، وحاشية الجمل 1 / 209، والدسوقي 1 / 164، والإنصاف 1 / 188.(15/102)
فِي زَكَاةِ إِبِلِهِ سِنٌّ مُعَيَّنَةٌ فَلَمْ يَجِدْهَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُول إِلَى مَا تَحْتَهَا مَعَ الْجَبْرِ، وَيُسَمَّى فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ جُبْرَانًا، أَوْ يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ سِنًّا فَوْقَهَا وَيُعْطِي الْمُزَكِّيَ الْجُبْرَانَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْجُبْرَانِ هَل هُوَ مُحَدَّدٌ شَرْعًا؟ فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَبْرَ مُحَدَّدٌ شَرْعًا: وَهُوَ شَاتَانِ، أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَكَمَا يُشْرَعُ الْجُبْرَانُ بَيْنَ سِنٍّ وَسِنٍّ تَالِيَةٍ لَهَا، يُشْرَعُ بَيْنَ السِّنِّ وَالسِّنِّ الأَْعْلَى مِنَ الَّتِي تَلِيهَا إِنْ عَدِمَتِ التَّالِيَةُ فَيَدْفَعُ جُبْرَانَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
فَإِذَا كَانَ وَاجِبُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ فَلَمْ يَجِدْهَا، فَلَهُ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى بِنْتِ لَبُونٍ فَيَأْخُذَ جُبْرَانًا، وَهُوَ شَاتَانِ، أَوْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا، وَإِنْ كَانَ وَاجِبُهُ بِنْتَ لَبُونٍ فَلَمْ يَجِدْهَا، لَهُ أَنْ يَنْزِل إِلَى بِنْتِ مَخَاضٍ، فَيَدْفَعَ الْجُبْرَانَ، وَهَكَذَا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْفَضْل بَيْنَ الْوَاجِبِ وَبَيْنَ مَا لَدَيْهِ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ قِيمَتَيْهِمَا (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ تَحْصِيل الْوَاجِبِ فَلاَ يَجُوزُ لِلسَّاعِي أَخْذُ مَا فَوْقَ الْوَاجِبِ وَدَفْعُ الْجُبْرَانِ. أَمَّا إِذَا نَزَل إِلَى مَا تَحْتَ الْوَاجِبِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنًا جَازَ (2) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ) .
__________
(1) حاشية الجمل 2 / 225 - 226، وكشاف القناع 2 / 189، وفتح القدير 2 / 142 - 143.
(2) حاشية الدسوقي 1 / 434.(15/103)
الْجَبْرُ بِالدَّمِ:
5 - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ: مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ كَالإِْحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الإِْتْيَانِ بِهِ، يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَبْرُ بِالدَّمِ، وَلاَ يُجْبَرُ بِالدَّمِ إِلاَّ مَا كَانَ وَاجِبًا.
أَمَّا أَرْكَانُ الْحَجِّ فَلاَ تُجْبَرُ إِذَا تُرِكَتْ، وَأَمَّا تَفْصِيل مَا يُعْتَبَرُ وَاجِبًا يُجْبَرُ بِالدَّمِ، وَاخْتِلاَفُ الْفُقَهَاءِ فِيهِ، وَنَوْعُ الْجَبْرِ، فَيُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (حَجٌّ) .(15/103)
جَبْهَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَبْهَةُ مِنَ الْوَجْهِ مَعْرُوفَةٌ هِيَ مُسْتَوَى مَا بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ إِلَى النَّاصِيَةِ، وَقَال الأَْصْمَعِيُّ: هِيَ مَوْضِعُ السُّجُودِ، وَالْجَمْعُ جِبَاهٌ (1) .
أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ فَلَهَا إِطْلاَقَانِ: فَالْجَبْهَةُ مِنَ الْوَجْهِ الَّتِي يَجِبُ غَسْلُهَا فِي الْوُضُوءِ، عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ فِي أَبْوَابِ الْوُضُوءِ بِأَنَّهَا مَا ارْتَفَعَ عَنِ الْحَاجِبَيْنِ إِلَى مَبْدَأِ الرَّأْسِ، وَهُوَ أَوَّل شَعْرِ الرَّأْسِ الْمُعْتَادِ، فَتَشْمَل الْجَبِينَيْنِ.
وَعَرَّفُوهَا فِي أَبْوَابِ الصَّلاَةِ بِأَنَّهَا مُسْتَدِيرُ مَا بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ، وَبِأَنَّهَا مَا اكْتَنَفَهُ الْجَبِينَانِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى لاَ تَشْمَل الْجَبِينَيْنِ (2) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْجَبِينُ:
2 - الْجَبِينُ فَوْقَ الصَّدْغِ، وَهُمَا جَبِينَانِ عَنْ يَمِينِ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير والمغرب، مادة: (جبهة) .
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (1 / 86، 240، وكفاية الطالب الرباني 1 / 210، وروضة الطالبين 1 / 255، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 126.(15/104)
الْجَبْهَةِ وَعَنْ شِمَالِهَا فَإِذَا أَرَدْنَا بِالْجَبْهَةِ مُسْتَدِيرَ مَا بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ إِلَى النَّاصِيَةِ فَالْجَبِينُ وَالْجَبْهَةُ مُتَبَايِنَانِ، أَمَّا إِنْ أَرَدْنَا بِالْجَبْهَةِ مَا ارْتَفَعَ عَنِ الْحَاجِبَيْنِ إِلَى مَبْدَأِ الرَّأْسِ فَالْجَبِينُ جُزْءٌ مِنَ الْجَبْهَةِ (1) .
ب - النَّاصِيَةُ:
3 - النَّاصِيَةُ قِصَاصُ الشَّعْرِ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ، وَنُقِل عَنِ الأَْزْهَرِيِّ قَوْلُهُ: النَّاصِيَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ مَنْبِتُ الشَّعْرِ فِي مُقَدَّمِ الرَّأْسِ لاَ الشَّعْرُ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ النَّاصِيَةَ
وَقَدَّرَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِرُبُعِ الرَّأْسِ، لأَِنَّهَا أَحَدُ جَوَانِبِهِ كَمَا عَلَّلَهُ الزَّيْلَعِيُّ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالنَّاصِيَةُ مُقَدَّمُ الرَّأْسِ ابْتِدَاءً مِنْ مَنْبِتِ الشَّعْرِ فَوْقَ الْجَبْهَةِ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجَبْهَةِ:
أَوَّلاً - غَسْل الْجَبْهَةِ فِي الْوُضُوءِ وَمَسْحُهَا فِي التَّيَمُّمِ:
4 - الْجَبْهَةُ جُزْءٌ مِنَ الْوَجْهِ، وَلِهَذَا يَجِبُ غَسْلُهَا فِي الْوُضُوءِ وَمَسْحُهَا فِي التَّيَمُّمِ، وَذَلِكَ بِنَصِّ الآْيَةِ
__________
(1) المصباح المنير ومختار الصحاح مادة: (جبن) ورضة الطالبين 1 / 255، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 / 86، 240، وكفاية الطالب 1 / 210.
(2) المصباح المنير ولسان العرب مادة: (نصي) وتبين الحقائق 1 / 3، والبناية على الهداية 1 / 111، وفتح القدير 1 / 15.(15/104)
الْكَرِيمَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ. . .} (1) .
وَيَدْخُل فِي غَسْل الْجَبْهَةِ أَسَارِيرُهَا، وَهِيَ خُطُوطُ الْجَبْهَةِ وَانْكِمَاشُهَا إِنْ لَمْ تَلْحَقْ بِهِ مَشَقَّةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ (2) . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (وُضُوءٌ، وَتَيَمُّمٌ) .
ثَانِيًا - وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الأَْرْضِ فِي السُّجُودِ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّ أَقَل السُّجُودِ وَضْعُ بَعْضِ جَبْهَةِ الْمُصَلِّي عَلَى مَا يُصَلَّى عَلَيْهِ مِنَ الأَْرْضِ، أَوْ غَيْرِهَا، فَتُفْرَضُ السَّجْدَةُ عَلَى أَيْسَرِ جُزْءٍ مِنَ الْجَبْهَةِ لِمَنْ كَانَ قَادِرًا، وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ السُّجُودَ عَلَيْهَا حَال الاِخْتِيَارِ لاَ يَجْزِيهِ (3) ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَال: أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسْجَدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ: الْجَبْهَةِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ
وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَمَرَّهَا عَلَى أَنْفِهِ وَقَال: هَذَا وَاحِدٌ (4) .
__________
(1) سورة المائدة / 6.
(2) الزرقاني 1 / 56.
(3) البدائع 1 / 105، 210، والإقناع 1 / 125، ونهاية المحتاج 1 / 489، وكفاية الطالب 1 / 210، 211، وروضة الطالبين 1 / 256، وكشاف القناع 1 / 371، وفتح الباري 2 / 296.
(4) حديث ابن عباس: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعضاء: الجبهة، واليدين، والركبتين، والرجلين. أخرجه البخاري (الفتح 2 / 295 - ط السلفية) والنسائي (2 / 210 - ط المكتبة التجارية) .(15/105)
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (سُجُودٌ) .
ثَالِثًا - تَقْبِيل الْجَبْهَةِ:
6 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِجَوَازِ تَقْبِيل الرَّجُل جَبْهَةَ الرَّجُل، وَوَجْهِهِ، وَرَأْسِهِ، إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمَبَرَّةِ وَالإِْكْرَامِ، أَوِ الشَّفَقَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَالْوَدَاعِ، وَاحْتِرَامًا مَعَ أَمْنِ الشَّهْوَةِ (1) .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَانَقَ جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنَ الْحَبَشَةِ وَقَبَّل بَيْنَ عَيْنَيْهِ (2) .
وَلِلتَّفْصِيل يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (تَقْبِيلٌ) .
رَابِعًا - شِجَاجُ الْجَبْهَةِ:
7 - ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنْوَاعَ شِجَاجِ الْوَجْهِ وَالْجَبْهَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فِي الْمُوضِحَةِ مِنْهَا قِصَاصًا إِذَا كَانَتْ عَمْدًا، وَالْمُوضِحَةُ هِيَ الْجَرْحُ الَّذِي يُظْهِرُ الْعَظْمَ بَعْدَ خَرْقِ الْجِلْدَةِ. وَإِنَّمَا شَرْعُ الْقِصَاصِ
__________
(1) ابن عابدين 5 / 245، 246، والبناية على الهداية 9 / 317، 318، 326 - 327، وجواهر الإكليل 1 / 20، والقليوبي 3 / 213، وكشاف القناع 5 / 16، والآداب الشرعية 2 / 270 - 279.
(2) حديث: " أن النبي صلى الله عليه وسلم عانق جعفرا حين قدم من الحبشة وقبل بين عينيه ". أخرجه أبو داود (5 / 392 - تحقيق عزت عبيد دعاس) عن الشعبي به مرسلا، وإسناده ضعيف لإرساله.(15/105)
فِي الْمُوضِحَةِ هُوَ تَيْسِيرُ ضَبْطِهَا وَإِمْكَانُ الاِسْتِيفَاءِ فِيهَا دُونَ حَيْفٍ.
أَمَّا الأَْنْوَاعُ الأُْخْرَى مِنَ الشِّجَاجِ فَلاَ قِصَاصَ فِيهَا لِعُسْرِ ضَبْطِهَا وَصُعُوبَةِ اسْتِيفَاءِ مِثْلِهَا (1) .
وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ بِسَبَبِ عُسْرِ ضَبْطِهَا فَفِيهَا الدِّيَةُ الْمُحَدَّدَةُ لَهَا شَرْعًا، وَإِلاَّ فَحُكُومَةُ عَدْلٍ (2) .
وَتَفْصِيل الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاصٌ - جِنَايَةٌ - دِيَاتٌ - حُكُومَةُ عَدْلٍ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الْجَبْهَةِ فِي مَبَاحِثِ الْوُضُوءِ وَالسَّجْدَةِ، وَمَسَائِل النَّظَرِ وَالْمَسِّ، وَبَحْثِ الْقِصَاصِ وَالْجِنَايَاتِ وَنَحْوِهَا.
__________
(1) ابن عابدين 5 / 354، 372، 373، وقليوبي 4 / 113، 114، والمغني 7 / 703، 704.
(2) حكومة عدل: هي أن ينظر كم مقدار هذه الشجة من الموضحة فيجب بقدر ذلك من نصف عشر الدية (الدر المختار 5 / 373) .(15/106)
جَبِيرَةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَبِيرَةُ لُغَةً: الْعِيدَانُ الَّتِي تُشَدُّ عَلَى الْعَظْمِ لِتَجْبُرَهُ عَلَى اسْتِوَاءٍ.
وَجَمْعُهَا: جَبَائِرُ، وَهِيَ مِنْ جَبَرْتُ الْعَظْمَ جَبْرًا مِنْ بَابِ قَتَل أَيْ: أَصْلَحْتُهُ، فَجَبَرَ هُوَ أَيْضًا، جَبْرًا وَجُبُورًا أَيْ: صَلُحَ، فَيُسْتَعْمَل لاَزِمًا وَمُتَعَدِّيًا، وَجَبَرْتُ الْيَدَ: وَضَعْتُ عَلَيْهَا الْجَبِيرَةَ، وَجَبَرَ الْعَظْمَ: جَبَرَهُ، وَالْمُجَبِّرُ الَّذِي يَجْبُرُ الْعِظَامَ الْمَكْسُورَةَ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ لاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ فَسَرُّوا الْجَبِيرَةَ بِمَعْنًى أَعَمَّ فَقَالُوا: الْجَبِيرَةُ مَا يُدَاوِي الْجُرْحَ سَوَاءٌ أَكَانَ أَعْوَادًا، أَمْ لَزْقَةً، أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ (2) .
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير والمعجم الوسيط مادة: (جبر) .
(2) ابن عابدين 1 / 185، ومنح الجليل 1 / 96، وأسنى المطالب 1 / 81، والمغني 1 / 277.(15/106)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - اللَّصُوقُ وَاللَّزُوقُ
2 - اللَّصُوقُ وَاللَّزُوقُ - بِفَتْحِ اللاَّمِ - مَا يُلْصَقُ عَلَى الْجُرْحِ لِلدَّوَاءِ. قَال فِي الْمِصْبَاحِ: ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْخِرْقَةِ وَنَحْوِهَا إِذَا شُدَّتْ عَلَى الْعُضْوِ لِلتَّدَاوِي (1) .
وَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ: اللَّصُوقُ مَا كَانَ عَلَى جُرْحٍ مِنْ قُطْنَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَالْجَبِيرَةُ مَا كَانَتْ عَلَى كَسْرٍ (2) .
ب - الْعِصَابَةُ:
3 - الْعِصَابَةُ (بِكَسْرِ الْعَيْنِ) اسْمُ مَا يُشَدُّ بِهِ مِنْ عَصَبَ رَأْسَهُ عَصَبَهُ تَعْصِيبًا: شَدَّهُ، وَكُل مَا عُصِبَ بِهِ كَسْرٌ أَوْ قَرْحٌ مِنْ خِرْقَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَهُوَ عِصَابٌ لَهُ، وَتَعَصَّبَ بِالشَّيْءِ: تَقَنَّعَ بِهِ.
وَالْعَمَائِمُ يُقَال لَهَا الْعَصَائِبُ، وَالْعِصَابَةُ: الْعِمَامَةُ (3)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهَا عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْعِصَابَةُ عِنْدَهُمْ أَعَمَّ مِنَ الْجَبِيرَةِ
__________
(1) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (لصق، لزق) .
(2) أسنى المطالب 1 / 81، ومغني المحتاج 1 / 94، والمجموع 2 / 324، تحقيق المطيعي.
(3) لسان العرب، والمصباح المنير مادة: (عصب) ، وابن عابدين 1 / 185، وشرح منتهى الإرادات 1 / 57 - 58.(15/107)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْعِصَابَةُ: مَا يُرْبَطُ فَوْقَ الْجَبِيرَةِ (1) .
حُكْمُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ:
4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ فِي حَالَةِ الْعُذْرِ نِيَابَةً عَنِ الْغَسْل أَوِ الْمَسْحِ الأَْصْلِيِّ فِي الْوُضُوءِ أَوْ الْغُسْل أَوْ التَّيَمُّمِ، عَلَى مَا يَأْتِي: وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَال: كُسِرَ زَنْدِي يَوْمَ أُحُدٍ فَسَقَطَ اللِّوَاءُ مِنْ يَدِي فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلُوهَا فِي يَسَارِهِ فَإِنَّهُ صَاحِبُ لِوَائِي فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ مَا أَصْنَعُ بِالْجَبَائِرِ؟ فَقَال: امْسَحْ عَلَيْهَا (2) .
وَرَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً أَصَابَهُ حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَل أَصْحَابَهُ هَل تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ قَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً، وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَل فَمَاتَ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ. أَلاَ سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَال إِنَّمَا
__________
(1) جواهر الإكليل 1 / 29، والشرح الصغير 1 / 76 ط الحلبي ومنح الجليل 1 / 96.
(2) حديث: " اجعلوها في يساره فإنه صاحب لوائي. . . " أخرجه ابن ماجه (1 / 215 - ط عيسى الحلبي) مختصرا، والبيهقي (1 / 288 - ط دار المعرفة) . وضعفه البوصيري في الزوائد (1 / 84 - ط دار العربية) .(15/107)
كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ (1) وَلأَِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ؛ لأَِنَّ فِي نَزْعِهَا حَرَجًا وَضَرَرًا (2) .
وَالْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ وَاجِبٌ عِنْدَ إِرَادَةِ الطَّهَارَةِ، وَذَلِكَ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ سَيَأْتِي بَيَانُهَا، وَالْوُجُوبُ هُنَا بِمَعْنَى الإِْثْمِ بِالتَّرْكِ مَعَ فَسَادِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلاَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ فَقَطْ مَعَ صِحَّةِ وُضُوئِهِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى قَوْل الصَّاحِبَيْنِ (3) .
وَقَال بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يَغْسِل الصَّحِيحَ وَيَتَيَمَّمُ وَلاَ يَمْسَحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ.
وَفِي حُكْمِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ الْمَسْحُ عَلَى الْعِصَابَةِ أَوْ اللَّصُوقِ، أَوْ مَا يُوضَعُ فِي الْجُرُوحِ مِنْ دَوَاءٍ يَمْنَعُ وُصُول الْمَاءِ - كَدُهْنٍ أَوْ غَيْرِهِ -.
__________
(1) حديث: " قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما. . " أخرجه أبو داود (1 / 239 - 240 - ط عزت عبيد الدعاس) والدارقطني (1 / 189 - 190 - ط شركة الطباعة الفنية) والبيهقي (1 / 228 - ط دار المعرفة) من حديث جابر. وضعفاه. وقال ابن حجر: رواه أبو داود بسند فيه ضعف. وفيه اختلاف على روايته (سبل السلام 1 / 203 - ط دار الكتاب العربي) .
(2) بدائع الصنائع 1 / 13، والمهذب 1 / 44، والمجموع 2 / 323، والمغني 1 / 277 - 278.
(3) ابن عابدين 1 / 185 - 186، والبدائع 1 / 13 - 14، والدسوقي 1 / 163، والمجموع 2 / 326، وكشاف القناع 1 / 120.(15/108)
شُرُوطُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ:
5 - يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ مَا يَأْتِي:
أ - أَنْ يَكُونَ غَسْل الْعُضْوِ الْمُنْكَسِرِ أَوْ الْمَجْرُوحِ مِمَّا يَضُرُّ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَسْحُ عَلَى عَيْنِ الْجِرَاحَةِ مِمَّا يَضُرُّ بِهَا، أَوْ كَانَ يُخْشَى حُدُوثُ الضَّرَرِ بِنَزْعِ الْجَبِيرَةِ.
ب - أَلاَّ يَكُونَ غَسْل الأَْعْضَاءِ الصَّحِيحَةِ يَضُرُّ بِالأَْعْضَاءِ الْجَرِيحَةِ فَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهَا فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ.
وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
ج - قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الأَْعْضَاءُ الصَّحِيحَةُ قَلِيلَةً جِدًّا كَيَدٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ إِذِ التَّافِهُ لاَ حُكْمَ لَهُ (1) .
د - اشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ أَنْ تَكُونَ الْجَبِيرَةُ مَوْضُوعَةً عَلَى طَهَارَةٍ مَائِيَّةٍ لأَِنَّهُ حَائِلٌ يُمْسَحُ عَلَيْهِ فَكَانَ مِنْ شَرْطِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ تَقَدُّمُ الطَّهَارَةِ كَسَائِرِ الْمَمْسُوحَاتِ، فَإِنْ خَالَفَ وَوَضَعَهَا عَلَى غَيْرِ طُهْرٍ وَجَبَ نَزْعُهَا، وَذَلِكَ إِنْ لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا بِنَزْعِهَا، فَإِنْ خَافَ الضَّرَرَ لَمْ يَنْزِعْهَا وَيَصِحُّ مَسْحُهُ عَلَيْهَا، وَيَقْضِي لِفَوَاتِ شَرْطِ وَضْعِهَا عَلَى طُهْرٍ (2) .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهِيَ مُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (قَال عَنْهُ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ
__________
(1) المجموع 2 / 326.
(2) نهاية المحتاج 1 / 269.(15/108)
شَاذٌّ) : لاَ يُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ الطَّهَارَةِ عَلَى شَدِّ الْجَبِيرَةِ. قَال الْخَلاَّل: رَوَى حَرْبٌ وَإِسْحَاقُ وَالْمَرْوَزِيُّ فِي ذَلِكَ سُهُولَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَاحْتَجَّ بِقَوْل ابْنِ عُمَرَ، لأَِنَّ هَذَا مِمَّا لاَ يَنْضَبِطُ وَيَغْلُظُ عَلَى النَّاسِ جِدًّا فَلاَ بَأْسَ بِهِ؛ وَلأَِنَّ الْمَسْحَ عَلَيْهَا جَازَ دَفْعًا لِمَشَقَّةِ نَزْعِهَا، وَنَزْعُهَا يَشُقُّ إِذَا لَبِسَهَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ كَمَشَقَّتِهِ إِذَا لَبِسَهَا عَلَى طَهَارَةٍ (1) .
كَيْفِيَّةُ تَطَهُّرِ وَاضِعِ الْجَبِيرَةِ:
6 - إِذَا أَرَادَ وَاضِعُ الْجَبِيرَةِ الطَّهَارَةَ فَلْيَفْعَل مَا يَأْتِي:
1 - يَغْسِل الصَّحِيحَ مِنْ أَعْضَائِهِ.
2 - يَمْسَحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ.
وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ إِلاَّ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَكْفِيهِ التَّيَمُّمُ وَلاَ يَمْسَحُ الْجَبِيرَةَ بِالْمَاءِ، وَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْمَسْحِ.
وَيَجِبُ اسْتِيعَابُ الْجَبِيرَةِ بِالْمَسْحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمُقَابِلُهُ أَنَّ مَسْحَ الأَْكْثَرِ كَافٍ لأَِنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْكُل ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي
__________
(1) البدائع 1 / 13، 51، والزيلعي 1 / 45، والدسوقي 1 / 164 - 165، والحطاب 1 / 361، والمجموع 1 / 325 - 326، والمغني 1 / 259 - 278 - 279، وكشاف القناع 1 / 113 - 114.(15/109)
الْمَجْمُوعِ أَنَّ فِيهِ وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ أَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الأَْصْحَابِ يَجِبُ الاِسْتِيعَابُ لأَِنَّهُ أُجِيزَ لِلضَّرُورَةِ فَيَجِبُ مَسْحُ الْجَمِيعِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْزِئُهُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الاِسْمُ، لأَِنَّهُ مَسْحٌ عَلَى حَائِلٍ مُنْفَصِلٍ فَهُوَ كَمَسْحِ الْخُفِّ.
هَذَا إِذَا كَانَتِ الْجَبِيرَةُ مَوْضُوعَةً عَلَى قَدْرِ الْجِرَاحَةِ فَقَطْ. فَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً عَنْ قَدْرِ الْجِرَاحَةِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَمْسَحُ عَلَى الزَّائِدِ تَبَعًا إِنْ كَانَ غَسْل مَا تَحْتَ الزَّائِدِ يَضُرُّ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَمْسَحُ مِنَ الْجَبِيرَةِ عَلَى كُل مَا حَاذَى مَحَل الْحَاجَةِ وَلاَ يَجِبُ الْمَسْحُ عَلَى الزَّائِدِ بَدَلاً عَمَّا تَحْتَهَا، وَيَكْفِي الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَحَلٍّ يُغْسَل ثَلاَثًا. قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَهُوَ الأَْصَحُّ، وَمُقَابِلُهُ: يُسَنُّ تَكْرَارُ الْمَسْحِ لأَِنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الْغَسْل، وَالْغَسْل يُسَنُّ تَكْرَارُهُ فَكَذَا بَدَلُهُ، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَكُنْ عَلَى الرَّأْسِ.
3 - زَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ وُجُوبَ التَّيَمُّمِ مَعَ الْغَسْل وَالْمَسْحِ. قَال النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا التَّيَمُّمُ مَعَ غَسْل الصَّحِيحِ وَمَسْحِ الْجَبِيرَةِ بِالْمَاءِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ أَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا وَالَّتِي قَطَعَ الْجُمْهُورُ بِهَا أَنَّ فِيهِ قَوْلَيْنِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وُجُوبُهُ وَهُوَ نَصُّهُ فِي الأُْمِّ وَمُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ وَالْكَبِيرِ، وَالثَّانِي: لاَ يَجِبُ وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْقَدِيمِ وَظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الْمُخْتَصَرِ وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَالْجُرْجَانِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، فِي الْحِلْيَةِ.(15/109)
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ وَصَحَّحَهُ الْمُتَوَلِّي مِنْهُمْ، أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَا تَحْتَ الْجَبِيرَةِ عَلِيلاً لاَ يُمْكِنُ غَسْلُهُ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا وَجَبَ التَّيَمُّمُ كَالْجَرِيحِ، وَإِنْ أَمْكَنَ غَسْلُهُ لَمْ يَجِبِ التَّيَمُّمُ كَلاَبِسِ الْخُفِّ، وَالْمَذْهَبُ الْوُجُوبُ، قَال فِي الْمُهَذَّبِ: لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً أَصَابَهُ حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَل أَصْحَابَهُ هَل تَجِدُونَ رُخْصَةً لِي فِي التَّيَمُّمِ؟ قَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَل فَمَاتَ، فَقَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ (1) .
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ وُجُوبَ التَّيَمُّمِ مَعَ الْغَسْل وَالْمَسْحِ فِي حَالَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: فِيمَا لَوْ وَضَعَ الْجَبِيرَةَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ وَخَافَ مِنْ نَزْعِهَا عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ تَقَدُّمَ الطَّهَارَةِ شَرْطُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ وَاضِعَ الْجَبِيرَةِ إِذَا جَاوَزَ بِهَا مَوْضِعَ الْحَاجَةِ فَإِنَّهُ يَغْسِل الصَّحِيحَ وَيَمْسَحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ وَيَتَيَمَّمُ لِمَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ. جَاءَ ذَلِكَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ وَشَرْحِ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ وَلَمْ يَذْكُرَا فِيهِ خِلاَفًا. إِلاَّ أَنَّ ابْنَ قُدَامَةَ جَعَلَهُ احْتِمَالاً فَقَال: وَيُحْتَمَل أَنْ يَتَيَمَّمَ مَعَ مَسْحِ الْجَبِيرَةِ فِيمَا إِذَا تَجَاوَزَ بِهَا مَوْضِعَ الْحَاجَةِ؛ لأَِنَّ مَا
__________
(1) حديث " إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب ". تقدم تخريجه ف / 4.(15/110)
عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ يَقْتَضِي الْمَسْحَ وَالزَّائِدَ يَقْتَضِي التَّيَمُّمَ.
4 - إِنْ كَانَتِ الْعِصَابَةُ بِالرَّأْسِ، فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنَ الرَّأْسِ قَدْرُ مَا يَكْفِي الْمَسْحَ عَلَيْهِ مَسَحَ عَلَيْهِ وَإِلاَّ فَعَلَى الْعِصَابَةِ، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَقُول بِأَنَّ الْفَرْضَ هُوَ مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ، كَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ مَنْ يَقُول بِأَنَّ الْفَرْضَ هُوَ مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ كَالْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى الْعِصَابَةِ وَعَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الرَّأْسِ، وَهَذَا فِي الْوُضُوءِ، أَمَّا فِي الْغُسْل فَإِنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى الْعِصَابَةِ، وَيَغْسِل مَا بَقِيَ (1) .
مَا يَنْقُضُ الْمَسْحَ عَلَى الْجَبِيرَةِ:
7 - يَنْتَقِضُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ بِمَا يَأْتِي:
أ - سُقُوطُهَا أَوْ نَزْعُهَا لِبُرْءِ الْكَسْرِ أَوْ الْجُرْحِ. وَعَلَى ذَلِكَ إِنْ كَانَ مُحْدِثًا وَأَرَادَ الصَّلاَةَ تَوَضَّأَ وَغَسَل مَوْضِعَ الْجَبِيرَةِ إِنْ كَانَتِ الْجِرَاحَةُ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَغْسِل مَوْضِعَ الْجَبِيرَةِ لاَ غَيْرُ، لأَِنَّ حُكْمَ الْغَسْل وَهُوَ الطَّهَارَةُ فِي سَائِرِ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 186 - 187، والزيعلي 1 / 45 - 53، والبدائع 1 / 14، والدسوقي 1 / 162 - 165، ومنح الجليل 1 / 96 - 97، وجواهر الإكليل 1 / 30، والمجموع 2 / 323 - 325 - 326، وأسنى المطالب 1 / 82، ونهاية المحتاج 1 / 265 - 266، وكشاف القناع 1 / 114 - 120، وشرح منتهى الإرادات 1 / 62، والمغني 1 / 278 - 279.(15/110)
الأَْعْضَاءِ قَائِمٌ لاِنْعِدَامِ مَا يَرْفَعُهَا وَهُوَ الْحَدَثُ فَلاَ يَجِبُ غَسْلُهَا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَغْسِل مَوْضِعَ الْجَبَائِرِ وَمَا بَعْدَهُ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَبْطُل وُضُوءُهُ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْغُسْل إِنْ كَانَ مَسَحَ عَلَيْهَا فِي غُسْلٍ يَعُمُّ الْبَدَنَ فَيَكْفِي بَعْدَ سُقُوطِهَا وَهُوَ غَيْرُ مُحْدِثٍ غَسْل مَوْضِعِهَا فَقَطْ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى إِعَادَةِ غُسْلٍ وَلاَ وُضُوءٍ؛ لأَِنَّ التَّرْتِيبَ وَالْمُوَالاَةَ سَاقِطَانِ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى.
ب - سُقُوطُ الْجَبِيرَةِ لاَ عَنْ بُرْءٍ يُبْطِل الطَّهَارَةَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الْوُضُوءِ أَوْ اسْتِكْمَال الْغُسْل.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَنْتَقِضُ مَسْحُ الْجَبِيرَةِ فَقَطْ، فَإِذَا سَقَطَتْ لاَ عَنْ بُرْءٍ أَعَادَهَا إِلَى مَوْضِعِهَا وَأَعَادَ مَسْحَهَا فَقَطْ، أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلاَ يَنْتَقِضُ شَيْءٌ فَيُعِيدُ الْجَبِيرَةَ إِلَى مَوْضِعِهَا وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْمَسْحِ. وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلاَةِ. فَإِنْ كَانَ فِي الصَّلاَةِ وَسَقَطَتِ الْجَبِيرَةُ عَنْ بُرْءٍ بَطَلَتِ الصَّلاَةُ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنْ سَقَطَتْ لاَ عَنْ بُرْءٍ بَطَلَتِ الصَّلاَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمَضَى عَلَيْهَا، وَلاَ يَسْتَقْبِل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (1) .
__________
(1) ابن عابدين 1 / 187، والبدائع 1 / 14، والدسوقي 1 / 166، والمجموع 2 / 296 - 329 تحقيق المطيعي، ومغني المحتاج 1 / 95، والمغني 1 / 289، وشرح منتهى الإرادات 1 / 64.(15/111)
الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ:
8 - يُفَارِقُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ تَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْفُرُوقِ حَتَّى أَوْصَلَهَا ابْنُ عَابِدِينَ إِلَى سَبْعَةٍ وَثَلاَثِينَ فَرْقًا. وَأَهَمُّ هَذِهِ الْفُرُوقِ مَا يَلِي:
أ - لاَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ إِلاَّ عِنْدَ الضَّرَرِ بِنَزْعِهَا، وَالْخُفُّ بِخِلاَفِ ذَلِكَ.
ب - الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ مُؤَقَّتٌ بِالْبُرْءِ لاَ بِالأَْيَّامِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ مُؤَقَّتٌ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلْمُقِيمِ وَثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا لِلْمُسَافِرِ، وَهَذَا عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يَتَّفِقُونَ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي تَوْقِيتِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ بِالْبُرْءِ، وَلاَ تَوْقِيتَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ يُنْدَبُ نَزْعُهُ كُل أُسْبُوعٍ.
ج - يُمْسَحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى (الْغُسْل) لأَِنَّ الضَّرَرَ يَلْحَقُ بِنَزْعِهَا، أَمَّا الْخُفُّ فَيَجِبُ نَزْعُهُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى.
د - يُجْمَعُ فِي الْجَبِيرَةِ بَيْنَ مَسْحٍ عَلَى جَبِيرَةِ رِجْلٍ وَغَسْل الأُْخْرَى، بِخِلاَفِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ.
هـ - يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْجَبِيرَةِ بِالْمَسْحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَذَلِكَ بِخِلاَفِ الْخُفِّ.
و لاَ يُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ الطَّهَارَةِ عَلَى وَضْعِ الْجَبِيرَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مُقَابِل الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ، أَمَّا الْخُفُّ(15/111)
فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلُبْسِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ.
ز - يَنْتَقِضُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ بِسُقُوطِهَا أَوْ نَزْعِهَا عَنْ بُرْءٍ بِاتِّفَاقٍ، وَكَذَلِكَ سُقُوطُهَا لاَ عَنْ بُرْءٍ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ. أَمَّا الْخُفُّ فَيَبْطُل الْمَسْحُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا عِنْدَ نَزْعِهِ خِلاَفًا لِمَا اخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنْ أَنَّهُ لاَ يَبْطُل بِالنَّزْعِ قِيَاسًا عَلَى عَدَمِ بُطْلاَنِ الْوُضُوءِ بِإِزَالَةِ شَعْرِ الرَّأْسِ الْمَمْسُوحِ عَلَيْهِ.
ح - لَوْ كَانَ عَلَى عُضْوَيْهِ جَبِيرَتَانِ فَرَفَعَ إِحْدَاهُمَا لاَ يَلْزَمُهُ رَفْعُ الأُْخْرَى، بِخِلاَفِ الْخُفَّيْنِ؛ لأَِنَّ لُبْسَهُمَا جَمِيعًا شَرْطٌ بِخِلاَفِ الْجَبِيرَتَيْنِ.
ط - يُتْرَكُ الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَةِ إِنْ ضَرَّ بِخِلاَفِ الْخُفِّ (1) .
جَحْدٌ
انْظُرْ: إِنْكَارٌ
__________
(1) ابن عابدين 1 / 186 - 187، والبدائع 1 / 14، وجواهر الإكليل 1 / 24 - 25 - 29 - 30، والدسوقي 1 / 163 - 164، ومغني المحتاج 1 / 94 - 95، والمجموع 2 / 324 - 326 تحقيق المطيعي، والمغني 1 / 278 - 280.(15/112)
الْجُحْفَةُ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجُحْفَةُ مَوْضِعٌ عَلَى الطَّرِيقِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، وَكَانَ اسْمُهَا مَهْيَعَةَ، أَوْ مَهِيعَةَ، فَأَجْحَفَ السَّيْل بِأَهْلِهَا فَسُمِّيَتْ جُحْفَةً، وَبِمَا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِهَا الآْنَ إِلاَّ رُسُومٌ خَفِيَّةٌ لاَ يَكَادُ يَعْرِفُهَا إِلاَّ سُكَّانُ الْبَوَادِي، فَلِذَا اخْتَارَ النَّاسُ الإِْحْرَامَ احْتِيَاطًا مِنَ الْمَكَانِ الْمُسَمَّى بِرَابِغٍ الَّذِي عَلَى يَسَارِ الذَّاهِبِ إِلَى مَكَّةَ وَقَبْل الْجُحْفَةِ بِنِصْفِ مَرْحَلَةٍ أَوْ قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَهِيَ مِيقَاتُ أَهْل الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ. وَهِيَ أَحَدُ الْمَوَاقِيتِ الْخَمْسَةِ الَّتِي لاَ يَجُوزُ تَجَاوُزُهَا لِقَاصِدِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلاَّ مُحْرِمًا، وَقَدْ جُمِعَتْ فِي قَوْلِهِ:
عِرْقُ الْعِرَاقِ يَلَمْلَمُ الْيَمَنِ
وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ يُحْرِمُ الْمَدَنِي
لِلشَّامِ جُحْفَةٌ إِنْ مَرَرْتَ بِهَا
وَلأَِهْل نَجْدٍ قَرْنٌ فَاسْتَبِنِ (1)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوْطِنُ الْبَحْثِ:
2 - أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْجُحْفَةَ مِيقَاتُ
__________
(1) مختار الصحاح مادة: (جحف) ، وابن عابدين 2 / 153، ومواهب الجليل 3 / 30، 31، والقليوبي 2 / 93 ط دار إحياء الكتب العربية، وكشاف القناع 2 / 400، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري 4 / 494، 5 / 157 - 158.(15/112)
أَهْل الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ وَمَنْ مَرَّ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: وَقَّتَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لأَِهْل الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَِهْل الشَّامِ الْجُحْفَةَ وَلأَِهْل نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِل، وَلأَِهْل الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، وَقَال: فَهُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ (1)
وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ الْكَلاَمَ حَوْل تَجَاوُزِهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ فِي كِتَابِ الْحَجِّ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنِ الْمَوَاقِيتِ (2) .
جُحُودٌ
انْظُرْ: إِنْكَارٌ.
جِدَارٌ
انْظُرْ: حَائِطٌ
__________
(1) حديث ابن عباس: " وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة. . " الحديث. أخرجه البخاري (الفتح 3 / 388 - ط السلفية) .
(2) ابن عابدين 2 / 152، 153، 154، والاختيار لتعليل المختار ط دار المعرفة 1 / 141، 142، والقواعد الفقهية 135، 136، والقليوبي 2 / 92، 93، والمغني 3 / 257، 258، وكشاف القناع 20 / 400 ط عالم الكتب.(15/113)
جَدٌّ
التَّعْرِيفُ:
1 - مِنْ مَعَانِي الْجَدِّ لُغَةً أَبُو الأَْبِ وَأَبُو الأُْمِّ، وَالْجَمْعُ أَجْدَادٌ وَجُدُودٌ
وَالْجَدَّةُ أُمُّ الأُْمِّ وَأُمُّ الأَْبِ، وَالْجَمْعُ جَدَّاتٌ (1)
وَالْجَدُّ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ أَبُو الأَْبِ وَأَبُو الأُْمِّ، وَإِنْ عَلَوْا، فَإِنْ أُطْلِقَ انْصَرَفَ إِلَى أَبِي الأَْبِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجَدِّ:
يَتَعَلَّقُ بِالْجَدِّ أَحْكَامٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنْهَا:
وِلاَيَةُ الْجَدِّ فِي النِّكَاحِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وِلاَيَةِ الْجَدِّ (أَبِي الأَْبِ) وَإِنْ عَلاَ فِي النِّكَاحِ. فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ كَالأَْبِ عِنْدَ عَدَمِ الأَْبِ، وَأَنَّهُ أَحَقُّ الأَْوْلِيَاءِ بَعْدَ الأَْبِ فِي وِلاَيَةِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُجْبِرَ بِنْتَ ابْنِهِ الْبِكْرَ سَوَاءٌ أَكَانَتْ بَالِغَةً أَمْ صَغِيرَةً.
__________
(1) لسان العرب مادة: (جدد) .(15/113)
وَوَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّغِيرَةِ، وَالْمَجْنُونَةِ، وَالْمَعْتُوهَةِ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ لَيْسَ كَالأَْبِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْبُرَ بِنْتَ ابْنِهِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ صَغِيرَةً أَمْ كَبِيرَةً، بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا، عَاقِلَةً أَمْ مَجْنُونَةً.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَنْزِلَتِهِ بَيْنَ سَائِرِ الأَْوْلِيَاءِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَأْتِي فِي التَّرْتِيبِ بَعْدَ الأَْخِ وَابْنِ الأَْخِ وَإِنْ نَزَل، وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَ الأَْبِ وَوَصِيِّهِ (1) .
أَمَّا الْجَدُّ لأُِمِّ وَهُوَ مَنْ أَدْلَى إِلَى الْمَرْأَةِ بِأُنْثَى فَلاَ وِلاَيَةَ لَهُ فِي النِّكَاحِ.
إِرْثُ الْجَدِّ:
3 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ (أَبَا الأَْبِ) يَرِثُ بِالْفَرْضِ وَيَرِثُ بِالتَّعْصِيبِ.
وَالْجَدُّ أَبُو الأَْبِ وَإِنْ عَلاَ لاَ يَحْجُبُهُ إِلاَّ ذَكَرٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ بِالإِْجْمَاعِ؛ لأَِنَّ مَنْ أَدْلَى إِلَى الْمَيِّتِ بِشَخْصٍ لاَ يَرِثُ مَعَ وُجُودِهِ إِلاَّ أَوْلاَدَ الأُْمِّ.
فَالْجَدُّ أَبُو الأَْبِ فِي الْمِيرَاثِ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الأَْبِ عِنْدَ فَقْدِ الأَْبِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ إِلاَّ فِي أَرْبَعِ مَسَائِل:
__________
(1) ابن عابدين 2 / 296، بداية المجتهد 2 / 8، والقوانين الفقهية ص 204 مغني المحتاج 3 / 149، وكشف المخدرات ص 356.(15/114)
إِحْدَاهَا: زَوْجٌ وَأَبَوَانِ
وَالثَّانِيَةُ: زَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ، لِلأُْمِّ ثُلُثُ الْبَاقِي فِيهِمَا مَعَ الأَْبِ، وَيَكُونُ لَهَا ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَال فِيهِمَا لَوْ كَانَ مَكَانَ الأَْبِ جَدٌّ.
وَالثَّالِثَةُ: الْجَدُّ مَعَ الإِْخْوَةِ وَالأَْخَوَاتِ لِلأَْبَوَيْنِ أَوْ لِلأَْبِ، فَإِنَّ الأَْبَ يَحْجُبُهُمْ بِاتِّفَاقٍ. وَفِي الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الْجَدِّ بَدَل الأَْبِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي إِرْثٍ.
وَالرَّابِعَةُ: الْجَدُّ مَعَ الإِْخْوَةِ لأُِمٍّ، فَإِنَّ الأَْبَ يَحْجُبُهُمْ إِجْمَاعًا، وَلاَ يَحْجُبُهُمْ الْجَدُّ خِلاَفًا لأَِبِي حَنِيفَةَ (1) .
نَفَقَةُ الْجَدِّ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْجَدِّ وَاجِبَةٌ عَلَى حَفِيدِهِ أَوْ حَفِيدَتِهِ بِشُرُوطِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْجَدُّ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ وَارِثًا أَمْ غَيْرَ وَارِثٍ، وَلَوِ اخْتَلَفَ دِينُهُمَا، بِأَنْ كَانَ وَلَدُ الْوَلَدِ مُسْلِمًا وَالْجَدُّ كَافِرًا، أَوْ كَانَ الْجَدُّ مُسْلِمًا وَوَلَدُ الْوَلَدِ كَافِرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (2) وَمِنَ الْمَعْرُوفِ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِمَا عِنْدَ حَاجَتِهِمَا.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 / 491، والقوانين الفقهية 389، ومغني المحتاج 3 / 10، والمغني لابن قدامة 6 / 214.
(2) سورة لقمان / 15.(15/114)
وَلِحَدِيثِ: إِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلاَدِكُمْ (1) .
وَالْجَدُّ مُلْحَقٌ بِالأَْبِ إِنْ لَمْ يَدْخُل فِي عُمُومِ لَفْظِ الأَْبِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ نَفَقَةِ الْجَدِّ عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ (2) .
كَمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ وَلَدِ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفَل عَلَى الْجَدِّ وَإِنْ عَلاَ إِذَا فُقِدَ الأَْبُ بِشَرْطِهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدٍ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (3) وَالأَْحْفَادُ مُلْحَقُونَ بِالأَْوْلاَدِ إِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ إِطْلاَقُ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ عَدَمَ وُجُوبِ نَفَقَةِ الْحَفِيدِ عَلَى الْجَدِّ (4) .
وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِل تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي النَّفَقَةِ.
إِعْفَافُ الْجَدِّ:
5 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ
__________
(1) حديث: " إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم ". أخرجه أبو داود (3 / 801 - 802 - تحقيق عزت عبيد دعاس) وابن ماجه (2 / 769 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو، وإسناده حسن.
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 678، ومغني المحتاج 3 / 446، والقوانين ص 228، وجواهر الإكليل 1 / 407، وكشف المخدرات ص 424.
(3) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ". أخرجه البخاري (الفتح 9 / 507 - ط السلفية) ومسلم (3 / 1338 - ط الحلبي) من حديث عائشة
(4) حاشية ابن عابدين 2 / 671، والقوانين الفقهية ص 228، مغني المحتاج 3 / 446، وكشف المخدرات ص 424.(15/115)
وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِهِمْ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ وَلَدَ الْوَلَدِ إِعْفَافُ الْجَدِّ وَإِنْ عَلاَ بِالنِّكَاحِ، لأَِنَّ هَذَا مِنْ وُجُوهِ حَاجَتِهِ الْمُهِمَّةِ كَالنَّفَقَةِ؛ وَلِئَلاَّ يُعَرِّضَهُمْ لِلزِّنَا الْمُفْضِي إِلَى الْهَلاَكِ، وَذَلِكَ لاَ يَلِيقُ بِحُرْمَةِ الأُْبُوَّةِ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} .
كَمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ زَوْجَةِ الْجَدِّ عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ إِذَا كَانَتْ وَاحِدَةً.
أَمَّا إِذَا كَانَ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَةٍ فَعَلَى الْحَفِيدِ أَنْ يَدْفَعَ لَهُ نَفَقَةَ زَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَلَى الْجَدِّ أَنْ يُوَزِّعَ هَذَا الْقَدْرَ عَلَى جَمِيعِ زَوْجَاتِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْحَفِيدَ إِعْفَافُ الْجَدِّ، كَمَا لاَ يَلْزَمُهُ عِنْدَهُمْ نَفَقَةُ زَوْجَةِ الْجَدِّ (1) . وَلِزِيَادَةِ التَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (نَفَقَةٌ) .
حَضَانَةُ الْجَدِّ:
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَرْتِيبِ الْجَدِّ فِي الْحَضَانَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَرْتِيبَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ حَضَانَةِ الْحَفِيدِ يَأْتِي بَعْدَ الأَْبِ مُبَاشَرَةً، لأَِنَّهُ كَالأَْبِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ كَذَلِكَ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ بَعْدَ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 672، وجواهر الإكليل 1 / 407، ومغني المحتاج 3 / 211، والإنصاف 9 / 404.(15/115)
الأَْخِ الشَّقِيقِ، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَهُ الأَْخُ لأُِمٍّ، ثُمَّ الأَْخُ لأَِبٍ (1) .
حُكْمُ دَفْعِ الزَّكَاةِ لِلْجَدِّ:
7 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلْحَفِيدِ أَنْ يَدْفَعَ زَكَاتَهُ إِلَى جَدِّهِ وَإِنْ عَلاَ.
كَمَا لاَ يَجُوزُ لِلْجَدِّ أَنْ يَدْفَعَ زَكَاتَهُ لِوَلَدِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَل، لأَِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْتَفِعُ بِمَال الآْخَرِ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ صَرَفَ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ؛ وَلأَِنَّ نَفَقَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا تَجِبُ عَلَى الآْخَرِ، وَقَدْ يَرِثُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَدْفَعَ زَكَاتَهُ لِلآْخَرِ مَا لَمْ يَكُنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ بِنَفَقَتِهِ (2) . وَلِزِيَادَةِ التَّفْصِيل يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (نَفَقَةٌ وَحَضَانَةٌ) .
الْقِصَاصُ مِنَ الْجَدِّ:
8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ مِنَ الْجَدِّ إِذَا قَتَل حَفِيدَهُ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ الْقِصَاصُ مِنَ الْجَدِّ
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 638، وجواهر الإكليل 1 / 409، ومغني المحتاج 3 / 453، وكشف المخدرات ص 428.
(2) البدائع 2 / 49، ومواهب الجليل 2 / 343، وروضة الطالبين 2 / 310، والمغني لابن قدامة 2 / 647.(15/116)
وَإِنْ عَلاَ إِذَا قَتَل حَفِيدَهُ وَإِنْ سَفَل، لِحَدِيثِ: لاَ يُقَادُ الأَْبُ مِنِ ابْنِهِ (1) وَلِرِعَايَةِ حُرْمَتِهِ الأَْبَوِيَّةِ؛ وَلأَِنَّهُ كَانَ سَبَبًا فِي وُجُودِ الْحَفِيدِ فَلاَ يَكُونُ الْحَفِيدُ سَبَبًا فِي عَدَمِهِ.
كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ الْحَفِيدُ الْقِصَاصَ مِنْ جَدِّهِ وَإِنْ عَلاَ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ قِبَل الأَْبِ أَمْ مِنْ قِبَل الأُْمِّ؛ لأَِنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْوِلاَدِ فَاسْتَوَى فِيهِ جَمِيعُ الأَْجْدَادِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ إِذَا قَتَل حَفِيدَهُ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ الْمَحْضِ، مِثْل أَنْ يَذْبَحَهُ أَوْ يَشُقَّ بَطْنَهُ يُقْتَصُّ لَهُ مِنْهُ، لِعُمُومِ ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (2) .
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ الْمُنْذِرِ (3) .
سَرِقَةُ الْجَدِّ مِنْ مَال حَفِيدِهِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَطْعِ يَدِ الْجَدِّ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَال حَفِيدِهِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) حديث: " لا يقاد الأب من ابنه ". أخرجه البيهقي (8 / 38 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ونقل ابن حجر في التلخيص (4 / 16 - ط شركة الطباعة الفنية) عن البيهقي أنه صححه.
(2) سورة البقرة / 178.
(3) البدائع 7 / 235، والقوانين الفقهية ص 351، ومغني المحتاج 4 / 8، وكشف المخدرات ص 437، والمغني لابن قدامة 7 / 666.(15/116)
وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ قَطْعِ يَدِ الْجَدِّ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَال وَلَدِ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفَل دَرْءًا لِلشُّبْهَةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ وَمَالُكَ لأَِبِيكَ (1) .
وَلِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الاِتِّحَادِ وَالاِشْتِرَاكِ؛ وَلأَِنَّ مَال كُلٍّ مِنْهُمَا مُرْصَدٌ لِحَاجَةِ الآْخَرِ، وَلأَِنَّ لِلْجَدِّ أَنْ يَدْخُل بَيْتَ وَلَدِ وَلَدِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ عَادَةً، فَاخْتَل مَعْنَى الْحِرْزِ؛ وَلأَِنَّ الْقَطْعَ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ فِعْلٌ يُفْضِي إِلَى قَطْعِ الرَّحِمِ وَذَلِكَ حَرَامٌ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْجَدَّ تُقْطَعُ يَدُهُ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَال حَفِيدِهِ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ (2) .
قَذْفُ الْجَدِّ حَفِيدَهُ:
10 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْجَدِّ إِذَا قَذَفَ حَفِيدَهُ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِقَذْفِ حَفِيدِهِ وَإِنْ سَفَل؛ لأَِنَّ الأُْبُوَّةَ مَعْنًى يُسْقِطُ الْقِصَاصَ فَمَنَعَتِ الْحَدَّ؛ وَلأَِنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَلاَ يَجِبُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ عَلَى جَدِّهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلاَ تَقُل لَهُمَا
__________
(1) حديث: " أنت ومالك لأبيك ". أخرجه ابن ماجه (2 / 769 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله، وقال البوصيري: " إسناده صحيح ورجاله ثقات على شرط البخاري ".
(2) البدائع 7 / 75، ومغني المحتاج 4 / 162، وكشف المخدرات ص 473، والقوانين الفقهية ص 314، وجواهر الإكليل 2 / 290.(15/117)
أُفٍّ} (1) وَالنَّهْيُ عَنِ التَّأْفِيفِ نَصًّا نَهْيٌ عَنِ الضَّرْبِ دَلاَلَةً، فَلَوْ حُدَّ الْجَدُّ كَانَ ضَرْبُهُ الْحَدَّ بِسَبَبِ حَفِيدِهِ؛ وَلأَِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْقَذْفِ لَيْسَتْ مِنَ الإِْحْسَانِ فِي شَيْءٍ فَكَانَتْ مَنْفِيَّةً نَصًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (2) .
كَمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ لاَ يَثْبُتُ لَهُ حَدُّ قَذْفٍ عَلَى جَدِّهِ، فَلَوْ قَذَفَ الْجَدُّ أُمَّ وَلَدِ وَلَدِهِ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ فَمَاتَتْ قَبْل اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِ وَلَدِهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَدِّ؛ لأَِنَّ مَا مَنَعَ ثُبُوتَهُ ابْتِدَاءً أَسْقَطَهُ طَارِئًا.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْجَدَّ يُحَدُّ إِذَا قَذَفَ وَلَدَ وَلَدِهِ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ (3) .
شَهَادَةُ الْجَدِّ لِوَلَدِ وَلَدِهِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْجَدِّ لِحَفِيدِهِ وَإِنْ سَفَل وَعَكْسَهُ لاَ تُقْبَل، لأَِنَّ بَيْنَهُمَا بَعْضِيَّةً فَكَأَنَّهُ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَال عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي (4) .
وَلأَِنَّ شَهَادَةَ الْجَدِّ إِذَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى النَّفْعِ وَالدَّفْعِ فَقَدْ صَارَ مُتَّهَمًا وَلاَ شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ،
__________
(1) سورة الإسراء / 23.
(2) سورة البقرة / 83.
(3) البدائع 7 / 42، وحاشية ابن عابدين 1 / 168، والقوانين الفقهية 362، وتحفة المحتاج 8 / 120، ومغني المحتاج 4 / 156، والمغني لابن قدامة 8 / 219.
(4) حديث: " فاطمة بضعة مني ". أخرجه البخاري (الفتح 7 / 105 - ط السلفية) من حديث المسور بن مخرمة.(15/117)
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلاَ خَائِنَةٍ، وَلاَ مَجْلُودٍ حَدًّا وَلاَ مَجْلُودَةٍ، وَلاَ ذِي غَمْرٍ لأَِخِيهِ، وَلاَ الْقَانِعِ أَهْل الْبَيْتِ لَهُمْ، وَلاَ ظَنِينٍ فِي وَلاَءٍ، وَلاَ قَرَابَةٍ (1) وَالظَّنِينُ الْمُتَّهَمُ.
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا: لاَ يَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلاَ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا (2) .
وَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ كَشُرَيْحٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ كُلٍّ مِنَ الأَْصْل وَالْفَرْعِ لِلآْخَرِ مَقْبُولَةٌ؛ لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ (3) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (4) وقَوْله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (5) .
مَرْتَبَةُ الْجَدِّ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
__________
(1) حديث: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ولا. . . ". أخرجه الترمذي (4 / 545 - ط الحلبي) من حديث عائشة، وقال الترمذي: " لا يصح عندي من قبل إسناده ".
(2) حديث: " لا يجوز شهادة الولد لوالده، ولا المرأة لزوجها ". أخرجه الخصاف في أدب القاضي كما في البناية للعيني (7 / 167 - ط دار الفكر) وفي إسناده يزيد بن زياد الشامي وهو ضعيف كما في ترجمته من التهذيب لابن حجر (11 / 328 - 329 - ط دائرة المعارف النظامية)
(3) البدائع 6 / 272، والقوانين الفقهية ص 313، ومغني المحتاج 4 / 434، والمغني لابن قدامة 9 / 191، وكشف المخدرات ص 524.
(4) سورة الطلاق / 2.
(5) سورة البقرة / 282.(15/118)
وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَوْلَى الأَْقَارِبِ مِنَ الرِّجَال فِي غَسْل الْمَيِّتِ وَالصَّلاَةِ عَلَيْهِ، الأَْبُ ثُمَّ الْجَدُّ أَبُو الأَْبِ وَإِنْ عَلاَ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلأَْبِ أَنْ يُقَدِّمَ أَبَاهُ جَدَّ الْمَيِّتِ تَعْظِيمًا لَهُ (1) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ يَأْتِي بَعْدَ الأَْخِ وَابْنِ الأَْخِ وَإِنْ نَزَل (2) .
__________
(1) البدائع 2 / 238، 1 / 318، وروضة الطالبين 2 / 121، والإنصاف 2 / 472، والمغني لابن قدامة 2 / 482.
(2) القوانين الفقهية ص 204.(15/118)
جَدَّةٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَدَّةُ لُغَةً: أُمُّ الأُْمِّ وَأُمُّ الأَْبِ وَإِنْ عَلَتَا، وَجَمْعُهَا جَدَّاتٌ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجَدَّةِ:
مِيرَاثُ الْجَدَّةِ:
2 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَوْرِيثِ جَدَّتَيْنِ: أُمِّ الأُْمِّ، وَأُمِّ الأَْبِ، وَأُمَّهَاتِهِمَا وَإِنْ عَلَوْنَ بِمَحْضِ الإِْنَاثِ أَيْ دُونَ تَخَلُّل ذَكَرٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي أُمِّ الْجَدِّ (أُمِّ أَبِي الأَْبِ) فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَوْرِيثِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ كَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ، وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالأَْوْزَاعِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَالثَّوْرِيِّ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ تَوْرِيثِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَرَبِيعَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ.
__________
(1) لسان العرب، وتاج العروس، مادة: (جدد) .(15/119)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَدَّةَ الَّتِي تُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِذَكَرٍ بَيْنَ أُمَّيْنِ فَاسِدَةٌ، وَلاَ تَرِثُ؛ لأَِنَّهَا تُدْلِي بِأَبٍ غَيْرِ وَارِثٍ كَمَا فِي حَالَةِ أُمِّ أَبِي الأُْمِّ (1) .
هَذَا وَعَدَمُ تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ غَيْرِ الصَّحِيحَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالْفَرْضِ. وَهِيَ تَرِثُ مِيرَاثَ الأَْرْحَامِ.
فَرْضُ الْجَدَّةِ وَالْجَدَّاتِ:
3 - أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ أُمٌّ. وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ قَال: جَاءَتِ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَطْلُبُ مِيرَاثَهَا.
فَقَال: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَمَا أَعْلَمُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا. وَلَكِنِ ارْجِعِي حَتَّى أَسْأَل النَّاسَ. فَقَال الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: حَضَرْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهَا السُّدُسَ.
__________
(1) الاختيار شرح المختار للموصلي 5 / 104 ط مصطفى البابي الحلبي بمصر 27 سنة 1370 هـ، والمبسوط لشمس الدين السرخسي 29 / 167. مطبعة السعادة بمصر ط ا، وتبيين الحقائق للزيلعي 6 / 231، دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت، والزرقاني شرح مختصر خليل 8 / 208 دار الفكر ببيروت سنة 1398 هـ. ونهاية المحتاج للرملي 6 / 19 المكتبة الإسلامية، وروضة الطالبين 6 / 11 ط المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، ومطالب أولي النهى 4 / 554 المكتب الإسلامي للطباعة والنشر بدمشق، والمغني لابن قدامة المقدسي 6 / 206 مكتبة الرياض الحديثة بالسعودية.(15/119)
فَقَال: هَل مَعَكَ غَيْرُكَ؟ فَشَهِدَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَأَمْضَاهُ لَهَا (1) .
وَهَذَا سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجَدَّةُ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ أَمْ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ.
وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَعَهَا فَرْعٌ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ.
وَسَوَاءٌ أَقَرُبَتِ الْجَدَّةُ أَمْ بَعُدَتْ مَا دَامَتْ وَارِثَةً.
وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ وَاحِدَةً أَمْ أَكْثَرَ، فَقَدْ أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مِيرَاثَ الْجَدَّاتِ السُّدُسُ أَيْضًا وَإِنْ كَثُرْنَ، وَذَلِكَ لِقَضَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمِيرَاثِ بِالسُّدُسِ بَيْنَهُمَا. وَلِقَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بَيْنَ الْجَدَّتَيْنِ فَقَال عَنِ السُّدُسِ: إِنِ اجْتَمَعْتُمَا فَهُوَ لَكُمَا، وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا (2) .
__________
(1) حديث: " جاءت الجدة إلى أبي بكر. . . " أخرجه أبو داود 3 / 317 - تحقيق عزت عبيد دعاس، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (3 / 82 - ط شركة الطباعة الفنية) : " إسناده صحيح لثقة رجاله، إلا أن صورته مرسل، فإن قبيصة لا يصح له سماع من الصديق، ولا يمكن شهوده للقصة، قاله ابن عبد البر بمعناه ".
(2) المبسوط لشمس الدين السرخسي 29 / 167، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي 6 / 231 - 232، والزرقاني شرح مختصر خليل 8 / 208، وكفاية الطالب شرح الرسالة 2 / 308 ط مصطفى البابي الحلبي، ونهاية المحتاج للرملي 6 / 19 - 20، وروضة الطالبين 6 / 11، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع للشربيني 2 / 47 مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1359 هـ، ومطالب أولي النهى 4 / 554، والمغني لابن قدامة 6 / 206.(15/120)
حَجْبُ الْجَدَّةِ:
4 - الْجَدَّاتُ قَدْ يَحْجُبُهُنَّ غَيْرُهُنَّ، وَقَدْ يَحْجُبُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا فِي الْمِيرَاثِ. فَقَدْ أَجْمَعَ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الأُْمَّ تَحْجُبُ كُل الْجَدَّاتِ سَوَاءٌ أَكُنَّ مِنْ جِهَتِهَا أَوْ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ؛ لأَِنَّ الْجَدَّاتِ يَرِثْنَ بِالْوِلاَدِ، فَكَانَتِ الأُْمُّ أَوْلَى مِنْهُنَّ لِمُبَاشَرَتِهَا الْوِلاَدَةَ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُل جَدَّةٍ قُرْبَى تَحْجُبُ الْبُعْدَى الَّتِي مِنْ جِهَتِهَا مُطْلَقًا.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْجَدَّةَ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ تُسْقِطُ الْبُعْدَى الَّتِي مِنْ جِهَةِ الأَْبِ. وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ خِلاَفًا فِي ذَلِكَ (1) .
وَاخْتَلَفُوا فِي إِسْقَاطِ الْجَدَّةِ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الأَْبِ لِلْبُعْدَى الَّتِي مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا تَحْجُبُهَا لأَِنَّهَا أَقْرَبُ مِنْهَا.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا لاَ تَحْجُبُهَا وَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلاَنِ: أَظْهَرُهُمَا وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَنْصُوصَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا لاَ تَحْجُبُهَا، وَتَشْتَرِكَانِ
__________
(1) الاختيار شرح المختار للموصلي 5 / 104، والزرقاني شرح مختصر خليل 8 / 208، وكفاية الطالب شرح الرسالة 2 / 308، وروضة الطالبين للنووي 6 / 26 - 27، ومطالب أولي النهى 4 / 554، 566.(15/120)
فِي السُّدُسِ؛ لأَِنَّ الأَْبَ نَفْسَهُ لاَ يَحْجُبُهَا فَالْجَدَّةُ الْمُدْلِيَةُ بِهِ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَحْجُبُهَا لِقُرْبِهَا مِنَ الْمَيِّتِ (1) .
5 - وَاخْتَلَفُوا فِي حَجْبِ الْجَدَّةِ بِابْنِهَا، أَيْ بِأَبِي الْمَيِّتِ أَوْ جَدِّهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، إِلَى أَنَّهُ يَحْجُبُهَا، فَلاَ تَرِثُ مَعَ وُجُودِ الأَْبِ إِلاَّ جَدَّةً وَاحِدَةً وَهِيَ الَّتِي مِنْ قِبَل الأُْمِّ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهَا تُدْلِي بِهِ فَلاَ تَرِثُ مَعَهُ كَالْجَدِّ مَعَ الأَْبِ، وَأُمِّ الأُْمِّ مَعَ الأُْمِّ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَهِيَ رِوَايَةٌ لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا تَرِثُ مَعَ ابْنِهَا (2) لِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: أَوَّل جَدَّةٍ أَطْعَمَهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّدُسَ أُمُّ أَبٍ مَعَ ابْنِهَا، وَابْنُهَا حَيٌّ. وَلأَِنَّ الْجَدَّاتِ أُمَّهَاتٌ، فَيَرِثْنَ
__________
(1) الفتاوى الهندية 6 / 453 المكتبة الإسلامية، ديار بكر بتركيا، وكفاية الطالب شرح الرسالة 2 / 308، ونهاية المحتاج للرملي 6 / 16، وروضة الطالبين 6 / 27، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي 7 / 310 ط مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة. تصوير دار إحياء التراث العربي ببيروت سنة 1377 هـ، والمغني لابن قدامة 6 / 206.
(2) الاختيار شرح المختار للموصلي 5 / 95، والمبسوط لشمس الدين السرخسي 29 / 169، والزرقاني شرح مختصر خليل 8 / 208، ونهاية المحتاج للرملي 6 / 16، وروضة الطالبين 6 / 26، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي 7 / 311، والمغني لابن قدامة المقدسي 6 / 206.(15/121)
مِيرَاثَ الأُْمِّ لاَ مِيرَاثَ الأَْبِ، فَلاَ يُحْجَبْنَ بِهِ كَأُمَّهَاتِ الأُْمِّ (1) .
تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْجَدَّةِ:
6 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ نِكَاحُ الْجَدَّاتِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كُنَّ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ أَوْ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ وَإِنْ عَلَوْنَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (2) فَالأُْمَّهَاتُ كُل مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِنَّ بِوِلاَدَةٍ سَوَاءٌ وَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ الأُْمِّ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا - أَيِ الَّتِي وَلَدَتْكَ أَوْ وَلَدَتْ مَنْ وَلَدَتْكَ - وَإِنْ عَلَتْ وَارِثَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ وَارِثَةٍ (3) .
تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَجَدَّتِهَا:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَجَدَّتِهَا، إِذِ الْجَدَّاتُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الأُْمَّهَاتِ فِي الْحُرْمَةِ (4) . عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ أَيْضًا نِكَاحُ جَدَّةِ الزَّوْجَةِ بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجَةِ أَوْ طَلاَقِهَا، كَمَا يَحْرُمُ نِكَاحُ بِنْتِ بِنْتِ الزَّوْجَةِ الْمَدْخُول بِهَا بَعْدَ طَلاَقِ
__________
(1) حديث: عبد الله بن مسعود قال: أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجه الترمذي (4 / 421 - ط الحلبي) ، والبيهقي (6 / 226 - ط دائرة المعارف العثمانية) وقال البيهقي: " محمد بن سالم - يعني الذي في إسناده - غير محتج به ".
(2) سورة النساء / 23.
(3) الاختيار شرح المختار للموصلي 3 / 84، وكفاية الطالب شرح الرسالة للعدوي 2 / 44، ونهاية المحتاج شرح المنهاج للرملي 6 / 266، ومطالب أولي النهى 5 / 87 - 88.
(4) فتح القدير لابن الهمام 2 / 358 ط الأميرية ببولاق بمصر المحمدية سنة 1315 هـ، والمدونة للإمام مالك 2 / 276 مطبعة السعادة بمصر سنة 1323 هـ تصوير دار صادر ببيروت، ونهاية المحتاج شرح المنهاج للرملي 6 / 266، ومطالب أولي النهى 5 / 98.(15/121)
الزَّوْجَةِ أَوْ مَوْتِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا وَفَارَقَهَا فَيَحِل لَهُ الزَّوَاجُ بِبِنْتِ بِنْتِهَا.
تَشْبِيهُ الزَّوْجَةِ بِالْجَدَّةِ فِي الظِّهَارِ:
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِظَهْرِ جَدَّتِهِ فَهُوَ ظِهَارٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجَدَّةُ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ أَمْ الأَْبِ؛ لأَِنَّ تَشْبِيهَ الزَّوْجَةِ بِظَهْرِ الأُْمِّ أَوِ الْجَدَّةِ أَوْ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ سَوَاءٌ (1) .
حَقُّ الْجَدَّةِ بِالْحَضَانَةِ:
9 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْحَضَانَةِ بَعْدَ الأُْمِّ سَوَاءٌ مَاتَتْ أَوْ نَكَحَتْ أَجْنَبِيًّا أُمَّهَاتُهَا الْمُدْلِيَاتُ بِإِنَاثٍ الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى - أَيْ جَدَّةُ الطِّفْل لأُِمِّهِ - وَإِنْ عَلَتْ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَنْتَقِل الْحَضَانَةُ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَضَانَةَ تَنْتَقِل بَعْدَ الْجَدَّةِ لأُِمٍّ إِلَى الْجَدَّاتِ لأَِبٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الأَْخَوَاتِ ثُمَّ الْخَالاَتِ.
__________
(1) الاختيار شرح المختار للموصلي 3 / 161، والفواكه الدواني 2 / 79، دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت، روضة الطالبين للنووي 8 / 264، والكافي لابن قدامة المقدسي 2 / 880. الطبعة الأولى. المكتب الإسلامي بدمشق. وكشاف القناع للبهوتي 5 / 368، نشر مكتبة النصر الحديثة بالرياض.(15/122)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَضَانَةَ تَنْتَقِل إِلَى الْخَالاَتِ ثُمَّ الْجَدَّاتِ مِنْ جِهَةِ الأَْبِ ثُمَّ الأَْخَوَاتِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ إِلَى تَقْدِيمِ الْجَدَّاتِ لأَِبٍ عَلَى الأَْخَوَاتِ وَالْخَالاَتِ، وَفِي الْقَدِيمِ إِلَى تَأْخِيرِهِنَّ عَنِ الأَْخَوَاتِ وَالْخَالاَتِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَضَانَةَ تَنْتَقِل بَعْدَ أُمِّ الأُْمِّ إِلَى الأَْبِ، ثُمَّ إِلَى أُمَّهَاتِهِ، ثُمَّ إِلَى الأَْخَوَاتِ وَالْخَالاَتِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِتَقْدِيمِ أُمِّ الأُْمِّ بِمَا قَضَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي عَاصِمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. فَقَدْ طَلَّقَ عُمَرُ زَوْجَتَهُ وَلَهُ مِنْهَا عَاصِمٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَكَانَ لَهَا أُمٌّ فَقَبَضَتْ عَاصِمًا عِنْدَهَا، فَخَاصَمَهَا عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَضَى لِجَدَّتِهِ (أُمِّ أُمِّهِ) بِالْحَضَانَةِ وَقَال عُمَرُ: سَمِعْتُ وَأَطَعْتُ (1) .
قَتْل الْجَدَّةِ بِحَفِيدِهَا:
10 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - أَنَّهُ لاَ قِصَاصَ عَلَى وَالِدٍ يَقْتُل وَلَدَهُ، وَكَذَا الأُْمُّ وَالأَْجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ جِهَةِ الأَْبِ أَمْ مِنْ جِهَةِ الأُْمِّ، قَرُبُوا أَمْ بَعُدُوا.
__________
(1) الاختيار شرح المختار للموصلي 4 / 14، وفتح القدير لابن الهمام 3 / 315، والمدونة للإمام مالك 2 / 357، 361، وكفاية الطالب شرح الرسالة 2 / 104، وروضة الطالبين 9 / 101، 108 - 109، ونهاية المحتاج شرح المنهاج 7 / 214 - 216، والكافي لابن قدامة 2 / 1005، وكشاف القناع 5 / 496.(15/122)
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ (1) وَالْجَدَّةُ وَالِدَةٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْصِيل فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَاتَّفَقُوا مَعَ الْجُمْهُورِ فِيمَا لَوْ حَذَفَهُ بِالسَّيْفِ. أَمَّا إِنْ قَصَدَ قَتْل الاِبْنِ وَإِزْهَاقَ رُوحِهِ بِأَنْ أَضْجَعَهُ فَذَبَحَهُ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَيَجْرِي مَجْرَاهُ الأَْجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ (2) .
اسْتِئْذَانُ الْجَدَّةِ فِي الْجِهَادِ:
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ إِذْنَ لأَِحَدٍ مُطْلَقًا فِي النَّفِيرِ الْعَامِّ، حَيْثُ يَتَعَيَّنُ الْجِهَادُ وَيَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ وَلاَ يُعْتَبَرُ فِيهِ الإِْذْنُ، كَالْحَجِّ الْوَاجِبِ، وَبَقِيَّةِ الْفَرَائِضِ.
وَاتَّفَقُوا فِي غَيْرِ النَّفِيرِ الْعَامِّ أَنَّهُ لاَ يَخْرُجُ مَنْ لَهُ وَالِدَانِ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا، وَلَوْ فَعَل يَحْرُمُ عَلَيْهِ لأَِنَّ بِرَّهُمَا وَاجِبٌ.
__________
(1) حديث: " لا يقاد والد بولده " أخرجه الترمذي (تحفة الأحوذي 4 / 656 ط السلفية) وابن ماجه (2 / 888 ط عيسى الحلبي) وأحمد والبيهقي (8 / 38 دار المعرفة) وذكر الحافظ الزيلعي عن البيهقي أنه قال: وهذا إسناد صحيح (نصب الراية 4 / 339) وقال عبد الحق: هذه الأحاديث كلها معلولة لا يصح منها شيء. وقال الشافعي: حفظت عن عدد من أهل العلم لقيتهم أن لا يقتل الوالد بالولد وبذلك أقول (التخليص الحبير 4 / 17) .
(2) فتح القدير لابن الهمام 8 / 259، روضة الطالبين للنووي 9 / 151، والفروع لابن مفلح 5 / 643، الطبعة الثالثة سنة 1388 هـ عالم الكتب ببيروت. أسهل المدارك شرح إرشاد السالك 3 / 118. الطبعة الثانية مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر. وحاشية الدسوقي 4 / 242 - 243 عيسى البابي الحلبي وشركاه.(15/123)
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ اسْتِئْذَانِ الأَْجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ فِي حَال عَدَمِ وُجُودِ الْوَالِدَيْنِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ - إِلَى أَنَّ الأَْجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ كَالآْبَاءِ وَالأُْمَّهَاتِ فَيَحْرُمُ خُرُوجُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ لِلْجِهَادِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِمْ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ اسْتِئْذَانُهُمَا لأَِنَّهُمَا لَيْسَا كَالأَْبَوَيْنِ، فَإِنْ أَبَى الْجَدَّانِ فَلَهُ الْخُرُوجُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ إِذْنَ لِغَيْرِ الأَْبَوَيْنِ مِنَ الأَْقَارِبِ حَتَّى الْجَدَّيْنِ لأَِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ وَلاَ هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ (1) .
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 3 / 241 - 242 ط 1 الأميرية ببولاق مصر سنة 1313، ومواهب الجليل شرح مختصر خليل 3 / 350 مكتبة النجاح. طرابلس - ليبيا، والتاج والإكليل لمختصر خليل (في هامش المواهب) 3 / 350 مكتبة النجاح - طرابلس - ليبيا، وروضة الطالبين 10 / 211، والكافي لابن قدامة 4 / 254 - 255 ط 2 المكتب الإسلامي سنة 1399 هـ بيروت.(15/123)
جَدْعٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَدْعُ فِي اللُّغَةِ الْقَطْعُ، وَقِيل هُوَ الْقَطْعُ الْبَائِنُ فِي الأُْذُنِ، أَوِ الأَْنْفِ، أَوْ الْيَدِ، أَوْ الشَّفَةِ، أَوْ نَحْوِهَا، يُقَال: جَدَعَهُ يَجْدَعُهُ فَهُوَ مَجْدُوعٌ، وَيُقَال أَيْضًا جُدِعَ الرَّجُل أَيْ قُطِعَ أَنْفُهُ، فَهُوَ أَجْدَعُ بَيِّنُ الْجَدَعِ، وَهِيَ جَدْعَاءُ وَقِيل: لاَ يُقَال: جَدَعَ " بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِل "، وَلَكِنْ جُدِعَ " بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُول (1) ". وَكَانَتْ نَاقَةُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُلَقَّبُ (الْجَدْعَاءُ) (2) وَلَيْسَ بِهَا مِنْ جَدَعٍ.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ الْجَدَعِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْمُثْلَةُ:
2 - الْمُثْلَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ اسْمُ مَصْدَرٍ، يُقَال: مَثَل بِهِ
__________
(1) لسان العرب المحيط، ومتن اللغة، والمصباح المنير، ومختار الصحاح مادة: (جدع) .
(2) خبر كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقب (الجدعاء) . أخرجه البخاري (الفتح 7 / 389 - ط السلفية) من حديث عائشة.(15/124)
مَثْلاً وَمُثْلَةً وَمَثَّل بِهِ تَمْثِيلاً وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْطَعَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ، أَوْ يُسَوِّدَ وَجْهَهُ.
وَمُثْلَةُ الشَّعْرِ: حَلْقُهُ مِنَ الْخُدُودِ، وَقِيل نَتْفُهُ أَوْ تَغْيِيرُهُ بِالسَّوَادِ (1) ، وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ مَثَل بِالشَّعْرِ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَلاَقٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (2) .
فَالْمُثْلَةُ أَعَمُّ مِنَ الْجَدَعِ فِي الْمَعْنَى.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْجَدْعَاءَ لاَ تُجْزِئُ فِي الأُْضْحِيَّةِ (3) .
وَفِي الْجِنَايَاتِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَطْعَ الأَْنْفِ، وَالأُْذُنِ، وَالْيَدِ، وَالشَّفَةِ، إِنْ كَانَ عَمْدًا فَفِيهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَفِيهِ الدِّيَةُ. وَهِيَ تَخْتَلِفُ: فَفِي الْيَدَيْنِ وَالأُْذُنَيْنِ، وَالشَّفَتَيْنِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي الْوَاحِدِ مِنْهَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الأَْنْفِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ (4) . وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ فِي
__________
(1) المغرب للمطرزي ولسان العرب المحيط، ومتن اللغة، ومختار الصحاح، والمصباح المنير مادة: " مثل ".
(2) حديث: " من مثل بالشعر فليس له عند الله خلاق يوم القيامة ". أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8 / 121 ط القدسي) من حديث عبد الله بن عباس وقال: " رواه الطبراني وفيه حجاج بن نصير، وقد ضعفه الجمهور، ووثقة ابن حبان وقال: يخطئ، وبقية رجاله ثقات ".
(3) ابن عابدين 5 / 206، وشرح الزرقاني 3 / 34، 37، وروضة الطالبين 3 / 183، 195، 196، والمغني 8 / 623، 625، 626.
(4) ابن عابدين 5 / 353، 319، 370، والهداية 4 / 165، 167 ط مصطفى البابي الحلبي، والاختيار 5 / 30 وما بعدها، و 36 وما بعدها ط دار المعرفة، والقوانين الفقهية / 356، ونهاية المحتاج 7 / 309، 325، 326، 330 ط مصطفى البابي، والمغني 7 / 711، 712، 723، و 8 / 1.(15/124)
مُصْطَلَحَاتِ: " أُضْحِيَّةٌ، وَقِصَاصٌ، وَدِيَةٌ، وَمُثْلَةٌ ".
التَّمْثِيل بِالأَْسْرَى وَالْمُحَارِبِينَ:
4 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحْرِيمِ التَّمْثِيل بِالأَْسْرَى، بَل يُكْتَفَى بِقَتْلِهِ الْمُعْتَادِ بِضَرْبِهِ بِالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنِهِ بِخِنْجَرٍ، أَوْ قَذِيفَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَلاَ يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ بِقَطْعِ بَعْضِ أَطْرَافِهِ وَجَدْعِ أَنْفِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ النُّهْبَى وَالْمُثْلَةِ (1) ، وَقَال: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِْحْسَانَ عَلَى كُل شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ (2) . وَلأَِنَّ ذَلِكَ تَعْذِيبٌ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ. وَقَال الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلاَ خِلاَفَ فِي تَحْرِيمِ الْمُثْلَةِ.
وَأَمَّا الْمُثْلَةُ الْمَرْوِيَّةُ فِي حَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ فَضْلاً عَنْ أَنَّهَا كَانَتْ قِصَاصًا وَمُعَامَلَةً بِالْمِثْل.
وَهَذَا بَعْدَ الظَّفَرِ وَالنَّصْرِ، وَأَمَّا قَبْلَهُ أَيْ فِي
__________
(1) حديث: " نهى عن النهبى والمثلة ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 119 - ط السلفية) من حديث عبد الله بن يزيد الأنصاري.
(2) حديث: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا. . . " أخرجه مسلم (3 / 1548 - ط الحلبي) من حديث شداد بن أوس.(15/125)
أَثْنَاءِ الْمَعْرَكَةِ فَلاَ بَأْسَ بِقَطْعِ الأَْطْرَافِ أَوِ الأَْعْضَاءِ، إِذَا وَقَعَ قِتَالاً كَمُبَارِزٍ ضَرَبَهُ فَقَطَعَ أُذُنَهُ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَقَطَعَ يَدَهُ وَأَنْفَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ (1) . قَال اللَّهُ تَعَالَى {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَْعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُل بَنَانٍ} (2) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الْمُثْلَةِ لِمَصْلَحَةٍ عَلَى سَبِيل الْمُعَامَلَةِ بِالْمِثْل أَوْ لِكَبْتِ الْعَدُوِّ (3) .
جَدْعَاءُ
انْظُرْ: جَدْعٌ
جَدَكَ
انْظُرْ: كَدَكِّ.
__________
(1) فتح القدير 4 / 290 ط بولاق، وابن عابدين 3 / 224 ط بولاق، والبدائع 7 / 120، وجواهر الإكليل 1 / 254 ط دار المعرفة، وبداية المجتهد 1 / 395 مكتبة الكليات الأزهرية، والمهذب 2 / 237، وروضة الطالبين 5 / 56، والمغني 8 / 494، والفروع 6 / 218 ط عالم الكتب، ونيل الأوطار 7 / 249.
(2) سورة الأنفال / 12.
(3) فتح القدير 4 / 290، والمغني 8 / 494.(15/125)
جَدَلٌ
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَدَل لُغَةً: مُقَابَلَةُ الْحُجَّةِ بِالْحُجَّةِ، وَالْمُجَادَلَةُ: الْمُنَاظَرَةُ وَالْمُخَاصَمَةُ
وَلاَ يَخْرُجُ الْجَدَل اصْطِلاَحًا عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (1) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمُنَاظَرَةُ:
2 - الْمُنَاظَرَةُ هِيَ تَرْدَادُ الْكَلاَمِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ يَقْصِدُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصْحِيحَ قَوْلِهِ وَإِبْطَال قَوْل صَاحِبِهِ مَعَ رَغْبَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي ظُهُورِ الْحَقِّ.
الْمُنَاقَشَةُ:
3 - الْمُنَاقَشَةُ هِيَ مُرَاجَعَةُ الْكَلاَمِ بِقَصْدِ الْوُصُول إِلَى الْحَقِّ غَالِبًا (2) . وَكُلُّهَا أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ إِلاَّ أَنَّ الْمُنَاقَشَةَ أَخَصُّ غَالِبًا.
الْمِرَاءُ:
4 - الْمِرَاءُ وَالْمُمَارَاةُ: الْجِدَال، وَهُوَ مَصْدَرُ مَارَى
__________
(1) لسان العرب والنهاية لابن الأثير مادة: (جدل) .
(2) لسان العرب.(15/126)
يُمَارِي، أَيْ جَادَل، وَيُقَال أَيْضًا مَارَيْتُهُ إِذَا طَعَنْتُ فِي قَوْلِهِ تَزْيِيفًا لِلْقَوْل، وَتَصْغِيرًا لِلْقَائِلِ، قَال الْفَيُّومِيُّ: وَلاَ يَكُونُ الْمِرَاءُ إِلاَّ اعْتِرَاضًا بِخِلاَفِ الْجِدَال فَإِنَّهُ يَكُونُ ابْتِدَاءً وَاعْتِرَاضًا (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْجَدَل:
الْجَدَل قِسْمَانِ: مَمْدُوحٌ وَمَذْمُومٌ.
أ - الْجَدَل الْمَمْدُوحُ:
5 - يَكُونُ الْجَدَل مَمْدُوحًا شَرْعًا إِذَا قُصِدَ بِهِ تَأْيِيدُ الْحَقِّ، أَوْ إِبْطَال الْبَاطِل، أَوْ أَفْضَى إِلَى ذَلِكَ بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ.
وَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ إِذَا تَعَيَّنَ عَلَى شَخْصٍ مَا الدِّفَاعُ عَنِ الْحَقِّ.
وَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ بِأَنْ يَكُونَ فِي الأُْمَّةِ مَنْ يُدَافِعُ عَنِ الْحَقِّ بِالأُْسْلُوبِ السَّلِيمِ، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) وقَوْله تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيل رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) .
وَالْمُجَادَلَةُ بِالْحَقِّ مِنْ سُنَنِ الأَْنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ الأُْمَمِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ؛ لأَِنَّهُ لَوْ
__________
(1) المصباح المنير ودليل الفالحين 3 / 80.
(2) سورة آل عمران / 104.
(3) سورة النحل / 125.(15/126)
قَابَلَهُمُ الأَْنْبِيَاءُ بِغِلْظَةٍ لَنَفَرَتْ طِبَاعُهُمْ وَانْصَرَفَتْ عُقُولُهُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ لِمَا قَالُوا، وَالتَّدَبُّرِ لِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ، فَلَمْ تَتَّضِحْ لَهُمُ الْمَحَجَّةُ وَلَمْ يُقِمْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ (1) .
ب - الْجَدَل الْمَذْمُومُ:
6 - الْجَدَل الْمَذْمُومُ هُوَ كُل جَدَلٍ بِالْبَاطِل، أَوْ يَسْتَهْدِفُ الْبَاطِل، أَوْ يُفْضِي إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ الْقَصْدُ مِنْهُ التَّعَالِيَ عَلَى الْخَصْمِ وَالْغَلَبَةِ عَلَيْهِ، فَهَذَا مَمْنُوعٌ شَرْعًا، وَيَتَأَكَّدُ تَحْرِيمُهُ إِذَا قَلَبَ الْبَاطِل حَقًّا، أَوِ الْحَقَّ بَاطِلاً.
وَقَدْ يَكُونُ الْجَدَل مَكْرُوهًا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ مِنْهُ مُجَرَّدَ الظُّهُورِ وَالْغَلَبَةِ فِي الْخُصُومَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالنُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ الآْمِرَةُ بِالْجَدَل مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّوْعِ الأَْوَّل كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) . وَأَمَّا النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي ذَمَّتِ الْجَدَل فَمَحْمُولَةٌ عَلَى النَّوْعِ الثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُجَادِل الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِل لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} (3) وقَوْله تَعَالَى
__________
(1) استخراج الجدال من القرآن لناصح الدين ابن الحنبلي ص 52 - 53، والسيرة النبوية لابن كثير 3 / 120، 202، 319، 320، والرد على المنطقيين ص 467 - 468، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2 / 120 - 123، ودرء تعارض العقل والنقل 1 / 357.
(2) سورة النحل / 125.
(3) سورة الكهف / 56.(15/127)
: {مَا يُجَادِل فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ} (1) - فَلاَ تَعَارُضَ بَيْنَ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنِ الْجَدَل، وَالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الأَْمْرِ بِهِ، لأَِنَّنَا نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الْجَدَل الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ غَيْرُ الْجَدَل الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، فَتُحْمَل نُصُوصُ النَّهْيِ عَلَى الْجِدَال بِالْبَاطِل وَنُصُوصُ الأَْمْرِ بِهِ عَلَى الْجِدَال بِالْحَقِّ (2) .
أَهَمِّيَّةُ الْجِدَال بِالْحَقِّ:
7 - الْجِدَال بِالْحَقِّ لإِِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى أَهْل الإِْلْحَادِ وَالْبِدَعِ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيل اللَّهِ كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال: جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ (3) وَإِنَّمَا يَكُونُ الْجِهَادُ بِاللِّسَانِ بِتِبْيَانِ الْحَقِّ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ لاَ بِالشَّغَبِ وَالْهَذَيَانِ وَالسَّبِّ وَالشَّتْمِ، وَالْقُرْآنُ أَبْلَغُ فِي حُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ، وَلِهَذَا أُمِرَ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَاهِدَ الْكُفَّارَ بِالْقُرْآنِ، قَال تَعَالَى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (4) .
__________
(1) سورة غافر / 4.
(2) جامع بيان العلم وفضله 2 / 113، والأحكام في أصول الأحكام لابن جزم 1 / 25.
(3) حديث: " جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ". أخرجه أبو داود (3 / 22 - تحقيق عزت عبيد دعاس) ، والحاكم (2 / 81 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث أنس بن مالك، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) سورة الفرقان / 52.(15/127)
وَالْجِدَال بِالْحَقِّ مِنَ النَّصِيحَةِ فِي الدِّينِ، وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلُهُمْ لَهُ: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلَتْنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} (1) فَكَانَ جَوَابُهُ لَهُمْ قَوْلَهُ: {وَلاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} (2) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ فِي قِصَّةِ وَفْدِ نَصَارَى نَجْرَانَ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ فَوَائِدَ مَا نَصُّهُ:
وَمِنْهَا: جَوَازُ مُجَادَلَةِ أَهْل الْكِتَابِ وَمُنَاظَرَتِهِمْ، بَل اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ، بَل وُجُوبُهُ إِذَا ظَهَرَتْ مَصْلَحَتُهُ مِنْ إِسْلاَمِ مَنْ يُرْجَى إِسْلاَمُهُ مِنْهُمْ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَلاَ يَهْرُبُ مِنْ مُجَادَلَتِهِمْ إِلاَّ عَاجِزٌ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، فَلْيُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِهِ (أَيِ الْقَادِرِينَ عَلَيْهِ) .
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {مَا يُجَادِل فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (3) ، أَيْ مَا يُخَاصِمُ فِي دَفْعِ آيَاتِ اللَّهِ وَتَكْذِيبِهَا إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَالْمُرَادُ: الْجِدَال بِالْبَاطِل، وَالْقَصْدُ إِلَى دَحْضِ الْحَقِّ، فَأَمَّا الْجِدَال لاِسْتِيضَاحِ الْحَقِّ، وَرَفْعِ اللَّبْسِ، وَتَمْيِيزِ الرَّاجِحِ مِنَ الْمَرْجُوحِ، وَدَفْعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمُبْطِلُونَ، فَهُوَ
__________
(1) سورة هود / 32.
(2) سورة هود / 34.
(3) سورة غافر / 4.(15/128)